بسم الله الرّحمن
الرحيم
الفن السادس
من الطبيعيات
وهو كتاب النفس
قد استوفينا فى الفن الأول الكلام على الأمور العامة فى الطبيعيات ، ثم تلوناه بالفن
الثاني فى معرفة السماء والعالم والأجرام والصور والحركات الأولى فى عالم الطبيعة
، وحققنا أحوال الأجسام التي لا تفسد والتي تفسد ، ثم تلوناه بالكلام على الكون
والفساد وأسطقساتها ، ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات الأولى وانفعالاتها
والأمزجة المتولدة منها.
وبقى لنا أن نتكلم
على الأمور الكائنة ، فكانت الجمادات وما لا حس له ولا حركة إرادية أقدمها وأقربها
تكونا من العناصر ، فتكلمنا فيها فى الفن الخامس وبقى لنا من العلم الطبيعى النظر فى أمور النباتات والحيوانات.
ولما كانت
النباتات والحيوانات متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس ومادة هى الجسم والأعضاء ،
وكان أولى ما يكون علما بالشيء هو ما يكون من جهة صورته ، رأينا أن نتكلم أولا فى
النفس ، ولم نر أن نبتر علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية والنبات ، ثم فى
النفس الحيوانية والحيوان ، ثم فى النفس الإنسانية والإنسان. وإنما لم نفعل ذلك
لسببين : أحدهما أن هذا التبتير مما يوعر ضبط علم النفس المناسب بعضه لبعض. والثاني أن
النبات
__________________
يشارك الحيوان فى النفس التي لها فعل النمو والتغذية والتوليد. ويجب لا محالة أن
ينفصل عنه بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه. والذي يمكننا أن نتكلم عليه من
أمر نفس النبات هو ما يشارك فيه الحيوان. ولسنا نشعر كثير شعور بالفصول المنوعة
لهذا المعنى الجنسى فى النبات ؛ وإذا كان الأمر كذلك لم تكن نسبة هذا القسم من
النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام فى الحيوان ؛ إذ كانت نسبة
الحيوان إلى هذه النفس نسبة النبات إليها.
وكذلك أيضا حال
النفس الحيوانية بالقياس إلى الإنسان والحيوانات الأخر ، وإذ كنا إنما نريد أن نتكلم فى النفس النباتية والحيوانية من حيث هى مشتركة ،
وكان لا علم بالمخصص إلا بعد العلم بالمشترك ، وكنا قليلى الاشتغال بالفصول
الذاتية لنفس نفس ونبات نبات ولحيوان حيوان ، لتعذر ذلك علينا. فكان الأولى أن نتكلم
فى النفس فى كتاب واحد ، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات والحيوان كلاما مخصصا
فعلنا. وأكثر ما يمكننا من ذلك يكون متعلقا بأبدانها وبخواص من أفعالها البدنية ،
فلأن نقدم تعرف أمر النفس ونؤخر تعرف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم من أن نقدم
تعرف أمر البدن ونؤخر تعرف أمر النفس.
فإن معونة معرفة
أمر النفس فى معرفة الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة البدن فى معرفة
الأحوال النفسانية. على أن كل واحد منهما معين على الآخر ، وليس
أحد الطرفين بضرورى التقديم ، إلا أنا آثرنا أن نقدم الكلام فى النفس لما أعليناه من العذر ، فمن شاء أن يغير هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه.
فهذا هو الفن
السادس ، ثم نتلوه فى الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات ، وفى الفن الثامن
بالنظر فى أحوال الحيوان. وهناك نختم العلم الطبيعى ، ونتلوه بالعلوم الرياضية فى
فنون أربعة ، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى ، ونردفه شيئا من علم الأخلاق ، ونختم
كتابنا هذا به.
__________________
المقالة الأولى
من الفن السادس من الطبيعيات
خمسة فصول
__________________
الفصل الأول
فى إثبات النفس وتحريرها من حيث هى نفس
نقول : إن أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشىء الذي يسمى نفسا ، ثم نتكلم فيما
يتبع ذلك فنقول : إنا قد نشاهد أجساما تحس وتتحرك بالإرادة ، بل نشاهد أجساما تغتذى
وتنمو وتولد المثل وليس ذلك لها لجسميتها. فبقى أن تكون فى ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها ، والشىء الذي تصدر عنه هذه
الأفعال. وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة
للإرادة ، فإنا نسميه نفسا. وهذه اللفظة اسم لهذا الشىء ، لا من حيث جوهره ، ولكن من جهة إضافة ما له ، أى من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل ،
ونحن نطلب جوهره والمقولة التي يقع فيها من بعد.
ولكنا الآن إنما
أثبتنا وجود شىء هو مبدأ لما ذكرنا ، وأثبتنا وجود شىء من جهة ماله عرض ما ويحتاج
أن يتوصل من هذا العارض الذي له إلى أن تحقق ذاته لتعرف ماهيته ، كأنا قد عرفنا أن
لشىء يتحرك محركا ما. ولسنا نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما
هو ، فنقول : إذا كانت الأشياء ، التي نرى أن النفس موجودة لها ، أجساما ،
وإنما يتم وجودها من حيث هى نبات وحيوان بوجود هذا الشىء لهما ،
فهذا الشىء جزء من قوامها. وأجزاء القوام كما علمت فى مواضع
__________________
هى قسمان : جزء
يكون به الشىء هو ما هو بالفعل ، وجزء يكون به الشىء هو ما هو بالقوة ، إذ هو بمنزلة الموضوع. فإن كانت النفس من القسم الثاني ، ولا شك أن البدن من ذلك
القسم ، فالحيوان والنبات لا يتم حيوانا ولا نباتا بالبدن ولا بالنفس فيحتاج إلى كمال
آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا ـ فذلك هو النفس وهو الذي كلامنا فيه ، بل ينبغى أن
تكون النفس هو ما به يكون النبات والحيوان بالفعل نباتا وحيوانا. فإن كان جسما
أيضا ، فالجسم صورته ما قلنا ؛ وإن كان جسما بصورة ما ، فلا يكون هو من حيث هو جسم
ذلك المبدأ ، بل يكون كونه مبدأ من جهة تلك الصورة ، ويكون صدور تلك الأحوال عن
تلك الصورة بذاتها. وإن كان بتوسط هذا الجسم ، فيكون المبدأ الأول تلك الصورة ،
ويكون أول فعله بوساطة هذا الجسم ، ويكون هذا الجسم جزأ من جسم الحيوان ، لكنه أول
جزء يتعلق به المبدأ ، وليس هو بما هو جسم إلا من جملة الموضوع.
فبين أن ذات النفس ليس بجسم ، بل هى جزء للحيوان
والنبات ، وهى صورة أو كالصورة أو كالكمال.
فنقول الآن : إن
النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة ، وكذلك يجوز أن
يقال لها بالقياس إلى ما تقبله من الصور المحسوسة والمعقولة على معنى آخر قوة. ويصح أن
يقال أيضا لها بالقياس إلى المادة التي تحلها فيجتمع منهما جوهر نباتى أو حيوانى صورة ، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها
نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة كمال ، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير
محدودة ما لم تحصلها طبيعة الفصل البسيط أو غير البسيط منضافا إليها ؛ فإذا انضاف كمل النوع. فالفصل كمال النوع بما هو نوع وليس لكل نوع فصل بسيط ، قد علمت هذا ،
بل إنما هو للأنواع
__________________
المركبة الذوات من
مادة وصورة ، والصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله ، ثم كل صورة كمال ، وليس
كل كمال صورة ، فإن الملك كمال المدينة ، والربان كمال السفينة ، وليسا بصورتين
للمدينة والسفينة ، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة
وفى المادة. فإن الصورة التي هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها القائمة بها ،
اللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صورة النوع. وبالحقيقة فإنه قد استقر
الاصطلاح على أن يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة ، وبالقياس إلى الجملة غاية
وكمالا ، وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة. وإذا كان الأمر كذلك
فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها ، وإلى شىء يكون به الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة ، وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه ، وذلك
الشىء هو المادة لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة. والكمال يقتضى نسبة إلى الشىء
التام الذي تصدر عنه الأفاعيل لأنه كمال بحسب
اعتباره للنوع. فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال
كان أدل على معناها ، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ، ولا تشذ
النفس المفارقة للمادة عنه. وأيضا إذا قلن : إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول : قوة
، وذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها ما هى من باب الحركة ومنها ما هى من باب
الإحساس والإدراك ، والإدراك بالحرى أن يكون لها لا
بما لها قوة هى مبدأ فعل ، بل مبدأ قبول. والتحريك بالحرى أن يكون لها لا بما لها
قوة هى مبدأ قبول ، بل مبدأ فعل ، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة
عليه أولى من الآخر. فإن قيل لها : قوة ، وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك
الاسم. وإن قيل : قوة ، واقتصر على أحد الوجهين ، عرض من ذلك ما قلنا.
وشىء آخر وهو أنه لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطلقا ، بل من جهة دون جهة.
وقد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غير
__________________
جيد ولا صواب. ثم
إذا قلنا : كمال ، اشتمل على المعنيين. فإن النفس من جهة القوة التي يستكمل بها
إدراك الحيوان كمال ، ومن جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال ،
ومن جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال ، والنفس المفارقة كمال ، والنفس التي لا تفارق كمال. لكنا إذا قلنا : كمال ، لم يعلم من ذلك بعد أنها
جوهر ، أو ليست بجوهر ، فإن معنى الكمال هو
الشىء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا ، وهذا لا
يفهم عنه بعد أنه جوهر أو ليس بجوهر. ولكنا نقول : إنه لا شك لنا فى أن هذا الشىء ليس جوهرا بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا ، ولا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركب
جوهرا. فأما جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه. فإن قال قائل : إنى أقول للنفس جوهرا
وأعنى به الصورة ، ولست أعنى به معنى أعم من الصورة ، بل معنى أنه جوهر معنى أنه صورة ، وهذا مما قاله خلق منهم ، فلا يكون معه موضوع بحث
واختلاف البتة. فيكون معنى قوله : إن النفس جوهر ، أنها صورة ؛ بل يكون قوله :
الصورة جوهر ، كقوله الصورة صورة أو هيئة والإنسان إنسان أو بشر ، ويكون هذيانا من الكلام. فإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع
البتة ، أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذي سميناه لك موضوعا البتة ،
فلا يكون كل كمال جوهرا. فإن كثيرا من الكمالات هى فى موضوع لا محالة ، وإن كان ذلك
الكثير بالقياس إلى المركب ، ومن حيث كونه فيه ليس فى موضوع ، فإن كونه جزأ منه لا
يمنعه أن يكون فى موضوع ، وكونه فيه لا كالشىء فى الموضوع لا يجعله جوهرا ، كما ظن
بعضهم. لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء
من جهة ما ليس فى هذا الشىء على أنه فى موضوع جوهرا ، بل إنما يكون جوهرا إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى موضوع. وهذا
المعنى لا يدفع كونه فى شىء ما موجودا لا فى موضوع ، فإن
ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء ، حتى
__________________
إذا قيس إلى شىء
يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا ؛ وإن كان بالقياس إلى شىء آخر
بحيث يكون عرضا ، بل هو اعتبار له فى ذاته. فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت إليها
فلم يوجد لها موضوع البتة كانت فى نفسها جوهرا ، وإن وجدت فى ألف شىء لا فى موضوع
بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى الموضوع فهى فى نفسها عرض. وليس إذا لم تكن عرضا فى شىء فهى جوهر فيه ، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء ولا جوهرا فى الشىء ، كما
أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا فى شىء ولا كثيرا ، لكنه فى نفسه واحد أو كثير.
وليس الجوهرى والجوهر واحدا ، ولا العرض بمعنى العرضى الذي فى إيساغوجى هو العرض
الذي فى قاطيغورياس. وقد بينا هذه الأشياء لك فى صناعة المنطق.
فبين أن النفس لا
يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء ، بل يجب أن تكون فى نفسها لا فى موضوع البتة ،
وقد علمت ما الموضوع.
فإن كان كل نفس
موجودة لا فى موضوع ، فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها والبواقى كل واحد
منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس ما قائمة فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض ، وجميع هذا كمال. فلم يتبين لنا
بعد أن النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال. وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن
يجعلها جوهرا كالصورة.
فنقول : إنا إذا
عرفنا أن النفس كمال بأي بيان وتفصيل فصلنا الكمال ، لم يكن بعد عرفنا النفس
وماهيتها ، بل عرفناها من حيث هى نفس ؛ واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها ،
بل من حيث هى مدبرة للأبدان ومقيسة إليها. فلذلك يؤخذ البدن فى حدها ، كما يؤخذ
مثلا البناء فى حد البانى ، وإن كان لا يؤخذ فى حده من حيث هو
إنسان. ولذلك صار النظر فى النفس من العلم الطبيعى ، لأن النظر فى النفس من حيث هى
نفس نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة والحركة ، بل يجب أن
__________________
نفرد لتعرفنا ذات
النفس بحثا آخر. ولو كنا عرفنا بهذا ذات النفس ، لما أشكل علينا وقوعها فى أى مقولة تقع فيها. فإن من عرف وفهم ذات الشىء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له
لم يشكل عليه وجوده له ، كما أوضحناه فى المنطق. لكن الكمال على وجهين : كمال أول
، وكمال ثان . فالكمال الأول هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل كالشكل
للسيف. والكمال الثاني هو أمر من الأمور التي تتبع نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته
، كالقطع للسيف ، وكالتمييز والروية والإحساس والحركة للإنسان. فإن هذه كمالات لا
محالة للنوع ، لكن ليست أولى ، فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول
هذه الأشياء له بالفعل ، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صار له هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن
يحصل قبلها شىء حتى يصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس
كمال أول ، ولأن الكمال كمال للشىء ، فالنفس كمال
الشىء ، وهذا الشىء هو الجسم ، ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسى لا بالمعنى المادى ، كما علمت فى صناعة البرهان. وليس هذا الجسم الذي النفس كماله كل جسم ، فإنها ليست
كمال الجسم الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما ، بل كمال الجسم الطبيعى. ولا كل جسم
طبيعى ، فليست النفس كمال نار ولا أرض ولا هواء ، بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها
فى أفعال الحياة التي أولها التغذى والنمو. فالنفس التي نحدها هى كمال أول لجسم طبيعى
آلى له أن يفعل أفعال الحياة.
لكنه قد يتشكك فى
هذا الموضوع بأشياء ، من ذلك أن لقائل أن يقول : إن هذا الحد لا يتناول
النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات. وإن تركتم
__________________
ذكر الآلات
واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا ، فإن الحياة التي لها ليس هو التغذى
والنمو ، ولا أيضا الحس. وأنتم تعنون بالحياة التي فى الحد هذا ، وإن عنيتم
بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصور العقلى أو التحريك لغاية إرادية ، أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس. وأيضا إن كان التغذى
حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا.
وأيضا لقائل أن
يقول : ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ، ولم لم يكفكم أن تقولوا : إن الحياة نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى
الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس.
فلنشرع فى جواب
واحد واحد من ذلك وحله ، فنقول : أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين : مذهب من يرى أن كل كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات قد دبرت بحركته جملة جسم لحيوان واحد ، فيكون
حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها بعدة أجزاء ذوات
حركة ، فتكون هى كالآلات. وهذا القول لا يستمر فى كل الكرات. ومذهب من يرى أن كل
كرة فلها فى نفسها حياة مفردة ، وخصوصا ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد بالفعل
لا كثرة فيه. فهؤلاء يجب أن يروا أن اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية وعلى
النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك ، وأن هذا الحد إنما هو
للنفس الموجودة للمركبات ، وإنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات والفلك فى معنى اسم
النفس ، خرج معنى النبات من تلك الجملة. على أن هذه الحيلة صعبة ، وذلك لأن
الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى اسم الحياة ولا فى معنى اسم النطق أيضا لأن
النطق الذي هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيان ، وليس هذا مما يصح
هناك على ما يرى. فإن العقل هناك عقل بالفعل ، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس
الكائنة جزء حد للناطق. وكذلك الحس هاهنا يقع على القوة التي تدرك
بها
__________________
المحسوسات على
سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها ، وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما يرى. ثم إن
اجتهد فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكية ، خرج النبات من تلك
الجملة. وهذا هو القول المحصل. وأما أمر الحياة والنفس فحل الشك فى ذلك على ما نقول : إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ
للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل. فإن سمى مسم هذا المبدأ حياة لم تكن
معه مناقشة ، وأما المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران
: أحدهما كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه ، أو كون الجسم بحيث يصح
صدور تلك الأفعال عنه. فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه. وأما
الثاني فيدل على معنى أيضا غير معنى النفس. وذلك لأن كون الشىء بحيث يصح أن يصدر
عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين : أحدهما أن يكون الوجود شيئا غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة ، بحيث تصدر عنه المنافع السفينية. وذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا
الكون ، والربان وهذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع. والثاني أن لا يكون شىء غير هذا
الكون فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون
الحرارة ، حتى يكون وجود الحرارة فى الجسم هو وجود هذا الكون ، وكذلك وجود النفس
وجود هذا الكون على ظاهر الأمر.
إلا أن ذلك فى
النفس لا يستقيم ، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا ، وكيف لا يكون
كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ ، ثم للجسم
هذا الكون. والمفهوم من الكمال الأول الذي رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ، لأن الكمال الأول ليس له مبدأ وكمال
__________________
أول فليس إذن
المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذا عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس فى الدلالة على الكمال
الأول لم نناقش ، وتكون الحياة اسما لما كنا وراء إثباته من هذا الكمال الأول.
فقد عرفنا الآن
معنى الاسم الذي يقع على الشىء الذي سمى نفسا بإضافة له. فبالحرى أن نشتغل بإدراك
ماهية هذا الشىء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا. ويجب أن نشير فى هذا الموضع إلى
إثبات وجود النفس التي لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير إشارة شديدة الموقع
عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وقرع عصاه وصرفه عن
المغلطات.
فنقول : يجب أن
يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا ، لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات ،
وخلق يهوى فى هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس ، وفرّق بين أعضائه فلم
تتلاق ولم تتماس ، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ولا يشك فى إثباته لذاته موجودا ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه
ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج ، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها
طولا ولا عرضا ولا عمقا ، ولو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر
لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته ، وأنت تعلم أن
المثبت غير الذي لم يثبت والمقرّ به غير الذي لم
يقرّبه ، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم
تثبت ، فإذن المثبت له سبيل إلى أن يتنبه على وجود النفس شيئا غير الجسم بل غير جسم ، وأنه عارف به مستشعر له ، وإن كان ذاهلا عنه
يحتاج إلى أن يقرع عصاه.
__________________
الفصل الثاني
فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها ونقضه
فنقول : قد اختلف
الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسالك إليه ، فمنهم من
سلك إلى علم النفس من جهة الحركة ، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك ، ومنهم من
جمع بين المسلكين ، ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة.
فمن سلك منهم جهة
الحركة ، فقد كان تخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلا عن متحرك ، وأن المحرك الأول
يكون لا محالة متحركا بذاته ، وكانت النفس محركة أولية ، إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب ، فجعل النفس متحركة لذاتها ، وجعلها لذلك جوهرا غير مائت ، معتقدا
أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت. قال : ولذلك ما كانت الأجسام السماوية ليست
تفسد والسبب فيه دوام حركتها.
فمنهم من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته. ومنهم من
جعلها جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته ، فمنهم من جعلها ما كان من
الأجرام التي لا تتجزأ كريا ليسهل دوام حركته ، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك
بالتنفس ، وأن التنفس غذاء للنفس ، وأن
النفس تستبقى النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء
التي هى الأجرام التي لا تتجزأ التي هى المبادي
__________________
وأنها متحركة
بذاتها ، كما يرى من حركة الهباء دائما فى الجو ، فلذلك صلحت لأن تحرك غيرها. ومنهم من قال : إنها ليست هى النفس ، بل إن محركها هو النفس وهى فيها ، وتدخل البدن بدخولها. ومنهم من جعل النفس نارا
ورأى أن النار دائمة الحركة.
وأما من سلك طريق
الإدراك ، فمنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له ،
فوجب أن تكون النفس مبدأ ، فجعلها من الجنس الذي كان يراه المبدأ : إما نارا ، أو
هواء ، أو أرضا ، أو ماء. ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التي هى
مبدأ التكون ؛ وبعضهم جعلها جسما بخاريا ، إذ كان يرى أن البخار مبدأ الأشياء على حسب المذاهب التي عرفتها ، وكل هؤلاء كان يقول : إن
النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها. وكذلك من رأى أن
المبادي هى الأعداد ، فإنه جعل النفس عددا ، ومنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما
هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبا من الأشياء التي
يراها عناصر ، وهذا هو انبادقليس ، فإنه قد جعل النفس مركبة
من العناصر الأربعة ومن الغلبة والمحبة ، وقال : إنما تدرك النفس كل شىء بشبيهه فيها. وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا : إن النفس عدد محرك لذاته ،
فهى عدد لأنها مدركة وهى محركة لذاتها ، لأنها محركة أولية. وأما الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخص ، فمنهم من قال : إن النفس حرارة
غريزية لأن الحياة بها ، ومنهم من قال بل برودة وأن النّفس مشتق من النّفس والنّفس
هو الشىء المبرد.
ولهذا ما يتبرد
بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس ، ومنهم من قال بل النفس هو الدم ؛ لأنه إذا سفح الدم
بطلت الحياة ، ومنهم من قال بل النفس تأليف مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم تتغير
صحة الحياة ، ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر
وذلك لأنا نعلم أن تأليفا ما يحتاج إليه حتى يكون من العناصر حيوان ، ولأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم والأرائح والطعوم وتلتذ
__________________
بها. ومن الناس من
ظن أن النفس هو الإله ـ تعالى عما يقوله الملحدون ـ وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون فى شىء طبعا وفى شىء نفسا وفى شىء عقلا سبحانه وتعالى عما يشركون.
فهذه هى المذاهب
المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس ، وكلها باطل. فأما الذين تعلقوا
بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا السكون ، فإن كانت النفس تحرك بأن
تتحرك وكان لا محالة تحركها علة للتحريك ، فلم يخل تسكينها إما أن
يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين والتحريك
واحدة. فلم يمكن أن يقال : إنها تحرك بأن تتحرك ، وقد فرضوا ذلك ، أو يصدر عنها
وقد سكنت ، فلا تكون متحركة بذاتها. وأيضا فقد عرفت مما سلف
أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته فلا تكون النفس شيئا متحركا
من ذاته ، وأيضا فإن هذه الحركة لا يخلو إما أن تكون مكانية أو كمية
أو كيفية أو غير ذلك. فإن كانت مكانية فلا يخلو إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو
نفسانية ، فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة واحدة لا محالة ، فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط. وإن كانت قسرية فلا تكون
متحركة بذاتها ، ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها ، بل الأولى أن يكون القاسر هو
المبدأ الأول وأن يكون هو النفس. وإن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما واحدة لا تختلف ، فيكون تحريكها على
تلك الجهة الواحدة ، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة ، فلا تكون
متحركة لذاتها. وأما الحركة من جهة الكم فأبعد شيء من النفس ، ثم لا يكون شيء
متحركا من جهة الكم بذاته ، بل لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته. وأما الحركة
على سبيل الاستجالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا فتكون النفس إذا حركت لا تكون
نفسا ، وإما حركة فى عرض من الأعراض لا فى كونها نفسا. فأول حين ، ذلك أن لا يكون تحركها ، من نحو تحريكها بل تكون ساكنة فى
المكان حين تحرك فى المكان.
والثاني أن
الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض ، وإذا حصل فقد
__________________
وقفت الاستحالة.
وأيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما والمحرك الذي يحرك فى المكان
بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة فلو كان للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه. وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل الزئبق يجعل فى بعض الأجسام ، فإذا
ترجرج تحرك ذلك الجسم ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيارية.
وأيضا فقد علمت أن
القول بالهباء هذر باطل ، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى
جزاف ، ثم من الملح ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ما وراءه.
فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادىء لها. وأما إثبات ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات ، فهو أنا نعلم
أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها ، ولا هى مبدأ للأسطقسات وهو أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود وإما أن لا يكون ، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية. فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال : إن
النار والماء وغير ذلك مبادئ لها فنعلمها بها ، ولا بالعكس.
وأيضا إما أن تكون
معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عن ذلك المبدأ ، أو
تتناول الأشياء التي تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ ، أو تكون
بكليهما. فإن كانت إنما تتناول المبدأ أو تتناول كليهما ، وكان العالم بالشيء يجب
أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدإ ومبدأ لذاتها ، لأنها تعلم ذاتها ، وإن كانت ليس تعلم المبدأ ، ولكن تعلم الأحوال والتغيرات التي تلحقه. فمن الذي يحكم
بأن الماء والنار أو أحد هذه مبدأ. وأما الذين
جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن
__________________
المبدأ لكل شىء عدد ، بل قالوا ماهية كل شىء عدد ، وحدّه عدد ،
وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان آرائهم فى المبدأ فى
مواضع أخر ، وسندل فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة رأيهم هذا
وما أشبهه ، فإن مذاهبهم هاهنا قد تفسد من حيث النظر الخاص بالنفس ، وذلك بأن ننظر
ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة ، أو بأنها مثلا
زوج أو فرد أو شىء أعم من عدد معين ، فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين
، فما يقولون فى الحيوان المحزز الذي إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحس ، وإذا أحس فلا محالة
هناك تخيل ما ، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة من تخيل ما لا محالة. ومعلوم أن الجزءين يتحركان عن قوتين فيهما ، وأن كل واحد
منهما أقل من العدد الذي كان فى الجملة ، وإنما كان النفس عندهم العدد الذي فى
الجملة لا غير ، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس وهذا محال ، بل فى كل واحد
منهما نفس من نوع نفس الآخر ، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل ، متكثرة بالقوة
تكثرا إلى النفوس وإنما تفسد فى الحيوان المحزز نفساه ولا تفسد فى النبات ، لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء
فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المحزز ، بل بعض بدن
الحيوان المحزز لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس ، وفى بعضه
الآخر ذلك المبدأ ، ولكنه يحتاج فى استبقائه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر ، فيكون
بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج فإن لم تكن النفس عددا بعينه ، بل كانت عددا له كيفية ما
وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس كثيرة. فإنك تعلم
أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا ، وفى كثير من المربعات
مربعات ، وكذلك سائر الاعتبارات.
__________________
وأيضا فإن الوحدات
المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع ، أولا يكون لها ، فإن كان لها وضع فهى نقط ، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو
لا تكون كذلك ، بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك. لكنهم جعلوا الطبيعة
النفسية مجرد عددية ، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس ، فيكون كل جسم إذا
فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس ، وكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت ، فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس بفرض النقط فيه ، وإن كانت عددا لا وضع له ، وإنما هى آحاد متفرقة ، فبما ذا تفرقت وليس
لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات وفصول أخرى وإنما
تتكثر الأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة. فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات
وضع ولها أبدان شتى ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا ،
لأنه إن كان ارتباطها بعضها ببعض والتئامها للطبيعة الواحدية والنقطية
، فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت ، وإن كان
لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الأخرى وضام ضم بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة ، فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا.
وأما الذين قالوا
إن النفس مركبة من المبادي حتى يصح أن تعرف المبادي وغير المبادي بما فيها منها ،
وأنه إنما يعرف كل شىء بشبهه فيه ، فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التي تحدث عن المبادي مخالفة
لطبيعتها. فإن الاجتماع قد يحدث هيئات فى المبادئ وصورا لا توجد فيها مثل العظيمة
واللحمية والإنسانية والفرسية وغير ذلك ، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس ،
إذ ليس فيها هذه الأشياء ، بل إنما فيها أجزاء المبادي فقط ، فإن
جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا ، كما فيه نار وأرض وغلبة ومحبة ، وإن قال
إن فيها هذه الأشياء ،
__________________
فقد ارتكب العظيم.
ثم إن كان فى النفس إنسان ، ففى النفس نفس ، ففيه مرة أخرى إنسان وفيل ، ويذهب ذلك إلى غير النهاية. وقد يشنع
عليه من جهة أخرى هى أنه يجب على هذا الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء ، وكلاهما كفر ، ومع ذلك يجب أن يكون غير عالم بالغلبة ، لأنه لا غلبة فيه. فإن الغلبة
توجب التفريق والفساد فيما تكون فيه ، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادئ ،
وهذا شنيع وكفر.
ثم يلزم من هذا أن
تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض ؛ والماء بالماء ، وأن تكون الأرض لا تعلم الماء ،
والماء لا يعلم الأرض ، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد ، ويجب أن تكون الأعضاء التي فيها أرضية كثيرة شديدة
الإحساس بالأرض وليست هى كذلك ، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها ، وذلك
كالظفر والعظم. ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده ، أولى من أن يتأثر عن شكله. وأنت
تعلم أن الإحساس تأثر ما وانفعال ما ويجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد فيكون السواد والبياض ليس يدركان بحاسة واحدة ،
بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض ، والسواد بجزء منه هو أسود ، ولأن الألوان
لها تركيبات بلا نهاية ، فيجب أن يكون قد أعد للبصر أجزاء بلا نهاية مختلفة الألوان. وإن كان لا حقيقة للوسائط ، وما هو إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر ، فيجب أن يكون مدرك البياض
يدرك البياض صرفا ، ومدرك السواد يدرك السواد صرفا ، إذ لا يمكن أن يدرك غيره ،
فيجب أن لا تشكل علينا بسائط الممتزج ولا تتخيل إلينا الوسائط التي لا يظهر فيها
بياض وسواد بالفعل. وكذلك يجب أن يدرك المثلث بالمثلث ، والمربع بالمربع ، والمدور بالمدور ، والأشكال
__________________
الأخرى التي لا
نهاية لها ، والأعداد أيضا بأمثالها ، فتكون فى الحاسة أشكال بلا نهاية ، وهذا كله محال. وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا
للأضداد تعرف به ، كالمسطرة المستقيمة بعرف بها المستقيم والمنحنى جميعا ، وأنه لا
يجب أن يعلم كل شىء بشيء خاص.
وأما الذين جعلوا
النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التي
يتحركها على الأشياء لتدرك بها الأشياء ، فسنوضح بعد فساد قولهم حين نتبين أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم. وأما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا
القول وعلى أنه ليس كل ما يفسد بفساده الحياة يكون نفسا ، فإن كثيرا من الأشياء
والأعضاء والأخلاط وغير ذلك بهذه الصفة. وليس بمنكر أن يكون شىء لا بد منه حتى تكون للنفس علاقة بالبدن ، ولا يوجب ذلك أن يكون ذلك الشىء
نفسا. وبهذا يعلم خطأ من ظن أن النفس دم ، فكيف يكون الدم محركا وحساسا. والذي قال : إن النفس تأليف فقد جعل النفس نسبة
معقولة بين الأشياء ، وكيف تكون النسبة بين الأضداد محركا ومدركا والتأليف يحتاج
إلى مؤلف لا محالة ، فكذلك المؤلف أولى أن يكون هو النفس. وهو الذي إذا فارق وجب انتقاض التأليف. ثم سيتضح فى خلال
ما نعرفه من أمر النفس بطلان جميع هذه الأقاويل بوجوه أخرى. فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب طبيعة النفس ، وقد قيل فى مناقضة هذه الآراء
أقاويل ليست بالواجبة ولا اللازمة وإنما تركناها لذلك.
__________________
الفصل الثالث
فى أن النفس داخلة فى مقولة الجوهر
فنقول نحن إنك
تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم ، فإن ثبت لك أن نفسا ما يصح لها الانفراد
بقوام ذاتها ، لم يقع لك شك فى أنها جوهرة وهذا إنما يثبت لك فى بعض ما يقال له
نفس. وأما غيره مثل النفس النباتية والنفس الحيوانية ، فإن ذلك لا يثبت لك فيه.
لكن المادة القريبة لوجود هذه الأنفس فيها إنما هى ما هى بمزاج خاص وهيئة خاصة ، وإنما تبقى بذلك المزاج الخاص بالفعل موجودا ما دام
فيها النفس. والنفس هى التي تجعلها بذلك المزاج ، فإن النفس هى لا محالة علة لتكون
النبات والحيوان على المزاج الذي له إذ كانت النفس هى مبدأ التوليد والتربية كما قلنا ؛ فيكون الموضوع القريب للنفس
مستحيلا أن يكون هو ما هو بالفعل إلا بالنفس ، وتكون النفس علة لكونه كذلك ، ولا
يجوز أن يقال : إن الموضوع القريب حصل موجودا على طباعه بسبب غير النفس ، ثم لحقته النفس لحوقا ما لا قسط له بعد ذلك فى حفظه وتقويمه وتربيته ، كالحال فى أعراض يتبع وجودها
وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا ، ولا تكون مقومة لموضوعها بالفعل. وأما النفس
فإنها مقومة لموضوعها القريب موجودة إياه بالفعل ، كما تعلم الحال فى هذا إذا
تكلمنا فى الحيوان. وأما الموضوع البعيد فبينه وبين النفس صور
أخرى تقومه . وإذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب
__________________
صير الموضوع لحالة
أخرى ، وأحدث فيها صورة جمادية ،
كالمقابلة للصورة المزاجية الموافقة للنفس ولتلك الصورة. فالمادة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتة ، بل إما أن يبطل
نوعها وجوهرها الذي به كان موضوعا للنفس ، أو تخلف النفس فيها صورة تستبقى المادة
بالفعل على طبيعتها ، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان ، بل تكون له صورة وأعراض أخرى. ويكون أيضا قد تبدل بعض أجزائها وفارق مع تغير الكل فى الجوهر ، فلا
تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هى كانت موضوعة للنفس ، والآن هى
موضوعة لغيرها. فإذن ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع.
فالنفس إذن جوهر لأنها صورة لا فى موضوع.
لكن لقائل أن يقول
: لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها ، فإنها علة لقوام مادتها القريبة ؛ وأما
النفس الحيوانية فيشبه أن تكون النباتية تقوم مادتها ثم
يلزمها اتباع هذه النفس الحيوانية إياها ، فتكون الحيوانية متحصلة
فى مادة تقومت بذاتها ، وهى علة لقوام هذه التي حلتها أعنى الحيوانية ، فلا تكون الحيوانية إلا قائمة فى موضوع. فنقول فى جواب ذلك
: إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب عنها إلا جسم متغذ مطلقا ، ولا
النفس النباتية مطلقة لها وجود إلا وجود معنى جنسى ، وذلك فى
الوهم فقط ؛ وأما الموجود فى الأعيان فهو أنواعها. والذي يجب أن يقال : إن النفس
النباتية سبب له شىء أيضا عام كلى غير محصل ، وهو الجسم المتغذى النامى
المطلق الجنسى غير المنوع. وأما الجسم
__________________
ذو آلات الحس
والتمييز والحركة الإرادية ، فليس مصدره عن النفس النباتية بما هى نفس نباتية ، بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به
طبيعة أخرى ، ولا يكون ذلك إلا أن تصير نفسا حيوانية ، بل يجب أن نبتدئ فنزيد هذا شرحا.
فنقول : إن النفس
النباتية إما أن يعنى بها النفس النوعية التي تخص النبات دون الحيوان ، أو يعنى
بها المعنى العام الذي يعم النفس النباتية والحيوانية من جهة ما تغذى وتولد وتنمى ، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية ، وهذا مجاز من القول ، فإن
النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات ، ولكن المعنى الذي يعم نفس النبات والحيوان
يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات ووجوده ، كما يوجد المعنى العام فى الأشياء.
وإما أن يعنى بها القوة من قوى النفس الحيوانية التي تصدر عنها أفعال التغذية
والتربية والتوليد ، فإن عنى بها النفس النباتية التي هى بالقياس إلى النفس
الفاعلة للغذاء نوعية ، فذلك يكون فى النبات لا غير ، ليس فى الحيوان. وإن عنى بها
المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص ، فإن الصانع العام هو الذي ينسب إليه المصنوع العام ، والصانع
النوعى كالنجار هو الذي ينسب إليه المصنوع النوعى ، والصانع المعين هو الذي
ينسب إليه المصنوع المعين.
وهذا شىء قد مر لك
تحقيقه. فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام ، وأما أنه نام بحيث أنه يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى
النفس النباتية من حيث هى عامة ، ولا هذا المعنى يتبعه. وأما القسم الثالث فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية تأتى
وحدها فتفعل بدنا حيوانيا ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمم جسما
نباتيا ، وليس كذلك ، بل إنما تتم جسما حيوانيا
بآلات الحس والحركة ، فتكون هى قوة لنفس لتلك النفس قوة أخرى . وهذه القوة من
__________________
قواها تتصرف على
المثال الذي يؤدى إلى استعداد الآلة للكمالات الثانية التي لتلك النفس التي هذه
قوتها وتلك النفس هى الحيوانية.
ويتضح من بعد أن
النفس واحدة ، وأن هذه قوى تنبعث عنها فى الأعضاء.
ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب استعداد الآلة. فالنفس التي لكل حيوان هى جامعة
أسطقسات بدنه ، ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه
أن يكون بدنا لها ، وهى حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغى ، فلا تستولى عليه
المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه ولو لا ذلك لما بقيت على صحتها ، ولاستيلاء النفس عليه ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو
تحبها كراهة ومحبة ليست ببدنية البتة ، وذلك عند
ما يكون الوارد على النفس تصديقا ما ، وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد ،
بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم ، وذلك أيضا من المدركات النفسانية ،
وليس مما يعرض للبدن بما هو بدن فيؤثر ذلك فى القوة النامية الغاذية
حتى يحدث فيها من العارض الذي يعرض للنفس أولا ـ وليكن الفرح النطقى ـ شدة ونفاذ فى فعلها ، ومن العارض المضاد لذلك ـ وليكن الغم النطقى الذي لا ألم بدنى فيه ضعف وعجز حتى يفسد فعلها ، وربما انتقض المزاج به انتقاضا.
وكل ذلك مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوتى الإدراك واستعمال
الغذاء. وهى واحدة لهما ، ليست هذه منفردة عن تلك. فبين أن النفس
__________________
هى مكملة البدن
الذي هى فيه ، وحافظة على نظامه الذي الأولى به
أن يتميز ويتفرق ، إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر ويستوجب مفارقة
لقرينه ، وإنما يحفظه على ما هو عليه شىء خارج عن طبيعته ، وذلك الشىء هو النفس فى
الحيوان. فالنفس إذن كمال لموضوع ، ذلك الموضوع متقوم به ، وهو أيضا مكمل النوع وصانعه ، فإن الأشياء المختلفة
الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع ، ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص. فالنفس إذن
ليست من الأعراض التي لا تختلف بها الأنواع ، ولا يكون لها مدخل فى تقويم الموضوع.
فالنفس إذن كمال كالجوهر لا كالعرض ، وليس يلزم هذا أن
يكون مفارقا أو غير مفارق. فإنه ليس كل جوهر بمفارق ، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة ، وقد علمت أنت أن الأمر كذلك ، فلندل الآن
دلالة ما مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم نتبعها بالاستقصاء.
__________________
الفصل الرابع
فى تبيين أن اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها
نقول : إن للنفس
أفعالا تختلف على وجوه ، فيختلف بعضها بالشدة والضعف ، وبعضها بالسرعة والبطء. فإن
الظن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكيد والشدة ، والحدس يخالف اليقين بسرعة الفهم. وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة ، مثل أن الشك يخالف الرأى ، فإن
الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض ، والرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض ؛ ومثل التحريك
والتسكين. وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس
بالأسود وإدراك الحلو وإدراك المر. وقد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون وإدراك الطعم
، بل مثل الإدراك والتحريك. وغرضنا الآن أن نعرف القوى التي تصدر عنها هذه
الأفاعيل ، وأنه هل يجب أن يكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أو لا يجب ذلك.
فنقول : أما
الأفعال المختلفة بالشدة والضعف فإن مبدأها قوة واحدة ، لكنها تارة تكون أتم فعلا
، وتارة تكون أنقص فعلا. ولو كان النقصان يقتضى أن يكون هناك للأنقص قوة غير القوة التي للأتم ، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان
والزيادة التي لا تكاد تتناهى ، بل القوة الواحدة يعرض لها تارة أن تفعل الفعل
أشد وأضعف بحسب الاختيار ، وتارة بحسب مؤاتاة الآلة ، وتارة بحسب عوائق من خارج أن تكون أو لا تكون وأن تقل أو تكثر. وأما الفعل وعدمه فقد سلف لك فى
__________________
الأقاويل الكلية
أن مبدأ ذلك قوة واحدة. وأما اختلاف أفعالها التي من باب الملكة بالجنس كالإدراك
والتحريك أو كإدراك وإدراك ، فذلك مما بالحرى أن يفحص عنه فاحص ، فينظر مثلا
هل القوى المدركة كلها قوة واحدة ، إلا أن لها إدراكات ما بذاتها هى العقليات وإدراكات ما بآلات مختلفة بسبب اختلاف الآلات. فإن كانت
العقليات والحسيات مثلا لقوتين ، فهل الحسيات كلها التي تتخيل من باطن والتي تدرك
فى الظاهر بقوة واحدة ، وإن كانت التي فى
الباطن لقوة أو لقوى ، فهل التي فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات مختلفة أفعالا
مختلفة. فإنه ليس بممتنع أن تكون قوة واحدة تدرك أشياء مختلفة الأجناس والأنواع ،
كما هو مشهور من حال العقل عند العلماء ومشهور من حال الخيال عندهم ، بل كما أن المحسوسات المشتركة التي زعموا أنها العظم
والعدد والحركة والسكون والشكل قد تحس بكل واحدة من الحواس أو بعدة منها وإن كانت بوساطة محسوس آخر. ثم هل
قوة التحريك هى قوة الإدراك ، ولم لا يمكن ذلك. وهل قوة الشهوة بعينها هى قوة
الغضب ، فإذا صادفت اللذة انفعلت على نحو ، وإن صادفت الأذى انفعلت على نحو آخر ،
بل هل الغاذية والنامية والمولدة شىء من هذه القوى ،
فإن لم تكن فهل هى قوة واحدة ، حتى إذا كان الشىء لم يتم تصوره حركت الغذاء إلى أقطاره على هيئة وشكل ، فإذا استكمل حركت ذلك التحريك بعينه. إلا أن الشكل قد تم ولا يحدث شكل آخر ، والعظم قد بلغ مبلغا لا تفى القوة بأن تورد من الغذاء فيه أكثر مما
يتحلل منه فيقف. وهناك يفضل من الغذاء فضل يصلح للتوليد فتنفذه إلى أعضاء التوليد ، كما تنفذ الغذاء إليها لتغذوها به ،
لكنه
__________________
يفضل عما تحتاج
إليه أعضاء التوليد من الغذاء فضل يصلح لباب آخر ، فتصرفه تلك القوة بعينها إليه ،
كما تفعل بفضول كثير من الأعضاء ، ثم تعجز هذه القوة فى آخر الحياة عن إيراد
بدل ما يتحلل مساويا لما يتحلل ، فيكون ذبول. فلم تفرض قوة نامية ولا تفرض قوة مذبلة ، واختلاف الأفعال ليس يدل على اختلاف القوى.
فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد ، بل القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة
حركات مختلفة ، بل القوة الواحدة قد تفعل فى مواد مختلفة أفاعيل مختلفة.
فهذه شكوك يجب أن
يكون حلها مهيئا عندنا ، حتى يمكننا أن ننتقل ونثبت قوى النفس ؛ وأن نثبت أن عددها
كذا ، وأن بعضها مخالف للبعض ، فإن الحق عندنا هذا.
فنقول : أما أولا
، فإن القوة من حيث هى قوة بالذات وأولا ، هى قوة على أمر ما ويستحيل أن تكون مبدأ
لشىء آخر غيره ، فإنها من حيث هى قوة عليه مبدأ له ، فإن كانت مبدأ لشىء آخر
فليست هى من حيث هى مبدأ فى ذاتها لذلك الأول. فالقوى من حيث هى
قوى إنما تكون مبادئ لأفعال معينة بالقصد الأول. لكنه قد يجوز أن تكون القوة
الواحدة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد الثاني ، بأن تكون تلك كالفروع ،
فلا تكون مبدأ لها أولا ، مثل أن الإبصار إنما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التي
بها يكون الجسم بحيث إذا توسط بين جسم قابل للضوء وبين المضيء لم يفعل المضيء فيه
الإضاءة ، وهذا هو اللون ، واللون يكون بياضا
وسوادا. وأيضا القوة المتخيلة هى التي تستثبت صور الأمور
المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا من التجريد غير بالغ ، كما نذكره
بعد. ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك. والقوة
العاقلة هى التي تستثبت صور الأمور من حيث هى بريئة
__________________
عن المادة
وعلائقها ، ثم يتفق أن يكون ذلك شكلا ، ويتفق أن يكون عددا. وقد يجوز أن تكون
القوة معدة نحو فعل بعينه ، لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ ، حتى يصير
لها ما بالقوة حاصلا بالفعل ، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل ، فيكون مثل هذه القوة
تارة مبدأ للفعل بالفعل وتارة غير مبدأ له بالفعل ، بل بالقوة ،
مثل القوة المحركة فإنها إذا صح الإجماع من القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو
المعقول إلى التحريك حركت لا محالة ، فإن لم يصح لم تحرك
وليس يصدر عن قوة محركة واحدة بآلة واحدة إلا حركة واحدة ، إذ الحركات الكثيرة
لكثرة آلات الحركة التي هى العضل فينا وفى كل عضلة قوة محركة
جزئية لا تحرك إلا حركة بعينها. وقد تكون القوة الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب
القوابل المختلفة أو الآلات المختلفة ، وهذا ظاهر.
فنقول الآن : إن
أول أقسام أفعال النفس ثلاثة أفعال يشترك فيها الحيوان والنبات كالتغذية والتربية
والتوليد ، وأفعال تشترك فيها الحيوانات أكثرها أو جلها ولا حظّ فيها للنبات مثل الإحساس والتخيل والحركة الإرادية ، وأفعال
تختص بالناس مثل تصور المعقولات واستنباط الصنائع والروية فى الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح. فلو كانت القوى النفسانية واحدة وكانت الأفعال النباتية
تصدر عن القوة التي تصدر عنها الحيوانية صدورا أوليا لكان عدم الأجسام النباتية
وأعضاء الحيوان التي تغتذى ولا تحس مما هو صلب أو ليّن للإحساس إما أن يكون بسبب
عدم القوة ، أو بسبب أن المادة ليست تنفعل عنها. ومحال أن يقال : إن المادة ليست تنفعل عن الحر والبرد ولا تتأثر عنهما وعن الطعوم
القوية والروائح القوية ، فإنها تنفعل عنها ، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة
الفعالة لذلك ، وقد وجدت القوة الغاذية ، فإذن القوتان مختلفتان. وأيضا فإن تحريك
النفس لا يخلو إما أن يكون على سبيل نقل مطلق وكل جسم قابل للنقل مطلقا ، وإما أن
يكون لنقل على سبيل قبض وبسط. وفى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك من
العضل وفيها حياة للتغذى ، وليس يمكن تحريكها. فالسبب فى ذلك
__________________
ليس من جهتها ، بل
من جهة فقدانها القوة المحركة. وكذلك بعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحس فقط دون الحركة ، وبعضها تنفذ فيها قوة
الحركة ولا تتفاضل بشيء يعتد به ، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحس ويزيد
عليه فى الكيف وينقص ، قد تنفذ فيه قوة الحركة ، وقد يوجد ما هو كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحس. وكذلك يمكنك أن تعلم أن العين ليست دون اللسان فى أن تنفعل عن الطعوم المجاورة ،
ولا تحس العين بالطعم من حيث هو مذوق ؛ لست أقول من حيث هو كيفية ولا بالصوت.
وأما القوة
الإنسانية فسنبين من أمرها أنها متبرئة الذات عن الانطباع فى المادة ، ونبين أن
جميع الأفعال المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة. فإذن الحواس والتخيلات
لقوة أخرى مادية غير القوة المحركة وإن كانت تفيض عنها. وقوى الحركة أيضا متعلقة
من وجه ، كما سنبين ، بقوى الحس والتخيل. فإذا فهمت هذا وما أعطيناك من الأصول سهل
عليك أن تعرف فرقان ما بين القوى التي نحن فى ترتيبها وتعديدها ، وتعلم أن كل
قوة لها فعل أوّلى فلا تشارك قوة أخرى لها فعل أوّلى مخالف لفعلها الأوّلى.
__________________
الفصل الخامس
فى تعديد
قوى النفس على
سبيل التصنيف
لنعدّ الآن قوى
النفس عدّا على سبيل الوضع ، ثم لنشتغل ببيان حال كل قوة
فنقول : القوى النفسانية تنقسم بالقسمة الأولى أقساما ثلاثة : أحدها النفس
النباتية ، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يتولد وينمى ويغتذى ،
والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه فيزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل. والثاني النفس الحيوانية ،
وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.
والثالث النفس
الإنسانية ، وهى كمال أول لجسم طبيعى آلى من جهة ما ينسب إليه أنه يفعل الأفاعيل الكائنة
بالاختيار الفكرى والاستنباط بالرأى ، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية. ولو لا
العادة لكان الأحسن أن يجعل كل أول شرطا مذكورا فى رسم الثاني إن أردنا أن نرسم
النفس لا القوة النفسانية التي للنفس بحسب ذلك الفعل. فإن الكمال مأخوذ فى حد
النفس لا فى حد قوة النفس. وأنت ستعلم الفرق بين النفس الحيوانية وبين قوة الإدراك
والتحريك ، وبين النفس الناطقة وبين القوة على الأمور المذكورة من التمييز وغيره.
فإن أردت الاستقصاء
فالصواب أن تجعل النباتية جنسا للحيوانية ، والحيوانية جنسا للإنسانية ، وتأخذ
الأعم فى حد الأخص. ولكنك إذا التفت إلى
__________________
النفس من حيث القوى الخاصة لها فى حيوانيتها وإنسانيتها ، فربما قنعت بما ذكرناه.
وللنفس النباتية قوى ثلاث : الغاذية وهى قوة تحيل جسما غير الجسم الذي هى فيه إلى
مشاكلة الجسم الذي هى فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه. والقوة المنمية وهى قوة
تزيد فى الجسم الذي هى فيه بالجسم المتشبه به زيادة متناسبه فى أقطاره طولا وعرضا
وعمقا لتبلغ به كمال النشوء. والقوة المولدة وهى قوة تأخذ من الجسم
الذي هى فيه جزءا هو شبيهه بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التخليق والتمزيج ما يصيره شبيها به بالفعل.
وللنفس الحيوانية
بالقسمة الأولى قوتان : محركة ، ومدركة. والمحركة على
قسمين : إما محركة بأنها باعثة على الحركة ، وإما محركة بأنها فاعلة.
والمحركة على أنها
باعثة هى القوة النزوعية الشوقية ، وهى القوة التي إذا ارتسمت فى التخيل الذي
سنذكره بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها بعثت القوة المحركة الأخرى التي نذكرها على
التحريك ، ولها شعبتان : شعبة تسمى قوة شهوانية وهى قوة تبعث على تحريك تقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلبا للذة. وشعبة تسمى غضبية وهى قوة تبعث على تحريك تدفع به الشىء المتخيل
ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة. وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهى قوة تنبعث فى
الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة
بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ وترخيها أو تمدها طولا ،
فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.
وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين : منها قوة تدرك من خارج ، ومنها قوة تدرك من
داخل.
__________________
فالمدركة من خارج هى الحواس الخمس أو الثاني. فمنها البصر وهى قوة مرتبة فى العصبة
المجوفة تدرك صورة ما ينطبع فى الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون
المتأدية فى الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة. ومنها السمع وهى
قوة مرتبة فى العصب المتفرق فى سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليها من تموج الهواء
المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه صوت فيتأدى تموجه إلى الهواء المحصور الراكد فى تجويف الصماخ ، ويحركه بشكل
حركته ، وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع.
ومنها الشم وهى
قوة مرتبة فى زائدتى مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدى تدرك ما يؤدى إليها الهواء المستنشق من الرائحة الموجودة فى البخار المخالط له أو الرائحة المنطبعة فيه بالاستحالة من جرم ذى رائحة.
ومنها الذوق وهى
قوة مرتبة فى العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة له المخالطة للرطوبة العذبة التي فيها مخالطة محيلة.
ومنها اللمس وهى
قوة مرتبة فى أعصاب جلد البدن كله ولحمه تدرك ما يماسه ويؤثر فيه بالمضادة المحيلة للمزاج أو المحيلة لهيئة التركيب. ويشبه أن تكون
هذه القوة عند قوم لا نوعا أخيرا ، بل جنسا لقوى أربع أو فوقها منبثة معا فى الجلد
كله ، وإحداها حاكمة فى التضاد الذي بين الحار والبارد ،
والثانية حاكمة فى التضاد الذي بين الرطب واليابس ، والثالثة حاكمة فى التضاد الذي بين الصلب واللين ، والرابعة حاكمة فى التضاد الذي بين
الخشن والأملس. إلا أن اجتماعها فى آلة واحدة يوهم تأحدها فى الذات.
__________________
وأما القوى
المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات ، وبعضها تدرك معانى المحسوسات. ومن المدركات ما يدرك ويفعل معا ، ومنها ما يدرك ولا يفعل ، ومنها ما يدرك إدراكا أوليا ، ومنها ما
يدرك إدراكا ثانيا. والفرق بين إدراك الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هو الشىء الذي يدركه الحس الباطن والحس الظاهر معا. لكن
الحس الظاهر يدركه أولا ويؤديه إلى الحس الباطن مثل إدراك الشاة لصورة الذئب أعنى
لشكله وهيئته ولونه ، فإن الحس الباطن من الشاة يدركها ، لكن
إنما يدركها أولا حسها الظاهر. وأما المعنى فهو الشىء الذي تدركه النفس
من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولا ، مثل إدراك الشاة للمعنى المضاد فى
الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إياه ، وهربها عنه من غير أن يدرك الحس ذلك البتة.
فالذى يدرك من الذئب أول الحس الظاهر ثم الحس الباطن فإنه فيخص فى هذا الموضع باسم
الصورة. والذي تدركه القوة الباطنة دون الحس فيخص فى هذا الموضع باسم المعنى.
والفرق بين الإدراك مع الفعل والإدراك لا مع الفعل ، أن من أفعال بعض القوى
الباطنة أن يركب بعض الصور والمعانى المدركة مع بعض ويفصله عن بعض ، فيكون قد أدرك
وفعل أيضا فيما أدرك. وأما الإدراك لا مع الفعل فهو أن تكون الصورة أو المعنى يرتسم فى الشىء فقط من غير أن يكون له أن يفعل فيه تصرفا البتة. والفرق بين
الإدراك الأول والإدراك الثاني أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو
ما من الحصول قد وقع للشىء من نفسه ؛ والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها
للشىء من جهة شىء آخر أدى إليها . فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية قوة بنطاسيا وهى الحس المشترك وهى قوة مرتبة
__________________
فى التجويف الأول
من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة فى الحواس الخمس المتأدية إليه ، ثم
الخيال والمصورة وهى قوة مرتبة أيضا فى آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئية الخمس ، ويبقى فيه بعد غيبة تلك المحسوسات.
واعلم أن القبول
لقوة غير القوة التي بها الحفظ فاعتبر ذلك من الماء ، فإن له قوة قبول النقش والرقم ، وبالجملة الشكل ، وليس له قوة حفظه ؛ على أنا نزيدك لهذا تحقيقا من
بعد. وإذا أردت أن تعرف الفرق بين فعل الحس الظاهر وفعل الحس المشترك وفعل المصورة فتأمل حال القطرة التي تنزل من المطر فترى خطا مستقيما ، وحال الشىء المستقيم الذي يدور فيرى طرفه دائرة ، ولا يمكن أن يدرك الشىء خطا أو دائرة إلا ويرى
فيه مرارا.
والحس الظاهر لا
يمكن أن يراه مرتين ، بل يراه حيث هو ، لكنه إذا ارتسم فى الحس المشترك وزال قبل
أن تمحى الصورة من الحس المشترك أدركه الحس الظاهر حيث هو ، وأدركه
الحس المشترك كأنه كائن حيث كان فيه وكائن حيث صار إليه ، فرأى امتدادا مستديرا أو
مستقيما. وذلك لا يمكن أن يسبب إلى الحس الظاهر البتة. وأما القوة المصورة فتدرك الأمرين وتتصورهما ، وإن بطل الشىء وغاب. ثم القوة التي تسمى
متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ، ومفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية ، وهى
قوة مرتبة فى التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة ، من شأنها أن تركب بعض ما فى الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض ، بحسب الإرادة. ثم
القوة الوهمية وهى قوة مرتبة فى نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعانى غير المحسوسة الموجودة فى المحسوسات الجزئية كالقوة الموجودة فى الشاة الحاكمة
بأن هذا الذئب مهروب عنه وأن هذا الولد
__________________
هو المعطوف عليه.
ويشبه أن تكون هى أيضا المتصرفة فى المتخيلات تركيبا وتفصيلا. ثم القوة
الحافظة الذاكرة وهى قوة مرتبة فى التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة
الوهمية من المعانى غير المحسوسة فى المحسوسات
الجزئية. ونسبة القوة الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة القوة التي تسمى خيالا إلى
الحس. ونسبة تلك القوة إلى المعانى كنسبة هذه القوة إلى الصور
المحسوسة. فهذه هى قوى النفس الحيوانية.
وأما النفس
الناطقة الإنسانية فتنقسم قواها إلى قوة عاملة وقوة عالمة. وكل واحدة من القوتين
تسمى عقلا باشتراك الاسم أو تشابهه. فالعاملة قوة هى مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى
الأفاعيل الجزئية الخاصة بالروية على مقتضى آراء تخصها اصطلاحية ، ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة
الحيوانية المتخيلة والمتوهمة ، واعتبار بالقياس إلى نفسها.
فاعتبارها بحسب
القياس إلى القوة الحيوانية النزوعية هو القبيل الذي تحدث منه فيها هيئات تخص
الإنسان يتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء وما أشبه ذلك. واعتبارها الذي بحسب القياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة
والمتوهمة هو القبيل الذي تنحاز إليه إذا اشتغلت
باستنباط التدابير فى الأمور الكائنة الفاسدة ، واستنباط الصناعات الإنسانية ،
واعتبارها الذي بحسب القياس إلى نفسها هو القبيل الذي تتولد فيه بين العقل العملى
والعقل النظرى الآراء التي تتعلق بالأعمال وتستفيض ذائعة مشهورة مثل : أن الكذب قبيح ، والظلم قبيح ، لا على سبيل التبرهن ، وما أشبه ذلك من
المقدمات المحدودة للانفصال عن الأوليات العقلية المحضة فى كتب المنطق. وإن كانت إذا
برهن عليها صارت من العقلية أيضا على ما عرفت فى كتب المنطق.
__________________
وهذه القوة يجب أن
تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة الأخرى التي نذكرها حتى لا
تنفعل عنها البتة ؛ بل تنفعل تلك عنها وتكون مقموعة دونها ، لئلا تحدث فيها عن
البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية. وهى التي تسمى أخلاقا رذيلية ، بل يجب أن تكون غير منفعلة البتة وغير منقادة ، بل متسلطة ، فتكون لها أخلاق
فضيلية. وقد يجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضا ، ولكن
إن كانت هى الغالبة ، تكون لها هيئة فعلية ، ولهذا العقل هيئة انفعالية. ولتسم كل هيئة خلقا فيكون شىء واحد يحدث منه خلق فى هذا وخلق فى ذلك ؛ وإن كانت هى
المغلوبة تكون لها هيئة انفعالية ، ولذلك هيئة فعلية غير غريبة ، فيكون
ذلك أيضا هيئتين وخلقين ، أو يكون الخلق واحدا له نسبتان. وإنما كانت الأخلاق التي
فينا منسوبة إلى هذه القوة لأن النفس الإنسانية كما يظهر من بعد جوهر واحد ، وله
نسبة وقياس إلى جنبتين : جنبة هى تحته ، وجنبة هى فوقه ، وله بحسب كل جنبة قوة بها تنتظم العلاقة بينه وبين تلك الجنبة. فهذه القوة
العملية هى القوة التي له لأجل العلاقة إلى الجنبة التي
دونه وهو البدن وسياسته.
وأما القوة النظرية
فهى القوة التي له لأجل العلاقة إلى الجنبة التي فوقه لينفعل ويستفيد منها ويقبل عنها. فكأن للنفس منا وجهين :
وجه إلى البدن ، ويجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتة أثرا
من جنس مقتضى طبيعة البدن ، ووجه إلى المبادي
العالية. ويجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هناك والتأثر منه. فمن الجهة السفلية تتولد الأخلاق ، ومن الجهة
__________________
الفوقانية تتولد
العلوم ، فهذه هى القوة العملية. وأما القوة النظرية فهى قوة من شأنها أن تنطبع
بالصور الكلية المجردة عن المادة ، فإن كانت مجردة بذاتها فأخذها لصورتها فى نفسها
أسهل ، وإن لم تكن فإنها تصير مجردة بتجريدها إياها ، حتى لا يبقى فيها من علائق
المادة شىء ، وسنوضح كيفية هذا من بعد. وهذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب
مختلفة ، وذلك لأن الشىء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا له وقد
يكون بالفعل قابلا له. والقوة تقال على ثلاثة معان ، بالتقديم والتأخير : فيقال
قوة للاستعداد المطلق الذي لا يكون خرج منه بالفعل شىء. ولا أيضا حصل ما به يخرج ،
كقوة الطفل على الكتابة. ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشىء إلا ما
يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة ، كقوة الصبى الذي ترعرع وعرف
الدواة والقلم وبسائط الحروف على الكتابة. ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة
، وحدث مع الآلة أيضا كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى
الاكتساب ، بل يكفيه أن يقصد فقط ، كقوة الكاتب المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب.
والقوة الأولى تسمى مطلقة وهيولانية ، والقوة الثانية تسمى قوة ممكنة ، والقوة
الثالثة تسمى كمال القوة.
فالقوة النظرية
إذن تارة تكون نسبتها إلى الصور المجردة التي ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة ،
وذلك حين ما تكون هذه القوة التي للنفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذي بحسبها ،
وحينئذ تسمى عقلا هيولانيا ، وهذه القوة التي تسمى عقلا هيولانيا موجودة لكل شخص من النوع ، وإنما سميت هيولانية تشبيها إياها باستعداد الهيولى الأولى التي ليست هى بذاتها ذات صورة من الصور ، وهى موضوعة
لكل صورة. وتارة نسبة ما بالقوة الممكنة ، وهى أن تكون القوة الهيولانية قد
حصل فيها من المعقولات المعقولات الأولى التي
يتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية ، أعنى بالمعقولات الأولى المقدمات التي
يقع بها التصديق لا باكتساب ولا بأن يشعر المصدق بها أنه كان يجوز له أن يخلو
__________________
عن التصديق بها
وقتا البتة ، مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء وأن الأشياء المتساوية لشىء
واحد بعينه متساوية. فما دام إنما حصل فيها من معنى ما
بالفعل هذا القدر بعد فإنها تسمى عقلا بالملكة. ويجوز أن تسمى عقلا بالفعل بالقياس إلى الأولى ، لأن القوة الأولى ليس لها أن تعقل شيئا
بالفعل ، وأما هذه فإن لها أن تعقل إذا أخذت تبحث بالفعل. وتارة تكون نسبة ما
بالقوة الكمالية وهو أن يكون حصل فيها أيضا الصور المعقولة المكتسبة بعد المعقولة
الأولية ، إلا أنه ليس يطالعها ويرجع إليها بالفعل ، بل كأنها عنده مخزونة فمتى
شاء طالع تلك الصور بالفعل فعقلها ، وعقل أنه قد عقلها. ويسمى عقلا بالفعل لأنه
عقل يعقل متى شاء بلا تكلف اكتساب وإن كان يجوز أن يسمى عقلا بالقوة بالقياس إلى
ما بعده. وتارة تكون النسبة نسبة ما بالفعل المطلق ، وهو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه وهو يطالعها بالفعل فيعقلها بالفعل ويعقل أنه يعقلها بالفعل فيكون ما حصل له حينئذ يسمى عقلا مستفادا. وإنما سمى عقلا مستفادا ، لأنه سيتضح لنا
أن العقل بالقوة إنما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائما بالفعل وأنه إذا اتصل
العقل بالقوة بذلك العقل الذي بالفعل نوعا من الاتصال انطبع فيه نوع من الصور تكون
مستفادة من خارج.
