بسم الله الرحمن الرحيم

الْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً

صَدَقَ اللهُ العَليُ العظيم

الله أكبر على إكمال الدين ،

وإتمام النعمة ، ورضى الرب

برسالتي والولاية لعلي من بعدي

صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم



الاهداء

إلى سيدي ومولاي إمام الثقلين ،

ويعسوب الدين ، ومولى المؤمنين ، الذي

فرض الله تعالى ولايته يوم الغدير ، فأكمل

بها الدين ، وأتم بها النعمة على المؤمنين ،

صنو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزوج البتول ، وأبي

السبطين عليهما‌السلام، أمير المؤمنين علي بن أبي

طالب عليه‌السلام ، اُقدم هذا الجهد المتواضع ، راجياً

منه أن يتفضل علي بالقبول.



مقدمة تفضل بها سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلّامة المجاهد

الشيخ علي الكوراني مشكوراً

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين لا سيما أولهم صاحب بيعة يوم الغدير علي أمير المؤمنين وسيد الوصيّين.

وبعد ، فإن زيارة الغدير نصُّ معصومٍ ، من إنشاء الإمام علي الهادي عليه‌السلام ، زار بها جدَّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عندما أجبره المعتصم على ترك المدينة النبوية ، وفرض عليه الحضور إلى سامراء ليكون تحت الإقامة الجبرية! فأقنع الإمام عليه‌السلام سرية الجيش التي رافقته أن يجعلوا طريقة على النجف ، فكان يوم الغدير عند قبر جده عليه‌السلام وزاره بهذه الزيارة البليغة ، فكتبها وأعطاها إلى المسلمين ، أو ألقاها فكتبها عنه أصحابه!

ولا يبعد أن يكون ذلك في سنة ٢٢٥ ، أي بعد خمس سنوات من إحضار المعتصم لأبيه الإمام محمد الجواد عليه‌السلام إلى بغداد سنة ٢٢٠ ، وقَتْله إيّاه! وقبل سنتين من هلاك المعتصم سنة ٢٢٧ ، وقد بقي الإمام الهادي عليه‌السلام في سامراء بإجبار الخلفاء الذين عاصرهم بعد المعتصم ، وهم الواثق ، وخلافته من سنة ٢٢٧ ـ ٢٣٢ ،


والمتوكل من سنة ٢٣٢ ـ ٢٤٧ ، والمنتصر ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، والمستعين ٢٤٨ ـ ٢٥٢ ، والمعتز ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ، وهو الذي أقدم على جريمة قتل الإمام الهادي عليه‌السلام سنة ٢٥٤.

في ذلك الجو قام الإمام الهادي عليه‌السلام بهذا العمل ، وصدر عنه هذا الكلام ، فهو من هذه الجهة يدل على تحديه عليه‌السلام للسلطة وصدعه بالحق رغم الخطر.

ويدل من جهة أخرى ، على إصراره عليه‌السلام على تقديم مكانة أمير المؤمنين عليه‌السلام الربّانية في الإسلام ، بصفته أوّل العترة النبوية الذين هم منظومة إمامة وقيادة ، اختارها الله تعالى رغم رفض قريش له ، وبنى عليها عزوجل خطته لإظهار الإسلام على الدين كله.

وتتكامل صورة زيارة الأمير يوم الغدير ، عندما تعرف اَنَّ زيارة الجامعة الكبيرة صدرت أيضاً من الإمام الهادي عليه‌السلام وهو في سامراء ، فأملاها على موسى بن عمران النخعي رحمه‌الله عندما قال له : (علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم ، فقال : «إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل ، فإذا دخلت ورأيت القبر فقف وقل : الله أكبر ثلاثين مرة ، ثم امش قليلاً وعليك السكينة والوقار وقارب بين خطاك ، ثم قف وكبر الله عزوجل ثلاثين مرة ، ثم ادْنُ من القبر وكبر الاله أربعين مرة تمام مثة تكبيرة ، ثم قل : السلام عليك يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزان العلم ... الخ».

والزيارة الجامعة كزيارة الغدير نَصٌّ معصومٌ ، في نحو عشر صفحات ، يزور بها الشيعة أئمتهم عليهم‌السلام فيتلونها في مشاهدهم ، كما يتلونها في مساجدهم وحسينياتهم وبيوتهم.

ونظراً إلى هذا الغنى الفكري والأصالة العقائدية في هذين النصين ، نجد أنهما


يحتاجان إلى دراسة متعمقة ومفصلة. وقد أَنِست بهذا الكتاب من النجف الأشرف لمؤلفه فضيلة الأستاذ السيد عبد المطلب الموسوي دامت بركاته من أسرة السادة الخرسان المعروفة بولائها وعلمائها ، لأنّه يساهم في إحياء زيارة الغدير ونشر مفاهيمها ، وشرح جواهرها ومضامينها.

وقد ركز فيه المؤلف على توثيق مطالب الزيارة من القرآن والسنة والسيرة ، وهو جنب مهم من الشرح ، يفتح الباب لجوانب أخرى تركز على عمق ألفاظها وأبعاد معانيها وظلالها ، وتركز على مضامينها العقدية ، أو على مطالبها العرفانية.

ولعل بعض المخالفين يرى في بعض فقراتها غلواً في أمير المؤمنين عليه‌السلام أو تنقيصاً لحق الآخرين ، ولكنَّه تصورٌ خاطئ ، لأن كل مضامينها عين الحق ، صدرت من منبع الحق إلى من قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّه مع الحق والحق معه ، لا يفتقرقان ولا يختلفان.

وقد سألني بعضهم عن قوله عليه‌السلام : (أشهد يا أمير المؤمنين أَنَّ الشاك فيك ما آمن بالرسول الأمين ، وأن العادل بك غيرك عادل عن الدين القويم الذي ارتضاه لنا ربّ العالمين ، فأكمله بولايتك يوم الغدير). فأجبته بأن الخطاب متوجه إلى من عاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلياً عليه‌السلام ، فقد كانت الأدلة ومبررات الموضوعية للتصديق في علي عليه‌السلام كافية لحصول الإيمان واليقين ، كالأدلة التي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن لم يؤمن بهذه لم يؤمن بتلك ، وإن ادعى أنّه يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون علي عليه‌السلام فهو يُفرِّق بين موضوعين متساويين في الأدلة!

بل يمكن القول إن علياً عليه‌السلام من أكبر أدلة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق دعواه ، فالشك فيه في الحقيقة شك في المدلول. وتعميم ذلك إلى كل من تمت له مبررات التصديق في أي عصر.


كما أنَّ قوله عليه‌السلام : (وأن العادل بك غيرك عادل عن الدين القويم) يمكن تفسيره بأهل عصره الذين تمّت لهم وسائل الإثبات وحقت عليهم حجته ، ثم تعميمه إلى كل من هو مثلهم في كل عصر.

صلوات الله على الإمام الهادي صاحب هذه الدرر السماوية ، وعلى أمير المؤمنين عليه‌السلام صاحب الأوسمة الربانية ، وجزى الله المؤلف الفاضل خير الجزاء ، ونفع بكتابه ، ووفقه للمزيد من خدمة أهل البيت الطاهرين ، ونصوصهم البليغة المقدسة عليهم‌السلام

حرره بقم المشرفة

علي الكوراني العاملي

غرة ربيع الثاني ١٤٢٧


مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فأكمل لنا بها الدين ، وأتمَّ علينا بها النعمة ، ورضي لنا الإسلام بها ديناً ، والصلاة والسلام على من أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، محمد وأهل بيته الغرر الميامين ، سادات الخلق أجمعين.

يوم الغدير :

يوم مشهود في تاريخ الإسلام ، عزَّ نظيره في سائر الأيام ، فهو يوم من أيام الله .. اليوم الذي بَلّغ فيه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً خطيراً يتوقف عليه تبليغ رسالته ، فولاية الإمام علي عليه‌السلام ركن أساس ، يكمِّل تبليغه تبليغ الرسالة ، لذا كان التبليغ بالولاية حجة على جميع المسلمين سواء في ذلك : من حضر منهم وسمع التبليغ بها ، ومن لم يحضر ؛ لأنَّ النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألزم الحاضرين بتبليغ مَن لم يشهد ذلك الموقف.

إنَّه يوم عيد كبير للمسلمين ، وكيف لا يكون كذلك وقد أكمل الله عزوجل فيه الدين لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأتم النعمة عليهم ، ورضي لهم الإسلام دينا؟! وقد التزم أهل البيت عليهم‌السلام ، وشيعتهم بالاحتفاء بهذا اليوم الأغر وتقديسه ، ومن أهم مظاهر الإحتفاء عندهم : زيارة المرقد الطاهر للإمام علي عليه‌السلام ، وتجديد العهد والبيعة له بمناسبة تنصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه إماماً وهادياً وولياً للمؤمنين ، أولى بهم من أنفسهم.

وقد رُويت لهذه المناسبة الغراء زيارات عديدة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لعل


أهمَّ هذه الزيارات وأشهرها : الزيارة المروية عن الإمام علي الهادي عليه‌السلام ، حيث حوت ـ على وجازتها ـ الكثير من فضائل الإمام علي عليه‌السلام ومآثره ، ومواقفه المشرفة من أجل رفع راية الإسلام ، ونشر دعوته ، والمحافظ عليها ، وصيانتها من أيدي المنحرفين والمنافقين.

أجل ، جاء في الزيارة حشد من مآثر هذا الإمام الطاهر عليه‌السلام ، وبعبارات وجيزة ، تحمل في طيّاتها معانٍ كبيرة جداً ، لذا رأيت أن أبذل ـ مستعيناً بالله عزوجل ـ ما أملك م جهد متواضع في وضع شرح لهذه الزيارة ، يبيِّن ويوضِّح ما جاء فيها ، معتمداً في ذلك على ما جاء في كتب إخواننا السنة المعتبرة لديهم في التفسير والحديث ، داعماً ما يحتاج إلى الإستدلال بالأدلة الواضحة.

ومنهجي في هذا الشرح يتلخص بما يأتي :

التمهيد بموضوعات تتضمن : فكرة عن حجة الوداع ، وعلاقتها بغدير خم وما جرى فيه ، ونص الخطبة المباركة ، ثمَّ التعليق عليها بما يناسب هذا الموجز ، ونقل سند الزيارة ونصها ، كما روته أوثق المصادر وأصحها.

أمّا الشرح فيعتمد على تقسيم الزيارة إلى جمل ، أو فقرات ، أضع لكلٍّ منها عنواناً يتناسب مع مضمونها ، وبما أنَّ الزيارة تتضمن عبارات متكررة ، فإنّي أشرح العبارة في المرّة الأولى لورودها ، وأشير عند تكرارها إلى موضع شرحها السابق ، وإن اقتضى الأمر إضافة شيء جديد لما تقدم أضفته ، ومن الله عزوجل أستمد العون ، وأسأله التسديد في البحث ، راجياً منه القبول والرضوان ، إنَّه سميع مجيب ، وله الحمد أولاً وآخراً.

السيد عبد المطلب الموسوي الخرسان

الجمعة ٢٠ / ١٢ / ١٤٠٥ هـ

المصادف ٦ / ٩ / ١٩٨٥ م


تمهيد

يوم الغدير وحجّة الوداع (١) :

خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة المنورة متوجهاً إلى الحج ، وخرج معه أهل بيته عليهم‌السلام ، والمهاجرون ، والأنصار ، وجمهور من قبائل العرب ، وهي الحجة الوحيدة التي أداها بعد الهجرة ، وقد سميت حجة الوداع ؛ لأنَّها كانت قبيل وفاته في السنة العاشرة للهجرة ، وكان قد أعلم الناس بقرب أجله ، ودعاهم للحج معه ، ليعلِّمهم مناسك الحج ، وأحكامه ، ويبلغهم أحكام دينهم.

قُدِّر عدد من خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة المنورة بين تسعين ألفاً ، وبين مائة وأربعة وعشرين ألفاً ـ على اختلاف الروايات ـ ولا يدخل في هذا العدد من حضر الموسم من أهل مكة ، ومن قصد مكة من بلاد أخرى كاليمن.

أدّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناسك الحج ، وخطب الناس خطباً عديدة ، علَّمهم فيها معالم دينهم ، ومناسك حجهم ، وبعد أن أنهى مناسك حجه ، وبلَّغهم ما أُمر بتبليغه ، عزم على العودة إلى دار هجرته ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخرج معه أهل بيته عليهم‌السلام ، والمهاجرون ، والأنصار ، وسائر من حضر الموسم ، وعندما بلغ (غدير خم) قريباً من الجحفة ـ وهي مفترق طرق إلى شتى البلاد ـ جاءه بالوحي بالآية الكريمة :

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

__________________

(١) بتصرف وتلخيص عن : كتاب الغدير ١ : ٢٧ ـ ٣٠.


النَّاسِ (١))(٢)

نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم ، وأمر أصحابه بالنزول معه ، ثمَّ أرسل رسلَه إلى الناس ، ليأمروا السابقين بالرجوع ، والمتأخرين بأن يلحقوا.

امتثل المسلمون أمره ، فاجتمعوا في ذلك المكان عند دوحات نزل تحتهن ، وكان الوقت حاراً ، وقد اجتمعوا تحت وطأة الشمس ، وعلى الصعيد المنصهر بها ، ليسمعوا ما أمر الوحي بتبليغه ، فكان الرجل يضع بعض ثيابه تحته ، وبعضها الآخر فوقه ليتقي بها الحر.

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) روى نزولها في الغدير : أسباب النزول ١٣٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٣٧ ، الدر المنثور ٢ / ٢٩٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٢ ، الغدير ١ / ٢١٤ ـ ٢٢٣ عن ثلاثين مصدراً من كتب السنة ، فتح القدير ٢ / ٦٠.


نص خطبة الغدير

صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم ، ثمَّ أمر بأن يُصنع له منبرٌ من أحداج الإبل ، فصُنِع ، فارتقاه في وسط القوم ، ورفع صوته ـ بحيث يسمعه جميع من حضر ـ وخطب قائلاً : «الحمد لله ، نستعينه ، ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيِّئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلَّ ، ولا مضلَّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله.

أمّا بعد : أيّها ال ناس ... قد نبَّأني اللطيف الخبير : أنَّه لم يعمِّر نبي إلّا مثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أوشك أن اُدعى فأجيب ، وإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون ، فماذا أنتم قائلون؟. قالوا : نشهد أنَّك قد بلّغت ، ونصحت ، وجهدت ، فجزاك الله خيراً.

قال : ألستم تشهدون : أن لا إله إلّا الله ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأنَّ جنَّتَه حق ، وناره حق ، وأن الموت حقّ ، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنَّ الله يبعث من في القبور.

قالووا : بلى ، نشهد بذلك. قال : اللّهم اشهد. ثمَّ قال : أيّها الناس ... ألا تسمعون؟. قالوا : نعم. قال : فإني فرطٌ على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ


الحوض ، وإنَّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى (١) ، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟.

فنادى منادٍ : وما الثقلان يا رسول الله؟. قال : الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزوجل ، وطرف بأيديكم ، فتمسكوا به ، لا تضلوا. والآخر الأصغر : عترتي ، وإنَّ اللّطيف الخبير نبَّأني : أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. فسألت ذلك لهما ربّي. فلا تقدَّموهما ، فتهلكوا ، ولا تقصِّروا عنهما ، فتهلكوا ، ثمَّ أخذ بيد علي ، فرفعها حتى رُؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون. فقال : أيّها الناس ، من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟. قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ـ يقولها ثلاث مرات ، وفي لفظ أحد إمام الحنابلة أربع مرات ـ.

ثمَّ قال : اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأحبَّ من أحبَّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار. ألا فليبلّغ الشاهد الغائب.

ثمَّ لم يتفرقوا حتى اُنزل أمين وحي الله بقوله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٢))(٣) ، فقال رسول الله : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالاتي ، والولاية لعلي من

__________________

(١) بُصرى في موضعين (بالضم والقصر ر) : أحدهما بالشام من أعمال دمشق ، وهي : قصبة كورة حوران ، مشهورة عند العرب قديماً وحديثاً. (معجم البلدان ١ / ٤٤١).

(٢) المائدة : ٣.

(٣) روى نزولها يوم الغدير : البداية والنهاية ٥ / ٢٣٢ ، ٧ / ٣٨٥ ، تاريخ بغداد ٨ / ٢٨٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٣٣ ، الدر المنثور ٢ / ٢٥٧ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠٨ ، الغدير ١ / ٢٣٠ ـ ٢٣٧.


بعدي».

ثمَّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وممَّن هنَّأه في مقدم الصحابة عمر بن الخطاب حيث قال له مهنئاً : «بخ .. بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه (١)». واستأذن حسان بن ثابت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن ينشد في المناسبة شعراً ، فإذن له. فقال : يا معشر مشيخة قريش ، أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمَّ قال (٢) :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخمٍّ فأسمع بالنبي مناديا

فقال : فمن مولاكم ونبيكم

فقالوا ـ ولم يبدوا هناك التعاميا ـ

إلهك مولانا ، وأنت نبينا

ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه ، فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا : اللهم وال وليَّه

وكن للذي عادا علياً معاديا

شاح خبرُ ما حدث يوم الغدير في مختلف البلدان ، فبلغ الحرث بن النعمان الفهري ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناقةٍ له ، حتى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته ، فقبلناه مناك ، وأمرتنا بالزكاة ، فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً ، فقبلنا ، ثمَّ لم ترضَ بهذا ، حتى رفعت بضبعي ابن عمك ، ففضَّلته علينا ، وقلت : «من كنت مولاه فعلي

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٨٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٣٣ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٠٠ ، الغدير ١ / ٢٧٢ ـ ٢٨٣ عن ستين مصدراً من كتب السنة.

(٢) الغدير ٢ / ٣٤ في ترجمة حسان ، وفيه مختلف الروايات للأبيات ، قصص الأنبياء للراوندي ٣٥٤ نظم درر السمطين ١١٢.


مولاه» ، فها شيء منك ، أم من الله (عزوجل)؟!. فقال : «والذي لا إله هو ، إنَّ هذا من الله». فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته ، وهو يقول : «اللهم إن كان ما يقول محمدٌ حقاً ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم». فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقك على هامته ، وخرج من دبره فقتله ، وأنزل الله (عزوجل) : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ (١))(٢).

__________________

(١) المعارج : ١ ـ ٣.

(٢) تفسير القرطبي ١٨ / ٢٧٨ ، شواهد التنزيل ٢ / ٣٨١ ـ ٣٨٥ ، وفيه روايات تختلف في اسم من سأل العذاب ، الغدير ١ / ٢٤٠ عن ثلاثين مصدراً من كتب السنة ، نظم درر السمطين ٩٣ ، ينابيع المودة ٢ / ٣٦٩.


في رحاب الغدير

يحسن بنا ـ بعد نقل ما حدث يوم الغدير ـ أن نلقي نظرة فاحصة على ما جرى في ذلك اليوم الأغر ، وأن ندرس بدقة كلَّ ما دار فيه ، بدءاً بالإنذار بعدم تبليغ الرسالة ، ومروراً بالخطبة ـ بكل ما حملته من معان بعيدة المرمى ـ وما أنشده حسان بن ثابت من شعر ، ونزول الآية مبشرة بإكمال الدين ، والبيعة التي أعقبت كلَّ ذلك ، وانتهاءً بنزول العذاب على من أنكر الولاية.

هذه الأمور تستدعي الوقوف عندها ، والحديث عنها مفصَّلاً ، ودراستها بدقة ، ولكن طبيعة بحثنا تقتضي أن نقتصر على التعليق عليها باقتضاب ، لأنَّ التوسع فيها يقتضي وضع كتاب مستقل ، لذا نوجز القول عنها في نقاط :

ـ ١ ـ

إنَّ الإنذار الذي حملته الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، يدل على أنَّ ما أمر الله تعالى بتبليغه ضرورة من ضرورات الدين الحنيف ، فالرسالة التي ضحّى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل ما يملكه من أجلها ، منذ بعثته وحتى دنو أجله ، فإنَّ أتعابه طيلة هذه المدة ، وما تحمَّله من أذىً في سبيلها ستذهب سدىً إذا لم يبلّغ هذا الأمر ، وكأنّه لم يفعل شيئاً ، إذ سيبقى التبليغ غير تام ـ كما يفهم من الآية الكريمة ـ وهذا يبيِّن لنا ـ بوضوح ـ أن الولاية امتداد للنبوة ، ومكمِّلة لها في توضيح الأحكام وتبليغها ، وهي أصل من أصول العقيدة ، تتوقف عليها صحة الإيمان.


ـ ٢ ـ

بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبته بحمد الله تعالى ، والثناء عليه ، ثمَّ جدَّد الإقرار بالشهادتين أمام ذلك الجمع الغفير ، وهو يُنْبِؤهم بدنو أجله ، وإنَّه سيرحل عنهم قريباً للقاء الله عزوجل ، ثمَّ أعاد إلى الأذهان أنَّه مسئول ، وأنَّهم مسئولون أمام الله تعالى ، مذكراً إيّاهم ما تحمَّله من مسؤولية تبليغ الرسالة وتطبيقها ، وما تحمَّلوه من مسؤولية الإيمان بها ، والعمل بأحكامها ، فهي أمانة يُسأل الجميع عن أدائها أمام الله تعالى ، كلٌّ بحسب تكليفه.

ثمَّ سألهم عن دوره ، وأدائه للرسالة : ماذا أنتم قائلون؟ فشهدوا له بالتبليغ ، والنصح ، وبذل الجهد ، وجَزَّوه خيراً ، وفي ذلك ما لا يخفى من إقرارهم بالمسؤولية ، وتحمّل الأمانة ، وقيام الحجة عليهم بعد إقرارهم بالتبليغ.

ثمَّ أتبع ذلك بأخذ الإقرار منهم بأصول العقيدة ، تأكيداً لما أقروا به ، فابتدأ بالإقرار بالشهادتين ، ثمَّ الإقرار بالمعاد ، بعد الإقرار بأنَّ الموت والجنة والنار حق ، فأقروا له بذلك ، وقد جدَّد البيعة والإقرار ، ليقرنها ببيعة جديدة ، مكمَّلة لما أقرّوا به من أصول ، وذكَّرهم بالمعاد ، والحساب ، ليعيد إلى أذهانهم أنَّ الوفاء بما أعطوه من عهود ، وما أقرّوا به ، يؤول حسابه إلى الله عزوجل يوم الجزاء ، لذا نراه يبرم هذا العهد والميثاق الذي أقرّوا به مذعنين بإشهاد الله تعالى عليهم.

ثمَّ قال : ألا تسمعون؟. وهذا التنبيه فيه المزيد من إلفات النظر ، وتوجيه السامع للإصغاء ، إذ يفهم من هذا التنبيه أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وصل إلى هدفه من الخطبة ، وهو ما اُمر به من تبليغ الولاية.

ـ ٣ ـ

أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بالثقلين ، وأخبرهم أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه


الحوض يوم القيامة ، وأنَّ التمسك بهما يعصم من الضلال ، وأمرهم بعدم التقدم عليهما ، أو التأخر عنهما ، لأنَّ ذلك ـ على حدٍّ سواء ـ يؤدي إلى الهلاك ، وهذا يستفاد منه أمور عديدة :

منها : أنَّ الكتاب والعترة باقيان ما بقي الدهر ، إلى أن يردا عليه الحوض يوم القيامة ، وهذا يقتضي وجود إمام قائم بالأمر من العترة الطاهرة عليهم‌السلام في كل زمان.

ومنها : أنَّ المرجع من بعده في أمور الدين والدنيا : الكتاب العزيز ، والعترة الطاهرة ؛ لأنَّ العترة هم خزنة علم الكتاب ، وتراجمة الوحي الذين يجب الرجوع إليهم في فهم الكتاب العزيز وتفسيره.

ومنها : أنَّ العترة الطاهرة لمّا كانوا ملازمين للكتاب العزيز الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (١))، فهم معصومون بمقتضى هذا الحديث الشريف الذي أخبر بملازمتهم له ، ولأنَّ من لا عصمة له ، لا يعصم من الضلال لأنَّ فاقد الشي لا يعطيه.

والإمام علي عليه‌السلام سيد العترة الطاهرة ، وأبوهم ، وكل ما يستفاد من الحديث ينطبق عليه أوَّلاً ، لذا كان تمهيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديث الثقلين مناسباً لتنصيبه للولاية العامة في خطبة الغدير.

ـ ٤ ـ

ناشد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الحشد من المسلمين : مَن أَولى بكم من أنفسكم؟. فقالوا : الله ورسوله أعلم ، وبعد هذه المناشدة ، أعلمهم بأنَّ الله عزوجل هو مولاه ، وأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مولى المسلمين ، وهو أولى بهم من أنفسهم ، ثمَّ قال : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» ، ليلفت أنظارهم إلى أنَّ ولاية الإمام علي عليه‌السلام هي عين ولايته ،

__________________

(١) فصلت : ٤٢.


ومتفرغة عنها ، وامتداد لها ، لا تختلف عنها بشي ، فكل ما اختص به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولاية الأمر ، يخلفه عليه الإمام علي عليه‌السلام من بعده.

ثمَّ رَفْعُهُ لعليِّ عليه‌السلام علماً فيه المزيد من التنبيه ، والدفع لأي التباس في الأمر ، فقد أعذر إليهم في التبليغ : إذ رفعه لهم ، ليعلم الجميع : أنَّ الذي رفعه لهم علماً ، وأعلن لهم ولايته ، هو وليّهم من بعده ، وهو أولى بهم من أنفسهم ، وكرر القول : «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» ليُسْمِع كلَّ من حضر ، وليعلم الجميع أنَّ ذلك أمر مؤكد ليس فيه تردد.

ـ ٥ ـ

دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ختم به خطبته بعد إعلانه ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، جاء متضمناً ما يُبيِّن نوع الولاية التي أعلنها ، وإذا كان للمولى في اللغة معان متعددة ، فإنَّ هذا الدعاء قرينة ـ تضاف إلى غيرها من قرائن ـ تعيِّن معنى هذه الولاية ، وتحدِّده ، وتبين أنَّها الولاية العامةت دون سواها ، فالموالاة ، والحب ، والنصرة ، وعدم العداء ، وعدم البغض ، وعدم الخذلان ، وملازمة الحق ، التي تضمَّنها الدعاء ، كلّها من لوازم ولاية الأمر إذ لا تقوم الولاية بدونها.

أمّا الدعاء : «وأدر الحق معه حيث دار» ففيه ملازمة الإمام علي عليه‌السلام للحق ، وذلك دليل آخر على عصمته ، ويضفي على هذه الولاية قدسية تؤكد كونها من أصول ال عقيدة.

ـ ٦ ـ

تظهر أهمية هذه الولاية بجلاء بنزول الوحي ـ بعد إعلانها ـ بالآية الكريمة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (١))،

__________________

(١) المائدة : ٣.


فقد حملت هذه الآية الكريمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وللمسلمين بشارة عظيمة من الباري عزوجل بإكمال الدين ، وإتمام النعمة بهذه الولاية ، لذا نراه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبادر إلى شكر هذه النعمة العظيمة : بالتكبير ، والحمد لله عزوجل لرضاه برسالته ، والولاية لعلي عليه‌السلام من بعده.

والآية الكريمة نصَّت على أنَّ الدين كمل بالولاية ، فهي دليل آخر على أنَّ هذه الولاية أصلٌ من أصول الدين ، يضاف إلى ما دلَّ عليه كونها امتداد للنبوة ، وكونها عصمة من الضلال.

ـ ٧ ـ

إنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين بأن يبلّغ الشاهد منهم الغائب ، وهذا يدل على أنَّ هذه الولاية فرضٌ يجب على كلِّ مسلم التمسك به ، ثمَّ إبلاغَه لمن لم يعلم به امتثالاً لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أمر الله تعالى ؛ لذا فهي ملزمة لجميع المسلمين ، سواء في ذلك من حضر ذلك الموقف ، أو لم يحضره ، ومن كان موجوداً في ذلك العهد ، أو من يأتي في الأجيال المتعاقبة بعده ، فهي ملزمة لكلِّ مسلم يبلغه أمرها مدى الدهر ، لا تختلف في ذلك عن سائر الفرائض.

ـ ٨ ـ

إنَّ شعر حسان بن ثابت الذي ألقاه على أجلة الصحابة ، وعِليَة القوم ، ووفود الأمصار ، وبمشهد ومسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بإذن منه ، وإقرار ، جاء موضحاً الهدف الذي من أجله جمع الناس ، وهو تنصيب إمام للأمة ، ووليٍّ لها من بعده ، وقد فهم حسان ذلك ، ووعاه ، فقال على لسان الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

فقال له : قم يا علي فإنَّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا


وقد أقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا القول ، كما أقره على كل ما جاء في شعره ، إذ قال له ـ بعد ما انتهى من إنشاده ـ : «ما تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (١)».

ـ ٩ ـ

الظروف التي خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها خطبته تلك ، حيث جمع الناس عند الظهيرة ، وتحت وطأة الشمس ، وعلى تلك الأرض الملتهبة بأشعتها ، ثمَّ يأمر السابقين بالرجوع ، والمتأخرين بأن يلحقوا ، ليحضر الجميع ويسمعوا ، ثمَّ أمرهم أن يبلّغوا ما سمعوا منه من لم يحضر ذلك الاجتماع ، كل ذلك يُبيِّن لنا أهمية ما اُمر بتبليغه ، وإذا أضفنا إلى ما تقدم أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلَمَ الناس بدنو أجله ، وأنَّ الخطبة كانت قبل وفاته بشهرين وعدة أيام ، اتضح لنا مراده منها.

والذي يفهم من كلِّ هذه الإمارات ، أنَّه كان يتخذ من ذلك الاجتماع الحاشد فرصة ، ليعهد عهده بإعلان من يخلفه لقيادة هذه المسيرة التي بدأها ، وقام بقيادتها خير قيام ، لذا نراه يبدأ بالإقرار بأصول العقيدة ، ثمَّ يأخذ الإقرار منهم بذلك ، ويذكرهم الحساب ، والجنة ، والنار ، والمسؤولية أمام الحكم العدل ، وليس أمام الإنسان وهو يودع أودّاءه ، وأصحابه ، وأتباعه ، وهو يعلم أنَّ هذا اللقاء هو اللقاء الأخير ا لذي لا اجتماع مثله في هذه الدنيا إلّا أن يعهد عهده.

ـ ١٠ ـ

كانت البيعة للإمام علي عليه‌السلام خاتمة ما حدث يوم الغدير ، وقد بدأها عمر بن الخطاب ، حيث تقدم إيه قائلاً : «بخ .. بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت

__________________

(١) الغدير ٢ / ٣٤.


مولاي ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة» وقد توالى المسلمون الذين حضروا على أداء البيعة بأجمعهم ، كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أجلس الإمام علياً عليه‌السلام ، وأمر المسلمين جميعاً بأداء البيعة له ، وهذه البيعة خير شاهد وإمارة لإرادة الخلافة من هذه الولاية التي اُعلنت يوم الغدير ، وإن لم تكن كذلك ، فما معنى أخذ البيعة؟ وهل يحتاج الأمر بالحب ، أو الإخبار بأنَّه الناصر ـ كما فسر به الولاية بعضهم (١) ـ إلى بيعة يبرمها المحب لمن أمر بحبِّه؟!.

حاشا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشغل نفسه ، ويأخذ من وقت الناس ويؤخرهم عن المسير ، ويجمعهم في مثل تلك الظروف ، لمثل هذا الموضوع المعلوم ضرورة بأية المودة ، بل إنّه عمل ذلك لحكمة إلهية وأمر خطير ، لا أظن أنَّه خفي ـ مع كثرة قرائنه ـ على ما ادّعى ذلك تعصّباً.

ـ ١١ ـ

إنَّ نزول العذاب على الحرث بن النعمان الفهري لإنكاره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الولاية ، بعد علمه بأنَّها من الله عزوجل ، وطلبه نزول العذاب عليه ، ونزول الآيات الكريمة بذلك ، يؤكّد لنا أنَّ هذا الفرض الذي بلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أسس الإسلام ، وأركان العقيدة ، وأنَّ الراد لهذا الفرض راد على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك استحق الحرث العقاب عاجلاً ، والله تعالى أعلمُ بما سيواجه في الآخرة من حساب عسير ، وعذاب شديد.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٤٣.



سند زيارة الغدير

نقلتً نصَّ زيارة الغدير من كتاب مفاتيح الجنان ، ثمَّ قمت بمطابقته مع رواية بحار الأنوار ، فظهر لي أنَّ الروايتين متطابقتان إلّا في مورد واحد سأذكره في محله ، ثمَّ قمت بمطابقته مع رواية المزار الكبير للشيخ محمد بن المشهدي ، ورواية المزار للشهيد الثاني ، فظهر لي وجود اختلافات يسيرة في كلٍّ من هاتين الروايتين مع الروايتين السالفتي الذكر ، سأشير إليها في محلها من الزيارة.

السند :

أورد الشيخ محمد بن المشهدي (١) سند الزيارة في كتابه : المزار الكبير ، أمّا المصادر الاُخرى التي مر ذكرها فقد روت الزيارة ، ولم تذكر سندها ، ولننقل السند كما جاء في المزار الكبير (٢) :

وأخبرني الفقيه الأجل أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمي رضي الله عنه (٣) ،

__________________

(١) الشيخ محمد بن جعفر المشهدي : قال الحر العاملي : كان فاضلاً ، صدوقاً ، له كتب يروي عن شاذان بن جبرئيل. أمل الآمل ٢ / ٢٥٣ (٧٤٧) ، معجم رجال الحديث ١٦ / ١٨٨ (١٠٤٣٤).

(٢) المزار الكبير ٢٦٣.

(٣) الشيخ الجليل الثقة أبو الفضل شاذان بن جبرئيل بن إسماعيل القمي : قال الحر العاملي : كان عالماً ، فاضلاً ، فقيهاً ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، أمل الآمل ٢ / ١٣٠ (٣٤٦) ، معجم رجال الحديث ١٠ / ٩ (٥٦٧٩).


عن الفقيه العماد محمد بن أبي القاسم الطبري (١) ، عن أبي علي (٢) ، عن والده (٣) ، عن محمد بن محمد بن النعمان (٤) ، عن أبي القاسم جعفر بن قولويه (٥) ، عن محمد ابن يعقوب الكليني (٦) ، عن علي بن

__________________

(١) الشيخ الإمام عماد الدين أبو جعفر محمد بن أبي القاسم بن محمد بن علي الطبري الآملي الكجي : قال الحر العاملي : فقيه ، ثقة ، قرأ على الشيخ أبي علي بن الشيخ أبي جعفر الطوسي ، أمل الآمل ٢ / ٢٣٤ (٦٩٨) معجم رجال الحديث ١٥ / ٣٠٧ (١٠٠٤٩).

(٢) الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي : قال الحر العاملي ، كان عالماً ، فاضلاً ، فقيهاً ، محدثاً ، ثقة ، وقال الشيخ منتجب الدين عند ذكره ، فقيه ، ثقة ، عين ، قرأ على والده جميع تصانيفه ، أمل الآمل ٢ / ٧٦ (٢٠٨) ، معجم رجال الحديث ٦ / ١٢٢ (٣١٠٣).

(٣) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠) ، قال النجاشي : جليل في أصحابنا ، ثقة عين ، رجال النجاشي ٤٠٣ (١٠٦٨) ، معجم رجال الحديث ١٦ / ٢٥٧ (١٠٥٢٦).

(٤) قال النجاشي : محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد بن جبير ... شيخنا ، واُستاذنا رضي الله عنه ، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه ، والكلام ، والرواية ، والثقة ، والعلم ، وقال الحر العاملي : محمد بن محمد بن النعمان ، يكنى أبا عبد الله ، يلقب بالمفيد ، ويعرف بابن المعلم ، من أجل مشايخ الشيعة ، ورئيسهم ، واُستاذهم ، وفضله أشهر من أن يوصف ، أوثق أهل زمانه ، رجال النجاشي ٣٩٩ (١٠٦٧) ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٤ (٩٢١) ، معجم رجال الحديث ١٨ / ٢١٣ (١١٧٤٤).

(٥) جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه ، أبو القاسم : قال النجاشي : وكان أبو القاسم من ثقات أصحابنا ، وأجلّائهم في الحديث ، والفقه ، وقال : وكل ما يوصف به الناس من جميل ، وثقة ، فهو فوقه ، وهكذا نص عليه الحر العاملي ، رجال النجاشي ١٢٣ (٣١٨) ، أمل الآمل ٢ / ٥٥ (١٤٣) ، معجم رجال الحديث ٥ / ٧٦ (٢٢٦٣).

(٦) محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني : قال النجاشي : شيخ أصحابنا في وقته بالري ، ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث ، وأثبتهم ، رجال النجاشي ٣٧٧ (١٠٢٦) ، معجم رجال الحديث ١٩ / ٥٤ (١٢٠٦٧).


إبراهيم (١) ، عن أبيه (٢) ، عن أبي القاسم بن روح (٣) ، وعثمان بن سعيد العمري (٤) ، عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري ، عن أبيه صلوات الله عليهما ، وذكر أنَّه عليه‌السلام زار بها في يوم الغدير في السنة التي أشخصه المعتصم.

وقد أورد السيد عبد الكريم بن طاووس (٥) سند الزيارة في كتابه : فرحة الغري عن محمد بن جعفر المشهدي ، ولم يرو الزيارة بكاملها ، وهذا نص

__________________

(١) قال النجاشي : علي بن إبراهيم بن هاشم ، أبو الحسن القمي ، ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد ، صحيح المذهب ، رجال النجاشي ٢٦٠ (٦٨٠) ، معجم رجال الحديث ١٢ / ٢١٢ (٧٨٣٠).

(٢) قال النجاشي : إبراهيم بن هاشم ، أبو إسحاق الثمي ، أصله كوفي ، إنتقل إلى قم ، وقال السيد الخوئي قدس سره : أقول : لا ينبغي الشك في وثاقة إبراهيم بن هاشم ـ وساق عدداً من الأدلة على وثاقته ، رجال النجاشي ١٦ (١٨) ، معجم رجال الحديث ١ / ٢٨٩ (٣٣٢).

(٣) قال السيد الخوئي : الحسين بن روح النوبختي ، أبو القاسم : هو أحد السفراء والنواب الخاصة للإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه ، وشهرة جلالته ، وعظمته ، أغنتنا عن الإطالة في شأنه ، (مات في شعبان سنة ٣٢٦) ، معجم رجال الحديث ٦ / ٢٥٧ (٣٤٠٦).

(٤) قال السيد الخوئي : عثمان بن سعيد العمري : عده الشيخ في رجاله (تارة) في أصحاب الهادي عليه‌السلام ... (واُخرى) في أصحاب العسكري عليه‌السلام ، قائلاً : عثمان بن سعيد العمري الزيات ، ويقال له : السمان ، يكنى : أبا عمرو ، جليل القدر ، ثقة ، وكيله ـ العسكري عليه‌السلام ، وسيأتي عن الشيخ في ترجمة ابنه (محمد بن عثمان بن سعيد) ـ أيضاً ـ أنَّ عثمان بن سعيد وكيل من جهة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) ، وله منزلة جليلة عند الطائفة ، معجم رجال الحديث ١٢ / ٢٢٠ (٧٦٠٤).

(٥) قال السيد الخوئي : السيد عبد الكريم بن أحمد : قال ابن داود (٩٤٧) من القسم الأول : عبد الكريم بن أحمد بن موسى بن جعفر ... بن طاووس الحسني العلوي : سيدنا الإمام المعظم غياث الدين ، الفقيه ، النسابة ، النحوي ، العروضي ، الزاهد ، العابد ، أبو المظفر ـ قدس الله روحه ، إنتهت رئاسة السادات وذوي النواميس إليه ، وكان أوحد زمانه ، حائري المولد ، حلي المنشأ ، بغدادي التحصيل ، كاظمي الخاتمة ... ولد في شعبان ٦٤٨ ، وتوفي في شوال سنة ٦٩٣ ، معجم رجال الحديث ١١ / ٦٦ (٦٦٢٠) ، أمل الآمل ٢ / ١٥٨ (٤٥٩).


ما قاله (١) :

أخبرني والدي (٢) وعمّي (٣) رضي الله عنهما ، عن محمد بن نما (٤) ، عن محمد بن جعفر (٥) ، وهو نفس السند السابق إلى أن قال : وذكر أنَّه زار بها في يوم الغدير ، في السنة التي أشخصه فيها المعتصم ، يقف عليه صلوات الله عليه ، ويقول : السلام على رسول الله خاتم النبيين ، وهي تقرب من كراسة ونصف قطع الثمن ، وآخرها : الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، إنَّك حميد مجيد ، ولم نذكرها لئلا يخرج الكتاب من الغرض إلى ذكر الزيارات.

__________________

(١) فرحة الغري ١١٢.

(٢) قال الحر العاملي : السيد جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر .......... بن طاووس العلوي الحسني : كان عالماً ، فاضلاً ، صالحاً ، زاهداً ، عابداً ، ورعاً ، فقيهاً ، محدثاً ، مدققاً ، ثقة ، ثقة ، أمل الآمل ٢ / ٢٩ (٧٩) ، معجم رجال الحديث ٣ / ١٣٨ (٩٨٤).

(٣) قال الحر العاملي : السيد رضي الدين أبو القاسم ، علي بن موسى بن جعفر ر ... بن طاووس الحسني : حاله في العلم ، والفضل ، والزهد ، والعبادة ، والثقة ، والفقه ، والجلالة ، والورع أشهر من أن يذكر ، أمل الآمل ٢ / ٢٠٥ (٦٢٢) ، معجم رجال الحديث ١٣ / ٢٠٢ (٨٥٤٦).

