مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، بارئ الخلائق أجمعين ، والحمد لله الذي جعل الدعاء طريقاً وسلّماً ترتقي به النفس الإنسانيّة إلى أعلى المراتب ، وتتأدّب بأحسن الآداب ، وتصل به إلى غاياتها ومناها ، والحمد لله الذي جعل التضرّع إليه سبيل الوصول إلى رضوانه وجنانه.

والحمد لله الذي أمر عباده بالدعاء ، ووعدهم بالإجابة قائلاً عزّ وجلّ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، وقائلاً : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (٢) ، والحمد لله الذي أنطق أنبياءه وأوصياءه الميامين الطاهرين بكلمات الدعاء المباركة ، والحمد لله الذي أوصل إلينا ذلك رغم جور الجائرين.

ثمّ الصلاة والسلام على خير الداعين بأفضل كلمات الدعاء ، المبعوث إلى البشريّة أجمع ، محمّدٍ وعليّ وآلهما الطيّبين الطاهرين.

وبعد : فالدعاء هو كلام المخلوق مع خالقه ، وقد اهتمّت الشريعة الغرّاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غار : ٦٠.

٢ ـ البقرة : ١٨٦.


بالدعاء ، فكان الأنبياء عليهم السلام يدعون الله سبحانه ، ويعلّمون أُممهم كيفيّة الدعاء ، وهكذا كان الأوصياء فإنّه روي عنهم عليهم السلام لكلّ وقت من أوقات الليل والنهار ، ولكلّ يوم من أيّام الأسبوع أو الشهر أو السنة أو العمر أدعية خاصّة ، وكما جاءت عنهم أدعية وأذكار لكلّ حال من حالات الإنسان ، ولكلّ فعل يريد ارتكابه ولجميع مطالبه الدنيويّة أو الأخرويّة.

وقد اهتمّ قدماء علماء الإماميّة بجمع وتأليف كتب الأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وحفظت عناية الله تلك التآليف الأصليّة إلى أن وصلت إلى أيدي المتأخّرين من علمائنا الأبرار ، وضمّتها مكتباتهم الكبيرة إلى عدّة قرون وأجيال ، وقد وصل كثير منها إلى شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفّى سنة ٤٦٠ هجرية ، والسيّد ابن طاووس المتوفّى سنة ٦٦٤ هجرية ، وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.

قال السيّد ابن طاووس في آخر كتاب «مهج الدعوات» : في خزانة كتبنا في هذه الأوقات أكثر من سبعين مجلّداً في الدعوات (١).

فاستخرجوا منها الأدعية الصحيحة من عيونها الصافية ، فأودعوها في كتبهم وعملوا على إيصالها إلى مَن بعدهم بعينها دون زيادة أو نقصان. وبذلك أتمّ الله تعالى الحجّة على عباده بانتشار هذه الأدعية والأذكار الواصلة إليهم من أهل البيت الأطهار ، ليتقرّبوا بها إليه تعالى من دون حاجة إلى مرشد أو دليل آخر ، ولذلك فليس على العباد إلّا إلزام أنفسهم بالعمل بها مع رعاية الشروط المقرّرة للدعاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مهج الدعوات : ٤٢٣ ، وعنه في الذريعة ٢٣ : ٢٨٧ / ٩٠٠٩.


وعمدتها حضور القلب وفهم وإدراك المعاني العالية ، وإزالة الأسباب المانعة من رذائل الأخلاق وغيرها ، ثمّ الاستعانة بالله تعالى في جميع ذلك ، فإنّه لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

وقد فصّل المؤلّف ، جزاه الله خير جزاء ، في المبحث الثاني في هذا الموضوع ، وبالنظر لاهتمام قدماء علمائنا بالأدعية ، ورغبتهم في إيضاح معانيها ، فقد عمدوا إلى شرح معظم الأدعية المعروفة : كدعاء كميل بن زياد ، ودعاء المشلول ، ودعاء الجوشن الصغير ، ودعاء الجوشن الكبير ، ودعاء الصباح ، ودعاء السِّمات ودعاء السيفيّ ، ودعاء صَنَمي قريش ، ودعاء العديلة ، ودعاء الندبة ، ودعاء الاحتجاب ، وغيرها من الأدعية الشريفة.

وأمّا دعاء أبي حمزة الثماليّ ، فهل كان نصيبه مثل سائر الأدعية شرحاً وتوضيحاً أم لا؟ بعد التتبّع في فهارس المكتبات المخطوطة والمطبوعة عثرنا على أسماء بعض الشروح لهذا الدعاء الشريف ، لكن مع الأسف لم يكمل بعضها ، ولم يظهر البعض الآخر إلى النور ، فليس في متناول اليد لحدّ هذا الزمان واحد من هذه الشروح ، والمؤلّف الشيخ الأستاذ جبّار مكّاوي ، بعدما رأى الفراغ الذي تعيشه المكتبة الإسلاميّة فيما يخصّ هذا الدعاء الشريف ، شمّر عن ساعد الهمّة وانكبّ على شرحه شرحاً واضحاً سمّاه «مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثماليّ».

ومن باب إتمام الفائدة وتعميم المنفعة لا بأس أن نذكر للقارئ الكريم أسماء العلماء الأعلام الذين تصدّوا لشرح وتوضيح هذا الدعاء ، آملاً من المولى القدير أن تقع مخطوطات هذه الشروح بين المحقّقين ؛ لكي يتصدّوا لتحقيقها ونشرها إلى جانب هذا الشرح الكبير الموضوع بين أيدينا في هذا الكتاب.


الأوّل : محمّد حسين بن محمّد جعفر السرابيّ : وُلد في «سراب» من أعمال تبريز وبها نشأ ، وأقام مّة في كرمانشاه ثمّ عاد إلى مسقط رأسه ، له اطّلاع بالعلوم العقليّة ، والظاهر أنّه من أعلام القرن الثاني عشر. له كتاب «غرر اللآلي في شرح دعاء أبي حمزة الثماليّ» (١).

الثاني : الشيخ محمّد إبراهيم بن المولى عبد الوهّاب السبزواريّ ، المولود سنة ١٢٩١ هجرية ، قال العلّامة الطهرانيّ : كتب إلينا في سنة ١٣٥٠ هجرية أنّه خرج من شرحه على دعاء أبي حمزة الثماليّ ثُلُثان ، والله الموفّق لإتمامه ، ولا أدري أنّه أتمّه أم لا (٢).

الثالث : الشيخ المولى محمّد تقي بن حسين عليّ الهرويّ الأصفهاني الحائريّ ، المتوفّى سنة ١٢٩٩ هجرية ، قال في «نهاية الآمال» : له شرح لأوائل دعاء أبي حمزة الثماليّ (٣).

الرابع : السيّد حسين بن أبي القاسم جعفر بن الحسين الموسويّ الخوانساريّ : أستاذ السيّد مهدي بحر العلوم والمتوفّى سنة ١١٩١ هجرية ، ذكره في «الروضات» (٤).

الخامس : السيّد المير معزّ الدين بن المير مسيح الأَصْطَهْباناتي ، قال العلّامة الطهراني : هو جدّ الحجّة المعاصر السيّد ميرزا آغا الأصطهباناتي المتوفّى سنة ١٣٧٩ هجرية ، كما ذكره لنا شفاهاً (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تراجم الرجال ٢ : ٦٧٣.

٢ ـ الذريعة ١٣ : ٢٤٦.

٣ ـ نفسه.

٤ ـ نفسه.

٥ ـ نفسه.


السادس : السيّد أبو القاسم جعفر بن الحسين بن قاسم بن محبّ الله الخوانساري ، المتوفّى سنة ١١٥٨ هجرية ، له رسالة في شرح دعاء أبي حمزة في السَّحَر ، ذكرها حفيده في «الروضات» (١).

السابع : صدر أخيراً من السيّد صدر الدين نجل السيّد حسن القبّانجيّ شرحٌ على هذا الدعاء الشريف.

من آثار هذا الدعاء

ذكر السيّد حسن الصدر في كتاب «أمل الآمل» عند ترجمة السيّد صدر الدين العامليّ ما نصّه : حدّثني الشيخ العالم الجليل الشيخ عبد العالي الأصفهانيّ النجفيّ قال : كنت ليلة من ليالي شهر رمضان في حرم أمير المؤمنين عليه السلام فجاء السيّد صدر الدين إلى الحرم ، ولمّا فرغ من الزيارة جلس خلف الضريح المقدّس ، وكنت قريباً منه ، فشرع في دعاء السَّحَر الذي رواه أبو حمزة ، فوالله ما زاد على قوله : «إلهي لا تُؤدِّبْني بعقوبتِك» وكرّرها وهو يبكي حتّى أُغمي عليه وحملوه من الحرم وهو مغمى عليه (٢).

عملنا في الكتاب

مرّ هذا الكتاب في مراحل عديدة إلى أن وصل إلى هذه الحُلّة الجميلة :

ـ مرحلة وضع علامات الترقيم ، وقد كفانا مؤونة ذلك المؤلّف نفسه حفظه الله.

ـ مرحلة تخريج المصادر ، من آيات وروايات وأقوال وأشعار ، وقد كانت طريقتنا تثبيت أقدم المصادر المعتمدة ، وبعد اليأس يكون الالتجاء إلى المصادر الثانوية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢١ : ٤٠١ الرقم ٥٦٨٠.

٢ ـ تكملة أمل الآمل : ٢٣٩.


والمتأخّرة زماناً ، وقد شارَكَنا في إنجاز هذه المرحلة الشيخ محمّد عيسى أميري والشيخ حسين واعظي.

ـ مرحلة صفّ الحروف بالآلة الكاتبة على الطريقة الحديثة.

ـ مقابلة المطبوع بالآلة الكاتبة مع النسخة الأصليّة ورفع الأخطاء الإملائيّة وما شابه ذلك وقد شاركنا في إنجاز هذه المرحلة الشيخ عصمت الله فتحي.

ـ إعادة النظر في أعمال المراحل السابقة والإشراف النهائي على الكتاب ومراجعته بدقّة للتأكّد من سلامة المتن وخلوّه ممّا زاغ عن البصره ، والحمد لله ربّ العالمين.

شكر وتقدير :

وفي الختام نتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى الاستاذ الشيخ جبّار جاسم مكّاوي حيث وضع نسخة الكتاب بين أيدينا ، آملين من العليّ القدير أن يوفّقه لرفد المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفات أخرى لعلّها تزيد في توضيح وشرح الأدعية المباركة.

كما نتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى أحمد رضا معين شهد مدير قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام في مدينة مشهد المقدّسة ، حيث فتح أمامنا باب مكتبة المؤسسة طيلة مدّة تحقيق هذا الكتاب ، فجزاه الله خير جزاء.

عبد الحليم عوض الحلّي

مشهد المقدسة




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين. إنَّ الأدعية الواردة عن أهل البيت الكرام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً تعتبر ينبوعاً من ينابيع الفكر والمعرفة الروحيّة التي تشدّ الإنسان إلى خالقه ، وتخلق منه مثالاً رائعاً في طريق الدعوة والجهاد والصبر والتحمّل والتضحية والعطاء.

لقد أصدرتُ كتاباً بعنوان (أضواء على دعاء الافتتاح) ثمّ كتاباً آخر بعنوان (في ظلال دعاء كميل).

وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم الموسوم بـ (مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثُماليّ للإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام) هو آخر الإصدارات ، آملاً من الله القبول والتلقّي ليكون ذخيرة لي ولوالدي وأساتذتي يوم ألقاه آملاً الرضى منه ، والنقد البنّاء الهادف من القارئ العزيز.

ومن الله نستمدّ التوفيق.



نصّ الدعاء

قال السيّد ابن طاووس في «إقبال الأعمال» : فمِن الدعاء في سَحَر كلِّ ليلة من شهر رمضان ، ما رويناه بإسنادنا إلى أبي محمّد هارون بن موسى التَّلْعَكبريّ رذي الله تعالى عنه ، بإسناداه إلى الحسن بن محبوب الزرّاد ، عن أبيح مزة الثماليّ أنّه قال : كان عليّ بن الحسين سيّد العابدين صلوات الله عليه يصلّي عامّةً ليلة في شهر رمضان ، فإذا كان السَّحَر دع بهذا الدعاء.

اِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ ، مِنْ اَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ ، وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلاّ بِكَ! لاَ الَّذي اَحْسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ ، وَلاَ الَّذي اَساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ ، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ (حتّى ينقطع النّفس) بِكَ عَرَفْتُكَ وَاَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ ، وَدَعَوْتَني اِلَيْكَ ، وَلَوْلا اَنْتَ لَمْ اَدْرِ ما اَنْتَ.

اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني وَاِنْ كُنْتَ بَطيـئاً حينَ يَدْعوُني ، وَاَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسْأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتي ، وَاَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسِرِّي بِغَيْرِ شَفيع فَيَقْضى لي حاجَتي. اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لا اَدْعُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي لا اَرْجُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لَأَخْلَفَ رَجائي ،


وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي وَكَلَني اِلَيْهِ فَاَكْرَمَني وَلَمْ يَكِلْني اِلَى النّاسِ فَيُهينُوني ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي تَحَبَّبَ اِلَىَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنّي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي يَحْلُمُ عَنّي حَتّى كَاَنّي لا ذَنْبَ لي ، فَرَبّي اَحْمَدُ شَيْيء عِنْدي ، وَاَحَقُّ بِحَمْدي.

اَللّـهُمَّ اِنّي اَجِدُ سُبُلَ الْمَطالِبِ اِلَيْكَ مُشْرَعَةً ، وَمَناهِلَ الرَّجاءِ اِلَيْكَ مُتْرَعَةً ، وَالْاِسْتِعانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ اَمَّلَكَ مُباحَةً ، وَاَبْوابَ الدُّعاءِ اِلَيْكَ لِلصّارِخينَ مَفْتُوحَةً ، وَاَعْلَمُ اَنَّكَ لِلرّاجي بِمَوْضِعِ اِجابَة ، وَلِلْمَلْهُوفينَ بِمَرْصَدِ اِغاثَة ، وَاَنَّ فِي اللَّهْفِ اِلى جُودِكَ وَالرِّضا بِقَضائِكَ عِوَضاً مِنْ مَنْعِ اْلباِخلينَ ، وَمَنْدُوحَةً عَمّا في اَيْدي الْمُسْتَأثِرينَ ، وَاَنَّ الِراحِلَ اِلَيْكَ قَريبُ الْمَسافَةِ ، وَاَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلاّ اَنْ تَحْجُبَهُمُ الْاَعمالُ دُونَكَ ، وَقَدْ قَصَدْتُ اِلَيْكَ بِطَلِبَتي ، وَتَوَجَّهْتُ اِلَيْكَ بِحاجَتي ، وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغاثَتي ، وَبِدُعائِكَ تَوَسُّلي مِنْ غَيْرِ اِسْتِحْقاق لاِسْتِماعِكَ مِنّي ، وَلاَ اسْتيجاب لِعَفْوِكَ عَنّي ، بَلْ لِثِقَتي بِكَرَمِكَ ، وَسُكُوني اِلى صِدْقِ وَعْدِكَ ، وَلَجَائي اِلَى الاْيمانِ بِتَوْحيدِكَ ، وَيَقيني بِمَعْرِفَتِكَ مِنّي اَنْ لا رَبَّ لي غَيْرُكَ ، وَلا اِلـهَ إلاّ اَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ.

اَللّـهُمَّ اَنْتَ الْقائِلُ وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَوَعْدُكَ صِدْقٌ : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) (١) ، (إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (٢) ، وَلَيْسَ مِنْ صِفاتِكَ يا سَيّدي اِنْ تَأمُرَ بِالسُّؤالِ وَتَمْنَعَ الْعَطِيَّةَ ، وَاَنْتَ الْمَنّانُ بِالْعَطِيّاتِ عَلى اَهْلِ مَمْلَكَتِكَ ، وَالْعائِدُ عَلَيْهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأفَتِكَ.

اِلهي رَبَّيْتَني في نِعَمِكَ وَاِحْسانِكَ صَغيراً ، وَنَوَّهْتَ بِاِسْمي كَبيراً ، فَيا مَنْ رَبّاني فِي الدُّنْيا بِاِحْسانِهِ وَتَفَضُّلِهِ وَنِعَمِهِ ، وَاَشارَ لي فِي الاْخِرَةِ اِلى عَفْوِهِ وَكَرَمِهِ ، مَعْرِفَتي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٣٢.

٢ ـ النساء : ٢٩.


يا مَوْلايَ دَليلي عَلَيْكَ ، وَحُبّي لَكَ شَفيعي اِلَيْكَ ، وَاَنَا واثِقٌ مِنْ دَليلي بِدَلالَتِكَ ، وَساكِنٌ مِنْ شَفيعي اِلى شَفاعَتِكَ ، اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسان قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْب قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ ، اَدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً راغِباً ، راجِياً خائِفاً ، اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ ، وَاِذا رَاَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم ، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم.

حُجَّتي يا اَللهُ في جُرْأَتي عَلى مَسْأَلَتِكَ ، مَعَ اِتْياني ما تَكْرَهُ ، جُودُكَ وَكَرَمُكَ ، وَعُدَّتي في شِدَّتي مَعَ قِلَّةِ حَيائي رَأفَتُكَ وَرَحْمَتُكَ ، وَقَدْ رَجَوْتُ اَنْ لا تَخيبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتي ، فَصَلِّ على مُحمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وحَقِّقْ رَجائي ، وَاَسْمِعْ دُعائي يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع ، وَاَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راج.

عَظُمَ يا سَيِّدي اَمَلي ، وَساءَ عَمَلي ، فَاَعْطِني مِنْ عَفْوِكَ بِمِقْدارِ اَمَلي ، وَلا تُؤاخِذْني بِأَسْوَءِ عَمَلي ، فَاِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ الْمُذْنِبينَ ، وَحِلْمَكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافاةِ الْمُقَصِّرينَ ، وَاَنَا يا سَيِّدي عائِذٌ بِفَضْلِكَ ، هارِبٌ مِنْكَ اِلَيْكَ ، مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ اَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً.

وَما اَنَا يا رَبِّ وَما خَطَري؟! هَبْني بِفَضْلِكَ ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ اَيْ رَبِّ جَلِّلْني بِسَتْرِكَ ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبيخي بِكَرَمِ وَجْهِكَ ، فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلى ذَنْبي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجيلَ الْعُقُوبَةِ لاَجْتَنَبْتُهُ ، لا لِاَنَّكَ اَهْوَنُ النّاظِرينَ وَاَخَفُّ الْمُطَّلِعينَ ، بَلْ لِاَنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السّاتِرينَ ، وَاَحْكَمُ الْحاكِمينَ (١) ، وَاَكْرَمُ الْاَكْرَمينَ ، سَتّارُ الْعُيُوبِ ، غَفّارُ الذُّنُوبِ ، عَلاّمُ الْغُيُوبِ ، تَسْتُرُ الذَّنْبِ بِكَرَمِكَ ، وَتُؤَخِّرُ الْعُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ ، وَعَلى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ خ ل = وأحْلَمُ الأحْلَمِينَ.


وَيَحْمِلُني وَيُجَرَّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي ، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ.

يا حَليمُ يا كَريمُ ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ ، يا غافِرَ الذَّنْبِ ، يا قابِلَ التَّوْبِ ، يا عَظيمَ الْمَنِّ ، يا قَديمَ الْاِحسانِ ، اَيْنَ سِتْرُكَ الْجَميلُ ، اَيْنَ عَفْوُكَ الْجَليلُ ، اَيْنَ فَرَجُكَ الْقَريبُ ، اَيْنَ غِياثُكَ السَّريعُ ، اَيْنَ رَحْمَتِكَ الْواسِعَةِ ، اَيْنَ عَطاياكَ الْفاضِلَةُ ، اَيْنَ مَواهِبُكَ الْهَنيئَةُ ، اَيْنَ صَنائِعُكَ السَّنِيَّةُ ، اَيْنَ فَضْلُكَ الْعَظيمُ ، اَيْنَ مَنُّكَ الْجَسيمُ ، اَيْنَ اِحْسانُكَ الْقَديمُ ، اَيْنَ كَرَمُكَ يا كَريمُ ، بِكَ [بِهِ خ ل] وَبِمًحَمّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ عَلَيهِمُ السَّلامُ فَاسْتَنْقِذْني ، وَبِرَحْمَتِكَ فَخَلِّصْني.

يا مُحْسِنُ يا مُجْمِلُ ، يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ ، لَسْتُ اَتَّكِلُ فِي النَّجاةِ مِنْ عِقابِكَ عَلى اَعْمالِنا ، بَلْ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا ، لِاَنَّكَ اَهْلَ التَّقْوى وَاَهْلَ الْمَغْفِرَةِ ، تُبْدِئُ بِالْاِحْسانِ نِعَماً ، وَتَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ كَرَماً ، فَما نَدْري ما نَشْكُرُ : اَجَميلَ ما تَنْشُرُ ، اَمْ قَبيحَ ما تَسْتُرُ ، اَمْ عَظيمَ ما اَبْلَيْتَ وَاَوْلَيْتَ ، اَمْ كَثيرَ ما مِنْهُ نَجَّيْتَ وَعافَيْتَ؟! يا حَبيبَ مَنْ تَحَبَّبَ اِلَيْكَ ، وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ اِلَيْكَ ، اَنْتَ الْمُحْسِنُ وَنَحْنُ الْمُسيؤونَ فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبيحِ ما عِنْدَنا بِجَميلِ ما عِنْدَكَ.

وَاَيُّ جَهْل يا رَبِّ لا يَسَعُهُ جُودُكَ ، اَوْ اَيُّ زَمان اَطْوَلُ مِنْ اَناتِكَ؟ وَما قَدْرُ اَعْمالِنا في جَنْبِ نِعَمِكَ ، وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ اَعْمالاً نُقابِلُ بِها كَرَمَكَ ، بَلْ كَيْفَ يَضيقُ عَلَى الْمُذْنِبينَ ما وَسِعَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ؟! يا واسِعَ الْمَغْفِرَةِ ، يا باسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ ، فَوَ عِزَّتِكَ يا سَيِّدي ، لَوْ نَهَرْتَني ما بَرِحْتُ مِنْ بابِكَ ، وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ ، لِمَا انْتَهى اِلَىَّ يا سَيِّدي مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِجُودِكَ وَكَرِمَك ، وَاَنْتَ الْفاعِلُ لِما تَشاءُ تُعَذِّبُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، وَتَرْحَمُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، لا تُسْأَلُ عَنْ فِعْلِكَ ، وَلا تُنازِعُ في مُلْكِكَ ، وَلا تُشارَكُ في اَمْرِكَ ، وَلا تُضادُّ في حُكْمِكَ ، وَلا


يَعْتَرِضُ عَلَيْكَ اَحَدٌ في تَدْبيرِكَ ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْاَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمينَ.

يا رَبِّ هذا مَقامُ مَنْ لاذَ بِكَ وَاسْتَجارَ بِكَرَمِكَ ، وَاَلِفَ اِحْسانَكَ وَنِعَمَكَ وَاَنْتَ الْجَوادُ الَّذي لا يَضيقُ عَفْوُكَ ، وَلا يَنْقُصُ فَضْلُكَ ، وَلا تَقِلُّ رَحْمَتُكَ ، وَقَدْ تَوَثَّقْنا مِنْكَ بِالصَّفْحِ الْقَديمِ ، وَالْفَضْلِ الْعَظيمِ ، وَالرَّحْمَةِ الْواسِعَةِ.

اَفَتَراكَ يا رَبِّ تُخْلِفُ ظُنُونَنا ، اَوْ تُخَيِّبْ آمالَنا؟! كَلاّ يا كَريمُ ، فَلَيْسَ هذا ظَنُّنا بِكَ ، وَلا هذا طَمَعُنا فيكَ. يا رَبِّ ، اِنَّ لَنا فيكَ اَمَلاً طَويلاً كَثيراً ، اِنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً ، عَصَيْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتُرَ عَلَيْنا ، وَدَعَوْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتَجيبَ لَنا ، فَحَقِّقْ رَجاءَنا مَوْلانا ، فَقَدْ عَلِمْنا ما نَسْتَوْجِبُ بِاَعْمالِنا ، وَلكِنْ عِلْمُكَ فينا وَعِلْمُنا بِاَنَّكَ لا تَصْرِفُنا عَنْكَ حَثِّنا عَلَى الرَّغْبَةِ إِلَيْكَ ، وَاِنْ كُنّا غَيْرَ مُسْتَوْجِبينَ لِرَحْمَتِكَ ، فَاَنْتَ اَهْلٌ اَنْ تَجُودَ عَلَيْنا وَعَلَى الْمُذْنِبينَ بِفَضْلِ سَعَتِكَ ، فَامْنُنْ عَلَيْنا بِما اَنْتَ اَهْلُهُ ، وَجُدْ عَلَيْنا [بِفَضْلِ إحْسَانِكَ] ؛ فَاِنّا مُحْتاجُونَ اِلى نَيْلِكَ.

يا غَفّارُ بِنُورِكَ اهْتَدَيْنا ، وَبِفَضْلِكَ اسْتَغْنَيْنا ، وَبِنِعْمَتِكَ اَصْبَحْنا وَاَمْسَيْنا ، ذُنُوبَنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ الّلهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ ، تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَل قَبيح ، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ ، فَسُبْحانَكَ ما اَحْلَمَكَ وَاَعْظَمَكَ وَاَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعيداً ، تَقَدَّسَتْ اَسْماؤكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ ، وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ. اَنْتَ يا اِلهي اَوْسَعُ فَضْلاً ، وَاَعْظَمُ حِلْماً مِنْ اَنْ تُقايِسَني بِفِعْلي وَخَطيـئَتي ، فَالْعَفْوَ الْعَفْوَ الْعَفْوَ ، سَيِّدي سَيِّدي سَيِّدي.

اَللّـهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ ، وَاَعِذْنا مِنْ سَخَطِكَ ، وَاَجِرْنا مِنْ عَذابِكَ ، وَارْزُقْنا مِنْ مَواهِبِكَ ، وَاَنْعِمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلِكَ ، وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ ، وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ


وَرَحْمَتُكَ وَمَغْفِرَتُكَ وَرِضْوانُكَ عَلَيْهِ وَعَلى اَهْلِ بَيْتِهِ ، اِنَّكَ قَريبٌ مُجيبٌ.

وَارْزُقْنا عَمَلاً بِطاعَتِكَ ، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ ، وَسُنَّةِ رَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِه ، واغْفِرْ لي وَلِوالِدَيَّ وَارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً ، اِجْزِهما بِالْاِحسانِ اِحْساناً ، وَبِالسَّيِّئاتِ غُفْراناً ، اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، الْاَحياءِ مِنْهُمْ وَالْاَمواِت ، وَتابِعْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ بِالْخَيْراتِ اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا ، وَشاهِدِنا وَغائِبِنا ، ذَكَرِنا وَاُنْثانا ، صَغيرِنا وَكَبيرِنا ، حُرِّنا وَمَمْلُوكِنا ، كَذَبَ الْعادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلالاً بَعيداً ، وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبيناً.

اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد ، وَاخْتِمْ لي بِخَيْر ، وَاكْفِني ما اَهَمَّني مِنْ اَمْرِ دُنْيايَ وَآخِرَتي وَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لا يَرْحَمُني ، وَاجْعَلْ عَلَيَّ مِنْكَ جُنَّةً واقِيَةً باقِيَةً ، وَلا تَسْلُبْني صالِحَ ما اَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ ، وَارْزُقْني مِنْ فَضْلِكَ رِزْقاً واسِعاً حَلالاً طَيِّباً.

اَللّـهُمَّ احْرُسْني بِحَراسَتِكَ ، وَاحْفَظْني بِحِفْظِكَ ، وَاكْلاَني بِكِلائَتِكَ ، وَارْزُقْني حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ في عامِنا هذا وَفي كُلِّ عام ، وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ عَلَيهِ وآلِهِ وَالْاَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ، وَلا تُخْلِني يا رَبِّ مِنْ تِلْكَ الْمَشاهِدِ الشَّريفَةِ ، وَالْمَواقِفِ الْكَريمَةِ.

اَللّـهُمَّ تُبْ عَلَيَّ حَتّى لا اَعْصِيَكَ ، وَاَلْهِمْنِيَ الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ بِهِ ، وَخَشْيَتَكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَبَداً ما اَبْقَيْتَني يا رَبَّ الْعالَمينَ.

اَللّـهُمَّ اِنّي كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ وَتَعَبَّأتُ ، وَقُمْتُ لِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ ، اَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً اِذا اَنَا صَلَّيْتُ ، وَسَلَبْتَني مُناجاتِكَ اِذا اَنَا ناجَيْتُ ، مالي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلَحَتْ سَريرَتي ، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي ، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي ، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟! سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني ، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ فَاَقْصَيْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ فَرَفَضْتَني ، اَوْ


لَعَلَّكَ رَاَيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ فَخَذَلْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِى الْغافِلينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ اَنْ تَسْمَعَ دُعائي فَباعَدْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمي وَجَريرَتي كافَيْتَني ، اَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنْكَ جازَيْتَني!!

فَاِنْ عَفَوْتَ يا رَبِّ فَطالما عَفَوْتَ عَنِ الْمُذْنِبينَ قَبْلي ؛ لِاَنَّ كَرَمَكَ اَيْ رَبِّ يَجِلُّ عَنْ مُجازاتِ المُذْنِبِينَ ، وَحِلْمُكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافاتِ الْمُقَصِّرينَ ، وَاَنَا عائِذٌ بِفَضْلِكَ ، هارِبٌ مِنْكَ اِلَيْكَ ، مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ اَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً.

اِلهي اَنْتَ اَوْسَعُ فَضْلاً ، وَاَعْظَمُ حِلْماً مِنْ اَنْ تُقايِسَني بِعَمَلي ، اَوْ اَنْ تَسْتَزِلَّني بِخَطيئَتي ، وَما اَنَا يا سَيِّدي وَما خَطَري؟! هَبْني بِفَضْلِكَ يا سَيِّدي ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ ، وَجَلِّلْني بِسَتْرِكَ ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبيخي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.

سَيِّدي اَنَا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيْتَهُ ، وَاَنَا الْجاهِلُ الَّذي عَلَّمْتَهُ ، وَاَنَا الضّالُّ الَّذي هَدَيْتَهُ ، وَاَنَا الْوَضيعُ الَّذي رَفَعْتَهُ ، وَاَنَا الْخائِفُ الَّذي آمَنْتَهُ ، وَالْجايِعُ الَّذي اَشْبَعْتَهُ ، وَالْعَطْشانُ الَّذي اَرْوَيْتَهُ ، وَالْعاري الَّذي كَسَوْتَهُ ، وَالْفَقيرُ الَّذي اَغْنَيْتَهُ ، وَالضَّعيفُ الَّذي قَوَّيْتَهُ ، وَالذَّليلُ الَّذي اَعْزَزْتَهُ ، وَالسَّقيمُ الَّذي شَفَيْتَهُ ، وَالسّائِلُ الَّذي اَعْطَيْتَهُ ، وَالْمُذْنِبُ الَّذي سَتَرْتَهُ ، وَالْخاطِئُ الَّذي اَقَلْتَهُ ، وَاَنَا الْقَليلُ الَّذي كَثَّرْتَهُ ، وَالْمُسْتَضْعَفُ الَّذي نَصَرْتَهُ ، وَاَنَا الطَّريدُ الَّذي آوَيْتَهُ فَلَكَ الحَمْدُ.

واَنَا يا رَبِّ الَّذي لَمْ اَسْتَحْيِكَ فِى الْخَلاءِ ، وَلَمْ اُراقِبْكَ فِى الْمَلاءِ ، اَنَا صاحِبُ الدَّواهِي الْعُظْمى ، اَنَا الَّذي عَلى سَيِّدِهِ اجْتَرى ، اَنَا الَّذي عَصَيْتُ جَبّارَ السَّماءِ ، اَنَا الَّذي اَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِى الْجَليلِ الرُّشا ، اَنَا الَّذي حينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ اِلَيْها اَسْعى ، اَنَا الَّذي اَمْهَلْتَني فَما ارْعَوَيْتُ ، وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ ،


وَعَمِلْتُ بِالْمَعاصي فَتَعَدَّيْتُ ، وَاَسْقَطْتَني مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ ، فَبِحِلْمِكَ اَمْهَلْتَني وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَني حَتّى كَاَنَّكَ اَغْفَلْتَني ، وَمِنْ عُقُوباتِ الْمَعاصي جَنَّبْتَني حَتّى كَاَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَني.

اِلهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ ، وَلا بِاَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي ، وَغَلَبَني هَوايَ ، وَاَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي ، وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَىَّ ، فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجَهْدي ، فَالاْنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُني ، وَمِنْ اَيْدي الْخُصَماءِ غَداً مِنْ يُخَلِّصُني ، وَبِحَبْلِ مَنْ اَتَّصِلُ اِنْ اَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنّي؟! فَواسَوْاَتا عَلى ما اَحْصى كِتابُكَ مِنْ عَمَلِيَ الَّذي لَوْلا ما اَرْجُو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيِكَ اِيّايَ عَنِ الْقُنُوطِ لَقَنَطْتُ عِنْدَما اَتَذَكَّرُها ، يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع ، وَاَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راج.

اَللّـهُمَّ بِذِمَّةِ الْاِسْلامِ اَتَوَسَّلُ اِلَيْكَ ، وَبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ اَعْتَمِدُ اِلَيْكَ ، وَبِحُبِّيَ النَّبِيَّ الْاُمِّيَّ الْقُرَشِيَّ الْهاشِمِيَّ الْعَرَبِيَّ التِّهامِيَّ الْمَكِّيَّ الْمَدَنِيَّ صَلَواتُكَ عَلَيهِ وَآلِهِ اَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ ، فَلا تُوحِشِ اسْتيناسَ ايماني ، وَلا تَجْعَلْ ثَوابي ثَوابَ مَنْ عَبَدَ سِواكَ ، فَاِنَّ قَوْماً آمَنُوا بِاَلْسِنَتِهِمْ لِيَحْقِنُوا بِهِ دِماءَهُمْ فَاَدْرَكُوا ما اَمَّلُوا ، وَإنّا آَمّنا بِكَ بِاَلْسِنَتِنا وَقُلُوبِنا لِتَعْفُوَ عَنّا ، فَاَدْرِكْنا ما اَمَّلْنا ، وَثَبِّتْ رَجاءَكَ في صُدُورِنا ، وَلا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنا ، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهّابُ.

فَوَعِزَّتِكَ لَوِ انْتَهَرْتَني ما بَرِحْتُ عَنْ بابِكَ ، وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ ؛ لِما اُلْهِمَ قَلْبي مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِكَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ. إلهي اِلى مَنْ يَذْهَبُ الْعَبْدُ إلاّ اِلى مَوْلاهُ ، وَاِلى مَنْ يَلْتَجِئُ الْمَخْلُوقُ إلاّ اِلى خالِقِهِ؟!

إِلهي ، لَوْ قَرَنْتَني بِالْاَصْفادِ ، وَمَنَعْتَني سَيْبَكَ مِنْ بَيْنِ الْاَشْهادِ ، وَدَلَلْتَ عَلى


فَضايِحي عُيُونَ الْعِبادِ ، وَاَمَرْتَ بي اِلَى النّارِ ، وَحُلْتَ بَيْني وَبَيْنَ الْاَبْرارِ ، ما قَطَعْتُ رَجائي مِنْكَ ، وَما صَرَفْتُ تَأميلي لِلْعَفْوِ عَنْكَ ، وَلا خَرَجَ حُبُّكَ مِنْ قَلْبي.

اَنَا لا اَنْسى اَيادِيَكَ عِنْدي ، وَسِتْرَكَ عَلَيَّ في دارِ الدُّنْيا ، سَيِّدي صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَاَخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيا مِنْ قَلْبي ، وَاجْمَعْ بَيْني وَبَيْنَ الْمُصْطَفى وَآلِهِ خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ ، [وَ : خ] خاتَمِ النَّبِيّينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، وَانْقُلْني اِلى دَرَجَةِ الَّتوْبَةِ اِلَيْكَ ، وَاَعِنّي بِالْبُكاءِ عَلى نَفْسي ، فَقَدْ اَفْنَيْتُ بِالتَّسْويفِ وَالاْمالِ عُمْري ، وَقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الاْيِسينَ مِنْ خَيْري ، فَمَنْ يَكُونُ اَسْوَأ حالاً مِنّي إنْ اَنَا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالي اِلى قَبْري ، لَمْ اُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتي ، وَلَمْ اَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصّالِحِ لِضَجْعَتي؟! وَمالي لا اَبْكي وَلا اَدْري اِلى ما يَكُونُ مَصيري ، وَاَرى نَفْسي تُخادِعُني ، وَاَيّامي تُخاتِلُني ، وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي اَجْنِحَةُ الْمَوْتِ ، فَمالي لا اَبْكي؟! اَبْكي لِخُرُوجِ نَفْسي ، اَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري ، اَبْكي لِضيقِ لَحدي ، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ ، اَبْكي لِخُرُوجِ مِنْ قَبْري عُرْياناً ذَليلاً حامِلاً ثِقْلي عَلى ظَهْري ، اَنْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَميني وَاُخْرى عَنْ شِمالي ، اِذِ الْخَلائِقِ في شَأن غَيْرِ شَأني ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) (١) وَذِلَّةٌ.

سَيِّدي عَلَيْكَ مُعَوَّلي ، وَمُعْتَمَدي وَرَجائي وَتَوَكُّلي ، وَبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقي ، تُصيبُ بِرَحْمَتِكَ مَنْ تَشاءُ ، وَتَهْدي بِكَرامَتِكَ مَنْ تُحِبُّ ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى ما نَقَّيْتَ مِنَ الشِّرْكِ قَلْبي ، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلى بَسْطِ لِساني ، اَفَبِلِساني هذَا الْكالِّ اَشْكُرُكَ ، اَمْ بِغايَةِ جُهْدي في عَمَلي اُرْضيكَ؟! وَما قَدْرُ لِساني يا رَبِّ في جَنْبِ شُكْرِكَ ، وَما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عبس : ٣٧ ـ ٤١.


قَدْرُ عَمَلي في جَنْبِ نِعَمِكَ وَاِحْسانِكَ اِليّ؟! إلّا اِنَّ جُودَكَ بَسَطَ اَمَلي ، وَشُكْرَكَ قَبِلَ عَمَلي. سَيِّدي اِلَيْكَ رَغْبَتي ، وَاِلَيْكَ رَهْبَتي ، وَاِلَيْكَ تَأميلي ، وَقَدْ ساقَني اِلَيْكَ اَمَلي ، وَعَلَيْكَ يا واحِدي عَكَفَتْ هِمَّتي ، وَفيـما عِنْدَكَ انْبَسَطَتْ رَغْبَتي ، وَلَكَ خالِصُ رَجائي وَخَوْفي ، وَبِكَ أَنِسَتْ مَحَبَّتي ، وَاِلَيْكَ اَلْقَيْتُ بِيَدي ، وَبِحَبْلِ طاعَتِكَ مَدَدْتُ رَغْبَتي.

يا مَوْلايَ ، بِذِكْرِكَ عاشَ قَلْبي ، وَبِمُناجاتِكَ بَرَّدْتُ اَلَمَ الْخَوْفِ عَنّي ، فَيا مَوْلايَ وَيا مُؤَمَّلي ، وَيا مُنْتَهى سُؤْلي ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَفَرِّقْ بَيْني وَبَيْنَ ذَنْبِيَ الْمانِعِ لي مِنْ لُزُومِ طاعَتِكَ ، فَاِنَّما اَسْاَلُكَ لِقَديمِ الرَّجاءِ فيكَ ، وَعَظيمِ الطَّمَعِ مِنْكَ ، الَّذي اَوْجَبْتَهُ عَلى نَفْسِكَ مِنَ الرَّأفَةِ وَالرَّحْمَةِ ، فَالْاَمْرُ لَكَ ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيالُكَ وَفي قَبْضَتِكَ ، وَكُلُّ شَيْي خاضِعٌ لَكَ ، تَبارَكْتَ يا رَبَّ الْعالَمينَ.

اَللّهمَّ فارْحَمْني اِذَا انْقَطَعَتْ حُجَّتي ، وَكَلَّ عَنْ جَوابِكَ لِساني ، وَطاشَ عِنْدَ سُؤالِكَ اِيّايَ لُبّي ، فَيا عَظيمَ يُرجى لِكُلِّ عَظيمٍ ، أنْتَ رَجائي فلا تُخَيِّبْني اِذَا اشْتَدَّتْ فاقَتي ، وَلا تَرُدَّني لِجَهْلي ، وَلا تَمْنَعْني لِقِلَّةِ صَبْري. اَعْطِني لِفَقْري ، وَارْحَمْني لِضَعْفي. سَيِّدي عَلَيْكَ مُعْتَمَدي وَمُعَوَّلي ، وَرَجائي وَتَوَكُّلي ، وَبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقي ، وَبِفَنائِكَ اَحُطُّ رَحْلي ، وَبِجُودِكَ اَقْصِدُ طَلِبَتي ، وَبِكَرَمِكَ اَيْ رَبِّ اسْتَفْتِحُ دُعائي ، وَلَدَيْكَ اَرْجُو فاقَتي [ضِيافَتِي خ ل] ، وَبِغِناكَ اَجْبُرُ عَيْلَتي ، وَتَحْتَ ظِلِّ عَفْوِكَ قِيامي ، وَاِلى جُودِكَ وَكَرَمِكَ اَرْفَعُ بَصَري ، وَاِلى مَعْرُوفِكَ اُديمُ نَظَري ، فَلا تُحْرِقْني بِالنّارِ وَاَنْتَ مَوْضِعُ اَمَلي ، وَلا تُسْكِنِّىِ الْهاوِيَةَ فَاِنَّكَ قُرَّةُ عَيْني. يا سَيِّدي ، لا تُكَذِّبْ ظَنّي بِاِحْسانِكَ وَمَعْرُوفِكَ فَاِنَّكَ ثِقَتي وَرَجائي ، وَلا تَحْرِمْني ثَوابَكَ فَاِنَّكَ الْعارِفُ بِفَقْري.


اِلهي ، اِنْ كانَ قَدْ دَنا اَجَلي وَلَمْ يُقَرِّبْني مِنْكَ عَمَلي ، فَقَدْ جَعَلْتُ الاْعْتِرافَ اِلَيْكَ بِذَنْبي وَسائِلَ عِلَلي. اِلهي اِنْ عَفَوْتَ فَمَنْ اَوْلى مِنْكَ بِالْعَفْوِ ، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَمَنْ اَعْدَلُ مِنْكَ فِي الْحُكْمِ؟! اَللّهمَّ فَارْحَمْ في هذِهِ الدُّنْيا غُرْبَتي ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كُرْبَتي ، وَفِي الْقَبْرِ وَحْدَتي ، وَفِي اللَّحْدِ وَحْشَتي ، وَاِذا نُشِرْتُ لِلْحِسابِ بَيْنَ يَدَيْكَ ذُلَّ مَوْقِفي ، وَاغْفِرْ لي ما خَفِيَ عَلَى الاْدَمِيّينَ مِنْ عَمَلي ، وَاَدِمْ لي ما بِهِ سَتَرْتَني ، وَارْحَمْني صَريعاً عَلَى الْفِراشِ تُقَلِّبُني اَيْدي اَحِبَّتي ، وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ مَمْدُوداً عَلَى الْمُغْتَسَلِ يُقَلِّبُني صالِحُ جيرَتي ، وَتَحَنَّنْ عَلَيَّ مَحْموُلاً قَدْ تَناوَلَ الْاَقْرِباءُ اَطْرافَ جِنازَتي ، وَجُدْ عَلَيَّ مَنْقُولاً قَدْ نَزَلْتُ بِكَ وَحيداً في حُفْرَتي ، وَارْحَمْ في ذلِكَ الْبَيْتِ الْجَديدِ غُرْبَتي ، حَتّى لا اَسْتَاْنِسَ بِغَيْرِكَ. يا سَيِّدي ، اِنْ وَكَلْتَني اِلى نَفْسي هَلَكْتُ ، فَبِمَنْ اَسْتَغيثُ اِنْ لَمْ تُقِلْني عَثَرْتي ، فَاِلى مَنْ اَفْزَعُ اِنْ فَقَدْتُ عِنايَتَكَ في ضَجْعَتي ، وَاِلى مَنْ اَلْتَجِئُ اِنْ لَمْ تُنَفِّسْ كُرْبَتي؟! سَيِّدي مَنْ لي وَمَنْ يَرْحَمُني اِنْ لَمْ تَرْحَمْني؟! وَفَضْلَ مَنْ اُؤَمِّلُ اِنْ عَدِمْتُ فَضْلَكَ يَوْمَ فاقَتي؟! وَاِلى مَنِ الْفِرارُ مِنَ الذُّنُوبِ اِذَا انْقَضى اَجَلي؟! سَيِّدي لا تُعَذِّبْني وَاَنَا اَرْجُوكَ ، اِلهي حَقِّقْ رَجائي ، وَآمِنْ خَوْفي ، فَاِنَّ كَثْرَةَ ذُنُوبي لا اَرْجُو لها إلاّ عَفْوُكَ.

سَيِّدي اَنَا اَسْاَلُكَ ما لا اَسْتَحِقُّ وَاَنْتَ اَهْلُ التَّقْوى وَاَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ، فَاغْفِرْ لي وَاَلْبِسْني مِنْ نَظَرِكَ ثَوْباً يُغَطّي عَلَيَّ التَّبِعاتِ ، وَتَغْفِرُها لي وَلا اُطالَبُ بِها ، اِنَّكَ ذُو مَنٍّ قَديم ، وَصَفْح عَظيم ، وَتَجاوُز كَريم.

اِلهي اَنْتَ الَّذي تُفيضُ سَيْبَكَ عَلى مَنْ لا يَسْأَلُكَ وَعَلَى الْجاحِدينَ بِرُبُوبِيَّتِكَ ، فَكَيْفَ سَيِّدي بِمَنْ سَأَلَكَ وَاَيْقَنَ اَنَّ الْخَلْقَ لَكَ ، وَالْاَمْرَ اِلَيْكَ ، تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ يا رَبَّ الْعالَمينَ.

سَيِّدي عَبْدُكَ بِبابِكَ أقامَتْهُ الْخَصاصَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ ، يَقْرَعُ بابَ اِحْسانِكَ


بِدُعائِهِ ، وَيَسْتَعْطِفُ جَميلَ نَظَرِكَ بِمَكْنُونِ رَجائِهِ ، فَلا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ الْكَريمِ عَنّي ، وَاَقْبَلْ مِنّي ما اَقُولُ ، فَقَدْ دَعَوْتُ بِهذَا الدُّعاءِ وَاَنا اَرْجُو اَنْ لا تَرُدَّني ؛ مَعْرِفَةً مِنّي بِرَأفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ.

اِلهي اَنْتَ الَّذي لا يُحْفيكَ سائِلٌ ، وَلا يَنْقُصُكَ نائِلٌ ، اَنْتَ كَما تَقُولُ وَفَوْقَ ما يَقُولُ القائِلون [وَفَوْقَ ما نَقُولُ خ ل].

اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ صَبْراً جَميلاً ، وَفَرَجاً قَريباً ، وَقَولاً صادِقاً ، وَاَجْراً عَظيماً ، اَسْاَلُكَ يا رَبِّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ اَعْلَمْ ، اَسْاَلُكَ اللّهُمَّ مِنْ خَيْرِ ما سَأَلَكَ مِنْهُ عِبادُكَ الصّالِحُونَ. يا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ ، وَاَجْوَدَ مَنْ اَعْطى ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدِ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاَعْطِني سُؤْلي في نَفْسي وَاَهْلي وَوالِديَّ وَوَلَدي وَاَهْلِ حُزانَتي وَاِخْواني فيكَ ، وَاَرْغِدْ عَيْشي ، وَاَظْهِرْ مُرُوَّتي ، وَاَصْلِحْ جَميعَ اَحْوالي ، وَاجْعَلْني مِمَّنْ اَطَلْتَ عُمْرَهُ ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ ، وَاَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ ، وَرَضيتَ عَنْهُ ، وَاَحْيَيْتَهُ حَياةً طَيِّبَةً في اَدْوَمِ السُّرُورِ ، وَاَسْبَغِ الْكَرامَةِ ، وَاَتَمِّ الْعَيْشِ ، اِنَّكَ تَفْعَلُ ما تَشاءُ وَلا تَفْعَلُ ما يَشاءُ غَيْرُكَ.

اَللّـهُمَّ خُصَّني مِنْكَ بِخاصَّةِ ذِكْرِكَ ، وَلا تَجْعَلْ شَيْئاً مِمّا اَتَقَرَّبُ بِهِ في آناءِ اللَّيْلِ وَاَطْرافِ النَّهارِ رِياءً وَلا سُمْعَةً ، وَلا اَشَراً وَلا بَطَراً ، وَاجْعَلْني لَكَ مِنَ الْخاشِعينَ.

اَللّـهُمَّ أعْطِنِى السِّعَةَ فِي الرِّزْقِ ، وَالْاَمْنَ فِي الْوَطَنِ ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ فِي الْاَهْلِ وَالْمالِ وَالْوَلَدِ ، وَالْمُقامَ في نِعَمِكَ عِنْدي ، وَالصِّحَّةَ فِى الْجِسْمِ ، وَالْقُوَّةَ فِي الْبَدَنِ ، وَالسَّلامَةَ فِى الدّينِ ، وَاسْتَعْمِلْني بِطاعَتِكَ وَطاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّد وَأهلِ بَيتِهِ صَلَواتُكَ عَلَيهِ وَآلِهِ اَبَداً مَا اسْتَعْمَرَتْني ، وَاجْعَلْني مِنْ اَوْفَرِ عِبادِكَ عِنْدَكَ نَصيباً في كُلِّ خَيْر اَنْزَلْتَهُ وَتُنْزِلُهُ في شَهْرِ رَمَضانَ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَما اَنْتَ مُنْزِلُهُ في كُلِّ سَنَة ، مِنْ رَحْمَة تَنْشُرُها ، وَعافِيَة تُلْبِسُها ، وَبَلِيَّة تَدْفَعُها ، وَحَسَنات تَتَقَبَّلُها ، وَسَيِّئات تَتَجاوَزُ عَنْها.


وَارْزُقْني حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ في عامِنا هذا وَفي كُلِّ عام ، وَارْزُقْني رِزْقاً واسِعاً مِنْ فَضْلِكَ الْواسِعِ ، وَاصْرِفْ عَنّي يا سَيِّدي الْاَسْواءَ ، وَاقْضِ عَنِّيَ الدَّيْنَ وَالظُّلاماتِ ، حَتّى لا اَتَاَذّى بِشَي مِنْهُ ، وَخُذْ عَنّي بِاَسْماعِ وَاَبْصارِ اَعْدائي وَحُسّادي وَالْباغينَ عَلَيَّ ، وَانْصُرْني عَلَيْهِمْ ، وَاَقِرَّ عَيْني ، وَفَرِّحْ قَلْبي ، وَاجْعَلْ لي مِنْ هَمّي وَكَرْبي فَرَجاً وَمَخْرَجاً ، وَاجْعَلْ مَنْ اَرادَني بِسُوء مِنْ جَميعِ خَلْقِكَ تَحْتَ قَدَمَيَّ ، وَاكْفِني شَرَّ الشَّيْطانِ ، وَشَرَّ السُّلْطانِ ، وَسَيِّئاتِ عَمَلي ، وَطَهِّرْني مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّها ، وَاَجِرْني مِنَ النّارِ بِعَفْوِكَ ، وَاَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ ، وَزَوِّجْني مِنَ الْحُورِ الْعينِ بِفَضْلِكَ ، وَاَلْحِقْني بِاَوْلِيائِكَ الصّالِحينَ مُحَمَّد وَآلِهِ الْاَبْرارِ ، الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ الْاَخْيارِ صَلَواتُكَ عَلَيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلى اَرْواحِهِمْ وَاَجسادِهِمْ ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

اِلهي وَسَيِّدي ، وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ ، لَئِنْ طالَبَتْني بِذُنُوبي لَاُطالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ ، وَلَئِنْ طالَبَتْني بِلُؤْمي لَاُطالِبَنَّكَ بِكَرَمِكَ ، وَلَئِنْ اَدْخَلْتَنِى النّارَ لَاُخْبِرَنَّ اَهْلَ النّارِ بِحُبّي لَكَ.

اِلهي وَسَيِّدي اِنْ كُنْتَ لا تَغْفِرُ إلاّ لِاَوْلِيائِكَ وَاَهْلِ طاعَتِكَ فَاِلى مَنْ يَفْزَعُ الْمُذْنِبُونَ؟! وَاِنْ كُنْتَ لا تُكْرِمُ إلاّ اَهْلَ الْوَفاءِ بِكَ فَبِمَنْ يَسْتَغيثُ الْمُسْيؤُنَ؟!

اِلهي اِنْ اَدْخَلْتَنِى النّارَ فَفي ذلِكَ سُرُورُ عَدُوِّكَ ، وَاِنْ اَدْخَلْتَنِى الْجَنَّةَ فَفي ذلِكَ سُرُورُ نَبِيِّكَ ، وَاَنَا وَاللهِ اَعْلَمُ اَنَّ سُرُورَ نَبِيِّكَ اَحَبُّ اِلَيْكَ مِنْ سُرُورِ عَدُوِّكَ.

اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ اَنْ تَمْلَأَ قَلْبي حُبّاً لَكَ ، وَخَشْيَةً مِنْكَ ، وَتَصْديقاً بِكِتابِكَ وَايماناً بِكَ ، وَفَرَقاً مِنْكَ ، وَشَوْقاً اِلَيْكَ ، يا ذَا الْجَلالِ وَالْاِكْرامِ حَبِّبْ اِلَىَّ لِقاءِكَ ، وَاَحْبِبْ لِقائي ، وَاجْعَلْ لي في لِقائِكَ الرّاحَةَ وَالْفَرَجَ وَالْكَرامَةَ.

اَللّـهُمَّ اَلْحِقْني بِصالِحِ مِنْ مَضى ، وَاجْعَلْني مِنْ صالِحِ مَنْ بَقي وَخُذْ بي سَبيلَ الصّالِحينَ ، وَاَعِنّي عَلى نَفْسي بِما تُعينُ بِهِ الصّالِحينَ عَلى اَنْفُسِهِمْ ، وَلا تَرُدَّني في


سُوءٍ استَنقَذْتَنِي مِنهُ أبَداً ، وَاخْتِمْ عَمَلي بِاَحْسَنِهِ ، وَاجْعَلْ ثَوابي مِنْهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الراحِمِينَ ، [وَاَعِنّي عَلى صالِحِ ما اَعْطَيْتَني ، وَثَبِّتْني يا رَبِّ ، وَلا تَرُدَّني في سُوء اسْتَنْقَذْتَني مِنْهُ يا رَبِّ الْعالَمينَ].

اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ ايماناً لا اَجَلَ لَهُ دُونَ لِقائِكَ ، اَحْيِني ما اَحْيَيْتَني عَلَيْهِ وَتَوَفَّني اِذا تَوَفَّيْتَني عَلَيْهِ ، وَابْعَثْني اِذا بَعَثْتَني عَلَيْهِ وَاَبْرِىءْ قَلْبي مِنَ الرِّياءِ وَالشَّكِّ وَالسُّمْعَةِ في دينِكَ ، حَتّى يَكُونَ عَمَلي خالِصاً لَكَ.

اَللّـهُمَّ اَعْطِني بَصيرَةً في دينِكَ ، وَفَهْماً في حُكْمِكَ ، وَفِقْهاً في عِلْمِكَ ، وَكِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِكَ ، وَوَرَعاً يَحْجُزُني عَنْ مَعاصيكَ ، وَبَيِّضْ وَجْهي بِنُورِكَ ، وَاجْعَلْ رَغْبَتي فيـما عِنْدَكَ ، وَتَوَفَّني في سَبيلِكَ ، وَعَلى مِلَّةَ رَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.

اَللّـهُمَّ اِنّي اَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْفَشَلِ وَالْهَمِّ وَالحُزْنِ ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْغَفْلَةِ ، وَالْقَسْوَةِ وَالذِلّةِ وَالْمَسْكَنَةِ ، وَالْفَقْرِ ، وَالْفاقَةِ ، وَكُلِّ بَلِيَّة ، وَالْفَواحِشِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَاَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْس لا تَقْنَعُ ، وَبَطْن لا يَشْبَعُ ، وَقَلْب لا يَخْشَعُ ، وَدُعاء لا يُسْمَعُ ، وَعَمَل لا يَنْفَعُ ، وَاَعُوذُ بِكَ يا رَبِّ عَلى نَفْسي وَديني وَمالي ، وَعَلى جَميعِ ما رَزَقْتَني ، مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمَ ، اِنَّكَ اَنْتَ السَّميعُ الْعَليمُ.

اَللّـهُمَّ اِنَّهُ لا يُجيرُني مِنْكَ اَحَدٌ وَلا اَجِدُ مِنْ دُونِكَ مُلْتَحَداً ، فَلا تَجْعَلْ نَفْسي في شَي مِنْ عَذابِكَ ، وَلا تَرُدَّني بِهَلَكَة ، وَلا تَرُدَّني بِعَذاب اَليم. اَللّـهُمَّ وَتَقَبَّلْ مِنّي ، وَاَعْلِ ذِكْري ، وَارْفَعْ دَرَجَتي ، وَحُطَّ وِزْري ، وَلا تَذْكُرْني بِخَطيئَتي ، وَاجْعَلْ ثَوابَ مَجْلِسي وَثَوابَ مَنْطِقي وَثَوابَ دُعائي رِضاكَ عَنّي وَالْجَنَّةَ ، وَاَعْطِني يا رَبِّ جَميعَ ما سَاَلْتُكَ ، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ ، اِنّي اِلَيْكَ راغِبٌ يا رَبَّ الْعالَمينَ.

اَللّـهُمَّ اِنَّكَ اَنْزَلْتَ في كِتابِكَ اَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمْنا ، وَقَدْ ظَلَمَنا اَنْفُسَنا فَاعْفُ عَنّا ، فَاِنَّكَ اَوْلى بِذلِكَ مِنّاوَمِنَ المأمُورينَ ، وَاَمَرْتَنا اَنْ لا نَرُدَّ سائِلاً عَنْ اَبْوابِنا ، وَقَدْ


جِئْتناكَ سُؤْالاً ، فَلا تَرُدَّنا إلاّ بِقَضاءِ حَوائِجَنا ، وَاَمَرْتَنا بِالْاِحْسانِ اِلى ما مَلَكَتْ اَيْمانُنا ، وَنَحْنُ اَرِقّاؤكَ فَاَعْتِقْ رِقابَنا مِنَ النّارِ.

يا مَفْزَعي عِنْدَ كُرْبَتي ، وَيا غَوْثي عِنْدَ شِدَّتي ، اِلَيْكَ فَزِعْتُ ، وَبِكَ اسْتَغَثْتُ وَلُذْتُ ، وَلا اَلُوذُ بِسِواكَ ، وَلا اَطْلُبُ الْفَرَجَ إلاّ بِكَ وَمِنْكَ ، فَصَلِّ عَلى مُحمّدٍ وَآلِ مُحمَّدٍ وَاَغِثْني ، وَفَرِّجْ عَنّي ، يا مَنْ يَفُكُّ الْيَسيرَ ، وَيَعْفُو عَنِي الْكَثيرَ ، اِنَّكَ اَنْتَ الرَّحيمُ الْغَفُورُ.

اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ ايماناً تُباشِرُ بِهِ قَلْبي ، وَيَقيناً حَتّى اَعْلَمُ اَنَّهُ لَنْ يُصيبَني إلا ما كَتَبْتَ لي ، وَرَضِّني مِنَ الْعَيْشِ بِما قَسَمْتَ لي ، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إقبال الأعمال ١ : ١٥٦ ـ ١٨٥.


المبحث الأوّل : في راوي الدعاء

دعاء أبي حمزة الثماليّ من أهمّ الأدعية التي منّ الله سبحانه وتعالى بها على المذهب الحقّ ، وهو دعاء سيّدنا ومولانا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام ، رابع الأئمّة المعصومين من آل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وقد لُقّب عليه السلام بـ : زين العابدين ، وسيّد الساجدين ، وذي الثَّفِنات ، لأنّ مواضع سجوده كانت كثَفِنة البعير من كثرة السجود عليها ، وكانت مدّة إمامته المباركة بعد الحسين عليه السلام أربعاً وثلاثين سنة ، فقد عاصر عليه السلام خلفاء الجور والطغيان : يزيد بن معاوية ، ومعاية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان ، واستُشهد عليه السلام في مُلك الوليد بن عبد الملك.

وأمّا سيد هذا الدعاء فقد قال السيّد ابن طاووس في «إقبال الأعمال» : فمِن الدعاء في سَحَر كلِّ ليلة من شهر رمضان ما رويناه بإسنادنا إلى أبي محمّد هارون ابن موسى التَّلْعكبريّ رضي الله تعالى عنه ، بإسناده إلى الحسن بن محبوب الزرّاد ، عن أبي حمزة الثماليّ أنّه قال : كان علي ّ بن الحسين سيّد العابدين صلوات الله عليه يصلّي عامّةَ ليله في شهر رمضان ، فإذا كان السَّحَر دعا بهذا الدعاء : «اِلهي لا


تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ ، مِنْ اَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ ...» إلى آخر الدعاء الشريف (١).

أمّا راوي هذا الدعاء المبارك فهو أبو حمزة الثُّماليّ ، وهو : ثابت بن دينار ، يُكنّى أبا حمزة الثماليّ ، لقيَ عليَّ بن الحسين ، وأبا جعفر الباقر ، وأبا عبد الله الصادق ، وأبا الحسن الكاظم عليهم السلام ، وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومُعتمَديهم.

رُوي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال : أبو حمزة الثماليّ في زمانه مِثلُ سلمان في زمانه (٢).

وروي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : أبو حمزة الثماليّ في زمانه كلقمان [كسلمان خ ل] في زمانه ، وذلك أنّه خدَمَ أربعةً منّا (٣).

وعن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال : ما فعل أبو حمزة الثماليّ؟ قلت : خلّفتُه عليلاً. قال عليه السلام : إذا رجعتَ فاقرأه منّي السلام ، وأعلِمْه أنّه يموت في شهر كذا في يوم كذا. قال أبو بصير : قلت : جُعلتُ فداك ، واللهِ لقد كان لكم فيه أُنس ، وكان لكم شيعة. قال عليه السلام : صدقت ، ما عندنا خيرُ له ، قلت : شيعتكم معكم؟ قال عليه السلام : نعم ، إن هو خاف اللهَ وراقب نبيَّه ، وتوقّى الذنوب ، فإذا هو فعل كان معنا في درجتنا.

قال لي بن أبي حمزة : فرجعنا تلك السنة (أي سنة ١٥٠ هجرية) ، فما لَبِث أبو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إقبال الأعمال ١ : ١٥٦.

٢ ـ رجال النجاشي : ١١٥ / الترجمة ٢٩٦.

٣ ـ اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٥٨.


حمزة إلّا يسيراً حتّى تُوفّي (١).

وقال السيّد الخوئي قدس سره : وروى عنه العامّة ، وله تفسير القرآن ، وكان أبو حمزة مستجاب الدعاء ، فعن هشام بن الحكم عن أبي حمزة الثماليّ قال : كانت صبيّة لي سقطت فانكسرت يدها ، فأتيت بها التيمي ، فأخذها فنظر إلى يدها فقال : منكسرة ، فدخل يُخرج الجبائر ، وأنا على الباب ، فدخلتني رقّة على الصبيّة ، فبكيت ودعوت ، فخرج بالجبائر ، فتناول يد الصبية فلم يَرَ بها شيئاً ، ثم نظر إلى الأُخرى فقال : ما بها شيء.

قال : فذكرت ذلك لأبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال : يا أبا حمزة ، وافق الدعاء الرضى فاستُجيب لك في أسرع من طَرفة عين (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٥٨ / الرقم ٣٥٦.

٢ ـ معجم رجال الحديث ٤ : ٢٩٣ / الترجمة (١)٩٦٠.


المبحث الثاني : في رجحان الدعاء وآدابه

الدعاء الذي هو مدار البحث ، المراد منه السؤال والرغبة إلى الله سبحانه والاستغاثة والفزع إليه سبحانه ، قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّـهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّـهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (١).

وقال تعالى : (خَوْفًا وَطَمَعًا) (٢).

ويدلّ على رجحان الدعاء الأدلّة الأربعة ، وهي : الكتاب والسنّة الشريفة والإجماع والعقل ، وقال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٣).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما مِن شيءٍ أكرم على الله تعالى من الدعاء (٤) ، وقال صلى الله عليه وآله : لا يَردّ القضاءَ إلّا الدعاء (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ، ونور السماوات والأرض (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام ٤٠ ـ ٤١.

٢ ـ الأعراف : ٥٦.

٣ ـ غافر : ٦٠.

٤ ـ الدعوات للراوندي : ٢٠ / ح ٢٠.

٥ ـ نفسه : ٢٠ / ح ٢٢.

٦ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ١.


وقال الإمام عليّ عليه السلام : أَحبُّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاء ، وأفضلُ العبادة العفاف (١) ، وورد في الآثار المعتبرة أنَّ الدعاء مخّ العبادة (٢).

وورد أنَّ للدعاء شرائط وآداباً ينبغي للداعي مراعاتها ، مثل : مراعاة الأوقات المباركة ، والأماكن المقدّسة ، والأحوال الشريفة التي هي منازل حلول الرحمات ونزول الفيوضات ، فقد ورد الحثّ على الدعاء عند هبوب الرياح وزوال الأفياء (٣) ، ونزول القطر ، وأوّل قطرة من دم الشهيد ، فإنّ أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء (٤).

وورد الترغيب في الدعاء : عند السَّحَر وعند الزوال ، وليلة الجمعة ويومها ، وعندما يرقّ القلب وتخشع الجوارح ، وتسيل المدامع خشية من الله سبحانه وتعالى (٥).

وكثيراً ما نسمع أنّ الناس يَدْعون فلا يستجاب لهم ، ونقول : ليس أحد يدعو الله سبحانه على ما توجبه الحكمة إلّا أجابه الله ، فلربّما سأل الداعي اللهَ ما فيه هلاك دِينه ودنياه ، أو ما فيه مفسدة له وللآخرين ، وربّما تكون المصلحة في تأخير الإجابة وفق مقتضيات الحكمة الإلهيّة ، ولمّا كان الدعاء بذاته عبادة كانت دعوة العبد راجحة على كلّ حال ، سواء استُجيب له أم لا.

قال النبي صلى الله عليه وآله : ما من مسلم دعا الله سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها أحدى ثلاث خصال : إمّا أن يُعجَّلَ دعوتُه ، وإمّا أن يُؤخَّر له في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٤٦٧ / ح ٨.

٢ ـ الدعوات للراونديّ : ١٨ / ح ٨.

٣ ـ فاءَ الظَلُّ يَفيءُ فَيئاً ، أي رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق. والجمع فُيوء وأفياء ، لسان العرب (فيأ).

٤ ـ الكافي ٢ : ٤٧٧ / ح ١.

٥ ـ ينظر : الكافي ٢ : ٤٧٦ ـ باب الأوقات والحالات التي تُرجى فيها الإجابة.


الآخرة ، وإمّا أن يُدفَع عنه من السوء مِثلُه ، قالوا : يا رسول الله ، إذن نُكثر ، قال صلى الله عليه وآله : الله أكثر (١).

وقال صلى الله عليه وآله : إنّ العبد لّيدعو الله وهو يحبّه ، فيقول : يا جبرائيلُ لا تقضِ لعبدي هذا حاجته وأخِّرها ، فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته. وإنّ العبد لَيدعو الله وهو يُبغضه فيقول : يا جبرائيلُ اقضِ لعبدي هذا حاجتَه بإخلاصه وعجّلها ، فإنّي أكره أن أسمع صوته! (٢)

وروي عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : ربّما أُخِّرت عن العبد إجابة الدعاء لكيون أعظمَ لأجر السائل ، وأجزلَ لإعطاء الآمل (٣).

وعندما يخالف الداعي آداب وشرائط الإجابة فقد لا يُستجاب له.

ونِعم ما ورد عن إبراهيم بن أدهم لمّا سُئل : ما بالنا ندعو الله سبحانه فلا يستجيب لنا؟ فقال : لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتّبعوا سنّته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه ، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس (٤).

وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : إنّي دعوتُ الله فلم أرَ الإجابة! فقال عليه السلام : لقد وصفتَ الله بغير صفاته ، وإنّ للدعاء أربع خصال : إخلاص السريرة ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ٢٤.

٢ ـ نفسه ٢٥.

٣ ـ نفسه.

٤ ـ تفسير مجمع البيان ٢ : ١٩ ، تفسير الثعلبيّ ٢ : ٧٦ ، تفسير القرطبيّ ٢: ٣١٢.


وإحضار النيّة ، ومعرفة الوسيلة ، والإتصاف في المسألة ، فهل دعوتَ وأنت عارف بهذه الأربعة؟ قال : لا ، قال : فاعرِفْهنّ (١).

وفي الحقيقة أنّ أكثر الداعين لا يصدرون عن فطرة ويقين ، بل عن قلوب لاهية ، وإذا سألوا فبلسان المقال لا بلسان الحال والافتقار ، ولربّما سأل داعٍ وهو متعلّق بالأسباب الظاهرية التي يرى أنّها علل تامّة مستقلة في أروقة الكون ومجالات الحياة ، فهو إمّا قد جعل الأسباب شريكاً لله ، أو جعلها إلهاً مستقلّاً لا يُشارَك في الربوبيّة.

ونحن لا نريد أن نقول : إنَّ السنن والأسباب لا أثر لها ، بل نقول : إنَّ السبب الحقيقي هو الله ، وهو سبحانه مسبّب الأسباب بقدرته وإرادته ، وإنّ هذه الأسباب ليس لها استقلاليّة عن الله سبحانه وتعالى أبداً.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : أُدعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابة (٢).

وفي الحديث القدسيّ : أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي ، إن خيراً فخيراً ، وإن شرّاً فشرّاً (٣).

وورد عن علي عليه السلام : لا يقبل الله دعاء قلب لاهٍ (٤).

ولربّما كان الداعي يدعو على نفسه وهو غافل ، فعندما يدعو على ظالمه وهو يرجو من ربّه الانتقام من ذلك الظالم ، فهذا يعني رضاه بانتقام الله من كلّ ظالم ، فلو كان ذلك الداعي ظالماً لغيره ، فإنّه سيكون داعياً على نفسه ، ويكون تأخير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مجموعة ورّام : ٨٨٥.

٢ ـ الدعوات للراونديّ : ٣٠ / ح ٦١ ، عدّة الداعي : ١٣٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٧٢ / ح ٣.

٤ ـ بحار الأنوار ٩٣ : ٣١٤ / ح ١٩ ـ عن : عدّة الداعي.


الإجابة من المصلحة له.

وقد ورد في التوراة ، يقول الله عزّ وجلّ للعبد ، إنّك متى ظَللتَ تدعوني على عبدٍ من عبيدي من أجل أنّه ظلمك ، فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته ، فإن شئت أجبتُك فيك ، وإنْ شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة (١) ، وورد عن الصادق عليه السلام : الدعاء يردّ القضاء بعدما أُبرم إبراماً (٢).

وورد أنّ من آداب استجابة الدعاء الصلاة على محمّد وآل محمّد ، ففي صحيح أبان عن الصادق عليه السلام قوله : إذا دعا أحدكم فلْيبدأْ بالصلاة على محمّد النبيّ صلى الله عليه وآله ، فإنّ الصلاة على النبيّ مقبولة ، ولم يكن الله تعالى ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعضاً (٣).

وعن صفوان الجمّال عنه عليه السلام أيضاً : كلّ دعاء يُدعى الله عزّ وجلّ به محجوب عن السماء حتّى يُصلّى على محمّد وآل محمّد (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : اجعلوني في أوّل الدعاء وفي آخره وفي وسطه (٥) ، وورد أنّ الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله لابدّ يجب أن تكون مقرونة بالصلاة على آله الكرام ، قال صلى الله عليه وآله : من صلّى عَلَيَّ ولم يُصلِّ على آلي لم يجد ريح الجنّة ، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة (٦).

وقال صلى الله عليه وآله : لا تصلّوا عَلَيَّ صلاةً مبتورة ، بل صلّوا على أهل بيتي ولا تقطعوهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٥ / ح ٣٨.

٢ ـ نفسه ١٧ / ح ١.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ١٧٢.

٤ ـ الكافي ٢ : ٤٩٣ / ح ١٠.

٥ ـ همان ٢ : ٤٩٢ / ح ٥.

٦ ـ الأمالي للصدوق : ١٦٧ / ح ٩ ـ المجلس ٣٦.


فإنّ كلّ نسب وسبب يوم القيامة منقطعٌ إلّا نسبي (١).

وقد ورد في الأثر المعتبر أنّ الدعاء أفضل من قراءة القرآن ، ففي صحيح حمّاد ، قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : رجلانِ افتتحا الصلاة في ساعة واحدة ، فتلا هذا القرآن فكانت تلاوته أكثر من دعائه ، ودعا هذا فكان دعاؤه أكثر من تلاوته ، ثمّ انصرفا في ساعة واحدة ، أيّهما أفضل؟ قال عليه السلام : كلٌّ فيه فضل ، كلّ حَسَن ، فقلت : إنّي قد علمت أنّ كلّاً حسن ، وأنّ كلّاً فيه فضل ، فقال عليه السلام : الدعاء أفضل (٢).

وورد استحباب الدعاء حال السجود وتسمية الحاجات فإنّه أقرب إلى الإجابة ، فقد جاء في الخبر أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لعبد الله بن هلال ، عليك بالدعاء وأنت ساجد ، فإنّ أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ، قلت : فأدعو في الفريضة وأُسمّي حاجتي؟ فقال عليه السلام : نعم ، قد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله (٣).

والدعاء نوع من أنواع الارتباطات الغيبية القدسيّة بالله سبحانه ، وبه يستعين الإنسان الضعيف بالمَلك القدير على قضاء حوائجه وتيسير أموره ، وكشف ضرّه وبلائه ، وعلى نجاته من كلّ مكروه ، وفيه جلاء للقلوب ، وصفاء للنفوس ، وبقاء للفطرة ، ونيلٌ لأعظم المقامات الروحانية.

وممارسة الدعاء والتوجّه إلى الله بالرهبة والرغبة وبالخشوع والخضوع تجعل الداعي محلَّ العناية والرعاية والألطاف الإلهيّة ، فكلّما تواضع الإنسان لربّه وخضع واستسلم للإرادة الإلهية كلّما رجحت كفّة إيمانه ، وكان أرفع مقاماً وأعلى شأناً ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحكم والمتشابه : ١٩ ، وعنه في وسائل الشيعة ٧ : ٢٠٧ / ح ١٧.

٢ ـ فلاح السائل : ٣٠ ، وعنه في مستدرك الوسائل ٥ : ٣٣ / ح ٣.

٣ ـ الكافي ٣ : ٣٢٣ / ح ١١.


وأقربَ إلى ساحة الربوبية المقدّسة.

والدعاء مسألة فطرية وغريزية حيث إنّ المحتاج لابدّ أن يتوجّه إلى الطلق القدير لسدّ نقصه وقضاء حوائجه ، ولمّا كان الإنسان محتاجاً حُدوثاً وبقاءً كان عليه أن يتوجّه إلى ربّه بالدعاء على كل حال ، وفي كلّ وقت.

في «عدّة الداعي» : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ : يا أبا ذر ، ألا أُعلّمك كلماتٍ ينفعك الله عزّ وجلّ بعنّ؟

قلت : بلى يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وآله : إحفَظِ اللهَ يَحْفَظْك الله ، واحفَظِ اللهَ تَجدْه أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يَعرفْك في الشدّة ، وإذا سألت فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ولو أنّ الخلق كلَّهم جَهِدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قَدِروا عليه (١).

وممارسة الدعاء تخلق الأجواء التربوية التي تصقل مواهب الفرد ، وتنمّي معارفه بالله ، وتزرع مبادئ الأخلاق في نفسه ، وتقوده من عالم الكِبْر والجبروت والطغيان إلى رحاب الهدوء النفسي والطمأنينة ، والشعور بالذلّ والافتقار إلى رَبِّ الأرباب ومَلك الملوك ، وهذا له كبير الأثر على مسيرته وتعامله مع الكون والحياة والناس.

والدعاء المستجاب له تأثير في مجريات الأحداث والتقديرات الإلهيّة وفق سنن الأسباب المرسومة مِن قِبله تعالى ، وهذه التغيّرات في القضايا المقدّرة من قبله سبحانه لا تتمّ إلّا بإذنه وإرادته سبحانه وتعالى ، فقد ورد عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال : كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول : إنّ الدعاء يدفع البلاءَ النازلَ وما لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ١٢١ و١٦٨.


ينزل (١).

يقول سماحة المرجع السيّد عبد الأعلى الموسويّ السبزواري قدس سره في «مهذّب الأحكام» ما نصّه : والدعاء تصرّفٌ غيبيّ في سلسلة علل الأشياء بأنواعها ، ولذا ترى الأنبياء والقائمين مَمامَهم لا يسلكون سبيلاً في قضاء حوائجهم ، جزئيّةً وكليّة ، إلّا بالدعاء ، فسبحان مَن أظهر في عالم الشهادة أموراً من عالم الغيب ليستكمل إيمان عباده ليسوقهم إلى الجنّة زُمَراً وأفواجاً. قال نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وآله : ألا أدلُّكم على سلاحٍ يُنْجيكم من أعدائكم ، ويُدرُّ أرزاقكم؟ قالوا : بلى ، قال صلى الله عليه وآله ، تدعون ربّكم بالليل والنهار ، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء ، انتهى (٢).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : إذا اشتدّ الفَزَع ، فإلى الله المَفزع (٣).

وقال الإمام الرضا عليه السلام : عليكم بسلاح الأنبياء ، فقيل : ما سلاح الأنبياء؟ قال عليه السلام : الدعاء (٤).

وورد في «نهج البلاغة» : من أعطي أربعاً لم يُحرم أربعاً : مَن أُعطي الدعاءَ لم يُحرَم الإجابة ، ومن أُعطي التوبة لم يُحرَم القبول ، ومن اُعطي الاستغفار لم يُحَرم المغفرة ، ومن اُعطي الشكر لم يُحرَم الزيادة (٥). قال الشريعة الرضيّ وتصديق ذلك كتاب الله تعالى ، قال الله عزّ وجلّ في الدعاء : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦).

وقال في الاستغفار : (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٦٩ / ح ٥ ، عدّة الداعي : ١٣.

٢ ـ مهذّب الأحكام ٧ : ١٤٣ ، والحديث الشريف في : الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٢ ، عدة الداعي : ١٦٤.

٤ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٥.

٥ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٣٥.

٦ ـ غافر : ٦٠.


رَّحِيمًا) (١).

وقال في الشكر : (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٢).

وقال في التوبة : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (٣).

والدعاء المستجاب هو نحو ولايةٍ جعلها الله سبحانه للمؤمن ليتصرّف في مفردات ومفاصل الكون والتقديرات ، حيث ورد عنه صلى الله عليه وآله : لو عَرَفتمُ الله حقّ معرفته لَزالت لدعائِكمُ الجبال (٤).

وقال الإمام الباقر عليه السلام لزيد الشحّام : أُدعُ في طلب الرزق في المكتوبة «أي الفريضة» وأنت ساجد : يا خير المسؤولين ، ويا خيرَ المُعْطين ، ارزُقْني وارزق عيالي من فضلك ، فإنّك ذو الفضل العظيم (٥).

ومن آداب الدعاء حسن الظنّ بالله تعالى ، فقد ورد عن الصادق عليه السلام قال : إذا دعوتَ فأقبِلْ بقلبك وظُنَّ حاجتك بالباب (٦).

وورد في الحديث القدسيّ : من سألني وهو يعلم أنّي أضرّ وأنفع استَجَبتُ له (٧).

ولابدّ للداعي من مراعاة القضايا اللغويّة والإعرابية وتجنّب الأخطاء واللحن ليصعد الدعاء إلى الله وتتحقّق الإجابة حيث قال الإمام الجواد عليه السلام : الدعاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١١٠.

٢ ـ إبراهيم : ٧.

٣ ـ النساء : ١٧.

٤ ـ الجامع الصغير للسيوطيّ ٢ : ٤٣٢ / ح ٧٤٤٨.

٥ ـ الكافي ٢ : ٥٥١ / ح ٤.

٦ ـ الدعوات : ١٨ / ح ٣ ، الكافي ٢ : ٤٧٢ / ح ١.

٧ ـ ثواب الأعمال : ١٥٣ ، عدّة الداعي : ١٣١.


الملحون لا يصعد إلى الله عزّ وجلّ (١).

وورد أنّ الدعاء سرّاً أفضل من الدعاء علانية ، وذلك لمكان الإخلاص ، فقد ورد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام : دعوة العبد سرّاً دعوةً واحدةً تَعدِل سبعين دعوةً علانية (٢).

وقد نَدَبَنا الشرع الحنيف لتوقِّي دعوة المظلوم وذلك بترك الظلم ، ودعوة الوالدين بترك عقوقهما ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إيّاكم ودعوةَ المظلوم ؛ فإنّها تُرفَع وإيّاكم ودعوةَ الوالد فإنّها أحَدُّ من السيف (٣).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : اكن أبي عليه السلام يقول : اتّقوا الظلم ، فإنّ دعوة المظلوم تصعد إلى السماء (٤).

ووقت الأسحار من منازل الرحمة الالهية المعهودة ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى على لسان نبيّه يعقوب مثلاً : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : أخَّرَهم إلى السَّحَر (٥).

وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبي الصبّاح الكنانيّ : إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ من عباده المؤمنين كلَّ [عبدٍ] دعّاء ، فعليكم بالدعاء في السَّحَر إلى طلوع الشمس ، فإنّها ساعةٌ تُفتَح فيها أبواب السماء ، وتُقسَّم فيها الأرزاق ، وتُقضى فيها الحوائج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ١٨ ـ وعنه في : الفصول المهمّة ١ : ٦٧٩ / ح ٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٧٦ / ح ١.

٣ ـ نفسه ٢ : ٥٠٩ / ح ٣ ، وكأنَّ السحاب كناية عن موانع إجابة الدعاء أو الحُجُب المعنوية الحائلة بينه وبين استجابة الله.

٤ ـ نفسه ٢ : ٥٠٩ / ح ٤.

٥ ـ نفسه ٢ : ٤٧٧ / ح ٦ ، والآية في سورة يوسف : ٩٨.


العظام (١).

وورد في فضل الدعاء في قنوت الوتر بعد صلاة الليل قوله صلى الله عليه وآله : أطولُكم قنوتاً في الوتر في دار الدنيا أطولكم راحةً يوم القيامة في الموقف (٢).

وورد في آداب الدعاء أن يبتدئ الداعي بحمد الله وتمجيده والثناء على آلائه ، ثمَّ الصلاة على النبيّ وآله قَبل أن يسأل حاجته ، حيث قال الإمام الصادق عليه السلام : إيّاكم إذا أراد أحدُكم أن يسأل من ربّه شيئاً من جوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ ، والمدحِ له ، والصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وآله : ثمّ يسأل اللهَ حوائجه (٣).

ويُعدّ هذا المبحث في الدعاء تكملةً لما كتبناه في كتابَي : «أضواء على دعاء الافتتاح» و «في ظلال دعاء كميل» ، لذا نرجو من القارئ العزيز مراجعتهما ونسأله الدعاء ، لأنّ دعاء المؤمن في ظهر الغَيب ممّا ندب إليه لاشرع والقائمون عليه ، وبهذين الحديثين أختتم هذا المبحث :

قال معاوية بن وهب : سمعت أبا عبد الله الصادق يقول : مَن دعاء لأخيه في ظَهر الغيب ناداه مَلَك من السماء الدنيا : يا عبد الله ، ولَكَ مائةُ ضِعف ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الثانية : يا عبد الله ، ولك مائتا ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الثالثة : يا عبد الله ، ولك ثلاثمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الرابعة : يا عبد الله ، ولك أربعمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الخامسة : يا عبد الله ، ولك خمسمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء السادسة : يا عبد الله ، ولك ستمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٧٨ / ح ٩.

٢ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٥٥ / ح ٧٢٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٨٤ / ح ١.


وناداه ملك من السماء السابعة : يا عبد الله ، ولك سبعمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

ثمّ يناديه الله تعالى : أنا الغنيّ الذي لا أفتقر ، يا عبد الله لك ألفُ ألفِ ضعفٍ ممّا دعوت (١).

وورد عن الإمام الكاظم عن آبائه عليهم السلام قال : كانت فاطمة عليها السلام إذا دعت تدعو للمؤمنين والمؤمنا ولا تدعو لنفسها ، فقيل لها : يا بنت رسول الله ، إنَكِ تَدْعين للناس ولا تدعين لنفسك! فقالت : الجار ثمّ الدار (٢).

والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٨٩ / ح ٣٠ ، عدّة الداعي : ١٧٢.

٢ ـ علل الشرائع ١ : ١٢ / ح ٢ ، روضة الواعظين : ٣٢٩.


المبحث الثالث : في الأُلُوهيّة

قال الإمام زين العابدين عليه السلام : اِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ.

يبتدئ الدعاء بالنداء القدسيّ ، وهو الألوهيّة التي ما وُصِف بها غير الله إلّا كان من الآلهة المزيّفة إذ الإله هو المعبود ، وهو الذي يأمر فيُطاع ، وتكون طاعته على نحو الاستقلال ، وإذ لا أحد يستحقّ الطاعة والعبادة غير الله ، فنحكم بأنّ جميع الآلهة غير الله هي آلهة مزيّفة باطلة ، وطاعها من الشِّرك.

لقد خلق الله الإنسان ، وهو العالم بحاله وبما يضمن له مسيرة الحياة القائمة على العدل والسماواة والحريّة والالتزام بالفضائل والقيم والمثل العليا ، وهذه هي الهداية الإلهيّة التي مفادها إراءة الطريق الحقّ الموصل إلى خير الدنيا والآخرة ، وهذه الهداية محصورة بالله سبحانه وحده لا يشاركه فيها أحد ، وأمّا طاعة الأنبياء فإنّها تقع في طول طاعته سبحانه (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) (١).

إنّ الطاعة بالأصالة لله وحده ، وتكون لغيره بالامتداد والتبعيّة.

ومن هنا حكمنا أنّ كلّ طاعة تصدر عن علم لغير الله فهي من الشرك الخفي ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٠.


فالذي يعبد الله ويطيعه هو موحّد مؤمن ، وهو على هدى من ربّه ، والذي يطيع غير الله عن عالم هو مشرك ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : من أصغى إلى ناطق فقد عَبدَه ، فإن كان الناطق عن الله عزّ وجلّ فقد عبَدَ الله ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس (١).

وهذا القرآن يصرّح بأنَّ طاعة الشيطان باتّباع أوامره ونواهيه من العبادة له.

قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (٢).

إنّ الآية الشريفة تنهى عن اتّباع الشيطان ، لأنَّه يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي ، في نفس الوقت الذي تأمر بوجوب طاعة الله سبحانه باتّباع أوامره ونواهيه ، وبذلك يكون الإنسان قد سلك الطريق المستقيم الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة.

والآن نخرج بهاتين المعادلتين :

علم + التزام = هداية

علم + عدم التزام = ضلال

وحين نُمعن النظر في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (٣) ، وقوله سبحانه وتعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٤) ، هكذا نرى أنّ القرآن قد سمّى الهوى إلهاً ، وسمّى متّخذي الأهواء ممّن خرجوا من حضيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٦ : ٤٣٤ / ح ٢٤ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٣٠٤ / ح ٦٣.

٢ ـ يس : ٦٠ ـ ٦١.

٣ ـ الفرقان : ٤٣.

٤ ـ الجاثية : ٢٣.


عبادة الله إلى ساحة عبادة غيره سبحانه مشركين ، والمراد من اتّخاذ الهوى إلهاً هو اتّباع الشهوات والاستجابة لنداء النزوات الشيطانيّة.

وإنّ هؤلاء يرون أنّ لهم إلهاً يجب أن يُتّبَع ، فتركوا عبادة الله الحقّ وتوجّهوا إلى عبادة الهوى الذي يزيّن لهم الشرك ، حيث ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما تحت ظِلِّ السماء من إله يُعبَد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتَّبَع (١).

وقد أمر الإسلام بالتوحيد الخالص الذي قوامه «لا إلهَ إلّا الله» ، وهذا الشعار لا يدعو إلى طاعة الله فقط ، بل يدعو إلى نفي الألوهيّة عن غيره من جانب ، ثمّ يأمر بطاعة الله وحده ، فلربّما نجد من يعبد الله في الوقت الذي يعبد فيه غيرَ الله ، كمن دانوا بمذهب التثليث ومَن ادّعَوا البُنوّة لله ، ومن عبدوا الأصنام لتقرّبهم إلى الله زَلفى.

إنَ طريق الله واحد لا ريب فيه ، وكلّ الطرق التي تذهب بالإنسان يميناً وشمالاً هي من طرق الشرك ، لقد أراد الله من هذا الشعار إقامة دولة الحقّ والعدل التي تساير الفطرة الإنسانيّة ، بل فطرة الوجود ، وأراد استئصال منابت الشرّ والبغي والخلاف من كلّ مجالات المجتمع.

كتب النبيّ صلى الله عليه وآله كتاباً إلى نصارى نجران ورد فيه : أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وإلى ولاية الله من ولاية العباد (٢) ، وأطلق القرآن الكريم على طاعة البشر على نحو الاستقلال عن الله عبادةً ، حيث قال سبحانه وتعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ٨ : ١٠٣ ، كنز العمّال ٣ : ٥٤٧ / خ ٧٨٣٣.

٢ ـ البداية والنهاية لابن كثير ٥ : ٦٤ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ١٤ : ٦٧.


وَاحِدًا لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

إنّ هؤلاء لم يركعوا ولم يسجوا لأحبارهم ورهبانهم ، ولكنّهم قدّموا لهم فروض الطاعة المطلقة وعلى وجه الاستقلال ، فخلقوا منهم آلهة يُعبدون من دون الله ، ففي المرويّ عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال : قلت له : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ)؟ فقال عليه السلام : أما والله ما دَعَوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حَراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون (٢).

وعن سفيان بن عُيَينة قال : سألته عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ؟ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٣) ، قال عليه السلام : القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه ، وكلّ قلب فيك شكّ وشرك فهو ساقط ، وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : قال الله عزّ وجلّ : أنا خيرُ شريك ، مَن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً (٥).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوبة : ٣١.

٢ ـ الكافي ١ : ٥٣ / ح ١ ، المحاسن ٢٤٦ / ح ٢٤٦.

٣ ـ الشعراء : ٨٩.

٤ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٠٩ ، الكافي ٢ : ١٢٩ / ح ٥.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٩٥ / ح ٩ ، المحاسن ٢٥٢ / ح ٢٧٠.


المبحث الرابع : في التأديب بالعقوبة

نعود من جديد إلى مطاوي الدعاء الشريف ونقول : إنّ الداعي يسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يؤدّبه بالعقوبة ، والتأديب هو التهذيب.

لقد منّ الله على عباده بإنزال الكتب السماوية هدىً ونوراً ، وتفضّل علينا بإرسال الرسل والنبيّين مبشّرين ومنذرين ، وعندما يتمرّد هذا الإنسان على ربّه ويرفض الانقياد للرسل الذين لهم شرف السفارة بين الله وعباده ، ويسير في الطريق الذي يبعده عن نداء الحقّ ، ويفارق موكب الإيمان والفضيلة ليقع في مستنقعات الجهل والظلم ، ويستنشق نتن المادية البحتة ، فالله سبحانه وتعالى ـ ومن باب رحمته ـ يبتلي هذا الإنسان بأنواع البلاء : كالجوع والفقر والمرض والكوارث الطبيعية والاجتماعية ، رجاءَ أنْ يحسّ بضعفه وحاجته إلى الله ، فيتوجّه إليه بالعبادة والانكسار والتذلل ليكشف عنه ما نزل بساحته ، ولو تحقّقت الإنابة والتوبة من العبد لحدثت عنده نقلة نوعية من عالم الإخلاد إلى الأرض وولاية الشيطان إلى عالم التوحيد الرحب وولاية الله سبحانه وتعالى.

والابتلاء ـ الذي هو نعمة إلهيّة ـ سمّاه العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر : والمراد من العذاب الأكبر هو عذاب الاستئصال في الدنيا ، ونزول العذاب


الاُخرويّ ، وعندما ينزل هذان العذابان لم يكن نزولهما من الرحمة في شيء.

إنّ الأدب المطلوب مع الله هو الانقياد والاستسلام لأوامره ونواهيه عن طواعية وعن رضىً وطمأنينة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.


المبحث الخامس : في المكر الإلهيّ

قال عليه السلام : وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ.

المكر : هو صرف الغير عمّا يقصده بحيلة ، ونقول : مكر به أبي خدعه ، ونقول : مكر الله فلاناً : جازاه على المكر (١).

أمّا الحيلة : فهي القدرة على التصرّف والحِذق بتحويل الأمور قال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (٣) ، وقال عزّ وعلا : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٤).

والمكر إمّا أن يكون من الإنسان أو يكون من الله ، والمكر من الإنسان مذموم عندما يُراد به الخديعة والتوصّل إل ىتحقيق مآرب شخصيّة على حساب القيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ونسبة المكر إلى الله من باب المشاكلة ، مثل : (نَسُوا اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فإنَّ الله لا ينسى ولا يمكر ، ينظر لسان العرب «مكر».

٢ ـ آل عمران : ٥٤.

٣ ـ الأنفال : ٣٠.

٤ ـ فاطر : ٤٣.


ومصالح العباد.

أمّا المكر الإلهيّ فهو إمّا أن يكون ابتدائياً ، وهذا ما لا يليق بساحته المقدّسة ، وفي نسبة ذلك إلى الله سبحانه نفيُ الاختيار عن الإنسان ، وهذا من موجبات قبح العقاب من جانب ، وعدم استحقاق الثواب من جانبٍ آخر ، ولقد استفاضت الروايات عن أئمّة الهدى عليهم السلام أن : لا جبرَ ولا تفويض ، ولكن أمرٌ بين أمرين (١).

إنّ الإنسان قادر على خلق أفعاله باختياره لكي يستحقّ الثواب على الفعل الحسن ، وينال العقاب على الفعل القبيح ، ولكن ليس للإنسان الاستقلاليّة عن الله سبحانه وعن نفوذ إرادته ومشيئته ، وأمّا أن يكون المكر الإلهي مكرَ مجازاة ومقابلة فهذا لا ينافي ساحة قداسته ولا ينسب القبح والنقص والمنكر إليه.

قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) (٣).