فهذه أيضا مراتب القوى التي تسمى عقولا نظرية. وعند العقل المستفاد يتم الجنس
الحيوانى والنوع الإنسانى منه ، وهناك تكون القوة الإنسانية قد تشبهت بالمبادئ
الأولية للوجود كله.
فاعتبر الآن وانظر
إلى حال هذه القوى كيف يرأس بعضها بعضا وكيف يخدم بعضها بعضا ، فإنك تجد العقل
المستفاد رئيسا ويخدمه الكل وهو
__________________
الغاية القصوى ،
ثم العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة ، والعقل الهيولانى بما فيه من الاستعداد
يخدم العقل بالملكة. ثم العقل العملى يخدم جميع هذه. لأن العلاقة البدنية كما سيتضح بعد لأجل تكميل العقل النظرى وتزكيته وتطهيره
، والعقل العملى هو مدبر تلك العلاقة. ثم العقل العملى يخدمه الوهم
، والوهم تخدمه قوتان : قوة بعده وقوة قبله. فالقوة التي بعده هى القوة التي تحفظ
ما أداه الوهم إليها أى الذاكرة ، والقوة التي قبله هى جميع القوى الحيوانية.
ثم المتخيلة تخدمها قوتان مختلفتان المأخذين : فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار
لأنها تبعثها على التحريك نوعا من البعث ، والقوة الخيالية تخدمها بعرضها الصور
المخزونة فيها المهيأة لقبول التركيب والتفصيل ، ثم هذان رئيسان لطائفتين ، أما القوة الخيالية فتخدمها فنطاسيا ، وفنطاسيا تخدمها الحواس الخمس. وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة
والغضب ، والشهوة والغضب تخدمهما القوة المحركة فى العضل ، فههنا تفنى القوى
الحيوانية. ثم القوى الحيوانية تخدمها النباتية وأولها ورأسها المولدة. ثم النامية
تخدم المولدة. ثم الغاذية تخدمها جميعا. ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه ،
والهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة والجاذبة من جهة ، والدافعة تخدم جميعها. ثم الكيفيات الأربع تخدم جميع ذلك. لكن الحرارة تخدمها البرودة ، فإنها إما
أن تعد للحرارة مادة أو تحفظ ما هيأته الحرارة ، ولا مرتبة للبرودة فى القوى
الداخلة فى الأعراض الطبيعية إلا منفعة تابع تال ، وتخدمها جميعها اليبوسة والرطوبة ، وهناك آخر درجات القوى.
__________________
المقالة الثانية
خمسة فصول
__________________
الفصل الأول
فى تحقيق القوى المنسوبة إلى النفس النباتية
فلنبدأ بتعريف حال
القوى المذكورة قوة قوة ، ولنعرفها من جهة أفعالها. وأول
ذلك أفعال القوى النباتية ، وأولها حال التغذية. فنقول : قد
علمت فيما سلف نسبة الغذاء إلى المغتذى وحد كل واحد منهما وخاصيته. فنقول الآن :
إن الغذاء ليس إنما يستحيل دائما إلى طبيعة المغتذى دفعة ، بل أولا يستحيل استحالة ما عن كيفيته ويستعد للاستحالة إلى جوهر المغتذى ، فتفعل
فيه قوة من خدم القوة الغاذية وهى الهاضمة ، وهى التي تذيب الغذاء فى الحيوان
وتعده للنفوذ المستوى ، ثم إن القوة الغاذية تحيله فى الحيوان
الدموى أول الإحالة إلى الدم والأخلاط التي منها قوام البدن على ما بينا فى مواضع
أخرى. وكل عضو فإنه يختص بقوة غاذية تكون فيه وتحيل الغذاء إلى
مشابهته الخاصة فتلصقه به. فالقوة الغاذية تورد البدل ، أى بدل ما يتحلل وتشبه
وتلصق. وإنه وإن كان الغذاء أكثر منافعه أنه يقوم بدل ما يتحلل ، فإنه
ليست الحاجة إلى الغذاء لذلك فقط ، بل قد تحتاج إليه الطبيعة فى أول الأمر للتربية
، وإن كان بعد ذلك إنما يحتاج إلى وضعه موضع المتحلل فقط. فالقوة
الغاذية من قوى النفس النباتية تفعل فى جميع مدة بقاء الشخص وما دامت
__________________
موجودة تفعل
أفاعيلها وجد النبات والحيوان باقيين ، فإن بطلت لم يوجد
النبات والحيوان باقيين . وليس كذلك حال سائر القوى النباتية. والنامية تفعل فى أول
كون الحيوان فعلا ليس هو التغذية فقط ، وذلك لأن غاية التغذية ما حددناه ، وأما
هذه القوة فإنها توزع الغذاء على خلاف مقتضى القوة الغاذية ، وذلك لأن الذي للقوة
الغاذية لذاتها أن تؤتى كل عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره وتلصق به من الغذاء
بمقداره الذي له على السواء. وأما القوة النامية فإنها تسلب جانبا من البدن من
الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة فى جهة أخرى فتلصقه بتلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق
زيادة جهة أخرى مستخدمة للغاذية فى جميع ذلك. ولو كان الأمر إلى الغاذية لسوت
بينها أو لفضلت الجهة التي نقصتها النامية. مثال
ذلك أن الغاذية إذا انفردت وقوى فعلها وكان ما تورد أكثر مما يتحلل فإنها تزيد فى
عرض الأعضاء وعمقها زيادة ظاهرة بالتسمين ، ولا تزيد فى الطول زيادة يعتد بها.
وأما المربية فإنها تزيد فى الطول أكثر كثيرا مما تزيد فى العرض ، والزيادة فى
الطول أصعب من الزيادة فى العرض ، وذلك لأن الزيادة فى الطول يحتاج فيها إلى تنفيذ
الغذاء فى الأعضاء الصلبة من العظام والعصب تنفيذا فى أجزائها طولا لتنميها وتبعد بين أطرافها. والزيادة فى العرض قد تغنى فيها
تربية اللحم وتغذية العظم أيضا عرضا من غير حاجة إلى تنفيذ شىء كثير فيه وتحريكه.
وربما كانت أعضاء هى فى أول النشوء صغيرة وأعضاء هى فى أول النشوء كبيرة ، ثم
يحتاج فى آخر النشوء أن يصير ما هو أصغر أكبر وما هو أكبر أصغر ؛ فلو كان التدبير
إلى الغاذية لكان يستمر ذلك على نسبة واحدة. فالقوة الغاذية من حيث هى غاذية تأتى
بالغذاء وتقتضى إلصاقه بالبدن على النحو المستوى أو القريب من المستوى. وعلى الوجه
الذي فى الطبع أن تفعله عند الاسمان. وأما النامية فتوعز إلى الغاذية بأن
تقسم ذلك الغذاء وتنفذه إلى حيث تقتضى التربية خلافا لمقتضى الغاذية ، والغاذية تخدمها فى ذلك ، لأن الغاذية لا محالة هى
__________________
الملصقة ؛ لكنها
تكون متصرفة تحت تصريف القوة المربية. والقوة المربية إنما تنحو نحو تمام النشوء.
وأما المولدة فلها فعلان : أحدهما تخليق البزر وتشكيله وتطبيعه ، والثاني إفادة
أجزائه فى الاستحالة الثانية صورها من القوى والمقادير والأشكال والأعداد والخشونة
والملاسة وما يتصل بذلك متسخرة تحت تدبير المتفرد بالجبروت ، فتكون الغاذية تمدها بالغذاء ، والنامية تخدمها بالتمديدات
المشاكلة فهذا الفعل يتم منها فى أول تكون الشىء ثم يبقى التدبير مفوضا إلى
النامية والغاذية ، فإذا كاد فعل النامية يستتم فحينئذ تنبعث القوة المولدة فى توليد
البزر والمنى لتسكنها القوة التي هى من جنسها مع الخادمتين.
وبالجملة فإن
القوة الغاذية مقصودة ليحفظ بها جوهر الشخص ، والقوة النامية مقصودة ليتم بها جوهر
الشخص ، والقوة المولدة مقصودة ليستبقى بها النوع ، إذ كان حب الدوام أمرا فائضا من الإله تعالى على كل شىء ، فما لم يصلح أن يبقى بشخصه ويصلح أن يبقى بنوعه فإنه تنبعث فيه
قوة إلى استجلاب بدل يعقبه ليحفظ به نوعه. فالغاذية تورد بدل ما يتحلل من الشخص ،
والمولدة تورد بدل ما يتحلل من النوع.
وقد ظن بعضهم أن
الغاذية نار ، لأن النار تغتذى وتنمو. وقد أخطأ من
وجهين : أحدهما من جهة أن الغاذية ليست تغتذى بنفسها ، بل تغذى
البدن وتنميه ، والنار إن كانت تغتذى فهى إنما تغتذى وتنمى نفسها. ومن وجه آخر أن النار ليست تغتذى ، بل تتولد شيئا بعد شىء ويطفأ ما تقدم. ثم
لو كانت تغتذى وكان حكمها حكم غذاء الأبدان ، لما كان يجب أن يكون للأبدان
وقوف فى النمو. فإن النار ما دامت تجد مادة لم تقف ، بل تذهب إلى غير نهاية.
__________________
وأعجب من هذا ما
قال صاحب هذا القول : إن الأشجار تعرق من أسفل لأن الأرضية تتحرك إلى أسفل وتتفرع إلى فوق ، لأن النار تتحرك إلى فوق. فأول غلطه هو أن كثيرا من النبات أغصانه
أثقل من عروقه. وثانيا أنه لم لا ينفصل بهذه الحركة فيفارق الثقيل الخفيف. فإن كان
ذلك لتدبير النفس فليجعل التعريق والتفريع أيضا للنفس ، وعلى أنه يشبه أن يكون
الفوق فى النبات حيث رأسه ، ورأس النبات عروقه ومنه منشؤه ، ثم إن آلة هذه القوة
الأولية هى الحار الغريزى ، فإن الحار هو المستعد لتحريك المواد ويتبعه البرد لتسكينها عند الكمالات من الخلق محتوية عليها. وأما من الكيفيات المنفعلة فآلتها الأولية الرطوبة ، فإنها هى التي
تتخلق وتتشكل ، وتتبعها اليبوسة فإنها تحفظ الشكل وتفيد التماسك. والقوة النباتية
التي فى الحيوان جسما فإنها تولد جسما حيوانيا ، وذلك لأنها نباتية تتعلق بها قوة
الحيوان ، وهى الفصل الذي لها مما يشاركها فى كونها ذات قوة التغذية
والنمو ، فتمزج الأركان والعناصر مزاجا يصلح للحيوان. إذ ليس تتولى مزاجها
القوة المشتركة بين النبات والحيوان من حيث هى مشتركة ، فإنها من حيث هى مشتركة لا
توجب مزاجا خاصا ، بل إنما توجب مزاجا خاصا فيها لأنها مع أنها غاذية هى أيضا
حيوانية فى طباعها أن تحس وتحرك إذا حصلت الآلة ، وهى بعينها حافظة لذلك التأليف والمزاج
حفظا ، وإذا أضيف إلى ذوات التأليف كان قسريا ، لأنه ليس من طباع العناصر والأجسام المتضادة أن تأتلف لذاتها ، بل من طباعها
الميل إلى جهات مختلفة ، وإنما تؤلفها النفس الخاصة. مثلا فى النخلة نفس نخلية ،
وفى العنب نفس عنبية ، وبالجملة النفس التي تكون صورة لتلك المادة. والنفس إذا
صارت نخلية كان لها مع أنها نفس النمو زيادة أنها نفس نخلية ، وفى العنب أنها نفس
عنبية ، وليست النخلة تحتاج إلى
__________________
نفس نباتية ونفس
أخرى تكون بتلك النفس نخلة ، وإن كان ليس لها أفعال خارجة عن أفعال النبات ، بل
تكون نفسها النباتية فى نباتيتها أنها نخلية.
وأما النفس
النباتية التي فى الحيوان فإنها تعد خلقة الحيوان نحو أفعال غير أفعالها وحدها من حيث هى نباتية ، فهى مدبرة نفس حيوانية ، بل
هى بالحقيقة غير نفس نباتية ، اللهم إلا أن يقال إنها نفس نباتية بالمعنى الذي
ذكرنا أعنى العام. فالفصل المقوم لنوعية نفس من النفوس
النباتية أعنى الفصول التي لنبت ما دون نبت لا يكون إلا مبدأ
فعل نباتى مخصص فقط. وأما النفس
النباتية الحيوانية ففصلها القاسم إياها المقوم لنوع نوع تحتها هو قوة النفس
الحيوانية المقارنة لها التي تعد لها البدن ، وهو فصل على نحو الفصول التي تكون
للبسائط لا التي تكون للمركبات.
وأما النفس
الإنسانية فلا تتعلق بالبدن تعلقا صوريا كما نتبين ، فلا يحتاج أن يعد لها عضو.
نعم قد تتميز الحيوانية التي لها ، عن سائر الحيوانات ، وكذلك الأعضاء المعدة
لحيوانيتها أيضا.
__________________
الفصل الثاني
فى تحقيق أصناف الإدراكات التي لنا
فلنتكلم الآن فى القوى الحاسة والدراكة ، ولنتكلم فيها كلاما كليا فنقول : يشبه أن
يكون كل إدراك إنما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، فإن كان الإدراك إدراكا
لشىء مادى فهو أخذ صورته مجردة عن المادة تجريدا ما ، إلا أن أصناف التجريد مختلفة ومراتبها متفاوتة ، فإن
الصورة المادية تعرض لها بسبب المادة أحوال وأمور ليست هى لها بذاتها من جهة ما هى
تلك الصورة فتارة يكون النزع عن المادة نزعا مع تلك العلائق
كلها أو بعضها ، وتارة يكون النزع نزعا كاملا. وذلك بأن يجرد المعنى عن المادة وعن
اللواحق التي له من جهة المادة. مثاله إن الصورة الإنسانية والماهية
الإنسانية طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلها بالسوية ، وهى بحدها شىء
واحد وقد عرض لها أن وجدت فى هذا الشخص وذلك الشخص فتكثرت. وليس لها ذلك من جهة
طبيعتها الإنسانية. ولو كان للطبيعة الإنسانية ما يجب فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولا على واحد بالعدد ولو كانت الإنسانية موجودة لزيد لأجل أنها إنسانيته ، لما كانت لعمرو. فإذن أحد العوارض التي تعرض للإنسانية من جهة المادة هو هذا النوع من التكثر والانقسام. ويعرض لها أيضا غير هذا من العوارض ، وهو أنها
__________________
إذا كانت فى مادة
ما حصلت بقدر من الكم والكيف والوضع والأين ، وجميع هذه أمور غريبة عن طبائعها ، وذلك لأنه لو كانت الإنسانية هى على هذا الحد أو حد آخر من الكم والكيف
والأين والوضع لأجل أنها إنسانية ، لكان يجب أن يكون كل إنسان مشاركا
للآخر فى تلك المعانى. ولو كانت لأجل الإنسانية على حد آخر وجهة أخرى من الكم
والكيف والأين والوضع ، لكان كل إنسان يجب أن يشترك فيه. فإذن الصورة الإنسانية
بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شىء من هذه اللواحق العارضة لها ، بل من جهة المادة
، لأن المادة التي تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق فالحس يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق ، ومع وقوع نسبة
بينها وبين المادة ، إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ ، وذلك لأنه لا ينزع
الصورة عن المادة مع جميع لواحقها ، ولا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة إن غابت
المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة إن غابت المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن
المادة نزعا محكما ، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا فى أن تكون تلك الصورة موجودة له . وأما الخيال والتخيل فإنه يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة
تبرئة أشد. وذلك لأنه يأخذها عن المادة بحيث لا تحتاج فى وجودها فيه إلى وجود
مادتها. لأن المادة وإن غابت عن الحس أو بطلت ، فإن
الصورة تكون ثابتة الوجود فى الخيال ، فيكون أخذه إياها قاصما للعلاقة بينها وبين المادة قصما تاما ، إلا أن الخيال لا يكون قد
جردها عن اللواحق المادية ، فالحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاما ولا جردها عن
لواحق المادة. وأما الخيال فإنه قد جردها عن المادة تجريدا تاما ، ولكن لم يجردها
البتة عن لواحق المادة ، لأن الصورة التي فى الخيال هى على حسب الصورة المحسوسة ،
وعلى تقدير ما وتكييف ما ووضع ما. وليس يمكن فى الخيال
__________________
البتة أن تتخيل
صورة هى بحال يمكن أن يشترك فيها جميع أشخاص ذلك
النوع ، فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ، ويجوز أن يكون ناس موجودين ومتخيلين ليسوا على نحو ما يتخيل خيال ذلك الإنسان. وأما الوهم فإنه قد يتعدى قليلا هذه
المرتبة فى التجريد ، لأنه ينال المعانى التي ليست هى فى ذاتها بمادية ، وإن عرض
لها أن تكون فى مادة. وذلك لأن الشكل واللون والوضع وما أشبه ذلك أمور لا يمكن أن
تكون إلا لمواد جسمانية وأما الخير والشر والموافق والمخالف وما أشبه ذلك ، فهى
أمور فى أنفسها غير مادية ، وقد يعرض لها أن تكون مادية. والدليل على أن
هذه الأمور غير مادية ، أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان يعقل خير وشر
أو موافق ومخالف إلا عارضا لجسم ، وقد يعقل ذلك بل يوجد.
فبين أن هذه
الأمور هى فى أنفسها غير مادية ، وقد عرض لها إن كانت مادية ، والوهم إنما ينال
ويدرك أمثال هذه الأمور. فإذن الوهم قد يدرك أمورا غير مادية. ويأخذها عن المادة ،
كما يدرك أيضا معانى غير محسوسة وإن كانت مادية. فهذا النزع إذن أشد استقصاء وأقرب
إلى البساطة من النزعين الأولين ، إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق
المادة ، لأنه يأخذها جزئية وبحسب مادة مادة ، وبالقياس إليها ،
ومتعلقة بصورة محسوسة مكنوفة بلواحق المادة وبمشاركة الخيال فيها. وأما القوة التي
تكون الصوره المثبتة فيها ، إما صور موجودات ليست
بمادية البتة ولا عرض لها أن تكون مادية ، أو صور موجودات مادية ولكن مبرأة عن
علائق المادة من كل وجه ، فبين أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجردا عن المادة
من كل وجه. فأما ما هو متجرد بذاته عن المادة فالأمر
فيه ظاهر ، وأما ما هو موجود
__________________
للمادة إما لأن
وجوده مادى ، وإما عارض له ذلك فتنزعه عن المادة وعن
لواحق المادة معها ، وتأخذه أخذا مجردا ، حتى يكون مثل الإنسان الذي يقال على كثيرين ، وحتى يكون قد أخذ لكثير طبيعة واحدة ، وتفرزه عن كل كم وكيف وأين
ووضع مادى. ولو لم تجرده عن ذلك لما صلح أن يقال على الجميع.
فبهذا يفترق إدراك
الحاكم الحسى ، وإدراك الحاكم الخيالى ، وإدراك الحاكم الوهمى ، وإدراك الحاكم
العقلى. وإلى هذا المعنى كنا نسوق الكلام فى هذا الفصل ، فنقول : إن
الحاس فى قوته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشىء
مجردة عن مادته فيتصور بها الحاس ، فالمبصر هو مثل المبصر بالقوة ، وكذلك الملموس والمطعوم وغير ذلك ، والمحسوس الأول
بالحقيقة هو الذي يرتسم فى آلة الحس وإياه يدرك ، ويشبه أن يكون إذا قيل : أحسست
الشىء الخارجى كان معناه غير معنى أحسست فى النفس ، فإن معنى قوله : أحسست الشىء
الخارجى ، أن صورته تمثلت فى حسى ، ومعنى أحسست فى النفس أن الصورة نفسها تمثلت فى
حسى. فلهذا يصعب إثبات وجود الكيفيات المحسوسة فى الأجسام. لكنا
نعلم يقينا أن جسمين وأحدهما يتأثر عنه الحس شيئا ، والآخر لا يتأثر عنه ذلك الشىء
أنه مختص فى ذاته بكيفية هى مبدأ إحالة الحاسة دون الآخر.
وأما ديمقريطس وطائفة من الطبيعيين فلم يجعلوا لهذه الكيفيات وجودا البته ، بل جعلوا
الأشكال التي يجعلونها للأجرام التي لا تتجزأ أسبابا لاختلاف ما يتأثر فى الحواس
باختلاف ترتيبها ووضعها. قالوا : ولهذا ما يكون الإنسان الواحد قد يحس لونا واحدا
على لونين مختلفين : بحسب وقوفين منه تختلف
__________________
بذلك نسبتهما من
أوضاع المرئى الواحد ، كطوق الحمامة فإنها ترى مرة شقراء ومرة أرجوانية ومرة على
لون الذهب ، وبحسب اختلاف المقامات ، فلهذا ما يكون شىء واحد عند إنسان صحيح حلوا
، وعند إنسان مريض مرا. فهؤلاء هم الذين جعلوا الكيفيات المحسوسة لا حقائق لها فى
أنفسها ، إنما هى أشكال.
وهاهنا قوم آخرون
أيضا ممن لا يرو هذا المذهب لا يجعلون لهذه الكيفيات حقيقة فى الأجسام ، بل يرون
أن هذه الكيفيات إنما هى انفعالات للحواس فقط من غير أن يكون فى المحسوسات شىء
منها. وقد بينا فساد هذا الرأى ، وبينا أن فى بعض الأجسام خاصية تؤثر فى اللسان ،
مثلا الشىء الذي نسميه إذا ذقناه حلاوة ، ولبعضها خاصية أخرى من جنسها ، وهذه
الخاصية نسميها الطعم لا غير.
وأما مذهب أصحاب
الأشكال فقد نقضنا أصله فيما سلف ، ثم قد يظهر لنا سريعا بطلانه ، فإنه لو كان
المحسوس هو الشكل لكل يجب إذا لمسنا الشكل وأدركناه خصوصا بالحدقة أن نكون رأينا
أيضا لونه ، فإن الشىء الواحد من جهة واحدة يدرك شيئا واحدا ، فإن أدرك من جهة ولم
يدرك من جهة ، فالذى لم يدرك منه غير المدرك ، فيكون اللون إذن غير الشكل ، وكذلك أيضا الحرارة غير الشكل ، اللهم إلا أن يقال :
إن الشىء الواحد يؤثر فى شيئين أثرين مختلفين ، فيكون أثره فى شيء ما ملموسا وأثره فى شىء آخر مرئيا. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل نفسه محسوسا ، بل أثر
مختلف يحدث عنه فى الحواس المختلفة غير نفسه. والحاس أيضا جسم ، وعنده أنه لا يتأثر إلا بالشكل ، فيكون أيضا الحاس إنما يتأثر بالشكل ، فيكون الشىء
الواحد يؤثر فى آلة شكلا ما وفى آلة أخرى شكلا آخر لكن لا شىء من الأشكال عنده إلا
ويجوز أن يلمس ، فيكون هذا المرئى أيضا يجوز أن يلمس. ثم من الظاهر البين أن اللون
فيه مضادة وكذلك الطعم وكذلك أشياء أخرى ، ولا شىء من الأشكال بمضاد لشىء ، وهؤلاء
بالحقيقة يجعلون كل محسوس ملموسا ، فإنهم يجعلون أيضا البصر ينفذ فيه شىء ويلمس ،
ولو كان كذلك لكان يجب أن يكون المحسوس بالوجهين
__________________
جميعا هو الشكل
فقط. ومن العجائب غفلتهم عن أن الأشكال لا تدرك إلا أن تكون هناك ألوان أو طعوم أو
روائح أو كيفيات أخرى ؛ ولا تحس البتة بشكل مجرد. فإن كان لأن الشكل المجرد إذا
صار محسوسا أحدث فى الحس أثرا من هذه الآثار غير الشكلية ، فقد صح وجود هذه
الآثار. وإن لم تكن هذه الآثار إلا نفس الشكل ، وجب أن يحس شكل مجرد من غير أن يحس
معه شىء آخر.
وقال قوم من الأوائل : إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلا وسائط البتة ولا آلات ، أما الوسائط فمثل الهواء للإبصار وما الآلات فمثل العين للإبصار. وقد بعدوا عن الحق ، فإنه لو كان
الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات لكانت هذه الآلات معطلة فى الخلقة لا
ينتفع بها ، وأيضا فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع فيستحيل أن يكون
بعض الأجسام قريبا منها ومتجها إليها فيحس ، وبعضها بعيدا
عنها محتجبا عنها فلا يحس. وبالجملة يجب أن لا يكون اختلاف فى أوضاع الأجسام
منها وحجب وإظهار ، فإن هذه الأحوال تكون للأجسام عند الأجسام. فيجب أن تكون النفس
إما مدركة لجميع المحسوسات وإما غير مدركة ، وأن لا تكون غيبة المحسوس تزيله عن الإدراك. لأن هذه الغيبة غيبة عند شىء لا محالة هى خلاف الحضرة منه. فيكون
عند ذلك الشىء لهذا الشىء غيبة مرة حضور مرة ، وذلك مكانى وضعى فيجب أن تكون النفس جسما ؛ ليس ذلك بمذهب هؤلاء ؛ وسنبين لك بعد أن الصورة المدركة لا يتم نزعها
عن المادة وعلائق المادة يستحيل أن تستثبت بغير آلة جسدانية ؛ ولو لم تحتج النفس
فى إدراك الأشياء إلى المتوسطات لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء وإلى توسط الشاف
، ولكان تقريب المبصر من العين لا يمنع الإبصار ، ولكان سد الأذن لا يمنع الصوت ،
ولكانت الآفات العارضة لهذا الآلات لا تمنع الإحساس.
__________________
ومن الناس من جعل
المتوسط عائقا ، وقال إنه لو كان المتوسط كلما كان أرق كان أدل ؛ فلو لم يكن ، بل
كان خلاء صرف ، لتمت الدلالة ، ولأبصر الشىء أكبر مما
يبصر ، حتى كان يمكن أن تبصر نملة فى السماء ، وهذا كلام باطل ، فليس إذا أوجب
رقته زيادة ، يجب أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك ، فإن الرقة ليس هى طريقا إلى عدم الجسم. وأما الخلاء فهو عدم
الجسم عندهم ، بل لو كان الخلاء موجودا لما كان بين المحسوس والحاس المتباينين
موصل البتة ، ولم يكن فعل ولا انفعال.
ومن الناس من ظن
شيئا آخر وهو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح ، وهو جسم لطيف ، سنشرح حاله
بعد ، وأنه آلة الإدراك ، وأنه وحده يجوز أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها
أو يوازيها أو يصير منها بوضع ذلك الوضع يوجب الإدراك. وهذا المذهب أيضا فاسد ،
فإن الروح لا يضبط جوهره إلا فى هذه الوقايات التي تكتنفه ، وأنه إذا خالطه شىء من خارج أفسد جوهره مزاجا وتركيبا. ثم ليس له حركة انتقال
خارجا وداخلا ، ولو كان له هذا لجاز أن يفارق الإنسان ويعود إليه ، فيكون للإنسان
أن يموت وأن يحيا باختياره فى ساعته ولو كان الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات البدنية ، فالحق أن الحواس محتاجة إلى
الآلات الجسدانية ، وبعضها إلى وسائط ، فإن الإحساس انفعال
ما ، لأنه قبول منها لصورة المحسوس ، واستحالة ، إلى مشاكلة المحسوس بالفعل ، فيكون
الحاس بالفعل مثل المحسوس بالفعل ، والحاس بالقوة مثل
المحسوس بالقوة ، والمحسوس بالحقيقية القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة
المحسوس. فيكون الحاس من وجه ما ، يحس ذاته لا
__________________
الجسم المحسوس ،
لأنه المتصور بالصورة التي هى المحسوسة القريبة منها. وأما الخارج فهو المتصور
بالصورة التي هى المحسوسة البعيدة ، فهى تحس ذاتها لا الثلج ، وتحس ذاتها لا القار ، إذا عنينا أقرب الإحساس الذي لا واسطة فيه. وانفعال الحاس
من المحسوس ليس على سبيل الحركة ، إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد ، بل هو استكمال.
أعنى أن يكون الكمال الذي كان بالقوة قد صار بالفعل من غير أن بطل فعل إلى القوة.
وإذ قد تكلمنا على الإدراك الذي هو أعم من الحس ، ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحس مطلقا ،
فنقول : إن كل حاسة فإنها تدرك محسوسها وتدرك عدم
محسوسها ، أما محسوسها فبالذات ، وأما عدم محسوسها كالظلمة للعين والسكوت للسمع وغير ذلك فإنها تكون بالقوة لا بالفعل. وأما إدراك أنها أدركت فليس له الحاسة ، فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو صوتا فيسمع ، ولكن إنما يدرك ذلك بالفعل العقلى أو الوهم على ما يتضح من حالهما بعد.
__________________
الفصل الثالث
فى الحاسة اللمسية
وأول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس ، فإنه كما أن كل ذى نفس أرضية
فإن له قوة غاذية ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الأخرى ولا ينعكس ، كذلك حال كل ذى
نفس حيوانية فله حس اللمس ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الأخرى ولا ينعكس. وحال
الغاذية عند سائر قوى النفس الأرضية ، فيه حال اللمس عند
سائر قوى الحيوان. وذلك لأن الحيوان تركيبه الأول هو من الكيفيات الملموسة ، فإن
مزاجه منها وفساده باختلالها والحس طليعة للنفس ، فيجب أن تكون الطليعة الأولى ، وهو ما يدل على ما يقع به الفساد ويحفظ به الصلاح وأن تكون قبل الطلائع
التي تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو مضرة خارجة عن الفساد
والذوق ، وإن كان دالا على الشىء الذي به تستبقى الحياة من المطعومات ، فقد يجوز
أن يعدم الذوق ويبقى الحيوان حيوانا ، فإن الحواس الأخرى ربما أعانت على ارتياد الغذاء الموافق واجتناب الضار. وأما الحواس الأخرى فلا تعين على معرفة أن الهواء المحيط بالبدن مثلا محرق أو
مجمد. وبالجملة فإن الجوع شهوة اليابس الحار والعطش شهوة البارد الرطب. والغذاء
بالحقيقة ما يتكيف بهذه الكيفيات التي يدركها اللمس. وأما الطعوم فتطييبات ، فلذلك
كثيرا ما يبطل حس الذوق لآفة تعرض ويكون الحيوان باقيا ، فاللمس هو أول الحواس ولا بد
منه لكل حيوان أرضى. وأما الحركة فلقائل أن يقول : إنها أخت اللمس للحيوان ، وكما
أن من الحس نوعا متقدما كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدم. وأما
المشهور فهو أن من الحيوان ماله حس اللمس وليس له قوة الحركة ، مثل ضروب من
الأصداف.
__________________
لكنا نقول : إن
الحركة الإرادية على ضربين : حركة انتقال من مكان إلى مكان ، وحركة انقباض وانبساط
للأعضاء من الحيوان وإن لم يكن به انتقال الجملة عن
موضعها . فيبعد أن يكون حيوان له حس اللمس ولا قوة حركة فيه البتة
، فإنه كيف يعلم أنه له حس اللمس إلا بأن يشاهد
فيه نوع هرب من ملموس وطلب لملموس. وأما ما يتمثلون
هم به من الأصداف والإسفنجات وغيرها ، فإنا نجد للأصداف فى غلفها حركات انقباض وانبساط والتواء وامتداد فى أجوافها ؛ وإن كانت لا تفارق
أمكنتها ، ولذلك نعرف أنها تحس بالملموس. فيشبه أن يكون كل ماله لمس فله فى ذاته
حركة ما إرادية إما لكليته وإما لأجزائه. وأما الأمور التي تلمس ، فإن المشهور من أمرها أنها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
والخشونة والملاسة والثقل والخفة. وأما الصلابة واللين واللزوجة والهشاشة وغير ذلك
فإنها تحس تبعا لهذه المذكورة. فالحرارة والبرودة كل منهما يحس بذاته ، لا لما يعرض فى
الآلة من الانفعال بها. وأما الصلابة واللين واليبوسة والرطوبة فيظن أنها لا تحس
لذاتها ، بل يعرض للرطوبة أن تطيع لنفوذ ما
ينفذ فى جسمها ، ويعرض لليبوسة أن تعصى فتجمع العضو الحاس وتعصره ،
والخشونة أيضا يعرض لها مثل ذلك بأن تحدث للأجزاء الناتئة منها عصرا ولا تحدث للغائرة فيها شيئا ، والأملس يحدث ملاسة واستواء ، وأما الثقل فيحدث تمددا إلى أسفل ،
والخفة خلاف ذلك.
فنقول لمن يقول
هذا القول : إنه ليس من شرط المحسوس بالذات أن يكون الإحساس به من غير
انفعال يكون منه ، فإن الحار أيضا ما لم يسخن لم يحس. وبالحقيقة ليس إنما يحس ما
فى المحسوس ، بل ما يحدث منه فى الحاق ، حتى إنه إن لم
__________________
يحدث ذلك لم يحس
به. لكن المحسوس بالذات هو الذي تحدث منه كيفية فى الآلة الحاسة مشابهة لما فيه
فيحس. وكذلك الانعصار عن اليابس والخشن والتملس من الأملس والتمدد إلى جهة معلومة
من الثقيل والخفيف ، فإن الثقل والخفة ميلان والتمدد أيضا ميل إلى
نحو جهة ما. فهذه الأحوال إذا حدثت فى الآلة أحس بها لا بتوسط حر أو برد ، أو لون
أو طعم ، أو غير ذلك من المحسوسات ، حتى كان يصير لأجل ذلك المتوسط غير محسوس أولى
أو غير محسوس بالذات ، بل محسوسا ثانيا أو بالعرض. ولكن هاهنا ضرب آخر مما يحس مثل
تفرق الاتصال الكائن بالضرب وغير ذلك ، وذلك ليس بحرارة
ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا صلابة ولا لين ولا شىء من المعدودات ، وكذلك أيضا الإحساس باللذات اللمسية مثل اللذة التي
للجماع وغير ذلك ، فيجب أن ينظر أنها كيف هى وكيف تنسب إلى القوة اللمسية وخصوصا
وقد ظن بعض الناس أن سائر الكيفيات إنما تحس بتوسط ما يحدث من
تفرق الاتصال. وليس كذلك ، فإن الحار والبارد من حيث يتغير به المزاج يحس على
استوائه ، وتفرق الاتصال لا يكون مستويا متشابها فى جميع الجسم.
لكنا نقول : إنه
كما أن الحيوان متكون بالامتزاج الذي للعناصر ، كذلك
هو متكون أيضا بالتركيب. وكذلك الصحة والمرض ، فإن منهما ما ينسب إلى المزاج
ومنهما ما ينسب إلى الهيئة والتركيب. وكما أن من فساد
المزاج ما هو مفسد كذلك من فساد التركيب ما هو مهلك؟ وكما
أن اللمس حس يتقى به ما يفسد المزاج ، كذلك هو حس يتقى به ما يفسد التركيب. فاللمس
أيضا يدرك به تفرق الاتصال ومضاده وهو عوده إلى الالتئام. ونقول : إن كل حال مضادة
لحال البدن فإنها يحس بها عند الاستحالة وعند الانتقال إليها ، ولا يحس بها عند
حصولها واستقرارها. وذلك لأن الإحساس انفعال ما أو مقارن لانفعال ما ، والانفعال إنما يكون عند زوال شىء وحصول شىء ، وأما المستقر فلا انفعال به.
وذلك فى الأمزجة الموافقة والرديئة معا ، فإن الأمزجة الرديئة إذا استقرت وأبطلت
الأمزجة الأصلية حتى صارت
__________________
هذه الرديئة كانها
أصلية لم يحس بها ، ولذلك لا يحس بحرارة الدق وإن كانت أقوى من حرارة الغب. وأما
إن كانت الأصلية موجودة بعد وهذه الطارئة مضادة لها أحس بها ، وهذا يسمى سوء المزاج المختلف ، وهذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق ، والألم والراحة
من الألم أيضا من المحسوسات اللمسية. ويفارق اللمس فى هذا المعنى سائر الحواس ،
وذلك لأن الحواس الأخرى منها ما لا لذة لها فى محسوسها
ولا ألم ، ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد المحسوسات. فأما التي لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان ولا يألم ، بل النفس تألم من
ذلك وتلتذ من داخل. وكذلك الحال فى الأذن ، فإن تألمت الأذن من صوت شديد والعين من
لون مفرط كالضوء فليست تألم من حيث تسمع أو تبصر ، بل من حيث تلمس ، لأنه يحدث فيها ألم لمسى ، وكذلك
تحدث فيها بزوال ذلك لذة لمسية. وأما الشم والذوق فيألمان ويلتذان إذا تكيف بكيفية
منافرة أو ملائمة. وأما اللمس فإنه قد يألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها ،
وقد يألم ويلتذ بغير توسط كيفية هى المحسوس الأول ، بل بتفرق الاتصال والتئامه. ومن الخواص التي للمس أن الآلة الطبيعية التي يحس
بها وهى لحم عصبى أو لحم وعصب تحس بالمماسة ، وإن لم يكن بتوسط البتة ، فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات ؛ وإذا استحال عنها أحس ، ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها. وليس يجب أن يظن أن
الحساس هو العصب فقط ، فإن العصب بالحقيقة هو مؤد للحس اللمسى إلى عضو غيره وهو
اللحم. ولو كان الحساس نفس العصب فقط ، لكان الحساس فى جلد الإنسان ولحمه شيئا
منتشرا كالليف ، وكان حسه ليس لجميع أجزائه ، بل
أجزاء ليفية فيه ، بل العصب
__________________
الذي يحس اللمس
مؤد وقابل معا. والعصبة المجوفة مؤدية للبصر لكنها غير قابلة ، إنما القابل ما
إليه تؤدى وهو البردية أو ما هو مستول عليه وهو الروح.
نبين إذن أن من
طباع اللحم أن يقبل الحس ، وإن كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن قوة عضو آخر يتوسط بينهما العصب. وأما إن كان المبدأ موجودا فيه فهو حساس بنفسه وإن كان لحما ،
وذلك كالقلب. وإن انتشر فى جوهر القلب ليف عصبى ، فلا يبعد أن يكون ليلتقط عنه الحس ويؤديه إلى أصل واحد يتأدى عنه
إلى الدماغ ، وعن الدماغ إلى أعضاء أخرى ، كما سيتضح بعد. وكالحال فى الكبد من جهة انبثاث عروق ليفية فيه ليقبل عنه ويؤدى
إلى غيره ، ويجوز أن يكون انبثاث الليف فيه ليقوى قوامه ويشتد لحمه ،
وسنشرح هذه الأحوال فى مواضع أخر مستقبلة.
ومن خواص اللمس أن
جميع الجلد الذي يطيف بالبدن حساس باللمس ولم يفرد له جزء منه. وذلك لأن هذا الحس
لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التي تعظم مفسلتها إن تمكنت من أى عضو
وردت عليه ، وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس ؛ ولأن الحواس الأخرى قد تتأدى
إليها الأشياء من غير مماسة ومن بعيد ، فيكفى أن تكون آلتها عضوا واحدا إذا أورد عليه المحسوس الذي يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت بالبدن عن جهته.
فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء ، لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها من
المفسدات. ويشبه أن تكون قوى اللمس قوى كثيرة كل واحدة منها تختص بمضادة ، فيكون ما
يدرك به المضادة التي بين الحار والبارد غير الذي يدرك به المضادة التي بين الثقيل
والخفيف. فإن هذه أفعال أولية للحس يجب أن يكون لكل جنس منها قوة
__________________
خاصة ، إلا أن هذه
القوى لما انتشرت فى جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة ، كما لو كان اللمس والذوق
منتشرين فى البدن كله انتشارهما فى اللسان لظن مبدأهما قوة واحدة ، فلما تميزا فى
غير اللسان عرف اختلافهما. وليس يجب ضرورة أن تكون لكل واحدة من هذه القوة آلة تخصها ، بل يجوز أن تكون آلة واحدة
مشتركة لها ، ويجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس ، وقد اتفق
فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية بعينها هى الواسطة. ولما كان كل واسطة يجب أن
يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يؤديه ، حتى إذا قبلها وأداها أدى شيئا جديدا ، فيقع الانفعال عنه ليقع الإحساس به. والانفعال لا
يقع إلا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس. لكن المتوسط الذي ليس هو مثلا بحار ولا
بارد يكون على وجهين : أحدهما على أنه لا حظ له من هاتين
الكيفيتين أصلا ؛ والثاني ما له حظ منهما ولكن صار فيه إلى الاعتدال ، فليس بحار
ولا بارد ، بل معتدل متوسط. ثم لم يمكن أن تكون آلة اللمس خالية أصلا عن هذه
الكيفيات ، لأنها مركبة منها ، فوجب أن يكون خلوها عن هذه الأطراف بسبب المزاج
والاعتدال لتحس ما يخرج عن القدر الذي لها. وما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى
الاعتدال ، كان ألطف إحساسا. ولما كان الإنسان أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال
كان ألطفها لمسا. ولما كان اللمس أول الحواس ، وكان الحيوان الأرضى لا
يجوز أن يفارقه ، وكان لا يكون إلا بتركيب معتدل ليحكم به بين الأضداد ؛ فبين من
هذا أنه ليس للبسائط وما يقرب منها حس البتة ولا حياة إلا النمو فى بعض ما يقرب من البسائط. فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى اللمس.
__________________
الفصل الرابع
فى الذوق والشم
وأما الذوق فإنه
تال للّمس ، ومنفعته أيضا فى الفعل الذي به يتقوم البدن وهو تشهية الغذاء واختياره
، ويجالس اللمس فى شىء وهو أن المذوق يدرك فى أكثر الأمر بالملامسة ، ويفارقه فى
أن نفس الملامسة لا تؤدى الطعم ، كما أن نفس ملامسة الحار مثلا تؤدى الحرارة ، بل
كأنه محتاج إلى متوسط يقبل الطعم ويكون فى نفسه لا طعم له وهو الرطوبة اللعابية
المنبعثة من الآلة المسماة الملعبة. فإن كانت هذه الرطوبة عديمة الطعوم أدت الطعوم بصحة وإن خالطها طعم ، كما يكون للممرورين من المرارة ، ولمن فى
معدته خلط حامض من الحموضة شابت ما تؤديه بالطعم الذي فيه فتحيله مرّا أو حامضا. ومما فيه موضع نظر هل هذه الرطوبة إنما تتوسط بأن
تخالطها أجزاء ذى الطعم مخالطة تنتشر فيها ثم تنفذ فتغوص فى اللسان حتى تخالط
اللسان فيحسه ، أو تكون نفس الرطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة
، فإن هذا موضع نظر. فإن كان المحسوس هو المخالط فليست الرطوبة بواسطة مطلقة ، بل
واسطة تسهل وصول الجوهر المحسوس الحامل للكيفية نفسها إلى الحاس وأما الحس نفسه
فإنما هو بملامسة الحاس للمحسوس بلا واسطة. وإن كانت الرطوبة تقبل الطعم
وتتكيف به فيكون المحسوس بالحقيقة أيضا هو الرطوبة ويكون أيضا بلا واسطة ، ويكون
الطعم إذا لاقى آلة الذوق أحسته ، فيكون لو كان للمحسوس الوارد من خارج سبيل إلى
المماسة الفائضة من غير هذه
__________________
الواسطة لكان ذوق
، لا كالمبصر الذي لا يمكن أن يلاقى آلة الإبصار بلا واسطة. وإذا مست الآلة
المبصرة لم تدرك البتة ، لكنه بالحرى أن تكون هذه الرطوبة للتسهيل وأنها
تتكيف وتختلط معا ، ولو كان سبيل إلى الملامسة المستقصاة من غير هذه الرطوبة لكان يكون ذوق. فإن قيل : ما بال العفوصة تذاق
وهى تورث السدد وتمنع النفوذ؟ فنقول : إنها أولا تخالط بوساطة هذه الرطوبة ثم يؤثر
أثرها من التكثيف وقد خالطت. والطعوم التي يدركها الذوق هى الحلاوة والمرارة
والحموضة والقبض والعفوصة والحرافة والدسومة والبشاعة والتفه. والتفه يشبه أن يكون
كأنه عدم الطعم ، وهو كما يذاق من الماء ومن بياض البيض. وأما هذه الأخرى فقد
تكثرت بسبب أنها متوسطات وأنها أيضا مع ما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا ، فيتركب من
الكيفية الطعمية ومن التأثير اللمسى شىء واحد لا يتميز فى الحس ، فيصير ذلك الواحد كطعم محضن متميز ، فإنه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسطة بين
الأطراف يصحبه تفريق وإسخان وتسمى جملة ذلك حرافة ،
وآخر يصحبه طعم وتفريق من غير إسخان وهو الحموضة ، وآخر يصحبه مع الطعم تجفيف
وتكثيف وهو العفوصة. وعلى هذا القياس ما قد شرح فى الكتب الطبية.
وأما الشم فإنه
وإن كان الإنسان أبلغ حيلة فى التشمم من سائر الحيوانات فإنه يثير الروائح الكامنة بالدلك ، وهذا ليس لغيره ، ويتقصى فى تجسسها
بالاستنشاق ، وهذا يشاركه فيه غيره. فإنه لا يقبل الروائح قبولا قويا حتى يحدث فى
خياله منها مثل ثابتة كما يحصل للملموسات والمطعومات. بل تكاد أن تكون رسوم
الروائح فى نفسه رسوما ضعيفة. ولذلك لا يكون للروائح عنده أسماء إلا من جهتين : إحداهما من جهة الموافقة والمخالفة بأن يقال طيبة ومنتنة ، كما لو
قيل للطعم إنه طيب وغير طيب من غير تصور فصل أو تسمية ؛ والجهة الأخرى أن يشتق لها من مشاكلتها للطعم
اسم
__________________
فيقال رائحة حلوة ورائحة حامضة ، كأن الروائح التي اعتيد مقارنتها لطعوم ما تنسب
إليها وتعرف بها. ويشبه أن يكون حال إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح
الأشياء وألوانها من الحيوانات الصلبة العين ، فإنها تكاد أن تكون إنما تدركها
كالتخيل غير المحقق وكما يدرك ضعيف البصر شبحا من بعيد. وأما كثير من
الحيوانات الصلبة العين فإنها قوية جدا فى إدراك الروائح مثل النمل ، ويشبه أن لا تحتاج أمثالها إلى التشمم والتنشق ، بل تتأدى إليها الروائح فى
الهواء.
وواسطة الشم أيضا جسم لا رائحة له كالهواء والماء يحمل رائحة
المشمومات. وقد اختلف الناس فى الرائحة ، فمنهم من زعم أنها تتأدى بمخالطة
شىء من جرم ذى الرائحة متحلل متبخر فتخالط المتوسط. ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من
المتوسط من غير أن يخالطه شىء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه. ومنهم من قال إنها
تتأدى من غير مخالطة شىء آخر من جرمه ومن غير استحالة من المتوسط. ومعنى هذا أن
الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم عديم الرائحة وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط ، بل يكون المتوسط ممكّنا من فعل
ذلك فى هذا ، على ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان ، فحرى بنا أن نحقق هذا
ونتأمله.
ولكن لكل واحد من
المدعين بشيء من هذه المذاهب حجة. فالقائل بالبخار والدخان يحتج ويقول :
إنه لو لم تكن الرائحة تسطع بسبب تحلل شىء ، ما كانت الحرارة وما يهيج الحرارة من الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح ولا كان البرد يخفيها. فبين أن الروائح إنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر
__________________
من ذى الرائحة ، يخالط الهواء وينفذ فيه ، ولهذا إذا استقصيت تشمّم التفاحة ذبلت
لكثرة ما يتحلل منها. والقائلون بالاستحالة احتجوا وقالوا : إنه لو كانت الروائح
التي تملأ المحافل إنما تكون بتحلل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه
ويقل حجمه مع تحلل ما يتحلل منه. وقال أصحاب التأدية : خصوصا
إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار يتحلل من ذى الرائحة
فيسافر مائة فرسخ فما فوقه ، ولا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد إحالة
للأجسام من النار فى تسخينها ، والنار القوية إنما تسخن ما حولها إلى حد ، وإذا
بلغ ذلك غلوة فهو أمر عظيم ، وقد نجد من وصولها الروائح
إلى بلاد بعيدة ما يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت.
فقد علم أن بلاد اليونانيين والمغاربة لا ترى فيها رخمة البتة
ولا تأوى إليها وبينها وبين البلاد المرخمة مسافة كبيرة تقارب ما ذكرناه. وقد اتفق
فى بعض السنين أن وقعت ملحمة بتلك البلاد فسافرت الرخم إلى الجيف ولا دليل لها إلا
الرائحة ، فتكون الرائحة قد دلت من مسافة بعدها بعد لا يجوز معه أن يقال إن
الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت إليه.
فنقول نحن : إنه
يجوز أن يكون المشموم هو البخار ، ويجوز أن يكون الهواء نفسه يستحيل من ذى الرائحة فيصير له رائحة فيكون حكمه أيضا حكم البخار فيكون كل شىء لطيف
الأجزاء من شأنه أن ينفذ إذا بلغ آلة الشم ولاقاها كان بخارا أو هواء مستحيلا إلى
الرائحة أحس به. وقد علمت أن كل متوسط يوصل إليه بالاستحالة ، فإن المحسوس أيضا لو
تمكن من ملاقاة الحاس لأحس به بلا واسطة. ومما يدل على أن
الاستحالة لها مدخل فى هذا الباب ، أنا مثلا نبخر الكافور تبخيرا يأتى على جوهره
كله ، فتكون منه رائحة منتشرة انتشارا إلى حد قد يمكن أن تنتشر منه تلك الرائحة فى
أضعاف ذلك الموضع بالنقل ، والوضع
__________________
جزء جزء من ذلك المكان كله حتى يتشمم منه فى بقعة ضيقة صغيرة من تلك الأضعاف مثل تلك الرائحة. فإذا كان فى كل واحدة من تلك البقاع
الصغيرة يتبخر منه شىء فيكون مجموع الأبخرة التي تتحلل منه فى جميع تلك البقاع
التي تزيد على البقعة المذكورة أضعافا مضاعفة للبخار كله الذي يكون بالتبخير أو مناسها له. فيجب أن يكون النقصان الوارد عليه فى ذلك
قريبا من ذلك أو مناسبا له ولا يكون. فبين أن هاهنا للاستحالة مدخلا.
وأما حديث التأدية
المذكورة فأمر بعيد ، وذلك لأن التأدية لا تكون إلا بنسبة
ما ونصبة للمؤدى عنه إلى المؤدى إليه. وأما الجسم ذو الرائحة فليس
يحتاج إلى شىء من ذلك ، فإنك لو توهمت الكافور قد نقل إلى حيث لا تتأدى إليك
رائحته ، بل قد عدم دفعة ، لم يمنع أن تكون رائحته بعده باقية فى الهواء ،
فذلك لا محالة لاستحالة أو مخالطة.
وأما حديث الرخم
فإنه قد يجوز أن تكون رياح قوية تنقل الروائح والأبخرة المتحللة عن الجيف إلى
المسافة المذكورة فى أعلى الجو فيحس بها ما هو أقوى حسا من الناس وأعلى مكانا مثل
الرخم وغيره. وأنت تعلم أن الروائح وإن كانت قد تصل إلى كثير من الحيوانات فوق ما
تصل إلى الناس بكثير ، فقد تتأدى إليها المبصرات من مسافات بعيدة وهى تحلق فى الجو
حتى يبلغ إبصارها فى البعد مبلغا بعيدا جدا ، وحتى يكون ارتفاعها أضعاف ارتفاع قلل
الجبال الشاهقة. وقد رأينا قلل جبال شاهقة جدا وقد جاوزنها النسور محلقة ، حتى
يكاد أن يكون ارتفاعها ضعف ارتفاع تلك الجبال. وقلل تلك الجبال قد ترى من ست أو
سبع مراحل ، وليس نسبة الارتفاع إلى الارتفاع كنسبة بعد المرئى
إلى بعد المرئى ، فإنك ستعلم فى الهندسة أن النسب فى الأبعاد
__________________
التي منها يرى
أعظم وأكبر. فلا يبعد أن تكون الرخم قد علت فى الجو بحيث ينكشف لها بعد هذه
المسافة فرأت الجيف ، فإن كان يستنكر تأدى أشباح هذه الجيف إليها فتأدى روائحها
التي هى أضعف تأديا أولى بالاستنكار. وكما أنه ليس كل حيوان يحتاج إلى تحريك الجفن والمقلة فى أن يبصر ، كذلك ليس يحتاج كل حيوان إلى استنشاق حتى يشم ، فإن كثيرا منها
يأتيها الشم من غير تشمم.
__________________
الفصل الخامس
فى حاسة
السمع
وإذا قد تكلمنا فى
أمر اللمس والذوق والشم ، فبالحرى أن نتكلم فى أمر السمع. فنقول : إن الكلام فى
أمر السمع يقتضى الكلام فى أمر الصوت وماهيته ، وقد يليق بذلك الكلام فى الصدى.
فنقول : إن الصوت ليس أمرا قائم الذات موجودا ثابت الوجود يجوز فيه ما يجوز فى
البياض والسواد والشكل من أحكام الثبات على أن يصح فرضه ممتد الوجود وأنه مثلا لم
يكن له مبدأ وجود زمانى كما يصح هذا الفرض فى غيره ، بل الصوت بين واضح من أمره
أنه أمر يحدث وأنه ليس يحدث إلا عن قلع أو قرع. أما القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما يقلع أحد شقى
مشقوق عن الآخر كخشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما يقلع أحد شقى مشقوق عن الآخر
كخشبة تنحى عليها بأن تبين أحد شقيها عن الآخر طولا. ولا تجد أيضا مع كل قرع صوتا
، فإن قرعت جسما كالصوف بقرع لين جدا لم تحس صوتا ، بل يجب أن تكون للجسم الذي
تقرعه مقاومة ما ، وأن يكون للحركة التي للمقروع به إلى المقروع عنف صادم ،
فهناك يحس. وكذلك أيضا إذا شققت شيئا يسيرا يسيرا وكان الشىء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت البتة. والقرع بما هو
قرع لا يختلف. والقلع أيضا بما هو قلع لا يختلف. لأن أحدهما إمساس والآخر تفريق ،
لكن الإمساس يخالف الإمساس بالقوة والسرعة ، والتفريق أيضا يخالف التفريق بمثل
ذلك. ولأن كل صائر إلى مماسة شىء فيجب أن يفرغ لنفسه مكان جسم آخر كان
__________________
مماسا له لينتقل
إليه ، وكل مقلوع عن شىء فقد يفرغ مكانه حتى يصار إليه. وهذا الشىء
الذي فيه هذه الحركات شىء رطب سيال لا محالة إما ماء وإما هواء ، فتكون مع كل قرع
وقلع حركة للهواء أو ما يجرى مجراه إما قليلا قليلا وبرفق ، وإما دفعة على سبيل
تموج أو انجذاب بقوة. وقد وجب هاهنا شىء لا بد أن يكون موجودا عند حدوث الصوت وهو حركة
قوية من الهواء أو ما يجرى مجراه ، فيجب أن يتعرف هل الصوت هو نفس القرع أو القلع
، أو حركة موجية تعرض للهواء من ذلك ، أو شىء ثالث يتولد من
ذلك أو يقارنه. أما القلع والقرع فإنهما يحسان بالبصر بتوسط اللون ولا شىء
من الأصوات يحس بتوسط اللون ، فليس القلع والقرع بصوت ، بل إن كان ولا بد فسببا
الصوت. وأما الحركة فقد يتشكك فى أمرها ، فيظن أن الصوت نفس تموج الهواء. وليس كذلك أيضا ،
فإن جنس الحركة يحس أيضا بسائر الحواس ، وإن كان بتوسط محسوسات أخر. والتموج الفاعل للصوت قد يحس حتى يؤلم ، فإن صوت الرعد يعرض منه أن تدك الجبال ، وربما ضرب حيوانا فأفسده. وكثيرا ما يستظهر على هدم
الحصون العالية بأصوات البوقات ؛ بل حس اللمس ، كما أشرنا إليه قبل أيضا قد ينفعل
من تلك الحركة من حيث هى حركة ولا يحس الصوت ، ولا أيضا من فهم أن شيئا حركة فهم
أنه صوت. ولو كانت حقيقة الصوت حقيقة الحركة ، لا أنه
أمر يتبعها ويلزم عنها ، لكان من عرف أن صوتا عرف أن حركة ، وهذا ليس بموجود. فإن
الشىء الواحد النوعى لا يعرف ويجهل معا إلا من جهتين وحالين ، جهة كونه صوتا فى ماهيته ونوعيته ، ليس جهة كونه حركة فى ماهيته ونوعيته. فالصوت إذن عارض يعرض من هذه الحركة الموصوفة يتبعها ، ويكون معها ، فإذا
انتهى التموج من الهواء أو الماء إلى الصماخ ـ وهناك
تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهى إليه ووراءه كالجدار مفروش عليه العصب
الحاس للصوت ـ أحس بالصوت.
__________________
ومما يشكل من أن الصوت هل هو شىء موجود من خارج تابع لوجود الحركة أو
مقارن أو إنما يحدث من حيث هو صوت إذا تأثر السمع به ، فإنه للمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له من خارج ، وأنه يحدث فى الحس من ملامسة الهواء
المتموج ، بل كل الأشياء التي تلامس ذلك الموضع باللمس أيضا تحدث فيه صوتا ، فهل ذلك الصوت حادث بتموج الهواء الذي فى الصماخ أو
لنفس المماسة.
وهذا أمر يصعب
الحكم فيه ، وذلك لأن نافى وجود الصوت من خارج لا يلزمه ما يلزم نافى باقى الكيفيات الأخرى المحسوسة ، لأن هذا له أن يثبت
للمحسوس الصوتى خاصية معلومة هى تفعل الصوت ، وتلك الخاصية هى التموج ، فتكون نسبة
التموج من الصوت نسبة الكيفية التي فى العسل إلى ما يتأثر منه فى الحس. لكنه يختلف
الأمر هاهنا ، لأن الأثر الذي يحصل من العسل فى الحاسة ومن النار فى الحاسة هو من جنس ما فيهما.
ولذلك فإن الذي يمس الحرارة قد يسخن
أيضا غيره إذا ثبت فيه الأثر. وليس الصوت والتموج حالهما هكذا ، فإن التموج شىء والصوت شىء ، والتموج يحس بآلة أخرى وتلك الكيفية لا تحس بآلة
أخرى. وليس يجب أيضا أن يكون كل ما يؤثر أثرا ففى نفسه مثل ذلك الأثر. فيجب أن
تتعرف حقيقة الحال فى هذا.
فنقول : مما يعين
على معرفة أن العارض المسموع له وجود من خارج أيضا أنه لو كان إنما يحدث فى الصماخ
نفسه لم يخل إما أن يكون التموج الهوائى يحس بالسمع من حيث هو تموج أو لا يحس. فإن
كان التموج الهوائى يحس بالسمع ـ لست أقول يحس بلمس آلة السمع ـ حسا من حيث هو
تموج ، فإما أن يحس به أولا أو بتوسط الصوت. فلو
__________________
كان يحس به أولا ،
والمحسوس الأول بالسمع هو الصوت وهذا مما لا شك فيه ، كان التموج من حيث هو تموج صوتا ، وقد أبطلنا هذا. ولو كان يحس به بتوسط الصوت ، لكان كل من سمع الصوت علم أن تموجا ، كما أن كل
من أحس لون المربع والمربع بتوسطه علم أن هناك مربعا وليس كذلك ، وإن كان إنما يحس
باللمس أيضا عرض منه ما قلنا. فإذن ليس بواجب أن يحس التموج عند سماع الصوت.
فلننظر ما يلزم بعد هذا.
فنقول : إن الصوت
كما يسمع تسمع له جهته ، فلا يخلو إما أن تكون الجهة تسمع لأن الصوت مبدأ تولده
ووجوده فى تلك الجهة ومن هناك ينتهى ، وإما لأن المنتقل المتأدى إلى الأذن الذي لا
صوت فيه بعد أن يفعل الصوت إذا اتصل بالأذن ينتقل من تلك الجهة ويصدم من تلك الجهة
فيخيل أن الصوت ورد من تلك الجهة ، وإما للأمرين جميعا. فإن كان
لأجل المنتقل وحده ، فمعنى هذا هو أن المنتقل نفسه محسوس ،
فإنه إذا لم يشعر به كيف يشعر بجهة مبدئه. فيلزم أن يحس بالسمع عند إدراك جهة
الصوت تموج الهواء. وقد قلنا : إن ذلك ليس بواجب وإن كان لأجلهما جميعا ، عرض من
ذلك هذا المحال أيضا ، وصح أن الصوت كان يصحب التموج ، فبقى أن يكون ذلك لأن الصوت نفسه تولد هناك ومن هناك انتهى. ولو كان الصوت إنما يحدث فى الأذن
فقط ، لكان سواء أتى سببه من اليمين أو اليسار ، وخصوصا وسببه لا يحس به. وهاهنا مؤثر
فيه مثل نفسه فلا تدرك جهته لأنه إنما يدرك عند وصوله فكيف ما لا حدوث له إلا عند
وصول سببه. فقد بان أن للصوت وجودا ما من خارج لا من حيث هو مسموع بالفعل ، بل من
حيث هو مسموع بالقوة ، وأمر كهيئة ما من الهيئات للتموج غير نفس التموج.
ويجب أن نحقق
الكلام فى القارع والمقروع فنقول : إنه لا بد فى القرع من حركة قبل القرع وحركة
تتبع القرع ، فأما الحركة قبل القرع فقد تكون من
__________________
أحد الجسمين وهو الصائر إلى الثاني ، وقد تكون من كليهما ، ولا بد من قيام كل
واحد منهما أو أحدهما فى وجه الآخر قياما محسوسا. فإنه إن اندفع أحدهما كما يمس ،
بل فى زمان لا يحس ، لم يكن صوت. والقارع والمقروع كلاهما فاعلان للصوت ، لكن
أولاهما به ما كان أصلبهما وأشدهما مقاومة ، فإن حظه فى ذلك أشد ، وأما الحركة
الثانية فهو انفلات الهواء وانضغاطه بينهما بعنف ، والصلابة تعين على شدة ضغط
الهواء والملاسة أيضا لئلا ينتشر الهواء فى فرج الخشونة. والتكاثف أولى بذلك لئلا
ينفذ الهواء فى فرج التخلخل. وربما كان الجسم المقروع فى غاية الرطوبة واللين ،
لكنه إذا حمل عليه بالقوة وكلف الهواء المتوسط أن ينفذ فيه أو ينضغط فيما بينهما لم يكن ذلك الجسم أيضا بحيث يمكن الهواء المتوسط أن ينفذ
فيه ويشقه فى زمان قصير ، بل قاوم ذلك فلم يندفع فى وجه ذلك الهواء المتوسط ، بل وقاوم أيضا القارع ،
لأن القارع كان يسومه انخراقا كثيرا فى زمان قصير جدا. وليس ذلك فى قوة القابل
ولا فى قوة الفاعل القارع ، فامتنع من الانخراق ، فقام فى وجه القارع وضغط معه المتوسط فكانت المقاومة فيه مكان الصلابة. وأنت تعلم هذا إذا اعتبرت إمرارك
السوط فى الماء برفق ، فإنه يمكنك أن تشقه شقا من حيث لا تلزمك فيه مؤونة ، فإن استعجلت استعصى عليك وقاوم. فالهواء أيضا كذلك ، بل
قد يجوز أن يكون الهواء نفسه يصير جزء منه مقاوما وجزء بينه
وبين المزاحم القارع منضغطا ، بل يجوز أن يصير الهواء أجزاء ثلاثة : جزء منه قارع
كالريح ، وجزء مقاوم ، وجزء منضغط فيما بينهما على هيئة من التموج. وليست الصلابة والتكاثف علة أولية لإحداث هذا التموج ،
بل ذلك لهما من حيث يعينان على المقاومة. والعلة الأولية هى
__________________
المقاومة ، فالصوت
يحدث من تموج الجسم الرطب السيال منضغطا بين جسمين متصاكين متقاومين من حيث هو كذلك.