(٤) قال الحر العاملي : الشيخ نجيب الدين أبو إبراهيم محمد بن نما الحلي ، كان من فضلاء وقته ، وعلماء عصره ، له كتب ، يروي عن ابن إدريس ، ويروي المحقق جعفر بن الحسن الحلي عنه ، أمل الآمل ٢ / ٣١٠ (٩٤٥) ، معجم رجال الحديث ١٨ / ٣٢٣ (١١٩٤٦).

(٥) محمد بن جعفر المشهدي صاحب المزار الكبير.


نص

زيارة الغدير



بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

السَّلامُ عَلى مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله خاتَمِ النَّبِيِّنَ وَسَيِّدِ المُرْسَلِينَ * وَصَفْوَةِ رَبِّ العالَمِينَ * أَمِينِ الله عَلى وَحْيِهِ وَعَزائِمِ أَمْرِهِ * وَالخاتِمِ لِما سَبَقَ * وَالفاتِحِ لِما اسْتُقْبِلَ * وَالمُهَيْمِنِ عَلى ذلِكَ كُلِّهِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ وَصَلَواتُهُ وَتَحِيَّاتُهُ * السَّلامُ عَلى أَنْبِياءِ الله وَرُسُلِهِ وَمَلائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ وَعِبادِهِ الصَّالِحِينَ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ * وَسَيِّدَ الوَصِيِّينَ * وَوارِثَ عِلْمِ النَّبِيِّنَ * وَوَلِيَّ رَبِّ العالَمِينَ * وَمَوْلايَ وَمَوْلى المُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا مَوْلايَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (١) يا أَمِينَ الله فِي أَرْضِهِ * وَسَفِيرَهُ عَلى خَلْقِهِ * وَحُجَّتَهُ البالِغَةَ عَلى عِبادِهِ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا دِينَ الله القَوِيمَ * وَصِراطَهُ المُسْتَقِيمَ * السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّها النَّبَأُ العَظِيمُ الَّذِي هُمْ فِيِهِ مُخْتَلِفُونَ وَعَنْهُ يَسْأَلُونَ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ * آمَنْتَ بِالله وَهُمْ مُشْرِكونَ * وَصَدَّقْتَ بِالحَقِّ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ * وَجاهَدْتَ وَهُمْ مُحْجِمُونَ (٢) * وَعَبَدْتَ الله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ صابِراً مُحْتَسِبا حَتّى أَتاكَ اليَّقِينُ * أَلا لَعْنَةُ الله عَلى الظَّالِمِينَ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا سَيِّدَ المُسْلِمِينَ *

__________________

(١) السلام عليك يا أمير المؤمنين (المزار الكبير ٢٦٤).

(٢) مُعجِمُونَ (رواية ثانية في مفاتيح الجنان).


وَيَعْسُوبَ المُؤْمِنِينَ وَإِمامِ المُتَّقِينَ * وَقائِدَ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ * أَشْهَدُ أَنَّكَ أَخُو رَسُولِ الله وَوَصِيُّهُ * وَوارِثُ عِلْمِهِ وَأَمِينُهُ عَلى شَرْعِهِ وَخَلِيفَتُهُ فِي اُمَّتِهِ * وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالله وَصَدَّقَ بِما أُنْزِلَ عَلى نَبِيِّهِ * وَأَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ عَنِ الله ما أَنْزَلَهُ فِيكَ * فَصَدَعَ بِأَمْرِهِ * وَأَوْجَبَ عَلى اُمَّتِهِ فَرْضَ طاعَتِكَ وَوِلايَتِكَ (١) * وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ البَيْعَةَ لَكَ * وَجَعَلَكَ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفِسِهِمْ كَما جَعَلَهُ الله كَذلِكَ * ثُمَّ أَشْهَدَ الله تَعالى عَلَيْهِمْ فَقالَ : أَلَسْتُ قَدْ بَلَّغْتُ؟ * فَقالُوا : اللّهُمَّ بَلى * فَقالَ : اللّهُمَّ أَشْهَدْ وَكَفى بِكَ شَهِيداً وَحاكِماً بَيْنَ العِبادِ * فَلَعَنَ الله جاحِدَ وِلايَتِكَ بَعْدَ الإقْرارِ * وَناكِثَ عَهْدِكَ بَعْدَ المِيثاقِ * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَفَيْتَ (٢) بِعَهْدِ الله تَعالى * (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(٣) * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ الحَقُّ الَّذِي نَطَقَ بِولايَتِكَ التَّنْزِيلُ * وَأَخَذَ لَكَ العَهْدَ عَلى الاُمَّهِ بِذلِكَ الرَّسُولُ * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَعَمَّكَ وَأَخاكَ الَّذِينَ تاجَرْتُمْ الله بِنُفُوسِكُمْ فَأَنْزَلَ الله فِيكُمْ : (إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ فَاسْتَبْشِرُوا

__________________

(١) فرض ولايتك (المزار الكبير ٢٦٥).

(٢) أوفيت (المزار الكبير ٢٦٥).

(٣) الفتح : ١٠.


بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّـهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١) * أَشْهَدُ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَّ الشَّاكَّ فِيكَ ما آمَنَ بِالرَّسُولِ الاَمِينِ * وَأَنَّ العادِلَ بِكَ غَيْرَكَ عانِدٌ (٢) عَنِ الدِّينِ القَوِيمِ الَّذِي ارْتَضاهُ لَنا رَبُّ العالَمِينَ * وَأَكْمَلَهُ بِوِلايَتِكَ يَوْمَ الغَدِيرِ * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ المَعْنِيُّ بِقَوْلِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ : (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)(٣) * ضَلَّ وَالله وَأَضَلَّ مِنْ اتَّبَعَ سِواكَ * وَعَنَدَ عَنِ الحَقِّ مَنْ عاداكَ * اللّهُمَّ سَمِعْنا لأمْرِكَ (٤) وَأَطَعْنا وَاتَّبَعْنا صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ فَاهْدِنا رَبَّنا وَلاتُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا (٥) إِلى طاعَتِكَ * وَاجْعَلْنا مِنَ الشَّاكِرِينَ لاَنْعُمِكَ * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ لَمْ تَزَلْ لِلْهَوى مُخالِفاً * وَلِلْتُقى مُحالِفاً * وَعَلى كَظْمِ الغَيْظِ قادِراً * وَعَنِ النَّاسِ عافِياً غافِراً * وَإِذا عُصيَ الله ساخِطاً * وَإِذا اُطِيعَ الله راضِياً * وَبِما عَهِدَ إِلَيْكَ عامِلاً راعِياً * لِما اسْتُحْفِظْتَ * حافِظاً لِما اسْتُودِعْتَ * مُبَلِّغاً ما حُمِّلْتَ * مُنْتَظِراً ما وُعِدْتَ * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ ما اتَّقَيْتَ ضارِعاً * وَلا أَمْسَكْتَ عَنْ حَقِّكَ جازِعاً * وَلا

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) عادل (رواية أخرى في مفاتيح الجنان ، المزار ٦٩).

(٣) الأنعام : ١٥٣.

(٤) وأطعنا (المزار الكبير ٢٦٦ ، المزار ٧٠).

(٥) ولا تزغ قلوبنا بعد الهدى عن طاعتك (المزار الكبير ٢٦٦).


أَحْجَمْتَ عَنْ مُجاهَدَةِ غاصِبِيكَ (١) ناكِلاً * وَلا أَظْهَرْتَ الرِّضى بِخِلافِ ما يُرْضِي الله مُداهِناً * وَلا وَهَنْتَ لِما أَصابَكَ فِي سَبِيلِ الله * وَلا ضَعُفْتَ وَلا اسْتَكَنْتَ عَنْ طَلَبِ حَقِّكَ مُراقِباً * مَعاذَ الله أَنْ تَكُونَ كَذلِكَ بَلْ إِذْ ظُلِمْتَ احْتَسَبْتَ رَبَّكَ * وَفَوَّضْتَ إِلَيْهِ أَمْرَكَ * وَذَكَّرْتَهُمْ فَما ادَّكَرُوا (٢) وَوَعَظْتَهُمْ فَما اتَّعَظُوا * وَخَوَّفْتَهُمُ الله فَما تَخَوَّفُوا (٣) * وَأَشْهَدُ أَنَّكَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ جاهَدْتَ فِي الله حَقَّ جِهادِهِ حَتّى دَعاكَ الله إِلى جِوارِهِ * وَقَبَضَكَ إِلَيْهِ بِاْخِتيارِهِ * وَأَلْزَمَ أَعْدائكَ الحُجَّةَ بِقَتْلِهِمْ إِيَّاكَ لِتَكُونَ الحُجَّةُ لَكَ عَلَيْهِمْ مَعَ مالَكَ مِنَ الحُجَجِ البالِغَةِ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ * السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ * عَبَدْتَ الله مُخْلِصاً * وَجاهَدْتَ فِي الله صابِراً * وَجُدْتَ بِنَفْسِكَ مُحْتَسِباً * وَعَمِلْتَ بِكِتابِهِ * وَاتَّبَعْتَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ * وَأَقَمْتَ الصَّلاةَ * وَآتَيْتَ الزَّكاةَ وَأَمَرْتَ بِالمَعْرُوفِ * وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ ما اسْتَطَعْتَ * مُبْتَغِياً (٤) ما عِنْدَ الله * راغِباً فِيما وَعَدَ الله * لا تَحْفِلُ بِالنَّوائِبِ * وَلاتَهِنُ عِنْدَ الشَّدائِدِ * وَلا تَحْجُمُ عَنْ مُحارِبٍ أَفِكَ مَنْ نَسَبَ غَيْرَ ذلِكَ إِلَيْكَ * وَافْتَرى باطِلاً عَلَيْكَ * وَأَوْلى لِمَنْ عَنَدَ عَنْكَ * لَقَدْ جاهَدْتَ فِي الله حَقَّ الجِهادِ * وَصَبَرْتَ عَلى الأذى صَبْرَ احْتِسابٍ * وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالله وَصَلّى لَهُ وَجاهَدَ وَأَبْدى

__________________

(١) عاصيك (المزار الكبير ٢٦٧ ، بحار الأنوار ٩٧ / ٢٦١).

(٢) ذكروا (المزار الكبير ٢٦٧).

(٣) فلم يخافوا (المزار ٧٠).

(٤) مرضاة ما عند الله (المزار الكبير ٢٦٨).


صَفْحَتَهُ فِي دارِ الشِّرْكِ * وَالأَرضُ مَشْحُونَةٌ ضَلالَةً * وَالشَّيْطانُ يُعْبَدُ جَهْرَةً * وَأَنْتَ القائِلُ : لاتَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً * وَلا تَفَرُّقَهُمْ عَنِّي وَحْشَةً * وَلَوْ أَسْلَمَنِي النَّاسُ جَميعاً لَمْ أَكُنْ مُتَضَرِّعاً * إعْتَصَمْتَ بِالله فَعَزَزْتَ * وَآثَرْتَ الآخِرَةِ عَلى الاُولى فَزَهِدْتَ وَأَيَّدَكَ الله وَهَداكَ وَأَخْلَصَكَ وَاجْتَباكَ * فَما تَناقَضَتْ أَفْعالُكَ * وَلا اخْتَلَفَتْ أَقْوالُكَ * وَلاتَقَلَّبَتْ أَحْوالُكَ * وَلا ادَّعَيْتَ وَلا افْتَرَيْتَ عَلى الله كَذِباً * وَلا شَرِهْتَ إِلى الحُطامِ * وَلا دَنَّسَكَ الآثامُ * وَلَمْ تَزَلْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَيَقِينٍ مِنْ أَمْرِكَ تَهْدِي إِلى الحَقِّ وَإِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * أَشْهَدُ شَهادَةَ حَقٍّ * وَأُقْسِمُ بِالله قَسَمَ صِدْقٍ أَنَّ مُحَمَّداً وَآلَهُ صَلَواتُ الله عَلَيْهِمْ ساداتُ الخَلْقِ * وَأَنَّكَ مَوْلايَ وَمَولى المُؤْمِنِينَ * وَأَنَّكَ عَبْدُ اللهِ وَوَلِيُّهِ وَأَخُو الرَّسُولِ وَوَصِيُّهِ وَوارِثُهِ * وَأَنَّهُ القائِلُ لَكَ : وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ ما آمَنَ بِي مَنْ كَفَرَ بِكَ * وَلا أَقَرَّ بِالله مَنْ جَحَدَكَ * وَقَدْ ضَلَّ مَنْ صَدَّ عَنْكَ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلى الله وَلا إِلى مَنْ لا يَهْتَدِي بِكَ * وَهُوَ قَوْلُ رَبِّي عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ) إِلى وَلايَتِكَ * مَوْلايَ فَضْلُكَ لا يَخْفى وَنُورُكَ لا يُطْفأ * وَأَنَّ مَنْ جَحَدَكَ الظَّلُومُ الأشْقى * مَوْلايَ أَنْتَ الحُجَّةُ عَلى العِبادِ * وَالهادِي إِلى الرَّشادِ * وَالعُدَّةُ لِلْمَعادِ * مَوْلايَ لَقَدْ رَفَعَ الله فِي الاُولى مَنْزِلَتَكَ * وَأَعْلى فِي الآخِرةِ دَرَجَتَكَ * وَبَصَّرَكَ ما عَمِيَ عَلى مَنْ خالَفَكَ * وَحالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مواهِبِ الله لَكَ * فَلَعَنَ الله مُسْتَحِلِّي الحُرْمَةِ مِنْكَ وَذائِدِي الحَقِّ عَنْكَ *


وَأَشْهَدُ أَنَّهُمْ الاَخْسَرُونَ الَّذِينَ (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)(١) وَأَشْهَدُ أَنَّكَ ماأَقْدَمْتَ وَلاأَحْجَمْتَ وَلانَطَقْتَ وَلاأَمْسَكْتَ إِلاّ بِأَمْرٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ * قُلْتَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ قُدُماً (٢) فَقالَ : ياعَلِيُّ أَنْتَ مِنِّي (٣) بِمَنْزِلَةِ هارونَ مِنْ مُوسى إِلاّ أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي * وَأُعْلِمُكَ أَنَّ مَوْتَكَ وَحَياتَكَ مَعِي وَعَلى سُنَّتِي * فَوَالله ماكَذِبْتُ وَلا كُذِّبْتُ * وَلا ضَلَلْتُ وَلا ضُلَّ بِي * وَلا نَسِيتُ ما عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي * وَإِنِّي لَعَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي بَيَّنَها لِنَبِيِّهِ * وَبَيَّنَها النَّبِيُّ لِي * وَإِنِّي لَعَلى الطَّرِيقِ الواضِحِ أَلْفُظُهُ لَفْظاً * صَدَقْتَ وَالله جَلَّ وَقُلْتَ الحَقَّ * فَلَعَنَ الله مَنْ ساواكَ بِمَنْ ناواكَ * وَالله جَلَّ اسْمُهُ يَقُولُ : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(٤) * فَلَعَنَ الله مَنْ عَدَلَ بِكَ مَنْ فَرَضَ الله عَلَيْهِ وَلايَتَكَ وَأَنْتَ وَلُيُّ الله وَأَخُو رَسُولِهِ * وَالذَّابُّ عَنْ دِينِهِ * وَالَّذِي نَطَقَ القُرْآنُ بِتَفْضِيلِهِ * قالَ الله تَعالى : (وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)(٥) * وَقالَ اللهُ تَعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٤.

(٢) أضرب قدّامه بسيفي (المزار الكبير ٢٧٠).

(٣) عندي (المزار الكبير ٢٧٠).

(٤) الزمر : ٣٩ : ٩.

(٥) النساء : ٩٥ ـ ٩٦.


بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١) * أَشْهَدُ أَنَّكَ المَخْصُوصُ بِمِدْحَةِ الله * المُخْلِصُ لِطاعَةِ اللهِ * لَمْ تَبْغِ بِالهُدىْ بَدَلاً * وَلَمْ تُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّكَ أَحَداً * وَأَنَّ الله تَعالى اسْتَجابَ لِنَبِيِّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ فِيكَ دَعْوَتَهُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِظْهارِ ما أَوْلاكَ لاُمَّتِهِ إِعْلاءاً لِشَأْنِكَ * وَإِعْلاناً لِبُرْهانِكَ * وَدَحْضاً لِلاَباطِيلِ * وَقَطْعاً لِلْمَعاذِيرِ * فَلَمّا أشْفَقَ مِنْ فِتْنَةِ الفاسِقِينَ * وَاتَّقى فِيكَ المُنافِقِينَ * أَوْحى إِلَيْهِ رَبُّ العالَمِينَ : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٢) * فَوَضَعَ عَلى نَفْسِهِ أوْزارَ المَسِيرِ * وَنَهَضَ فِي رَمْضاءِ الهَجِيرِ * فَخَطَبَ وَأَسْمَعَ وَنادى فَأَبْلَغَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَجْمَعَ * فَقالَ : هَلْ بَلَّغْتُ؟ * فَقالوا : اللّهُمَّ بَلى * فَقالَ : اللّهُمَّ اشْهَدْ * ثُمَّ قالَ : أَلَسْتُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ * فَقالوا : بَلى * فَأَخَذَ بَيَدِكَ وَقالَ : مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِيُّ مَولاهُ * اللّهُمَّ والِ مَنْ وَالاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ * وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ * وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ * فَما آمَنَ بِما أَنْزَلَ الله فِيكَ

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٩ ـ ٢٢.

(٢) المائدة ٥ : ٦٧.


عَلى نَبِيِّهِ إِلاّ قَلِيلٌ وَلا زادَ أَكْثَرَهُمْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ (١) * وَلَقَدْ أَنْزَلَ الله تَعالى فِيكَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ كارِهُونَ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)(٢) * (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(٣) * (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)(٤) * اللّهُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هذا هُوَ الحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ * فَالعَنْ مَنْ عارَضَهُ وَاسْتَكْبَرَ وَكَذَّبَ بِهِ وَكَفَرَ * (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(٥) * السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَسَيِّدَ الوَصِيِّينَ * وَأَوَّلَ العابِدِينَ * وَأَزْهَدَ الزَّاهِدِينَ وَرَحْمَةَ الله وَبَرَكاتُهُ وَصَلَواتُهُ وَتَحِياتُهُ * أَنْتَ مُطْعِمُ الطَّعامِ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيماً وَأَسِيراً لِوَجْهِ الله لا تُرِيدُ مِنْهُمْ جَزاءً

__________________

(١) إلّا تخسير (المزار الكبير ٢٧٢).

(٢) المائدة ٥ : ٥٤ ـ ٥٦.

(٣) آل عمران ٣ : ٥٣.

(٤) آل عمران ٣ : ٨.

(٥) الشعراء ٢٦ : ٢٢٧.


وَلا شُكُوراً (١) * وَفِيكَ أَنْزَلَ الله تَعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢) * وَأَنْتَ الكاظِمُ لِلْغَيْظِ * وَالعافِي عَنِ النَّاسِ * وَالله يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (٣) * وَأَنْتَ الصَّابِرُ فِي البَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ (٤) * وَأَنْتَ القاسِمُ بِالسَّوِيَّةِ * وَالعادِلُ فِي الرَّعِيَّةِ * وَالعالِمُ بِحُدُودِ الله مِنْ جَمِيعِ البَرِيَّةِ * وَالله تَعالى أَخْبَرَ عَمَّا أَوْلاكَ مِنْ فَضْلِهِ بِقَوْلِهِ : (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(٥) * وَأَنْتَ المَخْصُوصُ بِعِلْمِ التَّنْزِيلِ * وَحُكْمِ التَّأْوِيلِ * وَنَصِّ الرَّسُولِ * وَلَكَ المَواقِفُ المَشْهُودَةُ * وَالمَقاماتُ المَشْهُورَةُ * وَالأيَّامُ المَذْكُورَةُ : يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الاَحْزابِ (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ * وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ

__________________

(١) إشارة إلى الآيتين ٨ و ٩ من سورة الإنسان ، وفي المزار ٧٨ (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا).

(٢) الحشر ٥٩ : ٩.

(٣) إشارة إلى الآية ١٣٤ من سورة آل عمران.

(٤) إشارة إلى الآية ١٧٧ من سورة البقرة.

(٥) السجدة ٣٢ : ١٨ ـ ١٩.


فَارْجِعُوا * وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)(١) * وَقالَ الله تَعالى : (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)(٢) * فَقَتلْتَ عَمْرَهُمْ وَهَزَمْتَ جَمْعَهُمْ (وَرَدَّ اللَّـهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّـهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ (٣) وَكَانَ اللَّـهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)(٤) * وَيَوْمَ أُحُدٍ (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)(٥) وَأَنْتَ تَذُودُ بِهِمُ المُشْرِكينَ عَنِ النَّبِيَّ ذاتَ اليَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ حَتّى رَدَّهُمُ الله تَعالى عَنْكُما (٦) خائِفِينَ * وَنَصَرَ بِكَ الخاذِلِينَ * وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَلى ما نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٧) * وَالمُؤْمِنُونَ أَنْتَ وَمَنْ يَلِيكَ * وَعَمُّكَ العَبَّاُس يُنادِي المُنْهَزِمِينَ يا أَصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ * يا أَهْلَ بَيْعَةِ

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ١٠ ـ ١٣.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٢٢.

(٣) بك (المزار ٧٩).

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٢٥.

(٥) إشارة إلى الآية ١٥٣ من آل عمران ، وفي المزار الكبير ٢٧٤ ، والمزار ٨٠ : (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم).

(٦) حتى صررفهم عنكم خائفين (المزار الكبير ٢٧٤).

(٧) التوبة ٩ : ٢٥ ـ ٢٦.


الشَّجَرَةِ * حَتّى اسْتَجابَ لَهُ قَوْمٌ قَدْ كَفَيْتَهُمُ المُؤْنَةَ * وَتَكَلَّفْتَ دُونَهُمُ المَعُونَةَ * فَعادُوا آيِسِينَ مِنَ المَثُوبَةِ * راجِينَ وَعْدَ الله تعالى بِالتَّوْبَهِ * وَذلِكَ قَوْلُ الله جَلَّ ذِكْرُهُ (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّـهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ)(١) * وَأَنْتَ حائِزٌ دَرَجَةَ الصَّبْرِ * فائِزٌ بِعَظِيمِ الاَجْرِ * وَيَوْمَ خَيْبَرَ إِذْ أَظْهَرَ الله خَوَرَ المُنافِقِينَ * وَقَطَعَ دابِرَ الكافِرِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ * (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ * وَكَانَ عَهْدُ اللَّـهِ مَسْئُولًا)(٢) * مَوْلايَ أَنْتَ الحُجَّةُ البالِغَةُ * وَالمَحَجَّةُ الواضِحَةُ * وَالنِّعْمَةُ السابِغَةُ * وَالبُرْهانُ المُنِيرُ * فَهَنِيئا لَكَ بِما أَتاكَ الله مِنْ فَضْلٍ * وَتَبّاً لِشانِئِكَ ذِي الجَهْلِ * شَهِدْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ جَمِيعَ حُروبِهِ وَمَغازِيهِ * تَحْمِلُ الرَّايَةَ أَمامَهُ * وَتَضْرِبُ بِالسَّيْفِ قُدَّامَهُ * ثُمَّ لِحَزْمِكَ المَشْهُورِ * وَبَصِيرَتِكَ فِي الاُمورِ * أَمَّرَكَ فِي المَواطِنِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ أَمِيرٌ * وَكَمْ مِنْ أَمْرٍ صَدَّكَ عَنْ إِمْضاءِ عَزْمِكَ فِيهِ التُّقى * وَاتَّبَعَ غَيْرُكَ فِي مِثْلِهِ الهَوى * فَظَنَّ الجاهِلُونَ أَنَّكَ عَجَزْتَ عَمَّا إِلَيْهِ انْتَهى * ضَلَّ وَالله الظَّانُّ لِذلِكَ وَما اهْتَدى * وَلَقَدْ أَوْضَحْتَ ماأَشْكَلَ مِنْ ذلِكَ لِمَنْ تَوَهَّمَ وَامْتَرى بِقَوْلِكَ صَلّى الله عَلَيْكَ : قَدْ يَرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجْهَ الحِيلَةِ وَدُونَها حاجِزٌ مِنْ تَقْوى الله فَيَدَعُها رَأْيَ العَيْنِ *

__________________

(١) التوبة ٩ : ٢٧.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ١٥.


وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَها مَنْ لا حَرِيجَةَ (١) لَهُ فِي الدِّينِ * صَدَقْتَ وَخَسِرَ المُبْطِلُونَ * وَإِذْ ماكَرَكَ الناكِثانِ فَقالا : نُرِيدُ العُمْرَةَ فَقُلْتَ لَهُما : لَعَمْرُكُما ماتُرِيدانِ العُمْرَةَ لكِنْ تُرِيدانِ الغَدْرَةَ (٢) * فَأَخَذْتَ البَيْعَةَ عَلَيْهِما * وَجَدَّدْتَ المِيثاقَ * فَجَداً فِي النِّفاقِ * فَلَمَّا نَبَّهْتَهُما عَلى فِعْلِهِما أَغْفَلا وَعادا وَما انْتَفَعا وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِهِما خُسْراً * ثُمَّ تَلاهُما أَهْلُ الشَّامِ فَسِرْتَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الاعْذارِ * وَهُمْ لا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ * وَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ * هَمَجٌ رعاعٌ ضالُّونَ * وَبِالَّذِي اُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ فِيْكَ كافِرُونَ * وَلِأهْلِ الخِلافِ عَلَيْكَ ناصِرُونَ * وَقَدْ أَمَرَاللهُ تَعالى بِاتِّباعِكَ * وَنَدَبَ المُؤْمِنِينَ إِلى نَصْرِكَ * وَقالَ عَزَّوَجَلَّ (٣) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٤) * مَوْلايَ بِكَ ظَهَرَ الحَقُّ وَقَدْ نَبَذَهُ الخَلْقُ * وَأَوْضَحْتَ السُّنَنَ بَعْدَ الدُّرُوسِ وَالطَّمْسِ * فَلَكَ سابِقَةُ الجِهادِ عَلى تَصْدِيقِ التَّنْزِيلِ * وَلَكَ فَضِيلَةُ الجِهادِ عَلى تَحْقِيقِ التَّأْوِيلِ * وَعَدُوُّكَ عَدُوُّ الله جاحِدٌ لِرَسُولِ الله يَدْعُو باطِلاً * وَيَحْكُمُ جائِراً * وَيَتَأَمَّرُ غاضِباً * وَيَدْعُو حِزْبَهُ إِلى النَّارِ * وَعَمَّارُ يُجاهِدُ وَيُنادِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ : الرَّواحَ الرَّواحَ إِلى الجَنَّةِ * وَلَمّا اسْتَسْقَى فَسُقِيَ اللَّبَنَ كَبَّرَ وَقالَ : قالَ لِي رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ : آخِرُ شَرابِكَ مِنَ الدُّنْيا ضَياحٌ مِنْ لَبَنٍ

__________________

(١) جريحة (المزار الكبير ٢٧٦).

(٢) لعمري ما تريدان العمرة ، لكن الغدرة (المزار الكبير ٢٧٦).

(٣) وقال الله تعالى (المزار : ٨٢).

(٤) التوبة ٩ : ١١٩.


* وَتَقْتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ * فَاعْتَرَضَهُ أَبُو العادِيَةِ الفَزارِيِّ فَقَتَلَهُ * فَعَلى أَبِي العادِيَةِ لَعْنَةُ الله وَلَعْنَةُ مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ أجْمَعِينَ * وَعَلى مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ عَلَيْكَ وَسَلَلْتَ سَيْفَكَ عَلَيْهِ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ المُشْرِكِينَ وَالمُنافِقِينَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ * وَعَلى مَنْ رَضِيَ بِما سأَكَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ وَأَغْمَضَ عَيْنَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ * أَوْ أَعانَ عَلَيْكَ بِيَدٍ أَوْ لِسانٍ * أوْ قَعَدَ عَنْ نَصْرِكَ * أوْ خَذَلَ عَنِ الجِهادِ مَعَكَ * أوْ غَمَطَ فَضْلَكَ وَجَحَدَ حَقَّكَ * أوْ عَدَلَ بِكَ مَنْ جَعَلَكَ الله أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ * وَصَلَواتُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ وَسَلامُهُ وَتَحِيَّاتُهُ * وَعَلى الأَئِمَّةِ مِنْ آلِكَ الطَّاِهرِينَ * إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * وَالأمْرُ الاَعْجَبُ وَالخَطْبُ الأفْظَعُ بَعْدَ جَحْدِكَ حَقَّكَ * غَصْبُ الصِّدِّيقَةِ الطَّاهِرَةِ الزَّهْراءِ سَيِّدَةِ النِّساءِ فَدَكاً * وَرَدُّ شَهادَتِكَ وَشَهادَةِ السَّيِّدَيْنِ سُلالَتِكَ وَعِتْرَةِ (١) المُصْطَفى صَلّى الله عَلَيْكُمْ * وَقَدْ أَعْلى الله تَعالى عَلى الاُمَّةِ دَرَجَتَكُمْ * وَرَفَعَ مَنْزِلَتَكُمْ وَأَبانَ فَضْلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ عَلى العالَمِينَ * فَأَذْهَبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَكُمْ تَطْهِيراً (٢) * قالَ الله عَزَّوَجَلَّ : (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(٣) * فَاسْتَثْنى الله تَعالى نَبِيَّهُ المُصْطَفى وَأَنْتَ ياسَيِّدَ الأَوْصِياء مِنْ جَمِيعِ الخَلْقِ * فَما أَعْمَهَ مَنْ

__________________

(١) وعترة أخيك المصطفى (المزار الكبير : ٢٧٨).

(٢) اقتباس من آية التطهير (الأحزاب : ٣٣).

(٣) المعارج ٧٠ : ١٩ ـ ٢٢.


ظَلَمَكَ عَنِ الحَقِّ * ثُمَّ أَفْرَضُوكَ سَهْمَ ذِي القُرْبى مَكْراً * وَأَحادُوهُ عَنْ أَهْلِهِ جَوْراً * فَلَمّا آلَ الأمْرُ إِلَيْكَ أَجْرَيْتَهُمْ عَلى ما أَجْرَيا (١) رَغْبَةً عَنْهُما بِما عِنْدَ الله لَكَ * فَأَشْبَهَتْ مِحْنَتُكَ بِهِما مِحَنَ الأَنْبِياءِ عليهم‌السلام عِنْدَ الوَحْدَةِ وَعَدَمِ الاَنْصارِ * وَأَشْبَهْتَ فِي البِياتِ عَلى الفِراشِ الذَّبِيحَ عليه‌السلام * إِذْ أَجَبْتَ كَما أَجابَ * وَأَطَعْتَ كَما أَطاعَ إسْماعِيلُ صابِراً مُحْتَسِباً إِذْ قالَ لَهُ : (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(٢) * وَكَذلِكَ أَنْتَ لَمّا أَباتَكَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ * وَأَمَرَكَ أَنْ تَضْجَعَ فِي مَرْقَدِهِ وَاقِياً لَهُ بِنَفْسِكَ أَسْرَعْتَ إِلى إِجابَتِهِ مُطِيعاً * وَلِنَفْسِكَ عَلى القَتْلِ مُوَطِّناً * فَشَكَرَ الله تَعالى طاعَتَكَ وَأَبانَ عَنْ جَمِيلِ فِعْلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(٣) * ثُمَّ مِحْنَتُكَ يَوْمَ صِفِّينَ وَقَدْ رُفِعَتِ المَصاحِفُ حِيلَةً وَمَكْراً * فَأَعْرَضَ الشَّكُّ وَعُرِفَ الحَقُّ وَاتُّبَعَ الظَّنُّ * أَشْبَهْتْ مِحْنَةَ هارُونَ إِذْ أَمَّرَهُ مُوسى عَلى قَوْمِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَهارُونُ يُنادِي بِهِمْ (٤) وَيَقُولُ : (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ

__________________

(١) ما أجريا عليه (المزار ٨٥).

(٢) الصافات ٣٧ : ١٠٢.

(٣) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٤) يناديهم (المزار الكبير ٢٨٢).


يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ)(١) * وَكذلِكَ أَنْتَ لَمَّا رُفِعَتِ المَصاحِفُ قُلْتَ ياقَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِها وَخُدِعْتُمْ * فَعَصَوكَ وَخالَفُوا عَلَيْكَ * وَاسْتَدْعَوا نَصْبَ الحَكَمَيْنِ * فَأَبَيْتَ عَلَيْهِمْ * وَتَبَرَّأْتَ إِلى الله مِنْ فِعْلِهِمْ * وَفَوَّضْتَهُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا أَسْفَرَ الحَقُّ وَسَفِهَ المُنْكَرُ * وَاعْتَرَفُوا بِالزَّلَلِ وَالجَوْرِ عَنِ القَصْدِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِهِ * وَأَلْزَمُوكَ عَلى سَفَهٍ التَّحْكِيمَ الَّذِي أَبَيْتَهُ وَأَحَبُّوُه وَحَظَرْتَهُ وَأَباحُوا ذَنْبَهُمْ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ وَأَنْتَ عَلى نَهْجِ بَصِيرَةٍ وَهُدىً * وَهُمْ عَلى سُنَنِ ضَلالَةٍ وَعَمىً * فَما زالُوا عَلى النِّفاقِ مُصِرِّينَ * وَفِي الغَيِّ مُتَرَدِّدِينَ حَتّى أَذاقَهُمُ الله وَبالَ أَمْرِهِمْ * فَأَماتَ بِسَيْفِكَ مَنْ عانَدَكَ فَشَقِيَ وَهَوى * وَأَحْيا بِحُجَّتِكَ مَنْ سَعَدَ فَهُدِيَ صَلَواتُ الله عَلَيْكَ غادِيَةً وَرائِحَةً وَعاكِفَةً وَذاهِبَةً * فَما يُحِيطُ المادِحُ وَصْفَكَ * وَلايُحْبِطُ الطَّاعِنُ فَضْلَكَ * أَنْتَ أَحْسَنُ الخَلْقِ عِبادَةً * وَأَخْلَصُهُمْ زَهادَةً * وَأَذَبُّهُمْ عَنِ الدِّينِ * أَقَمْتَ حُدُودَ الله بِجُهْدِكَ * وَفَلَلْتَ عَساكِرَ المارِقِينَ بِسَيْفِكَ * تُخْمِدُ لَهَبَ الحُرُوبِ بِبَنانِكَ * وَتَهْتِكُ سُتُورَ الشُّبَهِ بِبَيانِكَ * وَتَكْشِفُ لَبْسَ الباطِلِ عَنْ صَرِيحِ الحَقِّ * لا تَأْخُذُكَ فِي الله لَوْمَةَ لائِمٍ * وَفِي مَدْحِ اللهِ تَعالى لَكَ غِنىً عَنْ مَدْحِ المادِحِينَ وَتَقْرِيظِ الواصِفِينَ * قالَ الله تَعالى : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(٢) * وَلَمَّا

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩١ ـ ٩١.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٢٣.


رَأَيْتَ أَنْ قَتَلْتَ النَّاكِثِينَ وَالقاسِطِينَ وَالمارِقِينَ وَصَدَّقَكَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعْدَهُ فَأَوْفَيْتَ بِعَهْدِهِ قُلْتَ : أَما آنَ أَنْ تُخْضَبَ هذِهِ مِنْ هذِهِ؟ أَمْ مَتى يُبْعَثُ أَشْقاها؟ واثِقاً بِأَنَّكَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَبَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ * قادِمٌ عَلى اللهِ * مُسْتَبْشِرٌ بِبَيْعِكَ الَّذِي بايَعْتَةُ بِهِ * وَذلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * اللّهُمَّ العَنْ قَتَلَةَ أَنْبِيائِكَ وَأَوْصِياء أَنْبِيائِكَ بِجَمِيعِ لَعَناتِكَ * وَأَصْلِهِمْ حَرَّ نارِكَ * وَالعَنْ مَنْ غَصَبَ وَلِيَّكَ حَقَّهُ * وَأَنْكَرَ عَهْدَهُ * وَجَحَدَهُ بَعْدَ اليَقِينِ وَالإقْرارِ بِالوِلايَةِ لَهُ يَوْمَ أَكْمَلْتَ لَهُ الدِّينَ * اللّهُمَّ العَنْ قَتَلَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ ظَلَمَهُ وَأَشْياعَهُمْ وَأَنْصارَهُمْ * اللّهُمَّ الْعَنْ ظالِمِي الحُسَيْنِ وَقاتِلِيهِ * وَالمُتابِعِينَ عَدُوَّهُ وَناصِرِيهِ * وَالرَّاضِينَ بقَتْلِهِ وَخاذِلِيهِ لَعْنا وَبِيلاً * اللّهُمَّ الْعَنْ أَوَّلَ ظالِمٍ ظَلَمَ آلَ مُحَمَّدٍ وَمانِعِيهِمْ حُقُوقَهُمْ * اللّهُمَّ خُصَّ أَوَّلَ ظالِمٍ وَغاصِبٍ لالِ مُحَمَّدٍ بِاللّعْنِ * وَكُلَّ مُسْتَنٍّ بِما سَنَّ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ (١) اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَبِيِّنَ (٢) وَعَلى عَلِيٍّ سَيِّدِ الوَصِيِّنَ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ * وَاجْعَلْنا بِهِمْ مُتَمَسِّكِينَ وَبِوِلايَتِهِمْ مِنَ الفائِزِينَ الامِنِينَ الَّذِينَ لاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣).

__________________

(١) إلى يوم الدين (المزار الكبير ٢٨٢).

(٢) وسيد المرسلين (المزار الكبير ٢٨٢).

(٣) إنّك حميد مجيد (المزار الكبير ٢٨٢).


الشرح



محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين

«السلام على محمد رسول الله ، خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وصفوة ربِّ العالمين ، أمين الله على وحيه ، وعزائم أمره ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما استقبل ، والمهيمن على ذلك كله ، ورحمة الله وبركاته ، وصلواته وتحياته» :

اللغة : السلام تحية الإسلام.

إختلف في معنى السلام على وجوه : منها : أنَّه دعاء بمعنى : سَلِمْتَ من المكاره.

ومنها : اسم السلام عليك.

ومنها : اسم الله عليك ، أي أنت في حفظه.

ومعنى السلام على الأحياء ، وعلى الأموات : الدعاء بالسلامة من آفات الدنيا ، وعذاب الآخرة (١).

خاتَمِ النبيين : يجوز فيه : فتح التاء وكسرها ، فالفتح : بمعنى الزينة ، مأخوذ من الخاتَمْ الذي هو زينة لِلابسه ، والكسر : اسم فاعل بمعنى : اللآخِر (٢) ، فالخاتَم : حلي للإصبع ، والخاتِم : آخر القوم (٣).

صفوة رب العالمين : صفوة الشي : خالصه ، ومحمد صفوة الله من خلقه ،

__________________

(١) بتصرف عن مجمع البحرين.

(٢) مجمع البحرين.

(٣) القاموس المحيط.


ومصطفاه (١).

عزائم : جمع عزيمة : وهي إرادة الفعل ، والقطع عليه ، والجد في الامر ، وعزائم الله : موجباته ، والأمر المقطوع عليه ، لا ريب فيه ، ولا شبهة ، ولا تأويل فيها ، ولا نسخ (٢) ، وعزمة من عزائم الله : حق من حقوقه ، وواجب ممّا أوجبه ، وعزائم الله : فرائضه التي أوجبها (٣).

الفاتح : من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لفتحه أبواب الإيمان ، ولأنَّه جعله الله حاكماً في خلقه ، ولأنَّه فتح ما استغلق من العلم (٤).

المهيمن : الشاهد (٥) ، المهيمن على كذا : صار رقيباً عليه ، وحافظاً (٦).

السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء الأمر بالسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معطوفا على الأمر بالصلاة عليه ، في قوله عزوجل : (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(٧).

وقد ورد في الحديث الشريف في فضل السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قوله : «إنَّ ملكاً أتاني ، فقال لي : يا محمد ، إنَّ ربَّك يقول لك : أما يرضيك أن لا يصلّي عليك

__________________

(١) الصحاح.

(٢) مجمع البحرين.

(٣) القاموس المحيط.

(٤) مجمع البحرين.

(٥) الصحاح.

(٦) القاموس المحيط.

(٧) الأحزاب : ٥٦.


أحد من أمتك ، إلّا صليت عليه عشراً ، ولا يسلّم عليك إلّا سلّمت عليه عشراً؟» (١).

خاتم النبيين :

إنَّ الله عزوجل أرسل الأنبياء لهداية البشر إلى طاعته وعبادته ، وزوَّد كلَّ نبي بالدلائل والمعجزات ، ليثبت صحة دعواه ، وكلُّ الأنبياء مهَّدوا للنبوة الخاتمة لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبشَّروا بها ، وقد دخل التحريف على الديانات السابقة للإسلام ، وشوِّهت معالمها ، أمّا رسالة الإسلام الخالدة فقد حفظت من التشويه والتحريف بالقرآن الكريم الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)(٢) ، وقد تعهد الباري عزوجل بحفظه حيث يقول : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(٣) فبقيت الرسالة كما أنزلها الله تعالى ، وستبقى مدى الدهر ، لأنَّها مزوَّدة بما يضمن بقاءَها : بمعجزتها الخالدة ، ولشمولها على ما يصلح شتى نواحي الحياة ، ومعالجتها بأفضل وجه ، ولمواكبتها سنن التطور والرقي ، وقد نص الذكر الحكيم على كونه خاتم النبيين في قوله تعالى : (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(٤) ، كما أكده الحديث النبوي الشريف في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نبيَّ بعدي» ، فهو خاتَم الأنبياء ، وخاتِمهم.

__________________

(١) سنن الدارمي ٢ / ٣١٧ ، السنن الكبرى للنسائي ١ / ٣٨٠ ـ ٣٨٤ ، مسند أحمد ٤ / ٣٠ ، المصنف لابن أبي شيبة ٢ / ٣٩٨ ، ٧ / ٤٤٢.

(٢) فصلت : ٤٢.

(٣) الحجر : ٩.

(٤) الأحزاب : ٤٠.