والإمهال الإلهيّ قد يكون بسلب التوفيق ، ومنع المعونة ، وترك الإنسان ليكون فريسة لأهوائه والزخارف الدنيا والشيطان ، وقد يكون بالإمداد (٤) المؤدّي إلى الطغيان والاستبدااد والتكبّر والاستعلاء بغير حقّ.

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من وُسِّع عليه دنياه ولم يَعلَم أنّه مُكِر به ، فهو مخدوع عن عقله (٥). وعن ابن فضّال قال : سألت الرضا عليه السلام عن قوله سبحانه :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٦٠ / ح ١٣ ، الاعتقادات للصدوق : ٢٩.

٢ ـ البقرة : ٢٦.

٣ ـ غافر : ٣٤.

٤ ـ المراد بالإمدااد هنا هو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : (اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥٠].

٥ ـ مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهانيّ : ٦١.


(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ) (١) ، فقال عليه السلام : إنّ الله تعالى لا يسخر ولا يمكر ولا يُخادع ، ولكنّه تعالى يُجازيهم جزاءَ السُّخرية وجزاءَ الاستهزاء وجزاءَ المكر والخديعة ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (٢).

وورد في سوء عاقبة الإنسان الماكر كثير من الروايات الشريفة ، فقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال : ليس منّا مَن ماكَرَ مسلماً ، (٣) وقال صلى الله عليه وآله : من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع ، فإنّي سمعت جبرئيل عليه السلام يقول : إنّ المكر والخديعة في النار (٤).

وعن الإمام عليّ عليه السلام قوله : مَن مكر حاق به مكرُه. من أمن مكر الله هلك. ومَن أمِن المكر لَقِي الشرّ (٥).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٥٤.

٢ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٦ / ح ١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٣٧ / ح ٣ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٧١.

٤ ـ الأمالي للصدوق : ٢٢٣ / ح ٥ ـ المجلس ٤٦ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٥٠ / ح ١٩٤ ـ الباب ٣١.

٥ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٤٥٢ و٤٨٨.


المبحث السادس : مبحث لغويّ

قال عليه السلام : مِنْ اَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلّا مِنْ عِنْدِكَ ، وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلّا بِكَ! لَا الَّذي اَحْسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ ، وَلَا الَّذي أساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ.

الخير : ضدّ الشرّ والضرر ، وهو حصول الشيء على كمالاته ، قال الراغب في «المفردات» الخير : ما يَرغَب فيه الكلّ ، كالعقل والعدل والفضل.

الربّ : في الأصل التربية ، وهو إنشاء الشيء حالاً بعد حال إلى حدّ لاتمام ، ولا يقال الربّ مطلقاً إلّا لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات ، نحو قوله تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١).

وعلى هذا قوله سبحانه وتعالى : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) (٢) ، أي آلهة ، وتزعمون أنّهم الباري مسبّب الأسباب ، والمتولّي لمصالح العباد ، هذا ما ذكره الراغب في المفردات (٣).

والربّ : السيّد والمالك على الإطلاق ، وهو من الأسماء الحسنى ، وهذا ما لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سبأ : ١٥.

٢ ـ آل عمران : ٨٠.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ١٦٠ و١٨٤.


يليق إلّا بساحته المقدّسة تبارك الله وتعالى.

النجاة : الخلاص ممّا يقع فيه الإنسان.

أحسَنَ : فَعَلَ الحسَن ، والحسن عبارة عن كلّ مُبهجٍ مرغوب فيه ، وذلك على ثلاثة أضرب : مُستحسَن من جهة الفعل ، ومستحسن من جهة الهوى ، ومستحسن من جهة الحُسن.

والحسنةُ يعبّر عنها عن كلّ ما يُسرّ من نعمة تنال الإنسانَ في نفسه وبدنه وأحواله ، والسيّئة تضادّها.

والإحسان يقال على وجهين ، أحدهما : الإنعام على الغير ، يقال : أحسن إلى فلان.

والثاني : إحسان في فعله ، والإحسان أعمّ من الإنعام ، هكذا قال صاحب المفردات (١) وغيره (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١١٩.

٢ ـ تاج العروس ١٨ : ١٤٣.


المبحث السابع : في الخير

بعد الذي ذكرناه في المبحث اللغويّ نقول : إنّ الخير هو عملية الانتخاب والاسطفاء والانتقاء ، وفي هذا تكون هناك مقايسة بين الأشياء ، فنقول : هذا خير وأفضل من ذاك ، وهذه المقايسة نسبية ، أمّا الخير المطلق فهو الله سبحانه الذي هو مصدر كلّ عطاء وكلّ نعمة ، وهذه الخيريّة له وحده بالأصالة ، ولا مانع أن تكون لغيره بالامتداد والتبعيّة ، فيصحّ أن نقول : إن فلاناً رازق وحاكم وراحم ، لكننا نقول : الله خير الرازقين وخير الحاكمين وخير الراحمين ، وبلحاظ مفهوم الأصالة والتبعيّة يكون الخير المطلق لله وبالله.

والخير والشرّ من الناحية التكوينية يُنسَبان إلى الله سبحانه ، وهذا لا يُسيء إلى ساحته المقدّسة ، فالخير معنى وجوديّ مثل الملك والعزّة والرحمة والقدرة ، أمّا الشرّ فهو معنى عدميٌّ يراد منه عدم إيتاء الملك والعزّة والرحمة والقدرة ، ونحن نرى أنّ الإعطاء والمنع لا يكونان إلّا وفق الحِكَمِ والمصالح والأسباب التي لا يعلمها غيره سبحانه.

أمّا الخير والشرّ من الوجهة التشريعيّة ، فالمراد من ذلك الطاعات والمعاصي التي هي من خلق الإنسان لأفعاله باختياره ، فيستحقّ الثواب على فعل الحسنة ، والعقاب على فعل السيّئة.


وإذا نُسبت الحسنة إلى الله فمن جهة التوفيق ولاتمكين ، وإذا نُسبت السيّئة إليه فمن جهة سلب التوفيق والخذلان والإخزاء على نحو المجازاة ، وكلّ هذه من الأمور العدميّة.

يقول السيّد صاحب «الميزان» قدس سره : فالحقّ الحقيق بالتصديق أنّ الأفعال الإنسانيّة لها نسبة إلى الفاعل «الإنسان» ونسبة إلى الواجب «الله» ، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الأُخرى ، لكونهما طوليّتين لا عرضيّتين.

قال الإمام الرضا عليه السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بالترك كما يوصف خَلقه ، لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم (١).

وقال عليه السلام أيضاً : قال الله تعالى : يا ابن آدم بمشيّتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوّتي أدّيتَ إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي ، جعلتُك سميعاً بصيراً قويّاً ، ما أصابك من حسنةٍ فَمِن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أَولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، وذلك أنّى لا أُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون ، فقد نَظَمتُ لك كلّ شيء تريد (٢).

إنّ النعم الإلهيّة التي منّ الله بها على عباده ؛ مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، بارّهم وفاجرهم ، هذه النعم والموائد معروضة داخل إطار عالم التكوين ، وفي إطار عالم التشريع ، فنعمة الإيجاد ونعمة تسوية الخلق بأحسن تقويم ، ونعمة إرسال الرسل مبشّرين ومنذرين ، ونعمة تعاقب الليل والنهار ، وتعاقب الفصول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٣ / ح ١٦ ـ الباب ١١.

٢ ـ التوحيد : ٣٣٨ / ح ٦.


بالثمار والأمطار ، وخلق الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار كلّها نعم لا تغيب عن الأبصار ، لكنّ الإنسان سادرٌ في غفلته ، تائه في جهالته.

قال تعالى : (اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١).

وورد عن الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام في قوله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ كُفْرًا) (٢) ، قال عليه السلام : نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد (٣).

وهذا من أبرز وأوضح مصاديق النعم الإلهيّة ، وسُمّي ذلك من الجَرْي والتطبيق ، وكيف لا يكون كذلك وهم الامتداد الطبيعيّ لجدّهم المصطفى الذي وصفه الله في كتابه ـ وهو أصدق القائلين ـ بالرحمة حين قال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إبراهيم : ٣٢.

٢ ـ إبراهيم : ٢٨.

٣ ـ تفسير العياشيّ ٢ : ٢٢٩ / ح ٢٤ ، تفسير نور الثقلين ٢ : ٥٤٤ / ح ٨٤.

٤ ـ الأنبياء : ١٠٧.


المبحث الثامن : في النجاة

نعود إلى قوله عليه السلام : وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ يا رَبِّ وَلا تُسْتَطاعُ إلّا بِكَ.

لقد خلق الله الإنسان ورسم له منهاج حياته ، وأقام عليه الحجّة البالغة ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ، والإنسان تركيبة مختلطة من جسد وشهوة وعقل ، وهذا ما جعله محطّ الابتلاء وموضع الاختبار والامتحان.

وهنالك سنن وأسباب خارجة عن إرادته ، كالأسباب الطبيعيّة ونحوها ، فهو يخوض غمار حياته مصارعاً مكابداً صنوف الابتلاء. وحين يقع في الشدائد نراه يتوجّه بلسان الحال والافتقار إلى ربّه لينجيه وفق سنن الأسباب والنواميس ، ووفق الحِكم والمصالح التي يراها هو سبحانه.

قال تعالى : (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّـهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) (١).

فالله سبحانه هو المدعوّ لتخليص الإنسان في شدائده عندما يتعرّض للمرض والسطو المسلّح ، والطوفان والغرق ، وصنوف المكاره والأهوال ، من صاعقة وخسف وريح عاتية ، والابتلاء بالطغاة وسلاطين الجور أو السفلة من الناس ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٦٣ ـ ٦٤.


والدعاء أحد مفاتيح الخلاص في مثل هذه الشدائد والابتلاءات.

روي في الآثار أنّ ثلاثة خرجوا للريادة لقومهم ، أي لاستكشاف مواطن العشب ، فأمطرت السماء مطراً شديداً ، فدخلوا كهفاً للاحتماء من المطر ، وتدحرجت صخرة عظيمة وأغلقت باب الكهف عليهم ، فلجؤوا إلى الدعاء والتوسّل.

فقال أحدهم : يا ربّ ، لقد عمل عندي عمّال نهاراً كاملاً ، ولكنّ أحدهم عَمِل نصف نهار ، وكان عمله بجدّ ومثابرة فأعطيته مثل ما أعطيت لغيره فاعترض أحدهم ورفض أخذ أجرته وذهب ولا أعرف مكانه ، فاشتريت له بقرة بذلك الحقّ الذي له ثمّ أنتجت حتّى صار عندي منها قطيع ، وبعد عشرات السنين جاءني شيخ كبير فقال : أتعرفني؟ قلت : لا.

فقال : أنا العامل الذي ترك أُجرته عندك ، فأعطِنيها الآن ، فقلتُ له : خذ هذا القطيع كلّه. اَللّهمّ فإن كان هذا العمل مقبولاً عندك ، فأخرجنا من هذه الشدّة. فانفلقت الصخرة حتّى بان النور.

وقال الثاني : مرّت على الناس مجاعة شديدة ، وجاءتني امرأة تبكي تطلب المساعدة ، فأبيت إلّا أن تبذل نفسها لي فأبت ، ثمّ عادت وطالبتُها بالشيء نفسه فرفضت ، ثمّ عادت ثالثة وهي تبكي وترتجف وقد وافقت ، فقلت لها : إنّط ترتجفين مع الاضطرار والشدّة ، وأنا غير خائف مع الاختيار والرخاء! فعفوت عنها وأعطيتها ما طالبت ، فإن كان ذلك العمل يا ربّ عندك مقبولاً ، فاكشف عنّا هذه الصخرة ، فتزحزحت من مكانها.

وقال الثالث : يا ربّ ، كان لي والدان كبيران أرعاهما وأسقيهما الحليب ، وفي ليلة جئت متأخّراً وكانا نائمين فخفت أن أوقظهما ، فوقفت على رأسيهما حاملاً الحليب حتّى طلع الفجر فانتبها وسقيتهما ، فإن كان ذلك العمل عندك مقبولاً


فأخرجنا من هذه الشدّة ، فانزاحت الصخرة وخرجنا (١).

وقالا لإمام الصادق عليه السلام لسفيان الثوري : يا سفيان ، من أراد عزّاً بلا عشيرة ، وغنىً بلا مال ، وهيبة بلا سلطان ، فَلْيَنتقلْ من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته (٢).

وقال عليه السلام : يا سفيان ، وإذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثِرْ من «لا حول ولا قوة إلّا بالله» فإنّها مفتاح الفرج ، وكنز من كنوز الجنّة (٣).

ونقل عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : ما كان الله ليفتحَ على عبدٍ بابَ الشكر ويُغلق عنه باب الزيادة ، ولا ليفتحَ على عبدٍ باب الدعاء ويُغلق عنه باب الإجابة ، ولا ليفتحَ لعبدٍ باب التوبة ويُغلق عنه باب المغفرة (٤).

وقد ورد استحباب الدعاء عند الخوف من الأعداء وعند توقّع البلاء ، ففي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الدعاء أنفذ من السنان (٥).

وعن الإمام عليّ عليه السلام قوله : الدعاء مفاتيح النجاح ، ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقيّ ، وقلب تقيّ ، وفي المناجاة سبب النجاة ، وبالإخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتدّ الفزع فإلى الله المفزع (٦).

وروي أنَّ المنصور العبّاسي أحضر الإمام الصادق عليه السلام ، فلمّا بصر به قال : قتلني الله إن لم أقتلك ، أتلحد في سلطاني ، وتبغيني الغوائل؟

فقال له أبو عبد الله عليه السلام : والله ما فعلت ولا أردت ، فإذا بلغك فَمِن كاذب ، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٥٣ / ح ٢٧٧ ، قصص الأنبياء للراوندي : ٢٦٢.

٢ ـ الخصال للصدوق : ١٦٩ / ح ٢٢٢.

٣ ـ الدر المنثور ٤ : ٧١ ، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ٤٣٧.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٣٥.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٦٩ / ح ٦ و٧.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.


كنتُ فعلتُ لقد ظُلم يوسف فغفر ، وابتُلي أيّوب فصبر ، وأُعطي سليمان فشكر ، فهؤلاء أنبياء الله ، وإليهم يرجع نسبك.

فقال له المنصور : أجل ، إرتفعْ هاهنا ، فارتفع فقال له : فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت.

فقال عليه السلام : احضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك. فأحضر الرجل المذكور فقال له المنصور : أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟ قال : نعم ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : فاستَحْلِفْه على ذلك ، فقال له المنصور : أتحلف؟ قال : نعم فابتدأ باليمين.

فقال أبو عبد الله عليه السلام : دعني يا أمير المؤمنين أُحلّفه أنا.

فقال له : افعل ، فقال أبو عبد الله عليه السلام للساعي : قل : بَرِئتُ من حولِ الله وقوّته والتجأتُ إلى حولي وقوّتي ، لقد فعل كذا وكذا جعفر ، فامتنع هُنيئةً ثمّ حلف بها ، فما برح حتّى اضطرب برجله.

فقال المنصور : جرّوا برجله ، فأخرجوه لعنه الله.

قال الربيع : وكنت رأيت جعفر بن محمّد حين دخل على المنصور يحرّك شفتيه ، فكلّما حرّكهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه ورضي عنه ، فلمّا خرج أبو عبد الله عليه السلام من عند المنصور تبعته فقلت له : إنّ هذا الرجل كان أشدّ الناس غضباً عليك ، فلمّا دخلت عليه وحرّكت شفتيك سكن غضبه ، فبأيّ شيءٍ كنتَ تُحرّكهما؟ قال عليه السلام : بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليه السلام.

فقلت : جُعلت فداك ، وما هذا الدعاء؟ قال عليه السلام : يا عدّتي في شدّتي ، ويا غوقي عند كربتي ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنُفْني بركنك الذي لا يُرام. قال الربيع : فحفظت هذا الدعاء ، فما نزَلَت بي شدّة قطّ فدعوت به إلّا فرّج الله عنّي ،


قال : وقلت لجعفر بن محمّد ، لِمَ منعتَ الساعي أن يحلف بالله تعالى؟ قال : كرهتُ أن يراه الله يوحّده ويمجّده فيحلم عنه ويؤخّر عقوبته ، فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله أخذة رابية (١).

وقال الكفعميّ في هامش كتاب «البلد الأمين» ، على ما نقله الشيخ عبّاس القمّي صاحب كتاب «مفاتيح الجنان» : دعاء الجوشن الصغير دعاء معتبر رفيع الشأن ، عظيم المنزلة ، دعا به الكاظم عليه السلام ، وقد همّ موسى الهادي العبّاسي بقتله ، فرأى عليه السلام جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله في المنام فأخبره بأنّ الله تعالى سيقضي على عدوّه (٢).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : من خاف اللهَ أخاف اللهُ منه كلَّ شيء ، ومَن لم يَخَفِ الله أخافه الله من كلّ شيء (٣).

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإرشاد للمفيد ٢ : ١٨٤ ، روضة الواعظين : ٢٠٩ ، إعلام الورى ١ : ٢٥٢.

٢ ـ مفاتيح الجنان : ١٦٨ «مع الترجمة الفارسية».

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٨ / ح ٣ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤١٠ / ح ٥٨٩٠.


المبحث التاسع : في الإحسان

الإحسان : أعمّ من الجود والكرم ومِن فعل الحَسَن ، ويقابله الإساءة والعدوان.

قال تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) وقد سًمّيت هذه الآية الشريفة بآية مكارم الأخلاق ، إذ جاءت بالأحكام التي تحقّق أمانيَّ وتطلّعات الصالح العام وحفظ مصالح النوع.

العدل هو المساواة في المكافأة ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ.

أمّ الإحسان فهو أن يقابل الخير بما هو أكثر منه ، وأن يقابل الشرّ بالأقل أو بالعفو والتجاوز ، والإحسان مفهوم إيجابيّ وموقف لا يصدر إلّا من ذوي النفوس الكبيرة التي لها قِيمها المتميّزة ومُثلها العليا ، إذ بعفها هذا تبعث الحبّ والمودّة ، وتزرع حدائق الإخلاص الحميدة ، وتنشر الأمن والاستقرار في الجتمع.

وقد ورد على لسان الروايات المعتبرة أنَّ العدل هو الإنصاف ، والإحسان هو التفضّل ، وورد أنّ المحسن هو الذي يقول في الناس أحسنَ ما يحب أن يقال فيه ، ومن أوضح مصاديق الإحسان الجودُ والكرم والسخاء ومكارم الأخلاقِ واصطناع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ٩٠.


المعروف للغير.

روي أنّ حُذَيفة العَدَويّ قال : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي في القتلى ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به من القتلى ، فقلتُ له : أسقيك؟ فأشار إليَّ أن أسقيَ رجلاً بجانبه ، وكان يجود بنفسه ، فذهبت لأسقيه فأشار إليّ أن أسقي رجلاً ثالثاً ، فذهبت إليه فوجدته ميّتاً ، فرجعت إلى الثاني فوجدته ميّتاً ، وعندما رجعت إلى ابن عمّي وجدته ميّتاً (١). ونعم ما قيل : والجود بالنفس أقصى غاية الجود (٢).

وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : الخَلق عيال الله ، فأحَبُّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله ، وأدخل على أهل بيتٍ سروراً (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : من سرّ مؤمناً فقد سرّني ، ومن سرّني فقد سرّ الله (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : السخيّ قريب من الله ، قريب من الجنّة ، قريب من الناس ، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنّة ، قريب من النار (٥).

وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : السخاء ما كان ابتداءً ، فأمّا ما كان عن مسألةٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تجد القصّة مفصّلة في : تفسير الثعلبي ٩ : ٢٧٩ ، وتفسير القرطبيّ ١٨ : ٢٨ ، وتاريخ مدينة دمشق ٣٨ : ١٨٠.

٢ ـ البيت لمسلم بن الوليد كما في : تاريخ بغداد ١٣ : ٩٨ وهو أمدح بيت ، وصدره : يجود بالنفس إن ضنِّ البخيلُ بها. وفي تاريخ الطبريّ ٧ : ٢٢٢ أنشده محمّد بن الجهم للمأمون العباسيّ.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٦٤ / ح ٦.

٤ ـ نفسه ٢ : ١٨٨ / ح ١.

٥ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٢ / ح ٢٧ ، عن أبي الحسن عليه السلام ، روضة الواعظين : ٣٨٥.


فحياءٌ وتذمّم (١).

وعنه عليه السلام : الجنّة دار الأسخياء (٢).

والإيار على النفس مع الخصاصة من مصاديق الإحسان الواضحة ، قال الله تعالى : (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (٣) ، وقال سبحانه وتعالى في آل محمّد عليهم السلام : (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) (٤).

وكان من عظمة أخلاق أمير المؤمنين عليه السلام أن إذا أتاه طالب في حاجة يقول له : اكتبها على الأرض ، فإنّي أكره أن أرى ذلّة السؤال في وجه السائل (٥).

وقال أبان بن تغلب لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عن حقّ المؤمن على المؤمن ، فقال عليه السلام : يا أبان ، تقاسمه شطر مالك. ثم نظر عليه السلام إليّ فرأى ما دخلني ، فقال عليه السلام : يا أبان ، أما تعلم أنَّ الله عزّ وجلّ قد ذكر المؤْثرين على أنفسهم؟ قلت : بلى جُعِلتُ فداك ، فقال عليه السلام : أمّا إذا أنت قاسمتَه فلم تؤثره بعد ، إنّما أنت وهو سواء ، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيتَه من النصف الآخر (٦).

وعن الإمام ال حسن بن عليّ عليهما السلام : لو جُعِلَت الدنيا لقمةً واحدة وَلقّمتُها مَن يعبد الله ، لرأيتُ أنّي مقصّرٌ في حقّه (٧).

وقد أوصى أئمّة الهدى شيعتهم بالتواصل فيما بينهم ، ففي المروي عن أبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٥٣.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٩٣ ، تفسير الثعلبيّ ٣ : ١٥٠.

٣ ـ الحشر : ٩.

٤ ـ الإنسان : ٨.

٥ ـ إرشاد القلوب للديلميّ : ١٣٦ ـ وعنه : مستدرك الوسائل ٧ : ٢٣٨ / ح ٦.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٧٢ / ح ٨.

٧ ـ التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري عليه السلام : ٣٢٩ / ح ١٨٨.


إسماعيل قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : جُعلتُ فداك ، إنّ الشيعة عندنا كثير ، فقال : فهل يعطف الغنيّ على الفقير ، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء وَيتواسَون؟ فقلت : لا ، فقال عليه السلام : ليس هؤلاء شيعة ، الشيعة مَن يفعل هذا (١).

وقال سعيد بن الحسن : قال أبو جعفر الباقر عليه السلام أيضاً : أيجيء أحدكم إلى أخيه فيُدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال عليه السلام : فلا شيءَ إذن ، قلت : فالهَلَكةُ إذن؟ فقال عليه السلام : إنَّ القوم لم يُعطَوا أحلامهم بعد (٢).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ألا أنبّئكم بالمؤمن؟ المؤمن مَن ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ، ألا أنبّئكم بالمسلم؟ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السّيئات وترك ما حرّم الله. والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : من إجلال الله عزّ وجلّ إجلالُ المؤمن ذي الشيبة ، ومَن أكرم مؤمناً فبكرامة الله بدأ ، ومَن استخفّ بمؤمن ذي شيبة أرسل الله إليه من يستخفّ به قبلَ موته (٤).

وقيل : رأى شابّ شيخاً محدودب الظهر ، فقال له : يا شيخ ، بِكَم اشتريت هذا القوس؟ فقال له : يأتيك بلا ثمن. وقال شيخ آخر لمن سأله : اشتريتُه بكلمة قلتُها قبلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٧٣ / ح ١١ ، شرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٥٠٥.

٢ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٤٤ / ح ١٠٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٣٥ / ح ١٩.

٤ ـ نفسه ٢ : ٦٥٨ / ح ٥.


وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُسْلم بقلبه ، لا تتّبعوا عثرات المسلمين ، فإنّه مَن تتبّع عثرات المسلمين تتبّع الله عثرته ، ومن تتبَّعَ الله عثرته يفضحْه (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام : يا عليّ ، ثلاث خصال من مكارم الأخلاق : تُعطي مَن حرمك ، وتَصِل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : من قضى لأخيه المؤمن حاجة ، فكأنما عبَدَ اللهَ دهره (٣).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام : إنّ من عبادي من يتقرّب إليّ بالحسنة فأُحكّمه في الجنّة ، فقال موسى : يا ربِّ ، وما تلك الحسنة؟ قال : يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته ، قُضِيتْ أو لم تُقْضَ (٤).

وقال أبان بن تغلب : سمعت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول : من طاف بالبيت أُسبوعاً كتَبَ الله عزّ وجلّ له ستّة آلاف حسنة ، ومحا عنه ستّة آلاف سيّئة ، ورفع له ستّة آلاف درجة ، ثمَّ قال عليه السلام : وقضاء حاجة المؤمن أفضل من طوافٍ وطوافِ ، حتّى عدّ عشراً (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : من أعان مؤمناً نفّس الله عزّ وجلّ عنه ثلاثاً وسبعين كُربة ، واحدة في الدنيا ، وثنتين وسبعين كربةً عند كُربته العظمى قال : حيثُ يَتشاغل الناسُ بأنفسهم (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٤.

٢ ـ الخصال للصدوق : ١٢٥ / ح ١٢١ ـ عنه : بحار الأنوار ٦٦ : ٣٧١ / ح ١٣.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٤٨١ / ح ٢٠.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٩٦ / ح ١٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٩٤ / ح ٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٩٩ / ح ٢.


وقال الإمام الصادق عليه السلام للمفضّل : إنّ الله عزّ وجلّ خَلَق خلقاً من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ، لِيُثيبَهم على ذلك الجنّة ، فإن استعطتَ أن تكون منهم فكن (١).

ثمّ يأتي النداء الصارخ ، المثير للهمم ، الموقظ للضمائر : قال الرسول صلى الله عليه وآله : مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم ، ومَن سمع رجلاً ينادي : يا لَلمسلمين! فلم يجبه فليس بمسلم (٢).

وقد أوصى الإسلام برعاية حقّ الجوار والإحسان إليهم ، حتّى ورد عنه صلى الله عليه وآله : ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتّى ظننتُ أنّه سيورثه (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : ما آمن بي مَن بات شعبانَ وجارُه جائع (٤).

وقال أبو عبد الله عليه السلام : حُسنُ الجور يَعْمُر الديار ، ويزيد في الأعمار. وعن الإمام الكاظم عليه السلام قال : ليس حُسنُ الجوار كفّ الأذى ، ولكنّ حسن الجوار صبرُك على الأذى (٥).

وورد عنهم عليهم السلام : من خان جاره شبراً من الأرض ، طوّقه الله تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين ناراً حتّى يدخله جهنم (٦). والمؤذون للجيران يأتون في المحشر مقطوعي الأيدي والأرجل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٩٣ / ح ٢.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٦٤ / ح ٥.

٣ ـ دعائم الإسلام ٢ : ١٨٨ / ح ٢٦٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٨ / ح ١٤.

٥ ـ نفسه ٢ : ٦٦٦ / ح ٨.

٦ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨١.


وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : من أكرم الضيف فقد أكرم سبعين نبيّاً (١).

وقالا لإمام عليّ عليه السلام يوصي أبناءه : تنتافسوا إلى المكارم ، وسارعوا إلى الغنائم ، واعلموا أنَّ حوائج الناس إليكم نعمتُه تعالى عليكم ، وأجود الناس من يُعطي مَن لا يرجوه ، ومَن نفّس عن مؤمن كربةً نفّس الله عنه اثنتين وسبعين كربةً من كرب الدنيا ، واثنتين وسبعين كربة من كرب الآخرة ، ومَن أحسن أحسن الله إليه ، والله يحبّ المسحنين.

صلة الأرحام وبرّ الوالدين

وأولى الإسلام عناية فائقة بصلة الأرحام ، حتّى ورد عنه صلى الله عليه وآله : لا صدقة وذو رَحِمِ محتاج (٢).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : صلة الأرحام تزكّي الأعمال ، وتدفع البلوى ، وتنمّي الأموال ، وتُنْسئ له في عمره ، وتوسّع في رزقه ، وتحبّب في أهل بيته ، فليتّقِ اللهَ ولْيصِلْ رحمه (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام ورد قوله : إنّ المرء لَيصِلُ رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيمدّه الله إلى ثلاثين سنة ، وإنّه ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة ، فيصيّره الله إلى ثلاث سنين ، وتلا قولَه سبحانه وتعالى : (يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لمّا أُسريَ بي إلى السماء رأيت رحماً متعلّقة بالعرض تشكو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ اُنظر : الأذكار النوويّة : ٢٢٩ باب الثناء على من أكرم ضيفه.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٨ / ح ١٧٤٠ ، الاختصاص للمفيد : ٢١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٥٢ / ح ١٣.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ ٤٨٠ / ح ١٠٤٩ ، والآية في سورة الرعد : ٣٩.


رحماً إلى ربّها ، فقلت لها : كم بينَكِ وبينها من أب؟ فقالت : نلتقي في أربعين أباً (١).

وورد عنه صلى الله عليه وآله قوله : قال الله سبحانه تعالى : أنا الرحمن وهذه الرَّحِم ، شَقَقْتُ لها اسماً من اسمي ، فَمَن وصلها وصلتُه ، ومن قطعها قطعته (٢).

وأوصى الإسلام ببرّ الوالدين ورعايتهما على وجه التمام والكمال ، وقال تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (٣).

جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله مَن أبِرَ؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمَّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أباك (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : بُرّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم ، وعُفّوا عن نساء غيركم تعفَّ نساؤكم (٥).

وجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله ، أَوصِني ، فقال صلى الله عليه وآله : لا تشرك بالله شيئاً وإن حَرِّقتَ بالنار وعُذّبت إلّا وقلبُك مطمئنٌ بالإيمان ، ووالدَيك فأطِعْهما وبَرِّهما حَيَّينِ كانا أو ميّتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فإنّ ذلك من الإيمان (٦).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : إنّ العبد لَيكون بارّاً بوالديه في حياتهما ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دُيونَهما ، ولا يستغفر لهما ، فيكتبه الله عاقّاً. وإنّه لَيكون عاقّاً لهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٥٤٠ / ح ١٣.

٢ ـ المبسوط للطوسيّ ٣ : ٣٠٧.

٣ ـ الإسراء : ٢٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٥٩ / ح ٩.

٥ ـ نفسه ٥ : ٥٥٤ / ح ٥.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٥٨ / ح ٢.


في حياتهما غيرَ بارٍّ بهما ، فإذا ماتا قضى دَينَهما واستغفر لهما ، فيكتبه الله عزّ وجلّ بارّاً (١).

وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله : ما حقّ الوالد على ولده؟ قال صلى الله عليه وآله : لا يُسمِّيه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قَبلَه ، ولا يَسْتَسِبُّ له (٢).

وقال السلميّ : أتيت النبيّ صلى الله عليه وآله أستشيره في الجهاد ، فقال صلى الله عليه وآله : ألَكَ والدة؟ قلت : نعم ، قال صلى الله عليه وآله : اذهب فأكرمها ، فإنّ الجنّة تحت رجليها (٣).

وقال الشيخ عبّاس القمّيّ قدس سره في «منازل الآخرة» : من جملة ما يهوّن سكرات الموت : صلة الرحم وبرّ الوالدين (٤).

وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : من أحبّ أن يخفّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت فَلْيكن لقرابته وَصُولاً ، وبوالديه بارّاً ، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت ، ولم يُصِبْه في حياته فقر أبداً (٥).

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله حضر شاباً عند وفاته فقال له : قل : لا إله إلّا الله ، فاعتقل لسانُه مراراً ، فقال صلى الله عليه وآله لامرأةٍ عند رأسه : هل لهذا أمُّ؟ قالت : نعم ، أنا أمّه ، قال صلى الله عليه وآله : أفَساخطةٌ أنت عليه؟ قالت : نعم ، ما كلّمتُه منذ ستّ حُجج ، قال صلى الله عليه وآله لها : إرضي عنه ، قالت : رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قل : لا إله إلّا الله. فقالها ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : ما ترى؟ فقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي (٢) : (١)٦٣ / ح ٢١.

٢ ـ الكافي (٢) : (١)٥٩ / ح (٥). والمراد مِن يَستسبّ له ، أي لا يفعل ما يصير سبباً لسبّ الناس له ، كأن يسبّهم أو يسبّ آباءهم ، وقد يسبّ الناسُ والد من يفعل فعلاً قبيحاً.

٣ ـ الاستيعاب (١) : ٢٦٧.

٤ ـ منازل الآخرة : ٢٣ والمعنى مستفاد من روايات عديدة.

٥ ـ الأمال للصدوق : ٤٧٣ / ح ٦٣٥.


الشاب : أرى رجلاً أسودَ قبيحَ المنظر وَسِخَ الثياب نتنَ الريح قد وَلِيَني الساعة وأخذ بكظمي (حنجرتي).

فقال له صلى الله عليه وآله : قل : يا من يقبل اليسير ، ويعفو عن الكثير ، إقبَلْ منّي اليسير ، واعفُ عنّي الكثير ، إنّك أنت الغفور الرحيم. فقالها الشاب.

فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : أنظر ماذا ترى؟ قال : أرى رجلاً أبيض اللون ، حسن الوجه ، طيّب الريح ، حسن الثياب ، قد وَلِيَني ، وأرى الأسود قد تولّى عنّي.

قال له : أعِدْ. فأعاد «الدعاء» ، فقال له : ما ترى؟ قال : لست أرى الأسود ، وأرى الأبيض قد وليني. ثمّ طفى «مات» على تلك الحال (١).

وأوصي عزيز القارئ الكريم أن يقرأ ، بل يدرس «رسالة الحقوق» لسيّدنا ومولانا عليّ بن الحسين عليه السلام ، فإنّ فيها من المعارف الإلهيّة ، والمواعظ البليغة ما يحتاج إليها كلّ مسلم.

وتَلخَّص ممّا ذكرناه أنّ الخير والفيوضات والأفضال كلّها بيد الله ، فليجتهد العبد في طلبها من مظانّها ، وبالشروط ووفق سنن الأسباب والنواميس.

وأنَّ النجاة لا تُستطاع إلّا بالله رغم كون الإنسان مختاراً ، بل مأموراً بسلوك واعتماد السنن ، لأنّ هذه السنن أسباب وراءها مُسبِّب ، ولا تنفذ إلّا بمشيئة الله تبارك وتعالى.

وإنّ الذي أحسن لم يستغنِ عن عون الله ورحمته وتوفيقه ، ولو شاء الله أن يمنعه أو يسلبه التوفيق لفعل ، وإنّ المسيء المجرّئ على الله ، السادر في غيّه وبغيه وكبره وطغيانه غيرُ خارج عن قدرة الله ، وإنّ الله قادر على منعه أو أخذه أخذَ عزيز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للمفيد : ٢٨٧ / ح ٦.


مقتدر.

وفيما شرحناه آنفاً الكفاية ، ومن الله نستمدّ التسديد في القول والفعل ، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


المبحث العاشر : المعرفة والهداية والفطرة والعقل

قال عليه السلام : يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ... بِكَ عَرَفْتُكَ ، وَاَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ ، وَدَعَوْتَني اِلَيْكَ ، وَلَوْلا اَنْتَ لَمْ اَدْرَ ما اَنْتَ.

يتوجّه الداعي مخاطباً ربّه باعتباره المالك المطلق المدبّر لأمر مملوكه ، فالربوبيّة هي الملك مع التدبير ، ومن كانت هذه صفته استحقّ الطاعة والعبادة التي هي من سمات الأُلوهيّة له وحده دون غيره.

ولمّا كانت جميع الموجودات مملوكة لله ، وتستمدّ وجودها ونظام حياتها حدوثاً وبقاءً من الله ، فإنّنا نحكم بأن لا ربوبيّة لها لمكان احتياجها ونقصها ؛ إذن فهي أرباب مزيّفة وآلهة مصطنعة رسمها الخيال الفاسد.

فالله هو الذي خلق الكون والحياة ، وهو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ، ودبّر أمر حركتها وسيّرها وفق السنن المرسومة.

وهو الله ينزّل من السماء ماءً بِقَدَر ، وهو الذي يخرج الزرع والشجر ، وهو الذي خلق الإنسان وجعل له الحواسّ والأعضاء التي بها قضاء متطلّبات حياته ، وهو الذي خلق البحار والأنهار والهواء بتقديراتٍ تناسب حياة المخلوقات.

وذلك التدبير لا يشاركه فيه أحد ، لذلك لا يستحقّ العبادة والطاعة غيره ، أمّا الأفكار الساذجة المنحرفة عن جادّة العقل ومسار الفطرة فقد توجّهت إلى عبادة


الأصنام والأوثان ، معتقدة أنّ لها القابليّة على تدبير أمر الموجودات ، فقالوا بأنّهم يعبدونها كشفعاء إلى الله لتقرّبهم إليه زلفى ، فوقعوا في الضلالة والعماية عن رؤية الحقّ ، ومشاهدة فطرة الكون والوجود الناطقة بتوحيده وتسبيحه.

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تَدُلُّ على أنّه واحِدُ (١)

إنّ شاهد الحال في الإنسان مهما بلغ من العلم والقوّة والشرف والعزّة والمكانة ، فإنّه يشعر فطرياً وغريزياً بأنّه محتاج إلى الله في تدبير أموره ورفع حوائجه وسدّ نواقصه ، فالحاجة لسانُ حالٍ ناطق بمربوبيّة الإنسان وبربوبيّة الخالق سبحانه.

وكما أنّ الإنسان محتاج إلى ربّه في مسائل التكوين ، فهو محتاج إليه سبحانه في قضايا المعرفة والهداية الخاصّة ، فقد حصر الله سبحانه مهمّة التشريع والهداية بنفسه فقط ، إذ علم سبحانه أنّ الإنسان قاصر عن إدراك مصالحه الحقيقيّة والواقعيّة ، ولمّا كان الإنسان مركّباً من عقل وجسم وغريزة ، فإنّ الصراع بين هذه العوامل طالما يقوده إلى عالم الغفلة عن الله ، والتشريعات الوضعيّة ستحمل نفس صفاته من النقص والأنانيّة والتعصّب وعدم الموضوعيّة.

وقد رأينا ما فعل الطغاة والمتكبّرون بالأمم والشعوب بتشريعاتهم وطرق تنفيذها ، وبسوء سيرتهم في الحكم ، حتّى قال أحد عتاتهم : إنّ القوانين مِن صنع أنفسنا ، نشرّعها متى نشاء ، ونلغيها متى نشاء.

لقد ربطت التشريعات السماويّة بين الإنسان وخالقه ، وبين العلم والعمل ، وبين الفعل والجزاء ، وبين متطلّبات الروح ومتطلّبات الجسد ، وبين الدنيا والمعاد ، وهذه التكاليف العباديّة تقوم بدورها الإيجابيّ في تطهير النفوس وتثبيت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ حكاه الثعلبيّ في : تفسيره ١٠ : ١٦٨ ، والراغب الأصفهانيّ في : مفرداته : ٣٦٨.


القلوب ، والسير بالإنسان إلى مراقي الكمال والإخلاص.

إنّ التكاليف العباديّة التي تقوّي أواصر العلاقة بالله تعالى وتدعو إلى الانصياع والانقياد للقانون والنظام المرسوم ممّا يعمّق المعرفة بالله ، ويرسّخ مبدأ العبوديّة له ، وذلك غاية ما تطمح إليه النفوس في تحقيق سعادتها المنشودة.

ويتلخّص ممّا ذكرناه أنّ الهداية التكوينيّة والتشريعيّة محصورتان بالله وحده لا يشاركه فيهما أحد ، وإذا قلنا : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أو الإمام يشرّ ، فمن حيث إنّه لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلا وحي يُوحى ، أو من ناحية التسديد الإلهيّ وصفاء نفوسهم وقدسيّتها ، فتكون الهداية الصادرة منهم واقعةً في طول الهداية الإلهيّة لا في عرضها.

وحركة الإنسان إنّما تكون بين هدايتين :

الأُولى : هداية تكوينيّة قائمة على سلامة العقل ونقاء الفطرة التي تدعو إلى التوحيد والإيمان بالمعارف الحقّة.

والثانية : هي الهداية التشريعية التي لها الأثر التربويّ في رسم المناهج الحياتيّة للفرد والأُسرة والمجتمع.

نعود إلى الهداية التكوينيّة لنسلّط الأضواء على ما ورد في قضايا الفطرة والعقل :

قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (١).

وقبل الخوض في خضمّ مبحث العقل والفطرة نرجو إمعان النظر في هاتين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٣٠.


المعادلتين :

١ ـ لمّا كان المُلْك التكوينيّ لله وحده ، فهذا يقتضي أن تكون الطاعة التكوينيّة لله وحده ، وهذا أمر مشاهد ومحسوس ، بل هو من المسلّمات العقليّة.

٢ ـ لمّا كان المُلْك التشريعي لله وحده ، فهذا يقتضي أن تكون العبادة لله وحده. والفطرة المشار إليها هي الإيجاد والإبداع على نحو يدعو إلى التوجّه إلى الله سبحانه في الطاعة والعبادة ، ومن هنا ستتحقّق الهداية التشريعيّة للإنسان. إذن فالهداية التكوينيّة تقود إلى الهداية التشريعيّة ، قال تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) (١).

وقال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) (٢).

إنّ كلّ كائن في الوجود يسير إلى كماله المنشود وفق السنن الإلهيّة المرسومة ، فهذه البذرة ـ بعد استكمال العلل والأسباب والشرائط ـ تصبح شجرة ، وهذه النطفة تتوجّه في مسيرتها التكامليّة لتصبح حيواناً أو إنساناً ، وهذا ما نطلق عليه الهداية الإلهية العامّة.

ويشهد لذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة. يعني على المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه (٣).

وما ورد عنه صلى الله عليه وآله قوله : ما مِن مولودٍ إلّا يُولد على الفطرة ، فأبواهُ يُهوّدانِه ويُنصّرانِه ويُمجّسانِه (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٥٠.

٢ ـ الأعلى : ٢ ـ ٣.

٣ ـ التوحيد للصدوق : ٣٣١ / ح ٩.

٤ ـ صحيح مسلم ٨ : ٥٢.


أمّا العقل الفطريّ فقد جعله الله حجّة باطنيّة على الإنسان ، في الوقت الذي جعل الرسل والأنبياء حجّة خارجيّة عليه ، وبذلك تكون الحجّة البالغة لله على الإنسان.

يدلّ على ذلك ما ورد عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له : أققبِلْ ، فأقبل ، ثمّ قال له : أدبِرْ ، فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقتُ خلقاً هو أحبُّ إليّ منك ، ولا أكملتُك إلّا فيمن أُحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أعاقب وإيّاك أُثيب (١).

وعن الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام قال : هبط جبرئيل عليه السلام على آدم عليه السلام فقال : يا آدم ، إنّي أُمرت أن أُخيّرك واحدةً من ثلاث ، فاختَرْها وَدعِ اثنتين ، فقال له آدم عليه السلام : يا جبرئيل ، وما الثلاث؟ فقال : العقل والحياء والدين ، فقال آدم عليه السلام : إني قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين : إنصرِفا ودَعاه ، فقالا : يا جبرئيل ، إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال معرِّفاً العقل : ما عُبِد به الرحمن ، واكتُسِب به الجنان (٣). من كان عاقلاً كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنّة (٤). وعن الإمام الكاظم عليه السلام قال : يا هشام ، إنّ الله تبارك وتعالى أكمَلَ للناس الحَججَ بالعقول ، ونصر النبيّين بالبيان ، ودَلَّهم على ربوبيّته بالأدلّة (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٠ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ١٠ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ١ : ١١ / ح ٣.

٤ ـ نفسه ١ : ١١ / ح ٦.

٥ ـ نفسه ١ : ١٣ / ح ١٢.


ونعود لنسلّط الأضواء على الهداية التشريعيّة وأهمّيتها فنقول : لمّا كان الإنسان مدنيّاً بالطبع ، وكان ذا نزعات مختلفة ومقاصد شتّى ، كان الكائنَ الوحيد الذي يحتاج إلى أنظمة وقوانين تنظّم شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

ومن هنا يأتي الاعتقاد بوجوب الهداية التشريعيّة الخاصّة ، وذلك ممّا أوجبه الله على نفسه من باب رحمته وحكمته. والدين عبارة عن عقيدة ، وهي النظرة في الكون والحياة ، ومن هذه العقيدة ينبثق النظام والمناهج الحياتيّة التي تكفل للإنسان حقوقه الاعتباريّة والمادّية ، وتبيّن واجباته تجاه نفسه وغيره من أجل إرساء قواعد العدل والمساواة والحريّة والأخلاق الحميدة.

إنّ العقائد الحقّة هي التي تدعو الإنسان وتشدّه إلى رعاية القانون وتطبيقه استشعاراً بالرقابة الغيبيّة ، واحتراماً للمقدّسات ، وبدونها تتفكّك أواصر الوحدة ، وتنهدم قواعد النظام ، وتعمّ الفوضى وتتحكّم الأهواء بمسيرة الإنسان.

أمّا السعادة الإنسانية فإنّها تقاس بمقدار صلاح الإنسان الفرد ، والإنسان المجتمع ، وبمقدار صلاحيّة القانون. ولمّا كان التشريع الإسلاميّ لا ينفكّ عن هيئة الوجود التكوينيّ المرتبط بالله حدوثاً وبقاءً ، فإنّ التشريعات الإلهيّة تحمل جانب الكمال التي تقود الإنسان إلى رُقيّة وسعادته.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


المبحث الحادي عشر : في تحميد الله

قال عليه السلام : اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني ، وَاِنْ كُنْتُ بَطيئاً حينَ يَدْعوُني ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني.

قلنا في مبحث الدعاء : إنّ هناك آداباً للدعاء ينبغي مراعاتها لتكون وسيلة للاستجابة ، ومنها أن يحمد الداعي ربَّه ويمجّده ويثني على آلائه قبل الشروع في الدعاء.

قال الراغب : الحمد لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح ، وأعمّ من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يُمدَح ببذله مالَه وسخائِه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأول ، والشكر لا يقال إلّا في مقابل نعمة ، فكلّ شكر حمد ، وليس كلّ حمدٍ شكراً ، وكلّ حمدٍ مدح ، وليس كلّ مدحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود : إذا كثرت خصاله المحمودة (١).

إذن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياريّ ، فالله سبحانه هو مصدر كلّ خير ونعمة ، وجمال وكمال ، وعلم وقدرة ، وعزّة وكرامة وغيرها من المُثل والأخلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣١.


والفيوضات ، وحمد الله لا يُدرك أبداً ، لأنّ الناقص لا يدرك كمالات المطلق ، وقد ورد في الآثار المعتبرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك (١).

ويصوّر لنا الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في مناجاة الشاكرين من الصحيفة السجّادية التي هي زبور آل محمّد بحقّ وجدارة ، أنّ إدراك شكره وحمده سبحانه ممّا لا يُدرك ، لأنّ ذلك ممّا سوف يوقعنا في التسلسل الذي لا ينتهي إلى حدٍ أو نقطةٍ ما ....

قال عليه السلام : فآلاؤك جَمَّةق ضَعُفَ لساني عن إحصائها ، ونَعماؤك كثيرة قَصُر فَهْمي عن إدراكها ، فضلاً عنِ استقصائها ، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد ، وجب عَلَيّ لذلك أن أقول لك الحمد (٢).

القارئ العزيز يتنفّس أريج التواضع ، ويشمّ رائحة الانكسار والتذلّل أمام عظمة الله سبحانه حين التوجّه إليه بالدعاء. ونكاد نرى أنّه عليه السلام يذوب في الله حبّاً وشوقاً ، ورغبةً ورهبة ، فنقف والحيرة تضرب علينا بجرانها أمام خشوعه عليه السلام وورعه ، وصفاء فطرته ، ومتانة عقله. فإنّ التواضع أمام الله سبحانه يكاد يُميّز هذا الدعاء عن غيره بهذه السمة.

في التواضع

التواضع هو التذلل والتخشّع ، فنقول : فلان تواضع ، أي تذلّل وتَخشّع ، والخشوع هذا من مظاهر الذلّة في النفس والحطّ من قدره ، وهو ليس في الواقع وضيعاً ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٣٢٤ / ح ١٢.

٢ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٠.


خسيساً ولا ضعيفاً ، بل هو من صفات النفس المحمودة.

أمّا الضعة فهي من الخِسّة والدناءة ، وهذه من الصفات الرذيلة.

والتواضع ضد الكبر ، قال تعالى : (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (١).

لقد ربّى الإسلام أتباعه تربية صالحة كانت الاُنموذج الأمثل ، والقدوة الحسنة في الفكر والاعتقاد والسلوك العمليّ ، لقد علّمهم الإسلام أن يتوجّهوا إلى الله سبحانه بكلّ حركاتهم وسكناتهم ومشاعرهم ، لا يأخذون عن غير السماء ، ولا يقصدون أحداً غير وجهه الكريم.

والآية الكريمة تصف هؤلاء العباد الذين أضافهم سبحانه إليه بالتواضع ، والتصرّف بتلقائية وعفوية من دون تكلّف ولا تكبّر ، أنّهم أقوياء متماسكون ، ثابتون على الحقّ والهدى عن بصيرة ، ولكنّهم أهل وقار وسكينة ، ليسوا أهل جدل وخصام ، ومهاترات واشتباكات ، ولا أهل تعنّت وتجبّر ، بل هم أرفع قدراً ، وأسمى مكانةً من النزول إلى مستوى الجهلاء والسفهاء ، قال الله تعالى : (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).

إنّ التواضع لله وللناس من الأخلاق المطلوبة ، وقد ورد في الآثار أن تخلّقوا بأخلاق الله (٢) ، وهذه الصفات الكريمة ممّا تزيل الحُجُبَ والرّين والصدأ عن القلوب ، والقتام عن النفوس ، فتتلألأ فيها حقائق الإيمان ، وتزهر حقائق المعارف ، وتتألّق حقائق الصفات الكريمة ، وهذه القلوب كلّما طهرت وأقبلت على الله بالطاعة زادها الله قرباً إلى ساحة قداسته ، فيغمرها بالإفاضات الربانيّة ، والمواهب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفرقان : ٦٣.

٢ ـ بحار الأنوار ٥٨ : ١٢٩.


العرفانيّة ، ممّا لا يمكن حصوله عن طريق الكسب العادي.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن أخلص لله أربعين يوماً فَجَّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : نَضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، ثمّ بلّغها من لم يسمعها ، فَرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم (٣).

إنّ السير والسلوك إلى الله مهبط من مهابط الإفاضات ، ومنزل من منازل الكرامات التي هي خارج الفهم العادي والإحاطة بالحقائق ، وهذا المقام مبذول لكلّ أحد من دون منع ولا انقطاع ، ولكنّ الموانع والحجب التي ترين على القلوب هي المانع عن غدراك هذه الأنوار والأسرار الربّانية ، وهذه القلوب والنفوس ليس لها القابليّة ولا الاستعدادات ؛ لما فيها من الكدورات والخبث وركام المادّة والشهوات.

إنّ تطهير القلوب وتصفية النفوس تُحْدِثُ نقلةً نوعيّة عند الإنسان من عالم العمى إلى البصيرة ، ومن دركات الهوى إلى ارتقاء درجات الهدى ، ومن حضيض الجهل إلى مراقي العلم ، ومن ظلمات الردى إلى نور اليقين ، ومن عالم التزلزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٢ ـ عدّة الداعي : ٢١٨ ـ عنه بحار الأنوار ٦٧ : ٢٤٩ / ح ٢٥.

٣ ـ الخصال : ١٤٩ ـ ١٥٠ / ح ١٨٢ ـ باب الثلاثة.


والشكّ إلى عالم الثبات ، ومن عالم النَّصَب والقلق إلى عالم الراحة والهدوء والاستقرار ، وأعظم ما يُنال ذلك بالإخلاص وعبادة السرّ التي هي من حالات الصالحين.

والعلم الذي يناله هؤلاء العرفاء بالله هو من العلم الواقعي الحقيقي لا الظاهري الخاضع للاكتساب ، وقد ورد في الآثار : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله الذي خُلق منه (١).

قال حمّاد : سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزّ وجلّ ، فقال عليه السلام : أما واللهِ ما أُوتي لقمان الحكمة بحَسَبٍ ولا مالٍ ولا أهل ، ولا بسطٍ في جسم ولا جمال ، ولكنّه كان رجلاً قويّاً في أمر الله ، متورّعاً في الله ، ساكتاً سكيناً ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغنٍ بالعِبَر ، لم ينم نهاراً قطّ ، ولم يره أحد من الناس على بولٍ ولا غائط ولا اغتسال ؛ لشدّة تستّره وعمق نظره ، وتحفّظه في أمره.

إلى أن قال : فتعجّبت الملائكة ، من حكمته واستحسن الرحمان منطقه ، فلمّا أمسى وأخذ مضجعه من الليل ، أنزل الله عليه الحكمة فتغشّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم ، وغطّاه بالحكمة غطاءً ، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبيّنها فيها.

والحديث طويل يرجى مراجعته في تفسير القمّي في تفسير قوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّـهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن ١ : ١٣١ / ح ١ ، بصائر الدرجات : ١٠٠ / ح ١ وص ٣٧٥ / ح ٤.


حَمِيدٌ) (١).

وقد سأل بعض العلماء السيّد عبد الأعلى السبزواريّ عن رواية قائلاً : ما المقصود بهذه الرواية التي صحّ صدورها عن الإمام الصادق عليه السلام؟ فقال قدس سره : لا أشمّ من الرواية رائحة الإمام الصادق عليه السلام ، بل أشمّ منها رائحة الإمام الباقر عليه السلام ، فقال العالم : هذا الكتاب الذي بين يدَيّ ينقلها عن الإمام الصادق عليه السلام ، فقال قدس سره ائتوني بكتاب الوسائل. فاستخرج الرواية فإذا هي عن الإمام الباقر عليه السلام. والمشهور عنه قدس سره أنّه كان يصحّح الأسانيد بالمتون.

وأخبرني أحد الفضلاء (٢) قائلاً : لقد كنت في ضيق مادّي شديد ، وكنت بحاجة إلى كتاب ثمنه عشرة دنانير ، وقد بقيت أيّاماً في حيرتي هذه ، فدخلت أحد أزقّة النجف الأشرف ، فخرج المرجع الدينيّ السيّد عبد الأعلى السبزواريّ من مسجده ، فسلّمتُ عليه وقبّلتُ يديه ، فأخرج عشرة دنانير وقال : اذهب واشترِ الكتاب.

وقد خاطب الله نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله وأمره بالتواضع ، فقال عزّ شأنه : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

والواقع أنّ الأمر صادر إلى الأمّة ، وإنّما خوطب به النبيّ صلى الله عليه وآله تشريفاً ، باعتباره الإمام الشرعيّ لها ، والتواضع في الأصل إجلال الله ومهابته وتعظيمه ، وقد ورد أنّ : التواضع أصل كلّ شرف نفيس ومرتبة رفيعة (٤) ، ففي المنقول عنه صلى الله عليه وآله قوله : ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّي ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، والآية في سورة لقمان : ١٢.

٢ ـ وهو السيد عبد الستار الحسني.

٣ ـ الشعراء : ٢٥.

٤ ـ جامع السعادات ١ : ٣٦١ ، والكلمة للإمام الصادق عليه السلام.


تواضع أحد لله إلّا رَفَعه الله (١).

وقال صلى الله عليه وآله : طوبى لمن تواضع في غير مسكنة ، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية ، ورحم أهل الذلّة والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة (٢).

وممّا خاطب الله به عبده موسى عليه السلام : إنّما أقبل صلاةَ مَن تواضع لعظمتي ، ولم يتعاظم على خلقي ، وألزَمَ قلبه خوفي ، وقطع نهاره بذِكْري ، وكفّ نفسه عن الشهوات من أجلي (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لأصحابه : ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة! قالوا : وما حلاوة العبادة؟ قال صلى الله عليه وآله : التواضع (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : أربع لا يعطيهنّ الله إلّا من يحبّه : الصمت وهو أول العبادة ، والتوكّل على الله ، والتواضع ، والزهد في الدنيا (٥).

وروي أنّه أتى رسولَ الله مَلَكٌ فقال : إنّ الله تعالى يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً ، أو مَلِكاُ رسولاً. فنظر صلى الله عليه وآله إلى جبرئيل وأومى بيده : أن التواضع ، فقال صلى الله عليه وآله : عبداً متواضعاً رسولاً ، فقال الملك : مع أنّه لا ينقصك ممّا عند ربّك شيئاً (٦).

وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام : يا داود ، كما أنّ أقرب الناس إلى الله المتواضعون ، كذلك أبعد الناس من الله المتكبّرون (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٢ ـ الأمالي للطوسي : ٥٣٩ / ح ١١٦٢.

٣ ـ نفسه : ٧٦٤ / ح ١٠٢٨.

٤ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٥ ـ جامع السعادات ١ : ٣٥٩.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٢٢ / ح ٥.

٧ ـ نفسه ٢ : ١٢٤ / ح ١١.


وروي أنّ سليمان بن داود عليه السلام إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتّى يجيءَ إلى المساكين فيقعد معهم ويقول : مسكين مع مساكين (١).

وعن الإمام عليّ عليه السلام : عليك بالتواضع فإنّه مِن أعظم العبادة (٢). وعن أمير المؤمنين عليه السلام : بالتواضع تتمّ النِّعم (٣).

وروي أنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال للحواريين : لي إليكم حاجة اقضوها لي ، فقالوا : قُضيت حاجتك يا روح الله. فقام فغسّل أقدامهم ، فقالوا : كنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح الله! فقال عليه السلام : إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم ، إنّما تواضعتُ هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم. ثمّ قال عليه السلام : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل (٤).

وعن الإمام عليّ عليه السلام : إبنَ آدم ، إن كنتَ تريد من الدنيا ما يَكفيك ، فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنتَ إنّما تريد ما لا يكفيك ، فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك (٥).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنَّ في السماء ملكَينِ مُوكّلين بالعباد ، فمن تواضع لله رفعاه ، ومن تكبّر وضعاه (٦).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : العزّ رداء الله ، والكبر إزاره ، فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنم (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٣٦٠ ، بحار الأنوار ١٤ : ٨٣ / ح ٢٨ ـ عن : تنبيه الخواطر ١ : ٢٠٣.

٢ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ١١٩ / ح ٥ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٩٦ / ح ٤.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢٤.

٤ ـ الكافي ١ : ٣٧ / ح ٦.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٢٢ / ح ٢.

٧ ـ نفسه ٢ : ٣٠٩ / ح ٣.


وسُئل الإمام الصادق عليه السلام عن أدنى الإلحاد؟ فقال : إنّ الكبر أدناه (١).

وعن زرارة عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا : لا يدخل الجنّةَ مَن في قلبه مثقال ذرّة من كِبر (٢).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : الكبر مطايا النار (٣).

نعوذ بالله من غضب الله وسخطه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٩ / ح ١.

٢ ـ ثواب الأعمال : ٢٢١.

٣ ـ نفسه : ٢٢٢.


المبحث الثاني عشر : بين أخلاق الله وأخلاق العبد

إنّ هذا المقطع من الدعاء الشريف يُعتبر مقدّمةً وتهيئةً للدخول إلى عرصة اللقاء القدسيَ مع الله سبحانه وتعالى ، ليقف الداعي أمام ربّه الكريم ، يسأله قضاء حاجته ، والإمام عليه السلام هنا يظهر تواضعه أمام الله الربّ العزيز القدير ، المالك ، المعطي ، الجبّار ، الغفور ، الرحيم ، يقف متجلبباً جلباب العبودية ، مؤتزراً إزار الاعتراف بالحاجة والمسكنة.

ويقارن الإمام عليه السلام بين حاله أمام عظمة ربّه الكريم الذي يُعطي مَن سأله ومَن لم يسأله تحنّناً منه ورحمة ، ولكنّ الإنسان بطبعه وتطبّعه بطيءٌ في إجابة دعوة الله سبحانه ، والاستجابة لأوامره ونواهيه ، وهو بخيل حين يستقرضه الله سبحانه وتعالى من كلّ خير هو من عنده سبحانه.

والآن نتنفّس النسيم القرآنيّ الذي يصوّر لنا هذا الإنسان بسوء دخيلته ، وانحراف هواجسه ، وتقصيره في طاعته لبارئه.

قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١).

وقال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إبراهيم : ٣٤.


أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (١).

وقال الله تعالى : (وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) (٢) ، (وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا) (٣) ، (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (٤) ، (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (٥).

وقال الله تعالى : (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) (٦) ، (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (٧) ، (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٨).

وورد في الدعاء المأثور عن أهل بيت العصمة والطهارة ما يظهر هذه المقارنة بأجلى صورها :

اَللّهمّ أنتَ الربُّ وأنا المَرْبوب ، وأنتَ الخالقُ وأنَ المخلوق ، وأنتَ المالكُ وأنا المملوك ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الرازقُ وأنا المرزوق ، وأنت القادرُ وأنا العاجز ، وأنت القويُّ وأنا الضعيف ، وأنت المُغيثُ وأنا المُستَغيث ، وأنت الدائمُ وأنا الزائل ، وأنت الكبيرُ وأنا الحقير ، وأنت العظيمُ وأنا الصغير ، وأنت المَولى وأنا العبد ، وأنت العزيزُ وأنا الذليل ، وأنت الرفيعُ وأنا الوضيع ، وأنت المدبِّرُ وأنا المُدبَّر ، وأنت الباقي وأنا الفاني ، وأنت الديّانُ وأنا المُدان ، وأنت الباعثُ وأنا المبعوث ، وأنت الغنيُّ وأنا الفقير ، وأنت الحيُّ وأنا الميّت ، تَجِدُ مَن تعذّبُ يا رَبِّ غيري ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٩ ـ ١٠.

٢ ـ الإسراء : ١١.

٣ ـ الإسراء : ١٠٠.

٤ ـ الكهف : ٥٤.

٥ ـ الأحزاب : ٧٢.

٦ ـ يس : ٧٧.

٧ ـ المعارج : ١٩ ـ ٢١.

٨ ـ العاديات : ٦.


أجد مَن يَرحَمُني غيرَك (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ٢١ ـ ٢٢ / ح ١١ ـ عن : مصباح الزائر للسيّد ابن طاووس : ٢٠٣ ، بعد زيارة الإمامين الهمامين موسى الكاظم ومحمّد الجواد عليهما السلام.


المبحث الثالث عشر : في البخل

البخل : إمساك المقتنيات عمّا لا يحقّ حبسُها عنه ، ويقابله الجود.

والبخل ضربان : بخلٌ بِقَنيّاتِ نفسه ، وبخلٌ بِقنيّات غيره ، وهو أكثر ذمّاً ، دليلنا على ذلك (١) :

قوله تعالى : (الذين يبخلون ويأمرون النّاس بالبخل) (٢).

ونقول : البخل مقابل الإعطاء والسخاء ، والبخل مذموم عقلاً وشرعاً ، والإسراف في البذل مذموم ، والمحمود هو الوسط الذي يُطلق عليه الجود والسخاء ، قال تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (٣).

والجود المطلوب شرعاً يجب أن تكون معه نيّة القربة ليعطي ثماره الأُخرويّة للمنفق ، أمّا البخل فهو من الصفات الرذيلة ، وهو فرع من أصل مبغوض ، وهو حبّ الدنيا الذي وصفه الحديث الشريف بأنّه رأس كلّ خطيئة (٤) ، بل أصله الاعتقاديّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٨.

٢ ـ النساء : ٣٧.

٣ ـ الإسراء : ٢٩.

٤ ـ الخصال : ٢٥ / ح ٨٧ ـ باب الواحد : قال الإمام الصادق عليه السلام : حبُ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئة.


سوء الظنّ ، لقول أمير المؤمنين عليه السلام : البخلُ بالموجود سوءُ ظنٍّ بالمعبود (١).

لقد اهتمّ الإسلام اهتماماً بليغاً بسدّ حاجات الإنسان من الجوانب المادّية ، فشرّع الزكاة والخمس والكفّارات ، وندب إلى الإنفاق والصدقات ونحوها ، وبذلك يرفع مستوى أهل الحاجة من حالة الفاقة والحرمان ، ويُنزل أهل الترف والثروات الطائلة من بروجهم ، وبذلك تحدث الحالة الوسطيّة التي تضمن المسيرة المتوازنة في مجالات الحياة ، والحالة الوسطيّة لها مراتب ودرجات ولكنّها مقبولة نفسيّاً وأخلاقيّاً.

ولا يتصوّر القارئ العزيز أنّ تشريع الحقوق الماليّة سوف يسدّ حاجة كلّ ذي حاجة ، بل هناك تشريعات مهمّة في الضمان الاجتماعيّ الذي توفّره الدولة للفرد ، والتكافل الاجتماعيّ الذي يوفّره القريب لقريبه ، والجار لجاره مثلاً ، وأمّا الذي لم تصله يد المعونة والمساعدة فالحقوق الشرعيّة تكاد تسدّ تلك الحاجة ، والأهمّ من هذا أنّ الدولة مطالبة بتوفير العمل للمواطن.

إنّ الفوارق الكبيرة ممقوتة في فهم الاجتماع ، ومذاق الشرع وقد أدّت إلى غرس الأحقاد والأضغان والحسد والصراع الطبقيّ بين أبناء المجتمع الواحد ، وقد انقسم الناس إلى فئة محرومة وفئة متخومة ، وإلى فقير وغنيّ ، ومترف ومعدم ، وقويّ وضعيف ، حتّى استطاع أصحاب المبادئ الهدّامة ، وسماسرة السياسة أن يكسبوا الفقراء والمحرومين إلى صفوفهم بعد أن لوّحوا إليهم بالرغيف الموعود ، وعندماتبعهم هؤلاء اتّباعَ الفصيل أثرَ أمّه ، وبعد أن أرهقتهم المسيرة ، وملأت أسماعَهم الهتافاتُ الفوضويّة ، انتبهوا من غفلتهم ، فإذا : (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غرر الحكم : ٢٧.


يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) (١).

ونحن لا نريد أن نقلّل من دور الرغيف وأهمّيته ، فقد ورد في الآثار لو لا الرغيف ما عُبِد الله ، وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : عَجِبتُ لِمَن لا يجدُ قُوتَ يومه كيف لا يخرج شاهراً سيفَه على الناس.

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ باركْ لنا في الخبز ، ولا تفرّق بيننا وبينه ، فولا الخبز ما صُمْنا ولا صَلَّينا ، ولا أدَّينا فرائضَ ربِّنا (٢).

وورد في الحديث أنّ الفقر هو الموت الأكبر (٣) ، والموت الأحمر (٤) ، وأنّه أشدّ من القتل (٥) ، وأشدّ من ابتلي به من المسلمين هم الموالون لأهل البيت عليهم السلام.

ويترتّب على البخل آثار سيّئة أخرى مقل : فتح باب الربا ، والسرقة ، والانحراف الخلقيّ وغيرها من المسالك التي تعصف بأمن المجتمع وسلامته.

قال تعالى : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٦).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : البخل شخرة تَنبُت في النار ، فلا يَلِجُ النارَ إلّا بخيل (٧).

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : عَجِبتُ للبخيل يستعجل الفقرَ الذي منه هَرَب ، ويفوته الغِنى الذي إيّاه طَلَب ، فيعيش في الدنيا عيشَ الفقراء ، ويُحاسَب في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النور : ٣٩.

٢ ـ المحاسن : ٥٨٦ / ح ٨٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٦٣ ، المحاسن : ٦٠١ / ح ١٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٦٦ / ح ٢.

٥ ـ معارج اليقين في أصول الدين : ٢٩٩ ، بحار الأنوار ٦٩ : ٤٧ / ح ٥٨ ـ عن : جامع الأخبار للسبزواريّ : ٢٩٩ / ح ٨١٦.

٦ ـ آل عمران : ١٨٠.

٧ ـ جامع السعادات ٢ : ١١٠ ، وجاء مضمونه في : تاريخ بغداد ٤ : ٣٦٠.


الآخرة حسباَ الأغنياء (١).

وعن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام قال : إنّي لَأَسْتَحْيِي مِن ربّي أن أرى الأخ من إخواني فأسأل اللهَ له الجنّة وأبخل عليه بالدينار والدرهم ، فإذا كان يومُ القيامة قيل لي : لو كانت الجنّةُ لك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : إيّاكم والشحّ ، فإنّه أهلَكَ مَن كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : جاهلٌ سخيّ أحبُّ إلى الله من عابد بخيل ، وأدوى الداء البخل (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : الثلاث المهلكات : شُحٌّ مُطاع ، وهوىً مُتّبَع ، وإعجابُ المرء بنفسه (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : خصلتان لا تجتمعان في مسلم : البخل وسوء الخلق (٦).

وعنه صلّى الله عليه وعلى أهل بيته : لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً (٧).

وقال صلى الله عليه وآله : يحلف الله بعزّته وعظمته وجلاله أن لا يَدخلَ الجنّةَ شحيحٌ ولا بخيل (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٦ ، خصائص الأئمّة للرضيّ : ١٠٠.

٢ ـ مصادقة الإخوان : ٤٢ / ح ١ ـ الباب ٢٥ ـ عنه : في وسائل الشيعة ١٦ : ٣٨٧ / ح ١.

٣ ـ مسند أحمد ٣ : ٣٢٣ ، صحيح مسلم ٨ : ١٨.

٤ ـ الكامل لابن عَدِيّ ٣ : ٤٠٣.

٥ ـ الخصال : ٨٤ / ح ١١ ، المجازات النبويّة : ١٩٦.

٦ ـ نفسه : ٧٥ / ح ١١٧.

٧ ـ كنز العمّال ٣ : ٤٥٤ / خ ٧٤١٥.

٨ ـ نفسه ٣ : ٤٥٢ / خ ٧٤٠٧.


وقال صلى الله عليه وآله : ما من صباح إلّا وقد وكّل الله تعالى ملكين يناديان : اللهمّ اجعل لكلّ مُمسكٍ تَلَفاً ، ولكلّ منفقٍ خَلَفاً (١).

وأختم هذا البحث بهذه الرواية الرائعة : روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله كان يطوف بالبيت ، فإذا رجل متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول : اللهمّ بحرمة هذا البيت إلّا غفرتَ لي ذنبي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وما ذنبك ، صِفْه لي؟ قال : هو أعظم من أن أصفه لك.

قال : ويحك ، ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : ويحك ، ذنبك أعظم أم الجبال؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : فذنبك أعظم أم البحار؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : فذنبك أعظم أم السماوات؟ قال : بل ذنبي يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله : ذنبك أعظم أم العرش؟ قال : بل الله أعظم وأعلى وأجلّ.

قال صلى الله عليه وآله : ويحك! فصِفْ لي ذنبك؟ قال : يا رسول الله إنّي رجل ذو ثروة من المال ، وإنّ السائل ليأتيني ليسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من النار.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إليك عنّي ، لا تُحرقْني بنارك ، فوالذي بعثني بالهداية والكرامة ، لو قمتَ بين الركن والمقام ، ثمَّ صليتَ ألفَي ألف عام ، وبكيتَ حتى تجريَ من دموعك الأنهار ، وتسقيَ بها الأشجار ، ثم متّ وأنت لئيم ، لأكبّك الله في ال نار ، ويحك أما علمتَ أنَّ الله يقول : (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) (٢) ، (وَمَن يُوقَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٢ : ١١٢.

٢ ـ محمّد صلى الله عليه وآله : ٣٨.


شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحشر : ٩.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ١١١ ـ ١١٢.


المبحث الرابع عشر : في القرض

القرض : ما تعطيه لغيرك من المال بشرط أن يعيده إليك بعد أجَلٍ معلوم ، قال سبحانه وتعالى : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (١) ، وقال سبحانه : (إِن تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (٢).

ومراد الآية بإقراض المال لله سبحانه هو الحث والترغيب على الإنفاق في سبيله تعالى.

وقد ورد في الآثار لمّا نزل قوله تعالى : ، جاء أبو الدحداح إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا ، وإنّ لي أرضَين ، أحدهما بالعالية والأخرى بالسافلة ، وإنّي قد جعلت خيرها صدقة ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله يقول : كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنّة (٣).

عن الإمام الصادق عليه السلام : لمّا أُنزِلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وآله : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٤٥.

٢ ـ التغابن : ١٧.

٣ ـ تفسير عبد الرزاق الصنعانيّ ١ / ٩٨ ، جامع البيان ٢ : ٨٠٣ / ح ٤٣٧٩.


فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا) (١) ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ زِدْني ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (٢) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اَللّهمّ زِدْني ، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (٣) ، فَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّ الكثير من الله عزّ وجلّ لا يُحصى ، وليس له منتهى (٤).

يقول سماحة السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره في «مهذّب الأحكام» : القرض هو تمليك مال لآخر بالضمان ، والقرض من العقود الدائرة بين الناس في كلِّ عصر وزمان وكلّ مذهب ومكان ، حدّده الشارع بحدود خاصّة ، كما هو دأبه في جميع العقود المتعارفة بين الناس (٥).

والاقتراض إن كان من غير حاجة مكروه ، عن الإمام عليّ عليه السلام : إيّاكم والدَّينَ فإنّه مذلّة بالنهار ، ومَهمّة بالليل ، وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة (٦).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : الدَّين راية الله تعالى في الأرض ، فإذا أراد أن يُذلّ عبداً وضعه في عنقه (٧).

أمّا إقراض المؤمن فمندوب إليه عقلاً وشرعاً ، قال الإمام الصادق عليه السلام : القرض الواحد بثمانية عشر ، وإن مات احتُسب بها من الزكاة (٨). وعنه عليه السلام : مكتوب على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصص : ٨٤.

٢ ـ الأنعام : ١٦٠.

٣ ـ البقرة : ٢٤٥.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٩٨ / ح ٥٤.

٥ ـ مهذّب الأحكام ٢١ : ٣٦ فما بعدها.

٦ ـ الكافي ٥ : ٩٥ / ح ١١.

٧ ـ علل الشرائع : ٥٢٩ / ح ١٠.

٨ ـ ثواب الأعمال : ١٣٨.


باب الجنّة : الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر (١).

وفي تفسير هذين الحديثين نرى كيف يكون القرض ثمانية عشر ، فلو أقرض أحدهم غيره درهماً ، كان له ما يساوي عشرة دراهم عند الله ، فحيث إنّ الدرهم القرض يُسترجَع فيبقى له تسعة دراهم كذخيرة أخرويّة ، وحيثما كان القرض موجوداً عند المقترض ، فله تسعة دراهم أخرى كذلك ، فيكون بعد ضمّ الذخيرتين إلى بعضهما ثمانية عشر.

فالمقرض يستفيد تسعة من الثواب بالإقراض ، وتسعة أخرى بثواب بقاء القرض عند المقترض.

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به مَيسورَه ، كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتّى يُؤدّيَه إليه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله : من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزنُ جبلِ أُحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، فإنْ رفق به في طلبه يعبر به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب. ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يُقْرضه ، حرّم الله عليه أجرَ المحسنين (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : من كشف عن مسلك كربةً من كُرب الدنيا كشف الله عنه كربة يوم القيامة ، والله في عون العبد ما كان العبد في حاجة أخيه (٤).

وورد في إنظار المُعسِر أحاديثُ كثيرة نذكر منها : قولَ النبيّ صلى الله عليه وآله : من أراد أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٤ : ٣٣ / ح ١ ـ باب القرض.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٣٨.

٣ ـ نفسه : ٢٨٩.

٤ ـ شرح الأزهار ٣ : ١٧٢ ، المجموع للنوويّ ١٣ : ١٦٢.


يُظلّه الله يومَ لا ظِلَّ إلّا ظلًّه ، (قالها ثلاثاً فهابَهُ الناسُ أن يسألوه ، فقال) فَلْيُنظِرْ مُعسراً ، أو لِيدَع له من حقّه (١).

وعن الإمام الباقر عليه السلام : يُبعَث يومَ القيامة قومٌ تحت ظلّ العرش ووجوههم من نور ... إلى أن قال عليه السلام : فينادي منادٍ : ... هؤلاء قوم كانوا يُييسّرون على المؤمنين ، ويُنظرون المعسر حتّى ييسر (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر ذات يوم فحَمِد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه صلّى الله عليهم ، ثمّ قال : أيّها الناس ، ليبلّغِ الشاهدُ منكم الغائب ، ألا ومَن أنظر معسراً كان له على الله عزّ وجلّ في كلّ يوم صدقةٌ بِمِثل ماله حتّى يَستوفيَه. إلى أن قال الإمام الصادق عليه السلام : فتصدّقوا عليه بمالكم ، فهو خير لكم (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٤ : ٣٥ / ح ١ ـ باب إنظار المعسر.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٤٥.

٣ ـ الكافي ٤ : ٣٥ ـ ٣٦ / ح ٤ ـ باب إنظار المعسر.


المبحث الخامس عشر : في الشفاعة

قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي أناديهِ كُلَّما شِئتُ لِحاجَتي ، وُاُخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسِرّي بِغَيْرِ شَفيع فَيَقْضي لي حاجَتي.

النداء : رفع الصوت وظهوره ، ويقال ذلك للصوت المجرّد.

ويقال : صوت نَدِيٌّ رفيع ، واستعارة النداء للصوت من حيث أنَّ مَن يَكْثُر رطوبةُ فمه حَسُن كلامه ، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الرِّيق.

والإسرار : خلاف الإعلان ، قال تعالى : (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) (١) ، وقال تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (٢) ، وقال سبحانه وتعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (٣).

والسرّ هو الحديث المُكْتَم في النفس ، قال الله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (٤) ، وقال تعالى : (أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) (٥). هذا ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٢٢.

٢ ـ التغابن : ٤.

٣ ـ المُلك : ١٣.

٤ ـ طه : ٧.

٥ ـ التوبة : ٧٨.

٦ ـ مفردات غريب القرآن : ٤٨٧ ، ٢٢٨.


الداعي عليه السلام يحمد الله تعالى ويثني عليه حيث إنّه فتح أبوابه لكلّ داعٍ بالسرّ والعلانيّة طالباً قضاء حاجته. لقد وضعت الملوك والسلاطين الحُجّابَ والحرّاس على أبوابها ، واشترطوا حصول الإذن منهم لمن أراد أن يدخل عليهم ، لكنّ الله سبحانه فتح الأبواب على مصاريعها للداعين والسائلين في كلّ وقت من دون مراجعة حاجب ولا إتيانٍ بشفيع.

الشَّفْع : ضمُّ الشيء إلى مثله ، ويقال للمشفوع : شفعٌ ، وفي كتاب الله قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (١).

والوَتْرُ : هو الله من حيث أنّ له الوحدة من كلّ وجه.

والشفاعة : الانضمام إلى آخَر ناصراً له وسائلاً عنه ، وأكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى ، ومنه الشفاعة في القيامة.

قال تعالى : (لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا) (٢) ، هذا ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (٣).

إنّ مسألة الشفاعة من أكثر مواضيع علم الكلام تعقيداً وإشكالاً بين علماء الفنّ وأرباب الصناعة على اختلاف مذاهبهم ، والذي أتصوّره أنَّ المسألة ـ بعد طرح العصبيات ، ونبذ الخلافات المذهبيّة ـ هي من أوضح المباحث التي لا تحتاج إلى مثل هذه التشعّبات والفرضيّات والنقاشات ، فهذه المسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، نكاد نلمسها كلّ يوم في معاملات العُرف وعالم الاجتماع ، ناهيك عن جريانها بشكل أوضح في السنن التكوينيّة والقضايا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفجر : ٣.

٢ ـ مريم : ٨٧.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ٢٦٣.


الطبيعيّة.

فنحن نرى مسألة الشفاعة التي هي نوع من الوساطة جارية في أبناء المجتمع الواحد ، وفي صالات المحاكم ومجالات الإصلاح بين المتخالفين ، وفي مرافق الدولة ، بل كانت الأمم الماضية والملل الوثنيّة تعتقد أنَّ لبعض المخلوقات نحوَ شفاعةٍ إلى الله ، فكانوا يعبدونها ويتقربون إليها بالنذور والذبائح لتقرّبهم إلى الله زلفى.

قال تعالى على لسانهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ) (١).

إذن ، هذه المعبودات في نظرهم أسبابٌ تتوسّط بينهم وبين الله سبحانه ، وقد سفّه القرآن هذه الآراء الفاسدة ، وطالبهم بالرجوع إلى المعارف الحقّة.

لدينا في موضوع الشفاعة ثلاثة عناصر :

١ ـ المشفوع عنده ، وهو الله سبحانه.

٢ ـ الشفيع ، وهو الوسيط بين الله والعبد.

٣ ـ المشفوع له ، وهو صاحب الحاجة المراد قضاؤها عند المشفوع عنده.

وهناك مسألتان مهمّتان تساعداننا على مواصلة الخوض في مبحث الشفاعة ، هما :

أ. أنّ الشفاعة لله وحده على نحو الأصالة والاستقلاليّة ، وهي من فروع المالكيّة والحاكميّة الإلهيّة المطلقة التي لا يشارك اللهَ فيها أحد.

ب. أنّ الشفاعة لغيره سبحانه : بالتمكين ، والامتداد ، والتبعيّة ، والإذن ، والارتضاء. وما نقوله في الشفاعة هو نفس ما نقوله في مسائل كثيرة : كالخلق ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزمر : ٣.


والتوفّي ، والرزق ، والمُلك ، والعلم بالغيب ، فهذه الامور لله وحده بالأصالة ، وإذا نسبت لغيره فعلى نحو التمكين والإذن.

فعندما نرى أنّ هناك آيات كثيرة تنفي الشفاعة ظاهراً ، فإنّما أُريد منها نفي الشفاعة بالاستقلال والأصالة عن مخلوقات الله سبحانه : (يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (١) ، (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (٢) ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) (٣).

وهناك آيات بيّنات تثبت مسألة الشفاعة لله وحده ، وقلنا : هي لله وحده على نحو الأًالة والاستقلاليّة :

قال تعالى : (لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (٤) ، وقال تعالى : (قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٥).

ثمّ تجيء آيات مباركات لتثبت الشفاعة لغير الله ، وهذه الشفاعة لا تكون إلّا بالإذن الإلهيّ والارتضاء الإلهيّ ، قال تعالى : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٦) ، وقال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (٧) ، وقال سبحانه : (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٨) ، وقال تعالى :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٥٤.

٢ ـ الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

٣ ـ البقرة : ٤٨.

٤ ـ الأنعام : ٥١.

٥ ـ الزمر : ٤٤.

٦ ـ الأنبياء : ٢٨.

٧ ـ طه : ١٠٩.

٨ ـ سبأ : ٢٣.


(وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ) (١).

ولابدّ لنا من وقفة عند مصطلحَينِ لتيسير مبحث الشفاعة :

١. الشفاعة التكوينيّة : والمراد بها توسّط العلل والأسباب والقوانين بين الله سبحانه وبين المسبَّبات في قضايا تدبير الأمور الحياتيّة ، وتنظيم أمر الوجود والبقاء. وإنّ هذه الأسباب والعلل والمؤثّرات تنتهي إليه سبحانه من حيث كونه المالك والموجد لكلّ مخلوق ، وهذه الأسباب لها دور الوساطة في نشر أسباب الرحمة ونزول النعم إلى الخلائق ، فنزول المطر ، وخروج الزرع من التراب ، وخلق الإنسان والحيوان وغيرها ، كلّ هذا يجري وفق السنن والأسباب والقوانين التي لها دور الشفاعة بين الله ومخلوقاته.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٣).

وقال عزّ شأنه : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٢٦.

٢ ـ الأعراف : ٥٧.

٣ ـ النحل : ٥ ـ ٦.


وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١).

يتلخّص من هذا أنّ الله سبحانه هو على الوجود الحقيقيّة ، وهو مسبّب العلل والأسباب ، وهي بدورها تقوم بدور الوساطة بين الله وبين المعلولات ولكن من دون استقلال.

الله ـ العلل والأسباب ـ المعلولات والمسبَّبات.

وهذه العلل والأسباب لا تؤثّر أثرها إلّا بإذن الله ، ونظام العلّيّة الذي يحكم الوجود من مصاديق الشفاعة التكوينيّة.

٢ ـ الشفاعة التشريعية : لقد حصر الله سبحانه مسألة الشتريع به وحده ، من باب الحاكميّة المطلقة ، التي هي فرع من فروع المالكيّة المطلقة ، ولمّا كان الحكم التكوينيّ الذي يسود عالم الموجودات والمخلوقات مختصّاً به وحده سبحانه كان لابدّ أن تكون الأحكام من الوجهة التشريعية كذلك ، لأنّ خالق الإنسان أعلم بما يُصلح الإنسان ، وبما يهيّئ له أسباب السعادة الحقيقيّة.

فقد أرسل الله الأنبياء والرسل مُبَشِّرين ومُنذِرين ، وجاؤوا بالمناهج والتشريعات التي تساير فطرة الإنسان الذي هو جزء من فطرة الكون ، وقد أمر الله سبحانه الإنسان بالالتزام بأوامره ونواهيه ، ووعد المطيع بالثواب ، وأوعد العاصي بالعقاب ، وحذّر العباد من الزيغ والإعراض عن شرائعه ومناهجه ، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ١٠ ـ ١٦.


ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) (١).

يتلخّص ممّا ذكرناه أنَّ الإنسان يستعين بالأسباب الطبيعيّة لدفع الشرّ ، واستجلاب الخير ، ورفع الجوع والعطش ، والوقاية من البرد والمرض وغيرها من الكوارث والنوازل التي تحلّ به ، لكنّه في مجال التشريع باعتباره مكلّفاً مختاراً فهو مأمور بالالتزام والتطبيق للأوامر الإلهيّة ، والانتهاء عمّا نهى الله سبحانه.

ولو اختصرنا مفهوم الشفاعة وقلنا : بأنّها التوسّط في إيصال نفع أو دفع ضرر ، فإنّ الإنسان المكلّف شرعاً قد ينحرف عن جادّة الشرع في بعض المجالات ، ويقصّر في بعض التكاليف العباديّة ، وربّما تصدر منه المعاصي جرياً وراء الشهوات ، وسُعار النزوات ، وانقياداً للأهواء والمغريات ، فيكون بحاجة إلى شفيع ووسيط إلى الله ليسدّ نقصه ، ويُتمَّ الأسباب التي تقوده إلى الفوز برضى الله سبحانه.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات :

١ ـ إنّ مسألة الشفاعة ممّا ثبت أصله كتاباً وسنّةً ، وعقلاً وعرفاً.

٢ ـ إنّ الشفاعة تحتاج إلى استعدادات خاصّة ، ولياقة للتلبّس بالكمال المعنويّ في نفس المشفوع له ، فالشفاعة إنّما شُرّعت لسدّ النقص وتتميم الأسباب ، فهي لا تشمل الملحد والكافر والمفسد في الأرض ، فإنّ المدرّس قد يرفع الطالب المحتاج إلى درجة أو درجتين لينجح مثلاً مراعياً بعض الأسباب الوجيهة ، لكنّ الطالب الذي لم يلتحق بالدراسة لذلك العام ، أو الذي لم يؤدّ الامتحان أصلاً فلا شفاعة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.


٣ ـ إنّ الشفاعة لا تُبطل مولويّة الله باعتباره المالك والحاكم المطلق ، ولا تبطل عبوديّة العبد ، ولا تعني نسخ الأحكام المولويّة ولا إبطال القوانين الإلهيّة في مسألة المجازاة.

٤ ـ إنّ الشفيع يتقدّم إلى الله سبحانه راجياً لطفه وكرمه الأزليّ للعفو عن عبدٍ حقير ، ذليل ، مسكين مستكين ، ضعيف لا يملك لنفسه حولاً ولا قوّة ، وقد قامت عليه الحجّة البالغة ، واستحقّ العقاب بسوء عمله وتقصيره. وقد قيل : إنّ إخلاف الوعد من القبيح ، لكنّ إخلاف الوعيد من الحسَن عقلاً (١).

٥ ـ إنّ الشفيع الذي يرتضي اللهُ شفاعته ويأذن له بها لابدّ أن يكون ذا مكانة وزلفى عند الله سبحانه ، وهذه المنزلة والمؤهّلات هي من باب التكريم له أخرويّاً ، فهو يتقدّم بإذن الله ليستعمل كرامته ومكانته وقربه من الله لتخليص بعض المقصّرين وإنقاذهم من العذاب.

والشفاعة التشريعيّة تجري وفق هذا التسلسل : الله ، ثمّ الشفيع ، ثمّ المشفوع له.

٦ ـ إنّ مسألة الشفاعة مفهوم صادق من مصاديق نظام العلّيّة والسببيّة الجاري في أرجاء ومفاصل الكون والوجود ، سواء التكوينيّة أو التشريعيّة.

٧ ـ إنّ الشفاعة من موارد رحمة الله وفضله وتجاوزه ، ولكنّها غير مضمونة لكلّ واحد من المذنبين والعصاة ، ولا تسع جميع المعاصي والجرائم ، وبهذا نقول : إنّ الشفاعة ليست من الوسائل التي تبعث الإنسان على المعصية والتجرؤ على هتك محارم الله جلّ وعلا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ذكر ذلك العينيّ في «عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ١ : ٢٢١» ، والشنقيطيّ في «أضواء البيان ٧ : ٤٢٥».


والذي يظهر من الروايات الشريفة أنّها لا تسع أهوال النزع والاحتضار ، ولا أهوال القبر وعذاب البرزخ ، بل هي مدّخرة لآخر مواقف القيامة بالمنع من دخول النار ، أو استنقاذ من دخلها. أمّا ما ورد من حضور النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام حين النزع وعند المساءلة في القبر (١) ، فهو من المواهب الإلهيّة والتصرّفات المأذون بها من الله على نحو الحكومة ، وليس من الشفاعة في شيء. ولكن هنالك أعمال تخفّف من ضغطة القبر وأهواله.

٨ ـ إنّ تشريع الشفاعة يُعتبر فتحاً لباب الأمل والرجاء للعودة إلى صراط الله المستقيم بقلب منفتح ملؤه الرجاء ، ويطرد شبح اليأس من نفوس المذنبين.

٩ ـ إنّ الإنسان الذي يفد على ربّه تائباً من ذنبه توبة نصوحاً وشروطها ، فإنّ شفاعته هي توبته. وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : لا شفيعَ أنجحُ مِن التوبة (٢).

١٠ ـ إنّ الصفات التي تهدم أصل الديانة وأركانها غير مشمولة بالشفاعة ، قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣).

١١ ـ إنّ الصغائر معفوّ ومكفّر عنها ـ بشرط اجتناب الكبائر ـ تفضّلاً من الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من أراد المزيد فليراجع كتاب «المحتضر» للحسن بن سليمان الحلّي «من أعلام القرن الثامن» ، وقد حُقّق الكتاب من قِبل السيّد على أشرف وطُبع من قبل المكتبة الحيدريّة سنة ١٤٢٤ هجريّة.

٢ ـ الكافي ٨ : ١٩ / ح ٤ «من خطبة الوسيلة» ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٤ / ح ٤٩٦٥.

٣ ـ المدّثر : ٣٨ ـ ٤٨.


سبحانه ، قال تعالى : (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (١).

ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الشفاعة إنّما هي لأهل الكبائر من المؤمنين ، وقد ورد في الحديث الصحيح ، إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل (٢).

١٢ ـ الشفعاء من الوجهة التكوينيّة هم الأسباب المتوسطة بين الله والعباد ، مثل : المطر والضوء والحرارة والرياح وغيرها : أمّا من الوجهة التشريعيّة فالذي نقرؤه من ظاهر الآيات والروايات هم : الله سبحانه ، وهو الشفيع الأوّل والأكبر ، وشفاعته سبحانه بالأصالة والاستقلال ، والرسل والأنبياء لاسيّما خاتمهم وسيّدهم محمّد صلى الله عليه وآله ، وكذلك أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والعلماء شفعاء ، والملائكة شفعاء ، والشهداء شفعاء ، والمؤمنون شفعاء بعضهم لبعض ، والقرآن شفيع لقارئه ، والتوبة شفيع ، حتى أنّ السُّقط شفيع لوالديه (٣) ، وهذه الشفاعة إنّما تكون بالإذن والارتضاء.

وسنرى ذلك من خلال الروايات التي نوردها في ختام هذا المبحث.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من لم يؤمن بحوضي ، فلا أورده الله حوضي ، ومن لم يؤمن بشفاعتي ، فلا أناله الله شفاعتي. ثمّ قال : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٣١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ، التوحيد : ٤٠٧ / ح ٦.

٣ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : تَزوّدوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأممَ غداُ في القيامة ، حتّى أنّ السقط لَيجيءُ مُحْبَنْطِياً على باب الجنّة ، فيقال له : أدخُلِ الجنّة ، فيقول : لا ، حتّى يَدخُل أبَوايَ قَبلي [معاني الأخبار : ٢٩١].

٤ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٣٦ / ح ٣٥.


وعن سُماعة بن مِهران عن أبي إبراهيم «الكاظم عليه السلام في قول الله سبحانه وتعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (١) ، قال : يقوم الناس يوم القيامة مقدارَ أربعين عاماً ، وتُؤمر الشمس فتركب على رؤوس العباد ويلجمهم العرق ، وتُؤمر الأرض لا تقبل عن عَرَقهم شيئاً ، فيأتون آدم عليه السلام فيستشفعون منه فيدلّهم على نوح ، ويدلّهم نوحٌ على إبراهيم ، ويدلّهم إبراهيم على موسى ، ويدلّهم موسى على عيسى ، ويدلّهم عيسى على محمّد صلى الله عليه وآله فيقول : عليكم بمحمّد خاتم النبيّين.

فيقول محمّد صلى الله عليه وآله : أنا لها. فينطلق صلى الله عليه وآله حتّى يأتي باب الجنّة فيدقّ ، فيقال له : من هذا؟ والله أعلم ، فيقول : محمّد ، فيقال : افتحوا له ، فإذا فُتح الباب ، استقبل ربَّه فخرّ ساجداً ، فلا يرفع رأسه حتى يقال له : تكلّم ، وسَلْ تُعطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فيرفع صلى الله عليه وآله رأسه فيستقبل ربّه فيخرّ ساجداً ، فيقال له مثلها ، فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع لمن قد أُحرق بالنار ، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجهُ من محمّد صلى الله عليه وآله ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (٢).

وورد عنهم عليهم السلام في قوله تعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) قالوا : هي الشفاعة (٣).

وعن عبيد الله بن زرارة قال : سُئل أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال : نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يومئذٍ؟ قال : نعم ، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً ، وما من أحد إلّا ويحتاج إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يومئذ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ٧٩.

٢ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٥ / ح ١٥١ ـ عنه : بحار الأنوار ٨ : ٤٨ / ح ٥٠.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٤٨ ـ عنه : بحار الأنوار ٨ : ٤٨ / ح ٤٩.


وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا سيّد وُلد آدم ولا فخر. قال : نعم ، يأخذ حلقة باب الجنّة فيفتحها فيخرّ ساجداً ، فيقول الله : إرفع رأسك ، إشفَعْ تُشفَّع ، أُطلبْ تُعط. فيرفع رأسه ثمّ يخرّ ساجداً ، فيقول الله : ارفع رأسك ، إشفَعْ تُشفَّع ، واطب تُعط. ثمَّ يرفع رأسه فيشفع فيُشفّع ، ويطلب فيُعطى (١).