وكما أن الماء والهواء والفلك تشترك فى طبيعة أداء الألوان ، وتلك الطبيعة لها اسم
وهو الشفيف ، فكذلك الماء والهواء لهما معنى يشتركان فيه من حيث يحدث فيهما الصوت
، وليكن اسمه قبول التموج ، وليس ذلك من حيث المتوسط ماء أو
هواء كما أن الإشفاف لم يكن من حيث المتوسط فلك أو هواء. ويشبه أن يكون الماء والهواء لهما أيضا من حيث يؤديان الرائحة أو
الطعم معنى كذلك لا اسم له. فلتكن للرطوبة المؤدية للطعم العذوبة ، وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له. فلتكن
للرطوبة المؤدية للطعم العذوبة ، وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له.
وأما الصدى فإنه
يحدث من تموج يوجبه هذا التموج ، فإن هذا التموج إذا قاومه شىء من الأشياء كجبل أو جدار حتى وقفه ، لزم أن ينضغط أيضا بين هذا التموج
المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل ، وبين ما يقرعه هواء آخر يرد ذلك ويصرفه إلى خلف
بانضغاطه فيكون شكله الشكل الأول وعلى هيئته ، كما يلزم الكرة المرمى بها الحائط أن تضطر الهواء إلى التموج فيما بينهما وأن ترجع
القهقرى. وقد بينا فيما سلف ما العلة فى رجوع تلك الكرة قهقرى ، فلتكن هى العلة فى
رجوع الهواء ، وقد بقى علينا أن ننظر هل الصدى هو صوت يحدث بتموج الهواء الذي هو
التموج الثاني ، أو هو لازم لتموج الهواء الأول المنعطف النابى نبوا فيشبه أن يكون هو تموج الهواء المنعطف النابى ، ولذلك يكون على صفته وهيئته ، وأن لا يكون
القرع الكائن من هذا الهواء يولد صوتا من تموج هواء ثان يعتد به. فإن قرع مثل هذا
الهواء قرع ليس بالشديد ، ولو كان شديدا
__________________
بحيث يحدث صوتا
لأضر بالسمع. ويشبه أن يكون لكل صوت صدى ولكن لا يسمع ، كما أن لكل ضوء عكسا ،
ويشبه أن يكون السبب فى أن لا يسمع الصدى فى البيوت والمنازل فى أكثر الأمر أن
المسافة إذا كانت قريبة بين المصوت وبين عاكس الصوت
لم يسمعا فى زمانيين متباينين ، بل يسمعان معا كما يسمع صوت القرع الذي معه وإن كان بعده بالحقيقة. وأما إذا كان العاكس بعيدا
فرق الزمان بين الصوتين تفريقا محسوسا ، وإن كان صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس
منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما فى الحمامات. ويشبه أن يكون هذا هو السبب
فى أن يكون صوت المغنى فى الصحراء أضعف وصوت المغنى تحت السقوف أقوى لتضاعفه
بالصدى المحسوس معه فى زمان كالواحد. ويجب أن يعلم أن
التموج ليس هو حركة انتقال من هواء واحد بعينه ، بل كالحال فى تموج الماء يحدث
بالتداول بصدم بعد صدم مع سكون قبل سكون ، وهذا التموج الفاعل للصوت سريع لكنه ليس
يقوى الصك.
ولمتشكك أن يتشكك
فيقول : إنه كما قد تشككتم فى اللمس فجعلتموه قوى كثيرة لأنه يدرك متضادات كثيرة ، فكذلك السمع أيضا يدرك المضادة التي بين الصوت الثقيل والحاد ، ويدرك
المضادة التي بين الصوت الخافت والجهير والصلب والأملس
والمتخلل والمتكاثف ، وغير ذلك. فلم لا تجعلونه قوى؟ فالجواب عن ذلك أن محسوسه الأول هو الصوت ، وهذه أعراض تعرض لمحسوسه الأول بعد أن يكون صوتا.
وأما هناك فكل واحدة من المتضادات تحس لذاتها ، لا بسبب الآخر. فليكن هذا
المبلغ فى تعريف الصوت والإحساس به كافيا.
__________________
المقالة الثالثة
فى الإبصار
ثمانية فصول
__________________
الفصل الأول
فى الضوء والشفيف واللون
وحرى بنا الآن أن نتكلم فى الإبصار ، والكلام فيه يقتضى الكلام فى الضوء والمشف واللون وفى كيفية الاتصال الواقع بين الحاس والمحسوس البصرى ؛
فلنتكلم أولا على الضوء فنقول : إنه يقال ضوء ويقال نور ويقال شعاع ، ويشبه أن لا
يكون بينها فى وضع اللغة كثير تفاوت ، لكنا نحتاج فى استعمالنا إياها
أن نفرق بينها لأن هاهنا معانى ثلاثة متقاربة : أحدها الكيفية التي
يدركها البصر فى الشمس والنار من غير أن يقال إنه سواد أو بياض أو حمرة أو شىء من
هذه الألوان. والثاني الأمر الذي يسطع من هذا الشىء فيتخيل أنه يقع على الأجسام
فيظهر بياض وسواد وخضرة ، والآخرة الذي يتخيل على الأجسام كأنه يترقرق وكأنه يستر
لونها وكأنه شىء يفيض منها ، فإن كان فى جسم قد استفاد ذلك من جسم آخر سمى بريقا
كما يحس فى المرآة وغيرها ، وإن كان فى الجسم الذي له بذاته سمى
شعاعا. ولسنا نحتاج الآن إلى الشعاع والبريق ، بل نحتاج إلى القسمين الأولين ،
فليكن أحدهما ـ وهو الذي للشىء من ذاته ـ ضوءا ، وليكن المستفاد نورا. وهذا الذي نسميه ضوءا مثل الذي للشمس والنار ، فهو المعنى الذي يرى لذاته. فإن الجرم الحامل لهذه
الكيفية إذا وجد بين البصر وبينه شىء كالهواء والماء رؤى ضرورة
__________________
من غير حاجة إلى
وجود ما يحتاج إليه الجدار الذي لا يكفى فى أن يرى على ما هو عليه وجود الهواء
والماء وما يشبههما بينه وبين البصر ، بل يحتاج إلى أن يكون الشىء الذي سميناه
نورا قد غشيه حتى يرى حينئذ ، ويكون ذلك النور تأثيرا من جسم ذى ضوء فيه إذا قابله
وكان بينهما جسم ليس من شأنه أن يحجب تأثير المضيء فى قابل النور كالهواء والماء
فإنه يعين ولا يمنع.
فالأجسام بالقسمة
الأولى على قسمين : جسم ليس من شأنه هذا الحجب المذكور وليسم الشاف ، وجسم من شأنه
هذا الحجب كالجدار والجبل. والذي من شأنه هذا الحجب فمنه ما من شأنه أن يرى من غير
حاجة إلى حضور شىء آخر بعد وجود المتوسط الشاف ، وهذا هو المضيء كالشمس والنار
ومثله غير شفاف ، بل هو حاجب عن إدراك ماوراءه. فتأمل إظلال
المصباح عن المصباح ، فإن أحدهما يمنع أن يفعل الثاني
فيما هو بينهما ، وكذلك يحجب البصر عن رؤية ماوراء. ومنه ما يحتاج إلى حضور شىء
آخر يجعله بصفة وهذا هو الملون. فالضوء كيفية القسم الأول من حيث هو كذلك ، واللون كيفية
القسم الثاني من حيث هو كذلك. فإن الجدار لا يمكن المضيء أن ينير شيئا خلفه ، ولا هو بنفسه منير ، فهو الجسم الملون بالقوة ، واللون بالفعل
إنما يحدث بسبب النور ، فإن النور إذا وقع على جرم ما حدث فيه بياض بالفعل أو سواد
أو خضرة أو غير ذلك. فإن لم يكن كان أسود فقط مظلما ، لكنه بالقوة ملون إن عنينا
باللون بالفعل هذا الشىء الذي هو بياض وسواد وحمرة وصفرة وما أشبه ذلك. ولا يكون
البياض بياضا والحمرة حمرة إلا أن تكون على الجهة التي نراها ولا تكون على هذه
الجهة إلا أن تكون منيرة. ولا يظن أن البياض على الجهة التي نراها والحمرة وغير ذلك يكون موجودا بالفعل فى
الأجسام ، لكن الهواء المظلم يعوق عن إبصاره ، فإن الهواء نفسه لا يكون
مظلما إنما المظلم هو الذي هو المستنير. والهواء نفسه وإن كان
__________________
ليس فيه شىء مضىء
فإنه لا يمنع إدراك المستنير ولا يستر اللون إذا كان موجودا فى الشىء. تأمل كونك
فى غار وفيه هواء كله على الصفة التي تظنه أنت مظلما ، فإذا وقع النور فى جسم خارج
موضوع فى الهواء الذي تحسبه نيرا فإنك تراه ، ولا يضرك الهواء المظلم الواقف بينك
وبينه ، بل الهواء عندك فى الحالين كأنه ليس بشيء ، وأما الظلمة فهى حال أن لا ترى شيئا وهو أن لا تكون الكيفيات التي إذا كانت موجودة فى الأجرام التي
لا تشف صارت مستنيرة فهى مظلمة ، وبالقوة فلا تراها ، ولا ترى الهواء فيتخيل لك ما
يتخيل لك إذا أغمضت عينيك وسترتهما فتتخيل لك ظلمة مبثوثة تراها ، كما يكون من حالك وأنت محدق فى هواء مظلم وليس كذلك ، ولا أنت ترى وأنت مغمض
هواء مظلما أو ترى ما ترى من الظلمة شيئا فى جفونك إنما ذلك أنك لا ترى.
وبالجملة فإن
الظلمة عدم الضوء فيما من شأنه أن يستنير ، وهو
الشىء الذي قد يرى ، لأن النور مرئى وما يكون فيه النور مرئى ، والشاف لا يرى
البته ، فالظلمة هى فى محل الاستنارة وكلاهما أعنى المحلين جسم لا يشف. فالجسم
الذي من شأنه أن يرى لونه إذا كان غير مستنير كان مظلما ، ولم يكن فيه بالحقيقة
لون بالفعل ، ولم يكن ما يظن أن هناك ألوانا ولكنها مستورة بشيء فيه بالحقيقة لون
بالفعل ، ولم يكن ما يظن أن هناك ألوانا ولكنها مستورة بشيء ، فإن الهواء لا يستر
وإن كان على الصفة التي يرى مظلما إذا كانت الألوان بالفعل. لكنه إن سمى إنسان
الاستعدادات المختلفة التي تكون فى الأجسام التي إذا استنارت صار واحد منها الشىء
الذي تراه بياضا والآخر حمرة ألوانا ، فله ذلك ، إلا أنه يكون باشتراك الاسم. فإن
البياض بالحقيقة هو هذا الذي يكون على الصفة التي ترى ، وهذا لا يكون موجودا وبينك
وبينه شفاف لا يشف ، لأن الشفاف قد يكون شفافا بالفعل وقد يكون شفافا بالقوة ، وليس
يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى استحالة فى نفسه ، بل إلى استحالة فى غيره أو إلى
حركة فى غيره. وهذا مثل المسلك والمنفذ فإنه لا يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى
__________________
أمر فى نفسه ، بل
إلى وجود السالك والنافذ بالفعل. فأما الاستحالة التي
يحتاج إليها الشفاف بالقوة إلى أن يصير شفافا بالفعل ، فهى استحالة الجسم الملون إلى
الاستنارة وحصول لونه بالفعل. وأما الحركة فأن يتحرك الجسم المضيء إليه من غير
استحالة فيه ، وقد عرفت كنه هذا فيما سلف. فإذا حصل أحد هذين تأدى المرئى فصار هذا شفافا بالفعل لوجود غيره. فحرى بنا أن نحقق أمر هذا
التأدى ، إلا أن الواجب علينا أن نؤخر الأمر فيه إلى أن نذكر شكوكا تعرض فيما
قلناه يسهل من حلها تصحيح ما قلناه.
__________________
الفصل الثاني
فى مذاهب وشكوك فى أمر النور والشعاع. وفى
ان النور ليس بجسم بل هو كيفية تحدث فيه
من الناس من ظن أن النور الذي يشرق من المضيء على الأجسام ليس كيفية تحدث فيها
بل أجساما صغارا تكون منفصلة من المضيء فى الجهات ملازمة
لأبعاد مفروضة عنه تنتقل بانتقاله فتقع على الأجسام فتستضيء بها. ومن الناس من ظن
أن هذا النور لا معنى له البتة وإنما هو ظهور من الملون ، بل من الناس من ظن أن الضوء فى الشمس ليس إلا شدة ظهور لونها ، لكنه يغلب البصر.
فيجب علينا أولا أن نتأمل الحال فى هذه المذاهب. فنقول : إنه لا يجوز أن يكون هذا النور
والشعاع الواقع على الأجسام من الشمس والنار أجساما حاملة لهذه الكيفية المحسوسة ،
لأنها إما أن تكون شفافة فلا يخلو إما أن يزول شفيفها بتراكمها كما تكون الأجزاء
الصغار من البلور شفافة ويكون الركام منها غير شفاف ، وإما أن لا يزول شفيفها. فإن
كانت شفافة لا يزول شفيفها لم تكن مضيئة ، إذ قد فرغنا من الفرق بين الشفاف وبين المضيء
؛ وإن كانت تعود بالارتكام غير شفافة كان ارتكامها يستر ما تحتها ، وكلما ازدادت
ارتكاما ازدادت سترا ، والضوء كلما ازداد ارتكاما ـ لو كان له ارتكام ـ
__________________
ازداد إظهارا
للون. وكذلك إذا كانت هذه المضيئات فى الأصل مضيئات غير شفافة ،
كالنار وما أشبهها. فبين إن الشعاع المظهر للألوان ليس بجسم ، ثم لا يجوز أن يكون
جسما ويتحرك بالطبع إلى جهات مختلفة. ثم إن كانت هى أجساما تنفصل من المضيء وتلقى
المستنير ، فإذا غمت الكوة ثم يخل إما أن يتفق لها أن تعدم أو تستحيل أو تسبق الغام.
والقول بسبق الغام اعتساف ، فإن ذلك أمر يكون دفعة. والعدم أيضا بالستر من ذلك الجنس ، فإنه كيف يحكم أن جسما إذا تخلل بين جسمين عدم أحدهما.
وأما الاستحالة فتوجب ما قلناه وهى أنها تستنير بمقابلة النير ، فإذا غم استحالت. فما الحاجة إن كان الأمر على هذا إلى
مسافرة أجسام من جهة النير ، ولم لا تكون هذه الأجسام تستحيل بنفسها بالمقابلة تلك
الاستحالة.
وأما الحجة التي يتعلق بها أصحاب الشعاع فمن ذلك قولهم : إن الشعاع لا محالة ينحدر من
عند الشمس ويتجه من عند النار ، وهذه حركة ، ولا حركة إلا للجسم. وأيضا فإن الشعاع ينتقل بانتقال المضيء والانتقال للجسم.
وأيضا فإن الشعاع يلقى شيئا فينعكس عنه إلى غيره والانعكاس حركة جسمانية لا محالة.
وهذه القياسات كلها فاسدة ، ومقدماتها غير صحيحة ، فإن قولنا : الشعاع ينحدر أو
يخرج أو يدخل ، ألفاظ مجازية ليس من ذلك الشىء ، بل الشعاع يحدث فى المقابل دفعة.
ولما كان يحدث عن شىء عال توهم كأنه ينزل ، وأن يكون على سبيل الحدوث فى
ظاهر الحال أولى من النزول ، إذ لا يرى البتة فى الطريق ولا يحتاج إلى زمان محسوس.
فلا يخلو إما أن يكون البرهان دل على انحداره ، وأنى لهم بذلك ، وإما أن يكون الحس هو الدال عليه ،
__________________
وعليه معولهم.
وكيف يدل الحس على حركة متحرك لا يحس بزمانه ولا يحس فى وسط المسافة.
وأما حديث انتقال
الشعاع ، فليس هو بأكثر من انتقال الظل. فيجب أن يكون الظل أيضا جسما ينتقل. وليس
ولا واحد منهما بانتقال ، بل بطلان وتجدد. فإنه إذا تجددت الموازاة تجدد ذلك ، فإن ارتكب مرتكب أن الظل أيضا ينتقل فليس يخلو إما
أن ينتقل على النور وإما أن يكون النور ينتقل أمامه وخلفه ، فإن كان ينتقل على
النور ويغطى النور ، فلنفرض النور المغشى لجميع الأرض لا انتقال له وإنما يغطيه
الظل ، فيكون دعوى انتقال النور قد فسد. وإن كان النور ينتقل أمام الظلمة حتى
تنتقل الظلمة فلنفرض المضيء واقفا ، ومعلوم أنه إذا كان وافقا وقف معه النور ،
وهذا يدعو إلى أن تكون حركة ذى الظل سببا لطرد النور ، ويمكن عدة
منهم أن يطردوا النور أيضا من الجهات المختلفة والمضيء واقف فيظلم الموضع حينئذ ،
أو يكون للنور إذا هرب من الظل طفر من خلف فعاد إلى حيث فارقه الظل ،
وهذه كلها خرافات ، بل لا الظل يفسخ النور ولا هو ولا النور بجسم ، وإن كان لهما
انتقال فذلك بالتجدد لا أن شيئا واحدا بعينه ينتقل.
وانعكاس الشعاع
أيضا لفظ مجازى ، فإن من شأن الجسم إذا استنار وكان صقيلا أن يستنير عنه أيضا جسم
يحاذيه من غير انتقال البتة. وأما المذهب الآخر وهو المذهب الذي لا يرى لهذا النور
معنى ، بل يجعله اللون نفسه إذا ظهر ظهورا بينا ، فإن لأصحابه أن يقولوا : إن الذي
يفسر فى هذا الباب ما يتخيل مع اللون من بريق يلزم الملونات
وليس ذلك البريق شيئا فى المرئى نفسه ، بل أمر يعرض للبصر بالمقايسة بين ما هو أقل
ضوءا وما هو أشد ضوءا. وشدة ظهور اللون لشدة تأثير الشىء المضيء
، فإن الإنارة التي من السراج أقل قليلا من الإنارة التي من القمر ، والإنارة التي
من القمر الذي هو الفخت أقل قليلا من الإنارة التي
__________________
فى البيوت
المستورة نهارا عن الشمس ، بل عن المواضع ذوات الظل التي ليس فيها
شعاع الشمس. وذلك لأن الفخت يبطل فى ظل البيوت إذا طلعت الشمس فيتلاشى ، ويكون ما يبصر فيها أقوى مما يبصر فى الفخت ، والناس لا يرون لما كان فى الظل وإن كان منيرا براقية وشعاعية البتة ،
ويرون أن نور السراج يفعل فى الأجسام بريقا ، ونور القمر فى الليل يفعل ذلك ، وذلك بالقياس إلى الظلمة الليلية. فإن الظلمة الليلية تخيل ذلك
القدر أنه شعاع براق ، وليس ذلك إلا ظهورا ما من اللون. والذي للشمس أقوى وأشد
تأثيرا. فليرنا مرى من مثبتى شىء سوى اللون أن
على الحائط الأبيض شيئا غير البياض وغير ظهوره يسمى ذلك الشىء
شعاعا. فإن قايس مقايس ذلك بالظل على الحائط ، فذلك الظل بسبب ظلمة ما يخفى لنا من البياض ما كان يجب أن يظهر ، وكأنه خلط من الظلمة التي
لا معنى لها إلا خفاء أو زيادة خفاء. كما أن النور لا معنى له إلا ظهور أو زيادة ظهور.
ومن هؤلاء قوم يرون
أن الشمس ليس ضوؤها إلا شدة ظهور لونها ، ويرون أن اللون إذا بهر البصر لشدة ظهوره
رؤى بريق وشعاع يخفى اللون لعجز البصر لا لخفائه فى نفسه ، وكأنه يفتر البصر عن
إدراك الجلى ، فإذا انكسر ذلك رؤى لون.
قالوا : والحيوانات التي تلمع فى الليل إذا لمعت لم يحس لونها البتة وإذا كان نهارا كان لها لون ظاهر ولم يكن فيها لمعان ، فذلك اللمعان هو بسبب
شدة ظهور ألوانها لا غير حتى يرى فى الظلمة ، ويكون فى غاية القوة حين يظهر فى الظلمة فيبهر البصر إذا كانت الظلمة أضعفته ، فإذا أشرقت الشمس غلب
__________________
ظهورها ظهور ذلك فعاد لونها. والبصر لم يتحير له ، لأن البصر قد اعتاد لقاء الظاهرات
واشتد بطلوع الشمس.
ومنهم من قال :
ليس الأمر على هذه الصفة ، بل الضوء شىء واللون شىء. لكنه من شأن الضوء إذا غلب
على البصر أن يستر لون ما فيه. والشمس أيضا لها لون ، ومع اللون ضوء فيستر الضوء
اللون باللمعان كما للقمر ، وكما للسنجة السوداء الصقيلة
إذا لمعت رؤيت مضيئة ولم ير سوادها.
قالوا : وهذا غير
النور. فإن النور هو ظهور اللون لا غير ، والضوء ليس هو ظهور اللون بل شىء آخر وقد يخفى اللون. وإن هذه اللوامع
فى الليل يظهر نورها فى الظلمة فيخفى لونها ، وإذا ظهرت الشمس
غلب نورها وخفى وظهر لونها. فبالحرى أن نتأمل هذا المذهب مع فروعه المذكورة.
__________________
الفصل الثالث
فى تمام
مناقضة المذاهب
المبطلة لأن يكون
النور شيئا غير اللون الظاهر وكلام فى الشفاف واللامع
فنقول : إن ظهور
اللون يفهم منه فى هذا الموضع معنيان :
أحدهما صيرورة
اللون بالفعل ، والآخر ظهور لون موجود بنفسه بالفعل للعين. والمعنى الأول يدل على
حدوث اللون أو وجوده لونا ، والمعنى الثاني يدل على حدوث نسبة اللون أو وجود تلك النسبة. وهذا الوجه الثاني ظاهر الفساد. فإن ظن أن النور نفس نسبة اللون إلى
البصر ، فيجب أن يكون النور نسبة أو حدوث نسبة ولا وجود ولا قوام له فى نفسه. وإن عنى به أنه مصير اللون بحيث
لو كان بصرا لرآه أو كونه كذلك ، فإما أن يكون هذا نفس اللون أو معنى يحدث
إذا زال معنى من خارج كزوال ستر أو غيره. فإن كان نفس اللون كان
هذا هو الوجه الأول ، وإن كان حالا تعرض له بها يظهر فيكون الضوء غير اللون. وأما المعنى الأول فلا يخلو أيضا. إما أن يعنى
بالظهور خروج من القوة إلى الفعل فلا يكون الشىء مستنيرا بعد ذلك الآن الواحد ، وإما أن يعنى به نفس اللون ، فيكون قوله الظهور لا معنى له أيضا ، بل يجب أن يقال : إن الاستنارة هو اللون ،
__________________
أو يعنى به حال
تقارن اللون إما دائما وإما وقتا ما ، حتى يكون اللون شيئا يعرض له النور تارة
وتعرض له الظلمة أخرى. واللون فى الحالين موجود بالفعل ، فإن كان نفس نسبته إلى ما يظهر له عاد إلى المذهب الآخر ، وإن كان
شيئا آخر عاد إلى ذلك أيضا.
فإن قررنا الأمر
على أن الضوء وإن كان نفس اللون فيكون كأن الضوء ، هو اللون نفسه إذا كان بالفعل ،
فلا يخلو إما أن يكون الضوء مقولا على كل لون بالفعل ، أو يكون البياض وحده لونا.
فيكون السواد ظلمة. فيستحيل أن يكون الجسم الأسود مشرقا بالضوء ، لكن هذا ليس بمستحيل ، فإن الأسود يشرق وينور غيره فليس الضوء هو البياض وحده ، وإن لم يكن الضوء هو البياض وحده ، بل كل لون كان بعض ما هو
ضوء يضاد بعض ما هو ضوء ، ولكن الضوء لا يقابله إلا الظلمة ، هذا خلف. وأيضا فإن
المعنى الذي به الأسود مضىء غير سواده لا محالة ، وكذلك هو غير البياض ، واللون
أعنى طبيعة جنسه الذي فى السواد هو نفس السواد ، واللون الذي فى البياض هو نفس
البياض لا عارضا له ، فليس اللون المطلق الجنسى هو الضوء. وأيضا فإن الضوء قد
يستنير به الشفاف ، كالماء والبلور إذا كان فى ظلمة فوقع عليه الضوء وحده دل
عليه وأشف ، فهذا ضوء وليس بلون. وأيضا فإن الشىء
يكون مضيئا وملونا ، فتارة يشرق منه على شىء آخر الضوء وحده كما يشرق على ماء أو
حائط ، وتارة يشرق منه إذا كان قويا الضوء مع اللون جميعا حتى يحمر الماء أو
الحائط الذي يشرق عليه أو يصفره. فلو كان الضوء ظهور اللون وكانت الظلمة خفاء
اللون ، لكان تأثير اللون الأحمر فيما يقابله حمرة لا بريقا ساذجا ، فإن كان هذا
ظهور لون آخر ، فلم إذا اشتد فعل فيما يقابله إخفاء لونه بأن ينقل لون هذا القوى
اللون إليه. وعلى أن مذهب هذا الإنسان يوجب أن الخضرة أو الحمرة
__________________
وغير ذلك مختلطة
من ظهورات بياضية وخفاءات سوادية ، فيلزم من ذلك أنه إذا كان جسم ظاهر اللون
بشعاع وقع عليه ثم انعكس على المعنى الذي نفهمه ضوء جسم آخر ذى لون أن لا يقع لونه عليه
، لأنه لا يخلو إما أن يكون هذا المستنير المنير لغيره الأجزاء الظاهرة اللون وحدها أو مع غيرها ، فإن كانت وحدها فهى إنما توجب ظهور اللون فى تلك بأن تبيض لإخفاء اللون بأن تحمر أو تخضر ، وإن كانت مع غيرها حتى كانت
الظاهرة اللون والخفية اللون تفعلان جميعا هذه إخفاء وتلك إظهارا. فيكون لخفاء اللون تأثير فى المقابل. لكن خفاء اللون
ليس له هذا التأثير ، ألا ترى أنه إذا كان خفاء لون مجرد لم يؤثر فيما يقابله كما
يؤثر ظهور اللون الذي يقولون به لو كان مفردا؟
فإن قالوا : إن
اللون ظهور الحمرة أيضا والخضرة وغير ذلك من حيث هو حمرة وخضرة وإن الخضرة إذا اشتد ظهورها فعلت مثل نفسها ففعلت خضرة وحمرة. فيقال : ما باله إذا كان قليل الظهور أظهر اللون فيما يقابله على ما هو عليه على المعنى الذي هو ضوء مجرد فقط ، وفعل مثل ما يفعله
مضىء لو لم يكن له لون ، فإذا اشتد ظهوره أبطله أو أخفاه بلون نفسه ، فكان يجب أول الأمر أن يكون إنما يفعل فيه لونا من لونه قليلا ،
ثم إذا اشتد فعل فيه كثيرا ، وكان كل فعل يفعله إنما هو إخفاء لون ذلك بمزجه بلونه وليس كذلك ، بل يظهر أول شىء
لونه إظهارا
__________________
شديدا. وإنما يظهر
فيه اللون الذي فى استعداده ما لو حضر مضىء لا خضرة ولا حمرة فى فعله ، ثم يعود
بعد ذلك إذا صار أقوى ظهورا آخذا فى إبطال لونه
وإخفائه وإلباسه لونا آخر ليس فى جبلته ولا طبيعته. فيكون
إذن أحد الفعلين عن شىء غير الآخر ، فيكون مصدر أحد الفعلين عن الضوء الذي لو كان
الجسم لا لون له وله ضوء لكان يفعل ذلك مثل بلورة مضيئة ، والفعل الآخر يكون من
لونه إذا اشتد ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا. فإنا وإن كنا نقول : إن الضوء
ليس هو ظهور اللون. فلا نمنع أن يكون الضوء سببا لظهور اللون وسببا لنقله. ونقول :
إن الضوء جزء من جملة هذا المرئى الذي نسميه لونا وهو شىء إذا خالط اللون بالقوة
حدث منهما الشىء الذي هو اللون بالفعل بالامتزاج. فإن لم يكن ذلك الاستعداد كانت إنارة وبريقا مجردا ، فالضوء كجزء من الشىء الذي هو اللون ومزاج فيه ، كما أن البياض
والسواد لهما اختلاط ما تحدث عنه تلك الألوان المتوسطة.
وأما قول القائل :
إن الضوء واللمعان أيضا ليس إلا ظهور اللون ، ثم قوله فى الأشياء اللامعة فى الليل
ما قاله ، فيبطل بأن السراج والقمر كثيرا ما يبطلان لمعان تلك ويظهران ألوانها.
فيجب أن يكون نور السراج أشد ظهور لون ، فيجب أن يكون أيضا ما يصير بالسراج ظاهر
اللون لا يرى له فى الظلمة لون. وليس الأمر كذلك ، فإن
اللامعات يرى لونها أيضا بالليل كما يرى بريقها. فليس ما قالوه بحق. وأما
القائل بأن للشمس والكواكب ألوانا وأن الضوء يخفى لونها ، فيشبه أن
يكون الحق أن بعض الأشياء يكون له فى
__________________
ذاته لون فإذا أضاء اشتدت إضاءته حتى يبهر البصر فلم يميز اللون ، ومنه ما يكون له
مكان اللون الضوء وهو الشىء الذي يكون الضوء له طبيعيا لازما غير مستفاد ، وبعض
الأشياء مختلط الجوهر من ذلك الأمر ، إما اختلاط تركيب أجزاء مضيئة
وأجزاء ذوات ألوان كالنار ، وإما اختلاط امتزاج الكيفيات كما
للمريخ ولزحل.
وليس يمكننى أن
أحكم فى أمر الشمس الآن بشيء فقد عرفنا حال الضوء وحال النور وحال اللون وحال الإشفاف. فالضوء هو كيفية هى كمال
بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف ، وهو أيضا كيفية ما للمبصر بذاته لا بعلة غيره. ولا شك أن المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه ، والنور كيفية يستفيدها الجسم غير الشفاف من المضيء فيكمل بها الشفاف شفافا بالفعل. واللون كيفية تكمل بالضوء
من شأنها أن يصير الجسم مانعا لفعل المضيء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه وبين المضيء.
فالأجسام مضيئة وملونة وشفافة.
ومن الناس من قال
: إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاته ومنها ما يرى
بكيفية فى غيره ، وجعل القسم الآخر هو الشفاف. وأما
القسم الأول فقد جعله أولا قسمين : أحدهما ما يرى فى الشفاف بذاته وبحضوره وهو المضيء ، وثانيهما ما ليس كذلك. ثم قسم هذا بقسمين : أحدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء مع شرط المشف وهو الملون ،
والثاني ما يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف كالحيوانات التي تلمع فى الليل من
حيث تلمع كاليراعة ، وبعض الخشب المتعفن وبعض الدود. وقد
رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة ، وجرادة ميتة بهذه الصفة ، وصرارة ميتة بهذه
الصفة.
__________________
وليست هذه القسمة
بمرضية ولا صحيحة ، فإن المضيء يرى لذاته فى الظلمة وفى الضوء جميعا. فإن اتفق أن
كان الرائى فى الضوء الذي يفعله رؤى ، وإن اتفق أن لم
يكن فيه رؤى أيضا ، كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء كان ضوؤها أو ضوء غيرها
ويراها فى الظلمة. وأما الشمس فإنما ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث
تكون مقابلة لبصر الرائى تكون قد ملأت العالم ضوءا ولم تترك مكانا وأما الكواكب
فإنها إنما ترى فى المظلمة ، لأن ضوءها يقصر عن
ضوء الشمس فلا تضىء الأشياء ولا تنورها ، بل لا يمتنع أن توجد فقد يمكن أن تكون
ومعها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن الظلمة سبب لأن ترى هى بالذات ، بل يجب أن يعلم
أن بعض الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى ، كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء النار
الضعيفة وضوء الكواكب فلا ترى مضيئة عند ضوء الشمس فلا ترى ،
لا لأجل الحاجة فى رؤيتها إلى الظلمة ، بل للحاجة إلى أن تكون فى أنفسها مضيئة غير
مظلمة بالقياس إلى أبصارنا. فإذا كانت الشمس غائبة ظهرت ورؤيت ، لأنها صارت مضية
بالقياس إلى أبصارنا والحال فى أبصارنا. وربما كان حكم النار والقمر عند ضوء ما هو
أضعف منهما هذا الحكم بعينه. ويجب فى ذلك الضوء أن لا يكون موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر ، فيلزم أن تكون ظلمة حتى يظهر ، أو يلزم
أن لا يكون باهرا حتى يرى ويتمكن البصر من إدراكه. وأنت تعلم أن الهباء الذي
فى الجو ليس من جنس ما لا يرى المستنير منه إلا فى الظلمة ، لكن إن كان الإنسان فى
الظلمة وقد وقع على هذه الهباءات شعاع الشمس أمكن أن ترى تلك الهباءات ، وإن كان الإنسان فى الشعاع لم يمكن ، وذلك لأمر فى بصر الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات ، فإن بصر الإنسان إذا
__________________
كان مغلوبا بضوء
كثير لم يرها ، وإن لم يكن مغلوبا رآها. وكذلك هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر
، بل هى المضيئات وتخالفها لا فى جملة الطبع ، بل فى الضعف ، ولو كانت هذه مخالفة
للمضيئات فى جملة الطبع ، فالكواكب كذلك. ولا يتحصل
لهذه القسمة محصول صادق ، إلا أن يقال : إن بعض المضيئات باهرة لبعض وبعضها مبهورة
لبعض. ومعنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها ، بل فى
أبصارنا ، كما أن بعض الصلابات أصلب وبعضها أضعف فلا يجب إذن أن يقال : إن اللواتى
تلمع فى الليل نوع أو جنس مفرد خارج عن الملونات والمضيئات ، بل هى من جملة
المضيئات التي يبهرها ما فوقها فى الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ ، بل
إنما يقوى عليها أبصارنا عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئات.
فإن ذهبوا إلى هذا
فالقسمة جيدة ، إلا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون أن المضيئات طبقة ،
والملونات طبقة ، وهذه طبقة.
__________________
الفصل الرابع
فى تأمل مذاهب قيلت فى الألوان وحدوثها
ومما يجب أن نفرغ
عنه تأمل مذهب آخر فى أمر الألوان والضوء ، فإنا ما لم نفرغ عنه لم يكن سبيل إلى أن ندل على
صحة ما ذهبنا إليه بطريق القسمة.
فنقول : إن من
المذاهب فى أمر الألوان مذهب من يرى أن اللون الأبيض إنما هو تكونه من الهواء والضوء ، وأن الأسود تكونه من ضد ذلك ، وأن حدوث اللون
الأبيض هو من الشفاف إذا انقسم إلى أجزاء صغار ثم ارتكم فإنه يعرض هناك أن تقبل
سطوحها النور فتضيء ، ولأنها شفافة يؤدى بعضها إضاءة بعض ، ولأنها صغار يكون ذلك فيها كالمتصل ، ولأن المشف لا يرى إلا بلون غيره ، فإن
شفيفها لا يرى ، لكن العكوس عن السطوح المتراكمة منها ترى متصلة فيرى الجميع أبيض.
قالوا : ولهذا ما
كان زبد الماء أبيض بمخالطة الهواء ، والثلج أيضا أبيض لأنه أجزاء صغار جامدة
شفافة خالطها الهواء ونفذ فيها الضوء ، والبلور المسحوق والزجاج المسحوق لا يشف ،
وأى هذه اتصلت سطوحها اتصالا لا يبطل به انفراد كل شخص
منها بنفسه عادت شفافة ، والشفاف الكبير الحجم إذا عرض فيه شق رمى ذلك الموضع منه إلى البياض. قالوا : فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه
الضوء والإشفاف معا.
ومنهم من جعل
الماء سببا للسواد. قال : ولذلك إذا بلت هذه الأشياء مالت إلى السواد. قال : وذلك لأن الماء
يخرج الهواء ولا يشف إشفافه ولا ينفذ فيه
__________________
الضوء إلى السطوح
فتبقى مظلمة. ومنهم من جعل السواد لونا بالحقيقة وأصل الألوان. قال : ولذلك لا ينسلخ ، وأما البياض فعارض للمشف بتراكمه ولذلك يمكن
أن يصبغ. ولا يبعد أن يكون المذهب الأول فى السواد يؤدى إلى هذا المذهب أيضا ، إذ جعل السواد حقيقة ما لا يشف من جهة ما لا يشف وهو حقيقة اللون المنعكس عنه.
وقال قوم : إن
الأسطقسات كلها مشفة ، وإنها إذا تركبت حدث منها البياض على الصفة
المذكورة ، وبأن يكون ما يلى البصر سطوحا مسطحة من المشف فينفذ فيها البصر ، وأن
السواد يعرض إذا كان ما يلى البصر من الجسم زوايا تمنع الإشفاف للأطراف التي تقع
فيها فهى وإن أضاءت فبما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا فتظلم.
والذي يصعب من هذه
الجملة فصل القول فيه تولد البياض من الضوء ، وكون السواد لونا حقيقيا. فإنا نعرف أن المشفات تبيض عند السحق والخلط بالهواء ،
وكذلك اللخالخ ، والناطف يبيض لاجتماع احتقان الهواء فيه مع
الإشفاف الذي فى طبعه ، ونعلم أن السواد لا يقبل لونا البتة كما يقبل البياض ، فكأن البياض لإشفافه موضوع معر ى مستعد ، والمعرى عن الكيفيات قابل لها من غير حاجة إلى إزالة شىء ،
والمشغول بواحدة لا يقبل غيرها إلا بزوالها. فهؤلاء قوم يجعلون مخرج الألوان من
الإشفاف وغير الإشفاف. وبإزاء هؤلاء قوم آخرون لا يقولون بالإشفاف البتة ، ويرون
أن الأجسام كلها ملونة ، وأنه لا يجوز أن يوجد جسم إلا وله لون. ولكن الثقب والمنافذ الخالية إذا كثرت فى الأجسام نفذ فيها الشعاع الخارج من
المضيء إلى الجهة الأخرى ، ونفذ أيضا شعاع البصر فيرى ما وراءها.
__________________
فأما المذهب الأول
فإنا نقول : لعمرى إنه قد يظهر من قد المشف وخلطه بالهواء لون أبيض ، ولكن إنما يكون
ذلك لا فى جسم متصل ومجتمع ، بل إنما يظهر ذلك اللون فى الركام منه ، وأنه إذا جمع
وبل زال عنه البياض عند الاجتماع والجفوف. وليس الجص على ما اظنه ويوجبه غالب ظنى
أن ما يبيض بياضه لذلك فقط ، بل لأن انطبخ يجعله بحيث إذا بل ثم
جف ابيض بياضا شديدا بمزاج يحدث فيه. والدليل على ذلك أنه لو كان فعل النار فى الجص
ليس إلا تسهيل التفريق ، وأن تسهيل التفريق قد يوصل إلى
الهيئة التي ذكر أنها سبب لكون البياض ، لكان السحق الكثير المؤدى إلى غاية تصغير
الأجزاء يفعل ذلك الفعل فى الجص وفى النورة وفى غيره ، ولكان المهيئ بالسحق
والتصويل إذا اجتمع بالماء فعل فعل الجص من البياض ، وليس كذلك.
ثم لنفرض أن الجص
يتكون فيه ذلك البياض على الصورة المذكورة ، فليس كل بياض يحدث
على هذه الصفة ، فإن البيض إذا سلق يصير بياضه الشفاف أبيض وليس يمكن أن يقال إن
النار زادته تخلخلا وتفرقا فإنها قد زادته تكاثفا على حال ، ولا أنه قد حدثت فيه هوائية وخالطته. فأول ذلك أن بياض البيض يصير عند الطبخ أثقل وذلك لما يفارقه من الهوائية. وثانيا أنه لو كانت هوائية داخلت رطوبته فبيضته لكانت
خثورة لا انعقادا ، وقد علمت هذا قبل. وأيضا فإن الدواء الذي يتخذه أهل الحيلة
ويسمونه لبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه ، ثم صفى حتى بقى
الخل فى غاية الإشفاف والبياض ، وخلط بماء طبخ فيه القلى ، وصفى غاية التصفية حتى صار
كأنه دمعة. فإنه إن قصر فى هذا لم يلتئم منهما المزاج الذي يطلبونه. فكما يخلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك أبيض فى غاية البياض
كاللبن الرائب ، ثم يجف ، فليس ذلك لأن هناك شفافا
__________________
عرض له التفرق ،
فإن ذلك كان متفرقا منحلا فى الخل ولا أجزاء مشفة صغارا جدا تدانت وتقاربت ، بل إن كان ولا بد فقد ازدادت فى ماء القلى نفرقا ولا
أيضا خالطها هواء من خارج بوجه من الوجوه ، بل ذلك على سبيل الاستحالة ، فليس
كل تولد بياض فيما أحسب على الصفة المذكورة.
ولو لم يكن البياض إلا ضوءا والسواد إلا ما قيل ، لم يكن تركيب السواد والبياض إلا
آخذا مسلكا واحدا. بيان هذا أن البياض يتجه إلى السواد قليلا قليلا من طرق ثلاثة :
أحدها طريق الغبرة وهو الطريق الساذج ، فإنه إذا كان السلوك ساذجا
يتوجه إلى الغبرة ثم منها إلى العودية ، ثم كذلك حتى اسود. فيكون
سالكا طريقا لا يزال يشتد فيه السواد وحده يسيرا يسيرا حتى يمحض. والثاني الطريق الأخذ إلى الحمرة ، ثم إلى القتمة ، ثم إلى السواد. والثالث الطريق الآخذ إلى الخضرة ، ثم إلى النيلية ، ثم إلى
السواد. وهذه الطرق إنما يجوز اختلافها ، لجواز اختلاف ما تتركب عنه الألوان
المتوسطة. فإن لم يكن إلا بياض وسواد ، ولم يكن أصل البياض إلا الضوء وقد استحال
ببعض هذه الوجوه ، لم يمكن فى تركيب البياض والسواد إلا الأخذ فى طريق واحد لا
يقع الاختلاف إلا فيه وقوعا بحسب النقص والاشتداد فيه فقط ، ولم تكن طرق مختلفة.
فإن كانت طرق مختلفة ، فيجب أن يكون شوب من غير البياض والسواد مع أن يكون شوبا
من مرئى وليس فى الأشياء شىء يظن أنه مرئى ، وليس سوادا ولا بياضا ولا مركبا منهما
إلا الضوء عند من يجعل الضوء شيئا غيرهما. فإن بطل مذهبه امتنع استحالة الألوان فى
طرق شتى ، وإن أمكنت هذه الاستحالة
__________________
وجب أن يكون مرئى
ثالث خارج عن أحكام البياض والسواد ، ولا وجه أن يكون هذا المرئى الثالث موجودا
إلا أن يجعل الضوء غير اللون. فمن هاهنا يمكن أن تركب الألوان فيكون البياض والسواد إذا اختلطا وحدهما كانت الطريقة هى طريقة
الاغبرار لا غير ، فإن خالط السواد ضوء فكان مثل الغمامة التي تشرق عليها الشمس ومثل الدخان الأسود تخالطه النار ، كان
حمرة إن كان السواد غالبا ، أو صفرة إن كان السواد مغلوبا وكان هناك غلبة بياض مشرق. ثم إن كان هناك صفرة خلطت بسواد ليس فى أجزائه إشراق حدثت الخضرة. وبالجملة إذا كان الأسود أبطن والمضيء أظهر
والحمرة بالعكس ، ثم إن كان السواد غالبا فى الأول كانت قتمة ، وإن كان السواد
غالبا فى الثاني كانت كراثية تلك الشديدة التي لا اسم لها ، وإن خلط ذلك ببياض
كانت كهوبة زنجارية ، وإن خلط بالكراثية سواد وقليل حمرة كانت نيلية ، وإن خلطت بالحمرة نيلية كانت أرجوانية. فبهذا يمكن تأليف الألوان سواء كان بامتزاج
الأجرام أو بامتزاج الكيفيات ، ولو كانت هذه لا تكون إلا باختلاط الأجسام.
وقد علم أن السواد
لا يصبغ منه الضوء بالعكس جسما البتة أسود لكان يجب أن
تكون الألوان الخضر والحمر إنما ينعكس منها البياض ولا ينعكس من الأجزاء السود شىء
، وخصوصا وهى ضعيفة منكسرة. فإن قيل : فقد نراها تنعكس عن المخلوط. فالجواب أن ذلك
لأن الخلط يوجب الفعل والانفعال ، ويجب بسبب ذلك امتزاج الكيفية سواء فعلته الصناعة أو الطبيعة. على أن الطبيعة تقدر على الامتزاج الذي على سبيل الاستحالة ، والصناعة لا تقدر عليه ، بل تقدر على الجمع. فربما أوجبت الطبيعة بعد ذلك استحالة. والطبيعة تقدر على تلطيف المزج الذي على سبيل
__________________
الخلط وتصغير
الأجزاء ، والصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء. والطبيعة لا تتناهى مذاهبها فى القسمة
والنسبة قوة وفعلا ، والصناعة لا يمكن أن تخرج جميع ما فى الضمير منها إلى الفعل.
فقد بان من هذا أن
البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء. ثم لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر
التبييض ، ولكن ليس على الوجه الذي يقولون ، بل بإحداث المزاج المبيض. ولذلك ليس لنا أن نقول : إن بياض الناطف كله من الجهة التي يقولون ، بل من
المزاج ، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط ، بل بحسب الإحالة أيضا.
ولو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشيء الأبيض والملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه إلى أن يشف أو إلى قريب منه ، وهذا مما لا يكون. وأما قولهم
: إن الأسود غير قابل للون آخر ، فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل
الصبغ. فإن عنوا على سبيل الاستحالة ، فقد كذبوا ، ومما يكذبهم الشباب والشيب. وإن
عنوا على سبيل الصبغ ، فلذلك حال مجاورة لا حال كيفية. فلا يبعد أن يكون الشىء
المسود لا يكون مسودا إلا وفيه قوة نافذة متعلقة قباضة. فيخالط ، وينفذ ويلزم ، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء أبيض بخلاف ذلك فى طبعه ، فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه. على أن ذلك
ليس أيضا مما لا يمكن ، فإنه إذا احتيل بمثل الاسفيداج وغيره حيلة ما حتى يغوص ويتخلل السواد صبغه أبيض.
وأما المذهب الثاني فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلاء موجودا وذلك
لأن المسام التي يذكرونها لا يخلو إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية. فإن
كانت مملوءة من جسم ، فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام ، أو تكون له أيضا مسام ، وينتهى لا محالة : إما إلى مشف لا مسام له ، وهذا
خلاف قولهم. وإما إلى خلاء ، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء ، والخلاء غير موجود.
ثم بعد ذلك فإنهم يقولون : إنه ليس كل مسام
__________________
تصلح لتخييل
الإشفاف ، بل يجب أن تكون المسام مستقيمة الأوضاع من غير تعريج حتى تنفذ فيها
الشعاعات على الاستقامة. فلنخرط كرة من جمد ، بل من بلور ، بل من ياقوت أبيض شفاف
، فهذه المسام التي تكون فيها شفافة مستقيمة هبها تكون كذلك طولا ، فهل تكون كذلك أيضا عرضا ، وهل تكون كذلك قطرا ومن أى جهة
أثبت ، فكيف تكون مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة تأملتها لا تنعرج. فمن
الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة ووقوف الأجزاء التي لا مسام لها فى
سمت الخطوط التي تتوهم خارجة على الاستقامة من العين أو يكون الجسم خلاء كله ،
وهذا محال. فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى
استشفافها يختلف عليك شفيفها ضرورة ، ثم كيف يكون حال جسم فيه من المسام
والمنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لا لون له ، وله فى نفسه لون ، ولا يستر لونه
شيئا ملصقا مما وراءه ، بل يؤدى ما وراءه بالحقيقة. فإن أحدث سترا
فإنما يحدث شيئا ، كأنه ليس ، فتكون لا محالة الثقب التي فيه أكثر كثيرا من الملاء
الذي فيه ، فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت وهو كله
فرج. ولو أن إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة ، ثم حمل عليه بأضعف قوة
لا نرضّ وانكسر ؛ فهذا المذهب أيضا أيضا محال.
فالألوان إذن
موجودات ، وليس وجودها أنها أضواء ، ولا الأضواء ظهورات لها ، ومع ذلك فليست هى مما هى بالفعل بغير الأضواء. والمشف أيضا موجود ، وهذا ما أردنا بيانه إلى هذه الغاية. وقد بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه
كيف يكون ، ويتعلق بذلك تحقيق كيفية تأدى الأضواء فى المشف.
__________________
الفصل الخامس
فى اختلاف المذاهب فى الرؤية وإبطال
المذاهب الفاسدة بحسب الأمور أنفسها
فتقول : إن المذاهب
المشهورة فى هذا الباب مذاهب ثلاثة ، وإن كان كل مذهب منها يتفرع : أحدها مذهب من
يرى أن شعاعات خطية تخرج من البصر على هيئة مخروط يلى رأسه العين وقاعدته المبصر ، وأن أصحها إدراكا هو السهم منها ، وأن تبصّر
الشىء هو نقل السهم فيه. ومنها مذهب من يرى أن الشعاع قد يخرج من البصر
على هيئة ، إلا أنه لا يبلغ من كثرته أن يلاقى نصف كرة السماء إلا بانتشار يوجب انتشار الرؤية. لكنه إذا خرج واتصل بالهواء المضيء ، صار ذلك آلة له وأدرك
بها. ومنها مذهب من يرى أنه كما أن سائر المحسوسات ليس يكون إدراكها بأن يرد عليها
شىء من الحواس بارزا إليها متصلا بها أو مرسلا رسولا إليها ، كذلك الإبصار ليس
يكون بأن يخرج شعاع البتة فيلقى المبصر ، بل بأن تنتهى صورة المبصر إلى البصر
بتأدية الشفاف إياها.
وقد استدل
الفريقان الأولان وقالا : إنما جاز فى سائر الحواس
أن تأتيها المحسوسات ، لأنها يصح إدراكها بالملامسة كاللمس ، وكالذوق ، وكالشم الذي
__________________
يستقرب الروائح بالتنشق ليلاقيها وينفعل بها ، وكالصوت الذي
ينتهى به التموج إلى السمع. ثم أن البصر ليس يمكن
فيه ذلك لأن المرئى منفصل ، ولذلك لا يرى المقرب منه ولا أيضا من الجائز أن ينتقل
إليه عرض موجود فى جسم مرئى أعنى لونه وشكله ، فإن الأعراض لا تنتقل. فإذا كانت
الصورة على هذا ، فبالحرى أن تكون القوة الحاسة ترحل إلى موضع المحسوس لتلاقيه. ومحال أن تنتقل القوة إلا بتوسط جسم يحملها ولا يكون
هذا الجسم إلا لطيفا من جنس الشعاع والروح ، فلذلك سميناه شعاعا. ولوجود جسم مثل
هذا فى العين ما يرى الإنسان فى حال الظلمة أن نورا قد انفصل من عينيه وأشرق على
أنفه أو على شىء قريب يقابله. وأيضا فإن الإنسان إذا أصبح ودعاه
دهش الانتباه إلى حك عينيه فإنه يتراءى له شعاعات قدام عينيه. وأيضا فإن الثقبة
العينية تمتلئ من إحدى العينين إذا غمضت الأخرى ، وفى التحديق المفرط أيضا فلا
محالة أن جسما بهذه الصفة ينصب إليها. ثم أن الفرقة الثانية استنكرت أن يكون جسم
مثل العين يسع من الشعاع ما يتصل خطا واحدا بين البصر والكواكب الثابتة فضلا عن
خطوط تنتهى إلى ما يرى من العالم ، وخصوصا ولا يرى ما يرى منها إلا متصلا مستوى
الاتصال ، فيجب أن يكون ما يرى به متصلا. واستنكرت أيضا أن يتحرك هذا الشعاع
الخارج فى زمان غير محسوس حركة من العين إلى الثوابت ، وقالت يجب أن تكون نسبة زمان حركتك نحو شىء بينه وبينك ذراعان إلى زمان الحركة إلى الكواكب الثابتة نسبة المسافتين ، فيجب أن يظهر بين
الزمانين اختلاف. وربما احتج بهذا أصحاب المذهب الثالث
أيضا على أصحاب الشعاع الخطى ، ولم يعلموا أن هذا فاسد ، وذلك لأنه يمكن أن يفرض
زمان غير محسوس قصرا أو أكبر زمان غير محسوس قصرا ، فتحصل فيه الحركة التي للشعاع إلى الثوابت ، ثم يمكن أن ينقسم هذا الزمان إلى غير النهاية فيمكن أن يوجد
فيه جزء أو بعض
__________________
نسبته إليه نسبة
المسافة المستقصرة إلى المسافة المستبعدة ، فيكون الزمانان اللذان بينهما البعد
كلاهما غير محسوسين قصرا.
لكن لأصحاب
الشعاعات حجة فى حلها أدنى صعوبة وهو قولهم : إن المرايا تشهد بوجود هذه الشعاعات وانعكاسها ، وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون البصر
تتأدى إليه صورة المرآة وقد تأدى إليها صورة المرئى متمثلة منشبحة فيها ، وإما أن
يكون ما نقوله من أن الشعاع يخرج فيلقى المرآة ، ثم بصير منها إلى أن يلقى ما ينعكس عليه على زاوية مخصوصة. وإذا بطل القول الأول ، بقى القول الثاني. ومما يتضح به بطلان القول الأول أنه لو كانت هذه الصورة
متشبحة فى المرآة لكانت لا محالة تتشبح فى شىء بعينه من سطحها ، كما إذا انعكس الضوء واللون معا فتأديا فى المشف إلى غير الحامل الأول لهما فإنما يتمثل
المتأدى من ذلك فى بقعة واحدة بعينها يرى فيها على اختلاف
مقامات الناظرين. وليس الشبح الذي فى المرآة بهذه الصفة ، بل ينتقل فيها بانتقال
الناظر ، ولو كان إنما ينتقل بانتقال المرئى فقط لم يكن فى ذلك إشكال. وأما
انتقاله بانتقال الناظر فدليل على أنه ليس هناك بالحقيقة موضع تتشبح فيه الصورة.
ولكن الناظر إذا انتقل انتقل مسقط الخط الذي إذا انعكس إلى المرئى فعل الزاوية المخصوصة
فرأى بذلك الخط بعينه المرئى ورأى جزءا من المرآة آخر ، فتحيل أنه فى ذلك الجزء الأخر من المرآة ، وكذلك لا يزال ينتقل. قالوا : ومما يدل على صحة هذا أن الناظر الذي للإنسان قد ينطبع فيه
شبح مرئى ينعكس عنه إلى بصر ناظر حتى يراه هذا الناظر الثاني ، ولا يراه صاحب
الحدقة التي تمثل فيها الشبح بحسب التخيل ، ولو كان لذلك حقيقة انطباع فى ناظره
لوجب على مذهب أصحاب الأشباح أن يتساوى كل منهما فى إدراكه ، فإن عندهم أن حقيقة
الإدراك تمثل شبح فى الناظر فيكون كل من تمثّل فى ناظره شبح رآه. قالوا :
__________________
فمن هذا نحكم ونقول إن الناظر فى المرآة يتخيل له فى المرآة أنه
يرى صورته وليس كذلك ، بل الشعاع إذا لاقى المرآة فأدركها كر منعكسا فلاقى صورة الناظر فأدركها ، فإذا رأى المرآة
ونفسه فى سمت واحد من مخرج الخط الشعاعى يتخيل أن أحدهما فى
الآخر. قالوا : والدليل على أن ذلك ليس منطبعا فى المرآة أنه يرى المرئى
فى المرآة بحيث لا يشك أنه ليس فى سطح المرآة ، وإنما هو كالغائر فيه والبعيد عنه.
وهذا البعد لا يخلو إما أن يكون بعدا فى غور المرآة ، وليس للمرآة ذلك الغور ، ولا أيضا إن كان لها ذلك الغور كانت المرآة مما يرى ما
يتشبح فى باطنها ، فبقى أن يكون ذلك البعد بعدا فى خلاف جهة غوره فيكون بالحقيقة
إنما أدرك الشىء بذلك البعد من المرآة ، فلا يكون قد انطبع شبحه فى المرآة.
فيلزمنا أول شىء
أن نبطل المذهبين الأولين ، فنثبت صحة مذهبنا وهو الثالث ، ثم نكر على هذه الشبه فنحلها فنقول : إن الشىء الخارج من البصر لا يخلو إما أن يكون شيئا ما قائم الذات ذا وضع ، فيكون جوهرا جسمانيا ؛ وإما أن يكون شيئا لا قوام له بذاته وإنما
يقوم بالشيء المشف الذي بين البصر والمبصر. ومثل هذا الشىء فلا يجوز أن يقال له
بالحقيقة : إنه خارج من البصر ، ولكن يجب أن يقال : إنه انفعال للهواء من البصر ، ويكون
الهواء بذلك الانفعال معينا فى الإبصار. وذلك على وجهين : إما على سبيل إعانة
الواسطة ، وإما على سبيل إعانة الآلة.
وقبل الشروع فى
التفصيل ، فإنى أحكم حكما كليا أن الإبصار ليس يكون باستحالة من الهواء إلى حالة
تعين البصر البتة ، وذلك لأن تلك الحالة لا محالة تكون هيئة فى الهواء ليست معنى
إضافيا بحسب ناظر دون ناظر. فإنا لا نمنع وجود هذا القسم ، بل نقول لا بد منه ، ولا بد
من إضافة تحدث للهواء مع الناظر
__________________
عند نظره بتلك
الإضافة يكون الإبصار وإنما نمنع وجود حالة وهيئة قارة فى نفس الهواء وذاته يصير
بها الهواء ذا كيفية أو صفة فى نفسه وإن كانت لا تدوم له ولا توجد عند مفارقة
الفاعل الموجد لأن مثل هذه الهيئة لا يكون له بالقياس إلى بصر دون بصر ،
بل يكون موجودا له عند كل شىء ، كما أن الأبيض ليس أبيض بالقياس إلى شىء دون شىء ،
بل هو أبيض بذاته وأبيض عند كل شىء وإن كان لا يبقى أبيض مع زوال السبب المبيض. ثم
لا يخلو إما أن تكون تلك الهيئة تقبل الشدة والضعف فتكون أضعف وأقوى ، أو تكون على
القدر واحد. فإن كان على قدر واحد فلا يخلو إما أن تكون العلة الموجبة تقبل الأشد
والأنقص أو لا تقبل. فإن كانت طبيعة العلة تقبل الأشد والأنقص وتلك الطبيعة لذاتها
تكون علة ، فيجب أن يتبعها المعلول فى قبول الأشد والأنقص. فإنه من المحال أن يفعل
الضعيف الفعل الذي يفعل القوى نفسه إذا كانت قوته وضعفه أمرا فى طبيعة الشىء بما
هى علة. فيجب من ذلك أن القوى المبصرة الفاعلة فى الهواء إذا كثرت وازدحمت ، كان
حدوث هذه الحالة والهيئة فى الهواء أقوى وأن يكون قوى البصر أشد فى إحالة الهواء إلى هذه الهيئة من ضعيف البصر ، وخصوصا وليس هذا من باب ما لا يقبل الأشد والأضعف لأنه من باب القوى
والحالات فى القوى. ولا تكون قوتها كما ذكرنا بقياس بصر دون بصر ، بل بنفسها كما
قلنا. فيجب أن يكون ضعفاء الإبصار إذ اجتمعوا رأوا أقوى وإذا تفرقوا رأوا أضعف. وأن
ضعيف البصر إذا قعد بجنب قوى البصر رأى أشد. وذلك لأن الهواء يستحيل إلى تلك الهيئة كيف كانت باجتماع
العلل الكثيرة والقوية استحالة أشد ، فيكون أداؤه الصورة ومعونته فى الإبصار أقوى ، وإن كان ضعف نفس البصر يزيد خللا فى ذلك. فاجتماع الضعفين معا ليس كحصول ضعف واحد ، كما أن ضعيف البصر لا يستوى
حال إبصاره فى الهواء الكدر
__________________
والهواء الصافى ،
لأن الضعيف إذا وجد معونة من خارج كان لا محالة أقوى فعلا. ثم نحن نشاهد ضعيف
البصر لا يزيده اقتران أقوياء البصر به ، أو اجتماع كثرة ضعفاء البصر معه شيئا فى
إبصاره. فبين أن المقدم باطل.
ولنعد إلى التفصيل
الذي فارقناه فنقول : إنه لا يخلو الهواء حينئذ إما أن يكون آلة ، وإما أن يكون
واسطة. فإن كان آلة فإما أن تكون حساسة ، وإما أن تكون مؤدية. ومحال أن يقول قائل
: إن الهواء قد استحال حساسا حتى أنه يحس الكواكب ويؤدى ما أحسه إلى البصر. ثم ليس
كل ما نبصره يلامسه الهواء ، فإنا قد نرى الكواكب الثابتة والهواء لا يلامسها. وما
أقبح بنا أن نقول : إن الأفلاك التي فى الوسط أيضا تنفعل عن بصرنا وتصير آلة له كما يصير الهواء آلة له ، فإن هذا مما لا يقبله عاقل محصل. أو نقول : إن الضوء جسم
مبثوث فى الهواء ، والفلك يتحد بأبصارنا ويصير آلة لها ، فإن ساعدنا على هذا القبيح فيجب
أن لا نرى كلية جسم الكواكب بعد تسليمنا باطلا آخر وهو أن فى الفلك مساما ، وذلك لأنه لا تبلغ مسامها أن تكون أكثر من نصف جرمها. فيجب أن تكون الكواكب المنظور إليها إنما ترى منها أجزاء ولا ترى أجزاء ، ثم ما أشد قوة أبصارنا حتى تحيل الهواء كله والضياء
المبثوث فى أجسام الأفلاك بزعمهم إلى قوة حساسة أو أية قوة شئت. ثم الهواء والضوء
ليسا متصلين ببصر دون بصر ، فلم يؤديان ما يحسانه إلى بصر دون بصر. فإن كان من شرط البصر الذي يرى أن يقع فى مسامتة المرئى حتى يؤدى حينئذ الهواء إليه
ما أحس ، فليس إحساس الهواء بعلة لوصول المحسوسات إلى النفس ، ولكن وقوع البصر من
المبصر على نسبة وتوسط الهواء بينهما. فإن كان الهواء يحس بنفسه ويؤدى أيضا فما
علينا من إحساسه فى نفسه ، بل إنما المنتفع به فى أن نحس نحن تأديته المرئى إلينا.
ولا نبالى أنه يحس فى نفسه أو لا يحس فى نفسه ، اللهم إلا أن يجعل إحساسه لإحساسنا
، فيكون الهواء والفلك كله يحس لأجلنا. وأما إذا لم يجعل ذلك آلة ، بل واسطة تنفعل
أولا من البصر ثم يستتم كونها واسطة ،
__________________
فبالحرى أن نتأمل
أنه أى انفعال ينفعل حتى يؤدى؟ أبأن تقبل من البصر قوة حياة وهو أسطقس بسيط ، هذا لا يمكن. أو يصير بالبصر شافا بالفعل. فالشمس أقوى من البصر فى
تصييره شافا بالفعل وأكفى ، فليت شعرى ما ذا يفعل
البصر بهذا الهواء. وإن كان البصر يسخنه ، فيجب إذا برد الهواء أن يمنع الإبصار أو
يبرده ، فيجب إذا سخن أن يمنع الإبصار ، وكذلك الحال فى باقى الأضداد. ولجميع
الأضداد التي يستحيل بها الهواء أسباب غير البصر إن اتفقت كفت الحاجة إلى إحالة
البصر وإن اتفق أضدادها لم تغن إحالة البصر أو عساه لا يحدث إشفافا ولا كيفية ذات
ضد من المعلومات ، بل يحدث خاصية غير منطوق بها ، فكيف عرفها أصحاب هذا المذهب ،
ومن أين توصلوا إليها. أما نحن فقد قدمنا مقدمة كلية تمنع هذه الاستحالات كلها
سواء كانت منسوبة إلى خاصية أو طبيعة ، منطوق بها أو غير منطوق بها.