سيد المرسلين :

والنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سيد المرسلين ، ولا خلاف في ذلك ، وقد شاركهم في جميع خصائصهموفضائلهم ، وزاد عليهم ، وتحمل الأذى في سبيل الله عزوجل من أجل إبلاغ رسالته أكثر ممّا تحمله أيّ نبي ، ولم يقتصر الأذى عليه في حياته ، بل تعداء إلى ذريته ، وأهل بيته عليهم‌السلام من بعده.

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف النص على أنّه سيد المرسلين : روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث في الإسراء قال فيه : «وأعطت ثلاثاً : إنَّك سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين ، وقائد الغر المحجلين» (١) وفي حديث جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأول شافع ومشفع ولا فخر» (٢) ، وفي حديث آخر : «أنا سيد المرسلين إذا بعثوا» (٣).

المصطفى :

وهو الذي اصطفاه الله تعالى ، فاستخلصه ، واختاره من بين عباده من الأولين والآخرين ، وقد جاء في حديث واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم ، واتخذه خليلاً ، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، ثمَّ اصطفى من ولد إسماعيل نزار ، ثمَّ اصطفى من ولد نزار مضر ، ثمَّ اصطفى من ولد مضر كنانة ، ثمَّ اصطفى من كنانة قريشاً ، ثمَّ اصطفى من قريش

__________________

(١) الدر المنثور ٤ / ١٥٣ ، كشف الخفاء ٢ / ٣٤٢ ، مجمع الزوائد ١ / ٥٧٨.

(٢) الأوائل لأبي عاصم : ٨٤.

(٣) كنز العمال ١١ / ٤٣٥.


بني هاشم ، ثمَّ اصطفى من بني عبد المطلب ، ثمَّ اصطفاني من بني عبد المطلب» (١).

فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المصطفى المختار الذي خصه الله عزوجل بكل مكرمة ، وحباه بكل فضل ، فاختاره للنبوة الخاتمة ، وأمر الأنبياء السابقين أن يبشروا به وبرسالته ، وأوجب على جميع الخلق اتباعه.

أمين الله :

كلُّ نبي هو أمين الله عزوجل على ما يوحى إليه ، يؤتمن عليه ، ليبلّغه إلى أمته ، ونبينا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يختلف في ذلك عن سائر الأنبياء ، والوحي الذي نزل عليه على نوعين :

الأول : القرآن الكريم : وقد نزل بالنَّص الذي بين أيدينا ، بلا زيادة ، ولا نقص ، وقد أخذه المسلمون بالتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نزوله ، وحفظه بعض الصحابة عن ظهر قلب على عهده ، وتناقله المسلمون من بعده ، وحفظوا سوره وآياته ، ورتّلوه في صلواتهم ، ومحافلهم ، وندواتهم ، وتعبدوا الله تعالى بالعمل بأحكامه ، وتدارسوا أوجه تفسيره ، وتأويله.

الثاني : ما كان يتلقاه من الوحي ـ غير القرآن الكريم ـ وهو يشتمل على تفسير القرآن ، وبيان الأحكام ، وأخبار الماضين ، والإخبار بالمغيبات ، وما إلى ذلك مما ائتمن الله عزوجل عليه نبيَّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليؤديه إلى أمته.

وكما أدّى القرآن ، وبلّغه إلى الأمة بنَصِّه ، وبلّغهم أحكامه ، وتفسير آياته ، فإنَّه علّمهم معالم دينهم كما جاءته عن الله تعالى ، كلّما اقتضت الحاجة إلى ذلك ما دام

__________________

(١) الدر المنثور ٢ / ٢٣٤ ، ذخائر العقبى : ١٠.


فيهم ، وأودع أسرار رسالته إلى وصيه المرتضى الإمام علي عليه‌السلام ليكون مرجع الأمة بعده ، ثمَّ نوَّه عنه ، وأرشد إليه ، فأخبرهم بأنَّه موضع سرّه ، وعيبة علمه ، وباب مدينة علمه (١) ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي أرشد فيها إليه ، وبهذا حفظ الأمانة ، وأدّاها خير أداء ، فكان الإمام علي عليه‌السلام بذلك الأمين بعد الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والوحي يشتمل على العزائم ، وعلى غيرها من الأحكام ، وائتمانه على العزائم يتفرع عن ائتمانه على الوحي ، وقد بلَّغها إلى الناس ، وحثهم على العمل بها ، كما حثهم على عدم التهاون بها ، أو تركها.

وهو الخاتِم لما سبقه من الأنبياء والمسلين ، ورسالته خاتمة الرسائل ؛ لذا فالتعبد بما جاء به واجب على كافة البشر إلى يوم الدين.

وهو الفاتح للناس أبواب الإيمان والعلم بعد أن كانت عقولهم مستغلقة على الكفر والجهل ، فهو المنقذ من الضلال ، والمرشد إلى الخير في النشأتين.

وطبيعة رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقتضي أن يكون شاهداً ، ورقيباً ، وحافظاً ، يهيمن على الرسالة تبليغاً ، وتطبيقاً ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)(٢) ، وسيرته مع أمته كانت خير تطبيق لذلك ، إذ كان يرشد الضال ، ويبشر المخلص ، ويحاسب المقصر ، باذلاً أقصى الجهد في تبليغ الرسالة ، وتطبيقها.

__________________

(١) سيأتي ذكر مصادر هذه الأحاديث في موضعها من الزيارة.

(٢) الفتح : ٨.


السلام على الأنبياء والرسل

«السلام على أنبياء الله ، ورسله ، وملائكته المقربين ، وعباده الصالحين» :

اللغة : النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر ، سواء كانت له شريعة ، أم لا.

والرسول : هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر وله شريعة مبتدأة كآدم عليه‌السلام ، أو ناسخة كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفرق بينهما مضافاً لما بين التعريفين : أنَّ النبي يرى في منامه ، ويسمع الصوت ، ولا يعاين الملك ، والرسول يسمع الصوت ، ويرى في منامه ، ويعاين الملك ، والنبي لا يكون إلّا بشراً ، والرسول يكون من البشر ، ومن الملائكة (١).

يعتقد المسلمون بجميع الأنبياء والرسل السابقين ، ويقدسونهم ، ولا تصح عقيدة المسلم إلّا بالإعتقاد بهم ، وبما أرسلوا به إجمالاً.

ويعتقدون بوجود الملائكة ، ويقدسونهم ؛ لأنَّ القرآن الكريم أخبر بوجودهم.

والسلام على الأنبياء والرسل والملائكة من المستحبات ، وفيه تعظيم لهم ، وتقدير لجهودهم في طاعة الله عزوجل.

__________________

(١) بتصرف عن مجمع البحرين.



أمير المؤمنين عليه‌السلام

«السلام عليك يا أمير المؤمنين» :

اقترن لقب (أمير المؤمنين) تأريخيا بمن يتولى السلطة الزمنية منذ عهد عمر ابن الخطاب ، وهو أول من لقب به ، فقد روى ابن عبد البر ، قال : «وأمّا القصة التي ذكرت في تسمية عمر نفسه أمير المؤمنين ، فذكر الزبير ، قال : قال عمر لمّا ولي : كان أبو بكر يقال له : خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يقال لي : خليفة خليفة رسول الله؟!. قال : فقال له المغيرة بن شعبة : أنت أميرُنا ، ونحن المؤمنون ، فأنت أمير المؤمنين» (١) ، فاستهلَّ به كتبه ، ورسائله ، وكتب به إلى ولاته على الأمصار ، وقد لُقب بهذا اللقب الخلفاء الراشدون ما عدى أبي بكر حيث لقب بخليفة رسول الله ، ولقب به جميع من تولى السلطة من بني أمية ، وبني العباس ، فكان يعني السلطة الزمنية ، وهو لقب للخليفة ما دام في منصبه.

ولكن الأمر يختلف بالنسبة للوصي المرتضى الإمام علي عليه‌السلام فهو بالنسبة إليه لا يقتصر على السلطة الزمنية ؛ لأنَّه الخليفة الذي نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلافته بعده بلا فصل ، ولقبه بهذا اللقب ، كما جاء في الأحاديث الشريفة ، وإليك بعضاً منها :

قال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس ، أول من يدخل من هذه الباب : أمير المؤمنين ، وقائد الغر المحجلين ، وسيد المؤمنين علي» (٢) ، وفي لفظ

__________________

(١) الإستيعاب ٣ / ١١٥٠ ، وبنفس المعنى : تاريخ ابن خلدون ١ / ٢٢٧ ، تاريخ الاُمم والملوك ٣ / ٢٧٧ ، تاريخ الخلفاء ١٣٨.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٣.


آخر عن أنس ، قال : «يا أنس ، أول من يدخل عليك من هذا الباب : أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين» ، قال أنس : قلت : اللّهم اجعله رجلاً من الأنصار ، وكتمته ، إذ جاء علي بن أبي طالب ... الحديث.

وفي حديث ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وروى حديثاً في وصف يوم القيامة جاء فيه ـ : «فينادي منادٍ من لدنان العرش [أو قال : من بطنان العرش] : ليس هذا ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، ولا حامل عرش رب العالمين ، هذا علي بن أبي طالب ، أمير المؤمنين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين إلى جنات رب العالمين ... حديث» (١).

وفي حديث ابن عباس ـ أيضاً ـ قال : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، فغدا عليه علي بن أبي طالب بالغداة ـ وكان يحب أن لا يسبقه إليه أحد ـ فدخل ، وإذا بالنبي في صحن الدار ، وإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي ، فقال : السلام عليك ، كيف أصبح رسول الله؟ قال : بخير ، يا أخا رسول الله ، قال له علي : جزاك الله عن أهل البيت خيراً ، قال له دحية : إنّي أحبك ، وإنَّ لك عندي مدحة أزفها إليك : أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغر المحجلين [إلى أن قال] : فرفع رسول الله رأسه ، فقال : ما هذه الهمهمة؟. فأخبره علي ، فقال : يا علي ، ليس هو دحية الكلبي ، هو جبرئيل ، سمّاك باسمٍ سمّاك الله به ، هو الذي ألقى محبتك في صدور المؤمنين ، ورهبتك في صدور الكافرين» (٢).

وفي حديث ابن عباس ـ أيضاً ـ أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها :

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ١٢٢ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٢٨.

(٢) المناقب : ٢٣١.


«اسمعي واشهدي ، هذا علي أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين» (١) ، وروي هذا الحديث بلفظ : «يا أم سلمة اشهدي ، واعلمي ، واسمعي ، هذا علي أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وعيبة علمي ، وبابي الذي أوتى منه» (٢).

وروى بريدة الأسلمي ، قال : (أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسلِّم على علي بإمرة المؤمنين ، ونحن سبعة ، وأنا أصغر القوم يومئذٍ) (٣).

والشيعة يرون اختصاص لقب أمير المؤمنين بالإمام علي عليه‌السلام اقتداءً بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وما رووه عن جدهم الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، ننقل ـ على سبيل المثال ـ ما روي عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، عن آبائه صلوات الله عليهم ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكل أمة صدِّيق ، وفاروق ، وصدِّيق هذه الأمة وفاروقها علي بن أبي طالب ـ في حديث طويل جاء فيه ـ : إنَّ عليا خليفة الله ، وخليفتي عليكم بعدي ، وإنَّه لأمير المؤمنين ، وخير الوصيين ...» الحديث (٤).

__________________

(١) الإرشاد : ٢٠.

(٢) المناقب : ٨٦.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٤٢ / ٣٠٣.

(٤) بحار الأنوار : ٣٨ / ١١٢.



سيد الوصيين

(وسيد الوصيين) :

الإمام علي عليه‌السلام وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما أخذه الشيعة من روايات أهل البيت عليهم‌السلام ، ويتفق معهم المعتزلة حيث يقول ابن أبي الحديد : (أمّا الوصية فلا ريب عندنا أنَّ علياً عليه‌السلام كان وصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن خالف في ذلك من هو منسوب ـ عندنا ـ إلى العناد ، ولسنا نعني بالوصية : (النص والخلافة) ، ولكن أمور أخرى ، لعلّها إذا لمحت أشرف وأجل) (١).

ويبدو أن الرأي السائد لدى أكثر الأشاعرة يتفق مع رأي الشيعة والمعتزلة في ذلك ، قال الفضل بن روزبها ـ في رده على العلّامة الحلي رحمه‌الله ـ (الوصي : قد يقال ويراد به : من أوصى له بالعلم والهداية ، وحفظ قوانين الشريعة ، وتبليغ العلم والمعرفة ، فإن أريد هذا من الوصي ، فمسلّم أنَّه كان وصيّاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا خلاف في هذا ، وإن أريد الوصية بالخلافة ، فقد ذكرنا بالدلائل العقلية والنقلية عدم النص في خلافة علي) (٢).

وعلى هذا يبدو أنَّ المسلمين جميعاً يتفقون على أنَّه الوصي ما عدا المتعصبين ، وهم الذين نسبهم ابن أبي الحديد إلى العناد.

وقد روى حديث الوصية أئمة الحديث ، وحفاظه في كتبهم عن عدد من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٩.

(٢) دلائل الصدق ٢ / ٢٤١.


الصحابة ، ومن هذه الكتب : حلية الأولياء لأبي نعيم ، وذخائر العقبى للمحب الطبري ، والرياض النضرة ، وكنوز الحقائق للمنّاوي ، والمستدرك للحاكم ، والمناقب للإمام أحمد (١) ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٣٩٢ ، وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ١ / ٩٨ ، ٩٩ ، وفضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٦١٥ ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ١٨٣ ، وكنز العمال للمتقي الهندي ١١ / ٦٢٠ ، ومجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١١٣ ، ومسند أبي يعلى ٤ / ٣٤٤ ، والمعجم الكبير للطبراني ٦ / ٢٢١ ، والمناقب للخوارزمي ٨٥ ، ١٤٧.

والذي يحدد دور الوصي ، ومعنى الوصية ، هو ما كان عليه أوصياء الأنبياء عليهم‌السلام ، فكما كانوا وزراء للأنبياء في حياتهم ، وخلفاء لهم بعد وفاتهم ، كذلك يكون دور الإمام علي عليه‌السلام لا يختلف عنهم ، والحديث النبوي الشريف نصَّ على الخلافة والوصية معاً ، لم يفصل بينهما ، كما جاء في حديث دعوة العشيرة الذي رواه الإمام علي عليه‌السلام ، قال : «بَدَرَهُمْ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام فقال : «أيّكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم؟». فأحجم القوم عنها جميعاً ـ وإنّي لأحدثهم سناً ، فقلت : «يا نبي الله ، أنا أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثمَّ قال : «هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له ، وأطيعوا» (٢)».

وفي لفظ أبي رافع مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايته لحديث دعوة العشيرة ، قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن يبايعني على أن يكون أخي ووزيري ، ووصيي ،

__________________

(١) فضائل الخمسة ٢ / ٢٧ ـ ٣٤.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٦٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٩ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢١١ ، كنز العمال ١٣ / ١١٤.


وقاضي ديني ، ومنجز عداتي؟» [إلى أن قال] : فقام إليه علي بن أبي طالب فبايعه) (١).

فحديث الوصية اقترن بالدعوة منذ بدئها ، وقبل أن يعلنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس كافة ، إذ اُمر بإعلانها لعشيرته الأقربين أولاً ، ثمَّ تكرر النص بها في مناسبات عديدة ، كان آخرها مرضه الذي قبض فيه على ما رواه أبو أيوب الأنصاري ، من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة في مرضه : «إنَّ الله اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة ، فاختارني منهم ، فبعثني نبياً مرسلاً ، ثمَّ اطلع اطلاعة فاختار منهم بعلك ، فأوحى إلي أن أزوجك إياه ، وأتخذه وصياً وأخاً» (٢).

وممّا يؤيد ما ذهب إليه الشيعة من إرادة النص بالخلافة من الوصية حديث أم سلمة الذي جاء فيه : أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال لها : «إنّ الله اختار لكل أمة نبياً ، واختار لكل نبي وصياً ، فأنا نبي هذه الأمة ، وعلي وصيي في عترتي ، وأهل بيتي ، وأمتي من بعدي» (٣).

وقد روى أحاديث الوصية عدد من الصحابة ، ولكل حديث منها مناسبته الخاصة به ، منهم : ابن عباس ، وأبو رافعع ، وأبو سعيد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وسلمان ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد مرت روايات أكثرهم ، وتقدم بيان أسماء المصادر التي روت عنهم ؛ لذا كان أمر الوصية على حد كبير من الشهرة في صدر الإسلام ، يدل على ذلك ما رواه ابن أبي الحديد من أراجيز بعض الصحابة والتابعين في حرب الجمل ، وفي حرب صفين ، وما أشار إليه من أنَّ الشعر الذي

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٩ ، شواهد التنزيل ١ / ٥٤٤ ، كفاية الطالب ١٨٤.

(٢) المناقب ٦٣.

(٣) المناقب ١٤٧.


يتضمن الوصية لا يمكن حصره (١).

والإمام علي عليه‌السلام خاتم الوصيين ، لأنَّه وصي خاتم الأنبياء عليه وعليهم‌السلام ، وقد جاء النص بذلك في حديث أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذر مرَّ في موضوع أمير المؤمنين (٢) ، وهو ينص على أنَّه خاتم الوصيين.

والإمام علي عليه‌السلام سيد الوصيين لأنه نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص الذكر ، وهو منه بمنزلة الذراع من العضد ، وبمنزلة الرأس من البدن ، ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد النبيين ، فلا ريب أنَّ وصيه سيد الوصيين ، وهو خير الوصيين ، وقد جاء في الحديث النبوي الذي رواه الإمام الصادق عليه‌السلام : وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوة ، فإن لا تكن نبيّاً فإنَّك وصي نبي ووارثه ، بل أنت سيد الأوصياء ، وإمام الأتقياء» (٣).

وقد جاء في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي قبض فيه ، قال للبضعة الطاهرة عليها‌السلام : «أنا خاتم النبيين ، وأكرم النبيين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله ، وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبهم إلى الله ، وهو بعلك» (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٣ ـ ١٥٠.

(٢) ص ٦١ من هذا الكتاب.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٠ ، ينابيع المودة ١ / ٢٣٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٣٠ ، ذخائر العقبى ١٣٦ ، المعجم الأوسط ١ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ٣ / ٥٧.


وارث علم النبيّين

(ووارث علم النبيين) :

إنَّ جميع الرسالات السماوية تبتني على أسس واحدة ، وكلها جاءت لإرساء هذه الأسس ، وترسيخها ، لأنَّها جميعاً من مصدر واحد ، وتعمل لهدف واحد ، فكلُّ الرسالات دعت إلى عقيدة التوحيد ، وعبادة الله تعالى ، وجاءت بأحكام وتعليمات من أشنها : إحقاق الحق ، وإزهاق الباطل ، ونشر العدل ، ورفع الظلم ، وتوجيه البشرية نحو الخير ، والصلاح ، وإرشادها إلى مكارم الأخلاق ، وكلّما يسعدها في النشأتين ، ومحاربة كلّ ما يؤدي إلى معصية الله عزوجل : من الرذائل ، والأعمال القبيحة ، وما يؤدي إلى الإضرار بالناس في النشأتين.

لذا نجد أنَّ القرآن الكريم ذكر الكثير من أحكام الديانات السابقة ، وأقرها لتكون تشريعاً من تشريعات الدين الإسلامي الحنيف ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلقى عن طريق الوحي الكثير من سِيَر الأنبياء ، وعلومهم ، والتعليمات السماوية التي اُرسلوا بها ، وقد نص القرآن الكريم في آيات عديدة على تصديق الكتب السماوية السابقة بلفظ : (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)(١).

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الوارث لعلم الأنبياء بما تلقاه عن طريق الوحي ، ولمّا كان الإمام علي عليه‌السلام باب مدينة علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعيبة علمه ، ومستودع أسرار رسالته ، ووارث علمه ، فهو إذاً وارث علم النبيين عنه ، وإليك بعض الأحاديث التي نصت على أنَّه وارث علمه :

__________________

(١) البقرة ٢ : ٩٧ ، آل عمران ٣ : ٣ ، المائدة ٥ : ٤٨ ، فاطر ٣٥ : ٣١ ، الأحقاف ٤٦ : ٣٠.


١ ـ جاء في حديث المؤاخاة عن زيد بن أبي أوفى : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلّا لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ، ووارثي. قال : وما أرث منك يا رسول الله؟. قال : ما ورَّثت الأنبياء من قبلي. قال : وما ورَّثت الأنبياء من قبلك؟. قال : كتاب ربِّهم ، وسنة نبيهم ...» الحديث (١).

٢ ـ وجاء في حديث معاذ بن جبل قال : قال علي : يا رسول الله ، ما أرث منك؟. قال : «ما يرث النبيون بعضهم من بعض ، كتاب الله ، وسنة نبيه» (٢).

٣ ـ روى ابن عباس ، قال : كان علي يقول في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يقول : (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)(٣). والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات ، أو قتل ، لأقتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إنّي لأخوه ، ووليه ، وابن عمِّه ، ووارث علمه ، فمن أحق به منّي (٤)».

هذا بعض ما روي من الأحاديث في وراثة الإمام علي عليه‌السلام لعلم الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تضمن كثير من الأحاديث النص على أنَّه وارث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بنا بعضها في مواضيع سابقة ، ومعلوم أنَّ كل الأحاديث التي تنص على الوراثة بصورة عامة ، غير مخصصة بوراثة العلم ، هي محمولة عليها ، لأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لا يرث من مال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً بحسب القواعد الشرعية ، فابنته الصديقة الزهراء عليها‌السلام هي الوارث الوحيد غير زوجاته على رأي الشيعة ، ويشاركها في وراثته عمه

__________________

(١) ذخائر العقبى ٧١.

(٢) ذخائر العقبى ٧١.

(٣) آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٤) تفسير ابن كثير ١ / ٤١٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٢٥ ، المستدرك ٣ / ١٢٦ ، المعجم الكبير ١ / ١٠٧.


العباس عليه‌السلام على رأي أهل السنة (١).

وممّا يؤكد وراثته لعلم الأنبياء ، مجمل الأحاديث التي تدل على انتقال علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ، لأنَّها تستلزم انتقال علم النبيين إليه ، وكونه وارث علمهم ، وهي كثيرة ، ننقل منها :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم ، فليأت باب المدينة» (٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صاحب سري علي بن أبي طالب» (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي عيبة علمي» (٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي باب علمي ، ومبيِّن لأمَّتي ما أرسلت به من بعدي» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب» (٧).

وروى أبو البختري أنَّه رأى عليا كشف عن بطنه على المنبر ، وقال : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنَّ ما بين الجوانح منّي علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما زقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زقّا ، من غير وحي أوحي إلي ،

__________________

(١) راجع فضائل الخمسة ٢ / ٤١ ففيه تفصيل ما أشير إليه.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٨ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٠ ، ١٣ / ١٤٧ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٥٨.

(٣) تاريخ بغداد ١ / ٤٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٨ ، ٣٨٣ ، شواهد التنزيل ١ / ١٠٤ ، ٤٣٢ ، فيض القدير ٣ / ٦٠ ، كنزل العمال ١٣ / ١٤٨ ، المستدرك ٣ / ١٢٧ ، المعجم الكبير ١١ / ٢٥٥.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣١٧.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٥ ، فيض القدير ٤ / ٤٦٩ ، ينابيع المودة ٢ / ٧٧ ، ٩٦.

(٦) كشف الخفاء ١ / ٢٠٤ ، كنز العمال ١١ / ٦١٤ ، ينابيع المودة ٢ / ٢٤٠ ، ٣٠١.

(٧) شواهد التنزيل ١ / ١٠٣ ، المناقب ٣٠.


فوَالله لو ثنيت لي وسادة ، فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل ، فيقول : صدق علي ، قد أفتاكم بما فيَّ ، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» (١) ، وما ذلك إلّا لأنَّه ورث علم الأنبياء عليهم‌السلام الذي حواه التوراة والإنجيل ، ممّا علّمه إيّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختصه به.

__________________

(١) المناقب ٩١ ، ينابيع المودة ٢ / ٣٣٨.


ولي ربِّ العالمين

(وولي ربّ العالمين) :

اللغة : الوَلْي (١) القرب والدنو ، وَلِيّ الله : المطيع له ، والمؤمن : ولي الله : أي المعان بنصره ، أو الناصر لأوليائه ودينه ، وجمعه : أولياء الله : وهم الذين يطيعون الله ، فيبتعدون عن المعاصي ، ويترقبون إليه بالعبادة والزهد ، وترويض النفس بما يرضي الله.

والإمام علي عليه‌السلام هو سيد أولياء الله تعالى ، وإمامهم ، لم يشرك به طرفة عين ، تربّى في حجر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنشأ على التوحيد ، وكان أول الأمة إيماناً برسالته ، وتصديقاً لنبويته ، وأول من صلّى معه من الذكور ، تلقى تعاليم الدين ، وأحكامه ، وهو في مقتبل العمر ، فكان شديد الالتزام بها ، يتقيد بأوامرها ، ونواهيها في كل تصرفاته ، فكان بذلك أقواهم إيماناً ، وأشدهم يقيناً ، وأكثرهم عبادة ، وورعاً ، وزهداً ، وتقوى ، لم يحد عن النهج الإسلامي القويم قيد شعرة ، فبلغ بذلك درجة من الإيمان لم يبلغها غيره ، ومن كانت هذه سيرته فلا شك أنه ولي الله ، بل هو سيد أوليائه.

وقد شهد الذكر الحكيم للإمام علي عليه‌السلام لبلوغه هذه الدرجة العظيمة من الإيمان ، في آيات عديدة فسِّرت فيه ، تشهد له بصدق الإيمان ، وتنعته بأسمى

__________________

(١) راجع الصحاح ، والقاموس المحيط ، والمنجد ، والفروق اللغوية.


النعوت التي تبين كونه ولي الله ، لذا يقول حبر الأمة عبد الله بن عباس : (ما أنزل الله من آية فيها : يا أيها الذين آمنوا دعاهم فيها ، إلّا وعلي كبيرها وأميرها) (١).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٢ ، الصواعق المحرقة ١٢٧.


مولى المؤمنين

(ومولاي ومولى المؤمنين) :

للمولى في اللغة معان كثيرة ، والمعنى الذي يقتضيه سياق الزيارة هو : من يملك الطاعة. وهو بذلك الولي.

وولاية الإمام علي عليه‌السلام ممّا ثبت بنص الكتاب العزيز في آية الولاية ، وأكدته السنة النبوية الشريفة في أحاديث متعددة ، يؤيد بعضها بعضاً ، وأوضحها دلالة حديث الغدير ، الذي نقلناه في التمهيد (١) ، والذي يتضمن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه» ولا شك في تواتر هذا الحديث عن الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ طرق نقله كثيرة ، وعدد من رواه من الصحابة ، ومن تبعهم على روايته في مختلف الطبقات ، قد تجاوز الحد المعتبر في التواتر بكثير ، وإليك بعض الموارد الأخرى لأحاديث الولاية :

١ ـ حديث البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت وليه فعلي وليه» (٢) ، وروي هذا الحديث عن بريدة (٣) ، وعن زيد بن أرقم (٤) ، وعن ابن عباس (٥).

__________________

(١) ص ١٥ من هذا الكتاب.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨٧.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨٨ ، ١٩٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ ، فضائل الصحابة ١٤ ، مسند أحمد ٥ / ٣٥٨ ، ٣٦١.

(٤) كنز العمال ١٢ / ١٠٤ ، ١٣ / ١٠٥ ، ١٩٢ ، المعجم الكبير ٥ / ١٦٦.

(٥) السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١١٣.


٢ ـ حديث بريدة الأسلمي ، قال : غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة ، فقدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكرت علياً ، فتنقصته ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغير ، فقال : «يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟. فقلت : بلى يا رسول الله ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه» (١).

وفي رواية ابنه عبد الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة ، وهو وليكم بعدي» (٢).

وفي رواية أخرى عنه ، قال : «يا بريدة لا تقع في علي ، علي منّي ، وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (٣).

٣ ـ حديث عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «علي منّي وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (٤).

٤ ـ حديث ابن عباس ، قال : إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : «أنت ولي كل مؤمن بعدي» (٥).

٥ ـ حديث وهب بن حمزة ، قال : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقولوا هذا

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨٧ ، الدر المنثور ٥ / ١٨٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ ، ١٣١ ، فضائل الصحابة ١٤ ، المستدرك ٣ / ١١٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨٩.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٩٧ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٨ ، ينابيع المودة ٢ / ١٥٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٩٨ ، خصائص أمير المؤمنين ٩٧ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٩ ، ٦٠٨ ، مسند أبي يعلى ١ / ٢٩٣ ، المعجم الكبير ١٨ / ١٢٩ ، نظم درر السمطين ٧٩ ، ٩٨.

(٥) البداية والنهاية ٧ / ٣٨١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٩٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٦٤ ، مسند أبي داود ٣٦٠ ، المعجم الكبير ١٢ / ٧٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٨٦.


لعلي ، فإنَّ علياً وليكم بعدي» (١).

وقد عرف له الصحابة هذه الولاية والمولوية ، وأقرّوا بها بمشهد ومسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأمر مؤكد منه ، وأول من أقرَّ له بها عمر ، إذ تقدم يوم غدير خم ، وقال له : «بخ .. بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت ، وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ، ثمَّ تقدم سائر من حضر من الصحابة ، فبايعه عليها (٢) ، ولم يقتصر إقرار الصحابة بالولاية لعلي عليه‌السلام يوم غدير خم ، بل جرت عليه السيرة العملية لبعضهم بعد ذلك ، وإليك بعض الروايات التي نصت على إقرار كبار الصحابة بأنَّه مولى المؤمنين :

روي عن عمر ـ وقد جاءه اعرابيان يختصمان ـ فقال لعلي : اقض بينهما يا أبا الحسن ، فقضى علي بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضي بيننا! فوثت إليه عمر ، وأخذ بتلبيبه ، وقال : ويحك ، ما تدري من هذا؟!. هذا مولاي ، ومولى كل مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن (٣).

وروى سالم بن أبي الجعد ، قال : قيل لعمر : إنَّك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحدٍ من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : إنَّه مولاي (٤).

وروى أبو فاختة ، قال : أقبل علي ، وعمر جالس في مجلسه ، فلمّا رآه عمر تضعضع ، وتواضع ، وتوسع له في المجلس ، فلمّا قام علي ، قال بعض القوم : يا أمير المؤمنين ، إنَّك تصنع بعلي صنعاً ما تصنعه بأحدٍ من أصحاب محمد ، قال عمر : وما

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٨١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٩٩.

(٢) راجع ص ١٩ من هذا الكتاب.

(٣) ذخائر العقبى ٦٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٥ ، الصواعق المحرقة ١٧٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٣٥ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٤٩ ، فيض القدير ٦ / ٢٨٢ ، المناقب ١٦٠.


رأيتني أصنع به؟. قال : رأيتك كلما رأيته تضعضعت ، وتواضعت ، وأوسعت ، حتى يجلس ، قال : وما يمنعني ، والله إنَّه لمولاي ، ومولى كل مؤمن (١).

وروي عن رباح بن الحرث النخعي ، قال : كنت جالساً عند علي عليه‌السلام ، إذ قدم عليه قوم متلثمون ، فقالوا : السلام عليك يا مولانا. فقال لهم : أوَ لستم قوماً عرباً؟. قالوا : بلى ، ولكنا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله». فقال : لقد رأيت علياً عليه‌السلام ضحك حتى بدت نواجذه ، ثمَّ قال : اشهدوا ، ثمَّ إنَّ القوم مضوا إلى رحالهم ، فتبعتهم ، فقلت لرجل منهم : مَنِ القوم؟. قالوا : نحن رهطٌ من الأنصار ، وذاك ـ يعنون رجلاً منهم ـ أبو أيوب صاحب منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فأتيته ، فصافحته (٢).

وروي عن أبي أيوب قوله للإمام علي عليه‌السلام : السلام عليك يا مولاي (٣).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٣٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٨ ، الغدير ١ / ١٨٨.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٣٨٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢١٤.


أمين الله تعالى وسفيره

(السلام عليك يا أمير المؤمنين ، يا أمين الله في أرضه ، وسفيره في خلقه) :

إنَّ الله عزوجل جعل الأنبياء عليهم‌السلام أمناء في الأرض ، فهم المسؤولون أمامه بمقتضى هذه الأمانة عن تبليغ رسالاته إلى أممهم ، وهم خزنة علمه الملزمون بتعليم الناس شرائعه ، وأحكامه التي تنظم لهم أمور دينهم ودنياهم ، وهم الذين يقودون أممهم نحو الخير ، والصلاح ، وما يسعدهم في النشأتين ، وهم السفراء بين الله عزوجل وبين عباده ، عن طريقهم يبلغ العباد ما يهمهم في دينهم ودنياهم من أحكام وتشريعات ، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك في موضوع : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين (١).

ويشارك الأنبياء في ذلك ، ويرثه عنهم أوصياؤهم ، فيتحملون معهم المسؤولية أمام الله عزوجل في تحمل علم الشريعة ، وتبليغها إلى الناس ، فهم أمناء وسفراء من دون وحي ، تتفرع أمانتهم وسفارتهم عن الأنبياء عليهم‌السلام.

ولما كان الإمام علي عليه‌السلام وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومستودع علمه ، ووارثه ، وصاحب سره ، والمرجع للأمة بعده ، ترجع إليه في ما لم تسمع به نصاً جلياً من المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم تجده في سيرته العملية ، وتقريراته ، أو وجدته ، وجهلت تأويله ، أو جهلت ناسخه ، ومنسوخه ، أو موارد التخصيص ، والتقييد فيه ، وكل ما خفي عليها من أمر.

وقد جرت السيرة العملية للصحابة ـ وفي مقدَّمهم الخلفاء الثلاثة ـ على الرجوع إليه في ما أشكل عليهم ، وجهلوا حكمه ، وبذلك تحمل ذات الأمانة التي

__________________

(١) ص ٥٤ من هذا الكتاب.


تحملها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغ الأمة ، وإرشادها إلى أحكام دينها ، وتعليماته ، وهو يرث عنه الأمانة ، والسفارة ، ويؤديهما عنه بما استودعه عنده من علم ، فكان المفزع بعده إليه ، لما بيَّنه للأمة من أنَّه لا يؤدي عنه إلّا علي عليه‌السلام ، وأنَّه الذي يبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده ، في أحاديث عديدة ، ننقل منها :

١ ـ حديث حبشي بن جنادة السلولي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «علي منّي وأنا من علي ، ولا يؤدي عني إلّا أنا أو علي» (١).

٢ ـ حديث عبد الله بن عباس أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو علي بن أبي طالب» (٢).

٣ ـ حديث الآيات من سورة براءة ، وأخذها من أبي بكر : رواه سعد بن أبي وقاص ، جاء فيه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّه لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو رجلٌ منّي» (٣) ، وفي رواية علي بن أبي طالب عليه‌السلام للحديث بلفظ : ولكن جبرئيل جاءني ، فقال : «لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجلٌ منك» (٤).

٤ ـ حديث أنس بن مالك ، جاء فيه : أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : «وما يمنعني وأنت تؤدي عنّي ، وتسمعهم صوتي ، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي» (٥).

وفي حديث آخر عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : «أنت تغسلني ،

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ / ٢٣٢ ، ٧ / ٣٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤٥ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ ، الصواعق المحرقة ١٢٥ ، المعجم الكبير ٤ / ١٦.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤٥.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١١٧ ، خصائص أمير المؤمنين ٩٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٢٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤٨.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩ ، المناقب ٨٥.


وتواريني في لحدي ، وتبين لهم بعدي» (١).

وفي حديث ثالث عن أنس ، قال : «إنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي» (٢).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤ ، الكشف الحثيث ١٣٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٨٦.



حجة الله البالغة

(وحجته البالغة على عباده) :

اللغة : الحجة البرهان ، وقد سميت برهاناً : لبيانها ، وضوحها ، وهي البينة التي تقطع كلَّ عذر لقوَّتها ووضوحها (١).

من المتفق عليه عند أهل القبلة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الله تعالى على العباد في كلِّ ما يصدر عنه : من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، وهم مسؤولون عن تطبيق ما يصدر عنه أمام الله عزوجل ، وقد التزم الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم‌السلام بذلك ، واعتبروا ما صدر عنه سنة أخذوا أحكام دينهم منها ، واستفادوا من القرائن والظروف في تمييز كلٍّ من الواجب ، والمستحب ، والمباح من الأوامر ، والأفعال ، والتقريرات ، وتمييز كل من المحرَّم ، والمكروه من النواهي.

وهذا الإلتزام نتيجة حتمية للإعتقاد بعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّه لا يصدر عنه ـ بمقتضاها ـ إلّا ما يطابق الشريعة ، وقد قال الله تعالى عنه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)(٢) ، فكلّ ما يصدر عنه هو تشريع ، يجب على المكلفين الأخذ به ، وهم مسؤولون عنه يوم القيامة ، يعذبون إنْ قصَّروا ، ويثابون إن امتثلوا ، فهو حجة الله تعالى عليهم.

وللوصي المرتضى عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس الدور ، لأنَّه وصيُّه ، ووارث علمه ، والذي يقوم مقامه بالتبليغ ، فيؤدي عنه ، ويبيِّن لهم ما اختلفوا فيه من بعده ، وهو

__________________

(١) راجع لسان العرب ، الصحاح ، مجمع البحرين.

(٢) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.


مولى المسلمين ، وأولى بهم من أنفسهم ، والذي دلت النصوص على عصمته ، وقد جسّدت سيرته العملية عصمته ، وأيدت ما دلّت عليه النصوص ، إذ لم يستطع أحد من أعدائه أن يتهمه بمخالفة للشريعة الحقة ، ويأتي على ذلك بدليل ، ولذا نرى معاوية ، وابن العاص ، لم يجدا وسيلة سوى اتهامه بإيواء قتلة عثمان ، وعدم إقامة الحد عليهم ، والإفتراءات عليه بذلك.

وقد نهج أصحاب الجمل نفس النهج ، واستند الخوارج إلى حجة واهية ، فاتهموه بالكفر لقبوله التحكيم في صفين ، الأمر الذي هم أجبروه عليه ، وهكذا كل ما لفق على الإمام علي عليه‌السلام يظهر بطلانه من أول نظرة فاحصة.

والأدلة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام من الكتاب والسنة كثيرة ، إليك بعضها :

أولاً : من القرآن الكريم «آية التطهير» : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(١).

هذه الآية الكريمة نزلت في النبي المصطفى ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام ، وقد تظافرت الروايات ، واستفاض النقل من الفريقين على نزولها فيهم ، حتى بلغ حد التواتر ، بل تجاوز الحد المعتبر في التواتر.

وقد نصت الروايات على أنَّ الآية نزلت في بيت أم سلمة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمعهم تحت كساء في بيت أم سلمة عدة مرات ، وقد سألته أم سلمة : هل أنَّها من أهل البيت؟ فقال لها : إنَّك على خير ، إنَّك من أزواج النبي ، وتنص الروايات أنَّه أجاب عائشة بذلك عندما سألته نفس السؤال ، وقد رأته جمعهم تحت كساء ، وقرأ الآية الكريمة كما كرر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمعهم تحت الكساء ، وطبق الآية عليهم في داره مراراً ، مرة منها في بيت عائشة ، ومرة في بيت فاطمة عليها‌السلام ، وعندما سأله مولاه

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.


واثلة بن الأسقع : ألست من أهل البيت؟. أجابه : إنَّك إلى خير.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة ، يأتي في كل يوم عندما يخرج لصلاة الغداة ، فيقف على باب بيت علي عليه‌السلام ، فينادي : «السلام عليكم أهل البيت ، الصلاة يرحمكم الله ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» ، وتنص الروايات على أنَّه استمر على ذلك مدة طويلة بلغت ستة أشهر على أقل الروايات.

روى اختصاصها بهؤلاء الخمسة عليهم‌السلام من الصحابة في حدود ما اطلعت عليه من كتب السنة (١) : ابن عباس ، وأبو برزة ، وأبو الحمراء ، وأبو سعيد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، والحسن بن علي عليه‌السلام ، وزينب بنت أبي سلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة ، وعبد الله بن جعفر ، وعطية ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعمر بن أبي سلمة ، وواثلة بن الأسقع.

__________________

(١) أسباب النزول ٢٣٩ ، أسد الغابة ٢ / ١٢ ، ٢١ ، ٣ / ٤١٣ ، ٥ / ٥٢١ ، ٥٨٩ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٧٤ ، ٣٧٩ ، ٨ / ٢٤٤ ، تاريخ بغداد ٩ / ١٢٨ ، ١٠ / ٢٧٧ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٥ ، ٢٨٦ ، ١٤ / ١٣٧ ـ ١٤٥ ، ١٤٧ ، ٤١ / ٢٥ ، ٤٢ / ١٠٠ ، ١١٢ ، ١٣٦ ، ٦٣ / ٣٦٠ ، ٦٧ / ٢٤ ، ٦٨ / ١٢٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٣ ، ٤٩٢ ، ٤٩٥ ، جامع البيان ٢٢ / ٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٤٨ ، ٦٣ ، الدر المنثور ٤ / ٣١٣ ، ٥ / ١٩٨ ، ذخائر العقبى ٣٣ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٠٧ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٩٧ ، ٢ / ١٨ ، ٣٠ ، ٣٣ ، ٣٧ ، ٥٠ ، ٥٢ ، ٦١ ، ٧٣ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٢ ، ١١٣ ، ١١٩ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٤٣٢ ، مجمع الزوائد ٧ / ٩١ ، ٩ / ١٢١ ، ١٦٧ ، ١٧٢ ، المستدرك ٢ / ٤١٦ ، ٣ / ١٣٣ ، ، ١٤٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٣١ ، ٦ / ٢٩٢ ، مسند ابن راهويه ٣ / ٦٧٨ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٥٠١ ، المعجم الصغير ١ / ١٣٥ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٦٦ ، ٣٨٠ ، ٤ / ١٣٤ ، ٨ / ١١٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٩٢ ، ٩ / ٢٦ ، ٢٢ / ٦٦ ، ٢٠٠ ، ٢٤٩ ، ٢٣ / ٢٨٦ ، ٣٢٧ ، ٣٣٧ ، المناقب ١٣٦ ، الصواعق المحرقة ١٤٣.