وعن حرب بن شريح البصريّ قال : قلت لمحمّد بن عليّ «الباقر عليهما السلام : أيُّ آية في كتاب الله أرجى؟ قال عليه السلام : ما يقول فيها قومك؟ قلت : يقولون : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ) (٢) ، قال عليه السلام : لكنّنا أهلَ بيت لا نقول ذلك. قال : قلت : فأيُّ شيءٍ تقولون فيها؟ قال عليه السلام : نقول : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) ، الشفاعة واللهِ الشفاعة ، واللهِ الشفاعة (٣).

وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبي أيمن : ويحك يا أبا أيمن ، أَغَرَّكَ أن عَفَّ بعطنُك وفرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيامة ، لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله ، ويلك ، فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النار؟! ثمّ قال عليه السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يوم القيامة.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : إنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعةَ في أمّته ، ولنا شفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم. ثمّ قال عليه السلام : إنّ المؤمن ليشفع في مِثل ربيعةَ ومُضر ، وإنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه ويقول : يا ربّ ، حقّ خدمتي ، كان يقيني الحرّ والبرد (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٥٠.

٢ ـ الزمر : ٥٣.

٣ ـ تفسير فرات الكوفيّ : ٥٧٠ / ح ٧٣٤ ، والآية في سورة الضحى : ٥.

٤ ـ تفسير القمّيّ : ٢ : ٢٠٢.


وفي «الأمالي» عن الصادق عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نَشَرَ الله رحمته ، حتّى يطمعَ إبليس في رحمته! (١)

نسأل الله تعالى أن يرزقنا رحمتَه وشفاعة نبيّه الأعظم ، وشفاعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للصدوق : ١٧١ / ح ٢ ـ المجلس ٣٧.


المبحث السادس عشر : بين الخوف والرجاء

قال عليه السلام : اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي أدعوه ولا اَدْعُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ دَعَوْعتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي أرجوه ولا اَرْجُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لأَخْلَف رَجائي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي وَكَلَني اِلَيْهِ فَاَكْرَمَني ، وَلَمْ يَكِلْني اِلَى النّاسِ فَيُهينُوني.

يتوجّه عليه السلام إلى الله سبحانه بالحمد ، معترفاً أن لا أحدَ غيرُه له الأهليّة والقدرة على إجابة دعائه ، ولو رجا غيره سبحانه لأخلف ذلك المرجوُّ رجاءَ مَن يرجوه. هذا هو لسان حال كلّ مخلوق أُوتي البصيرة في دينه ، وكانت له نظرة واعية ، فاحصة دقيقة في الكون والحياة.

ولقد ندب الله سبحانه العبد إلى الدعاء ، وجعل ذلك باباً من أهم أبواب العبادة التي هي بعدد أنفاس الخلائق على ما ورد في لسان الروايات المأثورة ، وجعل سبحانه وتعالى شروطاً وآداباً للاستجابة كما ذكرنا في مبحث الدعاء.

وقلنا : إنّ من أهم شروط الاستجابة التوجّه إلى الله بقلب ملؤه الإخلاص ، والرغبة والرهبة ، والتضرّع والخُفْية ، والخوف والطمع والإلحاح ، وبالتزام آداب المقام والحضور في ساحة القداسة الإلهيّة. وقد وردت آيات كثيرة تندب إلى ما ذكرناه :


قال تعالى : (فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ، وقال سبحانه : (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

وقال عز شأنه : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (٣) ، وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٤).

إنّ الله يأمرنا بالتوجّه الخالص إليه مباشرة ، ولتكن قلوبنا ونفوسنا متعلّقةً به ، طالبة الاستعانة منه وحده لا بالأسباب الظاهرية. ونحن لا نريد أن نلغي أثر الأسباب ، فقد أبى الله أن يُجريَ الأمور إلّا بأسبابها ، ولكن نقول : إنّ سببيّة الأسباب ليس لها استقلاليّة عن الله ، ولا تأثير لها من دون الإذن الإلهيّ ونفوذ الإرادة الإلهيّة ، فلو أراد الإنسان أن يرزقه الله الذرّية ، فعليه أن يقوم بالاقتران بامرأة ، ثمّ تتحكّم الأسباب والسنن في إيجاد الطفل ، ولكن كلّ ذلك يجري بأمر الله ومشيئته تبارك وتعالى.

وقد تكون الأسباب نفسها أسباباً لغيرها ، وقد يكون ذلك الغير سبباً لغيره ، وهكذا تقع الأسباب في تسلسل طُوليّ وفق الخطّ الذي رسمه مسبّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى.

عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وآله : أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه : وعزّتي وجلالي ، لَأقْطَعَنَّ أمل كلِّ مؤمِّلٍ غيري بالإياس ، ولَأكسوَنّه ثوب المذلّة في الناس ، ولَأُبعدنّه من فَرَجي وفضلي. أيأمل عبدي في الشدائد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ١٤.

٢ ـ الأعراف : ٥٦.

٣ ـ الأنبياء : ٩٠.

٤ ـ الأعراف : ٥٥.


غيري والشدائد بيدي؟! ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد ، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟! (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قيل له : إنّ قوماً من مواليك يُلمّون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فقال عليه السلام : كَذِبوا ، ليسوا لنا بموالي ، أولئك قوم ترجّحت بهم الأمانيّ ، من رجا شيئاً عمل له ، ومن خاف مِن شيءٍ هرب منه (٢).

وقال عليه السلام : لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو (٣).

ودخل عليه السلام يوماً على رجل وهو في النزع ، فسأله : كيف تجدك؟ قال : أخاف ذنوبي ، وأرجو رحمة ربّي ، فقال عليه السلام : ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلّا أعطاه الله ما رجا ، وآمنه ممّا يخاف (٤).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال تبارك وتعالى : لا يَتّكلِ العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصّرين غيرَ بالغين في عبادتهم كُنْهَ عبادتي ، فيما يطلبون عندي من كرامتي ، والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فَلْيَثقوا ، وفضلي فَلْيَرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فَلْيطمئنّوا ، فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم ، ومنّي يبلغهم رضواني ، ومغفرتي تُلبِسُهم عفوي ؛ فإنّي أنا الله الرحمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٥١٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٨ ـ ٦٩ / ح ٦ ـ باب الخوف والرجاء.

٣ ـ نفسه ٢ : ٧١ / ح ١١.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ١٠ : ١٥٥.


الرحيم ، وبذلك سُمّيت (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله ورد قوله : قال الله سبحانه : ما من عبدٍ مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعتُ أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه ، فإن سأَلَني لم أُعطِه ، وإن دعاني لم أَجِبْه. وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه ، فإن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وإن استغفرني غفرت له (٢).

ولكنّ ديدن الإنسان أن يتوجّه إلى الله عند الشدّة ونزول الضرّ ، وعند الوقوع في الخطر. وحين يطارده شبح الهلع والخوف ينزل عن مطيّة الهوى ومركب الطغيان ، فعندها يتوجّه ويُقْبل على ربّه بكلّ وجوده ومشاعره ، ولكنّه بعد كشف ضرّه وبلائه يعود إلى عالمه الأوّل : عالم الغفلة والشهوة والتعلّق بالأسباب الوهميّة ، والغرور والاستغناء!

والتوجّه إلى الله بقلب ملؤه الخوف والرجاء من الأبواب والمنافذ المطلّة على ساحة القدس التي منها تطلع شموس الهداية الإلهيّة ، وتنزل شآبيب الرحمة والإجابة.

إنّ الرجاء هو حالة متوسّطة بين السكون والاطمئنان من جانب ، وبين الخوف والاضطراب من جانب آخر ، فالداعي يرجو الخير ممّن بيده الخير كلّه ، ويرجو دفع الضرّ وصرف البليّة ممّن بيده القدرة على إنزال ذلك ، فهذه الحالة النفسيّة باب من موجبات وشرائط استجابة الدعاء.

ويشهد لذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : والذي لا إلهَ إلّا هو ، ما أُعطي مؤمن قطُّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٧١ / ح ١ ـ باب حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ.

٢ ـ الأمالي للطوسي : ٥٨٥.


خيرَ الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه بالله ورجائه له ، وحُسن خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين (١).

وقول الإمام عليّ عليه السلام : خَفْ ربَّك خوفاً يشغلك عن رجائه ، وَارْجُهُ رجاء من لا يأمن خوفه (٢).

وقول لقمان عليه السلام في وصيّته لابنه : خَفِ الله خِيفةً لو جِئتَه بِبِرّ الثقلَين لعذّبك ، وارجُ اللهَ رجاءً لو جئتَه بذنوب الثقلين لرحِمك (٣).

وعن الإمام الباقر عليه السلام : ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران : نور خِيفة ، ونور رجاء ، لو وُزن هذا لم يَزِد على هذا ، ولو وزن هذا لم يزد على هذا (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما من مؤمن تخرج من عينيه دمعة ، وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله ، ثمّ تصيب شيئاً من حرّ وجهه إلّا حرّمه الله على النار (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : إذا اقشعرّ قلب المؤمن من خشية الله تَحاتَتْ عنه خطاياه كما تَتحاتُّ من الشجر ورقُها (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام لتلميذه إسحاق بن عمّار : يا إسحاق ، فَخَفِ الله كأنّك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت ، وان كنت تعلم أنّه يراك ثمّ استترتَ عن المخلوقين بالمعاصي وبرزتَ له بها فقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٧١ ـ ٧٢ / ح ٢.

٢ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٢٤١.

٣ ـ تحف العقول : ٣٧٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٧ / ح ١.

٥ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٤ ح ٤١٩٧.

٦ ـ بحار الأنوار ٦٧ : ٣٩٤ / ح ٦٤.


جعلتَه من حدِّ أهون الناظرين إليك (١).

وقال عليه السلام : مَن خاف اللهَ أخاف الله منه كلَّ شيء ، ومَن لم يَخَفِ اللهَ ، أخافه الله مِن كلّ شيء (٢).

وقال عليه السلام : مَن عَرَف اللهَ خاف الله ، ومن خاف الله سَخَت نفسه عن الدنيا (٣).

وروي أنّ داود عليه السلام كان يقول في مناجاته : سبحانك إلهي ، إذا ذكرتُ خطيئتي ضاقت عَلَيّ الأرض بِرَحبها ، وإذا ذكرتُ رحمتك ارتدّت إليّ روحي. إلهي أتيتُ أطبّاءَ عبادك ليداووا خطيئتي فكُلُّهم عليك يَدُلّني ، فبؤساً للقانطين من رحمتك (٤).

وروي أنّ النبيّ داود عليه السلام عوتب على كثرة بكائه فقال : دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء ، قبل تحريق العظام واشتعال الحشا ، وقبل أن يؤمر بي ملائكةٌ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون (٥). ثمَّ ينتقل الدعاء عن صفة التوكّل على الله في كلّ صغيرة وكبيرة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ١٤٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٨ / ح ٣.

٣ ـ نفسه ٢ : ٦٨ / ح ٤.

٤ ـ تفسير الثعلبيّ ٨ : ١٩٥ ، بحار الأنوار ١٤ : ٢٩.

٥ ـ التخويف من النار لابن رجب الحنبليّ : ٢٠٧.


المبحث السابع عشر : في التوكّل

التوكّل : أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك ، وحقيقة التوكّل الاستقلال بأمر الموكول إليه.

والوكيل في صفة الله تعالى أنّه الذي توكّل بالقيام بجميع ما خلق.

والمتوكّل على الله : الذي يعلم أنّ الله كافل رزقه وأمره ، فيركن إليه وحده ولا يتوَكّلُ على غيره.

والوكَلُ والوَكِلُ : البليد والجبان ، والعاجز الذي يَكِل أمره إلى غيره.

قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (١).

وقال سبحانه : (قُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٢).

وقد ورد مفهوم التوكّل في القرآن الكريم ، بالإضافة إلى ما ورد في السنة الشريفة فيما يقارب السبعين موضعاً ، وهذا ممّا يشير إلى أهمّية هذا الموضوع.

قال الشيخ النراقيّ قدس سره في «جامع السعادات» : التوكّل اعتماد القلب في جميع الأمور على الله ، وبعبارة اُخرى : حوالة العبد جميعَ أموره على الله ، وبعبارة أخرى : هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفرقان : ٥٨.

٢ ـ الزمر : ٣٨.


التبرّي من كلّ حول وقوّة ، والاعتماد على حول الله وقوّته ، وهو موقوف على أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّه لا فاعلَ إلّا الله ، وأنّه لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، وأنّ له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ، ثمّ تمام العطف والعناية والرحمة بجملة من العباد والآحاد ، وأنّه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ، ولا وراء منتهى علمه علم ، ولا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك اتّكل قلبه لا محالة على الله وحده ، ولم يلتفت إلى غيره ، ولا إلى نفسه أصلاً ، ومن لم يجد ذلك من نفسه فسببه : إمّا ضَعف اليقين ، أو ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه (١).

ويضيف رحمه الله قائلاً : موضوع التوكّل الذي هو من مراتب التوحيد أن تنكشف للعبد بإشراق نور الحقّ بأنّه لا فاعل إلّا هو ، وأنّ ما عداه من الأسباب والوسائط مسخّراتٌ مقهورات تحت قدرته الأزليّة ... (٢).

والتوكّل منزل من منازل السالكين ، ومقام من مقامات الموحّدين ، بل هو أفضل درجات الموقنين ، ولذا ورد الترغيب فيه في الكتاب والسنّة ، قال الله تعالى : (وَعَلَى اللَّـهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (٣).

وقال سبحانه : (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَإِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤) ، أي عزيز لا يُذِلُّ من استجار به ، ولا يضيّع مَن لاذ بجنابه ، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكّل على تدبيره. قال رسول الله صلى الله عليه وآله : مَنِ انقطع إلى الله كفاه الله مؤونتَه ، ورَزَقَه من حيث لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٢ ـ نفسه ٣ : ٢٢٠.

٣ ـ المائدة : ٢٣.

٤ ـ الأنفال : ٤٩.


يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها (١).

وعنه صلى الله عليه وآله : مَن سرّه أن يكون أغنى الناس ، فَلْيكن بما في يد الله أوثقَ منه مِمّا في يَدَيه (٢).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : أيّها الناس ، لا يشغلكم المضمون من الرزق عن المفروض عليكم من العمل ، والمتوكّل لا يَسْأَل ولا يَرُدّ ، ولا يمسك شيئاً خوف الفقر ، وينبغي لمن أراد سلوك طريق التوكّل أن يجعل نفسه بين يدي الله تعالى فيما يجري عليه من الأمور كالميّت بين يدي الغاسل يقلّبه كيف يشاء (٣).

وعنه عليه السلام أيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج ، فقال : يا ربّ ، أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الله عزّ وجلّ : ليس شيءٌ عندي أفضل من التوكّل علَيَّ والرضى بما قسمت (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خَلْقي ، عَرَفتُ ذلك من نيّته ، ثمّ تكيده السماوات والأرض ومَن فيهنّ إلّا جعلتُ له المخرج مِن بينهنّ. وما اعتصم أحد من عبادي بأحد من خلقي ، عَرَفتُ ذلك من نيّته ، إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه ، وأسَخْتُ الأرض من تحته ، ولم أُبالِ بأيّ وادٍ هلك (٥).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قرأ في بعض الكتب أنّ الله تبارك وتعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روضة الواعظين : ٤٢٦.

٢ ـ روضة الواعظين : ٤٢٦ ، جامع السعادات ٣ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٣ ـ من قوله : أن يجعل إلى آخره مذكور في تفسير الثعلبيّ ٣ : ١٩٣ وشرح نهج البلاغة ٢ : ٢٠٠ عن سهل بن عبد الله.

٤ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٢١ / ح ٦ ـ عن : إرشاد القلوب ١ : ١٩٩ ـ الباب ٥٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٦٣ ح ١ ـ باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه.


يقول : وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي ، لَأَقطعنّ أمل كلّ مؤمّلٍ [مِن الناس] غيري باليأس ، ولَأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس ، ولَأُنحّينّه من قربي ، ولَأُبعدنّه من فضلي ، أيُؤمّل غيري الشدائد والشدائد بيدي؟! ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري ، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟! فمن ذا الذي أمّلني لنوائبي فقطعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعتُ رجاءه منّي؟! جعلتُ آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي ، وملأتُ سماواتي ممّن لا يملّ تسبيحي ، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طَرَقته نائبةٌ من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلّا مِن بعد إذنبي؟! فما لي أراه لاهياً عنّي ، أعطيته بجودي ما لم يسألني ، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه وسأل غيري.

أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ أُسأل فلا أُجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخّلني عبدي؟! أَوَ ليس الجود والكرم لي ، أو ليس العفو والرحمة بيدي ، أو ليس أنا محلّ الآمال؟! فمن يقطعها دوني ، أفلا يخشى المؤمِّلون أن يؤمّلوا غيري؟! فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً ، ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من مُلكي مِثلُ عضو ذرّة ، وكيف ينقص مُلك أنا قيّمه ، فيما بؤساً للقانطين من رحمتي ، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني! (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو أنّكم تتوكّلون على الله حقَّ توكّله ، لَرَزقكم كما تُرزق الطيور ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً (٢).

وللتوكّل درجات ومراتب ، أعلاها أن يكون العبد بين يدي الله في حركاته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٦ ـ ٦٧ / ح ٧.

٢ ـ بحار الأنوار ٦٨ : ١٥١ / ح ٥١ ـ عن : جامع الأخبار : ٣٢١ / ح ٩٠٣ ـ الفصل ٧٣.


وسكناته مثل الميّت بين يدي غاسله يقلّبه كيفما شاء. وفي هذا ورد على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام عندما وُضع في المنجنيق ليُرمى به إلى النار ، فهبط جبرئيل عليه السلام عليه قائلاً : يا إبراهيم ، ألك حاجة؟ فقال عليه السلام : حَسْبي مِن الله علمُه بحالي (١).

ونعود من جديد لنؤكّد أنّ التوكّل لا يعني ترك العمل بسنّة الأسباب ، ولكن يكون العبد وثوقه بالله سبحانه ، بأنّه هو مسبّب الأسباب ، وأنّ الأسباب لا استقلاليّة لها ولا أثر إلّا بإذنه وإرادته عزّ شأنه ، وهي تجري في النواميس وجميع مفاصل الكون ومفردات الوجود وفق المصالح والحكم التي لا يعلمها غيره ، فقد ورد في الآثار الصحيحة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال لأعرابي أهمل ناقته بحجّة التوكّل على الله : إعقلْها وتوكّل (٢).

وقد أمر الله عبده موسى بن عمران عليه السلام بالتداوي بالعقاقير لنيل شفائه من علّته ، فحقيقة التوكّل قائمة على دعامتين مهمّتين :

١ ـ عدم الاعتماد ـ في مسألة التوكّل ـ على إلغاء الأسباب الظاهريّة والسنن التي يجري عليها نظام الكون وفق التقديرات الإلهيّة والمشيئة الربّانيّة.

٢ ـ توجيه الثقة والاعتماد على الله سبحانه الذي هو مسبّب الأسباب وأنّه يتولّى تدبير أمر عبده ، ويمنحه التوفيق والتسديد ، ويمنّ عليه بالكرامة والحرمة. وقد ورد في الآثار المعتبرة أنّ الله سبحانه أوحى إلى عبده داود عليه السلام : يا داود من دعاني أجبته ، ومن استغاثني أغثته ، ومن استنصرني نصرته ، ومن توكّل علَيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الثعلبيّ ٦ : ٢٨١.

٢ ـ سنن الترمذيّ ٤ : ٧٧ / ح ٢٦٣٦.


كفَيته ، فأنا كافي المتوكّلين ، وناصر المستنصرين ، وغياث المستغيثين ، ومجيب الداعين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المستطرف من كلّ فنّ مستظرف : ٣١٧.


المبحث الثامن عشر : في الحبّ الإلهيّ

قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي تَحَبَّبَ اِلَيَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنّي.

الحبّ : هو تعلّقٌ خاصّ وانجذاب مخصوص شعوريّ بين الإنسان وكماله (١) ، أمّا الحبّ الإلهيّ فهو الانشداد بين العبد ومولاه بما أدركه من عظمته وجلاله وجماله.

جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في دعاءٍ له عند حضور شهر رمضان : سيّدي أنا مِن حبّك جائع لا أشبع ، أنا من حبّك ظمآن لا أرتوي (٢).

والحبّ الإلهي درجات ومراحل :

١ ـ حبّ ضحل قليل.

٢ ـ حبّ كبير لا يترك فراغاً في القلب.

٣ ـ حبّ لا يرتوي العبد منه.

والحبّ تابع للإدراك ، فمن القضايا المحبوبة التي ينشدّ إليها الإنسان ما يكون إدراكها بالحواسّ الظاهرة : كالبصر والسمع والشمّ وغيرها ، فهو يحبّ المناظر الخلّابة ، والروائح الزكيّة ، والأطعمة اللذيذة ، والملابس الفاخرة. وهناك ما يدركه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١ : ٤١٠.

٢ ـ الإقبال ١ : ١٣٥ ، بحار الأنوار ٩٤ : ٣٣٨.


الإنسان بالحواسّ الباطنة : كحبّ الشهرة ، وحبّ التسلّط ، وحبّ التملّك ، والتخيّلات التي تلائم ذوقه ووجوده. وهناك ما تدركه القوى العاقلة من المحبوبات بشكل وراء الحسّ والمشاهدة : كإدراك المعاني الكلّيّة ، والحقائق المجرّدة ، فهو يحبّ العلم والعدل والكرم وغيرها من الصفات الكماليّة.

فتارة نرى أنّ الإنسان يحبّ نفسه ، وهذا أمر محسوس لكلّ ذي بصيرة ، وهذا الحبّ يتّسم بالعمق والانشداد الوثيق ، بل هو من أقوى مراتب الحبّ لموافقته وملاءمته لنفس الإنسان وقوامه ، وسبب ذلك أنّ المحبّ والمحبوب شيءٌ واحد ، وهذا الحبّ غريزيّ جُبل عليه الإنسان.

وحبّ الإنسان نفسَه هو تعلّقه بأسباب البقاء وديمومة الوجود ، وكذا في كراهيّته للموت ، وفي ذلك يرى الإنسان عين كماله لأنّ الكمال قائم بالوجود ، فإذا انتفى الوجود ، فمعنى انتفائه هو العدم ، وفيه مجمع النقائص ، والإنسان في مسيرته الحياتيّة يحاول أن يكون الأقوى والأكمل في وجوده ، ولمّا كان الإنسان عالماً ـ بل متيقّناً ـ من انتهاء وجوده وكماله بالعدم الأكبر والأتمّ وهو الموت ، فهو يحاول لوجوده امتداداً عن طريق التناسل والإنجاب ، فنراه يتزوّج وينجب ويجمع للذرّية ؛ لأنّه يرى فيهم استمرار بقائه.

وبعد التحقيق والتدقيق نرى أنّ ذلك الحبّ قائم على الخيال والأوهام ، وهو بعيد كلّ البعد عن الحقيقة ، لأنّ الإنسان لا وجود له بذاته ، بل هو ظلّ للوجود الإلهيّ الذي لا وجود لغيره بالأصالة. وإنّ كلّ الموجودات هي من الفيوضات والألطاف الإلهيّة ، فالكمال الذي يبغيه الإنسان هو من النفحات الربّانيّة.

فالإنسان قائم حدوثاً وبقاءً بالله سبحانه ، وهو الذي وصف نفسه بأنّه لا إله إلّا


هو الحيّ القيّوم. ولو لا هذه القيّوميّة لكان الإنسان من العدم المحض ، ومن هنا يكون حبّ الإنسان لنفسه حبّا لربّه ، رغم غفلة الإنسان عن ذلك.

وقد يكون حبّ الإنسان للّذة الموجودة في الطعام والشراب ، والنكاح واللباس ، وهذا الحبّ أضعف مراتب الحبّ لسهولة الحصول عليه ، وسرعة زواله ، وهل شيء من هذه اللذائذ إلّا من النعم الإلهيّة التي لا تُعدُّ ولا تحصى؟!

وقد يحبّ الإنسان غيره ، فيحبّ كلّ ذي يد عليه ، كالإحسان والكرم والعلم وغيرها ، وفي الواقع أنَّ الإنسان يحبّ هؤلاء لما أفاضوه عليه من نعم ، فحبّه لهم في الحقيقة هو حبّ لتلك النعم والأفضال لذواتهم ، وعندما نحكّم بصائرنا ، ونتمعّن في الحقائق ، ونتدبّر المقادير ، نرى أنَّ ذلك الحبّ هو لله جلّ وعلا ؛ لأنَّ تلك النعم من الله ، أفاضها سبحانه على من جاد بها وأحسن إلى غيره. ولو شاء الله أن يمنع تلك المواهب ، لما استطاع أحد أن يقدّم نفعاً لنفسه فضلاً عن غيره.

وقد يحبّ الإنسان بعض الوجودات والمعاني لاتّصافها بصفات الكمال رغم أنّه لا ينال منها شياً ، وهذا هو حبّ الشيء لذاته ، فهو يحبّ الحُسن والجمال والمعاني الكماليّة من : علم نافع ، وسيرة ذاتية حسنة ، ومواطنة صادقة ، وبطولة أو تضحية في سبيل المبادئ والقيم.

ونعود لنقول : إنّ هذه الصفات الكماليّة إنّما هي رَشَّةٌ من رَشّات الكمال الإلهيّ ، ونسمة من نسمات العطاء الربّانيّ ، منّ الله بها على بعض عباده المخلصين ، وإنّ الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص أو شائبة هو لله وحده ، وأمّا الكمالات البشريّة ، فهي على اختلاف مراتبها لا تخلو من النقص ، والذي يحبّ الكمال فبالأولويّة يحبّ خالق ذلك الكمال ومفيضه على عباده.

وقد يحبّ الإنسان غيره عندما يجد فيه التجانس والتماثل والائتلاف في


الصفات والتصرفات والأخلاق والمواقف ، ولربّما يكون حبّه لغيره للمؤانسة والاجتماع والألفة والاشتراك في الأوصاف والفنون والصنائع ، ولكن : ماذا يمثّل هذا الحبّ الزائل أمام حبّ أولياء الله والعارفين بالله لربّهم الكريم الذي أوجدهم من العدم إلى الوجود ، وأفاض عليهم من نعمه التي لا تعدُّ ولا تُحصى؟

إنّ هذا الحبّ أقوى أنواع الحبّ وأخلصه ؛ لأصالته وواقعيّته ، ولاستناده إلى العلم الحقيقيّ بفلسفة الخلق والإيجاد ، وغاية خلق الإنسان ، ولقد بلغ هؤلاء السالكون العارفون تلك المراتب السامية والمقامات العالية في مسيرة العرفان ، ونالوا درجات القرب من الله : برياضة النفس ، ومداومة العبادة ، والصبر في ذات الله ، وتطهير النفوس من الأدران والشوائب ، وبالتخلّق بأخلاق الله ، وبذلك حصلت لهم حالة الجذب إلى عالم القداسة الذي هو أصل كلّ خير ، ومنبع كلّ عطاء ، ومصدر كلّ فضيلة وكمال (١).

إنّ حبّ أولياء الله لربّهم ، الذي هو فيض من فيوضاته سبحانه ، لا يوازن بحبّ الله لأ وليائه ، لأنّ المحب يحبّ على قَدْره ، وما قدر عباد الله أمام قدره سبحانه؟!

إنّ الحبّ الذي في قلوب أولياء الله يجعل نفوسهم متعلّقةً بساحة قدسه ، هائمة بعظمته ، تتمنّى لقاءه والوفود عليه ، لأنّ كلّ محبّ يحبّ لقاء محبوبه ، وهذا الشوق أوضح علامة لوجود الحبّ أو عدمه ، قال تعالى مخاطباً أعداء البشريّة التاريخيين اليهود : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٢).

إنّ هؤلاء المحبّين أنا قد أخلصهم الله سبحانه لنفسه ، وهم أخلصوا أنفسهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يراجع : جامع السعادات ٣ : ١٣٢ ـ ١٤٦.

٢ ـ الجمعة : ٦.


لله وحده ، وهؤلاء يحبّون الله لأنّه أصل وجودهم ، ومصدر كلّ خير يصل إليهم ، والله تعالى يحبّهم لأنّهم آثار وجوده الشريف ، فحبّه لهم هو حبّه لذاته المقدّسة ، فتدبّر.

وربّما يستشكل علينا سائل فيقول : لماذا كان هؤلاء الأولياء يسألون الله أن يمدّ في أعمارهم ، في الوقت الذي هم متشوّقون إلى لقاء الله؟

نقول : إنّ هذا لا ينافي أصل الحبّ ، بل يؤكّد معنى الحبّ وصدقه وعمقه. إنّ هؤلاء إذا طلبوا امتداد العمر ، فإنّما يطلبونه للتهيّؤ والاستعداد والمبالغة في تفريغ القلوب من كلّ شاغل ، وتطهير النفوس من كلّ شائبة ، وللتزوّد بالتقوى فإنّها خير الزاد ليوم المعاد ، فإنّ المحبّ يرغب أن يلتقي بمحبوبه وهو على أتمّ حال وأسمى كمال ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١).

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ) (٢).

والمواظبة على النوافل لها أثرها الكبير في زرع الحبّ الإلهيّ في القلوب ، وجعلها منزلاً من منازل الرحمان ، ومهبطاً من مهابط الفيوضات ، فقد ورد في الحديث القدسيّ قوله سبحانه : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبَّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته (٣).

وورد في الحديث الشريف أنّ نبيّ الله إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت ، إذ جاءه لقبض روحه : هل رأيتَ خليلاً يُميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيتَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المائدة : ٥٤.

٢ ـ البقرة : ١٦٥.

٣ ـ جامع السعادات ٣ : ١٤٥.


محبّاً يكره لقاء حبيبه؟ فقال عليه السلام : يا ملك الموت ، الآنَ فاقبض (١).

وأوحى الله إلى عبده موسى عليه السلام : يا ابن عمران ، كَذِبَ مَن زعم أنّه يحبّني ، فإذا جَنَّه الليل نام عنّي ، أليس كلُّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ، ها أنا ذا يا ابن عمران مُطَّلِع على أحبّائي ، إذا جَنَّهم الليل حُوِّلت أبصارهم في قلوبهم ، ومُثِّلت عقوبتي بين أعينهم ، يخاطبونني عن المشاهدة ، ويكلّمونني عن الحضور. يا ابن عمران ، هَبْ لي من قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ومن عينَيك الدموع ، وادْعُني في ظُلَم الليل ، فإنّك تجدني قريباً مجيباً (٢).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بكى شُعَيبٌ عليه السلام من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عَمِي ، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بصره ، ثمّ بكى حتّى عمي ، فردّ الله عليه بصره ، ثمّ بكى حتّى عمي ، فردّ الله عليه بصره ، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه : يا شعيب ، إلى متى يكون هذا أبداً منك ، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجَرْتُك ، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك ، قال عليه السلام : إلهي وسيّدي ، أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلى جنّتك ، ولكن عُقد حبّك على قلبي ، فلا أصبر أو أراك ، فأوحى الله إليه : أمّا إذا كان هذا هكذا ، سأخدمك كليمي موسى بن عمران (٣).

وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ بثلاثة نفر قد نَحِلت أبدانهم ، وتغيّرت ألوانهم ، فقال عليه السلام لهم : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا : الخوف من النار ، فقال عليه السلام : حقّ على الله أن يؤمن الخائف.

ثمّ جاوزهم عليه السلام إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً ، فقال لهم : ما الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥١.

٢ ـ روضة الواعظين : ٣٢٩ ، الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة للحرّ العاملي : ٥٧.

٣ ـ علل الشرائع : ٥٧ / ح ١ ـ الباب ٥١ ، الجواهر السنيّة : ٣١.


بلغ بكم ما أرى؟ قالوا : الشروق إلى الجنّة ، فقال عليه السلام : حقّ على الله أن يعطيكم ما ترجون.

ثمّ جاوزهم عليه السلام إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً ، كأنّ على وجوههم المرايا من النور ، فقال عليه السلام : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا : حبّ الله عزّ وجلّ ، فقال ثلاثاً : أنتم المقرّبون ، أنتم المقرّبون (١).

وهذه العبادة أرقى مراتب العبادة ، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله : إن العُبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبَ الثواب ، فتلك عبادة الأُجراء ، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة (٢).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره حول عبادة الأحرار ما نصّه : ولذلك يرى أهل ذلك الطريق أنّ الطريقين الآخرين ، أعني طريق العبادة خوفاً ، وطريق العبادة طمعاً ، لا يخلوان من شرك ، فإنّ الذي يعبده تعالى خوفاً من عذابه يتوسّل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه ، كما أنّ من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ، ولا حامَ حوله معرفته.

وقد تقدّمت الرواية عن جعفر الصادق عليه السلام : هل الدين إلّا الحبّ (٣) ، وقوله عليه السلام في حديث : وإنّي أعبده حبّاً له ، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون. وإنّما كان أهل الحبّ مطهّرين لتنزّههم عن الأهواء النفسيّة والألواث المادّية ، فلا يتمّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٨٤ / ح ٥.

٣ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٢٧.


الإخلاص في العبادة إلّا من طريق الحبّ (١). ولا نترك هذه الفقرة من دون تعليق وتسليط الأضواء على ما ورد فيها ، قال سبحانه : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وقال الله سبحانه : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (٣).

تقسِّم هاتان الآيتان الناس إلى ثلاث طوائف :

١ ـ الأكثريّة من الناس ، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين بسبب انكبابهم على الدنيا الفانية وغفلتهم عمّا يراد بهم ، وهم من الذين وصفهم الله بقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (٤).

٢ ـ الأقليّة التي سمّاهم الله المخلصين والمقرّبين ممّن اصطفاهم لنفسه ، واجتباهم لحمل الأمانة السماويّة من أهل التوحيد الخالص والإيمان المحض الذي لا يعتريه نقص ولا شائبة.

٣ ـ الطائفة المؤمنة التي يكون موقعها بين الطائفتين ، وهم المؤمنين الذين يشوب إيمانَهم بعضُ النقص والانحراف ، وقد سمّى القرآن ذلك النقص وتلك الأدران الشركَ الخفيّ ، وهو على لسان الروايات أخفى من دبيب النمل على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء ، ولهؤلاء المؤمنين مراتب مختلفة من ناحية الإيمان قوّةً وضعفاً ، فمنهم من هو أقرب إلى الله من غيره. وليس هذا الاجتماع بين الإيمان والشرك من مصاديق اجتماع النقيضين الذي يحكم العقل ببطلانه ، بل هو اختلاف نسبيّ في مسألة القرب والبعد من الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢ ـ يوسف : ١٠٣.

٣ ـ يوسف : ١٠٦.

٤ ـ الفرقان : ٤٤.


وقد أمرَنا الله سبحانه بحبّ رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله ، وذلك الحبّ قوامه الولاية التي قوامها الاتّباع ، قال سبحانه وتعالى : (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (١).

ونعم ما قال الشاعر :

تَعصي الإلهَ وأنتَ تُظهر حُبَّهُ

هذا لَعَمْري في القضاءِ شَنيع!

لو كانَ حبُّك صادقاً لَأطَعتهُ

إنّ المُحبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيعُ (٢)

وهذا الحبّ للنبيّ صلى الله عليه وآله هو امتدادي يقع في طول حبّنا لله سبحانه وتعالى ، وكذلك أمرنا بحبّ عليّ أمير المؤمنين والصفوة المنتجبين من آله المعصومين عليهم السلام ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ حبّ عليّ قُذِف في قلوب المؤمنين ، فلا يحبّه إلّا مؤمن ، ولا يُبغضه إلّا منافق (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً ، ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكرٌ ونكير ، ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفٌّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة.

ومن مات على بُغض آل محمّد صلى الله عليه وآله جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيسٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٣١.

٢ ـ حكى الصدوق في الأمالي : ٣٩٦ / ح ٣ ـ المجلس ٧٤ أنّ الإمام الصادق عليه السلام تمثّل به على هذا النحو : هذا محالٌ في الفِعالِ بديعُ ، وحكاه الثعلبيّ في تفسيره ٣ : ٥١ عن عبد الله بن المبارك.

٣ ـ مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ١٥٤ ، بحار الأنوار ٤٣ : ٢٨١ / ح ٤٨.


من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمَّ رائحة الجنّة (١).

وقد جعل الله تعالى ولاية الإيمان بين أهل القبلة ، وحرّم مولاة أعداء الله ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٢).

وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٣) ، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٤) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله : إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبّك ، وإن كان يُبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته ، ففيك شرّ ، والله يُبغضك ، والمرء مع من أحبّ (٦).

وورد في الأثر المعتبر أنّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام : هل علمتَ لي عملاً قطّ؟ قال عليه السلام : صلّيتُ لك ، وصمت ، وتصدّقت ، وذكرت لك ، فقال الله تبارك وتعالى : أمّا الصلاة فلك برهان ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذِّكر نور ، فأيَّ عمل عملت لي؟ قال موسى عليه السلام : دُلّني على العمل الذي هو لك!

قال سبحانه : يا موسى ، هل واليتَ لي وليّاً ، وهل عاديتَ لي عدوّاً قطّ؟ فعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف للزمخشري ٣ : ٤٦٧ ، تفسير الرازي ٢٧ : ١٦٥.

٢ ـ الأنفال : ٧٢.

٣ ـ التوبة : ٧١.

٤ ـ النساء : ٨٩.

٥ ـ المائدة : ٥١.

٦ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٣١.


موسى عليه السلام أنَّ أفضل الأعمال الحبّ في الله ، والبغض في الله (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله ، وتُبغض في الله ، وتُعطيَ في الله ، وتمنع في الله (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله جاء قوله : لو أنّ عبدين تحابّا في الله ، أحدهما في المشرق والآخر بالمغرب ، لَجمَعَ الله بينهما يوم القيامة (٣).

وقد أجاد من قال :

وكلَّ محبّةٍ في اللهِ تَبقى

على الحالَين منْ فَرَجٍ وَضيقِ

وكلَّ محبّةٍ فيما سواهُ

فكالحَلفاءِ في لَهَبِ الحَريقِ

وقال عيسى عليه السلام : تَحبّبوا

إلى الله في بُغض أهل المعاصي (٤)

وورد الأمر بمقابلة هؤلاء بوجوه مكفهرّة.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ المتحابّينَ في الله يوم القيامة على منابرَ مِن نور ، قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلِّ شيء ، حتّى يُعرفوا به ، فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله (٥).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : المتحابّون في الله يوم القيامة على أرضِ زبرجدةٍ خضراء في ظلّ عرشه سبحانه عن يمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ وجوههم أشدّ بياضاً من الثلج وأضوأ من الشمس الطالعة ، يغبطهم بمنزلتهم كلُّ ملك مقرّب ، وكلّ نبيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٨ / ح ٥٠ ـ عنه : بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ح ٣٣.

٢ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٢٨.

٣ ـ جامع الأخبار : ٣٥٢ / ح ٩٧٧ ، مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٢٥ / ح ٢٥.

٤ ـ الدر النثور للسيوطيّ ٢ : ٢٨.

٥ ـ الاصول الستّة عشر : ٦٥ ، المحاسن : ٢٦٥ / ح ٣٣٩.


مرسل ، يقول الناس : مَن هؤلاء؟! فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يؤمن أحدكم حتّى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما (٢).

وعن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ورد قوله : إذا جمع الله تعالى الأوّلين والآخِرين ، قام منادٍ فنادى يُسمِع الناس فيقول : أين المتحابّون في الله؟ قال عليه السلام : فيقوم عُنُقٌ «أيّ جماعة» من الناس ... فيقولون : نحن المتحابّون في الله. قال : فيقولون : وأيَّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا : كنّا نُحبّ في الله ، ونُبغض في الله. قال : فيقولون : نِعمَ أجرُ العاملين (٣).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من الله عزّ وجلّ يُسمع آخرهم كما يُسمع أوّلهم فيقول : أين جيران الله جلّ جلاله في داره؟ فيقوم عنق من الناس ، فتستقبلهم زُمَرٌ من الملائكة ، فيقولون : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون : كنّا نتحابّ في الله ، ونتزاور في الله تعالى.

قال : فينادي منادٍ من عند الله تعالى : صدق عبادي ، خَلّوا سبيلهم. فينطلقون إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب ، فهؤلاء جيران الله في داره ، يخاف الناس ولا يخافون ، ويُحاسَب الناس ولا يُحاسَبون (٤).

وعن الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم السلام ، أنّ رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام : لماذا أحببتَ لقاء الله؟ فقال عليه السلام : لمّا رأيتُه قد اختار لي دِينَ ملائكته ورسله وأنبيائه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٦٤ / ح ٣٣٧.

٢ ـ مسند أحمد ٣ : ٢٠٧.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٢٦ / ح ٨ قطعة منه.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ : ١٠٢ / ح ١٥٨ ، ١٢.


علمتُ أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه (١).

وقد رسم لنا الحديث الشريف الترجمة العمليّة للقاء الله تعالى : قال تعالى : يا أحمد ، ليس كلّ من قال : أُحبُّ اللهَ ، أحبّني ، حتّى يأخذَ قوتاً ، ويلبس دوناً ، وينام سجوداً ، ويطيل قياماً ، ويلزم صمتاً ، ويتوكّل علَيّ ، ويبكي كثيراً ، ويُقلَّ ضحكاً ، ويخالف هواه ، ويتّخذ المسجد بيتاً ، والعلم صاحباً ، والزهد جليساً ، والعلماء أحبّاء ، والفقراء رفقاء ، ويطلب رضاي ويفرَّ من العاصين فراراً ، ويُشغَل بذكري اشتغالاً ، ويُكثر التسبيح دائماً ، ويكون بالعهد صادقاً ، وبالوعدِ وافياً ، ويكونَ قلبه طاهراً ، وفي الصلاة زاكياً ، وفي الفرائض مجتهداً ، وفيما عندي من الثواب راغباً ، ومن عذابي راهباً ، ولأحبّائي قريناً وجليساً (٢).

وأختم هذا المبحث بتدوين رائعة من روائع آل محمّد صلى الله عليه وآله ، ألا وهي مناجاة المحبّين للإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليه السلام :

إلهي مَن ذَا الذي ذاقَ حلاوةَ مَحبّتك فرامَ مِنك بَدَلاً ، ومَن ذَا الذي أَنِس بِقُربِك فابتغى عنك حِوَلاً.

إلهي ، فاجعَلْنا مِمّن اصطفيتَه لِقُربك وولايتِك ، وأخلَصْتَه لودِّك ومحبّتك ، وشوّقتَه إلى لقائِك ، وَرَضَّيتَه بقضائِك ، ومنَحْتَه بالنظر إلى وجهِك ، وحَبَوتَه برضاك ، وأعَذْتَه مِن هَجْرِك وقِلاك ، وَبوّأتَه مقعدَ الصِّدق في جِوارك ، وخصَصْتَه بمعرفتِك ، وأهّلْتَه لعبادتِك ، وهَيّمت قلبَه لإرادتِك ، واجتَبَيتَه لمُشاهدتِك ، وأخلَيتَ وجهَه لك ، وفرّغتَ فؤادَه لحبِّك ، ورغّبتَه فيما عندَك ، وألهمتَه ذِكرَك ، وأوزَعْتَه شُكرَك ، وشَغَلتَه بطاعتِك ، وصيّرتَه مِن صالِحي بَريّتِك ، واختَرتَه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوحيد للصدوق : ٢٨٨ / ح ٦.

٢ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٣٠ / ح ٦ ـ عن : إرشاد القلوب : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، الباب ٥٤.


لمناجاتِك ، وقَطَعتَ عنه كلَّ شيءٍ يقطعُه عنك.

اَللّهمّ اجعَلْنا مِمّن دأبُهُم الارتياح إليك والحَنين ، ودهرُهمُ الزفرةُ والأنين ، جِباهُهم ساجدة لِعظمتِك ، وعيونُهم ساهرةٌ في خدمتِك ، ودموعُهم سائلةٌ مِن خَشيتِك ، وقلوبُهم متعلّقةٌ بمحبّتِك ، وأفئدتُهم مُنخَلِعةٌ مِن مهابتِك.

يا مَن أنوارُ قُدسِه لأبصارِ مُحبِّيهِ رائقة ، وسُبُحاتُ وجهِه لقلوبِ عارفيهِ شائقة ، يا مُنى قلوبِ المشتاقين ، ويا غايةَ آمالِ المُحبّين ، أسألُك حبَّك وحُبَّ مَن يُحبُّك ، وحُبَّ كلِّ عملٍ يُوصِلُني إلى قُربِك ، وأن تَجعلَك أحبَّ إليَّ ممّا سِواك ، وأن تَجعلَ حُبّي إيّاك قائداً إلى رِضوانِك ، وشَوقي إليك ذائداً عن عِصيانِك ، وامْنُنْ بالنظر إليك علَيّ ، وانظُرْ بعينِ الوُدِّ والعطفِ إليّ ، ولا تَصرِفْ عنّي وجهَك ، واجعَلْني مِن أهلِ الإسعاد والحُظوة عندَك ، يا مُحيبُ يا أرحمَ الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجادية المباركة : ٤١٣ ـ المناجاة التاسعة «مناجاة المحبّين».


المبحث التاسع عشر : في الغِنى

الغنى : ضد الفقر ، والغنيّ : هو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء ، وكلّ أحد محتاج إليه ، وهذا هو الغنى المطلق. ولا يشارك اللهَ تعالى فيه غيرُه (١).

يقول الغزاليّ في «شرح أسماء الله الحسنى» : الغنيّ الذي لا تَمَسّه حاجة ولا يعرضه فقر.

وهو الذي لا تعلّقَ له بغيره ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، بل يكون منزَّهاً عن العلاقة مع الأغيار ، فمن تتعلّق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقّف عليه وجوده أو كماله ، فهو فقير محتاج إلى الكسب ولا يُتصوَّر ذلك في الله تعالى. والغنيّ الحقيقي هو الذي لا حاجه له إلى أحد أصلاً ، والذي يحتاج ومعه ما يحتاج إليه فهو غنيّ بالمجاز ، انتهى.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

إنّ الآيتين تشيران إلى مسألة حصر الفقر بالناس ، وحصر الغنى بالله سبحانه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لسان العرب ١٥ : ١٣٥.

٢ ـ فاطر : ١٥ ـ ١٦.


فالإنسان فقير محتاج بذاته من حيث أنّه قائم بغيره حدوثاً وبقاءً ، وفي الوقت نفسه يكون الله غنيّاً بذاته لأنّه قائم بنفسه ، وكلّ شيءٍ قائم به ، وإنّ الملاك في غناه تعالى. وفي فقر الإنسان أمران :

١. مسألة الخلق : فالخلق غنيّ والمخلوق فقير.

٢. مسألة التدبير : فالمدبِّرُ «بالكسر» غنيّ ، والمدبَّرُ «بالفتح» فقير ، ولمّا كان الله هو الخالق المدبِّر كان الغنى حقَّه وحده ، وحيث إنّ الإنسان هو المخلوق المدبَّر كان الفقر حقَّه وحده.

وقفة مع المال والغنى والفقر

لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ حبّ المال أمر غريزيّ ، وأنّ المال له تأثير على النفس الإنسانيّة من ناحية الإغراء والإثارة ، والتأثير على سيرة الإنسان وأخلاقه ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا شاب ابنُ آدم شبّت فيه خصلتان : الحرصُ وطول الأمل (١).

وقال صلى الله عليه وآله : لو كان لابن آدم واديانِ مِن مال ، لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلّا التراب (٢). وصدق الله وهو أحسن القائلين حيث يقول : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (٣).

وليس المال بحدّ ذاته موضع المدح أو الذّم ، ولكن نفوس ذوي الأموال هي محلّ ذلك. فلو جمع الإنسان المال من موارد مشروعة ، وصرفها في المجالات التي ندب إليها الشارع المقدّس لكان ذلك الجمع حسناً ، بل كان عبادة. فبمثل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٢ : ٧٨.

٢ ـ صحيح البخاريّ ٧ : ١٧٥ ، المبسوط للسرخسيّ ٣٠ : ٢٥٧.

٣ ـ الفجر : ٢٠.


هذا المال يَصِل الإنسان رَحِمَه ، ويتصدّق على الفقير ، ويطعم الجائع ، ويكسو العاري ، ويعمّر المساجد ، ويؤدّي فريضة الحجّ ، ويصون عرضه.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : نِعمَ المال الصالح للرجل الصالح (١) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الغني إذا كان وصولاً لرحمه ، بارّاً بإخوانه ، أضعَفَ اللهُ له الأجر ضعفين ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (٢).

وقال رجل للإمام الصادق عليه السلام : إنّنا نحبّ الدنيا ونحبّ أن نُؤتاها ، فقال عليه السلام : وتصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على أهلي ، وأصل رحمي ، وأحجّ وأعتمر ، وأُنفق في سبيل الله ، فقال عليه السلام : إنّها الآخرة وليست الدنيا.

ولكن قلّما كان جمع المال لا يخلو من آفة ويقود إلى الخسران ، فقد ورد عن عيسى عليه السلام قوله : في المال ثلاث آفات : أن يأخذه من غير حِلِّه. فقيل : إن أخذه من حِلِّه؟ قال عليه السلام : يضعه في غير حقّه ، فقيل له : إن وضعه في حقِّه؟ قال عليه السلام : يشغله إصلاحُه عن الله (٣).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّك إن تَذَرْ ورثْتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون الناس (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : لا خيرَ فيمن لا يحبّ المال يَصِل به رَحِمَه ، ويؤدّي به أمانته ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير مجمع البيان ٣ : ١٨.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٣ ، وسائل الشيعة ٩ : ٤٧٦ / ح ١٢٥٣٣ ، والآية في سورة سبأ : ٣٧.

٣ ـ جامع السعادات ٢ : ٥١.

٤ ـ صحيح البخاريّ ٢ : ٨٢.


ويستغني به عن خَلْق ربِّه (١).

والعامّة من العوامّ تنظر إلى أصحاب الأموال والثروات بالتعظيم ، وتكيل لهم المدح والثناء والإطراء ، وتقدّم لهم فروض الطاعة والتقدير لمجرّد كونهم أصحاب ثروة طائلة.

نقل عن العتابيّ أنّه قال : الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس ، وهو عندهم أعذب من الماء ، وأرفع من السماء ، وأحلى من الشهد ، وأزكى من الورد ، خَطَؤه صواب ، وسيّئاته حسنات ، وقوله مقبول ، ويُرفَع مجلسه ، ولا يُمَلّ حديثه. والمفلس عند الناس أكذب مِن لمعان السراب ، وأثقل من الرصاص ، لا يُسَلَّمُ عليه إن قَدِم ، ولا يُسألُ عنه إن غاب ، إن حضر رَدّوه ، وإن غاب شتموه ، وإن غضب صفعوه ، مصافحته تنقض الوضوء ، وقراءته تقطع الصلاة (٢).

إنّ النفس البشرية هي التي تتحكّم بالمال وتوجيهه وصرفه ، فالنفوس الإيمانية الكريمة تجعل منه الوسيلة لبلوغ أرقى المراتب الدينيّة والدنيويّة ، فتخلّف حُسن الذِّكر في الدنيا ، وتكسب رضوان الله في الآخرة ، ولكنّ هؤلاء قليل.

أمّا أغلب الأغنياء فإنّهم لا يقاومون إغراء المال ، فيستعملونه سلاحاً نافذاً في موارد الاستغلال والطغيان والظلم ، وركوب مطايا الآثام ، وسلوك سبل الشيطان.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : حبّ المال والشرف يُنبتان النفاق ، كما ينبت الماءُ البقل (٣).

والمراد من ذلك عبادة المال ، والإفراط في جمعه ، بعيداً عن الضوابط الخلقيّة والمثل العليا والقيم السامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كنز العمّال (٣) : ٢٤٠ / خ ٦٣٤٥.

٢ ـ شرح نهج البلاغة (١)٩ : ٢٢٩.

٣ ـ مُنْية المريد : (١)٥٦.


إنّ الدرهم والدينار قد أغرى أصحاب النفوس الضعيفة فباعوا آخرتهم بدنياهم ، وانحازوا إلى جانب الطغاة طمعاً في مالهم ، ووضعوا لهم الأحاديث ، وأقاموا مجالس الوعظ والإرشاد لتخدير الشعوب ، وتركيع الأفراد على أقدام السلاطين الخارجين عن الإسلام ، السافكين للدماء ، السارقين لثروات شعوبهم.

قال الإمام الحسن عليه السلام لأبيه أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبه ، أما ترى حبّ الناس للدنيا؟ فقال عليه السلام : هم أولادها ، أفيُلام المرءُ على حبّ والدته؟! (١)

قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام في حديث : فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة (٢).

وورد في «الكافي» في كتاب الإيمان والكفر في باب حبّ الدنيا والحرص عليها : يُنقَل أنّ عيسى بن مريم عليه السلام مرّ على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابّها ، فقال عليه السلام : أما إنّهم لم يموتوا إلّا بسخطة ، ولو ماتوا متفرّقين لتدافنوا ، فقال الحواريّون : يا روح الله وكلمته ، أُدعُ الله أن يُحْيِيَهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنَجْتنبَها.

فدعا عليه السلام ربّه فنُودي من الجوّ أن نادِهِم ، فقام عيسى عليه السلام بالليل على شُرَف من الأرض فقال : يا أهل هذه القرية ، فأجابه منهم مجيب : لبّيك يا روح الله وكلمته.

فقال عليه السلام : ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال : عبادة الطاغوت ، وحبّ الدنيا ، مع خوف قليل وأمل بعيد ، وغفلة في لهو ولَعِب.

فقال عليه السلام : كيف كان حبّكم للدنيا؟ قال : كحبّ الصبيّ لأمِّه ، إذا أقبَلَت علينا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ عليه السلام ٢ : ١٥٥.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣١٧ / ح ٨.


فَرِحنا وسُررنا ، وإذا أدبرت عنّا بكينا وحَزِنّا.

قال عليه السلام : كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال : الطاعة لأهل المعاصي. قال عليه السلام : كيف كان عاقبة أمركم؟ قال : بتنا ليلة في عافية ، وأصبحنا في الهاوية!

فقال عليه السلام : وما الهاوية؟ قال : سِجِّين. قال عليه السلام : وما سجّين؟ قال : جبال من جمر تُوقَد علينا إلى يوم القيامة.

قال عليه السلام : فما قلتم ، وما قيل لكم؟ قال : قلنا ردّونا إلى الدنيا فنزهد فيها. قيل لنا : كذبتم.

قال عليه السلام : ويحك ، كيف لم يكلّمني غيرك من بينهم؟ قال : يا روح الله ، إنّهم مُلجَمون بلجام من نار بأيدي ملائكةٍ غِلاظِ شِداد ، وإنّي كنت فيهم ولم أكن منهم ، فلمّا نزل العذاب عَمَّني معهم ، فأنا معلّق بشعرة على شفير جهنّم ، لا أدري أُكبكَبُ فيها أم أنجو منها؟

فالتفت عيسى عليه السلام إلى الحواريّين فقال : يا أولياء الله ، أكلُ الخبز اليابس بالملح الجريش ، والنوم على المزابل ، خيرٌ كثيرٌ مع عافية الدنيا والآخرة (١).

لقد كان سبب نزول عذاب الاستئصال بهم أمور سلبية ، هي :

١ ـ عبادة الطاغوت. ٢ ـ حبّ الدنيا. ٣ ـ خوف قليل. ٤ ـ أمل بعيد. ٥ ـ غفلة في لهو ولعب.

ومن دوافع حبّ المال والإفراط في جمعه هو شبح الخوف من الفقر الذي يطارد أصحاب النفوس الانهزاميّة المنسلخة عن الإيمان ، العارية عن لباس اليقين وحسن الظنّ بالله ، أحدهم يكدح ليل نهار في ضمّ الدرهم إلى الدرهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٨ ـ ٣١٩ / ح ١١ ، والرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام.


ولكنّه يقصّر على نفسه وعياله ، فيعيش عيش الفقراء ، ويُحاسَب حساب الأغنياء.

قال الإمام عليّ عليه السلام : عَجِبتُ للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هَرَب ، ويفوته الغنى الذي إيّاه طَلَب ، فيعيش في الدنيا عيشَ الفقراء ، ويحاسب حساب الأغنياء (١).

إنّ الغنى في حدّ ذاته خير من الفقر ، لأنّ الغنى وجود والفقر عدم ، ولكن إذا كان الغنى ممّا يجرّ إلى الطغيان فهو سلاح فتّاك بيد ظالم ، والفقر إذا كان معه صبر وقناعة وعفّة وحياء ، فهو من سمات الأنبياء والأولياء والصالحين. أمّا إذا لم يكن معه ذلك ، فهو صفة مذمومة قد تؤدّي بصاحبها إلى الجزع والانحراف ، وامتهان النفس والتوتّر والقلق.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : الفقر الموت الأكبر (٢) ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله : كاد الفقر أن يكون كفراً (٣).

وقال عليه أفضل التحيّة والسلام : من ابتُليَ بالفقر فقد ابتُلي بأربع خصال : بالضعف في يقينه ، والنقصام في عقله ، والرقّة في دِينه ، وقلّة الحياء في وجهه (٤). وقد مدح القرآن الكريم الفقراء المتعفّفين الذين لم ينهاروا أمام عواصف الفقر والحاجة ، وثبتوا أمام المغريات الدنيويّة ، وقاوموا الميول الغريزيّة والشهويّة ، ولم يخرجوا عن رحاب ساحة الله تعالى وطاعته ورجائه ، فقد قال سبحانه : (يَحْسَبُهُمُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٦.

٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٦٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٠٧ / ح ٤.

٤ ـ بحار الأنوار ٦٩ : ٤٧ / ح ٥٨ ـ عن : جامع الأخبار : ٣٠٠ / ح ٨١٨ ـ الفصل ٦٧.


الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : الفقر فَخْري وبه أفتخر (٢).

وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : يا معشَر الفقراء ، أُعطوا اللهَ الرضى من قلوبكم ، تَظفُروا بثواب فقركم ، وإلّا فلا (٤).

وعن الإمام عليّ عليه السلام : إبنَ آدم ، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك ، فإنّ أيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنت تريد ما لا يكفيك ، فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك (٥).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : إيّاك أن تُطمح إلى مَن هو فوقك (٦) ، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن سأَلَنا أعطيناه ، ومن استغنى أغناه الله (٧).

وعنه صلى الله عليه وآله : من أراد أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد غيره (٨).

وقد حذّرنا أئمّة الهدى عليهم السلام من كثرة مجالسة الأغنياء ، لأنّ مجالسة هؤلاء تقسّي القلب ، إلّا القليل منهم.

عن أبي عبد الله الصادق ، عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ثلاثة مجالستهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٧٣.

٢ ـ عدّة الداعي : ١١٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٤٠.

٤ ـ كنز العمّال ٦ : ٤٨٥ / خ ١٦٦٥٥.

٥ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ ـ ١٣٩ / ح ٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٣٧ / ح ١.

٧ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٢.

٨ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ٨.


تميت القلب : الجلوس مع الأنذال ، والحديث مع النساء ، والجلوس مع الأغنياء (١).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال لرجل : يا فلان ، لا تجالس الأغنياء ، فإنّ العبد يجالسهم وهو يرى أنّ لله عليه نعمة ، فما يقوم حتّى يرى أنْ ليس لله عليه نعمة! ٢

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٤١ / ح ٨.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٢١٠ / ح ٣ ـ المجلس ٤٤.


المبحث العشرون : في الحِلْم

قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي يَحْلُمُ عَنّي حَتّى كَاَنّي لا ذَنْبَ لي ، فَرَبّي اَحْمَدُ شَيءٍ عِنْدي ، وَاَحَقُّ بِحَمْدي.

الحِلْم : ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، وجمعُه أحلام ، قال تعالى : (لم تأمرهم أحلامهم بهذا) (١).

قيل : معناه عقولهم ، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل ، لكن فسّروه بذلك لكونه من مسبِّبات العقل (٢).

والحلم : مقابل الغضب ، والأوّل باعث التروّي والأناة والتعقّل ، أمّا الثاني فباعث على الطيش والانتقام.

والفارق بين الحلم وكظم الغيظ أنّ الحلم صفة راسخة مطبوعة في النفس الإنسانيّة من دون تكلّف ، ويعبَّر عنها بالمَلَكة ، وأمّا كظم الغيظ فهو التحكّم ، أي تكلّف الحلم ، وعندما يواظب الإنسان عليه فإنّه يقوده إلى الحلم. ويشهد لذلك ما نُقل عن النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله : إنّما العلم بالتعلّم ، والحلم بالتحلّم (٣). كما ورد عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الطور : ٣٢.

٢ ـ مفردات غريب القرآن : ١٢٩.

٣ ـ العلل للدارقطنيّ ١٠ : ٣٢٦ / خ ٢٠٣٧.


الإمام الصادق عليه السلام قوله : إذا لم تكن حليماً فتحلّم (١).

وقد وصف الله سبحانه نفسه بالحلم في عشرة مواضع من كتابه العزيز حيث قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَاللَّـهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (٣).

ووصف سبحانه ثلاثة من الأصفياء من عباده بالحلم ، وهم : إبراهيم ، وهود ، وإسماعيل عليهم السلام.

قلنا : إنّ الحلم ملكة إنسانيّة ، وهي من صفات الكمال عند الفرد ، وهذه النفوس الإيمانيّة عادة تشعر بالطمأنينة والاستقرار النفسيّ ، والهدوء والرضى ، فلا يعصف بها الغضب فتفقد مكانها ومكانتها ، بل تعالج الأمور بالشكل الذي يأمر به العقل والشرع والأخلاق.

والحلم من الكمالات المعلومة عند كلّ أحد ، وهو من فضائل النفس ، ولكنّ الغضب قد يفسده كما يفسد الخَلُّ العسل ، أمّا العلم فإنّه إذا اقترن بالحلم زانه ، ويشهد لذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاؤه :

اَللّهمّ أغْنِني بالعِلم ، وزيِّنّي بالحِلم (٤) ، وقال صلى الله عليه وآله : والذي نفسي بيده ، ما جُمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم (٥).

وعدّت السنّة الشريفة الحلم من الرفعة وعظيم المنزلة عند الله سبحانه ، ففي الأثر المروي أنّه صلى الله عليه وآله قال : ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١١٢ / ح ٦.

٢ ـ البقرة : ٢٣٥.

٣ ـ البقرة : ٢٦٣.

٤ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.

٥ ـ الخصال : ٥ / ح ١١.


تَصِل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتَحلُم عمّن جَهِل عليك (١).

والحليم الذي يمارس حلمه بعنوان القربة إلى الله سبحانه له ثواب عظيم إذا جعل ذلك من جهاد النفس ، وهو من أعظم الجهاد ففي الخبر أنّه قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ الرجل المسلم لَيُدرك بالحلم درجة الصائم القائم (٢).

والحلماء هم الذين يقال لهم يوم القيامة أهل الفضل ، لما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا جُمع الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ : أين أهل الفضل؟

فيقوم ناسٌ ـ وهم يسير ـ فينطلقون سراعاً إلى الجنّة ، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون : إنّا نراكم سراعاً إلى الجنّة؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون : ما كان فضلكم؟ فيقولون : كنّا إذا ظُلِمنا صبرنا ، وإذا أُسيء إلينا عَفَونا ، وإذا جُهِل علينا حَلُمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنّة فنِعمَ أجرُ العاملين (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : ثلاثٌ ، مَن لم تكن فيه واحدة منهنّ فلا تَعْتَدّوا بشيءٍ من عمله : تقوى تحجزه عن معاصي الله عزّ وجلّ ، وحلم يكفّ به السفيه ، وخلق يعيش به في الناس (٤).

وقد عُدّ الحلم الخير الذي ينبغي أن يناله الإنسان في مسيرته إلى الله تعالى ، قال عليّ عليه السلام : ليس الخير أن يكثر مالُك ووَلَدك ، ولكنّ الخير أن يكثر علمُك ، وأن يَعظُم حلمُك (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.

٢ ـ مجمع الزوائد ٨ : ٢٤.

٣ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.

٤ ـ نفسه ١ : ٢٩٦.

٥ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٩٤.


وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : إنّ الله يحبّ الحَيِيَّ الحليم (١).

وقد اتّصف آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين هم الامتداد الطبيعيّ لسيرة جدّهم الأعظم ، والذين هم تلاميذ القرآن وحملته ـ اتّصفوا بأعلى درجات الحلم.

فقد ورد في الصحيح : أنّ أبا عبد الله الصادق عليه السلام بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج عليه السلام في أثره لمّا أبطأ عليه فوجده نائماً ، فجلس عليه السلام عند رأسه يروّحُه حتّى انتبه ، فلمّا انتبه قال له أبو عبد الله عليه السلام : يا فلان ، والله ما ذاك لك ، تنام الليل والنهار ، لك الليل ، ولنا منك النهار (٢).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان ينادي على أحد مواليه فلا يجيبه ، فسأله عليه السلام عن سبب ذلك ، فقال أَمِنتُ عقابك ، فقال عليه السلام : إذهَبْ فأنت حرٌّ لوجه الله (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله في وصيّته لعليّ عليه السلام : يا عليّ ، ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وآله : أحسنكم خُلقاً ، وأعظمكم حِلماً ، وأبرّكم بقرابته ، وأشدّكم من نفسه إنصافاً (٤).

وعن جابر بن عبد الله قال : سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم مولاه قنبراً ، وقد رام قنبر أن يردّ عليه ، فناداه أمير المؤمنين عليه السلام : مهلاً يا قنبر ، دَعْ شاتمك مُهاناً تُرضِ الرحمان وتُسخط الشيطان ، وتعاقب عدوّك ، فوالذي فلق الحبّة ، وبرأ النَّسَمة ، ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ١ : ٢٩٦.

٢ ـ الكافي ٨ : ٨٧ / ح ٥٠.

٣ ـ مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للكوفيّ : ٨٦ ، شرح نهج البلاغة ١١ : ٢٢١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٧٠ / ح ٥٧٦٥.


أرضى المؤمنُ ربَّه بِمِثل الحِلم ، ولا أسخط الشيطانَ بِمِثل الصمت ، ولا عُوقب الاحمق بمثل السكوت عنه (١).

وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : إن لم تكن حليماً فتحلّم ، فإنّه قَلَّ مَن تشبّه بقوم إلّا أَوشك أن يكون منهم (٢) ، وعن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : إن شَتَمَكَ رجل عن يمينك ، ثم تحوّل إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره (٣).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : مرارة الحلم أعذبُ من حلاوة الانتقام (٤) ، وعن الرضا عليه السلام قوله : اتّقوا الله وعليكم بالصمت والصبر والحلم ، فإنّه لا يكون الرجل عابداً حتّى يكون حليماً. وقال عليه السلام : لا يكون [الرجل] عاقلاً حتّى يكون حليماً (٥).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا قَدَرتَ على عدوّك ، فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرة عليه (٦).

وقال عليه السلام : أَولى الناس بالعفو أقدَرُهم على العقوبة (٧) ، وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : من كظم غيظاً وهو يَقْدر على إمضائه ، أعقبه الله يوم القيامة أمناً وإيماناً يجد طعمه (٨).

وقال سبحانه معبّراً عن حلمه بالعباد : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّـهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للمفيد : ١١٨ / ح ٢.

٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٠٧.

٣ ـ الكافي ٨ : ١٥٣ / ح ١٤١.

٤ ـ إرشاد القلوب : ٧٤ ـ الباب ١٨ وصايا وحِكم بليغة ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٩٠ / ح ١٣٠٦٤.

٥ ـ مشكاة الأنوار ٢ : ٧٥ / ح ١٢٥٤ و١٢٥٥ ، قريب منه : الكافي ٢ : ١١١ / ح ١ ـ باب الحلم.

٦ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١١.

٧ ـ نفسه : الحكمة ٥٢.

٨ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٥٢ / ح ٥٧٦٥.


مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) (١) ، وقال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا) (٢).

لقد أمهل الله سبحانه العصاة من عباده ، وآلى على نفسه عدم المؤاخذة بالذنوب ، بل جعل لهم موعداً لن يخلفوه ، وهذا التأخير هو سبب استمرار وبقاء البشر ، ولولاه لهلك الجميع لأنّ الأغلبيّة الغالبة تتّصف بالظلم واقتراف المعاصي ، ولو قيل : هل يشمل هذا هلاك المعصومين المنزّهين عن الخطأ؟ نقول : إذا شمل آباءهم وأمهاتهم ، فمعنى ذلك عدم وفودهم على الدنيا ، فالله سبحانه قضى أن يعيش هؤلاء على الأرض ويعمروها ، ويستقرّوا على ظهرها لعلّهم يرجعون إلى طريق الله السويّ وصراطه المستقيم.

وقد ورد عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قوله في الصحيفة السجّادية : إنّما يعجل من يخاف الفوت ، ويحتاج إلى الظلم الضعيف (٣).

وروي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه كان عنده أضياف مُدّت لهم الموائد ، واستعجل غلام له بشواء كان في التنّور ، فأقبل الخادم مسرعاً ، فسقط السفّود من يده على رأس ولد صغير لعليّ بن الحسين عليه السلام تحت الدرجة ، فأصاب رأسه فقتله ، فقال الإمام عليه السلام للغلام ، وقد تحيّر ذلك الغلام واضطرب : أنت حرّ لوجه الله تعالى ، أمّا إنّك لم تتعمّده. ثمّ أخذ في جهاز ابنه ودفنه (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ٦١.

٢ ـ الكهف : ٥٨.

٣ ـ الصحيفة السجّاديّة : ٣٥٢.

٤ ـ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ٤٢١ ، مسكّن الفؤاد للشهيد الثاني : ٦١ ـ عنه : بحار الأنوار ٨٢ : ١٤٢ / ح ٢٥.


ومن حلمه أنّه آوى عدوّ الله مروان بن الحكم وزوجته في واقعة الحَرّة (١) ، رغم ما فعله هذا المجرم بآل محمّد عليهم السلام.

وقال أبو ذرّ الغفاري ـ صاحب النبيّ وتلميذ أمير المؤمنين ـ لغلامه : لمَ أرسلت الشاة على علف الفَرَس؟ قال الغلام : أردت أن أغيظك ، فقال رضي الله عنه : لَأجْمعَنّ مع الغيظ أجراً ... أنت حرّ لوجه الله (٢).

نال من الإمام زين العابدين عليه السلام ابن عمّه الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فلم يكلّمه الإمام ، بل أتى منزله وناداه ، فخرج الحسن متوثّباً ، فقال عليه السلام له : يا أخي ، إن كنتَ قلتَ ما فيّ فأستغفر اللهَ منه ، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ يغفر الله لك. فقبّل الحسن بين عينَي الإمام وقال : بل قلتُ ما ليس فيك وأنا أحقٌّ به (٣).

وقد ورد في قصص العرب أنّ جماعة تذاكروا فيما بينهم آثار معن بن زائدة ، وكان من أشهر أجواد العرب ، أدرك العصرين الأمويّ والعباسيّ ، وولّاه المنصور إمارة سجستان ، فأقام بها ، ثم قُتل فيها غيلة سنة ١٥١ هـ ، تذاكروا آثاره وأخبار كرمه وعظمة حلمه ، فقال أعرابي : أنا أُغضبه. وجرى الرهان بينه وبينهم على مائة ناقة.

فعمد الأعرابي إلى بعير فسلخ جلده وارتداه ، واحتذى ذلك الجلد ودخل على معن ، وأنشأ يقول :

أتذكر إذ لِحافُك جلدُ شاةٍ

وإذ نعلاك مِن جلد البعيرِ؟

قال معن : أذكره ولا أنساه ، فقال الأعرابي :

فسبحانَ الذي أعطاك مُلكاً

وَعَلَّمك الجلوسَ على السريرِ!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ أيّام العرب في الإسلام : ٤٢٤ عن : جهاد الإمام السجّاد عليه السلام : ٦٩.

٢ ـ التذكرة الحمدونيّة : (١)٦٢ ، ورواه الزمخشريّ في ربيع الأبرار : ٩٠٩.

٣ ـ مناقب آل أبي طالب (٣) : ٢٩٦.


فقال معن : إن الله يُعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشا ، فقال الأعرابي :

فلستُ مُسلِماً إنْ عشتُ دهراً

على معنٍ بتسليمٍ الأميرِ

فقال معن : السلام خير ، وليس في تركه ضير ، فقال الأعرابي :

سأرحل عن بلادٍ أنت فيها

ولو جارَ الزمانُ على الفقيرِ

فقال معن : إن جاورتَنا فمرحباً بالإقامة ، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة ، فقال الأعرابي :

فَجُدْ لي يا ابن ناقصةٍ بمالٍ

فإنّي قد عزمتُ على المسيرِ

فقال معن : أُعطوه ألف دينار ، تُخفّفْ عنه مشاقَّ الأَسفار. فأخذها وقال :

قليلٌ ما أتيتَ به وإنّي

لَأطمعُ منك بالمالِ الكثيرِ

فَثَنِّ فقد أتاك المُلكُ عفواً

بلا عقلٍ ولا رأيٍ منيرِ

فقال معن : أعطوه ألفاً ثانية ، كي يكون عنّا راضياً. فتقدّم الأعرابي إليه وَقَبَّل الأرض بين يديه وقال :

سألتُ اللهَ أن يُبقيك ذُخْراً

فما لك في البريّةِ مِن نظيرِ

فَمِينك الجودُ والإفضالُ حقّاً

وفيضُ يَدَيك كالبحرِ الغزيرِ

فقال معن : أعطيناه ألفين على هجونا ، فأعطوه أربعة آلاف على مدحنا ، فقال الأعرابي :

بأبي أيّها الأمير ونفسي ، فأنت نسيجُ وَحْدِك في الحلم ، ونادرة دهرك في الجود. ولقد كنتُ في صفاتك بين مصدّق ومكذّب ، فلمّا بلوتك صَغَّرَ الخُبْرُ الخَبَر ، وأذهب ضعفَ الشكّ قوّةُ اليقين ، وما بعثني على ما فعلت إلّا مائة بعير جُعلت لي على إغضابك.

فقال له الأمير : لا تثريب عليك. ووصله بمائتي بعير ، نصفها للرهان ، والنصف


الآخر له ، فانصرف الأعرابي داعياً له شاكراً لهباته ، معجباً بأناته (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الهل على محمّد وعلى آله المعصومين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ حكاه اليافعيّ في : مرآة الجنان : ٦٤٢ بتفاوتٍ في بعض الكلمات.


المبحث الحادي والعشرون : في الرحمة الإلهيّة

قال عليه السلام : أللّهُمَّ اِنّي اَجِدُ سُبُلَ الْمَطالِبِ اِلَيْكَ مُشْرَعَةً ، وَمَناهِلَ الرَّجاءِ اِلَيْكَ مُتْرَعَةً ، وَالاِسْتِعانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ اَمَّلَكَ مُباحَةً ، وَاَبْوابَ الدُّعاءِ اِلَيْكَ لِلصّارِخينَ مَفْتُوحَةً ، وَاَعْلَمُ اَنَّكَ لِلرّاجين بِمَوْضِعِ اِجابَة ، وَلِلْمَلْهُوفينَ بِمَرْصَدِ اِغاثَة ، وَاَنَّ فِي اللَّهْفِ اِلى جُودِكَ وَالرِّضى بِقَضائِكَ عِوَضاً مِنْ مَنْعِ الْباخِلينَ ، وَمَنْدُوحَةً عَمّا في اَيْدي الْمُستَأثِرينَ.

ما زال الداعي عليه السلام يهيّئ الأجواء الصحيحة لاستجابة الدعاء ، فهو يحمد الله سبحانه ويثني على آلائه ، وينسب إليه كلَّ خير وجميل ، وأنّه سبحانه قد فتح الأبواب إليه على مصاريعها لاستقبال الوافدين ، وها هي موائده مبذولة لكلّ محتاج ، وأنّ فيه الغنى عن غيره تعالى.

الرحمة إذا نسبت إلى الإنسان فالمراد منها رقّة القلب والإشفاق والتأثّر النفسيّ ، أمّا إذا نُسبت إلى الله سبحانه فالمراد منها العطاء والفيوضات الإلهيّة النازلة من عنده سبحانه لسدّ حاجة الخلائق ، كلٌّ حسب استعداده للتلقّي.

والرحمة الإلهيّة قسمان :

١. رحمة عامّة : شاملة لجميع الخلائق والموجودات لتكميل مسيرتها الارتقائيّة إلى الله وسدّ حاجاتها ، وهذه الرحمة تشمل المؤمن والكافر ، والبَرَّ والفاجر ، وذا


الشعور وغيره.

٢. رحمة خاصّة : تشمل الإنسان السائر في طريق الله ، المتوجّه إلى سعادة القرب منه سبحانه ، وهذه الرحمة مختصّة بالمؤمن دون غيره ، وتكون بالمقابلة لقاء إيمانه وعمله وسعيه ، فينال الإشراق الروحيّ ، والنور الباطنيّ ، ورضوان الله تعالى في الدنيا والآخرة.

أما العذاب الإلهيّ ، فليس فيه عذاب عامّ ، بل هو عذاب خاصّ بالخارجين عن خطّ التوحيد ، وسبيل السعادة ، فما يصيب الإنسان من شدّة وابتلاء وضنك في المعيشة ، فإن كان كافراً فهذا نتيجة حتميّة وأثر للإعراض عن ذكر الله :

قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ * وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ) (١).

أمّا ما يصيب المؤمنَ من فقر وحرمان وقتل وتعذيب وتشريد ، فهو من مصاديق الرحمة الإلهيّة له ، وكلّما ازداد إيماناً ازداد ابتلاؤه ، وعلا شأنه ، كلّ ذلك وفق المنظور الإلهيّ ، ووفق المصالح والحِكَم البعيدة التي لا يعلم كنهها إلّا الله تبارك وتعالى ، وهذا يحتاج إلى وعي عميق ، وبصيرة نافذة ، وحسن ظنٍّ بالله جلّ وعلا.

فالابتلاءات تتحوّل إلى سعادة داخليّة ، أو مغفرة ، أو إنّها تردّ بعض البلاء ، وربّما تكون الذخيرة الكبيرة ليوم المعاد.

والرحمة من الصفات الكماليّة الفعلية التي لا تحملها إلّا النفوس الكبيرة ، والقلوب الرقيقة ، التي دأبها التسامي عن عالم المادة والزخارف والأهواء ، المتحرّرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ١٢٤ ـ ١٢٧.


من الكِبْر والطغيان والتسلّط ، ولكنّ الإسلام أمر بالرحمة بتغليب جانب العقل على العاطفة في عالم التطبيق والتصرّفات العملية. ونشير إلى حقيقتين مهمّتين :

١. إنّ الرحمة لم يؤمر بها أو يندب إليها على وجه الإطلاق ، خصوصاً في عالم الاجتماع ، لأنّ هذا يؤدّي إلى انفلات النظام ، وفقدان الأمن الاجتماعي ، فلا ينال الظالم جزاءه ، ولا الباغي عقوبته.

٢. إذا نادى العقل والضمير بتحكيم مبدأ الرحمة ، فعلينا أن ننظر بوعي إلى المصالح الاجتماعيّة ، والأحكام الشرعيّة التي جاءت لتنظّم حياة الإنسان : الفرد والمجتمع ، ولا يكون ذلك إلّا بعد استتباب جانب العدل كمرحلة متقدّمة على الإحسان : (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

إنّ المراد بالعدل هو الإنصاف ، ولزوم التوازن والاعتدال ، والاجتناب عن جانبي الإفراط والتفريط في الأمور. والعدل هو المساواة والموازنة ، ووضع كلّ شيء موضعه ، فيُثاب المحسن ويُعاقَب المسيء.

أمّا الإحسان ، فالمراد منه مقابلة الخير بالأكثر ، ومقابلة الشرّ بالأقلّ ، وربّما بالعفو ، وقد يكون له الأثر الإيجابيّ في نشر الرحمة وغرس المودّة ، واستجلاب الأمن والرفاه للفرد والمجتمع.

وقد يكون للإحسان مع غير أهله آثار سلبيّة ، تصادر الأمن الفرديّ والاجتماعيّ ، فقد رأينا سماسرة السياسة ، خِدمةً لمصالحهم وتحقيقاً لمآربهم القذرة ، يصدّرون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ٩٠.


القرارات والمراسيم للعفو عن السجناء من القتلة والسرّاق ، والباغين والمعتدين ، وبعد خروج هؤلاء إلى الساحة الاجتماعيّة تتجدّد شرورهم وجرائمهم ثانية ، بل بشكل أشدّ. ونعم ما قيل : من أمن العقاب أساء الأدب (١).

وقال الشاعر زهير بن أبي سلمى :

وَمَنْ يَجعلِ المعروفَ في غير أهلِهِ

يكنْ حمدُهُ ذمّاً عليهِ ويندمِ (٢)

ورُوي أنّ أحد المشركين جيء به أسيراً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكان في عداد مَن أمر النبيّ صلى الله عليه وآله بقتلهم ، فقال : يا محمّد ، إنّ بيني وبينك رحماً ولي صِبْية صغار ، فاتركني للصِّبْية. فعفا عنه واشترط عليه أن لا يخرج لقتاله. فذهب إلى نوادي قريش وقال : ضحكتُ على محمّد! فلمّا جيء به ثانية أسيراً لخروجه لقتال النبيّ صلى الله عليه وآله ، قال : يا محمّد ، مَن للصبية؟

فقال صلى الله عليه وآله ما معناه : لهم النار ، أتريد أن تعود إلى نوادي قريش وتقول : خدعتُ محمّداً مرّتين؟ ثمّ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام فضرب عنقَه (٣).

إنّ الخيرات الإلهيّة والنعم الإلهيّة تصدر عن الله سبحانه ، وتفيض من خزائن رحمته بلا انقطاع ، وتسيل من بحار كرمه دون توقّف ، فما على العبد إلّا أن يتعرّض لها ، وهذه النعم هي موائد الله في الأرض ، فمنهم من يُعاطاها بدون مقابل ولا جزاء ، فتشمل البَرَّ والفاجر ، وهناك موائد خاصّة للعباد الذين أخلصوا لله ، كلّ حسب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قولٌ جرى على لسان الخاصّ والعامّ.

٢ ـ جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشيّ : ١٦٣.

٣ ـ هذا الشخص هو أبو عزّة الجُمَحي ، وقع أسيراً يوم بدر فأطلقه النبيّ بعد أن استعطفه ، فلمّا كانت أحد خرج لحرب النبيّ صلى الله عليه وآله مرّةً أخرى فوقع أسيراً مرّةً أخرى. [سنن البيهقي ٦ : ٣٢٠]


درجته مقابل الاعتقاد والعمل والسلوك.

ومنازل الرحمة ثلاثة :

١. منزل الفقر والحاجة : فكلّ كائن فقير محتاج ، وهو يأخذ من مواهب الله ونعمه على قدر فقره وحاجته ، فكلّما كان فقره أشدّ وحاجته أعظم ، أصابته تلك النعم والفيوضات بالشكل الذي يناسب حاله ومقامه. فإنّ الارتواء يستفيد منه من هو أشدّ عطشاً ، والشفاء ينال ذلك المريض المحتاج إليه ، وقد ورد في الدعاء المأثور : يا مَن يعطي مَن سأله ، يا مَن يُعطي مَن لم يسأله ولم يعرفه ، تحنّناً منه ورحمة (١).

فالله يعطي كلّ محتاج ، سواء الطالب والسائل والعارف أو غيرهم ، فالحاجة هي التي تستدعي نزول الخير ، بل قل : إنّ هذه الفيوضات تنزل وتفتّش عن مواضع الفقر والحاجة ، وقد نُقل عن أحد العارفين قوله : لا تطلب الماء واطلب الظمأ ، حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.

وعلينا أن ننظر إلى المقابلة بين صفات الله سبحانه من جانب وبين صفاتنا من جانب آخر ، فهو الخالق العظيم ونحن مخلوقاته الضعيفة ، وهو سبحانه وتعالى يقابل ضعفنا بالإمدادات والفيوضات والنعم ، ويقابل جهلنا بالحلم ، وذنوبنا بالعفو والمغفرة ، وعجزنا بالقوّة ، وفقرنا بالغنى ، لأنّ فقرنا وجهلنا ، وعجزنا ونقصنا من منازل الرحمة الإلهيّة.

٢. منزل السؤال والدعاء : وقد يُعبَّر عنه بوعي الفقر والاحتياج ، وهذا من أقوى أسباب استنزال الرحمة واستمطار النعم الإلهيّة ، فهناك معادلة قوامها طرفان :

أ ـ دعاء صاعد إلى ساحة القداسة وعالم الكمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إقبال الأعمال : ١٤٦ ـ ١٤٧.


ب ـ إجابة نازلة بالخير.

وهذا القانون لا يتخلّف أبداً لمكان الشرط وجزائه كما في الآية الشريفة : قال تعالى : (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم) (١) ، نعم قد يكون المانع في نفس السائل ، وقد تكون الإجابة غير ملائمة للمصالح والحِكَم ، لكنّ الله يبدلها خيراً ممّا طلب السائل ، فقد يجعلها مغفرة ورفعة شأن ، ولربّما يؤخّرها لعلمه بعاقبة الأمور ، أو يجعلها حاجة مستجابة في عالم القيامة ، وعندما يكون الداعي أحوجَ إليها.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما مِن عبدٍ سَلَك وادياً فيبسط كفَّيه فيذكر الله ويدعو ، إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات ، فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر (٢).

٣. منزل السعي والعمل : قال تعالى : (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحييّنه حياةً طيّبة) (٣) ، وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل (٤) وعن الإمام الصادق عليه السلام : يا فلان ، أبلغ شيعتنا أنّه لا يُنال ما عند الله إلّا بالعمل (٥).

وننتقل من الحديث عن الرحمة في الدنيا إلى موضوع الرحمة الإلهية في الآخرة ، ففي «الدرّ المنثور» : رُوي أنّ أعرابيّاً جاء فأناخ راحلته ، ثمّ عقلها ، ثمّ صلّى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثمّ نادى : اَللّهمّ ارحَمْني ومحمّداً ولا تُشرِك في رحمتنا أحداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لقد حظرت رحمة واسعة ، إنّ الله خلق مائة رحمة ، فأنزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٦٠.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٥٢.

٣ ـ النحل : ٩٧.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٥٠.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٧٠ / ح ٧٩٦.


رحمة يتعاطف بها الخلائق : جنّها وإنسها ، وبهائمها ، وعنده تسعة وتسعون (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : والذي نفسي بيده ، لَيغفِرنّ الله يوم القيامة مغفرةً يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله : إنّ لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة (٣).

وورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله قوله : والذي نفسي بيده ، لا يضع الله الرحمة إلّا على رحيم ، قالوا : يا رسول الله ، كلّنا رحيم ، قال صلى الله عليه وآله : ليس الذي يرحم نفسه وأهله خاصّة ، وذاك الذي يرحم المسلمين (٤). وورد في الحديث القدسيّ : وإن كنتم تريدون رحمتي فارحموا (٥).

وعن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ الله عزّ وجلّ رحيم يحبّ كلّ رحيم (٦) ، وقال صلى الله عليه وآله : الراحمون يرحمهم الرحمان ، إرحموا مَن في الأرض يَرحمْكم مَن في السماء (٧).

وآل محمّد عليهم الصلاة والسلام أعظم رحمات الله على العباد ، إذ هم الامتداد لجدّهم الذي وصفه الله ، وهو أصدق القائلين : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مسند أحمد ٤ : ٣١٢.

٢ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ٣ : ١٦٨ / ح ٣٠٢٢.

٣ ـ مسند أحمد ٥ : ٤٣٩.

٤ ـ الرسالة السعديّة : ١٦٥ ، غوالي اللآلي ١ : ٣٧٦ / ح ١٠٦.

٥ ـ الكامل لعبد الله بن عديّ ٣ : ٣٠.

٦ ـ وسائل الشيعة ١٢ : ٢١٦ / ح ١٦١٢٥.

٧ ـ مسند أحمد ٢ : ١٦٠.


لِّلْعَالَمِينَ) (١).

فعن الأصبغ بن نُباتة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ كُفْرًا) ، قال عليه السلام : نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد (٢).

وهذا من باب الجَرْي والتطبيق ، إذ هم عليهم السلام أعظم مصاديق الرحمة الإلهيّة ، والنبيّ صلى الله عليه وآله كما كان رحمة للعالمين حال وجوده الشريف ، هو رحمة للعباد بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أيضاً.

قال الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلوات الله عليه وآله وهو في نفرٍ من أصحابه : إنّ مُقامي بين أظهُرِكم خيرٌ لكم ، وإنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم ... أمّا مُقامي بين أظهركم فإنّ الله يقول : (وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ... أما مفارقتي إيّاكم فهو خيرٌ لكم ؛ لأنّ أعمالكم تُعرَض عَلَيَّ كلّ إثنينِ وخميس ، فما كان مِن حَسَن حَمِدتُ الله عليه ، وما كان مِن سيّئٍ أستغفرُ الله لكم (٣).

وكان الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قرأ هذه الآية : (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا) (٤) ، يقول : سبحان مَن لم يجعل في أحدٍ مِن معرفة نعمه إلّا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد مِن معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يُدركه ، فَشَكَر جَلَّ وَعَزَّ معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره ، فجعل معرفتهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٢ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢٢٩ ح ٢٤ ، والآية في سورة إبراهيم : ٢٨.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٥٤ / ح ٤٥ ، الأمالي للطوسيّ : ٤٠٨ ، والآية في سورة الأنفال : ٣٣.

٤ ـ إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨.


بالتقصير شكراً ، كما عَلِمَ العالمين أنّهم لا يدركونه فجعله إيماناً (١).

لقد أراد الله سبحانه أن يكرم عباده وأولياءه بالتوجّه إليه مباشرة ، دون اللجوء إلى الأسباب الظاهريّة ، فإنّ اللجوء إليها على نحو استقلاليّتها من الشرك الخفيّ الذي له آثاره السلبيّة على حياة الإنسان.

إنّ هذه الأسباب ـ كما ذكرنا في أكثر من موضع ـ تقع في طول الإرادة الإلهيّة ولا تأثير لها دون إنفاذ مشيئته سبحانه ، ومن هذه : الإنسان نفسه ، فقد أراد الإسلام أن يغرس في نفوسنا التوجّه إلى الله سبحانه أنّه مُسبِّب للأسباب ، ولأنّه السبب الحقيقيّ الأصيل لرفع حوائجنا ، فإنّ الذي يلجأ إلى غيره من البشر سيجد المنع والبخل والاستئثار وربّما الإهانة ، وهذه من الصفات الذميمة.

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (٢) : لمّا نزلت هذه الآية استوى رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً ثمّ قال : من لم يَتَعَزَّ بعزاء الله تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات ، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس طال همُّه ولم يَشْفِ غيظه ، ومن لم يعرف أنّ لله عليه نعمةً إلّا في مطعم أو في مشرب ، قَصُر أجَلُه ودنا عذابه (٣).

وقد تكلّمنا في مبحث سابق حول البخل ، وسوف نتكلّم حول القناعة والإيثار.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجاديّة : ٢٥ ، الكافي ٨ : ٣٩٤ / ح ٥٩٢.

٢ ـ طه : ١٣١.

٣ ـ تفسير القمّي ٢ : ٦٥.


المبحث الثاني والعشرون : في القناعة

القناعة : ضدّ الحرص وهي الاجتزاء باليسير من الأَعراض المحتاج إليها.

والقانع : هو السائل الذي لا يلحُّ في السؤال.

والقناعة مَلَكة نفسيّة محمودة ، وهي أصل لمجموعة من الفضائل : كالكرم والسخاء والجود والإيثار ، والرضى عن الله ، وسمة من سمات شكر المنعم.

وعدم القناعة صفة مذمومة تقود صاحبها إلى مساوئ الأخلاق ، والانشداد إلى الأرض والزخارف والأهواء والتعب والسخط على قضاء الله.

والقناعة تبعث على الاطمئنان النفسيّ المطلوب للعبادة ، وسلوك طريق الله ، وتهذيب النفس ، والتحلّي بمكارم الأخلاق.

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : إنّما أَخافَ عليكم اثنتين : اتّباعَ الهوى ، وطولَ الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فإنّه يَصُدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة (١).

وقد وردت مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على القناع المحمودة ، قال الإمام الرضا عليه السلام : مَن لم يُقْنعه من الرزق إلّا الكثير لم يَكْفِهِ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣٦ / ح ٣ ـ باب اتّباع الهوى.


العمل إلّا الكثير ، ومَن كفاه من الرزق القليلُ فإنّه يكفيه من العمل القليلُ (١). والقناعة تعبّر عن الغنى في النفس الإنسانيّة المطمئنّة إلى ما قسم الله لها من متاع الدنيا ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن قَنَع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس (٢).

وشكا رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام أنّه يطلب فيُصيب ولا يقنع ، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه ، وقال : علِّمْني شيئاً أنتفع به ، فقال عليه السلام : إنْ كان ما يَكْفيك يُغْنيك ، فأدنى ما فيها يُغنيك ، وإن كان ما يَكفيك لا يُغنيك ، فكلُّ ما فيها لا يُغنيك (٣).

وعن الصادق عليه السلام قال : من قنع بالمقسوم ، استراح من الهمّ والكدّ والتعب (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : القناعة مُلكٌ لا يزول ، وهي مركب رضى الله تحمل صاحبَها إلى داره (٥).

وورد في الأحاديث الشريفة أنّ القناعة : غنىً ، وعزٌّ ، وعفافٌ ، وأنّها علامة الأتقياء ، وعنوان الرضى عن الله ، وأنّها كنز لا يَفنى ، وأنّها أهنأ عيشة.

وقد مثّل النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة من أهل البيت الكرام عليهم السلام أعظم صور القناعة وأرقاها ، ولم يكن ذلك من عوز أو حاجة ، بل من إيثار وكرم وسخاء ، فلقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله يجاري الريح في كرمه وعطائه ولكنّه كان زاهداً ، قانعاً ، حتّى رُوي أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ٩.

٣ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ١٠.

٤ ـ مصباح الشريعة : ٢٠٢ ـ الباب الثامن والتسعون.

٥ ـ نفسه : ٢٠٣ ـ الباب الثامن والتسعون.


قوته صلى الله عليه وآله كان الشعير ، وحلواه التمر ووقوده السعف إن وجده (١).

وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه وعرق جبينه ، لكنّه كان مثالاً رائعاً للزهد والقناعة (٢).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : كن ورعاً تكن أعبد الناس ، وكن قانعاً تكن أشكر الناس ، وأحِبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مؤمناً (٣).

وروي أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه تعالى : أيُّ عبادك أغنى؟ فقال سبحانه : أقنعُهم لما أعطيته (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : مَن رضيَ من الله باليسير من المعاش ، رضيَ الله منه باليسير من العمل (٥).