وبعد ذلك فإنا نظن أن الهواء إذا كان شفافا بالفعل وكانت الألوان ألوانا بالفعل
وكان البصر سليما ، لم يحتج إلى وجود شىء آخر فى حصول الإبصار.
ولنضع الآن أن
الخارج جوهر جسمانى شعاعى كما يميل إليه الأكثر منهم فنقول : حينئذ إن أحواله لا تخلو عن أربعة أقسام : إما أن يكون متصلا
بكل المبصر وغير منفصل عن المبصر ، وإما أن يكون متصلا بكل المبصر ومنفصلا عن
المبصر ، وأما أن يكون متصلا ببعض المبصر دون بعض كيف كان حاله مع المبصر ، وإما
أن يكون خارجا عن المبصر وغيره متصل بالمبصر . فأما القسم الأول فإنه محال جدا ، أعنى أن يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم ويلاقى الأجسام السماوية ، ثم كما يطبق الجفن يعود إليه ، ثم يفتح فيخرج آخر مثله ، أو كما يطبق تعود الجملة
إليه ، ثم كما يفتح مرة أخرى يخرج عنها ، حتى كأنها واقفة
__________________
على نية المغمض.
ثم كيف لا يرى الشىء البعيد بشكله وعظمه إن كانت الرؤية
بوصوله إليه وملامسته إياه . فإن العظم أولى بأن يدرك بالملامسة بتمامه من اللون ، لأن الشعاع ربما تفرق وتهلهل فرأى اللون كما يرى الخلط من اللون ، وأما القدر فيراه حينئذ كما يرى الخلط من المقدار والخلط من المقدار الجسمانى ، وإن كان متخلخلا كأنه مركب من مقدار جسمانى ومن لا شىء أو لا جسم لا ينقص من عظم كليته ولا تنفعهم الزاوية التي عند البصر إنما ينفع ذلك أصحاب الأشباح إذ يقولون : إن الشبح يقع على القطع الواقع فى
المخروط الموهوم عند سطح الجليدية الذي رأسه فى داخل. فإن كانت الزاوية أكبر لأن
الشىء أقرب كان القطع أعظم والشبح الذي فيه أعظم ، وإن كانت الزاوية أصغر لأن
الشىء أبعد كان القطع أصغر والشبح الذي فيه أصغر. وأما على مذهب من يجعل المبصر
ملموسا بآلة البصر فما تغنى هذه الزاوية.
وأما القسم الثاني
فهو أظهر بعدا واستحالة ، وهو أن يكون ذلك الخارج يفارق المبصر ويمضى إلى الفرقدين
ويلمسهما ولا وصلة بينه وبين المبصر فيحس المبصر بما أحس هو ، ويكون
كمن يقول : إن لا مسا يقدر أن يلمس بيد مقطوعة وأن الحية يتأدى إلى بدنها ما يلمسه
ذنبها المقطوع المفصول عنها وقد بقى فيه الحس ، إلا أن يقال إنه أحال المتوسط
وحمله رسالة إلى المبصر فيكون الهواء مؤديا مستحيلا معا ، وقد قلنا على هذا ما فيه
كفاية. وإن كان متصلا ببعض المبصر وجب أن لا يراه كله ، بل ما يلاقيه منه فقط. فإن جعل الهواء مستحيلا إلى طبيعته وصار معه كشىء واحد فما الذي يقال فى
الفلك ، إذا أبصرناه ، أنرى الفلك يستحيل أيضا إلى طبيعته ذلك الشعاع الخارج ويصير
حساسا معه كشىء واحد حتى يلاقى كوكب زحل بكليته فيراه والمشترى وسائر الكواكب
العظام ، وهذا ظاهر الفساد
__________________
بعيد جدا. ثم قد قلنا فى فساد هذه الاستحالة ما قلنا. فإن قالوا : إن الهواء المشف ليس يتحد به كشىء واحد ولكن يستحيل إلى طبيعة مؤدية
، فما يلاقيه الشعاع يدركه الشعاع ، وما لا يلاقيه يؤدى إليه الهواء صورته
باستحالة عرضت له. فأول جواب ذلك أن الهواء لم لا يستحيل عن الحدقة وحدها ويؤدى
إليها إن كان من شأنه الأداء فلا يحتاج إلى جسم خارج. وأما ثانيا فقد فرغنا من بيان استحالة هذه الاستحالات. وأما ثالثا فإن الهواء المتوسط بين خطين خارجين يجب أن يؤدى إلى كل خط منهما ما يؤدى إلى
الآخر فيكون آخر الأمر قد تأدى إلى جملة الشعاع
من جملة الهواء المتخلل للخطوط صورة المحسوس مرتين أو مرارا ، فيجب أن يرى المحسوس مرتين
أو مرارا ، خصوصا إن كان على ما فى بعض مذاهب القوم من أن الخطوط لا تدرك
بنفسها ، بل بما يؤدى إليها الهواء. ثم إن كان الأداء إلى الحدقة من الجميع
أعنى الخطوط والهواء معا فالهواء مؤد للأشباح على مثل ما قال المعلم الأول. ومن عرف أن لا خلاء وأن أجرام الأفلاك مصمتة لا فرج فيها ولا فطور عرف أن ذلك
مستحيل لا يمكن وأنه لا يمكن أن ينفذ فيها هذا الخارج ، بل كيف ينفذ هذا الشعاع فى
الماء إن لم يكن فيه خلاء حتى يلاقى جميع الأرض تحته ويراه وهو متصل ، والماء لا
يربو حجمه لما خالطه منه. وإن كان هناك خلاء ، فكم يكون مقدار تلك الفرج الخلائية
التي تكون فى الماء مع ثقل الماء ونزوله فى الفرج وملئه إياها. فيرى أن الماء فرج
كله أو أكثره أو مناصفه حتى يمكن الخارج أن ينفذ
فيه إلى جميع ما فى قعر الماء ويلاقيه ويماسه وهو غير منقطع عن
البصر ، وإن انقطع فذلك أعجب.
وإن قال قائل :
إنا نرى الشيء القليل ينفذ فى الماء الكثير حتى يستولى على
__________________
كليته مثل
الزعفران يصبغ قليله كثيرا من الماء. فنقول : إن انصباغ الماء الكثير بالزعفران القليل لا يخلو من وجهين : إما أن يكون الصبغ الحادث فى الماء غير موجود إلا
فى الأجزاء الزعفرانية وأجزاء الماء بحالها ، وإما أن تكون
أجزاء الماء استحالت أيضا فى نفسها إلى الصبغ كما تستحيل إلى الحر والبرد
والرائحة. لا أن جوهرا داخلها ، إما استحالة إلى صبغ حقيقى وإما استحالة إلى صبغ
خيالى ، أعنى بالخيالى كما ترى على سطح الماء شبح شىء يلقى فيه غير محاذ للبصر ، وكما يتخيل من الماء أنه على لون
إنائه ، وذلك مما إذا كثر وعم أرى جميع وجه الماء بذلك الصبغ وهو فيه قليل. فإن
كان هذا الانصباغ على مقتضى القسم الأخير فلا منفعة لهذا
الاعتراض فى الغرض ، لأن الماء يكون قد
استحال أو تشبح لأن الصبغ القليل نفذ فى كله ، وقد يستحيل كثير المقدار من كثير
القوة قليل المقدار. وبالجملة إن كان حال الهواء فى استحالته عن الأشعة هذه الحال
، عرض ما سلف منا منعه ، ووجب أن تكون الأشعة إذا كثرت جدا ازداد الهواء استحالة
نافعة فى الإبصار. وإن كان على سبيل التأدية دون الاستحالة وطبيعة الهواء مؤدية للأشباح إلى القوابل فليؤد أيضا إلى
الإبصار. وإن لم يكن على مقتضى القسم الثاني ، بل على سبيل القسم الأول ، فإنا لا يمكننا أن نشك فى أن الماء متجزئ بين أجزاء الزعفران والزعفران متجزئ بين
أجزاء الماء ، وأن أجزاء الماء لا محالة أعظم حجما من أجزاء الزعفران ، وأن بين كل
جزءين من أجزاء الزعفران متواليين مياها صرفة ، وأن هذه المياه الصرفة فى أكثر المواضع التي بين جزئى الزعفران أعظم كثيرا من أجزاء الزعفران ، حتى تكون نسبة الأجزاء إلى الأجزاء إذا أخذت واحدا إلى الآخر كنسبة
__________________
الكل إلى الكل.
فإذا كان كذلك كانت مقادير أجزاء الزعفران صغارا ولم يجز أن تستولى على الماء كله ، فما كان ينبغى أن
ينصبغ الماء بالكلية ، بل هذا الوجه باطل وإنما يرى الماء مصبوغا كله
لأحد الأمرين : إما لأن كل واحد من أجزاء الماء وأجزاء الزعفران من الصغر بحيث لا يدركه الحس متميزا ، وذلك لا يمنع أن يكون أحدهما أكثر كثيرا جدا من الآخر
لأن الجسم ينقسم إلى غير النهاية فيمكن أن يكون جزء من الماء هو ألف ضعف جزء من الزعفران وهو مع
ذلك فى الصغر بحيث لا يحس مفردا. فإذا كان كذلك ، لم يكد البصر يفرق بين أجزاء
الزعفران وبين أجزاء الماء فيرى منهما صبغا واحدا شائعا بين
الأحمر والشاف ، فهذا وجه. وإما أن تكون الأجزاء المحسوسة من الزعفران ليست على
أوضاع متسامتة متوازية ، بل إذا حصل بين جزءين من ترتيب بحال جزء من الماء محسوس القدر ، فإن أجزاء أخرى من تحت تقع مواقع لو رفعت لغطت سطحا مع الأول ، فيكون بعضها يرى لأنه فى السطح الأعلى ،
وبعضها يرسل شبحها إلى السطح الأعلى ، فتتوافى الأشباح بصبغ واحد إذا الماء يؤدى
لون كل واحد منها لإشفافه ، فيرى الجميع متصلا فى سطح واحد ، ويتخيل مستوليا على
الماء ولا يكون. ويصحح هذا القول قلة ما يرى من
الصبغ فى الرقيق الذي لا ثخن له ، وكثرة ما يرى فى الكثيف العميق
، وإن كانت النسبة متشابهة ، فكانت نسبة الزعفران
الذي فى الرقيق إلى الرقيق إلى كنسبة الزعفران الذي فى العميق إلى العميق فعلى
هذين الوجهين يمكن أن يستولى القليل على الكثير. وأما فى الحقيقة فإن القليل لا
يستولى على الكثير بالكمية ، بل عسى بالكيفية المحيلة هذا. وأما إن جعلوا
الخارج
__________________
ينفذ قليل نفوذ فى
الهواء ولا يتصل بالمبصر ، ثم الهواء البعيد يؤدى إليه ويؤدى هو
إلى المبصر فإما أن يؤدى إليه الهواء لإشفافه فقط من غير استحالة ، فلم لا يؤدى
إلى الحدقة فيكفى ذلك مؤنة خروج الروح إلى الهواء وتعرضه للآفات ، وإن كان
بالاستحالة فقد قيل فى ذلك ما قيل ثم لم لا يستحيل
من الحدقة من غير حاجة إلى الروح.
__________________
الفصل
السادس
فى إبطال مذاهبهم هى الأشياء المقولة فى مذاهبهم
ولنقبل الآن على عد بعض المحالات التي تلزمهم بحسب أوضاعهم. فمن ذلك وضعهم أن أجزاء
الخارج عن البصر تنعكس عن الأجسام إلى أجسام أخرى ، فإذا رأت جسما انعكست عنه إلى جسم آخر فرأته ورأت ذلك الجسم الآخر المنعكس إليه ، مثلا لما وصلت إلى المرآة رأت
المرآة ، ثم لما انعكست عن عن المرآة إلى جسم آخر رأته أيضا معا ، فيكون
شىء واحد رأى شيئين معا ، فيتخيل أن أحد الشيئين يراه فى الآخر ويلزم
وضعهم هذا مباحث عليهم.
من ذلك أن انعكاس
هذا الشعاع هو عن الصلب أو عن الأملس أو عن مجتمعهما ، لكن هذا العكس مما قد يرونه
يقع عن أملس غير صلب مثل الماء فليست الصلابة هى الشرط ، فيبقى أن يكون السبب فيه هو الملاسة. فإذا كان السبب فيه هو الملاسة ، فلا يخلو إما أن يكفى لذلك أى سطح أملس اتفق ، أو يحتاج إلى سطح
متصل الأجزاء أملس. فإن كان الشرط هو القسم الثاني لم يجز أن ينعكس عن الماء ،
لأنه لا اتصال لسطحه عندهم لكثرة المسام التي يضعونها فيه التي بسببها يمكن أن يرى ماوراءه بالتمام ، وإن كان ليس من شرطه الاتصال
فيجب أن يوجد هذا العكس عن جميع الأجرام وإن كانت خشنة ، لأن سبب الخشونة الزاوية
أو ما يشبه الزاوية مما يتقعر عن الحدبة. ولا بد
__________________
فى كل ذى زاوية من
سطح ليست فيه زاوية فيكون أملس ، وإلا لذهبت الزوايا إلى غير النهاية أو انتهت
قسمة من السطح إلى أجزاء ليست بسطوح ، وكلاهما محال. فإذن كل جرم مؤلف السطح من سطوح ملس ، فيجب أن يكون عن كل سطح منها عكس ، أو يقال أمران :
أحدهما أن السطوح الصغار لا ينعكس عنها الشعاع ، والثاني أن السطوح المختلفة الوضع ينعكس عنها الشعاع إلى جهات شيء فيتشذب المنعكس. ولا ينال
شيئا لعدم الاجتماع. فأما القسم الأول فباطل ، فإن من المعلوم أنه إن كان يخرج من البصر جسم حتى ينتشر فى نصف كرة العالم دفعة أنه يكون عند الخروج
فى غاية تصغر الأجزاء وتشتتها ، وأنه إذا انعكس فإنما يلاقى كل جزء صغير منه ، وكل
طرف خط دقيق منه لا محالة جزءا مساويا له وينعكس عنه
ولا ينفع ولا يضر فى ذلك ماوراءه ، عسى أن اتفق أن كان السطح الأملس الذي يلاقيه
أصغر منه لم ينعكس عنه. لكنا إذا تأملنا لم نجد هذا المعنى هو السبب والشرط فى منع
الانعكاس فى الأشياء الموجودة عندنا لأنه قد يتفق أن يكون شىء خشن نعلم يقينا أن
لأجزائه التي لها سطوح ملس مقدارا ما لا نشك فى أنه أعظم من مقدار أطراف الشعاعات
الخارجة ومع ذلك لا تنعكس عنها. وهذا مثل الزجاج الدقوق والملح الجريش والبلور
الجريش الذي نعلم أن سطوح أجزائه ملس وليس بغاية الصغر حتى
تكون أصغر من أجزاء الشعاع الخارج ، وإذا اجتمعت لم ينعكس عنها الشعاع ، بل ولا من أشياء أكبر من ذلك أيضا. ثم من البعيد أن تقبل الأجرام الكثيفة الأرضية تجزيئا إلى أجزاء أصغر من الأجزاء التي يقبل إليها الجسم الشعاعى التجزى ، حتى يوجد جزء للكثيف أصغر مما ينقسم اللطيف إلى مثله. ثم إن كان علة العكس عن
الأملس عدمه المنفذ وهناك حفز من ورائه ، فذلك موجود للخشن. وإن كان لا
حافز من ورائه
__________________
ولا عدم منفذ فليس
يجب أن ينعكس عن شىء ، فإن الجسم لا تكون له بالطبع حركات مختلفة ، بل بالقسر.
وأنت تعلم أنه إذا كان المضيء قد أماله بالطبع فلا ينعطف
الا بالقسر. ثم الملاسة ليست من الهيئات الفاعلة فى الأجسام فتغير طبيعة ما
يلاقيها ، ولا هى من القوى الدافعة عن أجسامها شيئا حتى تقسر الأجسام إلى التبعيد
عنها ، ولو كانت الملاسة علة لتبعيد الجسم عن الجسم لكانت تبعد ما بينهما وإن تماست على أى وضع كان ، ولكان يجب أن ينعكس البصر عن
المرآة التي يلامسها الشعاع الخارج مخطوطا عليها لا إذا لاقاها بالطرف فقط. وإن
كان السبب فى الانعكاس هو الحفز من خلف أو النبو كما يعرض للكرة ، وجب أن ينعكس عن كل صلب
لا منفذ فيه وإن لم يكن أملس. وأما على مذهب أصحاب الأشباح فلذلك وجه ، وهو أنهم
يجعلون الملاسة علة لتأدية الشبح ، وكل ملاسة عظمت أو صغرت فهى علة لتأدية شبح ما. لكن الأشباح التي تؤديها السطوح الصغار
تكون أصغر من أن يميزها البصر ، فلا تحس. فإن الجرم الخشن تختلط فيه الظلمة بالنور
فيظلم كل غور ، ويكون كل نتو أصغر من أن يؤدى شبحا يميزه الحس ولو كان متصلا لم
يعرض ذلك. فأما أصحاب العكس فهذا الصغر ليس بعذر لهم فى عدم العكس عنه.
وأما إن لم يجعلوا
العلة الصغر ، بل التشذب فإن هذا التشذب موجود
أيضا عن المرايا المشكلة أشكالا ينعكس عنها الشعاع إلى نصف كرة العالم بالتمام مما
يعلم فى فى علم المرايا. وعسى أن لا يكون العكس عن الخشن يبلغ فى تشذيبه للشعاع ما تبلغه تلك المرايا ، بل ربما تراكمت خطوط منه على نقطة واحدة ، فهذا أحد المباحث.
__________________
والبحث الثاني أنه ينعكس عن الماء وقتا وينفذ تحته وقتا وكذلك عن البلور ، فبجب إذن أن يدخل
فى أحد الأمرين نقصان عن الآخر إما أن يكون المبصر تحت الماء لا يرى صحيحا ، بل
ترى منه نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة ، أو المنعكس إليه لا يرى
بالتمام ، بل ترى منه نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة وإن رؤى أحدهما أتم رؤى الآخر بحسبه أنقص ، وليس الأمر كذلك.
والبحث الثالث هو
أن المنعكس عن الشىء الذي قد فارقه وواصل غيره ثم ترى به صورتهما معا لا يخلو إما
أن تكون مفارقة الشعاع المنعكس لا توجب انسلاخ صورة المحسوس عن الشعاع أو توجب.
فإن كانت لا توجب فكيف لا نرى ما أعرضنا عنه وفارقه الشعاع ، فإنا
لا نعرف هناك علة إلا أن الشعاع استبدل به موقعا غيره. وإن كانت المفارقة توجب انسلاخ
تلك الصورة عنه ففى الوقت الواحد كيف ترى المرآة والصورة معا ، فإن كان القائم على
المرآة من الشعاع يرى صورة المرآة والزائل عنه إلى شىء آخر يرى
صورة ذلك الشىء ، فقد اختص بكل واحد من المبصرين جزء من الشعاع فيجب أن لا يريا
معا ، كما أن الشعاع الواقع على زيد والشعاع الواقع على عمرو فى فتح واحد من العين معا لا يوجب أن يتخيل المرئى من زيد مخالطا للمرئى
من عمرو. فإن قيل : إن السبب فيه أن ذلك الشعاع يؤدى الصورة من طريق ذلك الخط إلى
النفس فيكون خط واحد يؤديهما معا وما تأدى من خط واحد رؤى واحدا فى الوضع. قيل : أما أولا فقد أبطلت مذهبك ومنعت أن يكون الخط الخارج
مبصرا من خارج ، بل مؤديا ؛ وأما ثانيا فإنه ليس يمتنع أن يخرج خط ثان يلاقى الخط المنعكس ويتصل به ، فإن كان إنما يؤدى بما يتصل به من الخطوط ثم
تحس القوة التي فى العين لا الخارجة ، فحينئذ كان يجب أن يرى الشىء من الخطين معا
فترى الصورة مع صورة المرآة ومع غير تلك الصورة ، وكان يجب أن يتفق مرارا أن يرى
الشىء متضاعفا لا بسبب فى البصر ولكن لاتصال خطوط شتى بصرية بخط واحد ، وهذا مما
لا يكون ولا يتفق ، فإنا إنما يمكننا أن نرى الشىء فى المرآة
__________________
ونراه وحده إذا
كان مقابلا للبصر ، وأما إذا لم يكن مقابلا فإنا نراه فى المرآة فقط.
فليكن على أصلهم آ
نقطة البصر وب موضع المرآة وليكن خط آب خرج من البصر ثم انعكس إلى جسم عند ج
وليخرج خط آخر وهو آ د ويقطع خط ب ج على ه

ويتصل به هناك.
فأقول : يجب على أصولهم أن يكون شبح د يرى مع شبح ج وب ويرى شبح ج من طرفى ه وب
وخطى ه آ وب آ. وذلك لأن أجزاء هذه الخطوط الخارجة من الأبصار إما أن تكون متصلة
وإما أن تكون متماسة ، فإن كانت متصلة وكان من شأن بعضها كما فرضناه أن يقبل الأثر
مع بعض إذا اتصلت حتى تؤديه إلى الحدقة ، وكان الأثر فى كلية الجرم نفسه لا فى سطح منه
مختص بجهة ، وليس ذلك التأدية اختياريا ولا صناعيا ، بل طبيعيا ، فإذا حصل المنفعل ملاقيا للفاعل الذي يفعل بالملاقاة وجب أن ينفعل عنه. فإن الحكم فى خروج التهيؤات الطبيعية التي فى جواهر
الأشياء إلى الفعل هو أن تكون طبيعة التهيؤ موجودة فى ذات المنفعل وإن لم تكن بسبب
شىء من طبيعة الفاعل ، والأمر الذي عنه الفعل موجودا فى
ذات الفاعل ، وإن لم يوجد مثلا فى المنفعل. وإذا حصل ذلك لم يتوقف الخروج إلى الفعل إلا على وصول أحدهما إلى الآخر. فإذا وصل
الفاعل إلى المنفعل وارتفعت الوسائط ، وهذا فيه قوة الفعل وذلك فيه قوة الانفعال ،
وجب الفعل والانفعال الكائن بينهما بالطبع على أى نحو كان
الاتصال ، ولم يكن للزاوية الكائنة بحال معنى ، ولا
__________________
لفقدان المنفذ
وفناء المشف عند المرآة أثر. فإنه سواء فنى المنفذ واتصل به خطوط أو كان غير فان واتصل به خطوط ، فإن الفاعل يجب أن يفعل والمنفعل يجب
أن ينفعل. فإن كان الشبح والأثر مثلا ليس فى الجرم الشعاعى الممتد نفسه
ولكن فى سطح منه أو نقطة هى فناؤه ونهايته ، وليست
فى جهة ذلك الخط بحيث يتصل به ذلك الخط من تلك الجهة
فينفعل عنه ، بل على غير امتداد ذلك الخط ، فيجب أن
لا ينفعل ما بين أول الخط وآخره ، بل يقع الشبح من السطح الملامس إلى السطح الثاني
دفعة من غير انفعال الأجزاء فى الوسط. وذلك لأن المتصل لا مقطع له بالفعل ، أو وجب
أن يكون الأداء على الخط المستقيم ولا يؤدى على زاوية البتة ، لأن لنقطة الزاوية إعراضا عن الاستقامة وهذا مما لا يقال. فبين من هذا أن انفعال خط ه آ
من خط ج من ه كانفعال خط ب آ من خط ه ب ، بل هو أولى وأقرب ، فيجب أن يتأدى شبح ج
من كلا خطى ه آ ب آ ، فيجب أن يرى ج حينئذ لا شيئا واحدا بل شيئين. وأيضا يجب أن
يتأدى شبح د مع شبح ج ويضعون أن شبح ب متأد مع شبح ج ، فيجب
أن ترى الأشباح الثلاثة معا ، وجميع هذا غير كائن. وعلى هذا القياس إن كانت متماسة
فإنها إن كان كل جزء منها يقبل الأثر بجميع جرمه وجب بمماسته الفعل والتأثير فى الذي يليه ، وإن كان لا يؤثر إلا فى السطوح التي تقابل المبصر لم يجز فى شيء من الزوايا التي تقع حائدة عن
ذلك السطح أن يتأدى منها المبصر إلى البصر.
فإن سئلنا نحن
أنكم ما بالكم توجبون أن تقع تأدية هذا الشبح على الاستقامة أو على هيئة ما وقوعا إلى بعض الأبصار المماسة له دون بعض ، فنقول : أما نحن بالحقيقة فلا نقول :
إن الهواء مؤد على أنه قابل شىء البتة من الرسوم والأشباح من شىء ليحمله إلى شىء ،
بل نقول : إن من شأن النير أن يتأدى شبحه إلى المقابل له إن لم يكن بينهما عائق هو
الملون ، بل كانت الواسطة بينهما مشفة. ولو كانت الواسطة قابلة أولا ثم مؤدية لأدت
إلى الأبصار كلها كيف كان وضعها كما تؤدى الحرارة إلى إلى الملامس كلها كيف كان
وضعها :
__________________
ثم من الأمور التي
يجب أن يبحث عنها فى هذا الموضع هو أنا كثيرا ما نرى
الشبح وذا الشبح معا دفعة واحدة ونراهما متميزين ، أعنى أنا نرى فى المرآة شبح شىء
ونراه أيضا بنفسه من جانب وذلك معا ، وعسى أن ذلك إنما يقع بسبب خطى شعاع أحدهما يصير إليه بالاستقامة ، والآخر على زاوية عكس.
زاوية عكس. ولأن الواقعين على الشىء اثنان ، فمن جهة ذلك نراه اثنين فنحصل الآن هذا هل هو ممكن أو ليس بممكن. فنقول : إن وقوع جزءين على المبصر لا يوجب
أن يرى الشىء الواحد اثنين ، فإن الشعاع عندهم كلما اجتمعت أجزاؤه على المبصر وتراكمت كان إدراكها إياه أشد تحقيقا وأبعد عن الغلط فى العدد.
والخصوم معترفون بهذا ولا يوجبون أن شعاعا واحدا إذا رأى الشىء وحده كان واحدا ،
فإن وقع عليه شعاع آخر واتصل به صار فى الرؤية بسببه غلط. على
أنه لا يمكن أن يلمس شيئا واحدا شعاعان معا لا شعاعا أصل ولا شعاعا أصل وعكس.
والشعاع جسم على ما يرونه ، لأن الجسم لا ينفذ فى الجسم ، بل يجوز أن يقع شعاع على
شعاع. فإن سلكنا هذه السبيل لم يكن الإبصار بكليهما على سبيل اللمس ؛ بل يكون
أحدهما يلمس والآخر يقبل منه ، وسواء كان الشعاعان طرفى خطين خرجا على الاستقامة
أو أحدهما والآخر من جانب العكس.
فإذن إن كان هاهنا
سبب فليس وقوع شعاعين على واحد مطلقا ، بل بشرط وهو أن أحد الشعاعين وقع عليه وحده ، والشعاع الثاني أيضا وقع معه على غيره.
وهذا القسم يبطل بمرآتين توضعان متقابلتين ، فإن الأشعة لا تفترق فيهما من هذه
الجهة ، بل كل شعبوب شعاع فهو واقع على الاثنين جميعا. ومع ذلك فإن البصر يرى
كل مرآة وشبحها دفعة. والشعاعان هاهنا لا يفترقان ، فلا يجوز أن يؤدى شعاع
__________________
شبحا والآخر غير
ذلك الشبح ، فإن كل واحد منهما أدرك ما أدرك الآخر
والمدرك واحد فيجب أن لا يكون الإدراك والأداء
اثنين ، بل يجب أن يأتى البصر صورة كل مرآة مرة غير
مكررة. وإن تكررت بسبب العكس وكان لذلك وجه وعذر متكلف
لنسامح فى تسليمه ، فلا يجب أن يقع تكرار بعد تكرار فما بال كل واحدة من المرآتين تتأدى عنها أشباح كثيرة حتى ترى المرآة الواحدة مرارا كثيرة ،
مرة واحدة ترى نفسها كما هى ومرارا كثيرة جدا شبحها فإن قلنا : إن الشعاع لما انعكس من هذه المرآة إلى الأخرى فى هذه المرآة ، ثم
لما انعكس مرة أخرى إلى الأولى رأى الأولى فى هذه الأخرى ، فإذا انعكس مرة أخرى
فلم لا يرى كما رآه مرة أولى ، إلا أن يقولوا إن الأول رآه بجزء والآخر رآه بجزء
آخر. فإن كانت الأجزاء مؤدية لإراءته فليس تؤدى أشياء
أخرى ، بل ذلك الشبح بعينه واختلاف وقوعها عليه بعد كونه واحدا بعينه لا يوجب اختلافا فى الرؤية. فقد بينا ذلك أيضا ، فإن عندهم أن أجزاء المنعكس تجتاز
على المبصر المنعكس عنه اجتيازا ، فيجب أن تتبدل
صورته فى تلك الأجزاء. ومع ذلك فليس يجب من تبدلها عليه أن
تزيد فى عدد ما يدرك أولا وثانيا إذ كان ما يؤدى من الصورة واحدا ، وإن كانت الأجزاء بأنفسها رائية وجب ما قلنا فى امتناع رؤية شبح المنعكس إليه
فى شبح المنعكس عنه. ثم لم يجب أن ترى الأشباح عن قليل وقد صغرت.
فعسى أن يقولوا : إن الشعاع إذا تردد طالت مسافته فرأى كل مرة أصغر
ففارق الأول الثاني بالصغر ، فيجب أن يكون أولا الخطوط الشعاعية إذا تراكمت لا
تكون كخط واحد أغلظ وأقوى من الأول ، بل تبقى خطوطا معطوفة موضوعة بعضها
__________________
بجنب بعض محفوظة
القوام لا تتحد. وهذا الحكم عجيب. وبعد ذلك فإنهم لا يجدون للتصغر بالبعد المنعرج من تحدد الزاوية ما يوجد للبعد المستقيم. ثم ما يقولون فى ذلك
المرئى بعينه ، فإنه إذا بوعد به أضعاف ما تقتضيه المساحة بين الانعكسات لم ير
بذلك الصغر. مثلا إنه إذا انعكس البصر من مرآة إلى مرآة ب
فرأى صورة ب فى مرآة آ ثم انعكس البصر من مرآة ب إلى مرآة آ فرأى صورة آ فى مرآة ب ، ثم انعكس البصر من مرآة آ إلى مرآة ب فرأى صورة ب. ثم كذلك
رأى صورة آ فى مرآة ب والبعد بينهما شبران فيجب أن يكون ما قطعه الشعاع من
مسافته المنعرجة ما بين العين وإحدى المرآتين ثمانية
أشبار. ولو أنا بعدنا مرآة ب عن مركزها عشرة أشبار فما فوقها لم نكن نراها بذلك الصغر. على أن العجب فيما ذكرناه هو من افتراق الصورة
المأخوذة عن الشىء بذاته ، والمأخوذة عنه بالعكس ، أو
المأخوذة عنه بعكسين ، فإن جميع ذلك متفرق عند البصر. والصورتان المأخوذتان هما عن
مادة واحدة فى قابل واحد فبما ذا تفترقان. لأن افتراق الصور إما بالحدود والمعانى
وإما فى القوابل ؛ والصورتان معنياهما واحد وحاملهما
الأول واحد ، وقابلهما الثاني واحد ، فيجب أن لا تكونا اثنين.
أما على مذهبنا ،
فإن هذه الشناعة غير لازمة ، لأن الصورتين عندنا مأخوذتان عن قابلين : أحدهما
حاملهما الأول ، والثاني الجسم الصقيل القابل لشبحهما نوعا من القبول أو الفاعل لصورهما فى العين نوعا من الفعل. ثم العجب
من أمر الشعاع بعد الشعاع ، فإنه إن كان الأمر على ما قلنا من
أن الشعاع الثاني لا يجب أن ينفذ فى فى الأول ، بل يماسه من خارج فكيف يلامس الشعاع المنعكس المرئى فيراه ، وإنما يلامس ما
غطاه من لامسه السابق. فإن كان يرى ما رآه ذلك بحسب الانفعال منه
__________________
وقبول ما قبله
بسبب الاتصال به ، بطلت شريطة الانفعال على الزاوية المعينة ، وكان أيضا إنما أدرك
ما أدرك الأول لا شيئا غيره بالعدد بوجه
من الوجوه ، وإن كان كل يلامس شيئا من أجزاء الشىء غير ما يلامسه الآخر ، فليس ولا
واحد منهما بمستقصى الإدراك ولا إدراكهما لشىء واحد.
__________________
الفصل السابع
فى حل الشّبه التي أوردوها فى إتمام القول فى المبصرات
التي لها أوضاع مختلفة من مشقات ومن صقيلات
فلنحل الآن الشبه
المذكورة. فأما ما تعلقوا به من أن القرب يمنع الإبصار وأن انتقال الألوان
والأشكال عن موادها مستحيل ، فهذا إنما كان يصح لهم لو قيل : إن الإبصار أو شيئا من الإحساسات إنما هو بنزع الصورة من المادة على أنه أخذ نفس الصورة من المادة
ونقلها إلى القوة الحاسة. وهذا شىء لم يقل به أحد ، بل قالوا إن ذلك على سبيل
الانفعال. والانفعال ليس أن يسلخ المنفعل قوة الفاعل أو كيفيته ، بل أن يقبل منه مثلها
أو جنسا غيرها. ونحن نقول : إن البصر يقبل فى نفسه صورة من المبصر مشاكلة للصورة
التي فيه لا عين صورته ، وهذا الذي يحس أيضا بالتقريب كالمشموم والملموس فليس يسلب
الحاس بذلك صورته ، بل إنما يوجد فيه مثل صورته. لكن من الأشياء ما إلى الانفعال
عنه سبيل بالملاقاة ، ومنها ما إذا لوقى انقطع عنه شىء يحتاج إليه حتى يؤثر أثره ، وهو فى هذا
الموضع هو الشعاع المحتاج إلى اتصاله بالصورة المرئية فى أن يلقى ذو
الصورة شبحا عن صورته فى غيره مناسبا لما نراه من إلقائه شبحه المؤكد إذا اشتد
عليه الضوء ، حتى أنه يصبغ ما يقابله
__________________
بصبغه فأداه
متحققا إذا كان ما يقابله قابلا لذلك ولو بتوسط مرآة أيضا ، ومع الاحتياج إلى استضاءة المرئى فإنه يحتاج أيضا إلى متوسط كالآلة تعينه عليه وهو الإشفاف ، وأن يكون للمقدار منه حد محدود لا
يقع الأصغر منه فيه.
ومن الدليل على أن
المدرك يأخذ شبحا من المدرك ما يبقى فى الخيال من صورة المرئى حتى يتخيله متى شاء
، فترى أن ذلك المتخيل هو صورة الشىء فى نفسه ، وفد انتقل إلى الخيال وتجرد تجرد الشىء عن صورته ، كلا بل هو شىء غيره مناسب له. وأيضا فإن بقاء
صورة الشمس فى العين مدة طويله إذا نظرت إليها ثم أعرضت عنها يدلك على قبول العين للشبح ، وكذلك تخيل القطرة النازلة خطا
والنقطة المتحركة على الاستدارة بالعجلة دائرة ، ولا يمكنك أن تتخيل ذلك وتراه
إلا أن ترى امتدادا ما ، ولا يمكن أن ترى امتدادا من نقطة متحركة فى غير زمان ولا
من غير أن تتخيل ذلك الشىء فى مكانين. فيجب أن يكون تكون القطرة فوق ثم تحت وامتدادها فيما بين ذلك ، وكون النقطة على طرف من المسافة التي تستدير فيها وعلى طرف آخر ، وامتدادها فيما بين ذلك ، متصور الشبح عندك. وليس ذلك
بحسب آن واحد ، فيجب إذن أن يكون شبح ما تقدم مستحفظا بعده باقيا عقيبه ، ثم يلحقه
الإحساس بما تأخر ويجتمعان امتدادا كأنه محسوس. وذلك لأن صورته راسخة
وإن كانت القطرة أو النقطة قد زالت عن أى حد فرضت ولم تبق فيه زمانا.
وأما ما ذكروه من
أمر النور الذي يتخيل بين يدى العين ، فالسبب فى
__________________
غلطهم به أن ذلك
عندهم ليس يكون إلا على وجه واحد ، حتى ظنوا أنه لا يجوز أن تكون العين شيئا له فى
جوهره ضوء كالأشياء اللوامع التي ذكرناها فيما سلف. فإذا كانت ظلمة لمع وأضاء ما
قدامه بكيفية يؤثرها لا لشىء ينفصل عنه وكأنه لا يجوز أيضا أن
يكون الحك واللمس قد يحدث شعاعات نارية لطيفة فى الظلمة ، كما يتفق من مس ظهر السنور وإمرار اليد على المخدة واللحية فى الظلمة. وقد يظهر لك أنه لا يبعد
أن تكون الحدقة نفسها مما يلمع ليلا ويضيء ويلقى شعاعها على ما يقابلها ، فإن عيون
كثير من الحيوان بهذه الصفة كعين الأسد والحية. فإذا كانت كذلك جاز أن ينير المظلم. ولهذا ما كان كثير من الحيوانات ترى الظلمة
لإنارتها الشىء بنور يفيض من عينيها ولقوة عينها.
وأما حديث امتلاء
الحدقة عند تغميض الأخرى فمن الذي ينكر أن يكون فى العصبة المجوفة جسم لطيف هو
مركب القوة الباصرة ، وهو الذي يسمى الروح الباصرة ، وأنه يتحرك تارة مستبطنا هاربا وتارة مستظهرا محدقا. فإذا غمضت
إحدى العينين هرب من التعطل ومن الظلمة طبعا ، فمال إلى العين الأخرى ، لأن المنفذ فيهما مشترك على ما يعرفه أصحاب التشريح. وليس
إذا امتلا شىء من شىء ، يجب من ذلك أن يكون فى طبع المالئ بروز وخروج وذهاب فى
الأرض ومسافرة إلى أقطار العالم.
وأما حديث المرآة
فيلزم سؤالهم جميع من عنده أن المرآة تنطبع فيها صورة المحسوس. لكن الأجوبة التي
يمكن أن يجاب بها عن ذلك ثلاثة : جواب كأنه مبنى على مذهب مشهور ، وهو أن الصورة
لا تنطبع فى المرآة على الهيئة التي تنطبع الصورة المادية فى موادها وبحيث لا
تجتمع فيها الأضداد ، بل هذه الصورة تنطبع كليتها فى كلية المرآة ،
ولا بأس أن يجتمع فيها شبح بياض
__________________
وسواد معا لأنهما
فيها لا على سبيل التكيف بها ، بل كما يكون فى المعقول. والعقول تعقل
السواد والبياض من غير تعاند ولا انقسام. ثم إنما يتأدى إلى البصر ما يكون على
نسبة ما بين الثلاث أعنى المبصر والمرآة والمبصر. ولا تتفق نسبة الجميع من كل
جزء من المرآة ، بل يكون جزء منها يؤدى البياض
بعينه وجزء آخر يؤدى السواد بعينه ويتحدد بينهما حد فى الرؤية ، فتكون جملة الأداء
والتحدد محصلة الصورة مثل المبصر فى البصر. وهذا الجواب مما لا أقول به ولا
أعرفه ، ولا أفهم كيف تكون الصورة تنطبع فى جسم مادى من غير أن تكون موجودة فيه ،
وقد يخلو الجسم عنها وهى منطبعة فيه ، وكيف يكون غير خال عنها وهى لا ترى فيه ، بل ترى صورته التي له ، مع أن من شأن ذلك أيضا أن يرى.
أو كيف يكون خاليا بالقياس إلى واقف دون واقف وهذا اشتطاط وتكلف بعيد. ومما فيه من التكلف أنهم لا يجعلون للشكل
انطباعا فيه ، فإن جعلوا جعلوا الشكل غير محدود ؛ ومما فيه من التكلف أن يجعلوا
صورة السواد فى جسم من غير أن يكون ذلك سوادا للجسم ، وأن يجوزوا أيضا اجتماع
البياض فيه فى وقت واحد ويجعلوا صورة السواد غير السواد وصورة البياض غير البياض.
وأما حديث العقل والمعقول فدعه إلى وقته.
وأما الجوابان
الآخران اللذان يمكن أن يجيب بهما مجيب : أحدهما متشدد فيه والآخر مقارب فيه. فأما
المتشدد فيه فأن يقال : أما أولا فليس يجب إذا كان شىء
يحتاج إليه ، أن يفعل شىء فى شىء أن يكون المحتاج إليه مثل المرآة ، والمشف هاهنا ينفعل من المبدأ مثل الانفعال الذي ينفعل به
الثالث ، فبرى أن السيف إذا أولم به آلم ، والهدية إذا سربها سرّت ؛ وأما ثانيا
فليس بينا بنفسه ولا
__________________
ظاهرا لا شك فيه
أن كل جسم فاعل يجب أن يكون ملاقيا للملموس ، فإن هذا وإن كان موجودا بالاستقراء
فى أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل وانفعال باللقاء والتماس ، بل
يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة. فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة كالبارى والعقل والنفس ،
فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى جسم بغير الملاقاة ، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة
وأجسام تفعل لا بالملاقاة. وليس يمكن أحد أن يقيم برهانا على استحالة هذا ولا على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة ووضع يجوز أن يؤثر أحدهما فى الآخر من
غير ملاقاة ، إنما يبقى هاهنا ضرب من التعجب كما لو كان انفق أن كانت الأجسام كلها
إنما يفعل بعضها فى بعض بمثل تلك النصبة المباينة ، فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل
بفعل بالملاقاة تعجب منه كما يتعجب الآن من مؤثر بغير ملاقاة.
فإذا كان هذا غير
مستحيل فى أول العقل وكان صحة مذهبنا المبرهن عليه
يوجبه وكان لا برهان البتة ينقضه فنقول : إن من شأن الجسم المضيء بذاته والمستنير
الملون أن يفعل فى الجسم ـ الذي يقابله إذا كان قابلا للشبح قبول
البصر وبينهما جسم لا لون له ـ تأثيرا هو صورة مثل صورته من غير أن يفعل فى
المتوسط شيئا ، إذ هو غير قابل لأنه شفاف. فإذا كان غير بين بنفسه ولا قام عليه
برهان أن لا يكون جسم يفعل فى مقابل له بتوسط شفاف البتة ، وكان هذا
مجوزا فى أول العقل ومتضحا بما برهنا عليه من كيفية الإدراك ، وكان ذلك غير محال ،
فكذلك غير محال أيضا أن يكون بدل المتوسط الواحد متوسطان : المتوسط ومتوسط آخر ،
وبدل النصبة والوضع نصبتان ووضعان : النصبة والوضع المذكوران ، مع وضع ونصبة أخرى. فيكون بدل هذا المتوسط الشفاف وحده متوسط ملون صقيل مع الشفاف ، وبدل نصبة المقابلة مع هذا المضيء والمستنير النصبة
والمقابلة مع ذلك الصقيل الذي له النصبة والوضع
__________________
المذكوران مع
المضيء المستنير المرئى. فيكون من شأن هذا الجسم أن يفعل فى كل ما قابل مقابلا له صقيلا
يكون مقابله فى شفيف ولو صقيل بعد صقيل إلى غير النهاية بعد أن يكونا على وضع محدود فعلا هو مثل صورته من غير أن يفعل فى الصقيل
البتة. فيكون المشف والصقيل شيئين يحتاج إليهما حتى يفعل شىء فى شىء آخر ولا يكون
ذلك الفعل بعينه فيهما. فإذا كان كذلك واتفق أن وافى خيال الصقيل إلى البصر وخيال
الشىء الآخر معا ورئيا معا فى جزء من الناظر واحد ، ظن أن الخيال يرى فى الصقيل
بعكس ما قالوا فى الشعاعات.
وأما الطريق
المساهل فيه فهو أنه ليس يجب أن يؤثر كل شىء فى كل شىء مثل نفسه ، كما يجوز أن
يؤثر أيضا مثل نفسه. فالمضىء والمستنير يجوز أن يؤثرا فى الهواء أثرا ما ، ذلك
الأثر ليس أن يتشبح بشبح مثل صورة المضيء والمستنير ، بل يؤثر فيه أثرا لا يدرك بالحس البصرى أو غيره من الحواس ، وكذلك يجوز أن يؤثر فى الصقيل أثرا ما إما بواسطة المشف أو بغير واسطة. ثم
المشف أو الصقيل يفعل فى آلة البصر أثرا ، ذلك الأثر هو مثل صورة ما أثر فى كل واحد منهما أولا ، فيكون كل واحد من
المؤثرين يؤثر أثرا خلاف ما فيه ، أعنى بالمؤثرين : المرئى الذي يؤثر فى المشف أو الصقيل ، والمشف أو الصقيل الذي يؤثر فى البصر. ومثل هذا كثير ، أعنى أن يكون شىء
يؤثر فى شىء أثرا خلاف طبيعته ، ثم يؤثر هو فى شىء آخر مثل طبيعة الأول ، مثل
الحركة فإنها تحدث فى جرم شىء سخونة فتسخن الشىء ، ثم تلك السخونة تحدث حركة غير الحركة
الأولى بالعدد ومثلها فى النوع. وقد يمكن أن يشاهد هذا بمرآة ينعكس عنها ضوء ولون
إلى حائط بحيث يستقر فى الحائط ولا ينتقل بحسب مقامات الناظر ولا يكون مستقرا
البتة فى المرآة. وهذا المستقر يعلم أنه
__________________
وارد من طريق
المرآة إلى الحائط ، وهو وإن كان يرى فى المرآة فلا يرى مستقرا فيها فتكون المرآة أثرت
أثرا مثل كيفية ما أثرت فيها أثرا ليس مثل كيفية فى الاستقرار ، وعلى ذلك حال البصر.
وأما حديث
الانعطاف عن الماء فقد قال أصحاب الشعاع إن الشعاع إذا وقع عليه انبسط وانكسر أولا فأخذ مكانا أكثر ثم نفذ فرآه مع أكثر مما
يحاذيه. وأما أصحاب الأشباح فقد قال بعضهم : إن السبب فيه أن بعض ما يحاذى يؤدى على أنه
منفذ فى المحاذاة ، وبعضه على أنه مرآة ، ولا يبعد أن يظن أن الجميع يؤدى على أنه
مرآة ، والمرآة من داخل خلاف المرآة من خارج. وقال فاضل قدماء المفسرين : إن البصر
يعرض له لما يفوته من استقصاء تأمل الشيء أن يراه أبعد ويتفرق البصر لتأمله فيعظم
شبحه. ويمكن أن يؤكد هذا القول بأن الشىء الذي اعتيد أن يرى من بعد ما على قدر ما
فإذا تخيل أبعد من حيث هو ولم ير قدره القدر الذي يخيله ذلك البعد ،
بل أعظم منه لأنه بالحقيقة قريب روى له مقدار أعظم من المقدار الذي يستحقه ببعده
فيتخيل أعظم من المعهود. ثم فى هذا فضل نظر يحتاج أن يفطن له المتحقق للأصول ،
ويكون بحيث لا يخفى عليه كيف ينبغى أن يكون الحق فى ذلك. ثم هذه
الشبهة ليست مما تخص بلزومها إحدى الفرقتين دون الأخرى فإن الانكسار الذي يقوله أصحاب الانكسار إن كان للصك فلم بقى على حاله ولم لا
يرجع كرة أخرى فيستوى ، إذ طبيعة الشعاع أن ينفذ على الاستقامة. فإن كان هذا مستحيلا
فى الشعاع النافذ إليه إذا لاقاه ثم ازداد الشىء غورا فلم يعرض له أن يزداد لغوره
انكسارا ولم لا يزداد بامتداده انتظاما ، فإن القياس يوجب أن يحدث له بالامتداد
اتصال لا ينبسط. وبالجملة فنعم ما قال المعلم الأول حين قال : لأن يمتد المبصر من سعة إلى ضيق فيجتمع فيه
__________________
يكون ذلك فيه أعون
على تحقيق صورته من أن يخرج الرائى من العين منتشرا فى السعة.
ومما يتصل بهذا
الموضع حال ما نقوله من أوضاع المرئى والرائى والضوء والمرآة ،
فنقول : قد يعرض أن يكون المرئى والمضيء والرائى فى شفاف واحد ، وقد يعرض أن يكون
المضيء والمرئى فى شفافات بينها سطوح ، فإن كان وضع السطح فى المحاذاة التي بين الرائى
والمضيء الفاعل للاستنارة لم ير ذلك السطح كسطح الفلك والهواء ، وإن كان السطح
خارجا عن ذلك كسطح الماء ونحن فى الهواء ، والمضيء ليس فى هذه المحاذاة ، فإن ذلك
السطح ينعكس عنه الضوء الآتى من المضيء إلى البصر ، فيرى متميزا ، فقد علمت ما
نعنى بالعكس. وإن كان فى داخل السطح المنعكس عنه مرئى أراه ما هو فيه على أنه مشف وأراه على أنه مرآة ، وكانت المرآة التي هناك مطابقة لما يحاذى المرئى إن كان مكشوفا للرائى ، وإن كان مستورا
كانت المرآة ملتقى الخط الخارج من البصر والعمود الخارج من
المرئى الذي فى الماء ، فإن شبحه يتأدى عنه على استقامة.
فإنك إن ألقيت
خاتما فى الطشت بحيث لا تراه ثم ملأته ماء رأيته ، وإن كان المرئى خارجا
عن شفاف متوسط غير الشفاف الذي فيه الرائى والمضيء ، فإن المشف المتوسط يريه وإن كان ليس كذلك ، بل هو من جهة الرائى ، فإن سطح ذلك المشف لا يريه
إلا أن يجعل له لون غريب بشيء يوضع من ذلك الجانب
حتى يرى ككرة البلور الملون أحد جانبيها.
__________________
الفصل الثامن
فى سبب رؤية الشيء الواحد لشيئين
لنقل فى سبب رؤية
الشىء الواحد كشيئين فإنه موضع نظر ، وذلك لأنه أحد ما يتعلق به أصحاب الشعاعات أيضا. ويقولون : إنه إذا كان الإبصار بشيء خارج من البصر يلقى
البصر ثم يتفق أن ينكسر وضعه عند البصر ، وجب أن يرى الشىء الواحد لا محالة كشيئين
متباينين فيرى اثنين. وليسوا يعلمون أن هذا يلزمهم الشناعة بالحقيقة ، وذلك لأن الإبصار إن كان بمماسة أطراف الشعاعات وقد اجتمعت عليه ، فيجب أن
يرى على كل حال واحدا. ولا يضر فى ذلك انكسار أطراف الشعاعات المنكسرة ، بل الحق
هو أن شبح المبصر يتأدى بتوسط الشفاف إلى العضو القابل المتهيئ الأملس النير من غير أن يقبله جوهر الشفاف أصلا من حيث هو تلك الصورة ، بل
يقع بحسب المقابلة لا فى زمان ، وأن شبح المبصر أول
ما ينطبع إنما ينطبع فى الرطوبة الجليدية ، وأن الإبصار بالحقيقة لا يكون عندها ،
وإلا لكان الشىء الواحد يرى شيئين لأن له فى الجليديتين شبحين كما إذا لمس باليدين كان لمسين. ولكن هذا الشبح يتأدى فى العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما على هيئة الصليب ، وهما
عصبتان نبين الشبح يتأدى فى العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما على هيئة الصليب ،
وهما عصبتان نبين لك حالهما حين نتكلم فى التشريح.
وكما أن الصورة
الخارجة يمتد منها فى الوهم مخروط يستدق إلى أن يوقع زاويته وراء سطح الجليدية ،
كذلك الشبح الذي فى الجليدية يتأدى بوساطة الروح المؤدية
__________________
التي فى العصبتين
إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقى المخروطان ويتقاطعان هناك فتتحد منهما صورة
شبحية واحدة عند الجزء من الروح الحامل للقوة الباصرة. ثم أن ما
وراء ذلك روحا مؤدية للمبصر لا مدركة مرة أخرى ، وإلا لافترق الإدراك مرة أخرى
لافتراق العصبتين. وهذه المؤدية هى من جوهر المبصر وتنفذ إلى الروح المصبوبة فى
الفضاء المقدم من الدماغ فتنطبع الصورة المبصرة مرة أخرى فى تلك الروح الحاملة
لقوة الحس المشترك فيقبل الحس المشترك تلك الصورة وهو كمال الإبصار.
والقوة المبصرة غير الحس المشترك ، وإن كانت فائضة منه وهو مدبر لها. لأن القوة الباصرة تبصر ولا تسمع ولا تشم ولا تلمس
ولا تذوق ، والقوة التي هى الحاسة المشتركة تبصر وتسمع وتشم وتلمس وتذوق على ما
ستعلم. ثم إن القوة التي هى الحاس المشترك تؤدى الصورة إلى جزء من الروح يتصل بجزء
من الروح الحامل لها فتنطبع فيه تلك الصورة ويخزنها هناك عند القوة المصورة وهى الخيالية ـ
كما ستعلمه ـ فتقبل تلك الصورة وتحفظها. فإن الحس المشترك قابل للصورة
لا حافظ ، والقوة الخيالية حافظة لما قبلت تلك ، والسبب فى ذلك أن الروح التي فيها
الحس المشترك إنما تثبت فيها الصورة المأخوذة من خارج منطبعة ما دامت النسبة
المذكورة بينها وبين المبصر محفوظة أو قريبة العهد. فإذا غاب المبصر انمحت
الصورة عنها ولم تثبت زمانا يعتد به. وأما الروح التي فيها
الخيال فإن الصورة تثبت فيها ، ولو
بعد حين كثير ، على ما سيتضح لك عن
قريب. والصورة إذا كانت فى الحس المشترك كانت محسوسة بالحقيقة فيه ، حتى إذا انطبع فيه صورة كاذبة فى الوجود أحسها
__________________
كما بعرض
للممرورين ، وإذا كانت فى الخيال كانت متخيلة لا محسوسة.
ثم إن تلك الصورة
التي فى الخيال تنفذ إلى التجويف المؤخر إذا شاءت القوة الوهمية ففتحت الدودة
بتبعيد ما بين العضوين المسميين إليتى الدودة ، فاتصلت بالروح الحاملة للقوة الوهمية بتوسط الروح الحاملة للقوة
المتخيلة التي تسمى فى الناس مفكرة ، فانطبعت الصورة التي فى الخيال فى روح القوة
الوهمية. والقوة المتخيلة خادمة للوهمية مؤدية ما فى الخيال إليها ، إلا أن ذلك لا
يثبت بالفعل فى القوة المتوهمة ، بل ما دام الطريق مفتوحا والروحان متلاقيين
والقوتان متقابلتين فإذا أعرضت القوة المتوهمة عنها بطلت عنها تلك الصورة. والدليل على صحة القول بأن حصول هذه الصورة فى الوهم غير حصولها فى الخيال ، أن الخيال كالخازن وليست الصورة التي فيه متخيلة
للنفس بالفعل دائما ، وإلا لكان يجب أن نتخيل معا صورا كثيرة أى صورة كانت فى الخيال ، ولا هذه الصور أيضا فى الخيال
على سبيل ما بالقوة وإلا لكان يحتاج إلى أن تسترجع بالحس
الخارج مرة أخرى ، بل هى مخزونة فيه ، والوهم بتوسط المفكرة أو المتخيلة يعرضها على النفس وعنده يقف تأدى الصورة المحسوسة ، وأما الذكر فهو لشىء آخر
كما نذكره بعد. فهذه أصول يجب أن تكون عتيدة عندك.
ولنرجع إلى غرضنا
فنقول : إن السبب فى رؤية الشىء الواحد اثنين أربعة أسباب : أحدها انفتال الآلة المؤدية للشبح الذي فى الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان
إلى موضع واحد على الاستقامة ، بل ينتهى كل عند جزء من الروح الباصرة المرتبة هناك على حدة ، لأن خطى الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه يتقاطعا عند مجاورة
ملتقى العصبتين ، فيجب لذلك أن ينطبع من كل شبح ينفذ
__________________
عن الجليدية خيال
على حدة وفى جزء من الروح الباصرة على حدة ، فيكون كأنهما خيالان
عن شيئين مفترقين من خارج ، إذ لم يتحد الخطان الخارجان
منهما إلى مركز الجليديتين نافذين فى العصبتين ، فلهذا السبب ترى الأشياء كثيرة متفرقة.
والسبب الثاني
حركة الروح الباصرة وتموجه يمنة ويسرة حتى يتقدم الجزء المدرك مركزه المرسوم
له فى الطبع آخذا إلى جهة الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح والخيال
قبل تقاطع المخروطين فيرى شبحين ، وهذا مثل الشبح المرتسم من الشمس فى الماء
الراكد الساكن مرة واحدة والمرتسم منها فى المتموج ارتساما متكررا. وذلك أن الزاوية الحاصلة بين خط البصر إلى الماء وخط الشمس إلى الماء التي عندها يكون إبصار الشىء على طريق التأدى من المرآة لشىء لا تبقى واحدة ، بل يتلقاها الموج فى مواضع فتكثر هذه الزاوية فتنطبع أشباح
فوق واحد.
والسبب الثالث من
اضطراب حركة الروح الباطنة التي وراء التقاطع إلى قدام وخلف حتى تكون لها حركتان إلى جهتين
متضادتين : حركة إلى الحس المشترك ، وحركة إلى ملتقى العصبتين ،
فتتأدى إليها صورة المحسوس مرة أخرى قبل أن ينمحى ما تؤديه إلى الحس المشترك ،
كأنها كما أدت الصورة إلى الحس المشترك رجع منها جزء يقبل ما تؤديه القوة الباصرة
وذلك لسرعة الحركة ، فيكون مثلا قد ارتسم فى الروح المؤدية صورة فنقلتها إلى الحس
المشترك ، ولكل مرتسم زمان ثبات إلى أن ينمحى ، فلما زال القابل الأول من الروح عن مركزه لاضطراب حركته خلفه جزء آخر فقبل قبوله قبل أن ينمحى عن الأول ،
فتجزأت الروح للاضطراب إلى جزء متقدم كان فى سمت المرئى فأدركه ثم زال ، ولم تزل
عنه الصورة دفعة ،
__________________
بل هى فيه وإلى
جزء آخر قابل للصورة أيضا بحصوله فى السمت الذي فى مثله يدرك الصورة عاقبا للجزء
الأول والسبب الاضطراب. وإذا كان كذلك حصل فى كل واحد منهما صورة مرئية ، لأن
الأولى لم تنمح بعد عن الجزء القابل الأول المؤدى إلى الحس المشترك أو عن غير المؤدى إليه حتى انطبعت فى الثاني. والفرق بين هذا القسم والقسم الذي قبله أن هذه الحركة المضطربة
إلى قدام وخلف ، وكانت تلك إلى يمنة ويسرة.
ولمثل هذا السبب
ما يرى الشىء السريع الحركة إلى الجانبين كشيئين. لأنه قبل أن انمحى عن الحس المشترك صورته وهو فى جانب يراه البصر وهو فى جانب آخر فتوافى إدراكاه فى الجانبين معا. ولذلك إذا دارت نقطة ذات لون على شىء مستدير رؤيت خطا مستديرا ، وإذ امتدت بسرعة على الاستقامة رؤيت خطا مستقيما. ونظير هذه
الحركة الدوار ، فإنه إذا عرض سبب من الأسباب المكتوبة فى كتب الطب فحرك الروح
الذي فى التجويف المقدم من الدماغ على الدور ، وكانت القوة الباصرة تؤدى إلى ما
هناك صورة محسوسة ، فالجزء من الروح القابل لها لا يثبت مكانه ، بل ينتقل ويخلفه جزء
آخر يقبل تلك الصورة بعد قبوله وقبل انمحائها عنه. وكذلك على الدور ، فيتخيل أن المرئيات تدور وتتبدل على الرائى ، وإنما الرائى هو
الذي يدور ويتبدل على المرئى. وإذا كان القابل ثابتا
وتحرك الشىء المبصر بسرعة انتقل لا محالة شبحه الباطن من جزء من القابل إلى جزء
آخر ، فإنه لو كان الشبح يثبت فى ذلك الجزء بعينه لكان نسبة القابل مع المقبول
واحدة ثابتة. فإذن إذا عرض لحامل الشبح أن ينتقل عن مكانه انتقل الشبح لا محالة ، فتغيرت نسبته إلى الجسم الذي من خارج ،
__________________
فعرض مثل ما يعرض لو كان الشىء الذي من خارج ينتقل. وأيضا فإن
الناظر فى الماء شديد الجرى يتخيل له أنه هو ذا يميل عن جهة ويسقط إليها ، والسبب
فى ذلك أنه يتخيل الأشياء كلها تميل إلى خلاف جهة ميل الماء ، فإن شدة الحركة
الموجبة لسرعة المفارقة توهم أن المفارقة من الجانبين معا ، والسبب انتقال الشبح
فى القابل مع ثباته فى كل جزء تفرضه زمانا ما. ويجب
أن يعلم أن مع هذه الأسباب سببا آخر معينا لها ماديا ، وذلك أن جوهر الروح جوهر فى
غاية اللطافة وفى غاية سرعة الإجابة إلى قبول الحركة ، حتى أنه إذا حدث فيه سبب موجب لانتقال الشبح من جزء إلى جزء يلزمه أن يتحرك جوهر الروح
حركة ما ـ وإن قلّت ـ إلى سمت ذلك الجزء.
والسبب فى ذلك أن
لكل قوة من القوى المدركة انبعاثا بالطبع إلى مدركها ، حتى أنها تكاد تلتذ به وإذا
انبعثت نحوه مال حاملها إليه أو مالت بحاملها إليه. ولهذا ما كان الروح الباصر يندفع جملة إلى الضوء وينقبض عن الظلمة بالطبع ، فإذا مال الشبح إلى جزء من
الروح دون جزء كانت القوة كالمندفعة إلى جهة ميل للشبح بآلتها. فإن الآلة مجيبة لها إلى نحو الجهة التي تطلبها القوة فيحدث فى الروح
تموج إلى تلك الجهة للطافتها وسرعتها إلى قبول الأثر كأنها تتبع حركة الشبح. ولهذا
السبب إذ أطال الإنسان النظر إلى شيء يدور يتخيل له أن سائر الأشياء تدور
لأنه تحدث فى الروح حركة مستديرة لاتباعها لانتقال الشبح. وكذلك إذا أطال النظر
إلى شىء سريع الحركة فى الاستقامة تحدث فى الروح حركة مستقيمة إلى ضد تلك الجهة ،
لأن جهة حركة الشىء مضادة لجهة حركة ذى الشبح ، فحينئذ
ترى الأشياء كلها تنتقل إلى ضد تلك الجهة ، لأن أشباح الأشياء لا تثبت.
والسبب الرابع اضطراب
حركة تعرض للثقبة العينية ، فإن الطبقة العينية سهلة
__________________
الحركة إلى هيئة
تتسع لها التقبة وتضيق تارة إلى خارج ، وتارة إلى داخل على الاستقامة أو إلى جهة ،
فيتبع اندفاعها إلى خارج انضغاط يعرض لها واتساع من الثقبة ، ويتبع اندفاعها إلى
داخل اجتماع يعرض لها وتضيق من الثقبة. فإذا اتفق أن ضاقت الثقبة رؤى الشىء أكبر ، وإذا اتسعت رؤى أصغر ، أو انفق أن مالت إلى جهة رؤى فى مكان آخر.
فيكون كأن المرئى أولا غير المرئى ثانيا ، وخصوصا إذا كان قد تمثل قبل انمحاء الصورة الأولى صورة أخرى.