والذي يستفاد من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الله عزوجل خصَّ هؤلاء الخمسة بإذهاب الرجس عنهم ، فطهَّرهم من الذنوب ، والخبائث تطهيرا ، فهم معصومون بمقتضى هذه الآية الكريمة من كلِّ ذنب لأنّ الذنوب رجس (١).

ثانياً : من الحديث النبوي الشريف : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي مع الحق ، والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة» (٢). وهذا الحديث واضح الدلالة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام ، لأنَّ صدور المعصية محتمل من غير المعصوم ، ومرتكب المعصية مفارق للحق حال اقترافه الذنب ، فلزم أن يكون الإمام علي عليه‌السلام معصوماً بمقتضى هذا الحديث الذي نصَّ على أنَّه مع الحق حتى يردا الحوض على النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه : «إنّي مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ـ ثمَّ أخذ بيد علي فرفعها ـ فقال : هذا علي مع القرآن ـ والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ، فأسأَلهما ما خُلِّفتُ فيهما» (٤).

وفي هذا الحديث ما لا يخفى من التأكيد على أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام مع القران ،

__________________

(١) راجع تفاصيل دلالتها على العصمة في : الأصول العامة للفقه المقارن ١٤٩.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٩٨ ، تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٤٩ ، المعيار والموازنة ١١٩ ، ٣٢٢.

(٣) تاريخ الخلفاء ١٧٣ ، الجامع الصغير ١ / ٢٥٥ ـ ٢ / ١٧٧ ، الصواعق المحرقة ١٣٤ ، المعجم الأوسط ٥ / ١٣٥ ، المناقب ١٧٧.

(٤) الصواعق المحرقة ١٢٦ ، ينابيع المودة ١ / ١٢٤.


فقد قرن العترة بالكتاب ، وهو أبو العترة ، وسيدهم ومن اقترن بالكتاب ، وكان معه إلى يوم القيامة ، فهو معصوم ، لأنَّه لو لم يكن معصوماً ، لاحتمل أن تصدر منه المعصية ، ويكون مفارقاً للقرآن الكريم حال معصيته.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ضمن خطبة الغدير ـ :

«... فإني فرطكم على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنَّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟. فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟.

قال : الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم ، فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر : الأصغر : عترتي ، وإنَّ اللطيف الخبير نبَّأني أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

وهذا الحديث ـ الذي يعرف بحديث الثقلين ـ هو من أدلة عصمة الإمام علي عليه‌السلام والعترة الطاهرة ، لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بأنَّ التمسك بالكتاب والعترة الطاهرة يعصم من الضلال ، وأنَّ الهلاك في التقدم عليهما ، أو التأخر عنهما. وبديهي أنَّ غير المعصوم معرض لصدور المعصية منه ، والتمسك به ، ومتابعته حال كونه على المعصية ضلال ، فتعين أن يكونوا معصومين لينطبق عليهم ما جاء في الحديث (١).

وحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، التي استفاض بها النقل وقد رواه

__________________

(١) راجع الأصول العامة للفقه المقارن ١٦٦ فقيه استدلال مفصل.


من الصحابة في حدود ما اطلعت عليه (١) : أبو سعيد الخدري ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وجبير بن مطعم ، وحذيفة بن اُسيد الغفاري ، وحذيفة بن اليمان ، والحسن بن علي عليه‌السلام ، والحسين بن علي عليه‌السلام ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وسعد بن أبي وقاص ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، والإمام علي عليه‌السلام.

وقال ابن حجر المكي : (ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك ـ أي بالكتاب والعترة ـ طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعضرين صحابياً) (٢).

هذه بعض الأدلة من الكتاب والسنة النبوية الشريفة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام ، وإذا ثبتت عصمته ثبت أنَّه حجة الله على العباد ، والشيعة يعتقدون بعصمته تعبّداً بما ثبت لديهم من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ، وممّا أخذوه عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم تراجمة الوحي ، وحفظة السنة الشريفة.

ويتفق المعتزلة مع الشيعة في القول بعصمة الإمام علي عليه‌السلام ، يقول ابن أبي الحديد المعتزلي : (نص أبو محمد بن متويه رحمه‌الله تعالى في كتاب الكفاية على أنَّ علياً عليه‌السلام معصوم ، وإن لم يكن واجب العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ، ولكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته ، والقطع على باطنه ومغيبه ، وأنَّ ذلك أمر

__________________

(١) تجد رواياتهم في : البداية والنهاية ٧ / ٣٨٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٩٢ ، ٢٢٠ ، ٥٤ / ٤٢ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٣ ، السنة لعمرو بن عاصم ٣٣٧ ، ٦٢٩ ، ٦٣٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ ، ١٣٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٩٤ ، فضائل الصحابة ١٥ ، كنزل العمال ٥ / ٢٩٠ ، مسند أحمد ٥ / ١٨٢ ، المعجم الصغير ١ / ١٣١ ، المعجم الأوسط ٣ / ٣٧٤ ، ٤ / ٣٣ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، ١٠٠ ، ١٤١ ، ٥ / ١٥٤ ، ينابيع المودة ١ / ٧٤ ، ٩٩ ، ١٠٣ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١٢١ ، ١٢٤ ، ٢ / ٢٧٣ ، ٣ / ٦٥ ، ١٤١.

(٢) الصواعق المحرقة ١٥٠.


اختص به هو دون غيره من الصحابة ، والفرق ظاهر بين قولنا : زيد معصوم ، وزيد واجب العصمة لأنَّه إمام ، ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية) (١).

وفي الختام ننقل حديثاً نبوياً ينص على كون الإمام علي عليه‌السلام حجة الله على العباد : فقد جاء في حديث أنس بن مالك ، قال : كنت جالساً مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس أنا وهذا حجة الله على خلقه» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٧٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٢٤٩.



دين الله القويم

(السلام عليك يا دين الله القويم ، وصراطه المستقيم) :

يتبين لنا من سيرة الإمام علي عليه‌السلام أنَّه لم يُصَبْ بأدران الجاهلية ؛ إذ ولد في الكعبة المقدسة ، وانتقل منها إلى بيتٍ أهلُه يعبدون الله على دين جدهم إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكفله الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره ، فتربى في حجره الطاهر ر ، وانطبع بمزاياه ، واحتذى مثاله ، فكان التزامه بالشريعة وأحكامها التزاماً قوياً لا يحيد عنها قيد شعرة ، وهو القائل : «فَوَ الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلت» (١). كان يجسد الإسلام عملاً ، فهو في أقواله وأعماله وتقريراته يطابق أوامر الإسلام ونواهيه.

نعطف على ما تقدم ما ورد في شأنه في الكتاب والسنة من الأحكام التي يسأل عنها العباد ، وهي جزء لا يتجزأ من الدين وأحكامه ، فبولايته أكمل الله الدين ، وأتم النعمة على الأمة ، ورضي لها الإسلام ديناً ، وهي ممّا يسأل عنه يوم القيامة ، وحبه فرض واجب ، وهو علامة الإيمان ، وبغضه علامة النفاق ، ومحبه محب لله عزوجل ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومبغضه مبغض لهما بنص الحديث النبوي الشريف ، قال عليه‌السلام : «عهد إلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢١٨ ، وجلب الشعيرة (بكسر الجيم) : قشرتها.

(٢) أسد الغابة ٤ / ٢٦ ، تاريخ بغداد ٨ / ٤١٦ ، ١٤ / ٤٢٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٣٤٩ ، ٤٢ / ٢٧١ ، سنن الترمذي ٥ / ١٣٧ ، ٦ / ٥٣٤ ، مسند أحمد ١ / ٩٥ ، ١٢٨.


وفي حديث أم سلمة ، قالت : أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من أحب علياً فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغض علياً فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله» (١).

ولمّا كان الإمام علي عليه‌السلام هو والعترة الطاهرة عدل القرآن بنص حديث الثقلين ، الذي نص على أنَّ التمسك بهما يعصم من الضلال ، وطاعته فرض ، لأنَّه ولي المؤمنين ، ووصي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووارث علمه ، وهو أمين الله عزوجل ، وسفيره ، وحجته على العباد ، والإمام المعصوم ـ كما مرّ بنا ـ وقد نص الحديث النبوي الشريف على وجوب طاعته ، ففي حديث يعلى بن مرة الثقفي ، قال : سمعت رسول الله يقول : «من أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله ...» الحديث (٢).

وفي حديث أبي ذر بلفظ : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني» ، قال الحاكم النيسابوري : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (٣).

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تدل على أنَّه لا يأمر إلّا بما أمر به الشرع المقدس ، ولا ينهى إلّا عمّا نهى عنه ، لا يحيد عن ذلك بمقتضى عصمته ، وهو بذلك دين الله القويم.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٢ ، المعجم الكبير ٢٣ / ٣٨٠ ، ينابيع المودة ٢ / ١٥٥.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧٠.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٠٦ ، كنز العمال ١١ / ٦١٤ ، المستدرك ٣ / ١٢١ ، ١٢٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٣١٣.


النبأ العظيم

(السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، وعنه يسألون) :

روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله عزوجل : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)(١) قال : «كان علي يقول لأصحابه : أنا والله النبأ العظيم الذي اختلف فيَّ جميع الأمم بألسنتها ، والله ما لله نبأ أعظم منّي ، ولا لله آية أعظم منّي» (٢).

وفي رواية عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، «قال : أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ، فقال : الأمر بعدك لمن؟ قال : لمن هو منّي بمنزلة هارون من موسى ، فأنزل الله : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)يعني : يسألك أهل مكة عن خلافة علي : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): فمنهم المصدِّق ، ومنهم المكذب بولايته ، (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، وهو رد عليهم ، سيعرفون خلافته إنَّها حق ، إذ يسألون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ، ولا غرب ، ولا برٍّ ، ولا بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه ، يقولان للميّت : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟ (٣)».

إختلف المسلمون منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام علي عليه‌السلام ، واشتد هذا الاختلاف من بعده ، فبلغ ذروته ، واتخذ صوراً مختلفة على مدى العصور ، فالناس فيه : بين مغالٍ ، وبين مجحفٍ ، وبين معتدلٍ :

__________________

(١) النبأ ٨٧ : ١ ـ ٢.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ٤١٧ بطرق عديدة.

(٣) شواهد التنزيل ٢ / ٤١٨.


أما المغالون : فهم الذين ذهبوا إلى تأليهه ، فادَّعوا له الرّبوبية ، وهؤلاء على ضلال ، وكلّ من اعتقد فيه أو في غيره مثل هذا الاعتقاد فقد خرج عن الدين ، وهو كافر باتفاق المسلمين لا يعد مسلماً ، ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام فساد هذه العقيدة ، ومحاربة من يعتقد بها ، باعتباره خارجاً عن الدين.

وأمّا المجحفون ، فهم فريقان :

الأول : كل من نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام : ويؤكد المؤرخون وجود هؤلاء منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين عرفوا بالنفاق من أهل المدينة الذين أشار إليهم الذكر الحكيم ، ومن الطلقاء ، وقد تبعهم على ذلك كلُّ من حارب الإمام علياً عليه‌السلام : من الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين.

ومن نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام فقد نصب العداء للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخالف سنته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعاد من عاداه» ، ولم يحفظه في أهل البيت عليهم‌السلام ، وخالف نصَّ الكتاب العزيز حيث قال عزوجل : (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)(١) ، حيث روي عن ابن عباس : أنَّ هذه الآية لمّا نزلت ، قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي وفاطمة ، وابناهما» (٢).

وقد وردت الرواية في تفسيرها بطرق عديدة عن ابن عباس (٣) ، وعن أبي أمامة الباهلي (٤) ، وعن أبي سعيد الخدري (٥) ، كما روي تفسيرها في الآل ، أو

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٢) الدر المنثور ٦ / ٧ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٩٤ ، الصواعق المحرقة ١٧٠ ، المعجم الكبير ١١ / ٣٥١.

(٣) ذخائر العقبى ٢٥ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٩٠.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٦ ، شواهد التنزيل ٢ / ٢٠٣.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٦.


في القربى دون ذكر أسمائهم : عن الإمام علي عليه‌السلام (١) ، والإمام الحسن عليه‌السلام (٢).

وعلى فرض شمول الآية الكريمة لكل قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين حرِّمت عليهم الصدقة ـ كما يذهب إلى ذلك بعض علماء السنة ـ فإنَّ الإمام علياً ، وفاطمة الزهراء ، والسبطين الحسن والحسين عليهما‌السلام هم أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّهم نفسه ، وبضعته ، وولداه ، فهم أظهر أفرادها.

أمّا الفريق الثاني من المجحفين : فهم الذين أنكروا كثيراً من النصوص التي جاءت في الحديث النبوي الشريف في فضله ، فعمدوا إلى الأحاديث المتواترة ، والصحيحة ، فأوَّلوها ، أو كذبوها ، بدون دليل على التأويل ، أو التكذيب ، وهؤلاء وإن لم ينصبوا له العداء ظاهراً ، وهم يعترفون أنَّ حبَّه فرض ، ولكنهم أجحفوا حقه ، فساووا به ، أو فضَّلوا عليه من لم يلحق به في الفضل ، ولم يلتزموا بولايته ، فقدموا عليه من اُمر بموالاته ، وتأولوا ولايته بالمحب والناصر ، فخالفوا بذلك الكتاب والسنة بتأويلهما على غير ما نصّا عليه ، وفي ذلك ما لا يخفى من تحريف الكلم عن مواضعه.

وأمّا المعتدلون : فهم الذين صدَّقوا كل ما صحَّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام علي عليه‌السلام ، وما فسِّر فيه من الكتاب العزيز ، فتعبدوا بهما ، واقتفوا أثر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في تقديمه له ، وتفضيله إياه على الأمة ، فلم يفرِّطوا في شأنه إلى درجة الغلو ، ولم يقصِّروا في شأنه إلى درجة الإجحاف ، وإنما اتخذوا طريقاً وسطاً ، فأعطوه ما يستحق من الفضل ، لم يزيدوا ، ولم ينقصوا.

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٢٠٥ ، الصواعق المحرقة ١٧٠ ، كنز العمال ٢ / ٢٩٠.

(٢) الصواعق المحرقة ١٧٠ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٤٦ ، المستدرك ٢ / ١٧٢ ، المعجم الأوسط ٢ / ٣٣٦ ، نظم درر السمطين ١٤٨.


ولمّا كان حب الإمام علي عليه‌السلام فرض واجب على كل مسلم ، وطاعته واجبه ، وهي طاعة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وولايته مكملة للدين ، يجب الإعتقاد بها ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حضر يوم غدير خم من المسلمين أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، فمن الواضح أن يُسأل المسلمون عنها بعد الموت ، كما يُسألون عن اُصول العقيدة ، وأداء سائر الواجبات ، ليُميَّز بين المقصِّر والمطيع ، وقد جاء عن السدي في تفسير قوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(١) عن ولاية علي عليه‌السلام (٢).

وفي حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)(٣) ، قال : عن ولاية علي بن أبي طالب (٤).

وقد عقب ابن حجر على حديث أبي سعيد في تفسير هذه الآية الكريمة بقوله : وكأنَّ هذا هو مراد الواحدي بقوله : (روي في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، عن ولاية علي وأهل البيت ، لأنَّ الله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعرِّف الخلق أنَّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلّا المودة في القربى ، والمعنى : إنَّهم يُسألون : هل والَوْهُم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ، أم أضاعوها ، وأهملوها؟). انتهى. وأشار [أي الواحدي] بقوله : كما أوصاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأحاديث الواردة في ذلك وهي كثيرة (٥).

وفي حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة أوقفُ أنا وعلي على الصراط ، فما يمر بنا أحد إلّا وسألناه عن ولاية علي ، فمن كانت معه

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩٢.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٤٢٢.

(٣) الصافات ٣٧ : ٢٤.

(٤) شواهد التنزيل ٢ / ١٦١ ، الصواعق المحرقة ١٤٩.

(٥) الصواعق المحرقة ١٤٩.


وإلّا ألقيناه في النار ، وذلك قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)(١).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٦٢ ، كفاية الطالب ٢٤٧.



أول المؤمنين

(السلام عليك يا أمير المؤمنين ، آمنت بالله وهم مشركون ، وصدَّقت بالحق وهم مكذبون) :

كانت عقيدة الشرك منتشرة في البلاد العربية قبل الإسلام ، وعليها الغالبية العظمى من الناس ، فلكل قبيلة صنم تتوجه إليه بالعبادة ، وتعتقد أنَّه يقربها إلى الله عزوجل زلفى ، والأصنام منصوبة على سطح الكعبة الشريفة ، تقدَّم لها القرابين ، وتبرم عندها العهود ، ويستقسم عندها بالأزلام ، وكانت إلى جانب الأغلبية من المشركين أقليات من ديانات أخرى ، بينها عدد قليل من الموحدين ، يعبدون الله تعالى على دين إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وممن اشتهر من هذه القلة : عبد المطلب ، وعبد الله ، وأبو طالب ، يقول ابن أبي الحديد : (فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب ، فالقليل منهم ، وهم المتألهون أصحاب الورع ، والتحرج عن القبائح ، كعبد الله ، وعبد المطلب ، وابنه أبي طالب ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي ، وعامر بن الظرف الغدواني ، وجماعة غير هؤلاء) (١).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة يعبد الله عزوجل موحداً على دين أجداده ، وفي بيت ضمَّ هؤلاء الموحدين ، وقبل أن يسطع نور الإسلام على البسيطة بعشر سنين ولد الإمام علي عليه‌السلام ، فتربى في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تولى كفالته ، لذا يقول عليه‌السلام : «فإني ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة» (٢) ، إشارة إلى أنَّه ولد في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٢٠.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٠٥.


بيت التوحيد الذي آمن بالله عزوجل ، فلم يشرك به ، ولم يسجد إلى غيره ، وفي شرح قوله هذا يقول ابن أبي الحديد : (ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة : أنَّه لم يولد في الجاهلية ، لأنَّه ولد عليه‌السلام لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل ، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث قبل الرسالة سنين عشراً ، يسمع الصوت ، ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ، وكان ذلك إرهاصاً لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحُكم السنين العشر حكم أيام رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمولود فيها إذا كان في حجره ، وهو المتولي لتربيته ، مولود في أيام كأيام النبوة ، وليس بمولود في جاهلية محضة ففارقت حاله حال من يُدَّعى له من الصحابة مماثلته في الفضل.

قد روي أنَّ السنة التي وُلد فيها عليه‌السلام ، هي السنة التي بُدئَ فيها برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأُسمع الهتاف من الأحجار ، ومن السماء ، وكشف عن بصره ، فشاهد أنواراً ، وأشخاصاً ، ولم يخاطب فيها بشئ.

وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة ، واُنزل عليه الوحي ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتيمَّن بتلك السنة ، وبولادة علي عليه‌السلام فيها ، ويسميها سنة الخير ، وسنة البركة ، وقال لأهله ليلة ولادته ـ وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات ، والقدرة الإلهية ، ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئاً ـ : «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة» (١).

فمن ولد من أب موحّد ، ومن سلالة من الموحدين المتألهين ، وكانت ولادته في الكعبة المقدسة ، وفي مثل الظروف التي وصفها ابن أبي الحديد ، حريٌّ أن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٤.


يكون قد ولد على الفطرة ، وقد نشأ في حجر الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبيل نزول الوحي بالرسالة ، وكان يصحبه في عزلته بحراء ، فكان معه عند نزول الوحي عليه ، فرأى وسمع معه ما رأى وسمع ، وكان أول مصدِّق برسالته ، عندما كان الدين الجديد مقتصراً على ثلاثة ضمهم بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو ، وزوجته خديجة ، وابن عمه علي عليهم الصلاة والسلام ، وليس على وجه الأرض مَن يدين بالإسلام سواهم ، فهو أول من آمن ، وأول من صدَّق ، والدعوة لا تزال سرية ، لم يعلن عنها بعد ، وبعد أن اُمر بإنذار عشريته الأقربين ، واشتهر أمر الدين الجديد في مكة ، كذبه الناس سواهما ، إلى أن منَّ الله تعالى على نفر منهم بالإسلام ، فآمنوا بعد أن أقاموا على الشرك ، واتجهوا لعبادة الله تعالى ، بعد أن قضوا العمر في عبادة الأوثان.

يحدثنا الإمام علي عليه‌السلام عن ذلك في خطبته المسماة بالقاصعة حيث يقول : «ولقد كان يجاور ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في كل سنة بحراء ، فأراه ، ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد ـ يومئذ ـ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنَّة؟. فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنَّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلّا أنَّك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنَّك لعلى خير» (١).

وقد تواتر النقل على تقدم إسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام على كافة الصحابة دون استثناء ، وقد روى ذلك عدد كبير من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورواه بعضهم دون إسناد إليه ، فأمّا الصحابة الذين رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناسبات مختلفة ، وألفاظ متعددة ، فهم : أبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو ليلى ، وأسماء بنت

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٥٧.


عميس ، وأم أيمن ، وأنس بن مالك ، وبريدة الأسلمي ، وجابر بن عبد الله ، وسلمان الفارسي ، وعائشة أم المؤمنين ، وعبد الله بن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وليلى الغفارية ، ومعاذ بن جبل ، ومعقل بن يسار.

وأمّا الصحابة الذين رووه دون إسناد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم : أبو أيوب الأنصاري ، وأبو رافع ، وأنس بن مالك ، وبريدة الأسلمي ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، والحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحذيفة بن اليمان ، وخباب بن الأرت ، وخزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين) ، وزيد بن أرقم ، وسعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، والعباس بن عبد المطلب عليه‌السلام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وعفيف الكندي ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعمرو بن العاص ، ومالك بن الحويرث ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وهاشم بن عتبة المرقال ، ويعلى بن مرة التميمي.

فعدد من روى تقدم إسلامه من الصحابة بإسناد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بدون إسناد إليه ، بعد إسقاط المتكرر ـ حيث رواه بعضهم مرة مسنداً ، وأخرى بدون إسناد ـ ثلاث وثلاثون صحابياً في حدود ما اطلعت عليه (١).

وهناك قول بإجماع علماء المسلمين على تقدم إسلام الإمام علي عليه‌السلام ، وقد

__________________

(١) نجد رواياتهم في : أسد الغابة ٤ / ١٦ ، ١٨ ، البداية والنهاية ٣ / ٣٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٢١٩ ، ٢٤٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٦ ، ٤٥ ، ١٣١ ، ١٣٣ ، شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٧ ، ٢٣٠ ، ٢٣٣ ، ٢٣٦ ، الغدير ٣ / ٢١٩ ـ ٢٤٣ ، فضائل الخمسة ١ / ١٧٨ ، ١٩٩ ، فضائل الصحابة ١٣ ، كتاب الأوائل لابن أبي عاصم ٧٩ ، كتاب الأوائل للطبراني ٧٨ ، ٨٠ ، كنز العمال ١١ / ٦١٦ ، ٦١٧ ، المستدرك ٣ / ٤٩٩ ، المصنف للصنعاني ٥ / ٣٢٥ ، المعجم الكبير ٦ / ٢٦٩ ، المناقب ٥١ ، ٥٨ ، نظم درر السمطين ٨١ ، ٨٢ ، ينابيع المودة ١ / ١٨٩ ـ ١٩٧ ، ٢ / ١٤٥ ، ١٤٨.


نقل هذا القول كل من السيوطي (١) ، وابن حجر (٢) ، وكلاهما نص عليه بقوله : (ونقل بعضهم الإجماع عليه) ، ولم ينسبا هذا القول لأحد ، ولكن بعضهم جمع بين الروايات ، فعطف الموضوعات منها على الأحاديث الصحيحة ، والمتواترة ، وذهب إلى أن الإمام عليّاً عليه‌السلام أول من أسلم من الصبيان ، وأنَّ أبا بكر أول من أسلم من الرجال (٣) ، وهذا لا يصح لأمرين :

الأول : إنَّ المناط في هذه القضية هو تكليف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام علياً عليه‌السلام ، وقبول إسلامه ، بغض النظر عن سنه يوم أسلم ، وهل كان بالغاً؟ أو كان إسلامه قبل البلوغ؟. فقد دعاه ، وكلفه ، في وقت لم يدع فيه غيره ممن هو أكبر سنّاً منه ، لأنَّه كان مأموراً بالتكتم على ما أُوحي إليه ، وكان ائتمان الإمام علي عليه‌السلام على أمر الدعوة ، واختصاصه دون غيره من الناس بها ، لما له من شأن خاص ، ومنزلة اختصه الله عزوجل بها.

إنَّ المسؤوليات التي كانت تترتب على من ينتمي للدين الجديد تحتاج إلى الرجال الأشداء ، للصمود بوجه التيارات العاتية ، وتحمل المصاعب ، والمتاعب ، والتعذيب ، وما إلى ذلك مما ابتلي به المؤمنون الأوائل من الصحابة رضي الله عنهم ، فما حدث لياسر ، وسمية ، وعمار ، وصهيب ، وبلال ، وسواهم من التعذيب لا يتحمله الصبيان ، ولا يقوون عليه ، كما أنَّ الصبيان لا يؤتمنون على مثل هذه الأسرار ، لأنَّهم قد يفشونها قبل وقت إعلانها بقصدٍ ، أو بدون قصد ، من هنا يتضح لنا ما قدمناه من أنَّ للإمام علي عليه‌السلام شأنٌ خاص في دعوته من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ١٦٦.

(٢) الصواعق المحرقة ١٢٠.

(٣) تاريخ الخلفاء ٣٤.


وقبول إسلامه ، وأنَّه أو من أسلم.

الثاني : إنَّ هذا الجمع مبني على الأخبار التي يستفاد منها تقدم إسلام أبي بكر ، وهي لا تقوى على مقابلة الأحاديث التي نصت على تقدم إسلام الإمام علي عليه‌السلام لعدة أمور :

إنَّ هذه الأخبار أخبار آحاد ، وهي منقولة عن عدد من التابعين أو الصحابة الذين لم يعاصروا أحداث بدء الدعوة ، وأخبار الآحاد ـ على فرض صحتها من الناحية الفنية ـ لا تقوى على معارضة ما صح أو تواتر من الحديث النبوي الشريف.

وقد استند البعض على الإجماع المدعى على تقدم إسلام أبي بكر (١) ، وهو لا يصح لأنَّ من تابع أحداث بدء الدعوة يرى أنَّ عدداً من الصحابة سبقوه إلى الإسلام ، منهم : جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، كما أنَّ هذا الإجماع المدعى يناقض ما ثبت بالسنة المتواترة.

والأخبار التي روت تقدم إسلام أبي بكر كلها ضعيفة معللة ، بل وضعت لظروف سياسية خاصة ، والتحقيق يأبى الأخذ بالضعيف ، والإحتجاج به في أحاديث الفضائل ـ كما يرى ذلك بعضهم ـ لأنَّ ذلك يترتب عليه الكذب على النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ورد في السنة الثابتة : «من كذب علي معتمداً فليتبوأ مقعده من النار».

ولنختم موضوعنا هذا بروايتين لصحابيين يرويان تقدم إسلام الإمام علي عليه‌السلام عن عمه العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام :

__________________

(١) نقل القول بهذا الإجماع في : تاريخ الخلفاء ٣٤ ، الصواعق المحرقة ٧٦.


رواية عبد الله بن مسعود :

قال : أول شيء علمت من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قدمت مكة في عمومة لي ، فأرشدنا على العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه ، وهو جالس إلى زمزم ، فجلسنا إليه ، فبينا نحن عنده ، إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة ، له وفرة ، جعد إلى أنصاف أذنيه ، أشم ، أقنى ، أذلف ، برّاق الثنايا ، أدعج العينين ، كثِّ اللحية ، دقيق المسربة ، ششن الكفين والقدمين ، عليه ثوبان أبيضان ، كأنَّه القمر ليلة البدر ، يمشي على يمينه غلام أمرد ، حسن الوجه ، مراهق ، أو محتلم ، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصد نحو الحجر ، فاستلمه ، ثمَّ استلم الغلام ، ثمَّ استلمت المرأة ، ثمَّ طاف بالبيت سبعاً ، والغلام والمرأة يطوفان معه ، ثمَّ استلم الركن ، ورفع يديه ، وكبر ، وقام الغلام عن يمينه ، ورفع يديه ، وقامت المرأة خلفهما ، فرفعت يديها ، وكبرت ، وأطال القنوت ، ثمَّ ركع ، فأطال الركوع ، ثمَّ رفع رأسه من الركوع ، فقنت وهو قائم ، ثمَّ سجد ، وسجد الغلام والمرأة معه ، يصنعان مثل ما يصنع ، ويتبعانه.

قال : فرأينا شيئاً لم نكن نعرفه بمكة ، فأنكرنا ، فأقبلنا على العباس ، فقلنا : يا أبا الفضل ، إنَّ هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم ، أشيء حدث؟. قال : أجل ، والله ، أما تعرفون هذا؟. قلنا : لا ، قال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله ، والغلام علي بن أبي طالب ، والمرأة خديجة بنت خويلد ، أمَ والله ما على ظهر الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلّا هؤلاء الثلاثة (١).

__________________

(١) البداية والنهاية ٦ / ٢١ ، تاريخ مدينة دمشق ٣ / ٢٦٥ ، ٣٣ / ٦٧ ، شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٥ ، شواهد التنزيل ٢ / ٣٠١ ، كنز العمال ٣ / ٤٦٧ ، المعجم الكبير ١٠ / ١٨٣ ، المناقب ٥٦.


رواية عفيف الكندي :

قال : جئت في الجاهلية إلى مكة ، فنزلت على العباس بن عبد المطلب ، فلمّا ارتفعت الشمس ، وحلقت في السماء ، وأنا أنظر إلى الكعبة ، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ، ثمَّ استقبل القبلة ، فقام مستقبلها ، فلم يلبث حتى جاء غلام ، فقام عن يمينه ، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما. فركع الشاب ، فركع الغلام والمرأة ، فرفع الشاب ، فرفع الغلام والمرأة ، فخرَّ الشاب ساجداً ، فسجدا معه ، فقلت : يا عباس ، امرٌ عظيم. فقال لي : أمرٌ عظيم. فقال أتدري من هذا الشاب؟. فقلت : لا. فقال : هذا محمد بن عبد الله بن أبي طالب بن عبد المطلب ، هذا ابن أخي ، وقال : تدري من هذا الغلام؟. فقلت : لا ، قال : خديجة ابنة خويلد زوجته ، إنَّ ابن أخي هذا حدثني أنَّ ربك ربّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا والله ما على ظهر الأرض كلها أحدٌ على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (١).

والذي نستفيده من هاتين الروايتين هو أنَّ هذين الصحابيين يتحدثان عمّا شاهداه عياناً قبل إسلامهما ، ويرويان عن العباس عليه‌السلام ، وأنّض ما شاهداه حصل بعد إعلان الدعوة ، وبعد دعوة العشيرة ، والعباس عليه‌السلام يقسم بالله تعالى لكل من الصحابيين بأن ليس على هذا الدين على وجه الأرض غير هؤلاء الثلاثة.

__________________

(١) أسد الغابة ٣ / ٤١٤ ، الإصابة ٤ / ٤٢٥ ، البداية والنهاية ٣ / ٣٥ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٥٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٨ / ٣١٣ ، ٤٢ / ٣٤ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٠٦ ، السيرة النبوية لابن كثير ١ / ٤٣ ، شواهد التنزيل ١ / ١١٣ ، ١١٦.


جهاد متواصل

(وجاهدت وهم محجمون [مجمحون]) :

اللغة : الإحجام ضد الإقدام. أحجم عن الشي : كفَّ عنه ، أو نكص هيبة. يقال : أحجم الرجل عن قرنه ، إذا جبن ، وكفَّ. وجمح : يقال : جمحت المرأة زوجها ، : إذا تركته ، وغادرت بيتها ، ومجمحون : منهزمون في الحرب (١).

والأخذ بكلتا الروايتين مناسب ، فقد كان الإمام علي عليه‌السلام يقدم إذا نكص غيره هيبة ، وكفَّ عن القتال ، ويثبت إن انهزموا ، وكانت حياته جهاداً متواصلاً في الله تعالى ، لا ينثني ، منذ أيام شبابه الأولى وحتى لحق بالرفيق الأعلى ، لم يتخلف عن الجهاد وبذل النفس ، يقول عليه‌السلام : «لقد نهضت فيها ـ أي الحرب ـ وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرَّفت على الستين» (٢).

ولئن كان الجهاد سمة اتصف بها خيار الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا يتسابقون لملْ سوح الجهاد دفاعاً عن الإسلام ، فإنَّ في الإمام علي عليه‌السلام خصيصة ينفرد بها ، وينماز عنهم ، وهي ثباته حيث يفر الناس ، وإقدامه حين ينكصون ، فهو يرمي بنفسه في لهوات الحرب ، مبتغياً الشهادة ، باذلاً مهجته في الله عزوجل ، مدافعاً عن الدين الحنيف ، لا يهاب الموت ، لأنَّه يبتغي الشهادة ، والسعادة الأبدية.

يدل على ذلك السجل الجهادي للإمام علي عليه‌السلام الذي واكب الدعوة منذ انبثاقها ، وما انفك يسايرها في مختلف أدوارها ، فعندما تعرض النبي

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٧٠.


المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخطر في مكة المكرمة ، انبرى لحراسته الإمام علي عليه‌السلام ، إذ كان يتناوب عليها هو وعمه حمزة سيد الشهداء عليه‌السلام ، وفي أيام مقاطعة قريش لبني هاشم ، ومحاصرتهم بالشعب ، كان أبو طالب يوقضه ليلاً ، ليرقد في مرقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليفديه بنفسه ، خوفاً من تبييت الأعداء ، وقد ختم جهاده في مكة بالمبيت في فراشه ليلة الهجرة ، يوهم الأعداء ببقائه ، ليتمكن من النجاة ، ثمَّ خروجه بالفواطم مهاجراً ، بعد أن أدى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ائتمن عليه.

واشترك بعد الهجرة في جميع حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومغازيه ، عدا غزوة تبوك ، إذ خلفه فيها على المدينة ، وكان له في هذه الحروب أثر خاص بمواقفه الشجاعة ، وبما عرف من إقدامه ، فكان يجعل كفة النصر تميل لصالح المسلمين ، فيوقع الهزيمة بالعدو ، أو يحوِّل هزيمة المسلمين إلى نصر ، أو يحول دون تحقيق العدو لمكاسبه ، ومن أشهر تلك المواقف :

أ ـ فرَّ أغلب المسلمين يوم اُحد ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميدان القتال ، ولم يبق معه إلّا بضعة نفر من الصحابة ، اختلف المؤرخون في تحديد عددهم ، وأسمائهم ، ولكنهم أجمعوا على أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ثبت معه ، وكان المدافع الوحيد الذي ردَّ كتائب المشركين عنه ، حتى أصابهم اليأس من الوصول إليه ، وردّوا خائبين ، فنادى جبرائيل بين السماء والأرض : «لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي».

ب ـ أحجم جميع الصحابة يوم الأحزاب عن مبارزة عمرو بن عبد ود ، وذلك عندما عبر الخندق ، وتحدى المسلمين قائلاً : ولقد بححت من النداء بجمعكم : هل من مبارز فلم يستجب لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمبارزته ، ودفع كيده عن المسلمين سوى الإمام علي عليه‌السلام إذ نهض لمبارزته ، فأرداه قتيلاً ، وهُزم بقتله جيش الأحزاب ، وردهم الله تعالى خائبين.


ج ـ هُزم المسلمون في خيبر مرتين : أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية إلى أبي بكر ، فعاد بها منهزماً هو ومن معه في اليوم الأول ، ثمَّ أعطاها في اليوم الثاني إلى عمر ، فعاد بها منهزماً هو ومن معه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار» ، ثمَّ أعطاها في اليوم الثالث علياً عليه‌السلام فذهب بها ، وبُشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر قبل أن يكتمل الجيش.

د ـ وهُزم المسلمون يوم حنين ، فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى جماعة من بني هاشم ، ومولىً لهم ، أحاطوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمونه من الأعداء ، ويصدّونهم عنه ، والإمام علي عليه‌السلام يضرب بسيفه بين يديه ، حتى قتل حامل راية هوازن (أبا جرول) ، فحلت بهم الهزيمة ، وعاد المسلمون يلاحقونهم ، ويجمعون الغنائم.



إخلاص علي عليه‌السلام في العبادة

(وعبدت الله مخلصاً له الدين) :

الإخلاص في الطاعة : ترك الرياء. ومن البديهي أنَّ الرياء يفسد النية ، ويحبط العمل ؛ لأنَّ فيه إشراك غير الله.

والإخلاص لله عزوجل في العبادة يتفرع عن معرفة العبد وإيمانه ، فكلما ازداد العبد معرفة وإيماناً بالله تعالى ، ازداد إخلاصاً له في عبادته ، وكلما قلت معرفته ، وضعف إيمانه ، كان أقل إخلاصاً.

والعبادة بدون معرفة ، وتعقل ، ويقين ، لا تعدوا أن تكون عادة من العادات التي يمارسها الإنسان ، فهي مجرد حركات وأعمال يؤديها ، وآيات وأذكار يقرؤها ، وهو ل يعرف ماذا يصنع؟. ولماذا؟. وهي بهذه الصفة لا تنفعه في دنياه ، ولا في آخرته ، إذ لا تترتب عليها الآثار المرجوة منها ، لعدم اقترانها بالمعرفة والعقيدة الصحيحة والتأمل ، والتعقل في أمور الدين ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : «كم من صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع والضمأ ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلّا السهر والعناء ، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم» (١) ، وقال عليه‌السلام ـ وقد مرَّ على رجل حروري يتهجد ـ : «نوم على يقين خير من صلاة في شك» (٢) ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال : «قصم ظهري رجلان : جاهل متنسك ، وعالم متهتك» (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ / ٣٥.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٢٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٨٤.


فالعقيدة السليمة المبتنية على المعرفة واليقين إذا اقترنت بها العبادة ، كانت العبادة نافعة تؤدي الأهداف المرجوة منها في النشأتين ، وكيفي الإنسان من العبادة أداء ما فرضه الله تعالى عليه ، إن كانت عقيدته سليمة ، تقترن بالتفقه في الدين ، والتعقل في أموره ، أمّا المندوبات فهي زيادة في الخير إذا اقترنت بالمعرفة ، والعقيدة السليمة ، ويتحقق ما يُرتجى منها من فوائد للدنيا والآخرة ، لنفسه ولمجتمعه.

والإمام علي عليه‌السلام يحدد الأهداف والمنطلقات التي تدفع الناس إلى العبادة فيقول : «إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبة ، فتلك عبادة العبيد ، وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً ، فتلك عبادة الأحرار» (١).

والعبادة في الإسلام لا تقتصر على الطقوس العبادية : كالصلاة والصوم ، والحج فحسب ، بل تتعداها لتشمل جميع مجالات الحياة : كالتوسيع على العيال ، وإماطة الأذى عن الطريق ، ومساعدة الفقراء ، وحل المشكلات الاجتماعية ، ونشر العدل بين الناس ، وإرشادهم لما فيه الخير ، ومكافحة الرذائل والشر ، وكل عمل من شأنه إسعاد الناس في النشأتين فهو عبادة إذا أريد به وجه الله تعالى.

وفي ضوء ما تقدم لو تأملنا حياة الإمام علي عليه‌السلام ، تلك الحياة التي بدأت بولادته في الكعبة ، وختمت باستشهاده في محراب مسجد الكوفة ، لوجدناها عبادة متواصلة ، يتجلى فيها الإخلاص بأسمى صوره وأفضل أشكاله ، حيث تجسده التضحيات ، ونكران الذات ، وتقديم مرضاة الله تعالى ، وطاعته على كل اعتبار.

والإمام علي عليه‌السلام أول من عبد الله تعالى من هذه الأمة مع نبيها الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ / ٥٣.


سنين عديدة ، قبل إعلان الدعوة ، ودخل معترك الحياة الجهادية معه بعد إعلانها ، فلم يُفقد في ميدان من ميادين الجهاد والعمل الصالح ، وهي ميادين عبادة ، فكان يرشد الناس ، ويعلمهم ما جهلوا من أحكام دينهم ، ويدلهم على الصواب فيما اختلفوا فيه ، إلى أن عاد الحق إلى نصابه ، فقام بالأمر خير قيام ، وهو يتحرى في كل ذلك رضى الله تعالى بإخلاص.



صبر علي عليه‌السلام

(صابراً محتسباً حتى أتاك اليقين ، ألا لعنة الله على الظالمين) :

يتعرض الإنسان في حياته إلى شتى المحن والآلام ، ويختلف رد الفعل الذي يصدر عنه بحسب الظروف والملابسات ، كما يختلف من فرد إلى آخر ، والذي يحدد تصرف المرء في مثل هذه الظروف : الإيمان ، والعقل ، فمن توفر على قوة الإيمان ، ونضوج العقل قابل المحن بصبر وثبات ، ومن كان ضعيف الإيمان غير ناضح عقلياً قابلها بالجزع ، ويُقسَّم الصبر إلى ثلاثة أقسام : فصبرٌ عن المعصية ، وصبرٌ على الطاعة ، وصبرٌ على المصيبة.

وقد مرَّ بنا أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام معصوم ، وهو القائل : «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت» (١) ، وقد قضى عمره الشريف في طاعة الله تعالى ، وطلب مرضاته.