وقال عليه السلام : مكتوب في التوراة : إبنَ آدم ، كن كيف شئت ، كما تَدين تُدان ، مَن رضيَ من الله بالقليل من الرزق ، قَبِل الله منه اليسيرَ من العمل ، ومَن رضيَ باليسير من الحلال ، خفّت مؤونتُه ، وزكت مَكْسبتُه ، وخرج من حدّ الفجور (٦).

وورد عنه عليه السلام : كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد ضيقاً في معيشته (٧).

وللقناعة مراتب ودرجات مثل غيرها من الملكات والصفات الكماليّة المحمودة ، وهي تختلف من شخص لآخر قوّةً وضعفاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ١.

٢ ـ المحاسن : ٦٢٤ / ح ٨٠.

٣ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٠ / خ ٤٢١٧.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ١٠٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ٣.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٤.

٧ ـ نفسه ٢ : ٢٦١ / ح ٤.


وورد في «عيون أخبار الرضا» أنّ سلمان المحمّدي دعا أبا ذرّ الغفاري ذات يوم إلى ضيافة ، فقدّم إليه من جرابه كسرةَ خبز يابسة وبلَّها من رَكْوته ، فقال أبو ذر : ما أطيبَ هذا الخبز لو كان معه ملح! فقام سلمان وخرج ، ورهن ركوته بملح وحمله إليه ، فجعل أبو ذرّ يأكل الخبز ويذرّ عليه ذلك الملح ويقول : الحمد لله الذي رزقنا هذه القناعة ، فقال سلمان : لو كانت قناعة ، لم تكن ركوتي مرهونة (١)!

ونعم ما قيل في الأثر : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين (٢).

وقال تعالى في محكم كتابه المبين : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) (٣).

الآية الشريفة تنهى عن التعلّق بأسباب الدنيا وزينتها وزخرفها إلى الحدّ الذي تستعبد الإنسان وتوقعه في شَرَكِها.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٥٣ / ح ٢٠٣.

٢ ـ كشف الخفاء ١ : ٣٥٧.

٣ ـ طه : ١٣١.


المبحث الثالث والعشرون : في الإيثار

الإيثار : المآثر ما يُروي من مكارم الإنسان ، ويُستعار الأثر للفضل ، والإيثار للتفضّل ، ومنه : آثَرْتُه (١) ، وقوله تعالى : (٢).

وإيثار الشيء : اختياره وتقديمه على غيره ، والخَصاصة : الفقر والحاجة.

والإثرة والاستئثار : التفرّد بالشيء دون غيره ، وهو من الصفات المذمومة.

والمندوحة : السَّعة والفُسحة والمجال للخروج من الضيق والحرج.

إنّ للجود والسخاء مراتبَ أرقاها الإيثار ، وهو أن يقدّم الإنسان قضاء حاجة غيره على حاجته ، وهذه من أعلى مراتب الصفات التي ندب إليها الشارع المقدّس وسيرة الأنبياء عليهم السلام.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : أيُّما امرئٍ اشتهى شهوة ، فردّ شهوته ، وآثر على نفسه ، غُفر له (٣) ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله يؤثر ذوي الحاجة من المسلمين على نفسه وعياله ، حتّى قالت إحدى زوجاته أنّه صلى الله عليه وآله ما شبع ثلاثة أيّام متوالية حتّى فارق الدنيا ، ولو شئنا لشبعنا ولكن كنّا نؤثر على أنفسنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ٩.

٢ ـ الحشر : ٩.

٣ ـ الكامل لعبد الله بن عديّ ٥ : ١٢٧.


ومن أعظم موارد الإيثار هو الجود بالنفس لأجل الآخرين فيما يُرضي الله سبحانه ، وقد مثّل ذلك أمير المؤمنين صلوات الله عليه بأجلى صورة عندما أقدَمَ على أن يفتدي النبيَّ صلى الله عليه وآله وينام في فراشه ليلة الهجرة ليقيه بنفسه ، وفي ذلك باهى الله الملائكة ، وأنزل فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ) (١).

ونعم ما قيل في هذا المقام : والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجُودِ (٢).

ومن الآيات التي نزلت في الإيثار قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، وهي نازلة في الإمام عليّ والصدّيقة فاطمة والسبطين الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، حتّى قال رسول الله صلى الله عليه وآله للإمام عليّ عليه السلام ، لقد عَجِب الربُّ من فعلِكُم البارحة! (٣)

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة ٢٠٧ ، يراجع في تفسير الآية المباركة هذه : المستدرك على الصحيحن للحاكم النيسابوري الشافعي ٣ : ٤ ، تفسير القرطبي ٣ : ٣٤٧ ، اُسد الغابة ٤ : ٢٥ ، كفاية الطالب : ١١٤ ، ذخائر العقبى : ٨٨ ، نور الأبصار : ٨٦ ، الفصول المهمّة : ٣٣ ، تذكرة خواصّ الأمّة : ٢١ ، وعشرات المصادر مجمعةً على نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام.

٢ ـ تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٣ : ٣٩٢.

٣ ـ يراجع في تفسير الآية على سبيل المثال : شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني الحنفي ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، وجميع التفاسير الشيعية والكتب الحديثيّة التي تطرّقت للآية ، منها : مناقب آل أبي طالب ٢ : ٨٧ ـ ط دار الأضواء ، عن تفسير أبي يوسف ، وأمالي الشيخ المفيد.


المبحث الرابع والعشرون : الآثار الوضعية للأعمال

قال عليه السلام : وَاَنَّ الرَاحِلَ اِلَيْكَ قَريبُ الْمَسافَةِ ، وَاَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلّا اَنْ تَحْجُبَهُمُ الْاَعمالُ دُونَكَ.

هذه القطعة الرائعة الفيّاضة بالإشراق الروحيّ والشفّافيّة ، تشير إلى أنّ القرب الإلهي متحقّق لمن أراد أن يهاجر إلى ربّه ، فالله سبحانه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، وأقرب إليه من نفسه. إنّ الإنسان أثر جميل من آثار الله وبديع صنعه ، فالله يحبّ آثار صنعه لأنّ فيها عين الحبّ لنفسه ، ولكن الابتعاد والإعراض هو المتحقّق من قِبل الإنسان ذاته ، فقربُ من الإنسان من الله هو القرب من رحمته ومن موجبات غفرانه وثوابه عن طريق الإخلاص والعبادة والإتيان بصالح الأعمال.

أمّا قرب الله من العبد ففي شموله بألطافه وبرّه وإحسانه ، وقد يُراد به القرب المعنويّ والروحانيّ ، وهو ما يحصل عليه العبد من أفعال الربوبيّة بالامتداد ، كالولاية التكوينيّة بما يناسب مقامه ودرجة قربه من الله عزّ وجلّ.

وقد ورد في الحديث القدسيّ : عبدي إطِعْني أجعلْك مثلي ، أنا مهما أشأْ يكن ، أجعلك مهما تشأْ يكن (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مشارق أنوار اليقين : ١٠٠ ، إرشاد القلوب : ٧٥ ـ الباب ١٨ ، عدّة الداعي : ٣١٠.


والدعاء يشير بوضوح إلى أنّ الله سبحانه لا يحتجب عن خلقه ، بل بابه مفتوح من دون حاجب ولا وزير ، لكنّ الحاجب ذاتيّ ، قوامه الأعمال التي تصدر من الإنسان من ذنوب ومعاصٍ ، وصفات ذميمة ، فإنّ لهذه الأعمال آثاراً وضعيّة على مسيرة الإنسان وحياته ، بل لها آثار على أجزاء الكون ومفاصل الحياة ، واحتجاب الخالق عن بعض خلقه احتجاب مجازاةٍ شأنَه شأن المكر والخداع والطبع على القلوب ، والمراد من ذلك الحجب سلب التوفيق ومنع الكمالات والفيوضات بسبب الذنوب.

إنّ الإنسان إذا اقترف الذنوب ومارس المعاصي انعكس ذلك على نفسه ، فيسلبها الإشراقَ والصفاء والانفتاح على عالم القداسة ، وهذا يقودها شيئاً فشيئاً إلى عالم من الظلمات والكدورات والصفات الرذيلة ، ويطبعها على الأخلاق المذمومة ، فقد ورد في الآثار المعتبرة عن آل البيت الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام الكثير من الأحاديث الشريفة في ذلك.

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتةٌ بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتةٌ سوداء ، فإن تاب ذهب السواد ، وإنْ تَمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يُغطّيَ البياض ، فإذا غُطّيَ البياض لم يَرجِع صاحبه إلى خيرٍ أبداً ، وهو قول الله عزّ وجلّ : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : كان أبي عليه السلام يقول : ما من شيء أفسدَ للقلب من خطيئة ، إنّ القلب لَيُواقع الخطيئة ، فما تزال به حتّى تَغلِب عليه ، فيُصَيَّر أعلاه أسفلَه (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٧٣ / ح ٢٠ ، والآية في سورة المطفّفين : ١٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦٨ / ح ١.


وقد أكّد الإسلام على مبدأ المحاسبة ، «محاسبة النفس» ، فقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ، وزِنوها قبل أن توزنوا (١) ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : وإنّ اليومَ عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل (٢).

وعن الإمام الكاظم عليه السلام قوله : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عَمِلَ حَسَناً استزاد الله ، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه (٣).

وقد أمر الإسلام أتباعه بمواصلة عمليّة الارتقاء في سلّم الكمال بلا توقّف ولا انقطاع.

عن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخِرُ يومَيه خيرَهما فهو مغبوط ، ومن كان آخِرُ يومَيه شرَّهما فهو ملعون ، ومَن لم يَرَ الزيادةَ في نفسه فهو إلى النقصان ، ومَن كان إلى النقصان فالموتُ خيرٌ له من الحياة (٤).

إنّ لمرتكب المعصية أحكاماً ، منها : دنيويّة ، كالقتل والجَلد والتعزير ، وقطع الد والسجن ، أو الكفّارات والدِّيات مثلاً ، ولها عقوبات أخرويّة قد تصل إلى دخول النار أو الخلود فيها ، وقد يكون لها عقوبات في عالم البرزخ كذلك.

ولكن لهذه المعاصي آثار وضعيّة قد تنعكس على الفرد أو على ذرّيته ، أو على مفاصل الكون والحياة كالأمطار أو الجدب ، أو الفقر أو الكوارث الطبيعيّة والنقص في الثمرات وغيرها ، وقد تكون الآثار الوضعيّة إيجابيّة ، وذلك عندما يتوجّه الإنسان الفرد والمجتمع إلى الله تعالى ، وقد تكون سلبيّة نتيجة الانحراف والغفلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وسائل الشيعة ١٦ : ٩٩ / ح ٢١٠٨٢ ـ عن : محاسبة النفس للسيّد ابن طاووس : ١٣.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٤٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٥٣ / ح ٢.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٤٢ / ح ٣.


والإعراض عن سبيل الله عزّ شأنه.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : الآية بظاهر لفظها عامّة ، ولا تختصّ بزمان دون زمان ، أو بمكان ، أو بواقعة خاصّة ، فالمراد بالبرّ والبحر معناهما المعروف ، ويستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض ، من : الزلازل ، وقطع الأمطار ، والسنين «المجديّة» ، والأمراض السارية ، والحروب والغارات ، وارتفاع الأمن ، وبالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواءً كان مستنداً إلى اختيار بعض الناس ، أو غير مستند إليه ، فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلٌّ بطيب العيش الإنسانيّ.

وقوله تعالى : (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شركٍ أو معصية ، وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، وأيضاً في مباحث النبوّة أنَّ بين أعمال الناس والحوادث الكونيّة رابطةً مستقيمة ، تتأثّر إحداهما من صلاح الأخرى وفسادها (٣).

ويُستدلّ على ذلك من الكتاب العزيز بما يلي ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (٤) ، (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٥) ، (وَلَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٤١.

٢ ـ الأعراف : ٩٦.

٣ ـ تفسير الميزان ١٦ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤ ـ الرعد : ١١.

٥ ـ الشورى : ٣٠.


يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ) (١) ، (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (٢) ، (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (٣).

ومن السنّة الشريفة : قال الإمام الصادق عليه السلام : يقول الله عزّ وجلّ : إذا عصاني مَن عَرَفَني ، سلّطت عليه من لا يَعرِفُني (٤).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما اختلج عِرقٌ ولا عَثَرَت قَدَمٌ إلّا بما قدّمت أيديكم ، وما يعفو الله عزّ وجلّ عنه أكثر (٥).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أما إنّه ليس من عِرقٍ يُضرَب ، ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلّا بذنب (٦).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله : من قارف ذنباً فارقَه عقلٌ لا يعد إليه أبداً (٧). وقال الإمام الباقر عليه السلام : ما من نكبة تُصيب العبدَ إلّا بذنب (٨).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ الله قضى قضاءً حتماً ، ألا يُنعِمَ على العبد بنعمةٍ فيَسلُبَها إيّاه حتّى يُحْدِث العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النِّقمة (٩).

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال : كلّما أحدث العبادُ من الذنوب ما لم يكونوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٣١.

٢ ـ المائدة : ٤٩.

٣ ـ الكهف : ٥٩.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٧٦ / ح ٣٠.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٧٠ / ح ١١٨٠.

٦ ـ الكافي ٢ : ٢٦٩ / ح ٣.

٧ ـ جامع السعادات ١ : ٦٧ ، المبدأ والمعاد لصدر الدين الشيرازيّ : ٤٨١ ، المحجّة البيضاء ٨ : ١٦٠.

٨ ـ الكافي ٢ : ٢٦٩ / ح ٤.

٩ ـ الكافي ٢ : ٢٧٣ / ح ٢٢.


يعملون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون (١).

إنّ الذنوب والمعاصي لها آثار وضعيّة في عالم التكوين ، شأن الجراثيم والبكتريا والفيروسات التي تدخل الجسم فتعبث به ، فمنها ما يسبّب الرمد ، ومنها ما يسبّب السرطان ، ومنها ما يسبّب أمراض القلب أو المعدة ، وهكذا هي الذنوب ، وقد ورد في السنّة الشريفة الكثير حول هذا الامر ، وها نحن ننقل غيضاً من فيض :

أ ـ الآثار الوضعيّة الإيجابيّة لعمل الإنسان :

ورد أنّ الصلاة على محمّد وآله ترفع الحجب عن استجابة الدعاء (٢). وورد أنّ الصدقة تدفع مِيتة السوء ، وتخلف البركة ، وتزيد في العمر ، وتستنزل الرزق ، وتداوي الأمراض والعلل (٣).

وورد أنّ حسن الجوار يعمّر الديار ، وينسئ في الأعمار (٤) ، ويزيد في الرزق (٥).

وورد أنّ صلة الأرحام تزكّي الأعمال ، وتنمّي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسئ في الأجل (٦).

ب ـ الآثار الوضعيّة السلبيّة لعمل الإنسان :

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : في الزنا خمس خصال : يَذهب بماء الوجه ، ويُورث الفقر ، ويُنقص العمر ، ويُسخط الرحمان ، ويُخلّد في النار ، نعوذ بالله من النار! (٧)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٢٧٥ / ح ٢٩.

٢ ـ وسائل الشيعة ٧ : ٩٥ ح ٨٨٣٣.

٣ ـ الهداية للصدوق : ١٨٢ ـ الباب ٨٨.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٨ / ح ١٠.

٥ ـ نفسه ٢ : ٦٦٦ / ح ٣.

٦ ـ نفسه ٢ : (١)٥٠ / ح ٤.

٧ ـ الكافي ٥ : ٥٤٢ / ح ٩.


وورد فيه أن إذا ظهرت الفاحشة «الزنا» في قوم علانيةٍ ظهر فيهم الطاعون والأوجاع ، والفَناء وموت الفُجأة (١).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قوله : إتّقِ الزنا فإنّه يَمحقُ الرزق ، ويبطل الدِّين (٢).

وفي الحديث القدسيّ : قال سبحانه : لا تَزْنوا فتزني نساؤكم ، ومن وطأ فراش امرئ مسلم وُطئ فراشه ، كما تَدين تُدان (٣).

وورد : إذا أنقصوا المكيال والميزان ، أُخذوا بالسنين (الجدب) ، وشدّة المؤونة ، وجور السلطان (٤).

وورد أن إذا مُنعوا الزكاة منعوا المطر ، ومنعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن (٥).

وإذا نقضوا عهد الله وعهد رسوله ، سلّط الله عليهم عدوّهم ، فأخذ بعض ما في أيديهم (٦).

وإذا لم يحكموا بما أنزل الله ، جعل الله بأسهم بينهم (٧).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إتّقوا الحالقة ، فإنّها تُميت الرجال ، قيل له : وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٣٧٣ / ح ١ ـ باب في عقوبات المعاصي العاجلة ، الكافي ٥ : ٥٤١ / ح ٤ ، وسائل الشيعة ١٦ : ٢٧٣ / ح ٢١٥٤٩ ، ويراجع : الخصال : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

٢ ـ الكافي ٥ : ٥٤١ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٥ : ٥٤٤ / ح ٤.

٤ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٥٢ ، الكافي ٢ : ٣٧٣ / ح ١.

٥ ـ علل الشرائع : ٥٨٤ / ح ٢٦ ـ الباب ٣٨٥ في نوادر العلل.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.

٧ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.


الحالقة؟ قال عليه السلام : قطيعة الرحم (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا ظهر العلم واحترز العمل ، وائتلفت الألسن واختلفت القلوب ، وتقاطعت الأرحام ، هنالك لعنهم الله فأصمّهم ، وأعمى أبصارهم (٢).

وورد أن إذا لم يأمروا بالمعروف ، ولم يَنهَوا عن المنكر ، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيت النبيّ ، سلّط الله عليهم شرارهم ، فيدعو خيارهم فلا يُستجاب لهم (٣).

وورد : الظلم يهتك العِصَم (٤).

وورد : أنَّ دعوة المظلوم على ظالمه ، ودعوة الوالد على ولده أَحَدُّ من السيف (٥).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : ما من أحد يظلم بِمَظلمةٍ إلّا أخذه الله بها في نفسه وماله (٦).

وقال عليه السلام : إنّ الله جلّ جلاله ، إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّره لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم ، وإلى الفيافي والبحار والجبال (٧).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنَّ أخوف ما أخاف على أمّتي من بعدي هذه المكاسب الحرام ، والشهوة الخفيّة ، والربا (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٣٤٢ / ح ٢.

٢ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٢ ـ باب عقاب قطيعة الرحم واختلاف القلوب.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.

٤ ـ نزهة الناظر للحلوانيّ : ٣٧.

٥ ـ مضمونة في : الكافي ٢ : ٥٠٩ / ح ٣ ، عدّة الداعي : ٤٣٥.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٣٢ / ح ١٢ ، أمّا الحديث التاسع فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : مَن ظَلَمَ مظلمةٍ أخِذ في نفسه أو في ماله أو في وُلده.

٧ ـ المحاسن : ١١٦ / ح ١٢٢.

٨ ـ الكافي ٥ : ١٢٤ / ح ١.


وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : كسبُ الحرام يَيبنُ في الذرّية (١).

وقال الإمام الكاظم عليه السلام : فيما قاله الله سبحانه لعبده داود : يا داود ، إنّ الحرام لا ينمى ، وإن نمي لم يُبارَك له فيه ، وما أنفقه لم يُؤجَر عليه ، وما خلّفه كان زادَه إلى النار (٢).

وورد في حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام عن بعض الأعمال التي تورث الفقر ، نذكر قسماً منها لطول الحديث : تركُ نسيج العنكبوت في البيت يورث الفقر ، والبول في الحمّام يورث الفقر ، والأكل على الجنابة يورث الفقر ، والتخلّل بالطرفاء «أي تنظيف ما بين الأسنان بعود من شجرة الطرفاء» ، والتمشّط من قيام يورث الفقر ، وترك القمامة في البيت يورث الفقر ، واليمين الفاجرة تورث الفقر ، والزنا يورث الفقر ، وإظهار الحرص يورث الفقر ، والنوم ما بين العشاءين يورث الفقر ، والنوم قبل طلوع الشمس يورث الفقر ، وترك التقدير في المعيشة يورث الفقر ، وقطيعة الرحم يورث الفقر ، واعتياد الكذب يورث الفقر ، وكثرة الاستماع إلى الغناء يورث الفقر.

ثمّ قال عليه السلام : ألا أنبّئكم بما يزيد الرزق؟ .. الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق ، والتعقيب بعد الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق ، وصلة الرحم تزيد في الرزق ، وكَشح الفِنا يزيد في الرزق ، ومواساة الأخ في الله يزيد في الرزق ، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق ، والاستغفار يزيد في الرزق ، واستعمال الأمانة يزيد في الرزق ، وقول الحقّ يزيد في الرزق ، وإجابة المؤذّن يزيد في الرزق ، وترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق ، وترك الحرص يزيد في الرزق ، وشكر المنعم يزيد في الرزق ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٥ : ١٢٥ / ح ٤.

٢ ـ نفسه ٥ : ١٢٥ / ح ٧.


واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق ، والوضوء قبل الطعام يزيد في الرزق ، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق (١) ، كلّ هذه تزيد في الرزق.

يُرجى من القارئ العزيز مراجعة كتابنا الموسوم «في ظلال دعاء كميل : صفحة ١٣٤ فما بعدها» للاستزادة ممّا ذكرناه.

ونرجو كذلك مراجعة «تفسير الميزان» للمرحوم السيّد الطباطبائيّ قدس سره ـ المجلّد الخامس ، للاطلاع على حديث طويل فيه يخبر النبيّ صلى الله عليه وآله سلمان المحمّديّ رضي الله عنه عن أشراط الساعة (٢) ، ففيه النفع الكبير إن شاء الله تعالى ، ونسأله الدعاء.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٥٠٤ / ح ٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٥ : ٣٩٤ ـ ٤٠١.


المبحث الخامس والعشرون : في شرائط قبول الأعمال

قال عليه السلام : وَقَدْ قَصَدْتُ اِلَيْكَ بِطَلِبَتي ، وَتَوَجَّهْتُ اِلَيْكَ بِحاجَتي ، وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغاثَتي ، وَبِدُعائِكَ تَوَسُّلي مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقاق لاِسْتِماعِكَ مِنّي ، وَلَا اسْتيجاب لِعَفْوِكَ عَنّي.

يتوجّه الداعي عليه السلام إلى ربّه بلسان حال الحاجة التي هي منزل من منازل الرحمة الإلهيّة ، أنّه توجّه مُحتاج إلى غنيّ بيده جميع الأمور ، وكلّ مفاتيح الكنوز ، وأنّه مصدر كلّ خير وكرامة ، وإحسان وإفضال ، وأنّه سبحانه مُغْني كلّ فقر ، ومُعزُّ كلّ ذليل ، ومفرّج كلّ سقم برحمته ، ومؤمن كلّ خائف.

أنظر إليه عليه السلام فيما يناجي ربّه في مناجاة المفتقرين في الصحيفة السجّاديّة : فيا مُنتهى أمل الآمِلين ، ويا غايةَ سُؤْلِ السائلين ، ويا أقصى طَلِبةِ الطالبين ، ويا أعلى رغبةِ الراغبين ، ويا وليَّ الصالحين ، ويا أمانَ الخائفين ، ويا مُجيبَ دعوةِ المضطرّين ، ويا ذُخرَ المُعدَمين ، ويا كنزَ البائسين ، ويا غياثَ المستغيثين ، ويا قاضيَ حوائجِ الفقراءِ والمساكين ، ويا أكرمَ الأكرمين ، ويا أرحم الراحمين.

لك تَخَضُّعي وسُؤالي ، وإليك تَضَرُّعي وابتهالي ، أَسألُك أن تُنيلَني من رَوح رضوانك ، وتُديمَ علَيَّ نِعمَ امتنانِك ، وها أنا ببابِ كرمِك واقف ، ولِنفحاتِ بِرِّك


متعرِّض ، وبِحَبلِك الشديد مُعتَصِم ، وبِعُروتِك الوثقى مُتمَسّك. إلهي ارحمْ عبدَك الذليل ، ذا اللسانِ الكليل ، والعملِ القليل ، وامنُنْ عليه بطَوْلِك الجَزيل ، واكْنُفْه تحتَ ظِلِّك الظَّليل ، يا كريمُ ، يا جميل ، يا أرحمَ الراحمين (١).

ثمّ يتوجّه عليه السلام إلى ربّه بالتوسّل الذي هو أحد مفاتيح أبواب الرحمة الإلهيّة ، وأحد الشفعاء إلى ساحة الربوبيّة ، فهو يتوسّل إلى الله ربّه ، ويتوسّل بكلّ ما يُقرِّب إليه تبارك وتعالى من : نبيّ ، أو وليّ ، أو عملٍ صالح ، لقد أناخ عليه السلام ركابه في ساحة الرجاء ، وحطّ رحله بِفِناء دار الكريم الجواد.

ويقول عليه السلام في مناجاة المتوسّلين : يا مَن لا يَفِدُ الوافدونَ على أكرمَ مِنه ، ولا يَجِدُ القاصدون أرحمَ منه ، يا خيرَ مَن خلا به وحيد ، ويا أعطفَ من آوى إليه طريد ، إلى سَعِة عَفوك مَدَدتُ يدي ، وبِذَيلِ كرمِك أعلقتُ كفّي ، فلا تُولِني الحرمان ، ولا تُبْلِني بالخيبةِ والخُسران ، يا سميعَ الدعاء ، يا أرحمَ الراحمين (٢).

الإنسان كائن مركّب من جسد يعود إلى عالم الشهادة ، وروح تنتهي إلى عالم الغيب ، والجسد له أمراضه وطبّه ، كذلك الروح لها أمراضها وأدواؤها ، والإنسان كيان قائم بين قوّتين تتجاذبانه : جند الرحمان الذي قوامه العقل والفطرة والملائكة الموكّلين به ، وجند الشيطان المتمثّلين بالشهوات والأهواء والشياطين.

وقد شرّع الله سبحانه للإنسان الأحكام والقوانين التي ترسم له سبيل سعادتَيه الدنيويّة والأُخرويّة ، وآتاه موهبة الاختيار ليشقَّ الطريق القويم بحرّية ، ويسلك السبيل بإرادة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (٣) ، وتكونَ لله الحجّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٦ / الدعاء ١٩٢.

٢ ـ نفسه : ٤١٤ / الدعاء ١٩١.

٣ ـ الأنفال : ٤٢.


البالغة.

إنّ الأعمال العباديّة التي أمر الشارع المقدّس بتأديتها هي مراقٍ للكمال ودرجاتٌ للقرب من ساحة الربوبيّة الفيّاضة بالخير والكرم والمواهب ، وهي موائد مبذولة لكلّ من شاء أن ينال منها رزقاً ، كلّ بحسب استعداداته ، وبهذا يسير الإنسان في خطّ تكامليّ ، يبتدئ من عالم واطئ إلى عالم أرقى من الطهارة والإشراق والنوارنيّة.

وقد جعل الله تعالى الإخلاص في العمل أهمّ شرائط قبول الأعمال ، والمراد من الإخلاص في العقائد هو التمسّك بعقيدة التوحيد التي يهتف بها كلّ جزء من أجزاء الكون بلسان الحال قبل لسان المقال مؤذّناً أن : لا إلهَ إلّا الله.

أمّا الإخلاص في الأعمال فالمراد به الإتيان بالعمل الخالص الذي لا يُراد به غير وجه الله تعالى ، وللإخلاص معطياته الدنيويّة والأُخرويّة ، وله آثار وضعيّة لا يعقلها إلّا العالِمون العارفون بالله تعالى ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما أخلص عبد لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً ، إلّا جَرَت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (١) ، وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : بالإخلاص يكون الخلاص (٢).

وسلوك هذا الطريق من أظهر مصاديق الجهاد الأكبر الذي ميدانه النفس. أمّا موانع قبول الأعمال فأصلها حبّ الدنيا الذي ورد في الحديث أنّه رأس كلّ خطيئة (٣) ، فقد يكون : الرياء ، والعجب ، والحسد ، والحقد ، وسوء الخلق من موانع قبول الأعمال ، نعوذ بالله من جميع ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٦٩ / ح ٣٢١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٢ : ٣١٥ / ح ١.


أمّا حبّ الدنيا فهو على قسمين :

١. حبّ الدنيا المحمول على نحو الموضوعيّة ، وهذا معناه الانشداد إلى زخارفها وغواياتها وشهواتها وهو معنى سلبيّ مذموم.

٢. حبّ الدنيا المحمول على نحو الطريقيّة ، وهو معنى إيجابيّ يُراد به استغلال الإنسان للفترة الزمنيّة التي وهبها الله له لتحقيق مرضاة الله ، بسلوك طريق العبادة ، وفعل الخيرات والمبرّات ، وتعظيم شعائر الله ، وبذل الغالي والنفيس لوجهه الكريم ، فهنا تكون الدنيا مزرعةً للآخرة ، وجسراً إلى الجنّة ، وتكون مَتْجَر الأولياء ، وكنز العرفاء ، وميدان النصر على الهوى والشيطان لبلوغ ولاية الله.

قال أمير المؤمنين عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) : لا تَنسً صحّتَك وقوّتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلبَ بها الآخرة (١).

وهؤلاء السالكون قد أفاض الله عليهم مواهبه ، فعصمهم من الشيطان وسلطانه ، وخيله ورَجِله وأتباعه ، قال تبارك وتعالى : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَـٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (٢).

وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة فإنّ اليسير من عبادته خير من الكثير من عبادة غيره ، فالقبول أكثر التصاقاً بالنوع دون الكمّ ، وهناك فارق بين الإجزاء والقبول ، فقد يؤدّي الإنسان صلاته أو صومه ويكون أداؤه مجزئاً ومُبْرئاً للذمّة ، ولكن لا يترتّب عليه ثواب ، أمّا القبول فالمراد منه ترتّب الثواب على العمل على نحو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ معاني الأخبار : ٣٢٥ ، والآية في سورة القصص : ٧٧.

٢ ـ الحجر : ٣٩ ـ ٤٢.


الجزاء ، قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : مرّ بي أبي «أي الباقر عليه السلام» وأنا بالطواف ، وأنا حَدَثٌ ، وقد اجهتدتُ في العبادة ، فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً ، فقال : يا جعفرُ يا بُنيّ ، إنّ الله إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّة ، ورضيَ منه باليسير (٢).

وقبول الأعمال وترتّب الثواب عليها يتناسب طردياً مع الإقبال الروحيّ ، وحضور القلب حين العمل ، فإنّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها ، أو ثلثها ، أو ربعها ، أو خمسها ، فما يرفع له إلّا ما أقبل منها بقلبه.

وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : إنّي لَأُحبّ للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاته أن يُقْبل بقلبه إلى الله تعالى ، ولا يشغله بأمر الدنيا ، فليس من مؤمنٍ يُقبل بقلبه في صلاته إلى الله إلّا أقبل الله إليه بوجهه ، وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبّة بعد حبّ الله إيّاه (٣).

وقال عليه السلام : من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما ، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب إلّا غفره له (٤).

ومن علامات قبول الأعمال العباديّة أنّها تُقاس بمقدار آثارها على باطن الإنسان وسريرته ، وتصرّفاته وسلوكه وأخلاقه ، فقد سأل أحدهم الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قائلاً : يا ابن رسول الله ، كيف أعلم أنّ صلاتي قد قُبِلت؟ فقال عليه السلام : إذا كانت تَنهاك عن الفحشاء والمنكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المائدة : ٢٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٨٦ / ح ٤.

٣ ـ الأمالي للمفيد : ١٥٠ / ح ٧.

٤ ـ ثواب الأعمال : ٤٤.


وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن أحبّ أن يعلم ما له عند الله ، فَلْيعلم ما لله عنده (١).

والعارفون بالله يعلمون أنَّ غاية عبادة الله لا تُدرك أبداً ، فتراهم يَسعَون بكلّ طاقاتهم ومشاعرهم إلى الله ، ولسان حالهم يقول : سبحانك اللّهمّ ما عبدناك حقّ عبادتك.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال الله تبارك وتعالى : يتّكلِ العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم [أعمارهم] في عبادتي ، كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي ، والنعيم في جنّاتي ، ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فَلْيثقوا ، وفضلي فَلْيرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا (٢).

وكان أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، واقتداءً بجدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله ، إذا قاموا إلى الصلاة ، كأنّ أحدهم ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلّا ما حرّكت الريح منه ، وكانوا يصلّون صلاة مودِّعٍ يخاف أن لا يعود إليها.

وقد نهانا الشارع المقدّس عن العُجب فإنّه آفة الأعمال ، وَعَدَّ ذلك على لسان الشرع من المهلكات ، والمراد منه أنّ الإنسان تعجبه نفسه ، ويستكثر عمله ، ويصغّر ذنبه في عينه ، ويتّكل على عمله ناسياً حاجته إلى رحمة الله.

قال الله سبحانه لنبيّه داود : يا داود بشّر المذنبين ، وأنذر الصدّيقين ، قال عليه السلام : يا ربّ ، كيف أبشّر المذنبين ، وأُنذر الصدّيقين؟! قال سبحانه : يا داود ، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب ، وأنذر الصدّيقين ألّا يُعجَبوا بأعمالهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٥٢ / ح ٢٧٦.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧١ / ح ١.


فإنّه ليس عبد أنصبُه للحساب إلّا هلك! (١)

والعبادة تُقسَّم ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما هو قلبيّ باطنيّ محض لا يطّلع عليه سوى الله عالم الغيب والشهادة : كالتوحيد والإخلاص ، والإيمان بالنبوّة والإمامة والمعاد ، أو الحبّ والرضى عن الله ، وغيرها من الاعتقادات الحقّة التي ثبت وجوبها في مدارك الشريعة السمحة الغرّاء.

الثاني : ما هو خارجيّ : كالصلاة والحجّ والجهاد والصدقات ، وإقامة شعائر الله ونحوها.

الثالث : ما هو اجتماعيّ ، كالعلاقات المجامليّة القائمة بين أفراد المجتمع إذا أُريد بها وجه الله ، مثل : زيارة المريض ، ودفن الميّت ، وإنقاذ الغريق ، وإغاثة الملهوف ، وإعانة المحتاج ، وحفظ النفس المحترمة.

والأعمال العباديّة التي يُرجى لها القبول يجب أن تكون مشروطة بالنيّة ، والمراد من النيّة في العباديّات هو القصد والإرادة باعتبار القربة. أمّا في غير العباديّات كالتوصّليّات فيكفي قصد ذات الفعل ، ولو لم يكن بعنوان الامتثال.

جاء في مبحث سابق : أنّ عبادة الأفراد تكون عن ثلاث غايات : قسم يعبد الله خوفاً ، وتلك عبادة العبيد ، وقسم يعبد الله طمعاً وتلك عبادة الأُجراء أو التجّار ، وقسم يعبد الله حبّاً أو شكراً ، وتلك عبادة الأحرار ، وهذا القسم لا يتسنّى إلّا للأوحديّ العارف من البشر ، كالنبيّ صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه وأئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٤ / ح ٨.


وأمّا عبادة الله طمعاً في الجنّة ، وخوفاً من النار ، وطلباً للتوسعة في الرزق ، أو لقضاء حاجة ، أو لدفع عدوّ أو ضرر ، فإنّ هذا لا ينافي الداعي القربيّ إلى الله تعالى ، لأنّ الإتيان بتلك العبادة هو الوسيلة لنيل تلك المطالب ، ولكنّه لا يرقى إلى درجة الإخلاص.

وقد جاء الشارع المقدّس بأحكام إرشاديّة ، تدعو إلى ما حكم به العقل والفطرة ، مثل : حُسن العدل وقُبح الظلم ، ووجوب شكر المنعم ، ومثل برّ الوالدين وحرمة عقوقهما.

وهناك أحكام مولويّة تأسيسيّة خارجة عن دائرة العقل البشريّ ، تكفّل الشارع برسمها وتحديدها وضبط صغرياتها ، كالصلاة وحدودها ، والحجّ وأحكامه ، والصوم ومقوّماته وشرائطه.

في جواز قضاء العبادات عن الأموات

لعلّ سائلاً يسأل فيقول : إنّ الله تعالى يقول في محكم كتابه : (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) (١) ، فكيف أفتى الفقهاء في كبتهم بجواز قضاء فوائت الميّت ، من صلاة أو صوم أو حجّ ، وربّما أمر بها الشارع على نحو الوجوب ، كما في الولد الأكبر الذكر إذا فات والدَه ذلك؟ يضاف إلى ذلك عدّة تساؤلات أُخرى :

١. كيف يحصل تمشّي قصد القربة من النائب ، والعمل العباديّ موقوف عليه ، علماّ أنّ معظم صلاة النيابة مثلاً موقوف على أخذ الأُجرة ، إذ يندر أن يؤدّي النائب العبادات عمّا في ذمّة الميّت من باب الإحسان والتبرّع؟

وكيف يصل الثواب إلى الميّت عن عمل لم يقم به ، ولم يتحقّق فيه مبدأ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٣٩.


الطاعة منه؟

٢. هل الثواب المترتّب على العبادة استحقاق أم تفضّل من الله على عباده؟

نقول : إنّ مسألة قضاء فوائت الميّت من المسائل التعبديّة الثابتة ، وقد أُقيم عليها الدليل الشرعيّ ، وإنّ النائب يؤدّي تلك العبادات بداعي القربة ، لا بداعي أخذ المال ، أمّا المال فيُؤخذ بأيّ عنوان خارجيّ كالوفاة بالعقد ، أو على فعل بعض المقدّمات أو على نحو الهبة وغيرها.

وأمّا مسألة الثواب المترتّب على العبادة ، هل هو تفضّل أم استحقاق؟ فنذكر فيها ما قاله بعض الأعلام : قال المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئيّ قدس سره في «المستند» : إنّ الثواب المترتّب على الأعمال ، في باب الطاعات والعبادات ، ليس هو من قبيل العوض والأجر الثابتين في المعاملات من العقود والإيقاعات ، كي يكون المطيع مستحقّاً على الله ثواب عمله كما يستحقّه العامل ، وإنّما هو تفضّل محض ، ولطف بحت ، فإنّه سبحانه له الملك وله الامر ، لا يسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ، فإن شاء تفضّل على عبده المسكين وجعله مشمولاً لعنايته ، وإلّا فلا ، وعليه فلا مانع من تفضّله تعالى على المنوب عنه كالنائب وحصول التقرّب لكليهما. أمّا النائب فَلِصدور الفعل العباديّ منه قاصداً للتقرّب ، وأمّا المنوب عنه فلإضافة النائب العمل إليه في إتيانه مِن قِبله بقصد تفريغ ذمّته.

فإنّ هذا المقدار من الإضافة يكفي لكونه ـ أي المنوب عنه ـ مشمولاً للتفضّل وحصول التقرّب من الله كما لا يخفى ، بل ورد في بعض الأخبار : وإنّ الكفّار أيضاً ينتفعون بعمل الحيّ لهم ، وذلك بتخفيف العذاب عنهم ، ولا محذور في ذلك


على مبنى الالتزام بمسلك التفضّل في باب الثواب! (١)

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف أنّ عيسى عليه السلام مرّ بصاحب قبر يعذّب ، ثمَّ مرّ عليه من قابل «أي بعد عام» ، فإذا هو لا يُعذّب ، فقال عليه السلام : يا ربّ ، مررتُ بهذا القبر عامَ أوّل ، فكان يُعذّب ، ومررتُ به العام فإذا هو ليس يعذّب! فأوحى الله إليه أنّه أدرك «أي بلغ الحلم» له ولدٌ صالح ، فأصلح طريقاً ، وآوى يتيماً ، فلهذا غفرتُ له بما فعل ابنُه (٢).

ونعود إلى المرجع الفقيه السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره لننقل رأيه من «مهذّب الأحكام» حيث قال : لا ريب في ترتّب الثواب على العبادة ، وهل هو بالاستحقاق أو التفضّل؟ قال : بكلّ قائل ، واستدلّ كلّ منهما بأدلّة ، والحقّ سقوط النزاع من أصله ، لأنّ أصل جعل الاستحقاق إنّما هو من الله تعالى تفضّلاً منه عزّ وجلّ على عباده ، فيكون أصل هذا الحقّ مجعولاً فيه لمصالح كثيرة ، فمن قال بالاستحقاق نظر إلى نفس الحقّ المجعول ، ويصحّ له التمسّك بالأدلّة الظاهرة في الاستحقاق ، ومَن قال بالتفضّل نظر إلى منشأ الجعل الذي هو تفضّل منه تعالى (٣).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستند العروة الوثقى ٥ : ٢٥٣.

٢ ـ الكافي ٦ : ٣ ـ ٤ / ح ١٢ ، الأمالي للصدوق : ٤١٤ / ح ٨ ـ المجلس ٧٧.

٣ ـ مهذّب الأحكام ٦ : ١١٥.


المبحث السادس والعشرون : التوبة والعفو والمغفرة

يُرجى من القارئ العزيز مراجعة مبحث التوبة والاستغفار في كتابنا الموسوم بـ «أضواء على دعاء الافتتاح» (١) وكتابنا الآخر الموسوم بـ «في ظلال دعاء كميل» (٢) ، فسوف يجد مبتغاه إن شاء الله تعالى ، ونزيد في ذلك بما يتّسع له المجال فنقول : التوبة رجوعان من الله إلى العباد ، ورجوع واحد من العبد إلى الله ، ويمكن ملاحظة هذا التسلسل :

١ ـ التوفيق الإلهي والتسديد الربّاني للعبد للتوجّه بالتوبة عن الذنب.

٢ ـ رجوع العبد عن ذنبه بالندم والاستغفار وترتيب الآثار.

٣ ـ قبول التوبة ، والمغفرة والسَّتر على الذنب.

وقيل في التوبة : إنّها ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرّط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه تداركه بالإعادة (٣) ، وبهذا تكمل شرائط التوبة.

قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ أضواء على دعاء الافتتاح : ٢٤ ـ ٢٧.

٢ ـ في ظلال دعاء كميل : ١٣٤ ـ ١٧٣.

٣ ـ شرح أصول الكافي للمازندراني ١ : ٢٧٧.

٤ ـ النور : ٣١.


وقيل في العفو : إنّه ترك العقوبة (١) ، ومحو الذنب بأن لا يبقى له أثر في النفس. وقيل في المغفرة : الستر والتغطية (٢) ، وسوف نتحدّث بإسهاب حول هذه المفاهيم.

والتوبة : ضدّ الإصرار ، والمراد منها الرجوع عن الذنب ، ويترجم ذلك الموقفَ الندمُ قولاً وفعلاً واعتقاداً ، وهذا الندم يُحْدث الإشراق الروحيّ ، ويكشف الحجب الضاربة على آفاق القلب ، وينير السريرة ، ويقوّي البصيرة ، وهذا الندم ثمرة من ثمار التأرجح بين الخوف والرجاء ، وهو يوثّق أواصر الحبّ بين العبد وخالقه.

وهنا يعود الإنسان إلى السبيل الذي رسمه له الله عزّ وجلّ ، ليمارس مسيرته في التقرّب منه سبحانه ، فإنّ التوبة ثورة روحيّة لتطهير النفس من الرين والرذائل والصفات المذمومة التي تحجب الإنسان عن ربّه ، وحجاباً يكون من الآثار الوضعيّة للذنوب والمعاصي ، والندم يبعث العزم ويقوّي الإرادة على عدم العود إلى الذنب في المستقبل ، وعلى الإنسان أن يتدارك ما فاته بالاستغفار ، أو قضاء الفوائت العباديّة ، أو إرجاع حقوق الغير مثلاً ، ولنا عودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى.

يقول صاحب «جامع السعادات» قدس سره : كلّ فرقة من العباد لهم توبة ، فتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ ، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات ، وتوبة الأصفياء من التنفيس ، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغير الله ، وتوبة العامّ من الذنوب ، ولكلّ واحد منهم معرفة وعلم في أصول توبته ومنتهى أمره.

ثمّ يقول قدس سره : وعلى هذا ، فما ورد من استغفار الأنبياء والأوصياء وتوبتهم إنّما هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ أحكام القرآن للجصّاص ٣ : ٥٠ ، مفردات غريب القرآن : ٣٤٠.

٢ ـ لسان العرب ٥ : ٢٥.


ترك دوام الذكر ، وغفلتهم عن مقام الشهود والاستغراق لأجل اشتغالهم بالمباحات ، لا عن ذنوب كذنوبنا ، لتعاليهم وتقدّسهم عن ذلك.

قال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب ، إنّ الله تعالى يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب (١). كذنوبنا ، فإنّ ذنبُ كلِّ أحد إنّما بحسب قَدْره ومنزلته عند الله ، وبمضمونه أخبار أُخر (٢). انتهى.

ولربّما كان النبيّ صلى الله عليه وآله باعتباره الأسوة الحسنة لكلّ مسلم يمارس عمليّة الاستغفار تواضعاً لله جلّ وعلا (٣).

إنّ التوبة واجبة عقلاً ونقلاً ، وقد ثبت وجوبها العقليّ من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ومن باب لزوم رجوع العبد الآبق إلى مولاه ، وثبت وجوبها في الكتاب والسنّة والإجماع بما لا خلاف فيه.

إنّ التوبة تطلق على من اقترف الذنب ومارس المعصية فعلاً ، فقد ورد في الأثر عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله قوله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، أمّا المحسنون فما عليهم من سبيل (٤). ويفترض في تحقّق التوبة رجوع العبد عن ذنبه نادماً.

أمّا الذي لم يمارس الذنب فيقع تحت عنوان المتّقين أو المحسنين وليس التائبين. والذين مارسوا الذنوب ، ثمّ عجزوا عن فعلها بسبب كبر السنّ أو الضعف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٥٠ ح ٢.

٢ ـ جامع السعادات ٣ : ٥١.

٣ ـ يراجع : سفينة البحار ٣ : ٥٠٧ ـ ٥١٠ ، فهناك بحث مفصَّل حول عصمة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وعدم تناقضها مع الاستغفار.

٤ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ـ المجلس الثاني.


أو الفقر مثلاً ، فهل تصحّ منهم التوبة؟ نعم ، تصحّ التوبة عمّا يماثل تلك الذنوب والجرائم ، لأنّ باب التوبة مفتوح ، ورحمة الله تسع كلّ شيء ، ولأنّ التوبة صادرة عن علم ويقين بأنّ الذنوب التي قارفها تُبعده عن ساحة القرب الإلهيّ ، ولو كان قادراً عليها في الحال فإنّ ورعه وتقواه ومعرفته سوف تصدّه وتمنعه من المقارفة.

إنّ ظُلْمة النفس وكدورة القلب الحاصلة بعد اقتراف الذنب ، تنمحي بحرقة الندم ولوعة الأسف ، وبمجاهدة النفس على ترك المعاصي والاستباق إلى الخيرات ، وقد سُميّ ذلك على لسان الروايات بالجهاد الأكبر.

وقد أُمِرنا بالتوبة النصوح التي هي من أعظم مصاديق التوبة وأرقاها مرتبة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (١) ، فالآية تشير إلى تكفير الذنب بالتوبة النصوح ، وكلّ «عسى» من الله واجبة على ما يقوله أساطين الفنّ وأرباب الصناعة (٢).

أمّا المراد بالتوبة النصوح فهي التوبة المتّصفة بالتوجّه النفسيّ الخالص ، البعيد من كلّ غرض خارجيّ ، كالخوف والطمع أو السلطان وغيرها ، وهي التوبة المنبعثة عن وعي وبصيرة وعلم يمنع صاحبه من العود إلى الذنب ، ويدلّ على ذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في بيان معنى التوبة النصوح ، قال عليه السلام : يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه (٣).

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب ، فيعتذر إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التحريم : ٨.

٢ ـ التبيان للطوسيّ ٥ : ١٨٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٣٢ / ح ٣.


الله ، ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع (١).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل (٢).

وروي أنّ أحد الشبّان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يبكي بكاء الثكلى على ولدها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ما يبكيك يا شاب؟ قال : كيف لا أبكي وقد ارتكبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم ، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً. وكلّما ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله للشاب ذنباً ، قال الشاب : إنّ ذنبي أعظم منه ، فقال الارسول الأعظم صلى الله عليه وآله : ويحك ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك!

قال : بلى أخبرك. إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات ، وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار ، وعندما دفنت ذهبت إلى قبرها ونبشته وجرّدتها من أكفانها ، ثمّ جامعتها وتركتها عارية مكانها.

فقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : تنحّ عنّي يا فاسق. فذهب الشاب فأتى المدينة ، وتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ، وليس مُسْحاً ، وَغَلَّ يديه جميعاً إلى عنقه ونادى : يا ربّ ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا ربّ ، أنت الذي تعرفني ، وزلَّ منّي ما تعلم سيّدي يا ربّ ، إنّي أصبحت من النادمين ، وأتيت نبيّك فطردني وزادني خوفاً ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي ، سيّدي ولا تبطل دعائي ، ولا تؤيسني من رحمتك.

ولم يزل هكذا أربعين ليلة حتّى تاب الله عليه ، ولمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ليبلغوه ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين ، مغلولة يداه إلى عنقه ، وقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدر المنثور ٦ : ٢٤٥.

٢ ـ معاني الأخبار للصدوق : ١٧٤ / ح ٣.


اسودّ وجهه ، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله منه فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه وقال : يا بهلول ، أبشر فإنّك عتيق الله من النار (١).

أمّا مقوّمات التوبة النصوح فهي :

١ ـ العلم بقبح الذنب وضرره.

٢ ـ الندم والأسف على ما صدر منه.

٣ ـ العزم على عدم العود ، وترتيب الآثار العمليّة للتوبة.

ومسألة اجتناب المعاصي ، وقضيّة التوبة منها بعد الاقتراف تختلف من شخص لآخر ، حسب درجة إيمانه ، إنّ الإيمان درجات ومراتب ، وقد ورد في الأخبار أنّها تزيد على سبعين مرتبة ، فالمؤمن العارف ، والمؤمن الذي بدرت منه المعصية يقعان تحت عنوان الإيمان ، ولكن شتّان بين شجرة النخيل وشجرة الورد.

فعلى المؤمن أن يحاسب نفسه ، ويطهّر قلبه بالتوبة ، ويكثر من العبادات والطاعات التي تقرّبه إلى الله قبل أن يرين الذنب على قلبه ، فيُختَم عليه أو يطبع عليه ، أو يُصبح قلبه مقلوباً منكوساً فيكون في عداد الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وهذا لا يجد القدرة والطاقة على كشف تلك الظلمات وإزالة الكدورات ، بل لعلّ الموت يأخذه بغتة قبل المبادرة إلى التوبة.

وقد ورد في الحديث الشريف أنّ أكثر صياح أهل النار من التسويف ، فما هلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصّة مذكورة مفصّلاً في أمالي الصدوق : ٩٧ / ح ٧٦.


من هلك إلّا بالتسويف (١) ، والتسويف هو تأجيل التوبة وتأخيرها حتّى لاتَ حينَ مَناص.

إنّ الإنسان في هذه الدنيا واقع بين قوّتين عظيمتين في تأثيرهما على سيرة الإنسان ومصيره ، فهو واقع بين : قوّة العقل الملائكيّة التي تدعوه إلى الطاعة ، وبين قوّة الهوى الشيطانيّة التي تدعوه إلى التمرّد على الله ، واتّباع خطوات الشيطان. وبالمجاهدة الصادقة الواعية يستطيع الإنسان الانقياد لقوى العقل ، ويُخضع الأهواء ، ويسيطر على النزوات ، وبكبت الشهوات المُرْدية ، ليزداد قرباً من ربّه ، وبهذا تَرجح كفّة حسناته على كفّة سيئاته ، ويفوز بالجنّة التي أعدّها الله لعباده المتّقين.

إنّ عمر الإنسان هو رصيده الفعلي الذي يقوده إلى مفترق طريقين : الجنّة أو النار ، فكلّ دقيقة يمكن أن تُستغَلّ في طاعة من الطاعات ، ولو بتسبيحة تكون له رصيداً أخرويّاً يقوده إلى الجنّة ، وقد ورد في بعض العبارات أنّ أبواب عبادة الله بعدد أنفاس الخلائق (٢) ، وهذه من الموائد الالهيّة المبذولة لكلّ طاعم.

ويمكن أن تستغلّ في معصية ، ولو بنظرة خاطئة لتقوده إلى النار.

روي أنّ سليمان عليه السلام طار على بساطه ، ومعه قوّاده وجنده على كراسٍ من ذهب ، وكانت الطير تُظلّلهم ، فرآه فلّاح فتعجّب من ذلك المُلك العظيم فقال : لقد أُوتي ابن داود مُلكاً عظيماً! فنقلت الريح قوله إلى أُذن سليمان عليه السلام ، فنزل سليمان وقال لذلك الفلّاح : إنّما مشيتُ إليك لئلّا تتمنّى ما لا تَقْدر عليه. ثمّ قال له : لَتسبيحةٌ واحدةٌ يَقْبلها الله خيرٌ مِمّا أُوتيَ آل داود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ٥٨ ـ ٥٩.

٢ ـ حقائق الإيمان للشهيد الثاني : ١٧٤.


وفي حديثٍ آخر : لأنّ ثواب التسبيحة يبقى ، ومُلك سليمان يَفنى (١).

وقيل إنّ الدنيا لو كانت من ذهب يفنى ، وكانت الآخرة من خزف يبقى ، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا ، فكيف والآخرة ذهب يبقى؟! ٢

إنّ الإنسان التائب وافد على ضيافة الله الذي هو أصل كلّ كرم ، ومنبع كلّ جود ، والله سبحانه يفرح بتوبة عبده ، وكيف لا يفرح والإنسان أثر من آثار بديع صنعه!

فقد نُقل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله : إنّ الله تعالى أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها ، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها (٣).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله : إذا تاب العبد توبةً نصوحاً ، أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة.

فقيل : وكيف يستر عليه؟ قال عليه السلام : يُنسي مَلَكَيه ما كَتَبا عليه من الذنوب ، ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، ويُوحي إلى بقاع الأرض : اكتُمي ما كان يعمل عليكِ من الذنوب. فيلقى اللهَ حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب (٤).

وقد أبدع الحسن بن هاني أبو نؤاس حيث قال في إحدى زهديّاته :

مَن أنا عندَه حتّى إذا

أذنبتُ لا يَغفرُ لي ذنبي؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستدرك الوسائل ٥ : ٣٢٣.

٢ ـ محاسبة النفس للكفعميّ : ١٥٧ ، شرح نهج البلاغة ١٩ : ٢٩٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ٨.

٤ ـ نفسه ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ / ح ١ باب التوبة.


العفو يُرجى مِن بني آدمٍ

فكيف لا أرجوه مِن ربّي؟! (١)

وقال عفا الله عنه :

أيا مَن ليس لي منه مجيرُ

بعفوِك مِن عذابِك أستجيرُ

أنا العبد المُقرُّ بكلِّ ذنبي

وأنت السيّدُ المولى الغفورُ

فإن عذّبتَني فبِسوءِ فعلي

وإن تَغفرْ فأنت به جديرُ

أفرُّ إليك منك وأين إلّا

إليك يفرُّ منك المستجيرُ! (٢)

وصدق الله القائل : (حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣).

وورد في التائب توبة نصوحاً عن أهل البيت عليهم السلام أنّ التائب حبيب الله ، وأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له (٤) ، وهذا المحو والستر هو العفو والمغفرة التي هي رجوع الله إلى عبده التائب.

أمّا الذي يستغفر الله بلسانه وهو مقيم على الذنب ، غير عازم على الترك ، فهو كالمستهزئ سبحانه كما في الأخبار (٥) ، وقال أحد الفضلاء : إنّ على هذا أن يستغفر من استغفاره.

إنّ التوبة إذا كانت مستجمعة لشرائطها المقبولة فهي مقبولة وفق العهد الالهيّ ، قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المصباح للكفعميّ : ٣٨٣.

٢ ـ أعيان الشيعة ٥ : ٣٨٨.

٣ ـ التوبة : ١١٨.

٤ ـ ينظر : الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ٩ و١٠.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٣٥ / ح ١٠ ، الخصال للصدوق : ٥٤٣ / ح ١٨.


اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١) ، وقال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (٢).

وورد في السنّة الشريفة مئات الأحاديث في المقام ، ففي الأثر : أنّه قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ الله تعالى يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ، ولمسيء النهار إلى الليل ، حتّى تطلع الشمس من مغربها (٣). وطلوع الشمس من مغربها كناية عن موعد ظهور الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، إذ عندها لا تُقبل توبة تائب ، وذلك علامة من أشراط الساعة.

وقال صلى الله عليه وآله : لو عَمِلتم الخطايا حتّى تبلغ السماء ، ثمّ ندمتم لتاب الله عليكم (٤).

وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قَبِل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ السنة لكثيرة ، من تاب قبل موته بشهر قَبِل الله توبته ، ثمَّ قال : إنّ الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قَبِل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ يوماً لكثير ، من تاب قبل أن يعاين «أي ملك الموت» قَبِل الله توبته (٥).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد أصحابه : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد اللهُ عليه بالمغفرة ، وإنّ الله غفورٌ رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السّيئات ، فإيّاك أن تُقنِّط المؤمنين مِن رحمة الله (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزمر : ٥٣.

٢ ـ الشورى : ٢٥.

٣ ـ جامع السعادات ٣ : ٦٦.

٤ ـ حكاه في : جامع السعادات ٣ : ٦٧.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٤٠ / ح ٢.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٣٤ / ح ٦.


وقال الصادق عليه السلام : العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله الله سبع ساعات ، فإن استغفر الله لم يُكتَب عليه شيء ، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كُتِبت عليه سيّئة. وإنّ المؤمن لَيذكر ذنبه بعد عشرين سنةً حتّى يستغفر ربّه فيغفر له ، وإنّ الكافر لَيَنساه من ساعته (١).

كيف نحقّق التوبة

أمّا كيف نحقّق التوبة المستجمعة للشرائط ، فلا بدّ أن ننظر إلى الذنوب والمعاصي أوّلاً ، وبهذا نشخّص الداء لِنَصف له الدواء :

١. إذا كان الإنسان قد ترك بعض الواجبات : كالصلاة والصيام والحجّ والكفّارات ونحوها ، فعليه بعد الندم والاستغفار القضاء.

ـ إذا كان مقترفاً لبعض المعاصي التي بينه وبين الله : كاستماع الغناء وشرب الخمر والزنا والكذب ، فعليه الانتهاء.

ـ أمّا حقوق الناس فلا بدّ من إعادة المغصوب أو المسروق ، أو الانقياد لأولياء الدم بالقَوَد أو قبول الدية في الدماء ، وإن أمكن الاستحلال من أصحاب الشأن في المعنويات ، وإلّا فليستغفر لأصحاب الحقّ لعلّهم يرضون عنه يوم كشف السرائر في عرصات القيامة.

ـ هناك ذنوب لا يمكن الاستحلال من أصحابها ، لأنّ ذلك يخلق الفتن والمشاحنات ، كما لو اعترف رجل لصديقه أنّه كان يخونه في فراشه مثلاً ، فهنا لابدّ من الاستغفار لذلك الصديق وإكرامه ورعايته ، فلعلّه يرضى عن ظالمه يوم القيامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٣٧ / ح ٣.


ـ وأمّا ما افتراه على غيره من المؤمنين ، وما نسبه إليهم من الضلال والفسق والانحراف والسرقة وغيرها ، فلا بدّ أن يعلن عن كذبه ، ويبرّئَ ساحة المظلومين ، وإن أمكنه الاستحلال منهم فذلك خير.

والتوبة مطلوبة على كلّ حال ، فلعلّها تخفّف عن صاحبها بعض العذاب ، أو لعلّ الله سبحانه يبسط رحمته الكبرى الشاملة ، فيرضي المظلومين عن ظلميهم ، فلا ينبغي اليأس والقنوط.

إنَّ الذنوب قسمان :

١ ـ صغائر ، وهي التي أُطلق عليها القرآن اسم (اللمم) ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (١).

ويشترط في بقائها على عنوانها الأوليّ ، وهو الصغائر ، عدم الإصرار عليها ، وعدم استصغارها واستخفافها ، أو إذاعتها بين الناس والتفكّه بها والتفاخر بها ، ممّا يجعلها من باب حبّ شيوع الفاحشة. وقد ورد في الحديث الصادقيّ الشريف : لا صغيرةَ مع الإصرار ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار (٢).

٢ ـ كبائر ، وهي التي أوعد الله عليها دخول النار ، وقد ذكر معظمَها الفقهاء في رسائلهم العملية في باب التقليد ، فلتُراجع ، فاجتناب الكبائر يكفّر الصغائر إن لم تكن عن إصرار.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : الصلوات الخمس والجمعة تكفّر ما بينهنّ إن اجتُنِبَت الكبائر (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٣٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٨٨ / ح ١ ـ باب الإصرار على الذنب.

٣ ـ مسند أحمد ٢ : ٣٥٩.


وقال بعضها : إنّ مسألة الكِبَر والصِّغر هي مسائل نسبيّة ، فكلّ ذنب كبير (١). وقد ورد : لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (٢) ، فقد يكون الذنب كبيراً بالإضافة إلى ما هو دونه ، وصغيراً بالإضافة إلى ما هو فوقه ، فلمس المرأة الأجنبيّة صغير بالنسبة إلى الزنا ، لكنّه كبير بالاضافة إلى النظر ، ولعلّ إبهام الكبائر أو الصغائر هي مسألة تأديبيّة ، أراد الشارع المقدّس منها أن يتجنّب المكلّف جميع الذنوب والمعاصي. وقد ورد أنّ الله سبحانه أبهم اسمه الأعظم ليسأل الناس ربّهم بكلّ أسمائه الحسنى ، وأبهم ليلة القدر ليجتهدوا في العبادة في جميع ليالي القدر الثلاث من شهر رمضان.

ولا ينبغي أن تكون التوبة والاستغفار لقلقة لسان ، بل عن ندم صادق ، وعن علم بقبح الذنب ، وعن قضاء الفوائت وإرجاع حقوق الناس ، وإصلاح المحتوى الداخليّ للإنسان.

قال أمير المؤمنين عليه السلام لمن قال بحضرته : أستغفرُ الله : ثكلتك أمُّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العِلِّيّين ، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ : أوّلُها : الندم على ما مضى ، والثاني : العزم على ما ترك العَود عليه أبداً ، والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملسَ ليس عليك تَبِعة ، والرابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتَها فتؤدّيَ حقّها ، والخامس : أن تَعمِد إلى اللحم الذي نبت على السُّحت فتُذيبَه بالأحزان حتّى تُلصِقَ الجلد بالعظم ، وينشأَ بينَهما لحم جديد ، والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : الخصال : ٦١٠ ـ قول الشيخ الصدوق : كلُّ ذنبٍ كبيرٌ بالإضافة إلى ما هو أصغر منه ، وصغيرةٌ بالإضافة إلى ما هو أكبرُ منه. عنه : بحار الأنوار ١٠ : ٢٢٩.

٢ ـ تاريخ بغداد ٤ : ٤٦.


فعند ذلك تقول : أستغفر الله (١).

وقد قال علماء الأخلاق بصحّة التبعيض في التوبة ، كما لو كان الإنسان يمارس الزنا ويشرب الخمر ، فيتوب من الزنا ، لكنّه يبقى على شرب الخمر من غير توبة ، إنّ توبة العبد إذا استكملت شرائطها فهي مقبولة ، وإن تكرّرت مراراً وتكراراً ، فإنّ العبد معرّض للوقوع في المعصية ، وكرم الله ورحمته أوسع من ذنبه.

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : يا محمّد بن مسلم ، ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له ، فَلْيعملِ المؤمن لما يَستأنف بعد التوبة والمغفرة. أما والله إنّها ليست إلّا لأهل الإيمان.

قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال عليه السلام : يا محمّد بن مسلم ، أترى العبدَ المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثمّ لا يقبل الله توبته؟

قلت : فإنّه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر.

فقال عليه السلام : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة ، وإنّ الله غفور رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السّيئات ، فإيّاك أن تُقنّط المؤمنين من رحمة الله (٢).

أقسام التائبين

أمّا أقسام نفوس التائبين فقد ذكر علماء الأخلاق أنّها أربعة :

ـ النفس المطمئنّة : وهؤلاء هم التائبون إلى الله توبة نصوحاً لا رجعة فيها إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤١٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٣٤ / ح ٦.


الذنب ، وإذا عرض لهم اللمم فإنّهم يجأرون إلى بارئهم بالتوبة والاستغفار ، وقد وعد الله أُولئك بالجنّة في جواره حيث قال سبحانه : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١).

ـ النفس اللوّامة : وهؤلاء يتوبون من الذنوب والمعاصي ، كبيرِها وصغيرها ، ولكن تغلبهم شهواتهم وأهواؤهم فيقعون في المعصية ، ثمّ سرعان ما يندمون ويأسفون ويعودون إلى صراط الله القويم ، وقد غلب خيرهم على شرّهم. وقد وعدهم الله سبحانه بالوعد الحسن : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (٢).

ـ النفس المسوِّلة : وهؤلاء يحتدم عندهم صراع قوى الخير وقوى الشرّ ، فيقعون في المعاصي كثيراً ، ثم يتوبون من بعضها ، أو يسوّفون التتوبة ، فإنّ توبة هؤلاء متزلزلة ، مضطربة ، متأرجحة بين الصدق والأماني الكاذبة ، وهؤلاء ممّن وصفهم الله تعالى حيث قال : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٣).

إنّ المؤمن مطالب بالجدّ والاجتهاد في طاعة الله ، وترك المحرّمات ، ونيل درجات القرب من الله ، ولا ينبغي احتقار الطاعات القليلة ، فإنّ القليل إذا اجتمع مع القليل صار كثيراً ، والخيط إذا ضُمّ إلى الخيط صار قماشاً ، فإيّانا والغفلةَ عن الله سبحانه وتعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ الله عزّ وجلّ كتم ثلاثةً في ثلاثة : كتم رضاه في طاعته ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

٢ ـ النجم : ٣٢.

٣ ـ التوبة : ١٠٢.


وكتم سَخَطَه في معصيته ، وكتم وليَّه في خَلْقه ، فلا يستخفّنّ أحدكم شيئاً من الطاعات ، فإنّه لا يدري في إيِّها رضاءُ الله تعالى ، ولا يستقلّنّ أحدكم شيئاً من المعاصي ، فإنّه لا يدري في أيّها سَخَطُ الله ، ولا يُزرِيَنّ أحدُكم بأحدٍ من خَلق الله ، فإنّه لا يدري أيّهم وليّ الله (١).

والتوبة كما قلنا مراتب أرقاها درجة الإنابة ، والمراد منها الرجوع إلى الله والانقطاع إليه انقطاعاً تامّاً ، سرّاً وعلناً ، قولاً وفعلاً ، نيّةً وسلوكاً ، فيكون القلب خالياً من كلّ شاغل عن الله ، وهذه غاية الإسلام حيث قال الله سبحانه في كتابه : (وأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا له) (٢).

وقال تعالى : (واُزلفت الجنّة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكلّ أوّابٍ حفيظ * من خشي الرّحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيب * ادخلوا بسلامٍ ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) (٣).

ونعود من جديد للتأكيد على صدق التوبة ، والتثبّت من مواقفنا مع الله سبحانه ، وخلوص نيّاتنا عند الاستغفار ، فقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : أتدرون من التائب؟ قالوا : اللهمّ لا ، قال صلى الله عليه وآله : إذا تاب العبد ولم يُرضِ الخصماءَ فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر مجلسه وطعامه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر رفقاءه فليس بتائب ، ومَن تابَ ولم يَزِد في العبادة فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر لباسه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يغيّر فراشه وسادته فليس بتائب ، ومَن تاب ولم يفتح قلبَه ولم يوسّع كفَّه فليس بتائب ، ومن تاب ولم يقصّر أمله ويحفظ لسانه فليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كنز الفوائد : ١٣ ، مستدرك الوسائل ٩ : ١٠٣ / ح ٢.

٢ ـ الزمر : ٥٤.

٣ ـ سورة ق : ٣١ ـ ٣٥.


بتائب ، ومن تاب ولم يقدّم فضل قُوته من يديه فليس بتائب ، وإذا استقام على هذه الخصال فذاك التائب (١).

إنّ الرواية الشريفة لا تنفي أصل التوبة بل تنفي جانب الكمال فيها فالنبيّ صلى الله عليه وآله أراد أن تكون التوبة نقلة نوعيّة ، تنقل الإنسان من الظلمات إلى النور ، ومن مذموم الأخلاق إلى مكارمها ، ومن لقمة الحرام وقرين السوء إلى طيب المكسب وحسن المعاشرة مع المؤمنين ، وإعادة حقوق المظلومين ، والخروج من ولاية الشيطان إلى رحاب ولاية الله سبحانه.

والآن نعطّر أجواء هذا المبحث بهذا الحديث الشريف الذي هو من روائع أهل العصمة ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : خلق الله تعالى تحت العرش مَلَكاً يسبّحه بجميع اللغات المختلفة ، فإذا كان ليلةُ الجمعة أمره أن ينزل من السماء إلى الدنيا ، ويطّلع إلى أهل الأرض ويقول :

يا أبناء العشرين لا تغرّنكم الدنيا ، ويا أبناء الثلاثين اسمعوا وَعُوا ، ويا أبناء الأربعين جدّوا واجتهدوا ، ويا أبناء الخمسين لا عذرَ لكم ، ويا أبناء الستّين ماذا قدّمتم في دنياكم لآخرتكم؟ ويا أبناء السبعين زرعٌ قد دنا حصاده ، ويا أبناء الثمانين أطيعوا الله في أرضه ، ويا أبناء التسعين آنَ لكم الرحيلُ فتزوّدوا ، ويا أبناء المائة أتتكم الساعة وأنتم لا تشعرون!

ثمّ يقول : لولا مشايخُ رُكَّع ، وفتيانٌ خُشّع ، وصبيانٌ رضّع ، لَصُبّ عليكم العذاب صبّاً (٢).

وأختم هذا المبحث متبرّكاً بالمناجاة الشريفة للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع الأخبار : ٢٢٧ / ح ٥٧٨ ، مستدرك الوسائل ١٢ : ١٣٠ / ح ٢.

٢ ـ إرشاد القلوب : ١٩٣ ـ الباب ٥٢ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٧٥ ح ٧.


والموسومة بـ «مناجاة التائبين» :

إلهي ألبًسْتني الخطايا ثوبَ مَذلّتي ، وجَلَّلني التباعدُ مِنك لباسَ مَسْكنتي ، وأمات قلبي عظيمُ جِنايتي ، فأحْيِهِ بتوبةٍ منك يا أملي وبُغْيتي ، ويا سُؤْلي ومُنْيتي ، فَوَعزّتِك ما أجدُ لذنوبي سواك غافراً ، ولا أرى لكسري غيرَك جابراً ، وقد خضَعْتُ بالإنابة إليك ، وعَنَوتُ بالاستكانة لديك ، فإن طردتَني مِن بابِك فبِمَن ألوذ ، وإن رَدَدْتَني عن جَنابك فبِمَن أعوذ؟! فَوا أسفاهُ مِن خَجْلتي وافتضاحي ، ووالهفاهُ مِن سوء عملي واجتراحي (١) ، أسأل يا غافرَ الذنبِ الكبير ، ويا جابرَ العظمِ الكسير ، أن تَهَبَ لي مُوبقات الجرائر ، وتَستُرَ علَيّ فاضحاتِ السرائر ، ولا تُخْلِني في مشهد القيامة مِن بَرْدِ عفوِك ومغفرتِك ، ولا تُعْرِني مِن جميلِ صَفحِك وسَترِك.

إلهي ظلِّلْ على ذنوبي غَمامَ رحمتِك ، وأرسِلْ على عيوبي سحابَ رأفتِك ، إلهي هل يَرجِع العبدُ الآبق إلّا إلى مَولاه؟ أم هل يُجيرُه من سَخَطِه أحدٌ سواه؟!

إلهي إن كان الندمُ على الذنب توبة ، فإنّي وعزّتِك مِن النادمين ، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حِطّةً فإنّي لك من المستغفرين ، لك العُتْبى حتّى ترضى.

إلهي بقدرتك عَلَيَّ تُبْ علَيّ ، وبحِلمِك عنّي اعفُ عنّي ، وبِعلمِك بيَ ارفَقْ بي.

إلهي أنت الذي فتحتَ لعبادِك باباً إلى عفوِك سمّيتَه التوبة ، فقلت : (تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) ، فما عذرُ مَن أغفل دخولَ البابِ بعدَ فتحِه.

إلهي إن كان قَبُحَ الذنبُ من عبدِك ، فَلْيَحسُنِ العفوُ مِن عندِك.

إلهي ما أنا بأوّلِ مَن عصاك فتُبتَ عليه ، وتعرّضَ لمعروفِك فجُدتَ عليه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاجتراح : الاكتساب ، قال ابن دريد : فلان جارَحَ أهله وجارحَهُ أهله ، إذا كان كاسَبَهم ، وجوارح الإنسان من هذا ، لأنّهنّ يجترحن له الخير أو الشرّ ، أي يكسب بهنّ. [ترتيب جمهرة اللغة ١ : ٢٦٩]


يا مجيبَ المضطرّ ، يا كاشفَ الضُّرّ ، يا عظيمَ البِرّ ، يا عليماً بما في السرّ ، يا جميلَ السِّتر ، استشفعت بِجُودِك وكرمِك إليك ، وتوسّلتُ بجَنابِك وترحّمِك لديك ، فاستجِبْ دعائي ، ولا تُخيِّبْ فيك رجائي ، وتَقبّلْ توبتي ، وكفّرْ خطيئتي ، بمنّك ورحمتك يا أرحم الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية (ط السيّد محمّد باقر الأبطحي) : ٤٠١ ـ ٤٠٣.


المبحث السابع والعشرون : في حُسن الظنّ

قال عليه السلام : بَلْ لِثِقَتي بِكَرَمِكَ ، وَسُكُوني اِلى صِدْقِ وَعْدِكَ ، وَلَجَائي اِلَى الْإيمانِ بِتَوْحيدِكَ ، وَيَقيني بِمَعْرِفَتِكَ مِنّي اَنْ لا رَبَّ لي غَيْرُكَ ، وَلا اِلهَ إلّا اَنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ.

يتوجّه الداعي عليه السلام في هذا المقطع إلى ربّه معبّراً عمّا يجيش في قلبه من حسن الظنّ بالله تعالى ، وهذا التوجّه هو ثمرة من ثمرات الإيمان ، وقوّة الاعتقاد ، ومن معطيات روح الإسلام التي تحثّ الإنسان على عدم اليأس والقنوط من رحمة الله ، وتخبره أنّ الله سبحانه مصدر كلّ خير وعطاء ، وأنّه خلق الإنسان ليفيض عليه رحمته ، ويغمره برأفته الشاملة.

وإنّ كلّ ما يصيب الإنسان من خير أو ابتلاء فإنّه رحمة له ، وصلاح لدينه ودنياه ، وسوف يرى عاقبة ذلك في عرصات القيامة يوم تُوفّى كلّ نفس بما كسبت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ.

وقد ورد على لسان الروايات أن ليس خير بعده النار بخير ، وليس شرّه بعده الجنّة بشرّ ، فالمصائب والويلات التي تصيب الإنسان سوف يقابلها الله تعالى


بأجر الصابرين (١).

إنّ الشريعة الإسلاميّة أمرت أبناءها أن يحسنوا الظنّ بإخوانهم المؤمنين ، وهذا من مكارم الأخلاق ، حيث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : ضَعْ أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيَك ما يَغْلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تَجِد لها في الخير مَحْملاً (٢).

ولا ينبغي أن نحسن الظنّ بالأشرار ومجهولي الهويّات.

فها هو سيّد البلغاء والمتكلّمين ، تلميذ القرآن ، وتلميذ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، ذلك أمير المؤمنين عليه السلام يفتح أعيننا على هذه الحقيقة إذ يقول : إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل تَظهر منه حَوبةٌ فقد ظَلَم ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسَنَ رجل الظنَّ برجل فقد غَرَّر (٣).

وعن الإمام عليّ الهادي عليه السلام ورد قوله : إذا كان زمانٌ العدلُ فيه أغلبُ من الجور ، فحرام أن يُظَنَّ بأحد سوءاً حتّى يُعلَمَ ذلك منه. وإذا كان زمانٌ الجورُ فيه أغلب من العدل ، فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيراً حتّى يبدو ذلك منه (٤).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله جاء قوله : احترسوا من الناس بسوء الظنّ (٥) ، فالله سبحانه قد وعد بقبول توبة العبد الآبق ، وشموله بالتوبة والعفو والمغفرة ، ووعده أن يدخله في ولايته إذا أحسن واستقام على جادّة الحقّ والهدى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : تحف العقول : ٨٨.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٦٢ / ح ٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١١٤ ، غَرّر : أي أوقع نفسَه في الغَرَر ، وهو الخطر.

٤ ـ الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة : ٤٢ ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٧٠ / ح ٤ ـ عن : إعلام الدين للحسن بن أبي الحسن الديلمي.

٥ ـ مجمع الزوائد ٨ : ٨٩.


قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (١).

والآن نعود إلى السنّة الشريفة لنطّلع على ما أتحفنا به آل البيت من علومهم وإرشاداتهم بخصوص وجوب حسن الظنّ بالله تعالى ، وتحريم سوء الظنّ به ، فقد ورد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قوله : أحسِنِ الظنَّ بالله ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : أنا عند حُسنَ ظنِّ عبديَ الؤمن بي ، إنْ خيراً فخيراً ، وإنْ شرّاً فشرّاً (٢).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : من حَسُنَ ظنّه بالله كان الله عند حسن ظنّه به ، ومَن رضيَ بالقليل من الرزق قَبِل الله منه اليسير من العمل (٣) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام أيضاً : حسن الظنّ بالله أن لا ترجوَ إلّا الله ، ولا تخافَ إلّا ذنبك (٤).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله ورد قوله : والذي لا إله إلّا هو ، لا يَحسُن ظنُّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن ، لأنّ الله كريم بيده الخيرات ، يَسْتَحْيِي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ، ثمّ يُخْلف ظنَّه ورجاءه ، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه (٥).

وقال عليه السلام كذلك : ينبغي للمؤمن أن يخاف اللهَ خوفاً كأنّه مشرف على النار ، ويرجوَه كأنّه من أهل الجنّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فصّلت : ٣٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧٢ ح / ٣.

٣ ـ نفسه ٨ : ٣٤٧ / ح ٥٤٦.

٤ ـ نفسه ٢ : ٧٢ / ح ٤.

٥ ـ نفسه ٢ : ٧٢ / ح ٢.


وقال الإمام عليّ عليه السلام في وصيّة لولده محمّد بن الحنفيّة : ولا يغلبنّ عليك سوءُ الظنّ بالله عزّ وجلّ ، فإنّه لن يَدَعَ بينك وبين خليلك صلحاً (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : إنّ آخر عبد يُؤمَر به إلى النار فيلتفت ، فيقول الله عزّ وجلّ : أعجلوه ، فإذا أُتي به قال له : عبدي ، لِمَ التفَتَّ؟ فيقول : يا ربّ ، ما كان ظنّي بك هذا ، فيقول الله جلّ جلاله : عبدي ، وما كان ظنّك بي؟

فيقول : يا ربّ ، كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي وتدخلني جنّتك ، فيقول الله : ملائكتي ، وعزّتي وجلالي وبلائي وارتفاع مكاني ، ما ظنَّ بي هذا ساعةً من حياته خيراً قطّ ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة (٢).

وعن الصادق عليه السلام قوله : يُؤتى بعبدٍ يوم القيامة ظالمٍ لنفسه ، فيقول الله تعالى له : ألم آمرْك بطاعتي؟ ألم أَنْهَك عن معصيتي؟

فيقول : بلى يا ربّ ، ولكن غلَبَت علَيّ شهوتي ، فإن تعذّبني فبذنبي ولم تظلمني. فيأمر الله به إلى النار ، فيقول : ما كان هذا ظنّي بك ، فيقول سبحانه : ما كان ظنُّك بي؟ قال : كان ظنّي بك أحسنَ الظنّ. فيأمر الله به إلى الجنّة ، فيقول الله تعالى : لقد نَفَعَكَ حُسنُ ظنّك بيَ الساعة (٣).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : لا يموتنَّ أحدكم حتّى يُحسنَ ظنّه بالله ، فإنّ حُسنَ الظنّ بالله ثمن الجنّة (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨٥ ح / ٥٨٣٤.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٧٣.

٣ ـ المحاسن : ٢٥ ـ ٢٦ / ح ٤.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٨٠ / ح ٨١٤.


ولقد أمر الإسلام أن يكون حسن الظنّ بين المؤمنين قائماً أيضاً ، ومنع عن سوء الظنّ لأنّ ذلك من مذموم الأخلاق ، وقبيح الصفات.

قال الصادق عليه السلام : إذا اتّهم المؤمنُ أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : أُطلبْ لأخيك عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً (٢).

وسئل عليه السلام : كم بين الحق والباطل؟ فقال : أربع أصابع. ووضع عليه السلام يده بين أُذنه وعينيه فقال : ما رأته عيناك فهو الحقّ ، وما سَمِعَته أُذناك فأكثره باطل (٣).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أحسنوا ظنونكم بإخوانكم تغتنموا بها صفاء القلب ونقاء الطبع (٤).

وقال الإمام علي عليه السلام : الظنّ الصواب من شيم أُولي الألباب (٥).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لتلميذه محمّد بن فضيل : يا محمّد ، كُذِّبْ سمعك وبصرك عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قَسامة ، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم ، ولا تُذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٦٢ / ح ١.

٢ ـ الخصال : ٦٢٢ / ح ١٠ ـ باب الأربعمائة.

٣ ـ نفسه : ٢٣٦ / ح ٧٨.

٤ ـ مصباح الشريعة : ١٧٣ ـ عنه ، بحار الأنوار ٧٢ : ١٩٦ / ح ١٢.

٥ ـ غرر الحكم : ٣٠.

٦ ـ ثواب الأعمال : ٢٤٧ ، والآية في سورة النور : ١٩.


والقَسامة خمسون شاهداً ، وخمسون قسامة تكون ألفين وخمسمائة شاهد.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً الكعبة : مرحباً بالبيت ما أعظمَك وأعظمَ حرمتَك على الله ، وواللهِ لَلمؤمنُ أعظمُ حرمةً منك ؛ لأنّ الله حرّم منك واحدة ، ومن المؤمن ثلاثة : مالَه ، ودمه ، وأن يُظَنَّ به ظنَّ السوء (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : أبى الله أن يُظَنّ بالمؤمن إلّا خيراً ، وكسرُ عظم المؤمن مَيّتاً ككسره حيّاً (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روضة الواعظين : ٢٩٣.

٢ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٦٧ / ح ١٧٧ ـ الباب ٨ ما حرّم الله عزّ وجلّ على المؤمن من حُرمة أخيه المؤمن.


المبحث الثامن والعشرون : في الإسلام والإيمان

إنّ الإسلام والإيمان لهما مراتب مختلفة ، بعضها أرقى من بعض :

أ) المرتبة الاُولى :

١. الإسلام : المراد منه إظهار الشاهدتين ، ومن علاماته القبول الظاهريّ للأوامر والنواهي الإلهيّة ، وقد يطابق الظاهر واقع الحال وقد يخالفه. وعليه تُحقن الدماء ، وتجري المواريث والمناكح ، وهنا يكون الفرد عضواً من أعضاء المجتمع الإسلاميّ ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، وهذه الشريحة تمثّل الغالبية العظمى من هذا المجتمع الذي نتعامل معه.

قال تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١).

٢. الإيمان : وهو قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالأركان. والمؤمن هنا يعقد قلبه على الالتزام بالأوامر والنواهي الإلهيّة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٤.


بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) (١) ، وهذه الشريحة من المؤمنين تضمّ الغالبية الكبرى منهم.

ب) المرتبة الثانية :

١. الإسلام : في هذه الطبقة يكون الإنسان من أصحاب الورع والتقوى والإيمان بالعقائد الحقّة جملة وتفصيلاً ، وعند هؤلاء من الملكات ما يمنعهم من الانحراف والوقوع في المعاصي الكبيرة ، وتكون مسيرتهم الحياتيّة متوجّهة إلى صالح الأعمال ومكارم الخصال.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (٢).

وهذه المرتبة أرقى من مرتبة الإيمان في الطبقة الأُولى ، وأهل هذه المرتبة هم العدول.

٢. الإيمان : وهذه المرتبة تؤهّل الإنسان ليكون ممّن اعتنق الاعتقادات الحقّة بوعي وبصيرة ، وصدق وإخلاص ، وممّن طهّروا أنفسهم من الشبهات والوساوس الشيطانيّة ، وممّن روّضوا أنفسهم لقبول الحقّ وإتيان الأعمال الخالصة لوجهه الكريم ، وممّن لا يتردّدون في ساحة جهاد العدوّ بالنفس والمال ، أولئك هم الصادقون مع الله ، الراضون بما كتب لهم الله.

قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٣).

وهذه المرتبة عمليّة انتقال من إيمان إلى إيمان أرقى ، وأسمى وأنقى.

وقد ورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله مرّ على قوم فسألهم : ما أنتم؟ قالوا : مؤمنون ، قال :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصفّ : ١٠ ـ ١١.

٢ ـ البقرة : ٢٠٨.

٣ ـ الحجرات : ١٥.


وما علامة إيمانكم؟ قالوا : نصبر على البلاء ، ونشكر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء ، قال : مؤمنون وربِّ الكعبة (١).

ج) المرتبة الثالثة :

١. الإسلام : وفي هذه المرحلة ينعقد الحبّ الإلهيّ في قلوب هؤلاء الثلّة الصالحة ، فلا يرون غير الله ، ولا يطيعون غيره ، ولا يريدون سواه ، وهذا الإيمان مَلَكة ترفع الحرج والمعاناة في مسألة الانقياد للأوامر والنواهي الإلهيّة ، قال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (٢).

فالإيمان كما هو المفهوم من ظاهر الآية يقود إلى رفع الحرج ، وهذا بدوره يقود إلى الإسلام.

٢. الإيمان : وفي هذه المرتبة تسري روح العبوديّة والانقياد لله بشكل عميق وواع ، وفيه يرتقي الإنسان في سلالم الكمال والإخلاص حتّى يُباهيَ اللهُ به ملائكته.

وهذا الوصف ينطبق على أتباع الرسل ، تلك الشريحة التي فارقت الأهل والوُلْد والأموال وزخارف الحياة من أجل سيادة المبادئ ونشر العقيدة ، هؤلاء الذين قالوا لأنبيائهم ، لو أمرتُمونا أن نخوض البحر لَخُضناه معكم ، ولو أمرتمونا أن نضع بطوننا على قوائم سيوفنا لِنُخرجها من ظهورنا لَفَعلنا.

إنّ هؤلاء ينظرون إلى ربّهم ولا تحيد أعينهم عنه ، بعيداً عن الأسباب الظاهريّة ، فَهُم يَرَون قبل كلّ شيء ، وبعد كلّ شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مسكّن الفؤاد : ٧٩.

٢ ـ النساء : ٦٥.


ومن لوازم هذه المرتبة الإيمانيّة : التحلّي بمكارم الأخلاق ، وجميل الصفات : والرضى والتسليم لِقَدَر الله وقضائه ، واحتساب الصبر عنده ، والزهد ، والحبّ في الله والبغض في الله.

أُنظر قوله تعالى : (وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّـهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) (١) ، فسياق الآية تقول : إنّ موسى عليه السلام أمرهم بالتوكّل الذي هو من ثمرات الإيمان ، ولكنِ اشترَطَ في هذا الإيمان أن يكون صادراً عن إيمان حقيقيّ خالص.

لاحظ هذا التسلسل رجاءً :

الإسلام الخالص يقود إلى الإيمان ، هذا الإيمان بدوره يقود إلى التوكّل ، وقد وعد الله سبحانه هؤلاء المؤمنين بالفوز والرضوان في مقامِ عند مَليكٍ مقتدر :

قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢).

د) المرتبة الرابعة :

١. الإسلام : وهنا يكون الإنسان بين يدي ربّه كالميّت بين يدي غاسله يقلّبه كيف يشاء ، ومن لوازمه التسليم المطلق لله تسليماً هو ترجمة عمليّة لحقّية المُلك الذي ليس وراءه استقلال عن الله جلّ وعلا ، المُلك الذي يفرض مطلق الكبرياء والربوبيّة لله وحده. ولا ينال هذه المرتبة إلّا من وفّقهم الله وسدّد خطاهم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٨٤.

٢ ـ المؤمنون : ١ ـ ١١.


فشملهم بمواهبه وفيوضاته ، وغمرهم بألطافه وعناياته ، وتكاد أن تكون هذه الحالات ممّا باركتها العناية التكوينيّة قبل التشريعيّة ، فلولا هذه الإفاضات والعنايات لا يصلون إلى هذه المرتبة.

قال تعالى : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) (١).

٢. الإيمان : وهؤلاء هم الذين استجمعوا صفات الكمال في جميع أحوالهم ، فهم لا يرون غير الله ، ولا يعبدون غير الله ، مُبرَّؤون من الشرك الخفيّ ، وهم لا يرون لشيء تأثيراً بغير الله ، ولا يحزنهم أمر ، ولا يفرحون بنعمة ، فالأمر كلّه لله سبحانه وتعالى.

قال تعالى : (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (٢).

ويمكن تقريب المعنى فنقول : إنَّ المرتبة الأُولى مثل المرحلة الابتدائيّة ، والثانية مثل المرحلة المتوسّطة ، والثالثة مثل المرحلة الثانويّة ، والرابعة مثل المرحلة الجامعيّة ، وهذه المرتبة يمكن أن نطلق عليها اليقين.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : لَأَنسِبنَّ الإسلامَ نسبةً لم يَنْسِبْها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل (٣).

إنّ أداء التكاليف العباديّة وإتيان الأعمال الصالحة من صفات المؤمنين ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ١٢٨.

٢ ـ يونس : ٦٢ ـ ٦٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٢٥ ، الأمالي للصدوق : ٢٨٧ / ح ٤ ـ المجلس ٥٦ ، خصائص الأئمّة : ١٠٠.


أُنظر هذا التسلسل :

الإقرار «المعرفة» ، ثمّ التصديق ، ثمَّ اليقين ، ثمّ التسليم ، ثمّ الإسلام المطلق الذي وصف الله به أنبياءه عليهم السلام.

قال الإمام السجّاد عليه السلام : الزهد عشرة أجزاء ، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضى (١).

أُنظر هذا التسلسل :

الزهد ، ثمّ الورع ، ثمّ اليقين ، ثمّ الرضى.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٢ / ح ١٠.


المبحث التاسع والعشرون : في اليقين

قال الديلميّ في «إرشاد القلوب» ما نصّه : فأوّل مقامات الإيمان : المعرفة ، ثمّ التصديق ، ثمّ اليقين ، ثمّ الإخلاص.

الإيمان اسم لهذه الأُمور كلّها ، فأوّلها النظر بالفكر في الأدلّة ونتيجة المعرفة ، فإذا حصلت المعرفة لزم التصديق ، وإذا حصل التصديق والمعرفة وُجِد اليقين ، فإذا صحّ اليقين انهالت أنوار السعادة في القلب بتصديق ما وعد به الله تعالى من رزق في الدنيا وثواب في الآخرة ، وخشعت الجوارح من مخافة ما توعّد به الله جلّ وعلا من العقاب ، فقامت بالعمل ، وانزجرت عن المحارم ، وحاسب العقلُ النفسَ على التقصير في الذكر والتنبيه على الفكر ، فأصبح صاحب هذا الحال نطقهُ ذِكراً ، وصمته فكراً ، ونظره اعتباراً. واليقين يدعو إلى قصِرَ الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد ، والزهد ينتج النطق بالحكمة لخلوّ البال من هموم الدنيا ، لقوله عليه السلام : من زهد في الدنيا استراح قلبه وبدنه ، ومن رغب فيها تعب قلبه وبدنه (١).

فلا يبقى له نظر إلّا إلى الله ، ولا رجوع إلّا إليه ، كما مدح الله سبحانه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إرشاد القلوب : ١٢٥ ـ الباب ٣٧ في اليقين.


إبراهيم عليه السلام بقوله : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (١).

يعني رَجَاعٌ إلى الله ، لا نظر له للدنيا ، وعلى قدر يقين العبد يكون إخلاصه وتقواه ، وهذه الأحوال الصحيحة توجب لصاحبها حالاً يراها بين اليقظة والنوم ، ويحصل باليقين ارتفاع معاوضات الوساوس النفسيّة لأنّه رؤية العيان بحقائق الإيمان ، وهو أيضاً ارتفاع الريب بمشاهدة الغيب ، وهو سكون النفس دون جَوَلان الموارد ، ومتى استكمل القلب بحقائق اليقين ، صار البلاء عنده نعمة ، والرخاء مصيبة حتّى أنّه يستعذب البلاء ، ويستوحش لمطالعة العافية (٢).

أُنظر قوله تعالى : (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٣).

إنّ (ملكوت) صيغة مبالغة من المُلك جاءت للتأكيد ، والمراد به السلطنة الإلهيّة المطلقة على مفاصل الكون ومفرداته ، وملكيته له سبحانه ملكاً حقيقيّاً لا زوال له ، ولا تأثير لغيره فيه ، وبعد هذه الرؤية التي كتبها الله لإبراهيم عليه السلام رفعه إلى درجة اليقين.

قال صاحب «الميزان» قدس سره ما نصّه : الآيات ـ كما ترى ـ تعلّل المُلك بالخلق ، فكون وجود الأشياء منه ، وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيّتها إليه تعالى هو الملاك في تحقّق ملكه ، وهو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ، ولا يزول عنه إلى غيره ، ولا يقبل نقلاً ولا تفويضاً يغني عنه تعالى وينصب غيره مقامه.

وهذا هو الذي يُفسَّر به معنى الملكوت في قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٧٥.

٢ ـ إرشاد القلوب : ١٢٥ ـ الباب ٣٧ في اليقين.

٣ ـ الأنعام : ٧٥.


يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).

فالآية الثانية تبيّن أنّ ملكوت كلّ شيء هو كلمة «كن» ، الذي يقوله الحقّ سبحانه له ، وقوله فعله ، وهو إيجاده له (٢).

فقد تبيّن أنّ الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به ، وهذا أمر لا يقبل الشِّرْكة ، ويختصّ به سبحانه وحده ، فالربوبيّة التي هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضاً ولا تمليكاً انتقاليّاً ، لذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هدايةً قطعيّة ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٣).

واليقين : المراد به هنا هو العلم الواقعيّ الذي لا يشوبه شكّ ولا لبس ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (٤).

وإذا لاحظنا هذه الآية رأينا أنّ منصب الإمامة العامّة الإلهيّة قد ناله أُناس متّصفون بصفتين ، هما : الصبر واليقين. نرجو مراجعة بحث الإمامة في كتابنا الموسوم بـ «المباحث الميسّرة».

قال تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) ، وقال تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يس : ٨٢ ـ ٨٣.

٢ ـ تفسير الميزان ٧ : ١٧١.

٣ ـ الأعراف : ١٨٥.

٤ ـ السجدة : ٢٤.

٥ ـ التكاثر : ٥.

٦ ـ الحجر : ٩٩.