ولقائل أن يقول : فلم لا تثبت الصورة واحدة مع انتقال القابل كما تبقى صورة الضوء واحدة مع
انتقال القابل ، فيكون إذا زال القابل عن المحاذاة بطلت
الصورة عنه وحدثت فيما يقوم مقامه ، فلم تكن صورتان ، فلم تكن رؤيتان ، ولا اتصال
خط من نقطة ، ولا رؤيت الأشياء تستدير. فنقول : لا يبعد أن يكون
من شأن الروح التي للحس المشترك أن لا تكون إنما تضبط الصورة بالمحاذاة فقط ،
وإن كانت لا تضبطها بعد المحاذاة مدة طويلة فيكون لا كضبط المستنير بالضوء للضوء الذي يبطل دفعة ولا كضبط الحجر للنقش الذي
يبقى مدة طويلة ، بل بين بين. وتكون تخليته عن الصورة بسبب يقوى ويعان بعد
المحاذاة بزمان ما لأسباب نجدها مذكورة فيما تفتر حركته وفيما يعود إلى طبيعته حيث يتكلم فى مثله.
ومن هذا يعلم أن
قبول الروح الباطن للخيالات المبصرة ليس كقبول الشبح الساذج الذي يزول مع زوال
المحاذاة. وبالحرى أن تكون الحواس هى هذه المشهورة ، وأن تكون الطبيعة لا تنتقل من
درجة الحيوانية إلى درجة فوقها ، أو توفى جميع ما يكون فى تلك الدرجة. فيجب من ذلك
أن تكون جميع الحواس محصلة عندنا ، ومن رام أن يبين هذا بقياس واجب فقد تكلف شططا.
وجميع ما قيل فى هذا فهو غير
__________________
مبرهن ، أو لست
أفهمه فهم المبرهن عليه ويفهمه غيرى ، فليتعرف ذلك من غير كلامنا.
فالحواس المفردة
والمحسوسات المفردة ما ذكرناه ، وهاهنا حواس مشتركة ومحسوسات مشتركة.
فلنتكلم أولا فى
المحسوسات المشتركة فنقول : إن الحواس منا قد تحس مع ما تحس
أشياء أخرى لو انفردت وحدها لم تحس ، وهذه الأشياء هى المقادير والأوضاع والأعداد
والحركات والسكونات والأشكال والقرب والبعد والمماسة وما هو غير ذلك مما يدخل فيه.
وليس إنما تحس هذه بعرض ، وذلك لأن المحسوس بالعرض هو الذي ليس محسوسا بالحقيقة ،
لكنه مقارن لما يحس بالحقيقة مثل إبصارنا أبا عمرو وأبا خالد ، فإن المحسوس هو الشكل واللون ، ولكن عرض أن ذلك مقارن لشىء
مضاف ؛ فنقول : إنا أحسسنا بالمضاف ولم نحسه البتة ولا فى أنفسنا خيال أو وهم ولا رسم لأبى خالد من حيث هو أبو خالد يكون
ذلك الرسم ، أو الخيال مستفادا من الحس بوجه من الوجوه. وأما الشكل
والعدد وغير ذلك فإنه وإن كان لا يحس بانفراده ، فإن رسمه وخياله يلزم خيال ما يحس
وما يدرك بأنه لون أو حرارة أو برودة مثلا ، حتى يمتنع ارتسام أمثال هذه فى الخيال
دونها أيضا. وليس إذا كان الشىء متمثلا ومدركا لشىء فى شىء بتوسط شىء فهو غير
متمثل فيه بالحقيقة فإن كثير من الأمور التي هى بالحقيقة وليست
بالعرض فإنها تكون بمتوسطات. وهذه المحسوسات المشتركة لما كان إدراكها بهذه الحواس
ممكنا لم يحتج إلى حاسة أخرى ، بل لما كان إدراكها بلا توسط غير ممكن استحال أن
تفرد لها حاسة.
فالبصر يدرك العظم
والشكل والعدد والوضع والحركة والسكون بتوسط اللون ، ويشبه أن يكون إدراك الحركة والسكون مشوبا بقوة غير الحس ، واللمس يدرك جميع هذا بتوسط صلابة أو
لين فى أكثر الأمر ، وقد يكون بتوسط الحر والبرد.
__________________
والذوق يدرك العظم
بأن يذوق طعما كثيرا منتشرا ، ويدرك العدد بأن يجد طعوما كثيرة فى
الأجسام ، وأما الحركة والسكون والشكل فيكاد أن يدركه أيضا ولكن ضعيفا ، يستعين فى ذلك باللمس. وأما
الشم فيكاد لا يدرك به العظم والشكل والحركة والسكون إدراكا متمثلا فى الشام ،
بل يدرك به العدد بأن يتمثل فى الشام ، ولكن النفس تدرك ذلك بضرب من القياس أو
الوهم بأن تعلم أن الذي انقطعت رائحته دفعة قد زال والذي تبقى رائحته هو ثابت.
وأما السمع فإن العظم لا يدركه ولكن السمع قد يدل النفس عليه دلالة غير مستمرة على الدوام ، وذلك من جهة أن
الأصوات العظيمة قد ينسبها إلى أجسام عظيمة ، وكثيرا ما تكون من أشياء صغيرة
وبالعكس. ولكن قد يدرك العدد ويدرك الحركة والسكون
بما يعرض للصوت الممتد من ثبات أو اضمحلال يكون مصيره إلى ذلك الاختلاف فى تحدد مثل ذلك البعد. ولكن هذا الإدراك من جملة ما تدركه النفس للعادة التي عرفتها. وقد يمكن أن يسمع الصوت عن الساكن على هيئة الصوت الذي يسمع عن المتحرك وعن المتحرك على هيئة الذي يسمع عن الساكن ، فلا
تكون هذه الدلالة مركونا إليها ولا تجب وجوبا ، بل تكون فى أكثر الأمر. وأما الشكل
فلا يدركه السمع إلا شكل الصوت لا شكل الجسم ، وأما الذي يسمع عن المجوف فيوقف على
تجويفه فهو شىء يعرض للنفس وتعرفه النفس على سبيل الاستدلال. وتأمل مذهب العادة فيه ويشبه أن يكون حال البصر فى كثير مما يدركه هذه الحال أيضا
إلا أن إدراك البصر لما يدركه من ذلك أظهر.
فهذه هى المحسوسات التي تسمى مشتركة ، إذ قد تشترك فيها عدة من الحواس.
__________________
والعدد كأنه أولى
ما يسمى مشتركا فإن جميع الحواس تشترك فيه. وقد ظن بعض الناس أن لهذه المحسوسات
المشتركة حاسة موجودة فى الحيوان تشترك فيها وبها تدرك ، وليس كذلك.
فأنت تعلم أن من ذلك ما يدرك باللون لو لا اللون لما أدرك. وأن منه ما يدرك باللمس
لو لا الملموس لما أدرك. فلو كان يمكن أن يدرك شىء من ذلك بغير المتوسط
من كيفية هى مدرك أولى لشىء من هذه الحواس ، لكان ذلك ممكنا ، وأما أن يستحيل فينا إدراكه إلا بتوسط مدرك لحاسة معلومة أو استدلال من غير توسط الحاسة فليس لها حاسة مشتركة بوجه من الوجوه.
__________________
المقالة الرابعة
فى الحواس الباطنة
أربعة فصول
__________________
الفصل الأول
فيه قول كلى على الحواس الباطنة التي للحيوان
وأما الحس المشترك فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظن أن للمحسوسات المشتركة حسا مشتركا ، بل الحس المشترك هو القوة التي تتأدى إليها المحسوسات كلها ،
فإنه لو لم تكن قوة واحدة تدرك الملون والملموس لما كان لنا أن نميز بينهما قائلين
: إنه ليس هذا ذاك. وهب أن هذا التمييز هو للعقل ، فيجب
لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا حتى يميز بينهما ، وذلك
لأنها من حيث هى محسوسة وعلى النحو المتأدى من المحسوس لا يدركها العقل ما سنوضح
بعد. وقد نميز نحن بينها ، فيجب أن يكون لها اجتماع عند مميز إما فى ذاته وإما فى
غيره ، ومحال ذلك فى العقل على ما ستعلمه. فيجب أن يكون فى قوة أخرى ، ولو لم يكن
قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها المائلة بشهوتها إلى الحلاوة مثلا
أن شيئا صورته كذا هو حلو لما كانت إذا رأته همت بأكله ، كما أنه لو لا أن عندنا نحن أن هذا الأبيض هو هذا المغنى لما كنا
إذا سمعنا غناءه الشخصى أثبتنا عينه الشخصية وبالعكس. ولو لم يكن فى الحيوان ما
تجتمع فيه صور المحسوسات لتعذرت عليها الحياة ، ولم يكن الشم دالا لها على الطعم ، ولم يكن الصوت دالا
إياها على الطعم ، ولم تكن صورة الخشبة تذكرها صورة الألم
__________________
حتى تهرب منها . فيجب لا محالة أن يكون لهذه الصور مجمع واحد من باطن.
وقد يدلنا على
وجود هذه القوة اعتبارات أمور تدل على أن لها آلة غير الحواس الظاهرة مما نراه من تخيل المدورية أن كل شىء يدور ، فذلك إما عارض عرض فى المرئيات أو
عارض عرض فى الآلة التي بها تتم الرؤية ، وإذا لم يكن فى المرئيات كان لا محالة فى
شىء آخر. وليس الدوار إلا بسبب حركة البخار فى الدماغ وفى الروح التي فيه فيعرض لتلك الروح أن تدور ، فتكون إذن القوة المرتبة هناك هى التي
يعرض لها أمر قد فرغنا منه. وكذلك يعرض للإنسان
دوار من تأمل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به. وليس يكون ذلك بسبب أمر فى جزء من العين ، ولا فى روح مصبوب فيه وكذلك نتخيل استعجال المتحرك النقطى مستقيما أو مستديرا على ما سلف من
قبل ، ولأن تمثل الأشباح الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن تفسد لهم آلات
الحس أو كان مثلا مغمضا لعينه ، ولا يكون السبب فى ذلك إلا تمثلها فى هذا المبدأ. والتخيلات التي تقع فى النوم إما أن تكون لارتسام فى خزانة حافظة المصور ، ولو كان كذلك لوجب أن يكون كل ما اختزن فيها متمثلا فى
النفس ليس بعضها دون بعض حتى يكون ذلك البعض كأنه مرئى أو مسموع وحده أو أن يكون
يعرض لها التمثل فى قوة أخرى ، وذلك إما حس ظاهر وإما حس باطن ، لكن الحس الظاهر معطل فى النوم ، وربما
كان الذي يتخيل ألوانا ما مسمول
العين فبقى أن يكون حسا باطنا ، وليس يمكن أن
__________________
يكون إلا المبدأ
للحواس الظاهرة. والذي كان إذا استولت القوة الوهمية وجعلت تستعرض ما فى الخزانة
تستعرضه بها ولو فى اليقظة ، فإذا استحكم ثباتها فيها كانت كالمشاهدة.
فهذه القوة هى
التي تسمى الحس المشترك وهى مركز الحواس ، ومنها تتشعب الشعب ، وإليها تؤدى الحواس ،
وهى بالحقيقة هى التي تحس ، لكن إمساك ما تدركه هذه هو للقوة التي تسمى
خيالا وتسمى مصورة وتسمى متخيلة ، وربما فرق بين الخيال والمتخيلة بحسب الاصطلاح ،
ونحن ممن يفصل ذلك. والحس المشترك والخيال كأنهما قوة واحدة ، وكأنهما لا
يختلفان فى الموضوع ، بل فى الصورة. وذلك أنه ليس أن يقبل هو
أن يحفظ ، فصورة المحسوس تحفظها القوة التي تسمى المصورة والخيال ، وليس إليها حكم البتة ، بل حفظ. وأما الحس المشترك والحواس الظاهرة فإنها تحكم بجهة ما
أو بحكم ما ، فيقال إن هذا المتحرك أسود وإن هذا الأحمر حامض ، وهذا الحافظ لا
يحكم به على شىء من الموجود إلا على ما فى ذاته بأن فيه صورة كذا.
ثم قد نعلم يقينا
أنه فى طبيعتنا أن نركب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وأن نفصل بعضها عن بعض ، لا على الصورة التي وجدناها عليها من خارج ولا مع تصديق بوجود شىء منها
أو لا وجوده. فيجب أن تكون فينا قوة نفعل ذلك بها ، وهذه هى التي تسمى إذا
استعملها العقل مفكرة ، وإذا استعملتها قوة حيوانية متخيلة.
ثم إنا قد نحكم فى
المحسوسات بمعان لا نحسها ، إما أن لا تكون فى طبائعها محسوسة البتة ، وإما أن
تكون محسوسة لكننا لا نحسها وقت الحكم. أما التي
__________________
لا تكون محسوسة فى طبائعها فمثل العداوة والرداءة والمنافرة التي
تدركها الشاة فى صورة الذئب ، وبالجملة المعنى الذي ينفرها عنه ، والموافقة التي تدركها من صاحبها ، وبالجملة المعنى يؤنسها به. وهذه أمور تدركها النفس
الحيوانية ، والحس لا يدلها على شىء منها. فإذن القوة التي بها تدرك ، قوة أخرى
ولتسم الوهم. وأما التي تكون محسوسة فإنا نرى مثلا شيئا أصفر فنحكم أنه عسل وحلو ، فإن هذا ليس يؤديه إليه الحاس فى هذا الوقت ، وهو من جنس المحسوس ، على أن الحكم نفسه ليس بمحسوس البتة وإن
كانت أجزاؤه من جنس المحسوس ، وليس يدركه فى الحال ، إنما هو حكم نحكم
به ربما غلط فيه وهو أيضا لتلك القوة. وفى الإنسان للوهم أحكام
خاصة من جملتها حمله النفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا ترتسم فيه ويأبى التصديق بها. فهذه القوة لا محالة موجودة فينا ، وهى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلى ، ولكن حكما تخيليا
مقرونا بالجزئية وبالصورة الحسية ، وعنها تصدر أكثر
الأفعال الحيوانية.
وقد جرت العادة
بأن يسمى مدرك الحس صورة ومدرك الوهم معنى ، ولكل واحد منهما خزانة. فخزانة مدرك الحس هى القوة الخيالية ، وموضعها مقدم الدماغ. فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد هذا الباب من التصور ، إما بأن تتخيل صورا ليست أو
يصعب استثبات الموجود فيها. وخزانة مدرك الوهم هى
__________________
القوة التي تسمى
الحافظة ، ومعدنها مؤخر الدماغ ، ولذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص
بحفظ هذه المعانى. وهذه القوة تسمى أيضا متذكرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ،
ومتذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته ، والتصور به مستعيدة إياه إذا فقد ، وذلك إذا أقبل الوهم بقوته المتخيلة فجعل يعرض واحدا واحدا من الصور الموجودة فى الخيال ليكون كأنه
يشاهد الأمور التي هذه صورها. فإذا عرض له الصورة التي أدرك معها المعنى الذي بطل
، لاح له المعنى حينئذ كما لاح من خارج ، واستثبتته القوة الحافظة فى نفسها كما كانت حينئذ تستثبت فكان ذاكرا. وربما كان المصير من المعنى إلى الصورة ، فيكون التذكر للمطلوب ليست نسبته إلى ما فى خزانة الحفظ ، بل نسبته إلى ما فى خزانة الخيال. فكأن إعادته إما فى وجه العود إلى
هذه المعانى التي فى الحفظ حتى يضطر المعنى إلى لوح
الصورة فتعود النسبة إلى ما فى الخيال ثانيا ، وإما بالرجوع إلى الحس. مثال الأول
أنك إذا نسيت نسبته إلى صورة وكنت عرفت تلك النسبة تأملت الفعل الذي كان يقصد منها ، فلما عرفت الفعل ووجدته وعرفت أنه أى طعم وشكل
ولون يصلح له فاستثبت النسبة به وألفت ذلك وحصلته نسبة إلى صورة فى الخيال وأعدت
النسبة فى الذكر ، فإن خزانة الفعل هو الحفظ لأنه من المعنى. فإن كان أشكل ذلك
عليك من هذه الجهة أيضا ولم يتضح فأورد عليك الحس صورة الشىء ، عادت مستقرة فى الخيال وعادت النسبة إليه مستقرة فى التي تحفظ.
__________________
وهذه القوة
المركبة بين الصورة والصورة ، وبين الصورة والمغنى ، وبين المعنى والمعنى ، هى
كأنها القوة الوهمية بالموضوع ، لا من حيث تحكم ، بل من حيث تعمل لتصل إلى الحكم. وقد جعل مكانها وسط الدماغ ليكون لها اتصال بخزانتي المعنى والصورة. ويشبه أن تكون القوة الوهمية هى بعينها المفكرة والمتخيلة
والمتذكرة ، وهى بعينها الحاكمة فتكون بذاتها حاكمة وبحركاتها وأفعالها متخيلة
ومتذكرة ، فتكون متخيلة بما تعمل فى الصور والمعانى ،
ومتذكرة بما ينتهى إليه عملها. وأما الحافظة فهى قوة خزانتها ، ويشبه أن يكون التذكر
الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده ، وأن خزانة الصورة هى
المصورة والخيال ، وأن خزانة المعنى هى الحافظة ، ولا يمتنع أن
تكون الوهمية بذاتها حاكمة متخيلة ، وبحركاتها متخيلة وذاكرة.
__________________
الفصل الثاني
فى أفعال القوة
المصورة والمفكرة
من هذه الحواس الباطنة
وفيه القول على
النوم واليقظة والرؤيا الصادقة والكاذبة وضرب من خواص النبوة.
فلنحصل القول فى
القوة المصورة أولا فنقول : إن القوة المصورة التي هى الخيال هى آخر ما تستقر فيه
صور المحسوسات ، وإن وجهها إلى المحسوسات هو الحس المشترك ، وإن الحس المشترك يؤدى
إلى القوة المصورة على سبيل استخزان ما تؤديه إليه الحواس فتخزنه. وقد تخزن القوة
المصورة أيضا أشياء ليست من المأخوذات عن الحس ، فإن القوة المفكرة قد تتصرف على
الصور التي فى القوة المصورة بالتركيب والتحليل لأنها موضوعات لها ، فإذا ركبت
صورة منها أو فصلتها أمكن أن تستحفظها فيها ، لأنها ليست خزانه لهذه
الصورة من جهة ما هذه الصورة منسوبة إلى شىء وواردة من داخل أو خارج ، بل إنما هى
خزانة لها لأنها هذه الصورة بهذا النحو من التجريد ، فلو كانت هذه الصورة على نحو ما فيها من التركيب والتفصيل ترد من خارج لكانت هذه
القوة تستثبتها. فكذلك إذا لاحت لهذه القوة من سبب آخر ، وإذا عرض لسبب من الأسباب إما من التخيل والفكر وإما لشىء من التشكلات المساوية أن تمثلت
صورة فى المصورة وكان الذهن غائبا أو ساكنا عن اعتباره ، أمكن أن يرتسم ذلك فى
الحس المشترك نفسه على هيئاته فيسمع ويرى
ألوانا وأصواتا ليس لها وجود من خارج ولا أسبابها من خارج. وأكثر ما يعرض
__________________
هذا عند سكون
القوى العقلية أو غفول الوهم ، وعند اشتغال النفس النطقية عن مراعاة الخيال والوهم. فهناك تقوى المصورة والمتخيلة على أفعالها الخاصة حتى يتمثل ما تورده من الصور محسوسة.
ولنزد هذا بيانا
فنقول : إنه سيتبين بعد أن هذه القوى كلها لنفس واحدة وأنها خوادم للنفس ، فلنسلم ذلك وضعا ، ولنعلم أن اشتغال النفس ببعض هذه يصرفها عن إعانة القوى
الأخرى على فعلها أو عن ضبطها عن زيغها أو عن حملها على
الصواب ، فإن من شأن النفس إذا اشتغلت بالأمور الباطنة أن تغفل عن استثبات الأمور
الخارجة فلا تستثبت المحسوسات حقها من الاستثبات ، وإذا اشتغلت بالأمور الخارجة أن
تغفل عن استعمال القوى الباطنة ، فإنها إذا كانت تامة
الإصغاء إلى المحسوسات الخارجة ففى وقت ما تكون منصرفة إلى ذلك يضعف تخيلها
وتذكرها ، وإذا انصبت إلى أفعال القوة الشهوانية انكسرت منها أفعال القوة الغضبية ، وإذا انصبت إلى
أفعال القوة الغضبية انكسرت منها أفعال القوة الشهوانية ؛ وبالجملة إذا انصبت إلى
استكمال الأفعال الحركية ضعفت الأفعال الإدراكية ، وبالعكس. فإذا لم تكن النفس مشتغلة
بأفعال قوى عن أفعال قوة ما بل كانت وادعة كأنها
معتزلة عرض لأقوى القوى وأعملها أن تغلب ، وإذا اشتغلت بقوة ما وعارض ما عن تثقيف
قوة ، إنما تضبطها عن حركاتها المفرطة مراعاة النفس أو الوهم إياها استولت تلك
القوة ونفذت فى أفعالها التي بالطبع قد خلا لها الجو وتثقفت. وهذا الذي يعرض للنفس من أن لا تكون مشتغلة بفعل قوة أو
قوى فقد يكون
__________________
لآفة أو لضعف شاغل
عن الاستكمال ، كما فى الأمراض وكما فى الخوف ؛ وإما أن يكون لاستراحة ما ، كما فى
النوم ؛ وإما أن يكون لكثرة انصراف الهمة إلى استعمال القوة المنصرف إليها عن
غيرها.
ثم إن القوة
المتخيلة قوة قد تصرفها النفس عن خاص فعلها بوجهين
: تارة مثل ما يكون عند اشتغال النفس بالحواس الظاهرة وصرف القوة
المصورة إلى الحواس الظاهرة وتحريكها بما يورد عليها
منها حتى لا تسلم للمتخيلة المفكرة فتكون المتخيلة مشغولة عن فعلها الخاص وتكون
المصورة أيضا مشغولة عن الانفراد بالمتخيلة وبكون ما تحتاجان إليه من الحس المشترك ثابتا واقعا فى شغل الحواس الظاهرة وهذا الوجه هو وجه ، وتارة عند استعمال النفس إياها فى أفعالها التي تتصل بها
من التمييز والفكرة. وهذا على وجهين أيضا : أحدهما أن تستولى على المتخيلة
فتستخدمها والحس المشترك معها فى تركيب صور
بأعيانها وتحليلها على جهة يقع للنفس فيها غرض صحيح ، ولا تتمكن المتخيلة لذلك من التصرف على ما لها أن تتصرف عليه بطباعها ، بل تكون منجرة مع تصريف النفس النطقية إياها انجرارا ؛ والثاني أن تصرفها عن التخيلات التي لا تطابق
الموجودات من خارج فتكفها عن ذلك استبطالا لها فلا تتمكن من شدة تشبيحها وتمثيلها.
فإن شغلت المتخيلة من الجهتين جميعا ضعف فعلها ، وإن زال عنها الشغل من الجهتين
كلتيهما ـ كما يكون فى حال النوم أو من جهة واحدة كما يكون عند
الأمراض التي تضعف البدن وتشغل النفس عن العقل والتمييز وكما عند
__________________
الخوف حتى تضعف
النفس وتكاد تجوز ما لا يكون وتكون منصرفة عن العقل جملة لضعفها ولخوفها وقوع أمور جسدانية فكأنها تترك العقل وتدبيره ـ أمكن التخيل حينئذ أن يقوى ويقبل على المصورة ويستعملها ويتقوى اجتماعهما معا فتصير المصورة أظهر فعلا فتلوح الصور التي فى المصورة
فى الحاس المشترك فترى كأنها موجودة خارجا ، لأن الأثر المدرك من الوارد من خارج
ومن الوارد من داخل هو ما يتمثل فيها وإنما يختلف
بالنسبة. وإذا كان المحسوس بالحقيقة هو ما يتمثل ، فإذا تمثل كان حاله كحال ما يرد
من خارج. ولهذا ما يرى الإنسان المجنون والخائف والضعيف والنائم أشباحا قائمة كما
يراها فى حال السلامة بالحقيقة ويسمع أصواتا كذلك ، فإذا تدارك التمييز أو العقل شيئا من ذلك وجذب القوة المتخيلة إلى نفسه بالتنبيه اضمحلت تلك الصور والخيالات.
وقد يتفق فى بعض الناس
أن تخلق فيه القوة المتخيلة شديدة جدا غالبة حتى أنها لا تستولى عليها الحواس ولا تعصيها المصورة ، وتكون النفس أيضا قوية لا يبطل التفاتها
إلى العقل وما قبل العقل انصبابها إلى الحواس. فهؤلاء يكون لهم فى اليقظة ما يكون
لغيرهم فى المنام من الحالة التي سنخبر عنها بعد وهى حالة إدراك النائم مغيبات يتحققها بحالها أو بأمثلة تكون لها. فإن هؤلاء قد يعرض لهم مثلها فى
اليقظة ، وكثيرا ما يكون لهم فى توسط ذلك أن يغيبوا آخر الأمر عن المحسوسات
ويصيبهم كالإغماء وكثيرا ما لا يكون ، وكثيرا ما يرون الشىء بحاله ، وكثيرا ما يتخيل لهم مثاله للسبب الذي يتخيل للنائم مثال
ما يراه مما نوضحه بعد ، وكثيرا ما يتمثل لهم شبح ويتخيلون أن ما يدركونه خطاب من ذلك الشبح بألفاظ مسموعة تحفظ وتتلى ، وهذه هى النبوة الخاصة بالقوة المتخيلة. وهاهنا نبوات أخرى سيتضح أمرها.
__________________
وليس أحد من الناس
لا نصيب له من أمر الرؤيا ومن حال الإدراكات التي تكون فى اليقظة ، فإن الخواطر
التي تقع دفعة فى النفس إنما يكون سببها اتصالات ما لا يشعر بها ولا بما يتصل بها
لا قبلها ولا بعدها ، فتنتقل النفس منها إلى شىء آخر غير ما كان عليه مجراها. وقد يكون ذلك من كل جنس ، فيكون من المعقولات. ويكون
من الإنذارات ، ويكون شعرا ، ويكون غير ذلك بحسب الاستعدادات والعادة والخلق. وهذه الخواطر تكون لأسباب تعن للنفس مسارقة فى أكثر الأمر وتكون كالتلويحات المستلبة التي لا تتقرر
فتذكر إلا أن تبادر إليها النفس بالضبط الفاضل ، ويكون أكثر ما تفعله أن تشغل التخيل بجنس غير مناسب لما كان فيه.
ومن شأن هذه القوة
المتخيلة أن تكون دائمة الإكباب على خزانتى المصورة والذاكرة ، ودائمة العرض للصور مبتدئة من صورة محسوسة أو مذكورة ، منتقلة منها إلى ضد أو ند أو شىء هو منه
بسبب ، وهذه طبيعتها. وأما اختصاص انتقالها من الشىء إلى ضده دون نده ، أو نده دون
ضده ، فيكون لذلك أسباب جزئية لا تحصى. وبالجملة يجب أن يكون أصل السبب فى ذلك أن
النفس إذا جمعت بين مراعاة المعانى والصور انتقلت من المعنى إلى الصورة التي هى
أقرب إليها إما مطلقا وإما لاتفاق قرب عهد مشاهدته لتألفهما فى حس أو
فى وهم ، وانتقلت كذلك من الصورة إلى المعنى. ويكون السبب الأول الذي يخصص صورة
دون صورة ومعنى دون معنى أمرا قد ورد عليه من الحس خصصه به ، أو من العقل ، أو
الوهم فخصصه به ، أو لأمر سماوى. فلما تخصص بذلك صار استمراره وانتقاله متخصصا
لتخصيص المبدأين ، ولأجل أحوال
تقارن فى العادة ولقرب العهد ببعض الصور
والمعانى. وقد يكون ذلك لأحوال أيضا سماوية ، وقد يكون لطوالع من العقل والحس بعد
التخصيص الأول تضاف إليه.
__________________
واعلم أن الفكر
النطقى ممنو بهذه القوة وهو من غريرة هذه القوة فى شغل شاغل ، فإنه إذا استعملها
فى صورة ما استعمالا موجها نحو غرض ما انتقلت بسرعة إلى شىء آخر لا يناسبه ومنه
إلى ثالث وأنست النفس أول ما ابتدأت عنه حتى تحوج النفس إلى التذكر فازعة إلى التحليل بالعكس حتى تعود إلى المبدأ. فإذا اتفق فى حال اليقظة أن أدرك النفس شيئا أو فى حال النوم أن
اتصلت بالملكوت اتصالا على ما سنصفه بعد وصفا ، فإن هذه القوة إن مكنتها بسكونها أو بانقهارها من حسن الاستثبات ولم تغلبها مقصرة عليها زمان الاستثبات لما يلوح
لها من تخيلاتها ، تمكنت تلك الصورة من الذكر تمكنا جيدا على وجهه وصورته فلم تحتج
إن كان يقظة إلى التذكر ، وإن كان نوما إلى التعبير ، وإن كان وجهه وصورته فلم
تحتج إن كان يقظة إلى التذكر ، وإن كان نوما إلى التعبير ، وإن كان وحيا إلى التأويل ، فإن التعبير
والتأويل هاهنا يذهبان مذهب التذكر. فان لم تستثيب النفس ما رأته من ذلك فى قوة
الذكر على ما ينبغى ، بل كانت القوة المتخيلة توازى كل مفرد من المرئى فى النوم بخيال مفرد أو مركب ، أو توازى مركبا من المرئى فى النوم بخيال مفرد أو مركب فلا تزال تحاذى
ما يرى هناك بمحاكاة مؤلفة من صور ومعان كان استثبات النفس فى ذاتها لما يراها أضعف من استثبات
المصورة والمتذكرة لما يورده التخيل ، فلم يثبت فى الذكر ما أرى من
الملكوت وثبت ما حوكي به.
ويتفق كثيرا أن
يكون ما يرى من الملكوت شيئا كالرأس وكالابتداء ، فيستولى التخيل على النفس
استيلاء يصرفها عن استتمام ما تراه ، وتنتقل بعده انتقالا بعد انتقال لا
تحاكى بتلك الانتقالات شيئا مما يرى من الملكوت ، إذا ذلك قد انقطع ،
__________________
فيكون هذا ضربا من
الرؤيا. إنما موضع العبارة منه شىء طفيف وباقيه أضغاث أحلام ،
فما كان من الرؤيا من الجنس الذي السلطان فيه للتخيل فإنه يحتاج إلى عبارة ضرورة.
وربما رأى الإنسان
تعبير رؤياه فى رؤياه فيكون ذلك بالحقيقة تذكرا ، فإن القوة المفكرة كما أنها قد
تنتقل أولا من الأصل إلى الحكاية لمناسبة بينهما ، كذلك لا يبعد
أن تنتقل عن الحكاية إلى الأصل ، فكثيرا ما يعرض لها أن تتخيل فعلها ذلك مرة أخرى
فترى كأن مخاطبا يخاطبها بذلك ، وكثيرا ما لم يكن كذلك ، بل كان كأنها تعاين الشىء
معاينة صحيحة من غير أن تكون النفس اتصلت بالملكوت ، بل تكون محاكاة من المتخيلة
للمحاكاة فترجع إلى الأصل.
وهذا الضرب من
الرؤيا الصحيح قد يقع عن التخيل من غير معونة قوة أخرى وإن كان الأصل فيه ذلك فيرجع
، وربما حاكت هذه المحاكاة محاكاة أخرى فتحتاج إلى
تعبير المعبر مرة أخرى ، وهذه أشياء وأحوال لا تضبط.
ومن الناس من يكون
أصح أحلاما ، وذلك إذا كانت نفسه قد اعتادت الصدق وقهر التخيل الكاذب وأكثر من يتفق له أن يعبر رؤياه فى رؤياه
هو من كانت همته مشغولة بما رأى ، فإذا نام بقى الشغل به بحاله ، فأخذت القوة
المتخيلة تحاكية بعكس ما حاكت أولا. وقد حكى أن هرقل الملك رأى رؤيا شغلت قلبه ولم يجد عند المعبرين ما يشفيه ، فلما نام
بعد ذلك عبرت له فى منامه تلك الرؤيا ، فكانت مشتملة على إخبار عن أمور
تكون فى العالم وفى خاص مدينته ومملكته ، فلما دونت تلك الإنذارات خرجت على نحو ما
عبر له فى منامه ، وقد جرب هذا فى غيره.
والذين يرون هذه
الأمور فى اليقظة منهم من يرى ذلك لشرف نفسه وقوتها
__________________
وقوة متخيلته
ومتذكرته فلا تشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ، ومنهم يرى ذلك لزوال تمييزه ولأن النفس التي له منصرفة عن التمييز. ولذلك فإن تخيله
قوى ، فهو قادر على تلقى الأمور الغيبية فى حال اليقظة. فإن النفس محتاجة فى تلقى
فيض الغيب إلى القوة الباطنة من وجهين : أحدهما ليتصور فيها المعنى الجزئى تصورا
محفوظا ، والثاني لتكون معينة لها متصرفة فى جهة إرادتها ، لا شاغلة إياها ، جاذبة
إلى جهتها ، فيحتاج إلى نسبة بين الغيب وبين النفس والقوة
الباطنة المتخيلة ونسبة بين النفس والقوة الباطنة المتخيلة فإن كان الحس يستعملها
أو العقل يستعملها على النحو العقلى الذي ذكرناه لم تفرغ لأمور أخرى
، مثل المرآة إذا شغلت عن جهة وحركت نحو جهة فإن
كثيرا من الأمور التي من شأنها أن ترتسم فى تلك المرآة مغافصة ومباغتة لنسبة ما بينهما لا ترتسم. وسواء كان هذا الشغل من الحس أو من ضبط العقل ،
فإذا فات أحدهما أو شك أن تتفق النسبة المحتاج إليها ما بين الغيب وبين النفس والقوة المتخيلة ، وبين النفس وبين القوة المتخيلة ، فيلوح
فيها اللائح على نحو ما يلوح.
ولأنا قد انتقل
بنا الكلام فى التخيل إلى أمر الرؤيا فلا بأس أن ندل يسيرا على
المبدأ الذي تقع عنه الإنذارات فى المنام بأمور نضعها وضعا. وإنما يتبين لنا فى الصناعة التي هى الفلسفة الأولى ، فنقول : إن معانى جميع الأمور
الكائنة فى العالم مما سلف ومما حضر ومما يريد أن
يكون موجودة فى علم البارئ والملائكة العقلية من جهة وموجودة فى أنفس الملائكة السماوية من جهة ، وستتضح لك الجهتان فى موضع آخر. وإن الأنفس البشرية أشد
مناسبة لتلك الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة ، وليس هناك احتجاب ولا بخل ،
إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها فى الأجسام وإما لتدنسها بالأمور الجاذبة إلى
الجنبة السافلة ، وإذا
__________________
وقع لها أدنى فراغ
من هذه الأفعال حصل لها مطالعة لما ثم ، فيكون أولى ما تستثبته ما يتصل بذلك
الإنسان أو بذويه أو ببلده أو بإقليمه. فلذلك أكثر الأحلام
الذي تذكر تختص بالإنسان الذي حلم بها وبمن يليه ، ومن كانت همته المعقولات لاحت
له ، ومن كانت همته مصالح الناس رآها واهتدى إليها ، كذلك على هذا القياس. وليست
الأحلام كلها صادقة ، وبحيث يجب أن يشتغل بها ، فإن القوة المتخيلة ليس كل
محاكاتها إنما تكون لما يفيض على النفس من الملكوت ، بل أكثر ما يكون منها ذلك
إنما يكون إذا كانت هذه القوة قد سكنت عن محاكاة أمور هى أقرب إليها. والأمور التي
هى أقرب إليها منها طبيعية ، ومنها إرادية. فالطبيعية هى التي تكون من ممازجة قوى الأخلاط للروح التي تمتطيها القوة المصورة
والمتخيلة ، فإنها أول شىء إنما تحكيها وتشتغل بها. وقد تحكى أيضا آلاما تكون فى
البدن وأعراضا فيه ، مثل ما يكون عند ما تتحرك القوة الدافعة للمنى إلى الدفع ،
فإن المتخيلة حينئذ تحاكى صورا من شأن النفس أن تميل إلى مجامعتها ، ومن كان به
جوع حكى له مأكولات ، ومن كان به حاجة إلى دفع فضل حكى له موضع ذلك ، ومن عرض لعضو منه أن سخن أو برد بسبب حر أو برد حكى له أن ذلك
العضو منه موضوع فى نار أو فى ماء بارد. ومن العجائب أنه كما يعرض من حركة الطبيعة
لدفع المنى تخيل ما ، كذلك ربما عرض تخيل ما لصورة مشتهاة بسبب من الأسباب ، فنبعث
الطبيعة إلى جمع المنى وإرسال الريح الناشرة لآلة الجماع
وربما قذفت المنى ، وقد يكون هذا فى النوم واليقظة جميعا وإن لم يكن هناك هيجان وشبق.
وأما الإرادية فان
يكون فى همة النفس وقت اليقظة شىء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره ، فإذا نام أخذت
المتخيلة تحكى ذلك الشىء وما هو من جنس ذلك الشىء ، وهذا هو من بقايا الفكر التي
تكون فى اليقظة ، وهذه كلها أضغاث أحلام. وقد تكون أيضا من تأثيرات الأجرام
السماوية ، فإنها قد توقع بحسب مناسباتها ومناسبات نفوسها
__________________
صورا فى التخيل
بحسب الاستعداد ليست عن تمثل شىء من عالم الغيب والإندار.
وأما الذي يحتاج
أن يعبر وأن يتأول فهو ما لم ينسب إلى شىء من هذه الجملة ، فيعلم أنه قد وقع من سبب خارج وأن له دلالة ما ، فلذلك لا يصح فى الأكثر رؤيا الشاعر والكذاب والشرير
والسكران والمريض والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر. ولذلك أيضا إنما يصح من
الرؤيا فى أكثر الأمر ما كان فى وقت السحر ، لأن الخواطر كلها تكون فى هذا الوقت
ساكنة ، وحركات الأشباح تكون قد هدأت. وإذا كانت القوة المتخيلة فى
حال النوم فى مثل هذا الوقت غير مشغولة بالبدن ولا مقطوعة عن
الحافظة والمصورة ، بل متمكنة منهما ، فبالحرى أن تحسن خدمتها للنفس فى ذلك ، لأنها تحتاج لا محالة فيما يرد عليها. من ذلك أن ترتسم
صورته فى هذه القوة ارتساما صالحا إما هى أنفسها وإما محاكياتها.
ويجب أن يعلم أن
أصح الناس أحلاما أعدلهم أمزجة ، فإن اليابس المزاج وإن كان يحفظ جيدا فإنه لا
يقبل جيدا ، والرطب المزاج وإن كان يقبل سريعا فإنه يترك سريعا فيكون كأنه لم يقبل
ولم يحفظ جيدا ، والحار المزاج متشوش الحركات ، والبارد المزاج بليد ، وأصحهم من اعتاد الصدق. فإن عادة الكذب والأفكار الفاسدة تجعل الخيال ردىء
الحركات غير مطاوع لتسديد النطق ، بل يكون حاله حال خيال من فسد مزاجه إلى تشويش.
وإذا كان هذا مما
يتعلق بالنوم واليقظة ، فيجب أن ندل هاهنا باختصار على أمر النوم
واليقظة. فنقول : إن اليقظة حالة تكون النفس فيها مستعملة
للحواس أو للقوى المحركة من ظاهر بالإرادة التي لا ضرورة إليها ، فيكون النوم عدم
هذه الحالة ، وتكون النفس فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة إلى الجهة الداخلة
__________________
وإعراضها لا يخلو
من أحد وجوه : إما أن يكون لكلال عرض لها من هذه الجهة ، وإما أن يكون لمهم عرض لها فى تلك الجهة ، وإما أن يكون لعصيان الآلات إياها.
والذي يكون من
الكلال هو أن يكون الشىء الذي يسمى روحا وتعرفه فى موضعه قد تحلل وضعف فلا يقدر على
الانبساط فيغور وتتبعه القوى النفسانية. وهذا الكلال قد يعرض من الحركات البدنية
وقد يعرض من الأفكار وقد يعرض من الخوف. فإن الخوف قد يعرض منه النوم ، بل الموت ،
وربما كانت الأفكار تنوم لا من هذه الجهة ، بل بأن تسخن الدماغ فتنجذب الرطوبات إليه فيمتلئ الدماغ فينوم بالترطيب.
والذي لمهم فى
الباطن هو أن يكون الغذاء والرطوبات قد اجتمعت من داخل فتحتاج إلى أن يقصدها الروح
بجميع الحار الغريزى ليفى بهضمها التام فيتعطل الخارج.
والذي يكون من جهة
الآلات فأن تكون الأعصاب قد امتلأت وانسدت من أبخرة وأغذية تنفد فيها إلى أن تنهضم
، أو الروح ثقلت عن الحركة لشدة الترطب.
وتكون اليقظة
لأسباب مقابلة لهذه. من ذلك أسباب تجفف مثل الحرارة واليبوسة ، ومن ذلك جمام وراحة حصلت ، ومن ذلك فراغ عن الهضم فتعود الروح منتشرة ، ومن ذلك حالة رديئة تشغل النفس عن الغؤور ، بل تستدعيها إلى خارج كغضب أو خوف لأمر قريب أو مقاساة لمادة مؤلمة. وهذا قد دخل فيما نحن فيه بسبيل العرض ، وإن كان من حق النوم واليقظة ان
يتكلم فيه فى عوارض ذى الحس.
__________________
الفصل الثالث
فى أفعال القوى
المتذكرة والوهمية
وفى أن
أفعال هذه القوى كلها بآلات جسمانية
كأنا قد استقصينا القول فى حال المتخيلة والمصورة. فيجب أن نتكلم فى حال المتذكرة
، وما بينها وبين المفكرة ، وفى حال الوهم ، فنقول : إن الوهم هو الحاكم الأكبر فى
الحيوان ، ويحكم سبيل انبعاث تخيلى من غير أن يكون ذلك محققا ؛ وهذا مثل ما يعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته المرار ، فإن الوهم يحكم بأنه فى حكم ذلك ، وتتبع النفس ذلك الوهم وإن كان
العقل يكذبه. والحيوانات وأشباهها من الناس إنما يتبعون فى أفعالهم هذا الحكم من
الوهم الذي لا تفصيل منطقيا له ، بل هو على سبيل انبعاث ما فقط ، وإن كان الإنسان قد
يعرض لحواسه وقواه بسبب مجاورة النطق ما يكاد أن تصير قواه الباطنة نطقية مخالفة
للبهائم. فلذلك يصيب من فوائد الأصوات المؤلفة والألوان المؤلفة والروائح والطعوم
المؤلفة ومن الرجاء والتمنى أمورا لا تصيبها الحيوانات الأخرى ، لأن نور النطق
كأنه فائض سائح على هذه القوى. وهذا التخيل أيضا الذي للإنسان قد صار موضوعا للنطق
بعد ما أنه موضوع للوهم فى الحيوانات ، حتى أنه ينتفع به فى العلوم وصار ذكره أيضا نافعا فى العلوم كالتجارب التي تحصل بالذكر والأرصاد الجزئية وغير ذلك.
__________________
ولنرجع إلى حديث الوهم. فنقول : إن من الواجب أن يبحث الباحث ويتأمل أن الوهم الذي
لم يصحبه العقل حال توهمه كيف ينال المعانى التي هى فى المحسوسات عند ما ينال الحس
صورتها من غير أن يكون شىء من تلك المعانى يحس ومن غير أن يكون كثير منها مما ينفع ويضر فى تلك الحال. فنقول : إن ذلك للوهم من وجوه : من ذلك الالهامات الفائضة على الكل من الرحمة الإلهية ، مثل حال الطفل ساعة يولد فى
تعلقه بالثدى ، ومثل حال الطفل إذا أقل وأقيم فكاد يسقط
من مبادرته إلى أن يتعلق بمستمسك لغريزة فى النفس جعلها فيه الإلهام الإلهى ، وإذا تعرض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنيه قبل فهم ما يعرض له وما ينبغى أن يفعل بحسبه كأنه غريزة لنفسه لا اختيار معه
وكذلك للحيوانات إلهامات غريزية ، والسبب فى ذلك مناسبات موجودة بين هذه
الأنفس ومبادئها هى دائمة لا تنقطع غير المناسبات
التي يتفق أن تكون مرة وأن لا تكون ، كاستكمال العقل وكخاطر الصواب ، فإن الأمور كلها من هناك. وهذه الإلهامات يقف بها الوهم على المعانى
المخالطة للمحسوسات فيما يضر وينفع ، فيكون الذئب تحذره كل شاة وإن لم تره قط ولا
أصابتها منه نكبة ، وتحذر الأسد حيوانات كثيرة ، وجوارح الطير يحذرها سائر الطير
وتشنع عليها الطير الضعاف من غير تجربة ؛ فهذا قسم.
وقسم آخر يكون
لشىء كالتجربة ، وذلك أن الحيوان إذا أصابه ألم أو لذة أو وصل إليه نافع حسى أو
ضار حسى مقارنا لصورة حسية ، فارتسم فى المصورة صورة الشىء وصورة ما يقارنه ، وارتسم فى الذكر معنى النسبة بينهما والحكم فيها فإن الذكر لذاته ولجبلته ينال ذلك. فإذا لاح للمتخيلة تلك الصورة من خارج
__________________
تحركت فى المصورة
وتحرك معها ما قارنها من المعانى النافعة أو الضارة ، وبالجملة المعنى الذي فى الذكر على سبيل الانتقال والاستعراض الذي فى طبيعة
القوة المتخيلة فأحس الوهم بجميع ذلك معا فرأى المعنى مع
تلك الصورة ، وهذا هو على سبيل يقارب التجربة ، ولهذا
تخاف الكلاب المدر والخشب وغيرها. وقد تقع للوهم أحكام أخرى بسبيل التشبيه بأن
تكون للشىء صورة تقارن معنى وهميا فى بعض المحسوسات وليس تقارن ذلك دائما وفى
جميعها ، فيلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها ، وقد يختلف.
فالوهم حاكم فى
الحيوان يحتاج فى أفعاله إلى طاعة هذه القوى له ، وأكثر. ما يحتاج إليه هو الذكر
والحس ؛ وأما المصورة فيحتاج إليها بسبب الذكر والتذكر والذكر قد يوجد فى سائر الحيوانات ، وأما التذكر وهو الاحتيال لاستعادة ما اندرس فلا
يوجد على ما أظن إلا فى الإنسان ، وذلك لأن الاستدلال على أن
شيئا كان ففات إنما يكون للقوة النطقية ، وإن كان لغير النطقية فعسى أن
يكون للوهم المزين بالنطق. فسائر الحيوانات إن ذكرت ذكرت ، وإن لم تذكر لم تشتق إلى التذكر ، ولم يخطر لها ذلك بالبال ، بل إن هذا الشوق والطلب هو
للإنسان.
والتذكر هو مضاف إلى أمر كان موجودا فى النفس فى الزمان الماضى ، ويشاكل التعلم من جهة
ويخالفه من جهة. أما مشاكلته للتعلم فلأن التذكر انتقال من أمور تدرك ظاهرا أو باطنا إلى أمور غيرها ، وكذلك التعلم فإنه أيضا انتقال من
معلوم إلى مجهول ليعلم ، لكن التذكر هو طلب أن يحصل فى المستقبل مثل ما كان حاصلا
فى الماضى ، والتعلم ليس إلا أن يحصل فى المستقبل شىء آخر ، وأيضا فإن التذكر ليس يصار
إلى الغرض فيه من أشياء توجب حصول الغرض ضرورة ،
__________________
بل على سبيل
علامات إذا حصل أقربها من الغرض انتقلت النفس إلى الغرض
فى مثل تلك الحال ، ولو كانت الحال غير ذلك لم يجب ـ وإن أخطر صورة الأقرب أو معناه ـ أن
تنتقل ، كمن يخطر بباله كتاب بعينه فتذكر منه معلمه الذي قرأ عليه ذلك الكتاب.
وليس يجب من إخطار صورة ذلك الكتاب بالبال وإخطار معناه أن يخطر ذلك المعلم بالبال
لكل إنسان. وأما العلم فإن السبيل الموصلة إليه ضرورية النقل إليه وهى القياس والحد.
ومن الناس من يكون
التعلم أسهل عليه من التذكر ، لأنه يكون مطبوعا على ضروريات النقل ، ومن الناس من
يكون بالعكس ، ومن الناس من يكون شديد الذكر ضعيف التذكر ، وذلك لأنه يكون يابس
المزاج فيحفظ ما يأخذه ، ولا يكون حرك النفس مطاوع المادة لأفعال التخيل واستعراضاته ، ومن الناس من يكون بالعكس. وأسرع الناس
تذكرا أفطنهم للإشارات ، فإن الإشارات تفعل نقلا عن المحسوسات إلى معان غيرها ،
فمن كان فطنا فى الإشارات كان سريع التذكر. ومن الناس من يكون قوى الفهم ولكن يكون
ضعيف الذكر ويكاد أن يكون الأمر فى الفهم والذكر بالتضاد ، فإن الفهم يحتاج إلى
عنصر للصور الباطنة شديد الانطباع ، وإنما تعين عليه الرطوبة ، وأما الذكر فيحتاج
إلى مادة يعسر انفساخ ما يتصور فيها ويتمثل ، وذلك يحتاج إلى مادة يابسة ، فلذلك
يصعب اجتماع الأمرين. فأكثر من يكون حافظا هو الذي لا تكثر حركاته ولا تتفنن هممه
، ومن كان كثير الهمم كثير الحركات لم يذكر جيدا ، فيحتاج الذكر مع المادة
المناسبة إلى أن تكون النفس مقبلة على الصورة وعلى المعنى المستثبتين إقبالا بالحرص غير مأخوذة عنهما باشتغال آخر ، ولذلك كان الصبيان مع رطوبتهم يحفظون جيدا ، لأن نفوسهم غير مشغولة بما تشتغل به نفوس البالغين ، فلا تذهل عما
__________________
هى مقبلة عليه
بغيره. وأما الشبان فلحرارتهم واضطراب حركاتهم مع يبس مزاجهم لا يكون ذكرهم كذكر الصبيان والمترعرعين ، والمشايخ أيضا يعرض لهم من الرطوبة الغالبة أن لا
يذكروا ما يشاهدون.
وقد يعرض مع
التذكر من الغضب والحزن والغم وغير ذلك ما يشاكل حال وقوع الشىء ، وذلك أنه لم يكن سبب وقوع الغم والحزن والغضب فيما مضى إلا انطباع هذه الصورة فى باطن الحواس ، فإذا عادت فعلت ذلك أو قريبا منه ، والأمانى والرجاء
أيضا تفعل ذلك ، والرجاء غير الأمنية ، فإن الرجاء تخيل أمر ما
مع حكم أو ظن بأنه فى الأكثر كائن ، وأما الأمنية فهى تخيل أمر وشهوته والحكم بالتذاذ يكون إن كان ، والخوف
مقابل الرجاء على سبيل التضاد ، واليأس عدمه ، وهذه كلها أحكام للوهم.
فلنقتصر الآن على
ما قلناه من أمر القوى المدركة الحيوانية ، ولنبين أنها كلها تفعل أفعالها بالآلات ، فنقول : أما المدرك من القوى للصور الجزئية الظاهرة على
هيئة غير تامة التجريد والتفريد عن المادة ولا مجردة أصلا عن علائق المادة كما
تدرك الحواس الظاهرة ، فالأمر فى احتياج إدراكه إلى آلات
جسمانية واضح سهل. وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد
حاضرة موجودة ، والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم ، وليس يكون
حاضرا مرة وغائبا أخرى عند ما ليس بجسم ، فإنه لا نسبة له إلى قوة مفردة من جهة
الحضور والغيبة. فإن الشىء الذي ليس فى مكان لا تكون للشىء المكانى إليه نسبة فى
الحضور عنده والغيبة عنه ، بل الحضور لا يقع إلا على وضع وبعد للحاضر عند المحضور. وهذا
__________________
لا يمكن إذا كان
الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما أو فى جسم. وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد
تام من المادة وعدم تجريد البتة من العلائق المادية كالخيال فيحتاج أيضا إلى آلة
جسمانية ، فإن الخيال لا يمكنه أن يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه فى جسم ارتساما مشتركا بينه وبين الجسم ؛ فإن
الصورة المرتسمة فى الخيال من صورة شخص زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه بعضها
عند بعض التي تتميز فى الخيال كالمنظور إليها لا يمكن أن تتخيل على ما هى عليه إلا
أن تلك الأجراء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم فى جسم وتختلف جهات تلك الصورة فى
جهات ذلك الجسم وأجزاؤها فى أجزائه. ولننقل صورة زيد إلى صورة مربع ا ب ج د المحدود
المقدار والجهة والكيفية واختلاف الزوايا بالعدد ، وليكن متصلا بزاويتى ا ب منه
مربعان كل واحد منهما مثل الآخر ، ولكل واحد جهة معينة ولكنهما متشابها الصورة ،
فترتسم من الجملة صورة شكل مجنح جزئى واحد بالعدد مقرر فى الخيال.
فنقول : إن مربع ا
ه ر ووقع غيرا بالعدد لمربع ب ح ط ى ووقع فى الخيال منه بجانب اليمين متميزا عنه بالوضع المتخيل المشار إليه فى الخيال فلا يخلو إما أن
يكون

لصورة المربعية لذاتها أو لعارض خاص له فى المربعية غير
صورة المربعية ، أو يكون للمادة التي هى تنطبع فيها.
__________________
ولا يجوز أن تكون
مغايرته له من جهة صورة المربعية ، وذلك لأنا فرضناهما
متشاكلين متشابهين متساويين. ولا يجوز أن يكون ذلك لعارض يخصه ، أما أولا فإنا لا نحتاج فى تخيله يمينا إلى إيقاع عارض فيه ليس فى ذلك غير جهات المادة ، وأما ثانيا فإن ذلك العارض إما أن يكون
شيئا فيه نفسه لذاته أو يكون شيئا له بالقياس إلى
ما هو شكله فى الموجودات حتى يكون كأنه شكل منزوع عن موجود هو لهذا الخيال ، أو يكون شيئا له بالقياس إلى المادة الحاملة. ولا يجوز أن يكون شيئا له فى نفسه من العوارض التي تخصه ، لأنه إما
أن يكون لازما أو زائلا ، ولا يجوز أن يكون لازما له بالذات إلا وهو لازم لمشاركه
فى النوع ، فإن المربعين وضعا متساويين فى النوع فلا يكون لهذا عارض لازم ليس
لذلك. وأيضا فإنه لا يجوز إن كان هو فى قوة غير متجزئة تجزؤ القوى الجسمانية أن يعرض له شىء دون الآخر الذي هو مثله ومحلهما واحد غير
متجزئ وهو القوة القابلة. ولا يجوز أن يكون زائلا ، لأنه يجب إذا زال ذلك الأمر أن تتغير صورته فى الخيال ، فيكون الخيال إنما يتخيله كما هو لأنه يقرن به ذلك الأمر ، فإذا زال تغير ، والخيال
إنما يتخيله هكذا لا بسبب شىء يقرنه به ، بل يتخيله كذلك كيف كان ، ولا إلى الخيال
أن يلحق بالآخر هذا العارض فيجعله كالأول ، بل ما
دام موجودا فيه يكون كذلك ويعتبره الخيال كذلك من غير التفات إلى أمر آخر يقرنه
به.
ولهذا لا يجوز أن
يقال : إن فرض الفارض جعله بهذه الحال ، كما يجوز أن
__________________
يقال فى مثله فى المعقول ، وذلك لأن الكلام يبقى
بحاله فيقال ما الذي فعله الفارض حتى خصصه بهذه
الحال متميزا عن الثاني. وأما فى الكلى فهناك أمر يقرنه به العقل وهو حد التيامن أو حد التياسر ، فإذا قرن بمربع حد التيامن
صار بعد ذلك متيامنا ، والحد إنما يكون لأمر معقول كلى وفى مثله يصح لأنه أمر فرضى
يتبع الفرض فى التصور. وأما هذا الجزئى الذي ليس يكون بالفرض ، بل إنما تتصور فى
الخيال صورة عن محسوس من غير اختلاف فتثبت
منظورا إليها متخيلة بعينها ، فليس يمكن أن يقال إنها يوجد لها هذا الحد دون
صاحبتها إلا لأمر به يستحق زيادة
هذا الحد دون صاحبتها ، ولا الخيال يفرضها كذلك بشرط يقرنه
بها ، بل يتخيلها كذلك دفعة على
أنها فى نفسها كذلك لا بفرضها ،
فيتخيل هذا المربع يمينا وذلك يسارا ، لا بسبب بشرط يقرن بذلك وبهذا ، وبعد لحوقه يفرض ذلك يمينا وهذا يسارا. وأما
فى صقع العقل فإن حد التيامن وحد التياسر يلحق المربع ـ وهو
مربع لم يعرض له شىء آخر ـ لحوق الكلى بالكلى ، فإنه يجوز أن يثبت فى
العقل كلى من غير إلحاق شىء به ، ويكون معدا لأن يلحق به ما يلحق وأما الخيال فما
لم يتشخص المعنى فيه بما يتشخص به لم يتمثل للخيال ، فلذلك يجوز أن يكون فى سلطان
العقل أن يقرن معنى بمعنى على سبيل الفرض. وأما الخيال فما لم يقع للمتمثل فيه أولا وضع محدود جزئى لم يرتسم فى الخيال ، ولا كان شيئا يجرى
عليه فرض.
فقد بطل أن يكون
هذا التمييز بسبب عارض فى ذاته لازم أو غير لازم فى ذاته أو مفروض. فنقول : ولا
يجوز أن يكون ذلك بالقياس إلى الشىء الموجود
__________________
الذي هو خياله ، وذلك لأنه كثيرا ما يتخيل ما ليس بموجود. وأيضا فإن وقع لأحد المربعين نسبة إلى جسم وللمربع الآخر نسبة أخرى ، فليس
يجوز أن تقع ومحلهما غير منقسم ، فإنه ليس أحد المربعين الخياليين أولى بأن ينسب
إلى أحد المربعين الخارجين من الآخر إلا أن يكون قد وقع هذا فى نسبة من الجسم
الموضوع له الحامل إياه إلى أحد الخارجين لا يقع الآخر فيها. فيكون إذن محل هذا
غير محل ذلك ، وتكون القوة منقسمة ولا تنقسم بذاتها ، بل بانقسام ما هى فيه فتكون جسمانية. وتكون الصورة مرتسمة فى جسم ، فليس يصح أن يفترق المربعان فى الخيال لافتراق المربعين الموجودين وبالقياس إليهما ، فبقى أن يكون ذلك إما بسبب افتراق الجزءين فى القوة القابلة أو الجزءين من الآلة التي بها تفعل القوة.
وكيف كان ، فإن
الحاصل من هذا القبيل أن الإدراك إنما يتم بقوة متعلقة بمادة جسمانية. فقد اتضح أن
الإدراك الخيالى هو أيضا إنما يتم بجسم. ومما يبين ذلك أنا نتخيل الصورة الخيالية
كصورة الناس مثلا أصغر أو أكبر كأنا ننظر إليهما. ولا محالة أنها ترتسم وهى أكبر ،
وترتسم وهى أصغر فى شىء لا فى مثل ذلك الشىء بعينه ، لأنها إن ارتسمت فى مثل ذلك الشىء فالتفاوت فى الصغر والكبر إما أن يكون بالقياس إلى
المأخوذ عنه الصورة وإما بالقياس إلى الآخذ وإما لنفس الصورتين. ولا يجوز أن يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة ، فكثير من الصور الخيالية غير مأخوذة عن شىء البتة ، وربما كان الصغير والكبير صورة شخص واحد.
ولا يجوز أن يكون بسبب الصورتين فى أنفسهما فإنهما لما اتفقتا فى الحد والماهية
واختلفتا فى الصغر والكبر فليس ذلك لنفسيهما ، فإذن ذلك بالقياس
إلى الشىء القابل ، ولأن الصورة تارة ترتسم فى جزء منه أكبر وتارة فى جزء منه أصغر
وأيضا فإنه ليس يمكننا نتخيل السواد والبياض فى شبح خيالى واحد ساريين فيه معا ، ويمكننا ذلك فى جزءين منه يلحظهما الخيال مفترقين. ولو كان الجزءان
__________________
لا يتميزان فى الوضع ، بل كان كلا الخيالين يرتسمان فى شىء غير منقسم ، لكان لا يفترق
الأمر بين المتعذر منهما والممكن. فإذن الجزءان متميزان فى الوضع
والخيال يتخيلهما متميزين فى جزءين.
فإن قال قائل :
وكذلك العقل ، فنجيبه ونقول : إن العقل يعقل السواد والبياض معا فى زمان واحد من
حيث التصور ، وأما من حيث التصديق فيمتنع أن يكون موضوعهما
واحدا. وأما الخيال فلا يتخيلهما معا لا على قياس التصور ولا على قياس التصديق. على أن فعل الخيال إنما هو على قياس التصور لا غير ،
ولا فعل له فى غيره ، ولما علمت هذا فى الخيال ، فقد علمت فى الوهم الذي ما يدركه
إنما يدركه متعلقا بصورة جزئية خيالية على ما أوضحناه.
__________________
الفصل الرابع
فى أحوال القوى المحركة وضرب من النبوة المتعلقة بها
وإذ قلنا فى القوى
المدركة من قوى النفس الحيوانية فخليق بنا أن نتكلم فى القوى المحركة منها فنقول : إن الحيوان ما لم يشتق اشتياقا إلى شىء شعر باشتياقه أو تخيله أو لم
يشعر به ، لم ينبعث إلى طلبه بالحركة. وليس ذلك الشوق هو لشىء من القوى المدركة ،
فليس لتلك القوى إلا الحكم والإدراك ، وليس يجب إذا حكم أو أدرك بحس أو وهم أن
يشتاق ذلك الشىء ، فإن الناس يتفقون فى إدراك ما يحسون ويتخيلون
من حيث يحسون ويتخيلون ، لكن يختلفون فيما يشتاقون إليه مما يحسون ويتخيلون. والإنسان
الواحد قد يختلف حاله فى ذلك ، فإنه يتخيل الطعام فيشتاقه فى وقت الجوع ولا يشتاقه فى وقت الشبع. وأيضا
فإن الحسن الأخلاق إذا تخيل اللذات المستكرهة لم يشتقها ، والآخر يشتاقها. وليس
هذان الحالان للإنسان وحده ، بل وللحيوانات كلها.
والشوق قد يختلف ،
فمنه ما يكون ضعيفا بعد ، ومنه ما يشتد حتى يوجب الإجماع. والإجماع ليس هو الشوق فقد يشتد الشوق إلى الشىء ولا يجمع على الحركة البتة ، كما أن التخيل يقوى فلا يشتاق إلى ما يتخيل ، فإذا صح
الإجماع أطاعت القوى
__________________
المحركة التي ليس
لها إلا تشنيج العضل وإرسالها. وليس هذا نفس الشوق ولا الإجماع ، فإن
الممنوع من الحركة لا يكون ممنوعا من شدة الشوق ومن الإجماع ، لكنه لا يجد طاعة من القوى الأخرى التي لها أن تحرك فقط ، وهى التي
فى العضل. وهذه القوة الشوقية من شعبها القوة
الغضبية والقوة الشهوانية. فالتى تنبعث مشتاقة إلى اللذيذ والمتخيل نافعا لتجلبه هى الشهوانية ، والتي تنبعث مشتاقة إلى الغلبة وإلى المتخيل منافيا لتدفعه فهى الغضبية.
وقد نجد فى
الحيوانات انبعاثات لا إلى شهواتها ، بل مثل نزاع التي ولدت إلى ولدها والذي ألف
إلى إلفه ، وكذلك اشتياقها إلى الانفالات من الأقفاص
والقيود ، فهذا وإن لم يكن شهوة للقوة الشهوانية فإنه اشتياق ما إلى شهوة
للقوة الخيالية. فإن القوة المدركة تخصها فيما تدرك وفيما تنقلب
فيه من الأمور التي تتجدد بالمشاهدة أو من الصور مثلا لذة تخصها ، فإذا تألمت بفقدانها اشتاقت إليها طبعا ، فأجمعت القوة الإجماعية على
أن تحرك إليها الآلات كما تجمع لأجل الشهوة والغضب ، ولأجل الجميل
من المعقولات أيضا. فيكون للشهوة اشتداد الشوق إلى اللذيذ ،
وللقوة النزوعية الإجماع ، وللغضب اشتداد الشوق إلى الغلبة ، وللقوة النزوعية الإجماع ، وكذلك للتخيل
أيضا ما يخصه وللقوة النزوعية الإجماع.