وقد تعرض الإمام علي عليه‌السلام لمصائب ومحن شتى ، ولعل أشد كارثة نزلت به هي فقده الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الذي ربّاه في حجره ، وتعاهده منذ نعومة أظفاره ، ثمَّ كان منه بمنزلة نفسه ، وكان أخوه ، ووليه ، وهو أبو حليلته ، وهو ولي هذه الأُمة ، ومنقذها من الضلال ، والذي تحمل معه الإمام علي عليه‌السلام أعباء الرسالة تبليغاً ، وعملاً ، وجهاداً فكانت المصيبة به عظيمة ، والرزية بفقده جليلة ، ولكنه قابلها بصبر وثبات ، فغسَّله ، وكفنه ، وتولى دفنه ، ووقف عند قبره مؤبناً ومودعاً : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢١٨ ، وجلب الشعيرة (بكسر الجيم) : قشرها.


والأنباء ، وأخبار السماء ، خصَّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء ، ولولا أنَّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفذنا عليك ماء الشؤون (١) ، ولكان الداء مماطلاً ، والكمد محالفاً ، وقلّالك ، ولكنه ما لا يُملك ردّه ، ولا يستطاع دفعه ، بأبي أنت وأمي ، اذكرنا عند ربِّك ، واجعلنا من بالك» (٢).

تحلى الإمام علي عليه‌السلام بالصبر أمام هذه المصيبة المؤلمة ، والكارثة العظيمة التي تستدعي الحزن الشديد ، والهم الدائم ، فلم تخرجه عن طوره ، بل كان يسلي نفسه بهذا الأسلوب البليغ الذي يدل على عمق إيمانه ، ولكن الأقدار لم تتركه وشأنه ، يعالج آلامه ، ويسلي نفسه ، بل جاءته المصائب والمحن تترى في سلسلة متواصلة الحلقات ، لا هوادة فيها ، إبتداءً بالنزاع بين المهاجرين والأنصار حول الخلافة ، وأهل البيت عليهم‌السلام مشغولون بتجهيز الجثمان الطاهر ، إذ زويت عنه الخلافة ، وغصب حقه فيها ، وما رافق ذلك من آلام تعرضت لها الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام : من اعتداى عليها ، وغصب لحقوقها ، حتى مضت إلى لقاء ربها ، فالتحقت بأبيها غضبي على القوم الذين أوصت أن لا يحضروا جنازتها ، لما نالها منهم من أذى ، وممّا يزيد ألم تلك النوائب أنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان يرى نفسه بين خطرين :

أحدهما : أن يترك حقه ، ويصبر على مضض ، وهو يرى وديعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تئنّ من الألم ، ولا تجد من ينتصر لها.

والثاني : أن يلجأ إلى القوة لأخذ حقه وعندها تقع الفتنة ، ويحصل ما لا تحمد عقباه ، ويرتد الناس عن الدين الذي تحمل من أجل إرساء دعائمه المشقة والعناء ،

__________________

(١) الشؤون : منابع الدمع.

(٢) نهج البلاغة ٢ / ٢٢٨.


فما الذي يصنعه لمواجهة هذا الموقف الصعب؟.

تحصن الإمام علي عليه‌السلام بالصبر حفاظا على وحدة الأمة ، ودفعاً للفتنة ، فضحّى بحقه من أجل سلامتها ، يقول عليه‌السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية : «فسدلت دونها ـ أي الخلافة ـ ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا» (١).

وقد تتالت الأحداث بعد ذلك لتنتقل من سيء إلى أسوء ، حتى بلغت ذروتها في خلافة عثمان ، فبعد أن زويت عنه الخلافة ثالثة ، وتسلط الأمويون على رقاب الناس في ظل حكمه ، فكانوا يتلاعبون بمقدرات الأمة ، «ويخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع» ، وكلما اعترض المسلمون على تصرفاتهم ، اتهمه الأمويون بالتحريض عليه ، فكان الخليفة يتسدعيه ، ويطلب منه مغادرة المدينة ، وإذا تفاقمت الأمور استقدمه إليها ليكون وسيطاً بينه وبين الناس ، وهو يقابل ذلك بصبر وثبات ، محاولاً إخماد الفتنة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وما أن انتهت الفتنة بقتل عثمان ، اجتمع الناس حوله ، وبايعوه ، وانتقلت الخلافة إليه ، وعاد الحق إلى نصابه ، فابتلي بالفتن والتمرد ، وخاض حروباً داخلية اضطروه إليه ، ولم يمهلوه ليحقق ما كان يصبو إليه من تصحيح ما ارتكب غيره من أخطاء ، فاضطر إلى قتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، ثمَّ ابتلي بتقاعس الناس عن نصرته ، وامتناعهم عن الخروج لحرب عدوه ، وهو يقابل هذه ال محن بالحكمة والصبر حتى استشهد ، وذهب إلى لقاء ربه صابراً محتسباً.

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٣١.



سيد المسلمين

(السلام عليك يا سيد المسلمين ، ويعسوب المؤمنين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، ورحمة الله وبركاته) :

اللغة : اليعسوب أمير النحل ، ويستعمل في الرئيس والكبير ، ويقال للسيد : يعسوب قومه ، وفي حديث علي عليه‌السلام : «أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار ـ وفي رواية ـ المنافقين» (١).

الغر : جمع أغر ، من الغرة : وهي بياض الوجه. والمحجَّل : الذي في يديه وقدميه بياض دون الركبة من الخيل. والغر المحجَّلين : أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي ، والأوجه والأقدام ، استعار أثر الوضوء في الوجه ، واليدين ، والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ، ويديه ، ورجليه (٢).

وهذه الفقة من الزيارة تنص على أوصاف للإمام علي عليه‌السلام تجعله سيداً وقائداً للمسلمين في الدنيا والآخرة ، ومن يرجع إلى كتب الحديث يجد أحاديث كثيرة تضمنت معاني ما ورد في هذه الفقرة ، ننقل منها ما يأتي :

حديث أسعد بن زرارة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليلة اُسري بي ، انتهيت إلى ربي عزوجل ، فأوحى إليّ ـ أو أخبرني ـ في علي بثلاث : إنَّ سيد المسلمين ، وولي المتقين ، وقائد الغر المحجلين» (٣).

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) لسان العرب.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٠٢ ، كنز العمال ١١ / ٦٢٠.


وفي حديث علي عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» (١).

وفي حديث آخر لعلي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مرحباً بسيد المسلمين ، وإمام المتقين». فقيل لعلي : فأي شيٍ كان من شكرك؟. قال : «حمدت الله على ما آتاني ، وسألته الشكر على ما أولاني ، وأن يزيدني ما أعطاني (٢)».

وفي حديث لعلي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا علي أنت سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، ويعسوب الدين» (٣).

وفي حديث أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول من يدخل من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين ، وقائد الغر المحجلين» ، قال أنس : فقلت اللهم اجعله رجلاً من الأنصار ، وكتمت دعوتي ، فجاء علي ... الحديث.

قال ابن أبي الحديد : رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء (٤). وقال : (هذه كلمة قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظين مختلفين : تارة : «أنت يعسوب الدين» ، وتارة : «أنت يعسوب المؤمنين» ، والكل راجع إلى معنى واحد ، كأنَّه جعله رئيس المؤمنين ، وسيدهم ، أو جعل الدين يتبعه ، ويقفو أثره حيث سلك ، كما يتبع النحل اليعسوب) (٥).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٤ ، الجامع الصغير ٢ / ١٧٨ ، الصواعق المحرقة ١٢٥ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٤ ، ينابيع المودة ٣ / ٩٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٠ ، كنز العمال ١١ / ٦١٩ ، ١٣ / ١٧٧ ، نظم درر السمطين ١١٥.

(٣) المناقب ٢٩٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩ ، ينابيع المودة ٣ / ٤٨٨.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٩ / ٢٤٤.


وفي حديث أبي ليلى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب ، فإنَّه أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصديق الأكبر ، وهو فارق هذه الأمة ، وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» (١).

وفي حديث سلمان وأبي ذر ، قالا : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد لي رضي الله عنه ، فقال : «إنَّ هذا أول من آمن بي ، وهو يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصديق الأكبر ، وهذا فروق هذه الأمة ، يفرق بين الحق والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين» (٢).

__________________

(١) الإصابة ٧ / ٢٩٤ ، ينابيع المودة ١ / ٢٤٤.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤١ ، فيض القدير ٤ / ٤٧٢ ، كنز العمال ١١ / ٦١٦ ، المعجم الكبير ٦ / ٢٦٩.



علي عليه‌السلام أخو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(أشهد أنَّك أخو رسول الله ، ووصيه ، ووارث علمه ، وأمينه على شرعه) (١) :

العلاقة بين الإمام علي عليه‌السلام وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبتني على أسس وجذور قويمة ، لا تتحدد بعلاقة النسب فحسب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدثنا عن هذه العلاقة كما في حديث جابر بن عبد الله ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي : «الناس من شجر شتى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة». ثمَّ قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ)(٢). (٣)

وفي حديث سلمان ، قال : سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله ، وطيفاً يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق الله آدم ، ركز ذلك النور في صلبه ، فلم يزل في شيء واحد ، حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزء أنا وجزء علي» (٤).

__________________

(١) مرّ الحديث عن كونه : الوصي ، ووارث العلم ، والأمين على الشرع ، والحديث هنا عن أخوته.

(٢) الرعد ١٣ : ٤.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٤ ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٨٣ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٧٥ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٨ ، نظم درر السمطين ٧٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٧ ، كفاية الطالب ٣١٥ ، المناقب ١٤٥ ، وفيه حديث آخر بمعناه برواية الإمام الحسين عليه‌السلام ، ينابيع المودة ١ / ٤٧ نقلاً عن المناقب لابن المغازلي ، وفي آخره زيادة : (ففيّ النبوة ، وفي علي الإمامة) ، وفيه حديث آخر برواية أبي ذر باختلاف يسير.


ومن هذين الحديثين الشريفين تتبين لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أخيه المرتضى عليه‌السلام ، وإنَّها ليست من سنخ العلاقات الإعتيادية التي تربط الناس بعضهم ببعض ، إذ خُلِق نورهما بإرادة الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام فكان يسبح الله ويقدسه ، ثمَّ اُودع في صلب آدم ، وانتقل من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهرة ، حتى افترق في عبد المطلب ، فانتقل جزءٌ منه إلى صلب عبد الله ، فكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد المرسلين ، وانتقل الجزء الآخر إلى صلب أبي طالب عليه‌السلام ، فكان علي عليه‌السلام سيد الوصيين ، وقُدِّر لهذا النور أن يجتمع مرة ثانية ليجمع نور النبوة ونور الإمامة في ذريعة البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، والإمام علي عليه‌السلام يتحدث عن هذه العلاقة ، فيقول : «وإنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء ، كنا ظلالاً تحت العرش قبل خلق البشر ، وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر ، أشباحاً عالية ، لا أجساماً نامية» (١).

ويرسم لنا التأريخ صوراً توضح أواصر العلاقة بينهما : فعبد الله وأبو طالب أخَوان لأم واحدة ينفردان عن سائر أبناء عبد المطلب لأنَّهم لأمهات شتى ، وقد اختص عبد المطلب عند وفاته أبا طالب من بين أبنائه بكفالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورعايته ، فكان هو وزوجته فاطمة بنت أسد بن هاشم أبوين بارين له ، يملآن حياته عطفاً وحناناً ، ويعوضانه ما فقده بفقد أبويه ، وكانا يقدمانه على أبنائهما الذين كانوا له بمنزلة الأخوة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقابل هذا الإحسان بما يكنه من الإحترام لأهل هذا البيت ، فيتعامل معهم معاملة الإبن البار لذويه ، ومن مظاهر ذلك : أنه سمّى العام الذي توفي فيه أبو طالب بعام الحزن ، وقال لعقيل : «أنا أحبك حبين : حباً لك ، وحباً لحب أبي طلب ، فإنَّه كان يحبك» (٢). وقدم جعفر بن أبي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٠٥.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤١ / ١٨ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٧٠ ، المستدرك ٣ / ٥٧٦ ، المعجم الكبير ١٧ / ١٩١.


طالب من الحبشة يوم فتح خيبر ، فبُشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدومه ، وبفتح خيبر ، فقال : «ما أدري بأيِّهما أنا أفرح : بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر» ، واستقبله ، وقبِّل ما بين عينيه (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الفراغ من دفن فاطمة بنت أسد ـ حيث نزل في قبرها ، ونام في لحدها ـ : «جزاك الله من أم خيراً ، فلقد كنت خير أم» (٢).

أما الإمام علي عليه‌السلام فقد اختصه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيت أبي طالب ، فتكفله منذ صباه ، وربّاه في حجره ، وتعاهده برعايته ، وأدَّبه بفاضل خلقه ، وقد قابل ذلك الإحسان ، وتلك الرعاية بالمؤازرة ، والمواساة ، ووجد عنده أعلام النبوة ، فكان أول من آمن به ، وأخذ عنه علوم الدين ، وما جاء به الوحي ، وكان أخص الناس به ، يقيه بنفسه ، ويبذل مهجته في نصرته ، قال عليه‌السلام : «فجزت قريش عنّي الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمي» ، قال الشيخ محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة في شرح قوله ابن أمي : «يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ربَّت رسول الله في حجرها ، فقال النبي في شأنها : فاطمة أمي بعد أمي (٣)».

وقال ابن أبي الحديد : (وابن أمه : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم ، أم عبد الله ، وأبي طالب ، ولم يقل : ابن أبي ، لأن غير أبي طالب من الأعمام يشركه في النسب إلى عبد المطلب (٤)).

وإذا كان انتماء المؤمنين للعقيدة الإسلامية يقتضي الأخوة بينهم لقوله تعالى :

__________________

(١) ذخائر العقبى ٢١٤ ، المستدرك ٢ / ٦٢٤ ، المعجم الكبير ٢ / ١٠٨.

(٢) ذخائر العقبى ٥٦ ، ينابيع المودة ٢ / ١٤٣.

(٣) نهج البلاغة ٣ / ٦١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٦ / ١٤٨.


(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١) ، فإنَّ الإمام عليا عليه‌السلام هو أكمل الأفراد في هذا المجال ؛ لأنَّه يعسوب المؤمنين ، وسيدهم ، وبذلك يكون أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنَّه الذي يليه في الفضل ، والنصوص على أخوّته في الحديث النبوي الشريف كثيرة ، وقد صدرت في مواقف متعددة ، رواها عدد كبير من الصحابة أذكر منهم في حدود ما اطلعت عليه من رواياتهم (٢) :

أبو أمامة ، وأبو ذر ، وأبو رافع ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وأسماء بنت عميس ، وأم سلمة أم المؤمنين ، وأنس ، وجابر بن عبد الله ، وزيد بن أبي أوفى ، وزيد بن أرقم ، وسلمان المحمدي ، وعائشة أم المؤمنين ، وعابس ، وعبد الرحمن بن عويم الأنصاري ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعمر بن الخطاب ، ومحدوج بن زيد الذهلي ، ويعلى بن مرة الثقفي ، وإليك بعض هذه الأحاديث :

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٠.

(٢) تجد رواياتهم في : الآحاد والمثاني ٥ / ١٧٢ ، أسد الغابة ٤ / ٢٩ ، أنساب الأشراف ٢ / ١٤٤ ، ١٤٥ ، البداية والنهاية ٣ / ٥٣ ، ٧ / ٣٧١ ، تاريخ الخلفاء ١٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٨ ، ٤٦ ، ٥٣ ، ٥٥ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٦٣ ، ٣٦٤ ، جامع البيان ١٩ / ١٤٩ ، ذخائر العقبى ٣٨ ، ٦٦ ، ٦٧ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٢٦ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٨٦ ، ٥٤٤ ، ٥٤٧ ، ٢ / ٤٥٠ ، الصواعق المحرقة ١٢٢ ، ١٢٤ ، ١٤٢ ، الطبقات الكبرى ١ / ١٨٧ ، فضائل الخمسة ١ / ٢٠٤ ، ٣١٨ ، ٣٣٢ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٨ ، ٦٠٨ ، ٦١٠ ، ١٣ / ١٠٩ ، ١١٤ ، ١٤٠ ، ١٤٩ ، ١٥٩ ، ١٧٥ ، كفاية الطالب ١٨٥ ، ١٩٤ ، ١٩٦ ، لسان الميزان ٣ / ٩ ، معجم الزوائد ٨ / ٣٠٢ ، ٩ / ١٢١ ، ١٢٢ ، مسند أبى يعلى ١ / ٤٠٣ ، ٤ / ٢٦٧ ـ المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٥٠٧ ، المعجم الكبير ١٢ / ٣٢١ ، المناقب ١١٢ ، ١٤٠ ، ١٥٧ ، نظم درر السمطين ٩٤ ، ينابيع المودة ١ / ١٧٨ ، ٣٧٤ ، ٢ / ١٥٧ ، ٣١٢ ، ٣٩٢ ، ٤٠٣.


حديث دعوة العشيرة :

وهو الحديث الذي نقلناه في موضوع : (سيد الوصيين) برواية أبي رافع بلفظ : «فمن يبايعني على أن يكون أخي ، ووزيري ، ووصيي ، وقاضي ديني ، ومنجز عداتي» إلى قوله : فقام علي بن أبي طلب ، فبايعه (١) ، وفيه رواية أخرى بمعناه عن الإمام علي عليه‌السلام.

حديث المؤاخاة :

وقد رويت في المؤاخاة أحاديث عديدة تختلف في ألفاظها ، وفي وصف ما حدث في كل منها ، مما يفهم منه تعدد هذا الحدث التاريخي الاجتماعي العظيم ، والقدر المتيقن حصول المؤاخاة مرتين : إحداهما : بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، والثانية : بين المهاجرين والأنصار ، وفي المرتين اختار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام علياً عليه‌السلام أخاً لنفسه ، ولننقل بعض أحاديث المؤاخاة :

١ ـ حديث أنس ، قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين ، فقال لعلي : «أنت أخي وأنا أخوك» ، وآخى بين أبي بكر ، وعمر ، وآخى بين الناس المسلمين جميعاً (٢).

٢ ـ حديث زيد بن أبي أوفى ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق ما اخرتك إلّا لنفسي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ، ووارثي ... الحديث» (٣).

__________________

(١) ص ٦٦ من هذا الكتاب.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٢.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٢١ / ٤١٥ ، ٤٢ / ٥٣ ، الثقاة لابن حبان ١ / ١٤٢ ، كنز العمال ٩ / ١٦٧ ،


٣ ـ وفي حديث محدوج بن زيد الذهلي : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا آخى بين المسلمين ، أخذ بيد علي ، فوضعها على صدره ، ثمَّ قال : «يا علي أنت أخي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي ... الحديث» (١).

٤ ـ وفي حديث يعلى بن مرة الثقفي : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بين الناس ، فترك علياً في آخرهم ، لا يرى أنَّ له أخاً ، فقال : يا رسول الله آخيت بين الناس ، وتركتني؟! قال : «لما ترى تركتك؟ إنَّما تركتك لنفسي ، أنت أخي ، وأنا أخوك. قال : فإن حاجك أحد ، فقل : إني عبد الله ، وأخو رسوله ، لا يدعيها أحد بعدك إلّا كاذب» (٢).

٥ ـ وفي حديث ابن عمر : آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه ، فجاء علي تدمع عيناه ، فقال : يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك ، ولم تؤاخ بيني وبين أحد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (٣).

حديث زواج الزهراء عليها‌السلام :

في حديث لابن عباس جاء فيه : ثمَّ أقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دق الباب ، فقالت أم أيمن : من هذا؟. فقال : أنا رسول الله. ففتحت له الباب ، وهي تقول : بأبي أنت وأمي. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أثمَّ أخي يا أم أيمن؟. قالت : ومن أخوك؟!. فقال : علي بن أبي طالب. فقالت : يا رسول الله هو أخوك ، وزوجته ابنتك!. فقال : نعم.

__________________

= ١٧٠ ، ١٣ / ١٠٦.

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣ ، حديث خيثمة ١٩٩ ، المناقب ١٤٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦١ ، كنز العمال ١١ / ٦٠٨ ، وفي ١٣ / ١٤٠ حديث بمعناه برواية علي عليه‌السلام.

(٣) أسد الغابة ٤ / ٢٩ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٧١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥١ ، ذخائر العقبى ٦٦ ، الصواعق المحرقة ١٢٢ ، كفاية الطالب ١٩٤ ، ينابيع المودة ٣ / ٢٩٢.


فقالت : إنما نعرف الحلال والحرام بك ...» الحديث (١).

حديث الإختصام في ابنة حمزة :

جاء في بعض رواياته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لعلي : «أنت أخي وصاحبي» (٢).

حديث جابر بن عبد الله :

قال : سمعت علي بن أبي طالب ينشد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع :

أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي

معه ربي وسبطاه هما ولدي

جدي وجد رسول الله متحد (٣)

وفاطم زوجتي لا قول ذي فند

صدقته وجميع الناس في ظلم (٤)

من الضلالة والإشراك والنكد

فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : صدقت يا علي (٥).

حديث سلمان :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال له : «يا سلمان ، إنَّ أخي ، ووزيري ، وخليفتي في أهل بيتي ، وخير من أترك بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، علي بن أبي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ / ١٤٥ ، ذخائر العقبى ٢٨ ، الصواعق المحرقة ١٤٢ ، كفاية الطالب ٣٠٦.

(٢) فضائل الخمسة ١ / ٣٢٢ ، كنز العمال ١٣ / ١٠٩ ، مسند أبي يعلى ٤ / ٣٢٢.

(٣) في بعض الروايات : (منفرد).

(٤) في بعض الروايات : (في بهم).

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٢١ ، كفاية الطالب ١٩٦ ، نظم درر السمطين ٩٥ ، ينابيع المودة ٢ / ١٧٩.


طالب» (١). وقد روي هذا الحديث عن أنس باختلاف يسير (٢).

وهناك أحاديث أخرى كثيرة في أخوة الإمام علي عليه‌السلام للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسنا بصدد استقصائها ، لذا نكتفي بما اخترناه منها.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٦.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٤٨٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٢٩٩.


علي عليه‌السلام خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وخليفته في أمته) :

إختلف المسلمون في الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا فريقين :

الفريق الأول : يدَّعي أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستخلف أحداً ، بل ترك الأمة من بعده وشأنها ، ويستدلون على ذلك بقول عمر بن الخطاب عند وفاته : (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ) ، ويذهب هؤلاء إلى أنَّ الخلافة منصب إداري ، تختار له الأمة من يدير شؤونها ، ولها الخيار في تنصيب من ترى صلاحه ، وعلى هذا الأساس فالخلافة ليست منصباً دينياً ، ولا هي من الأصول الإعتقادية ، والسنة كلهم على هذا الرأي : الأشاعرة منهم ، والمعتزلة ، ولكن المعتزلة يرون أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام كان أولى بالخلافة من جميع الصحابة ، لأنَّه أفضلهم ، يقول ابن أبي الحديد :

(أمّا الذي استقر عليه رأي المعتزلة ـ بعد اختلاف كثير بين قدمائنا في التفضيل ، وغيره ـ أنَّ علياً عليه‌السلام أفضل الجماعة ، وأنَّهم ـ أي الصحابة ـ تركوا الأفضل لمصلحة رأوها ، وأنَّه لم يكن هناك نص يقطع العذر ، وإنما كانت إشارة وإيماء ، لا يتضمن شيء منها صريح النص ، وإنَّ علياً عليه‌السلام نازع ثمَّ بايع ، وجمح ثمَّ استجاب ، ولو أقام على الإمتناع ، لم نقل بصحة البيعة ، ولا بلزومها ، ولو جرَّد السيف كما جرَّده آخر الأمر ، لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائناً من كان ، ولكنه رضي بالبيعة آخراً ، ودخل في الطاعة ، وبالجملة : أصحابنا يقولون : إنَّ الأمر كان له ، وكان هو المستحق والمتعين ، فإن شاء أخذه لنفسه ، وإن شاء ولّاه غيره ،


فلما رأيناه وافق على ولاية غيره ، اتبعناه ، ورضينا بما رضي) (١).

الفريق الثاني (شيعة أهل البيت عليهم‌السلام) : وهؤلاء يعتقدون أنَّ الخلافة وظيفة دينية ، وأنَّها امتداد للنبوة ، ومكمِّلة لرسالتها ، وهي أصل من الأصول الإعتقادية ، وأنَّ الخليفة يتم تعيينه بالنص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو السابق له ، ولا خيار للمسلمين في اختيار الخليفة ، كما لا خيار لهم في اختيار النبي ، وتعيينه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(٢) ، ولهم على هذه العقيدة أدلة عقلية ونقلية ليس هذا محل نقلها (٣) ، ويعتقدون أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو الخليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، ويستدلون على ذلك بأدلة كثيرة نذكر منها :

١ ـ عصمته عليه‌السلام وقد تقدم الحديث عنها في موضوع : (حجة الله البالغة) (٤) ، والشيعة يرون أنَّ العصمة شرط في الإمامة لأنَّ غير المعصوم يقود الأمة حال معصيته إلى الضلال.

٢ ـ أفضليته على سائر الأمة : وكل من تأمل سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وما جاء في كتب التفسير ، والحديث ، والتأريخ ، والتراجم ، والسير ، في فضائله التي وردت في الكتاب والسنة بالطرق المتواترة والصحيحة ، لا يشك في أنَّه أفضل الأمة.

وقد التزم الشيعة بأفضليته تعبداً بما جاء من النصوص في فضله من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، أمّا أهل السنة فقد اختلفوا في ذلك :

فالمنصفون منهم ، والمحققون ، وفي طليعتهم المعتزلة يرون أفضلية الإمام

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ / ٢٢٦.

(٢) القصص ٢٨ : ٦٨.

(٣) راجع تفاصيل هذه الأدلة في كتاب : دلائل الصدق ٢ / ٢١.

(٤) ص ٨٣ من هذا الكتاب.


علي عليه‌السلام ـ كما مر ، يذهب المعتزلة إلى جواز تقديم المفضول على الفاضل ، وحجتهم في ذلك ما نقلناه من ادعاء موافقة الإمام علي عليه‌السلام على خلافة من سبقه ، وادعاء إجماع المسلمين في صدر الإسلام على صحة خلافتهم ، وهذا الإجماع المدَّعى لا دليل عليه ، ومن تتبع سير أحداث التأريخ اتضح له عدم قيامه : فبنو هاشم ، والزبير ، وسلمان ، وعمار ، والمقداد ، وأبو ذر ، وسعد بن عبادة ، وغير هؤلاء من أجلاء الصحابة ، وذوي الرأي فيهم امتنعوا عن بيعة أبي بكر ، ولم يبايع من بايع منهم إلّا بالإكراه ، فكيف يصح القول بالإجماع مع معارضتهم؟!. وفيهم : نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام علي ، وبضعته الطاهرة فاطمة الزهراء ، وعمه العباس عليه‌السلام.

أمّا خلافة عمر فكانت بنص من أبي بكر ، وقد اعترض عليه جماعة من الصحابة منهم ابن عمه طلحة عندما أراد استخلاف عمر ، فلم يلتفت إليهم ، ثم أذعنوا إليها مكرهين.

وقد كان الخلاف في خلافة عثمان أشد ، والمعارضة لها أوسع ولكن المخالفين اُكرهوا على البيعة.

أمّا الأشاعرة فأكثرهم يرى أنَّ أفضل الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، ثمَّ الإمام علي عليه‌السلام ، يرى بعضهم أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام أفضل من عثمان ، بينما يرى فريق آخر التساوي بينهما في الفضل ، والتوقف عن تقديم أحدهما على الآخر (١).

والقول بتفضيل أحد الصحابة على الإمام علي عليه‌السلام لا يستند إلى دليل من الحديث الصحيح ، والأدلة التي اعتمدوها مأخوذة من أحاديث الفضائل التي وضعت بتشجيع وتحريض من الدولة الأموية ، حيث عمل الأمويون على وضع

__________________

(١) راجع تفصيل ما أشير إليه في : الصواعق المحرقة ٥٧.


أحاديث في فضائل الخلفاء الثلاثة وغيرهم من الصحابة لمعارضة فضائل الإمام علي عليه‌السلام ، ونقضها ، وهي أحاديث غاية ما يُدَّعى لها أنَّها أحاديث ضعيفة ، فهي لا تصل إلى درجة الحسن ، والصحيح ، والمتواتر من الأحاديث التي رويت في فضله ، ولا تقوى على معارضتها ، ونقضها ، ولكن التعصّب الأعمى جعلها من المسلمات التي لا يتطرق إليها الشك ، وسوَّغ الاحتجاج بها ، فغُضَّت الأبصار عن أحوال رواتها ، ولم ينظروا إلى ما يبين ضعفها ، ويثبت وضعها ، وعدم جواز روايتها ، لأنَّ روايتها كذب وافتراء على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا بحجية الحديث الضعيف في المناقب (١) ، يضاف إلى ذلك أنَّ بعضهم تجاوزوا الحد ، فأنكروا تواتر الأحاديث التي رويت في فضل الإمام علي عليه‌السلام ، وعمدوا إلى الصحيح ، والحسن منها ، فاختلفوا لهما عللاً ليس عليها دليل ، فقالوا بضعفها ، وادَّعى بعضهم لقسم منها الوضع استناداً إلى تلك العلل الموهومة التي اختلقوها.

٣ ـ النصوص ، وهي قسمان :

الأول : النصوص القرآنية المفسرة في إمامة علي عليه‌السلام وولايته ، وهي كثيرة يتطلب البحث فيها وضع كتاب مستقل (٢) ، فكل الآيات المفسرة في فضله تدل على خلافته بالتطابق ، أو بالإلتزام ، فالآيات التي دلت على سبق إيمانه ، أو كونه من أهل الجنة ، وما إلى ذلك كلها تدل على أفضليته ، وتستلزم تقديمه للخلافة على من دونه في الفضل ، وأمّا آية الولاية وغيرها من الآيات المفسرة في الولاية ، فهي

__________________

(١) قال ابن حجر المكي في كتابه : (تطهير الجنان ص ١٢) الملحق بكتابه : (الصواعق المحرقة) ما نصه : (الذي أطبق عليه أئمتنا الفقهاء والأصوليون والحفاظ أنّ الحديث الضعيف حجة في المناقب).

(٢) إستدل العلامة الحلي رحمه‌الله في كتابه : نهج الحق بثمانين آية منها ، وأضاف إليها الحجة الشيخ محمد حسن المظفر رحمه‌الله عشرين فكانت مائة أية (راجع دلائل الصدق ٢ / ٤٤ ، ٢٢٦).


تدل على خلافته بمفهومها الصريح ، وإليك أمثلة لها :

أ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١).

ب ـ قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)(٢). جاء في حديث علي عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شركائي الذي قرنهم الله بنفسه وبي ، وأنزل فيهم : ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) فإن خفتم تنازعاً في أمر فارجعوه إلى الله والرسول وأولي الأمر. قلت : يا نبي الله من هم؟ قال : أنت أولهم (٣)».

الثاني : النصوص التي وردت في الحديث النبوي الشريف ، وهي كثيرة جداً ، فجميع ما جاء من الأحاديث في فضل الإمام علي عليه‌السلام يدل على أنَّه أفضل الأمة ، ويستلزم أن يكون هو الخليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض الأحاديث تدل على ذلك مطابقة ، ومن أمثلتها :

أ ـ أحاديث الولاية : وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت وليه فعلي وليه» أو «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» ، وقد مر البحث عن هذه الأحاديث (٤) بما يتناسب وهذا الكتاب.

ب ـ حديث المنزلة : وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي» ، وسيأتي الحديث عنه ، وعن دلالته في موضوع

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥ ، وسنفرد لها موضوعاً مستقلاً في محل ورودها في الزيارة.

(٢) النساء ٤ : ٥٩.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ١٤٨.

(٤) راجع : في رحاب الغدير ص ٢١ ، مولى المؤمنين ص ٧٥ ، النبأ العظيم ص ٩٣ من هذا الكتاب.


مستقل (١).

ج ـ حديث دعوة العشيرة الذي رواه الإمام علي عليه‌السلام : عندما اُمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين ، فدعاهم وقال لهم : «أيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم؟. فأحجم القوم عنها جميعاً ـ وإنّي لأحدثهم سناً ـ فقلت : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثمَّ قال : هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له ، وأطيعوا» (٢).

د ـ الأحاديث التي نصت على خلافة الإمام علي عليه‌السلام : وقد رواها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدد من الصحابة في مناسبات مختلفة ، وبألفاظ متقاربة ، منها حديث ابن عباس ، قال : (ستكون فتنة فمن أدركها فعليه بخصلتين : كتاب الله ، وعلي بن أبي طالب ، فإني سمعت رسول الله ـ وهو آخذ بيد علي ـ يقول : «هذا أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ، وهو فاروق هذه الأمة ، يفرق بين الحق والباطل ، وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظلمة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو بابي الذي أوتى منه ، وهو خليفتي من بعدي» (٣).

وفي رواية أبي ذر وسلمان حديث بنفس النص المتقدم (٤).

__________________

(١) راجع للمؤلف كتاب : (حديث المنزلة).

(٢) راجع موضوع : سيد الوصيين ص ٦٥ من هذا الكتاب.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٢.

(٤) المعجم الكبير ٦ / ٢٦٩.


التبليغ بالولاية

«وأول من آمن بالله ، وصدَّق بما أُنزل على نبيه ، وأشهد أنَّه قد بلّغ عن الله ما أنزله فيك ، فصدع بأمره ، وأوجب على أمته فرض طاعتك ، وولايتك ، وعقد البيعة عليهم لك بذلك ، وجعلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، كما جعله الله كذلك ، ثمَّ أشهد الله عليهم ، فقال : ألست قد بلغت؟ فقالوا : بلى ، فقال : اللهم اشهد ، وكفى بك شهيداً وحاكماً بين العباد ، فلعن الله جاحد ولايتك بعد الإقرار ، وناكث عهدك بعد الميثاق» :

اللغة : صَدَعْتَ الشيء : أظهرتَه ، وبيَّنته ، يقال : صدعت بالحق : إذا تكلمت به جهاراً ، وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)، فاصدع بالأمر : أي أظهر دينك (١).

جحد : الجحود : الإنكار مع العلم (٢). نكث : النكث : النقض ، نكث العهد والحبل ، فانتكثت : أي نقضه ، فانتقض (٣).

نزل في الإمام علي عليه‌السلام عدد كبير من آيات الذكر الحكيم تنوه بفضله ، وتشيد بمواقفه الجهادية ، وقد روى المحدثون عن ابن عباس أنها تبلغ ثلاثمائة آية (٤) ، وقد تضمنت كتب التفسير ، وكتب الحديث ، وكتب الفضائل تفسير عدد منها مروياً

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الصحاح ، مجمع البحرين.

(٣) الصحاح.

(٤) إسعاف الراغبين ١٦١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٤ ، الصواعق المحرقة ١٢٧ ، كفاية الطالب ٢٣١ ، نور الأبصار ٨١.


بأسانيد معتبرة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمقصود هنا ـ كما يفهم من اسياق ـ الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١).

وهذه الفقرة من الزيارة تشير إلى أمر مهم جداً يتعلق بما حدث يوم غدير خم ، اهتم به الذكر الحكيم ، وتابعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اهتمامه ، وهو مهمة التبليغ التي تضمنتها الآية الكريمة.

ومن البديهي أنَّ اهتمام العقلاء بأمرٍ ما إهتماماً كبيراً يلفت النظر إلى أهميته ، وتجسد الآية اهتمام القرآن الكريم بالتبليغ ، حيث تضمنت إنذاراً من الله تعالى بأن التبليغ بالرسالة يتوقف على تبليغ الولاية ، وترتب على ذلك اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصدع بما أمره الله تعالى به ، ممتثلاً ما أمره بالحرص على تبليغ أكبر عدد ممكن من أمته ، فلم يكتف بمن كان حاضراً في ذلك الجمع ، بل أمر السابق بالرجوع ، والمتأخر بالإلتحاق ، ليحرز حضورهم جميعاً ، ليسمعهم تبليغ ما أمر الله عزوجل ، به من أمر الولاية ، في ظل تلك الظروف القاسية ، فرفع الإمام علياً عليه‌السلام أمام ذلك الملأ معلناً ولايته ، ولم يكتف بذلك ، بل أمرهم بأن يبلغ الشاهد الغائب ، ليعلم بها كل من أقر بالإسلام ، ولتتناقل الأجيال هذا التشريع ، فيكون حجة على الأمة مدى الدهر ، لتعلم أن الولاية التي تمَّ التبليغ بها متممة للنبوة ، ومتفرعة عنها ، وأنَّ الذي نصِّب بهذا التبليغ له من الولاية ، ومن الطاعة ما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعد تبليغ الأمة بالولاية ـ بلا فصل ـ عقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيعة للإمام علي عليه‌السلام بالولاية ، وأخذ هذا العقد صورتين :

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦٧.


إحداهما : بالسؤال منهم عمَّن هو أولى بهم من أنفسهم ، ثم قال : «إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، ثمَّ كرر القول : (فمن كنت مولاه فعلي مولاه)» ـ ثلاثاً أو أربعاً ، فكانت تلك بيعة عامة ممَّن حضر.

والأخرى : البيعة الخاصة التي أداها كل فرد منهم ، إذ أجلس الإمام علياً عليه‌السلام بعد فراغه من الخطبة ، وأمرهم أن يبايعوه (١) ، فبادر الناس إليها امتثالاً لأمره.

وإذا كان كل عقد يحتاج إلى الإشهاد لتوثيقه ، وتوكيده ، وإعطائه القوة في إلزام من أقرَّ به ، فقد وثق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقد بيعة الولاية يوم غدير خم بشهادة ذلك الحشد الكبير ، إذ سألهم : ألست قد بلغت؟. فأجابوه : اللهم بلى. وبذلك شهدوا له بالتبليغ بما أمره الله تعالى به ، وشهدوا على أنفسهم بالعلم بما ألزمهم به هذا التبليغ من عقد البيعة للإمام علي عليه‌السلام ، فكان بعضهم شاهداً على بعض.

ولم يكتف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا التوثيق الذي يتجاوز عدد الشهود فيه مائة ألف شاهد ، بل أكده بشهادة الحَكَم العدل ، فقال : اللهم اشهد ، وكفى بك شهيداً ، وحاكماً بين العباد ، وليس بعد توثيق البيعة بشهادة الله عزوجل شيء ، فقد أشهده على نفسه بأنَّه بلغهم ، وأشهده عليهم بأنَّهم أقروا على أنفسهم بأنَّهم بُلِّغوا ، وعلموا بما ألزمهم ، به من ولاية علي عليه‌السلام ومن كان الله تعالى شهيداً عليه فلا يجد مفراً من الإقرار والإعتراف.

ومن جحد ولاية الإمام علي عليه‌السلام بعد الإقرار بها ، والعلم بأنَّها بأمر من الله عزوجل بلَّغها إلى الأمة نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد أن أعطى بها عهداً موثقا بشهادة الله تعالى ، ورسوله ، والمؤمنين ، فهو راد على الله ورسوله ، وهو مستحق للعن ، ولا فرق في

__________________

(١) الغدير ١ / ٢٧٠ ـ ٢٨٣ فيه مختلف روايات البيعة.


ذلك بين من حضر ، وأعطى صفقة يمينه بالبيعة ، أو بلغه ذلك ، ولم يحضر ، فكلاهما في الحكم سواء ، لأنّض الغائب عنها قد بلغته بالتواتر الذي يفيد العلم ، وهو لا يختلف في الحكم عن الشاهد ، لأنَّ كلّا منهما مخالف عن علم ويقين ، ومنكر لضروري من ضرويات الدين.


وفاء بعهد الله

(وأشهد أنّك وفيت بعهد الله تعالى ، وأن الله تعالى موف لك بعهده (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (١)) :

كل من يعتنق الدين الإسلامي الحنيف ، مقراً بأن لا إله إلّا الله ، وأنَّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله ، فقد ألزم نفسه بعهد مع الله عزوجل يلتزم بموجبه بتطبيق الشريعة الغرّاء ، والعمل بأحكامها ، والانتهاء عمّا نهت عنه.

وكل عهد يلزم الإنسان به نفسه ، فهو ملزم بالوفاء به عقلاً وشرعاً ، والمؤمن لا يتخلف عن الوفاء بالعهد مهما كلفه الوفاء من ثمن ، فإذا كان العهد مع الله عزوجل فإنه يضحي بنفسه وفاءً له.

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام فيها أروع أمثلة الوفاء بعهود الله تعالى ، تتجلى في تضحياته ، والتزامه التام بأحكام الشريعة ، وجهاده المتواصل حتى نيل الشهادة ، وفاءً لبيعته التي أداها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقتبل عمره الشريف.

وفي قبال ما يقوم به المؤمن من الوفاء بعهد الله تعالى من الإطاعة لأحكام شريعته ، بتنفيذ أوامرها ، واجتناب نواهيها ، جعل الله تعالى الجزاء في الآخرة الذي أعده من لطفه للمؤمنين من الفوز بالجنة ، والتمتع بنعيمها الدائم الذي وصفته ووعدت به آيات الذكر الحكيم ، والسنة النبوية الشريفة ، والله سبحانه أهل الجود والوفاء.

ومن البديهي أنَّ الإنسان كلما أكثر التزود من الطاعة كان جزاؤه عند الله عزوجل

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٠.


أكبر وأكثر ، وليس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد من هذه الأمة أطاع الله تعالى ، والتزم بأحكام شريعته كالإمام علي عليه‌السلام ، وقد وفى الله عزوجل له بعهده على لسان نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي أخبر بأنَّه من سادة أهل الجنة ، وأنَّه معه يوم القيامة ، وفي درجته ، وأنَّه حامل لوائه فيها ، وأنَّه صاحب حوضه ، وأول من يدخل الجنة معه ، وأنَّه قسيم الجنة والنار ، والدخول إلى الجنة لا يكون إلّا بجواز منه ، إلى غير ذلك من الأحاديث المستفيضة ، التي اتفق على روايتها جميع أهل القبلة على اختلاف مذاهبهم ، ولننقل بعضاً منها :

عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة : أنا ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهدي» (١).