أي أثبت على عبادةِ الله وحده ، ورفضِ الأنداد والشركاء من دونه ، والتسليمِ والانقياد لله ، حتّى يُدْرِكك الموت الذي يكون فيه كلُّ غيبٍ شهادةً ، حتيث ترتفع الحُجب ، فيرى الإنسان الملائكة والجنّة والنار وغيرهما ممّا هو غائب عن عالم الحسّ ، وكان ذلك متحقّقاً للنبيّ صلى الله عليه وآله في حياته ، ومن مصاديق تحقّقه ما جرى له في رحلات الإسراء والمعراج.

واليقين الموعود هو غير اليقين الاعتقاديّ النظريّ الذي يأمر به العقل ، وقد جاءت به النبوءات من أخبار عن عالم الغيب.

قال سبحانه : (إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) ، واليقين : هو مطابقة العلم للخارج الواقعيّ ، وإضافة الحقّ له للتأكيد على كونه ممّا لا يعتريه الشكّ واللَّبس والاشتباه.

وقال سبحانه : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (٢) ، والمراد بعين اليقين هو محض اليقين ، ولو أردنا أن نقرّب المعنى ، قلنا : إنّ هناك ثلاثة معان :

ـ علم اليقين : والمراد منه هو إيماننا بوجود نار أُخرويّة يُعذَّب بها أعداء الله وأصحاب الذنوب انطلاقاً من تصديقنا بالكتاب النازل من عنده تعالى ، وبما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله ، والتكذيب به كفر لأنّه يقود إلى إنكار ما هو ضروريّ ، حيث إنّ هذا التكذيب ينتهي إلى تكذيب النبيّ صلى الله عليه وآله.

أمّا في مقام المشاهدة العاديّة فنقول : إنّ الدخان المتصاعد هو دليل وجود النار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الواقعة : ٩٥.

٢ ـ التكاثر : ٧.


ـ عين اليقين : وهنا حين ينتقل الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، فإنّ المشاهد التي كان يراها من باب الغيبيّات ، سيراها أمامه حاضرة شاخصة قائمة ، وهذا اليقين أعمق من اليقين النظريّ الأوّل.

أمّا في المشاهدة فلو رأينا النار متوهّجة مشتعلة فنؤمن بوجودها يقيناً.

ـ حقّ اليقين : كمَن لو دخل النارَ وقاسى أهوالها ، وتحمّل آلامها ، ولا شكّ أنّ هذا اليقين أقوى من الأوّل والثاني. وفي عالم الدنيا يكون كما لو احترق عضو من الإنسان بالنار المتوقّدة ، والله العالم.

إنّ النسبة بين العلم واليقين هي نسبة تخصيص وتعميم ، فكلّ يقين علم ، وليس كلّ علم يقيناً ، فالعلم هو عمليّة كشف الواقع ، وطريق للوصول إلى الحقائق ، وقد لا يطابق الواقع ، ومن هنا كانت الأحكام الشرعيّة التي يتوصّل إليها المجتهد في عملية الاستنباط أحكاماً ظاهريّة ، بعكس الأحكام التي تصلنا مباشرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وعن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، إذ هي أحكام واقعيّة يقينيّة قطعيّة.

أمّا اليقين فهو اعتقاد جازم ثابت يطابق الواقع من دون شبهة أو لبس ، وهو مرتبة إيمانية راقية ، تمدّ الإنسان بأسباب السعادة والرضى ، وتُكْمل النفس ، وتقوده إلى النجاة من مضلّات الفتن ، وتسير به إلى الجنّة.

وقد أشرنا في مباحث سابقة أنّ قبول العبادة وترتيب آثارها من جزاء وثواب ، يعتمد على نوع العبادة أكثر من اعتماده على كمّيتها وكثرتها.

قال الصادق عليه السلام : إنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من


العمل الكثير على غير يقين (١).

وعنه عليه السلام أيضاً : إنّ الله بعدله وقسطه وجعل الرَّوْحَ والراحة في اليقين والرضى ، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسَّخَط (٢).

وقال لقمان يوصي ولده : يا بُنيّ ، لا يُستطاع العمل إلّا باليقين ، ولا يعمل المرء إلّا بِقَدْر يقينه ، ولا يقصّر عامل حتّى ينقص يقينُه (٣).

وقد ورد في الرواية الشريفة : أنّ الإمام الباقر عليه السلام في صِغر سنّه سأل جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، وقد اكتنفته عِللٌ وأسقام ، وغَلَبه ضعف الهرم : كيف تجد حالك؟ قال : أنا في حال : الفقر أحبّ إليَّ من الغنى ، والمرض أحبّ إليّ من الصحّة ، والموت أحبّ إليّ من الحياة.

فقال الإمام عليه السلام : أمّا ـ نحن أهل البيت ـ فما يَرِد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحّة والموت والحياة ، فهو أحبّ إلينا (٤).

وقد تجسّد التسليم المطلق لله تبارك وتعالى في قول الإمام عليه السلام أعلى ممّا كان بقوله جابر الأنصاري رضوان الله عليه.

إنّ الموقن بالله لا يرى لغيره سبحانه مؤثّراً في الوجود ، فالله هو المالك والخالق ، والمعطي والمانع ، وهو المسبّب وراء كلّ سبب ، وأنّ العبد لا ينال من هذه الدنيا إلّا ما كتبه الله له ، فقد رُفعت الأقلام ، وجفّت الصحف ، وهذا التوكّل على الله وهو الذي يكون أعلى مراحله اليقين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٧ / ح ٣ ـ باب فضل اليقين.

٢ ـ نفسه ٢ : ٥٧ / ح ٢.

٣ ـ جامع السعادات ١ : ١١٩.

٤ ـ جامع السعادات ٣ : ٢٨٥.


قال الإمام الصادق عليه السلام : ليس شيء إلّا وله حدّ ، قيل : فما حدّ التوكّل؟ قال عليه السلام : اليقين ، قيل : فما حدُّ اليقين؟ قال : ألّا تخافَ مع الله شيئاً (١).

وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال : كان قنبر غلامُ عليّ يحبّ عليّاً عليه السلام حبّاً شديداً ، فإذا خرج عليّ صلوات الله عليه خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذاتَ ليلة فقال له : يا قنبر ، ما لك؟ قال : جئت لأمشيَ خلفك يا أمير المؤمنين ، قال : ويحك ، مِن أهل السماء تَحرسُني أم من أهل الأرض؟! فقال : لا ، بل من أهل الأرض.

فقال : إنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلّا بإذن الله من السماء ، فارجع. فرجع (٢).

ومن لوازم اليقين الخضوع المطلق ، والخشوع العميق لله سبحانه ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، حبّاً له وشكراً ، وفراغ القلب من شواغل الدنيا وزخارفها ، والعوم في بحار العرفان التي تقود أهل الإيمان إلى خالق الأكوان ، وهؤلاء من النزر القليل الذين صفت نفوسهم من الرذائل والأخلاق المذمومة.

وقد ذكرت لنا كتب السيرة والتاريخ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى حارثة بن مالك ، وهو شابّ في المسجد ، وكان يخفق ويهوي برأسه ، مصفرّاً لونه ، وقد نحف جسمه ، وغارت عيناه في رأسه.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : كيف أصبحت يا فلان؟ قال : أصبحتُ يا رسول الله موقناً.

فعَجِب رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وقال : إنّ لكلّ يقينٍ حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني ، وأسهر ليلي ، وأظمأ هواجري ، فعَزَفَت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٧ / ح ١ ـ باب فضل اليقين.

٢ ـ نفسه ٢ : ٥٩ / ح ١٠ باب فضل اليقين.


نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نُصِب للحساب ، وحُشِر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مُصْطَرِخون ، وكأنّي أسمع الآنَ زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : هذا عبدٌ نَوَّر الله قلبه بالإيمان.

ثمّ قال صلى الله عليه وآله له : إلزمْ ما أنت عليه ، فقال حارثة : أُدع لي يا رسول الله أُرزَقَ الشهادة معك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله فاستُشهِد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر (١).

فهنا صحّ يقين هذا العبد ، فأطلعه الله على بعض أسراره ، وكشف له بعض مغيّباته.

يُرجى من القارئ العزيز ملاحظة هذا التسلسل للوصول إلى اليقين :

المعرفة تقود إلى التصديق ، والتصديق يقود إلى اليقين ، واليقين يقود إلى الإخلاص.

وهؤلاء الموقنون من أصحاب المقامات السامية ، والكرامات العجيبة ، وهذا التجرّد عندهم بسبب العبادة والانقطاع والإخلاص ، جعلهم ينالون بعض مراتب الولاية في التكوين ، فترى بعضهم يسير على الماء ، وآخر يعالج أخطر الأمراض المستعصية بمجرّد اللمس والدعاء.

روي أنّ أحدهم قال للنبيّ صلى الله عليه وآله : رُويَ أنّ عيسى بن مريم كان يسير على الماء ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٥٣ / ح ٢ ـ باب حقيقة الإيمان واليقين.


فقال صلى الله عليه وآله : لو زاد يقينُه لمشى على الهواء (١).

وهذه المراتب الإيمانيّة الراثية لا تتأتّى بالعلوم النظريّة والكسبيّة فقط ، بل برياضة النفس ومجاهدتها ، وصقلها وتربيتها وفق المناهج التي رسمها الشرع الحنيف والقائمون عليه من أهل العصمة الكرام.

ورد في الآثار المعتبرة أنّ موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يدلّه على أعبدِ أهلِ الأرض ، فأرشده الله تعالى أن يذهب إلى ساحل بحر فيرى هناك أعبدهم.

فجاء موسى عليه السلام ومعه جَبرئيل عليه السلام فلم يجد أحداً إلّا رجلاً هو أبرص وأجذم ومُقعَد ، فقال موسى لجبرئيل : أين ذلك الرجل؟

قال : هو هذا يا نبيّ الله.

فقال موسى : كنت أُحبّ أن أراه صوّاماً قوّاماً.

فقال جبرئيل : أُنظر إنّي مأمور بأخذ كريمتيه ـ يعني عينيه ـ فانظر ماذا يقول. فأشار جبرئيل عليه السلام إلى عينيه فسالتا على خَدَّيه ، فأخذ الرجل يقول : يا ربّي متّعتني بهما حيث شئت ، وسلبتني إيّاهما حيث شئت ، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارُّ يا وَصُول.

فتعجّب موسى عليه السلام وأقبل إليه ، قال : يا عبد الله ، أنا رجل مجاب الدعوة ، إنْ شئتَ دعوتُ الله لشفائك.

فقال : لا ، إنّ ما يختاره لي ربّي أَحبُّ إليّ ممّا تختاره لي نفسي.

فقال له موسى عليه السلام : سمعتك تقول : يا بارُّ يا وصول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصبح الشريعة : ١٧٧ ، مستدرك الوسائل ١١ : ١٩٨ / ح ١٦.


قال : نعم ، إنّ ربّي هو البارُّ بي ، وهو الذي يصلني حيث ليس في هذه القرية غيري يعبده (١).

وقلنا في مباحث سابقة : إنّ الذنوب والمعاصي تشكّل رَيناً وحجاباً على القلب فتشوّش عنده الرؤيا ، ولكن حين تُصقَل النفس ، وتطهر من الأرجاس المعنويّة ، وتتّصف بالكمال ، وتتحلّى بمكارم الخصال ، فإنّ الله يفيض عليها من مواهبه ما يكشف لها ما غاب عن الأبصار.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو لا أنّ الشاطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض (٢).

قال سلام بن المستنير : كنت عند أبي جعفر «الإمام الباقر» عليه السلام ، فقال له حُمران ابن أعيَن : أُخبرِك ـ أطال الله بقاءَك لنا وأمتَعَنا بك ـ أنّا نأتيك ، فما نخرج من عندك حتّى تَرِقَّ قلوبنا ، وتَسْلوَ أنفسنا عن الدنيا ، ويَهُون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثمّ نخرج من عندك ، فإذا صِرْنا مع الناس والتُّجار أحبَبْنا الدنيا.

فقال عليه السلام : إنّما هي القلوب ، تصعب مرّةً ومرّةً تسهل.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : أما إنّ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله قالوا : يا رسول الله ، نخاف علينا من النفاق!

فقال صلى الله عليه وآله : ولِمَ تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنّا عندك فذكّرتَنا ورغّبتنا ، وَجِلْنا ونَسِينا الدنيا ، وزَهِدنا حتّى كأنّا نعاين الآخرةَ والجنّة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ، وشَمَمنا الأولاد ورأينا العيال والأهل ، يكاد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مستدرك سفينة البحار ٤ : ١٥١.

٢ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٣٨ ، بحار الأنوار ٦٠ : ٣٣٢.


أن نُحَوَّلَ عن الحالِ التي كنّا عليها عندك ، وحتّى كأنّا لم نكن على شيء ، أفتَخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله كلّا ، إنّ هذه خطوات الشيطان فيُرغّبهم في الدنيا ، واللهِ لو تدومون على الحالة التي وَصَفتُم أنفسكم لَصافحَتكم الملائكة ، ومَشَيتم على الماء ، ولولا أنكم تُذنبون فتستغفرون الله لَخلَق اللهُ خلقاً حتّى يُذنبوا ثمّ يستغفروا الله فيغفر اللهُ لهم. إنّ المؤمن مُفتَّنٌ توّاب ، أما سمعتَ قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)؟! (١)

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : يا عليّ ، إنّ اليقين أن لا تُرضيَ أحداً على سَخَط الله ، ولا تَحْمَدَنّ أحداً على ما آتاك الله ، ولا تَذُمّنَّ أحداً على ما لم يُؤْتِك الله ، فإنّ الرزق لا يَجرُّه حِرصُ حريص ، ولا يصرفه كُرُه كاره ، فإنّ الله عزّ وجلّ بحكمته وفضله جعل الرَّوحَ والفَرَجَ في اليقين والرضى ، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسُّخط ، إنّه لا فقرَ أشدُّ من الجهل (٢).

وورد في الآثار المعتبرة أنّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر قال في صفّين : اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت ، اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ، ثمّ أنحني عليه حتّى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهمّ إنّي أعلم ممّا علّمتني أنّي لا أعمل عملاً اليوم هذا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٢٤ / ح ١ ، والآية في سورة البقرة : ٢٢٢.

٢ ـ التوحيد للصدوق : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ / ح ٢٠.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ٥ : ٢٥٣ ، وقعة صفّين : ٣٢٠.


واليقين يقود إلى مرتبة أرقى وهي الإخلاص ، والإخلاص هو روح العبادة ، وقوام الإيمان والإقبال على الله ، والإخلاص يكون إمّا في أصل التوحيد ، وإمّا في أصل الأعمال العباديّة.

وقد ورد في الأحاديث المستفيضة ما يشير إلى أهميّة الإخلاص ، منها : قول النبيّ صلى الله عليه وآله : ما أخلص عبد لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (١).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : بالإخلاص يكون الخلاص (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : من قال : لا إلهَ إلّا اللهُ مخلصاً دخل الجنّة ، وإخلاصه أن يحجزه لا إله إلّا الله عمّا حرّم الله عزّ وجلّ (٣).

وقال الإمام الجواد عليه السلام : أفضل العبادة الإخلاص (٤). وقال الإمام الصادق عليه السلام : وأدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام ، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنّة (٥).

يقول السيّد عبد الأعلى السبزواريّ : الخلوص والإخلاص لله تعالى في الأعمال والحالات ، كجواز سفر إلهيّ للسياحة في عوالم الغيب وإتيان التحف منها إلى عالم الشهادة وبحسب مراتب الإخلاص وظرفيّة المخلص هذا مقام عالٍ جداً ، ولذا تواترت نصوص الفريقين بما مضمونه : أنّ السعي في زيادة كيفيّة الأعمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٦٩ / ح ٣٢١ ـ الباب ٣١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.

٣ ـ معاني الأخبار : ٣٧٠ / ح ٢.

٤ ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ٣٢٩ / ح ١٨٦ ، عدّة الداعي : ٢١٩.

٥ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٢٥ ، بحار الأنوار ٦٧ : ٢٤٥ / ح ١٨ ـ عن : مصباح الشريعة : ٥٣.


أحسن من السعي في زيادة كمّيّتها ، وأنّ السعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهمّ من السعي في تكثير الأعمال (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مهذّب الأحكام ٦ : ١٠٣.


المبحث الثلاثون : في الرزق

قال عليه السلام : اَللّهُمَّ اَنْتَ الْقائِلُ وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَوَعْدُكَ صِدْقٌ : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) ، (إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، وَلَيْسَ مِنْ صِفاتِكَ يا سَيّدي اِنْ تَأمُرَ بِالسُّؤالِ وَتَمْنَعَ الْعَطِيَّةَ ، وَاَنْتَ الْمَنّانُ بِالْعَطِيّاتِ عَلى اَهْلِ مَمْلَكَتِكَ ، وَالْعائِدُ عَلَيْهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأْفَتِكَ.

هذا المقطع من الدعاء فيه التماسٌ توسّلي ، فالداعي يقول لربّه بأنّه أمر عباده بالسؤال ووعد بالإجابة.

قال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، وليس من صفات الخالق القدير ، والملك الكريم أن يُخلف وعده ، وها هو يسأل الله من فضله ، إذ هو مصدر كلّ خير ونعمة ، ومصدر كلّ عطاء ورحمة.

والمنّان : ذو المنّة ، وهي النعمة الثقيلة ، وذلك في الحقيقة لا يكون إلّا لله تعالى.

والنصّ القرآنيّ الشريف : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) ، (إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، هو لسان حال الكتاب النازل من عند الله تعالى أنزله هدىً ونوراً وموعظة للمتّقين ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٦٠.


ولم يكن الاستدلال بآية واحدة ، بل كان بآيتين.

وقد قال تعالى : (وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (١) ، وقال سبحانه : (اللَّـهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (٢) ، وقال تبارك وتعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّـهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣) ، وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : سلوا الله من فضله ، فإنّ الله يحبّ أن يُسأل (٤).

والفضل أشمل من الرزق ، والنسبة بينهما عموم وخصوص ، وساحته أوسع ، وميدانه أكبر ، إذ يشمل المواهب الإلهيّة والفيوضات إضافة إلى المادّيات التي يقوم بها الإنسان الفرد ، والإنسان الأُمّة.

أمّا الرزق : فكلّ ما ينتفع به الناس في بقائه من مأكل ومشرب ، وملبس ومسكن ومنكح ، وولد وعلم وقوّة ، وغير ذلك (٥).

أمّا الفضل فيستعمل في الإنعام على الغير بما هو زائد عن حاجة ذلك المنعم ، وهذا المعنى لا ينطبق انطباقاً حقيقيّاً على غير الله سبحانه.

فإذا أنعم الإنسان على غيره ومنحه الفضول من متاعه فهو متفضّل عليه ، ولكن هذا التفضّل قد يكدّره المنّ والأذى والانقطاع ، وهذا التفضّل يكون لله وحده بالأصالة ، ولغيره بالامتداد والإذن.

قال تعالى مخاطباً نبيّه الأعظم في قضيّة زيد بن حارثة : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢١٢.

٢ ـ العنكبوت : ٦٢.

٣ ـ الشورى : ٢٧.

٤ ـ سنن الترمذيّ ٥ : ٢٢٥ ح ٣٦٤٢.

٥ ـ تفسير الميزان ١٨ : ٣٧٥.


اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (١).

فأراد الله سبحانه أن يوجّه العباد إلى ساحة كرمه وفضله ، فيسلكوا السبل والأسباب الموصلة إلى خزائنه التي لا تنفد ، والمراد بفتح خزائن الله هو السعي في طلب الرزق الحلال من أسبابه.

قال تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢).

إنّ الله وحده هو الرازق الحقيقيّ بالأصالة ، وإذ عُدّ غيره رازقاً فبالامتداد والإذن ، ويكون الرازق هنا وسيطاً بين يد الله الفيّاضة بالجود والكرم ، وبين عباد الله من ذوي الحاجة. فالرزق رزقه ، والعطاء عطاؤه واقعاً ، وهو القائل عزّ من قائل : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (٣).

والرزق من الناحية التكوينيّة لا يُنسب إلّا لله سبحانه ، إذ هو مصدر كلّ خير وعطاء ، ولا يكون إلّا خيراً محضاً ، حيث لا يمكن نسبة المعصية وأسبابها المباشرة إلى الله العليّ العظيم ، ثمّ كيف يُحاسَب العاصي على ذلك؟

أمّا من ناحية التشريع ، فإنّ إرادة الإنسان واختياره يجعلانه على مفترق طريقين ، فقد يُحوِّل الرزق والطاقات الماليّة والقوى والقابليات إلى مصادر الخير والطاعة ، وكسب الثواب ، أو يحوّلها إلى طاقات للإفساد والمعاصي ، فالإنسان هنا يخلق الفعل من جانبَيِ الطاعة والمعصية ، ليكون المسؤول الذي تُلقى عليه الحجّة البالغة.

والرزق الإلهيّ مجموعة من المواهب والفيوضات المحضة ، يهبها الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأحزاب : ٣٧.

٢ ـ المؤمنون : ٧٢.

٣ ـ الحجر : ٢١.


لمخلوقاته من دون استحقاق ، ومن دون فرض ، ومن دون عوض ، وإذا فهمنا معنى الوجوب من ظاهر بعض الآيات الشريفة ، فبما أوجبه هو سبحانه على نفسه من باب رحمته وعطفه ورأفته ، وهذه الواجبات تسمّى «الواجبات اللُّطفيّة».

قال تعالى : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا) (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : ومن هنا يظهر أنّ للإنسان المرتزق بالمحرّمات رزقاً مقدَّراً من الحلال بنظر التشريع ، فإنّ ساحته تعالى منزّهة من أن يجعل رزق إنسان حقّاً ثابتاً على نفسه ، ثمّ يرزقه من وجه الحرام ، ثمّ ينهاه عن التصرّف فيه ويعاقبه عليه (٢).

وكما أنّ الرحمة الإلهيّة تكون على أقسام : فهناك رحمة عامة شاملة لجميع أفراد الإنسان من مؤمن وكافر ، وبرّ وفاجر ، وصالح وطالح ، وهناك رحمة خاصّة بالمؤمنين ، وهذه هي المواهب والآلاء التي تقودهم إلى طريق سعادتهم الأبديّة ونجاتهم الدائمة.

وهناك رحمة لخصوص الخصوص ، وهي النعم الكبرى على من أخلصهم الله تعالى لنفسه ، واجتباهم لغيبه ممّن آتاهم العصمة ، وأفاض عليهم النبوّة والإمامة ، وجعلهم الحجّة التامّة على جميع خلقه.

كذلك الرزق ، فمنه ما هو عامّ يشمل الجميع ، ومنه خاصّ وهو المختصّ بالكسب الحلال من موارده التي بيّنها الشرع الحنيف وارتضاها العقل السليم ، وهناك رزق لخصوص الخصوص بما آتاهم من الولاية التكوينيّة كلّ بحسب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ هود : ٦.

٢ ـ تفسير الميزان ٣ : ١٤٠.


استعداده ، وقد رأينا في الآثار الصحيحة أنّ الأنبياء والأئمّة الكرام كانت لهم القدرة الامتداديّة على : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وعلى خلق الطير من الطين ، وقد تحدّث القرآن عن هذا بجلاء ، وأنّ بعضهم عليهم السلام كانت له القدرة على تحويل الرمل والصخور إلى ذهب ، فسبحان من أعطى وتفضّل ، وله الشكر على ما أنعم وقضى.

والرزق مقسوم من الله سبحانه وفق المصالح والحِكَم التي لا يعلمها غيره ، ولا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها.

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجّة الوداع : ألا إنّ الروح الأمين نفث في رُوعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله عزّ وجلّ وأجمِلُوا في الطلب ، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله ، فإنّ الله تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ، ولم يقسّمها حراماً ، فمَنِ اتّقى وصبر أتاه الله برزقه من حِلّه ، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حِلّهِ قُصَّ به من رزقه الحلال وحُوسب عليه (١).

وصدق الله العزيز حيث قال : (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (٢) ، وفي «نهج البلاغة» ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابنَ آدم ، الرزق رزقان : رزقٌ تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإنْ لم تأته أتاك ، فلا تُحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ على هَمِّ يَوْمِكَ ، كفاك كلّ يومٍ ما فيه ، فإن تكن السنةُ من عمرك فإنّ الله تعالى سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قَسَم لك ، وإن لم تكن السنةُ من عمرك فما تصنع بالهمّ فيما ليس لك ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٨٠ / ح ١ ـ باب الإجمال في الطلب.

٢ ـ الطلاق : ٢ ـ ٣.


ولن يَسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يبطئ عنك ما قد قُدّر لك (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : إنّ الرزق لَينزل من السماء إلى الأرض على عدد قَطْر المطر إلى كلّ نفس بما قُدّر لها ، ولكنْ لله فضول ، فاسألوا الله من فضله (٢).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : إنّ الله قسّم الأرزاق بين عباده ، وأفضل فضلاً كبيراً لم يقسّمه بين أحد ، قال الله : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) (٣) ، (٤).

وهذه الروايات لا تلغي سنّة الأسباب ، ولا وجوب السعي للوصول إلى مفاتيح خزائن الله لنيل رحمته ، فقد كان أمير المؤمنين يزرع ويسقي ويحفر الآبار في حرّ الهجير ، واستطاع أن يعتق ألف مملوك من كدّ يمينه وعرق جبينه ، وكان عليه السلام الأُسوة الحسنة حتّى لأولاده المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

فقد كان الإمامانِ الباقر والصادق عليهما السلام يمارسان الفلاحة والزراعة والسقي بأنفسهما ، ويتصبّبان عرقاً ، في الوقت الذي كان عندهم من المماليك والأتباع ما يكفونهم مؤونة ذلك ، لكنّهم شاؤوا أن يراهم الله في ساحة العمل وميدان الكدح للكدّ على أنفسهم وعيالاتهم وأتباعهم.

رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام يخرج في الهاجرة في الحاجة قد كُفِيها ، يريد أن يراه الله تعالى يُتعِب نفسه في طلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٧٩.

٢ ـ قرب الإسناد : ١١٧ / ح ٤١١.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٣٩ / ح ١١٧.

٤ ـ النساء : ٣٢.


الحلال (١).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : العبادة سبعون جزءاً ، أفضلها جزءاً طلب الحلال (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : من بات كالّاً من طلب الحلال بات مغفوراً له (٣).

والآن نعود إلى مروج الخير ، وروابي العلم ، وموائد القداسة التي تطلّ علينا من بركات أهل العصمة الكرام ، ففي الخبر أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لأحد تلاميذه حيث ظلّ جالساً عنده بعد انتهاء درسه : أُغْدُ إلى عزّك يعني السوق (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام للفضيل بن يسار ـ بعد أن قال له : إنّي قد تركت التجارة ـ لا تفعل ، إفتحْ بابك ، وابسط بساطك ، واسترزقِ اللهَ ربّك (٥).

وقال العلاء بن كامل للإمام الصادق عليه السلام : أُدعُ الله أن يرزقني في دَعَه ، فقال عليه السلام : لا أدعو لك ، أُطلب كما أمرك الله تعالى (٦).

وعن كليب الصيداويّ قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أدعُ الله عزّ وجلّ لي في الرزق ، فَقدِ التاثَتْ علَيّ اُموري. فأجابني مسرعاً : لا ، أُخرج فاطلب (٧).

وقال الإمام الكاظم عليه السلام : مَن طلب هذا الرزق مِن حِلّه ليعود به على نفسه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٣ ح ٣٥٩٩ ، وسائل الشيعة «طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام» (١)٧ : ٢٣ / ح ٢١٨٨٤.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٨٠.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ٢٣٨ / ح ٩ ـ المجلس ٤٨.

٤ ـ الكافي ٥ : ١٤٩ / ح ٧ باب فضل التجارة.

٥ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٥ / ح ٣٦٠٩.

٦ ـ الكافي ٥ : ٧٨ / ح ٣ ـ باب الحثّ على الطلب والتعرّض للرزق.

٧ ـ نفسه ٥ : ٧٩ / ح ١١.


وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ (١).

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ المحترف الأمين (٢).

والرزق لا يطلب بالدعاء من دون سعي وطلب ، فقد ورد أنّ الذي يدعو ولا يعمل لا يُستجاب دعاؤه.

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم : رجلٌ يدعو على والدَيه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمالٍ ، فلم يَكتبْ عليه ولم يُشهِد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول : ربِّ ارزقني ، ولا يخرج ولا يطلب الرزق ، فيقول الله عزّ وجلّ له : عبدي ، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلبِ والضربِ في الأرض بجوارحَ صحيحة ، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتّباع أمري ، ولكي لا تكون كَلّاً على أهلك ، فإن شئتُ رزقتك ، وإن شئت قَتّرتُ عليك ، وأنت غيرُ معذور عندي ، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً فأنفقه ثم أقبل يدعو : يا ربّ ارزقني ، فيقول الله عزّ وجلّ : ألم أرزقك رزقاً واسعاً ، فهلّا اقتصدتَ فيه كما أمرتك ، ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف ، ورجل يدعو في قطيعة رحم (٣).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّي لَأُبغض الرجل فاغراً فاهُ إلى ربّه يقول : ارزقني ، ويترك الطلب (٤).

وطلب الرزق والغنى والتوسعة على النفس والعيال نعم الاستعانة بالدنيا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٩٣ / ح ٣.

٢ ـ نفسه ٥ : ١١٣ / ح ١.

٣ ـ نفسه ٥ : ٦٧ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٩٢ / ح ٣٧٢٤.


الآخرة ، فبالمال يقوّت نفسه وعياله وأرحامه ويصونهم من الانحراف ، وبالمال يتصدّق ويحجّ ، ويشارك في الخيرات والمبرّات وعمارة المساجد.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : نِعم العونُ على تقوى الله الغِنى (١) ، وقال صلى الله عليه وآله : بارك لنا في الخبز ولا تفرّق بيننا وبينه ، فلو لا الخبر ما صلّينا ولا صمنا ، ولا أدّينا فرائض ربّنا (٢).

وقال رجل لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : واللهِ إنّا لَنطلب الدنيا ونحبّ أن نُؤتاها ، فقال عليه السلام : تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصِلُ بها وأتصدّق بها وأحجّ واعتمر ، فقال عليه السلام : ليس هذا طلبَ الدنيا ، هذا طلب الآخرة (٣).

أمّا إذا كان جمع المال وكنزه لأجل الجمع فهو من السعي المذموم ، فقد قال الإمام الرضا عليه السلام : لا يجتمع المال إلّا بخصال خمس : ببخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة الرحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة (٤).

وقد وردت روايات كثيرة تحثّ على العمل باليد من أجل تأمين لقمة العيش للفرد وعياله ؛ ليكفّ يده عن مسألة الناس ، ويحفظ ماء وجهه من الاستجداء ، أو الاعتماد على أكل الحقوق الشرعيّة ، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام أنّك نِعمَ العبدُ لولا أنّك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئاً.

قال : فبكى داود عليه السلام أربعين صباحاً ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الحديد أن لِنْ لعبدي داود ، فألانَ الله عزّ وجلّ له الحديد ، فكان يعمل كلَّ يوم درعاً فيبيعها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٧١ / ح ١.

٢ ـ نفسه ٥ : ٧٣ / ح ١٣.

٣ ـ نفسه ٥ : ٧٢ / ح ١٠.

٤ ـ الخصال للصدوق : ٢٨٢ / ح ٢٩.


بألف درهم ، فعمل ثلاثَمائةٍ وستّين درعاً فباعها بثلاثِمائةٍ وستّين ألفاً ، واستغنى عن بيت المال (١).

وقد وردت روايات تندب إلى الغرس والزرع والسقي ، لما للزراعة من أهمّية كبيرة في توفير القوت لأبناء الأُمّة ، ففي المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : لقيَ رجل أمير المؤمنين عليه السلام وتحته وسق من نوى ، فقال له : ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال عليه السلام : مائة ألف عذق إن شاء الله ، قال : فغرسه فلم يغادر منه نواةً واحدة (٢).

وسأل الواسطيّ الإمام الصادق عليه السلام عن الفلّاحين ، فقال عليه السلام : هم الزارعون ، كنوزَ الله في أرضه ، وما في الأعمال شيء أحلّ إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيّاً إلّا زارعاً إلّا إدريسَ عليه السلام فإنّه كان خيّاطاً (٣). وفي رواية أُخرى عنه عليه السلام في قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٤) قال : الزارعون (٥).

وقد ورد في الآثار المعتبرة استحباب الدعاء في طلب الرزق ، والرجاء للرزق من حيث لا يحتسب الإنسان ، فإنّ كرم الله واسع.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإنّ موسى بن عمران عليه السلام خرج يقتبس ناراً لأهله فكلّمه الله عزّ وجلّ ورجع نبيّاً مرسلاً ، وخرجت مَلِكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام ، وخرج سَحَرة فرعون يطلبون العزَّ لفرعون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٧٤ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٥ : ٧٥ / ح ٦.

٣ ـ تهذيب الأحكام ٦ : ٣٨٤ / ح ١١٣٨.

٤ ـ ابراهيم : ١٢.

٥ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢٢٢ / ح ٦ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٤٢ / ح ٢١٩٣٥.


فرجعوا مؤمنين (١).

وورد الاستحباب في الاقتصاد ، وتقدير المعيشة وترك الإسراف ، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام لعُبَيد بن زرارة : يا عُبَيد ، إنّ السرف يورث الفقر ، وإنّ القَصْد يورث الغنى (٢). وقال عليه السلام أيضاً : ضَمِنتُ لمن اقتصد أن لا يفتقر (٣) ، وقال الإمام عليّ عليه السلام للأصبغ بن نُباتة : للمسرف ثلاث علامات : يأكل ما ليس له ، ويشتري ما ليس له ، ويلبس ما ليس له (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٨٣ ـ ٨٤ ح ٣.

٢ ـ نفسه ٤ : ٥٣ / ح ٨.

٣ ـ نفسه ٤ : ٥٣ / ح ٦.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٧ / ح ٣٦٢٧.


المبحث الحادي والثلاثون : في التربية

قال عليه السلام : اِلهي رَبَّيْتَني في نِعَمِكَ وَاِحْسانِكَ صَغيراً ، وَنَوَّهْتَ بِاسْمي كَبيراً ، فَيا مَنْ رَبّاني فِي الدُّنْيا بِاِحْسانِهِ وَتَفَضُّلِهِ وَنِعَمِهِ ، وَاَشارَ لي فِي الْآخِرَةِ اِلى عَفْوِهِ وَكَرَمِهِ.

التربية : هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام ، ولا يقال «الربّ» مطلقاً إلّا لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات ؛ لأنّه وحده المتولّي لمصالح العباد. ويقال : ربّ الدار وربّ الفرس لصاحبهما ، هذا شيء ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (١).

ويقال : نوّه باسمه ، أي رفع ذِكْرَه ، ومَدَحه وعظّمه.

وإذا عرف الله الإخلاص من عبده جعل ذِكرَه الجميل على كلّ لسان ، ونقله من حال إلى أحسن حال.

لقد خلق الله الإنسان ـ كما صرّح في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين ـ في أحسن تقويم ، قال سبحانه وتعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢).

فأوّل نِعَم الله سبحانه على العبد أن أخرجه من عالم العدم إلى عالم الوجود ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٨٤.

٢ ـ التين : ٤.


وأفاض عليه الحياة ، ثمّ بدأ الإنسان بالانتقال من طور إلى طور ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، ومن حالة إلى حالة ، وهو يتقلّب في نعم الله ، وفي كلّ ذلك تحيطه يد القدرة والرعاية والحفظ ، حتّى يخرج إلى عالمه الذي أُعدّ له لممارسة دور الخلافة الأرضيّة :

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (١).

الآيات الكريمة تفتح أعيننا على بعض الحقائق الكونيّة والقرآنيّة ، فتطلب منّا أن ننظر إلى أنفسنا أوّلاً ، وإلى ما حولنا من خلق ، لنفكّر ونعتبر ، ونشقّ غبار الجهل للانطلاق إلى عالم الانفتاح على رحاب ولاية الله جلّ وعلا.

قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢).

لننظر إلى التراب ، هذه الذرّات التي هي أرخص وأدون ما في الوجود ، تنالها يد القدرة فتخلق منها هيئة إنسان ذي جوارح وأعضاء ، ثمّ ينفخ الباراي جلّت عظمته من روحه في ذلك الكيان ، فإذا هو إنسان يستحقّ التكريم ، حتى أنّ الله تعالى أمر الملائكة بالسجود له.

قال سبحانه : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (٣).

إنّ الجسد كالآلة ، كما أنّ القلم آلة للكتابة ، فالعلم الروحيّ له صفاته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٢ ـ فُصّلت : ٥٣.

٣ ـ الحجر : ٢٩.


وخواصّه ، وآفاقه وآثاره المغايرة لعالم الجسد ، وإذا توفّى الله الإنسان تلاشى هذا البدن وعادت الروح إلى عالمها الكبير :

ونعم ما قيل :

عليك بالنفس فاستكمِلْ فضائلَها

فأنت بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ (١)

الإنسان الأوّل ابن الأرض ، وسلالته كذلك ، إذ ليس من عنصر من عناصر بدنه إلّا وينتسب إلى أُمّه «الأرض» ، وعندما يموت يعود إلى رحم أمّه ليكون جزءاً من أجزائها ، ثمّ إذا بعثه الله أخرجه منها :

قال تعالى : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) (٢).

والإنسان ما بين النشأتين كيان مفكّر ، مدرك عاقل ، له بصر وبصيرة ، وعواطف وأحاسيس ، وتطلّعات ونظريات ، واكتشافات واختراعات ، وله آمال وأهداف ، ووعي واستعدادات تؤهّله إلى ارتقاء سلالم الكمال.

وفي كلّ هذه الأطوار والمراحل قد هيّأ الله تعالى من الأسباب التي ترعاه وتحفظه ، وتمدّه بأسباب البقاء ، نطفةً وعلقةً ، ومضغةً وطفلاً ، وشابّاً وشيخاً.

يقول السيّد عزّ الدين بحر العلوم في كتابه الموسوم بـ «أضواء على دعاء كميل» ما نصّه : إنّ الإمام الحسين عليه السلام يخرج من خيمته في ظهيرة يوم التاسع من ذي الحجّة ، في وسط ضجيج الحجيج ، وتكبيرهم وتهليلهم ، يحوط به أهل بيته ، ولفيف من شيعته ليقف بجانب الجبل من وادي عرفات ، متّجهاً صوب البيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البرهان للزركشيّ ٢ : ٤٦٩.

٢ ـ طه : ٥٥.


الحرام ، رافعاً يديه إلى السماء ، وبوجه تظهر عليه أمارات الخضوع ، ودموع منهمرة من عينين منكسرتين ، يبدأ أبو الشهداء ، بصوت يجلّله الحزن فيقول :

اللهمّ إنّي أرغبُ إليك ، وأشهَدُ بالربوبية لك مقرّاً بأنّك ربّي وأنّ إليك مَرَدّي ، إبتدأتَني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً ، وخلقتَني من التراب ، ثمّ أسْكنتَني الأصلاب ، آمناً لِرَيب المنون ، واختلافِ الدهور والسنين ، فَلَم أزلْ ظاعناً من صُلبٍ إلى رَحِم ، في تقادمٍ الأيّام الماضية ، والقرون الخالية ... فابتَدَعتَ خَلْقي مِن مَنيٍّ يُمنى ، وأسكنتَني في ظلماتٍ ثلاثٍ بين لحم ودم وجلد ، لم تُشْهِدْني خَلقي ، ولم تَجعلْ إليَّ شيئاً من أمري ، ثمّ أخرجتَني لِلَّذي سَبقَ لي مِن الهدى إلى الدنيا تامّاً سَويّاً ، وحَفِظتَني في المهدِ طفلاً صبيّاً ، ورزقتَني مِن الغذاء لَبَناً مَريّاً ، وعطفتَ علَيَّ قلوب الحواضن ، وكفّلتَني الاُمّهاتِ الرواحم ، وكَلَأْتَني من طوارقِ الجانّ ، وسلّمتَني من الزيادة والنقصان ، فتعاليتَ يا رحيمُ يا رحمان (١).

وفي الروايات الصحيحة أنّ الحمل يكون أربعين يوماً نطفة ، ثمّ يصير علقة أربعين يوماً ، ثمّ يصير مضغة أربعين يوماً ، فإذا أكمل أربعة أشهر نُفخَت فيه الروح.

والأبوان هما السبب المباشر الذي أوجده الله لخروج الإنسان من العدم إلى عالم الوجود.

قال تعالى : (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (٢).

ويأتي دور الاُمّ ليكون رحمها له حفظاً ووقاءً ، وصدرها له سقاءً ، وحِجْرها له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : إقبال الأعمال ٢ : ٧٥ ، أضواء على دعاء كميل للسيّد عزّ الدين بحر العلوم : ٢٦٨.

٢ ـ الإنسان : ١ ـ ٣.


غطاءً ، وبهذا يستحقّ الوالدان الشكر والإكرام من باب وجوب شكر المنعم ، وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قوله : مَن لم يشكر المنعمَ من المخلوقين لم يشكرِ اللهَ عزّ وجلّ (١).

ونعم ما قيل : من لم يكن والداً لم يعرف قدر الوالد.

فالوالدان اللذان هم أصل الوجود ، ومنبع الرحمة والرأفة ، يعانيان ويقاسيان الكثير في مسائل الحمل والولادة والرضاعة والسهر والتربية ، والتحمّل ، من أجل حفظ حياة الأولاد وتنشئتهم.

قال الإمام زين العابدين عليه السلام في «رسالة الحقوق» : وحقُّ أمّك ، أن تعلم أنّها حَمَلتك حيث لا يحتمل أحداٌ أحداً ، وأعطَتْك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً ، وَوقَتْك بجميع جوارحها ، ولم تُبالِ أن تجوع وتطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك ، وتَضْحى وتُظلّلك ، وتهجر النوم لأجلك ، وَوَقَتْك الحرّ لتكون لها ، فإنّك لا تُطيق شكرها إلّا بعون الله تعالى وتوفيقه.

وأمّا حقّ أبيك ، فأن تعلم أنّه أصلك ، وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيتَ في نفسك ممّا يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمَدِ اللهَ واشكره على قَدْر ذلك ، ولا قوّة إلّا بالله (٢).

وقد قال تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٤ / ح ٢ ـ الباب ٣١.

٢ ـ الخصال : ٥٦٨ / ح ١ ـ من أبواب الخمسين.

٣ ـ الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤.


لقد أمر الله سبحانه بعبادته وطاعته ، ثمّ قدّم حكم الإحسان والرحمة للوالدين على جميع أحكام الدِّين ، لأهمّية ذلك في بناء المجتمع الإنسانيّ وتوحيده ، وصبّه في بوتقة التوحيد والإيمان والفطرة.

فمقابل أتعاب الوالدين ، أمر الإنسان أن يقدّم فروض الطاعة والذلّ والمسكنة أمامهما ، وأن يحسن معاشرتهما ، ولا يؤذيهما بقول أو فعل ، أو نظرة غضب ، وأمر بالدعاء والاستغفار لهما حيَّينِ أو ميّتين لإطلاق الآية :

قال تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

وفي الخبر عن أبي ولّاد الحنّاط قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، ما هذا الإحسان؟

فقال عليه السلام : الإحسان أن تُحسن صُحبتَهما وأن لا تُكلِّفَهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مُستغنيَين ، أليس يقول الله عزّ وجلّ : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١).

ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام : وأمّا قول الله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) قال عليه السلام : إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ ، ولا تنهرهما إنْ ضرباك ، وقال عليه السلام : (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) ، قال : إن ضرباك فقل لهما : غفر الله لكما ، فذلك منك قول كريم قال : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ، قال : لا تَملأْ عينَيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورِقّة ، ولا ترفع صوتَك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تَقَدَّمْ قُدّامَهما (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٩٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٥٨ / ح ١ ـ باب البِرّ بالوالدين.


وقال عليه السلام : أدنى العقوق أُفّ ، ولو عَلِم الله عزّ وجلّ شيئاً أهونَ منه لنهى عنه (١).

ومقابل هذا أمر الشارع الأعظم الآباء برعاية الأولاد ، وتربيتهم التربية الصالحة التي تنمي أجسادهم وعقولهم وأخلاقهم وعواطفهم ، فأوجب الإنفاق عليهم ، وأمر بمراقبتهم وإرشادهم ، وتعليمهم القراءة والكتابة ، وحثّهم على قراءة القرآن وتأدية الفرائض العباديّة ، وتثقيفهم بمبادئ الدين والأحكام الشرعيّة.

بل ورد في الآثار أن يحسّن الأب اسم ابنه وكنيته ، ويعقّ عنه ، وأن يختار له المرضعة المؤمنة العاقلة ، وأن يُقَبّله وأن يتصابى معه ، وأن يعلّمه السباحة ، ولا يقسو عليه بالضرب والتأنيب بحجّة التأديب.

قال الإمام عليّ بن الحسين في رسالة الحقوق : وأمّا حقُّ وَلَدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك ، في عاجل الدنيا بخيره وشرّه ، وأنّك مسؤول عمّا وليته مِن حُسن الأدب ، والدَّلالة على ربّه عزّ وجلّ ، والمعونة له على طاعته ، فاعملْ في أمره عملَ مَن يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه (٢).

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : رَحِم الله مَن أعان ولده على بِرِّه (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : أحِبُّوا الصبيان وارحموهم ، وإذا وعدتموهم شيئاً فَفُوا لهم ، فإنّهم لا يَدْرون إلّا أنّكم ترزقونهم (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : يلزم الوالدَينِ من عقوق الولد ما يلزم الولد لهما من العقوق (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٤٨ / ح ١ ـ باب العقوق.

٢ ـ الخصال : ٥٦٨ / ح ١ ـ من أبواب الخمسين.

٣ ـ الكافي ٦ : ٥٠ / ح ٦ باب بِرّ الأولاد.

٤ ـ نفسه ٦ : ٤٩ / ح ٣ ، وفي بعض النسخ : فإنّهم لا يَرَون إلّا أنّكم ترزقونهم.

٥ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٨٣ / ح ٤٧٠٨.


وفي رواية أنّ أحد الشيعة قال للإمام الصادق عليه السلام بأنّه يضرب ولده إذا عصاه مائة سوط ، فاستنكر الإمام عليه السلام ذلك قائلاً : مائة ، مائة؟! حدّ الزنا؟! ثمّ أمره أن يضربه خمسة أو ستة أسواط برفق (١).

وفي «مجموعة ورّام» أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال : لا تَضرِبنَّ أدباً فوق ثلاث ، فإنّك إن فعلت فهو قصاص يوم القيامة (٢).

وورد في مدح الأولاد الكثير من الروايات المعتبرة ، منها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : الولد ريحانة (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : ريح الولد من ريح الجنّة (٤).

وورد عنه صلى الله عليه وآله : مَن قَبَّلَ ولده كتب الله عزّ وجلّ له حسنة ، ومن فَرَّحه فَرَّحَه الله يوم القيامة ، ومَن علّمه القرآن دُعِيَ بالأبوَينِ فيُكسَيان حُلَّتَين يَضيء من نورهما وجوهُ أهل الجنّة (٥).

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : الجنّة تحت أقدام الأُمّهات (٦).

وروي أنّ في آخر مناجاة بين الله وعبده موسى عليه السلام ، قال موسى : يا ربِّ ، أوصني ، قال سبحانه : أوصيك بأمّك حُسناً ـ قالها له سبع مرات ، قال عليه السلام : حَسْبي ، ثمَّ قال تعالى : يا موسى ، ألا إنَّ رضاها رضاي ، وسخطها سخطي (٧).

وقال أحدهم لصاحبه : إنّ لي أمّاً بلغ منها الكبر أنّها لا تقضي حاجتها إلّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٦٧ / ح ٣٤.

٢ ـ مجموعة ورّام [تنبيه الخواطر ونزهة النواظر] ٢ : ١٥٥.

٣ ـ ينظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٧ / ح ٨ ـ الباب ٣١.

٤ ـ روضة الواعظين : ٣٦٩.

٥ ـ الكافي ٦ : ٤٩ / ح ١.

٦ ـ مسستدرك الوسائل ١٥ : ١٨٠ / ح ١٧٩٣٣ ـ عن : لبَ اللُّباب.

٧ ـ رياض السالكين ٤ : ٥١.


وظهري لها مطيّة ، فهل أدّيت حقّها؟ قال : لا ، لأنّها كانت تصنع ذلك وهي تتمنّى بقاءك ، وأنت تصنعه وتتمنّى فراقها. وقيل للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام : أنت أَبرُّ الناس بأمّك ولا نراك تأكل معها؟! فقال عليه السلام : أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينُها إليه فأكون قد عققتُها (١).

وفي الواقع أنّ هذه المرأة لم تكن والدته ، بل هي أَمَةٌ قامت بتربيته ورضاعته ، لأنّ والدته توفّيت في ولادتها إيّاه عليه السلام.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مكارم الأخلاق : ٢٢١ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦٤ / ح ٣٠٥٠٣.


المبحث الثاني والثلاثون : الكرام الإلهيّ في الآخرة

نتحدّث في هذا المبحث عن شيء لا يُعدّ إلّا قطرة من بحر الرحمة الإلهيّة الأُخرويّة التي أعدّها الله لعباده المؤمنين ، فإنّ الرحمة الإلهيّة كبيرة وواسعة لا يمكن للعقل البشريّ إدراكها ولا إحصاؤها بل ولا تصوّرها ، فقد ورد أنّ الله سبحانه أَعَدَّ لعباده الصالحين ما لا عينٌ رأت ، ولا أذُن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (١) ، وورد أنّ الدنيا بنعيمها وزخارفها هي بمثابة سجن للمؤمن (٢).

عن الإمام الحسن عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٣).

إنّ الموت أعظم رحمة يتمنّاها المؤمن إذا كان ممّن ناله رضوان الله تعالى ، وقد ورد أنّ قيامة الإنسان تقوم بعد أوّل لحظة تفارق روحه بدنه ، فإذا مات ابن آدم قامت قيامته (٤).

وقد وردت مباحث جليلة ودقيقة ونافعة في الموسوعة الحديثيّة الموسومة بـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يُنظر : ثواب الأعمال : ٥٦.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٢٥٠ / ح ٦.

٣ ـ معاني الأخبار : ٢٨٩ / ح ٣.

٤ ـ يُنظر : كنز العمّال ١٥ : ٥٤٨ / خ ٤٢١٢٣.


«لآلئ الأخبار» لعمدة العلماء والمحقّقين ، وزبدة الفقهاء والمجتهدين ، الشيخ محمّد نبي التوسيركانيّ ، لا بأس بمراجعتها والاغتنام منها ، ولا بأس أن تقدّم للقارئ الكريم إطلالة على ذلك العالَم الأخرويّ (١).

في مقامات المؤمن عند الموت ومنزلته عند الله

روي أنّ الله يبعث ريحاً إلى المُحتضر تُنْسيه أهله وماله (٢) ، وأنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى (٣) ، ولا يُؤمر بقبض روحه إلّا برضى ذلك المؤمن (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : لو أنَّ مؤمناً أقسم على ربّه أن لا يميته ، ما أماته أبداً ، ولكن إذا كان ذلك أو إذا حضر أجله بعث الله عزّ وجلّ إليه ريحين : ريحاً يقال لها : المُنسية ، وريحاً يقال لها : المُسخّية ، فأمّا المنسية فإنّها تنسيه أهله وماله ، وأمّا المسخّية فإنّها تسخّي نفسه عن الدنيا حتّى يختار ما عند الله (٥).

في حضور النبيّ والأئمّة عليهم السلام عند المحتضر

وورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وسائر أهل بيت العصمة الكرام ، وقيل : معهم جبرئيل وميكائيل ، يحضرون الميّت المؤمن ويبشّرونه بما أعدّ الله له ، ويستوصون به خيراً (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لآلئ الأخبار ٤ : ٢١٩.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ١.

٣ ـ يُنظر : من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٥ / ح ٣٦٥.

٤ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٦٢٦ / ح ٢٤.

٥ ـ الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ١.

٦ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٤ / ح ٣٥٥.


ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليَّ الله لا تجزع ، فَوَالذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله لأنا أبَرُّ بك وأشفَقُ عليك من والد رحيم لو حَضَرك ، إفتحْ عينَك فانظر ... (١).

وورد في الآثار أنّ ملك الموت يأمر المؤمن ليرى مشاهد الجنّة وقصورها وثمارها ونساءها ونعيمها ، ويرى أهله فتشتاق روحه إليهم ، فيأذن لملك الموت بقبض روحه (٢).

وورد عنهم عليهم السلام أنّه : يفتح له باب إلى الجنّة فيقول : هذا منزلك ، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة ، فيقول : لا حاجة لي في الدنيا (٣) ، ثم يقول : الوَحا الوَحا ، (أي التعجيل) ، تناول روحي ولا تلبثني ها هنا ، فلا صبر لي عن محمّدٍ وعترته ، وألحقْني بهم (٤).

وورد في الخبر المشهور عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار (٥).

في حضور النبيّ صلى الله عليه وآله عند المحتضر

وورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وسائر أهل بيت العصمة الكرام ، وقيل : معهم جبرئيل وميكائيل ، يحضرون الميّت المؤمن ويبشّرونه بما أعدّ الله له ، ويستوصون به خيراً (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ٢.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٦٢٦ / ح ٢٤.

٣ ـ الكافي ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٠ / ح ٢.

٤ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام الحسكريّ عليه السلام : ٢١٣ / ح ٩٨.

٥ ـ الكافي ٣ : ٢٤٢ / ح ٢.

٦ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨ / ح ٢.


وورد أنَّ الميّت إذا حضره سادته المعصومون يقول مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وآله : ما كان أعظم شوقي إليكم ، وما أشدّ سروري الآن في لقائكم. يا رسولَ الله هذا ملك الموت قد حضرني ، ولا أشكّ في جلالتي في صدره لمكانك ومكان أخيك منّي.

فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله : كذلك هو. ثمّ يُقْبل رسول الله صلى الله عليه وآله على ملك الموت فيقول : يا ملك الموت ، إستوصِ بوصيّة الله في الإحسان إلى مُوالينا وخادمنا ومؤثرنا ، فيقول ملك الموت : يا رسول الله ، مره ينظر إلى ما قد أعدّ الله له في الجنان ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله : أُنظرْ إلى العلوّ. فينظر في العلوّ إلى ما لا تحيط به الألباب ، ولا يأتي عليه العدد والحساب.

فيقول ملك الموت : كيف لا أرفق بمن ذلك ثوابه ، وهذا محمّد صلى الله عليه وآله وعترته زوّاره؟! يا رسول الله ، لولا أنّ الله جعل الموت عقبة لا يصل إلى تلك الجنان إلّا مَن قطعها لَما تناولتُ روحه ، لكنْ لخادمك ومحبّك هذا أُسوة بك وبسائر أنبياء الله ورسله وأنبيائه الذين أُذيقوا الموت بحكم الله.

ثمّ يقول محمّد صلى الله عليه وآله : يا ملك الموت ، هاك أخانا قد سلّمناه إليك ، فاستوصِ به خيراً. ثمّ يرتفع هو ومن معه إلى رياض الجنان ، وقد كشف الغطاء والحجاب لعين ذلك المؤمن العليل ، فيراهم المؤمن هناك بعدما كانوا حول فراشه فيقول : يا ملك الموت الوحا (أي السرعة والتعجيل) ، تناول روحي ولا تُبقِني هنا ، فلا صبر لي عن محمّد وعترته ، ألحِقْني بهم ، فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحَه منادٍ مِن قِبل ربّ العزّة : يا أيّتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى محمّدٍ وأهل بيته ، وادخلي جنّتي. فما من شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي (١) ، (٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحتضر للحسن بن سليمان الحلّي : ٤٨ ـ ٤٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ١٢٨ / ح ٢.


وعن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا : حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى الخمسة ، حتّى ترى : محمّداً وعليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام ، بحيث تَقَرّ عينها أو تسخن عينها (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : ما يموت مُوالٍ لنا مبغض لأعدائنا ، إلّا ويحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام فَيَسرّوه ويبشّروه (٢).

من حالات الاحتضار

قال الإمام الباقر عليه السلام : إنّما يغتبط أحدكم حين يبلغ نفسه ها هنا «أي الحلقوم» ، فينزل عليه ملك الموت فيقول له : أمّا ما كنت ترجو فقد أُعطيتَه ، وأمّا ما كنت تخافه فقد أَمِنتَ منه. ويُفتَح له باب إلى منزله من الجنّة ويقال له : أُنظر إلى مسكنك من الجنّة وانظر : هذا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعليٌّ والحسن والحسين عليهم السلام رفقاؤك ، وهو قول الله تعالى : (الذين آمنوا وكانوا يتّقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم) (٣).

١ ـ في صورة ملك الموت وعلامات ظهور الموت :

ورد أنّ إبراهيم عليه السلام سأل ملك الموت يوماً أن يُريَه الصورة التي يقبض فيها روح المؤمن ، فقال : نعم ، أعرض عنّي فلما رآه إبراهيم عليه السلام رأى صورة شابّ حسن الوجه ، أبيض اللون ، تعلوه الأنوار في أحسن ما يتخيّل من الهيئة ، فقال : يا إبراهيم ، في هذه الصورة أقبض روح المؤمن ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلقَ المؤمنُ إلّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسيّ : ٦٢٨ / ح ١٢٩٣.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٦٥.

٣ ـ نفسه ٢ : ١٢٤ / ح ٣٢ ، والآية في سورة يونس : ٦٣ ـ ٦٤.


لقاءك كفاه راحة (١).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : إنَّ آية المؤمن إذا حضره الموت أن يَبْيضّ وجهه أشدّ من بياض لونه ، ويرشح جبينه ، وتسيل مِن عينَيه كهيئة الدموع ، فيكون ذلك آيةَ خروج روحه (٢).

ـ في كيفيّة قبض ملك الموت لروح المؤمن :

المؤمن له كرامة خاصّة على الله سبحانه ، ففي الخبر المعتبر أنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ومن جبرائيل والملائكة المقرّبين ، وما خلقه الله إلّا ليفيض عليه رحمته ، وقلنا : إنّ الرحمة الكبرى ، والنعمة العظمى هي النعمة الأُخرويّة ، ونحن الآن غير قادرين على إحصاء نِعم الدنيا ، فكيف نحيط بنعم الآخرة؟!

فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا رضي الله عن عبد قال : يا ملك الموت ، اذهب إلى فلان فأْتِني بروحه ، حَسْبي مِن عمله ، قد بَلَوتُه فوجدته حيث أُحبّ. فينزل ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم قضبان الرياحين وأُصول الزعفران ، كلّ واحد منهم يبشّره سوى بشارة صاحبه ، ويقوم الملائكة صفَّين لخروج روحه معهم الريحان ، فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثمَّ صرخ ، فيقول له جنوده : ما لك يا سيّدنا؟! فيقول : أما ترون ما أُعطيَ هذا العبد من الكرامة؟ أين كنتم عن هذا؟ قالوا : جَهِدْنا به فلم يطعنا (٣).

وورد كذلك : أنّ المؤمن إذا حضره الموت جاءته الملائكة بحريرة بيضاء فتقول لنفسه : أُخرجي راضيةً مرضيّةً إلى رَوْحٍ وريحان ، وربِّ غير غضبان. فتخرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٢٧٤ / ح ١٠٠.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٥ / ح ٣٦٣.

٣ ـ معارج اليقين : ٤٨٨ / ح ١٣٥٨ ، بحار الأنوار ٦ : ١٦١ / ح ٢٩.


كالطِّيب من المسك ، ثم يسلّ نفسه سَلّاً رفيقاً ، ثم ينزل بكفنه من الجنّة ، وحنوطه من الجنّة بمسك أذفر ، فيُكفَّن بذلك الكفن ، ويُحنَّط بذلك الحَنوط ، ثمّ يُكسى حُلّةً صفراءَ من حلل الجنّة (١).

ـ في الأشياء التي شُبّه بها موت المؤمن :

تصوّر لنا الروايات أنَّ موت المؤمن هو عمليّة خروجه من سجن الدنيا إلى رحاب ولايةِ الله وسَعةِ رحمته وضيافته ، فالموت ألذّ من الشراب البارد للعطشان ، بل هو فكّ القيود والأغلال التي كانت عليه ، وهو أعظم سرور يرد على المؤمن ، وانتقال عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، فأيّ عاقل يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ هذا ما ورد على لسان الروايات ، ففي الأثر : ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عُرِضَت عليه الجنّة قبل أن يموت ، فيرى موضعه فيها وأزواجه من الحور العين (٢).

وروي أنّ الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام دخل على مريضٍ من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : يا عبد الله ، تخاف الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتَك إذا اتّسختَ وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمتَ أنّ الغسل في حمّامٍ يزيل ذلك كلَّه ، أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك ، أوَ ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يا ابنَ رسول الله.

قال عليه السلام : فذاك الموت ، هو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما يبقى عليك من تمحيص ذنوبك ، وتَنقيتِك من سيّئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كلّ غمٍّ وهَمٍّ وأذى ، ووصلتَ إلى كلّ سرور وفرح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سنن النسائيّ ٤ : ٨.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ١٠ : ٢٥٣.


فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمّض عين نفسه ومضى لسبيله (١).

ـ خلود المؤمن في الجنّة.

إن المؤمن إذا مات قُبِض شهيداً وصدّيقاً ، وبكته الملائكة وبقاع الأرض وأبواب السماء ، كلّ ذلك لحرمته ، وعلوّ شأنه عند ربّه ، فقد ورد في الأثر : المؤمن على أيّ حال مات ، وفي أيّ يوم مات ، وساعة قُبض فهو شهيد صدّيق (٢).

وعن الإمام الحسين عليه السلام قال : ما من شيعتنا إلّا صدّيق شهيد ، قيل : جُعلت فداك أنّى يكون ذلك وعامّتهم يموتتون على فراشهم؟ فقال عليه السلام : أما تتلو كتاب الله في الحديد : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) (٣). وقال : لو كان الشهداء ليس إلّا كما تقول لكان الشهداء قليلاً (٤).

وسأل رجل اسمُه مالك بن أعين الجهني الإمامَ الصادق عليه السلام قائلاً : أُدعُ اللهَ أن يرزقني الشهادة ، فقال عليه السلام : المؤمن شهيد. وتلا هذه الآية السابقة.

وقال عليه السلام : يا مالك ، إنّ الميّت منكم ـ واللهِ ـ على هذا الأمر لَشهيدٌ بمنزلة الضارب بالسيف في سبيل الله. مَن آمن بنا ، وصدّق حديثنا ، كان كمن قُتِل تحت راية القائم عليه السلام ، بلى والله تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله (٥).

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً (٦).

ـ في تصفية المؤمن بالموت :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ معاني الأخبار : ٢٩٠ / ح ٩ ـ باب معنى الموت ، الاعتقادات في دين الإماميّة : ٥٦.

٢ ـ تأويل الآيات ١ : ١٤١ ، معارج اليقين للسبزواريّ : ٤٧٣ ح ١٠.

٣ ـ الحديد : ١٩.

٤ ـ المحاسن : ١ ـ ١٦٤ / ح ١١٥.

٥ ـ نفسه : ١٧٤ / ح ١٥٠.

٦ ـ الكشاف ٣ : ٤٦٧.


إنّ الله سبحانه إذا أحبّ مؤمناً ابتلاه بالبلايا والمحن والأمراض أو بسلطانِ سَوء ، أو جار سَوء ، أو قرين سَوء ، أو زوجة سَوء ، حتّى يَرِدّ عليه وليس عليه ذنب ، ففي المنقول عن الإمام الصادق عليه السلام : إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبدٍ سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتّى يُوافي بها يوم القيامة (١).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : لو أنّ المؤمن خرج من الدنيا وعليه مِثلُ ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفّارةَ تلك الذنوب ، وما كان من راحة المؤمن هنالك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدّة فيمحّصه من ذنوبه ، لِيَرِدَ الآخرة نقيّاً نظيفاً مستحقّاً لثواب الأدب ، لا مانع له من دونه (٢).

ـ في كيفيّة نداء الروح بعد خروجها.

ورد في الخبر : إذا فارق الروح البدن ، نُودي من السماء بثلاث صيحات : يا ابن آدم ، أتركتَ الدنيا أم الدنيا تركَتْك؟ أجمَعتَ الدنيا أم الدنيا جمعَتْك؟ أقتلتَ الدنيا أم الدنيا قتَلتْك؟ وإذا وُضع على المغتسل نُودي بثلاث : يا ابن آدم ، أين بدنك القويّ لِما أضعفك؟ وأين لسانك الفصيح لِما أسكَتَك؟ وأين أحبّاؤك لِما أوحشك؟ وإذا وُضع عليه الكفن نودي بثلاث : تذهب إلى سفر بعيد بغير زاد ، وتخرج من منزلك فلا ترجع أبداً ، وتصير إلى بيت أهول.

وإذا حُمل على الجَنازة نودي بثلاث : طوبى لك إن كان عملك خيراً ، وطوبى لك إن كنت صَحِبَك رضوان الله ، وويل لك إن كنت صَحِبك سخط الله ، وإذا وُضع للصلاة نودي بثلاث : يا ابن آدم ، كلُّ عمل عَمِلتَه تراه الساعة ، إن كان عملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٢٠ ح ٧٠.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤١١ / ح ٥٨٩٦ ، وقريب منه في : علل الشرائع : ٢٩٨ / ح ٢ ـ الباب ٢٣٥.


خيراً تره خيراً ، وإن كان شرّاً تره شرّاً واذا وُضعَت الجنازة على شفير القبر نودي بثلاث : يا ابن آدم ، كنتَ على ظهري ضاحكاً فصرتَ في بطني باكياً ، وكنت على ظهري فَرِحاً فصرت في بطني حزيناً ، وكنت على ظهري ناطقاً فصرت في بطني ساكتاً!

وإذا أدبر الناس عنه يقول الله تعالى : يا عبدي بَقِيتَ فريداً وحيداً ، وتركوك في ظُلمة القبر وقد عصيتَني لأجلهم ، وأنا أرحمك اليوم رحمةً يتعجّب منها الخلائق ، وأنا لَأَشفَقُ عليك من الوالدة بولدها (١).

ـ في كرامات المؤمن بعد قبض الروح.

ورد في الأثر عن الإمام الصادق عليه السلام : فإذا خرَجَت النَّفْس من الجسد ، فيُعرَض عليها كما عُرض عليه وهي في الجسد ، فتختار الآخرة ، فتغسّله فيمن يغسّله ، وتقلّبه فيمن يقلّبه ، فإذا أُدرج في أكفانه ووُضع على سريره ، خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قُدُماً ، وتَلقّاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ، ويبشّرونه بما أعدّ الله جلّ ثناؤه له من النعيم (٢).

وقيل لأبي ذرّ رضي الله عنه : كيف ترى قدومنا على الله؟ قال : أمّا المحسن منكم فكالغائب يَقْدم على أهله ، وأمّا المسيء منكم فكالآبق يَرِد على مولاه (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مستريح ومُستراح منه ، أمّا المستريح فالعبد الصالح ، استراح من غمّ الدنيا وما كان فيه من العبادة إلى الراحة ونعيم الآخرة ، وأمّا المستراح منه فالفاجر يستريح منه المَلَكانِ اللذان يحفظان عليه ، وخادمُه وأهله والأرض التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ شجرة طوبى ٢ : ٤٤٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ١٣٠ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٢ : ٤٥٨ / ح ٢٠.


كان يمشي عليها (١).

ـ في تشييع الملائكة لنعش المؤمن :

ورد في الخبر : إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألفَ مَلَكٍ إلى قبره (٢).

وورد في الأثر المعتبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في جنازة الصحابيّ الشهيد سعد ابن مُعاذ بلا رداء ولا حذاء ، فسُئل صلى الله عليه وآله عن ذلك ، فقال صلى الله عليه وآله : قد شيّعه سبعون ألف ملك ، وفيهم جبرئيل بلا رداء ولا حذاء ، فتأسّيت به (٣).

وفي الروايات أنَّ أزواج المؤمن من الحور العين يتبادرون إليه بشراب من الجنّة لرفع الظمأ الذي أصابه من الموت ، فقد ورد عنهم عليهم السلام : وإذا مات المؤمن تتلقّاه أرواح المؤمنين كما يتلقّى الغائبُ غائبَه ، وقد أقبلوا عليه يسألونه عن فلان وفلان ، فإذا كان قد مات بكوا واسترجعوا ويقولون : ذهبت أمّه إلى الهاوية (٤).

وعن أبي بصير أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام : جُعلت فداك ، فأين ضغطة القبر؟

فقال : هيهات ، ما على المؤمنين منها شيء ، والله إنّ هذه الأرض لَتفتخر على هذه فتقول : وَطِئ على ظهري مؤمنٌ ولم يَطَأْ على ظهرِك مؤمن ، وتقول له الأرض : والله لقد كنتُ اُحبّك وأنت تمشي على ظهري ، فأما إذا ولّيتُك فستعلم ماذا أصنع بك. فتفسح له مدَّ بصره (٥).

وقال عليه السلام : فإذا بلغوا به القبر ، توثّبت إليه بقاع الأرض كالرياض الخُضر ، فقالت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٢٥٤ / ح ١١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٢٣٩ / ح ١٢ ـ المجلس ٤٨.

٣ ـ اُنظر : علل الشرائع ١ : ٣١٠ / ح ٤ ، روضة الواعظين : ٣٧٨.

٤ ـ الاختصاص للمفيد : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ بالمضمون.

٥ ـ الكافي ٣ : ١٣٠ ح / ٢.


كلّ بقعة منها : اللهمّ اجعله في بطني ، قال فَيُجاء به حتّى يُوضع في الحفرة التي قضاها الله له (١). وهي التربة التي خُلِق منها (٢).

وسُئل الإمام الصادق عليه السلام : لأيّ علّة يُغسَّل الميّت؟ فقال عليه السلام : تخرج منه النطفة التي خُلِق منها ، تخرج من عينيه أو مِن فِيه (٣).

وقال عليه السلام : يُغَسَّل الميّت لأنّه جُنُب ، ولتُلاقيه الملائكة وهو طاهر (٤). وفي رواية : إنّ المؤمن إذا وضع في حفرته ناداه ربّه تطلّفاً به : عبدي تركك أحبّاؤك والذين عصيتني لهم وحيداُ في لحدك وحفرتك ، وأنا أرحمك الآن رحمة تعجب منها الخلائق بأجمعهم ، فيقول للملائكة : اذهبوا إلى عبدي وتصلون قلبه ، وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنّة ، ووسّعوا قبره ، واملأوه نوراً ، وأدخلوا عليه أنواع الرياحين والموائد من الطعام والشراب ثمّ اتركوه لي ، أنا مؤنسه إلى يوم القيامة.

وورد في الروايات : إنّ المؤمن يعلم بالزائر ويأنس ويفرح به (٥).

وصدق مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فيما نُقل عنه : الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا (٦).

وقد ورد استحباب التصدّق عن الموتى ، وقراءة القرآن لهم ، والشهادة لهم بأنّا لا نعلم منهم إلّا خيراً ، والصلاة عليهم ليلة الدفن. أمّا قضاء فوائتهم العباديّة فيجب على الولد الذَّكَر الأكبر بخصوص والده ، ويُستحبّ لغيره.

وقد ورد في الخبر : فإذا توجّه الناس إلى عرصات القيامة ، فمنهم مَن يبعث الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاختصاص للمفيد : ٣٤٧.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ٢٥١ / ح ٧.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٨ / ح ٣٧٥.

٤ ـ علل الشرائع : ٣٠٠ ح ٢ ـ الباب ٢٣٨.

٥ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ٢٢٨ / ح ٤.

٦ ـ خصائص الأئمّة للشريف الرضيّ : ١١٢.


إليه ملائكة مع ناقة من نوق الجنّة فيركبها فتطير به إلى الجنّة ، فلا يرى عرصات القيامة إلّا مارّاً عليها ، وهؤلاء هم الفقراء وأهل الآفات في الدنيا والصابرون على البلايا (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : يُؤتَون بنوق لم يُرَ مِثلُها ، عليها رحائل الذهب ، وأزمّتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتّى يضربوا أبواب الجنّة ، فقال عليّ عليه السلام : مَن هؤلاء يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا عليّ هؤلاء شيعتك وأنت إمامهم ، وهو قول الله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـٰنِ وَفْدًا) (٢). أي على الرحائل. وعنه صلى الله عليه وآله : يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب. ثمّ التفت إلى عليّ عليه السلام وقال : هُم شيعتُك وأنت إمامهم (٣).

ـ بيان مقدار شفاعة المؤمن يوم القيامة :

قال سليمان بن خالد : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ، فقال عليه السلام : لَمّا يرانا هؤلاء نشفع لشيعتنا يوم القيامة ، يقولون : (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (٤).

وقال الباقر عليه السلام : وإنّ المؤمن لَيشفعُ في مِثْلِ ربيعة ومضر ، فإنَّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه ويقول : يا ربِّ حقّ خدمتي ، كان يقيني الحرّ والبرد (٥). وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : ويشفع كلّ رجل مِن شيعتي ومَن تَولّاني ونصرني وحارب مَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روايات حشر المتقين مجموعة في : تفسير نور الثقلين ٣ : ٣٥٨ ـ ٣٦١ / ح ١٥١ ـ ١٥٧.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ، والآية في سورة مريم : ٨٥.

٣ ـ الإرشاد للمفيد ١ : ٤٢.

٤ ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٢ : ١٤ ، والآية في سورة الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

٥ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.


حاربني بفعلٍ أو قولٍ في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه (١).

ولا عجب من ذلك ، فقد ورد في الخبر المعتبر أنَّ الله خلق الرحمة والمحبّة مائة جزءاً ، وجعل جزءاً منها في الخلق كلّهم ، بها يتراحم الناس ، وتحنّ الأمّ على ولدها ، وتحنّ الأمّهات من الحيوانات على أولادها ، وأبقى تسعة وتسعين ، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذا إلى هذه فيرحم بها الخلائق. بل ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ينادي منادٍ يوم القيامة من تحت العرش : يا أمّة محمّد صلى الله عليه وآله ، ما كان لي قِبَلَكم فقد وهبتُه لكم ، وقد بَقِيتِ التبعات بينكم فتواهبوا وادخلوا الجنّة برحمتي (٢). وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل (٣).

ودخل مولى لامرأة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام ـ يقال له أبو أيمن ـ فقال : يا أبا جعفر ، يغرّون الناس وتقولون شفاعة محمّد ، شفاعة محمّد! فغضب أبو جعفر عليه السلام حتّى تربّد وجهه ثمّ قال : وَيْحَك يا أبا أيمن! أغرّك أن عَفَّ بطنك وفرجك ، أما لو قد رأيت أفزاعَ يوم القيامة ، لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله. وَيْلك! وهل يشفع إلّا لمن وجَبَت له النار.

ثمّ قال عليه السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد يوم القيامة ، ثمَّ قال عليه السلام : إنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعة في أمّته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولِشيعتِنا الشفاعة في أهاليهم (٤). نرجو القارئ العزيز أن يراجع مبحث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٤٠٨ / ح ٦.

٢ ـ عدّة الداعي : ١٣٦.

٣ ـ التوحيد : ٤٠٧ / ح ٦ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٤ / ح ٤٩٦٣.

٤ ـ المحاسن : ١٨٣ ـ ١٨٤ / ح ١٨٥ ، تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٢.


الشفاعة من هذا الكتاب للازدياد والاستفادة.

وروى الصدوق في «التوحيد» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزّته وجلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار إبداً (١). وقال : إنّ الله حرّم أجساد الموحّدين على النار (٢).

وفي حديث سلسلة الذهب عن الإمام الرضا عليه السلام : قال الله : لا إله إلّا الله حِصْني ، فَمَن دخل حصني أمِنَ مِن عذابي ، بشروطها ، وأنا مِن شروطها (٣).

وقال الباقر عليه السلام في شفاعة فاطمة عليها السلام لمحبّيها : والله يا جابر ، إنّها عليها السلام ذلك اليومَ لَتلتقط شيعتها ومحبّيها كما يلتقط الطير الحبَّ الجيّد من الحبّ الرديء (٤).

ـ عدم جواز أحد على الصراط إلّا ومعه براءة من عليّ عليه السلام ، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا كان يومُ القيامة ونُصب الصراط على جهنّم ، لم يَجُزْ عليه إلّا مَن معه جواز فيه ولا ية عليّ بن أبي طالب عليه السلام وذلك قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ، يعني عن ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام (٥).

وفي خبر آخر : إذا كان يومُ القيامة أمر الله جبرئيل عليه السلام أن يجلس على باب الجنّة ، فلا يدخلها إلّا مَن معه براءة من عليّ بن أبي طالب عليه السلام (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوحيد : ٢٠ / ح ٦.

٢ ـ التوحيد : ٢٠ / ح ٧.

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٣٥ / ح ٤ ـ الباب ٣٧ ، الأمالي للصدوق : ١٩٥ / ح ٩ ـ المجلس ٤١ ، التوحيد : ٢٥ / ح ٢٣.

٤ ـ تفسير فرات الكوفي : ٢٩٩ / ح ٤٠٣.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٢٩٠ ، والآية في سورة الصافّات : ٢٤.

٦ ـ كشف اليقين : ٣٠٤.


أمّا وصف الجنّة التي أعدّها الله للمتّقين ، فقد ورد في الأثر الصحيح : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (١).

هذا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ممّا ورد في الآثار ، نسأل الله سبحانه أن يشملنا بعفوه وكرمه.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين وسلّم تسليماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه (٤) : ١٧ / ح ١ ـ الباب ٤٩٢ في ذكر جملةٍ من مناهي النبيّ صلى الله عليه وآله.


المبحث الثالث والثلاثون : في المعرفة

قال عليه السلام : مَعْرِفَتي يا مَوْلايَ دَليلي عَلَيْكَ ، وَحُبّي لَكَ شَفيعي اِلَيْكَ ، وَاَنا واثِقٌ مِنْ دَليلي بِدَلالَتِكَ ، وَساكِنٌ مِنْ شَفيعي اِلى شَفاعَتِكَ.

قسّم علماء المعقول المُدرَكات قسمين :

الأوّل : المُدرَكات الحسّية : والطريق الموصل إليها الحواسّ ، كالبصر والسمع والذوق والشمّ واللمس ، وتكون اللّذة في إدراكها والتوصّل إليها من حيث الموافقة والملاءمة بينها وبين الإنسان ، ومن هذه اللذائذ لذّة الطعام والشراب والنكاح وغيرها.

الثّاني : المُدرَكات العقليّة : وهي ما تدركه القوى العاقلة المدركة ، وتختلف هذه الإدراكات من شخص لآخر كلّ بحسب مستواه واستعداده العقليّ ، وكذلك باختلاف فضائل وشرف المعارف. ومعرفة الله أرقى وأعظم كلّ المعارف ، لأنّه تعالى أشرف الوجودات ، ولا توجد لذّة أعظم من إدراك معرفته سبحانه ، حتّى نُقل عن شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ قدس سره قوله : لو علم الملوك لذّة العلم والمعرفة لحاربونا عليها.


ومعرفة هذه اللّذة لا يدركها واقعاً من ذاقها ، ونعم ما قيل : من ذاق عرف (١).

إنّ تعلّم العلوم كلّها تخلق لذّة عند المعلّم ، ولكنّ لذّة طلب العلم بالله وصفاته وآثاره وشرائعه لا تعادلها لذّة. ونحن نلاحظ على مستوى الحسّيات الفارقَ الكبير بين لذّة ولذّة ، وبين شخص وآخر.

ولذّة المعرفة بالله تتطلّب مسيرة ارتقائيّة طويلة في تجاوز الماديّات والغرائز والأهواء ، كما تتطلّب تجاوز الانشداد إلى عالم الحسّ للوصول إلى عالم التجرّد ومراقي الكمال العقليّ والخلوص النفسيّ ، وهذه ليست كتاباُ يُقرأ ، ولا محاضرة تُلقى ، بل هي رحلة جهاديّة ، ورياضة نفسيّة صعبة لا ينالها إلّا ذوو النفوس الكبيرة وأصحاب الآمال الواسعة ، أُولئك الذين توجّهت نفوسهم إلى عالم الكمال والبقاء السرمديّ وميدان الربوبيّة غير المتناهي. إنّ هذه الرحلة بمثابة إحراق الذهب بالنار لتخليصه من الكدورات والشوائب ، وإنّ العارف بالله يجد الله عنده وأمامه ووراءه في كلّ حركة وسكنة ، بل في كلّ نَفَس ، فتراه بعيداً عن مشاغل الدنيا وهمومها ، ونعيمها وشقائها ، وخيرها وشرّها ، إنّه مستغرق ذائب في ذات الله ، ومتلذّذ بلذّة اللقاء.

أُنظر هذا التسلسل رجاءً : المعرفة ثمّ الكمال ثمّ السعادة.

روى طاووس اليماني أنّه شاهد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يطوف ويتعبّد من العشاء إلى السَّحَر ، ثمّ أخذ بالمناجاة والبكاء ، يقول طاووس : ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً ، فدنوت منه وأخذت رأسه ووضعته على ركبتي ، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالساً وقال عليه السلام : من الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ (٢)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥٩.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب : ٢٩١ ، الصحيفة السجّاديّة (ط الأبطحي) : ١٧٧.


وهذه اللذّة لا يعرفها إلّا من ذاقها ، إذ كيف تصف لذّة مشاهدة المشاهد الخلّابة والصور الجميلة ليتلذّذ بها الأعمى ، أو سماع الأصوات الجميلة الرقيقة ليجد الأصمّ لذّة سماعها؟

والمانع من بلوغ وإدراك هذه اللذّة ، والحاجب الذي يحول بين الإنسان وربّه هو الذنوب والمعاصي والانشداد إلى النزوات والتراب بدلاً من ربّ الأرباب ، فكلّما كانت النفوس أقرب إلى الكمال والنقاء كانت أقرب إلى حالات التجلّي ، وهذا يقودها إلى ساحة اللذّة أكثر.

وتختلف درجات العارفين ومقامات السالكين بقدر معرفتهم بالله سبحانه ، وأرقى ما يمكن تصوّره هو عبادة النبيّ صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ، ولا طمعاً في ثوابك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (١).

وقال عليه السلام : الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة ، لأنَّ الجنّة فيها رضا نفسي ، والجامع فيه رضا ربّي (٢).

وقد وضع الشارع المقدّس علامة دالّة على صدق المعرفة ، وهي حبّ لقاء الله سبحانه وعدم التمسّك بعرى الدنيا وأسباب البقاء.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ٢ : ١١ / ح ١٨ ، بحار الأنوار ٤١ : ١٤ / ح ٤. وفي بعض المصادر : ما عبدتُك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك. [بحار الأنوار ٦٧ : ١٦٨ ، ٢٣٤ ، مرآة العقول للشيخ المجلسي ٢ : ١٠١ ـ باب النيّة].

٢ ـ اُنظر : عدّة الداعي : ١٩٤.


الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (١).

وقال سبحانه : (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّـهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٢).

إنّ الوليّ يحبّ لقاء وليّه ، ويبذل قصارى جهده للقائه ، ولا حاجب يحول بين الوليّ ووليّه إلّا الموت ليتمّ اللقاء القدسيّ ، ويتحقّق الفوز بالجنّة والكرامة.

سُئل أمير المؤمنين عليه السلام : هل رأيت ربّك حينَ عبدته؟ فقال عليه السلام : وَيلك! ما كنت أعبد ربّاً لم أره ، قيل : وكيف رأيته؟ قال عليه السلام : ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ روح المؤمن لَأشدُّ اتصالاً بروح الله من اتّصال شعاع الشمس بها (٤).

وقال الإمام الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة : كيفَ يُستدَلُّ عليكَ بِما هُوَ في وَجودِهِ مُفتَقِرٌ إليك؟! أيكونُ لِغيرِك مِنَ الظهور ما ليسَ لك ، حتّى يكونَ هو المُظهَرِ لك؟! متى غِبتَ حتّى تَحتاجَ إلى دليل يَدُلُّ علَيك؟! ومتى بَعُدتَ حتّى تكونَ الآثارُ هيَ التي تُوصِلُ إليك؟! عَمِيَتْ عَينٌ لا تَراك عَلَيها رقيباً ، وخَسِرَت صَفقةُ عبدٍ لم تَجعَلْ له مِن حُبّْك نصيباً (٥).

إنّ طريق المعرفة بالله سبحانه يختلف من شخص لآخر ، فالنفوس القدسيّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ٦.

٢ ـ البقرة : ٩٤.

٣ ـ الكافي ١ : ٩٨ / ح ٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٦٦ / ح ٤.

٥ ـ إقبال الأعمال : ٦٣٣.


هي التي تنطلق من معرفة الله سبحانه لتعرف آثاره ومخلوقاته ، فيكون وجوده تعالى دليلاً على وجودها ، وهذا الطريق صعب وغامض ، ولا تدركه العقول البسيطة.

أمّ الطريق العادي فهو التفكّر في خلق السماوات والأرض وآثار الوجود الإلهيّ المقدّس ، لتقوده إلى معرفة الموجد وعظمة الخالق المنعم.

قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

يقول السيّد الطباطبائيّ في «الميزان» : والمعنى : أوَ لم يكفِ في تبيّن الحقّ كونُ ربّك مشهوداً على كلّ شيء ، إذ ما من شيء إلّا وهو فقير من جميع جهاته إليه ، متعلّق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه ، فهو تعالى معلوم لكلّ شيء وإن لم يعرفه بعض الأشياء (٢).

فالعارفون الحقيقيّون يرون أنّ الله أظهر الموجودات ، وأنّه نور السماوات والأرض ، الظاهر بنفسه ، المُظهِر لغيره ، وهذا الوجود المقدّس قائم بنفسه ، يقوم به غيرُه ، أمّا غيره فهو متقوّم بغيره ، فيكون الوجود الإلهيّ أظهر.

وهنا نشير إلى بعض الملاحظات :

١ ـ هناك سؤال مفاده : هل إنّ المعرفة بالله تقود إلى المعرفة بالنفس والآفاق؟ أم إنّ المعرفة بالنفس والآفاق تقود إلى المعرفة بالله؟

هناك أدلّة تشير إلى الفرض الأوّل ، فقد ورد في دعاء أبي حمزة الثماليّ الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فصّلت : ٥٣.

٢ ـ تفسير الميزان ١٧ : ٤٠٥.


نحن بصدد شرحه : قوله عليه السلام : بِكَ عَرَفْتُك وأنتَ دَلَلْني عَلَيك ، ودَعَوتَني إلَيك ، ولَولا أنتَ لَم أدْرِ ما أنت ، وذكرنا مناجاة الإمام الحسين عليه السلام ، وهي المعنى والمقصد كليهما نفسيهما.

عن عثمان بن سعيد النائب الأوّل للإمام الحجّة عجّل الله تعالى في فرجه الشريف ، جاء في المناجاة المرويّة عن صاحب العصر والزمان : اَللّهمّ عرِّفْني نفسَك ، فإنّك إنْ لم تُعرِّفْني نفسَك لم أعرِفْ رسولَك ، اَللّهمّ عرِّفْني رسولَك ، فإنّك إن لم تُعرِّفْني رسولَك لم أعرِفْ حُجّتَك ، اَللّهمّ عرِّفْني حُجّتَك ، فإنّ إن لم تُعرِّفْني حُجّتَك ضَلَلْتُ عَن دِيني (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : لو كُشف ليَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً (٢).

وعنه عليه السلام : إعرفوا اللهَ بالله ، والرسولَ بالرسالة ، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان (٣).

قال الشيخ الصدوق : القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال : عرفنا الله بالله ، لأنّا إن عرفناه بعقولنا فهو عزّ وجلّ واهبها ، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججاً ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ مُحْدثها ، فبه عرفناه.

وقد قال الصادق عليه السلام : لولا الله ما عُرِفْنا ، ولولا نحن ما عُرِفَ الله ، ومناه : لولا الحُجج ما عُرِف الله حقّ معرفته ، ولولا الله ما عُرِف الحجج (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح المتهجّد : ٢٦٩ ، جمال الأسبوع : ٣١٥ ، إكمال الدين : ٥١٢ / ح ٤٣ ـ الباب ٤٥.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ٢ : ٤٧ ـ فصل في المسابقة بالعلم.

٣ ـ الكافي ١ : ٨٥ / ح ١ ـ باب أنّه لا يُعرَف إلّا به.

٤ ـ التوحيد : ٢٩٠.


وقال الإمام عليّ عليه السلام في «نهج البلاغة» : أوّلُ الدِّين معرفتُه ، وكمالُ معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له (١).

وقال عليه السلام : معرفة الله سبحانه أعلى المعارف (٢).

وهناك أدلّة تشير إلى الفرض الثاني ، فقد قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (٣).

وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (٤) ، وقال عزّ شأنه : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) (٥) ، وقال جلّ وعلا : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) (٦) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٧). وورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله : مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَف ربَّه (٨).

وورد : أعرَفُكم بنفسه أعرفُكم بربّه (٩).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله : عَرَفتُ الله سبحانه بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم (١٠).

وعنه عليه السلام قوله : اطلبوا العلم ولو بالصين ، وهو علم معرفة النفس ، وفيه معرفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١.

٢ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٤٨٦ ، غرر الحكم : ٣١٩.

٣ ـ النمل : ٩٣.

٤ ـ الروم : ٢١.

٥ ـ الروم : ٢٢.

٦ ـ الروم : ٢٤.

٧ ـ فصّلت : ٣٧.

٨ ـ مصباح الشريعة : ١٣ ، غوالي اللآلئ ٤ : ١٠٢ / ح ١٤٩.

٩ ـ روضة الواعظين : ٢٠ ، الاقتصاد للطوسيّ : ١٤.

١٠ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٥٠ ، عيون الحكم : ٣٣٩.


الربّ عزّ وجلّ (١).

نقول : إنّ النفوس المقدّسة الراقية تكون عندها الأولويّة معرفة الله ، ومنها تنطلق إلى معرفة النفس والآيات الآفاقيّة ، أمّا النفوس العادية فهي تنظر في الآثار وعظيم الخلق ، وتتفكّر وتتدبر ، فيقودها هذا التفكّر والتدبّر إلى معرفة الربّ ، ولكن هنالك ملازمة موضوعيّة بين المعرفة بالله والمعرفة بالنفس ، فكلّما ازدادت إحداهما ، قابلتها الأُخرى بالزيادة.

يقول السيّد الطباطبائيّ : إنّ القوانين الاجتماعيّة في الإسلام مقدّمة للتكاليف العباديّة مقصودة لأجلها ، والتكاليف العباديّة مقدّمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التغيير في الأحكام الإجتماعيّة من الإسلام يوجب فساد العبوديّة ، وفساد العبوديّة يؤدّي إلى اختلال المعرفة.

وهذه النتيجة ـ على أنّها واضحة التفرّع على البيان ـ تؤيّدها التجربة أيضاً ، فإنّك إذا تأمّلت جريان الأمور في طروق الفساد في شؤون الدين الإسلامي بين هذه الأمّة ، وأمعنت النظر فيه ؛ من أين شرع ، وفي أين ختم ، وجدت أنّ الفتنة ابتدأت من الاجتماعيّات ، ثمَّ توسّطت في العباديّات ، ثمّ انتهت إلى رفض المعارف ، وقد ذكرنا فيما مرّ أنّ الفتنة شرعت باتّباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتّى اليوم (٢).

أُنظر هذا التسلسل رجاءً :

القوانين الاجتماعيّة ، ثمَّ التكاليف العباديّة ، ثمَّ المعرفة بالله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح الشريعة : ١٣ ـ عنه : بحار الأنوار ٢ : ٣٢ / ح ٢١.

٢ ـ تفسير الميزان ٣ : ٥٩.


ورد في «الكافي» عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام : يا هشام ، إنّ الله حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) ، حينَ علموا أنّ القلوب تَزيغ وتعود إلى عماها ورَداها ، إنّه لم يَخَف اللهَ مَن لم يَعقِل عن الله ، ومَن لم يعقل عن الله لم يَعقِد قلبَه على معرفة ثابتةٍ يُبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدِّقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً ؛ لأنّ الله تبارك اسمه لم يَدُلَّ على الباطن الخفيّ مِن العقل إلّا بظاهرٍ منه وناطقٍ عنه (١).

وورد عن الإمام عليّ : أكثرُ الناس معرفةً لنفسه أخوفُهم لربّه (٢).

وإذا قرّبنا وجهة النظر هذه نقول : إنّ اشتعال المصباح الكهربائيّ دليل على وجود التيّار الكهربائيّ ، ولكنّ العارف يرى من هذا المثال أسبقيّة وجود التيّار على اشتعال المصباح ، ولولا وجود التيّار لما اشتعل المصباح ، والاشتعال قائم بوجود التيّار ، وعلى فرض نزع المصباح أو إطفاء الزرّ الكهربائيّ ، فلا يعني هذا عدم وجود التيّار ، فقد قال العقلاء : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود (٣).

٢ ـ إنّ الطريق المؤدّي إلى المعرفة الإلهيّة والمعارف الدينيّة الحقّة هو العقل ، وبه يستدلّ الإنسان على التوحيد ، وعلى وجوب شكر المنعم ، ووجوب هداية الأنام الذي قوامه وجوب أصل النبوّة ، وأحقيّة المعاد والعدل الإلهيّ وغيرها.

أمّا المعاجز التي تظهر على أيدي الرسل والأنبياء عليهم السلام فهي ليست أدلّة على وجود الله سبحانه ، ولا دليلاً على وجوب أصل النبوّة ، لأنّ هذه من المسلّمات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٨ / ح ١٢.

٢ ـ غرر الحكم : ٩٢ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٣٦ / ١٢٨٤٦.

٣ ـ كما في : المعتبر للمحقّق الحلّي ١ : ٣٨٥.


العقليّة ، فالمعاجز أدلّة ناطقة على صدق مدّعي الرسالة ، وأنّ ال أنبياء والرسل عليهم السلام أصحاب نفوس قدسيّة طاهرة مطهّرة من جميع الأدناس وآثار الذنوب والمعاصي ، وقد منحهم الله الولاية فأصبحوا قادرين على الإماتة والإحياء ، وتكليم الموتى والحجارة ، والنطق في المهد ، وغيرها من مصاديق التدبير.

وكذلك نقول : إنَّ المعاجز ليست دليلاً على صدق وأحقيّة المعارف الإلهيّة والتشريعات الحقّة ، وإنّها ممّا أمر الله به ، إذ هي كذلك من المسلّمات العقلية ، فالشرع يأمر بالعدل والإحسان ومكارم الأخلاق ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهذا من موارد ومصاديق الحسن والقبح العقليَّين.

٣ ـ إنّ للمعرفة الحقيقيّة آثاراً تنعكس على سلوك الإنسان وتصرّفاته وعبادته.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : من عَرَف الله وعظّمه منع فاه من الكلام ، وبطنه من الطعام ، وعفى نفسه بالصيام والقيام. فقالوا : بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله ، هؤلاء أولياء الله؟ قال صلى الله عليه وآله : إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذِكْراً ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومَشَوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لولا الآجال التي قد كُتبت عليهم لم تَقَرَّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العذاب ، وشوقاً إلى الثواب (١).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليه السلام على أصحابه فقال : يا أيّها الناس ، إنّ الله جلّ ذِكرُه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه ، فإذا عَرَفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة مَن سواه (٢).

وورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (وكذا عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام) أنّه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٣٧ / ح ٢٥ ـ باب المؤمن وعلاقاته وصفاته.

٢ ـ علل الشرائع : ٩ / ح ١.


قال : وجدتُ علم الناس كلَّه في أربع : أوّلها : أن تعرف ربّك ، والثاني : أن تعرف ما صنع بك ، والثالث : أن تعرف ما أراد بك ، والرابع : أن تعرف ما يُخرِجك عن دينك (١).

يقول صاحب «الميزان» : إنّ الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربّه من كلّ شيء ، وعقب ذلك معرفة ربّه معرفةً بلا توسيط وسط ، وعلماً بلا تسبيب سبب ، إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه ، وأحرى بهذه المعرفة أن تُسمّى معرفة الله بالله. وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه ، المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشيء دونه ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : تعرف نفسه به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أنّ ما فيه له وبه (٢).

وقد ورد في الحديث القدسي : فمن عمل برضائي أُلزمه ثلاث خصال : أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببتُه ، وأفتح عين قلبه إلى نور جلالي ، فلا أُخفي عليه خاصّة خَلْقي ، وأناجيه في ظُلَم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأُعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وأُلبسه الحياء حتّى يستحيَ منه الخلق [كلّهم] ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، وأعرّفه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٥٠ / ح ١١ ، الاقتصاد للشيخ الطوسيّ : ١٤ ، بحار الأنوار ٧٥ : ٣٢٨ / ح ٥ ـ عن : كشف الغمّة ٣ : ٤٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٦ : ١٧٥.


ما يمرّ على الناس [في] يوم القيامة من الهول والشدّة ، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء ، والجهّال والعلماء ، وأُنوّمه في قبره وأُنزِل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه.

ولا يرى غمّ الموت وظلمة القبر واللحد وهو المطلع ، ثمّ أنصب له ميزانه ، وأنشر له ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً ، فهذه صفة المحبّين.

يا أحمد ، إجعلْ هَمَّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا تَغفلْ عنّي أبداً ، من يغفل عنّي لا أبالي بأيّ وادٍ هلك (١).

وأختم هذا المبحث معطّراً هذه الأجواء بأنفاس سيّد الساجدين الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في مناجاة العارفين :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلهي قَصُرَت الألسنُ عن بلوغِ ثنائِك ، كما يَليقُ بجلالِك ، وعجَزَت العقولُ عن إدراكِ كُنْهِ جمالِك ، وانحسَرَت الأبصارُ دونَ النظرِ إلى سُبُحاتِ وَجهِك ، ولم تجعلْ للخَلقِ طريقاُ إلى معرفتِك ، إلّا بالعجزِ عن معرفتِك.

إلهي فاجعَلْنا مِن الذين ترسّخَت أشجارُ السوقِ إليك في حدائقِ صُدورِهم ، وأخذَتْ لوعةُ محبّتِك بمجامع قلوبِهم ، فَهُم إلى أوكارِ الأفكارِ يَأْوُون ، وفي رياضِ القُرب والمكاشفةِ يَرتَعون ، ومِن حياضِ المحبّةِ بكأسِ الملاطفةِ يَكْرَعون ، وشرائعَ المُصافاةِ يَرِدُون ، قد كُشِفَ الغطاءُ عن أبصارِهم ، وانجَلَت ظُلمةُ الريبِ عن عقائدِهم وضمائرِهم ، وانتفَت مخالجةُ الشكِّ عن قلوبِهم وسرائرِهم ، وانشَرَحَت بتحقيقِ المعرفةِ صدورُهم ، وَعَلت لِسَبقِ السعادةِ في الزهادةِ هِممُهُم ، وعَذُبَ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٢٨ / ح ٥ ، الجواهر السنيّة للحرّ العامليّ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.


مَعينِ المُعاملةِ شِربُهم ، وطابَ في مجلسِ الأُنسِ سِرُّهم ، وأمِنَ في موطنِ المخافةِ سِربُهم ، واطمأنَت بالرجوعِ إلى ربِّ الأربابِ أنفسُهم ، وتَيقّنَت بالفوزِ والفلاحِ أرواحُهم ، وقَرَّت بالنظرِ إلى مَحبوبِهم أعينُهم ، واستَقَرَّ بإدراكِ السُّؤْلِ ونَيلِ المأمولِ فَرارُهم ، ورَبِحَت في بيعِ الدنيا بالآخرةِ تجارتُهم.

إلهي ما ألذَّ خواطرَ الإلهامِ بذِكركَ على القلوب ، وما أحلَى المسيرَ إليك بالأوهامِ في مسالِك الغُيوب ، وما أطيبَ طَعمَ حُبِّك ، وما أعذَبَ شِرْبَ قُربِك ، فأعِذْنا مِن طَرْدِك وإبعادِك ، واجعَلْنا مِن أخصِّ عارفيك ، وأصلحِ عبادِك ، وأصدقِ طائعيك ، وأخلصِ عُبّادِك ، يا عظيمُ يا جليل ، يا كريمُ يا مُنيل ، برحمتِك ومنِّك يا أرحم الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٧ «مناجاة العارفين».


المبحث الرابع والثلاثون : الرغبة والرهبة

قال عليه السلام : اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسان قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْب قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ ، اَدْعُوكَ يا رَبِّ راهِباً راعِباً ، راجِياً خائِفاً ، اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ ، وإذا رَأَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم ، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم.

مدخل لغويّ :

وَبَقَ : إذا تَثَبَّطَ فهلك ، وَبقاً وَمَوْبِقاً ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا) (١) ، وأوبقه : أهلَكَه. قال سبحانه : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) (٢).

والجُرم : التعدّي والذنب ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٣).

والظلم : مجاوزة الحقّ والتعدّي ، قال الله تعالى : (أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤).

والرهبة والرهب : الخوف الشديد ، الفزع.

الرغبة : السؤال والطمع والرجاء ، قال الله سبحانه : (إِنَّا إِلَى اللَّـهِ رَاغِبُونَ) (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٥٢.

٢ ـ الشورى : ٣٤.

٣ ـ المطفّفين : ٢٩.

٤ ـ هود : ١٨.

٥ ـ التوبة : ٥٩.


الفزع : الخوف الشديد ، قال تعالى : (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١).

قال صاحب «الميزان» قدس سره في تفسير قوله تعالى : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) (٢) : والمعنى : أنعَمْنا عليهم لأنَّهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال ، ويدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا ، رهبةً من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين ، وكانوا لنا خاشعين بقلوبهم (٣).

ويرى سماحته قدس سره أنّ المقصود بالمسارعين في الخيرات ، الذين يدعون ربّهم رغباً ورهباً وكانوا خاشعين لله هم أهل بيت زكريّا عليه السلام ، وذلك هو المفهوم من السياق ، ولا يشير إلى عبادة الأنبياء الذين ذكرهم الله سبحانه في هذه السورة ، لأنّ عبادتهم خالصة من كلّ شوب ونقص وكلّ غاية غير طلب مرضاة لله ، لأنّ عبادة الله من أجل طلب الجنّة أو خوفاً من النار لا تناسب مقام الانبياء ، لأنّ ذلك من الشرك الخفيّ المنافي لكمال الإخلاص.

قال سبحانه : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (٤).

الآية الشريفة تشير إلى أنّ عبادة أكثر الناس ليست خالصة من كلّ شوب ونقص ، بل إنَّ أكثر إيمانهم يخالطه شيء من الشرك الخفيّ ، وهذا الشرك لا يبلغ بهم حدّ الكفر. إنّ طاعة الشيطان واتّباع الظالمين ، والغفلة ، والاستجابة للأهواء والنزوات من الشرك الخفيّ الذي ننزّه أهل العصمة عنه.

وورد في الآثار المعتبرة : أنَّ الشرك الخفيّ أخفى من دبيب النمل على الصفا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١٠٣.

٢ ـ الأنبياء : ٩٠.

٣ ـ تفسير الميزان ١٤ : ٣١٦.

٤ ـ يوسف : ١٠٦.


السوداء في الليلة الظلماء (١).

وقد ذكرنا في مبحث سابق أنَّ غاية العبادة إمّا أن تكون طمعاً لما في يده سبحانه من خير دنيويّ وأخرويّ ، وتلك عبادة التجّار أو الأُجراء ، وإمّا أن تكون خوفاً من أليم عقابه وشديد نكاله ونقمته ، فتلك عبادة العبيد ، وإمّا أن تكون حبّاً وشكراً لله ، فتلك عبادة الأحرار ، وذلك لأنّه تعالى أهل للعبادة والخضوع.

يقول صاحب «الميزان» قدس سره في عبادة الأحرار ما نصّه : والله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده ، لأنّ أهليّة الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلّا الكمال ، فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع ، وهو إمّا جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً ، أو جلال يخرّ عنده اللبّ ويذهل دونه القلب ، وله سبحانه كلّ الجمال ، وما من جمال إلّا وهو آية لجماله ، وله سبحانه كلّ الجلال ، وكلّ ما دونه آيته ، فالله سبحانه لا إله إلّا هو ، ولا معبود سواه ، لأنّه له الأسماء الحسنى (٢).

أمّا عبادته سبحانه خوفاً وطمعاً فلا يخلوان من الشرك الخفيّ ، لأنّ غاية الأوّل الفوز بالجنّة ، وغاية الثاني دفع العذاب ، ولو حصل كلّ منهما «الطامع والخائف» على غايته من دون عبادة لما عبدا الله.

ونتوجّه بالسؤال إلى السيّد الطباطبائيّ عن كيفيّة تلبّس الإنسان بالإيمان والشرك معاً ، مع كونهما من المعاني المتقابلة التي لا تجتمع في محلّ واحد؟

يجيب سماحته قدس سره : إنّما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل نفسها في القوّة والضعف ، فتختلف بالنسبة والإضافة كالقرب والبعد ، فإنّ القرب والبعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ١ : ٢١٣.

٢ ـ تفسير الميزان ١٤ : ١٢٤.


المطلقين لا يجتمعان ، إلّا أنّهما إذا كانا نسبيّين لا يمتنعان من الاجتماع والتصادق ، كمكّة فإنّها قريبة بالنسبة إلى المدينة ، بعيدة بالنسبة إلى الشام ، وكذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة ، قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

والإيمان بالله والشرك به وحقيقتهما وتعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبة ، وتعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلّا بإذنه ، يختلفان بحسب النسبة والإضافة ، فإنّ من الجائز أن يتعلّق الإنسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة وينسى مع ذلك كلّ حقّ وحقيقة ، ومن الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه ، ويتوجّه بكلّه إليه ويذكّره ولا يغفل عنه ، فلا يركن في ذاته وصفاته إلّا إليه ، ولا يريد إلّا ما يريده ، كالمخلص من أوليائه تعالى.

وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ، ومن الدليل على ذلك الأخلاق والصفات المتمكّنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل ، والأعمال الصادرة منها ، كذلك ترى من يدّعي الإيمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أيّ نائبةٍ أو مصيبة تهدّده ، وهو يذكر أن لا قوّة إلّا بالله ، ويلتمس العزّة والجاه من غيره وهو يتلو قول الله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا) (١) ، ويقرع كلّ باب يبتغي الرزق وقد ضمنه الله ، ويعصي الله ولا يستحيي ، وهو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه ، وسميع لما يقول ، بصير بما يعمل ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وعلى هذا القياس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٦٥.


فالمراد بالشرك في قوله تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (١) بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان ، وهو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفي (٢).

هذا ويرجى من القارئ مراجعة «مبحث في الألوهيّة» و «مبحث في الحبّ الإلهيّ» و «مبحث الخوف والرجاء» من هذا الكتاب لتلافي التكرار والإطالة.

ولننظر إلى هذه الكلمات الفوّاحة بالأمل وحسن الظنّ على لسان الإمام عليّ ابن الحسين عليه السلام في مناجاة الراغبين حيث يقول : إلهي إن كان قَلَّ زادي في المسيرِ إليك ، فلَقَد حَسُن ظنّي بالتوكّلِ عَلَيك ، وإن كان جُرمي قد أخافَني مِن عُقوبتِك ، فإنّ رجائي قد أشعَرَني بالأمنِ مِن نِقْمتِك ، وإن كان ذَنْبي قد عرَّضَني لِعقابِك ، فقد آذَنَني حُسنُ ثقتي بثوابِك ، وإن أنامَتْني الغفلةُ عنِ الاستعدادِ لِلقائِك ، فقد نَبَّهَتْني المعرفةُ بِكرمِك وآلائِك ، وإن أوحَشَ ما بيني وبينَك فَرْطُ العصيانِ والطغيان ، فقد أنَسني بُشرَى الغفرانِ والرِّضوان.

أسألك بِسُبُحاتِ وجهِكَ وبأنوارِ قُدسِك ، وأبتهلُ إليكَ بِعواطفِ رحمتِك ولطائفِ بِرِّك ، أن تُحقّقَ ظنّي بما أُؤمّلُه مِن جَزيلِ إكرامِك ، وجميلِ إنعامِك ، في القُربى مِنكَ والزُّلفى لَدَيك ، والتَّمتُّعِ بالنظرِ إليك ، وها أنا مُتعرِّضٌ لنفحاتِ رَوْحِكَ وعَطْفِك ، ومُنتَجِعٌ غيثَ جُودِك ولُطفك ، فارٌّ مِن سَخَطِك إلى رِضاك ، هاربٌ مِنك إلَيك ، راجٍ أحسَنَ ما لَدَيك ، مُعوِّلٌ على مَواهبِك ، مُفتَقِرٌ إلى رِعايتِك.

إلهي ما بدَأْتَ بهِ مِن فضلِك فَتَمِّمْه ، وما وَهَبتَ لي مِن كرمِك فَلا تَسْلُبْه ، وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يوسف : ١٠٦.

٢ ـ تفسير الميزان ١١ : ٢٧٦.


ستَرتَه علَيَّ بحِلمِك فلا تَهْتِكْه ، وما عَلِمتَه مِن قبيحِ فِعلي فاغفِرْه.

إلهي استَشْفَعتُ بِكَ إليك ، واستَجَرتُ بك منك ، أتَيتُك طامعاً في إحسانِك ، راغباً في امتنانِك ، مُسْتَسقياً وابلَ طَولِك ، مُستمطِراً غَمامَ فضلِك ، طالباً مرضاتَك ، قاصداً جَنابَك ، وارداً شريعةَ رِفْدِك ، مُلْتمِساً سنيَّ الخَيراتِ مِن عندِك ، وافداً إلى حضرةِ جَمالِك ، مُريداً وجهَك ، طارقاً بابَك ، مُستكيناً لعظمتِك وجلالِك ، فافعلْ بي ما أنت أهلُه مِن المغفرةِ والرحمة ، ولا تَفعلْ بي ما أنا أهلُه مِن العذاب والنِّقْمة ، بِرحمتِك يا أرحمَ الراحمين (١).

لقد عَلَّمنا عليه السلام ـ وهو سليل النبوّة ، وغصن الإمامة ، وربيب بيت الوحي ومنازل التنزيل ـ كيف نتوجّه إلى الله بالدعاء وقلوبنا مملوءة بالرغبة.

وها نحن ننقل مناجاة الخائفين له عليه السلام لنتعلّم كيف يكون حال المرء من الرهبة عندما يطرق باب الله بيده ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : إلهي أتَراك بعد الإيمانِ بِك تُعذّبني ، أَم بعدَ حُبّي إيّاك تُبعِّدُني ، أَم معَ رجائي لرحمتِك وصَفْحِك تحرِمُني ، أم معَ استجارتي بِعفوِك تُسْلِمُني؟!

حاشا لوجهِك الكريمِ أن تُخَيِّبَني ، ليتَ شِعري ألِلشقاءِ وَلدَتْني أُمّي ، أم لِلعناء رَبَّتْني؟ فلَيتَها لم تَلِدْني ولم تُرَبِّني ، وليتَني عَلِمتُ أمِن أهلِ السعادةِ جَعلتَني ، وبِقُربِك وجِوارِك خَصَصْتَني ، فَتَقِرَّ بذلك عيني ، وتَطْمئِنَّ له نفسي.

إلهي هَل تُسَوِّد وُجوهاً خَرَّت ساجدةً لعظمتك؟ أو تُخرِسُ ألْسِنةً نطَقَت بالثناءِ على مَجدِك وجلالتِك؟ أو تَطْبعُ على قلوبٍ انطَوَت على مَجبَّتِك؟ أو تُصِمُّ أسماعاً تَلذَّذَت بِسَماعِ ذِكْرِك في إرادتِك؟ أو تَغُلُّ أَكُفّاً رفَعَتْها الآمالُ إليكَ رجاءَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤٠٨ / الدعاء ١٨٦.


رأفتِك؟ أو تُغاقِبُ أبداناً عَمِلَت بِطاعتِك حتّى نَحِلَت في مُجاهدتِك ، أو تُعذِّبُ أرجُلاً سَعَت في عبادتِك؟!

إلهي لا تُغلِقْ على مُوَحّديكَ أبوابَ رحمتِك ، ولا تَحْجُبْ مُشتاقيكَ عنِ النظرِ إلى جميلِ رُؤيتِك. إلهي نَفْسٌ أعززتَها بِتَوحيدِك ، كيف تُذِلُّها بِمَهانةِ هِجْرانِك؟! وضميرٌ انعَقَد على مَودّتِك ، كيف تُحرِقُه بحرارةِ نِيرانِك؟!

إلهي أجِرْني مِن أليمِ غَضبِك ، وعظيمِ سَخَطِك ، يا حَنّانُ يا مَنّان ، يا رَحيمُ يا رَحمن ، يا جَبّارُ يا قَهّار ، يا غَفّارُ يا سَتّار ، نَجِّنِي بِرحمتِكَ مِن عذابِ النار ، وفَضيحةِ العار ، إذّا امتازَ الأخيارُ مِنَ الأشرار ، وحالَتِ الأحوال ، وهالتِ الأهوال ، وقَرُب المحسنون ، وبَعُدَ المُسيئون ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَت وهُم لا يُظلَمون (١).

لقد علّمنا الإمام السجّاد عليه السلام كيف نُقْبل على الله بقلوب تتعادل فيها حالات الخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، لنكون في منازل ومهابط الرحمة الإلهيّة.

في الظلم

الظلمُ لغةً : وضع الشيء في غير موضعه.

والظلم بالمعنى الأعمّ ضدّ العدل ، وهو التعدّي عن الوسط في أيّ شيء كان ، وهو صفة مذمومة ورذيلة وقبيحة.

والظلم بالمعنى الأخصّ بمعنى الجَور ، والمراد به الإضرار بالغير ، والإيذاء له وإلحاق الضرر به ، كضربه وشتمه وغصب ماله واغتيابه ونحو ذلك.

وقد وعد الله الظالمين أشدّ العذاب واللعن في الدنيا والآخرة. فقال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجادية : ٤٠٤ / الدعاء ١٨٤.


أَلِيمٌ) (١).

وقال سبحانه : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (٢).

والظلم قبيح كتاباً وسنّةً ، وإجماعاً وعقلاً ، وقد ورد في السنّة الشريفة في الظلم ما لم يرد في غيره.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : جَورُ ساعة في حكم أشدُّ وأعظم عند الله من معاصي تسعين سنة (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : اتّقوا الظلم فإنّه ظلمات يوم القيامة (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) : قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة (٥).

قال تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (٦).

الركون : هو الميل والسكون إلى الغير ، ويمكن أن نعبّر عنه بالتواطؤ معهم بكشف بعض الحقائق الدينيّة أو الاجتماعيّة لهم ليستغلّوا ذلك في تثبيت دعائم حكمهم ، أو ستر عيوبهم وجرائمهم والتغطية على عوراتهم ، أو السكوت عن مقولة الحقّ لئلّا يتضرّروا بالانتقام منهم أو المعارضة لهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الشورى : ٤٢.

٢ ـ الشعراء : ٢٢٧.

٣ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٢١.

٤ ـ السنن الكبرى ٦ : ٤٨٦ / ح ١١٥٨٣.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٢ ، والآية في سورة الفجر : ١٤.

٦ ـ هود : ١١٣.


وغاية هؤلاء هي نيل المطامع بما في أيدي الظالمين ، وربّما يكون نتيجة الخوف والفزع من سطواتهم وانتقامهم ، ومن مصاديق الركون كما ذكره صاحب «تفسير المنار» عن الزمخشريّ قوله : الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ، ومداهنتهم والرضى بأعمالهم ، والتشبّه بهم والتزيّي بزيّهم ، ومدّ العين إلى زُهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم (١).

وقد وعد الله الذين يركنون إلى الظَّلَمة بمسّ النار ، قال تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).

بينما أوعد المتلبّسين بالظلم من القتلة والمجرمين والعتاة بدخول النار ، قال تعالى : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٢).

وربّما كان جزاؤهم بعذاب الاستئصال ، كما حصل لقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وغيرهم ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (٣) ، وقال سبحانه : (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (٤).

تَلخَّص ممّا سبق أنّ الركون إلى الظالمين هو الاقتراب منهم والميل إليهم. أمّا التلبّس بالظلم فذلك عندما يكون الإنسان عضواً فاعلاً في مجالات الظالمين وممارسة ما يناط إليه من أعمال إجراميّة ، منفّذاً لأوامرهم المخالفة للشرع ، وذلك معناه الدخول في زمرتهم ، وهو أشدّ من الركون.

يقول السيّد الطباطبائيّ في «الميزان» ما نصّه : إنّ الركون المنهيَّ عنه في الآية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يُنظَر : تفسير المنار ١٢ : ١٧٠ وما بعدها.

٢ ـ سبأ : ٤٢.

٣ ـ الكهف : ٥٩.

٤ ـ المؤمنون : ٢٧.


أَخصُّ من الولاية المنهيّ عنها في آيات أخرى كثيرة ، فإنّ الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثّر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم ، وهم أعداء الدين ، وأمّا الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينيّة على ظلمهم ، فهو أخصّ من الولاية مورداً ، أي أنّ كلّ مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلّي ، وبروز الأثر في الركون بالفعل ، وفي الولاية أعمّ ممّا يكون بالفعل (١).

نعوذ بالله من الظلم ومن الركون إلى الظالمين ومن موالاه أحد منهم ، قال سبحانه : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٢) ، وقال تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٣) ، وقال عزّ شأنه : (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤).

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : الظلم ثلاثة : ظلم يغفره الله ، وظلم لا يغفره الله ، وظلم لا يَدَعُه الله. فأمّا الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وأمّا الظلم الذي يغفره فظلمُ الرجل نفسَه فيما بينه وبين الله ، وأمّا الظلم الذي لا يَدَعه فالمداينة بين العباد (٥).

وقال سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّـهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ٥٦.

٢ ـ النساء : ٨٩.

٣ ـ الأنعام : ١٤.

٤ ـ آل عمران : ٢٨.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ١ ـ باب الظلم.

٦ ـ النساء : ٩.


وقد ذكر بعض العلماء آراء عديدة بخصوص هذه الآية المباركة ، إذ كيف يؤاخَذُ الأولاد بذنوب الآباء من دون جرم فعلوه ، وهل هذا يتنافى مع قاعدة العدل؟

نذكر بعض الآراء :

١ ـ المراد بذلك مؤاخذة الأولاد الراضين بفعل آبائهم من المظالم ، وما وصل إليهم من أملاك ومواريث وامتيازات بسبب ذلك الظلم ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به ، شركاءُ ثلاثتُهم (١).

وورد في زيارة الإمام الحسين المرويّة بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام : فلعَنَ اللهُ أُمّةً قَتَلَتْك ، ولَعَن اللهُ أُمّةً ظلَمَتْك ، ولَعَنَ اللهُ أُمّةً سَمِعَت بِذلك فَرَضِيَتْ بِه (٢) ، وورد كذلك : لو أنّ رجلاً قُتلَ في المشرق فَرَضي بقتله رجل في المغرب ، لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريكَ القاتل (٣).

٢ ـ وقال صاحب «جامع السعادات» ما نصّه : إنّ الدنيار دار مكافأة وانتقام ، وإن كان بعض ذلك ممّا يُؤخَّر إلى الآخرة ، وفائدة ذلك : أمّا بالنسبة إلى الظالم فإنّه يردعه عن الظلم إذا سمع ، وأمّا بالنسبة إلى المظلوم فإنّه يستبشر بنيل الانتقام في الدنيا مع نيله ثواب الظلم الواقع عليه في الآخرة ، فإنّه ما ظفر أحد بخير ممّا ظفر به المظلوم ، لأنه يأخذ من دِين الظالم أكثر ممّا أخذ الظالم من ماله. وهذا ممّا يصحح الانتقام مِن عقب الذريّة أو عقب عقبه ، فإنّه وإن كان في صورة الظلم لأنّه انتقام من غير أهله ، مع أنّه لا تَزِرُ وازرة وزر أخرى ، إلّا أنّه نعمة مَنَّ الله عليه في المعنى من جهة ثوابه في الدارين ، فإنّ ثواب المظلوم في الآخرة أكثر ممّا جرى عليه في الدنيا (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣٣ / ح ١٦.

٢ ـ مصباح المتجهّد : ٧٢٢ / ح ٨٠٩ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠١ / ح ٣٢.

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٢٧٣ / ح ٥ ـ الباب ٢٨.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٢٨.


٣ ـ لو رجعنا إلى الروايات الشريفة بل الآيات القرآنية بالأولويّة ، لَوجدناها صريحة واضحة في أنّ للأعمال آثاراً وضعيّة على الكون والحياة ، والإنسان الفرد والإنسان الأمّة ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث الآثار الوضعيّة للأعمال ، فليراجع.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١) ، وقال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) (٢).

إنّ الفتن التي يُحْدثها بعض الأشرار والمغامرين لها آثارها السيّئة ، تعمّهم وغيرَهم ، وقد حذّرنا القرآن والسنّة من القعود والتكاسل والسكوت على الظالمين ، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فَيُولّى عليكم شرارُكم ، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم (٣).

وورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : كسب الحرام يبين في الذرّية (٤).

إنّ الآثار قد تعمّ المجتمع كلّه بالذلّة والمسكنة والمجاعة ، لكنّ الظالمين أفراد محدودون ، وقد رأينا بالتجربة ما آل إليه أمر الشعوب التي تسلّط عليها القتلة والمجرمون والمبتزّون ، فقادوا شعوبهم وجيرانهم إلى الحروب والانقسامات والاقتتال وتبذير ثروات البلاد ، وإهلاك الحرث والنسل.

ويكفيك شاهداً ما حصل للأمّة الإسلاميّة التي ابتعدت عن قادتها الحقيقيّين ، فقادها ذلك إلى تجرّع غصص النكبات ، وإلى امتهان كرامتها ونفاد خيراتها ، وسلب أمنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٤١.

٢ ـ الأنفال : ٢٥.

٣ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٤٧ وصيّته عليه السلام بعد ضربة ابن ملجَم لعنه الله.

٤ ـ الكافي ٥ : ١٢٥ / ح ٤.


ورد في كتب التاريخ أنّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر شُوهد يبكي في ليلة من ليالي صفّين ، تلك الحرب الطاحنة بين جيش أمير المؤمنين عليه السلام وعدوّه اللدود عدوّ الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، فسأله أحد رفاقه في السلاح : ما يبكيك يا أَبا اليقظان؟

فقال رضي الله عنه : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ما اختلفت أُمّةٌ بعد نبيِّها إلّا ظَهَر أهلُ باطلها على أهل حقّها إلّا ما شاء الله (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : من ظلم يتيماً في ماله ، فإنّ ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه ، وهذا من الحقائق القرآنيّة العجيبة ، وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بين الأعمال الحسنة والسيّئة وبين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً (٢).

وقد وردت أحاديث كثيرة تحذّر من بعض المعاصي خاصّة ؛ لأنّ فيها انعكاسات على الذرّية والعيال.

ورد عن الباقر عليه السلام قوله : مَن ارتكب أحداً بظلم بعث الله من يظلمه بمثله ، أو على وُلده أو على عقبه من بعده (٣).

في الظلم وعقاب الظالمين

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يقول الله عزّ وجلّ إذا عصاني من عَرَفني ، سلَّطتُ عليه من لا يعرفني (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وقعة صفّين : ٢٢٤ ، شرح نهج البلاغة ٥ : ١٨١ ، وظَهَر : أي تغلّب.

٢ ـ تفسير الميزان ٤ : ٢٠.

٣ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٧٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٧٦ / ح ٣٠ ، الأمالي للصدوق : ١٩٠ / ح ١٢ ـ المجلس ٤٠ ، وفيه : إذا عصاني مِن خَلْقي مَن يَعرفُني.


وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : من ظلم أجيراً أجْرَه أحبط الله عمله وحرَّم عليه ريح الجنّة ، وريحُها توجد من خمسمائة عام. ومن خان جاره شبراً من الأرض طوَّقه الله تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين ناراً حتّى يدخله جهنّم (١).

ومن ظلم امرأة مهرها فهو عند الله زانٍ ويقول الله له يوم القيامة : عبدي زوّجتك أَمَتي على عهدي فلم تَفِ لي بالعهد ، فيتولّى الله عزّ وجلّ طلبَ حقّها ، فيستوجب حسناته كلَّها فلا يفي بحقها ، فيُؤمر به إلى النار! (٢)

والزنا المراد هنا ليس بالمعنى الحقيقيّ ، بل بالمعنى التنزيليّ من ناحية العقاب ، وهذه التعابير شائعة في الفقه الإسلاميّ. قال السيّد كاظم اليزدي طالب ثراه في «العروة الوثقى» : من أُطلق عليه الشهيد في الأخبار من : المطعون والمبطون ، والغريق والمهدوم عليه ، ومن ماتت في الطَّلق ، والمدافع عن أهله وماله ، لا يجري عليه حكم الشهيد ، إذ المراد التنزيل في الثواب (٣).

وورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال : الحَجَرُ الغَصيب في الدار رهنٌ على خرابها (٤) ، وورد : لو أن الجنّة وهي دار البقاء أُسست على حجر من الظلم لأُوشِك أن تخرب.

وقال الإمام الباقر عليه السلام : لمّا حضَرَ عليَّ بن الحسين عليهما السلام الوفاةُ ضمّني إلى صدره ثمّ قال : يا بُنيّ ، أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضَرَته الوفاة ، وبما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٢ ـ نفسه : ٢٨٣.

٣ ـ العروة الوثقى ١ : ١٥٧ / المسألة ٩.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٤٠.


ذكر أنّ أباه عليه السلام أوصاه به ، قال : يا بُني ، إيّاك وظُلمَ مَن لا يَجِدُ عليك ناصراً إلّا الله (١).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يَكبُرنَّ عليك ظلمُ مَن ظلمك ، فإنّه يسعى في مضرّته ونفعك. وليس جزاءُ مَن سَرّك أن تسوءه (٢). من سَلَّ سيف ال عدوان قُتل به (٣). من حفر لأخيه «المؤمن» بئراً وقع فيها. ومن هتك حجاب غيره ، انكشَفَت عورات بيته (٤). بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد (٥).

وقال الصادق عليه السلام : لا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها ، فإنّك كما تَدين تُدان (٦).

ومن أعظم المحرّمات والمظالم إهانة المؤمن وازدراؤه وإيذاؤه ، فقد ورد في الحديث القدسيّ : يا محمّد ، مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي (٧).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ : أين الصَّدودُ لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم! (٨)

وعنه أيضاً عليه السلام : مَن أعان على مؤمن بِشَطرِ كلمةٍ لقيَ اللهَ عزّ وجلّ يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيسٌ من رحمتي! (٩)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٥ ، الأمالي للصدوق : ١٥٤ / ح ١٠ ـ المجلس ٣٤.

٢ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٣١.

٣ ـ غرر الحكم : ٢٧٩ ، تحف العقول : ٩٣.

٤ ـ تحف العقول : ٩٣ ـ عنه : بحار الأنوار ٧٤ : ٢٨٢ / ح ١.

٥ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢١.

٦ ـ الأمالي للصدوق : ٣٤٢ / ح ١٠ المجلس ٦٥.

٧ ـ تفسير الثعالبيّ ٨ : ٣١٨.

٨ ـ الكافي ٢ : ٣٥١ / ح ٢.

٩ ـ نفسه ٢ : ٣٦٨ / ح ٣ ، المحاسن : ١٠٣ / ح ٨٠ ، وفيه : مَن أعان على مسلم بشطرٍ كلمةٍ كُتب بين عينَيه يومَ القيامة : آئِسٌ مِن رحمة الله.


وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن نظر إلى مؤمنٍ نظرةً لِيُخيفَه بها أخافه الله عزّ وجلّ يوم لا ظلّ إلّا ظله (١). وقال صلى الله عليه وآله : ألا ومَن لطم خدّ مسلم أو وجهه بدّد اللهُ عظامه يوم القيامة وحُشِر مغلولاً حتّى يدخل جهنّم (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : يقول الله : اشتدّ غضبي على مَن ظلم مَن لا يجد ناصراً غيري (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : والله لَأَن أَبِيتَ على حَسَكِ السَّعْدان مُسَهَّداً ، أو أُجرُّ في الأغلال مُصَفَّداً ، أحَبُّ إليّ مِن أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصباً لشيء من الحطام ، وكيف أظلم أحداً لنَفْسٍ يُسرع إلى البِلى قُفولُها ، ويطول في الثَّرى حُلولُها؟! (٤)

وقال عليه السلام : يومُ المظلوم على الظالم أشدُّ من يوم الظالم على المظلوم (٥).

عقاب معين الظلمة

دخل رجل من كتّاب بني أميّة على الإمام الصادق عليه السلام فقال : جُعلت فداك ، إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً ، وأغمضت في مطالبه ، فقال عليه السلام : لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لَما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم ، فقال الفتى : جُعلت فداك ، فهل لي من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٦٧ / ح ١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٣٤٩ / ح ١ ـ المجلس ٦٦ ، ثواب الأعمال : ٢٨٤ ، وفيه : ومَن لطم خدَّ مسلم بَرّد الله عظامه يوم القيامة ، ثمّ سلّط الله عليه النار وحُشِر مغلولاً حتّى يدخل النار!

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٤٠٥ / ح ٥٦ ، مجمع الزوائد ٤ : ٢٠٦.

٤ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٤.

٥ ـ نفسه : الحكمة ٢٤١ ، روضة الواعظين : ٤٦٦.


مخرج منه؟

فقال عليه السلام : إن قلتُ لك تفعل؟ قال : أفعل. قال عليه السلام : فاخرج من جميع ما اكتسبتَ من ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددتَ عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله عزّ وجلّ الجنّة. فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثمَّ قال له : قد فعلتُ جُعلت فداك. ثمَّ رجع الفتى إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه ، حتّى ثيابه التي كانت على بدنه (١).

قال أبو بصير يوماً للإمام الصادق عليه السلام : أصلحك الله ، إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيقُ أو الشدّة فيُدعى إلى البناء فيبنيه ، أو النهر يكريه ، أو المسنّاة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟

فقال عليه السلام : ما أُحبُّ أنّي عقدتُ لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاءً وأنّ لي ما بين لابتَيها (٢) ، ولا مَدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سُرادقٍ من نار حتّى يحكم الله بين العباد (٣).

وورد في الحديث النبويّ الشريف : مَن أعان ظالماً سلّطه الله عليه (٤).

ولقد لمسنا بالتجربة والمعايشة تطبيق هذا الحديث على آلاف الأفراد الذين شايعوا الباطل ونصروه ، وأعانوا الظلمة ، رأينا كيف انتقم الظالمون من مُعينيهم ، فخسروا الدنيا والآخرة.

قال أحد الخيّاطين لأحد الصالحين : إنّي أَخيط للسلطان ثيابه ، فهل تراني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ١٠٦ / ح ٤ ـ باب عمل السلطان وجوائزهم.

٢ ـ لابتيها : أي المشرق والمغرب من الدنيا.

٣ ـ الكافي ٥ : ١٠٧ / ح ٧.

٤ ـ الخرائج والجرائح ٣ : ١٠٥٨.


داخلاً في أعوان الظلمة؟ فأجابه بأنّ الداخل في أعوان الظلمة من يبيعك الإبرة والخيوط ، وأمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم! (١)

ونقول تعليقاً على هذا : إنّ النفوس الكبيرة لها أحكامها الخاصّة.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا رأيتم أهل الريب والبدع مِن بعدي فأظهِروا البراءة منهم ، وأكثروا مِن سبّهم والقول فيهم والوقيعةَ وباهِتُوهم ، كي لا يَطمَعوا في الفساد في الإسلام ، ويَحذرَهم الناس ولا يتعلّموا من بِدعِهم (٢).

ومن شرّ مصاديق معونة الظالمين السعاية بالمؤمن ، التي ابتلي بها الآلاف من المؤلّفة قلوبهم ومن مرضى القلوب والمنافقين ، قال صلى الله عليه وآله : شرّ الناس المثلّث ، قيل : يا رسول الله وما المثلّث؟ قال صلى الله عليه وآله : الذي يسعى بأخيه إلى السلطان ، فيُهلِك نفسه ، ويهلك أخاه ، ويهلك السلطان! (٣)

ولو قام المجتمع والمشرفون عليه ، والقائمون على تنفيذ القانون بإقامة الحدود والقصاص لَما بلغت الجرأة بالمجرمين إلى الحدّ الذي بلغت.

قال الله سبحانه وتعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٤) ، وقال الإمام عليّ عليه السلام : مَن خاف القِصاص كَفَّ عن ظُلم الناس (٥).

شدّة حساب الأمراء والسلاطين

لقد شدّد الإسلام على الأمراء والسلاطين وأصحاب المناصب ، فأمرهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب المكاسب للشيخ الأنصاريّ ١ : ١٣٥.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٧٥ / ح ٤ ـ باب مجالسة أهل المعاصي.

٣ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ٢٦٦ / ح ١٦ ـ عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٤ ـ البقرة : ١٧٩.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٦.


بالعدل ومجانبة الظلم ؛ لأنّ السلطان يُطغى ، ونشوة التسلّط تُنسي الإنسان آخرته وقيمه وأخلاقه أحياناً كثيرة.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يُؤمَّر رجلٌ على عشرة فما فوقهم إلّا جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه ، فإن كان محسناً فُكّ عنه غلُّه ، وإن كان مسيئاً زِيدَ غُلّاً إلى غُلِّه (١).

وقال صلى الله عليه وآله : ومن ولّي سبعةً من المسلمين فلم يعدل فيهم ولم يستنَّ بسنّتي لقي الله وهو غضبان (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : ومَن تولّى عَرافةَ يوم ولم يُحسِن فيهم حُبِس على شفير جهنّم بكلّ يوم ألفَ سنة ، وإن كان ظالماً لما هوى به في نار جهنّم سبعين خريفاً (٣).

وعن الإمام الكاظم عليه السلام : ما ذئبان ضاريان في غنمٍ قد تفرّق رِعاؤهما بأضرَّ في دِين المسلم من الرئاسة (٤) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : من طلب الرياسة هلك ، وقال عليه السلام : يا أبا حمزة إيّاك والرياسة (٥).

وعنه عليه السلام : إيّاكم وهؤلاءِ الرؤساءَ الذين يترأّسون ، فَوَاللهِ ما خفَقَت النِّعالُ خلف الرجل إلّا هلك وأهلك (٦).

وقال هشام بن عبد الملك لطاووس اليمانيّ : عِظني ، فقال طاووس : إنّ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٢٦٤ / ح ٤٨٥.

٢ ـ نَفَس الرحمان في فضائل سلمان : ٤٦٤.

٣ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨٨.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٩٧ / ح ١.

٥ ـ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٦ / ح ٣٣٣٨٧ يرويه عن : كتاب معاني الأخبار ، وحكاه العلّامة المجلسيّ في بحار الأنوار ٧٠ : ١٥٠ / ح ٤ ، عن الكافي ٢ : ٢٩٧.

٦ ـ الكافي ٢ : ٢٩٧ / ح ٣.


جهنّم حيّاتٍ كالتلال ، وعقاربَ كالبغال ، تلدغ كلّ أمير لا يعدل في رعيّته (١).

وقال الصادق عليه السلام : ملعون من تَرأّس ، ملعون مَن هَمَّ بها ، ملعون من حدّث نفسه بها (٢).

وقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام أتباعَهم من التقرّب من سلاطين الجور ، ونهى العلماء والفقهاء عن الركون إليهم لما يشكّل ذلك من خطورة على الدين وعلى المسلمين ، لأنّ وعّاظ السلاطين يكونون السلاحَ الفتّاك بأيدي أئمّة الجور لإضلال الرعيّة وتخديرهم.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما قَرُب عبد من سلطان إلّا تباعَدَ من الله تعالى ، وما كَثُر ماله إلّا اشتَدَّ حسابه ، ولا كثر تَبِعُه إلّا كثر شياطينه (٣).

وعن الإمام عليّ عليه السلام ورد قوله : ثلاث مَن حَفِظهنّ كان معصوماً من الشيطان الرجيم ومن كلّ بليّة : من لم يَخْلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً ، ولم يدخل على سلطان ، ولم يُعِنْ صاحب بدعة بِبِدعِه (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن نكث بيعةً ، أو رفع لواء ضلالة ، أو كتم علماً ، أو اعتقل مالاً ظلماً ، أو أعان ظالماً على ظلمه وهو يعلم أنّه ظالم فقد بَرِئ من الإسلام (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ شرَّ البقاع دور الأمراء الذين لا يَقْضُون بالحقّ (٦).

وقال صلى الله عليه وآله : إيّاكم وأبوابَ السلطان وحواشيها ، أبعدكم من الله تعالى من آثر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ٢ : ٥١٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٩٨ / ح ٤.

٣ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ٤.

٤ ـ نفسه : ١٤ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٣.

٥ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ١٧ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٤.

٦ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٦ / ح ٣٢٢٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢١٩ / ح ٣.


سلطاناً على الله تعالى ، جعل المِيتةَ في قلبه الإثم ظاهرةً وباطنة (١).

ولقد كان أمير المؤمنين عليه السلام الأسوة والمثال الأكمل والأنصع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله للحاكم الإسلاميّ الذي يجسّد الإسلام شكلاً ومضموناً ، جسداً وروحاً ، ولم تكن الخلافة لتشكّل عنده أيّة أهمّية غير إصابة مرضاة الله سبحانه.

قال عبد الله بن العبّاس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال عليه السلام : واللهِ لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أُقيمَ حقّاً أو أدفع باطلاً (٢).

إذن مهمّة الإمام والسلطان إقامة العدل وإرساء قواعد الحقّ ودفع الباطل ، وإعزاز الضعيف ، والضرب على يد القويّ ، ثمّ يرسم لنا عليه السلام الصورة المثاليّة المشرقة للحاكم الإسلاميّ بقوله : وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيلُ ، فتكون في أموالهم نَهْمتُه ، ولا الجاهلُ فيُضلَّهم بجهله ، ولا الجافي فيقطعَهم بجفائه ، ولا الحائفُ للدُّوَل فيتّخذَ قوماً دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهبَ بالحقوق ويقفَ بها دون المقاطع ، ولا المُعَطِّلُ للسُّنّة فيُهلِكَ الأُمّة (٣).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : مَن أرضى سلطاناً بسَخَطِ الله خرج من دين الله (٤).

وقال عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ : أين الظَّلَمةُ وأعوانهم؟ مَن لاطَ لهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ١٩ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٥.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٣٣.

٣ ـ نفسه : الخطبة ١٣١.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٧٣ / ح ٥.


دواةً ، وربط لهم كيساً ، أومَدَّ لهم مدّةَ قلم (١) ، فاحشروهم معهم (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : أفضل التابعين من أُمّتي من لا يقرب أبواب السلطان (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ، قيل : يا رسول الله ، وما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتِّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذَرُوهم على دِينِكم (٤).

نرجو من القارئ العزيز الرجوع إلى «نهج البلاغة» ليرى كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام الرجلَ الصادق الذي يترجم عظمة الإسلام ، والقمّة الشامخة والاُسوة الحسنة لكلّ ذي سلطان ، وأرجو قراءة عهده الميمون إلى عامله مالك الأشتر حين ولّاه مصر ، وقد شرح هذا السفر الخالد الأستاذ توفيق الفكيكيّ النجفيّ المحامي رحمه الله ، فإنّك ستجد العجب العجاب في عظمة هذا العهد العلويّ وشموليّته.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام باعتباره القدوة العليا للحاكم الإسلاميّ قوله : إنّ الله جعلني إماماً لخلقه ، ففرض عَليَّ التقديرَ في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضُعفاءِ الناس ، كي يقتديَ الفقير بفقري ، ولا يُطغيَ الغنيَّ غِناه (٥).

وقال عاصم بن زياد لعليّ عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، فَعَلامَ اقتصرتَ في مطعمك على الجُشُوبة ، وفي ملبسك على الخُشونة؟ فقال عليه السلام : وَيْحك ، إنّ الله عزّ وجلّ فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بِضَعَفة الناس ؛ كي لا يَتَبَيَّغَ بالفقير فَقْرُه (٦). ويتبيغ : يهيج ، يثور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المَدّة : استمدادك من الدواة مدَّةً واحدة. [ترتيب جمهرة اللغة ٣ : ٣٢٤ «مدد»].

٢ ـ ثواب الأعمال : ٢٦٠.

٣ ـ النوادر للراوندي : ١٥٩ ، بحار الأنوار ٧٢ : ٣٨٠ / ح ٤١.

٤ ـ الكافي ١ : ٤٦ / ح ٥.

٥ ـ نفسه ١ : ٤١٠ / ح ١.

٦ ـ نفسه ١ : ٤١١ / ح ٣.


وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : السلطان ظلّ الله في الأرض ، يأوي إليه كلُّ مظلوم ، فإن عدل كان له الأجر ، وعلى الرعيّة الشكر ، ومن جار كان عليه الوِزْر ، وعلى الرعيّة الصبر ، حتّى يأتيهم الأمر (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٦٣٤ ح ١٣٠٧.


المبحث الخامس والثلاثون : في الذكر

قال عليه السلام : حُجَّتي يا اَللهُ في جُرْأَتي عَلى مَسْأَلَتِكَ ، مَعَ اِتْياني ما تَكْرَهُ ، جُودُكَ وَكَرَمُكَ ، وَعُدَّتي في شِدَّتي مَعَ قِلَّةِ حَيائي رَأفَتُكَ وَرَحْمَتُكَ ، وَقَدْ رَجَوْتُ اَنْ لا تَخيبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتي ، فَحَقِّقْ رَجائي ، وَاَسْمِعُ دُعائي يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع ، وَاَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راجٍ.

ذا : اسم إشارة للقريب مثل «هذا» ، مُثنّاه في حالة الرفع ذان مثل «هذان» ، وفي حالتي النصب والجرّ نقول : ذَينِ مثل «هذَينِ».

يتوسّل الإمام عليه السلام إلى ربّه بجوده وكرمه عند تجرّئه على طرق بابه الواسع ، رغم التقصيرات والمخالفات التي ينسبها إلى نفسه المقدّسة ـ حاشاه ممّا يتوهّمه المتوهّمون ـ ويجعل عليه السلام من رأفة الله ورحمته عُدّته في الشدّة رغم ما يكون من العبد مع الله المطّلع على خفايا النفس وأعمال الجوارح.

فهنالك «جود وكرم» من طرف الله ، يقابلها «معاصٍ وذنوب» من طرف العبد ، وهناك «رأفة ورحمة» من طرف الله ، يقابلها «قلّة حياء» من طرف العبد ، والرجاء أن لا تَخيبَ بينَ هذين وهذين أمنيّتُه التي هي الوصول إلى مرضاة الله ، وتحقيق ما يرجوه ، وسماع دعائه فيما يسأل.


والنعم المتواصلة التي لا تُعدّ ولا تُحصى قد تبعث الغفلة في النفس ، وهذه من الصفات المذمومة التي قد تقود إلى سلوكيّات سلبيّة لا تتفق مع روح الدين ، وتتنافى مع صفات المؤمنين ، والمفروض أنّ هذه النعم والمواهب تقود إلى الذِّكر والشكر لا إلى الغفلة والنسيان.

في الذِّكر

إنَّ الله سبحانه منَّ على عباده بإنزال الشرائع وإرسال الرسل لبناء الأمّة التي لها حقّ القوامة على البشريّة ، الأمّة التي لها مؤهّلات الأفضليّة على غيرها بالقيم والفضائل ومكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ) (١).

وهذا أوّل ذكره لنا سبحانه ، والذكر قد يكون لفظيّاً وقد يكون قلبيّاً.

واللفظيّ منه أحد مراتب الذكر القلبيّ ومنبعث عنه ، أمّا الذكر القلبيّ فهو الذي وصفه الله سبحانه حيث قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢).

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (٣).

وقال الله سبحانه وتعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (٤).

والارتقاء إلى مراتب الذاكرين يحتاج إلى تربية خاصّة ، ومجاهدة نفسيّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ١١٠.

٢ ـ الرعد : ٢٨ ـ ٢٩.

٣ ـ الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢.

٤ ـ البقرة : ١٥٢.


وترويض روحي جادّ ، وللذكر آثار وضعيّة إيجابيّة على حياة الإنسان ومقامه عند الله سبحانه.

روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله خرج على أصحابه فقال : إرتعوا في رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنّة؟ قال صلى الله عليه وآله : مجالس الذِّكْر ، أُغدوا وروِّحوا واذكروا ، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فَلْينظُرْ كيف منزلة الله عنده ، فإنّ الله تعالى يُنزِلُ العبدَ حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه. واعلموا أنّ خير أعمالكم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخيرَ ما طلعت عليه الشمس ذكرُ الله سبحانه ، فإنّه أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس مَن ذَكَرني ، وقال سبحانه : فاذْكُروني أذكُرْكم بنعمتي ، واذكروني بالطاعة والعبادة أذكرْكم بالنعم والإحسان ، والرحمة والرضوان (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : مَن شُغل بذِكْري عن مسألتي ، أعطيتُه أفضلَ ما أُعطيَ مَن سألني (٢).

وقال عليه السلام أيضاً للحسين البزّاز : ألا أحدّثك بأشدّ ما فرض الله عزّ وجلّ على خلقه؟ قلت : بلى ، قال : إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك لأخيك ، وذِكرُ الله في كلّ موطن ، أما إنّي لا أقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، لكنّ ذِكر الله في كلّ موطن إذا هَجَمْتَ على طاعته أو معصيته (٣).

وفي الحديث القدسيّ : ابنَ آدم ، أُذكرني في نفسك أذكرْك في نفسي. ابنَ آدم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨ / الحديث السابع عشر ـ من الباب الخامس : فيما اُلحق بالدعاء وهو الذّكْر.

٢ ـ المحاسن : ٣٩ / ح ٤٣.

٣ ـ معاني الأخبار : ١٩٣ / ح ٣.


أُذكرني في خلاء أذكرْك في خلاء. ابنَ آدم أُذكرني في ملاء أذكرْك في ملاءٍ خيرٍ من ملائك (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : ما مِن عبدٍ يذكر الله في ملاءٍ من الناس إلّا ذكره الله في ملاءٍ من الملائكة (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام : تفكّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة (٣).

وقال الله سبحانه في الحديث القدسيّ : يا موسى ، أُذكرني على كلّ حال (٤) ، يا موسى ، إنّ ذِكْري حَسَنٌ على كلّ حال (٥). يا موسى ، لا تَنسَني على كلِّ حال ، فإنّ نسياني يميت القلب (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : ادفعوا البلايا بالاستغفار ، الصاعقةُ لا تصيب ذاكراً ، وليس يُصاد من الطير إلّا ما ضَيّع تسبيحَه (٧).

وورد في الأثر المعتبر أنّ في الجنّة قيعاناً واسعة ، فإذا اشتغل العبد بذكر الله اشتغلت الملائكة بغرس الأشجار له فيها ، وإذا سكت أمسكوا ، فيقال لهم : لِمَ أمسكتم؟ يقولون : إنّ صاحبها سكت ، ومصالحنا ذِكرُه (٨).

وورد أيضاً عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ، ويُذكَر الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٣٩ / ح ٤٤.

٢ ـ نفسه : ٣٩ / ح ٤٤.

٣ ـ بحار الأنوار ٦٨ : ٣٢٧ / ح ٢٢ ـ عن : تفسير العيّاشي ٢ : ٢٠٨ / ح ٢٦.

٤ ـ التوحيد للصدوق : ١٨٢ ح ١٧.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٩٧ / ح ٨.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٩٨ / ح ١١.

٧ ـ المحاسن : ٢٩٤ / ح ٤٥٨.

٨ ـ وسائل الشيعة نقله بالمضمون ٧ : ١٥٢ ح ٨٩٧٨ وجاء في كتاب عدّة الداعي : ٢٣٨.


عزّ وجلّ فيه ، تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويُضيء لأهل السماء كما تُضيء الكواكب الدريّة لأهل الأرض (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يقعد قوم يذكرون الله إلّا حفّتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله قال : مَن أكثر ذِكرَ الله عزّ وجلّ أحبّه الله ، ومَن ذكر الله كثيراً كُتِبت له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فَلْيُكثرْ ذِكرَ الله (٤).

وورد في الحديث القدسيّ : يا موسى أنا جليسُ مَن ذكرني ، فقال موسى عليه السلام : يا ربّ ، فمَن في سترك يوم لا سترَ إلّا سترك؟ قال تعالى : الذين يذكرونني فأذكرهم ، ويتحابّون فِيَّ فأُحبُّهم ، فأولئك الذين إن أردتُ أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتُهم فدفعت عنهم بهم (٥). وقال موسى عليه السلام : إلهي فما جزاءُ مَن ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال تعالى : يا موسى ، أُظلّه يوم القيامة بظلّ عرشي وأجعلُه في كَنَفي (٦).

وسأل رجل النبيّ صلى الله عليه وآله قائلاً : ما أحبُّ الأعمال إلى الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : أن تموت ولسانك رَطِبٌ من ذكر الله (٧).

وعنه صلى الله عليه وآله : أنّ الملائكة يمرّون على مجالس الذكر فيقفون على رؤوسهم ويبكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦١٠ / ح ٣.

٢ ـ صحيح مسلم ٨ : ٧٢ ـ باب استحباب الاستغفار.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٠٠ / ح ٣.

٤ ـ مجمع الزوائد للهيثميّ ١٠ : ٧٥.

٥ ـ عدّة الداعي : ٢٣٥.

٦ ـ الأمالي للصدوق : ١٧٣ / ح ٨ ـ المجلس ٣٧.

٧ ـ صحيح ابن حِبّان ٣ : ١٠٠.


لبكائهم ويؤمّنون على دعائهم ، وإذا صعدوا إلى السماء ، يقول الله تعالى : ملائكتي أين كنتم؟ وهو أعلم بهم ، فيقولون : ربّنا أنت أعلم ، كنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر ، فرأيناهم يسبّحونك ، ويقدّسونك ، ويستغفرونك ، ويخافون نارك ، ويرجون ثوابك.

فيقول سبحانه : أُشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم ، وآمنتهم من ناري ، وأوجبتُ لهم جنّتي ، فيقولون : ربّنا ، تعلم أنّ فيهم من لم يذكرك ، فيقول سبحانه : قد غفرتُ له بمجالسة أهل ذكري ، فإنّ الذاكرين لا يشقى بهم جليسُهم (١).

وورد في الأثر : ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى منادٍ من السماء : قوموا فقد بَدّلتُ سيّئاتِكم حسنات (٢).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : مكتوب في التوراة التي لم تُغيَّر أنَّ موسى عليه السلام سأل ربّه : يا ربّ ، أقريبٌ أنت منّي فأناجيك ، أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا موسى ، إنا جليسُ مَن ذكرني (٣).

وفي رواية أنّ موسى بن عمران عليه السلام قال : أين أجِدُك يا ربّ؟ فأوحى الله إليه : تجدني عند القبور المندرسة ، والقلوب المنكسرة ، أي الخالية من العُجب والكِبْر والغرور.

وورد في الحديث القدسيّ : إنّي أحبّ القلوب المنكسرة والقبور المندرسة.

وكثرة الذكر الواعي الصادق دليل على رسوخ الحبّ الإلهيّ في قلب العبد ، قال تعالى : يا موسى مَن أحبّني لم يَنْسَني (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع أحاديث الشيعة ١٥ : ٤٥٨ ح ١٤٨١ نقله عن إرشاد القلوب.

٢ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨ / الحديث السادس عشر ـ الباب الخامس.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٩٦ / ح ٤.

٤ ـ عدّة الداعي : ١٨٩.


وأئمّة أهل البيت الكرام عليهم السلام هم المثل الأعلى في ذكر الله تعالى ، في سلوكهم وتربيتهم لأولادهم وأتباعهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام : كان أبي عليه السلام كثيرَ الذِّكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه لَيذكر الله ، ولقد كان يحدِّث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله ، وكنت أرى لسانه لاصقاً بِحَنكه يقول : لا إله إلّا الله ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام مُصوِّراً المرتبة الأسمى من مراتب الذاكرين : ما رأيتُ شيئاً إلّا رأيت الله قَبلَه ومَعَه (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : ما مِن طيرٍ يُصاد إلّا بتركه التسبيح ، وما من مال يُصاب إلّا بترك الزكاة (٣).

ومن أفضل مصاديق مجالس الذكر المجلس الذي يُذكر فيه أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم وفضائلهم ومناقبهم وأحزانهم وأحكامهم وآدابهم ، وما لاقَوه في سبيل الاله دفاعاً عن هذا الدين وهذه الأمّة.

قال الإمام الصادق عليه السلام : ما اجتمع في مجلس قومٌ لم يذكروا الله عزّ وجلّ ، ولم يذكرونا إلّا كان ذلك المجلسُ حسرةً عليهم يوم القيامة (٤).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : إنّ ذِكرَنا مِن ذِكرِ الله ، وذكرُ عدوّنا من ذكر الشيطان (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٩٩ / ح ١.

٢ ـ شرح أصول الكافي للمازندراني ٣ : ٨٣.

٣ ـ الكافي ٣ : ٥٠٥ / ح ١٨.

٤ ـ نفسه ٢ : ٤٩٦ / ح ٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٩٦ / ح ٢.


وقد حذّرنا أئمّة الهدى من الانشداد إلى الدنيا وزخارفها ، وأسباب البقاء ، واتّباع الشهوات ، فإنّ ذلك كلّه ينسي الآخرة ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام : يا موسى ، لا تفرح بكثرة المال ، ولا تَدَعْ ذكري على كلّ حال ، فإنّ كثرة المال تنسي الذنوب ، وإنّ ترك ذكري يقسّي القلوب (١).

يا موسى ، أكثر ذِكْري بالليل والنهار ، وكن عند ذكري خاشعاً ، وعند بلائي صابراً ، واطمئنَّ عند ذكري ، واعبدني ولا تشرك بي شيئاً ، إليَّ المصير. يا موسى اجعَلْني ذخرك ، وضَعْ عندي كنزك من الباقيات الصالحات (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن أُعطيَ لساناً ذاكراً ، فقد أُعطيَ خير الدنيا والآخرة (٣). وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الصاعقة تصيب المؤمنَ والكافر ، ولا تصيب ذاكراً (٤).

وعن محمّد بن حمران عن الصادق عليه السلام قال : عَجِبتُ لمَن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع : عجبتُ لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله : (حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (٥) ، وعجبتُ لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله : (لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٦) ، وعجبتُ لمن مُكِرَ به كيف لا يفزع إلى قوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (فَوَقَاهُ اللَّـهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٤٩٧ / ح ٧.

٢ ـ نفسه ٢ : ٤٩٧ / ح ٩.

٣ ـ نفسه ٢ : ٤٩٩ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ٥٤٤ / ح ١٥١٨.

٥ ـ آل عمران : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٦ ـ الأنبياء : ٨٧ ـ ٨٨.


سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) (١) ، وعَجِبتُ لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله : (مَا شَاءَ اللَّـهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ) (٢) ، وعسى واجبة (٣).

والذكر يتجسّم في الآخرة : إمّا على نحو الحقيقة ، وإمّا على نحو المجاز ، فيكون مشاهدَ أخروية خلّابة ، ونعماً وفيوضاتٍ ومواهبَ ورحمات ، تأنس لها النفوس ، وتستقرّ لها الأرواح.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرةً في الجنة ، ومَن قال : لا إله إلّا الله ، غرس الله له بها شجرةً في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة فقال رجل من قريش : يا رسول الله ، إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها ، وذلك إنّ الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (٤) ، (٥).

وأختتم هذا المبحث بمناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام : إلهي لولا الواجبُ مِن قَبول أمرِك لَنزّهتُك عن ذِكْري إيّاك ، على أنّ ذِكْري لك بقَدْري لا بقَدْرك ، وما عسى أن يَبلُغَ مِقْداري حتّى أُجعلَ مَحَلّاً لتقديسك ، ومِن أعظمِ النِّعمِ علينا جَرَيانُ ذِكرِك على ألسنتِنا ، وإذْنُك لنا بِدُعائِك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٤٤ ـ ٤٥.

٢ ـ الكهف : ٣٩ ـ ٤٠.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ١٥ / ح ٢ ـ المجلس الثاني.

٤ ـ محمّد صلى الله عليه وآله : ٣٣.

٥ ـ الأمالي للصدوق : ٤٨٦ / ح ١٦ ، المجلس ٨٨.


وتنزيهِك وتسبيحِك.

إلهي فألهِمْنا ذِكرَكَ في الخَلاءِ والمَلاء ، والليلِ والنهار ، والإعلانِ والإسرار ، وفي السرّاءِ والضَّرّاء ، وآنِسْنا بالذِّكرِ الخَفيّ ، واستَعْمِلْنا بالعملِ الزكيّ ، والسَّعيِ المَرْضيِّ ، وجازِنا بالميزانِ الوَفيّ ، إلهي بك هامَتِ القلوبُ الوالهة ، وعلى معرفتِك جُمِعَت العقولُ المُتباينة ، فلا تَطمئنّ القلوبُ إلّا بِذِكرك ، ولا تَسْكنُ النفوسُ إلّا عند رُؤياك ، أنت المُسَبَّحُ في كلِّ مكان ، والمعبودُ في كلِّ زمان ، والموجودُ في كلِّ أوان ، والمَدْعوُّ بكلِّ لسان ، والمُعظَّمُ في كلِّ جَنان ، وأستَغفِرُك مِن كلِّ لذّةٍ بغيرٍ ذِكْرِك ، ومِن كلِّ راحةٍ بغيرِ أُنسك. ومن كلِّ سُرورٍ بِغَيرِ قُربِك ، ومِن كلِّ شُغْلٍ بغيرِ طاعتِك.

إلهي أنتَ قلتَ وقولُك الحقّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). وقلتَ وقولُك الحقّ : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، فأمرتَنا بذِكرِك ، ووَعَدتَنا عليهِ أن تَذْكُرَنا ؛ تَشريفاً لَنا وتفخيماً وإعظاماً ، وها نحنُ ذاكِرُوك كما أمَرْتَنا ، فأنْجِزْ لنا ما وَعدتَنا ، يا ذاكرَ الذاكرين ، ويا أرحمَ الراحمين (١).

نرجو من القارئ العزيز مراجعة موضوع «الذكر» في كتابنا الموسوم بـ «في ظلال دعاء كميل» للتوسّع (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّاديّة : ٤١٨ / الدعاء : ١٩٤.

٢ ـ في ظلال دعاء كميل : ١٧٣ ـ ١٩٧.


المبحث السادس والثلاثون : في الغرور

أوّل من وقع في هذا الفخّ الخطير وهو رائد المعصية ، وقائد الجهالة إبليس لعنة الله عليه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : فاعتَبِروا بما كان مِن فعل الله بإبليسَ إذْ أحبط عملَه الطويل وجَهدَه الجهيد ، وكان قد عَبَد اللهَ ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمن سِنِي الدنيا أم الآخرة ، عن كِبر ساعةٍ واحدة. فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على الله بِمِثل معصيته؟! كلّا (١). قال تبارك وتعالى : (٢) ، وقال سبحانه : (٣).

الغرور : هو جهل يخالطه حبّ الشهوات ، فيبعث الرضى عن النفس والسكون إلى ما يوافق الطبع. وضدّه الفطنة والعلم والزهد.

وأهل الغرور من المطايا السَّلِسة الانقياد للشيطان ، يوجّهها أنّى شاء.

والغرور من أمراض القلب المتأصّلة التي وصف الله سبحانه أهلها في محكم كتابه المبين قائلاً : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢.

٢ ـ الانفطار : ٦.

٣ ـ آل عمران : ١٩٦.


الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١).

إنّ المغرور السادر في غيّه ، السائر وفق أهوائه إلى هدف وهميّ ، لا يعلم أنّه كلّما سار ازداد بُعداً عن تلك الغاية.

روى أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ في كتاب «الاحتجاج» عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : قال عليّ بن الحسين عليهما السلام : إذا رأيتم الرجل قد حسن سَمْتُه وهَدْيُه ، وتماوَتَ في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرّنكم ، فما أكثرَ مَن يُعجزه تناولُ الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته (بنيته) ومهانته وجبن قلبه ، فنصَبَ الدينَ فَخّاً لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعفّ عن مال الحرام ، فرويداً لا يغرّنّكم ، فإنَّ شهوات الخَلْق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّنّكم حتّى تنظروا ما عقده عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثرَ ممّا يُصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغرّنّكم حتّى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبّته للرياسات الباطلة وزهده فيها؟ فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة ... ولكنّ الرجل كلّ الرجل ، نِعمَ الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤.


أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ... فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه تمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُرَدّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة (١).

وروي أنَّ أحدهم سرق رغيفين من الخبز ورمّانتين ، وتصدّق بها على فقير ، فسأله الإمام الصادق عليه السلام عن فعل ذلك ، فقال محتجّاً بقوله تعالى : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا) (٢) ، وقال : إنّي لمّا سرقتُ الرغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقتُ الرمّانتين كانت سيّئتين ، فهذه أربع سيّئات ، فلمّا تصدّقتُ بكلّ واحدة منهما كانت لي بها أربعين حسنة ، فانتقص من أربعين حسنة أربع بأربع سيّئات ، يبقى لي ستّ وثلاثون حسنة. قال الإمام الصادق عليه السلام : ثكلتك أمّك! أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) ، إنّك لمّا سرقتَ رغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقتَ رمّانتين كانت سيّئتين ، فلمّا دفعتَهما إلى غير صاحبَيهما بغير أمر صاحبَيهما كنتَ إنّما أضفتَ أربع سيّئات إلى أربع سيّئات ، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات (٤).

ويصوّر لنا الإمام الصادق عليه السلام هؤلاء المغرورين بأنّهم مساكين ، منغمسون في الجهل المركّب ، فهم يجهلون ولا يعلمون أنّهم جهلاء ، أعماهم حبّ الشهوات والاستجابة للنزوات ، فإذا كلّ أعمالهم سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً ، حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده فوفّاه حسابه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاحتجاج : ٣٢٠ ـ ٣٢١ احتجاجات الإمام السجّاد عليه السلام.

٢ ـ الأنعام : ١٦٠.

٣ ـ المائدة : ٢٧.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٥ ـ ٣٦ / ح ٤ ـ باب معنى الصراط.


قال عليه السلام : المغرور في الدنيا مسكين ، وفي الآخرة مغبون ، لأنّه باع الأفضل بالأدنى ، ولا تعجب من نفسك ، فربّما اغتررت بمالك وصحّة جسدك أن لعلّك تبقى ، وربّما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم ، وربّما اغتررت بجمالك ومُنْيتِك وإصابتِك مأمولك وهواك ، فظننتَ أنّك صادق ومصيب ، وربّما اغتررت بما ترى من الندم على تقصيرك في العبادة ، ولعلّ الله يعلم من قلبك بخلاف ذلك ، وربّما أقمت نفسك على العبادة متكلّفاً والله يريد الإخلاص ، وربّما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مُضمَرات ما في غيب الله تعالى ، وربّما توهَّمت أنّك تدعو الله وأنت تدعو سواه ، وربّما حسبت أنّك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك ، وربّما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة (١).

ولقد رأينا كيف غدرت الدنيا بأبنائها الذين تعلّقوا بكلّ أسباب البقاء بعيداً عن الله ، فهذا فرعون لم يدفع الموتَ عنه جنودُه ، فأخذه الله أخذةً رابية ، وذلك قارون لم ينفعه جمعُه حين خسف الله به الأرض ، وحين حضرت الوفاةُ عمرَو بن العاص نظر إلى مائة صندوق مملوءِ ذهباً فقال : ليتها كانت بعراً ، فمن يأخذها وليتني كنت أبرأ فمن يأخذها وليتني كنت أبرأ! بأيّ وجهٍ ألقى الله ، وقد قاتلتُ عليّ بن أبي طالب ، وأنا أعلم أنّي له ظالم؟! وتسير عجلة الزمان ويطلّ على مسرح الحياة ألفق ألف فرعون ، وألف ألف قارون ، ولكن ما أكثر العبر وأقلّ المعتبرين.

ولقد ابتدأت حياة بني آدم حين نفخ الله من روحه في جسد آدم ، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، فكان الغرور أوّل خطيئة ارتكبها إبليس ، إذ قاده غروره بعبادته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح الشريعة : ١٤٢ الباب السابع والستون.


للاعتقاد أنّه خير من آدم ، فكيف يسجد الفاضل للمفضول ، والراجح للمرجوح؟

قال الله تعالى في هذه الواقعة الخطيرة التي تمثّل مفترق طرق كثيرة متشعّبة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) (١).

لقد قاده غروره إلى أن يبني نتائجه على مقدّمات فاسدة ، ففرض لنفسه الأفضليّة ، لأنّ النار خير من الطين ، ولا علم لنا بأنّ النار أفضل ، بل ربّما أنّ الطين هو الأفضل. وبنى على ذلك التصوّر الفاسد أنّ ذلك السجود لآدم عليه السلام لا للأمر الإلهيّ ، ولا ندري كيف فاته أنّ الملائكة المقرّبين ـ بمن فيهم جبرئيل وميكائيل ـ قد سجدوا جميعاً ، فهل كانوا كلّهم مخطئين ، وهو وحده المصيب؟!

ثمّ جاء الشيطان إلى أوليائه ليصدَّهم عن سبيل الله انتقاماً من أبيهم آدم عليه السلام وذرّيته ليقول لهم : إنّ الدنيا وملذّاتها حاضرة ، وهي بين أيديكم على نحو اليقين ، فكيف تتركونها من أجل نعيم موعود غير مضمون ، إذ ربّما لا تنالونه بالعمل. ولو نظر هؤلاء المغرورون إلى الأمور بعين البصيرة والنقد البنّاء والفكر الصائب لعلموا أنّ اليقين الحقيقيّ لا يتعدّى الآخرة ، وأنّ البقاء والدوام وارتفاع الآلام والمنغّصات لا يكون إلّا عندما يفد الإنسان على ربّه ويفوز برضاه.

وهؤلاء قد يتصوّرون أنّ الله تعالى أكرمهم وخصَّهم بالنعم الوفيرة لمكانتهم عنده وكرامتهم عليه ، وحرم غيرهم منها لخسّتهم وحقارتهم ، وهذا من التخيّلات والتصوّرات الفاسدة. ولم أجد فيما أعلم أبلغ وأروع من خطبة السيّدة زينب عليها السلام بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مجلس يزيد حين خاطبته بقولها : أظننتَ يا يزيدُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١١.


حيثُ أخذتَ علينا أقطارَ وآفاقَ السماء ، فأصبَحْنا لك نُساق كما تُساق الاُسارى ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده ، فشمختَ بأنفك ، ونظرت في عِطفك ، جَذِلاً مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مُسْتَوسِقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، [لا تَطِشْ جهلاً] ، أنَسِيتَ قول الله تعالى : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (١).

ونعم ما قال القائل : وكأنّها عليه السلام تُفرغُ عن لسان أبيها أمير المؤمنين عليه السلام (٢).

لقد كان معظم أولياء الله من الفقراء والمعدمين ، وكذلك أتباع الرسل ، لم يذوقوا من الدنيا غير مرارتها وابتلاءاتها وآلامها ، وكانوا يقولون : مرحباً بشعار الصالحين ودثار المتّقين.

وربّما بلغ الغرور إلى نفوس أهل العلم والفقاهة ، فقد نجد في هذا الميدان الشريف من يطلب العلم للجدل والمراء ، والتفاخر والتعالي ، والادّعاءات الباطلة والرياسات المزيّفة ، بعيداً عن قصد القربة ، وعن الأخلاق الفاضلة والملكات الأصيلة اللائقة بسيماء العلماء.

وربّما يتركّز الغرور عند بعض الأغنياء وأرباب الأموال فيأملون الغوز عند الله ببناء مسجد ، أو إكساء فقير ، أو إطعام جائع ، لكنّ بعضهم إذا هجم على موارد الحرام والشبهة ، لا يبالي من أيّ جانب اغترف.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : ينبغي للعاقل أن يحترس من : سُكْر المال ، وسكر العلم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ اللهوف : ١٠٥ ، بحار الأنوار ٤٥ : ١٣٣ ، وجاء في كتاب الاحتجاج : ٣٠٨ ، والآية في سورة آل عمران : ١٧٨.

٢ ـ مثير الأحزان لابن نما الحليّ : ٦٦ ، الدرّ النظيم : ٥٦٠.


وسكر القدرة ، وسكر المدح ، وسكر الشباب ، فإنّ لكل واحدٍ مِن ذلك رياحاً خبيثةً ، تسلب العقل وتستخفّ الوَقار (١).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : السكر أربعة سكرات : سُكر الشَّراب ، وسكر المال ، وسُكر النوم ، وسُكر المُلك (٢).

وصدق الله القائل : (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) (٣).

ومن أخطر تصرّفات هؤلاء هو التفافهم حول الشخصيّات المعروفة وأئمّة المساجد ، وضيافتهم لهم على موائدهم ، وإكرامهم والإغداق عليهم بالهدايا والعطايا ، ليحسّنوا صورهم أمام المجتمع ، وربما طمعوا في انقياد العلماء لهم وتوجيههم في مصالحهم وتحقيق مآربهم واستعمالهم براقع يغطّون بها سوءاتهم.

وعلاج جميع هذه الصنوف من المنحرفين المغرورين هو الخروج من ولاية الشيطان إلى رحاب ولاية الله ، وذلك بإخراج حبّ الدنيا من قلوبهم فإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، وزرع حبّ الله مكانه ، والزهد في المال والصحّة والقوة والسلطان ، وجعل ذلك من أسباب البقاء التي تمكنه من عبادة الله حقّ عبادته ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (٤).

إنّ الله سبحانه يخاطب الإنسان ويعاتبه حيث لم يعرف هذا الإنسانُ حقّ قدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٥٥٢ ، غرر الحكم : ٣٥٦.

٢ ـ معاني الأخبار : ٣٦٥ / ح ١.

٣ ـ العلق : ٦ ـ ٧.

٤ ـ الانفطار : ٦ ـ ١٢.


الله تعالى وعظمته ، ولم يشكر النعم التي أفاضها عليه ، والله هو الخالق والرازق ، والمربّي والهادي لهذا الكائن العجيب ، ولقد أكرمه بالعقل ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته ، ولكنّه يركب مطيّة الغرور ، ويتهاون في تطبيق الأحكام ، ويسيء الأدب مع خالقه. هذا الإنسان الذي منّ الله عليه بالاستواء دون مخلوقاته جميعاً ، الاستواء في القوام والشكل ، والجماليّة ، والتكوين الجسديّ والعقليّ والعاطفيّ المتوازن ، وهذه الأعضاء التي تقوم بكلّ وظائفها على أحسن وجه ، وأتمّ شكل.

ثمّ يكشف لنا القرآن عن علّة هذا الغرور بالله فيقول إنّها التكذيب بالدين : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (١).

إنّ الاستفهام الذي ورد في الآية الشريفة هو استفهام توبيخيّ على كفران النعمة الإلهيّة ، وهنا تنقطع السبل بالإنسان فلا عذر له أبداً.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وليس للإنسان أن يجيب فيقول : أي ربِّ غرّني كرمك. فقد قضى الله سبحانه فيما قضى ، وبلَّغَه بلسان أنبيائه : (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (٢). وقال : (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على أنْ لا مخلص للمعاندين من العذاب ، وأنّ الكرم لا يشملهم يوم القيامة ، قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الانفطار : ٩.

٢ ـ إبراهيم : ٧.

٣ ـ النازعات : ٣٧ ـ ٣٩.

٤ ـ الأعراف : ١٥٦.


ولو كفى الإنسانَ العاصي قولُه : «غرّني كرمُك» لَصُرِف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي ، ولا عذر بعد البيان.

ومن هنا يظهر أن لا محلّ لقول بعضهم : إنَّ توصيف الربّ بالكريم من قبيل تلقين الحجّة ، وهو من الكرم أيضاً (١).

وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تبارك وتعالى : (٢) ، فقال عليه السلام : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي ، أكنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عَمِلتَ بما عَلِمت؟ وإن قال : كنتُ جاهلاً ، قال له : أَفَلا تعلّمتَ حتّى تعمل؟ فيَخصِمه ، فتلك الحجّة البالغة (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبِين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ٢٠ : ٢٢٤.

٢ ـ الأنعام : ١٤٩.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٩ ح ١٠.


المبحث السابع والثلاثون : في العُجْب

العُجْب : أن يستعظم الإنسان نفسه أو عمله لِما يرى فيهما من صورة كماليّة قد لا يكون لها من الواقع شيء ، وقبل أن نطرق موضوع العجب لابدّ أن نفرّق بين عدّة عناوين :

١) العُجْب : وقلنا : هو استعظام النفس أو العمل دون إضافة ذلك إلى الله تعالى.

٢) الكِبْر : هو أن يرى المرء لنفسه مزايا وفضائل وكمالات على غيره. فهنا يكون طرفان : المتكبِّر طرف ، والمتكبَّر عليه طرف آخر ، أمّا في العجب فهناك طرف واحد هو المُعْجَبْ بنفسه.

٣) الإدلال : وهذه صفة وراء العُجْب ، فالمُدِلُّ يرى أنّ له على الله حقّاً ، وأنّ له عنده مكانة ، وقد يستنكر عدمَ إجابة دعائه ، أو ابتلاءَه بالضرر والبلاء ، وينسى أو يتناسى إضافة تلك النعم والكمالات إلى الله تبارك وتعالى.

وقد يكون الإدلال على غير الله ، كما لو أكرم غيره ، فإنّه يستعظم تلك النعمة على الغير ، ويمنّ عليه ، ويتوقّع الجزاء والثناء وربّما الاستخدام من ذلك الموهوب له.

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : العجب درجات : ومنها : أن يُزَيَّن للعبد سوءُ عمله فيراه حَسَناً ، فيعجبه ويَحسَبُ أنّه يُحسِنُ صُنعاً. ومنها : أن يؤمن العبد بربّه ،


فَيَمُنّ على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المنّ (١).

وصدق الله القائل : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) (٢).

والنسبة بين العُجب والإدلال نسبة عموم وخصوص. فكلّ مُدِلٍّ مُعْجَب ، وليس كلّ مُعْجَبٍ مُدِلّاً.

يحدّثنا القرآن الكريم أنَّ جماعةً من بني أسد جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقالوا : يا رسول الله أسلمنا ، وقاتلك العرب ولم نقاتلك ، فأنزل الله فيهم : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّـهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٣).

لقد أخطأ هؤلاء ، من عدّة جهات :

١ ـ لقد أسلموا دون الإيمان ، والواقع أنّ الإيمان هو الطريق الرحب الذي يؤدّي إلى ساحة القرب من الله وعليه يقع الثواب. أمّا الإسلام فتترتّب عليه آثار وضعيّة ظاهرة ، مثل : حقن الدماء ، وجواز المناكح ، وجريان المواريث ، وأصالة الطهارة ، وذكاة الذبيحة ، وأصالة صحّة عمل المسلم ظاهراً.

٢ ـ لو كان هناك مَنٌّ فالمفروض أن يكون على الله تبارك وتعالى لا على النبيّ صلى الله عليه وآله ، لأنّ النبيّ هو سفير بين الله وعباده ، يقوم بتبليغ الأحكام وفق ما يُوحى إليه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما أرسل عليهم بوكيل ، بل لم يكن عليه إلّا البلاغ المبين ، وقد أدّاه صلى الله عليه وآله.

٣ ـ لو كان هناك منّ فالمفروض أن يكون من الله على عباده ، إذ هداهم للإيمان ، وقادهم إلى سبيل الصواب ، وذلك لهم فيه خير الدنيا والآخرة ، فقد ورد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٣ / ح ٣.

٢ ـ فاطر : ٨.

٣ ـ الحجرات : ١٧.


عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ الإسلام قبل الإيمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والإيمان عليه يُثابون (١).

وقال عليه السلام : الإسلام غير الإيمان ، وكلّ مؤمن مسلم ، وليس كلّ مسلم مؤمناً (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان (٣).

إنّ العُجْب من الصفات المذمومة والنزعات الشيطانيّة ، إذ قد يقود صاحبَه إلى الهلاك والخسران الأبديّ. وقد نُقلت لنا مجموعة كبيرة من الأحاديث المعتبرة ، نقتبس بعضاً منها ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ثلاث مهلكات ... شُحٌّ مطاع ، وهوىً مُتَّبَع ، وإعجاب المرء بنفسه (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : قال الله عزّ وجلّ : إنّ مِن عباديَ المؤمنين لَمَن يجتهد في عبادتي ، فيقوم من رقاده ، ولذيذ وساده ، فيجتهد ليَ الليالي ، فتَتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلةَ والليلتين نظراً منّي له ، وإيقاءً عليه ، فينام حتّى يُصبح ، فيقوم وهو ماقتٌ لنفسه زارئٌ عليها.

ولو أُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لَدَخَله العُجب من ذلك ، فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله ، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعُجبه بأعماله ، ورضاه عن نفسه ، حتّى يَظُنَّ أنّه قد فاق العابدين ، وجاز في عبادته حدَّ التقصير ، فيتباعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٧٣ / ح ٤ ـ باب الاضطرار إلى الحجّة.

٢ ـ الخصال : ٦٠٨ / ح ٩ ـ أبواب المئة فما فوقه.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢٧.

٤ ـ الخصال : ٨٤ / ح ١١.


منّي عند ذلك وهو يظنّ أنّه يتقرّب إليّ (١).

وعن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ، ثمّ يعمل شيئاً من البر فيَدخُله شِبهُ العُجْب به ، فقال عليه السلام : هو في الحالة الأولى وهو خائف أحسنُ حالاً منه في حال عُجبه (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إعجاب المرء بنفسه دليلٌ على ضَعف عقله (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الله علم أنَّ الذنب خير للمؤمن من العجب ، ولولا ذلك ما ابتُليَ مؤمن بذنبٍ أبداً (٤).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله في الحديث أنّ قال موسى بن عمران عليه السلام قال لإبليس : أخبِرْني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذتَ عليه ، قال : إذا أعجَبَتْه نفسُه ، واستكثر عملَه ، وصغر في عينه ذنبُه! (٥)

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله أيضاً : قال الله عزّ وجلّ لداود عليه السلام : يا داود ، بَشَرِ المذنبين ، وأَنْذِرِ الصدّيقين ، فقال عليه السلام : كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال : يا داود ، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب. وأنذر الصدّيقين أن لا يُعجَبوا بأعمالهم ، فإنّه ليس عبدٌ أنصِبُه إلّا هلك (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : أتى عالمٌ عابداً فقال له : كيف صلاتك؟ فقال : مِثلي يُسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ قال : فكيف بكاؤك؟ قال : أبكي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٠ / ح ٤.

٢ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٧.

٣ ـ نفسه ١ : ٢٧ / ح ٣١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٣١٣ / ح ١.

٥ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٨.

٦ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٨.


حتّى تجري دموعي ، فقال له العالم : فإنّ ضحكك وأنت خائف أفضلُ من بكائك وأنت مُدِلٌّ ، إنّ المدلَّ لا يصعد من عمله شيء (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : قال الله تبارك وتعالى : ... ما تَقَرّبَ إليّ عبدي بِمِثل أداء ما افترضتُ عليه ، ... وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَنْ يريد الباب من العبادة فأكفُّهُ عنه ، لئلّا يَدخُلَه عُجْبٌ فيُفسدَه (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : لولا أنّ الذنب للمؤمن خيرٌ من العُجب ما خلّى الله بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً (٣).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : سيّئة تَسُوؤك خيرٌ عند الله من حسنةٍ تعجبك (٤).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الملوك حكّام على الناس ، والعِلم حاكم عليهم ، وحَسْبُك من العلم أن تخشى الله ، وحسبك من الجهل أن تُعجَب بِعِلمك (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا رأيت شُحّاً مطاعاً ، وهوىً متّبعاً ، وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه ، فعليك نفسك (٦).

وقال صلى الله عليه وآله : لو لم تُذنبوا لَخشِيتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك : العُجب ، العُجب (٧).

وقال الإمام الرضا عليه السلام : إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل عبَدَ الله تبارك وتعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٣ / ح ٥.

٢ ـ التوحيد : ٤٠٠ / ح ١ ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٤ / ح ٢٥٠.

٣ ـ عدّة الداعي : ٢٢١.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٦.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٦ / ح ٧٨.

٦ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣١ / ح ٤٠١٤.

٧ ـ الجامع الصغير ٢ : ٤٣٨ / ح ٧٤٨٨ ، مسند الشهاب ٢ : ٣٢٠ / ح ١٤٤٧.


أربعين سنة ، فلم يقبل منه ، فقال لنفسه : ما أُوتيتُ إلّا منكِ ، ولا الذنبُ إلّا لكِ! فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : ذَمُّك نفسَك أفضلُ من عبادة أربعين سنة (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : العَجَبُ ممّن يُعجَب بعمله وهو لا يدري بما يُختَم له ، فمَن أُعجب بنفسه وفعله فقد ضلّ عن منهج الرشاد ، وادّعى ما ليس له ، والمدّعي من غير حقّ كاذب وإن أخفى دعواه وطال دهره ، وإنّ أول ما يُفعَل بالمعْجَبِ نزعُ ما أُعجب به ليعلم أنّه عاجز حقير ، ويشهد على نفسه لتكون الحجّة عليه أوكد ، كما فُعل بإبليس. والعُجْبُ نبات حبّها الكفر ، وأرضها النفاق ، وماؤها البغي ، وأغصانها الجهل ، وورقها الضلالة ، وثمرها اللعنة والخلود في النار! فمَن اختار العجب بذَرَ الكفر ، وزرع النفاق ، ولابدّ أن يُثمِر (٢).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ عيسى بن مريم عليهما السلام كان من شرايعه السَّيْحُ «أي السياحة» في البلاد ، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير ، وكان كثير اللزوم لعيسى عليه السلام.

فلمّا انتهى عيسى إلى البحر قال : بسم الله ، بصحّةِ يقينٍ منه ، فمشى على ظهر الماء ، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السلام جازه : بسم الله ، بصحّة يقين منه ، فمشى على الماء ، ولَحِقَ بعيسى عليه السلام ، فدخله العُجْب بنفسه فقال : هذا عيسى روح الله يمشي على الماء ، وأنا أمشي على الماء ، فما فضلُه علَيّ؟! قال : فرُمس في الماء ، فاستغاث بعيسى عليه السلام فتناوله من الماء فأخرجه.

ثمّ قال له : ما قلتَ يا قصير؟ فقال له : قلت : هذا روح الله يمشي على الماء ، وأنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قرب الإسناد : ٣٩٢ / ح ١٣٧١.

٢ ـ مصباح الشريعة : ٨١ ـ الباب السادس والثلاثون.


أمشي على الماء ، فدخلني من ذلك عُجْبٌ ، فقال له عيسى : لقد وضعتَ نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت ... (١).

وورد في الحديث القدسيّ : قال الله تعالى : عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يجمع المال ، وعجبت لمن أيقن بالقبر كيف يضحك ، وعجبتُ لمن أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئنّ إليها ، وعجبتُ لمن أيقن ببقاء الآخرة ونعيمها كيف يستريح ، وعجبتُ لمن هو عالم باللسان وجاهل بالقلب وعجبتُ لمن هو مُطَّهِرٌ بالماء وغير طاهر بالقلب ، وعجبتُ لمن اشتغل بعيوب الناس وهو غافل عن عيوب نفسه ، وعجبتُ لمن يعلم أن الله مطّلع عليه كيف يعصيه ، وعجبتُ لمن يعلم أنّه يموت وحده ، ويدخل القبر وحده ، ويُحاسَب وحده ، كيف يستأنس بالناس ، ويقول الله تعالى : لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً ، محمّد عبدي ورسولي.

إنّ العُجْب من فروع الكِبْر ، وهو من المهلكات والموبقات إذ يحدث انتفاخاً معنويّاً في النفس ، ويكون على خلاف الواقع ، ونعم ما قال المتنبّي :

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره

إذَا استَوَت عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ (٢)

العُجْبُ يقود إلى نيسان الذنب ، وترك التوبة والاستغفار ، وإلى التراخي في العبادة ، والتعسّف في الرأي والفكر ، والتطرّف في المواقف ، وربّما يؤدي إلى الأمن من مكر الله ، والمعَجبُ يتعالى عن الاستفادة من رأي غيره ، فلا يستشير من هو أعلم منه ، ولا ينقاد إلى ناصحٍ أمين ، ولا فقيه ذي عقل رصين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ح ٣ ـ باب الحسد.

٢ ـ حكاه الثعالبيّ في : يتيمة الدهر ١ : ٢٣٨.


إنَّ العجب مرض من أمراض النفس ، وقد وضع الإسلام أنواعاً من العلاجات لهذا الوباء ، فلو التفت الإنسان إلى أصل خلقته ، وهو التراب والنطفة المذرة ، وإلى النهاية التي يكون فيها جيفة قذرة ، ولو نظر إلى مصائب الدنيا وويلاتها ، وما يجري على أبنائها من حال إلى حال ، ولو علم أنّ الموت لاقيه على حين غِرَّة ، لَعَلِم أنّه ضعيف ، مسكين ، لا يليق به الكبر أو الغرور أو العُجب.

ولو كان عاقلاً فطناً لنسب كلّ المواهب التي أُوتيها إلى الله المنعم ، فلا يزداد إلّا شكراً وحمداً وتواضعاً. إنّ العلم ، والقوّة ، والطاعة ، والعبادة ، والجود ، والسلطان ، والمال ، والجمال ، وحسن الذكر في الأنام ، كلَّها نِعمٌ إلهيّة ، ومن الممكن زوالها عنه في يوم وليلة ، بل في أعشار الدقيقة.

وقد مثّل القرآن الكريم بعض علماء اليهود بالحمار حين قال : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (١).

وشَبّه العالم الفقيه «بلعم بن باعورا» بالكلب حيث قال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) (٢).

كلّ ذلك لأنّهم لم يعملوا بما علموا ، بل كان الدين سلاحاً فتّاكاً بأيديهم يصدّون به عن سبيل الله ، ويحاربون المؤمنين ، ويركنون به إلى الظالمين ، وقد رُوي عن عيسى عليه السلام قوله : ويل لعلماء السوء ، كيف تَلَظّى عليهم النار (٣) ، كما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ الأعراف : ١٧٦.

٣ ـ الكافي ١ : ٤٧ / ح ٢.


للعالم ذنب واحد (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ أهل النار لَيتأذَّون من ريح العالم التارك لعلمه ، وإنّ أشدّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقَبِل منه ، فأطاع اللهَ فأدخَلَه الله الجنّة ، وأَدخَلَ الداعي النار بتركه عِلمَه واتّباعِه الهوى وطول الأمل (٢).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ورد قوله : الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا (٣).

وأختم هذا المبحث بقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقد حضر ميّتاً أُنزِل في قبره : إنَّ شيئاً هذا آخِرُه لَحقيقٌ أن يُزهَد في أوّله ، وإنّ شيئاً هذا أوّلُه لحقيق أن يُخاف آخرُه (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٤٧ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ٤٤ / ح ١.

٣ ـ نفسه ١ : ٤٦ / ح ٥.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٤٣ / ح ١.


المبحث الثامن والثلاثون : في الحياء

قال الراغب في «المفردات» : الحياء : انقباضُ النفس عن القبائح ، وتركُها ، قال الله سبحانه وتعالى : (إنّ الله لا يستحيى أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) (١) ، وقال عزّ وجلّ : (والله لا يستحيي من الحق) (٢).

وروي أنّ الله تعالى يَستحْيي من ذي الشَّيبة المسلم أن يعذّبه ، فليس يراد به انقباض النفس ، إذ هو تعالى منزّه عن الوصف بذلك ، وإنّما المراد به ترك تعذيبه ، وعلى هذا ما رُوي : إنّ الله حييٌّ ، أي تارك للقبائح فاعل للمحاسن (٣).

وورد في «لسان العرب» للّغوي ابن منظور قوله : الحياء : التوبةُ والحِشْمَة ، وقد حَيِيَ منه حياءً ، واستحيا ، واستحى : حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الياءين ، والأخيرتان تتعدّيان بحرف وبغير حرف ، يقولون : استحيا منك ، واستحياك ، واستحى منك واستحاك ، قال ابن برّي : شاهد الحياء بمعنى الاستحياء قول جرير :

لولا الحياءُ لَهاجَني استعبارُ

ولَزُرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٦.

٢ ـ الأحزاب : ٥٣.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ١٠٤.


وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : الحياء شعبة من الإيمان (١).

وقال بعضهم : كيف جُعل الحياءُ ـ وهو غريزةٌ ـ شعبةً من الإيمان ـ وهو اكتسابٌ ـ؟ والجواب في ذلك : أنّ المستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي ، وإن لم تكن له تقيّة ، فصار كالإيمان الذي ينقطع عنها ويحول بين المؤمن وبينها.

قال ابن الأثير : وإنّما جُعل الحياء من الإيمان لأنّ الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله به ، وانتهاء عمّا نهى الله عنه ، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان ، ومنه الحديث : إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت (٢).

والمراد منه إذا لم يَسْتَحِ صَنَع ما شاء ، لأنّه لا يكون له حياء يحجزه عن المعاصي والفواحش. وقال ابن الأثير : وله تأويلان : أحدهما ظاهر وهو المشهور ، إذا لم تستحِ من العيب ولم تخشَ من العار بما تفعله فافعل ما تحدّثك به نفسك من أغراضها حسناً كان أو قبيحاً ، ولفظه أمرٌ ومعناه توبيخ وتهديد ، وفيه إشعار بأنّ الذي يردع الإنسانَ عن مواقعة السوء هو الحياء ، فإذا انخلع منه كان كالمأمور بارتكاب كلّ ضلالة وتعاطي كلّ سيئة ، والثاني أن يُحمل الأمر على بابه ، يقول : إذا كنت في فعلك آمناً أن تستحي منه لجريِك فيه على سنن الصواب ، وليس من الأفعال التي يُستحى منها فاصنع منها ما شئت.