والخوف والغم
والحزن عن عوارض القوة الغضبية بمشاركة من القوى الدراكة ،
__________________
فإنها إذا انخذلت اتباعا لتصور عقلى أو خيالى كان خوف ، وإذا لم تحف قويت. ويعرض لها الغم من الذي يوجب الغضب إذا كان غير مقدور على دفعه أو
كان مخوفا وقوعه. والفرج الذي من باب الغلبة فإنه غاية لهذه القوة أيضا ، والحرص والنهم والشهوة والشبق وما أشبه
ذلك فهى للقوة البهيمية الشهوانية. والاستئناس والسرور من عوارض القوى الدراكة.
وأما القوى الإنسانية فتعرض لها أحوال تخصها سنتكلم فيها بعد. والقوى الإجماعية تبع للقوى المذكورة ، فإنها إذا اشتد نزاعها أجمعت وهى كلها
تتبع أيضا القوة الوهمية ، وذلك أنه لا يكون شوق البتة إلا بعد توهم المشتاق إليه وقد يكون وهم ، ولا يكون شوق. لكنه قد يتفق أحيانا لآلام بدنية تتحرك الطبيعة إلى دفعها أن توجب تلك الحركة
انبعاث التوهم ، فتكون تلك القوى سائقة للتوهم إلى
مقتضاها ، كما أن التوهم فى أكثر الأمر يسوق القوى إلى المتوهم ، فالوهم له السلطان فى حيز القوى المدركة فى الحيوانات ، والشهوة والغضب لهما السلطان
فى حيز القوى المحركة وتتبعهما القوة الإجماعية ثم القوى
المحركة التي فى العضل.
فنقول الآن : إن هذه الأفعال والأعراض هى من العوارض التي تعرض للنفس وهى فى البدن ولا
تعرض بغير مشاركة البدن ، ولذلك فإنها تستحيل معها أمزجة الأبدان. وتحدث هى أيضا
مع حدوث أمزجة الأبدان ، فإن بعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للغضب ، وبعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للشهوة ، وبعض الأمزجة يتبعه
الجبن والخوف. ومن الناس من تكون سجيته سجية مغضب
__________________
فيكون سريع الغضب
، ومن الناس من يكون كأنه مذعور مرعوب فيكون جبانا مسرعا إليه
الرعب. فهذه الأحوال لا تكون إلا بمشاركة البدن.
والأحوال التي
للنفس بمشاركة البدن على أقسام : منها ما يكون للبدن أولا ولكن لأجل أنه ذو نفس ،
ومنها ما يكون للنفس أولا ولكن لأجل أنها فى بدن ، ومنها ما يكون بينهما بالسوية. فالنوم
واليقظة والصحة والمرض أحوال هى للبدن ومبادئها منه ، فهى له أولا ، ولكن إنما هى
للبدن بسبب أن له نفسا. وأما التخيل والشهوة والغضب وما يجرى هذا المجرى فإنها للنفس من جهة ما هى ذات بدن ، وللبدن من جهة أنها لنفس البدن أولا ، وإن كان من جهة ما النفس
ذات بدن ، لست أقول من قبل البدن ، وكذلك الهم والغم والحزن والذكر وما أشبه ذلك ، فإن هذه ليس فيها ما هو عارض للبدن من حيث هو بدن ، ولكن هذه
أحوال شىء مقارن للبدن لا تكون إلا عند مقارنة البدن ، فهى للبدن من قبل النفس ،
إذ هى للنفس أو لا وإن كانت للنفس من قبل ما هى ذات بدن ، لست أقول من قبل البدن. وأما الألم من الضرب ومن تغير المزاج فإن
العارض فيه موجود فى البدن ، لأن تفرق الاتصال والمزاج من أحوال البدن من جهة ما
هو بدن ، وأيضا موجود فى الحس الذي يحسه من جهة ما يحسه ولكن بسبب البدن ويشبه أن
يكون الجوع والشهوة من هذا القبيل. وأما التخيل والخوف والغم والغضب فإن الانفعال الذي تعرض به يعرض أولا للنفس ، وليس الغضب والغم من حيث هو غضب أو
غم انفعالا من الانفعالات المؤلمة للبدن ، وإن كان يتبعه
انفعال بدنى مؤلم للبدن ، مثل اشتعال حرارة أو خمودها وغير ذلك. فإن ذلك ليس نفس
الغضب والغم ، بل هو أمر يتبع الغضب والغم. ونحن لا نمنع أن يكون أمر الأخلق به أن يكون للنفس من حيث هى فى بدن ثم تتبعه فى البدن
__________________
انفعالات خاصة
بالبدن ، فإن التخيل أيضا من حيث كونه إدراكا ليس من الانفعالات التي تكون للبدن بالقصد الأول ، ثم قد يعرض من التخيل أن ينتشر
بعض الأعضاء ، وليس ذلك بسبب طبيعى أوجب أن مزاجا قد
استحال وحرارة قويت وبخارا تكوّن ونفذ فى العضو حتى نشره ، بل لما حصلت صورة فى
وهم أوجبت الاستحالة فى مزاج وحرارة ورطوبة وريحا ، ولو لا تلك الصورة لم يكن فى الطبيعة ما يحركها.
ونحن نقول بالجملة
إن من شأن النفس أن يحدث منها فى العنصر البدنى استحالة مزاج تحصل من غير فعل وانفعال جسمانى فتحدث حرارة لا عن حار ، وبرودة لا عن بارد ، بل
إذا تخيلت النفس خيالا وقوى فى النفس لم يلبث أن يقبل العنصر البدنى صورة مناسبة
لذلك أو كيفية. وذلك لأن النفس من جوهر بعض المبادي التي هى تلبس المواد ما فيها
من الصور المقومة لها ، إذ هى أقرب مناسبة لذلك الجوهر من غيره ، وذلك إذا استتم
استعدادها لها. وأكثر استعداداتها إنما تكون بسبب استحالات فى الكيف ؛ كما
قلنا فيما سلف ، وإنما تستحيل فى الأكثر عن أضداد تحيلها. فإذا كانت هذه المبادي
قد تكسو الكيفيات من غير حاجة إلى أن تكون هناك مماسة وفعل وانفعال جسمانى يصدر عن
مضادة ، بل الصورة التي فى النفس هى مبدأ لما يحدث فى العنصر ، كما أن الصورة
الصحبة التي فى نفس الطبيب مبدأ لما يحدث من البرء ، وكذلك صورة السرير فى نفس النجار لكنه من المبادي التي لا تنساق إلى إصدار ما هى موجبة له إلا بآلات ووسائط ، وإنما تحتاج إلى هذه الآلات لعجز وضعف وتأمل حال المريض الذي توهم أنه قد صح والصحيح الذي توهم أنه مرض ، فإنه كثيرا ما يعرض من
__________________
ذلك أن يكون إذا تأكدت الصورة فى نفسه وفى وهمه انفعل منها عنصره فكانت الصحة أو المرض ،
ويكون ذلك أبلغ مما يفعله الطبيب بآلات ووسائط. ولهذا السبب ما يمكن الإنسان مثلا أن يعدو على جذع مطروح فى القارعة من
الطريق وإن كان موضوعا كالجسر وتحته هاوية لم يجسر أن يمشى عليه دبيبا إلا بالهوينا ،
لأنه يتخيل فى نفسه صورة السقوط تخيلا قويا جدا فتجيب
إلى ذلك طبيعته وقوة أعضائه ولا تجيب إلى ضده من الثبات والاستمرار.
فالصور إذا استحكم
وجودها فى النفس واعتقاد أنها يجب أن توجد فقد يعرض كثيرا أن تنفعل عنها المادة
التي من شأنها أن تنفعل عنها وتكون ، فإن كان ذلك فى النفس الكلية التي للسماء
والعالم جاز أن يكون مؤثرا فى طبيعة الكل ، وإن كان فى نفس جزئية جاز أن يؤثر فى
الطبيعة الجزئية.
وكثيرا ما تؤثر
النفس فى بدن آخر كما تؤثر فى بدن نفسها تأثير العين العائنة والوهم العامل ، بل النفس إذا كانت قوية شريفة شبيهة
بالمبادئ أطاعها العنصر الذي فى العالم وانفعل عنها ووجد فى العنصر ما يتصور فيها.
وذلك لأن النفس الإنسانية سنبين أنها غير منطبعة فى المادة التي لها ، لكنها
منصرفة الهمة إليها. فإن كان هذا الضرب من التعلق يجعل لها أن تحيل العنصر البدنى
عن مقتضى طبيعته ، فلا بدع أن تكون النفس الشريفة القوية جدا تجاوز بتأثيرها ما
يختص بها من الأبدان إذا لم يكن انغماسها فى الميل إلى ذلك البدن شديدا قويا وكانت
مع ذلك عالية فى طبقتها قوية فى ملكتها جدا ، فتكون هذه
النفس تبرئ المرضى ، وتمرض الأشرار ، ويتبعها أن تهدم طبائع ، وأن تؤكد طبائع ،
وأن تستحيل لها العناصر فيصير غير النار نارا وغير الأرض أرضا ، وتحدث بارادتها أيضا أمطار وخصب كما يحدث خسف ووباء كل بحسب الواجب العقلى.
وبالجملة فإنه يجوز أن يتبع إرادته وجود ما يتعلق باستحالة العنصر
__________________
فى الأضداد ، فإن
العنصر بطبعه يطيعه ويتكون فيه ما يتمثل فى إرادته ، إذ العنصر بالجملة طوع للنفس
وطاعته لها أكثر من طاعته للأضداد المؤثرة فيها. وهذه أيضا من خواص القوى النبوية. وقد كنا ذكرنا خاصية قبل هذه تتعلق بقواها
المتخيلة وتلك خاصية تتعلق بالقوى الحيوانية المدركة ، وهذه خاصية تتعلق بالقوى
الحيوانية المحركة الإجماعية من نفس النبي العظيم النبوة.
فنقول : إنه لما
تبين أن جمع القوى الحيوانية لا فعل لها إلا بالبدن ، ووجود القوى أن يكون بحيث
تفعل ، فالقوى الحيوانية إذن إنما تكون بحيث تفعل وهى بدنية فوجودها أن تكون بدنية ، فلا بقاء لها بعد البدن. وقد تكلمنا فى
كتبنا الطبية فى أسباب استعدادات الأشخاص المختلفة بجبلتها وبحسب اختلاف أحوالها
للفرح والغم والغضب والحلم والحقد والسلامة وغير ذلك كلاما لا يوجد للمتقدمين ما يجرى مجراه
فى تفصيله وتحصيله فليقرأ من هناك.
__________________
المقالة الخامسة
__________________
الفصل الأول
فى خواص الأفعال والانفعالات التي للإنسان
وبيان قوى النظر والعمل للنفس الإنسانية
قد فرغنا من القول
فى القوى الحيوانية أيضا ، فحرى بنا أن نتكلم الآن فى القوى الإنسانية. فنقول : إن
الإنسان له خواص أفعال تصدر عن نفسه ليست موجودة لسائر الحيوان. وأول ذلك أنه لما
كان الإنسان فى وجوده المقصود فيه يجب أن يكون غير مستغن فى بقائه عن المشاركة ولم
يكن كسائر الحيوانات التي يقتصر كل واحد منها فى نظام معيشته على نفسه وعلى
الموجودات فى الطبيعة له. وأما الإنسان الواحد فلو لم يكن فى الوجود إلا هو وحده
وإلا الأمور الموجودة فى الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشته أشد سوء ، وذلك لفضيلته ونقيصة سائر الحيوان على ما ستعلمه فى مواضع
أخرى ، بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما فى الطبيعة ـ مثل الغذاء المعمول
واللباس المعمول والموجود فى الطبيعة من الأغذية ـ ما لم تدبر بالصناعات فإنها لا
تلائمه ولا تحسن معها معيشته. والموجود فى
الطبيعة من الأشياء التي يمكن أن تلبس أيضا ، فقد تحتاج أن تجعل بهيئة وصفة حتى
يمكنها أن يلبسها. وأما الحيوانات الأخرى فإن لباس كل واحد معه فى الطباع ، فلذلك
يحتاج الإنسان أول شىء إلى الفلاحة وكذلك إلى صناعات أخرى ، لا يتمكن الإنسان
الواحد من تحصيل كل ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه ، بل بالمشاركة حتى يكون هذا يخبز
لذاك ، وذاك ينسج لهذا ، وهذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك ، وهذا
يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب.
__________________
فلهذه الأسباب
ولأسباب أخرى أخفى وآكد من هذه ما
احتاج الإنسان أن تكون له فى طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذي هو شريكه ما فى
نفسه بعلامة وضعية ، وكان أخلق ما يصلح لذلك هو الصوت لأنه ينشعب إلى حروف تتركب
منها تراكيب كثيرة من غير مؤونة تلحق البدن وتكون شيئا لا يثبت ولا يبقى فيؤمن
وقوف من لا يحتاج إلى شعوره عليه. وبعد الصوت الإشارة فإنها كذلك ، إلا أن الصوت
أدل من الإشارة ، لأن الإشارة إنما تهدى من حيث يقع عليها البصر ، وذلك يكون من
جهة مخصوصة ، ويحتاج أن يكلف المراد إعلامه أن تحرك حدقته إلى جهة مخصوصة حركات
كثيرة يراعى بها الإشارة. وأما الصوت فقد تغنى الاستعانة
به عن أن يكون من جهة مخصوصة ، وتغنى أيضا عن أن تراعى بحركات
، ومع ذلك فليس يحتاج فى أن يدرك إلى متوسط كما لا يحتاج اللون إليه ، لا كحاجة الإشارات ، فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلف من الأصوات ما يتوصل به إلى إعلام الغير.
وفى الحيوانات الأخرى أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال فى نفسها. لكن تلك الأصوات
إنما تدل بالطبع وعلى جملة من الموافقة أو المنافرة غير محصلة ولا مفصلة.
والذي للإنسان فهو
بالوضع ، وذلك لأن الأغراض الإنسانية تكاد أن لا تتناهى ، فما كان يمكن أن تطبع هى
على أصوات بلا نهاية ، فمما يختص بالإنسان هذه الضرورة الداعية إلى الإعلام والاستعلام
لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء بقدر عدل ولضرورات أخرى ، ثم اتخاذ المجامع
واستنباط الصنائع.
وللحيوانات الأخرى
وخصوصا للطير صناعات أيضا ، فإنها تصنع بيوتا ومساكن لا سيما النحل. لكن ذلك ليس مما يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك
ليس مما يختلف ويتنوع ، وأكثرها لصلاح أحوالها وللضرورة النوعية ليست للضرورة
الشخصية.
__________________
والذي للإنسان
فكثير منه للضرورة الشخصية ، وكثير لصلاح حال الشخص بعينه. ومن خواص الإنسان أنه يتبع إدراكاته للأشياء النادرة
انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك ، ويتبع إدراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى
الضجر ويتبعه البكاء. ويخصه فى المشاركة أن المصلحة تدعو إلى أن تكون فى جملة
الأفعال التي من شأنه أن يفعلها أفعال لا ينبغى له أن يفعلها ، فيعلم ذلك صغيرا وينشأ عليه. ويكون قد تعود مند صباه سماع أن تلك الأفعال ينبغى أن
لا يفعلها ، حتى صار هذا الاعتقاد له كالعزيزى ، وأفعال أخرى بخلاف ذلك ، وتسمى
الأولى قبيحة ، والأخرى جميلة. وليس يكون للحيوانات الأخرى ذلك ، فإن كانت
الحيوانات الأخرى تترك أفعالا لها أن تفعلها مثل أن الأسد المعلّم لا يأكل صاحبه ولا
يأكل ولده. فليس سبب ذلك اعتقادا فى النفس ورأيا ،
ولكن هيئة أخرى نفسانية ، وهى أن كل حيوان يؤثر بالطبع
وجود ما يلذه وبقاءه ، وأن الشخص الذي يمونه ويطعمه قد صار لذيذا له لأن كل نافع
لذيذ بالطبع عند المنفوع ، فيكون المانع عن فرسه ليس اعتقادا ، بل هيئة وعارضا
نفسانيا آخر. وربما وقع هذا العارض فى الجبلة ومن الإلهام الإلهى كحب كل حيوان
ولده من غير اعتقاد البتة ، بل على نوع تخيل بعض الإنسان لشىء نافع أو لذيذ ونفرته
عنه إذا كان فى صورته ما ينفر عنه. والإنسان
قد يتبع شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئا من الأشياء التي قد أجمع على أنه لا
ينبغى أن يفعلها انفعال نفسانى يسمى الخجل ، وهذا أيضا من خواص الناس. وقد يعرض
للإنسان انفعال نفسانى بسبب ظنه أن أمرا فى المستقبل يكون مما يضره ، وذلك يسمى
الخوف. والحيوانات الأخرى إنما يكون ذلك لها بحسب الآن فى غالب الأمر ، أو متصلا بالآن ، وللإنسان بإزاء الخوف الرجاء ، ولا يكون للحيوانات الأخرى إلا متصلا بالآن ، ولا يكون فيما يبعد من الآن من الزمان ذلك. والذي تفعله من الاستظهار فليس ذلك لأنها تشعر بالزمان وما يكون فيه ، بل ذلك
أيضا
__________________
ضرب من الإلهام.
والذي يفعله النمل من نقل الميرة بالسرعة إلى جحرتها منذرة بمطر يكون ، فلأنها تتخيل أن ذلك هو ذا يكون فى هذا الوقت. كما أن
الحيوان يهرب عن الضد لما يتخيل أن هو ذا يريد أن يضربه فى الوقت.
ويتصل بهذا الجنس ما للإنسان أن يروى فيه من الأمور المستقبلة
أنه هل ينبغى له أن يفعلها أو لا ينبغى فيفعل ما يصح أن
توجب رويته أن لا يفعله وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما روى ، ولا يفعل ما يصح أن توجب رويته أن يفعل وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما روى. وسائر الحيوانات إنما يكون لها من الإعدادات
للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيها وافقت عاقبتها أو لم
توافق.
وأخص الخواص
بالإنسان تصور المعانى الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد على ما حكيناه
وبيناه ، والتوصل إلى معرفة المجهولات تصديقا وتصورا من المعلومات العقلية. فهذه الأحوال والأفعال المذكورة هى مما يوجد للإنسان ، وجلها يختص به الإنسان
وإن كان بعضها بدنيا ، ولكنه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس التي للإنسان التي ليست لسائر الحيوان ، بل نقول : إن للإنسان تصرفا فى أمور جزئية وتصرفا
فى أمور كلية والأمور الكلية إنما يكون فيها اعتقاد فقط ولو كان أيضا فى عمل ، فإن
من اعتقد اعتقادا كليا أن البيت كيف ينبغى أن يبنى ، فإنه لا يصدر عن هذا الاعتقاد
وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوليا ، فإن الأفعال تتناول أمورا جزئية وتصدر عن آراء جزئية ، وذلك لأن الكلى من حيث هو كلى ليس يختص. بهذا
دون ذلك. ولنؤخر شرح هذا معولين على ما يأتيك فى الصناعة الحكمية فى آخر الفنون
فتكون للإنسان إذن قوة تختص بالآراء الكلية ، وقوة أخرى تختص
بالروية فى الأمور الجزئية ، فيما ينبغى أن يفعل ويترك مما ينفع ويضر ، ومما هو جميل وقبيح وخير وشر ، ويكون ذلك بضرب
من القياس والتأمل صحيح أو سقيم غايته
__________________
أنه يوقع رأيا فى أمر جزئى مستقبل من الأمور الممكنة ، لأن الواجبات
والممتنعات لا يروى فيها لتوجد أو تعدم ، وما مضى أيضا لا يروى فى
إيجاده على أنه ماض. فإذا حكمت هذه القوة تبع حكمها حركة القوة الإجماعية إلى تحريك
البدن ، كما كانت تتبع أحكام قوى أخرى فى الحيوانات ، وتكون هذه القوة استمدادها
من القوة التي على الكليات ، فمن هناك تأخذ المقدمات الكبرى فيما تروى
وتنتج فى الجزئيات. فالقوة الأولى للنفس الإنسانية قوة تنسب إلى النظر فيقال عقل
نظرى ؛ وهذه الثانية قوة تنسب إلى العمل فيقال عقل عملى ؛ وتلك للصدق والكذب وهذه للخير والشر فى الجزئيات ، وتلك للواجب والممتنع والممكن وهذه للقبيح والجميل
والمباح ، ومبادئ تلك من المقدمات الأولية ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات
والمظنونات والتجربيات الواهية التي تكون من المظنونات غير التجربيات الوثيقة.
ولكل واحدة من هاتين القوتين رأى وظن ، فالرأى هو الاعتقاد المجزوم به ، والظن هو
الاعتقاد المميل إليه مع تجويز الطرف الثاني. وليس كل من ظن فقد اعتقد ، كما ليس
كل من أحس فقد عقل ، أو من تخيل فقد ظن أو اعتقد أو رأى ، فيكون فى الإنسان حاكم
حسى وحاكم من باب التخيل وهمى وحاكم نظرى وحاكم عملى ، وتكون المبادي الباعثة
لقوته الإجماعية على تحريك الأعضاء وهم خيالى وعقل عملى وشهوة وغضب ، وتكون للحيوانات الأخرى ثلاثة من هذه.
والعقل العملى
يحتاج فى أفعاله كلها إلى البدن وإلى القوى البدنية ، وأما
العقل النظرى فإن له حاجة ما إلى البدن وإلى قواه لكن لا دائما ومن كل وجه ، بل قد
يستغنى بذاته. وليس لا واحد منهما هو النفس الإنسانية ، بل النفس هو الشىء الذي له
هذه القوى. وهو كما تبين جوهر منفرد وله استعداد نحو
__________________
أفعال بعضها لا
يتم إلا بالآلات وبالإقبال عليها بالكلية ، وبعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة ما ،
وبعضها لا يحتاج إليها البتة. وهذا كله سنشرحه بعد. فجوهر النفس الإنسانية مستعد
لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته ومما هو فوقه لا يحتاج فيه إلى ما دونه ، وهذا الاستعداد له هو بالشيء الذي يسمى العقل النظرى ؛ ومستعد لأن يتحرز عن
آفات تعرض له من المشاركة ، كما سنشرحه فى موضعه ، وأن يتصرف فى المشاركة تصرفا على الوجه الذي يليق به. وهذا الاستعداد
له بقوة تسمى العقل العملى ، وهى رئيسة القوى التي له إلى جهة البدن. وأما ما
دون ذلك فهى قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها ولمنفعته. والأخلاق
تكون للنفس من جهة هذه القوة كما قد أشرنا إليه فيما سلف. ولكل واحدة من القوتين استعداد وكمال ، فالاستعداد الصرف من كل واحدة منهما يسمى عقلا هيولانيا سواء أخذ نظريا أو عمليا. ثم بعد ذلك إنما يعرض لكل
واحدة منهما أن تحصل لها المبادي التي بها
تكمل أفعالها ، إما للعقل النظرى فالمقدمات
الأولية وما يجرى معها ، وإما للعملى فالمقدمات
المشهورة وهيئات أخرى. فحينئذ يكون كل واحد منهما عقلا بالملكة ، ثم يحصل لكل واحد منهما الكمال المكتسب. وقد كنا شرحنا هذا من قبل ، فيجب أول كل شىء أن نبين أن هذه النفس المستعدة لقبول المعقولات بالعقل
الهيولانى ليس بجسم ولا قائم صورة فى جسمه.
__________________
الفصل الثاني
فى إثبات أن
قوام النفس
الناطقة غير
منطبع
فى مادة جسمانية
إن مما لا شك فيه
أن الإنسان فيه شىء وجوهر ما يتلقى المعقولات بالقبول.
فنقول : إن الجوهر
الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه. فإنه إن كان محل
المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإما أن تكون الصورة المعقولة تحل منه شيئا
وحدانيا غير منقسم ، أو تكون إنما تحل منه شيئا منقسما. والشىء الذي لا ينقسم من
الجسم هو طرف نقطى لا محالة.
ولنمتحن أولا أنه هل يمكن أن يكون محلها طرفا غير منقسم ، فنقول إن هذا محال ، وذلك لأن النقطة
هى نهاية ما لا تميز لها عن الخط فى الوضع أو عن المقدار الذي هو منته إليها تميزا
يكون له النقطة شيئا يستقر فيه شىء من غير أن يكون فى شىء من ذلك المقدار ، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها وإنما هى طرف ذاتى لما هو
بالذات مقدار كذلك إنما يجوز أن يقال بوجه ما أنه يحل فيها طرف شىء حال فى المقدار
الذي هى طرفه ، فهو متقدر بذلك المقدار بالعرض ، وكما أنه يتقدر به
بالعرض كذلك
__________________
يتناهى بالعرض مع
النقطة ، فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد
بالذات. ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات. فكانت النقطة
إذن ذات جهتين : جهة منها تلى الخط الذي تميزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابلة
فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها. وللخط المنفصل عنها نهاية لا محالة غيرها تلاقيها ؛ فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه. والكلام فيها وفى هذه
النقطة واحد ، ويؤدى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة فى الخط
إما متناهية وإما غير متناهية. وهذا أمر قد بان لنا فى مواضع أخرى استحالته ، فقد
بان أن النقط لا يتركب بتشافعها جسم ، وبان أيضا أن النقطة لا يتميز لها وضع خاص ، ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها فنقول : إن النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ إما أن تكون
النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان ، فيلزم حينئذ أن
تنقسم الواسطة على الأصول التي قد علمت ، وهذا محال ، وإما
أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة فى
جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة. وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة
منفصلة عن الخط ، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها ، فتكون تلك
النقطة مباينة لهذه فى الوضع. وقد وضعت النقط كلها مشتركة فى الوضع فهذا خلف.
فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا
غير منقسم ، فبقى أن يكون محلها من الجسم ـ إن كان محلها
فى الجسم ـ شيئا منقسما. فلنفرض
__________________
الفصل الرابع عشر
فصل فى
انفعالات العناصر بعضها من بعض ، واستحالاتها فى حال
البساطة وفى حال
التركيب ، وكيفية تصرفها تحت تأثير الأجسام العالية
فقد تبين مما سلف
أن العناصر للكائنات الفاسدات أربعة لا غير.
وإذا اعتبر المعتبر صادف النبات والحيوانات المتكونة فى حيز الأرض مستمدة من الأرض ومن الماء ومن الهواء ، ووجودها يتم باتحاد المنضج. فالأرض تفيد الكائن تماسكا وحفظا لما يفاد من التشكيل والتخليق ؛ والماء يفيد الكائن سهولة قبول للتخليق والتشكيل ، ويستمسك جوهر الماء بعد سيلانه بمخالطة الأرض ، ويستمسك جوهر الأرض عن تشتته لمخالطة الماء ، والهواء والنار يكسران عنصرية هذين ويفيدانهما اعتدال الامتزاج.
والهواء يخلخل ويفيد وجود المنافذ والمسام ، والنار تنضج وتطبخ وتجمع.
وهذه الأربعة قد
ظهر أنها يتكون بعضها من بعض ، وأن لها عنصرا مشتركا ، وأن ذلك بالحقيقة هو العنصر الأول.
ومع ذلك فإن تكون بعض منها من بعض أسهل ، وتكوّن
بعض منها من بعض أعسر ، وتكون لبعض منها من بعض وسط.
__________________
فأما السهل
فاستحالة عنصر إلى مشاركه فى إحدى الكيفيتين وهو فيها ضعيف ، مثل استحالة الهواء
إلى الماء. فإن الهواء يشارك الماء فى كيفية
الحرارة ، وكيفية الحرارة فيه ضعيفه ، والبرد فى الماء قوى.
فإذا قوى عليه الماء ، وحاول أن يحيله باردا فى طبعه ، انفعل سهلا ، وبقيت رطوبته ، وكان ماء ، ليس لأن استحالته فى هذه الكيفية هى كونه ماء ؛ بل يستحيل ، مع ذلك ، فى صورته التي شرحنا أمرها. وصورته أشد إذعانا للزوال عن مادته الى
صورة المائية من صورة النار.
وأما العسر فأن
يحتاج المتكون إلى استحالة الكيفيتين جميعا فى طبعه. وأما الوسط فيحتاج إلى استحالة كيفية واحدة فقط ، لكنها قوية مثل ما تحتاج إليه الأرض فى استحالتها إلى النارية ، والماء فى استحالته إلى الهوائية.
ولكل واحد من هذه
العناصر عرض فى قبوله الزيادة والنقصان فى كيفيته. فإنه قد يزيد فى كيفيته الطبيعية أو العرضية وينقص ، وهو حافظ بعد لصورته ونوعه. لكن للزيادة والنقصان فى ذلك طرفان محدودان ، إذا
جاوزهما بطل عن المادة التهيؤ التام لصورته ، واستعدت استعدادا تاما لصورة أخرى. ومن شأن المادة إذا استعدت استعدادا تاما
لصورة أن تفاض تلك الصورة عليها من عند واهب الصور للمواد فتقبلها. وبسبب ذلك ما يتخصص المواد المتشابهة فى أنها مواد لصور مختلفة ، وذلك من عند واهب الصور.
__________________
ويجب أن نعلم أن القوة شىء ، وأن الاستعداد التام شىء آخر. والمادة فيها جميع الأضداد بالقوة ، لكنها تختص بواحد من الأضداد ، من جملة الأمور المختلفة
بما يحدث فيها من استعداد تام يخصصه بها أمر. فإن المحكوك والمحرك معد لقبول الحرارة
إعدادا خاصا ، وإن كان هو أيضا فى طبعه قابلا للبرودة.
وليس هذا للعناصر وحدها ؛ بل للمتكونات أيضا ، ولكل واحد منها مزاج. ومزاجه
يقبل الزيادة والنقصان إلى حد ما محصور العرض بين طرفين. وإذا جاوز ذلك بطل
استعداده لملابسته لصورته.
وهذه المركبات
تختلف أمزجتها لاختلافها فى مقادير العناصر فيها :
فمن الكائنات ما
الأرضية فيه غالبة ، وهى جميع ما ترسب فى الهواء والماء من المعدنيات والنبات والحيوان. وقد يجوز ألا يرسب بعض ما الأرضية فيه غالية. فإنه يجوز أن تكون الأرضية غالبة لمفرد أسطقس وليس غالبا لمجموع أسطقسين خفيفين.
ومنها ما المائية
فيه غالبة. ومنها ما الهوائية. ويعسر امتحان ذلك من جهة الطفو والرسوب. وذلك
لأن الجسم ، وإن كانت المائية فيه غالية ، وفيه هواء ونار قليل فهو ، لا محالة ، لا يكون بسبب مائيته أثقل من الماء ، حتى يرسب فيه ، إلا أن تكون أرضيته كثيرة تزيد ثقلا على مائيته :
ومنه ما النارية فيه غالبة. وهذا جميع ما يعلو فى الجو. وقد
يجوز أن يكون فيه ما لا يعلو لنظير ما قلناه فى
الغالب فيه الأرضية. وهذه الغلبة قد تكون بالفعل ،
__________________
وقد تكون بالقوة. والذي بالقوة فهو الذي ، إذا فعل فيه الحار الغريزى من
أبدان الحيوان ؛ استحال إلى غلبة بعض الأسطقسات.
ولهذه الأسطقسات
غلبة فى المركب من وجهين : أحدهما بالكم والآخر بالكيف والقوة. وربما كان أسطقس مغلوبا فى الكمية ، لكنه قوى فى الكيفية ، وربما كان بالعكس. ويشبه أن يكون الغالب فى الكم يغلب فى
الميل لا محالة ، وإن كان قد لا يغلب فى الكيف الفعلى والانفعالى. فإن الميل ، عند
ما يلزم من الصورة ، يكون شديد اللزوم للصورة أشد من لزوم
الكيف الفعلى والانفعالى. وإن لم يكن دائم اللزوم للصورة فإنه قد يبطل إذا عرض عائق قوى.
والممتزج فكثيرا
ما يعرض له من الأسباب الخارجة أن يغلب من أسطقساته ما ليس بغالب. فإنها إذا عادت كيفية غير الغالب ، حتى قوى ، غلب ، وأحال
الآخر إلى مشابهته ، فظهر سلطانه.
فنقول الآن : إن
الكون والفساد والاستحالة أمور مبتدأة ، ولكل مبتدأة سبب
ولا بد ، على ما أوضحنا فى الفنون الماضية ، من حركة مكانية. فالحركة المكانية هى مقربة الأسباب ومبعدتها ، ومقوية الكيفيات ومضعفها. ومبادئ الحركات كلها ، كما وضح ، من المستديرة.
فالحركات
المستديرة السماوية المقربة لقوى الأجرام
العالية والمبعدتها هى أسباب أولى إلى الكون والفساد. وعوداتها ، لا محالة ،
أسباب لعود أدوار الكون والفساد. والحركة الحافظة لنظام الأدوار
والعودات ، الواصلة بينها ، والمسرعة بما لو ترك لأبطأ
__________________
ولم يعدل تأثيره ، هى الحركة الأولى. ونشرح هذا المعنى فنقول :
إنه لو لم يكن
للكواكب حركة فى الميل لكان التأثير يختص ببقعة واحدة على
جهة واحدة ، فيخلو ما يبعد عنها ، ويتشابه فيها ما يقرب منها. فيكون السلطان هناك
لكيفية واحدة يوجبها ذلك الكوكب ؛ فإن كانت حارة
أفنت مواد الرطوبات ، وأحالت الأجسام التي تحاذيها الكواكب إلى النارية فقط ، ولم يكن مزاج به تتكون الكائنات الهوائية ، ولم يثبت شىء من النباتية ثباتا يعتدّ به ؛ بل صار حظ ما يحاذيه الكوكب فى الغالب كيفية ،
وحظ ما لا يحاذيه فى الغالب كيفية مضادة لها ، وحظ المتوسط فى الغالب كيفية
متوسطة. فيكون فى موضع ميل صيف شديد دائم ، وفى آخر ميل شتاء شديد دائم ، وفى آخر ربيع دائم أو خريف دائم. وفى ميل
الربيع والخريف لا يتم النضج ، وفى الشتاء تكون النهوة ،
وفى دوام الصيف الاحتراق.
وعلى هذا ، فيجب
أن تعتبر حال الكيفيات الأخرى ، والقوى الأخرى :
ولو لم تكن عودات متتالية ، وكان الكوكب يتحرك حركته البطيئة بميل ، أو بغير ميل ، لكان الميل قليل الغناء والتأثير ، شديد الإفراط لا يتدارك بالضد
المخالط ، وكان التأثير مقيما فى بقعة صغيرة مدة طويلة لا يدور فى البقاع كلها ، إلا فى مدد
متراخية ، وكان يعرض أيضا قريب مما يعرض ، لو لم يكن مثل ما ذكرناه.
وكذلك لو كانت الكواكب تتحرك بنفسها الحركة السريعة
من غير ميل عرض ما قيل ؛ وإن كانت السرعة مع ميل عرض ذلك أيضا ، وكان مدار الميل
وما يقرب منه وما يبعد بالصفات المذكورة. فوجب أن يكون ميل تحفظه حركة غريبة مدة ما ، ثم تزيله إلى جهة
__________________
أخرى بقدر الحاجة
فى كل جهة. فوجب أن يبطئ المائل فى جهة ميله ، حتى يبقى ، فى كل جهة برهة ، ليتم
بذلك تأثيره ، وأن يتكرر على المدار ، مع ذلك ، ليتشابه فعله فى
جميع الجهة التي هو مائل إليها ، ولا يفرط تأثيره فى بقعة يقيم عليها. وبالجملة
ليكون جميع الجهة ينال منه التأثير نيلا معتدلا غير مفسد ، ولا يزال كذلك إلى تمام الحاجة.
وذلك إنما يتم
بحركة أخرى سريعة ضرورة. فجعل لذى الميل حركة بطيئة ، وجعلت له حركة أخرى تابعة لحركة سريعة ، حتى يوجد الغرضان.
واعتبر هذا من
الشمس. فإن الشمس تميل بحركتها إلى الشمال ، فتبقى مدة فى تلك الجهة ، لا دائمة على سمت واحد ، بل متكررة اتباعا للحركة الأولى. فإنها إن بقيت دائما أفسدت ، كما لو دام هجيرها ، ولقصر أيضا فعلها وتأثيرها عن جميع الأقاليم الأخرى. فلما جعل لها ذلك التكرر صار للشمس أن تحرك المواد إلى غذو النبات والحيوانات ، حتى إذا فعلت فعلها فى الشمال ، وجذبت المواد الكامنة
فى الأرض زالت إلى الجنوب ، حتى قبل أن تفسد بالإحراق والتجفيف ، ففعلت هناك فعلها هاهنا ، وبرد ، وجه الأرض هاهنا ، فاحتقنت الرطوبات ، واجتمعت في باطن الأرض ، كأنها تخزن وتعد لعود الشمس مرة أخرى لتنفق على النبات
والحيوانات نفقة بالقسط. وبين الأمرين تدريج ربيع وخريف ،
لئلا ينتقل من إفراط إلى إفراط دفعة ، وليكون الفعل مدرجا فيه. فسبحان الخالق
المدير بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية.
وبالحرى أن يلحق
بهذا القول فى الأدوار والآجال.
__________________
الفصل الخامس عشر
فصل فى
أدوار الكون والفساد
من الكائنات ما
يكفى فى تكونه جزء دورة واحدة. وربما كانت مدته متمة تلك الدورة فما دونها ، كضرب من الحيوانات القرقسية والنبات الزغبى ، فيكون فى يوم واحد ، ويفسد فيه.
ومن الكائنات ما
يحتاج ، فى تكونه ، إلى أدوار من الفلك ، ومنها ما يحتاج إلى عودات جملة جملة من أدوار ، حتى يتم تكونها ،
وكل كائن ، كما ظهر ، فاسد ،
وله مدة ينشو فيها ، ومدة يقف فيها ، ومدة يضمحل وينتهى إلى أجله.
ولا يمكننا أن
نقول قولا كليا فى نسب هذه المدد بعضها إلى بعض. فهى مختلفة لا تضبط. ومن رام حصر ذلك صعب عليه. والذي سمعنا فيه لم يقنعنا ، فلعنا لم نفهمه حق الفهم ؛ وعسى أن يكون غيرنا يفهمه على وجهه.
ولكل كائن أصل
يستحقه بقوته المدبرة لبدنه. فإنها قوة جسمية متناهية بتناهى فعلها
ضرورة. ولو كانت غير متناهية لكانت المادة لا تحفظ الرطوبة ، إلا إلى أجل لأسباب محللة للرطوبة خارجة وباطنة ، وأسباب عائقة عن الاعتياض مما يتحلل. ولكل
__________________
قوة من قوى البدن
، ولكل مادة ، حد يقتضيه كل واحدة منهما ، ولا
يحتمل مجاوزته ، وذلك إن جرت أسبابها على ما ينبغى ، هو الأجل الطبيعى.
وقد تعرض أسباب أخرى من حصول المفسد أو فقدان النافع المعين ، فيعرض لتلك القوة أن تقصر فى فعلها عن الأمد. فمن الآجال طبيعية ، ومنها اخترامية ، وكل بقدر.
وجميع الأحوال
الأرضية منوطة بالحركات السماوية ، وحتى الاختيارات والإرادات فإنها ، لا محالة أمور تحدث بعد ما لم تكن. ولكل حادث بعد ما لم يكن علة وسبب حادث. وينتهى ذلك إلى الحركة ؛ ومن الحركات إلى الحركة المستديرة.
فقد فرغ من إيضاح هذا. فاختياراتنا أيضا تابعة للحركات السماوية. والحركات والسكونات الأرضية
المتوافية على اطراد متسق ، تكون دواعى إلى القصد
وبواعث عليه ، وهذا هو القدر الذي أوجبه القضاء.
والقضاء هو الفعل
الأولى الإلهى الواحد المستعلى على الكل الذي منه ينشعب المقدرات. وإذا كان كذلك ، فالحرى أن يشكل على الناظرين أمر العود ، وأنه هل يجب ، إذا عاد إلى فلك شكل بعينه كما كان ، أن تعود الأمور الأرضية إلى
مثل ما كان أما عود ما بطل بعينه بالشخص فذلك مما لا يكون ، ولا الشكل
بعينه يعود بالعدد ، ولا الأمور الأرضية تعود
بأعيانها بالعدد ؛ فإن الغائب لا يعود بعينه. والذي يخالف فى هذا فسبيله أن يستحى
من نفسه ، إلى أن تكشف فضيحته فى الفلسفة الأولى.
فمن الناس من أوجب
هذا العود المماثل.
__________________
ومن الناس من لم
يجوز هذا العود ، واحتج بأن الأمور العالمية مختلطة من طبيعية واختيارية مثل كثير
من النسل والحرث. وعود الشكل السماوى ، إن
أوجب إعادة ، فإنما يوجب إعادة الأمر الطبيعى لا الاختيارى ، ولا المركب من
الطبيعى والاختيارى. وإذا لم يجب عود واحد من الأسباب المبنى عليها مجرى الكل اختل
العود كله فلم يجب أن يكون كما كان.
وذهب عليه أن
الاختيار أيضا مما يجب عوده ، إن كانت العودة تصح. فإن الاختيار مستند أيضا إلى الأسباب الأول.
والذي عندى فى هذا
أنه إن كان يتفق أن يعود تشكل واحد بعينه ، كما هو ، فستعود الأمور إلى مثل حالها. لكن السبيل إلى إثبات عود الشكل الواحد مما
لا يمكن بوجه من الوجوه. وذلك أنه إنما يمكن أن تقع للأمور المختلفة عودات جامعة ، إذا كانت نسبة العودات الخاصة بعضها إلى بعض نسبة عدد
إلى عدد فكانت مشتركة فى واحد يعدها ، فيوجد حينئذ لجميعها عدد يعدها ؛ مثلا أن تكون إحدى العودات
عددها خمسة والآخر سبعة والثالث عشرة تشترك فى الوحدة ، فيكون
عدد السبعين عودا مشتركا يعده هذه الأعداد.
فيكون إذا عاد صاحب الخمسة أربع عشرة عودة ، أو صاحب
السبعة عشرة ، وصاحب العشرة سبعا ، اجتمع الجميع معا. ثم جعل يعود
فى المدد المتساوية أشكال متشابهة لما سلف ، وإن لم
تكن نسبة مدد العودات نسبة عدد الى عدد ـ وذلك جائز لأن المدد متصلة ، لا منفصلة. ولا يستحيل أن يكون المتصل
مباينا للمتصل ، كان مستقيما أو مستديرا ـ فلا تكون نسبته إليه نسبة عدد إلى عدد. فقد صح وجود هذا فى
المقادير ، فيصح فى الحركات والأزمنة لا محالة. واستحال وجود شىء جامع تشترك فيه ؛ إذ قد ثبت
__________________
فى صناعة الهندسة
أن المقادير التي تشارك مقدارا فهى مشتركة ، والمتباينات غير
مشتركة ، فلا تشارك مقدارا واحدا ، فلا يوجد لها مقدار مشترك يعد جميعها. وإذا لم يوجد استحال عود التشكل بعينه.
فإن كانت الحركة
الأولى ، ثم حركة الثوابت ، ثم حركات الأوجات والجوزهرات ، ثم حركة السيارات ، تتشارك مدد عوداتها الخاصية فى واحد يعدها ، فستكون الإعادة المدعاة واجبة.
وان كان كلها ، أو واحدا منها ، غير مشارك لم يكن ذلك.
لكن طريق إحاطتنا بهذه الأمور هو الرصد ، والرصد هو على التقريب بأجزاء الآلات المقسومة. ومثل هذا التقريب لا يحصّل التقدير الحقيقى. وحساب الأوتار والقسى وما يبنى عليها أيضا مستعمل فيها الجذور الصم. وقد سومح فى إجرائها مجرى المنطقيات والتفاوت بين المنطق والأصم مما لا
يضبطه الحس ، فكيف يحققه الرصد.
فإذن لا سبيل إلى
إدراك ذلك من جهة الرصد والحساب المبنى عليه. وليس عندنا فيه سبيل غيره.
وأما تقسيم
العلماء الزمان بالشهور والأيام والساعات وأجزائها ، وتقسيمهم الحركة بإزائها ، وايقاعهم
بينهما نسبة عددية ، فذلك على جهة التقريب ، مع علمهم بأنه غير ضرورى ، إلا أنه مما لا يظهر تفاوته فى المدد المتقاربة. لكنه ، وان لم يظهر فى المدد المتقاربة ، فيشبه أن يظهر فى المدد المتباعدة.
__________________
وأكثر ما يمكن أن يحدس فى هذا هو أنه يجوز أن تكون عودات متقاربة الأحوال
، وإن لم تكن متشابهة بالحقيقة. ويكون حال الكلى
منها قريبا من حال العودات الجزئية ، كصيف يشبه صيفا ، وربيع يشبه ربيعا ، أو يكون أشد مشابهة من ذلك ، أو لعل الأمر يكون بخلاف هذا الحدس.
فإذ قد فرغنا من هذا البيان أيضا فبالحرى أن نختم
هذا الفن بإشارة مختصرة إلى علل الكون والفساد ، فنقول :
إن لكل كائن مادة
وصورة ، وعلة فاعلة ، وغاية تخصه يؤخذ ذلك
بالاستقراء ، وعلى سبيل الوضع.
فأما جملة الكون
والفساد واتصاله فعلته الفاعلية المشتركة التي هى أقرب ، هى الحركات السماوية ، والتي هى أسبق فالمحرك لها.
والعلة المادية المشتركة هى العنصر الأول.
والعلة الصورية
المشتركة هى الصورة التي للمادة قوة على غيرها مما لا يجتمع معها.
والعلة الغائية
استبقاء الأمور التي لا تبقى بأعدادها واستحفاظها
بأنواعها.
فإن المادة
العنصرية لما كانت كما تلبس شيئا قد خلعت غيره ، وكان
الشىء كما يكون هو قد فسد غيره ، ولا سبيل إلى بقاء الكائنات بأشخاصها ، دبّر فى
استبقاء أنواعها بالتناسل والتحارث والتعاقب المتعلق بالكون والفساد.
__________________
والأسبق من ذلك هو الجود الإلهى المعطى كل موجود ما فى وسع قبوله ، وإبقاؤه إياه ، كما يحتمله ، إما
بشخصه ، كما للأجرام السماوية ، وإما بنوعه ، كما للعنصريات.
تم الفن الثالث من
الطبيعيات بحمد الله ومنّه.
__________________
الفن الرابع من الطبيعيّات
فى الأفعال والانفعالات
مقالتان
قد فرغنا من تعريف الأمور العامة للطبيعيات ، ثم من تعريف
الأجسام والصور والحركات الأولية فى العالم
واختلافها فى طبائعها ، ثم من تعريف أحوال الكون والفساد وعناصرها ، فحقيق بنا أن نتكلم عن الأفعال والانفعالات الكلية التي تحصل عن الكيفيات العنصرية بمعاضدة من تأثيرات الأجرام السماوية
، فإذا فرغنا من ذلك شرعنا حينئذ فى تفسير أحوال طبقات الكائنات ، مبتدئين بالآثار
العلوية والمعدنيات ، ثم ننظر فى حال النفس. فإن النظر فى النفس
أعم من النظر في النبات والحيوانات ، ثم ننظر فى النبات ثم فى الحيوانات.
ونختم هذه الجملة
الطبيعية.
__________________
المقالة الاولى
من هذا الفن تسعة فصول
الفصل الأول
فى طبقات العناصر
هذه العناصر
الأربعة تشبه أن تكون غير موجودة على محوضتها وصرافتها فى أكثر الأمر. وذلك لأن
قوى الأجرام السماوية تنفذ فيها ، فتحدث فى السفليات الباردة حرا يخالطها ، فتصير بذلك بخارية
ودخانية ، فتختلط بها نارية وهوائية. وترقى إلى العلويات أيضا أبخرة مائية وأدخنة أرضية ، فتخلطها بها ، فيكاد أن تكون جميع المياه وجميع الأهوية مخلوطة ممزوجة.
ثم إن توهمت صرافة
فيشبه أن تكون للأجرام العلوية من النارية. فإن الأبخرة والأدخنة أثقل من أن تبلغ
ذلك الموضع بحركتها. وإذا بلغت فما أقوى تلك النار على إحالتها سريعا.
ويشبه أن يكون
باطن الأرض البعيد من أديمها إلى غورها قريبا من هذه
الصفة. فإن لم يكن بد من أن يكون كل جزء من النار والأرض كائنا فاسدا
باطنه وظاهره إلا أن ما يخلص إلى مجاورة الفلك من النار يمحض ، ولا تكسر محوضته بشائب :
__________________
وكذلك ما يخلص إلى
المركز من الأرض يشبه المحض ، فلا ينفذ فيه تأثير من
السماويات نفوذا يعتدّ به ، ولا ينفذ إليه شائب ؛ إذ لا يقبل رسوبا إلى ذلك الحد.
فيشبه لذلك أن
تكون الأرض ثلاث طبقات : طبقة تميل إلى محوضة الأرضية وتغشاها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية هى طين ؛
وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس ، وهو البر والجبل. وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر ، وهو أسطقس الماء.
ويستحيل أن يكون
للماء أسطقس وكلية غير البحر. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون باطنا غائرا ، أو ظاهرا. فإن كان ظاهرا فهو لا محالة بحر ليس غير البحر.
وإن كان باطنا لم
يخل إما أن يكون مستقرا فى الوسط ، أو منحازا إلى بعض الجنبات. فإن كان مستقرا فى الوسط ، فإما أن يكون بالطبع ، فتكون الأرض أخف من الماء ، وهذا محال ؛ وإما بالقسر ، فيكون هاهنا قاسر للماء إلى
حفر غور الأرض والانحياز فيه ، وهذا أيضا محال.
وإن كان منحازا فى
جنبة واحدة ، فتكون كلية الماء محصورة فى بقعة صغيرة من الأرض وكلية الماء لا تقل ، لا محالة ، عن الأرض ، إن لم تزد عليه. ثم يكون مقدار ماء البحر غبر قاصر عن مبلغه. فلم لا
يكون البحر كلية دونه؟ ولم لا تفيض الأنهار فى «طرطاوس» ؛ بل فى البحر لا غير ، ولا يوجد الى «طرطاوس» مغيض؟
على أن لا نشك أن
فى الأرض أغوارا مملوءة ، إلا أنها لا تبلغ فى الكثرة مقادير
__________________
البحار ؛ ولا الأرض يكثر فيها التجويفات كثرة يكون لها تأثير
بالقياس إلى كلية الأرض ، كما ليس للجبال تأثير فى كريتها.
والهواء أيضا فهو طبقات : طبقة بخارية ، وطبقة هواء صرف ، وطبقة دخانية. وذلك لأن البخار ، وإن
صعد فى الهواء صعودا ، فإنه إنما يصعد إلى حد ما. وأما الدخان فيجاوزه ويعلوه ؛
لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة فيه. وأعنى بالبخار ما يتصعد من الرطب ،
من حيث هو رطب ، وأعنى بالدخان ما يتصعد عن اليابس من حيث هو يابس. ولأن البخار ،
بالحقيقة ، على ما بيناه ، ماء متخلخل متصغر الأجزاء ، وطبيعة الماء أن يبرد بذاته ، ومن صورته ، إذا زال عنه المسخن وبعد عهده به ؛ فيجب أن يكون الجزء البخارى من
الهواء باردا بالقياس إلى سائر الهواء. لكن ما يلى الأرض منه يسخن بمجاورة الأرض
المسخنة بشعاع الشمس المستقر عليها استقرار الكيفيات لا الأجسام. وما يبعد عنه يبرد. فتكون طبقة الهواء
السافلة بخارا يسخن بمجاورة الشعاع ، ثم تليه طبقة
بخارية باردة ، ثم يليه هواء أقرب إلى المحوضة ، ثم يليه هواء دخانى ، وكأنه خلط من هواء ونار وأرض ، ثم تليه نار ، فتكون هذه الصفات ثمانية :
أرض إلى الخلوص ماء وطين ، وبر مع الجبال ، والبحر كطبقة واحدة مركبة ، وهواء مسخن بالشعاع ،
وهواء بارد ، وهواء أقرب إلى المحوضة ، وهواء دخانى نارى ونار.
فهذه طبقات العناصر فى ترتيبها ووضعها.
__________________
يفسد بسبب يخصه.
لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير المزاج أو التركيب. فمحال أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات ، ثم يفسد البدن البتة
بسبب فى بنفسه ، فليس إذن بينهما هذا التعلق. وإذا كان الأمر على هذا ، فقد بطلت أنحاء التعلق كلها وبقى أن لا تعلق للنفس فى الوجود بالبدن ، بل تعلقها فى الوجود بالمبادئ لأخرى التي لا تستحيل ولا تبطل.
وأقول أيضا : إن سببا آخر لا يعدم النفس البتة ، وذلك أن كل شىء من شأنه أن يفسد
بسبب ما ففيه قوة أن يفسد ، وقبل الفساد فيه فعل
أن يبقى ، وتهيؤه للفساد ليس لفعله أنه يبقى ، فإن معنى القوة مغاير لمعنى الفعل ،
وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة هذا الفعل ، لأن إضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا
إلى البقاء.
فإذن لأمرين
مختلفين ما يوجد فى الشىء هذان المعنيان. فنقول : إن الأشياء المركبة والأشياء
البسيطة التي هى قائمة فى المركبة يجوز أن يجتمع
فيها فعل أن يبقى وقوة أن يفسد ، وفى الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن
يجتمع هذان الأمران. وأقول بوجه مطلق : إنه لا يجوز أن يجتمع فى شىء أحدى الذات
هذان المعنيان ، وذلك لأن كل شىء يبقى وله قوة أن يفسد فله أيضا قوة أن يبقى ، لأن
بقاءه ليس بواجب ضرورى. وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا ، والإمكان الذي يتناول
الطرفين هو طبيعة القوة ، فإذن يكون له فى جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى. وقد
بان أن فعل أن يبقى منه لا محالة ليس هو قوة أن يبقى منه ، وهذا بيّن ، فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشىء الذي له قوة أن يبقى ،
فتلك القوة لا تكون لذات ما بالفعل ، بل للشىء الذي يعرض لذاته أن تبقى بالفعل ،
لا أنه حقيقة ذاته. فيلزم من هذا أن تكون ذاته مركبة من
__________________
شىء إذا كان ،
كانت به ذاته موجودة بالفعل وهو
الصورة فى كل شىء ، وعن شىء حصل له هذا
الفعل وفى طباعه قوته وهو مادته. فإن كانت النفس بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادة
وصورة ، وإن كانت مركبة فلنترك المركب ولننظر فى الجوهر الذي هو مادته
، ولنصرف القول إلى نفس مادته ولنتكلم فيها.
فنقول : إن المادة إما أن تنقسم هكذا دائما ونثبت الكلام دائما ، وهذا محال. وإما أن
لا يبطل الشىء الذي هو الجوهر والسنخ. وكلامنا فى هذا الشىء الذي هو السنخ والأصل
وهو الذي نسميه النفس ، وليس كلامنا فى شىء مجتمع منه ومن شىء آخر. فبين أن كل شىء
هو بسيط غير مركب ، أو هو أصل مركب وسنخه ، فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوة أن
يعدم بالقياس إلى ذاته. فإن كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن
يكون فيه فعل أن يبقى ، وإذا كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس فيه قوة أن يعدم.
فبين إذن أن جوهر
النفس ليس فيه قوة أن يفسد ، وأما الكائنات التي تفسد فإن الفاسد منها هو المركب
المجتمع ، وقوة أن يفسد أو يبقى ليس فى المعنى الذي به المركب واحد ، بل فى المادة
التي هى بالقوة قابلة كلا الضدين. فليس إذن فى الفاسد المركب لا قوة أن يبقى ولا
قوة أن يفسد ، فلم تجتمعا فيه. وأما المادة فإما أن تكون باقية لا بقوة تستعد بها للبقاء كما يظن قوم ، وإما أن تكون باقية بقوة بها تبقى
وليس لها قوة أن تفسد ، بل قوة أن تفسد شىء آخر يحدث فيها. والبسائط التي فى
المادة فإن قوة فسادها فى جوهر المادة لا فى جوهرها. والبرهان الذي يوجب أن كل كائن فاسد
من جهة تناهى قوى البقاء والبطلان ، إنما يوجب فيما هو كائن من مادة وصورة ، وتكون فى مادته قوة أن تبقى فيه تلك
الصورة وقوة أن تفسد هى منه معا ، كما
__________________
قد علمت. فقد بان
إذن أن النفس الإنسانية لا تفسد البتة ، وإلى هذا سقنا كلامنا والله الموفق.
وقد أوضحنا أن الأنفس إنما حدثت وتكثرت مع تهيؤ من الأبدان. على أن تهيؤ الأبدان
يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة ، وظهر من ذلك أن هذا لا
يكون على سبيل الاتفاق والبخت ، حتى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق هذا المزاج نفسا حادثة مدبرة ، ولكن قد كان وجدت نفس واتفق أن وجد معها بدن فتعلق بها ، فإن مثل هذا لا يكون
علة ذاتية البتة للتكثر ، بل عسى أن تكون عرضية. وقد عرفنا أن العلل الذاتية هى
التي يجب أن تكون أولا ، ثم ربما تليها العرضية ، فإذا كان كذلك ، فكل بدن يستحق مع حدوث مزاج مادته حدوث نفس له ، وليس بدن يستحقه
وبدن لا يستحقه ، إذ أشخاص الأنواع لا تختلف فى الأمور التي بها تتقوم. وليس يجوز
أن يكون بدن إنسانى يستحق نفسا يكمل بها وبدن آخر هو فى حكم مزاجه بالنوع ولا يستحق ذلك ، بل إن اتفق كان وإن لم يتفق لم يكن ، فإن هذا حينئذ لا يكون من نوعه. فإذا فرضنا أن نفسا
تناسختها أبدان ، وكل بدن فإنه بذاته يستحق نفسا تحدث له وتتعلق به ، فيكون البدن
الواحد فيه نفسان معا. ثم العلاقة بين النفس والبدن ليست هى على سبيل الانطباع فيه ، كما بيناه مرارا ، بل العلاقة التي بينهما هى علاقة
الاشتغال من النفس بالبدن ، حتى تشعر النفس بذلك البدن ، وينفعل البدن عن تلك
النفس. وكل حيوان فإنه يستشعر نفسه نفسا واحدة هى المصرفة والمدبرة للبدن الذي له ، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هى بنفسه ولا تشتغل بالبدن ، فليست
لها علاقة مع البدن . لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النحو ، فلا يكون تناسخ بوجه
من الوجوه. وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية ، بعد أن فيه كلاما طويلا.
__________________
الفصل الخامس
فى العقل الفعال فى أنفسنا والعقل المنفعل عنه أنفسنا
نقول : إن النفس
الإنسانية قد تكون عاقلة بالقوة ، ثم تصير عاقلة بالفعل ، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فإنما يخرج بسبب بالفعل يخرجه.
فههنا سبب هو الذي
يخرج نفوسنا فى المعقولات من القوة إلى الفعل ، وإذ هو السبب فى إعطاء الصور
العقلية ، فليس إلا عقلا بالفعل عنده مبادئ الصور العقلية مجردة ، ونسبته إلى
نفوسنا كنسبة الشمس إلى أبصارنا. فكما أن الشمس تبصر بذاتها بالفعل
ويبصر بنورها بالفعل ما ليس مبصرا بالفعل ، كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا ، فإن القوة العقلية إذا اطلعت على الجزئيات التي فى الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال فينا الذي ذكرناه
، استحالت مجردة عن المادة وعلائقها ، وانطبعت فى النفس الناطقة ، لا على أنها
أنفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منا ، ولا على أن المعنى
المغمور فى العلائق وهو فى نفسه واعتباره فى ذاته مجرد يفعل مثل نفسه ، بل على
معنى أن مطالعتها تعد النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال. فإن الأفكار
والتأملات حركات معدة للنفس نحو قبول الفيض ، كما أن الحدود الوسطى معدة بنحو أشد
تأكيدا لقبول النتيجة ، وإن كان الأول على سبيل والثاني على سبيل أخرى ، كما ستقف عليه. فتكون النفس الناطقة إذا وقعت لها نسبة ما إلى هذه الصورة بتوسط إشراق العقل الفعال حدث فيها منه شىء من جنسها من وجه
__________________
وليس من جنسها من
وجه ، كما أنه إذا وقع الضوء على الملونات فعل فى البصر منها أثرا ليس على جملتها
من كل وجه. فالخيالات التي هى معقولات بالقوة تصير معقولات بالفعل ، لا أنفسها ،
بل ما يلتقط عنها ؛ بل كما أن الأثر المتأدى بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس
هو نفس تلك الصور ، بل شىء آخر مناسب لها يتولد بتوسط الضوء فى القابل المقابل ،
كذلك النفس الناطقة إذا طالعت تلك الصور الخيالية واتصل بها نور العقل الفعال ضربا
من الاتصال استعدت لأن تحدث فيها من ضوء العقل الفعال مجردات تلك الصورة عن
الشوائب.
فأول ما يتميز عند
العقل الإنسانى أمر الذاتى منها والعرضى وما به تتشابه تلك الخيالات وما
به تختلف ، فتصير المعانى التي لا تختلف تلك بها معنى واحدا فى ذات العقل بالقياس
إلى التشابه لكنها فيها بالقياس إلى ما تختلف به تصير معانى كثيرة ، فتكون للعقل
قدرة على تكثير الواحد من المعانى وعلى توحيد الكثير. أما توحيد الكثير فمن وجهين : أحدهما بأن تصير المعانى الكثيرة المختلفة فى
المتخيلات بالعدد ، إذا كانت لا تختلف فى الحد معنى واحدا. والوجه
الثاني بأن يركب من معانى الأجناس والفصول معنى واحدا بالحد ، ويكون وجه التكثير بعكس هذين الوجهين. فهذه من خواص العقل الإنسانى ، وليس ذلك لغيره من القوى ،
فإنها تدرك الكثير كثيرا كما هو ، والواحد واحدا كما هو ، ولا يمكنها أن تدرك
الواحد البسيط ، بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور وأعراضها ، ولا يمكنها أن
تفصل العرضيات وتنزعها من الذاتيات. فإذا عرض الحس على الخيال والخيال على العقل صورة ما أخذ العقل منها معنى ، فإن عرض عليه صورة أخرى من ذلك النوع
وإنما هى أخرى بالعدد لم يأخذ العقل منها البتة صورة ما غير ما أخذ إلا
من جهة العرض الذي يخص هذا من حيث هو ذلك العرض ، بأن يأخذه مرة مجردا ومرة مع ذلك العرض. ولذلك يقال : إن زيدا
وعمروا لهما
__________________
معنى واحد فى
الإنسانية ، ليس على أن الإنسانية المقارنة لخواص عمرو هى بعينها الإنسانية التي تقارن خواص زيد ، وكأن ذاتا واحدة هى لزيد ولعمرو كما يكون بالصداقة أو بالملك أو بغير ذلك ، بل
الإنسانية فى الوجود متكثرة فلا وجود لإنسانية واحدة مشترك فيها فى الوجود الخارج
حتى تكون هى بعينها إنسانية زيد وعمرو ، وهذا يستبين فى الصناعة
الحكمية. ولكن معنى ذلك أن السابق من هذه إذا أفاد النفس صورة الإنسانية ، فإن الثاني لا يفيد البتة شيئا ، بل يكون المعنى المنطبع منهما فى النفس واحدا هو عن الخيال الأول ؛ ولا تأثير للخيال الثاني ، فإن كل واحد منهما كان يجوز أن يسبق فيفعل هذا الأثر بعينه فى النفس ليس كشخصى
إنسان وفرس.
هذا ، ومن شأن العقل إذا أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل معها الزمان ضرورة ،
وذلك لا فى زمان ، بل فى آن. والعقل يعقل الزمان فى آن ، وأما تركيبه القياس والحد
فهو يكون لا محالة فى زمان ، إلا أن تصوره النتيجة والمحدود يكون دفعة.