وفي حديث زيد بن أبي أوفى في المؤاخاة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وأنت معي في قصري في الجنة ، مع فاطمة ابنتي ، وأنت أخي ، ورفيقي ، ثمَّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : * إخواناً على سرر متقابلين * المتحابين في الله ، ينظر بعضهم إلى بعض» (٢).

وفي حديث زيد بن أرقم في المؤاخاة ، قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه ، فقال علي : يا رسول الله آخيت بين أصحابك ، وتركتني ، فقال : «أنت أخي ، أما ترضى أن تدعى إذا دعيت ، وتكسى إذا كسيت ، وتدخل الجنة إذا دخلت؟. قال : بلى» (٣).

وفي حديث جابر بن سمرة ، قال : قيل : يا رسول الله من يحمل رايتك يوم

__________________

(١) ذخائر العقبى ٨٩ ، الصواعق المحرقة ١٦٠ ، فضائل الخمسة ٣ / ١١٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٣١ / ٤١٦ ، ٤٢ / ٥٣ ، ذخائر العقبى ٨٩ ، فضائل الخمسة ٣ / ١٠٨ ، كنز العمال ٩ / ١٦٧ ، ١٧٠ ، ١٣ / ١٠٦.

(٣) أنساب الأشراف ٢ / ١٤٤.


القيامة؟. قال : «من كان يحملها في الدنيا علي بن أبي طالب (١)».

وقال ابن حجر المكي : أخرج الدارقطني أنَّ علياً قال للستة الذين جعفل عمر الشورى بينهم كلاماً طويلاً من جملته : «أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي أنت قسيم الجنة والنار غيري؟». قالوا : اللهم لا.

وفي معناه : ما رواه عنترة عن علي الرضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له ـ لعلي عليه‌السلام ـ «أنت قسيم الجنة والنار ، فيوم القيامة تقول النار : هذا لي ، وهذا لك» (٢).

وفي حديث أبي بكر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يجوز أحدٌ على الصراط إلّا من كتب له علي الجواز» (٣).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٧٤ ، ذخائر العقبى ٧٥ ، حديث خيثمة ١٩٩ ، وري معناه عن أنس في : تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٧٥ ، وعن الإمام علي عليه‌السلام في ٣٣١ منه وفي كنز العمال ١٣ / ١٥٤ ، وعن أبي سعيد في كنز العمال ١١ / ٦١٤ ، وعن عمر بن الخطاب في كنز العمال ١٣ / ١١٧ ، وعن محدوج بن زيد في تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤.

(٢) الصواعق المحرقة ١٢٦ ، وروي عن الإمام علي عليه‌السلام قوله : (أنا قسيم النار يوم القيامة ، أقول : خذي ذا ، وذري ذا) في تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٩٨ ، ٣٠٠ بطرق عديدة ، وشرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٠ ، وكنز العمال ١٣ / ١٥٢.

(٣) الصواعق المحرقة ١٢٦.



الولاية والإمارة

(أشهد أنَّك أمير المؤمنين الحق الذي شهد بولايتك التنزيل ، وأخذ العهد على الأمة بذلك الرسول) :

الذي يفهم من هذه الفقرة أنَّ الولاية التي أعلنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام علي عليه‌السلام تدل على أنَّه أمير المؤمنين ، بغض النظر عن وجود النص بإمرته ، سواء وجد النص ، أم لا.

ويتضح لنا ذلك من مراجعة نص الولاية ، وما استفدناه منها فيما مر من هذا الشرح ، إذ تقرر لدينا أنَّ الولاية منصب من الله تعالى ، وأنَّها تعني أنَّ للإمام علي عليه‌السلام ما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ومقامه فيهم كمقامه ، لا يختلف عنه بشي سوى النبوة ، لأنَّ رسالته خاتمة الرسائل ، كما تواتر عنه النقل بذلك.

فعلي عليه‌السلام خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمينه على رسالته ، وطاعته متفرعة عن طاعته ، وولايته متفرعة عن ولايته ، فهو بذلك أمير المؤمنين ، وقد شهد بولايته التنزيل في قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١) ، وسيأتي الحديث عن هذه الآية في محلها من الزيارة.

وقد مر بنا أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ العهد من المسلمين يوم غدير خم بولاية الإمام علي عليه‌السلام ، فأشهد الله تعالى عليهم ، وأمرهم بتبليغ من لم يحضر ، فهو أمير

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥.


المؤمنين حقاً بما دلت عليه النصوص من الذكر الحكيم ، والسنة النبوية الشريفة ، وهذا ما استفاده الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان من سيرة الرسول صلى الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما جاء في رواية البلاذري بإسناده عن أبي شريح ، قال : أتى حذيفة بالمدائن ـ ونحن عنده ـ أنَّ الحسن وعمّاراً قدما الكوفة يستنفران الناس إلى علي ، فقال حذيفة : إنَّ الحسن وعمّاراً قدما يستنفرانكم ، فمن أحب أن يلبي أمير المؤمنين حقاً حقاً ، فليأت علي بن أبي طالب (١).

__________________

(١) أنساب الأشراف ١٢٦.


تجارة مع الله تعالى

(وأشهد أنَّك وعمَّك وأخاك الذين تاجرتم الله بنفوسكم فأنزل الله فيكم : إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّـهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١) :

حمزة سيد الشهداء :

المقصود بالعم ـ هنا ـ حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أسد الله ورسوله ، وسيد الشهداء ، وهو بطل من خيرة أبطال الإسلام ، أبلى بلاءً حسناً في نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاهد بين يديه بصلابة ، وصدق ، وإخلاص ، وتفان في الله.

ومن مواقفه الجهادية أنَّه كان يتناوب حراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة مع الإمام علي عليه‌السلام ، وهو الذي ضرب أبا جهل عند البيت على رأسه بالقوس ، فشج رأسه انتصاراً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما بلغه من أذى أبي جهل له ، وأعلن إسلامه في تلك الحادثة مبالغاً في تحديه لجبابرة الشرك ، غير مكترث بهم ، وهو يعلم بأنَّه وترهم بعمله هذا.

وكان عليه‌السلام بعد الهجرة في طليعة المجاهدين ، وقد انتدبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر مع

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١١ ـ ١١٢.


علي عليه‌السلام وعبيدة عندما طلب شيبة ، وعتبة ، والوليد أن يبرز إليهم أكفاؤهم من بني هاشم ، ومواقفه في بدر وأحد مشهودة مشهورة ، وقد اغتالته يد الإثم في اُحد بتدبير وتشجيع من هند بنت عتبة التي مثلت به بعد القتل ، فاستخرجت كبده ولاكتها ، فعرفت لذلك بآكلة الأكباد.

جعفر الطيار :

والأخ هو : جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب عليه‌السلام ، وهو من السابقين إلى الإسلام ، حيث كان مع أبيه أبي طالب ، فوجدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي ، والإمام علي عليه‌السلام يصلي عن يمينه ، فقال أبو طالب لابنه جعفر : (صل جناح ابن عمك) (١) فانظم إليهما ، ليكون ثالثاً ، وقد أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من هاجر من المسلمين إلى الحبشة هرباً بدينهم من مشركي قريش ، وكان لحديثه مع النجاشي ملك الحبشة أثر كبير ، أدى إلى اهتمامه بالمسلمين ، وتصلبه في أمرهم عندما جاء وفد قريش مع عمرو بن العاص يطالبون النجاشي أن يسلم المسلمين إليهم ، ليردّوهم إلى مكة ، فأبى عليهم ذلك ، واهتم برعايتهم.

ولحق جعفر ومعه المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الهجرة إلى المدينة ، واستقراره فيها ، فوصلوا المدينة المنورة يوم فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لست أدري أي الأمرين أسر إلي أفتح خيبر؟. أم قدوم جعفر؟» (٢).

وانظم جعفر إلى صفوف المجاهدين ، إلى أن أمَّره الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على

__________________

(١) أسد الغابة ١ / ٢٨٧ ، شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٧٢.

(٢) أنساب الأشراف ٤٣.


الجيش الذي جهزه لحرب الروم في السنة الثامنة للهجرة ، فقاتل حتى قطعت يداه ، واستشهد في مؤتة حيث قبره الآن ، وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله تعالى أبدله عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة ، ولذا لقب بالطيار ، وبذي الجناحين (١).

ومن كان على هذه الدرجة م الإيمان ، ومن الفداء ، وبذل النفس في سبيل الله ، والتضحية من أجل إعلاء كلمة التوحيد ، حتى نيل الشهادة ، كحمزة وجعفر عليهما‌السلام ، اللذين لقيا الله عزوجل مضرجين بدمائهما الطاهرة ، وقد مثل بهما أعداء الله تشفياً منهما ، لأنَّهما يدعوان إلى الله عزوجل ، ويجاهدان لإعلاء كلمته في الأرض ، فلا شك أنَّهما والإمام علياً عليه‌السلام ممن قصدتهم الآية الكريمة ، وهم أظهر مصاديقها ، وأنَّهم ممن اشترى الله تعالى منهم أنفسهم ، فبذلوها في سبيله ، ولم يتخلفوا يوماً عن سوح الجهاد ، حتى استشهدوا في سبيله ، ودراسة سيرتهم خير شاهد على ذلك.

وهذا ينطبق على الآية الثانية ؛ لأنَّها تضمنت صفات هي من أظهر ما امتازت به حياة هؤلاء الثلاثة منذ بدء الدعوة حتى نال كل واحد منهم الشهادة ، مقتفين أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سائرين على هديه ، لا يحيدون عن نهجه القويم.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٤٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٧ / ٢٥٧ ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧١ ، كنز العمال ١٣ / ٤٤٧ ، المعجم الأوسط ٧ / ٨٨.



الشاك في علي عليه‌السلام

«أشهد يا أمير المؤمنين أنَّ الشاك فيك ما آمن بالرسول الأمين ، وأنَّ العادل بك غيرك عاند «عادل» عن الدين القويم الذي ارتضاه لنا رب العالمين ، وأكمله بولايتك يوم الغدير» :

اللغة : عاند عند ، يعند (بالكسر) ، عنوداً : أي خالف ، وردَّ الحق ، وهو يعرفه ، فهو عنيد ، وعاند ، والعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ، ويعدل عن القصد (١).

للإمام علي عليه‌السلام خصائص لا يشاركه فيها أحد من المسلمين ، وفضائله نص عليها متواتر الحديث ، وصحيحه ، فهو نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه ، ووزيره ، وخليفته ، وباب علمه ، وحكمته ، وعيبة علمه ، ووارثه ، وأمينه على شرعه ، ووليه ، والحجة الذي فرضت على الأمة طاعته ، وولايته ... إلى غير ذلك من فضائله التي لا تحصى.

ودراسة سيرته العطرة تضيف إلى ما جاء به النقل الكثير من المزايا ، والمآثر ، والفضائل ، والذي يعطي هذه السيرة بعداً خاصاً يضفي عليها القداسة ، هو تفانيه في ذات الله تعالى ، وهو الذي تربى في حجر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطبع به ، واقتفى أثره ، واحتذى مثاله ، وسار على هديه ... فسيرته سيرته وهديه هديه ، وفضائله فضائله ، ومآثره مآثره ، حيث لا مجال للتفريق بين الشخصين القدسيتين إلّا بالنبوة ، وما اختص به سيد الأنبياء.

فمن شك في الإمام علي عليه‌السلام بعد معرفة مكانته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ثبت

__________________

(١) الصحاح.


تفسيره فيه من الذكر الحكيم ، وما صرَّحت به السنة النبوية الشريفة ، فقد شك في صحة ما جاء به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يؤمن برسالته إيماناً صحيحاً ، وإنَّما أظهر الإيمان نفاقاً.

وللعدول عن الإمام علي عليه‌السلام بواعث تختلف باختلاف من عدلوا عنه : فالذين أقصوه عن الخلافة أولاً ، عدلوا عنه حسداً ، أو بغضاً ، لأنَّه وترهم بقتله لذويهم من رجال الشرك الذين أجهزوا على المدينة المنورة للقضاء على الإسلام ونبيه ومعتنقيه ، فتعصب القرشيون ضده ، وأقصوه عن الخلافة ، وهذا الموقف ضده جرى على قواعد العصبية القبلية التي كانت تسود في الجاهلية ، والتي ألغاها الدين الإسلامي الحنيف ، وإلى جانب هؤلاء وقف ضده المنافقون كيداً للإسلام ، وبغضاً لأهل البيت عليهم‌السلام.

وأمّا من جاء بعدهم على مرِّ العصور ، وتابعوهم على العدول عنه ، فهم بين من اتبع سنة السلف على التعصب ، والبغض ، والنفاق ، وبين من أثرت فيه الشبهات ، وغررت به الدعاية الأموية ، وهؤلاء يشكلون الغالبية العظمى ممن عدل عنه ، وقد تأثر هؤلاء بما عمل من أجله معاوية ، حيث بذل أقصى الجهد في محاولة الإنتقاص من الإمام علي عليه‌السلام ، فلم يجد مجالاً لذلك ، فعمل على وضع أحاديث في فضائل الصحابة ، ليقابل بها فضائله ، ويعارضها ، واشترى ضمائر بعض من يسمَّون بالصحابة ، وبعض التابعين ، فبذل لهم الأموال الطائلة ليضعوا له أحاديث في ذمه وانتقاصه.

ولم يكتف معاوية بذلك ، بل أمر ولاته بأن يمنعوا الناس من التحدث بفضائل الإمام علي عليه‌السلام ، كما أمرهم بإرهاب من يتحدث بفضائله ، بأن يسجن ، ويقطع عطاؤه ، وتهدم داره ، كل ذلك لستر مناقبه ومآثره ، ثم أمر الناس وأكرههم على لعنه


على المنابر (١).

وسار على سيرة معاوية في التشجيع على وضع الحديث أغلب من تسلط بعده على الدولة الإسلامية في العهدين : الأموي ، والعباسي فانتشرت ـ بشكل فضيع ـ الأحاديث التي وضعها الطامعون في فضائل الصحابة (٢) ، والتي توهم تفضيل بعضهم على الإمام علي عليه‌السلام ، ومساواة البعض الآخر له في الفضل ، ومن تفحص الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة ، يتضح له ضعف أسانيدها ، وركة متونها ، ومناقضة تلك المتون لسيرتهم ، فهي تحمل معها شواهد وضعها ، ولكن التعصب جعلها مما يحتج به ، ويقدم ـ أحيانا ـ على الصحيح ، والمتواتر ـ كما مر ـ

أمّا ما جاء في الإمام علي عليه‌السلام من تفسير لآيات الذكر الحكيم ، وما جاء من الحديث النبوي الشريف ، فهو إمّا متواتر ، أو صحيح ، أو حسن ، ويندر فيه الضعيف حتى لا نكاد نجده ، وقد ادعى المتعصبون ضعف بعض الأحاديث ، أو وضعها ، ولكن التحقيق يثبت خلاف ذلك ، وقد نص على صحة ما روي من الأحاديث في فضائل الإمام علي عليه‌السلام غير واحد من أئمة الحديث عند السنة ، يقول أحمد بن حنبل ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ، والنسائي : (لم يرو في فضائل أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الحسان (٣) ما روي في فضائل علي بن أبي طالب (٤)).

وكل من عدل عن الإمام علي عليه‌السلام بعد قيام الحجة بالأحاديث المستفيضة التي

__________________

(١) راجع فصيل ذلك في شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) راجع الغدير ففيه بحث مفصل عن أحاديث الفضائل.

(٣) يظهر أنّ المقصود بالحسان ما هو أعم من المعنى الاصطلاحي أي ما يشمل المتواتر والصحيح والحسن.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ٢٧ ، الصواوعق المحرقة ١٢٠ ، فضائل الخمسة ١ / ١٦٧.


نقلها علماء المسلمين ، ونصوا على وثاقة رواتها ، وصحة ما جاء فيها من تفسير أو حديث ، فهو غير معذور ، وعادل عن الدين الإسلامي القويم ، الذي نصت تعليماته على حبه ، والتمسك بولايته ، التي بلّغ بها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم ، فنزل الذكر الحكيم معلناً إكمال الدين وإتمام النعمة على الأمة بهذا الأصل الإعتقادي.

ولا فرق في ذلك بين من كان مدفوعاً بالحسد ، أو البغض ، أو النفاق ، وبين من اعتمد على أدلة واهية بينة الضعف ، تستند إلى الأحاديث الموضوعة في تفضيل وتقديم غيره عليه ، ولم يبحث عن الأحاديث الصحيحة والمتواترة ، ولم يتحقق في هذا الموضوع ، أو لجأ إلى تأويل الأحاديث ـ حتى لو كانت لا تحتمل التأويل ـ تعصباً ومتابعة ، وتقليداً للسلف.


الصراط المستقيم

«وأشهد أنَّك المعني بقول العزيز الرحيم : (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)(١) ، ضلَّ والله وأضلَّ من اتبع سواك ، وعَنَد عن الحق من عاداك ، اللهم سمعنا لأمرك ، وأطعنا ، واتبعنا صراطك المستقيم ، فاهدنا ربنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إلى طاعتك ، واجعلنا من الشاكرين لأنعمك».

اللغة : عَنَدَ عند ، يعند (بالكسر) ، عنوداً : أي خالف ، وردَّ الحق ، وهو يعرفه. الزيغ : الميل ، زاغ ، يزغ ، زيغاً ، وزيغاناً ، وزيوغاً : مال ... وقوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): أي لا تملها عن الهدى والقصد ، ولا تضلنا (٢).

أخبر الإمام الهادي عليه‌السلام بنزول هذه الآية الكريمة في جده الإمام المرتضى عليه‌السلام ، وأنَّه المعني بالصراط المستقيم ، وكلامه في ذلك حجة ، لأنَّه عَلَمٌ من أعلام بيت النبوة عليهم‌السلام الذين أودع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علومه عندهم ، ولم أجد في حدود ما اطلعت عليه من المصادر السنية حديثاً في نزولها فيه ، ولكن روي تفسير الصراط المستقيم في سورة الفاتحة ، والصراط في آيات أخرى فيه ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف وصفه بالصراط المستقيم ، وإليك نماذج من ذلك :

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٥٣.

(٢) لسان العرب.


آيات الذكر الحكيم :

روى المأمون الخليفة العباسي ، عن آبائه ، عن ابن عباس ، في تفسير قول الله تعالى : (وَاللَّـهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ): يعني به الجنة ، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(١) : يعني به إلى ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

وقال زيد بن علي في هذه الآية : (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). قال : إلى ولاية علي بن أبي طالب (٣).

قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ)(٤) عن ابن عباس ، قال : «أصحاب الصراط السوي» : هو ـ والله ـ محمد وأهل بيته ، والصراط : الطريق الواضح الذي لا عوج فيه (٥).

قوله عزوجل : (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)(٦) عن علي عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ... الآية) ، قال : عن ولايتنا (٧).

الحديث النبوي الشريف :

جاء في حديث ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي بن أبي طالب :

__________________

(١) يونس ١٠ : ٢٥.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٤٦.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٧.

(٤) طه ٢٠ : ١٣٥.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٤٩٩.

(٦) المؤمنون ٢٣ : ٧٤.

(٧) شواهد التنزيل ١ / ٥٢٤.


«أنت الطريق الواضح ، وأنت الصراط المستقيم ، وأنت يعسوب المؤمنين» (١) ، وفي حديث جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله جعل علياً ، وزوجته ، وأبناءه حجج الله على خلقه ، وهم أبواب العلم في أمتي ، من اهتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم» (٢).

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تعطينا خير دليل على صحة ما جاء في هذه الأحاديث ، لاقتفائه أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تطبيق أحكام الشريعة الغراء وآدابها : قولاً ، وفعلاً ، وتقريراً كما أنَّ عصمته ، وما تقتضيه من كونه حجة الله تعالى على العباد ، وما جاء من النص على التمسك بولايته ، وخلافته يؤيد كونه الصراط المستقيم ، لأنَّه يقتضي وجوب طاعته ، وأنَّ الإقتداء به ، والسير على هديه اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطاعة لله ورسوله. ومن البديهي أنَّ اتباع الجاهل ، وتقديمه على العالم ضلال ، لأنَّ العالم يرشد إلى طريق الصواب ، بخلاف الجاهل الذي لا يعرف طريق الرشد ليهدي إليه ، كما أنَّ تقديم غير المعصوم على المعصوم ومتابعته ضلال ؛ لأنَّ من لا عصمة له لا يُؤمَن تورطه بالمعاصي ، والإقتداء به في معاصيه ضلال.

وبما أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام باب علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نصَّ الذكر الحكيم والسنة النبوية الشريفة على عصمته ، فمن تمسك بولايته ، وتابعه أمن من الضلال ، واتبع الهدى ، ولزم الصراط المستقيم ، ومن أبى التمسك بولايته ومتابعته ، فقد خالف الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضل بمخالفته لهما ، وتقديمه الجاهل على العالم ، وغير المعصوم العاصي على المعصوم الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٧٦.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٧٦.


وأضل كل من تابعه على هذا النهج.

وأمّا تركه الحق فواضح لما صح وتواتر من الحديث النبوي الشريف الذي يدل على كونه مع الحق ، من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي مع الحق ، والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة الغدير : «وأدر الحق معه حيث دار» ، وغير خفى أنَّ هذين الحديثين يفيدان كونه مع الحق في جميع تصرفاته ، وفي كل أحواله ، وحديث الثقلين الذي نص على عدم افتراق العترة عن الكتاب حتى يردا الحوض ، وأنَّ التمسك بهما عصمة من الضلال يدل على أنَّ سيد العترة مع الحق ، إذ لو فارق الحق ، لافترق عن الكتاب العزيز الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، وانتفت بذلك عصمته من الضلال ، وكذلك حديث : «علي مع القرآن والقرآن مع علي» يدل على ما دل عليه حديث الثقلين (١).

بعد أن بيّن الإمام الهادي عليه‌السلام أنَّ جده المرتضى عليه‌السلام هو الصراط المستقيم ، وأنّ اتباع غيره ضلال ، وأنّ من عاداه مفارق للحق ، عقب ذلك بالإقرار والتسليم ، وإعلان السمع والطاعة ، ثم انتقل إلى الإبتهال والتضرع ، سائلاً العلي القدير أن يثبته على هذه العقيدة ، طالباً منه المزيد من الهداية ، كي لا يزيغ قلبه ، فتميل به الأهواء عن الصراط المستقيم ، الذي اُمر باتباعه ، وأن يرزقه أداء الشكر لهذه النعمة التي أسداها إليه بهدايته إلى طريق الصواب ، وهو الصراط المستقيم.

__________________

(١) ما تضمنته هذه الفقرة من أحاديث ذكرت مصادرها في مختلف مواضيع هذا الكتاب.


من مظاهر إيمان الإمام علي عليه‌السلام

«وأشهد أنَّك لم تزل للهوى مخالفاً ، وللتقى محالفاً ، وعلى كظم الغيظ قادراً ، وعن الناس عافياً غافراً ، وإذا عصي الله ساخطاً ، وإذا أطيع راضياً ، وبما عهد إليك عاملاً ، راعياً لما استحفظت ، حافظاً لما استودعت ، مبلغاً ما حمِّلت ، منتظراً ما وُعِدْت» :

اللغة: كظم الرجل غيضه إذا اجترعه. كظمه ، يكظمه ، كظماً : رده ، وحبسه ، فهو رجل كظيم ، والغيظ مكظوم ، وفي التنزيل العزيز : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ): فسره ثعلب ، فقال : الحابسين الغيظ ، لا يجازون عليه (١).

مخالفته الهوى :

يتحرج المؤمن في جميع تصرفاته ، ويراقب نفسه ، ويحاسبها ، فلا يتصرف أيَّ تصرف إلّا بعد معرفة موقف الشرع منه ، فإن كان مما يحبذه الشرع ، أو يبيحه ، أقدم عليه ، وإن كان مما ينهى عنه الشرع تركه ، وابتعد عنه ، سواء وافق ذلك هواه أو خالفه.

ومن تتبع سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وتأملها ، وجد فيها أروع الأمثلة في مخالفة الهوى ، فقد مرَّ بأحداث وأزمات كثيرة ، وضعته أمام تجارب قاسية ، وامتحان صعب ، ولكنه خرج منها بدينه ، إذ لم يفارق هدي الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صمد

__________________

(١) لسان العرب.


وتحرّى سبل الرشاد ، فسلكها غير مكترث ولا هيّاب لما يواجهه من مخاطر وصعوبات ، لأنَّه يبذل نفسه في طاعة الله تعالى ، وتهون لديه الحياة ، فيضحي من أجل عقيدته ، وينتظر الشهادة بشوق ولهفة.

يشق صوته هدوء الليل في الأسحار ، وهو يناجي ربه ، فيمزج مناجاته بمخاطبة الدنيا : «غري غيري» ، بينما يتكالب غيره على الدنيا ، فيضحي بدينه للنيل من نعيمها الزائل ، والتمتع بملذاتها الفانية التي لا يرى الإمام علي عليه‌السلام لها قيمة ، ولا يقيم لها وزناً ، متبعاً في ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي كان مثله الأعلى ، وقدوته الحسنة ، لم يعمر دنياه على حساب آخرته ، بل عاش ببساطة ، يواسي الفقراء ، ويعطف عليهم ، مترفعاً عن مظاهر الترف ، فلم يسكن قصر الإمارة عندما تولّى الخلافة في الكوفة ، بل سكن دار ابن أخته جعدة بن هبيرة ، تواضعاً ومواساة للمعوزين.

قال عليه‌السلام ـ وهو يفصح عمّا انطوت عليه سيرته ـ في رسالته إلى عثمان بن حنيف واليه على البصرة : «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ، فوَالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا» (١).

وقال عبد الله بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام بذي قار ـ وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟. فقلت : لا قيمة لها. فقال عليه‌السلام : والله لهي أحب إلي من إمرتكم ، إلّا أن أقيم حقّاً ، أو أدفع باطلاً.

فمن كانت هذه سيرته ، وهذه نظرته إلى الدنيا ، ثمَّ إلى الخلافة ما لم يتوفر في

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.


ظلها العدل ، ومن بلغ هذا الحد من الإعراض عن الدنيا ، فهو حقاً مخالف لهواه.

محالفته التقوى :

ضرب الإمام علي عليه‌السلام المثل الأعلى في تقواه ، والتزامه بما جاء به الشرع الشريف ، وتحرجه من المعاصي مهما كانت صغيرة ، يقول عليه‌السلام : «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلته ، وإنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ، ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذى لا تبقى (١)».

ويرسم لنا الإمام علي عليه‌السلام الأسس التي يعتمدها في سيرته ، والتي ينبغي للمسلم أن يقتدي به فيها ، فيتخذها نهجاً للعمل ، فيقول : «إحذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت فاقوَ على طاعة الله ، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله (٢)» ، وقد عرف عنه تقيده بهذا النهج القويم ، فهو لا يأمر بطاعة إلّا بعد تطبيقها على نفسه ، ولا ينهى عن معصية وهو منتهٍ عنها ، يقول عليه‌السلام : «أيها الناس إنّي ـ والله ـ ما أحثكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها (٣)».

ونختم الحديث عن مخالفته الهوى ، ومحالفته التقى بما وصفه به حفيده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام حيث يقول : «والله ما عرض لعلي أمران كلاهما لله

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢١٨.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٩٢.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٩٠.


طاعة إلّا عمل بأشدهما وأشقهما (١)».

كظمه الغيظ وعفوه :

الذي يثير الغيظ في النفس هو تعرض الإنسان إلى الإساءة ، وتختلف الإساءة باختلاف من يسيء ، كما تختلف باختلاف مكانة من اُسيء إليه ، والذي يقابلها بأحد أمرين : إمّا الإقتصاص بإساءة مثلها ، أو العفو عن المسيء ، والإعراض عنه تكرّماً ، ولا يعتبر الإعراض عن المسيء عفواً إلّا إذا كان عن اقتدار ، وهو يمثل درجة سامية من ضبط النفس ، وحسن التصرف ، ويدل على نضوج العقل.

أمّا إذا كان الإعراض عن جبن وخوف ، فلا يعد عفواً عن المسيء ، ول ايعد المعرض كاظماً للغيظ ، لما فيه من امتهان للكرامة ، وذل ، وخنوع ، وأما إذا كان الإعراض عن ظالم لا قِبَل للمُساء إليه على أخذ الحق منه ، فيعتبر الإعراض (تقية).

وقد تعرض الإمام علي عليه‌السلام ـ في مختلف أدوار حياته ـ إلى كثير من الإساءات ، وكان مقتدراً على الرد بالمثل ، وأخذ حقه بالإقتصاص ممّن أساء إليه ، ولكنه كان يترفع عن ذلك ، ويتحلى بكرم النفس ، والحلم ، وكانت نفسه الطاهرة تأبى أن يسيء إلى أحد حتى لو كان ذلك قصاصاً ، بل يعفو ، ثم لا يكتفي بالعفو ، فيتعداه إلى الإحسان لمن أساء إليه ، تطبيقاً لقوله عزوجل : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢).

ومَن ألقى نظرة على سيرة الإمام علي عليه‌السلام يجد لذلك شواهد لا تحصى ، نذكر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٠.

(٢) آل عمران ٣ : ١٣٤.


بعضاً منها على سبيل المثال :

ففي حرب الجمل ، وبعد أن هزم جيش أعدائه ، وقتل منهم من قتل ، وظفر بالباقين ، وفيهم عبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وسواهما من رؤوس الفتنة الذين خرجوا عليه ، وحرضوا القبائل ، فعفا عن الجميع ، ولم يؤاخذ أحداً منهم بجريرته ، وكانت القوة له ، والشرع يقر له القصاص منهم ، ولا ينقص ذلك من دينه ، ولا من مروءته ، ولكنه عليه‌السلام أبى إلّا أن ينهج في عفوه نهج ابن عمه الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ عفا يوم الفتح عن كل من أساء إليه ، والذي كان يشفق على أعدائه لأنَّهم سيهلكون بأذاهم له ، فيتضرع إلى الله تعالى عله يهديهم إلى سواء السبيل : «اللهم اغفر لقومي إنَّهم لا يعلمون».

أمّا عائشة التي أججت نار الحرب ، وقادت الجيوش محرضة على الإطاحة به بكل وسيلة ، بل وقتله ، فقد قابل إساءتها بالرعاية ، والعفو ، والإحسان ، فأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يتعاهد هودجها ، ويدخلها داراً في البصرة ، كي لا يصيبها أذى ، وتأوه لها ممّن صانوا حلائلهم ، وأخرجوها من بيتها ، ولم يراعوا حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أمر الله تعالى به نساءه من أن يقرن في بيوتهن ، ثمَّ خيَّرها بين المقام أو العودة إلى المدينة المنورة ، ولما اختارت العودة أعادها معززة مكرمة ، ولم يؤاخذها بجريرة.

وهذا الخلق الرفيع لم يفارق الإمام علياً عليه‌السلام حتى مع قاتله ابن ملجم ، عندما ضربه بسيف قد سقاه السم ، فأثر السم في بدنه ، فكان وهو في سكرات الموت يوصي ولده بقاتله خيراً ، فيقول لهم : إنَّه أسير ، فأحسنوا نزله ، وأكرموا مثواه ، فإن بقيت : قتلت ، أو عفوت ، وإن مت ، فاقتلوه قتلتي ، (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ


الْمُعْتَدِينَ)(١). (٢) إنّها الشهامة ، وكرم النفس ، والقلب الطاهر الذي ملأه الإيمان ، فلم يبق فيه مكان للشر والحقد ، بل هو موطن لحب الخير في نفس قدسية ، وتراه يرشد إلى هذا النهج ، فيقول : «إذا قدرت على عدوك ، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه (٣)».

سخطه ورضاه لله عزوجل :

إنَّ سخط المرء لمعصية الله عزوجل ، ورضاه لطاعته ، لا يكون إلّا نتيجة لإيمانه ، وعمق معرفته بالله تعالى ، وهذا الجانب يظهر في سلوك الإمام علي عليه‌السلام بوضوح ، من خلال إرشاداته ، ومواعظه ، وما كان يقوم به من حث الناس على الطاعة ، ونهيهم عن المعصية ، في خطبه ، ورسائله ، ووصاياه ، وكلماته الحكمية ، وقد حوى نهج البلاغة أروع نماذج ذلك ، ممّا اختاره الشريف الرضي من كلامه.

أمّا سيرته العملية ، فقد نقل التاريخ لنا نماذج تظهر سخطه لسخط الله تعالى ، ورضاه لرضى الله تعالى ، فهو لا يلتفت في هذا المجال إلى أي اعتبار يصطدم به ذلك ، ولا يقيم له وزناً ، ولم يتأثر به غيره ، من مراعاة القرابة ، والصداقة ، والعلاقات الاجتماعية على حساب تطبيق أحكام الله عزوجل ومن نماذج ذلك :

مواقفه من الأمويين أيام حكم الخليفة الثالث عثمان ، حيث كان في طليعة المنكرين لمخالفاتهم الصريحة للشريعة المقدسة ، كالتلاعب بأموال الأمة ومقدَّراتها ، والاعتداء على أجلاء الصحابة ، بالضرب والنفي ، كما حصل مع عمّار ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٠ ، المائدة ٥ : ٨٧.

(٢) أنساب الأشراف ٥٠٢ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٥٨ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٣٥.

(٣) نهج البلاغة ٤ / ٤.


وعبد الله بن مسعود ، وأبي ذر ، وأضرابهم.

ولعل من أهم هذه المواقف إقامته الحد على الوليد ، وقد قامت البينة على شربه الخمر ، عندما تلكأ الخليفة في إقامة الحد عليه ، متأثراً بالنسب بينهما ، وتردد غيره مجاملة للخليفة ، ولكن الإمام علياً عليه‌السلام أخذ على عاتقه إقامة حدود الله عزوجل ، فلم يتردد ، ولم يجامل على حساب الدين ، ولم يخش غضب الأمويين الذين استحوذوا على السلطة ـ يوم ذاك ـ ، بل أدّى وظيفته الشرعية غضباً لله تعالى إذ عُصِي ، غير مكترث لسخط مخلوقٍ.

ومنها : موقفه مع النجاشي شاعره يوم صفين ، والذي كان في طليعة المدافعين عنه ، قال ابن أبي الحديد : (حدَّث ابن الكلبي عن عوانه ، قال : خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان ، فمرَّ بأبي سمال الأسدي ـ وهو قاعد بفناء داره ، فقال له : أين تريد؟.

قال : أردت الكناسة. فقال : هل لك في رؤوس ، وأليات ، قد وضعت في التنور من أول الليل ، فأصبحت قد أينعت ، وتهرت؟. قال : ويحك! في أول يوم من شهر رمضان؟!. قال : دعنا ممّا لا يعرف!. قال : ثمَّ مه؟. قال : أسقيك من شراب كالورس ، يطيب النفس ، يجري في العرق ، ويزيد في الطرق ، يهظم الطعام ، ويسهل للفدم الكلام ، فنزل ، ثمَّ أتاه بنبيذ ، فشربا ، فلمّا كان آخر النهار علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة علي عليه‌السلام ، فأتاه ، فأخبره بقصتهما ، فأرسل إليهما قوماً ، فأحاطوا بالدار ، فأمّا أبو سمال ، فوثب إلى دور بني أسد ، فأفلت ، واُخذ النجاشي ، فاُتى عليه‌السلام به ، فلمّا أصبح ، أقامه في سراويل ، فضربه ثمانين ، ثم زاده عشرين سوطاً. فقال : يا أمير المؤمنين ، أمّا الحد فقد عرفته ، فما هذه العلاوة؟!. قال : «لجرأتك على الله ،


وإفطارك في شهر رمضان (١)».

وقال ابن أبي الحديد : (وروى صاحب كتاب الغارات ، أنَّ علياً عليه‌السلام لمّا حدّ النجاشي ، غضبت اليمانية لذلك ، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي ، فدخل عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كنا نرى أهل المعصية ، والطاعة ، وأهل الفرقة ، والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء ، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحرث ، فأوغرت صدورنا ، وشتت أمورنا ، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أنَّ سبيل من ركبها النار. فقال عليه‌السلام : (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(٢) ، يا أخا نهد ، وهل هو إلّا رجل من المسلمين ، انتهك حرمة من حرم الله ، فأقمنا عليه حداً كان كفارته؟! إنَّ الله يقول : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)(٣) ... [إلى أن قال] : ولمّا جنه الليل ، همس (٤) هو والنجاشي إلى معاوية) (٥).

بالإمام علي عليه‌السلام لم يكن ممن يطلب النصر بالجور ، ولا ممن يقدِّم مصلحته الشخصية على حساب دينه ، حتى يترك من ينصره ، وهو ينتهك حرمات الله تعالى ، ولا يهمه أن يهرب من عدله من هرب ، لأنَّه غضب لغضب الله عزوجل ، فأقام حدّاً من حدوده ، والدنيا عنده لا تعدل شيئاً ، ليداهن من أجلها.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٨.

(٢) البقرة ٢ / ٤٥.

(٣) المائدة ٥ : ٨.

(٤) تسلل ليلاً وهرب.

(٥) شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٩.


التزامه بالعهود :

عهد الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإمام علي عليه‌السلام بكل ما جاءه من السماء من أسرار الرسالة ، وأحكامها ، وآدابها ، فقال فيه ـ كما مر ـ : «صاحب سري علي بن أبي طالب» ، وكانت سيرته معه تختلف عنها مع غيره ، إذ كان يبلغ الأحكام للمسلمين حسب الحاجة إليها ، ويختص الإمام علياً عليه‌السلام ، فيخلو به ، ويبلغه كل ما جاء به الوحي ، يقول عليه‌السلام : «كنت إذا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني ، وإن سكت ابتداني (١)» ، وكان ذلك إعداداً له ، ليتحمل المسؤولية بعده ، إذ قال له ـ كما مر ـ : «وأنت تبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي».

وقد عمل بكل ما عهد به إليه بدقة وعناية تفوقان التصور ، مقتفياً بذلك أثر أخيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يبدأ بنفسه في تطبيق ما يعهد به إليه ، راعياً ما استحفظ من أحكام.

وقد علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أخبره به الوحي من الأمور الغيبية ، وهي من الدلالات على صحة نبوته ، ومن أسرار الرسالة التي لا يتحملها كل أحد ، فلا يمكن الإعلان عنها إلّا في الوقت المناسب ، فكان الإمام علي عليه‌السلام يعلن عن بعضها كلما دعت الحاجة للإعلان ، وقد أخبر عن جملة من الأمور الغيبية ، حدث بعضها في حياته بعد إخباره بها بمدة ، بينما حدث البعض الآخر منها بعد وفاته بمدة طويلة ، وفي كلا الحالين كان الأمر كما أخبر.

ومن أمثلة ما أخبر به في حياته ، قوله لمن أخبره بعبور الخوارج النهر في حرب النهروان : «والله ما عبروه ، وإنَّ مصارعهم لدون النطفة ـ أي النهر ـ» (٢) ،

__________________

(١) كفاية الطالب ٢٢٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٢.


كما أخبر بأنَّ نتيجة تلك المعركة أن لا يبقى من الخوارج عشرة ، ولا يستشهد من أصحابه عشرة ، فكان كما أخبر (١).

ومن أمثلة ما أخبر به ، وتحقق بعد وفاته عليه‌السلام إخباره بتسلط معاوية ، ودعوته الناس لسب الإمام علي عليه‌السلام ، والبراءة منه ، وإخباره بخلافة مروان ، وقصر مدَّتها ، وإخباره بتسلط الحجاج على العراق ، وفتكه بالناس ، وإخباره ـ عندما مرَّ بكربلاء في طريقه إلى صفين ـ بمقتل ولده الحسين عليه‌السلام ، ومصارع ذريته ، وأصحابه عليهم‌السلام ، وإخباره بعض أصحابه بما يصنع بهم ولاة الجور من بعده.

وقد أدى ما حُمِّل من أسرار الرسالة إلى سبطي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحمِّلهما أمانة ما لم يستطع تبليغه في حياته ، بعد أن كان هو المبلغ الذي يرجع إليه الصحابة ، كلما ابتلوا بمسألة جهلوا حكمها ، ليرشدهم إلى حكم الله تعالى فيها ، ومن أشهر أمثلة ذلك أحكام قتال البغاة ، وهم أهل الفتنة من : الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين والتي كان يجهلها الناس ، لأنَّهم شهدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتال المشركين ، وقتال أهل الكتاب ، أمّا أحكام قتال البغاة ، فلم تكن معروفة إلى أن أبانها الإمام علي عليه‌السلام.

انتظار ما وعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كان الإمام علي عليه‌السلام يرغب في نيل الشهادة في سبيل الله تعالى وتتوق نفسه إليها ، فينتظرها بشوق ولهفة ، وقد أنبأ الذكر الحكيم عمّا في نفسه في قوله تعالى : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(٢) فقد نص المفسرون أنَّ المقصود بمن قضى نحبه عمه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٣.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٢٣ ، سيفرد للآية موضوع مستقل في محل ورودها في الزيارة.


حمزة بن عبد المطلب الذي استشهد في أحد ، وابن عمه عبيدة الذي استشهد في بدر ، وبقي هو ينتظر الشهادة ، وقد أخبره أخوه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنَّه سيستشهد ، وبيَّن له كيفية استشهاده ، فكان يخاطب أهل العراق متضجراً : «يا أهل العراق ، لوددت أن لو قد انبعث أشقاها ، فخضب هذه من هذا» (١) ، وفي قوله عليه‌السلام : (أشقاها) إشارة إلى ما صح من الحديث النبوي الشريف في وصف قاتله بأنَّه : «أشقى الآخرين ، وأنَّه أشقى الأمة» ، والأحاديث المروية في ذلك كثيرة ، نذكر منها :

ما رواه الإمام علي عليه‌السلام ، قال : «أخبرني الصادق المصدوق : أنَّي لا أموت حتى اُضرب على هذه ـ وأشار إلى مقدم رأسه الأيسر ـ فتخضب هذه منها بدم ـ وأخذ بلحيته ، ـ وقال لي : يقتلك أشقى هذه الأمة» (٢).