وعن ابن سيده : قوله صلى الله عليه وآله : إنّ ممّا أدرك الناسُ من كلام النبوّة : إذا لم تَستحِ فاصنع ما شئت ، أي من لم يستحِ صنع ما شاء على جهة الذمّ لترك الحياء ، وليس يأمره بذلك ، ولكنّه أمر بمعنى الخبر ، ومعنى الحديث أنّه يأمر بالحياء ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٥٩ / ح ٩٠.

٢ ـ مشكاة الأنوار : ٤١٣ ـ الفصل الخامس من الباب الخامس.


ويحثّ عليه ويعيب تركه. ورجُلٌ حَيِيٌّ ، ذو حياء ، بوزن فعيل ، والأنثى بالهاء ، امرأة حَيِيةٌ ، واستحيا الرجل واستَحْيَتِ المرأة (١).

وقد ورد في الأخبار أنّ الحياء خيرٌ كلُّه (٢) ، والمستفاد منه أنّ الحياء يردع من له دين ومن ليس له دين ، فصار الحياء مَجْمعاً لكلّ ما هو جميل.

والحياء من مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، فقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنّة (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله يوماً لأصحابه : إستَحْيُوا من الله حقَّ الحياء ، قالوا : وما نفعل يا رسول الله؟ قال : فإن كنتم فاعلين فلا يَبِيتَنّ أحدكم إلّا وأجَلُه بين عينيه ، ولْيَحفَظْ الرأسَ وما وعى ، والبطنَ وما حوى ، ولْيَذكُر القبر والبِلى ، ومن أراد الآخرة فَلْيَدَعْ زينة الحياة الدنيا (٤).

فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء.

رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : هبط جبرائيل عليه السلام على آدم عليه السلام بثلاث ؛ ليختار منها واحدةً ويَدَع اثنتين ، وهي : العقل ، والحياء ، والدِّين. فاختار العقل ، فقال جبرائيل للحياء والدين : انصرِفا ، فقالا : إنّا أُمِرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، فقال : فشأنكما. ففاز بالثلاث (٥).

وروي أنّ الله تعالى يقول : عبدي ، إنّك إذا استَحيَيتَ منّي أنسَيتُ الناس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لسان العرب ١٤ : ٢١٧.

٢ ـ معاني الأخبار : ٤٠٩ / ح ٩٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ١ ـ باب الحياء.

٤ ـ قرب الإسناد : ٢٣ / ح ٧٩.

٥ ـ شرح نهج البلاغة ١٨ : ١٨٧.


عيوبك ، وبقاع الأرض ذنوبك ، ومحوتُ من الكتاب زلّاتك ، ولا أناقشك في الحساب يوم القيامة (١).

وروي أنّ رجلاً رأى صاحبه يصلّي خارج المسجد ، فقال له : لمَ لا تصلّي في المسجد؟ فقال : أستَحْيي من الله أن أدخل بيته وقد عصيتُه (٢).

ومن علامات الاستحياء وصدق الالتزام به أن يكفّ الإنسان نفسه عمّا يُعتذر منه ، وأهل الاستحياء من الله يصل كلامهم إلى قلوب المؤمنين قبل أسماعهم فيكون وعظهم مؤثّراً ونافعاً ، بعكس الذين يقولون ما لا يفعلون ، فإنّ كلام هؤلاء هواء في شبك ، أو كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاءً ونداءً ، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون.

وورد في الحديث القدسيّ : ما أنصفني عبدي ، يَدْعوني فأستحيي أن أردَّه ، ويعصيني ولا يستَحْيي منّي (٣).

وأعلى مراتب الحياء أن يشعر الإنسان بالرقابة الإلهيّة التي تبعث الخشية في قلبه ، فإن لم يَرَ الله فإنّه يراه.

وَورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام : المكارم عشر : صدق اليأس ، وصدق اللسان ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وإقراء الضيف ، وإطعام السائل ، والمكافأة على الصنايع ، والتذمّم للجار ، والتذمّم للصاحب ، ورأسهنّ الحياء (٤).

ونعم ما قيل : الوجه المصون بالحياء ، كالجوهر المكنون في الوعاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البداية والنهاية ١٠ : ٢٨١.

٢ ـ رياض السالكين ٣ : ١٥٧ في شرحه.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ١١ : ٢١٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٩ : ١٧٠.

٤ ـ الكافي ٢ : ٥٥ ـ ٥٦ / ح ١ ، وفي بعض المصادر : صدق البأس.


وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : الحياء حياءان : حياء عقل ، وحياء حُمق ، فحياء العقل هو العلم ، وحياء الحُمق هو الجهل (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : مَن رَقَّ وجهُه رقّ علمه (٢).

والمراد من رقّة الوجه الاستحياء عن المسألة والإلحاح في طلب ما عند الناس. ونعم ما قال الشاعر :

لا تكن طالباً لما في يدِ النا

س ، فيزوَرَّ عن لِقاك الصديقُ

إنّما الذلّ في سؤالكَ للنا

س ، ولو في السؤال : أين الطريق ُ (٣)

وقال الإمام الباقر عليه السلام : الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما كان الفحش في شيء قَطُّ إلّا شانَه ، ولا كان الحياء في شيء قطّ إلّا زانه (٥).

وعنه صلى الله عليه وآله : الإسلام عُريان : ولباسه الحياء ، وزينته الوفاء ، ومروءته العمل الصالح ، وعماده الورع ، ولكلِّ شيء أساسٌ وأساس الإسلام حُبّنا أهلَ البيت (٦).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : مَن كَثُر كلامُه كَثُر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه ، ومن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ٦.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٠٦ / ح ٣.

٣ ـ البيتان لصفيّ الدين الحلّي في ديوانه : ٥٠ ، إعداد : ضحى عبد العزيز ، إصدار : دار كرم بدمشق.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ٤.

٥ ـ الأمالي للمفيد : ١٦٧ / ح ٢.

٦ ـ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ٣ : ٨ / ح ٩٢٧.


قلّ حياؤه قلّ ورعُه ، ومن قلّ ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار (١). وقال الصادق عليه السلام : أربع من كنّ فيه كَمل إيمانه ، وان كان من قرنه إلى قدمه ذنوبٌ لم يُنقصه ذلك ، وهو : الصدق ، وأداء الامانة ، والحياء ، وحسنُ الخُلُق (٢).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : الحياء عشرة أجزاء : تسعة في النساء وواحدة في الرجال ، فإذا خُفضت ذهب جزء من حيائها ، فإذا تزوّجت ذهب جزء ، فإذا افتُرعت ذهب جزء ، فإذا ولدت ذهب جزء ، وبقي لها خمسة أجزاء ، فإن فجرت ذهب حياؤها كلّه ، وإن عفّت بقي لها خمسة أجزاء (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٤٩ ، وسائل الشيعة ١٢ : ١٨٧ / ح ١٦٠٤٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٩٩ ـ ١٠٠ / ح ٣.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٦٨ / ح ٤٦٣٠.


المبحث التاسع والثلاثون : في الغفلة

قال عليه السلام : عَظُمَ يا سَيِّدي اَمَلي ، وَساءَ عَمَلي ، فَاَعْطِني مِنْ عَفْوِكَ بِمِقْدارِ اَمَلي ، وَلا تُؤاخِذْني بِأَسْوَءِ عَمَلي ، فَاِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ الْمُذْنِبينَ ، وَحِلْمَكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافاةِ الْمُقَصِّرينَ ، وَاَنَا يا سَيِّدي عائِذٌ بِفَضْلِكَ ، هارِبٌ مِنْكَ اِلَيْكَ ، مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ اَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً.

اعتراف جميل بالتقصير ، وإقرار على النفس بممارسة الذنوب واقتراف المعاصي ، وتوجّه رائع أصيل لطلب العفو المأمول وعدم المؤاخذة على الذنب ، وإلّا كان في ذلك الهلاك الأكيد. إنّ كرم الله واسع ، وحمله كبير على المقصّرين ، ومَن منّا لا يَعدّ نفسه مقصّراً؟ ومَن منّا لا يعيش تحت خيمة الإمهال الإلهيّ؟

قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا) (١).

ومن موجبات ما يقع فيه الإنسان من تقصير مع ربّه ومع نفسه هو الغفلة ، ذلكَ المرض القلبيّ الأصل الذي تتفرّع منه مجموعة من الرذائل والمهلكات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٥٨.


في الغفلة

الغفلة : سهوٌ يعتري الإنسان من قلّة التحفّظ والتيقّظ ، يقال : غَفَلَ فهو غافل ، قال تعالى : (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١).

إذن فالغفلة في سياق الآية تشكّل غطاءً حاجباً عن رؤية الحقّ ، وقد قال سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) (٢).

لقد وصف الله سبحانه بعض عباده بالغفلة ، ولمّا كان الوصف للناس فقد أُريد به الغالبيّة العظمى منهم ، ومعنى هذا أنّ الغفلة ملازمة للإنسان لا يكاد يخلو منها ومن آثارها السلبيّة إلّا من عصم الله ، فهذا التعلّق بالدنيا وبأسباب البقاء ، والانغماس في الترف والملذّات قد ملأ القلوب والعقول.

ويمكن تقسيم المصابين بمرض الغفلة قسمين :

١. الغافلون عن أصل المعاد الأُخرويّ ، وهؤلاء لا يتفكّرون في عاقبة أمرهم ، بل إنّهم أنكروا ضرورة من ضرورات الدين ، وأنكروا الحكمة من الخلق وجعلوه مسألة عبثيّة ، حيث أنكروا الجزاء على العمل ، وهذا القسم يُسمّى «الإعراض» ، فأقفل هؤلاء قلوبهم على الكفر والعتوّ والطغيان إلى غير رجعة ، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّة نوح عليه السلام قائلاً : (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (٣).

٢. الغافلون عن تصوّر المسؤولية الأخرويّة حقّ تصوّرها وكما ينبغي ، فهم لاهثون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ق : ٢٢.

٢ ـ الأنبياء : ١.

٣ ـ نوح : ٥ ـ ٧.


وراء الشهوة والأمانيّ السرابيّة الضالّة ، ومشتغلون بما ينسي الآخرة ، ولو علموا ما يُراد بهم ومنهم لانتهوا وعادوا إلى سواء السبيل ، ولهيّؤوا أنفسهم للقاء الله بالتوبة والإيمان والورع واجتناب المعاصي.

وهذا القسم يُسمّى «التقصير».

إنّ الغافلين ، سواء من المُعْرضين أو المقصّرين ، سيقفون بين يدي الله للحساب ، فتصيبهم الدهشة ، ويأخذهم الفزع الأكبر لعظم المسؤولية ودقّة الحساب ، قال تعالى : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١).

لقد ساقتهم الملائكة للحساب ، وشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وأيديهم بما كانوا يعملون ، وتجسّدت أعمالهم أمام أعينهم ، وقيل لهم : هذه أعمالكم رُدّت عليكم. وربّما يكون الإغفال على سبيل المجازاة حين يُنسب إلى الله سبحانه ، كما في قوله تعالى : (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (٢).

قال صاحب «الميزان» قدس سره : المراد بإغفال قلبه تسليطُ الغفلة عليه وإنساؤه ذِكرَ الله سبحانه على سبيل المجازاة ، حيث إنّهم عاندوا الحقّ فأضلّهم الله بإغفالهم عن ذكره ، فإنَّ كلامه تعالى في قوم هذهِ حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات من قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٤٩.

٢ ـ الكهف : ٢٨.

٣ ـ الكهف : ٥٧.


فلا مَساغَ لقول من قال : إنّ الآية من أدلّة جبره تعالى على الكفر والمعصية ، وذلك لأنّ الإلجاء مجازاةً لا ينافي الاختيار ، والذي يُنافيه هو الإلجاء ابتداءً ، ومورد الآية من القبيل الأوّل (١).

فالمراد من الغفلة : الفتورُ والتكاسل ، وعدم الالتفات إلى غاية الخلق وما هو المطلوب من الإنسان من التزامات تقود صاحبها إلى سعادة الدارين ، وتضمن له الكرامة ونيل مراتب الكمال.

ويقابل الغفلة : النيّة والإرادة والقصد ، وهي تشير إلى الوعي واليَقظة ، وهي من البواعث والخوافز لسلوك الطريق الموافق للطبع الإنساني الذي يسعى نحو الكمال والفضائل ، وتطهير ساحة القلوب من الكدورات والظلمات ونتانة الجاهليّات.

ولقد وصف الله سبحانه وتعالى بعض عباده ممّن شغلتهم الدنيا عن الله والآخرة أنّهم من الغافلين ، وشبّههم بالأنعام الضالّة التي لا تفهم ما يراد منها : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (٢).

ومن هؤلاء : الكُسالى والبطّالون ، وأهل الأمانيّ الضالّة التي تقودهم حالاتهم هذه إلى شقاء الدنيا والآخرة ، وإنّ العقل السليم يحكم بوجوب استجلاب الخير ونيل الكمالات وما يوافق الطبع الإنسانيّ. إذن تكون الغفلة مساراً وطريقاً مضاداً للفطرة والعقل ، وبذلك تكون أصلاً تتفرّع عنه مجموعة من الرذائل والنقوص التي تُعتِّم على القلب وتؤدّي إلى انتكاسه ، وربّما تكون هذه الطائفة ممّن يؤمن بالله ويؤمن بالمعاد ، لكنّ الانكباب على الدنيا والانشغال بهمومها ومطالبها ولذّاتها يصرفانها عن رحب ولاية الله إلى ضيق ولاية الشيطان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١٣ : ٣٠٣.

٢ ـ الفرقان : ٤٤.


إنّ كلّ تصرّف يقوم به الإنسان عن حركة واعية تتحكّم فيها الإرادة ويتحكّم فيها العلم لابدّ أن يكون وراءه غرض عقلانيّ ، وهذا ما يُطلق عليه «النيّة والقصد».

فعندما يتوفّر عامل الشوق المتمثّل بالرغبة العمليّة الصادقة لتحقيق شيء ، فإنّ الإنساني ينوي القيام بعملية التنفيذ ، وهنا تتحرّك الأعضاء والجوارح لإيجاد ذلك العمل. أنظر هذا التسلسل رجاءً :

غرضٌ معلوم ، ثمّ الشوق إليه ، ثمّ النيّة والقصد ، ثمّ التحرّك للتنفيذ.

وكلّما كان الشوق أعظم كان النشاط والاندفاع أشدّ.

ونعم ما قيل :

وإذا حلَّتِ الهدايةُ قلباً

نَشِطتْ للعبادةِ الأعضاءُ (١)

إنّ الأعمال الإراديّة الواعية لا تصدر إلّا عن نيّة ، وعلى هذه النيّة يترتّب الجزاء الإلهيّ ، فالذي يقيم الشعائر العباديّة ويعمل الصالحات ، ويذكر الله تعالى مداوماً ، ويقدّم التضحية بالمال والنفس قاصداً وجه الله ، لابدّ أن تكون نيّته خيراً ، ويكون جزاؤه خيراً لأنّ الجزاء من سنخ العمل ، أمّا الذي يعرض عن الحقّ ، ويحارب أهل الدين ، ويهتك حرمات الله ومقدّسات المؤمنين فنيّته شرّ ، وجزاؤه من سِنْخ عمله.

وقد يكون العمل واحداً لكنّ ال جزاء يختلف باختلاف النيّة ، فلو صلّى المرء عبادةً لله كان جزاؤه الثواب ، وأمّا من صلّى رياءً فجزاؤه العقاب ، في حين أنّ الصلاة بشكلها الخارجيّ واحدة ، ولو بنى مسجداً لإقامة شعائر الله فإنّه ينال الثواب ، أمّا لو بناه للضِّرار والرياء فإنّه يأثم ، في حين أنّ الشكل الظاهريّ للمسجد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ حكاه في : الفوائد الرجاليّة لبحر العلوم ١ : ٣٩.


واحد ، إذن العبرة بالقلب لا بالقالب ، وبالمضمون لا بالشكل.

فالذي يهاجر ويقاتل من أجل الغنائم هو مهاجر إلى الغنيمة ، ومن هاجر لأجل امرأة يصيبها فهو مهاجر المرأة ، وقد ورد في الآثار أنّ أحدهم هاجر وقاتل من أجل حمار ، وآخر هاجر لأجل امرأة تُكنّى أمّ قيس فسماهما الصحابة بمهاجر الحمار ، ومهاجر أمّ قيس (١).

عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قال : لا حَسَبَ لقرشيّ ولا لعربيّ إلّا بتواضع ، ولا كرمَ إلّا بتقوى ، ولا عملَ إلّا بالنيّة ، ولا عبادةَ إلّا بالتفقّه (٢).

بل وصل الأمر ببعض الأفذاذ من الصالحين أن يجعل للأكل والشرب نيّة حسنة ؛ لتحمِل تلك الأعمال السمة العباديّة التي يترتّب عليها الأجر والثواب. ت

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : يا أبا ذرّ ، لِيكُنْ لك في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل (٣). يا أبا ذرّ ، هِمَّ بالحسنة وإنْ لم تعملها ، لكي لا تُكتَبَ من الغافلين (٤).

وقد حثّ الإسلام والقائمون عليه أتباعهم على تثبيت نيّة الخير والعزم عليه من أجل نيل الثواب واستحقاق الأجر والمثوبة ، فقد ورد عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول : يا ربِّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير. فإذا علم الله ذلك منه بصدق نيّته ، كتب الله له من الأجر مِثلَ ما يكتب له لو عَمِله ، إنَّ الله واسع كريم (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فتح الباري ١ : ٨ ، شرح صحيح مسلم للنوويّ ١٣ : ٥٥ ، مجمع الزوائد ٢ : ١٠.

٢ ـ الكافي ٨ : ٢٣٤ / ح ٣١٢.

٣ ـ وسائل الشيعة ١ : ٤٨ / ح ٩٠ ـ ط مؤسّسة آل البيت عليهم السلام.

٤ ـ نفسه ١ : ٥٦ / ح ١١٦.

٥ ـ المحاسن : ٢٦١ / ح ٣٢٠.


وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته (١) ، وقد قيلَ بعد ذلك لأبي عبد الله عليه السلام : يا ابن رسول الله ، إنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله ، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟

فقال الإمام عليه السلام : لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين ، والنيّةُ خالصةً لربّ العالمين ، فيعطي تعالى على النيّة ما لا يعطي على العمل (٢).

ومن مصاديق هذه الرواية ما يقوم به المرء من أعمال من باب التقيّة. قال عليه السلام أيضاً : إنّ العبد لَينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام ، فيثبّت الله له صلاته ، ويكتب نَفَسَه تسبيحاً ، ويجعل نومه عليه صدقة (٣).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : نيّة المؤمن أفضل من عمله ؛ وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ؛ وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه (٤).

وربّما يقول سائل : لماذا يخلّد الله أهل الطاعات في الجنّة في حين أنّ عملهم في الدنيا محدود وقليل نسبةً إلى نعيم الآخرة ، ويخلّد الله أهل المعاصي في النار في حين أنّ معاصيهم محدودة في وقت قليل؟

وعندما نوجّه هذا السؤال إلى بحر العلم الصافي ، ومنار الإسلام الساطع ، الإمام الصادق عليه السلام ، فسنسمعه يقول : إنّما خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٨٤ / ح ٢ ـ باب النيّة.

٢ ـ علل الشرائع ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ١.

٣ ـ نفسه ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ٢.


الدنيا أن لو خُلّدوا فيها أن يَعصُوا الله أبداً ، وإنّما خُلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بَقَوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خُلّد هؤلاء وهؤلاء. ثمّ تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ) ، قال عليه السلام : على نيّته (١).

لقد لاحظنا أثر النيّة على العمل ، وكيفيّة ترتّب الأثر من ثواب أو عقاب ، ونِعم ما قيل في وصفها : إنّها روح العمل ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : مَن تزوّج امرأة على صِداقٍ وهو لا ينوي أداءه فهو زانٍ ، ومن استدان دَيناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق ، ومن تطيّب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ، ومن تطيّب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا التقى الصفّان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم : فلان يقاتل للدنيا ، فلان يقاتل حميّةً ، فلان يقاتل عصبيّةً ، ألا فلا تقولوا : قُتل فلان في سبيل الله ، إلّا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (٣).

وورد في الآثار المرويّة أنّ رجلاً من الصحابة يُدعى «قزمان» كان مشهوراً بالجبن والخوف من رؤية الدم ، وفي إحدى غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله خرج مع الجيش وأبلى بلاءً حسناً ، فكان يضرب بالسيف ويطعن بالرمح ، وكان يتناول الفارس من جواده فيضرب به الأرض ، وقاوم المشركين أيّما مقاومة ممّا أذهل الجيش الإسلاميّ ، وبعد جولات رجولية وبطوليّة سقط «قزمان» مضمّخاً بدمائه.

فقال صحابيّ لرسول الله صلى الله عليه وآله : هنيئاً لقزمان الجنّة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّه من أهل النار! فتعجّب الصحابيّ من قول النبيّ صلى الله عليه وآله ، وتوجّه إليه بعض المسلمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٨٥ / ح ٥ ، والآية في سورة الإسراء : ٨٤.

٢ ـ جامع السعادات ٣ : ١١٣.

٣ ـ نفسه ٣ : ١١٣.


فقالوا له : أبشرْ يا قزمان ، فقد أبليتَ اليوم ، فقال : بِمَ تبشّرون؟! فواللهِ ما قاتلتُ إلّا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت. فلمّا اشتدّت عليه الجراحة جاء إلى كنانته فأخذ منها مشقصاً «أي نصلاً أو سهماً» فقتل به نفسه (١).

ولعلّ المراد من أن نيّة المؤمن خير من عمله ، لأنّ النيّة من أعمال القلوب التي يترتّب عليها : الإشراق الروحيّ ، والشفاء من الأمراض النفسيّة ، وتطهير القلوب من الأدناس والرذائل والمذموم من الخصال. أمّا الأعمال فهي وظيفة الجوارح ، والجوارح آلات منفِّضة لأوامر العقل ودواعي النيّة.

ونشير هنا إلى قضيّة مهمّة ، وهي أنّ هنالك ارتباطاً بين أعمال القلب وأعمال الجوارح ، فإذا كان هنالك تفكّر وتدبّر ووعي ، وكان مع ذلك توجّه وشوق ، فإنّ هذا يقود إلى ممارسة الأعمال العباديّة ونحوها ، فترى الإنسان يأتي بالطاعات وما يقرّب إلى الله من عمل ، وينزجر عن محارم الله ، وهذه الممارسات المندوب إليها شرعاً وعقلاً تُولِّد رسوخ الملكات وتطوّر القابليّات الإيمانيّة.

ولمّا كانت الغالبية العظمى منا قد ابتُليت بالغفلة ، وهذه حالة ـ إذا طالت ـ قد تقود صاحبها من الهدى إلى الردى ، فقد وضع لنا الإسلام عبر منهجه الحكيم أساليب مهمّة لعلاج الغفلة.

لقد حثّ الإسلام على طلب العلم لأنّه السبيل إلى الله ، وبدونه لا يحصل الإيمان الحقيقيّ الأصيل ولا العمل الصالح الخالص لوجهه تعالى. وكنّا رأينا كيف حصر الله سبحانه الخشية التي هي روح العمل بالعلماء الربّانيّين دون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٢٠ : ٩٨.


غيرهم حيث قال : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (١).

وكنّا ذكرنا أهميّة العلم في بداية البحث كمنطلق للشوق والنيّة لتحقيق كلّ عمل مأمول فيه رضى الله تعالى.

وفي السنّة الشريفة وردت مئات الأحاديث التي تحثّ على طلب العلم بعنوان القربة إلى الله تعالى.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، ألا إنّ الله يحبّ بُغاة العلم (٢). وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وهو عند الله لأهله قربة ، لأنّه معالم الحلال والحرام (٣).

وأمر الإسلام بمجاهدة النفس حين غفلتها وتقصيرها وجعل ذلك على لسان الروايات من الجهاد الأكبر ، وأنّه مهر الجنّة.

والمؤمنون جميعاً مأمورون بجهاد النفس ، لأنّ مراقي الكمال لا حدود لها ، فقد يرتقي المسلم إلى مرتبة الإيمان ، والمؤمنون إلى مرتبة الأبرار ، ويرتقي بعض الأبرار ليكونوا من المقرّبين. ونحن مأمورون بمحاسبة النفس وتشخيص عيوبها ووضع السبل الكفيلة بعلاج أمراضها وتقصيراتها ، وقد تحدّثنا حول هذه المواضيع في مواضعَ شتّى من هذا الكتاب.

قال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله فقال له : يا رسول الله أوصِني ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتّى قال ذلك ثلاثاً ، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فاطر : ٣٨.

٢ ـ الكافي ١ : ٣٠ / ح ١ ، المحاسن : ٢٢٥ / ح ١٤٦ ـ عن الإمام الصادق عليه السلام.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ٤٩٢ / ح ١ ـ المجلس ٩٠.


كلّها يقول له الرجل : نعم يا رسول الله.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : فإنّي أوصيك إذا أنت هممتَ بأمر فتدبّر عاقبتَه ، فإن يكُ رُشداً فأمضِه ، وإن يكُ غيّاً فانتَهِ عنه (١).

وكذلك أُمر المسلم بالتفكّر والتدبّر ليكون عمله صادراً عن وعي وإرادة ونيّة خالصة ، وبهذا يحقّق الثواب الجزيل ، فقد ورد في الحديث الشريف : تفكّرُ ساعة خيرٌ من عبادة سنة (٢) ، وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : نبّهْ بالتكفّر قلبك (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا عبادةَ مِثلُ التفكّر (٤) ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ التفكّر يدعو إلى البِرّ والعمل بهِ (٥).

وعنه عليه السلام أيضاً قال : مَن ألزم قلبَه فكراً ، ولسانَه الذِّكر ، ملأ الله قلبه إيماناً ورحمةً ونوراً وحكمة ، وإنّ الفكر والاعتبار يُخرِجان من قلب المؤمن عجائب المنطق في الحكمةِ ، فتُسمَع له أقوال يرضاها العلماء ، ويخشع لها العقلاء ، ويُعجَب منها الحكماء (٦).

وكان لقمان عليه السلام يطيل الجلوس وحده ، وكان يمرّ بهِ مولاه فيقول : يا لقمان ، إنّك تديم الجلوس وحدك ، فلو جلستَ مع الناس كان آنسَ لك ، فيقول لقمان : إنّ طول الوحدة أفهمُ للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طريق الجنّة (٧). وقال ابن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٨ : ١٥٠ / ح ١٣٠.

٢ ـ فقه الرضا عليه السلام : ٣٨٠ / ح ١٠٦.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٤ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٧٢ / ح ٥٧٦٥ ـ الباب ٦٦٦.

٥ ـ الكافي ٢ : ٥٥ / ح ٥.

٦ ـ إرشاد القلوب : ١٠٠ ، جامع أحاديث الشيعة ١٤ : ١٩٦ / ح ٢٢٥٤.

٧ ـ تنبيه الخواطر ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ، بحار الأنوار ١٣ : ٤٢٢ / ح ١٧.


عبّاس : التفكّر في الخير يدعو إلى العمل به ، والندم على الشرّ يدعو إلى تركهِ.

إنّ الإنسان مطالبٌ بمحاكمة لسانهِ وسمعه وعينه وبقيّة جوارحه كلّ يوم ، ليرى مقدار ما استزاد من الصالحات وعمل الخير ، أو ما وضع في ميزان عملهِ من سوء ، وقانون المحاسبة قانون إسلامي أصيل ، وهو ما نطلق عليه في المصطلح الحديث بقانون «النقد والنقد الذاتي».

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا (١). وعن الإمام عليّ عليه السلام : فإنّ اليوم عملٌ ولا حساب ، وإنّ غداً حسابٌ ولا عمل (٢).

وعلينا كذلك أن نفتّش في زوايا القلوب عن المهلكات النفسيّة ، كالبخل والحسد والعُجب والكبر والرياء وسوء الظنّ والغفلة ونحوها.

وعلينا مراجعة ما ورد من حِكمٍ وأحكام ، ومواعظ وإرشادات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وعن آلهِ الطاهرين في توجيه الإنسان الفرد والإنسان الأُمّة ، فإنّ فيها العلاج الناجع. إنّ النظرية وحدها ما لم تكن مدعومة بالممارسة العمليّة الصادقة فإنّها تفقد مذاقها ودورها العمليّ الإيجابيّ ، أنظر إلى هذه المقولة الجامعة المانعة وتدبّر في معانيها وأبعادها :

ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّ روح القدس نَفَث في رُوعي : أحببْ ما أحببتَ فإنّكَ مُفارقه ، وعشْ ما شئتَ فإنّكَ ميّت ، واعمل ما شئتَ فإنّك مجزيٌّ به (٣).

ومن أعظم أسباب تنبّه النفس من غفلتها ذِكرُ الموت ، فإنّ لذلك آثاراً كبيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إعلام الدين في صفات المؤمنين : ٢٥١ ، جامع السعادات ٣ : ٩١.

٢ ـ الكافي ٨ : ٥٨ ح ٢١ ، نهج البلاغة : الخطبة ٤٢ ، خصائص الأئمّة : ٩٦.

٣ ـ إعلام الدين في صفات المؤمنين : ٢٤٢.


في تصفية القلب وكسر الشهوات النفسيّة ، والتجافي عن دار الغرور ، والتوجّه إلى رحاب رحمة الله الواسعة ، إنّ هذا الطريق يحقّق الانتصارات والفتوحات القلبيّة التي تقرّب صاحبها إلى الجنّة وتبعّده عن النار.

قال الإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه : إذا حملتَ جنازة فكن كأنّك أنت المحمول ، أو كأنّك سألت ربّك الرجوع إلى الدنيا لتعمل ، فانظر ماذا تستأنف ، ثمّ قال عليه السلام : عجباً لقومٍ حُبس أوّلهم على آخرهم ثمّ نادى منادٍ فيهم بالرحيل وهم يلعبون! (١) وقال الصادق عليه السلام أيضاً : ما خلق الله عزّ وجلّ يقيناً لا شكَّ فيه أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيه من الموت (٢).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّي تركتُ فيكم واعظَين ؛ صامتاً وناطقاً ، فالصامت الموت ، والناطق القرآن (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : اذكروا هادم اللذّات ، قيل له : وما هو يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : الموت (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إن كان الموت ، حقّاً ، فالفرع لماذا؟! وإن كان الشيطان عدوّاً ، فالغفلة لماذا؟! ٥

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : أغفلُ الناس مَن لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال (٦).

وأختم هذا المبحث بدعاء لقمان : إرحَمِ الفقراء لقلّة صبرهم ، والأغنياءَ لقلّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب الزهد للحسين بن سعيد : ٧٧ / ح ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩٤ / ح ٥٩٦.

٣ ـ الفتوحات المكيّة ٤ : ٣٨٧.

٤ ـ مصباح الشريعة : ١٧١ ، بحار الأنوار ٦ : ١٣٣.

٥ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٥ ـ المجلس الثاني.

٦ ـ روضة الواعظين : ٤٤٢.


شكرهم ، وارحم الجميع لطول غفلتهم (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٢٥ ح ٧٢٩.


المبحث الأربعون : في السَّتر

قال عليه السلام : وَما اَنَا يا رَبِّ وَما خَطَري ، هَبْني بِفَضْلِكَ ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ اَيْ رَبِّ جَلِّلْني بِسِتْرِكَ ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبيخي بِكَرَمِ وَجْهِكَ ، فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلى ذَنْبي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجيلَ الْعُقُوبَةِ لَاجْتَنَبْتُهُ ، لا لِاَنَّكَ اَهْوَنُ النّاظِرينَ وَاَخَفُّ الْمُطَّلِعينَ ، بَلْ لِاَنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السّاتِرينَ ، وَاَحْكَمُ الْحاكِمينَ ، وَاَكْرَمُ الْاَكْرَمينَ ، سَتّارُ الْعُيُوبِ ، غَفّارُ الذُّنُوبِ ، عَلّامُ الْغُيُوبِ ، تَسْتُرُ الَّنْبِ بِكَرَمِكَ ، وَتُؤَخِّرُ الْعُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ.

الخطر : القدرُ الرفيع ، والمقام العظيم ، والشرف والعظمة.

جَلَّل : غطَّى وسَتَر

وَبَّخ : لام وهدّد وعيّر

الحكمة : قال الراغب في «المفردات» : هي إصابة الحقّ بالعلم والعقل ، فالحكمة من الله تعالى : معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان : معرفة الموجودات وفعل الخيرات ، وهذا هو الذي وُصف به لقمان في قولهِ عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لقمان : ١٢.


ونُبِّهَ على جملتها بما وُصف بها ، فإذا قيل في الله تعالى : هو حكيم ، فمعناه بخلاف معناه إذا وُصف به غيره ، ومن هذا الوجه قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (١).

وإذا وصف بهِ القرآن فلِتَضمُنّهِ الحكمة ، نحو : (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (٢).

الغيب : ما لا ايقع تحت الحواس ، وما يغي عن علم الإنسان. ويقال للشيء : غَيبٌ وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى ، فإنّه لا يغيب عن شيء ، كما لا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السماوات ولا في الأرض. وقوله سبحانه : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (٣) ، أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه (٤).

فلا تعارضَ بين : نسبة علم الغيب إلى الله وحده كما في قولهِ تعالى : (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّـهُ) (٥).

وبين قوله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (٦).

فمِن هذا نستفيد أنّ الغيب لله على نحو الأصالة ، فهو سبحانه يعلم الغيب لذاته ، أمّا إذا نسبنا علم الغيب لأحد الرسل أو الأنبياء فبالتعليم من الله سبحانه ، ومن هذا القبيل نسبة الخلق إلى الله ونسبته إلى الإنسان ، فقد ورد تعبير : (وَاللَّـهُ خَيْرُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التين : ٨.

٢ ـ يونس : ١ ، مفردات غريب القرآن : ١٢٧.

٣ ـ الأنعام : ٧٣.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٦٦.

٥ ـ النمل : ٦٥.

٦ ـ الجنّ : ٢٦ ـ ٢٧.


الرَّازِقِينَ) في القرآن الكريم (١).

وإذا قيل الرازق : وأردنا به خالق الرزق ومعطيه والسبب له فهو الله تعالى. أمّا الإنسان فهو سبب في وصول الرزق ، فنقول : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزق الرجل عياله ، فالرازقيّة الإنسانيّة تقع في طول الرازقيّة الإلهيّة لا في عرضها. ونقول في مسألة الخلق مثل ما قلنا في الرزق : الخلق أصله : التقدير المستقيم ، ويُستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (٢) ، أي أبدعهما ، ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء ، نحو (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) (٣).

وليس الخلق الذي هو الإبداع إلّا لله تعالى. وأمّا الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال ، كعيسى عليه السلام حيث قال تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) (٤). انتهى ما قاله الراغب في «المفردات» (٥).

أمّا قوله تعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (٦) ، فيدلّ على عدم اختصاص الخلق بالله إذا أردنا المعنى اللغويّ للخلق ، وهو التقدير وقياس الشيء.

وما قلناه آنفاً في وصف الله سبحانه بأنّه أكرم الأكرمين ، حيث نسب الكرم إلى ذاته المقدّسة على نحو الأصالة ، فهو يخلق مادّة الكرم ويوصلها إلى عباده ، أمّا الإنسان فهو وسيط في إيصال الخير الإلهيّ إلى محتاجيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ١١ ، وبألفاظ مقاربة ورد في : المائدة : ١١٤ ، الحجّ : ٥٨ ، المؤمنون : ٧٢ ، سبأ : ٣٩.

٢ ـ الأنعام : ١.

٣ ـ النساء : ١.

٤ ـ المائدة : ١١٠.

٥ ـ مفردات غريب القرآن : ١٥٧.

٦ ـ المؤمنون : ١٤.


وهنا نقول لبعض المتمنطقين الذين يتّهموننا بالشرك عندما نسمّي أبناءنا بأسماء تنمّ عن الصفات الفاضلة مثل : كريم ، حليم ، حكيم ، ان يتدبّروا عاقبة هذه التهم الباطلة التي لا تعبّر إلّا عن السطحيّة. ويكفينا شاهداً على صحّة ما نقول أنّ لفظة «العليّ» من الأسماء الحسنى ، وقد سُمّي مولانا أمير المؤمنين بهذا الاسم بأمر النبيّ صلى الله عليه وآله الذي هو لسان السماء ، وكذلك سُمّي به أحفاده ومن تأسّى بهم من الصالحين.

وأعجبُ لماذا لم يعترضوا على اسم محمود وهو من الأسماء الحسنى. وقد نظم حسّان بن ثابت في حق النبيّ صلى الله عليه وآله فقال :

وشقّ له منِ اسمِه ليُجِلَّهُ

فَذُو العرشِ محمودٌ وهذا محمّدُ (١)

ويعلّمنا هذا الدعاء أن يكون الداعي منّا معترفاً بضالّتهِ وضعفه ومسكنته أمام الله سبحانه ، فيطلب منه التجاوز عن ذنبه ، والتصدّق عليه بالعفو ، ويطالبه بالستر على عوراته وعيوبه ، وبالعفو عن تقريعه وتوبيخه ولومه على ما اقترف من السّيئات والمعاصي ، ويعترف أمام ساحة الربوبيّة المقدّسة بأنّه ارتكب الذنب لا عن عناد وتحدٍّ ، بل هو الضعف البشريّ أمام طاغوت الشهوة وعواصف الهوى ، ووساوس الشيطان ، ورياح الغفلة.

ثم يعلّل ذلك معتذراً بالستر الإلهيّ ، وعظمة حلمه تعالى ، وستره على أهل الذنوب والمعاصي ، وعدم التسرّع في المؤاخذة ، أنّه يريد أن يقول : يا ربّ غرّني كرمك المرخى وسترُك العظيم ، وحلمك الواسع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مناقب آل أبي طالب ١ : ٦٣. ونُسب هذا القول في «العلل» لأحمد بن حنبل ١ : ٤٥٤ / ح ١٠٣٢ إلى أبي طالب رضوان الله عليه.


ثمَّ يشفع الدعاء بعد ذلك بالثناء على محامده تبارك وتعالى وعظيم صفاته ، فيصفه بالكرم والحلم ، والأحكميّة والستر ، وعظيم المغفرة ، وبعلمه المطلق للغيب ، ليطرق بابه تعالى طالباً العفو والمغفرة والإقالة ، وكأنّ لسان حاله يقول : اللهمّ أنت الربُّ وأنا المربوب ، وأنت الخالقُ وأنا المخلوق ، وأنت المالكُ وأنا المملوك ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الرازق وأنا المرزوق ، وأنت القادر وأنا العاجز ، وأنت القويّ وأنا الضعيف ، وأنت المُغيث وأنا المستغيث ، وأنت الدائم وأنا الزائل ، وأنت الكبير وأنا الحقير ، وأنت العظيم وأنا الصغير ، وأنت المولى وأنا العبد ، وأنت العزيز وأنا ال ذليل ، وأنت الرفيع وأنا الوضيع ، وأنت المدبِّر وأنا المدبَّر ، وأنت الباقي وأنا الفاني ، وأنت الديّان وأنا المُدان ، وأنت الباعث وأنا المبعوث ، وأنت الغنيّ وأنا الفقير ، وأنت الحيّ وأنا الميّت ، تجد مَن تعذّب يا ربِّ غيري ، ولا أجدُ مَن يرحمُني غيرَك (١).

الستر : كما أسلفنا هو التغطية على الذنب والعيب ، وهو من الأخلاق الفاضلة المندوب إليها عقلاً وشرعاً ، وأعظم الساترين على ذنوب العباد ومعاصيهم هو الله سبحانه ، وقد وصفه الإمام السجّاد عليه السلام هنا بأنّه تعالى خير الساترين ، ونحن مأمورون بالتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى ، فقد ورد عن معاوية بن وهب قوله : سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول : إذا تاب العبد المؤمن توبةً نصوحاً ، أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة ، فقلت له : وكيف يستر عليه؟ قال : يُنسي ملَكَيه ما كتبا عليه ، وأوحى إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، وأوحى إلى بقاع الأرض : اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب. فيلقى الله حين يلقاه وليس شيءٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ٢١ ـ ٢٢ / ح ١٠.


يشهد عليه بالذنوب (١).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود النبيّ عليه السلام : يا داود ، إنّ عبديَ المؤمن إذا أذنب ذنباً ثمّ رجع وتاب من ذلك الذنب ، واستحيى منّي عند ذكره ، غفرتُ له وأنسيته الحفظة وأبدلته الحسنة ، ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين (٢).

قال أمير المؤمنين عليه السلام : مَن تاب تاب الله عليه ، وأُمِرَت جوارحه أن تستر عليه ، وبقاع الأرض أن تكتم عليه ، وأُنسِيَت الحفظة ما كانت تكتب عليه (٣).

وورد في الحديث الشريف : إنّ الله تعالى إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة ، وإذا كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها [مرّةً] أخرى (٤).

وورد كذلك : أنّه يُؤتى يوم القيامة بعبد يبكي ، فيقول الله سبحانه له : لِمَ تبكي؟ فيقول : أبكي على ما سينكشف عنّي من عوراتي وعيوبي عند الناس والملائكة ، فيقول الله : عبدي ، ما افتضحتك في الدنيا بكشف عيوبك وفواحشك وأنت تعصيني وتضحك ، فكيف أفضحك اليوم بكشفها وأنت تطيعني وتبكي؟! (٥)

وورد في طيّات دعاء كميل المشهور قول أمير المؤمنين عليه السلام : فأسألُك بالقُدرةِ التي قَدَّرتَها ، وبالقضيّةِ التي حَتَمتَها وحَكَمتَها ، وغَلَبتَ مَنْ عَلَيهِ أجْرَيتَها ، أنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال : ١٧١.

٢ ـ نفسه : ١٣٠.

٣ ـ نفسه : ١٧٩.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ٢٧٢.


تَهبَ لي في هذه اللّيلَة وفي هذه الساعَة ، كلَّ جُرمٍ أجرَمتُه ، وكلّ ذَنبٍ أذنَبتُه ، وكلَّ قَبيحٍ أسررتُه ، وكلَّ جَهلٍ عَمِلتُه ، كَتَمتُه أو أعلنتُه ، أخفيتُه أو أظهَرتُه ، وكلَّ سيّئةٍ أمرتَ بإثباتِها الكرامَ الكاتبينَ الذينَ وَكّلتَهم بِحِفظِ ما يَكونُ منّي ، وجَعلتَهم شُهوداً علَيّ مَع جَوارِحي ، وكنتَ أنت الرقيبَ علَيَّ مِن ورائِهم ، والشاهدَ لِما خَفِيَ عنهم ، وبرحمتِك أخفيتَه ، وبِفَضلِكَ سَتَرْتَه (١).

ونحن مأمورون بستر عيوب المؤمنين وإخفائها لئلّا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وهذا من الأحكام الأخلاقية التي أمر بها الشارع المقدّس للحفاظ على كرامة المؤمن ، وصون الأعراض ، وحقن الدماء ، وهذه الفضيلة السلوكيّة يترتّب عليها الثواب الكبير الموعود من قبل الله سبحانه وتعالى.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن ستر على مسلمٍ ستره الله في الدنيا والأخرة (٢) ، وقال صلى الله عليه وآله : لا يستر عبدٌ عيبَ عبدٍ إلّا ستره الله يوم القيامة (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلّا دخل الجنّة (٤).

وهناك شريحة كبيرة في هذا المجتمع لا هَمَّ لها إلّا طلب عثرات المؤمنين وإحصاؤها وإشاعتها ، تعبيراً عن مخابئ العداوة والحسد والنقوص النفسيّة والبعد عن الله ، وليعلم هؤلاء أنّ عملهم هذا من الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، إذ هي من مصاديق التجسّس وإشاعة الفاحشة ، وقد قال الله تعالى فيه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح المتهجّد : ٨٤٤ / ح ٩١٠ ، إقبال الأعمال ٣ : ٣٣٦.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧١.

٣ ـ نفسه ٢ : ٢٧١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٢٧١.


بَعْضًا) (١).

والتجسّس هو تتّبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليه ، وفيه هتك لحرمات المؤمنين التي هي من حرمات الله ، ففي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : من استمع خبر قوم وهم له كارهون صُبَّ في أذنهِ الآنك يوم القيامة! (٢) والآنك هو الرصاص الذائب.

وهذه الحالة في من حُبّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا ، وجوابها في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٣).

ولا شكّ أَنّ هذه الصفات النفسانيّة الرذيلة من أمراض الباطن التي تقود إلى الطبع على القلب وانتكاسته وانعدام الرؤية ، ولهذه الصفات آثار اجتماعيّة مقيتة ، لأنّها تبذر الفُرقة بين صفوف المؤمنين ، وتصادر هويّاتهم وتهدم مروءتهم ، وتمرّغ كراماتهم في الوحل.

إنّ إشاعة الفاحشة في الوسط الاجتماعيّ لها أثر كبير وخطير في تشجيع العوامّ على التوثّب والتجرّؤ على محارم الله ، حيث يسهل على النفس فعل المنكر بعد شيوعه والاعتياد عليه ، وبعد أن يصبح حالة مألوفة لا تهتزّ لها المشاعر ولا تنكرها الأذواق ، وهنا يقلّ دور العاملين وتأثيرهم في عمليّة الإًلاح والتغيير.

وهنالك حالة مرضيّة أخرى ، هي إحصاء الأخطاء وادّخارها إلى وقت المشاجرة والخصومة ، وقد قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام : إنّ أقرب ما يكون العبد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٢.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٠٨.

٣ ـ النور : ١٩.


إلى الكفر أن يواخي الرجلُ الرجلَ على الدِّين ، فيُحصي عليه عثراته وزلّاته ليعنّفه بها يوماً ما! (١)

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أبعدُ ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي لرجلٍ هو يَحفظ عليه زلّاته ليعيِّره بها يوماً ما (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ، ومن عيّر مؤمناً بشيء لم يَمُت حتّى يَركبَه (٣).

وروى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت له : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال : نعم ، قلت : يعني سِفْلَيه؟ «أي عورته البدنية» ، قال عليه السلام : ليس حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه (٤).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : من روى على مؤمن روايةً يريد بها شَينَه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس ، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان (٥).

وهذه الرواية فيما إذا رأى منه عيباً حقيقيّاً ، أمّا لو كانت الرواية افتراءً فهو من الإفك والبهتان ، وذلك أشدّ. وقد أعطانا الإمام موسى بن جعفر عليه السلام درساً تربويّاً مهمّاً في قطع دابر هؤلاء واستئصال شوكتهم ، في موعظة حسنة بليغة مرويّة عن محمّد بن الفضيل ، قال : قلتُ له : جُعلت فداك ، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه ، فأسأله عنه فينكر ذلك ، وقد أخبرني عنه قومٌ ثِقات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ١٠٤ / ح ٨٣ ، الكافي ٢ : ٣٥٤ / ح ٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٧.

٣ ـ نفسه ٢ : ٣٥٦ / ح ٢ ، المحاسن ١ : ١٠٤ / ح ٨٢ وفيه : ومَن عيّر مسلماً ....

٤ ـ المحاسن : ١٠٤ / ح ٨٣ ، الكافي ٢ : ٣٥٨ / ح ٢.

٥ ـ المحاسن : ١٠٣ / ح ٧٩ ، الكافي ٢ : ٣٥٨ / ح ١ وفيه : ... إلى ولاية الشيطان ، فلا يقبله الشيطان!


قال عليه السلام : يا محمّد ، كذّبْ سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قَسامة (١) ، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم ، ولا تُذيعنّ عليه شيئاً تَشينه به وتهدم به مروءته ، فتكون من الذين قال الله في كتابه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٢).

والقَسامة خمسون شاهداً.

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشرَ مَن أسلم بلسانه ولم يُسلم بقلبه ، لا تَتَّبِعوا عثرات المسلمين ، فإنّه من تتبَّع عثرات المسلمين تَتبَّع الله عثرتَه ، ومَن تتبَّع الله عثرته يفضحه (٣).

وقد اعتبر الشارع الأعظم الحديث والمجالس أمانة لا يجوز كشفها إلّا برخصة من أصحابها ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا حدّث الرجل الحديث ثمّ التفت ، فهي أمانة (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : الحديث بينكم أمانة.

وورد في الأثر المعتبر : أنّ من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك (٥).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : قولوا الخير تُعرَفوا به ، واعملوا الخير تكونوا من أهله ، ولا تكونوا عُجُلاً مَذاييع ، فإنّ خياركم الذين إذا نُظر إليهم ذُكر الاله ، وشراركم المشّاؤون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قال ابن درير : القَسامة : الجماعة من الناس يشهدون أو يحلفون على الشيء ، وسُمّوا قسامة لأنّهم يقسمون على الشيء أنّه كان كذا وكذا ، أو لم يكن. [ترتيب جمهرة اللغة ٣ : ١٣٣ ـ «قسم»].

٢ ـ الكافي ٨ : ١٤٧ / ح ١٢٥ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٢٩٥ / ح ١٦٣٤٣ ، والآية في سورة النور : ١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٤.

٤ ـ سنن الترمذي ٣ : ٢٣٠ / ح ٢٠٢٥.

٥ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧٣.


بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة ، المبتغون للبُرآء المعايب (١).

وفي الحديث المشهور قال النبيّ صلى الله عليه وآله : المسلم مَن سَلِم المسلمون من يده ولسانه (٢).

وفي الأخبار أنّ شاذويه بن الحسين القمّيّ قال : دخلت على أبي جعفر «الباقر» عليه السلام وبأهلي حَبَل «حمل» ، فقلت : جُعلت فداك ، أُدعُ الله أن يرزقني ولداً ذكراً. فأطرق عليه السلام مليّاً ثمّ رفع رأسه فقال : إذهبْ فالله يرزقك غلاماً ـ قالها ثلاث مرّات ـ.

قال : فقدمت مكّة فصرت إلى المسجد ، فأتى محمّد بن الحسن بن صباح برسالة من جماعة من أصحابنا ، منهم : صفوان بن يحيى ، ومحمّد بن سنان ، ومحمّد بن أبي عمير وغيرهم ، فأتيتهم فسألوني ، فأخبرتهم بما قال عليه السلام ، فقالوا لي : فهمت عنه عليه السلام ذكراً وزكيّاً؟

فقلت : ذكراً قد فهمت ، قال محمّد بن سنان : إمّا أنت ستُرزق ولداً ، إنّه إمّا يموت على المكان أو يكون ميّتاً ، فقال أصحابنا لمحمّد بن سنان : أسأتَ ، قد علمنا الذي علمت ، فأتى غلام في المسجد فقال لشاذويه القمّي : أدرك فقد مات أهلك. قال : فذهبت مسرعاً ، فوجدتها على شُرف الموت ، ثم لم تلبث أن ولدت غلاماً ميّتاً (٣).

وروي أنّ الإمام الباقر عليه السلام تأذّى من تصرّف محمّد بن سنان لأنّه أذاع سرّاً من أسراره عليه السلام من دون رخصة منه ، وقيل : إنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكلّم محمّد بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٢٥ / ح ١٢.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٦٢ ـ باب النوادر / ح ٥٧٦٢.

٣ ـ معجم رجال الحديث ١٧ : ١٦٦ ، وفي طبعة أخرى ١٦ : ١٧٤.


سنان حتّى مات.

وفي «الكافي» في قوله تعالى : (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) (١) ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قرأ الآية فقال عليه السلام : واللهِ ما قتلوهم بأيديهم ، ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها ، فأُخذوا عليها فقُتِلوا ، فصار قتلاً واعتداءً ومعصية (٢).

لقد كان العالم الكبير محمّد بن سنان ضحيّة لسانه ، هذا اللسان الذي هو أخطر جوارح الإنسان وأشدّها إضراراً بالمرء ، فهو الوسيلة التي يستعملها ضعاف النفوس والإيمان في الخوض بالباطل ، وهتك حرمات المؤمنين ، والغناء وشهادة الزور ، فاللسان هو المترجم الظاهريّ عمّا يجيش في باطن الإنسان من حالاتٍ وخصال وصفات ، فإذا صلح الباطن صلح اللسان وغيره ، وإذا خبث القلب خبث اللسان وبقيّة الجوارح.

قال الإمام عليّ عليه السلام : ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظَهَر في فَلَتاتِ لسانه ، وصَفَحاتِ وجهه (٣).

إذن هناك علاقة وارتباط وثيق بين الباطن والظاهر ، كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلّا حصائدُ ألسنتهم؟! (٤)

وورد عنه صلى الله عليه وآله أيضاً قوله : من يتكفّل لي ما بين لِحْيَه ورِجْلَيه ، أتكفّل له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٦١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٧١ / ح ٦.

٣ ـ نهج البلاغة ٤ : ٧ ح ٢٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ١١٥ / ح ١٤.


بالجنّة (١). أي يضمن صلى الله عليه وآله الجنّة لمن يتكفّل بحفظ لسانه وفَرْجِه ، وقال صلى الله عليه وآله : أكثرُ ما تَلجُ به أمّتي النار الأجوفان : البطن والفَرْج (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتّى يستقيمَ قلبه ، ولا يَستقيمُ قلبه حتّى يستقيم لسانه (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : إذا أصبح ابن آدم أصبَحَت الأعضاء كلّها تُكَفِّر اللسان فتقول : اتّقِ اللهَ فينا ، فإنّما نحن بك ، فإذا استقمتَ استقمنا ، وإن اعوَجَجْتَ اعوججنا (٤).

وربّما تترتّب على زلّات اللسان آثار فرديّة واجتماعيّة خطيرة تقود صاحبها إلى النار ، وإلى إقامة الحدود وإنزال العقوبات الدنيويّة ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : يعذّب اللهُ اللسانَ بعذابٍ لا يُعذَبُ به شيئاً من الجوارح ، فيقول : أي ربّ ، عذّبتَني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً ، فيقال له : خرَجَت منك كلمةٌ فبَلغَت مشارق الأرض ومغاربها ، فسُفِكَ بها الدم الحرام ، وانتُهِب بها المال الحرام ، وانتُهك بها الفَرْجُ الحرام ، وعزّتي وجلالي ، لَأُعذّبنّك بعذاب لا أُعذّب به شيئاً من جوارحك! (٥)

وورد عن الإمام السجّاد عليه السلام قوله : إنَّ لسان ابن آدم يُشرف على جميع جوارحه كلَّ صباح فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتَنا ، ويقولون : اللهَ اللهَ فينا ، ويناشدوه ويقولون : إنّما نُثاب ونعاقب بك (٦).

إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أكرمه الله تعالى بالنطق ، لكنّ الكثير بدّل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاستذكار ٨ : ٥٦٥ ، التمهيد ٥ : ٦٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧٩ / ح ٥.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٦.

٤ ـ مسند أحمد ٣ : ٩٦.

٥ ـ الكافي ٢ : ١١٥ / ح ١٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١١٥ / ح ١٣.


نعمة الله كفراً ، وكان عاقبة أمره خسراً.

وسنفرد مباحثَ مستقلّة حول الغيبة والنميمة والبهتان إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.


المبحث الحادي والأربعون : في الحياة والقيموميّة

قوله عليه السلام : فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ ، وَعَلى عَفُوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ ، وَيَحْمِلُني وَيُجَرِّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي ، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ ، يا حَليمُ يا كَريمُ ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ ، يا غافِرَ الذَّنْبِ ، يا قابِلَ التَّوْبِ ، يا عَظيمَ الْمَنِّ ، يا قَديمَ الْاِحسانِ ، اَيْنَ سِتْرُكَ الْجَميلُ ، اَيْنَ عَفْوُكَ الْجَليلُ ، اَيْنَ فَرَجُكَ الْقَريبُ ، اَيْنَ غِياثُكَ السَّريعُ ، اَيْنَ رَحْمَتِكَ الْواسِعَةِ ، اَيْنَ عَطاياكَ الْفاضِلَةُ ، اَيْنَ مَواهِبُكَ الْهَنيئَةُ ، اَيْنَ صَنائِعُكَ السَّنِيَّةُ ، اَيْنَ فَضْلُكَ الْعَظيمُ ، اَيْنَ مَنُّكَ الْجَسيمُ ، اَيْنَ اِحْسانُكَ الْقَديمُ ، اَيْنَ كَرَمُكَ يا كَريمُ ، بِهِ فَاسْتَنْقِذْني ، وَبِرَحْمَتِكَ فَخَلِّصْني.

يتوجّه صاحب الدعاء عليه السلام بحمد الله كما يستحقّه حمداً كثيراً ، حامداً إيّاه على طول حلمه وأناته تجاه عبده المذنب المقصّر ، وعلى عفوه وهو القادر على ما يريد ، ومن ذا الذي يمنع السيّدَ القدير ، إذا أراد الانتقام من عبده الآبق المقصّر تجاه مولاه الذي غمره بالكرم وأفاض عليه صنوف المواهب والنعم!

ثمّ يعود عليه السلام لتقديم فروض الذلّة والمسكنة أمام عظمة الله ، ويعتذر عن تقصيره الصادر عن الغفلة والغرور ، والثقة بعظيم الستر ، وسعة الرحمة ، وحسن الظنّ بآلاء الله وكرمه.


ثمّ يعود إلى الثناء على محامد الله كمقدّمة من آداب الدعاء لدى ذوي الحاجات إذا أرادوا أن يطرقوا أبواب السلاطين والعظماء ، فيصفه بالحلم والكرم ، والحياة والقيمومة ، ومغفرة الذنب ، وقبول توبة عباده ، وبالمنّ العظيم ، والإحسان القديم ، وباقي صفات الكمال والجلال التي هو أهلها وفوقها.

وهنا يتوجّه إلى ربّه بقلبٍ ملؤه الأمل والوجل ، فيبدو كالحيران المضطرب ، بل كالغريق الذي يتشبّث بما ينقذه ، والطريد الذي يتعلّق بأستار رحمة الله القائمة على الستر والعفو والفَرَج ، وإغاثة الملهوف ، وإيواء الهارب. ت

إنّه يستغيث ربّه طالباً النجاة ، مطالباً بالمعهود من عطاياه الفاضلة ، ومواهبه الهنيئة ، وصنائعه السنيّة ، وفضله العظيم ، ومنّه الجسيم ، إنّه يستشفع بهذه الصفات والكمالات التي هي عين الذات ، ويشْفَعُها بنبيّ الرحمة محمّد صلوات الله عليه وعلى آله الكرام ، طالباً الاستنقاذ والخلاص ، والنجاة من عقاب الله الأليم الذي لا تقوم له السماوات والأرض ، فكيف بالعبد الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين!

أمّا استعمال «أين» التي هي أداة استفهام عن المكان حين يقول : أين سترك الجميل ، أين عفوك الجليل ... إلى آخره ، فإنّ صاحب الدعاء عليه السلام ينزّل خطابه منزلة الخطاب البشريّ عندما يستطبئ شيئاً ، فعندما يسأل بـ «أين» فهذا السؤال يستبطن الدعوة والطلب والشوق إلى نزول الرحمات والفيوضات.

لقد ابتدأت عدّة فقرات بحمد الله سبحانه ، وهذا من أدب العبوديّة وأدب الدعاء ، فأنَّ الله هو خالق الخلق عن علم واختيار ، وهو الذي صبّ في كلّ مفردات هذا الكون الرحيب من الجمال والروعة والكمال ما يناسبه ، وهو سبحانه المحمود على أفعاله وخصاله ، إذ هو مصدر كلّ خير وجمال وكمال ، فكلّ ما هو محمود فإنّ


ذلك الحمد يرجع إلى الله على وجه الحقيقة وتمام الاستحقاق.

ومهما حَمِد الإنسانُ ربّه ، وذكره وسبَّحه ونزّهه فإنّما هو على قدر إحاطته وعلمه ، فحمدُ النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام لله تبارك وتعالى ، وحمد الرسل والنبيّين والملائكة والمقرّبين لربّهم جَلّ وعلا ، هو أعمق وأوسع دائرةً من حمدنا نحن لربّنا عزّ وجلّ ، لأنّ إحاطتهم أوسع وأدقّ.

قال الراغب : الحمد لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح وأعمّ من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، وممّا يقال منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته ، وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلّا في مقابل النعمة ، فكلُّ شكرٍ حمدٌ ، وليس كلّ حمدٍ شكراً ، وكلّ حمدٍ مدح ، وليس كلّ مدحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمودٌ : إذا حُمد ، ومحمّد : إذا كَثُرت خصاله المحمودة ، ومحمّد : إذا وُجِد محموداً (١).

الحيّ : ذو الحياة ، والحياة تستعمل للتعبير عن القوّة الموجودة في النبات والحيوان ، قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (٢).

وتستعمل للتعبير عن القوّة الحسّاسة ، قال تعالى : (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) (٣).

وتستعمل للقوّة العاملة العاقلة ، قال سبحانه وتعالى : (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣١.

٢ ـ الحديد : ١٧.

٣ ـ فاطر : ٢٢.


فَأَحْيَيْنَاهُ) (١).

وتستعمل للتعبير عن ارتفاع الغمّ ، قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢).

وتستعمل للإشارة إلى الحياة الأخرويّة الأبديّة ، قال تعالى : (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (٣).

وتستعمل لوصف الحياة التي يُوصف بها الباري سبحانه ، فإنّه إذا قيل فيه تعالى : هو حيٌّ ، فمعناه : لا يصحُّ عليه الموت ، وليس ذلك إلّا لله عزّ وجلّ.

هذا ما ذكرناه ملخّصاً من المفردات للراغب الإصفهانيّ (٤).

فالحيّ الذي نحن بصدده هو الله سبحانه.

وتُقسّم الحياة هنا ثلاثة أقسام تخصّ الإنسان ، وحياة رابعة تخص الله سبحانه.

١. الحياة الدنيويّة : وهي هذه الحياة التي نحياها ، وهذه مسبوقة بالعدم ، ملحوقة بالموت والفناء ، وقد ورد في المنطق القرآنيّ أنّها رديئة وفانية ، وأنّها دار لهو ومتاع ولعب ، وهي محفوفة بالابتلاءاتِ والآلام ، وهي دار الغرور ، وذلك بلحاظ إضافتها إلى الحياة الأخرويّة ونعيمها ودوامها.

قال تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (٥) ، وقال سبحانه : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ١٢٢.

٢ ـ آل عمران : ١٦٩.

٣ ـ الفجر : ٢٤.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣٩.

٥ ـ الرعد : ٢٦.

٦ ـ الأنعام : ٣٢.


٢. الحياة البرزخيّة : وهي الحياة التي تحياها الروح في عالم القبر ، وقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله : إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران (١).

٣. الحياة الأخرويّة : وهي الحياة الحقيقيّة التي ليس معها موت ولا فقر ولا بلاء ولا منغّصات ، وهذه الحياة المثالية مملوكة لله سبحانه أيضاً ، غير خارجة عن إرادته وقيموميّته ، فهو الذي يفيض النعم والخيرات ، ويبعث السرور في نفوس أوليائه ، قال تعالى : (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (٢).

وفي هذه الأقسام تكون الحياة عارضة على الكائن الحيّ ، مفاضة عليه من الخارج.

٤. الحياة الإلهيّة : وهنا تكون الحياة عين ذاته المقدّسة ، غير عارضة عليه ، وهي غير مسبوقة بالعدم ، ولا متبوعة بالموت أو الفناء ، وهذه هي الحياة الحقيقيّة المتّصفة بالكمال من كلّ جهة ، قال الله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) (٣).

وهذه الحياة واجبة ؛ إذ بها يقوم كلّ حيّ ، ويقع الوجود بها تحت سلطة التدبير والتصرّف والإرادة الإلهيّة ، ومن هنا نقول : إنّه سبحانه واجب الوجود ، وغيره ممكن الوجود.

القيّوم : هو القائم الحافظ لكلّ شيء ، والمعطي له ما به قوامه ، قال تعالى : (اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٩٤ ، بحار الأنوار ٦ : ٢٧٥ ، وفيه قوله : صلى الله عليه وآله : القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران.

٢ ـ سورة ق : ٣٥.

٣ ـ الفرقان : ٥٨.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٤١٧ والآية في سورة البقرة : ٢٥٥.


قال السيّد الطباطبائيّ قدس سره : القيوم على «وزن» فَيْعُول وصف يدلّ على «صيغة» المبالغة ، والقيام هو حفظ الشيء ، وفعله وتدبيره ، وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه. كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب ؛ للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كلّ منها.

وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خَلْقه لنفسه في كلامه حيث قال تبارك وتعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (١). وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة : (شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل ، فلا يُعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود إلّا بالعدل ، بإعطاء كلّ شيء ما يستحقّه. ثم بيّن أنّ هذا القيام بالعدل مقتضى اسمَيهِ الكريمَين : العزيز والحكيم ، فبعزّته يقوم كلّ شيء ، وبحكمته يعدل فيه (٣).

تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الموجودات كلّها قائمة به وجوداً وبقاءً ، غير مستغنية عنه ، وليس لها استقلاليّة في حركتها وديمومتها ، وقيمومة الله على الموجودات تعني : الخالقيّة والرازقيّة ، والمبدأ والمعاد ، والحياة والموت ، والرحمة وغيرها من الصفات الإضافيّة ، أما هو سبحانه فهو القائم بذاته ، والمستغني عن غيره ، وإنّما يقوم غيرُه بالله جلّ وعلا.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٣٣.

٢ ـ آل عمران : ١٨.

٣ ـ تفسير الميزان ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.


المبحث الثاني والأربعون : في المُلك

قال عليه السلام : يا مُحْسِنُ يا مُجْمِلُ ، يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ ، لَسْتُ اَتَّكِلُ فِي النَّجاةِ مِنْ عِقابِكَ عَلى اَعْمالِنا ، بَلْ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا ، لِاَنَّكَ اَهْلَ التَّقْوى وَاَهْلَ الْمَغْفِرَةِ تُبْدِئُ بِالْاِحْسانِ نِعَماً ، وَتَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ كَرَماً ، فَما نَدْري ما نَشْكُرُ ، اَجَميلَ ما تَنْشُرُ ، اَمْ قَبيحَ ما تَسْتُرُ ، اَمْ عَظيمَ ما اَبْلَيْتَ وَاَوْلَيْتَ ، اَمْ كَثيرَ ما مِنْهُ نَجَّيْتَ وَعافَيْتَ ، يا حَبيبَ مَنْ تَحَبَّبَ اِلَيْكَ ، وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ اِلَيْكَ ، اَنْتَ الْمُحْسِنُ وَنَحْنُ الْمُسيؤونَ فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبيحِ ما عِنْدَنا بِجَميلِ ما عِنْدَكَ ، وَاَيُّ جَهْل يا رَبِّ لا يَسَعُهُ جُودُكَ ، اَوْ اَيُّ زَمان اَطْوَلُ مِنْ اَناتِكَ ، وَما قَدْرُ اَعْمالِنا في جَنْبِ نِعَمِكَ ، وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ اَعْمالاً نُقابِلُ بِها كَرَمَكَ ، بَلْ كَيْفَ يَضيقُ عَلَى الْمُذْنِبينَ ما وَسِعَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ.

مدخل لغويّ :

المحسن : الإحسان يقال على وجهين ، أحدهما : هو الإنعام على الغير يقال : أحسَنَ إلى فلان.

والثاني : إحسان في فعله ، وذلك إذا علم علماً حسناً ، أو عمِلَ عملاً حسناً ،


وعلى هذا قول الإمام عليّ عليه السلام : الناس أبناء ما يُحسِنون (١).

أي : منسوبون إلى ما يعلمون وما يعلمونه من الأفعال الحسنة (٢).

وقد ورد في «نهج البلاغة» عنه عليه السلام قوله : قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنه (٣).

المُجْمِل : المحسن ، الرازق ، الذي حَسُنَت صنائعه.

المُفضِل : المحسن ابتدءً بلا علّى له. ويقال كذلك : الفاضل ، وعند المبالغة نقول : الفضّال ، والفضول ، والفَضيل ، والمِفْضِل ، والمِفْضال.

والمفضل ، أي الكثير الفضل.

التقوى : قال الراغب : التقوى في تعارف الشرع حِفظ النفس عمّا يؤثِم ، وذلك بترك المحظور ، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما رُوي : الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، ومَن رَتَع حول الحِمى فَحقيقٌ أن يَقَع فيه (٤) ، (٥).

والتقوى في علم الأخلاق : مَلَكةٌ «صفة راسخة» تبعث على صيانة النفس عن المعاصي.

وقال صاحب «جامع السعادات» : هي مَلَكة الاتّقاء عن مطلق المعاصي خوفاً من سخط الله وطلباً لرضاه (٦). نرجو مراجعة مبحث التقوى في كتابنا الموسوم بـ «المباحث الميسّرة ١٤١ ـ ١٥٥». نَشَر الشيء : بسَطَهُ وكَشَفَهُ وأظهَرَهُ وأذاعَه ، والنشر مقابل : الطي والستر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٥١ / ح ١٤.

٢ ـ مفردات غريب القرآن : ١١٩.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٨١.

٤ ـ ينظر : صحيح البخاريّ ١ : ١٩ ـ كتاب الإيمان.

٥ ـ مفردات غريب القرآن : ٥٣١.

٦ ـ جامع السعادات ٢ : ١٧٥.


أبلى : نقول : أبلى الله عباده ، أي : اخْتَبَرهُم بِصنعٍ جميل.

أَولى : صَنَع المعروف.

تبتدئ هذه الفقرة بالثناء على محامد الله سبحانه ، وتضصفه بما هو أهله من الإحسان والإنعام والإفضال ، وأنّه أهل التقوى وأهل المغفرة ، ثمّ يبسط الداعي دعاءه لشكر الله على ما نشر من جميل الفعال ، وما ستر من قبيح الخصال ، وعلى ما نجّى من الآفات والبليّات ، وعلى ما عافى بعد السقم والأوجاع.

ويصفه سبحانه بالمحبّ الواله لمن أحبّه ، وأنّه قرّة عين من استجار به ولاذ بجانبه الكريم ، وينتقل إلى الاعتراف أمام عظمة الله بالإساءة والتقصير ، لكنّه يعود ليصف ربّه بالإحسان والعفو والحلم الطويل على من أساء واقترف. ويتحدّث عن النعم الجِسام والمواهب الكريمة التي لا يمكن أن نقابلها بأعمالنا القليلة.

بهذه الروح السامية ، والنفس الصافية ، والقلب السليم ، يعلّمنا الإمام عليه السلام آداب الدعاء ، وآداب الاستطراق على ساحة الربوبيّة المقدّسة ، إنّ الدنيا متْجرُ أولياء الله ، ومهبط ملائكته ، وميدان رسله ، ورأس مال الصالحين للاتّجار مع الله. والمؤمنون قادرون ـ بتوفيق الله وتسديده ـ أن يستثمروا كلّ لحظة منها في عمل عباديّ نافع يقرّبهم إلى الله سبحانه.

إنّ الإنسان الذي بين يديه شيء من حطام الدنيا وخيراتها يستطيع أن يقدّم منه شيئاً للصالح بعنوان القربة ، وهذا يعتبر قرضاً حسناً لله سبحانه ، وذخيرةً نافعة ليوم المعاد. وقد وعد الله سبحانه أن يضاعف هذا القرض أضعافاً مضاعفة ، قال سبحانه : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (١) ، وقال تعالى : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ١٦٠.


أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّـهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (١) ، وهذا أجر الشاكرين.

أمّا لو أُخذَ هذا منه قسراُ بالبلاء ونحوه ، فإن كان صابراً نال أجر الصابرين ، ويكفي الصابرين فخراً وكرامة أن الله سبحانه صلّى عليهم في محكم كتابه المبين حيث قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (٢).

وأشير هنا إلى أنَّ الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن الناس دعاء.

إذن فالخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات مع الصبر فائدة ورحمة ونعمة ما دامت تؤدّي إلى القرب من الله.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : إنّ المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة ، بل النعم من حيث إنّها تسوق الإنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة (٣).

فكلّ ما يقود إلى القرب من الله هو نعمة في نظر العقلاء : المال ، الصحّة ، العلم ، والمواهب الإلهيّة كلّها نعم ، والبلاء والفقر والمرض والتشريد ، والتعذيب والقتل كذلك نِعَم إذا قابل الإنسان ذلك بالصبر والرضى ، ونال به مرضاة الله تبارك وتعالى.

يقول «صاحب الميزان» قدس سره : ولذا كان القرآن الكريم لا يعدُّ هذه العطايا الإلهيّة ، كالمال والجاه والأزواج والأولاد وغير ذلك ، نعمةً بالنسبة إلى الإنسان إلّا إذا وقعت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٦١.

٢ ـ البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧.

٣ ـ تفسير الميزان ١٠ : ٢٣٩.


في طريق السعادة ، وكانت مُنْصَبِغةً بصبغة الولاية الإلهيّة فتقرّب الإنسان إلى الله زلفى ، وأمّا إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنّما هي نقمة وليست بنعمة ، والآيات في ذلك كثيرة (١).

إنّ الكثير من النعم والأموال والأولاد والعطايا الإلهيّة التي تحت يد الإنسان ليست ملكاً حقيقياً له ، بل هو مخوّل بالتصرّف فيها وفق الضوابط والموازين الشرعيّة ، وكثيراً ما تبعث هذه الأموال والنعم الغرور في نفسه ، وتركّز الآمال العريضة عنده ، وتلهيه عن ذكر الله ، وتصدّه عن قبول الحقّ ، وتبعث الخيالات الفاسدة في ذهنه ، فيتصوّر أنّه يملكها وأنّها قادرة على أن تعصمه من أمر الله.

والواقع أنّ هذه الأموال قد تكون وبالاً عليه إذا أساء التصرّف فيها ، ولم يدفع الحقّ الشرعيّ المتعلّق بها ، وقد تكون عرضة للزوال في لحظة واحدة.

بعد هذه المقدّمة نقول : إن الربّ هو المالك الذي يدبّر أمر مملوكه ، وفيه معنى المُلك ، وقلنا : إنّ الملك نوعان : الملك الحقيقيّ ، والملك الاعتباريّ فكلّ ما تقع عليه أيدينا من الأعيان والأولاد والأزواج وغيرها هو من الملك الاعتباريّ.

فنحن نتصرّف فيه بالتخويل والتسليط والتمكين ، وهذه الأشياء غير قائمة بنا ، فلو امتلك الإنسان بستاناً فهذا ملك اعتباريّ لقيام ذلك البستان بنفسه مستقلّاً عن المالك ، أمّا لو قلنا : إنّ للإنسان رأساً وعيناً ويداً ورجلاً ، فهذه الأعضاء ليس لها وجود مستقلّ بذاتها ، بل هي قائمة بقيام الإنسان ، وهذا من الملك الحقيقيّ البشريّ. على أنّ هذا الملك يرجع في الحقيقة إلى الملك الحقيقيّ لله سبحانه ، وهو مفتقر إلى الله في أمرين :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ٨١.


١ ـ الوجود ٢ ـ التدبير.

وملك الإنسان لنفسه وأعضائه على نحو الحقيقة ، وملكه لغيره على وجه الاعتبار ، يقع في طول الملك الحقيقيّ لله سبحانه ، إذ الله يملك الإنسان وما ملك.

فلو قلنا : إنّ زيداً يملك عبداً ، وهذا العبد يملك أرضاً ، فهؤلاء كلّهم ملك لله تعالى ، وإن مَلك بعضهم بعضاً ، قال تعالى : (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) ، وقال سبحانه : (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (٢).

والملك الذي يناله الإنسان بالتمليك من الله سبحانه هو نعمة وموهبة وفيض إليهّ بحدّ ذاته ، لأنّه محض خير وبركة يعمّ نفعها الفردَ والمجتمع ، أمّ لو وقعت هذه النعم في أيدي الظالمين والفاجرين والغاصبين فستكون مذمومة ، بل تكون نقمة ، وذلك بفعل الإنسان ، والمسألة تتعلّق بمسائل الابتلاء والفتنة والامتحان.

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ) (٣).

على أنّ هناك فوارق كبيرة بين ملك الله وملك البشر ، فالله سبحانه هو المالك على الإطلاق ، وله حقّ التصرّف المطلق في مخلوقاته ، وهذا التصرّف مستند إلى ذاته المتعالية المقدّسة وإرادته من دون مانع أو تأثير خارجيّ. وليس هناك إنسان له القابليّة على التصرّف في الموجودات إلّا بالإذن الإلهيّ.

والملكيّة الإلهيّة لا تخرج عن يده وسطوته تعالى ، سواء كانت في يد الإنسان ، أم بعد خروجها من يده بالموت والانتقال بالمعاملات ونحوها ، أمّا الإنسان فيملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحديد : ٧.

٢ ـ البقرة : ٢٥٥.

٣ ـ البقرة : ٢٥٨.


ثمّ تخرج هذه الملكيّة منه بالموت وغيره. فالملك الاعتباريّ لابدّ أن يزول ويخرج من يد الإنسان ليعود إلى مالكه الحقيقيّ وهو الله سبحانه.

قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (١).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (٢).

ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : كن وصيَّ نفسك (٣). فالدِّين يأمرنا أن نصرف الأموال ، وأن نفعل المبرّات والصدقات ونحن أحياء ، ولا ننتظر من الأولاد فعل ذلك بعد الموت ، انتهى مبحث الملك.

ونهاية الفقرة تتحدّث عن نعمة هي من أعظم نعم الله على الإنسان ، ألا وهي مسألة رفق الله بالعباد ، وطول حلمه عن العاصي ، وعظيم ستره عليهم وإمهالهم لعلّهم يرجعون إلى ربّهم.

وكلّ مسلم مأمور بالدعوة إلى الله ، وتبليغ أحكامه ، وقيادة أفراد المجتمع إلى ساحة الإيمان.

قال تعالى : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٤).

وأوّل الدعاة إلى الخير هو الله سبحانه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصص : ٥٨.

٢ ـ الأنعام : ٩٤.

٣ ـ الكافي ٧ : ٦٥ / ح ٢٩.

٤ ـ النحل : ١٢٥.


قال الله تعالى : (وَاللَّـهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (١).

والأنبياء والرسل هم رموزٌ إيمانيّة للدعوة إلى الله سبحانه.

قال تعالى على لسان نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله : (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) (٣).

فأمَرَ الله الدعاة والمبلّغين بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى ، وبإقامة الدليل ، ونبذ العنف والأهواء ، واستعمال اللين والرفق مع عباد الله.

لقد أراد الله سبحانه نجاة عباده وهدايتهم إلى سواء السبيل ، وصراطه المستقيم الذي يضمن لهم السعادة في الدارين ، ولولا أن يُمهِل الله عباده في المؤاخذة لهلك كلّ من عليها ، لكنّه شاء برحمته أن يؤخّرهم لعلّهم يرجعون عن كفرهم وعنادهم ومعاصيهم إلى طريق التوحيد والطاعة والكرامة الإلهيّة.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤).

وهذا لسان القرآن الناطق يتحدّث عن الله سبحانه مخاطباً نبيّه موسى عليه السلام وأخاه هارون عليه السلام أن يذهبا إلى طاغية عصرهم فرعون لدعوته إلى طريق الله ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٢٥.

٢ ـ يوسف : ١٠٨.

٣ ـ الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦.

٤ ـ الروم : ٤١.


ونصحهما بالحديث معه بالرفق واللين لإلقاء الحجّة البالغة عليه :

(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (١).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٤٣ ـ ٤٤.


المبحث الثالث والأربعون : في الرفق

الرِّفق : هو اللين والمداراة ، ويترتّب عليه المعاملة بلطف ، وهو من نتائج الحلم وضدّه الخُرْق : وهو الغلظة والفظاظة والعجلة ، ويترتّب عليه سوء التصرّف ، وهو من نتائج الغضب والعصبيّات.

قال تعالى مخاطباً نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله : (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١).

والرفق من الصفات النفسيّة الفاضلة التي لها أثرها البالغ في بناء الحياة المستقرّة والمتمدّنة القائمة على الأخلاق والضوابط ، وإرساء قواعد الخليّة العائليّة الإيمانيّة. والرفق له أهمّيته في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي مجالات التربية والتعليم وغيرها من المصالح والميادين الاجتماعيّة. ونحن نعلم أنَّ الطاعة والاتّباع إذا كانت مستندة إلى القناعة والمحبّة والرضى ، كانت قواعدها راسخة رغم كلّ الظروف.

أمّا إذا كانت نتيجة القوّة والضغط والتسلّط فإنّها تقود إلى التمرّد والرفض في الفرص التي تتيسّر فيما بعد. إنّ القلوب والنفوس والأرواح لا تُفتح إلّا بالمحبّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ١٥٩.


والقناعة ، ونعم ما قيل : إنّ فتح القلوب أصعب من فتح الممالك.

إنّ المُرفِق الأوّل بالعباد هو الله سبحانه ، ولولا رفقه بنا لصبّ العذاب علينا صبّاً نتيجة ذنوبنا ومعاصينا ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت النماذج الرائعة للرفق والمداراة.

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : إنَّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (١).

وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله قال : إنَّ الرفق لم يُوضَع على شيءٍ إلّا زانه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : الرفق يُمْن والخُرق شؤمٌ (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : من كان رفيقاً في أمره نال ما يريده من الناس (٤).

والرفق رحمة إلهيّة وفيض ربّاني ، إذا أنزله الله على قلب عبده كان هذا ترجمةً لحبّ الله لذلك العبد.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا أحبّ الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق (٥).

ونستشفّ من لسان الروايات الشريفة أنّ الرفق مجمع فضائل عديدة ، ومصدر خير كثير.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا أحبّ الله عبداً أعطاه الرفق (٦). ومن يُحرِم الرفق يُحرِم الخيرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١١٩ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٢ : ١١٩ / ح ٦.

٣ ـ نفسه ٢ : ١١٩ / ح ٤.

٤ ـ نفسه ٢ : ١٢٠ / ح ١٦.

٥ ـ مسند أحمد ٦ : ٧١.

٦ ـ شرح نهج البلاغة ٦ : ٣٤٠.


كلَّه (١).

وقد رأينا من خلال تجاربنا الاجتماعيّة أنّ الناس قد انفضّوا من بعض المفكّرين والعاملين ، بل من بعض أرباب الصنايع والمكاسب ، وما ذلك إلّا لحالة الغضب والعنف والشدّة التي كانوا يتّصفون بها.

إنّ الرفق يدعو إلى مداراة الناس والإخوان والأبناء ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّا أُمِرنا ـ معاشر الأنبياء ـ بمداراة الناس كما أُمرنا بالفرائض (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : المداراة نصف الإيمان (٣).

وورد في وجوب مداراة الناس والتعامل معهم بالأخلاق الحسنة والرفق والمروءة والأحاديث الكثيرة فقد قال صلى الله عليه وآله : ما يُوضَع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضلُ مِن حُسن الخُلق (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله مخاطباً أقاربه ، آمراً إيّاهم بحسن الخلق ومداراة الناس : يا بَني عبد المطّلب ، إنّكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالكم ، فالْقُوهم بطلاقة الوجه وحسْن البِشر (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : إنّ العبد لَيبلغُ بِحُسن خلقه عظيمَ درجات الآخرة ، وأشرف المنازل ، وإنّه يُضعف العبادة (٦). أي يضاعفها.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسين عليه السلام : أي بُنيّ ، رأس العلم الرفق ، وآفتُه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١١٩ / ح ٧.

٢ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٢١ / ح ١١٥٠.

٣ ـ جامع السعادات ١ : ٣٠٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٩٩ / ح ٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٠٣ / ح ١.

٦ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ١ : ٢٦٠ / ح ٧٥٤.


الخُرق (١).

بل الإنسان مأمور بالرفق بنفسه ، فإنَّ النفوس لها إقبال وإدبار ، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فأَلزِمُوها الفرائض. ولقد شاهدنا بعض الشباب ممّن لا خبرة لهم بالحياة وميادين التربية والشريعة قد انحرفوا كثيراً عندما حمّلوا أنفسهم فوق طاقتهم.

وقد ورد في السيرة الشريفة لأهل البيت عليهم السلام نماذج كثيرة حول الرفق الذي اتّسموا به عن صدق المبادئ ، وعن المعرفة الحقّة ، فقد ورد أنّ جماعة من اليهود دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وآله فقالوا : يا محمّد ، السامُ عليك ، أي الموت.

فقال صلى الله عليه وآله : وعليكم. فامتعظت إحدى زوجاته وقالت لهم : بل السام عليكم واللعنة. فقال لها صلى الله عليه وآله : لقد أجَبْتُهم. ثمّ قال صلى الله عليه وآله : خذوا كلّ شيء بالرفق (٢).

أمّا في مسألة التأديب تعزيراً فقد ورد في المسألة ٢٨٥ من «مباني تكملة المنهاج» للمرجع السيّد الخوئيّ قدس سره : لا بأس بضرب الصبيّ تأديباً خمسة أو ستّة مع رفق ، كما لا بأس بضرب المملوك تأديباً إلى عشرة.

وورد في الاستدلال على ذلك قوله قدس سره : تدلّ على ذلك مُعتبرَةُ حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله في أدب الصبي والمملوك ، فقال عليه السلام : خمسة أو ستّة وارفِقْ (٣).

ومعتبرة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ربّما ضربت الغلام في بعض ما يحرم ، فقال عليه السلام : وكم تضربه؟ قلت : ربّما ضربته مائة ، فقال عليه السلام : مائة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تحف العقول : ٨٩.

٢ ـ انظر صحيح البخاريّ ٨ : ٨٠.

٣ ـ الكافي ٧ : ٢٦٨ / ح ٣٥.


مائة؟ فأعاد ذلك مرّتين ، ثمّ قال عليه السلام : حدّ الزّنا؟ اتّق الله ، فقلت : جُعلتُ فداك ، فكم ينبغي لي أن أضربه؟

فقال عليه السلام : واحداً ، فقلت : والله لو علم أنّي لا أضربه إلّا واحداً ما ترك لي شيئاً إلا أفسده. قال عليه السلام : فاثنتين. فقلت : جُعلتُ فداك ، هذا هو هلاكي إذاً. قال : فلم أزل أُماكسه حتّى بلغ خمسة ، ثمّ غضب عليه السلام فقال : يا إسحاق ، إن كنت تدري حدَّ ما أجرم فأقمِ الحدّ فيه ولا تعْدُ حدود الله (١).

ولا يختصّ الحكم المزبور بوليّ الطفل ، ففي معتبرة غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله «الصادق» عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : أدّبِ اليتيمَ بِما تؤدّب منه ولدك ، واضربه ممّا تضرب منه ولدك (٢) ، (٣).

وفي رواية أنّ أحد تلامذته نادى على مملوكه قائلاً : يا ابن الفاعلة! فأنكر عليه السلام عليه ذلك ، حتّى رفع يده فصكّ بها جبهتَه الشريفة ، ثمّ قال له : سبحان الله ، تقذف أمّه! قد كنتُ أرى أنّ لك ورعاً ، فإذا ليس لك ورع ، فقال الرجل : جُعلتُ فداك إنّ أمّه سنديّة مشركة : فقال عليه السلام : أما علمتَ أنّ لكلّ أمَةٍ نكاحاً؟ تَنَحَّ عني. فما مشى معه بعد ذلك حتّى فرّق الموت بينهما (٤).

وورد في «الكافي» : عن يعقوب بن الضحّاك عن رجل من أصحابنا سرّاج ، وكان خادماً لأبي عبد الله عليه السلام ، قال : بعثني أبو عبد الله «الصادق» عليه السلام في حاجة وهو بالحيرة ، أنا وجماعة من مواليه ، قال : فانطلقنا فيها ، ثمّ رجعنا مغتمّين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٦٧ / ح ٣٤.

٢ ـ نفسه ٦ : ٤٧ / ح ٨.

٣ ـ مباني تكملة المنهاج ١ : ٣٤٠ / المسألة : ٢٨٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٢٤ / ح ٥ ـ باب البذاء.


قال : وكان فراشي في الحائر الذي كنّا فيه نزولاً ، فجئتُ وأنا بحال فرميت بنفسي ، فبينا أنا كذلك ، إذا بأبي عبد الله عليه السلام قد أقبل فقال : قد أتيناك. ـ أو قال : جئناك ـ فاستويت جالساً ، وجلس على صدر فراشي ، فسألني عمّا بعثني له فأخبرته ، فحَمِد الله ، ثمّ جرى ذكر قومٍ فقلت : جُعلتُ فداك ، إنّا نبرأ منهم؟ إنّهم لا يقولون ما نقول.

قال عليه السلام : يتولّونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟ قال : قلت : نعم ، فقال عليه السلام : فهو ذا عندنا ما ليس عندكم ، فينبغي أن نبرأ منكم؟ قال : قلت : لا ، جُعلت فداك. قال عليه السلام : وهو ذا عند الله ما ليس عندنا ، أفتراه «سبحانه» اطَّرَحَنا؟ قال : قلت : لا واللهِ جعلت فداك ، ما نفعل؟

قال عليه السلام : فتولّوهم ولا تبرؤوا منهم ، إنّ من المسلمين من له سهم ، ومنهم من له سهمان ، ومنهم من له ثلاثة أسهم ، ومنهم من له أربعة أسهم ، ومنهم من له خمسة أسهم ، ومنهم من له ستّة أسهم ، ومنهم من له سبعة أسهم ، فليس ينبغي أن يُحمَلَ صاحبُ السهم على ما عليه صاحب السهمين ، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة ، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة ، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة ، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستّة ، ولا صاحب الستّة على ما عليه صاحب السبعة.

وسأضرب لك مثلاً ، إنّ رجلاً كان له جار ، وكان نصرانيّاً ، فدعاه إلى الإسلام وزيّنه له فأجابه ، فأتاه سُحَيراً «عند السَّحَر» فقرع عليه الباب فقال له : مَن هذا؟ قال : أنا فلان ، قال : وما حاجتك؟

فقال : توضّأ والبس ثوبيك ، ومرّ بنا إلى الصلاة. قال : فتوضّأ ولبس ثوبيه وخرج


معه ، قال عليه السلام : فصلّيا ما شاء الله ، ثمّ صلّيا الفجر ، ثمّ مكثا حتّى أصبحا ، فقام الذي كان نصرانيّاً يريد منزله ، فقال له الرجل : أين تذهب ، النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل ، قال : فجلس معه إلى أن صلّى الظهر ، ثمّ قال : وما بين الظهر والعصر قليل. فاحتبسه حتّى صلّى العصر ، قال : ثمّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له : إنَّ هذا آخر النهار وأقلُّ من أوّله ، فاحتبسه حتّى صلّى المغرب ، ثمّ أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له : إنّما بقيت صلاة واحدة.

قال عليه السلام : فمكث حتّى صلّى العشاء الآخرة ، ثم تفرّقا ، فلمّا كان سحيراً ، غدا عليه فضرب عليه الباب ، فقال من هذا؟ قال : أنا فلان قال : وما حاجتك؟ قال : توضّأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصلِّ ، قال : أُطلبْ لهذا الدين من هو أفرغ منّي ، فأنا إنسان مسكين وعلَيّ عيال.

فقال أبو عبد الله عليه السلام : أدخله في شيء أخرجه منه (١).

وعن عبد العزيز القراطيسيّ قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا عبد العزيز ، إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُّلّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد : لستَ على شيء ، حتّى ينتهي إلى العاشر ، فلا تُسقِط مَن هو دونك فيُسقطك من هو فوقك ، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ، ولا تحملَنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبرُه (٢).

وعن الصادق عليه السلام قوله : ما أنتم والبراءة ، يبرأ بعضكم من بعض؟ إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض ، وبعضهم أكثر صلاةً من بعض ، وبعضهم أنفذ بصراً من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٢ ـ ٤٤ / ح ٢ ـ باب درجات الإيمان.

٢ ـ نفسه ٢ : ٤٥ / ح ٢.


بعض ، وهي الدرجات (١). أي درجات الإيمان ، كما أشار إليها قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّـهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (٢).

وعن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : يا عمر ، لا تحملوا على شيعتنا ، وارفقوا بهم ، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحتملون (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٥ / ح ٤.

٢ ـ البقرة : ٢٥٣.

٣ ـ الكافي ٨ : ٣٣٤ / ح ٥٢٢.


المبحث الرابع والأربعون : في العزّة

قال عليه السلام : يا واسِعَ الْمَغْفِرَةِ ، يا باسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ ، فَوَ عِزَّتِكَ يا سَيِّدي ، لَوْ نَهَرْتَني ما بَرِحْتُ مِنْ بابِكَ ، وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ ، لِمَا انْتَهى اِلَيَّ مِنَ الْمَعْرِفَوِ بِجُودِكَ وَكَرِمَك ، وَاَنْتَ الْفاعِلُ لِما تَشاءُ تُعَذِّبُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، وَتَرْحَمُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، لا تُسْأَلُ عَنْ فِعْلِكَ ، وَلا تُنازِعُ في مُلْكِكَ ، وَلا تُشارَكُ في اَمْرِكَ ، وَلا تُضادُّ في حُكْمِكَ ، وَلا يَعْتَرِضُ عَلَيْكَ اَحَدٌ في تَدْبيرِكَ ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْاَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمينَ.

يعود الإمام عليه السلام ثانية ليطرق باب الربوبيّة بالثناء وذِكر الصفات الجماليّة والجلاليّة ، حيث يصفه بالجود والكرم والمغفرة والرحمة الواسعة ، ويصوّر عليه السلام أنّ الداعي هو ذلك الطريد اللاجئ إلى ربّه بعد أن انقطعت به السبل ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وظنّ أنْ لا ملجأ من الله إلّا إليه. لقد تعرّض لربّه قاصداً نيل فضله ، وطلب معروفه ، والفوز بجوائزه وعطاياه ومواهبه الجزيلة التي يمنّ بها على العباد. إنّه عليه السلام يصوّر الاعي أنّه يقف بسفينة رجائه على ساحل بحر جود الله وكرمه ، يرجو الجواز إلى ساحة رحمته ونعمته ، يرجو أن ينقذه من الغرق في بحر ذنوبه وآثامه.

ثمّ يعترف أمام ساحة العظمة والكبرياء بأنَّ الخلق والأمر كلّهما لله ، يفعل ما يشاء ،


لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ، وأنّ الملك والحكم له وحده ، فلا يعترض عليه أحد في شأن التدبير ، لأنّ ذلك من لوازم الربوبيّة التي لا يشاركه فيها غيره.

والعزّة : حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ، قال تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا) (١) ، والعزيز : هو الذي يَقهَر ولا يُقهر ، قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

وقد تُمدح العزّو كما سبق ، وقد تُذمّ كعزّة الكفّار ، قال سبحانه وتعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (٣).

ووجه ذلك أنّ العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين هي العزّة الدائمة الباقية ، إذ هي العزّة الحقيقيّة ، والعزّة التي تظهر للكافرين هي التعزُّز ، وهي في الحقيقة ذلٌّ ، كما قال عليه الصلاة والسلام : كلّ عزّ ليس بالله فهو ذُلٌّ (٤). وقد تُستعار العزّة للحميّة والأنفة المذمومة ، كما في قوله تعالى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (٥).

ويقال للشيء عزيز إذا صَعُب مناله ووجود مثله : قال الله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (٦) هذا ما قاله الراغب في «مفرداته» (٧). ويُقال للشيء النادر الوجود أنّه عزيز الوجود ، أيّ صعب المنال ، ويقال : عزيز القوم. لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم ، فهو صعب المنال بالقهر والغلبة (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٣٩.