والعقل ليس عجزه
عن تصور الأشياء التي هى فى غاية المعقولية ، والتجريد عن المادة لأمر فى ذات تلك
الأشياء ، ولا لأمر فى غريزة العقل ، بل لأجل أن النفس مشغولة فى البدن بالبدن ،
فتحتاح فى كثير من الأمور إلى البدن ، فيبعدها البدن عن أفضل
كمالاتها. وليست العين إنما لا تطيق أن تنظر إلى الشمس لأجل أمر فى الشمس وأنها
غير جلية ، بل لأمر فى جبلة بدنها. فإذا زال عن النفس منا هذا الغمور
وهذا العوق كان تعقل النفس لهذه أفضل التعقلات للنفس وأوضحها وألذها. ولأن كلا منا
فى هذا الموضع إنما هو فى أمر النفس
__________________
من حيث هى نفس ، وذلك من حيث هى مقارنة لهذه المادة. فليس ينبغى لنا أن نتكلم فى أمر معاد النفس ـ
ونحن متكلمون فى الطبيعة ـ إلى أن ننتقل إلى الصناعة الحكمية وننظر فيها فى الأمور
المفارقة. وأما النظر فى الصناعة الطبيعية فيختص بما يكون لائقا بالأمور الطبيعية
، وهى الأمور التي لها نسبة إلى المادة والحركة ، بل نقول : إن تصور العقل يختلف
بحسب وجود الأشياء ، فالأشياء القوية الوجود جدا قد يقصر
العقل عن إدراكها لغلبتها ، والأشياء الضعيفة الوجود جدا كالحركة والزمان والهيولى
فقد يصعب تصورها ، لأنها ضعيفة الوجود والأعدام ، لا يتصورها العقل وهو بالفعل مطلقا ، لأن العدم يدرك من حيث لا تدرك الملكة
فيكون مدرك العدم من حيث هو عدم والشر من حيث هو شر شىء هو بالقوة وعدم كمال ، فإن أدركه عقل فإنما يدركه لأنه بالإضافة إليه بالقوة
فالعقول التي لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم والشر من حيث هو عدم وشر ولا
تتصورهما ، وليس فى الوجود شىء هو شر مطلقا.
__________________
الفصل السادس
فى مراتب أفعال العقل وفى أعلى مراتبها
وهو العقل القدسى
فنقول : إن النفس
تعقل بأن تأخذ فى ذاتها صورة المعقولات مجردة عن المادة ، وكون الصورة مجردة إما أن يكون بتجريد العقل إياها ، وإما أن يكون لأن تلك الصورة
فى نفسها مجردة عن المادة ، فتكون النفس قد كفت المؤنة فى تجريدها.
والنفس تتصور
ذاتها ، وتصورها ذاتها يجعلها عقلا وعاقلا ومعقولا ، وأما تصورها لهذه الصور فلا
يجعلها كذلك ، فإنها فى جوهرها فى البدن دائما بالقوة عقل ، وإن خرج فى أمور ما
إلى الفعل. وما يقال من أن ذات النفس تصير هى المعقولات ، فهو من جملة ما يستحيل
عندى ؛ فإنى لست أفهم قولهم : إن شيئا يصير شيئا آخر ، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون ،
فإن كان بأن يخلع صورة ثم يلبس صورة أخرى ، ويكون هو مع الصورة الأولى شيئا ، ومع
الصورة الأخرى شيئا ، فلم يصر بالحقيقة الشىء الأول الشىء الثاني ؛ بل الشىء الأول
قد بطل وإنما بقى موضوعه أو جزء منه ، وإن كان ليس كذلك فلينظر كيف يكون فنقول : إذا صار الشىء شيئا آخر ، فإما أن يكون إذ هو قد صار ذلك
الشىء موجودا أو معدوما ، فإن كان موجودا ، فالثانى الآخر إما أن يكون موجودا أيضا
أو معدوما ، فإن كان موجودا ، فهما موجودان لا موجود واحد ، وإن كان معدوما ، فقد صار
هذا الموجود شيئا معدوما لا شيئا آخر موجودا ، وهذا غير معقول. وإن كان الأول قد
عدم فما صار شيئا آخر ، بل عدم هو وحصل شىء
__________________
آخر. فالنفس كيف
تصير صور الأشياء ، وأكثر ما هوّس الناس فى هذا هو الذي صنف لهم
إيساغوجى وكان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل ، ويدل أهل التمييز على ذلك كتبه
فى العقل والمعقولات وكتبه فى النفس. نعم إن صور الأشياء تحل
فى النفس وتحليها وتزينها ، وتكون النفس كالمكان لها بتوسط العقل الهيولانى ، ولو كانت النفس صورة شىء من الموجودات
بالفعل ، والصوره هى الفعل ، وهى بذاتها فعل ، وليس فى ذات الصورة قوة قبول شىء ،
إنما قوة القبول فى القابل للشىء ، وجب أن تكون النفس حينئذ لا قوة
لها على قبول صورة أخرى وأمر آخر. وقد نراها تقبل صورة أخرى غير تلك الصورة ، فإن كان ذلك الغير أيضا لا يخالف هذه الصورة فهو من العجائب ، فيكون القبول
واللاقبول واحدا ؛ وإن كان يخالفه ، فتكون النفس لا محالة إن كانت هى الصورة
المعقولة قد صارت غير ذاتها ، وليس من هذا شىء ، بل النفس هى العاقلة ، والعقل
إنما يعنى به قوتها التي بها تعقل ، أو يعنى به صور هذه المعقولات فى نفسها. ولأنها فى النفس تكون معقولة ، فلا يكون العقل والعاقل
والمعقول شيدا واحدا فى أنفسنا ، نعم هذا فى شىء آخر يمكن أن يكون على ما ستلمحه فى موضعه. وكذلك العقل الهيولانى إن عنى به مطلق الاستعداد للنفس فهو باق فينا أبدا ما دمنا فى البدن ، وإن عنى بحسب شىء شىء فإن الاستعداد يبطل مع
وجود الفعل.
وإذ قد تقرر هذا فنقول : إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة : أحدها التصور الذي يكون
فى النفس بالفعل مفصلا منظما ، وربما يكون ذلك التفصيل والنظام غير واجب ، بل يصح أن يغير ، مثاله أنك إذا فصلت فى نفسك
معانى
__________________
الألفاظ التي يدل
عليها قولك : كل إنسان حيوان ، وجدت كل معنى منها كليا لا يتصور إلا فى جوهر غير
بدنى ، ووجدت لتصورها فيه تقديما وتأخيرا ؛ فإن غيرت ذلك حتى كان ترتيب المعانى
المتصورة الترتيب المحاذى لقولك : الحيوان محمول على كل إنسان لم تشك أن هذا الترتيب من حيث هو ترتيب معان كلية لم يترتب إلا فى جوهر غير
بدنى ، وإن كان أيضا يترتب من وجه ما فى الخيال فمن حيث المسموع لا من حيث المعقول
، وكان الترتيبان مختلفين ، والمعقول الصرف منهما واحد ؛ والثاني أن يكون قد حصل التصور واكتسب ، لكن النفس معرضة عنه ، فليست
تلتفت إلى ذلك المعقول ، بل قد انتقلت عنه مثلا إلى معقول آخر ، فإنه ليس فى وسع
أنفسنا أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة. ونوع آخر من التصور وهو مثل ما يكون عندك فى
مسألة تسأل عنها مما علمته أو مما هو قريب من أن تعلمه فحضرك جوابها فى الوقت ، وأنت متيقن بأنك تجيب عنها مما علمته من غير أن يكون
هناك تفصيل البتة ، بل إنما تأخذ فى التفصيل والترتيب فى نفسك مع أخذك فى الجواب
الصادر عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب.
فيكون الفرق بين
التصور الأول والثاني ظاهرا ، فإن الأول كأنه شىء قد أخرجته من الخزانة وأنت
تستعمله ، والثاني كأنه شىء لك مخزون متى شئت استعملته ، والثالث
يخالف الأول بأنه ليس شيئا مرتبا فى الفكر البتة ، بل هو كمبدإ لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثاني بأنه لا يكون معرضا عنه ،
بل منظورا إليه نظرا ما بالفعل يقينا إذ تتخصص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.
فإن قال قائل : إن
ذلك علم أيضا بالقوة ولكن قوة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ، لأن لصاحبه يقينا بالفعل
حاصلا لا يحتاج أن يحصله بقوة بعيدة أو قريبة. فذلك اليقين لأنه متيقن أن هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقنه بالفعل
__________________
بأن هذا حاصل
تيقنا به بالفعل ، فإن الحصول حصول لشىء ، فيكون هذا الشىء
الذي نشير إليه حاصلا بالفعل ، لأنه من المحال أن تتيقن أن المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون ، فكيف تتيقن حال الشىء إلا والأمر هو من جهة ما تتيقنه معلوم. وإذا كانت
الإشارة تتناول المعلوم بالفعل من المتيقن بالفعل أن هذا عنده مخزون فهو بهذا
النوع البسيط معلوم عنده ، ثم يريد أن يجعله معلوما
بنوع آخر. ومن العجائب أن هذا المجيب حين يأخذ فى تعليم غيره تفصيل ما
هجس فى نفسه دفعة يكون مع ما يعلمه يتعلم العلم بالوجه الثاني
فترتب تلك الصورة فيه مع ترتب ألفاظه.
فأحد هذين هو
العلم الفكرى الذي إنما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتب وتركب ، والثاني هو
العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له فى نفسه صورة بعد صورة ولكن هو واحد تفيض عنه الصور فى قابل الصور فذلك علم فاعل للشىء الذي نسميه علما
فكريا ومبدأ له ، وذلك هو للقوة العقلية المطلقة من النفوس المشاكلة للعقول الفعالة. وأما
التفصيل فهو للنفس من حيث هى نفس ، فما لم يكن له ذلك لم يكن له علم نفسانى. وأما أنه
كيف يكون للنفس الناطقة مبدأ غير النفس له علم غير علم النفس ، فهو موضع نظر يجب
عليك أن تعرفه من نفسك.
واعلم أنه ليس فى
العقل المحض منهما تكثر البتة ولا ترتيب صورة فصورة ، بل هو مبدأ لكل صورة تفيض
عند على النفس. وعلى هذا ينبغى أن تعتقد الحال فى المفارقات المحضة فى عقلها
الأشياء ، فإن عقلها هو العقل الفعال للصور والخلاق لها لا الذي يكون للصور أو فى صور. فالنفس التي للعالم من حيث هى نفس فإن تصورها هو التصور المرتب المفصل ، فلذلك ليست
بسيطة من كل وجه ، وكل إدراك عقلى
__________________
فإنه نسبة ما إلى
صورة مفارقة للمادة ولأعراضها المادية على النحو المذكور. فللنفس ذلك بأنها جوهر قابل منطبع به ، وللعقل بأنه جوهر مبدأ
فاعل خلاق ، فما يخص ذاته من مبدئيته لها هو عقليته بالفعل ، وما يخص النفس
من تصورها بها وقبولها لها هو عقليتها بالفعل.
والذي ينبغى أن
يعلم من حال الصور التي فى النفس هو ما أقوله : أما المتخيلات وما يتصل بها فإنها إذا عرضت عنها النفس كانت مخزونة فى قوى هى للخزن ، وليست بالحقيقة مدركة ، وإلا لكانت مدركة
وخزانة معا ، بل هى خزانة إذا رجعت القوة الدراكة الحاكمة إليها وهى الوهم أو
النفس أو العقل وجدتها حاصلة ، فإن لم
تجدها احتاجت إلى استرجاع بتحسس أو بتذكر. ولو لا هذا العذر
لكان من الواجب أن يشك فى أمر كل نفس إذا كانت ذاهلة عن صورة ، أتلك الصورة موجودة أم
ليست بموجودة إلا بالقوة ، ويتشكك فى أنها كيف ترتجع ، وإذا لم تكن عند النفس فعند أى شىء تكون ، والنفس بأي شىء تتصل حتى تعاود هذه
الصورة.
لكن النفس
الحيوانية قد فرقت قواها ، وجعلت لكل قوة آلة
مفردة ، فجعلت للصور خزانة قد يغفل عنها الوهم ، وللمعانى خزانة قد يغفل عنها الوهم ، إذ ليس الوهم موضع ثبات هذه الأمور ، ولكن
الحاكم. فلنا أن نقول : إن الوهم قد يطالع الصور والمعانى المخزونة
فى حيزى القوتين ، وقد يعرض عنها ، فما ذا نقول الآن فى الأنفس الإنسانية
والمعقولات التي تكتسبها وتذهل عنها إلى غيرها ، أتكون موجودة فيها
بالفعل التام فتكون لا محالة
__________________
عاقلة لها بالفعل
التام ، أو تكون لها خزانة تخزنها فيها ، وتلك الخزانة إما ذاتها وإما بدنها أو شىء بدنى لها. وقد قلنا : إن بدنها وما يتعلق ببدنها مما لا يصلح لذلك ، إذ
لم يصلح أن يكون محلا للمعقولات ، ولا صلح أن تكون الصور
العقلية ذات وضع وكان اتصالها بالبدن يجعلها ذات وضع ، وإذا صارت فى البدن وضع بطل أن تكون معقولة. أو نقول : إن هذه الصور العقلية أمور قائمة فى أنفسها ، كل صورة منها نوع أمر قائم فى نفسه ، والعقل ينظر إليها مرة ويغفل عنها أخرى ، فإذا نظر إليها تمثلت فيه ، وإذا أعرض عنها لم تتمثل ، فتكون النفس كمرآة وهى
كأشياء خارجة ، فتارة تلوح فيها وتارة لا تلوح ، وذلك بحسب نسب تكون بين النفس
وبينها ، أو يكون المبدأ الفعال يفيض على النفس صورة بعد صورة بحسب طلب النفس ،
وأن يكون إذا أعرضت عنه انقطع الفيض. فإن كان هذا هكذا فلم
لا تحتاج كل كرة إلى تعلم من رأس.
فنقول : إن الحق
هو القسم الآخر ، وذلك أنه من المحال أن نقول إن هذه الصورة موجودة فى النفس
بالفعل التام ولا تعقلها بالفعل التام ، إذ ليس معنى أنها تعقلها إلا أن الصورة موجودة فيها ، ومحال أن
يكون البدن لها خزانة ، ومحال أن تكون ذاتها خزانتها ، إذ ليس كونها خزانة لها إلا
أن تلك الصورة معقولة موجودة فيها وبهذا تعلقها. وليس كذلك الذكر والمصورة ، فان
إدراك هذه الصورة ليس لها ، بل حفظها فقط ، وإنما إدراكها لقوة أخرى ، وليس وجود الصورة المذكورة والمتصورة فى شىء هو إدراك ، كما ليس وجود الصور المحسوسة فى الشىء هو حس ، ولذلك ليست الأجسام وفيها صور المحسوسات
__________________
بمدركة ، بل
الإدراك يحتاج أن يكون لما من شأنه أن يتطبع بتلك الصورة تطبعا ما بما هو قوة مدركة. وأما الذكر والمصورة فإنما تنطبع فيهما الصور بما هى آلة ولها جسم يحفظ تلك الصور قريبا من حامل القوة
الدراكة وهى الوهم حتى ينظر إليها متى شاء ، كما يحفظ الصور المحسوسة قريبا من الحس ليتأملها الحس متى شاء.
فهذا التأويل
يحتمله الذكر والمصورة ولا تحتمله النفس ، فإن وجود الصورة المعقولة فى النفس هو
نفس إدراكها لها ، وأيضا سنبين بعد فى الحكمة الأولى أن هذه الصورة لا تقوم منفردة
، فبقى أن يكون القسم الصحيح هو القسم الأخير ، ويكون التعلم طلب الاستعداد التام للاتصال به ، حتى يكون منه العقل الذي هو
البسيط فتفيض منه الصور مفصلة فى النفس بتوسط الفكرة ، فيكون الاستعداد قبل التعلم
ناقصا ، والاستعداد بعد التعلم تاما. فإذا تعلم يكون من
شأنه أنه إذا خطر بباله ما يتصل بالمعقول المطلوب ، وأقبلت النفس على جهة النظر ـ وجهة
النظر هو الرجوع إلى المبدأ الواهب للعقل ـ اتصل به ففاضت منه قوة العقل المجرد
الذي يتبعه فيضان التفصيل ، وإذا أعرض عنه عادت فصارت تلك الصورة بالقوة ، ولكن
قوة قريبة جدا من الفعل. فيكون التعلم الأول كمعالجة العين ، فإذا صارت العين
صحيحة فمتى شاءت نظرت إلى الشىء الذي منه تأخذ صورة ما ، وإذا
أعرضت عن ذلك الشىء صار ذلك بالقوة القريبة من الفعل. وما دامت النفس البشرية
العامية فى البدن ، فإنه ممتنع عليها أن تقبل العقل الفعال دفعة ، بل يكون حالها
ما قلنا. وإذا قيل : إن فلانا عالم بالمعقولات ، فمعناه أنه بحيث كلما شاء أحضر
صورته فى ذهن نفسه ، ومعنى هذا أنه كلما شاء كان له أن يتصل بالعقل الفعال اتصالا
يتصور فيه منه ذلك المعقول ، ليس أن ذلك المعقول حاضر فى ذهنه ومتصور فى عقله بالفعل دائما ، ولا كما كان قبل التعلم. وتحصيل
__________________
هذا الضرب من
العقل بالفعل ، وهو القوة تحصل للنفس أن تعقل بها ما تشاء ، فإذا شاءت اتصلت وفاضت فيها الصورة المعقولة ، وتلك الصورة هى العقل المستفاد
بالحقيقة ، وهذه القوة هى العقل بالفعل فينا من حيث لنا أن نعقل.
وأما العقل
المستفاد فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال. وأما التصور للأمور المتخيلة فهو رجوع من
النفس إلى الخزائن للمحسوسات. والأول نظر إلى فوق ، وهذا نظر إلى أسفل. فإن
خلص عن البدن وعوارض البدن فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعال تمام الاتصال وبلقى
هناك الجمال العقلى واللذة السرمدية كما نتكلم عليه فى بابه.
واعلم أن التعلم
سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم فإنه متفاوت فيه ، فإن من
المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور ، لأن استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه
أقوى ، فإن كان ذلك للإنسان فيما بينه وبين نفسه سمى هذا الاستعداد القوى حدسا. وهذا الاستعداد قد يشتد فى بعض الناس ، حتى لا
يحتاج فى أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شىء وإلى تخريج وتعليم ، بل يكون شديد
الاستعداد لذلك كأن الاستعداد الثاني حاصل له ، بل كأنه يعرف كل شىء من
نفسه. وهذه الدرجة أعلى درجات هذ الاستعداد ، ويجب أن تسمى هذه الحالة من العقل
الهيولانى عقلا قدسيا ، وهى من جنس العقل بالملكة ، إلا أنه رفيع جدا ليس مما يشترك
فيه الناس كلهم. ولا يبعد أن يفيض بعض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسية
لقوتها واستعلائها فيضانا على المتخيلة ، فتحاكيها المتخيلة أيضا بأمثلة محسوسة
ومسموعة من الكلام على النحو الذي سلفت الإشارة إليه.
ومما يحقق هذا أن من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التي يتوصل إلى اكتسابها
إنما تكتسب بحصول الحد الأوسط فى القياس. وهذا الحد الأوسط قد يحصل من ضربين من الحصول ، فتارة يحصل بالحدس ، والحاس هو فعل للذهن يستنبط به بذاته
الحد الأوسط والذكاء قوة الحدس ؛ وتارة يحصل بالتعليم ، ومبادئ التعليم الحدس ،
فإن الأشياء تنتهى لا محالة إلى حدوس
__________________
استنبطها أرباب
تلك الحدوس ثم أدوها إلى المتعلمين. فجائز إذن أن يقع للإنسان بنفسه الحدس وأن
ينعقد فى ذهنه القياس بلا معلم ، وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف. أما فى الكم فلأن بعض الناس يكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطى ، وأما فى الكيف فلأن بعض الناس أسرع زمان حدس. ولأن هذا
التفاوت ليس منحصرا فى حد ، بل يقبل الزيادة والنقصان دائما ، وينتهى فى طرف
النقصان إلى من لا حدس له البتة ، فيجب أن ينتهى أيضا فى طرف الزيادة إلى من له
حدس فى كل المطلوبات أو أكثرها ، وإلى من له حدس فى أسرع وقت وأقصره. فيمكن إذن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ
العقلية إلى أن يشتعل حاسا ، أعنى قبولا لها من العقل الفعال فى كل شيء وترتسم فيه الصور التي فى العقل الفعال ، إما دفعة. وإما قريبا من دفعة ،
ارتساما لا تقليديا ، بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى. فإن التقليديات فى
الأمور التي إنما تعرف بأسبابها ليست يقينية عقلية. وهذا ضرب من النبوة ، بل أعلى قوى النبوة ، والأولى
أن تسمى هذه القوة قوة قدسية ، وهى أعلى مراتب القوى الإنسانية.
__________________
الفصل السابع
فى عد المذاهب الموروثة عن القدماء
فى أمر النفس وأفعالها
وأنها واحدة أو كثيرة وتصحيح القول الحق فيها
إن المذاهب
المشهورة فى ذات النفس وفى أفعالها مختلفة. فمنها قول من زعم أن
النفس ذات واحدة ، وأنها تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات. ومن هؤلاء من
زعم أن النفس عالمة بذاتها ، تعلم كل شىء ، وإنما تستعمل الحواس والآلات المقربة
للمدركات منها بسبب أن تتنبه به لما فى ذاتها.
ومنهم من قال : إن ذلك على سبيل التذكر لها ، فكأنها عرض لها عنده أن نسيت.
ومن الفرقة الأولى
من قال : إن النفس ليست واحدة ، بل عدة ، وأن النفس التي فى بدن واحد هى مجموع
نفوس : نفس حساسة دراكة ، ونفس غضبية ، ونفس شهوانية. فمن هؤلاء من جعل النفس الشهوانية هى النفس الغذائية. وجعل موضعها القلب ، وجعل
له شهوة الغذاء والتوليد جميعا. ومنهم من جعل التوليد لقوة من هذا الجزء من أجزاء
النفس فائضة إلى الانثيين فى الذكر والأنثى. ومنهم من جعل النفس ذاتا واحدة ،
وتفيض عنها هذه القوى ، وتختص كل قوة بفعل ، وأنها إنما تفعل ما تفعله من الأمور المذكورة بتوسط هذه القوى.
فمن قال : إن
النفس واحدة فعالة بذاتها احتج بما سيحتج به أصحاب المذهب
__________________
الآخر مما نذكره.
ثم قال : فإذا كانت واحدة غير جسم استحال أن تنقسم فى الآلات وتتكثر ، فإنها حينئذ تصير صورة مادية ، وقد ثبت عندهم
أنها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة لنا إلى تعدادها هاهنا ، قالوا فهى بنفسها تفعل
ما تفعل بآلات مختلفة. والذين قالوا من هؤلاء : إن النفس علامة بذاتها ، احتجوا
وقالوا : لأنها إن كانت جاهلة عادمة للعلوم فإما أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها ، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتة ، وإن كان عارضا
لها فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشىء. فيكون موجودا للنفس أن تعلم الأشياء
لكن عرض لها أن جهلت بسبب ، فيكون السبب إنما يتسبب للجهل لا للعلم. فإذا رفعنا الأسباب العارضة بقى لها الأمر الذي فى ذاتها ،
ثم إذا كان الأمر الذي لها فى ذاتها هو أن تعلم فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من
الأسباب أن تصير لا تعلم وهى بسيطة روحانية لا تنفعل ، بل يجوز أن يكون عندها
العلم وتكون معرضة عنه مشغولة ، إذا نبهت علمت ، وكان معنى التنبيه ردها إلى ذاتها
وإلى حال طبيعتها ، فتصادف نفسها عالمة بكل شىء. وأما أصحاب التذكر فإنهم احتجوا
وقالوا : إنه لو لم تكن النفس علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه لكانت إذا ظفرت به لم تعلم أنه المطلوب ، كطالب العبد الآبق ؛ وقد فرغنا عن ذكر هذا
فى موضع آخر وعن نقضه. والذين كثروا النفس ، فقد احتجوا وقالوا : كيف يمكننا أن
نقول : إن الأنفس كلها نفس واحدة ، ونحن نجد النبات وله النفس الشهوانية ، أعنى التي ذكرناها فى هذا الفصل ، وليس له النفس المدركة الحاسة المميزة ، فتكون لا محالة النفس هذه شيئا منفردا بذاته دون
تلك النفس ، ثم نجد الحيوان وله هذه النفس الحساسة الغضبية ، ولا تكون هناك النفس النطقية
أصلا ، فتكون هذه الأنفس البهيمية نفسا على حدة. فإذا اجتمعت هذه الأمور فى الإنسان
، علمنا أنه قد اجتمع فيه أنفس متباينة مختلفة الذوات ، قد
يفارق
__________________
بعضها بعضا ،
فلذلك تختص كل واحدة منها بموضع ، فيكون للمميزة الدماغ ، ويكون للغضبية
الحيوانية القلب ، ويكون للشهوانية الكبد.
فهذه هى المذاهب
المشهورة فى أمر النفس وليس يصح منها إلا المذهب الأخير مما عد أولا فلنبين صحته.
ثم نقبل على حل الشبه التي أوردوها فنقول : قد بان مما ذكرناه أن
الأفعال المتخالفة هى بقوى متخالفة وأن كل قوة من حيث هى فإنما هى كذلك من حيث
يصدر عنها الفعل الأول الذي لها فتكون القوة الغضبية لا تنفعل من اللذات ولا
الشهوانية من المؤذيات ولا تكون القوة المدركة متأثرة مما تتأثر عنه هاتان ولا شىء
من هاتين من حيث هما قابل للصور المدركة متصور لها. فإذا كان هذا متقررا فنقول :
إنه يجب أن يكون لهذه القوى رباط يجمعها كلها فتجتمع إليه
، وتكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحس المشترك إلى الحواس
التي هى الرواضع. فإنا نعلم يقينا أن هذه القوى يشغل بعضها بعضا ، ويستعمل بعضها
بعضا ، وقد عرفت هذا فيما سلف. ولو لم يكن رباط يستعمل هذه فيشتغل ببعضها عن بعض فلا يستعمل ذلك البعض ولا يدبره ، لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه ولا ينصرف عنه. لأن فعل قوة من
القوى إذا لم يكن لها اتصال بقوة أخرى ، لا يمنع القوة الأخرى عن فعلها إذا لم تكن
الآلة مشتركة ولا المحل مشتركا ولا أمر يجمعهما غير ذلك مشتركا. ونحن نرى أن الإحساس يثير الشهوة ، والقوة الشهوانية لا تنفعل من المحسوس من حيث هو محسوس ، فإن انفعل لا من حيث هو محسوس لم يكن الانفعال
الذي يكون لشهوة ذلك المحسوس ، فيجب لا محالة أن يكون هو الذي يحس. وليس يجوز أن تكون القوتان واحدة ، فبين
__________________
أن القوتين لشىء
واحد ، فلهذا يصدق أن نقول : إنا لما أحسسنا اشتهينا ، أو لما رأينا كذا غضبنا.
وهذا الشىء الواحد
الذي تجتمع فيه هذه القوى هو الشىء الذي يراه كل منا ذاته ، حتى يصدق أن نقول لما أحسسنا اشتهينا. وهذا الشىء لا يجوز أن يكون جسما.
أما أولا ، فلأن
الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه القوى ، وإلا كان كل جسم له ذلك ، بل
لأمر به يصير كذلك ، ويكون ذلك الأمر هو الجامع الأول ، وهو كمال الجسم
من حيث هو مجمع ، وهو غير الجسم ، فيكون إذن المجمع هو شىء غير جسم وهو النفس.
وأما ثانيا ، فقد
تبين أن من هذه القوى ما ليس يجوز أن يكون جسمانيا مستقرا فى جسم ، فإن تشكك فقيل
: إنه إن جاز أن تكون هذه القوى لشىء واحد ، مع أنها لا تجتمع معا فيه ، إذ بعضها
لا يحل الأجسام وبعضها يحلها ، فتكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة
منسوبة إلى شىء واحد ، فلم لا يكون كذلك الآن وتكون كلها
منسوبة إلى جسم أو جسمانى. فنقول لأن هذا الذي ليس بجسم ، يجوز أن يكون منبع القوى
فيفيض عنه بعضها فى الآلة ، وبعضها يختص بذاته ، وكلها يؤدى إليه نوعا من الأداء. واللواتى تكون فى الآلة تجتمع فى مبدأ
يجمعها فى الآلة ذلك المبدأ ، وهو فائض عن الغنى عن الآلة كما نبين حاله بعد فى حل
الشبه. وأما الجسم فلا يمكن أن تكون هذه القوى كلها فائضة منه ،
فإن نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان ، بل على سبيل القبول ، والفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة للفيض عن المفيض
، والقبول لا يجوز أن يكون على تلك السبيل.
__________________
وأما ثالثا فإن
هذا الجسم إما أن يكون جملة البدن ، فيكون إذا نقص منه شىء لا يكون ما نشعر به أنا
نحن موجودا ، وليس كذلك ، فإنى أكون أنا وإن لم أعرف أن لى يدا ورجلا أو عضوا من
هذه الأعضاء ، على ما سلف ذكره فى مواضع أخرى ، بل أظن أن
هذه توابعى ، وأعتقد أنها آلات لى أستعملها فى حاجات ، لو لا تلك الحاجات لما
احتيج إليها لى ، وأكون أيضا أنا
أنا وليست هى.
ولنعد إلى ما سلف
ذكره منا فنقول : لو خلق إنسان دفعة واحدة ، وخلق متباين الأطراف ، ولم يبصر
أطرافه ، واتفق أن لم يمسها ، ولا تماست ، ولم يسمع صوتا ، جهل وجود جميع أعضائه ،
وعلم وجود إنيته شيئا واحدا مع جهل جميع ذلك. وليس المجهول بعينه هو المعلوم ،
وليست هذه الأعضاء لنا فى الحقيقة إلا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيانا كأجزاء منا عندنا. وإذا تخيلنا
أنفسنا لم نتخيلها عراة. بل تخيلناها ذوات أجسام كاسية ، والسبب فيه دوام
الملازمة. إلا أنا قد اعتدنا فى الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد فى الأعضاء ،
فكان ظننا الأعضاء أجزاء منا آكد من ظننا الثياب أجزاء منا.
وأما إن لم يكن ذلك جملة البدن ، بل كان عضوا مخصوصا ، فيكون ذلك العضو هو الشىء
الذي أعتقده أنه لذاته أنا ، أو يكون معنى ما أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك العضو ،
وإن كان لا بد له من العضو. فإن كان ذات ذلك العضو وهو
كونه قلبا أو دماغا أو شيئا آخر أو عدة أعضاء بهذه الصفة
هويتها أو هوية مجموعها هو الشىء الذي أشعر به أنه أنا ، فيجب
أن يكون شعورى بأنا هو شعورى بذلك الشىء. فإن الشىء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون
مشعورا به وغير مشعور به ، وليس الأمر كذلك ،
فإنى إنما أعرف أن لى قلبا ودماغا
__________________
بالإحساس والسماع
والتجارب ، لا لأنى أعرف أنى أنا ، فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشىء الذي أشعر
به أنه أنا بالذات ، بل يكون بالعرض أنا ، ويكون المقصود
بما أعرفه منى أنى أنا الذي أعنيه فى قولى : أنا
أحسست وعقلت وفعلت ، وجمعت هذه الأوصاف شيئا آخر هو الذي أسميه أنا . فإن قال هذا القائل : إنك أيضا لا تعرفه أنه نفس فأقول : إنى دائما أعرفه على المعنى الذي أسميه النفس ، وربما لا أعرف تسميته باسم النفس. فإذا
فهمت ما أعنى بالنفس ، فهمت أنه ذلك الشىء ، وأنه المستعمل للآلات من المحركة
والدراكة. وإنما لا أعرف ما دمت لا أفهم معنى النفس ، وليس كذلك حال قلب ولا دماغ
فإنى أفهم معنى القلب والدماغ ولا أعلم ذلك ، فإنى إذا عنيت بالنفس أنه الشىء الذي
هو مبدأ هذه الحركات والإدراكات التي لى ومنتهاها فى هذه الجملة عرفت أنه إما أن
يكون بالحقيقة أنا أو يكون هو أنا مستعملا لهذا البدن ، فكأنى الآن لا أقدر أن
أميز الشعور بأنا مفردا عن مخالطة الشعور بأنه مستعمل للبدن ومقارن للبدن. وأما أنه جسم أو ليس بجسم ، فليس يجب عندى أن يكون جسما ، ولا يتخيل
هو لى جسما من الأجسام البتة ، بل يتخيل لى وجوده فقط من غير جسمية. فيكون قد فهمت من جهة أنه ليس بجسم ، فإذا لم أفهم الجسمية ، مع أنى فهمته. ثم إذا حققت فإنى كلما
عرضت جسمية لهذا الشىء الذي هو مبدأ هذه الأفعال ، لم يجز أن
يكون ذلك الشىء جسما ، فبالحرى أن يكون تمثله الأول فى نفسى أنه شىء مخالف لهذه
الظواهر وأن تغلطنى مقارنة الآلات ومشاهدتها وصدور الأفعال عنها ، فأظن أنها
كالأجزاء منى ، وليس إذا غلط فى شىء وجب له حكم ، بل الحكم لما يلزم أن يعقل. وليس إذا كنت طالبا لوجوده ولكونه غير جسم
فقد كنت جاهلا بهذا جهلا مطلقا ، بل كنت غافلا عنه. وكثيرا ما يكون العلم بالشيء
قريبا ، فيغفل عنه ، ويصير فى حد المجهول ، ويطلب من موضع أبعد.
__________________
وربما كان العلم
القريب جاريا مجرى التنبيه ، وكان مع خفة المئونة فيه كالمذهوب
عنه ، فلا ترجع الفطنة إلى طريقه لضعف الفهم ، فيحتاج أن يؤخذ فيه مأخذ بعيد.
فبين من هذا أن
لهذه القوى مجمعا هو الذي تؤدى كلها إليه ، وأنه غير جسم وإن كان مشاركا للجسم أو
غير مشارك. وإذ قد بينا صحة هذا الرأى فيجب أن نحل
الشبه المذكورة.
أما الشبهة الأولى
، فنقول : إنه ليس يجب إذا كانت النفس واحدة الذات أن لا تفيض عنها فى أعضاء
مختلفة قوى مختلفة ، بل من الجائز أن يكون أول ما يفيض عنها فى
البزر والمنى قوة الإنشاء ، فتنشىء أعضاء على حسب
موافقة أفعال تلك القوة. ويستعد كل عضو لقبول قوة خاصة لتفيض عنه ، ولو لا ذلك لكان خلق البدن معطلا لها.
وأما من تشكك فجعل
النفس عالمة لذاتها فهو فاسد ، فإنه ليس يجب إذا كان جوهر النفس خاليا بذاته
عن العلم أن يستحيل له وجود العلم. فإنه فرق بين أن يقال : إن جوهر الشىء باعتبار
ذاته لا يقتضى العلم ، وبين أن يقال : إن جوهره بذلك الاعتبار يقتضى أن لا يعلم ،
فإن لزوم الجهل مع كل واحد من القولين مختلف. فإنا وإن سلمنا أن النفس بجوهرها جاهلة ، فإنما نعنى أن جوهرها إذا انفرد ولم يتصل به
سبب من خارج لزمه الجهل ، بشرط الانفراد مع شرط الجوهر ، لا بشرط الجوهر وحده.
ولسنا نعنى بهذا أن جوهرها جوهر لا يعرى عن الجهل ، وإن لم نسلم ، بل قلنا : إن
ذلك أمر عارض لها ، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعى ،
فإنه ليس إذا قلنا : إن الخشبة خالية عن صورة السريرية ، وأن ذلك الخلو ليس
لجوهرها ، بل أمر عارض لها جائز الزوال. كان
هذا القول كأنك تقول : يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السريرية ثم انفسخت.
__________________
ومن المحال أيضا
ما قاله المتشكك من ارتداد الشىء إلى ذاته ، فإن الشىء لا يغيب البتة عن ذاته ، بل
ربما قيل إنه قد يغيب عن أفعال تختص بذاته ،
وتتم بذاته وحدها. وإنما يتوسع فيقال هذا ، لأن هذه الأفعال
لا تكون موجودة له ، بل لا تكون موجودة أصلا. وأما ذاته فكيف تكون غير موجودة
لنفسها وبالحقيقة ، فإن أفعاله لا يجوز أن يقال فيها إنه يغيب عنها لأن الغائب هو موجود فى نفسه غير موجود للشىء ، وهذه الأفعال
ليست موجودة أصلا إلا وقت ما يوجدها فلا يكون غائبا عنها ، وأما ذات الشىء فلا يغيب الشىء عنه ولا يرجع إليه.
وأما أصحاب التذكر
فقد نقض احتجاجهم فى الصناعة الآلية. وأما حجة هؤلاء الذين
يجزئون النفس فقد أخذ فيها مقدمات باطلة ، من ذلك قولهم : إنه توجد النفس النباتية مفارقة للحساسة ، فيجب أن يكون فى الإنسان شيء آخر غيره. فإن هذه
المقدمة سوفسطائية ، وذلك لأن المفارقة تتوهم على وجوه ، والتي يحتاج إليها هاهنا وجهان : أحدهما أنه قد تتوهم لها مفارقة ، كما للون عن البياض وللحيوان عن الإنسان إذ توجد هذه الطبيعة فى غير
البياض وتلك فى غير الإنسان بأن يقارن كل فصلا آخر. وقد
تتوهم مفارقة. كما للحلاوة المقارنة للبياض فى جسم ، فإنها
قد توجد مفارقة له ، فتكون الحلاوة والبياض قوتين مختلفتين لا
يجمعهما شيء. وأليق المفارقات بالنفس النباتية للنفس الحساسة هو القسم
الأول ، وذلك لأن النفس النباتية الموجودة فى النخلة لا تشارك القوة النامية
__________________
الموجودة فى
الإنسان البتة فى النوع ، فإن تلك القوة ليست بحيث تصلح لأن تقارن النفس الحيوانية
البتة ، ولا القوة النامية التي فى الحيوان تصلح لأن تقارن النفس النخلية ، ولكن يجمعهما معنى واحد وهو أن كل واحدة منهما تغذى وتنمى
وتولد وإن كانت بعد ذلك تنفصل بفصل مقوم منوع ،
لا بعرض فقط. والمعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوة النباتية التي للإنسان ،
ويفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسى. ونحن لا نمنع أن يوجد جنس هذه القوى
لأشياء أخرى ، وليس فى ذلك أنه يجب أن لا تجتمع هذه القوى فى الإنسان لنفس واحدة ، بل ليس يجب من ذلك أن لا تكون الطبيعة
النامية الموجودة فى الحيوان مقولة على نفس الحيوانية التي
له حتى تكون نفسه الحيوانية هى تلك القوة ، كما أن الإنسان ليس شيئا غير حصته فى
جنس الحيوانية. وهذا شىء قد تحقق لك فى المنطق ، فهذا ليس يوجب أن تكون النفس
النامية التي فى الإنسان غير النفس الحيوانية ، فضلا عن أن تكونا قوتى نفس واحدة ، فليس إذن النباتية التي فى الإنسان توجد البتة
مفارقة بنوعها للإنسان. واحتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوة لا تفارق بنوعيتها
، بل بجنسيتها ، وهما مختلفتان. ومع ذلك فلنضع القوة النباتية فى الحيوان مخالفة للقوة
الحيوانية فيه ، كأن كل واحدة منهما نوع محصل منفرد بنفسه ، وليس أحدهما الآخر ، ولا
مقولا عليه ، فما فى ذلك مما يمنع أن تكون القوتان جميعا فى الحيوان لنفس الحيوان
، كما أنه ليس إذا وجدت الرطوبة فى غير الهواء ، ولست مقارنة للحرارة ، يجب من ذلك
أن لا تكون الرطوبة والحرارة فى الهواء لصورة واحدة أو لمادة واحدة ، وليس إذا
كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة ، بل عن حرارة أخرى ، يجب من ذلك أن الحرارة
فى موضع آخر ليست تابعة للحركة.
__________________
ونقول : ليس يمتنع
أن تكون هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا ، وتنسب إلى ذات واحدة هى فيها. فأما كيفية تصور هذا فهو أن الأجسام العنصرية تمنعها صرفية التضاد عن قبول
الحياة ، فكلما أمعنت فى هدم طرف من التضاد ورده إلى التوسط الذي لا ضد له جعلت
تضرب إلى شبه بالأجسام السماوية ، فتستحق بذلك قبول قوة محيية من الجوهر
المفارق المدبر ، ثم إذا ازدادت قربا من التوسط ازدادت قبول حياة حتى تبلغ الغاية
التي لا يمكن أن يكون أقرب منها إلى التوسط ، ولا أهدم منها للطرفين المتضادين ،
فتقبل جوهرا مقارب الشبه من وجه ما للجوهر المفارق كما للجواهر السماوية ، فيكون
حينئذ ما كان يحدث فى غيره من المفارق يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتصل
به الجوهر. ومثال هذا فى الطبيعيات : لنتوهم مكان الجوهر المفارق نارا
أو شمسا ، ومكان البدن جرما يتأثر عن النار وليكن كرة ما ، وليكن مكان النفس النباتية تسخينها إياها ، ومكان النفس
الحيوانية إنارتها فيها ، ومكان النفس الإنسانية إشعالها فيها نارا. فنقول : إن ذلك الجرم المتأثر كالكرة ، إن كان ليس وضعه من ذلك
المؤثر فيه وضعا يقبل الاشتعال منه نارا ولا إضاءته وإنارته ، ولكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير ذلك. فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه ، ومع
ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها
عنه استنارة قوية ، فإنه يسخن عنه ويستضيء معا ، ويكون الضوء الواقع فيه منه هو مبدأ
أيضا مع ذلك المفارق لتسخينه. فإن الشمس إنما تسخن بالشعاع ، ثم إن كان الاستعداد
أشد وهناك ما من شأنه أن يشتعل عن المؤثر الذي من
شأنه أن يحرق بقوته أو شعاعه اشتعل فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه ،
وتكون تلك الشعلة أيضا مع المفارق علة للتنوير والتسخين معا حتى لو بقيت وحدها
لاستتم أمر التنوير والتسخين. ومع هذا فقد
__________________
كان يمكن أن يوجد
التسخين وحده ، أو التسخين والتنوير وحدهما ، ولم يكن المتأخر منهما مبدأ يفيض عنه
المتقدم ، وكان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كل ما فرض متأخرا مبدأ أيضا
للمتقدم وفائضا عنه المتقدم.
فهكذا فليتصور
الحال فى القوى النفسانية وسيأتى فى بعض الفنون المتأخرة ما يشرح صورة الأمر فى
هذا حيث نتكلم فى تولد الحيوان.
__________________
الفصل الثامن
فى بيان الآلات التي للنفس
وبالحرى أن نتكلم الآن فى الآلات التي للنفس ، فنقول : إنه قد
أفرط الناس فى أمر الأعضاء التي تتعلق بها القوى الرئيسة من النفس إفراطا فى جنبتى اللجاج ، وركنوا إلى تعسف كثير وتعصب شديد
مال إليه كل واحد من الفريقين حتى خرج من الحق. وأكثرهم غلطا من جعل النفس ذاتا واحدة وقضى مع ذلك أن الأعضاء الرئيسة كثيرة ، فإنه لما
خالف فيه الفلاسفة القائلة بتكثر أجزاء النفس ، ووافق من قال بوحدانيتها ، لم يعلم
أنه يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا ، وهو الذي يكون به أول تعلق النفس. وأما
المكثرون لأجزاء النفس فما عليهم أن يجعلوا لكل جزء منه معدنا
مخصوصا ومركزا مفردا.
فنقول أولا : إن
القوى النفسانية البدنية مطيتها الأولى جسم لطيف نافذ فى المنافذ روحانى ، وإن ذلك الجسم هو الروح ، وإنه لو لا أن قوى النفس المتعلقة بالجسم تنفذ محمولة
فى جسم لما كان سد المسالك حابسا لنفوذ القوى المحركة والحساسة والمتخيلة أيضا ،
وهو حابس ظاهر الحبس عند من جرب التجارب الطبية ، وهذا الجسم نسبته إلى لطافة
الأخلاط وبخاريتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط ، وله مزاج مخصوص ، ومزاجه
يتغير أيضا بحسب الحاجة إلى اختلاف يقع فيه ليصير به حاملا لقوى مختلفة ، فإنه ليس يصلح المزاج الذي معه يغضب للمزاج الذي معه يشتهى أو يحس ،
__________________
ولا المزاج الذي
يصلح للروح الباصر هو بعينه الذي يصلح للروح المحرك. ولو كان المزاج واحدا لكانت
القوى المستقرة فى الروح واحدة وأفعالها واحدة ، فإذا كانت النفس واحدة فيجب أن
يكون لها أول تعلق بالبدن ، ومن هناك تدبره وتنميه ، وأن يكون ذلك بتوسط
هذا الروح ، ويكون أول ما تفعل النفس ، يفعل العضو الذي بوساطته تنبعث قواها فى
سائر الأعضاء بتوسط هذا الروح ، وأن يكون ذلك العضو أول متكون من الأعضاء وأول
معدن لتولد الروح. وهذا هو القلب ، يدل على ذلك ما حققه التشريح المتقن ، وسنزيد
هذا المعنى شرحا فى الفن الذي فى الحيوان.
فيجب أن يكون أول
تعلق النفس بالقلب ، وليس يجوز أن تتعلق بالقلب ثم بالدماغ ، فإنها إذا تعلقت بأول
عضو صار البدن نفسانيا ، وأما الثاني فإنما تفعل فيه لا محالة بتوسط هذا الأول.
فالنفس تحيي الحيوان بالقلب ، لكن يجوز أن تكون قوى الأفعال الأخرى تفيض من القلب
إلى الأعضاء الأخرى ، لأن الفيض يجب أن يكون صادرا من أول متعلق به ، فيكون الدماغ
هو الذي يتم فيه مزاج الروح الذي يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحس والحركة إلى
الأعضاء حملا يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها. وكذلك حال الكبد بالقياس إلى قوى
التغذية ، ولكن يكون القلب هو المبدأ الأول الذي أول تعلقه به ومنه تنفذ إلى غيره
ويكون الفعل فى أعضاء أخرى. كما أن مبدأ الحس عند مخالفى هذا القول إنما هو فى
الدماغ ، لكن أفعال الحس لا تكون به وفيه ، بل فى أعضاء أخرى كالجلد وكالعين
وكالأذن. وليس يجب من ذلك أن لا يكون الدماغ مبدأ ، كذلك أيضا يجوز أن يكون القلب
مبدأ لقوى التغذية ولكن أفعالها فى الكبد. ولقوى التخيل والتذكر والتصور لكن أفعالها فى الدماغ ، بل ينبغى أن يكون المبدأ للقوى المختلفة غير صالح لأن
يصدر عن معدنه جميع أفعالها ، بل يجب أن تتفرع فى آلات مختلفة تتخلق بعد ذلك العضو
تخلقا وتفيض من ذلك العضو إليها قوة ملائمة لمزاج ذلك الفرع واستعداده ، على ما
ستقف عليه فى ذكر الحيوان ،
__________________
حتى لا يكون على
العضو الذي هو المبدأ ثقل. ولذلك خلقت العصب للدماغ والأوردة للكبد ، كان الدماغ
والكبد مبدأين أولين للحس والحركة والتغذية أو كانا مبدأين ثانيين. وإذا فاض من
القلب قوة التكوين والتخليق إلى الدماغ فتكوّن الدماغ ؛ فلا كثير بأس بأن يكون الدماغ يرسل من نفسه آلة يستمد بها الحس والحركة من
القلب ، أو يكون القلب ينفذ إليه الآلة التي بتوسطها ينفذ إليه الحس والحركة. فلا
يجب أن يقع من المضايقة فى أمر خلقة العصب أن مبدأها من القلب أو من الدماغ ما هو
ذا يقع ، بل نسلم أنه من الدماغ ويستمد من القلب ، كما أن الكبد يرسل إلى المعدة
ما يستمد منها فيه ولها أيضا عروق تمد غيرها بها. فليس يجب أن يكون العضو الذي هو
مبدأ قوة فيه أيضا أول أفعال تلك القوة ، وأن يكون آلة لأفعال تلك القوة ، بل يجوز
أن تكون الآلة خلقت للاستمداد من شىء آخر ، وأن يكون إنما يستمد بعد تخلقها ، حتى
يكون الدماغ أول ما تخلق لم يكن مبدأ للحس والحركة بالفعل ، بل مستعدا لأن يصير
مبدأ ما للأعضاء التي بعده إذا استمد من غيره بعد أن تتخلق آلة الاستمداد من غيره
له ، فلما تخلق منه عصب ذاهب إلى القلب استمد الحس والحركة منه حينئذ. ويمكن أن
يكون مع تخلق هذا المنفذ بلا تأخر فلا تكون فى نفوذه عنه إلى القلب حجة أيضا ولا
شبه حجة ، بل كما تخلق الدماغ يخلق معه من مادته شىء نافذ إلى القلب غريب عن القلب
استمد منه الحس والحركة. على أن نبات هذا العصب من
الدماغ ومصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظهور الذي يظنه مدعى نبات العصب الذي
بين الدماغ والقلب من الدماغ إلى القلب لا من القلب إلى الدماغ ، على ما سنوضحه فى
موضعه من كلامنا فى طبائع الحيوان ونطول الكلام فيه طولا يشفى ويقنع.
ومع ذلك فلنعد إلى
معاملة أخرى ، فنقول : إنه ليس بمستحيل أن يكون مبدأ وجود قوة هو فى عضو ، فتنفذ
من ذلك العضو إلى عضو آخر ، وهناك تتم القوة
وتستكمل ، ثم تنعطف إلى هذا العضو الأول فترفده. فإن الغذاء إنما يصير إلى الكبد
من المعدة ، ثم إذ صار هناك على نحو ما عاد فغذى المعدة فى عروق
تنبعث من الطحال والأجوف وتنبث فى المعدة ، فلا ضير أن يكون مبدأ القوة
__________________
ينبعث من القلب
مثلا ولا تكون القوة فى القلب كاملة تامة ثم إنها تفيد القلب إذا استكملت فى عضو
آخر. وهكذا حال الحس المشترك ، فإن مبدأ القوة الحساسة الجزئية منه ، ثم إنها تعود إليه بالفائدة.
على أن حس القلب
نفسه ـ وخصوصا اللمس ـ أعظم من حس الدماغ نفسه ، ولذلك أوجاعه لا تحتمل ، وعلى أنه
ليس بممتنع فى القوى أن تصير أقوى وأشد فى غير مبادئها لمصادفة مواد تجعلها بتلك
الحال. ويشبه أن تكون قوة أطراف الأوتار على الجذب أشد من قوة أوائلها التي تلى
العصب. فالقلب مبدأ أول تفيض منه إلى الدماغ قوى : فبعضها تتم أفعالها فى الدماغ وأجزائه كالتخيل والتصور وغير ذلك ، وبعضها تفيض من
الدماغ إلى أعضاء خارجة عنه كما تفيض إلى الحدقة وإلى العضل المحركة ، وتفيض من
القلب إلى الكبد قوة التغذية. ثم تفيض من الكبد بتوسط العروق فى جميع البدن وتغذو
القلب أيضا ، فتكون القوة مبدؤها من القلب ، والمادة مبدؤها من الكبد.
وأما القوى
الدماغية فإن البصر يتم بالرطوبة الجليدية التي هى كالماء الصافى ، فتقبل صور
المبصرات وتؤديها إلى الروح الباصر ، ويكون تمام
الإبصار عند ملتقى العصبة المجوفة ، على ما علم من تشريحه وتعريف حاله. وأما الشم
فبزائدتين فى مقدم الدماغ كحلمتى الثدى. وأما الذوق فبأعصاب دماغية تأتى اللسان
والحنك وتؤتيهما قوة الحس والحركة. وأما السمع فبأعصاب دماغية أيضا تأتى الصماخ
فتغشى السطح المحيط به. وأما اللمس فبأعصاب دماغية ونخاعية تنتشر فى البدن كله.
وأكثر عصب الحس من
مقدم الدماغ. لأن مقدم الدماغ ألين ، واللين أنفع فى الحس ، ومقدم الدماغ كما يتأدى إلى
خلف وإلى النخاع يصير أصلب ليتدرج إلى النخاع الذي يجب أن تعين دقته الصلابة.
وأكثر عصب الحركة التي من الدماغ إنما تنبت من مؤخر الدماغ ، لأنه أصلب ، والصلابة
أنفع فى الحركة وأعون عليها. والعصب التي للحركة فى أكثر الأمر
__________________
تتولد منها العضل
، فإذا جاوزت العضل حدث منها ومن الرباطات الأوتار ، وأكثر اتصال أطرافها بالعظام
وقد تتصل فى مواضع بغير العظام ، وقد تتصل العضلة نفسها بالعضو المحرك من غير توسط
وتر. والنخاع كجزء من الدماغ ينفذ فى ثقب الفقارات ، لئلا يبعد ما يتولد من العصب
من الأعضاء ، بل يتولد منها العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها به. وأما
القوة المصورة والحس المشترك فهما من مقدم الدماغ فى روح تملأ ذلك التجويف ، وإنما
كانا هناك ليطلا على الحواس التي أكثرها إنما تنبعث من مقدم الدماغ ، فبقى الفكر
والذكر فى التجويفين الآخرين ، لكن الذكر قد تأخر موضعه ليكون مكان الروح المفكرة متوسطا بين خزانة الصور وبين خزانة المعنى ، وتكون مسافته بينهما واحدة ، والوهم
مستول على الدماغ كله وسلطانه فى الوسط.
وأخلق بأن يتشكك
متشكك فيقول : كيف ترتسم صورة جبل بل صورة العالم فى الآلة اليسيرة التي تحمل القوة المصورة؟ فنقول له : إن الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير نهاية تكفى
مؤونة هذا التشكك ، فإنه كما يرتسم العالم فى مرآة صغيرة وفى
الحدقة بأن ينقسم ما يرتسم فيها بحذاء انقسامه ، إذ
الجسم الصغير ينقسم بحسب قسمة الكبير عددا وشكلا ، وإن كان يخالف القسم القسم فى
المقدار ، فكذلك حال ارتسام الصور الخيالية فى موادها. ثم تكون نسبة ما ترتسم فيه
الصورة الخيالية بعضه إلى بعض فى عظم ما يرتسم
فيه وصغر ما ترتسم فيه ، نسبة الشيئين من خارج فى عظمهما وصغرهما مع
مراعاة التشابه فى البعد.
وأما قوة الغضب
وما يتعلق بها فلم تحتج إلى عضو غير المبدأ ، لأن فعلها فعل واحد وتلائم المزاج
الشديد الحر وتحتاج إليه ، وليس تأثير المتفق منه أحيانا تأثير المتصل من الفكرة
والحركة حتى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا ، وذلك لأنه مما يعرض أحيانا ، وذانك كاللازم ، مثل الفهم والفكرة وما يشبههما مما يحتاج إلى ثبات وإلى قبول. ويجب
__________________
أن يكون العضو
المعد له أرطب وأبرد ، وهو الدماغ ، لئلا يشتعل الحار الغريزى
اشتعالا شديدا ، وليقاوم الالتهاب الكائن بالحركة. ولما كانت التغذية مما يجب أن
يكون بعضو عديم الحس حتى يمتلئ من الغذاء ويفرغ منه ، فلا يوجعه ذلك ، ولا يتألم
كثيرا بما ينفذ فيه ومنه وإليه ، وأن يكون أرطب جدا كيما يحفظ الحار القوى
بالمعادلة والمقاومة ، فجعل ذلك العضو الكبد وجعل قوة التوليد فى عضو آخر شديد
الحس ليعين على الدعاء إلى الجماع بالشبق ، وإلا لم يكن يتكلف ذلك لو لم يكن فيه
لذة وإليه شبق ، إذ لا حاجة إليه فى بقاء الشخص. واللذة تتعلق بعضو حساس فجعل له
الأنثيان وأعينتا بآلات أخرى بعضها لجذب المادة وبعضها لدفعها ، كما يأتيك
ذكره حيث نتكلم فى الحيوان.
__________________
معجم عربى لاتينى لأهم المصطلحات الفلسفية
lEXIQUE ARABE ـ
LATIN DES PRINCIPAUX TERMES TECHNIQUE ١. Ce lexique est
selectif : il ne mentionne que certain nombre de termes
tech ـ niques qui nous
ont paru interessants soit en eux ـ
memes soit pour la maniere dont ils ont ete
traduits en latin au Moyen ـ
Age. En second lieu, les references aux passages ou
se trouvent mentionnes ces termes ne sont pas exhaustifs
:
nous navons generalement indique que
le premier passage ou se rencontre le terme.
٢. Le premier chiffre en caracteres latins renvoie a ledition latine du De
Anima de Mlle Van Riet; le second chiffre a notre edition
arabe ud Caire.
٣. Quand plusieurs termes latins traduisent un meme terme arabe nous avons
signale par un asterisque le terme Jatin qui est plus
frequemment employe.
On trouvera dans le lexique prepare
par Mlle Van Riet la liste complete des passages pour
chaque terme.
(١) ليس هذا
المعجم شاملا ، بل هو مقصور على بعض المصطلحات الفلسفية الهامة ؛ وبوجه أخص
المتصلة بعلم النفس. وقد اخترنا الكلمات لأهميتها الذاتية أو للوقوف على طريقة
ترجمتها إلى اللاتينية فى القرون الوسطى. ومن جهة أخرى ، لم نذكر جميع المواضع
التي وردت فيها كل كلمة ، بل اكتفينا بذكر أول موضع وردت فيه.
(٢) يشير الرقم
الأول (بالحروف اللاتينية) إلى الطبعة اللاتينية لكتاب النفس التي حققتها الانسة
فانريت ويشير الرقم الثاني إلى طبعتنا القاهرية.
(٣) عند ما توجد
عدة ترجمات لاتينية لكلمة عربية واحدة ، نشير إلى الكلمة الأكثر استعمالا بنجمة
صغيرة. ومن أراد الاطلاع على جميع مواضع استعمالها فليرجع إلى معجم الآنسة فانريت.