وروى عثمان بن صهيب ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : «من أشقى الأولين؟. قال : عاقر الناقة. قال : صدقت. قال : فمن أشقى الآخرين؟. قال : قلت : لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ـ وأشار بيده إلى يافوخه ـ (٣)».

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٤٢٦ ، وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة في : تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣٨ ، مسند أحمد ١ / ١٣٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٣ بطرق عديدة.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٦ ، وفي ص ٥٥١ منه رواية عن جابر بن سمرة ، وفي ينابيع المودة ٢ / ١٩٩ رواية عن الإمام علي (ع).



علي عليه‌السلام والحق المغتصَب

«وأشهد أنَّك ما اتقيت ضارعاً ، ولا أمسكت عن حقك جازعاً ، ولا أحجمت عن مجاهدة غاصبيك ناكلاً ، ولا أظهرت الرضا بخلاف ما يرضي الله مداهناً ، ولا وهنت لما أصابك في سبيل الله ، ولا ضعفت ، ولا استكنت عن طلب حقك مراقباً ، بل إذ ظلمت احتسبت ربَّك ، وفوَّضت إليه أمرك ، وذكَّرتهم فما ادَّكروا ، ووعظتهم فما اتَّعظوا ، وخوَّفتهم الله فما تخوَّفوا» :

اللغة : اتقى ، يتقي ترك خوفاً ، وحذراً ، ضرع ، ضراعة : خضع ، وذلَّ. الناكل : الجبان الضعيف. وهن : ضعف. إدّكروا ، ذكروا ، وأصله : إذتكروا ، فأدغم (١). المداهن (مِن داهن) : أظهر خلاف ما أضمر. استكان : خضع ، وذلَّ (٢).

موقف الإمام علي عليه‌السلام من الخلافة :

هذه الفقرة من الزيارة تحدد موقف الإمام علي عليه‌السلام من الخلافة وإمساكه عنها ، وتتضمن الشهادة له بأنَّه لم يترك حقه بالخلافة خوفاً وجبناً ، ولم يتردد عن الجهاد لاسترداد حقه المغتصب تذللاً ، أو جزعاً ، أو جنباً ، ولم يكن مخادعاً ، ومختالاً في إظهاره الرضا بالأمر الواقع.

ولتوضيح ما انطوت عليه هذه الشهادة لابد من معرفة أحقيته بالخلافة ، واستعراض ما حصل بعد وفاة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الخلافة ، وتنصيب

__________________

(١) الصحاح.

(٢) لسان العرب.


الخليفة ، لإلقاء الضوء على موقفه ، وأنَّ موقفه يوحي بهذه الشهادة.

لا شك أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو أولى الناس وأحقهم بالخلافة ، لاجتماع مؤهلات الخلافة فيه دون غيره ، فهو أفضل الأمة علماً وعملاً ، وهو الإمام المعصوم ، والذي سبقهم إلى الإيمان ، والجهاد ، وإلى كلِّ فضيلة ، وهو أقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحبهم إليه.

وإذا عطفنا على مؤهلاته للخلافة ـ والتي تدل على أحقيته بها عقلاً ـ ما جاء به النقل من تفسير لآيات الذكر الحكيم ، وما صح ، وتواتر به النقل من الحديث النبوي الشريف كأحاديث الولاية ، وحديث المنزلة ، وما نص من الحديث على أنَّه أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وخاتمهم ، وإمام المتقين ، وخليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه يبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده (١) ، إنَّ مدلولات هذه الأحاديث تؤكد لكل منصف أحقيته بالخلافة بما لا يقبل الشك والتردد.

اُقصي الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة ثلاث مرات ، فبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان هو وأهل البيت عليهم‌السلام مشغولين بتجهيز الجثمان الطاهر ، بينما كان المسلمون يتنازعون على الخلافة ، طلبها الأنصار ، ونافسهم عليها المهاجرون ، وانتهى النزاع بغلبة قريش بدعوى القرابة ، وغُلب الأنصار على أمرهم بسبب النزاع القبلي بين الأوس والخزرج ، وفرضت خلافة أبي بكر ، وتمت البيعة له بإكراه فئة ، وتعصب أخرى.

وامتنع عن بيعة أبي بكر الإمام علي عليه‌السلام وكافة بني هاشم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدد من أجلّاء الصحابة ، وذوي الفضل منهم من أمثال : سلمان ، وعمار ، وأبي ذر ،

__________________

(١) ما أشير إليه من الآيات والأحاديث تم بحثه وذكر مصادره في مختلف مواضيع هذا الكتاب.


والمقداد ، والزبير ، وأضرابهم ، وكل هؤلاء أكرهوا على البيعة بعد أن استتب الأمر للخليفة ، وتسلم السلطة.

وعندما بلغت الإمام علياً عليه‌السلام أنباء ما حدث في السقيفة ، استفسر مستغرباً ما حدث : ما قالت الأنصار؟!.

قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير!.

قال عليه‌السلام : فهلّا احتججتم عليهم بأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم؟!.

قالوا : وما في هذا من الحجة عليهم؟.

فقال عليه‌السلام : لو كانت الإمامة فيهم ، لم تكن الوصية بهم.

ثمَّ قال عليه‌السلام : فماذا قالت قريش؟.

قالوا : احتجت بأنَّها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال عليه‌السلام : إتجوا بالشجرة ، وأضاعوا الثمرة (١).

ومع انشغال الإمام علي عليه‌السلام بتجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصلاة عليه ، ومواراته ، إستغل القوم هذه الفرصة لإبرام البيعة ، برضا من رضي بها ، وإكراه من أكره.

ولا شك أنَّ هناك عوامل ساعدت في نجاح هذا التدبير في إبرام البيعة ، وإقصاء الإمام علي عليه‌السلام ، فالقرشيون وغيرهم هم أبناء القبائل العربية التي دخلت في الإسلام ، كانوا موتورين ؛ لأنَّه قتل ـ في مختلف المعارك التي دارت بين المسلمين والمشركين ـ العديد من رجالهم وأبطالهم ، ولأنَّه كان يعد رئيس بني هاشم بعد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان هو المسؤول عن تلك الدماء التي أريقت ـ حسب ما تقتضيه قواعد الثأر القبلية في الجاهلية ـ وإذا كان الإسلام هو الذي

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١١٦.


أهدر تلك الدماء ، فإنَّه لم يتمكن بعد من قلوب الكثيرين منهم.

إنَّ المكانة التي بلغها الإمام علي عليه‌السلام في ال إسلام ، ومنزلته من الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء في فضله من الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف ، كل هذه ال أمور كانت تثير الحسد في نفوس الكثيرين ممن كانوا يطمحون لنيل الفضائل.

عوامل إعراض الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة :

لمّا فرغ الإمام علي عليه‌السلام من تجهيز الجثمان الطاهر ، ودفنه ، وإذا به يجد كل شي قد تمَّ للقوم ، ولم يبق معه سوى أهل بيته ، ونفر قليل من الصحابة ، يقول عليه‌السلام : «فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمر من طعم العلقم» (١).

وفي ضوء ما تقدم فلم يبق أمام الإمام علي عليه‌السلام غير خيارين :

الأول : الجهاد في طلب حقه ، وأخذه بالقوة.

الثاني : الإكتفاء بدعوة الناس إلى نفسه بالتي هي أحسن ، وإقامة الحجة عليهم ، وترك الخلافة ، وحقه المغتصب فيها عند عدم نجاح هذا الأسلوب ، يقول عليه‌السلام : «وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء (٢) ، أو أصبر على طخية عمياء (٣) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٦٧.

(٢) جذاء : مقطوعة ، كناية عن عدم وجود الناصر.

(٣) طخية : ظلمة.


ربَّه ، فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى (١) ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا (٢) ، أرى تراثي نهبا ...» (٣).

إنَّ عدم وجود الأنصار من جهة ، ولأنَّ قسماً لا يستهان به من قريش ، ومن المنافقين ، كانوا يراقبون الوضع ليحصلوا على فرصة مواتية من جراء حصول أي نزاع للإجهاز على الإسلام ، وما رواه المؤرخون في وصف موقف أبي سفيان ـ يومذاك ـ يلقي الضوء على ما ذكرناه ، حيث أراد أن يرفع لواء الجاهلية باسم الإسلام ليتدارك ما فاته من القضاء على الإسلام في بدر ، وأحد ، والأحزاب.

روى الطبري ، قال : «لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان ، وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجة ، لا يفطؤها إلّا دم ، يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم؟!. أين المستضعفان؟!. أين الأذلّان علي والعباس؟!. وقال : يا أبا الحسن أبسط يدك أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر الملتمس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلّا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف معكوس برمته

وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي عليه‌السلام ، وقال : «إنك ـ والله ـ ما أردت بهذا إلّا الفتنة ، وإنَّك ـ والله ـ طال ما بغيت الإسلام شراً ، لا حاجة لنا في نصيحتك».

وروى الطبري : (أنَّ أبا سفيان قال لعلي : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ، والله لئن شئت لأَملأنَّها عليه خيلاً ورجالاً. فقال علي : «يا أبا سفيان طال

__________________

(١) أحجى : أجدر.

(٢) شجا : ما يعترض في الحلق من عظم.

(٣) نهج البلاغة ١ / ٣١.


ما عاديت الإسلام وأهله ، فلم تضره بذلك شيئاً» (١).

وروى ابن عبد ربه ، قال : (فلما قدم ـ أي أبو سفيان وكان في سفر عند وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المدينة ، جعل يطوف في أزقتها ، ويقول :

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلّا منكم وإليكم

وليس لها إلّا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر : إنَّ هذا قد قدم ، وهو فاعل شرّاً ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستألفه على الإسلام ، فدع له ما بيده من الصدقة ، ففعل ، فرضي أبو سفيان ، وبايعه) (٢).

ونلاحظ أنّ موقف أبي سفيان الذي تظاهر به مدعيّاً نصرة الإمام علي عليه‌السلام يحمل في طياته العودة إلى الجاهلية ، وعصبيتها القبلية ، فكلماته وما تمثل به ، وما أنشده من شعر ، يظهر أنَّ الرجل ينتصر لبني عبد مناف على بني تميم ، وبني عدي ، فهو يريد أن يثبت وجوده في الساحة ، ويعيد إلى الأذهان زعامته لقريش في الجاهلية ، تلك الزعامة التي أقصاه الإسلام عنها.

ويستخدم أبو سفيان عبارات جارحة على طريقة الجاهلية ، متصوراً أنها ستثير النعرة القبلية عند الإمام علي عليه‌السلام ؛ ليحمله على أوعر الطرق ، ثم يعرض عليه المساندة بالخيل والرجال ، ولكنه فشل في مسعاه ؛ لأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لا يساوم على دينه ، ولا يطلب النصر مستعينا بمن لا دين له ، بل رد على أبي سفيان بكشف نواياه ، وإظهاره على حقيقته ، فيئس أبو سفيان ، وتراجع عن موقفه لقاء أموال الصدقة التي كانت تحت يده ، وتركت له.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٤٤٩.

(٢) العقد الفريد ٤ / ٢٥٧.


لقد كان الإمام عليه‌السلام في ظل تلك الظروف يخشى أن تنجم الفتنة فتعصف بالناس ، وتعيد كثيراً من الناس إلى جاهليتهم ، حيث كانت الظروف مواتية للردة ، وحيث كان أكثر الناس يؤيدون الوضع القائم لسبب أو لآخر ، ولم يبق مع الإمام عليه‌السلام إلّا عدد قليل لا يقوى على التغيير.

احتجاجات حول الخلافة :

لجأ الإمام علي عليه‌السلام إلى خيار المهادنة ، والدعوة إلى نفسه بالتي هي أحسن ، وإقامة الحجة على أحقيته ، وكان امتناعه عن البيعة ومن تابعه على ذلك ، ومساندة البضعة الطاهرة ، وعمه العباس عليهما‌السلام له ، يشكل أقوى احتجاج على الوضع القائم ، له أثره الكبير ، ومعناه العميق ، وكان هو ومن معه يطعنون بالخلافة ، ويقارعون خصومهم بالحجة والبرهان كلما كانت الفرصة مواتية لذلك.

لقد احتج العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام على أبي بكر ، لابن أخيه ، قال : (فإن كنت برسول الله طلبت ـ الخلافة ـ فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن منهم ، متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنَّما يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين) (١).

وقيل لعلي : بايع أبا بكر. فقال : «أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً!. ألستم زعمتم للأنصار أنَّكم أولى بهذا الأمر ، لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الإمارة؟!. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّاً وميتاً ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢١.


فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلّا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون (١)».

وقال عليه‌السلام لأبي عبيدة : «الله .. الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أحق الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا : القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنَّه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى ، فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعداً (٢)».

قال ابن قتيبة : وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابة ليلاً في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنَّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول علي كرم الله وجهه : «أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!».

فقالت فاطمة : «ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه (٣)».

يتبين لنا مما تقدم أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ترك الخلافة حفاظا على الدين ، وإبقاءً على معتنقيه ، خوفاً من ردتهم ، وقد طلب بلسانه ما لم يتيسر له طلبه بالقوة ، فبين

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٨.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.


ظلامته للناس ، وقارع خصومه بالحجة والبرهان ، ولم يكن ذلك منه خوفا ، ولا جزعاً ، ولا نكوصاً ، ولا جبناً ، ولم يكن مخاتلاً يضمر غير ما يظهر ، بل أظهر سخطه ومعارضته بكل جرأة ، وطالب بحقه بوسائل تبعد الأمة عن الفتنة التي لا يعلم نتائجها إلّا الله ، ولم يصبه وهن ولا ذل ، ولم يراقب في ذلك سوى الله تعالى ، ولم يرتهب من السلطة.

ولابد من الإشارة إلى أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لم يطالب بالخلافة لينال بها الدنيا وما فيها من منصب ومكاسب مادية ومعنوية ، وما يأمل نيله الذين يطلبون الحكم والسلطان ، بل كان يطلب حقه الشرعي الذي استحقه بمؤهلاته ، وثبت له بالنص ، والذي كان يأمله من نيل الخلافة هو بسط العدل ، ونشر الفضيلة ، والحكم بما أنزل الله عزوجل ، حاله في ذلك حال المصلحين من الأنبياء والأوصياء ، وعندما عاد الحق إلى نصابه ، أعطى المثل الأعلى للحاكم العادل ، وكان القدوة الحسنة ، فكان طلبه لها جهاداً في سبيل الله تعالى ، وما أصابه من ظلم ، وما تحمله من أذى من أجل ذلك لم يكن لنيل مصلحة شخصية ، بل تحمل ما تحمل لمصلحة الدين الحنيف ، ومصلحة الأمة ، وكان عمله من أجل ذلك ، وكان تركه من أجله ، قال عليه‌السلام عند بيعة عثمان : «ولقد علمتم أنّي أحق الناس بها من غيري ، ووالله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلّا عليَّ خاصة إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٢٤.



جهاد في الله تعالى

«وأشهد أنَّك يا أمير المؤمنين جاهدت في الله حق جهاده ، حتى دعاك الله إلى جواره ، وقبضك إليه باختياره ، وألزم أعداءك الحجة بقتلهم إياك لتكون لك الحجة عليهم ، مع ما لك من الحجج البالغة على جميع خلقه» :

بدأ جهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام منذ صباه ، واستمر جهاده طيلة عمره الشريف ، يكافح بكل الوسائل من أجل رفع راية الإسلام ، إلى أن استشهد بعد أن ضربه ابن ملجم ، وهو في محراب مسجد الكوفة ، حيث شعر بأنَّ أمنيته لنيل الشهادة قد تحققت فقال كلمته الخالدة : «فزت ورب الكعبة» ، إلى أن فارق الحياة التي قضاها في جهاد متواصل (١).

ومن تأمل مواقف الإمام علي عليه‌السلام الجهادية ، يتجلى له الفداء ، والتفاني في سبيل الله تعالى ، والإهتمام بنصرة الدين الحنيف ، مبتعداً عمّا يراود غيره من مصالح دنيوية ، فلا ينشغل بالسلب ، وجمع الغنائم ، بل ولا يؤثر في صلابته وإقدامه ما يصيبه من ألم الجراح ، فنراه يمضي ببصيرة وإيمان ، فيقحم نفسه في لهوات الحروب ليحرز إحدى الحسنيين : النصر ، أو الشهادة.

يشد على الكتبية بمفرده ، وكأنَّه يشد على رجل واحد ، لا يأبه بكثرة رجالها ، ويبارز من يتحاشى الأبطال مبارزته غير هياب ، لم يجبن في موطن قط ، ولذا تحاماه الأبطال ، فكانوا يكرهون لقاءه ، ويرون أنَّ الفرار منه ليس عاراً ؛ لأنَّ في

__________________

(١) راجع موضوع جهاد متواصل ص ١٠٧ من هذا الكتاب.


الثبات أمامه ، ومبارزته الموت.

لا شك أنَّ هذا الإقدام ، والاستعداد للتضحية في جهاده الذي لم يعرف له التاريخ نظيراً ، يستنتج منه أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام كان نافذ البصيرة ، فهو لا يرى للحياة قيمة إلّا بمقدار ما يحقق من النصر للدين الحنيف ، وكان هذا هو الهدف من استعداده للتضحية والفداء وإقدامه في الحروب ، وهو يدل على حقيقة ثابتة ، هي أنَّ جهاده كان في الله عزوجل ، ولا يهدف إلّا لرضاه ، ونصرة دينه الحنيف ، ولم يقتصر جهاده على ما شارك فيه من حروب ، بل تعداه ليشمل شتى الميادين ، وبشتى الوسائل ، همّه الأكبر في ذلك القضاء على الباطل ، وإماتة دعوته ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ولا يلتفت إلى أي اعتبار يخالف الموازين الشرعية.

جوار الله تعالى :

ولا شك أنَّ المؤمن ينتقل بعد الموت إلى جوار الله عزوجل ، فيكون في أمانه وعهده ، وتحت رحمته ، وهو مدعو إلى هذا الجوار بما قدَّمه من الطاعات ، وأعمال الخير ، واجتناب المعاصي ، وتحريه رضا الله تعالى في كل تصرفاته.

ولا تقبض أرواح العباد إلّا بأمر الله عزوجل واختياره : (اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)(١) ، أما الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى الموت كالأمراض الخطيرة ، والغرق ، والحرق ، والطعن ، والتسمم ، وما شاكلها فإنَّها لا تسبب الموت ما لم يأذن الله تعالى ، وكثيراً ما ينجو من الموت الذين يتعرضون لمثل هذه الأمور ، ويموت آخرون بمثل هذه الأسباب ، أو لأقل منها خطورة : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٤٢.


بِإِذْنِ اللَّـهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا)(١).

والإمام علي عليه‌السلام سيد المؤمنين ، وأكثر الأمة إخلاصاً ، وعبادة ، وتحرجاً من المعاصي ، وهو الإمام المعصوم ، فلا شك أنَّه استشهد لينتقل إلى جوار ربه الذي اختاره له ، ودعاه إليه في الجنان مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء.

الحجج البالغة :

تشير هذه الفقرة إلى نوعين من الحجج :

الأول : الحجة على من قتل الإمام علياً عليه‌السلام ، وهم الخوارج ، وهؤلاء ادعوا كفره ، ورأوا هدر دمه لأنَّه ـ حسب دعواهم ـ ارتد بعد الإيمان بقبوله التحكيم في صفين ، وامتنع عن التوبة ، وقد احتج الإمام علي عليه‌السلام عليهم في مواطن عديدة ، وبيَّن لهم صحة موقفه ، ومطابقته لما جاءت به الشريعة الإسلامية المقدسة ، مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة ، فكشف بذلك بطلان رأيهم ، وبعده عن الصواب ، ومخالفته لأحكام الدين ، ولم يأل جهداً من النصح والإرشاد ، وبذلك كانت له الحجة عليهم ، وقد عاد بعضهم إلى الصواب بما انتفع من نصحه ، وبقي آخرون على غيِّهم يعيثون في الأرض فساداً.

الثاني : الحجج البالغة على جميع الخلق ، بما فيهم الخوارج ، وهي الأدلة والبراهين الواضحة ، والتي تثبت فضله ، وتفضيله على من سواه من الأمة ، فهو حجة الله البالغة على العباد ، وقد ألمحنا إلى ذلك في مختلف مواضيع هذا الكتاب ، ولا أظن أنَّ أحداً يستطيع الإحاطة بهذه الحجج.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٤٥.



الإخلاص لله تعالى

«السلام عليك يا أمير المؤمنين ، عبدت الله مخلصاً ، وجاهدت في الله صابراً ، وجُدت بنفسك محتسباً ، وعملت بكتابه ، واتبعت سنة نبيه ، وأقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ما استطعت ، لا تحفل في النوائب ، ولا تهن عند الشدائد ، ولا تحجم عن محارب ، أفك من نسب غير ذلك إليك ، وافترى باطلاً عليك ، وأولى لمن عَنَدَ عنك» :

اللغة : لا تحفل حفلت بكذا : باليت به ، يقال : لا تحفل به. أفك : كذب. إفترى : فرى فلان كذباً ، إذا خلقه ، وافتراه : اختلقه ، والإسم : الفرية. عَنَدَ عنك : عند عن طريق ، يعند (بالضم) ، عنوداً : أي عدل ، فهو عنود (١).

تحدثنا عن عبادة الإمام علي عليه‌السلام وإخلاصه لله عزوجل في موضوع مستقل (٢) ، ونعود فنعطف على ما تقدم :

سأل ذعلب اليماني الإمام علياً عليه‌السلام ، فقال : هل رأيت ربَّك؟!.

فقال ععليه‌السلام : أفأعبد ما لا أرى؟!.

فقال : وكيف تراه؟!.

قال : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان (٣).

__________________

(١) الصحاح.

(٢) ص ١١١ من هذا الكتاب.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٩٩.


عبد الإمام علي عليه‌السلام ربَّه بهذا اليقين ، وبهذه البصيرة ، فأخلص له العبادة ، وأكثر منها ، متزوداً للقاء الله عزوجل شاكراً له على نعمائه ، مقتدياً بالرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، فقد روت عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال : يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً (١).

وإذا كانت كل نعمة من نعم الله تعالى تستوجب الشكر ، فإنَّ نعمه لا تحصى ، ولا يبلغ الشكر أداء حقها مهما أكثر العبد منه ، والشكر ذاته نعمة من نعم الله تعالى على عبده إذا وُفق له ، وهو بذاته يستحق الشكر.

لقد كان الإمام علي عليه‌السلام يداوم على العبادة ليله ونهاره ، لا يشغله عنها شي ، يوصل عبادة الليل بالتهجد والمناجاة في الفجر ، ثمَّ يؤدي الفرض ، ويعقبه بالذكر حتى طلوع الشمس ، سئلت سريته أم سعيد عن صلاته في رمضان ، فقالت : ما كانت صلاته في رمضان وشوال إلّا واحدة ، يحيى الليل كله (٢).

ولم يترك إحياء الليل بحال : في سفره ، وحضره ، وفي السلم ، والحرب ، ففي ليلة الهرير في صفين تلك الليلة الرهيبة ، التي خارت فيها العزائم ، وذهل فيها الأبطال لشدة القتال ، وضجّ فيها الناس لكثرة من قتل منهم ، لم يترك ال إمام علي عليه‌السلام نافلة الليل ، فقد افترش نطعاً ، ووقف يصلي بين الصفين غير مكترث بضجيج الحرب ، والرؤوس تتطاير ، وجثث القتلى تخضب بالدماء أديم الأرض من حوله ، يقول ابن أبي الحديد : (ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١١٥.

(٢) كفاية الطالب ٣٩٩.


الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه ، وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته) (١) ، وهذا مظهر رائع من مظاهر إخلاصه لله تعالى في العبادة ، فلا يهمه شي ، ولا يرتهب ؛ لأنَّه يؤدي صلاته منقطعاً إلى الله عزوجل متوجها إليه بقلبه وبروحه المليئة بالإيمان.

صبره عند الجهاد :

من لم يتحل بالصبر لا يستطيع أن يقدم على الجهاد ، لأنَّ المجاهد لا بد له من الصمود أمام العدو ، ومنازلة الأقران ، وهذا لا يتم إلّا بالصبر ، ومن جزع عند النزال ، أصابه الوهن والفشل ، وولّى ظهره لعدوه ، وانهار أمامه.

ومواقف الإمام علي عليه‌السلام في الحروب تدل على أنَّه كان يتحلى بأعلى درجات الصبر ، والمواقف التي تدل على صبره كثيرة ، ولعل أشهرها مبارزته لعمرو بن عبد ود فارس الأحزاب ، الشجاع الذي لا يُعرف له نظير في شجعان العرب وفرسانهم ، وكان الأبطال يتحامونه ، ويكرهون لقاءه ، فلا يجرؤ أحد على مبارزته ، وكان معتداً بنفسه ، عبر الخندق ، وتحدى المسلمين ، فلم يتطوع أحد لمبارزته سوى الإمام علي عليه‌السلام ، فتقدم نحوه بصبر وثبات ورباطة جأش ، ولم يرجع إلّا بعد أن صرعه ، وجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأسه ، وخير دليل على صبره عند النزال ما نعته به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر ، حيث قال ـ كما في رواية عمر ـ : «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتح الله عليه» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤١ / ١٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٦ باختلاف يسير.


جوده بالنفس :

والجود بالنفس هو تعريضها للتلف من أجل بلوغ غاية نبيلة ، كالجهاد في سبيل الله عزوجل طلباً لرضاه ، وابتغاء وجهه ، ومواقف الإمام علي عليه‌السلام في بذل النفس كثيرة وشهيرة ، نذكر منها على سبيل المثال : موقفه عند محاضرة بني هاشم في الشعب ، حيث كان يقي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، يضجعه في فراشه.

ومنها مبيته على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة ، وخروجه بالعيال للهجرة ، متحديا قريش بمفرده ، ومشاركته في جميع الحروب والمغازي عدا تبوك بعد الهجرة.

عمله بالكتاب والسنة :

مر بنا أن الإمام علياً عليه‌السلام معصوم ، وأنَّه حجة الله تعالى على عباده ، وأنَّه عليه‌السلام مع الحق ، ومع القرآن لا يفترق عنهما إلى يوم القيامة ، وأنَّ التمسك به يعصم من الضلال ، كما نصت الأحاديث النبوية الشريفة ، وبناءً على ما تقدم ، فهو لا يخالف الكتاب والسنة النبوية ، في قول ، أو فعل ، أو تقرير ، بل إنَّ جميع تصرفاته سنة لأنَّها مستمدة من مصدري التشريع : الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، ومطابقة لهما ، وتستفاد من سيرته أحكام الشريعة كما تستفاد من سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يتعبد الشيعة في أخذ الأحكام ، تبعاً لما قام عليه الدليل.

إقامة الصلاة وإيتاء الزحكاة :

كل من أدى الصلاة على الحدود التي أمر بها الشرع المقدس ، بتوجه إلى الله تعالى ، لا يشغله عنه شي ، يحسن قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، وما تشتمل عليه


من قراءة ، وذكر ، مداوماً عليها في أوقاتها ، فقد أقامها.

وإيتاء الزكاة يشمل كل ما يقدمه المرء في سبيل الله عزوجل من أمواله يبتغي تطهيرها به ، من صدقة واجبة ، أو مستحبة.

وقد شهد الذكر الحكيم للإمام علي عليه‌السلام بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، على ما أجمع عليه المفسرون ، وصح به النقل ، وتواتر ، في تفسير قوله عزوجل : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١).

وكان عليه‌السلام يؤدي صلاته كما أداها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى مطرف بن عبد الله ، قال : (صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبَّر ، وإذا رفع رأسه كبَّر ، وإذا نهض من الركعتين كبَّر ، فلمّا قضى الصلاة ، أخذ بيدي عمران بن حصين ، فقال : ذكَّرني هذا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قال : صلى بنا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢).

وأمّا إيتاؤه الزكاة ، فقد عرف عليه‌السلام بكثرة تصدقه على الفقراء والمساكين ، ومدِّ يد العون للمعوزين ، وكثراً ما كان يؤثرهم على نفسه ، فيطوي هو وذووه الأيام جوعاً ليُشبعوا المعوزين ، وقد شهد لهم الذكر الحكيم بذلك في سورة الإنسان ، كما شهدت له آية الولاية.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥ ، وسيأتي الحديث عن هذه الآية في محل ورودها في الزيارة.

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٩٤ ـ ٢٠٠ ، صحيح مسلم ٢ / ٨ ، مسند أحمد ٤ / ٤٤ ، المعجم الكبير ١٨ / ١٢٦.


أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر :

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الوظائف الشرعية الجليلة التي اهتم بها الشرع المقدس ، وقد مدح الله تعالى هذه الأمة بقيامها بهذه الوظيفة العظيمة ، فقال : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ)(١) ، وهما من الواجبات الكفائية ، التي يكفي حصولها من أي مسلم ، ولكن إذا تركها الجميع كانوا مقصرين مسؤولين أمام الله عزوجل ، ولتنفيذ هذا الواجب المقدس ثلاث حالات حسب ما تقتضيه الظروف : فامّا الإنكار بالقلب ، عند خوف الضرر البالغ ، أو الإنكار باللسان إذا كان كافياً ، أو استخدام القوة إذا اقتضى الأمر ، وتوفرت شروط ذلك ، وكان ممكناً.

قال الإمام علي عليه‌السلام : «أيها المؤمنون ، إنَّه من رأى عدواناً يعمل به ، ومنكراً يدعى إليه ، فأنكر بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر ، وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكر بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الظالمين هي السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق ، ونور في قلبه اليقين» (٢).

وقال عليه‌السلام : «فمنهم المنكر للمنكر بيده ، ولسانه ، وقلبه ، فذلك المستكمل لخصال الخير ، ومنهم المنكر بلسانه ، وقلبه ، والتارك بيده ، فذاك متمسك بخصلتين من خصال الخير ، ومضيع خصلة ، ومنهم المنكر بقلبه ، والتارك بيده ، ولسانه ، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث ، وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه ، وقلبه ، ويده ، فذلك ميت الأحياء» (٣).

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١١٠.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٨٩.

(٣) نهج البلاغة ٤ / ٨٩.


وكأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ـ وهو يتحدث عن النهي عن المنكر في هذين النصين ـ يوضح مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه المشهور : «من رأى منكم منكراً ، فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (١).

والمؤمن يحب أن يرى جميع الناس مطيعين لله تعالى ، مبتعدين عن معصيته ، بغض النظر عن وجود التكليف الشرعي ، أو عدمه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف بتالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تحمل معه أعباء الدعوة ، وعرَّض نفسه للمخاطر من أجلها؟.

لقد كان الهم الأكبر للوصي المرتضى عليه‌السلام أن يتجه الناس كل الناس إلى الله عزوجل بالطاعة ، وأن يبتعدوا عن المعصية ، لذا نرى الكتب حافلة بخطبه وكلماته التي تضمنت الحث على طاعة الله عزوجل ، والنهي عن معصيته موجهاً المؤمنين إلى طريق الكمال بأروع أسلوب وأبلغه ، يقول في بعض وصاياه : «احذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت ، فاقوَ على طاعة الله ، وإذا ضعفت ، فاضعف عن معصية الله» (٢).

ومن تصفح نهج البلاغة يجده زاخراً بما تحدث به الإمام علي عليه‌السلام في هذا المجال ، كما نقل التأرخ من سيرته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملاحم ومواقف بطولية ليس لها نظير في تاريخ الإسلام جسد فيها أروع الصور في إنكار المنكر ، بل وإقباره ، لتسود دعوة الحق في الأرض ، وينتشر فيها المعروف.

والإمام علي عليه‌السلام يتدرج مع خصومه ، فيبذل لهم النصيحة محاولاً دفع المنكر ، ونشر المعروف بالتي هي أحسن ، ليهدي خصمه إلى الحق والخير ، وينقذه من

__________________

(١) تفسير الثعالبي ٢ / ٨٩ ، الجامع الصغير ٢ / ٦٠٢.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٩٢.


الظلال ، فإذا لم يُجد ذلك نفعاً ، وأصر الخصم على غيِّه ، وتعصب للباطل ، ولم يُصغ لنداء الحق ، انتقل إلى مناجزته ، نصح أشد أعداء الإسلام تعصباً ، وأكثرهم حقداً ، من أمثال عمرو بن عبد ود ، ومرحب الخيبري ، وأضرابهم ، وعندما رفضوا دعوته إياهم إلى الحق ، ناجزهم ، فأرداهم صرعى ، وصنع مثل ذلك مع البغاة : في الجمل ، وصفين ، والنهروان ، فأمرهم بالمعروف ، ودعاهم للعودة إلى نهج الحق ، ونهاهم عمّا هم فيه من المنكر ، فأقام الحجة عليهم ، وأوضح لهم الحقائق بالأدلة الناصعة ، وبذل لهم النصح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فلم يُجد كل ذلك نفعاً ، فاضطر لقتالهم ، ليحق الحق ، ويبطل الباطل.

ولم يبتغ الإمام علي عليه‌السلام في كل ذلك أن يبلغ مآرب دنيوية ، من جاه ، أو مال ، أو سلطة ، وهو الذي كان يخاطب الدنيا : (غري غيري) ، ولم يكن هذا الخطاب مجرد لفظ يجري على اللسان ، بل كانت سيرته العملية تجسد ذلك القول ، وكأنَّه بعمله يقول للدنيا : (غري غيري) ، دون أن يحتاج إلى القول ، إذ لم يكنز من حطامها شيئاً ، ولم يبنِ عمارة ، ولم يكسب من أموالها على حساب الغير ، ولم يغتر بملذاتها ، بل ضحى بكل ما يملك ، وبذل الجهد إلى أقصى الحدود ، ونصح للأمة آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، وعبد الله تعالى ، واتقاه حق تقاته ، همّه الوحيد في ذلك نيل رضاه ، وأداء شكره على ما أنعم ، بإخلاصٍ ينمّ عن نية صادقة ، وإيمان عميق.

ثباته وإقدامه :

اتصف الإمام علي عليه‌السلام بالصبر ، ورباطة الجأش ، والشجاعة ، والإقدام ، وقد اقترنت صفاته هذه بالإيمان والعقيدة الراسخة ، التي كانت تدفعه إلى الاستعداد


للتضحية من أجل نشر عقيدة التوحيد ، لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو يرى أنَّ كل ما يحل به من آلام في هذا السبيل هو بعين الله تعالى ، ونصرة لدينه ، فلا يبالي بنائبة ، ولا يصيبه وهن عند الشدائد والمحن ، ولا يرهبه شيء لأنَّه يبتغي رضا الله تعالى ، ولذا فهو لا ينكص ، ولا يتردد في الحرب ، بل نراه يبارز ذوي البأس ، ومن عرفوا بالشجاعة ، والحنكة بفنون الحرب ، ومن يتحاماه الأبطال ، وتخور أمامه العزائم ، لأنَّه ينشد إحدى الحسنيين : فإمّا النصر والغلبة على العدو ، أو نيل الشهادة ، والفوز بها.

كذب وافتراء :

ما عرفناه من سيرة الإمام علي عليه‌السلام هو التفاني في الله تعالى ، واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكفاح في نصرة الدين ، والإخلاص في العبادة ، إلى غير ذلك من مآثره ، وفضائله التي نقلها المؤرخون ، وكتاب السير ، وأيدوها بما أثبته المفسرون من تفسير آيات الذكر الحكيم ، وما رواه المحدثون من متواتر الحديث وصحيحه.

وكل ما ينسب للوصي المرتضى عليه‌السلام خلافاً لذلك ، فهو كذب وافتراء عليه ، ومقترفه آفك آثم لأنَّه يخالف ما صح عند علماء المسلمين ، وأجمعوا عليه ، ولابد من الإشارة هنا إلى أنَّ الخوارج اتهموه بالكفر ، لأنَّه وافق على التحكيم ـ كما مر ـ وأنَّ معاوية عندما استولى على الخلافة اشترى ضمائر عدد من ضعفاء النفوس ممن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمي صحابياً ، ومن التابعين ، فبذل لهم أموالاً طائلة من بيت مال المسلمين ، لينتقصوه بتفسير بعض الآيات التي تذم الفاسقين والمنافقين فيه ، ووضع أحاديث في ذمه ، وكان ممن استجاب له في ذلك : أبو هريرة ، وسمرة بن جندب ، ونظراؤهما ، قال ابن أبي الحديد : (إنَّ معاوية وضع قوماً


من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاص يرغب في مثله ، فاختلقوا له ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : مصعب بن الزبير) (١) ، وهؤلاء يكفيهم من الإثم والإفك أنَّهم خالفوا الله عزوجل ، وخالفوا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذبوا عليه لقاء ما دفع لهم من مال حرام ، فهم أولى بما نسبوه إلى الإمام علي عليه‌السلام ممّا هو بريء منه ، وتحملوا الإثم عنه متمسكين بالأكاذيب والمفتريات التي لا تغني عن الحق شيئاً.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٣ ، وفيه تفاصيل أكثر عن هذا الموضوع.


السابق إلى طاعة الله تعالى

«لقد جاهدت في الله حق الجهاد ، وصبرت على الأذى صبر احتساب ، وأنت أول من آمن بالله ، وصلى له ، وأبدى صفحته في دار الشرك ، والأرض مشحونة ضلالة ، والشيطان يعبد جهرة ، وأنت القائل : لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، ولا تفرّقهم عني وحشة ، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرِّعاً» :

اللغة : صفحة الرجل عرض صدره (١). أسلمني الناس ، أسلمه : خذله. متضرّعاً من : ضرع الرجل ، ضراعة : خضع وذلَّ (٢).

من كان مخلصاً لله تعالى في جهاده ، لا غاية له سواه ، وثبت في الحروب ، لا يفرّ من الزحف ، وتقيّد بتعليمات الشريعة التي تحدّد سلوك المجاهدين ، وتصرفاتهم عند النزال ، فجهاده حق الجهاد.

كانت عادة العرب الاندفاع لخوض غمار الحرب دفاعاً عن القبيلة عندما يشعرون بخطر يحيط بها ، ولا يهمهم أن يكونوا في قتالهم مع الحق أو عليه ، وسواء كانوا معتدين أو معتدى عليهم ، فغايتهم الدفاع عن الأحساب حمية ، وقد حصل للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظير ذلك ، حيث دافع عنه بنو هاشم وبنو المطّلب ، وشملتهم

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) الصحاح.


مقاطعة قريش ، وحوصروا معه في الشعب ، ولم يكونوا قد أسلموا جميعاً ، بل كان بعضهم غير مسلمين ، وقد صرّح بذلك الإمام علي عليه‌السلام في كتابٍ أرسله إلى معاوية ، يقول فيه : «فأراد قومنا قتل نبيِّنا ، واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا على الخوف ، واضطرونا إلى جبلٍ وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل» (١).

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فسيرته تدل على أنَّه كان يريد وجه الله تعالى ، ويجاهد في سبيله بصبر وثبات على سلامة من دينه ، وبصيرة من أمره ، وتحت راية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صابراً على ما أصابه من المحن والآلام ، محتسباً ذلك على الله لأنّه عزوجل ينصر دينه ، ويدافع عن نبيه.

أول من آمن وصلى :

مرّ بنا في موضوع : (أول المؤمنين) أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام كان في الغار مع الرسول المصطفى صل‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول الوحي فرأى معه ما رأى ، وسمع ما سمع ، فآمن به ، وصدَّقه ، وكانت الصلاة أول العبادات التي نزل بها الوحي ، في وقتٍ كان الدين الجديد مقتصراً عليهما ، وعلى خديجة بنت خويلد عليها‌السلام ، فكانوا يؤدون الصلاة متكتّمين ، لا يؤدّيها معهم أحد ، والأحاديث التي نصّت على أنَّه أول من صلّى كثيرة ، تنقل منها على سبيل المثال :

عن حبّه بن جوين ، عن علي عليه‌السلام ، قال : «ما أعلم أحداً من هذه الأمة بعد نبيها

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٨.


عَبَدَ الله قبلي ، لقد عبدته قبل أن يعبده أحد منهم خمس سنين أو سبع (١)».

وعن عبد الله بن نجي ، قال : سمعت علي بن أبي طالب ، يقول : صليت مع رسول الله قبل أن يصلّي معه أحد من الناس ثلاث سنين (٢).

وعن ابن عباس ، قال : أول من صلّى علي رضي الله عنه (٣).

وعن زيد بن أرقم ، قال : أول من صلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي (٤).

وعن علي رضي الله عنه ، قال : ما أعرف أحداً من هذه الأمة عبد الله بعد نبيها غيري ، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين (٥).

هذه بعض الأحاديث التي رويت في تقدم إسلامه ، وكلها تنص على أنّ الإمام علياً هو أول من صلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن الملاحظ أنّ هذه الأحاديث تختلف في تحديد المدة التي سبق بها غيره من المسلمين إلى الصلاة ، ولكنها تتفق على سبقه إليها.

وقد وجَّه الحجة الأميني رحمه‌الله هذا الإختلاف ـ بما تدل عليه كل منها ، فلا يكون بينها تعارض ـ على الإحتمالات الآتية :

١ ـ ثلاث سنين : لعل المراد بها ما بين البعثة وإظهار الدعوة.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٨ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٤٨ ، وروي مختصراً في أنساب الأشراف ٩٢.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٣.

(٣) أنساب الأشراف ٩١ ، البداية والنهاية ٣ / ٣٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٥٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٥ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٧ ، كفاية الطالب ١٢٥ ، مسند أحمد ١ / ٣٧٣.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧ ، خصائص أمير المؤمنين ٤٣ ، معجم الزوائد ٩ / ٤٣ ، المعجم الأوسط ٢ / ٢٩٠.

(٥) خصائص أمير المؤمنين ٤٧.