٢ ـ العنكبوت : ٢٦.

٣ ـ سورة ص : ٢.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٣٣.

٥ ـ البقرة : ٢٠٦.

٦ ـ فصّلت : ٤١.

٧ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٣٢.

٨ ـ تفسير الميزان ٣ : ١٣١.


وهنا لابدّ أن نشير إلى عدّة نقاط :

الأُولى : أنّ العزّة من لوازم المُلك ، والملك من لوازم الربوبيّة. أنظر هذا التسلسل : الربوبيّة ، ثمّ المُلك ، ثمّ العزّة.

الثانية : لمّا لم يكن هناك مالك حقيقيّ وربّ حقيقيّ على وجه الإطلاق إلّا الله ، كانت العزّة الحقيقيّة بالأصالة له وحده لا يشاركه فيها أحد ، قال تعالى : (فَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (١).

وقال سبحانه : (قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) (٢).

الثالثة : يمكن أن يُوصف الإنسان بالعزّة إذا طلبها من مالكها الحقيقيّ ، وهو الله تعالى بالأسباب الطبيعيّة ، وذلك بسلوك طريق العبوديّة التي لا تحصل إلّا بالإيمان والعمل الصالح ، وهذه العزّة امتداديّة وتخويليّة ، والعزّة تتناسب طرديّاً مع صدق العبوديّة لله ، قال سبحانه وتعالى : (وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣).

الرابعة : العزّة التي لا تُطلب من الله سبحانه هي ذلّ في صورة عزٍّ ، قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فاطر : ١٠.

٢ ـ آل عمران : ٢٦.

٣ ـ المنافقون : ٨.

٤ ـ سورة ص : ٢.


المبحث الخامس والأربعون : في نفي الشريك عن الله سبحانه

إنّ الإنسان منذ اللحظة الأُولى التي يفتح عينيه على الكون والوجود يُحسّ بسريان قانون العلّة والمعلوليّة ، كنظام جارٍ في كلّ المفردات والتصرّفات ، ومن هنا تبدأ ميوله إلى الحس والتفكير والاستدلال والاستنتاج. إنّ الفطرة الإنسانيّة تهتف في أعماق النفس بأنّ لهذا الكون خالقاً ومدبّراً ، وأنَّ لهذا النظام مُنظِّماً ، وأنّ وراء هذه الكمالات موجوداً كاملاً ، ذلك هو الله جلّ وعلا.

وعندما يتفاعل عامل الحسّ مع عالم الخيال ، نرى أنّ هذا الإنسان يبدأ برسم صورة لكلّ ما هو منزّه عن المادّة من المعقولات.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور الماديّة المحسوسة ، حتّى أنّ أكثر الموحّدين ممّن يرى تنزّه ساحة ربّ العالمين تعالى وتقدّسَ عن الجسميّة وعوارضها يُثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خياليّة معتزلة للعالم ، تبادر ذهنه إذا توجّه إليه في مسألة أو حَدَّث عنه بحديث ، غير أنَّ التعليم الدينيّ أصلح ذلك بما قرّر من الجمع بين النفي والإثبات ، والمقارنة بين التشبيه والتنزيه ، يقول الموحّد المسلم : إنّه تعالى شيء ليس كمثله شيء ، له قدرة لا كقدرة خلقه ، وعلم لا كالعلوم ، وعلى هذا القياس.


وقلَّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسُه خالية عن هذه المحاكاة ، وما أشَدَّ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلّق القلب بمن دونه ، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانيّة ، قال تعالى : (سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّـهِ الْمُخْلَصِينَ) (١).

وقال حكاية عن إبليس : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

وبالجملة ، الإنسان شديد الولع بتخيّل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة (٣).

إنّ الإنسان جزء لا يتجزّأ من هذا الكون الرحيب ، وهو أحد مفردات هذا الوجود الخاضع المستسلم للإرادة الإلهيّة ، فالطاعة التكوينيّة هي شأنُ كلّ الموجودات الكونيّة بما فيها الإنسان نفسه ، فهو يوجد بغير إرادته ، ويصوّره الله كما يشاء ، وتعمل أعضاؤه كالقلب والدماغ دون إرادته ، وهكذا هو في كثير من أموره إلى أن يخرج من هذه الدنيا بغير إرادته. ولكن هناك طاعة أخرى خُصّ بها الإنسان حيث إنّه ذو أهليّة وقدرة على التفكير والاختيار ، فأصبح تكليفه الطاعة التشريعيّة القائمة على القدرة على الفعل أو الترك بالاختيار. ومسألة العبادة قضيّة ومبدأ كونيّ عاما يقع تحت قاعدة كليّةٍ مَفادُها أنّ الضعيف يخضع للقويّ ، والناقص يخضع للكامل.

والعبادة لها عنصران :

الأوّل : هو الحالة النفسيّة التي تعتري الضعيف من هوان وذلّة وخضوع أمام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصافّات : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢ ـ سورة ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٣ ـ تفسير الميزان ١٠ : ٢٧٣.


سلطانه القويّ وجبروته.

الثاني : هو الأعمال البدنيّة التي يمارسها الإنسان كطقوس ومراسيم وشعائر للترجمة العمليّة عمّا يجيش في نفسه من الضعف تجاه معبوده القويّ ، كما في الصلاة ومراسيم الحجّ.

لقد جاء الإسلام في أوساط أمّة غارقة بالشرك والوثنيّة إلى شحمة أذنيها ، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله دوره الرسالي وهو اللسان المعبّر عن إرادة السماء ، فكانت بياناته الشريفة تسفِّه أحلام أولئك الذين يعبدون غير الله ، مؤكداً أنّ هؤلاء المعبودين مخلوقون مربوبون ، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرّاً ولا نفعاً.

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (١).

وكانت بياناته المباركة الأخرى تشير إلى وجوب عبادة الله الذي له الخلق والأمر ، وبيده النفع والضّرّ.

فكان صلى الله عليه وآله ينفي الربوبيّة والألوهيّة عن غير الله ، ويثبتها لله دون غيره ، وكان شعاره المرفوع : «لا إله إلّا الله» يشير إلى هذا المعنى. وتترتّب على هذا الشعار ، الذي يمثّل لواء التوحيد الأسمى ، أمورٌ كثيرة ، منها الخضوع والانقياد لله سبحانه دون غيره. وكان المنهاج العمليّ مستنداً إلى قاعدتين :

الأولى : لا يُطاع الله من حيث يُعصى (٢).

الثاني : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (٣).

أمّا طاعة النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام فهي امتداد لطاعة الله سبحانه ، قال الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١٩٤.

٢ ـ أشار إليه الشيخ النجفي في : جواهر الكلام ٢٢ : ٤٦.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨١ / ح ٥٨٣٢.


سبحانه : (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) (١).

وقال يصف حال أهل النار : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّـهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٢).

وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) (٣).

رُوي أن عبد الله بن عمرو بن العاص لقيَ الإمامَ الحسين عليه السلام فأثنى عليه ، فقال له الحسين عليه السلام : إذن ما الذي دعاك إلى الخروج لقتالي وأبي يوم صفّين؟

قال : لقد أخذني والدي عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فنظر إليّ وقال : يا عبدَ الله ، صَلِّ وصُمْ ، وأطِع عَمْراً ، فعندما خرج والدي للقتال أمرني بالخروج معه ، فخرجتُ طاعة له (٤).

وأقول لهذا الظالم ابن الظالم الذي تعلّل بطاعة والده للخروج لقتال إمام عصره : أين أنت من قوله تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (٥).

وأين أنت من قوله صلى الله عليه وآله : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (٦) ، ولا يُطاع الله من حيث يُعصى؟

وأين أنت من صدق المبادئ لمّا جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي سَلول يطلب الرخصة من النبيّ صلى الله عليه وآله لقتل والده عندما قال : (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٠.

٢ ـ الأحزاب : ٦٦.

٣ ـ النساء : ٥٩.

٤ ـ تاريخ مدينة دمشق : ٣١ : ٢٧٥ ، اُسد الغابة : ٣ : ٢٣٥.

٥ ـ العنكبوت : ٨.

٦ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٤٤٤ ح ١٦٤.


مِنْهَا الْأَذَلَّ)؟ (١)

ولقد سمعتَ أنت وأبوك من النبيّ صلى الله عليه وآله أنّ عليّاً إمامٌ منصوب من قِبل الله على لسان نبيّه ، وأنّه مفترض الطاعة ، وأنّ قتاله بغيٌ ، وأنّه إمام بايعه كلّ المسلمين بيعة لا نظير لها في التاريخ.

إنّ المشركين كانوا يعبدون صنفين من المخلوقين :

الأوّل : عباد الله المكرمين كالملائكة ، والمقرَّبين من الرسل والأنبياء والصلحاء.

الثاني : العُتاة من الإنس والجنّ ، كفرعون ونمرود وإبليس ، وأئمّة الضلال من الأحبار والرهبان الذين بدّلوا دين الله ، وغيرهم ، قال سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (٢).

وقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ) (٣). بل بلغت سفاهتهم إلى عبادة الحجر والشجر ، والنجوم والدوابّ.

إنّ الإنسان هو المسؤول عن نفسه ، وما يلحق به من سوء العاقبة والمآل إذا حُشر على شركه ، لأنّ المعبودين لا سلطان لهم عليه ، ولا قابليّة لديهم على إجبار أحد على عبادتهم ، لأنَّ الإنسان العاقل غير مسلوب الاختيار.

قال سبحانه في إبليس أنّه قال : (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المنافقون : ٨.

٢ ـ يس : ٦٠.

٣ ـ التوبة : ٣١.


أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (١).

لقد نشأت الوثنيّة بتعظيم الملوك والقادة بإقامة التماثيل والنُّصُبِ لهم ، ثمّ تطوّر ذلك الحبّ والتعظيم إلى عبادة ، ونتيجة هذه الممارسات الخاطئة والمقدّمات الواهمة ظنّوا أنّ آلهتهم لها الاستقلاليّة في تدبير العالم ، وأنَّ بيدها إنزال الخير وإبعاد الشرّ ، فكانوا يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى ، ولتكون شافعةً لهم عند الله بزعمهم.

ولربّما يسأل سائل فيقول : ما الفرق بين هؤلاء وبينكم عندما تستشفعون بالنبيّ وآله والصلحاء بزيارة قبورهم وتقبيل ضرائحهم والتبرّك بتربتهم ، أليس هذا من الشرك والوثنيّة؟

نقول : أنَّ مسألة الشفاعة قضيّة ثابتة في عالم التكوين القائم على سنن الأسباب والمسبّبات ، وفي عالم التشريع بالكتاب والسُّنّة ، وهذه الشفاعة بالتمكين والتخويل والتفويض لأناس لهم قرب ومكانة عند الله سبحانه ، فنحن نسأل الله بحقّهم ومكانتهم أن يقضي بعض حوائجنا مثلاً ولكننا لا نعطي الاستقلاليّة في التاثير لهؤلاء الأولياء ولا نعبدهم من دون الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ) (٢) ، وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (٣).

وبكلام أدقّ : إنّ الوثنيّين يعبدون غير الله ليقرّبوهم إلى الله رجاء الشفاعة ونيل المطالب ، أمّا نحن فنعبد الله ونتقرّب إليه بأحبّ خلقه إليه كوسطاء ، أو ببعض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابراهيم : ٢٢.

٢ ـ الأنبياء : ٢٨.

٣ ـ المائدة : ٣٥.


المقدّسات. وليت شعري هل التفت السائل إلى أنّنا نتوجّه إلى الكعبة للصلاة كوجهة وليست بيتاً نعبده من دون الله؟ ألم يلتفت أنّ المسلمين يتبرّكون بالحجر الأسود باللمس والتقبيل والدعاء عنده ، وهم لا يعبدونه من دون الله؟

وقد ورد عن عبد الرحمن بن كثير الهاشميّ ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال : مَرّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود فقال : والله يا حَجَر ، إنّا لَنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، إلّا أنّا رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله يحبّك فنحن نحبّك ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : كيف يا ابن الخطّاب! فَوَاللهِ لَيبعثنّه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان ، فيشهد لِمَن وافاه ، وهو يمين الله في أرضه يبايع بها خلقه. فقال عمر : لا أبقانا الله في بلدٍ لا يكون فيه عليُّ بن أبي طالب (١).

إنّ جميع الأديان حاربت الشرك والوثنيّة ، وقد لاقى الرسل والنبيّون وأتباعهم القتل والتعذيب والاستهزاء والنفي والتشريد والسجون ، وإلصاق التهم الباطلة من تلك المجتمعات الفاسدة ، وقد تصدّى نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وأوصياؤه لهؤلاء المشركين باللسان والقلم والسيف حتّى أظهرهم الله على المشركين.

فقام النبيّ صلى الله عليه وآله بتصحيح عقائد هؤلاء وتقويم أفكارهم ، وبذل قصارى جهده في تربيتهم على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة ، والاتزام بآداب الشرع وأحكامه ، حتّى خلق منهم أمّةً كان لها شرف السبق والريادة ، وحمل الرسالة وتبليغها عن الله.

وليس الإسلام لفظة يلوكها اللسان ، بل هو عقيدة كاملة في الكون والحياة ، ينبثق منها نظامٌ صالحٌ يقود الحياة تحت راية القرآن ، وظلِّ الشريعة والدخول في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ علل الشرائع : ٤٢٦ / ح (٨).


ولاية الله. ويترتّب على ذلك سلوكٌ جديد ، وعلاقات اجتماعية شريفة قائمة على المبادئ والأخلاق السامية ، وقيام معايير جديدة تعتمد العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ، ونبذ العصبيّات ، ومحاربة الأهواء الشيطانيّة ، والنزوات النفسيّة.

بعد عرض هذا المنهج نصل إلى بعض النتائج المهمّة ، منها :

١. أنّ الخلق والإيجاد والتأثير على نحو الاستقلال لا يكون إلّا لله وحده ، وعلى نحو الأصالة ، وإذا كان لغيره شيء فبالتفويض والتمكين والامتداد.

٢. الحكم التكوينيّ الذي يحكم الوجود وفق السنن والنواميس مختصٌّ به سبحانه.

٣. لقد فطر الله سبحانه الإنسان على قبول دعوة الحقّ ، وعلى التوجّه العباديّ الصحيح ، ومن رحمته عزّ وجلّ أنّه أراد بقاء تلك الفطرة على سلامتها ، فشرّع لها من الأحكام ما يضمن صيانتها من الانحراف والتلوّث.

قال تعالى : (١).

إذن تكون مهمّة التشريع التي هي من لوازم الربوبيّة محصورة به سبحانه ، كما هي في عالم التكوين.

قال تعالى : (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون) (٢).

وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٣٠.

٢ ـ القصص : ٦٨.


النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (١).

وإذا كنّا نقول : إنّ مصادر التشريع هي الكتاب والسنّة ، فبلحاظ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحي يُوحى ، فنفس النبيّ صلى الله عليه وآله لها من القداسة ما يؤهّلها للوصول إلى الأحكام الحقيقيّة ، ولا يعتريها الخطأ ولا النسيان ولا السهو ؛ للتسديد الإلهيّ الذي نطلق عليه العصمة.

بعد هذا نلخّص ممّا قلناه بعض النتائج ، منها :

١) كلّ حكمٍ صادرٍ من الله ، وقام عليه الدليل وفق الأدلّة التي هي من اختصاص المجتهد ، لا بدّ من العمل به والاتزام به تعبّداً ، سواء علمنا العلّة التامّة أو الحكمة أو الاقتضاء منه أم لم نعلم ، لأنّ ذلك من لوازم التوحيد الحقّ.

أنظر إلى هذه الرواية عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : ما تقول في رجلٍ قطع إصبعاً من أصابع المرأة ، وكم فيها؟

قال عليه السلام : عشر من الإبل ، قلت : قَطَع اثنتين؟

قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثاً؟

قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعاً؟

قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!

إنّ هذا هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال عليه السلام : مهلاً يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، إنَّ المرأة تقابل الرجلَ إلى ثُلث الدِّية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان ، إنّك أخذتَني بالقياس ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يوسف : ٤٠.


والسنّة إذا قيست مُحق الدين (١).

٢) كلّ حكمٍ صادرٍ عن غير الله فهو من أحكام الجاهليّة وقوانينها إذ لا يحقّ لأحد التشريع أو الوضع ، وعدَّ القرآن مَن لا يحكم بما أنزل الله كالمعطِّلين للأحكام ، وكالمشرّعين وفق أهوائهم واجتهاداتهم من الفاسقين والظالمين والكافرين.

قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ، وقال عزّ شأنه : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (٤).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وقد اختلف المفسّرون في معنى كُفْرِ مَن لم يحكم بما أنزل الله ، كالقاضي يقضي بغير ما أنزل الله والحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله ، والمبتدع يستنّ بغير السنّة. وهي مسألة فقهيّة ، والحقّ فيها أنّ المخالفة لحكم شرعيّ أو لأيّ أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته والردّ له توجب الكفر ، وفي صورة العلم بثبوته مع الردّ له لا توجب كفراً ولا فسقاً ، لكونه قصوراً يُعذَر فيه إلّا أن يكون قَصَّر في شيء من مقدّماته ، وليراجع في ذلك كتب الفقه (٥).

وقد أكّد الإسلام على وجوب الرجوع إلى أحكام الله والعمل بها ، وحرّم الترافع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ح ٦.

٢ ـ المائدة : ٤٤.

٣ ـ المائدة : ٤٥.

٤ ـ المائدة : ٤٧.

٥ ـ تفسير الميزان ٥ : ٣٤٨.


إلى قضاة الجور وحكّامهم إلّا مع التقيّة والخوف ، ولا يمضي حكمهم وإنْ وافق الحقّ ، فقد ورد عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : أيَّما مؤمنٍ قدّم مؤمناً في خصومةٍ إلى قاضٍ أو سلطانٍ جائرٍ فقضى عليه بغير حكم الله فقد شَرِكه في الإثم (١).

وفي مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله «الصادق» عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟

فقال عليه السلام : مَن تَحاكمَ إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يَحكُم له فإنّما يأخذه سُحْتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يُكفَرَ به.

قال الله تبارك وتعالى : (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) (٢).

وعن محمّد بن مسلم قال : مرّ بي أبو جعفر «الباقر» عليه السلام أو أبو عبد الله «الصادق» عليه السلام وأنا جالس عند قاضٍ بالمدينة ، فدخلتُ عليه من الغد ، فقال عليه السلام لي : ما مجلسٌ رأيتُك فيه أمس؟ قلت له : جُعلتُ فداك ، إنّ هذا القاضي لي مُكرم ، فربّما جلستُ إليه ، فقال لي عليه السلام : وما يُؤْمِنُك أن تنزل اللعنةُ فتعمَّ مَن في المجلس؟! (٣)

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنّة : رجل قضى بِجَورٍ وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٤١١ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ٦٧ / ح ١٠ ـ باب اختلاف الحديث ، والآية في سورة النساء : ٦٠.

٣ ـ نفسه ٧ : ٤١٠ ـ ٤١١ / ح ١.


في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة. وقال عليه السلام : الحكم حكمان : حكمُ الله عزّ وجلّ ، وحكمُ الجاهليّة ، فَمَن أخطأ حكم الله حَكَم بحكم الجاهليّة (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال : لمّا ولّى أمير المؤمنين شُرَيحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يَعرِضَه عليه (٢).

وعن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول : مَن حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فهو كافر بالله العظيم! (٣)

وصدق الله القائل : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤).

إنّ التشريع الإلهيّ مستند إلى أصل الخلقة البشريّة والفطرة الإنسانيّة وسنن الوجود ونواميس الكون ، إذ كلّ مخلوق يسير نحو كماله المرسوم مِن قِبل خالقه العليم بما يصلحه وما يناسبه ، قال سبحانه : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٥).

نرجو من القارئ العزيز ـ تلافياً للإطالة ـ مراجعة مبحث التوحيد من كتابنا الموسوم بـ «المباحث الواضحة» (٦).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٤٠٧ / ح ١.

٢ ـ نفسه ٧ : ٤٠٧ / ح ٣.

٣ ـ نفسه ٧ : ٤٠٨ / ح ٢.

٤ ـ المائدة : ٥٠.

٥ ـ المُلك : ١٤.

٦ ـ المباحث الواضحة : ١ ـ ٣٨.


المبحث السادس والأربعون : في البركة

البركة : ثبوت الخير الإلهيّ في الشيء ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (١).

المبارك : ما فيه الخير الكثير ، قال الله سبحانه : (وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ) (٢) ، والمبارك موضع الخيرات ، قال تعالى : (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) (٣).

وورد في الحديث الشريف : لا ينقص مالٌ من صدقة (٤).

تبارك : تنبيه على اختصاص الله تعالى بالخيرات المذكورة ، قال سبحانه : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) (٥).

إنّ الله سبحانه هو مصدر كلّ خير وعطاء ، والبركة معناها استقرار ذلك الخير : فقد تكون البركة بالأولاد ليبقى النسل متعاقباً ، أو يبقى بهم حُسن الذِّكر وطيبّبُ المُقام ، وقد تكون البركة في المال والطعام والشراب والوقت بحيث يعمّ نفعه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ٩٦.

٢ ـ الأنبياء : ٥٠.

٣ ـ مريم : ٣١.

٤ ـ مسند أحمد ١ : ١٩٣.

٥ ـ الفرقان : ٦١.


ويتّسع فيكون وسيلة لسعادة المرء في الدارين ، وخير البركة ما يكون طريقاً إلى نيل مرضاة الله والقرب منه.

إنّ الإرادة الإلهيّة سبب يقع في طول الأسباب الاعتيادية لتحقيق البركة ، فتبقى سُنّة الأسباب القائمة على العمل والكدح والمحافظة على ما منَحَنا الله عزّ وجلّ إيّاه من مواهب وفيوضات.

ويحدّثنا الواقع والتاريخ عن بركة الوقت وفق سنّة الأسباب ، وكيف حلّت البركة في أعمار بعض الأعلام من الفقهاء والعلماء.

وقد وصف سبحانه القرآن النازل على نبيّه الأكرم بالبركة حيث قال : (وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) (١).

وقد ذكرنا أنَّ إنزال الكتب والشرايع من لوازم الإلوهيّة ، والإلوهيّة من لوازم الربوبيّة.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : إنّ الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : مبارك مصدّق ... إلى آخره ، بمنزلة الأدلّة على كونه نازلاً من الله وليست بأدلّة ، فمِن أمارات أنّه منزل من عند الله أنّه مبارك أودَعَ الله فيه البركة والخير الكثير ، يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به اللهُ مَن اتّبع رضوانه سُبلَ السلام ، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوّة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشحّ من نفوسهم والضغائن من قلوبهم ، وفشوّ الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم ، وانجلاء الجهل وكلّ رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلّة سعادتهم ، وينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم ، والنعيم المقيم (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٩٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٧ : ٢٧٩.


وعندما نتتبّع آيات القرآن نجد أنّه قد وصف مجموعة من مخلوقات الله بالبركة ، منها : الأرض ، المسجد الأقصى ، أرض فلسطين على وجه الخصوص ، القرآن البيت الحرام ، المطر ، شجرة الزيتون ، ليلة القدر ، ووصف التحيّة بالبركة.

أمّا الأنبياء الذين ذكرهم ووصفهم بالبركة فهم : نوح ، إبراهيم ، إسحاق ، موسى وعيسى عليهم السلام.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.


المبحث السابع والأربعون : في الظنّ

قال عليه السلام : يا رَبِّ هذا مَقامُ مَنْ لاذَ بِكَ ، وَاسْتَجارَ بِكَرَمِكَ ، وَاَلِفَ اِحْسانَكَ وَنِعَمَكَ وَاَنْتَ الْجَوادُ الَّذي لا يَضيقُ عَفُوُكَ ، وَلا يَنْقُصُ فَضْلُكَ ، وَلا تَقِلُّ رَحْمَتُكَ ، وَقَدْ تَوَثَّقْنا مِنْكَ بِالصَّفْحِ الْقَديمِ ، وَالْفَضْلِ الْعَظيمِ ، وَالرَّحْمَةِ الْواسِعَةِ ، اَفَتَراكَ يا رَبِّ تُخْلِفُ ظُنُونَنا ، اَوْ تُخَيِّبْ آمالَنا ، كَلّا يا كَريمُ ، فَلَيْسَ هذا ظَنُّنا بِكَ ، وَلا هذا فيكَ طَمَعُنا.

يتوجّه صاحب الدعاء عليه السلام في هذا المقطع إلى ربّه عزّ وجلّ مشيراً إلى حالة الالتجاء والتعلّق والاستجارة بكرمه المطلق ، الذي يشمل البارّ والفاجر ، والمؤمن والكافر ، لقد أصبح الإنسان غارقاً في بحر كرم الله حتّى عادت هذه النعم مألوفة ، وأصبحت موائده مبذولة ، حتّى أصاب الإنسانَ سُكْرُ الغفلة ، فنسي المنعم ، وغفل أو تغافل عن وجوب شكره.

إنّ حسن الظنّ بالله باب واسع للدخول في ولاية الله ، والوصول إلى كرمه ، والقلوب المملوءة بالأمل والثقة العالية قلوب خصبة مُمْرعة بالإيمان والحبّ ، وحاشا لله أن يخيّب حسن ظنّ عبده به.

وإنّ الرجاء من لوازم المعرفة ، عن عبد الله بن سنان ، عن الإمام الصادق عليه السلام : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام : إنّ العبد من عبادي لَيأتيني بالحسنة فأُبيحه


جنّتي ، فقال داود عليه السلام : يا ربِّ وما تلك الحسنة؟ قال : يُدخِل على عبديَ المؤمنِ سروراً ولو بتمرةٍ ، قال داود عليه السلام : يا ربّ ، حقٌّ لِمَن عَرَفك أن لا يقطع رجاءه منك (١).

إنّ إغاثة الملهوف وإعاذة الطريد من الأخلاق العالية التي يُمدَح بها الإنسان ، وكان ذلك موضع فخر المادحين لما لها من الأثر البليغ المعبّر عن المروءة والإنصاف وكرم الطباع ، حتّى أنّ التاريخ يحدّثنا أنَّ الجراد لجأ إلى خيمة رجل عربي (٢) ، فجاء الصيّادون فقالوا له : إنّ الجراد لجأ إلى خيتمك ونريد اصطياده ، فوضع السهم في كَبِد قوسه وقال : والله لا أُمكّنكم ممّن استجار بي. فصار مضرب المثل في فضيلة الإجارة وسمّي «مُجيرَ الجَراد» (٣) ، وكرمُ الله أعظم من كلّ كرم ، وجوده أوسع من كلّ جود.

قال الشيخ المفيد : ولمّا سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هاني بن عروة ، فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستُّرٍ واستخفاء من عبيد الله ، وتَواصَوا بالكتمان.

إلى أن قال : فجاء هاني حتّى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم ، فلمّا طلع قال عبيد الله : أتَتْك بخائنٍ رِجْلاه ... ثمَّ قال عبيد الله : والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني بمسلم بن عقيل ، قال هاني : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله؟! ... فقال ابن زياد : أدنوه منّي. فأدنَوه منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لأضربنَّ عنقك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٨٩ / ح ٥.

٢ ـ وهو مُدلج بن سُوَيد الطائيّ ، ذكر ذلك أيضاً : الزَّبيدي في [تاج العروس ٤ : ٣٨٩].

٣ ـ الكنى والألقاب ٣ : ١٣٢.


ثمَّ قال : أدنوه منّي ، فأُدني منه ، فاعترض وجهَه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه ووجهه وخدَّه حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته ... ثمَّ قال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه (١).

هذا وقد تحدّثنا في المبحث السابع والعشرين عن حسن الظنّ ، ونعود هنا لإكمال موضوع الظنّ بالتحدّث حول بعض القضايا الدقيقة التي قد تلتبس على بعض إخواننا وأبنائنا المؤمنين.

الظنّ : اسم لما يحصل عن أَمارة ، ومتى قَوِيَت أدّت إلى العلم ، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز الظنُّ التوهّم ، وقد يُراد بالظنّ اليقين ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ) (٢) ، وكذا قوله سبحانه : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) (٣) ، أي : تيقّن.

وقد يأتي بمعنى العلم ، كما في قوله تعالى : (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) (٤) ، وقال سبحانه : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (٥) ، أي عَلِم. ويأتي بمعنى الاعتقاد والتيقّن ، كما في قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم) (٦).

والظنّ في كثير من الأمور مذموم ، ولذلك قال تعالى : (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (٧). انتهى ما قاله الراغب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإرشاد للمفيد ٢ : ٤٥.

٢ ـ البقرة : ٤٦.

٣ ـ القيامة : ٢٨.

٤ ـ يونس : ٢٤.

٥ ـ سورة ص : ٢٤.

٦ ـ الحشر : ٢.

٧ ـ يونس : ٣٦.


وورد في الحديث الشريف : إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظن أكذَبُ الحديث (١) والمراد به هو الشكّ الباطل الواهم الذي لا يستند على دليلٍ ولا مؤثّرٍ يفيد العلم.

أمّا في تعابير المناطقة فيقسَّم العلم أربع مراتب ، وهي :

١. اليقين : والمراد به التصديق على نحو الجزم من دون احتمال للوهم والتكذيب ، ويقال له التصديق اليقيني.

٢. الظنّ : والمراد به رجحان طرف العلم ، كما لو كانت النسبة ٧٠% مثلاً ، وهذا تصديق ظنّيّ.

٣. الشكّ : وهو حالة تساوي احتمال الوقوع واحتمال العدم بنسبة ٥٠% ، وهو من أقسام الجهل.

٤. الوهم : وهي حالة مرجوحيّة أحد طرفي العلم ، كما لو كانت النسبة ٥% ، وهو من أقسام الجهل.

يقول سماحة السيّد عبد الأعلى السبزواريّ قدس سره في كتاب «تهذيب الأصول» : ما كان من الاعتقاديّات يُعتبر فيه الجزم ، فلا وجه لاعتبار الظنّ فيها مطلقاً لعدم كونه من الجزم أبداً ، وكذا يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه ، لأنّ عقد القلب شيء غير الظنّ ، فلا مورد لاعتبار الظنّ في الاعتقاديّات مطلقاً (٢).

أمّا في مجال التكليف بالفروع والأحكام الشرعيّة فيقول السيّد عزّ الدين بحر العلوم قدس سره في كتابه الموسوم بـ «التقليد في الشريعة الإسلاميّة» : من المعلوم أنّ موارد العلم واليقين لا تؤمّن للمكلَّف إحرازَ امتثال جميع التكاليف الإلزاميّة لانحصار موارده في الضروريّات كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وما شاكل ، فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الموطّأ لمالك ٢ : ٩٠٨ / ح ١٥.

٢ ـ تهذيب الأصول ٢ : ١٥٦.


مجال للمكلّف في مقام تخلّصه من التكاليف إلّا أن يختار أحد الطرق الثلاثة : الاحتياط ، الاجتهاد والتقليد (١).

إنّ الأحكام والفروع الشرعيّة قسمان :

١. الأحكام الواقعيّة : والدليل الدالّ عليها هو الدليل الاجتهاديّ.

٢. الأحكام الظاهريّة : والدليل الدالّ عليها هو الأدلّة الفقهيّة المعبَّر عنها بالأصول العمليّة ، وهي : الاستصحاب ، ووجوب الاحتياط ، وأصالة البراءة ، والتخيير.

وهنا نشير إلى بعض الملاحظات المهمّة :

١) إنّ الأمارات هن من الظنّ المعتبر ، وهو حجّة ، ومن الأمارات حجّية خبر الواحد في الأسانيد وحجّية الظواهر.

٢) إنّ الظنّ النوعيّ الذي يعمّ غالب الناس ونوعهم هو الحجّة المعتبرة والمعتمدة في فنّ الصناعة ، ولا عبرة بالظنّ الشخصيّ.

٣) الأمارات مُقدَّمة على الأصول العمليّة ، أي عند فقد الأمارات يرجع الفقيه إلى الأصول العمليّة ، بمعنى عند فقدان الدليل الاجتهاديّ فالمرجع هو الدليل الفقاهيّ.

٤) إنّ الأخذَ بالظنّ من جهة كونه ظنّاً مذموم عقلاً ، وهو من الخرص والتخمين ، لكنّ الأخذ بالظنّ المعتبر شرعاً حجّةٌ لاعتباره وحجّيته وإفادته القطع ، والعلم بحجّية مثل هذا الظنّ هو المرجع لاعتماده كدليل شرعيّ. لقد خرج هذا الظنّ عن القاعدة إمّا بالتخصيص أو التخصّص وفق الإذن الإلهيّ. إذن الظنّ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التقليد في الشريعة الإسلاميّة : ٥٨.


الأمارات المعتبرة بالطرق العلميّة الثابتة.

٥) إنّ حجّية العلم ذاتيّة ، وهي ممّا يقول به العقل قبل حكم الشرع بذلك. أمّا حجّية الظنّ المعتبر فهي حجّي مولويّة شرعيّة ، وهنا نقول : إنّ حجّية العلم الثابتة هي التي تقود إلى حجّية الظنّ المعتبر كدليل شرعيّ على ثبوت الأحكام.

٦) هناك آيات قرآنية تنهى عن العمل بالظنّ ، وتندّد بالعامل به ، كقوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١).

وقوله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٢).

فهذه االآيات تنهى عن العمل بالظنّ في الأصول الاعتقاديّة ، حيث كان الأبناء يقلّدون الآباء في سيرتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة والتعصّب الأعمى ، وهي بعيدة كلّ ال بعد عن مسائل أدلّة الفقه والأحكام.

وقوله تعالى : ينهى عن سوء الظنّ ، فإنّ حسن الظنّ أمر مندوب.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : والمراد بالاجتناب عن الظنّ الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه ، كأن يظنّ بأخيه المؤمن سوءاً فيرميه به ويذكره لغيره ، ويرتّب عليه سائر آثاره. وأمّا نفس الظنّ بما هو نوع من الإدراك النفسيّ فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار ، فلا يتعلّق به النهي ، اللهمّ إلّا إذا كان بعض مقدّماته اختياريّاً (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٢.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٣ ـ تفسير الميزان ١٨ : ٣٢٣.


المبحث الثامن والأربعون : مشاهد القيامة وأهوالها

قال عليه السلام : يا رَبِّ اِنَّ لَنا فيكَ اَمَلاً طَويلاً كَثيراً ، اِنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً ، عَصَيْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتُرَ عَلَيْنا ، وَدَعَوْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتَجيبَ لَنا ، فَحَقِّقْ رَجاءَنا مَوْلانا ، فَقَدْ عَلِمْنا ما نَسْتَوجِبُ بِاَعْمالِنا ، وَلكِنْ عِلْمُكَ فينا وَعِلْمُنا بِاَنَّكَ لا تَصْرِفُنا عَنْكَ وَاِنْ كُنّا غَيْرَ مُسْتَوْجِبينَ لِرَحْمَتِكَ ، فَاَنْتَ اَهْلٌ اَنْ تَجُودَ عَلَيْنا وَعَلَى الْمُذْنِبينَ بِفَضْلِ سَعَتِكَ ، فَامْنُنْ عَلَيْنا بِما اَنْتَ اَهْلُهُ ، وَجُدْ عَلَيْنا فَاِنّا مُحْتاجُونَ اِلى نَيْلِكَ ،

يتحدّث هذا المقطع عن حالة فريدة من التوجّه الصحيح على جَناحَي الخوف والرجاء للدخول إلى ساحة الربوبيّة ، ورأينا كيف يطرق الداعي باب ربّه الكريم لطلب المغفرة التي هي من مستلزمات الفوز برضى الله تعالى.

إنّ مسألة المعاد والحساب الأخرويّ هي الشغل الشاغل للإنسان ، لأنّ الحياة الحقيقيّة إنّما تكون بعد الانتقال من هذا العالم الفاني.

لقد تحدّثنا في المبحث الثاني والثلاثين حول العفو والرحمة الإلهيّة في عرصات القيامة وما بعدها ، والآن نتحدّث حول مشاهد القيامة وأهوالها.

إنّ القرآن الكريم أعطى الأهميّة الكبرى لقضيّة المعاد لخطورته ، بل لكونه ضرورة عقائديّة وحقيقيّة ، فقد ذكره في ما يقارب من ألف وأربعمائة موضع ، حيث


إنّ له أبعاداً إنسانيّة واجتماعيّة وتربويّة تشكّل الدعائم الأساسيّة للحياة. وقد أكّدت هذه الآيات أنَّ الآخرة هي دار القرار ، ودار الكمال الذي يحقّق كلّ أمنيّات الإنسان وتطلّعاته.

وأكّدت أنّ الدنيا دار ممرّ ، وما على المرء إلّا أن يأخذ ما استطاع من دار ممرّه إلى دار مقرّه ، والدنيا محطّة للتزوّد بزاد التقوى للمسافر إلى عالم الخلود ، وأكّدت الآيات والروايات أنّ نعيم الآخرة لا ينقطع ، وأنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وأشارت الآيات والروايات إلى شدّة العذاب الأخرويّ ودوامه لأهل الكفر والمعاصي ، وذلك بعد إقامة الحجّة على الإنسان المستخلَف في الأرض ، وقد جعل الله على العبد حجّتين :

الأولى : باطنة وهي العقل ، ونعم ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف العقل قوله : ما عُبِد به الرحمن ، واكتُسب به الجِنان (١).

وجاء عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قوله : إنّ لله على الناس حُجّتَين : حجّةً ظاهرة ، وحجّة باطنة. فأمّا الظاهرةُ فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول (٢).

الثانية : ظاهرة ، وتتمثّل بإرسال الرسل والنبيّين مبشّرين ومنذرين ، وقد أنزل الله تعالى معهم الكتاب لئلّا يكون للناس حجّة بعد الرسل ، والرسالات السماويّة رسمت طريق الحياة الذي يضمن للإنسان الارتقاء في مدارج الكمال.

إنّ هناك رابطة بين السماء والأرض ، وبين الإنسان وخالقه ، وبين الدنيا والآخرة ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير نور الثقلين ٥ : ٣٨٢ / ح ٢٣ ـ عن : الكافي ١ : ٨ / ح ٣ ـ كتاب العقل والجهل.

٢ ـ الكافي ١ : ١٦ / ح ١١ ـ كتاب العقل والجهل.


وبين العمل والجزاء.

قال الله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١).

وقال سبحانه : (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (٢).

إذن فالآخرة هي دار جزاء ، وهذا الجزاء من سِنخ العمل ، قال تعالى : (جَزَاءً وِفَاقًا) (٣).

إذن لابدّ من معرفة وتشخيص العمل النافع والعمل الضارّ ، لأن المعرفة تقود إلى الخشية ، قال تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٤).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : والمراد بالعلماء العلماء بالله ، وهم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفةً تامّة تطمئنّ بها قلوبهم ، وتُزيل وصمة الشكّ والقلق عن نفوسهم ، وتَظهر آثارها في أعمالهم فيصدّق فعلُه قولَهم. والمراد بالخشية حينئذٍ حقّ الخشية ، ويتبعها خشوع في باطنهم ، وخضوع في ظاهرهم (٥).

وقد ورد في الحديث ما يؤيّد ذلك ، في «مجمع البيان» في قوله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٦) ، رُويَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يعني بالعلماء مَن صدّق قولُه فعلَه ، ومن لم يصدّق قولُه فعلَه فليس بعالم (٧).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزلزال : ٧ ـ ٨.

٢ ـ البقرة : ٢٨٦.

٣ ـ النبأ : ٢٦.

٤ ـ فاطر : ٢٨.

٥ ـ تفسير الميزان ١٧ : ٤٣.

٦ ـ فاطر : ٢٨.

٧ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٦٣٥.


وفي الحديث الشريف : أعلمُكم بالله أخوفُكم لله (١).

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : العلم علمان : علم في القلب فذلك العلم النافع ، وعلم على اللسان فذاك حُجّةُ الله على خَلقه (٢).

وأوّل المعارف المطلوبة معرفة النفس ، فإنّ من عرف نفسه عرف ربّه ، ومن عرف نفسه جاهدها ، ومن لم يعرف نفسه أهملها ، وبذلك تقوده أهواؤه ونزواته إلى خسران الدنيا والآخرة.

إنّ ارتباط العمل بالجزاء قانون وسنّة إلهيّة لا تتخلّف ، فالإيمان والعمل الصالح طريق يقود إلى الجنّة ، والإعراض عن الله طريق يقود إلى الهلاك والخسران.

قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) (٣).

وما لم تقترن المعرفة بالإيمان والعمل الصالح ، فلا يترتّب أثر على كثير من الأعمال التي يمارسها العبد.

فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : كم من قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه (٤).

إن قضيّة المعاد من لوازم الربوبيّة ، فلو أنكر الإنسان البعث والمعاد فَقَد جانَبَ التدبير والحكمة ، وجعل خلق الإنسان والحياة الدنيا من العبث ، وهذا من الظلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٢٤٢.

٢ ـ شرح اُصول الكافي ٢ : ١٤٩.

٣ ـ طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

٤ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٥٢ ، بحار الأنوار ٨٩ : ١٨٥ / ح ٢٤.


المنسوب إلى ساحة العزّة الإلهيّة.

قال تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

إنّ الحياة الآخرة تختلق تماماً عن حقيقة وصفات الحياة الدنيا ، فإنّ الإنسان هنا مكلّف مختار ، يخضع للسنن والأسباب الظاهريّة ، وعنده من التخيّلات والأوهام والأهواء ما يقابل العقل والفطرة ، ومن خلال هذا الصراع والكدح تكون مسيرة الإنسان ، ونعم ما قيل في الحديث العلوميّ الشريف : فإنّ اليومَ عمل ولا حساب ، وإنّ غداً حساب ولا عمل (٢).

أمّا الدار الآخرة فلها مواصفات تختلف عن ذلك ، نذكر منها :

١. أنّها فوق التصوّر البشريّ ، سواء في مكافأة المؤمنين أو معاقبة الكافرين ، وقد ذكرنا في وصف الجنّة أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وعن الإمام عليّ عليه السلام : وكلُّ شيء من الدنيا سَماعُه أعظمُ مِن عِيانه ، وكلُّ شيء من الآخرة عِيانُه أعظمُ مِن سَماعه (٣).

٢. أنّها دار خلود لا انتهاء لها ولا أمد.

٣. أنّ الإنسان فيها مسلوب الاختيار تماماً.

٤. يعود فيها كلّ غيب مشاهدة ، وتظهر السرائر وتتجلّى عياناً.

٥. إنّ الإيمان فيها يكون اضطراريّاً ، فلا يبقى هاجس ولا شكّ ولا حجاب ، وتظهر الحقائق ظهوراً تامّاً ، ولكنّ هذا ال إيمان لا ينفع من لم يكن قد اتّصف به سابقاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ص : ٢٧.

٢ ـ الكافي ٨ : ٥٨ / ح ٢١.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١١٤.


٦. تسقط جميع الأسباب والتأثيرات والقوى ، والأمر يومئذٍ لله وحده.

٧. سقوط الأوهام والتخيّلات الإنسانيّة ، وبطلان الأوسمة والنياشين عند رؤية الحقّ ومقابلة عين اليقين.

ويوجد بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة مرحلة انتقالية ، هي البرزخ المعبّر عن عالم القبر ، وبهذا تكون الدنيا دار عمل ، والبرزخ دار تهيؤ للحساب والجزاء ، والآخرة دار حساب وجزاء.

قال الله سبحانه وتعالى : (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

وقال سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (٢).

والآية صريحة في مسألة البرزخ لذكر الغدوّ والعشيّ ، إذ ليس في الآخرة صباحٌ ولا مساء ، وهي تشير إلى قضيّتين مهمّتين في تعذيب المجرمين :

١) العرض على النار قبل قيام الساعة ، وهذا ما نطلق عليه عذاب البرزخ.

٢) الدخول في النار وهو أشدّ من العرض ، وهذا لا يكون إلّا في الآخرة.

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران (٣).

إنّ الإيمان بالآخرة يأتي بأمرين نافعين مهمَّين : فهو يردع عن المعصية خوف العقاب ، وهذا ممّا يقول به العقل قبل الشرع ، فإنّ درء الضرر المحتمل واجب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٢ ـ غافر : ٤٦.

٣ ـ بحار الأنوار ٦ : ٢٧٥.


عقلائيّ ، وهو كذلك يدعو إلى الطاعة والعمل الصالح. ومن هنا نقول : إنّ التوحيد والنبوّة ما لم يقترنا بالمعاد لم يكن لهما التأثير المطلوب لضبط الإنسان سلوكياً ، فقد ورد عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (١) ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لولا عفو الله وتجاوزه ما هَنَأ لأحدٍ عيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتّكلَ كلّ أحد (٢).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : ومن هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله تعالى : (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (٣) يتضمّن حجّةً على المَعاد ، لِما عرفتَ أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبودية ، ولا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤوليّة ، ولا تتمّ إلّا برجوع وحساب على الأعمال ، ولا يتمّ حساب إلّا بجزاء (٤).

لاحظ هذا التسلسل رجاءً : الربوبيّة ، ثمّ العبوديّة ، ثمّ المسؤوليّة ، ثمّ الحساب ، ثمّ الجزاء.

إذن فالمعاد ضرورة ، وأمّا طوائف الناس في القيامة فيُقسّمون عدّة أقسام :

الأوّل : الكافر ، وهو الذي يُؤتى كتابَه من وراء ظهره ويُخلَّد في النار.

الثاني : المؤمن ، يدخل الجنّة بعد حساب يسير ، واليُسْرُ هو ما يكون من غير استقصاء أو مُداقّة ، وهو الذي وصفه الله بأنّه يؤتى كتابه بيمينه ، وعبّر عن المؤمنين بالمحسنين.

الثالث : عصاة المؤمنين ، وهؤلاء يدخلون النار للتطهير ثمَّ يُخرَجون منها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٦.

٢ ـ جوامع الجامع ٢ : ٣٥١.

٣ ـ الانشقاق : ٦.

٤ ـ تفسير الميزان ٢٠ : ٢٤٢.


بالشفاعة ، ولعلّ الشفاعة تدرك بعض المؤمنين فلا يدخلون النار.

أمّا كيفيّة الحساب ، فقد سُئل أمير المؤمنين عليه السلام : كيف يحاسب الله الخَلق على كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم على كثرتهم. فقيل : كيف يحاسبهم ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه (١).

وفيه عن الإمام الصادق عليه السلام قال : كلّ أمّة يحاسبها إمام زمانها ، ويعرف الأئمّة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم (٢) ، وعنه عليه السلام أيضاً قال : ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً ، كلّ موقف مِثلُ ألف سنة ممّا تعدّون (٣). ثمّ تلا هذه الآية : (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤).

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ما أطولَ هذا اليوم! فقال : والذي نَفْسُ محمّدٍ بيده ، إنّه لَيُخفّف على المؤمن حتّى يكون أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يصلّيها في الدنيا (٥).

والذي يظهر من الروايات الشريفة أنّ الإنسان حال النزع يطّلع على بعض القضايا الغيبيّة ، ومنها رؤية الملائكة.

ففي الخبر : إذا وقع العبد في النزع حُبس عليه لسانه ، ودخل عليه أربعة أملاك فيقول الأوّل : السلام عليك ، أنا الموكَّل بإرزاقك ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت من رزقك لقمة حتّى دخلت الساعة. ثمّ يدخل الثاني فيقول : السلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٠٠.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٣٨٤.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٦ / ح ٣٨.

٤ ـ المعارج : ٤.

٥ ـ التبيان ١٠ : ١١٥.


عليك ، أنا موكّل بشرابك من الماء وغيره ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك شربة من الماء حتّى دخلتُ الساعة.

ثمّ يدخل الثالث فيقول : السلام عليك ، أنا موكّل بأنفاسك ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك نَفَساً واحداً من أنفاسك. ثمّ يدخل الرابع فيقول : السلام عليك ، أنا الملك الموكّل بآجالك وأعمارك ، طلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك أجلاً حتّى دخلت الساعة.

وهناك روايات تقول : إنّ الميّت حال النزع يأخذه العطش ، فيأتيه إبليس بقدح ماء ويقول له : أُكفرْ بالله حتّى أسقيَك ، وربّما شاهد بعضَ أقاربه من الموتى الذين سبقوه ، وهذا واضع لمن حضر مَن وصلوا حالة النزع.

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة مُثِّل له ماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله فيقول : واللهِ إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً ، فما لي عندك؟ فيقول : خذ منّي كفنك. قال عليه السلام : فيلتفت إلى وُلْدِه فيقول : والله إنّي كنت لكم محبّاً ، وإنّي كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها.

قال عليه السلام : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنّي كنتُ فيك لزاهداً ، وإن كنتَ علَيَّ لثقيلاً ، فماذا لي عندك؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك ، حتّى أُعرَضَ أنا وأنت على ربّك ، قال : فإن كان لله وليّاً أتاه أطيبُ ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً ، فقال : أبشر بِرَوحٍ ورَيحانٍ وجنّةِ نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ح ١.


وفي حال النزع يرى الكافر ملك الموت في أبشع صورة ، تخرج النار والدخان من منخريه ، أمّا عذاب النزع فهو على لسان الروايات أشدّ مِن نشرٍ بالمناشير ، وقرض بالمقاريض ، ورضخ بالأحجار ، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق ، ومثل سحب الحَسَكةِ في لفافة الصوف.

وقد ورد في عذاب البرزخ بعض الأخبار المرعبة بحقّ الكافرين والعصاة ، منها : قول النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ القبر أوّل منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسرُ منه ، وإنْ لم ينجُ منه فما بعده أشدّ (١).

وورد في الآيات الشريفة والروايات عن شدّة الحساب وأهوال القيامة ما يصدع القلوب ويذيب النفوس.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ) (٢).

وقال سبحانه : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) (٣) ، وقال عزّ علاه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) (٤).

وقال سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٢٦.

٢ ـ الحجّ : ١ ـ ٢.

٣ ـ المزّمّل : ١٧ ـ ١٨.

٤ ـ القارعة : ٤ ـ ٥.


هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) (١).

وقال تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) (٢).

الآيات تتحدّث عن انقلاب كونيّ يرعب القلوب ، وترتعد له الفرائص ، فقد ورد في الروايات ما يزيد الحقّ وضوحاً وجلاءً ، منها ما يشير إلى أنَّ الناس يُحشرون عراةً حفاةً ، يلجمهم العرق إلى شحمة الأذن ، وأنَّ المجرمين يُطعَمون الضريع والغِسلين ، ويُسقون الماء الحميم الذي يقطّع أمعاءهم (٣).

وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : خُتم على الأفواه فلا تَكلّم ، وقد تكلّمت الأيدي ، وشهدت الأرجل ، ونطقت الجلود بما عملوا فلا يَكتُمون الناس حديثاً (٤).

وبعد تحدّث النبيّ صلى الله عليه وآله عن مشاهد الآخرة وأهوالها ، سقطت فاطمة عليها السلام على وجهها وهي تقول : الويلُ ثمّ الويلُ لِمَن دخل النار! ٥

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : يا ليتني كنت كبشاً لأهلي فأكلوا لحمي ومزّقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار. وقال عمّار رضي الله عنه : يا ليتني كنت طائراً في القفار ولم يكن علَيّ حساب ولا عذاب! (٦)

وقال الإمام عليّ عليه السلام : يا ليتَني لم تَلِدني أُمّي ، ويا ليت السباع مزّقَت لحمي ولم أسمع بذكر النار. ثمّ وضع عليه السلام يده على رأسه وجعل يبكي ويقول : وا بُعدَ سَفَراه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ق : ٢٠ ـ ٢١.

٢ ـ سورة ق : ٣٠.

٣ ـ التبيان ٣ : ٥٩٣ بالمضمون.

٤ ـ بحار الأنوار ٧ : ٣١٣ / ح ٦ ـ عن : تفسير العياشي.

٥ ـ الدروع الواقية : ٢٧٦.

٦ ـ نفسه : ٢٧٦.


وا قلّة زاداه ، في سفر القيامة يذهبون ، وبين الجنّة والنار يتردّدون ، وبكلاليب النار يُتخَطَّفون ، مرضى لا يُعاد سقيمُهم ، وجرحى لا يُداوى جريحهم ، وأسرى لا يُفكّ أسيرهم ... من النار يأكلون ، ومن النار يشربون ، وبين أطباق النار يتقلّبون (١).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ في جهنّم رحى تطحن ، أفلا تسألون ما طحنها؟ فقيل له : فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام : العلماء الفَجَرة ، والقرّاء الفسقة ، والجبابرة الظلمة ، والوزراء الخونة ، والعرفاء الكذبة (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، ثمّ تنفّس رجلٌ من أهل النار فأصابهم نَفَسُه لاحترق المسجد ومن فيه! (٣)

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : يا ابنَ رسول الله ، خوّفني فإنّ قلبي قد قسا ، فقال عليه السلام : يا أبا محمّد ، استعِدَّ للحياة الطويلة ، فإنّ جبرائيل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قاطب ، وكان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرائيل ، جئتني اليوم قاطباً؟

فقال : يا محمّد قد وُضِعت منافخ النار ، فقال : وما منافخ النار يا جبرائيل؟ فقال يا محمد : إنّ الله عزّ وجلّ أمر بالنار فنُفخ عليها ألف عام حتّى ابيضّت ، ونُفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت ، ثمّ نفخ عليها ألفَ عام حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة. ولو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ، ولو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وُضعت على أهل الدنيا لذابت من حرّها ، ولو أنّ سربالاً من سرابيل أهل النار عُلِّق بين السماء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدروع الواقية : ٢٧٦.

٢ ـ الخصال : ٢٩٦ / ح ٦٥.

٣ ـ روضة الواعظين : ٥٠٨ ـ مجلس في ذكر جهنّم وكيفيّتها.


والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه.

قال عليه السلام : فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبكى جبرائيل ، فبعث الله إليهما ملكاً فقال لهما : إنّ ربكما يقرؤكما السلام ويقول : قد آمنتُكما أن تذنبا ذنباً أعذّبكما عليه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : فما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل مبتسماً بعد ذلك (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله رُوي قوله : والذي نفسي بيده ، إنّهم يًستكرهون في النار كما يُستكره الوتدُ في الحائط (٢).

وأختتم هذا المبحث بهذه الرواية ، روى خيثمة الجُعفيّ قال : كنتُ عند جعفر بن محمّد «الصادق» عليه السلام والمفضّل بن عمر ليلاً ليس عنده أحد غيرنا ، فقال له المفضّل : جُعلتُ فداك ، حدّثنا حديثاً نُسَرُّ به ، قال : نعم. إذا كان يومُ القيامة حشر الله الخلائق في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غُرُلاً ، قال : فقلت : جُعلت فداك ، ما الغُرل؟

قال : كما خُلقوا أوّل مرّة ، فيقفون حتّى يلجمهم العرق فيقولون : ليت الله يحكم بيننا ولو إلى النار! يرون أنَّ في النار راحة ممّا هم فيه ، ثمّ يأتون آدم فيقولون : أنت أبونا وأنت نبيّ ، فَسَلْ ربّك يحكم بيننا ولو إلى النار ، فيقول آدم : لست بصاحبكم ، خلقني ربّي بيده وحملني على عرشه ، وأسجَدَ لي ملائكته ثمّ أمرني فعصيته ، ولكنّي أدلّكم على ابني الصدّيق الذي مكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم ، كلّما كذّبوا اشتدّ تصديقه ، نوح. قال : فيأتون نوحاً فيقولون : سل ربّك حتّى يحكم بيننا ولو إلى النار.

قال : فيقول : لستُ بصاحبكم ، إنّي قلت : إنّ ابني من أهلي ، ولكن أدلّكم إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٨٠ ـ ٨١.

٢ ـ بحار الأنوار ٨ : ٢٥٥.


من اتّخذه الله خليلاً في دار الدنيا ، ائتوا إبراهيم. قال : فيأتون إبراهيم فيقول : لست بصاحبكم ، إنّي قلت : إنّي سقيم ، ولكنّي أدلّكم على من كلّمه الله تكليماً ، موسى.

قال : فيأتون موسى فيقولون له : فيقول : لستُ بصاحبكم ، إنّي قتلتُ نفساً ، ولكنّي أدلّكم على من كان يخلق بإذن الله ، ويُبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، عيسى. فيأتونه فيقول : لست بصاحبكم ، ولكنّي أدلّكم على مَن بشّرتُكم به في دار الدنيا ، أحمد «صلّى الله عليه وآله».

ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام : ما من نبيّ من ولد آدم إلى محمّد صلوات الله عليهم إلّا وهم تحت لواء محمّد صلى الله عليه وآله ، قال : فيأتونه فيقولون : يا محمّد ، سل ربّك يحكم بيننا ولو إلى النار. ن

قال : فيقول : نعم أنا صاحبكم. فيأتي دار الرحمن وهي عدن ، وإنّ بابها سعتُه بُعدُ ما بين المشرق والمغرب ، فيحرّك حلقة من الحَلَق ، فيقال : من هذا؟ ـ وهو أعلم به ـ فيقول : أنا محمّد ، فيقال : افتحوا له (١).

وفي رواية أنّه صلى الله عليه وآله ينطلق بهم إلى باب الجنّة ، ويستقبل باب الرحمن ، ويخرّ ساجداً ، فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله : إرفع رأسك ، واشفع تُشَفَّع ، واسأل تُعطَ ، وذلك قوله تعالى : (٢).

يرجى مراجعة مبحث المعاد في كتابنا الموسوم بالمباحث الواضحة (٣) للاستزادة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٠ ـ ٣١١ / ح ١٤٥.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٥٠ ، والآية في سورة الإسراء : ٧٩.

٣ ـ المباحث الواضحة : ٩٦ ـ ١٢١.


المبحث التاسع والأربعون : في تجسّم الأعمال

يرى بعض العلماء أنّ أعمال الإنسان ، سواء الصالحة منها أو الطالحة ، تتجسّم يوم القيامة ، وأنّ نفس أعمالهم تُرَدّ عليهم ، وقد استندوا في ذلك إلى فهمهم للآيات التي تتحدّث حول هذه القضيّة ، وإلى الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام :

قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١) ، وقال سبحانه : (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (٢) ، وقال عزّ شأنه : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣).

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه السلام قوله في وصف مشاهد الآخرة : وصارتِ الأعمال قلائدَ في الأعناق (٤). وقال الله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ) (٥) ، وعن الإمام الباقر عليه السلام : الكِبْرُ مطايا النار (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٤٩.

٢ ـ النساء : ١٢٣.

٣ ـ الزلزال : ٧ ـ ٨.

٤ ـ الصحيفة السجّادية : ٢٠٥ / الدعاء ٤٢ ـ عند ختم القرآن.

٥ ـ آل عمران : ٣٠.

٦ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٢٢ / ح ٦ ـ عقاب المتكبّرين.


يرى هؤلاء الأعلام أنّ هذه المسألة من الحقائق القرآنيّة الثابتة والواضحة ، فإنّ العمل له صورة ظاهريّة وصورة باطنيّة تمثّل الحقيقة المطلقة ، فالناس يدركون ظاهر الأشياء ولا يَصِلون إلى المضمون الحقيقيّ إلّا بعد الرحيل عن هذه الدنيا. إنّ بواطن الإعمال ومضامينها لا تظهر ولا تدركها الحواس ، بل هي من اختصاص عالم الروح.

ورد في الحديث الشريف : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (١).

إنَّ ملك الموت واحد ، ولكنّه يتمثّل للمؤمن في أحسن صورة وأطيب ريح ، ويتمثّل للكافر في صورة مهولة مرعبة مخيفة ، إنّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة تتجسّم بالمواهب والنعم والفيوضات والجمال والروعة والرحمة ، أّمّا سيّئاته فتتجسّم بالصور المؤلمة والمشاهد المرعبة.

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (٢).

إنّ هؤلاء ظاهراً يأكلون الأموال ويتلذّذون بها ، ولكنّ باطن العمل هو أكلهم النار ، فالظاهر يبعث النشوة واللذّة ، ولكن الباطن مؤلم.

وقال الله سبحانه : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (٣).

إنّ كفر هؤلاء وعنادهم وتحدّيهم للرسول والرسالة جعل منهم وقوداً لنار جهنّم. ولو دقّقنا النظر في المعنى ، فهؤلاء بمثابة الوقود الذي يعطي الحرارة لغيره ، فهو يحترق ويُحرق غيره ، وهذا من بواطن الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ خصائص الأئمّة عليهم السلام : ١١٢.

٢ ـ النساء : ١٠.

٣ ـ البقرة : ٢٤.


أمّا المؤمن فيكون نَفَسُه رَوحاً وريحاناً وجنّةَ نعيم ، لأنّ أعماله الحسنة لها باطن خير ، جميل ، نورانيّ ، وقد ورد في الآثار المعتبرة أنَّ ولاية آل محمّد صلى الله عليه وآله هي الجنّة ، قال سبحانه : (نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (١).

وقال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) (٢).

إنّ الأعمال الصالحة والعقائد الحقّة والمعارف الصافية تحوّلت إلى نور ذاتي في كيان المؤمن تُضاء به عرصات الجنّة ، وهذا النور وليد التقوى وغرس العمل الصالح في الدنيا. أمّا الذي يفد على ربّه وليس معه نور فيبقى في الظلمات ليس بخارج منها ، وهذه هي بواطن أعمالهم القبيحة واعتقاداتهم الفاسدة ، فقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : اتّقُوا الظلم ، فإنّه ظلمات يوم القيامة (٣).

إنّ باطن أعمال الإنسان ومضامينها قد تتحوّل إلى نور يضيء قلبه فيرى بنور الله ، ولقد ورد في الحديث النبويّ المشهور : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله (٤).

ورأينا في قصّة الشاب العاقّ لوالدته كيف اعتُقل لسانه فل ميستطع التلفّظ بالشهادة ، وحين رضيت عنه والدته نطق بها. وكان هناك رجل أسود يأخذ بحنجرته ، لكنّه ولّى بدعاء النبيّ صلى الله عليه وآله إيّاه ، فولّى الأسود وجاء رجل أبيض اللّون ، حسن الوجه ، طيّب الريح ، حسن الثياب ليتوَلّاه.

إنّ العقوق والبرّ بالوالدين لهما ظواهر وبواطن.

وقد ورد في فضل الصلاة على محمّد وآله صلوات الله عليهم ما رواه الكلينيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التحريم : ٨.

٢ ـ الحديد : ١٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٣٢ / ح ١٠ ـ باب الظلم.

٤ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٠٠ / ح ١ ـ الباب ٤٦.


عن الإمام الباقر عليه السلام قوله : ما في الميزان شيءٌ أثقلُ من الصلاة على محمّد وآل محمّد ، وإنَّ الرجل لَتُوضع أعماله في الميزان فتميل به ، فيُخرج الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيُرجَّح (١).

وذكرنا في مبحث الذكر أنّ العبد إذا اشتغل بذكر الله اشتغلت الملائكة بغرس الأشجار له في الجنّة ، وإذا سكت أمسكوا ، وورد أنّ المعاصي تحرق تلك الأشجار!

وورد أنّ البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يُضيء لأهل السماء كما يُضيء الكوكب الدرّيّ لأهل الأرض ، ومن أوضح الأدلّة على تجسّم الأعمال هو أنّ الإنسان يُعذَّب بعمله ويخلد فيه.

قال تعالى : (مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) (٢) ، كذلك قوله سبحانه : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (٣).

وهذا الكتاب يتضمّن حقائق أعماله كاملة شاملة واضحة ، فيُفاجأ وينتفض من غفلته ليقول : (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (٤).

وجاء عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال : مَن أدخل على مؤمن سروراً خلق الله عزّ وجلّ من ذلك السرور خلقاً فيلقاه عند موته فيقول له : أبشِرْ يا وليّ الله بكرامة من الله ورضوان. ثمّ لا يزال معه حتّى يدخلَ قبره ، فيقول له مثل ذلك ، فإذا بُعث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٩٤ / ح ١٥.

٢ ـ طه : ١٠٠ ـ ١٠١.

٣ ـ الإسراء : ١٣ ـ ١٤.

٤ ـ الكهف : ٤٩.


تلقّاه فيقول له مثل ذلك ، فلا يزال معه عند كلّ هولٍ يبشّره ويقول له مثل ذلك.

فيقول له : مَن أنت رَحِمك الله؟ فيقول : أنا السرور الذي أدخلت على فلان (١).

وقال الإمام علي عليه السلام لكميل : يا كميل ، مُرْ أهلك أن يَرُوحوا في كسب المكارم ، ويُدْلِجوا في حاجة مَن هو نائم ، فَوَالذي وَسِع سمعُهُ الأصوات ، ما من أحدٍ أودَعَ قلباً سروراً إلّا وخَلَق الله من ذلك السرور لطفاً ، فإذا نزَلَت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتّى يَطرُدَها عنه كما تُطرَد غريبةُ الإبل (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله في عمل الكافر : ويُفتَح له باب إلى النار فيرى مقعده من النار ، ثمّ إنّه يخرج منه رجل أقبحُ مَن رأى قطّ ، فيقول : يا عبد الله مَن أنت؟! ما رأيتُ شيئاً أقبح منك؟ قال : فيقول : أنا عملك السيّئ الذي كنتَ تعمله ورأيُك الخبيث (٣).

وفي خبر آخر : فإذا كان يوم القيامة اشتعل قبره ناراً فيقول : ليّ الويل! فيأتيه عمله الخبيث فيقول له : واللهِ ما علمتُك إلّا كنتَ عن طاعة الله مبطئاً ، وإلى معصية الله مسرعاً ، قد كنت تركبني في الدنيا ، فأنا أريد أن أركبك اليوم كما كنتَ تركبني ، وأقودك إلى النار (٤).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال : ألا إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرةٌ من حُفَر النيران ، ألا وإنّه يتكلّم في كلّ يوم ثلاث مرّات فيقول : أنا بيت الوحشة ، أنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٥١ / ح ١٢٦.

٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٥٧.

٣ ـ الكافي ٣ : ٢٤٢ / ح ١.

٤ ـ الاختصاص : ٣٦١ بالمضمون.


بيت الدود (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لقيس بن عاصم التميمي واعظاً إيّاه : لا بدّ لك يا قيس مِن قرين يُدفَن معك وهو حيّ ، وتُدفن معه وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمَّ لا يُحشَر إلّا معك ، ولا تُبعث إلّا معه ، ولا تُسأل إلّا عنه ، فلا تجعَلْه إلّا صالحاً ، فإنّه إن صلح أنِستَ به ، وإنْ فسد لا تستوحش إلّا منه ، وهو فعلك (٢).

وورد في حقّ الصدقة قول النبيّ صلى الله عليه وآله : أرض القيامة نار ، ما خلا ظلّ المؤمن ، فإنّ صدقته تُظلّه (٣). والظلّ هذا من الصور الباطنة للصدقة.

وفي «عدّة الداعي» قال : روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد خرج على أصحابه يوماً فقال لهم : إرتَعُوا في رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال : مجالس الذِّكْر ، أُغدوا وروحوا واذكروا (٤).

وفي حديث المعراج أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله مرّ على قوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب ولحم خبيث ، يأكلون اللحم الخبيث ويَدَعون الطيّب ، فقال صلى الله عليه وآله : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويَدَعون الحلال ، وهم من أمّتك يا محمّد (٥).

وقال الرسول صلى الله عليه وآله : مانع الزكاة يجرّ قُصْبَه في النار «أي أمعاءه» ويُمثَّل له ماله في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مشكاة الأنوار : ٣٠٥ ـ الفصل التاسع من الباب السابع.

٢ ـ معاني الأخبار : ٢٣٣ باب معنى القرين.

٣ ـ الكافي ٤ : ٣ / ح ٦.

٤ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨.

٥ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٦.


النار في صورة شجاع «ذَكَر الأفاعي» أقرع له زنمتان ـ أو زبيبتان ـ يفرّ الإنسان منه وهو يتبعه حتّى يقضمه كما يقضم الفجل ، ويقول : أنا مالك الذي بَخِلتَ به (١).

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن عفّ بطنُه وفَرْجُه كان في الجنّة مَلِكاً محبوراً (٢).

وهذا المَلَك من المعاني الباطنيّة والمضامين لعفّة البطن والفرج.

وورد في الأثر المعتبر أنّ غرس الجنّة لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم (٣).

وورد في الآثار أنَّ الملائكة يبنون طابوقة من ذهب أو طابوقة من فضّة إذا قال الذاكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وحين يسكت يتوقّفون حتّى تأتيهم النفقة ، وهي الذكر (٤).

وهذا من أوضح المعاني الباطنيّة للذكر.

والوقت الذي يقضيه الإنسان من عمره له معنى ظاهر ومعنى باطن ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه : يُفتَح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره أربع وعشرون خزانة «عدد ساعات الليل والنهار» ، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسُروراً ، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وُزِّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار ، وهي الساعة التي أطاع فيها ربّه.

ثمّ يُفتَح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة ، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسِّم على أهل الجنّة لَنغّصَ عليهم نعيمها ، وهي التي عصى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ / ح ١١٤٣ ، وسائل الشيعة ٦ : ١٧ / ح ٢٧.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٤٤٣ / ح ٤ ـ المجلس ٨٢.

٣ ـ مستدرك الوسائل ٥ : ٣٧٣ / ح ٦١٢٤ ـ عن : لبّ اللُّباب ـ مخطوط.

٤ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٥٣ بالمضمون.


فيها ربّه. ثمّ يُفتَح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يَسرّه ، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا ، فيناله من الغَبْن والأسف على فواتها ، حيث كان متمكّناً من أن يكون يملأها حسنات ما لا يوصف ، ومن هذا قوله تعالى : (ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (١).

وفي هذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : إنّ امرءاً أتت عليه ساعةٌ من عمره لم يذكر فيها ربَّه ، ويستغفر مِن ذنبه ، ويفكّر في معاده ، لَجديرُ أن يطول حزنُه ويتضاعَفَ أسَفُه! (٢)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله لابن مسعود : أكثِرْ من الصالحات والبِرّ ، فإنّ المحسن والمسيء يندمان : يقول المحسن : يا ليتَني ازددتُ من الحسنات! ويقول المسيء : قصّرتُ! وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٣) ، (٤).

وفي الحديث الشريف قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا تزول قَدَمُ عبدٍ يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع : عن جسده في ما أبلاه ، وعن عمره في ما أفناه ، وعن ماله مِمَّا اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهلَ البيت (٥).

وعن البَراء بن عازب قال : كان مُعاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله في منزل أبي أيّوب الأنصاريّ ، فقال معاذ : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) (٦)؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا معاذ ، سألتَ عن عظيم من الأمر. ثمّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ١٠٣ ، بحار الأنوار ٧ : ٢٦٢ / ح ١٥ ، والآية في سورة التغابن : ٩.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ٢ : ١٠٢.

٣ ـ القيامة : ٢.

٤ ـ بحار الأنوار ٧ : ١٠٦ / ح ١ ـ عن مكارم الأخلاق : ٤٥٤.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٩٣ / ح ١٢٢٧.

٦ ـ النبأ : ١٨.


أرسل عينيه ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله : تُحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتاً ، قد ميزّهم الله تعالى عن المسلمين وبدّل صورهم :

فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير.

وبعضهم منكّسون ، أرجلهم مِن فوق وجوههم مِن تحت ، ثمّ يُسحَبون عليها ، وبعضهم عُميٌ يتردّدون ، وبعضهم صُمٌ بكمٌ لا يعقلون.

وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم ، يتقذّرهم أهل الجمع.

وبعضهم مقطّعة أرجلهم وأيديهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيفة ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قَطِران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقَتّات بين الناس ، وأمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السُّحت ، وأمّا المنكّسون على وجوههم فأكَلَة الربا ، وأمّا العُمْي فالذين يجورون في الحكم ، وأمّا الصمّ والبكم فالمعجَبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالفت أعمالهم أقوالهم ، وأمّا الذين قُطّعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأمّا المصلّبون على جذوع من نار فالسُّعاة إلى السلطان ، وأمّا الذين هم أشدّ نتناً من الجيفة فالذين يتّبعون الشهوات واللذّات ومَنَعوا حقّ الله من أموالهم ، وأمّا الذين يلبسون جباباً من نار فأهل الكبائر والفخر والخُيَلاء (١).

القتّات : النَّمّام. أرسل عينيه : بكى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير مجمع البيان ١٠ : ٢٤٢ ، بحار الأنوار ٧ : ٨٩ ـ باب صفة المحشر.


لقد مَسَخت الذنوب والمعاصي هؤلاء المجرمين ، وكانوا أنفسهم من الحقائق الباطنيّة لأعمالهم.

قال عبد الله بن سَمُرة : كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً ، فقال : إنّي رأيتُ البارحة عجائبَ ، فقلنا : يا رسول الله وما رأيت؟ حدِّثْنا به فداؤك أنفسنا وأهلونا وأولادنا.

فقال صلى الله عليه وآله : رأيت رجلاً من أُمّتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءَ بِرُّه بوالديه فمنعه بِرُّه. ورأيت رجلاً من أمّتي قد بُسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه فمنعه منه. ورأيت رجلاً من أمّتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذِكرُ الله عزّ وجلّ فنجّاه من بينهم.

ورأيت رجلاً من أمّتي يلهث عطشاً ، كلّما ورد حوضاً مُنع منه فجاءه صيام شهر رمضان فسقاه وأرواه. ورأيت رجلاً من أمّتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته فمنعته منهم. ورأيت رجلاً من أمّتي والنبيّون حَلقاً حلقاً ، كلّما أتى حلقة طُرِد ، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي.

ورأيت رجلاً من أُمّتي بين يديه ظُلمة ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ، ومن تحته ظلمة مستنقعاً في الظلمة ، فجاءه حجّه وعمرتهت فأخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور. ورأيت رجلاً من أمّتي يكلّم المؤمنين فلا يكلّمونه ، بجاءته صلته الرحم فقالت : يا معشر المؤمنين كلّموه ، فإنّه كان واصلاً لرحمه ، فكلّمه المؤمنون وصافحوه وكان معهم.

ورأيت رجلاً من أمّتي يتّقي وهج النيران وشررها بيده ووجهه ، فجاءته صدقته فكانت ظلّاً على رأسه وستراً على وجهه. ورأيت رجلاً من أمّتي قد أخذته الزبانية من كلّ مكان ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلّصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة.


ورأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه بينه وبين رحمة الله حجاب ، فجاءه حُسن خُلقه فأخذ بيده وأدخله في رحمة الله. ورأيت رجلاً من أمّتي قد هوت صحيفته قِبَلَ شماله ، فجاءه خوفه من الله عزّ وجلّ فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه.

ورأيت رجلاً من أمّتي قد خفّت موازينه ، فجاءه أفراطه «الأجنّة من الأولاد يموتون» في صلاته فثَقّلوا موازينه. ورأيت رجلاً من أمّتي قائماً على شفير جهنّم ، فجاءه رجاؤه من الله عزّ وجلّ فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلاً من أمّتي قد هوى في النار ، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله فاستخرَجَته من ذلك.

ورأيت رجلاً من أمّتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف ، فجاءه حسن ظنّه بالله فسكّن رعدته ومضى على الصراط. ورأيت رجلاً من أمّتي على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً ، ويتعلّق أحياناً ، فجاءته صلاته علَيَّ وأقامته على قدميه ومضى على الصراط. ورأيت رجلاً من أمّتي انتهى إلى أبواب الجنّة ، كلّما انتهى إلى باب أُغلِق دونه ، فجاءته شهادةُ أن لا إله إلّا الله صادقاً ، ففُتِحَت له الأبواب ودخل الجنّة (١).

وورد في حديث الصراط ودقّته وعقابه وأهواله قول النبيّ صلى الله عليه وآله : جسر على جهنّم يمرّ الخلائق عليه ، وقال صلى الله عليه وآله : إنّ على جنبيه كلاليبَ وخطاطيفَ كأنّها شوك السَّعْدان ، فمِن مُسَلِّم وناجٍ ، ومخدوشٍ عليه في النار منكوس ، فمِن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف ، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس ، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يعدو ، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفاً ، ومنهم الزّالّون والزالّات ، ومنهم من يُكردَس في النار ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للصدوق : ١٩١ / ح ١ ـ المجلس ٤١.


واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر والعِشاء (١).

وقال صلى الله عليه وآله : ثمّ يُوضع عليها صراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ... فيُكلَّفون الممرّ عليه ، فتحبسهم الرحمة والأمانة ، فإنّ نجوا حبسَتْهم الصلاة ... والناس على الصراط ، فمتعلّق تَزلّ قدمه وتثبت قدمه ، والملائكة حولها ينادون : يا كريمُ يا حليم اعفُ واصفح ، وعُدْ بفضلك وسلِّم. والناس يتهافتون فيها «أي في النار» كالفَراش (٢).

وروي أنّ على الصراط سبعة قناطر ، يُسألون على القنطرة الأولى عن ولاية عليّ عليه السلام وعن حبّ أهل بيته ، وعلى الثانية يُسألون عن الصلاة ، وعلى الثالثة عن الزكاة ، وعلى الرابعة عن الصيام ، وعلى الخامسة عن الحجّ ، وعلى السادسة عن الجهاد ، وعلى السابعة عن العدل ، فمن أتى بشيء من ذلك جاز على الصراط كالبرق الخاطف ، ومن لم يأتِ عُذّب ، وذلك قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) (٣).

وورد أن هذه العقبات تنتهي إلى المرصاد ، وهي قنطرة مظالم العباد (٤).

قال الإمام الصادق عليه السلام في بيان المرصاد : قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بِمَظلمة (٥).

وورد في منع الزكاة قوله صلى الله عليه وآله : ويمثل له ماله في صورة شجاعٍ أقرع له زنمتان ـ أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير مجمع البيان ١٠ : ٣٦٥.

٢ ـ الكافي ٨ : ٣١٢ / ح ٤٨٦.

٣ ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٢ : ٣ ، والآية من سورة الصافّات : ٢٤.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ ح ٢ بالمضمون.

٥ ـ نفسه ٢ : ٣٣١ / ح ٢ ـ عنه : بحار الأنوار ٧٢ : ٣٢٣ / ح ٥٤.


زبيبتان ـ يفرّ الإنسان منه وهو يتبعه حتّى يقضمه كما يقضم الفجل ، ويقول : أنا مالُك الذي بَخِلتَ به (١).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما من رجل يمنع حقّاً مِن ماله إلّا طوّقه الله عزّ وجلّ به حيّةً من نار يوم القيامة (٢).

وهذان الخبران من المشاهد الباطنيّة لمنع الزكاة.

وقال الإمام عليّ عليه السلام : يا كميل ، القبر صندوق العمل (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ، وبعضكم ألحنُ بحجّته من بعض ، فإيّما يجلٍ قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار (٤).

وفي مورد إعانة السلطان الظالم ورد قوله صلى الله عليه وآله : ومن عَلَّقَ سوطاً بين يَدَي سلطان جائر جعله الله حيّة طولها سبعون ألفَ ذراع ، فيسلّطه الله عليه في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً (٥).

وفي رواية أنّ داود النبيّ صلى الله عليه وآله رأى الميزان الأخرويّ فأُغشي عليه ، فلمّا أفاق قال : يا إلهي من يقدر أن يملأ هذا من الحسنات؟ فأوحى الله إليه إنْ كنتُ راضياً عن عبدي أملؤُه بتمرة (٦).

لقد حدّثنا التاريخ عن عظمة الصحابيّ الجليل سعد بن مُعاذ وعلوّ مقامه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ / ح ١١٤٣.

٢ ـ الكافي ٣ : ٥٠٤ / ح ٧.

٣ ـ تاريخ مدينة دمشق ٥٠ : ٢٥١.

٤ ـ الكافي ٧ : ٤١٤ / ح ١.

٥ ـ ثواب الأعمال : ٢٨٤ ، وسائل الشيعة ١٧ : ١٨١ / ح ٢٢٣٠٢ ـ ط مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

٦ ـ زاد المسير لابن الجوزيّ ٣ : ١١٥.


فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وآله حين استشاره لحرب قريش يوم بدر : لقد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامضِ يا رسول الله لما أردتَ فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منّا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً. إنّا لَصُبرٌ في الحرب ، صُدُقٌ في اللقاء ، لعلّ الله يريك منّا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله.

وعندما استُشهد سعد صلّى عليه النبيّ صلى الله عليه وآله ومعه سبعن ألف ملك ، وتبع صلى الله عليه وآله جنازته بلا رداء ولا حذاء تأسّياً بالملائكة ، ثمّ نزل إلى اللحد وسوّى اللّبن عليه وأهال التراب بيده الشريفة ، فقالت أمّ سعد : هنيئاً لك الجنّة يا سعد.

فقال صلى الله عليه وآله : يا أمّ سعد مَهْ ، لا تجزمي على ربِّك ؛ فإنّ سعداً قد أصابته ضَمَّةٌ «أي ضغطة القبر» ... إنّه كان في خُلُقه مع أهله سُوء (١) ، وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلّم : إنّما كان مِن زَعارّةٍ في خُلقه (٢).

والزعارّة : الشراسة في الخُلق.

وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وآله : إنَّ سعداً كان في لسانه غلظ على أهله (٣).

وهذه الرواية تبيّن أنَّ سوء الخلق مع الأهل له صورة باطنة ، وهي ضغطة القبر ، فقد ورد في قوله تعالى : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) (٤) ، يعني يوم يتحسّر الناس ، المسيء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للصدوق : ٣١٤ ـ ٣١٥ / ح ٢ ـ المجلس ٦١.

٢ ـ الكافي ٣ : ٢٣٦ / ح ٦.

٣ ـ كتاب الزهد للحسين بن سعيد : ٨٧ / ح ٢٣٣.

٤ ـ مريم : ٣٩.


على إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانة (١). قال الإمام الصادق عليه السلام : فينادي منادٍ من عند الله ، وذلك بعدما صار أهل الجنّة في الجنّة ، وأهل النار في النار : يا أهل الجنّة ويا أهل النار ، هل تعرفون الموت في صورة من الصور؟

فيقولون : لا. فيُؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، فيُوقَف بين الجنّة والنار ، ثمّ ينادَون جميعاً : أشرفوا وانظروا إلى الموت. فيشرفون ، ثمّ يأمر الله به فيُذبح ، ثمّ يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت أبداً ، ويا أهل النار خلود فلا موت أبداً (٢) ، فيفرح أهل الجنّة فرحاً لو كان أحد يومئذٍ ميّتاً لماتوا فرحاً ويشهق أهل النار شهقةً لو كان أحد ميّتاً لماتوا حزناً (٣).

انظر قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام : (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (٤).

لقد كان سجودهم ذلك ذا حقيقة ظاهريّة وحقيقة باطنيّة ، لقد سجدوا ظاهراً ، ولكنّ باطن العمل ظهر على هيئة سجود الشمس والقمر والكواكب ، وكذلك تعبّر الرؤية الصالحة عن حقائق حياتيّة يعرفها أهل الخبرة في تفسير الأحلام.

وأختم هذا المبحث بهذه الموعظة البليغة لأمير المؤمنين عليه السلام : واعلموا أنّه ليس لهذا الجِلْدِ الرقيقِ صبرٌ على النار ، فارحموا نفوسَكم ، فإنّكم قد جرّبتُموها على مصائب الدنيا. أفرَأيتم أحدكم من الشوكة تصيبه ، والعثرة تُدْميه ، والرمضاءِ تحرقه؟! فكيف إذا كان بين طابَقَينِ من نار ، ضجيعَ حَجَر ، وقرينَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الصافي ٣ : ٢٨١.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٥٠.

٣ ـ الفصول المهمّة في أصول الأئمّة ١ : ٣٧٣ / ح ٤٩١ بتصرّف.

٤ ـ يوسف : ٤.


شيطان! أعلِمتُم أنّ مالكاً إذا غَضِب على النار حَطَّم بعضُها بعضاً لغضبه ، وإذا زجَرَها توثّبَت بين أبوابها جزعاً من زجرته! (١)

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٣.


المبحث الخمسون : في النور الإلهيّ

قال عليه السلام : يا غَفّارُ بِنُورِكَ اهْتَدَيْنا ، وبِفَضْلِكَ اسْتَغْنَيْنا ، وَبِنِعْمَتِكَ اَصْبَحْنا وَاَمْسَيْنا ، ذُنُوبَنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ اللّهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ.

يتوجّه الداعي عليه السلام بالثناء على الله عزّ شأنه إذ هو مصدر كلّ خير ، وأصل كلّ عطاء ، طالباً المغفرة والهداية ، والتوفيق لسلوك طريق التوبة.

النور : الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار ، وذلك ضربان : دنيويّ وأخرويّ ، فالدنيويّ ضربان : ضرب معقول بعين البصيرة ، وهو ما انتشر من الأمور الإلهيّة كنور العقل ، ونور القرآن ، ومحسوس بعين البصر ، وهو ما انتشر من الأجسام النيّرة كالقمرين والنجوم والنيران.

فمن النور الإلهيّ قوله سبحانه وتعالى : (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (١).

ومن المحسوس الذي يُعين البصر نحو قوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (٢).

ومن النور الأخرويّ قوله تعالى : (يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (٣) ، (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المائدة : ١٥.

٢ ـ يونس : ٥.

٣ ـ سورة الحديد : ١٢.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٥٠٨.


إنّ النور ظاهر بنفسه ، مُظهر لغيره ، والله ظاهر بنفسه ، مظهر لكلّ ما في السماوات والأرض بإشراقه عليها ، ولكن هناك فرق بين النور الإلهيّ الذي تظهر به الأشياء من حالة العدم إلى حالة الوجود ، لتسير وفق الخطّ المرسوم لها ، وبين النور الذي يشعّ على الأجسام والموجودات ليزيدها وضوحاً وجلاءً.

فالنور في الحالة الأولى هو عين الإيجاد والتدبير ، وهذا من الرحمة العامّة. ومن هنا نقول : إنّ الله سبحانه هو المصداق الأكمل للنور ، أمّا في الحالة الثانية فالنور كاشف للمحسوسات كالضوء الذي ينير الطريق والأشياء المعتمة.

وهناك نور مأخوذ على نحو المجاز ، وهو قسمان :

١. ما يمثّل الهداية العامّة ، بعمنى إيصال كلّ شيء إلى كماله.

٢. ما يمثّل الهداية الخاصّة ، بمعنى رسم الطريق الموصل للإنسان إلى سعادته وكماله ، ففي الخبر عن الإمام الرضا عليه السلام عندما سئل عن قوله تعالى : (اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، قال عليه السلام : هادٍ لأهل السماوات ، وهادٍ لأهل الأرض (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله في هذه الآية : بدأ (اللَّـهُ) بنور نفسه ، (مَثَلُ نُورِهِ) ، مثَّلَ هداه في قلب المؤمن (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ، والمصباح : جوف المؤمن ، والقنديل : قلبه ، والمصباح : النور الذي جعله الله في قلبه.

وقال عليه السلام : (نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ) فريضة على فريضة ، وسنّة على سنّة ، (يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء ، فهذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمن. ثمّ قال عليه السلام : فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور : مدخله نور ، ومخرجه نور ، وعمله نور ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النور : ٣٥.

٢ ـ الكافي ١ : ١١٥ / ح ٤.


وكلامه نور ، ومصيره يوم القيامة إلى الجنّة نور. قيل له عليه السلام : إنّهم يقولون : مثل نور الربّ ، قال عليه السلام : سبحان الله ليس لله مثلٌ ، قال الله تعالى : (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّـهِ الْأَمْثَالَ) (١) ، (٢).

وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : (اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ، فقال عليه السلام : هو مثَلٌ ضربه الله لنا ، فالنبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة صلوات الله علهيم أجمعين من دلالات الله وآياته التي يُهتدى بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الإسلام والفرائض والسُّنن ، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم (٣).

وقال سبحانه : (أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) (٤). وقال عزّ علاه : (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) (٥).

وعندما نعمّم استعمال النور بمعنى الكاشفيّة والهداية الخاصّة ، يكون العقل نوراً لأنّه يمثّل مدارك الحقّ ويقود إلى الطاعة ، وينهى عن المعصية ، وتكون الحواسّ نوراً لأنّها تكشف عن حقائق الأمور.

والكتب السماويّة نور لاشتمالها على المعارف الحقّة والأحكام الصحيحة ، والنبيّ نور ، والهداية التي يقذفها في قلوب الصالحين من عباده لينظروا في ملكوت السماوات والأرض نور ، وظلمة الليل نور ، والمصائب والاختبارات التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ١٠٣.

٢ ـ النحل : ٧٤.

٣ ـ التوحيد للصدوق : ١٥٧ / ح ٢.

٤ ـ الزمر : ٢٢.

٥ ـ الأنعام : ١٢٢.


تقترن بالصبر نور ، والشعور بالألم نور لأنّه ناقوس ينبّه على وجود الخطر ، والحياة نور لأنّها طريق إلى الجنّة ومزرعة الآخرة ، والموت نور ، بل كلُّ ما خلقه الله من حيث هُوَ هُوَ فهو نور ، ما دام يوصل إلى الغاية والكمال.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

وبهذا نكون قد انتهينا بعون الله ومنّه من الجزء الأوّل من الكتاب ، ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.



الفهرس

مقدّمة التحقيق.................................................................. ٣

من آثار هذا الدعاء............................................................ ٧

عملنا في الكتاب.............................................................. ٧

شكر وتقدير :................................................................ ٨

نصّ الدعاء.................................................................... ١٣

المبحث الأوّل : في راوي الدعاء.................................................. ٢٨

المبحث الثاني : في رجحان الدعاء وآدابه.......................................... ٣١

المبحث الثالث : في الأُلُوهيّة..................................................... ٤٣

المبحث الرابع : في التأديب بالعقوبة.............................................. ٤٧

المبحث الخامس : في المكر الإلهيّ................................................. ٤٩

المبحث السادس : مبحث لغويّ.................................................. ٥٢

المبحث السابع : في الخير........................................................ ٥٤

المبحث الثامن : في النجاة....................................................... ٥٧

المبحث التاسع : في الإحسان.................................................... ٦٢


صلة الأرحام وبرّ الوالدين..................................................... ٦٨

المبحث العاشر : المعرفة والهداية والفطرة والعقل..................................... ٧٣

المبحث الحادي عشر : في تحميد الله.............................................. ٧٩

في التواضع.................................................................. ٨٠

المبحث الثاني عشر : بين أخلاق الله وأخلاق العبد................................. ٨٨

المبحث الثالث عشر : في البخل................................................. ٩١

المبحث الرابع عشر : في القرض.................................................. ٩٧

المبحث الخامس عشر : في الشفاعة............................................. ١٠١

المبحث السادس عشر : بين الخوف والرجاء...................................... ١١٤

المبحث السابع عشر : في التوكّل................................................ ١٢٠

المبحث الثامن عشر : في الحبّ الإلهيّ........................................... ١٢٦

المبحث التاسع عشر : في الغِنى................................................. ١٤٠

المبحث العشرون : في الحِلْم.................................................... ١٤٩

المبحث الحادي والعشرون : في الرحمة الإلهيّة...................................... ١٥٨

المبحث الثاني والعشرون : في القناعة............................................ ١٦٧

المبحث الثالث والعشرون : في الإيثار............................................ ١٧١

المبحث الرابع والعشرون : الآثار الوضعية للأعمال................................ ١٧٣

أ. الآثار الوضعيّة الإيجابيّة لعمل الإنسان :.................................... ١٧٨

ب. الآثار الوضعيّة السلبيّة لعمل الإنسان :................................... ١٧٩

المبحث الخامس والعشرون : في شرائط قبول الأعمال.............................. ١٨٣

والعبادة تُقسَّم ثلاثة أقسام :................................................. ١٨٩


في جواز قضاء العبادات عن الأموات......................................... ١٩٠

المبحث السادس والعشرون : التوبة والعفو والمغفرة................................. ١٩٣

كيف نحقّق التوبة.......................................................... ٢٠٣

إنَّ الذنوب قسمان :....................................................... ٢٠٤

أقسام التائبين.............................................................. ٢٠٦

المبحث السابع والعشرون : في حُسن الظنّ....................................... ٢١٢

المبحث الثامن والعشرون : في الإسلام والإيمان.................................... ٢١٨

أ) المرتبة الاُولى :........................................................... ٢١٨

٢) المرتبة الثانية :.......................................................... ٢١٩

ج) المرتبة الثالثة :.......................................................... ٢٢٠

د) المرتبة الرابعة :.......................................................... ٢٢١

المبحث التاسع والعشرون : في اليقين............................................ ٢٢٤

المبحث الثلاثون : في الرزق.................................................... ٢٣٧

المبحث الحادي والثلاثون : في التربية............................................ ٢٤٨

المبحث الثاني والثلاثون : الكرم الإلهيّ في الآخرة.................................. ٢٥٧

في مقامات المؤمن عند الموت ومنزلته عند الله................................... ٢٥٨

في حضور النبيّ والأئمّة عليهم السلام عند المحتضر.............................. ٢٥٩

من حالات الاحتضار...................................................... ٢٦١

المبحث الثالث والثلاثون : في المعرفة............................................. ٢٧٣

المبحث الرابع والثلاثون : الرغبة والرهبة.......................................... ٢٨٦

مدخل لغويّ :............................................................. ٢٨٦


في الظلم.................................................................. ٢٩٢

نذكر بعض الآراء :......................................................... ٢٩٦

في الظلم وعقاب الظالمين.................................................... ٢٩٨

عقاب معين الظلمة......................................................... ٣٠١

شدّة حساب الأمراء والسلاطين.............................................. ٣٠٣

المبحث الخامس والثلاثون : في الذكر............................................ ٣٠٩

في الذِّكر.................................................................. ٣١٠

المبحث السادس والثلاثون : في الغرور........................................... ٣١٩

المبحث السابع والثلاثون : في العُجْب........................................... ٣٢٨

المبحث الثامن والثلاثون : في الحياء.............................................. ٣٣٧

المبحث التاسع والثلاثون : في الغفلة............................................. ٣٤٣

في الغفلة.................................................................. ٣٤٤

المبحث الأربعون : في السَّتر.................................................... ٣٥٧

المبحث الحادي والأربعون : في الحياة والقيموميّة................................... ٣٧١

المبحث الثاني والأربعون : في المُلك.............................................. ٣٧٧

مدخل لغويّ :............................................................. ٣٧٧

المبحث الثالث والأربعون : في الرفق............................................. ٣٨٦

المبحث الرابع والأربعون : في العزّة............................................... ٣٩٤

المبحث الخامس والأربعون : في نفي الشريك عن الله سبحانه........................ ٣٩٧

المبحث السادس والأربعون : في البركة........................................... ٤٠٩

المبحث السابع والأربعون : في الظنّ............................................. ٤١٢


المبحث الثامن والأربعون : مشاهد القيامة وأهوالها................................. ٤١٨

المبحث التاسع والأربعون : في تجسّم الأعمال..................................... ٤٣٢

المبحث الخمسون : في النور الإلهيّ.............................................. ٤٤٨

الفهرس...................................................................... ٤٥٣

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:
الصفحات: 457