ـ ا ـ
آلة instrumentum
١٧ ، ٥١ ؛ ١٨ ،
١٤
آلى instrumentalis
٦٢ ، ٢٩ ؛ ١٠ ،
٢٠
آلات instrumenta
* ٥٩ ، ٢٩ ؛ ١٠
، ١٨
Membra
٤٥ ، ١٤١ ؛ ٦١ ،
١
آفات languores
٢٨ ، ١٢٧ ؛ ٥٥ ،
٢٣
nocumenta
٨٤ ، ٢٣٤ ؛ ١١٣
، ٣
آن modus
٩ ، ٢٦١ ؛ ١٢٨ ،
١٠
momentum
٥٤ ، ١٨٧ ؛ ٨٨ ،
١٤
nunc
* ٨٠ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١١
أثر actio
٥٥ ، ٢٦٣ ؛ ١٢٩
، ١٤
affectio
* ١٠ ، ٩٤ ؛ ٣٨
، ١٨
impressio
٤٥ ، ٢٦٣ ؛ ١٢٩
، ١٠
motus
٩٨ ، ٢٧٧ ؛ ١٣٧
، ١٤
أثّر afficere
* ٢٥ ، ٦٥ ؛ ٣٨
، ٢
agere in
٥٤ ، ٢٦٣ ؛ ١٢٩
، ١٤
efficere
٣٨ ، ٢٥٦ ؛ ١٢٦
، ٣
imprimere
٤٢ ، ٢٦٣ ؛ ١٢٩
، ٨
operari
٥ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٨ ،
٨
تأثير actio
١٦ ، ٢٦١ ؛ ١٢٨
، ١٤
passio
٦٨ ، ٢٤٥ ؛ ١١٩
، ١٤
Affection ٨١ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١٢
اختيارى volontarius ٣١ ، ٢٤٣ ؛ ١١٨
، ٩
أخذ apprehendere
* ١٦ ، ٩٤ ؛ ٣٩
، ٣
assumere
٩٢ ، ٢٥٣ ؛ ١٢٤
، ٢
|
|
أدرك apprehendere
٩٩ ، ٣٣ ؛ ١٢ ،
٣
إدراكات apprehensiones
٨٥ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
٤
أذن auditis
٩٣ ، ١٣٨ ؛ ٦١ ،
٨
استعداد aptitudo
١٠ ، ٦٤ ؛ ٢٥ ،
١
اسطقسّات elementa
٨١ ، ٤٨ ؛ ١٧ ،
٩
Subjecta
٩ ، ٩ ؛ ١ ، ٧
أصل fundamentum
٧٧ ، ١٢٣ ؛ ٥٤ ،
١٢
origo
٢١ ، ١٣٩ ؛ ٦٢ ،
٦
اعتبار respectus
٤٢ ، ٢٠ ؛ ٧ ،
١١
اعتدال aequilitas
٦٣ ، ١٤٢ ؛ ٦٣ ،
١٣
اعتقاد conceptio
٦٩ ، ٧٤ ١١ ؛
١٨٣ ، ٦
comprehensio
٦٠ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٧
credulitas
٢٥ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
١١
تألّف conjunctio
٨٦ ، ٢١ ١١ ؛
١٥٥ ، ١٥
تأليف collectio
١٢ ، ٥٧ ؛ ٢١ ،
١٢
compositio
٢٨ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
٢٤
conjunctio
* ٦٢ ، ٥٤ ؛ ١٩
، ٢٠
مؤلفات res compositae
٣١ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
٢٤
ألم dolare
٩٣ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٧
، ٢١
dolere
* ٩٠ ، ١٣٧ ؛ ٦١
، ٦
|
ألم dolor
٣١ ، ٦٦ ؛ ٢٥ ،
١٥
انبساط dilatatio
٢٠ ، ١٣٣ ؛ ٥٩ ،
٦
إنسان homo
٣٨ ، ١٢ ؛ ٢ ، ٧
ناس homo
٣٦ ، ١٤٧ ؛ ٦٦ ،
٢
homines
٦٣ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
١٤
إنسانى humanus
٢٤ ، ١١ ؛ ١ ،
١٦
إنسانيّة humanitas
٥٩ ، ٥٤ ؛ ١٩ ،
١٨
أهل التميز docti homines
٦٨ ، ١٣٦ ؛ ٢١٣
، ٣
أهل الحيلة deceptores
٠٠ ، ٢٠٤ ؛ ٦٧ ،
١٧
الأوّليات prima) per se nota
(٨١ ، ٩٢ ؛ ٣٧ ،
٢١
مؤيّد inspiratus
١١ ، ١٥٣ ١١ ؛
٢٢٠ ، ٨
أين ubi
٣٦ ، ١٢٠ ؛ ٥٣ ،
٤
ـ ب ـ
بخت considerare
٨١ ، ٢٣ ؛ ٨ ،
١١
Objection
٧٩ ، ٢٤٠ ؛ ١١٦
، ٢٠
tractatus
٣٥ ، ٢٧ ؛ ١٠ ،
١
بخت fatum
٩٩ ، ١٢٤ ١١ ؛
٢٠٧ ، ٥
بدن corpus
٤٩ ، ١٢ ؛ ٢ ،
١٣
|
|
بدنى corporalis
٤٧ ، ١٢ ؛ ٢ ،
١٣
بريء Separatus
٤٣ ، ٧٤ ؛ ٢٩ ،
٢٢
برء sanitas
١٦ ، ٦٣ ١١ ؛
١٧٦ ، ١٨
برّأ abstrahere
٨٨ ، ١١٧ ؛ ٥١ ،
١٣
تبرئة abstractio
٨٩ ، ١١٧ ؛ ٥١ ،
١٤
مبرأ denudatus
٢٨ ، ١٢٠ ؛ ٥٢ ،
١٩
برد frigiditas
٧ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
٨
برودة frigiditas
٢٢ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
١٩
بارد
Frigidus ٧٦ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
٩
برّد infrigidare
٣٠ ، ٢٢٤ ؛ ١٠٨
، ٥
برديّة humor crystallinus
١٥ ، ١٣٩ ؛ ٦٢ ،
٢
بريق claritas
٨٧ ، ١٨٣ ؛ ٨٥ ،
٢
Illuminatio
٨٢ ، ١٨٩ ؛ ٨٩ ،
٢١
splendor
* ٩٩ ، ١٨٤ ؛ ٨٦
، ٥
radiositas
١٨ ، ١٧١ ؛ ٧٩ ،
١٢
براقيّة splendor
٩٧ ، ١٨٤ ؛ ٨٦ ،
٤
بزر corpus
٦٦ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٢
Semen
٧٦ ، ١٠٨ ؛ ٤٧ ،
٨
بساطة simplicitas
٢٠ ، ١١٩ ؛ ٥٢ ،
١٤
|
بسيط simplex
٢٠ ، ١٩ ؛ ٦ ،
١٩
بسائط simplicia
٩١ ، ٥٦ ؛ ٢٠ ،
١٩
بشر carnalis
٥٨ ، ٢٣ ؛ ٨ ،
١٣
بصر visus
٥٠ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
١٠
Oculus
٥١ ، ٢٢٦ ؛ ١٠٨
، ١٩
pupilla
٣٤ ، ٢١٢ ؛ ١٠٢
، ٥
باصر videns
٥١ ، ٢٥٧ ؛ ١٢٦
، ١٢
visiblis
* ٥٨ ، ٢٦٩ ؛
١٣٣ ، ٩
أبصر videre
٣٢ ، ١٢٧ ؛ ٥٦ ،
٣
إبصار sentire
٥٢ ، ٢٨٠ ؛ ١٣٩
، ٩
videre
* ٠٠ ، ١٤٤ ؛ ٦٥
، ١
visio
٤٥ ، ٢١٤ ؛ ١٠٢
، ١٢
قوّة مبصرة virtus visibilis
٥٧ ، ٢٦٩ ؛ ١٣٣
، ٨
مبصر quod videtur
٦٩ ، ٢٥٨ ؛ ١٢٧
، ٣
تبصّر videre
٣٧ ، ٢١٣ ؛ ١٠٢
، ٧
بطل conversio
٦٩.n ، ١٢٩ ؛ ٥٧ ، ٦
deleri
٨٧ ، ٢٧١ ؛ ١٣٤
، ٨
destrui
٢٧ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
٢١
بطلان destructio
٩٦ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٢
باطل absurditas
٥ ، ٢٢٣ ؛ ١٠٧ ،
١٢
falsus
* ٣٨ ، ٤٤ ؛ ١٦
، ٤
|
|
vanus
٧٤ ، ٤٧ ؛ ١٧ ،
٦
إبطال destructio
٣٠ ، ٢١٢ ؛ ١٠٢
، ٢
بنطاسيا (هكذا)
fantasia
٢٠ ، ٨٧ ؛ ٣٥ ،
٢١
مستبطنا occultando se
٥٢ ، ٢٥٧ ؛ ١٢٦ ،
١٣
باطن interior
٩٥ ، ٨٦ ؛ ٣٥ ،
٥
Latens
٢٨ ، ٢٧٣ ؛ ١٣٥
، ١١
occultus
٥٦ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
١٣
(حس) باطن) sensus (interior
٤ ، ٨٦ ؛ ٣٥ ، ٦
بليد piger
٥٢ ، ٣٢ ١١ ؛ ٣٢
، ٥٢
بلّور crystallus
٢١ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
١٣
بال mens
٨٠ ، ٤١ ١١ ؛
١٦٥ ، ٣
(ت)
تأمّل attendere
١ ، ٢٥ ؛ ١١ ، ٣
considerare
٠٠ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٤
inspiscere
٧ ، ٢١١ ؛ ١٠١ ،
٦
videre
٥٤ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
١٢
تبع consequi
٤٣ ، ٢٨ ؛ ١٠ ،
٦
sequi
٧١ ، ١٤ ؛ ٥ ، ٤
تفه insipidum
١٠ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٨
تفه insipiditas
١٠ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٧
توليد
|
generare
٢٨ ، ١١ ؛ ٢ ، ١
generatio
٣٣ ، ٥٨ ؛ ٢٢ ،
١٠
(ث)
ثخن
spissitudo
٧٤ ، ٢٣٤
ثقل
gravis
١٤ ، ٢٣٠ ؛ ١١٠
، ١٦
gravitas
٢٦ ، ١٣٣ ؛ ٥٩ ،
٩
ثقيل
gravus
٠٠ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
٤
ثوابت
stellae fixae
٧٥ ، ٢١٥ ؛ ١٠٣
، ١٦
(ج)
جبلّة
natura
١٩ ، ١٩٢ ؛ ٩١ ،
٣
جذب
contrahens
٥٣ ، ٨٣ ؛ ٣٣ ،
١٨
جاذب
attractivus
٨ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
١٤
انجذاب
) modus (attrahendi
٦٢ ، ١٥٦ ؛ ٧١ ،
٤
جرّب
experiri
٥٧ ، ٢٦ ١١ ؛
١٥٧ ، ٢٠
تجربة
experientia
٣٩ ، ٣٩ ؛ ١٦٣ ،
١٧
|
|
Discretion ٣٧ ، ٣٩ ؛ ١٣٦ ،
١٥
جرّد abstrahere
٦١ ، ١١٥ ؛ ٥٠ ،
٧
denudare
* ٩٤ ، ١١٧ ؛ ٥١
، ١٧
expoliare
٢١ ، ١١٩ ؛ ٥٢ ،
١٥
تجريد abstractio
* ٣٩ ، ٧٤ ؛ ٢٩
، ٢٠
denudare
١٨ ، ٩٤ ؛ ٣٩ ،
٤٠
denudatio
٩٥ ، ١١٧ ؛ ٥١ ،
١٨
مجرّد abstractus
٥٤ ، ١١٤ ؛ ٥٠ ،
٥
nudus
* ٣٣ ، ٥٢ ؛ ١٩
، ٤
solus
٩٩ ، ١٩٠ ؛ ٩٠ ،
٩
جرم corpus
٧٣ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
١٠
أجرام corpora
٦ ، ٩ ؛ ١ ، ٥
الأجزاء التي لا
تتجزّأ atomi
٨٧ ، ٤٠ ؛ ١٤ ،
١٥
corpora indivisibi
٩٢ ، ٤٠ ؛ ١٤ ،
١٧
جزئيات particularia
١٢ ، ٨٠ ؛ ٢٣ ،
٨
تجسّس sentire
٢٤.n ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ، ١٧
جسدانى corporalis
٢٥ ، ١٢٧ ؛ ٥٥ ،
٢٥
جسم corpus
١٩ ، ١٠ ؛ ١ ،
١٣
غير جسم incorporeus
٨٥ ، ٣٩ ؛ ١٤ ،
١٣
جفوف siccitas
٨٠ ، ٢٠٢ ؛ ٩٧ ،
٤
جلد corpus
٨٢ ، ٨٥ ؛ ٣٤ ،
١٧
Cutis ٧٧ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
١٤
جليدى crystaleidus
٣٩ ، ٢٦٨ ؛ ١٣٢
، ١٢
crystallineus
٦٧ ، ٢٢٧ ؛ ١٠٩
، ١٣
رطوبة جليدية humor crystallinus
٦٠ ، ٨٣ ؛ ٣٤ ،
٢
|
جمادات res congelatae
١٣ ، ١٠ ؛ ١ ، ٩
جمادى inanimalitas
٤٨ ، ٥٩ ؛ ٢٣ ،
١
جامد inanimatus
٣٣ ، ١٩٩ ؛ ٩٤ ،
١٢
الجميد pulchrum
٦٤ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
١٥
جنس genus
١٧ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٨
جنسى generalis
٣٣ ، ١١ ؛ ٢ ، ٤
Genus
٧٧ ، ٦٢ ؛ ٢٣ ،
١٩
جهات dimensiones
٥٠ ، ٤٦ ١١ ؛
١٦٧ ، ٧
مجوف concavus
١٣ ، ١٣٩ ؛ ٢٦ ،
١
تجويف concavitas
٦٧ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٦
عصبة مجوّفة nervus opticus
٥٩ ، ٨٣ ؛ ٣٤ ،
٢
جوهر essentia
٧٩ ، ١٥ ؛ ٥ ،
١٤
substantia
١٥ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٧
(ح)
محبّة amor
١٤ ، ٤٢ ؛ ٤٧ ،
١١
حب appetere
٨١ ، ١٠٨ ؛ ٤٧ ،
١١
أحبّ appetere
٢٣ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
١٤
حدث accidere
٨٦ ، ٤٨ ؛ ١٧ ،
١٤
|
|
Contingere ٣٠ ، ٦٦ ؛ ٢٥ ،
١٣
Fieri ٥٧ ، ٥٤ ؛ ١٩ ،
١٧
provenire
٦٦ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٦
حجّة ratio
٥٦ ، ١٤٨ ؛ ٦٦ ،
١٦
حجم corpus
٣٨ ، ٢٠٠ ؛ ٩٥ ،
٩
Moles ١٢ ، ٢٣٠ ؛ ١١٠
، ١٥
quantitas
٦٧ ، ١٤٩ ؛ ٦٤ ،
٤
حدّ definitio
٣٠ ، ٢٧ ؛ ٩ ،
٢٣
differentia
٩٥ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
١
distinctio
٧١ ، ٢٥٨ ؛ ١٢٧
، ٥
modus
٧٤ ، ١١٥ ؛ ٥١ ،
٣
terminus
٩٤ ، ١٥١ ؛ ٦٧ ،
٢١
محدود definitus
٨٢ ، ٩٢ ؛ ٣٧ ،
٢٠
terminatus
٨١ ، ٢٥٩ ؛ ١٢٧
، ١٢
غير محدود indeterminatus
١٩ ، ١٨ ؛ ٦ ،
٢٠
أرباب الحدوس homines ingeniosi
٩٩ ، ١٥٢ ١١ ؛
٢٢٠ ، ١
حدس ingenium
٩٥ ، ١٥٢ ١١ ؛
٢١٩ ، ٢١
subtilitas
٧٩.n ، ١٥١ ١١ ؛ ٢١٩ ، ١١
subtilis
٥٧ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٤
حدقة pupilla
٨٠ ، ١٢٤ ؛ ٥٤ ،
١٤
تحديق intueri
٦٧ ، ٢١٥ ؛ ١٠٣
، ١١
مجازاة oppositio
٥ ، ٢٦٦ ؛ ١٣١ ،
٥
محاز oppositus
٣١ ، ٢٣١ ؛ ١١١
، ٦
|
حرارة caliditas
٢٨ ، ١٣٤ ؛ ٥٩ ،
١٠
Calor
٢٥ ، ٣٥ ؛ ١٢ ،
١٦
حارّ calidus
٧٥ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
٨
حرص studium
٦ ، ٤٣ ١١ ؛ ١٦٥
، ١٩
حرافة acuitas
٩ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٧
حروف elementa
٣ ، ٩٥ ؛ ٣٩ ،
١٧
حركة motus
٦ ، ٩ ؛ ١ ، ٥
حرّك movere
٩٤ ، ٤٠ ؛ ١٥ ،
٢
متحرّك mobilis
٢ ، ٣٣ ؛ ١٢ ، ٢
محرّك motivus
٤٩ ، ٧٥ ؛ ٣٠ ،
٥
تحريك motio
٥٠ ، ٤٥ ؛ ١٦ ،
١٣
حزن tristitia
١٥ ، ٤٣ ١١ ؛
١٦٦ ، ٦
حسّ sensibilitas
٢ ، ٦٤ ؛ ٢٤ ،
١٦
Sentire
٦٩ ، ٣٠ ؛ ١١ ،
٢
إحساس sentire
٥٢ ، ٢١ ؛ ٧ ،
١٧
sensus
٨٠ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١٢
أحسّ sentire
* ٥٢ ، ٣٦ ؛ ١٣
، ١٣
audire
٤٣ ، ١٦١ ؛ ٦٧ ،
١٣
sensificare
٢٠ ، ١١١ ؛ ٤٨ ،
١٦
videre
٢٤ ، ١٦٠ ؛ ٧٣ ،
١
|
|
محسوسات sensibilia
٩٩ ، ٣٣ ؛ ١٢ ،
١
sensata
٩٥ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
١٠
محسوس sensatus
٩٧ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
١٢
sensibilis
١٣ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٥
حواسّ sensus
٩٦ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
١١
حاسة sensus
٨٣ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١٣
حاسّ sensibilis
٥٠ ، ١١٤ ؛ ٥٠ ،
٣
sentiens
* ٤٢ ، ١٢٠ ؛ ٥٣
، ٨
غير حسّاس non sentiens
٧٨ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١٠
حسّاس sentiens
١٢ ، ٥٧ ؛ ٢١ ،
١٢
الحسّيات) apprehensiones (sensibiles
٨٨ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
٥
الحسّ الباطن sensus interior
٩٥ ، ٨٦ ؛ ٣٥ ،
٥
حسّى sensibilis
٣٨ ، ١٢٠ ؛ ٥٣ ،
٦
الحسّ الظاهر sensus exterior
٩٥ ، ٨٦ ؛ ٣٥ ،
٥
لا حسّ له) res (insensibilis
١٣ ، ١٠ ؛ ١ ، ٩
حس sensatum
٨ ، ١٣٨ ؛ ٦١ ،
١٧
Sensus
٩٩ ، ٣٣ ؛ ١١ ،
٢٢
حفز repercussio
٤٧ ، ٢٣٨ ؛ ١١٠
، ٢٠
الحافظة) virtus (memorialis
٥٣ ، ٨٩ ؛ ٢٧ ،
٢
|
) virtus (custoditiva
٩ ، ٩ ١١ ؛ ١٤٩
، ٣
) virtus retentiva
(٤٨ ، ١١ ١١ ؛
١٥٠ ، ٦
حفظ retinere
٦٦ ، ٦ ؛ ١٤٧ ،
١١
tenere
٦٠ ، ١٩ ١١ ؛
١٥٤ ، ١٩
conservare
١٧ ، ١٨٤ ١١ ؛
٢٣٧ ، ٤
حقّ veritas
٤٧ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
٨
verum
٢٤ ، ٧٣ ؛ ٢٩ ،
١٠
حقّق certificare
٧ ، ٩ ؛ ١ ، ٦
تحقيق certificare
٢ ، ١٠٣ ؛ ٤٥ ،
٢
certitudo
٢٩ ، ٨٩ ؛ ٣٦ ،
٧
حقيقة certificatio
٤٩ ، ٢٠٠ ؛ ٩٦ ،
١
certitudo
٦٧ ، ١٢٣ ؛ ٥٤ ،
٤
حاكى repraesentare
٣٨ ، ٢٥ ١١ ؛
١٥٧ ، ٩
assimilare
٢٦ ، ٢٤ ١١ ؛
١٥٦ ، ١٨
conformare
٢٢ ، ٢٤ ١١ ؛
١٥٦ ، ١٣
حكم judicium
٨٩ ، ١٩٦ ؛ ٩٣ ،
١٥
حكم judicare
٩١ ، ٤٩ ؛ ١٧ ،
١٨
محلّ subjectum
٨٠ ، ١٧٥ ؛ ٨١ ،
١٣
حلّ advenire
٦٨ ، ٦١ ؛ ٢٣ ،
١٤
existere
١٥ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٦
solvere
٨٨ ، ٢٥٣ ؛ ١٢٤
، ٤
تحلّل resolvi
٨ ، ٧١ ؛ ٢٨ ،
١٩
resolutio
٤٦ ، ١٤٨ ؛ ٦٦ ،
٩
|
|
حلو dulcis
٦٣ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٨
حلاوة dulcedo
٧٤ ، ١٢٣ ؛ ٥٤ ،
١
حال dispositio
٣٧ ، ١٢ ؛ ١٢ ،
٧
Modus
٩٦ ، ٢٠٣ ؛ ٦٧ ،
١٣
حامل subjectum
٩٩ ، ٢١٧ ؛ ١٠٤
، ١٠
حامض acetosus
٨٣ ، ١٤٣ ؛ ٦٤ ،
١٠
acidus
٨٥ ، ١٤٣ ؛ ٦٤ ،
١١
حموضة acetositas
٩ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٧
استحالات permutationes
٨٢ ، ١٥٠ ؛ ٦٧ ،
١٣
حالات dispositiones
٧٦ ، ٢٢١ ؛ ١٠٦
، ١٦
أحوال dispositiones
٧ ، ٩ ؛ ١ ، ٦
حيوان animal
٢٧ ، ١١ ؛ ٢ ، ١
حياة vita
٦٠ ، ٢٩ ؛ ١٠ ،
١٩
ـ خ ـ
خازن) imaginatio (conservatrix
٩١ ، ٢٧١ ؛ ١٣٤
، ٩
خزانة thesaurus
٤٦ ، ٤ ، ١١ ؛
١٤٦ ، ١٤
خشونة asperitas
٦٩ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٤
خلط humor
٨٣ ، ١٤٣ ؛ ٦٤ ،
١٠
|
نخلخل raritas٩٥ ، ٢٠٣ ؛ ٩٧ ، ١٣
خلق mores
٧٠ ، ٢٠ ١١ ؛
١٥٥ ، ٦
اختلاف diversitas
٨١ ، ٢٣ ؛ ٨ ،
١١
differentia
٨١ ، ٦٩ ؛ ٢٨ ،
١
خفّة levitas
٢٦ ، ١٣٣ ؛ ٥٩ ،
٩
تخليق creare
٦٦ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٢
generare
٣٨ ، ٨٢ ؛ ٣٣ ،
٧
خلق creare
٥٠ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
١٠
أخلاق mores
٦٥ ، ١٣ ؛ ٢ ،
٢٢
خواطر inspirationes
٦٤ ، ١٩ ١١ ؛
١٥٥ ، ٢
cogitationes
٤٠ ، ٣٢ ١١ ؛
١٦٠ ، ٦
خير bonum
٢٤ ، ٧٧ ١١ ؛
١٨٤ ، ٢١
bonitas
١٠ ، ١١٨ ؛ ٥٢ ،
٦
خاصّ proprius
٠٠ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٤
خوف timere
٢ ، ٨٦ ؛ ٣٥ ،
١٠
خيال imaginatio
* ٩٤ ، ٧٠ ؛ ٢٨
، ١٠
) Virtus (imaginativa
٧١ ، ٢٧٠ ؛ ١٣٣
، ١٧
تخيلات imaginationes
٩٣ ، ٧٨ ؛ ٣١ ،
١٠
تخيّل
|
|
imaginari
٦٢ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
١٣
virtus imaginativa
٥١ ، ٧٥ ؛ ٣٠ ،
٦
imaginatio
٧٠ ، ١٣ ١١ ؛
١٥١ ، ١٥
متخيّلة) virtus (imaginativa
٣٧ ، ٧٤ ؛ ٢٩ ،
١٠
خياليّة) virtus (imaginativa
٩٦ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
٩
ـ د ـ
دبّر regere
٨٢ ، ٣١ ؛ ١١ ،
١١
تدبير actio
١ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
٥
dominium
٥٦ ، ١٠٦ ؛ ١٦ ،
٢٠
gubernatio
٧٠ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٤
rector
٧ ، ٦٤ ؛ ٢٤ ،
١٩
داخل infundi
٩٨ ، ٢٠٤ ؛ ٩٧ ،
١٥
penetrare
٨٩ ، ٢١٠ ؛ ١٠٠
، ٨٩
permisceri
٢٧ ، ٢٣١ ؛ ١١١
، ٥
دسومة unctuositas
٩ ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ،
٧
ذقّة tenuitas
٦٩ ، ١٨٢ ١١ ؛
٢٣٥ ، ٢١
دلّ demonstrare
٤٩ ، ٦٧ ؛ ٢٦ ،
١٠
indicare
١٨ ، ٧٢ ؛ ٢٩ ،
٥
ostendere
٩٦ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٢
significare
١٥ ، ٣٤ ؛ ١٢ ،
١٠
دلالة ostensio
٨٥ ، ٢٨٢ ؛ ١٤٠
، ٧
significatio
٦١ ، ٢٢ ؛ ٧ ،
٢٢
دليل probatio
٨٩ ، ٢٧١ ؛ ١٣٤
، ٨
ratio
١٢ ، ١١٨ ؛ ٥٢ ،
٨
|
استدلال considerare
٩٨ ، ٢٨٢ ؛ ١٤٠
، ١٦
significatio
١٤ ، ٢٨٣ ؛ ١٤١
، ١٤
دماغ cerebrum
٥٦ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
١٣
دوار vertigo
٥٩ ، ٢٧٥ ؛ ١٣٦
، ١٦
ـ ذ ـ
ذكاء subtilitas
٩٦ ، ١٥٢ ١١ ؛
٢١٩ ، ٢٢
متذكّرة) virtus (memorialis
١٢ ، ٩ ١١ ؛ ١٤٩
، ٢
Memoria
٦٠ ، ٢٦ ١١ ؛
١٥٨ ، ١
ذكر dicere
٤٠ ، ٧٤ ؛ ٢٩ ،
٢١
enumerare
٣ ، ١٧٧ ؛ ٨٢ ،
٦
nominare
٨٥ ، ٩٢ ؛ ٣٨ ،
٢
ostendere
٩٩ ، ٢٧٢ ؛ ١٣٤
، ١٤
praedicare
٨١ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١١
praenominare
٣٨ ، ٩٦ ؛ ٣٩ ،
١٧
ذات essentia
* ٨٤ ، ١٦ ؛ ٥
Natura
* ٣٧ ، ٢٤٤ ؛
١١٨ ، ١٢
seipsum
٧٨ ، ٣٩ ؛ ١٤ ،
٨
بالذات essentialiter
٣٠ ، ٣٥ ؛ ١٢ ،
٢١
ذاهل stupidus
٦٧ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
٢٠
ذهن ratio
٠٠ ، ١٠٢ ١١ ؛
١٩٧ ، ٥
mens
٥٨ ، ١٤٩ ١١ ؛
٢١٨ ، ١٩
intellectus
٧٢ ، ١٣ ١١ ؛
١٥١ ، ١٦
ذوق gustus
٧٤ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
١١
|
|
مذوق gustatum
٨٩ ، ٧٨ ؛ ٣١ ،
٧
ـ ر ـ
رؤيا somnium
٥٣ ، ١٢ ١١ ؛
١٥١ ، ٣
visus
٢٩ ، ٢١٢ ؛ ١٠٢
، ٣
رأى sententia
٩٦ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٣
مرآة speculum
٩٠ ، ٢١٦ ؛ ١٠٤
، ٥
مرئيات visibilia
٦٦ ، ٢٧٦ ؛ ١٣٦
، ١٥
مربية) virtus (augmentativa
٤٦ ، ١٠٦ ؛ ٤٦ ،
١٢
مرتبة ordo
١٢ ، ١٠٢ ؛ ٤١ ،
١٦
رجح praeponderare
٩٦ ، ١١٧ ١١ ؛
٢٠٣ ، ١٥
رحمة clementia
٢٠ ، ٣٧ ١١ ؛
١٦٣ ، ٥
رداءة militia
٨٣ ، ٧ ١١ ؛ ١٤٨
، ١
راسخ impressus
٣٠ ، ٢٥٦ ؛ ١٢٥
، ١٧
رسم descriptio
١٨ ، ٨٠ ؛ ٣٢ ،
١٢
رسول nuntius
٤٥ ، ٢١٤ ؛ ١٠٢
، ١١
رسوم descriptiones
٧٦ ، ٢٤٦ ؛ ١١٩
، ١٩
discretiones
٢٨ ، ١٤٧ ؛ ٦٥ ،
٢٠
رطوبة humiditas
٤ ، ٤١ ؛ ١٥ ، ٨
|
رطوبة جليدية humor crystallinus
٦٠ ، ٨٣ ؛ ٣٤ ،
٢
رعب terreri
٥٧ ، ٦٠ ١١ ؛
١٧٥ ، ٢
تركيب compositio
٨٠ ، ٨٥ ؛ ٣٤ ،
١٥
مركّب compositus
٢٤ ، ١٩ ؛ ٧ ، ١
أركان anguli
١٤ ، ١١١ ؛ ٤٨ ،
١٢
راحة quies
٨٢ ، ٣٤ ١١ ؛
١٦١ ، ١٧
رائحة odor
٧٢ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٩
روائح odores
٠٠ ، ١٢٥ ؛ ٥٥ ،
٢
أراد intendere
٣٩ ، ١٢ ؛ ٢ ، ٨
velle
١٨ ، ٨٠ ؛ ١٣ ،
١٢
إرادة velle
٤٨ ، ٨٩ ؛ ٣٦ ،
٢١
voluntas
٣ ، ٣٣ ؛ ١٢ ، ٢
إرادات voluptates
٢٠.n ، ٧٢ ؛ ٢٩ ، ٦
إرادى voluntarius
١٤ ، ١٠ ؛ ١ ،
١٠
روح spiritus
٤٢ ، ١٢٨ ؛ ٥٦ ،
٩
رويّة cogitare
٤٤ ، ٢٨ ؛ ١٠ ،
٧
cogitatio
٦٥ ، ٩٠ ؛ ٣٧ ،
٦٦
meditari
٦٤ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
١٤
رياضى disciplinalis
٦٢ ، ١٣ ؛ ٢ ،
٢١
|
|
ـ ز ـ
زمان tempus
٦٨ ، ١٦٣ ؛ ٧٤ ،
١٠
زاوية angulus
٩٤ ، ٢١٧ ؛ ١٠٤
، ٧
ـ س ـ
سبب causa
٨٣ ، ٣٩ ؛ ١٤ ،
١٢
سجية ... facies
٥٥.n ، ٦٠ ١١ ؛ ١٧٤ ، ١٨
سخونة ... calor
٦٠ ، ٢٦٤ ؛ ١٢٩
، ١٨
سرعة velocitas
١٣ ، ٩ ١١ ؛ ١٤٩
، ٣
سرمدى perennis
٧٣ ، ١٥٠ ١١ ؛
٢١٩ ، ٧
سرور gaudium
٢٦ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
١١
سطح superficies
٩٨ ، ٢١٧ ؛ ١٠٤
، ٩
ساكن quietes
٦٥ ، ٤٦ ؛ ١٦ ،
٢٣
سكون quies
٤٠ ، ٤٤ ؛ ١٦ ،
٥
سقيم falsus
٢٥ ، ٧٧ ١١ ؛
١٨٤ ، ٢١
سلب abstrahere
٠٠ ، ٢٥٤ ؛ ١٢٤
، ١٢
سلطان dominium
٤٥ ، ٥٩ ١١ ؛
١٧٤ ، ١٢
potentia
١٨ ، ٥٠ ١١ ؛
١٦٦ ، ١٥
تسليم
|
concedere
٤ ، ٢٢٣ ؛ ١٠٧ ،
١٢
credere
٢٠ ، ٢٤٩ ؛ ١٢١
، ٤
اسم nomen
٧٩ ، ١٥ ؛ ٥ ، ٨
تسمية appellatio
٣٢ ، ١٤٧ ؛ ٦٥ ،
٢٣
سمّى appellare
٨٧ ، ٢٤ ؛ ٨ ،
١٤
dicere
٨٧ ، ٦٢ ؛ ٢٤ ،
٦
imponere nomen
٧٨ ، ١٥ ؛ ٥ ، ٨
nominare
٩٣ ، ٩٢ ؛ ٣٨ ،
٧
vocare
* ٧٠ ، ١٤ ؛ ٥ ،
٣
اشتراك الاسم aequivoce
٦٣ ، ٩٠ ؛ ٣٧ ،
٨
سمع auditus
٦٣ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٤
سمع audire
٧٨ ، ١٣٠ ؛ ٥٧ ،
١٦
سماء coelum
٣٤ ، ٦٤ ١١ ؛
١٧٧ ، ٩
سوفسطائى sophisticus
٥٦ ، ١٦٩ ١١ ؛
٢٢٨ ، ٥٦
سياسة gubernatio
٩٠ ، ١٠١ ١١ ؛
١٦٦ ، ٢١
ـ ش ـ
شبح corpus
٣٩ ، ١٤٧ ؛ ٦٦ ،
٤
Effigies
١ ، ٢١٧ ؛ ١٠٤ ،
١١
forma
٢٤ ، ٢٤٣ ؛ ١١٨
، ٤
similitudo
٦٤ ، ٢٥٨ ؛ ١٢٦
، ٢٢
simulacrum
١٥ ، ٢١٨ ؛ ١٠٤
، ١٩
شبهة oppositio
٣٩ ، ٢١٩ ؛ ١٠٥
، ١٢
quaestiuncula
٨٥ ، ٢٥٣ ؛ ١٢٤
، ٢
|
|
شبيه similis
٣٦ ، ٨٢ ؛ ٣٣ ،
٧
similitudo
١٦ ، ٤٢ ؛ ١٥ ،
١٥
شبه similitudo
٥٦ ، ٥٤ ؛ ١٩ ،
١٦
مشابهة similitudo
٢٠ ، ١٠٤ ؛ ١٩ ،
١١
شخص pars
٣٦ ، ١٩٩ ؛ ٩٥ ،
٩
singularis
٢٦ ، ١٠٥ ؛ ٤٥ ،
١٦
singularitas
٤٤ ، ٦٧ ؛ ٢٦ ،
٦
شرّ malitia
١٠ ، ١١٨ ؛ ٥٢ ،
٧
شرف nobilitas
٥٩ ، ٢٦ ١١ ؛
١٥٩ ، ٢١
مشاركة convenentia
٢٥ ، ١١٩ ؛ ٥٢ ،
١٧
اشتراك aequivocatio
٥٩ ، ٢١ ؛ ٧ ،
٢٠
اشترك convenire
٩٠ ، ٣٢ ؛ ١١ ،
١٧
بالاشتراك aequivocatio
٥٩ ، ٢١ ؛ ٧ ،
٢٠
مشترك communis
٤١ ، ١٢ ؛ ٢ ، ٩
شرط causa
١ ، ٢٣٦ ؛ ١١٤ ،
١١
necessarium
٦٠ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
١٦
neccesitas
٣٢ ، ٢٣٨ ؛ ١١٥
، ١١
شعاع radius
٨ ، ١٧٠ ؛ ٧٩ ،
٥
شعاعيّة radiositas
٩٧ ، ١٨٤ ؛ ٨٦ ،
٤
|
شعر esse sensibile
٣٥.n ، ١٦١ ؛ ٧٣ ، ١٢
percipere
٣٣ ، ١١ ؛ ٢ ، ٣
cognoscere
١٩ ، ١٢٥ ١١ ؛
٢٠٧ ، ١٧
استشعار percipere
٢٢ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
٨
شفيف claritas
٨٧ ، ١٦٤ ؛ ٧٥ ،
٣
pervitas
٢٠ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
١٢
شفاف crystallinus
٢١ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
١٣
radiosus
٦٢ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٣
pervius
٩٠ ، ١٧٦ ؛ ٨١ ،
٢٠
translucens
٤٠ ، ١٧٢ ؛ ٨٠ ،
١١
شكّ dubitare
٥٤ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
١٢
شكّ dubitatio
٥٩ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٦
إشراق splendor
٤٦ ، ٢٠٧ ؛ ٦٦ ،
٧
شكل figura
٤٢ ، ٢٧ ؛ ١٠ ،
٥
مشاكلة similitudo
٣٠ ، ٨١ ؛ ٣٣ ،
٣
إشكال difficultas
٤ ، ٢١٧ ؛ ١٠٤ ،
١٣
شمّ odoratus
٦١ ، ١٤٩ ؛ ٦٦ ،
١٩
Olfactus
٦٩ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٨
شنيع absurdus
٧٣ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
٦
شهد videre
٧١ ، ١٤ ؛ ٥ ، ٥
شهوة
|
|
) virtus (concupscibilis
٠٠ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
١٠
شوق voluntas
٩٦ ، ٥٥ ١١ ؛
١٧٢ ، ١٣
Velle
٨٤ ، ٥٥ ١١ ؛
١٧٢ ، ٥
Desideriu
m
٦٨ ، ٤١ ١١ ؛
١٦٤ ، ١٤
شوقيّة) vis (desiderativa
٥٠ ، ٧٥ ؛ ٣٠ ،
٥
ـ ص ـ
صاحب auctor
٩٥ ، ١٠٩ ؛ ٤٨ ،
١
Dominus
١٤ ، ٢١٨ ؛ ١٠٤
، ١٨
صدر emanare
٧٦ ، ١٥ ؛ ٥ ، ٦
provenire
١٩ ، ٣٤ ؛ ١٢ ،
١٣
صدى tinnitus
٣٥ ، ١٥٤ ؛ ٧٠ ،
٥
صداقة amicitia
٩٢ ، ١٣٠ ١١ ؛
٢١٠ ، ٣
صادق verus
٤ ، ١٩٧ ؛ ٩٤ ،
٤
تصديق credere
٤٧ ، ٩٧ ؛ ٣٩ ،
٢٥
credulitas
٢٤ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
١٠
صلابة durities
٢٧ ، ١٣٤ ؛ ٥٩ ،
١٠
بحسب الاصطلاح ad placitum
٦٢ ، ٥ ١١ ؛ ١٤٧
، ٧
صقيل politus
٨٢ ، ١٨٣ ؛ ٨٥ ،
١٧
Tarsus
٦٢ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٤
مصلحة utilitas
٦٥ ، ٧٤ ١١ ؛
١٨٣ ، ٤
صناعة
|
ars
٣٤ ، ٩٦ ؛ ٣٩ ،
١٥
doctrina
١٢ ، ٢٥ ؛ ٩ ،
١٠
صانع eficiens
٩٨ ، ٦٣ ؛ ٢٤ ،
١٣
perficiens
٤٢ ، ٦٧ ؛ ٢٦ ،
٥
صواب rectitudo
٨٤ ، ١٤ ١١ ،
١٥٢ ، ٧
صماخ nervus
١٥ ، ١٥٩ ؛ ٧٢ ،
١٨
nervus opticus
٦٤.n ، ٨٤ ؛ ٣٤ ، ٤
nervus receptibilis soni
٨٧.n ، ١٥٨ ؛ ٧١ ، ٢١
cartilago
٦٣ ، ١٨١ ١١ ،
٢٣٥ ، ١٧
صوت sonitus
٥٠ ، ١٥٥ ؛ ٧٠ ،
١٢
تصوّر formare
١٦ ، ٩ ١١ ؛ ١٤٩
، ٣
formatio
٢٨ ، ٥٨ ١١ ؛
١٧٤ ، ١
informare
٢ ، ٤٩ ١١ ؛ ١٦٩
، ٥
intelligere
٤ ، ١٠٢ ١١ ؛
١٩٧ ، ٨
) virtus (formalis
٩٠ ، ١٧٧ ١١ ؛
٢٣٣ ، ٢١
صورة passim forma
المصورة) vis (informans
٢٣ ، ٨٨ ؛ ٣٦ ،
٢
تصوّر formare
٤٢ ، ٨٩ ؛ ٣٦ ،
١٦
informari
٤٤ ، ١٢١ ؛ ٥٣ ،
٩
ـ ض ـ
ضجر anxietas
٦٤ ، ٧٤ ١١ ؛
١٨٣ ، ٣
ضحك risus
٧٣ ، ٩١ ؛ ٣٧ ،
١٥
ضد contrarius
٧٩ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١١
|
|
مضادة contrarietas
٧٩ ، ٨٥ ؛ ٣٤ ،
١٥
تضاد contrarietas
٨٢ ، ٨٥ ؛ ٣٤ ،
١٧
ضار nocivus
٤٨ ، ٣٩ ١١ ؛
١٦٤ ، ١
nocumentum
٤١ ، ٣٩ ١١ ؛ ١٦٣
، ١٨
ضعف debilitas
٣٢ ، ٦٦ ؛ ٢٥ ،
١٥
remissio
٦٣ ، ٢٢٠ ؛ ١٠٦
، ٧
أضغاث أحلام Illusion
٢٨ ، ٢٥ ١١ ؛
١٥٧ ، ١
illusiones domniis
٢٨ ، ٣١ ١١ ؛
١٥٩ ، ٢٢
ضوء claritas
٢٨ ، ١٨٦ ؛ ٨٧ ،
٥
lumen
٣٦ ، ٧٤ ؛ ٢٩ ،
١٧
ـ ط ـ
طبع natura
٣٤ ، ٤٣ ؛ ١٦ ،
٢
طباع natura
٣٨ ، ٥٩ ؛ ٢٢ ،
١٤
انطباع impressio
١٥ ، ٢١٨ ؛ ١٠٤
، ١٩
طبيعيّات naturalia
٣ ، ٩ ؛ ١ ، ٢
انطبع formari
٦٠ ، ٨٣ ؛ ٣٤ ،
٢
imprimi
٧٣ ، ٩٩ ؛ ٤٠ ،
١٥
طعم gustus
٧٥ ، ١٢٣ ؛ ٥٤ ،
١١
sapor
٦٥ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٩
طعوم gustus
٣ ، ١٣٢ ؛ ٥٨ ،
١٤
|
مطلق absolute
٧٧ ، ٧٨ ؛ ٣٠ ، ٢٢
absolutus
٧٧ ، ٦٢ ؛ ٢٣ ،
١٩
ـ ظ ـ
ظلمة obscuritas
٦٩ ، ١٧٤ ؛ ٨١ ،
٥
tenebra
٦٤ ، ١٨٨ ؛ ٨٩ ،
٧
ظنّ dicere
١٢ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
٧
putare
٩٣ ، ٢٤ ؛ ٨ ،
١٨
ظنّ opinio
٥٦ ، ٦٧ ؛ ٢٧ ،
٤
ظهر apparere
٩٢ ، ٥٦ ؛ ٢٠ ،
١٩
patere
٤٢ ، ٢٥٧ ؛ ١٢٦
، ٦
ظواهر sensibilia
١ ، ١٦٦ ١١ ؛ ١٥
، ١٨
ظهور apparentia
٣٩ ، ١٦٨
evidentia
١٥ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
٨
manifestatio
١٣ ، ١٧٨ ؛ ٨٣ ،
٧
ostensio
١٣ ، ١٨٥ ؛ ٨٦ ،
١٤
ـ ع ـ
تعبير interpretatio
٣٠ ، ٢٥ ١١ ؛
١٥٧ ، ٤
significatio
١١ ، ٢٣ ١١ ؛
١٥٦ ، ١٤
تعجب admiratio
٦ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٨ ،
٨
عدم privatio
٥٨ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٥
عدِم annihilari
٩ ، ١٥٢ ؛ ٦٨ ،
١٠
destructus
٩٧ ، ١٣٢ ؛ ٥٨ ،
١٢
|
|
عدم
annihilatio
٣٥ ، ١٨٠ ؛ ٨٤ ،
٦
privatio
٥٨ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٥
عداوة inimicitia
٨٢ ، ٧ ١١ ؛ ١٤٨
، ١
عذوبة sapiditas
٩٣ ، ١٦٥ ؛ ٧٥ ،
٨
غرض accidere
٦٠ ، ٢٢ ؛ ٧ ،
٢١
عرض accidens
٨٢ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١٢
عرف cognoscere
٨٤ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١٤
intelligere
٧٣ ، ٢٥٨ ؛ ١٢٧
، ٧
Scire
٥٤ ، ٢٦ ؛ ٩ ،
٢٠
معرفة cognitio
٦ ، ٩ ؛ ١ ، ٥
scientia
٥١ ، ١٣ ؛ ٢ ،
٥١
scire
٩٩ ، ١٣٢ ؛ ٥٨ ،
١٣
تعسّف arrogantia
٤٠ ، ١٧٤ ١١ ؛
٢٣٢ ، ٥
عصب nervus
٦٣ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
٤
عصبة مجوفة nervus opticus
٥٩ ، ٨٣ ؛ ٣٤ ،
٢٣
عضلة musculus
٥٥ ، ٧٥ ؛ ٣٠ ،
٨
عضو membrum
٥٩ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
١٥
عفوصة ponticitas
٩ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٧
عقل عملى actio
٧٧.n ، ٩١ ؛ ٣٧ ، ١٨
|
عقّل intelligere
٥٤ ، ٩٧ ؛ ٤٠ ،
٤ عقل intellectus
٩٥ ، ٣٢ ؛ ١١ ،
٢٠
عقل مستفاد intellectus accomodatus
٦٩ ، ٩٨ ؛ ٤٠ ،
١٢
عقلى intelligibilis
٤ ، ٥٧ ؛ ٢١ ، ٦
عقل نظرى intellectus contemplans
٧٨ ، ٩١ ؛ ٣٧ ،
١٨
العقليّات) apprehensions (intelgibiles
٨٦ ، ٧٠ ؛ ٢٨ ،
٥
عقل قدسى intellectus sanctus
٤٠ ، ١٣٤ ١١ ؛
٢١٢ ، ٣
معقول) res (intellecta
١٣ ، ٥٧ ؛ ٢١ ،
١٢
) virtus (intellectiva
٥١ ، ٧٥ ؛ ٣٠ ،
٦
intelligibilis
١٣ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٦
معقولات intelligibilia
٩٦ ، ٢٩ ١١ ؛
١٥٩ ، ٣
res intelligibiles
٣٣ ، ١٢٦ ١١ ؛
٢٠٨ ، ٥
intelligibilia
٦٣ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
٩
المعقولات
الأولى per se nota
٤٦ ، ٩٦ ؛ ٣٩ ،
٢٣
prima intelligibilia
٤٧ ، ٩٧ ؛ ٣٩ ،
٢٤
انعكاس reverberatio
٤٨ ، ١٨٠ ؛ ٨٤ ،
١٤
منعكس repercussius
٢٣ ، ٢١٨ ؛ ١٠٥
، ٢
reverberatus
٢٠ ، ٢٣٧ ؛ ١١٥
، ٥
عكس reverberatio
٥٦ ، ٢٠٨ ؛ ٩٩ ،
١٤
علم cognoscere
٨ ، ١٠٣ ؛ ٤٥ ،
٤
|
|
intelligere
٧٠ ، ٢٢ ؛ ٨ ، ٤
scire
٨٦ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١٧
علم scientia
١٦ ، ١٠ ؛ ١ ،
١١
cognitio
١٩ ، ١٠ ؛ ١ ،
١٣
علاقة colligare
٩ ، ٥٧ ؛ ٢١ ،
١٠
colligatio
٨٨ ، ١٠٠ ؛ ٤١ ،
٤
comparatio
٣٤ ، ٢٣
debitum
٤ ، ٩٤ ؛ ٣٨ ،
١٥
habitus
٣ ، ٩٣ ؛ ٣٨ ،
١٤
obligatio
٨٥ ، ١٠٠ ؛ ٤١ ،
٢
معلول causatum
٦٨ ، ٢٢١ ؛ ١٠٦
، ١٠
علة causa
٣٢ ، ٥٨ ؛ ٢٢ ،
٩
أعمال actiones
٧٩ ، ٩١ ؛ ٣٧ ،
١٩
عام communis
٤ ، ٩ ؛ ١ ، ٤
generalis
٣٦ ، ١١٢ ؛ ٤٩ ،
٦
universalis
٩١ ، ٦٢ ؛ ٢٤ ،
٩
عناصر elementa
١٤ ، ١٠ ؛ ١ ،
١٠
معنى intellectus
١٣ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٦
intentio
٣٣ ، ١١ ؛ ٢ ، ٤
معانى intentiones
٨٩ ، ٨٥ ؛ ٣٥ ،
٢
عين oculus
٨٧ ، ٧٨ ؛ ٣١ ،
٥
(موجود) فى
الأعيان
) esse (sensibile
٧٤ ، ٦١ ؛ ٢٣ ،
١٧
معين
|
designatus
٣١ ، ٧٣ ؛ ٢٩ ،
١٤
ـ غ ـ
غذاء nutrimentum
٨٩ ، ٤٠ ؛ ١٤ ،
١٦
الغاذية) vis (nutritiva
٢٩ ، ٨١ ؛ ٣٣ ،
٧
غريزة natura
٩٨.n ، ٢٢ ١١ ؛ ١٥٦ ، ١
غريزى naturalis
٢١ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
١٨
غرض intentio
٦٥ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
١٠
propositio
١ ، ٢٧٢ ؛ ١٣٤ ،
١٦
غضب ira
٨٥ ، ٣٤ ١١ ؛
١٦١ ، ١٩
) virtus (iracibilis
١ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
١٠
غفول esse negligens
٧٦ ، ١٣ ١١ ؛
١٥٢ ، ١
غلط Error
٩٨ ، ١٠٩ ؛ ٤٨ ،
٣
غم dolor
٢٦ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ، ١١
غيب absentia
٦٩ ، ٢٧ ١١ ؛
١٥٨ ، ٦
غاية Finis
٣٢ ، ٥٨ ١١ ؛
١٧٤ ، ٣
مغيرات permutantia
١٩ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
٧
تغاير alteritas
٤٤ ، ٦٧ ؛ ٢٦ ،
٦
ـ ف ـ
فرح gaudium
٢٩ ، ٦٦ ؛ ٢٥ ،
١٤
|
|
انفراد esse solum) per se
(٣٧ ، ٢٠٠ ؛ ٩٥
، ١٣
مفرد per se
٩ ، ١٩٧ ؛ ٩٤ ،
٧
Separatism
٦٠ ، ٢٣٣ ؛ ١١٢
، ٦
singuli
٤٣ ، ٢٨٠ ؛ ١٣٩
، ٣
solitarius
٨٥ ، ٣١
solus
١ ، ١٩٠ ؛ ٩٠ ،
١٠
فرض ponere
٦٧ ، ٤٦ ١١ ؛
١٦٨ ، ١
assignare
١٢ ، ٩٠ ١١ ؛
١٩١ ، ٨
تفريع ramificare
١ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
٥
فرق differentia
٢٢ ، ٨١ ؛ ٣٢ ،
١٥
فرقة secta
٣١ ، ١٥٤ ١١ ؛
٢٢١ ، ١٠
تفرق divisio
٨ ، ٢٠٥ ؛ ٩٨ ،
١
dispersio
١١ ، ٢٠٥ ؛ ٩٨ ،
٢
solutio
٥٤ ، ١٣٥ ؛ ٦٠ ،
٧
تفرق الاتصال solutio continuationis
٥٤ ، ١٣٥ ؛ ٦٠ ،
٧
مفارق separatus
٥ ، ٨٩ ١١ ؛ ١٩١
، ٤
مفارقة separatio
٥٧ ، ٦٠ ؛ ٢٣ ،
٧
فرقان differentia
٩٧ ، ٧٩ ؛ ٣١ ،
١٢
فساد corruptio
٩ ، ٩ ؛ ١ ، ٧
destructio
٣ ، ٥٧ ؛ ٢١ ، ٦
تفصيل distinctio
٧٤ ، ٦٧ ١١ ؛
١٧٨ ، ١١
|
divisio
٦٨ ، ١٣ ١١ ؛
١٥١ ، ١٣
فاض emanans
١٧ ، ١٧١ ؛ ٧٩ ،
١١
procedere
٤٧ ، ٢٥٧ ؛ ١٢٦
، ٩
فضيلة nobilitas
١٥ ، ٧٠ ١١ ؛
١٨١ ، ١٠
فطن percipere
٨٦ ، ٢٦٥ ؛ ١٣٠
، ١٤
فطنة ingenium
١٠ ، ١٦٧ ١١ ؛
٢٢٧ ، ٢
انفعل affici
٧٢ ، ٧٢ ؛ ٣٠٠ ،
١٨
pati
٧٩ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١١
فعالة) anima (agens
٤٢ ، ١٥٥ ١١ ؛
٢٢١ ، ١٧
فعال agens
٢٧ ، ١٢٦ ١١ ؛
٢٠٨ ، ٢
أفعال actiones
١٠ ، ٩ ؛ ١ ، ٧
affectiones
٤٧ خ ١٢ ؛ ٢ ،
١٣
opera
٦٠ ، ٢٩ ؛ ١٠ ،
١٩
منفعل passibilis
٨٩ ، ٩٢ ؛ ٣٨ ،
٥
patiens
٣٢ ، ٢٤٣ ؛ ١١٨
، ٩
passivus
٨ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
٩
بالفعل in actu
٩٢ ، ١٧ ؛ ٦ ، ١
فعل actio
٥ ، ١٨ ؛ ٦ ، ٩
فعل agere
١٤ ، ٨٠ ؛ ٣٢ ،
١٠
Facere
٤٦ ، ١٢
efficere
٦ ، ٦٤ ؛ ٢٤ ،
١٩
operari
٦٦ ، ٣٠ ؛ ١٠ ،
٢٢
|
|
مفكرة) virtus (cogitationis
٨٢ ، ٢٧١ ؛ ١٣٤
، ٤
فكر cogitatio
٧١ ، ١٣ ١١ ؛
١٥١ ، ١٥
sollicitudo
٣٨ ، ٣٢ ١١ ؛
١٦٠ ، ٥
فلكى) anima (coeli
٦٥ ، ٢٩ ؛ ١٠ ،
٢٢
فن liber
٤ ، ٩ ؛ ١ ، ٣
فنطاسيا fantasia
٩٩ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
٩
فهم cognoscere
٣٧ ، ٢٧ ؛ ١٠ ،
٢
intelligere
٧٤ ، ٢٣ ؛ ٨ ، ٦
مستفاد accomodatus
٧٤ ، ٩٩ ؛ ٤٠ ،
١٧
acquisitus
٥٧ ، ٢٨٠ ؛ ١٣٩
، ١٢
العقل المستفاد intellectus accomodatus
٦٩ ، ٩٨ ؛ ٤٠ ،
١٢
فيض emanatio
٤٩ ، ١٢٧ ١١ ؛
٢٠٨ ، ١٤
ـ ق ـ
قباضة) virtus (constrictionis
٨٦ ، ٢٠٩ ؛ ١٠٠
، ١٤
قابل receptibilis
٣٦ خ ٧٤ ؛ ٢٩ ،
١٨
recipiens
٧٧ خ ٧٨ ؛ ٣٠ ،
٢٢
مقابل oppositius
٤٩ ، ٦٠ ؛ ٢٣ ،
١
قدر dimensio
٦١ ، ٢٢٦ ؛ ١٠٦
، ٤
mensura
٨٢ ، ٢٦٥ ؛ ١٣٠
، ١١
modus
٥٢ ، ٩٧ ؛ ٤٠ ،
٣
|
مقدار dimensio
٦٨ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٣
magnitudo
١٣ ، ٢٣٠ ؛ ١١٠
، ١٦
mensura
٣٦ ، ١٠٥ ؛ ٤٦ ،
٦
moles
٣٧ ، ٢٣١ ؛ ١١١
، ١٠
quantitates
٥٢ ، ٢٣٢ ؛ ١١٢
، ١
quantum
٩ ، ٨٠ ؛ ٣٢ ، ٧
استقراء inductio
٩٧ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٨
، ٢
قدسى sanctus
٤٠ ، ١٣٤ ١١ ؛
٢١٢ ، ٣
مقدمة propositio
٨١ ، ٩٢ ؛ ٣٧ ،
٢
تقدم prioritas
١٠ ، ١١٨ ١١ ؛
٢٠٤ ، ٧
prius
٤ ، ١٣١ ١١ ؛
٢١٠ ، ١٠
قديم aeternus
٧٦ ، ١٠٧ ١١ ؛
١٩٩ ، ١٢
قرع percussio
٤١ ، ١٥٥ ؛ ٧٠ ،
٩
مقارن adjunctus
٤٢ ، ١١٣ ؛ ٤٩ ،
٩
conjunctus
٥١ ، ٢٨٠ ؛ ٣٩ ،
٩
قصد appetere
٣٣ ، ٩٥ ؛ ٣٩ ،
١٤
قصم abstractio
٩٣ ، ١١٧ ؛ ١٥ ،
١٧
قلب animus
٥٦ ، ٣٧ ؛ ١٣ ،
١٣
cor
١٩ ، ١٣٩ ؛ ٦٢ ،
٥
قوام constitutio
٩٠ ، ١٦
essentia
٢٥ ، ١٤٠ ؛ ٦٢ ،
١٤
existentia
٤٥ ، ٢٥٠ ؛ ١٢٢
، ١
) causa (perficiendi
٦٣ ، ٦٠ ؛ ٢٣ ،
١٢
|
|
قوة passim potentia
virtus
قوى vires
٢٩ ، ١١ ؛ ٢ ، ٢
virtutes
٨٤ ، ٩٢ ؛ ٣٨ ،
١
ـ ك ـ
كثرة multiplicitas
٨٧ ، ٣٢ ؛ ١١ ،
١٥
multitudo
٧٤ ، ٢٣٤ ؛ ١١٢
، ٧
تكاثف constrictio
٨١ ، ١٦٤ ؛ ٧٤ ،
١٨
كثافة spissitudo
٥٧ ، ١٧٥ ١١ ؛
٢٣٢ ، ١٥
كذب mentiri
٨٢ ، ٢٠٩ ؛ ١٠٠
، ١٢
كراهية odium
٢٣ ، ٦٥ ؛ ٢٥ ،
٩
مستكره turpis
٩٣ ، ٥٥ ١١ ؛
١٧٢ ، ١١
مكتسب adeptus
٥٧ ، ٩٨ ؛ ٤٠ ،
٦
كل totus
٩٦ ، ٥٥ ؛ ٢١ ،
٢
كلام verbum
٩٥ ، ٤٩ ١١ ؛
١٦٦ ، ١
كلى communis
٧٩ ، ٦٩ ؛ ٢٨ ،
١
generalis
٥١ ، ١١٤ ؛ ٥٠ ،
٣
universalis
٧٦ ، ٦١ ؛ ٢٣ ،
١٨
الأمور الكلية universalia
١٥ ، ٨٠ ؛ ٣٢ ،
١١
كمية
|
quantitas
٧٨ ، ٢٣٤ ؛ ١١٢
، ٨
كمال perfectio
١٠ ، ١٨ ؛ ٦ ،
١٣
كامن occultus
٢٣ ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ،
١٧
كوكب stella
٨١ ، ٣١ ؛ ١١ ،
١٠
كيف qualitas
٨٥ ، ٧٨ ؛ ٣١ ،
٤
كيفية qualitas
١٠ ، ٩ ؛ ١ ، ٨
ـ ل ـ
ملاحظة) virtus (inspiciendi
٤٧ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
٧
لواحق accidentia
٨٠ ، ١١٦ ؛ ٥١ ،
٧
appendicia
٦١ ، ١١٥ ؛ ٥٠ ،
٧
لذة delectatio
٧٣ ، ١٥٠ ١١ ؛
٢١٩ ، ٧
delectamentum
١٧ ، ٥٧ ١١ ؛
١٧٣ ، ١١
deliciae
٤٠ ، ٣٩ ١١ ؛
١٦٣ ، ١٨
voluptas
٥٧ ، ١٣٦ ؛ ٦٠ ،
٩
لزوجة viscositas
٢٧ ، ١٣٤ ؛ ٥٩ ،
١
لسان lingua
٨٧ ، ٧٨ ؛ ٣١ ،
٦
لطيف subtilis
٦٦ ، ١٥١ ؛ ٦٧ ،
١٧
tenuis
٤٠ ، ٢٥٦ ؛ ١٢٦
، ٥
لعابى) humor (salivae
٨٠ ، ١٤٣ ؛ ٦٤ ،
٥
ملاقاة ocurrere
٩٠ ، ١٥١ ؛ ٦٧ ،
١٩
offensio
٩٩ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٨
، ٤
|
|
لمس tactus
٧٧ ، ٨٤ ؛ ٣٤ ،
١٤
ملموسات tacta
٢٧ ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ،
١٩
لمعان lumen
١٩ ، ١٨٥ ؛ ٨٦ ،
١٨
splendor
٢٩ ، ١٨٦ ؛ ٨٧ ،
٥
لون passim color
إلهام instinctus insitus
٥٥ ، ٧٣ ١١ ؛
١٨٢ ، ١٩
instinctus naturae
٩٥ ، ٧٥ ؛ ١٨٤ ،
١
إلهامات cautelae
٢٨ ، ٣٨ ١١ ؛
١٦١ ، ١٠
cautela
٢٠ ، ٣٧ ١١ ؛
١٦٢ ، ٥
ملونات colorata
٨٧ ، ١٨٣ ؛ ٨٥ ،
٢
لين mollities
٢٧ ، ١٣٤ ؛ ٥٦ ،
١٠
ـ م ـ
مبدأ primum
٩١ ، ٢٦٠ ؛ ١٢٧
، ٢٠
principium
٧٧ ، ١٥ ؛ ٥ ، ٧
مثل similitudo
٢٦ ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ،
١٩
مادة materia
١٩ ، ١٠ ؛ ١ ،
١٣
مذعور timidus
٥٧ ، ٦٠ ١١ ؛
١٧٥ ، ١
مرارة amaritudo
٨ ، ١٤٥ ؛ ٦٥ ،
٧
مرض infirmitas
٢٣ ، ٦٤ ١١ ؛
١٧٧ ، ٢
|
aegritudo
٦٢ ، ٦٠ ١١ ؛
١٧٥ ، ٥
مزاج complexio
٢٥ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
١٢
commixtio
٣١ ، ١٩٢ ؛ ٩١ ،
١٢
مماسة contactus
٤٩ ، ٢٨٠ ؛ ١٣٩
، ٧
tactus
٤ ، ١٣٨ ؛ ٦١ ،
١٤
مماسات tangentia
٥ ، ١٣٨ ؛ ٦١ ،
١٥
تماسك retentio
١٠ ، ١١٠ ؛ ٤٨ ،
١٠
مقلة oculus
٢٨ ، ١٥٤ ؛ ٦٩ ،
٤
ملاسة lenitas
٦٩ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٤
ملكة habitus
٥٩ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٥
ملال mutabilitas
٢٩ ، ٩٧ ١١ ؛
١٩٥ ، ٢
ماهية quid sit
٨٤ ، ١٦ ؛ ٥ ،
١٤
essentia
٩٤ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
١
substantia
٦٢ ، ١١٥ ؛ ٥٠ ،
١٠
غير مائت immortalis
٨١ ، ٣٩ ؛ ١٤ ،
١٠
ميز cognoscere
٦٦ ، ٢٣٩ ؛ ١١٦
، ١٢
Sentire
٤٣ ، ١٩٣ ؛ ٦٢ ،
١
ميل inclinatio
٤٨ ، ١٣٥ ؛ ٦٠ ،
٣
ـ ن ـ
نبات vegetabile, vegetabilia
١٧ ، ١٠ ؛ ١ ،
١١
|
|
نباتية) virtus (animativa
١٢.n ، ١١٠ ؛ ٤٨ ، ١٠
vegetabilitas
٣٢ ، ١١٢ ؛ ٤٩ ،
٢
) vis (vegetandi
٥ ، ٦٤ ؛ ٢٤ ،
١٧
نبى propheta
٦٤ ، ٦٦ ١١ ؛
١٧٨ ، ٥
نبوة prophetia
٦١ ، ١٩ ١١ ؛
١٥٤ ، ٢٠
تنبيه excitare
٤٤ ، ١٨ ١١ ؛
١٥٤ ، ١٠
استنباط adinvenire
٦٤ ، ٧٦ ؛ ٣٠ ،
١٤
نحى appetere
٦٥ ، ١٠٧ ؛ ٤٧ ،
٢
نخاع spina
٦٨ ، ١٨١ ١١ ؛
٢٣٥ ، ٢١
nucha
٧٩ ، ١٨٢ ١١ ؛
٢٣٦ ، ٣
نزع abstrahere
٨٥ ، ١١٦ ؛ ٥١ ،
١٠
نزع abstractio
٥٩ ، ١١٤ ؛ ٥٠ ،
٦
نزوعية vis vel virtus appetitiva
٤٤ ، ٨٢ ؛ ٣٣ ،
١١
نسبة comparatio
٣٦ ، ١٢ ؛ ٢ ، ٦
متناسب proportionalis
٣٣ ، ٨٢ ؛ ٣٣ ،
٥
تناسخ transferri
٤٥ ، ١١٣ ١١ ؛
٢٠٢ ، ٢
استنشاق attractio
٢٤ ، ٤٣ ؛ ١٥ ،
٢٠
olfacere
٢٤ ، ١٤٦ ؛ ٦٥ ،
١٨
نطق rationalitas
٩٤ ، ٣٢ ؛ ١١ ،
١٩
|
نقطة punctum
٤٨ ، ٥٣ ؛ ١٩ ،
١٥
منطق ars logica
١٢ ، ٢٥ ؛ ٩ ،
١٠
نظر considerare
١ ، ٢٥ ؛ ٩ ، ٣
inspicere
٠٠ ، ٤٩ ؛ ١٨ ،
٤
نظر considerare
١٦ ، ١٠ ؛ ١ ،
١١
consideratio
٨٦ ، ٢٦٥ ؛ ١٣٠
، ١٤
inspicere
٩٩ ، ٢٧٧ ؛ ١٣٧
، ١٥
tractare de
٦١ ، ١٣ ؛ ٢ ،
١٩
videre
٧٧ ، ٢٣ ؛ ٨ ، ٨
tractatus
٣٤ ، ١١ ؛ ٢ ، ٤
نظام ordo
١١ ، ٧٠ ١١ ؛
١٨١ ، ٨
ordinatio
٩٣ ، ١٣٨ ١١ ؛
٢١٣ ، ٢٠
(عقل) نظرى intellectus contemplans
٧٨ ، ٩١ ؛ ٣٧ ،
١٨
intellectus contemplativus
٧٥ ، ٩٩ ؛ ٤٠ ،
١٧
(قوة) نظرية perfectio contemplativa
٣٧.n ، ٩٦ ؛ ٣٩ ، ١٧
virtus contemplativa
٦ ، ٩٤ ؛ ٣٨ ،
١٦
نافذ) virtus (penetrabilitat is
٨٦ ، ٢٠٩ ؛ ١٠٠
، ١٤
نفس passim anima
mens
٣٨ ، ٢٧ ؛ ١٠ ،
٣
نفسى animalitas
٣٣.n ، ٥٢ ؛ ١٩ ، ٤
نفسانى animalis
٢٩ ، ١١ ؛ ٢ ، ٢
النقيض contradictoria
٦٠ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٧
|
|
نما augmentare
٦٩ ، ١٧٠ ١١ ؛
٢٢٩ ، ٣
نامية) virtus (augmentativa
٥ ، ١٠١ ؛ ٤١ ،
١٢
) virtus (vegetabilis
٢٢. ٦٥ ؛ ٢٥ ، ٨
نور lumen
٢٢ ، ١٧١ ؛ ٧٩ ،
١٥
نوع species
٣٠ ، ١١ ؛ ٢ ، ٢
٢
modus
٣٩ ، ٧٤ ؛ ٢٩ ،
٢٠
نوم somnus
٥٣ ، ١٢ ١١ ؛
١٥١ ، ٣
نوم ويقظة somnus et vigiliae
٥٣ ، ١٢ ١١ ؛
١٥١ ، ٣
ـ ه ـ
هباء ، هبئات atomi
٩١ ، ٤٠ ؛ ١٤ ،
١٧
همّ appetere
١٩ ، ٢ ١١ ؛ ١٤٥
، ١٢
همّ sollicitudo
٦٨ ، ٦١ ١١ ؛
١٧٥ ، ٩
هيئة affectio
٨٥ ، ٢٣ ؛ ٨ ،
١٢
modus
٣٤ ، ٢١٢ ؛ ١٠٢
: ٦
هيولى hyle
٤٨ ، ٦٧ ؛ ٢٦ ،
١٠
materia
١٧ ، ٢٦ ؛ ٩ ،
١٤
ـ و ـ
واردات accidentia
٣٠ ، ١٤٠ ؛ ٦٢ ،
١٢
وتر corda
٧٨ ، ١٨٢ ١١ ؛
٢٣٦ ، ٣
|
توحيد adunatio
٧٠ ، ١٢٨ ١١ ؛
٢٠٩ ، ١١
وحدة unitas
٣٧ ، ٩١ ١١ ؛
١٩٢ ، ٣
توسط temperentia
٠٠ ، ١٧٢ ١١ ؛
٢٣٠ ، ٤
واسطة medium
٨٦ ، ٥٥ ؛ ٢٠ ،
١٦
متوسط medius
٤٠ ، ٧٢ ١١ ؛
١٨٢ ، ١٠
موافقة concordia
٨٤ ، ٧ ١١ ؛ ١٤٨
، ٢
اتصال conjunctio
٧٣ ، ٩٩ ؛ ٤٠ ،
١٥
continuitas
٥٤ ، ١٣٥ ؛ ٦٠ ،
٧
وضع situs
٢٩ ، ٥٢ ؛ ١٩ ،
١
positio
٦٨ ، ٥٤ ؛ ٢٠ ،
٣
موضع locus
٨١ ، ٢٣ ؛ ٨ ،
١١
|
|
موضوع subjectum
٩٣ ، ١٧ ؛ ٦ ، ٢
وهم aestimatio
٨٩ ، ١٠٠ ؛ ٤١ ،
٤
وهمية) virtus (aestimationis
٤٨ ، ٨٩ ؛ ٣٦ ،
٢١
توهم cogitare
٨ ، ١٥٢ ؛ ٦٨ ،
٩
Putare
٤٩ ، ٣٦ ؛ ١٣ ،
٩
متوهمة) virtus (aestimationis
٨٥ ، ٢٧١ ؛ ١٣٤
، ٦
ـ ى ـ
يبوسة siccitas
١٤ ، ١٠٢ ؛ ٤١ ،
١٧
يقظة vigilia
٢٥ ، ٣١ ١١ ؛
١٥٩ ، ١٩
يقين certitudo
٥٧ ، ٦٨ ؛ ٢٧ ،
٢
|













|