٢ ـ خمس سنين : لعل المراد بها ما سبق مضافاً إليه سنتا نزول الوحي من نزول سورة (إقرأ) إلى نزول سورة (المدثر).

٣ ـ سبع سنين : لعل المراد بها من أول البعثة إلى فرض الصلاة ليلة الإسراء.

٤ ـ تسع سنين : لعل المراد بها السبع الآنفة الذكر مضافا إليها سنتا فترة الوحي (١).

جهاده في دار الشرك :

كان المسلمون قليلين مستضعفين في مكة المكرمة ، وكانت الدعوة الإسلامية الجديدة في أدوارها الأولى سرية ، حُضِرَ على معتنقيها التظاهر بالدين فضلاً عن الجهاد ، وحمل السلام لأنَ التظاهر كان يؤدي إلى تعذيب المسلمين من قبل المشركين ، كما حصل لعمّار ، ولأبويه ياسر وسمية ، ولبلال ، وغيرهم ، وقد اضطرّ بعض المسلمين للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم ، لأن حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ودينهم مع قلة العدد كان يؤدي إلى القضاء عليهم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فكان له حكم يختلف عن غيره من المسلمين ، فقد جاهر بإسلامه ، وكاشف به الناس غير مكترث ، وكان أول من أظهر تأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اعتناق دعوته ، وآزره عليها قبل أن يعتنق الإسلام أحد من السابقين ، وصلّى معه أمام الملأ من قريش وغيرهم من المسجد الحرام ، وهذا ما نص عليه جل من أرَّخ لأحداث بدء الدعوة ، أو كتب في السيرة النبوية.

بدأ الإمام علي عليه‌السلام جهاده في دار الشرك ـ وهي مكة يومئذ ـ فاختص هو

__________________

(١) سالغدير ٣ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ بتصرف وتلخيص ، وفي ص ٢٢١ ـ ٢٤١ منه الأحاديث التي تنص على أنّه (ع) أول من صلى.


وعمه حمزة عليهما‌السلام بحمل السيف فيها ، فكانا ، يتناوبان حراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة مقاطعة قريش والحصار في الشعب ، وقد ختم هذا الدور بالمبيت على فراشه ليلة الهجرة ، واقياً له بنفسه ، وباذلاً مهجته في سبيل نجاته.

كانت الأرض مشحونة بالضلال لانتشاره في جميع أرجائها ، فالناس بين عابد وثن ، وعابد نار ، هوى يدعي التمسك بالدين ، ولكنه يخالف أصوله وفروعه ، ويشوه معالمه ، ويحرفه عن واقعه ، وكل هؤلاء في واقعهم يعبدون الشيطان ، حيث ساروا في ركابه ، وأطاعوه طاعة عمياء ، وانتهجوا ما رسمه لهم بمكره ، وتعصّبوا له.

لم يذعنوا للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته إلى الإسلام ، إذ جاءهم بالقرآن الكريم الذي هو معجزة الدهر الخالدة ، ليهديهم إلى ال حق بأسلوب الإستدلال العقلي ، وتقديم الأدلة المنطقية ، وهو يتدرّج معهم بتقديم الدليل تلو الدليل ، ويرجعهم إلى البديهة ليستخلص لهم منها أدلة رصينة ، وبراهين قوية وفق استنتاج واقعي طبيعي ، ممّا يعيشونه في حياتهم ، وما يحيط بهم ، ليرشدهم إلى ما ينير عقولهم ، ويهديهم إلى سبل الخير والصلاح ، ويضع نصب أعينهم ما يدلّهم على بطلان ما هم فيه من ضلال ، يدعم كل ذلك بالمعجزات التي تدعم رسالة السماء وتدلهم على صحة ما جاء به.

لم يُجدِ كل ذلك معهم نفعاً ، بل كانوا يطالبونه بالإتيان بمعجزة ، فإذا جاءهم بها ، لم يزدادوا إلّا تعصّباً لما هم فيه من ضلال ، يصف لنا الإمام علي عليه‌السلام أحد تلك المواقف حيث يقول : «ولقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمد ، إنك قد ادّعيت عظيماً ، لم يدَّعه آباؤك ، ولا أحد من أهل بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه ، وأريتناه ، علمنا أنَّك نبي ورسول ، وإن لم تفعل


علمنا أنَّك ساحر كذاب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما تسألون؟.

قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها ، وتقف بين يديك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الله على كل شيء قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك ، أتؤمنون ، وتشهدون بالحق؟. قالوا : نعم.

قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنَّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنَّ فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزِّب الأحزاب (١) ، ثمَّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر ، وتعلمين أنّي رسول الله ، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله.

فَوَالذي بعثه بالحق ، لانقلعت بعروقها ، ولها دويّ شديد ، وقصفٌ كقصف أجنحة الطير ، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما نظر القوم إلى ذلك ، قالوا ـ علواً واستكباراً ـ : فمُرها فليأتك نصفها ، ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً ، فكادت تلتف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالوا ـ كفراً وعتواً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع.

فقلت أنا : لا إله إلّا الله ، إنّي أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى ، تصديقاً بنبوتك ، وإجلالاً لكلمتك.

فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب ، عجيب السحر ، خفيف فيه ، وهل يُصدِّقك

__________________

(١) غير خفي ما في هذا من إعجاز حيث أخبر؟ عن نواياهم ، كما أخبر عما حدث بعد ذلك بسنين من طرح قتلاهم في القليب ببدر ، وتجمعهم لحربه في الأحزاب.


إلّا مثل هذا. يعنونني» (١).

لم يتوقّفوا عند هذا الحد في تعنّتهم وتعصّبهم لما هم فيه من الضلال ، بل دفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى إلى أكثر من ذلك فيما حكاه عنهم الذكر الحكيم في قوله تعالى : (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(٢).

جوٌّ مشحون بالضلال ، وقوم جهلة متعصبون لضلالهم ، أعطوا الشيطان قيادهم ، فأعرضوا عمّا جاءهم من الحق ، ولم يصغوا إلى دليل عقلي ، ولم تنفع معهم معجزة ، بل أطاعوا الشيطان ، واتجهوا يطلبون من الله تعالى إنزال العذاب عليهم ، حيث كان الأجدر بهم أن يبتهلوا إليه بطلب الهداية إلى طريق الصواب ، في هذا الجو.

وبين هؤلاء الضالين بزغ نور الإسلام ، فكان البشير محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان معه وصيّه المرتضى عليه‌السلام يشد أزره ، ويعلن انتماءه للدين الجديد ، ويؤيده بكل تحد وإصرار ، فكان المجاهد الأول الذي يبذل نفسه لله تعالى.

عزّته وأنسه بالله تعالى :

المؤمن يعتزّ بالله عزوجل ، ويستأنس بطاعته ، ولا يستوحش إلّا من المعاصي والآثام التي تسخطه ، أمّ الناس فليس من الضرورة أن يجتمعوا على الحق ، بل ربما استوتهم زخارف الدنيا ، فتبعدهم عنه لينصروا الباطل ، ومن اعتز بالله تعالى لا يشرك في عزه غيره ، ولا يهم المؤمن ما دام ثابتاً مع الحق ، مطيعاً لله تعالى أن يتفرق عنه الناس ، لأنَّه لا يعتز بالمبطلين ، ولا يطلب النصر بالجور ، ومن اعتز

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٥٨.

(٢) الأنفال ٨ : ٣١ ـ ٣٢.


بالله عزوجل لا يذل ، ولا يضرع إلّا إليه ، وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تشير إلى أنَّه كان يعتز بالله تعالى ، وقد تفرق عنه الناس ، فما اكترث لذلك ، ولا استوحش ، ولم تصبه ضراعة ، ولا ذل إلّا لله تعالى.


علي عليه‌السلام وحطام الدنيا

«اعتصمت بالله ، فعززت ، وآثرت الآخرة على الأولى ، فزهدت ، وأيَّدك الله ، وهداك ، وأخلصك ، واجتباك ، فما تناقضت أفعالك ، ولا اختلفت أقوالك ، ولا تقلّبت أحوالك ، ولا ادّعيت ، ولا افتريت على الله كذباً ، ولا شرهت إلى الحطام ، ولا دنَّسك الآثام ، ولم تزل على بيِّنة من ربك ، ويقين من أمرك ، تهدي إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم» :

اللغة : إعتصمت العصمة : المنع ، والحفظ ، واعتصمت بالله : امتنعت بلطفه من المعصية (١). آثرت : آثره عليه : فضَّله ، وقدَّمه (٢).

أخلصك : أخلص الشي : اختاره ، وأخلصه الله : جعله مختاراً خالصاً من الدنس (٣). تناقضت : اختلف بعضها عن بعض. إفتريت : اختلقت كذباً. شرهت : الشره : غلبة الحرص. دنَّسك : الدنس : الوسخ (٤).

إعتصامه بالله تعالى وزهده

من أخلص لله عزوجل بإطاعة أوامره ، وترك نواهيه ، جاعلاً ذلك هدفه الأسمى في

__________________

(١) الصحاح.

(٢) تاج العروس.

(٣) لسان العرب.

(٤) الصحاح.


هذه الحياة ، يقدِّمه على كل اعتبار ، يكتسب بذلك رضاه ، فتشمله رحمته ، ويعزه ، وبديهي أنَّ كل من اعتز بغير الله تعالى ذلَّ ، لأن فاقد الشي لا يعطيه ، «ومن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فليخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته».

إتَّسمت السيرة العملية للإمام علي عليه‌السلام طيلة حياته بالإخلاص لله تعالى ، والإعتصام به من خلال تطبيق أحكامه ، واتباع سيرة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعزه الله عزوجل ، ورفعه إلى درجة اعترف ببلوغه لها محبوه ومبغضوه ، فغبطه عليها قوم ، وحسده آخرون ، ولم ينل ذلك إلّا بالطاعة والإخلاص لله تعالى.

آثر الآخرة ، ففضلها ، وقدمها على هذه الدنيا الفانية ، وأجهد نفسه ، وثابر في العمل ، وضحى من أجل ذلك بكل غالٍ ونفيس ، مبتغياً مرضاة الله تعالى ، منتظراً ما يأمله المؤمنون من رضوانه في الآخرة.

والدنيا بنظره ليست الغاية ، بل هي الطريق إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، والوسيلة لنيل السعادة فيها ، يقول عليه‌السلام : «أيّها الناس إنَّما الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم.

إنَّ المرء إذا هلك قال الناس : ما ترك؟. وقالت الملائكة : ما قدَّم؟. لله آباؤكم ، فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً ، ولا تخلِّفوا كلاً فيكون فرضاً عليكم» (١).

ويقول : «أمّا بعد ، فإنَّ الدنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنَّ الآخرة قد أقبلت ، وأشرفت باطِّلاع ، ألا وإنَّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟.

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٣.


ألا وإنَّكم في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرره أجله ، ومن قصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمله ، وضرَّه أجله» (١).

هذه هي نظرة الإمام المرتضى عليه‌السلام إلى الدنيا ومتعها ، وهي النظرة التي وجَّه الدين الإسلامي معتنقيه إليها ، شأنه في ذلك شأن سائر الأديان السماوية ، وانطلاقاً من هذه النظرة أعرض الإمام علي عليه‌السلام عن مُتع الدنيا وزخارفها ، مكتفياً منها بما هو ضروري لإدامة الحياة ، فلم يعد لها عنده كبير اهتمام ، بل كرَّس جهوده فيها لنيل رضى الله عزوجل ، فقدم فيها العمل الصالح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، حتى بلغ الدرجة التي لم يصل إليها أحد من هذه الأمة ، ولم يسبقه إليها سوى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أثبت بالقول والفعل أنَّ ملذات الحياة الدنيا ومتعها لا تستحق عناية فائقة ، واهتماماً كبيراً ، لأنَّها وسيلة ، وليست غاية .. أجل هي الوسيلة التي تبقي للجسم نشاطه ، وقوته ، وحيويته ، فالمأكولات وسيلة لإمداد الجسم بالطاقة التي يحتاج إليها ، ما لم يبلغ تناولها حد التخمة ، فتصبح مضرة بالجسم ، والملابس وسيلة لستر العورة ، وحفظ الجسد من عوارض الجو وتقلباته ، والمسكن وسيلة للإيواء من الحر والقر ، أمّا الغاية فهي العمل الجاد المخلص ابتغاء وجه الله تعالى وطلب رضاه ، من أجل إسعاد الأمة ، وهداية البشرية ، وإعلاء كلمة الحق ، وبسط العدل ، ونشر الفضيلة في أرجاء المعمورة.

وبإمكان الإنسان أن يشبع رغباته في ملذات الحياة ومتعها ضمن الحدود الشرعية ، عندما تكون الأمة في خير ورفاه ، دون تعدٍّ وتجاوز على حقوق

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٧٠.


الآخرين .. وبإمكانه ـ أيضاً ـ أن يعيش مكتفياً بما يسد الرمق من طعامه ، بما يستر العورة ، ويحفظ الجسم من ملبسه ، وبما يكفي للإيواء من مسكنه ، فإن كان فضل فلإخوانه المعوزين ، وإلّا فكيف تسمع له إنسانيته ، وأخلاقه الإسلامية بالتلذذ بمتع الحياة وحوله المعوزين؟!. أم كيف يهنأ عيش المرء وهو يرى إلى جانبه الجائعين ، والعراة ، والذين يعيشون تحت السماء لا يؤويهم سقف؟!.

إنَّ النزعة الإنسانية ، والنفس التي هذبها هدي الدين الإسلامي الحنيف ، وصقلتها توجيهات القرآن الكريم ، والسنة المحمدية ، لتأبى إلّا أن ترى الناس كل الناس في خير ، القريب منهم والبعيد ، وأن تواسيهم ، وتجعل الحياة وسيلة لخدمتهم وإسعادهم طاعة لله تعالى ، وطلبا لرضاه.

لقد ضحّى الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل إسعاد الضعفاء ، فاكتفى بأبسط العيش في مأكله ، وملبسه ، ومسكنه ، وكانت الأموال تجبى إليه ، فيوزعها على الفقراء ، ويقدم لهم حقه منها فلا يبقي لنفسه شيئاً ، بل ربما طوى يومه جوعاً ، لأنَّه لم يجد في ذلك اليوم ما يسد به رمقه ، لأنَّه آثر الفقراء على نفسه.

وبهذه السيرة العطرة اقتدى الوصي عليه‌السلام ، فآثر الفقراء والمعوزين على نفسه ، وأعرض عن ملذات الحياة الدنيا من أجل إسعادهم ، مؤثراً لهم على نفسه في سبيل الله ، زاهداً في زخارف الدنيا وملذاتها ، وطالما خاطبها : «يا دنيا غرّي غيري» (١) ، كما خاطب الذهب والفضة عندما رآهما مكدّسين في بيت مال البصرة : «يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» (٢).

وللإمام علي عليه‌السلام مع الدنيا أحاديث ، يبيّن زهده فيها ، ويدعو الناس إلى

__________________

(١) أنساب الأشراف : ١٣٢.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٢.


الإقتداء به ، موضّحاً لهم أنَّها لا تستحق الإهتمام ، ومؤكداً إعراضه عنها ، مع بيان بليغ للعلل التي دفعته إلى ذلك ، ولعل من أورعها ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف ، يقول عليه‌السلام : «إليكِ عنّي يا دنيا .. فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبتُ الذهاب في مداحضك ، أين القرون الذين غررتِهم بمداعبك؟!. أين الأمم الذين فتنتِهم بزخارفك؟!. فهاهم رهائن القبور ، ومضامين اللحود ، والله لو كنتِ شخصاً مرئياُ ، وقالباً حسياً ، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتِهم بالأماني ، وأمم ألقيتِهم في المهاوي ، وملوك أسلمتِهم إلى التلف ، وأوردتِهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر.

هيهات! من وَطِئَ دحضكِ زلق ، ومن ركب لُجَجَكِ غرق ، ومن ازورَّ عن حبائِلكِ وُفِّق ، والسالم منكِ لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عني! فوَالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيم الله ـ يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضنَّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص ـ إذا قدرت عليه ـ مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها.

أتمتلي السائمة من رعيها ، فتبرك؟!. وتشبع الربيضة من عشبها ، فتربض؟!. ويأكل عليٌّ من زاده ، فيهجع؟!. قرَّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالهيمة الهاملة ، والسائمة المرعية!» (١).

يعكس هذا الحديث مع الدنيا جهة نظره عليه‌السلام في إعراضه عنها ، وزهده في ملذاتها ، وبهارجها ، ونعيمها الزائل ، معللاً ذلك بمعايبها ، فهي تغر من أقبل عليها ، وجعلها أكبر همه ، وتخدعه ، وتورده المهالك ، وتصده عن ضمان مستقبله في

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٣.


الحياة الدائمة في الآخرة ، بل وتجعل هذا المستقبل جحيماً ، وعذاباً مقيماً ، لمن أقبل عليها ، ناسياً آخرته ، لا يعرف غير إشباع نهمه ، مقتدياً بالبهائم ، لأنَّه ترك عقله ، فلم يفكر في الحياة كما ينبغي ، مقدّماً ما هو مرهون بالزوال من متع الحياة على كل القيم.

ولو عطفنا هذه الفقرة على ما سبقها من هذه الرسالة ، لظهرت لنا صورة أكثر وضوحاً لما كان عليه الإمام المرتضى عليه‌السلام من زهدٍ بالنيا ، وهَوانها عليه ، وإعراضه عن ملذاتها الزائلة ، وهو يطبق على نفسه ما يقوله في هذا المجال ، وما ينصح الناس به ، حيث يقول : «ألا وإنَّ لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ، ويستضي بنور علمه ، ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنَّك لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فَوَالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا» (١).

ويضيف عليه‌السلام قائلاً : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرّى؟!. أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحن إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!. أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟!. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها ، وتلهوا عمّا

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.


يراد بها ، أو أترك سدى؟!. أو أهمل عابثا؟!. أو أجرّ حبل الضلالة؟!. أو أعتسف طريق المتاهة؟!.» (١).

هذه هي دنيا أمير المؤمنين عليه‌السلام اكتفى من بهارجها ، وملذاتها ، ونعيمها الزائلئ بطمرين : إزار ورداء يكسوانه ، ويستران بدنه الطاهر وقد رقع مدرعته ـ أي إزاره ـ حتى استحيا من راقعها ـ على ما روي عنه ، واكتفى من الطعام بقرصين من خبز الشعير الذي لم ينخل دقيقه ، يأتدم معهما بقليل من ملح أو لبن. قال رجل من أصحابه : (مضيت معه إلى منزله ، فنادى : يا فضة ، فجاءت خادم سوداء ، فقال : غدينا. فجاءت بأرغفة ، وبجرة فيها لبن ، فصبتها في صحفة ، وثردت الخبر ، فإذا فيه نخالة ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أمرت بالدقيق فنخل ، فبكى ، ثم قال : والله ما علمت أنَّه كان في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منخل قط) (٢).

أمّا مسكنه : فإنَّه عليه‌السلام كان في المدينة المنورة يسكن في دار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي بناها مع المسجد من الطين والحجارة ، وكان سقفها من سعف النخيل والطين ، أفرد لكل واحدة من أزواجه بيتا منها ، وجعل لعلي عليه‌السلام بيتا كان يسكن فيه ، وفيه تزوج من البضعة الطاهرة عليها‌السلام ، ولم يخرج منه إلّا عندما غادر المدينة متوجهاً إلى حرب الجمل ، بعد رجوع الخلافة إليه ، ولم يبن في المدينة غيره.

وعندما أقام في الكوفة بعد انصرافه من حرب الجمل ، واتخذها عاصمة للدولة الإسلامية ، لم يسكن قصر الإمارة ، ولم يشتر في الكوفة داراً ، ولم يبن فيها ، بل سكن في دار ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي قرب المسجد.

قال أبو نعيم : سمعت سفيان يقول : ما بنى عليّ آخرة على آجرة ولا لبنة على

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧١.

(٢) أنساب الأشراف ١٨٧.


لبنة ، ولا قصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بحبوبه في جراب من المدينة (١).

أمّا الأراضي التي استصلحها الإمام علي عليه‌السلام ، فكانت تدر أموالاً طائلة ، إذ بلغت غلتها ـ على ما روي ـ أربعين ألفاً (٢) ، كان ينفقها على الفقراء ، ويؤثرهم على نفسه ، فكان يطعمهم البر ، والرز ، والسمن ، واللحم ، ويطعم اليتامى العسل من ريعها ، وأوصى بأن تكون وقفاً على فقراء المسلمين بعده ، ولم يجعل لورثته منها إلّا ما يكفيهم من طعام ولباس.

وقد شهد له بالزهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «يا علي ، إنَّ الله زيَّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إلى الله منها : الزهد في الدنيا ، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ، ولا تنال منك شيئاً ، ووهب لك حب المساكين ، فرضوا بك إماماً ، ورضيت بهم أتباعاً ، فطوبى لمن أحبك ، وصدَّق فيك ، وويل لمن أبغضك ، وكذب عليك ، فأمّا الذين أحبوا وصدقوا فيك ، فهم جيرانك في دارك ، ورفقاؤك في قصرك ، وأمّا الذين أبغضوك ، وكذبوا عليك ، فحق على الله أن يوقفهم يوم القيامة موقف الكذابين» (٣).

اختيار الله تعالى له عليه‌السلام :

الناس كلهم عباد الله تعالى ، وكلهم مشمولون برعايته ورحمته ، والعلاقة بين العبد وربِّه تتفاوت من فرد إلى آخر ، إذ يحددها العبد بتقواه ، ومدى إطاعته لله

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٢.

(٢) أنساب الأشراف ١١٧ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٦٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٥ ، مسند أحمد ١ / ١٥٩.

(٣) أسد الغابة ٤ / ٢٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٨٢ ، كفاية الطالب ١٩١ بمعناه.


تعالى ، وابتعاده عن نواهيه ، فهي علاقة متينة بين من تحصّن بالتقوى من العباد ، وازداد منها ، وبين الله عزوجل ، وكلما ابتعد العبد عن التقوى ، كانت علاقته بربِّه واهية ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(١).

أمّا إذا كان العبد لا يخالف الشريعة مطلقاً ، بل ويحدد جميع تصرفاته وفق أحكامها ، فلا تفوته طاعة ، ولا يقترف معصية ، فلاشك أنَّ الله عزوجل يرفعه إلى درجة سامية رفيعة ، فيكون ممن اختاره.

والإمام علي عليه‌السلام ـ كما هو معروف من سيرته ـ قضى عمره الشريف في طاعة الله عزوجل ، فلم يعصه طرفة عين ، وقد نال درجة العصمة التي شهد له بها الذكر الحكيم ، مخلصاً لله تعالى مقتفياً أثر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان بذلك هادياً ، مهدياً ، اختاره الله عزوجل ، فأيده بتوفيقه ، وهداه إلى الصراط المستقيم ، ونصر به دينه القويم ، واصطفاه ، فأذهب عنه الرجس ، وأخلصه من كل دنس ، فكان نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووليه ، ووصيه ، وكما اختاره الله عزوجل للرسالة ، اختار علياً عليه‌السلام لخلافته ، وجعله منه بمنزلة هارون من موسى.

استقامة علي عليه‌السلام :

إن التناقض في الأفعال ، والإختلاف في الأقوال ، وتقلب الأحوال من النتائج الحتمية لتغلب الهوى على الإنسان ، فمن يتغلب هواه على تقواه ، نراه يفعل اليوم ما كان يعده بالأمس جريمة ، وكثير من ولاة الأمور يطبقون الأحكام بحزم إذا لم تتضارب مع مصالحهم الشخصية ، ثم نراهم بعد ذلك يخالفونها متذرعين بعلل شتى ، ومن أمثلة ذلك غض النظر عن المخالفة إذا ارتكبها قريب برحم ، أو

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.


ممارستهم المحرمات التي يعاقبون الناس عليها ، وما إلى ذلك من مخالفات.

وكثير من الناس ينتقدون من يرتكب خطيئة ، أو عدواناً ، وينهون ولاة الأمور عن ممارسة بعض التصرفات المشينة ، ويوجهون إليهم أشد اللوم ، ويظهرون معايبهم ، ما داموا بعيدين عن السلطة ، ولكنهم عندما يتولون السلطة يقترفون أبشع الجرائم ، ويختلقون لها الأعذار والمبررات ، وهكذا نرى بعض الناس يتظاهرون بحسن النية والدعة لأنَّهم لم يجدوا وسيلة لممارسة الظلم ، فإذا كان ذلك بمقدورهم نراهم يمارسونه بأقسى أشكاله ، وبأشدها بشاعة.

أما الإمام علي عليه‌السلام الذي هو إمام المتقين ، وسيد المؤمنين ، وهو الذي تبنّى الرسالة الإسلامية علماً ، وعملاً ، وجهاداً ، فكان يقدم رضى الله عزوجل على كل شيء ، ويروِّض نفسه على مخالفة الهوى ، ويسلك من أجل ذلك أوعر الطرق ، ولا يهمه ما يواجه إذا كان في ذلك طريق الوصول إلى الحق ، وما فيه رضى الله تعالى ، وتجنب معاصيه ، وما يتبعها من حسابه ، وسخطه ، وعقابه.

ولما كان الإمام علي عليه‌السلام ملازماً للحق لا يفترق عنه ـ كما شهد له بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو على ما عرف به من التقوى ، والإلتزام بأحكام الشريعة ، لأنَّه معصوم ، فمن الطبيعي أن لا تتناقض أفعاله ، ولا تتغير من حال إلى حال ، وأن تتجلى للأجيال استقامته في كل خطوة من خطواته ، وذلك لأن أحكام الشريعة الإسلامية ـ التي يلتزم بها ولا يخالفها ـ لا تتناقض فيها ، بل هي متناسقة متكاملة ، لأنَّها شرِّعت من خالق الكون العليم الحكيم.

والإمام علي عليه‌السلام لا يتصرف بأموال الأمة إلّا بحق ، فتراه يعامل في ذلك القريب والبعيد على حد سواء ، ويمتنع من أن يتألف أهل الطمع من الرؤساء بالمال ، ولعل أروع الصور في هذا المجال تتجلى في تعامله مع أخيه عقيل ، عندما


طلب منه أكثر مما يستحق من بيت المال ، وألح في المسألة ، فقدم له حديدة محماة ، ليشعره أن طلبه يؤدي إلى نار جهنم ، وعذابها الذي أعده الله تعالى لمن يتعدى على حقوق الناس.

ولم تختلف أقواله ، لأنَّه لا ينطق إلّا بكلمة الحق ، التي فيها رضى الله عزوجل ، وما تتضمن من الدعوة إليه ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبث تعليمات الشريعة ، وأحكامها ، وآدابها ، يرشد الناس لما فيه الخير والصلاح في النشأتين ، وليس هو ممن يطلق العنان للسانه ، ليتفوه بدون تفكير ، تبعاً لهوى النفس ، بل يطبق على نفسه ما جاء في إرشاداته ، حيث يقول : «لسان العاقل من وراء قلبه» ، لذلك لم تؤثر فيه ملابسات الظروف المختلفة التي أحاطت به في مختلف أدوار حياته ، بل بقيت كلمة الحق لا تفارق شفتيه ما دام حياً ، وهذا نهج البلاغة وغيره من الكتب التي نقلت أقواله : من خطب ، ورسائل ، وحكم ، ووصايا ، كلها شواهد صدق على أنَّ أقواله لم تختلف.

ولنا أن نعطف على ما سبق ، ما نقله التأريخ من نصائحه لولاة الأمر من الخلفاء الذين سبقوه ، وما حاسب به ولاته وعماله ، وما يلاحظ فيها من استعمال نفس اللهجة من الإعتراض ، والمحاسبة ، والتوجيه ، والتقويم ، لأنَّه يرشد إلى الحق ، واتباع سبيل الرشاد ، والحق واضح وجلي ، والإنحراف عنه لا يختلف من زمن لآخر ، ولا من فرد لآخر ، وإن اختلفت درجة الإنحراف.

وقد اتخذ الإمام علي عليه‌السلام لنفسه نهجاً واحداً ، ألزم نفسه بالسير عليه في مختلف أدوار حياته ، بتحمله مسؤولية الدعوة وأعبائها ، والجهاد في سبيل الله بكل وسيلة ، والزهد في مفاتن هذه الدنيا وبهارجها ، والعمل على إسعاد المعوزين ، ولم يأل جهداً في إصلاح الناس بشتى الوسائل ، لذلك لم تتقلب أحواله.


ولم تغير الخلافة من سيرة الإمام علي عليه‌السلام شيئا ، فلم يعهد تأريخ ولاة الأمور رجلاً تسنّم منصباً ، ولم يكن له من ذلك المنصب سوى العناء ، والحرص على تنفيذ حكم الله عزوجل ، ولم يختص نفسه بشي غير الشعور بتحمل المسؤولية ، سوى الإمام علي عليه‌السلام الذي كان أكثر إيثاراً وهو يتسنم منصب الخلافة منه قبل تسنمه.

كان الإمام علي عليه‌السلام يرى أنَّه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وأنَّ الخلافة اغتصبت منه ، وأنَّها الحق الذي ثبت له بالنص ، وبأمر من الله عزوجل ، بلَّغ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أيَّده في ذلك بنو هاشم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فيهم عمه العباس عليه‌السلام ، وأيَّده ـ كما مر ـ عدد من أجلاء الصحابة ، وذوي الفضل منهم ، وتابعهم على ذلك شيعة أهل البيت من التابعين وإلى يومنا هذا.

وهو رأي لم يأتِ من فراغ ، ولم يكن أمراً إعتباطياً ، بل يستند إلى ركنين ، يرتبط أحدهما بالآخر ، ويتفرع عنه ، وهما : نص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة في مواطن متعددة ، وأنَّ النص كان بأمر الله تعالى ، وعلى لسان من (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ)، وكما ثبت لدينا أنَّ الله عزوجل اختار محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرسالة ، فقد اختار علياً عليه‌السلام لخلافته ، وهذا ما ثبت بالادلة الشرعية : نقلية ، وعقلية ، والنقلية جاءت في الكتاب والسنة بنصوص متعددة ، لسنا بصدد تكرارها ، وقد تضمن هذا الشرح عدداً غير قليل منها في مختلف فصوله ، وهي أدلة واضحة يعترف بصحة صدورها علماء المسلمين ، إلّا أنَّ بعضهم لا يأخذون بها ، حيث يؤوّلونها لغير المعاني التي تفهم منها ، إعراضاً عن ظاهر اللفظ بلا قرينة ، ولا دليل.

من هنا نعرف أنَّ ادعاء الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة ، ومطالبته بها ، وإصراره على أنَّها حقه الشرعي الذي فرضه الله عزوجل ، وبلَّغ به رسوله الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يكن أمراً غير معروف ، أو مما يدور حوله الشك ، لذا فليس هو محض ادعاء ، بل هو


حقيقة واضحة ، وثابتة بالأدلة ، وليس فيه افتراء بالكذب على الله تعالى ولا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي عليه‌السلام أتقى وأورع من أن يدعي ما ليس له ، وحاشاه أن يفتري ، وقد سكت عليه‌السلام عن هذا الحق ، وأعرض عنه ، عندما رأى أنَّ مصلحة الأمة تقتضي ذلك ، وصبر على ما نزل به من حيف ، يقول عليه‌السلام : «لقد علمتم أنّي أحق الناس بها ـ أي الخلافة ـ من غيري ، ووالله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلّا علي خاصة ، التماساً لأجر ذلك ، وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه ، وزبرجه» (١).

وكان الإمام علي عليه‌السلام في سيرته العطرة بعيداً عن الشره إلى حطام الدنيا ، فقد كان يستلم ما يرد إليه من عطاء ، ويضم إليه ريع ما يستصلحه من أراضٍ زراعية ، لينفقه على فقراء المسلمين ، أما هو فيكتفي باليسير ، ولم يختلف حاله في ذلك في أدوار حياته المختلفة ، وأصحابه أكثر مما يأخذه أي فرد من المسلمين ، ولم يتألف أحداً بمال ، بل أجاب من اقترح عليه تفضيل بعض الوجوه والرؤساء ليتألفهم ، بقوله : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت؟! والله لا أطور به ما سمر سمير (٢) ، وما أمَّ نجم نجماً ، لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف؟ وإنِّما المال مال الله! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ، ويهينه عند الله (٣)». ومن كانت هذه نظرته ، ومن

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٢٤.

(٢) أي لا أقاربه مدى الدهر.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٧.


يخرج إلى السوق يعرض سيفه للبيع ، ليشتري بثمنه إزاراً قيمته أربعة دراهم (١) ، وهو خليفة تجبى إليه الأموال ، أبعد ما يكون عن الشره إلى حطام الدنيا ، أو يدنس نفسه بآثامها.

وقد سار الإمام علي عليه‌السلام في كل تصرفاته وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية ، ووفق ما تلقاه من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك كان على بيِّنة من ربِّه ، ويقين من أمره بما تلقاه من هذا المنبع الصافي ، فكان يهدي إلى الحق والصراط المستقيم. لأنَّه لا يدعو إلّا إلى الله عزوجل.

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٢.


سادات الخلق

«أشهد شهادة حق ، وأقسم بالله قسم صدق أنَّ محمداً وآله صلوات الله عليهم سادات الخلق» :

اللغة : سادات أصلها من : ساد ، يسود ، سيادة ، والاسم : السؤدد : وهو المجد ، والشرف ، فهو : سيد ، والأنثى : سيدة ، والجمع : سادة ، وسادات (١).

الشرف والمجد في الإسلام لا يتكسب بالنسب فحسب ، بل لابد معه من التقوى ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(٢) ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتسب شرفه ، ومجده ، وسيادته على البشر ـ بما فيهم الأنبياء ـ بالنسب ، فمع كونه من سلالة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ومع انحداره من أشرف بيت في قريش ، بل وفي العرب ، واختصاصه بطهارة المولد ، وانتقاله من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة ، فإنَّ ذل كله لم يكن السبب في مجده وشرفه ، وقد نزل الذكر الحكيم يذم عمَّه أبا لهب في سورة يتلوها المؤمنون ليل نهار.

لقد اكتسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجده وشرفه من طاعته لله تعالى ، حيث تحمل أعباء الرسالة ، واتخذها نهجاً لحياته ، فعمل جاهداً على تطبيقها ، فأخلص العبادة لله تعالى ، وتحرّى رضاه ، وتحمل ما تحمل من جهد وعناء لا نظير لهما من أجل إعلاء كلمة الله عزوجل في الأرض ، ونشر دينه ، وتبليغ رسالته ، فنال بذلك الدرجات

__________________

(١) مجمع البحرين.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.


الرفيعة ، والمنزلة العظيمة عند الله عزوجل جزاء إيمانه به ، وإخلاصه له ، وتقواه ، وجهاده.

وإذا كان أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، فبديهي أنَّ كل من له صلة به ، لا ينتفع بها ما لم يدعمها بالتقوى ، والصلاح ، والسير على هديه ، ونهجه القويم ، لأنَّ الإيمان قد قرَّب الأبعدين منه ، فكان سلمان الفارسي محمدياً ، قال عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلمان منا أهل البيت» ، لأنَّه آمن ، واتقى ، وأخلص لله عزوجل ، وأبعد عنه عمه أبا لهب ، فلم تبقَ بينهما صلة ، وكما ذمَّ الذكر الحكيم أبا لهب ، فإنَّه امتدح أناساً كانوا على بعد في النسب معه ، وبعضهم من غير العرب ، لم يجمعهم لسان ، ولكن الإيمان جمعهم ، ولقد أثنى القرآن على المهاجرين الأولين ، وبينهم : صهيب ، وبلال ، وعمار ، كما امتدح الأنصار ، ومن بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان ، والبدريين ، وهؤلاء استحقوا المدح بإيمانهم وجهادهم ، ولم يستحقوه بنسب يجمعهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب.؟

أما إذا اجتمعت وشائج النسب مع الإيمان والتقوى ، كانت من أعظم الفضائل ، وأكثرها شرفاً ، وهي منزلة رفيعة ، ودرجة سامية ، لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم ، وقد تم ذلك لعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والتسعة المعصومين من ذريته عليهم‌السلام ، وهم أهل البيت الذين فرض الله تعالى طاعتهم ، ومودتهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فعصمهم من الذنوب.

وسيرة أهل البيت عليهم‌السلام تثبت أنَّهم لم يفارقوا سيرة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كانوا يقتفون أثره في ملازمه الحق ، ويتحرون تطبيق الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة في تفكيرهم ، وأقوالهم ، وأفعالهم ، مخلصين لله تعالى ، لا يشركون به أحداً ، ولا يرقبون أحداً ، ولا يخافون لومة لائم ، ولا يثنيهم عن الحق شي ، لأنَّهم أمناء الله عزوجل في الأرض من بين عباده ، ينيرون الدرب للسالكين إليه ، ويعلمون الناس معالم دينهم ، ويرشدونهم إلى ما فيه الخير والصلاح ، لأنَّهم تراجمة وحي الله


تعالى ، وحملة علم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بذلك استحق آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشرف والمجد ، وبه أصبحوا سادات الخلق ، واستحقوا أن يكونوا أولياء لأمور الأمة ، وساسة لها ، وأمرت الأمة بأداء الطاعة لهم ، وبموالاتهم ، وهم لحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإمتداد الطبيعي له : فعلي عليه‌السلام أخوه ، ونفسه ، والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بضعته ، والحسن ، والحسين عليهما‌السلام ابناه ، وريحانتاه ، وهم جميعاً منه ، وهو منهم ، والتسعة من ذرية الحسين عليهم‌السلام سلالته الطاهرة ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد» (١) ، وقال لعلي عليه‌السلام : «أنت مني ، وأنا منك» (٢) ، وقال في فاطمة الزهراء عليها‌السلام : «فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني» (٣) وقال في الحسن عليه‌السلام : «هذا مني» (٤) ، وقال في الحسين عليه‌السلام : «حسين مني ، وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسين سبط من الأسباط» (٥).

__________________

(١) ذخائر العقبى ١٧ ، فتح الباري ٧ / ٢٩٠ ، المصنف للصنعاني ١١ / ٢٢٧.

(٢) للحديث روايات بألفاظ مختلفة وفي مناسبات عديدة ، راجع : البداية والنهاية ٤ / ٢٦٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣ ، ٦٣ ، ١٧٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٨٧ ، ١٢٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٧ ، ١٦٨ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٩ ، ١٣ / ٢٥٨ ، كفاية الطالب ٢٧٤ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٩٩.

(٣) للحديث روايات بألفاظ مختلفة ، في بعضها : (يريبني ما أرابها) وفي بعضها : (يؤذيني ما يؤذيها) راجع : خصائص أمير المؤمنين ١٢١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩٧ ، فتح الباري ٧ / ٦٣ ، فضائل الخمسة ٣ / ١٥١ ، ١٥٤ ، فضائل الصحابة ٧٨ ، كنز العمال ١٢ / ١١٢ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٤ نظم درر السمطين ١٧٦.

(٤) التاريخ الصغير ١ / ١٣٧ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢١٩ ، ١٤ / ١٦٦ ، ٦٠ / ١٨٨ ، ٦٨ / ٩٣ ، ذخائر العقبى ١٣٣ ، فضائل الخمسة ٣ / ٢٤٠ ، كنز العمال ١٢ / ١١٤ ، ١٣ / ٦٥٣ ، ٦٦٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٤٣ ، ٢٠ / ٢٦٩.

(٥) البداية والنهاية ٨ / ٢٢٤ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٤٩ ، ذخائر العقبى ١٣٣ ، فضائل


وقد روى المحدثون ما ورد في صحيح الحديث مما ينص على أنَّ محمداً وآله صلوات الله وسلامه عليهم سادات الخلق ، من هذه الأحاديث ما نص عليهم بالجمع ، ومنها ما نص على فرد معين منهم ، وإليك نماذج من تلك الأحاديث :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد المرسلين إذا بعثوا ، وسابقهم إذا وردوا ... الحديث» (٢).

وقال علي عليه‌السلام : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّك سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، ويعسوب المؤمنين» (٣).

وفي حديث عمران بن حصين : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد فاطمة وهي مريضة ، فقال لها : «كيف تجدينك يا نبية؟. قالت : إنّي وجعة ، وإنّي ليزيدني أنّي مالي طعام آكله!. فقال : يا بني أما ترضين أنَّك سيدة نساء العالمين؟. فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران؟. قال : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ، أما والله لقد زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة (٤)».

وعن عائشة رضي الله عنها : أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وهو في مرضه الذي توفي فيه ـ : «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه

__________________

= الخمسة ٣ / ٢٦٢ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٥١٥ ، المعجم الكبير ٣ / ٣٣ ، ٢٢ / ٢٧٤ ، ينابيع المودة ٢ / ٣٤ ، ٣٨.

(١) الجامع الصغير ١ / ٤١٣ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ١٠٧ ، مسند أحمد ٢ / ٥٤٠.

(٢) فضائل الخمسة ١ / ٤٧ ، كنز العمال ١١ / ٤٣٥.

(٣) مرّ الحديث في موضوع ، (سيد المسلمين) ص ١١٩ من هذا الكتاب مع أحاديث عديدة في معناه.

(٤) ذخائر العقببى ٤٣ ، وقال خرجه أبو عمر ، وخرجه الحافظ الدمشقي في فضل فاطمة عن عمران بن حصين.


الأمة ، وسيدة نساء المؤمنين» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (٢).

وأخرج ابن ماجة والحاكم عن أنس : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهدي» (٣).

__________________

(١) المستدرك ٣ / ١٥٦ ، وقال : (هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه) ، السنن الكبرى ٤ / ٢٥٢ ، ٥ / ١٤٧ ، كنز العمال ١٢ / ١١٠ ، مسند أبي داود ١٩٧.

(٢) خصائص أمير المؤمنين ١٢٢ ، ذخائر العقبى ١٢٩ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٥٠ ، الصواعق المحرقة ١٣٧ ، فضائل الصحابة ٢٠ ، مسند أحمد ٣ / ٣ ، ٦٢.

(٣) الصواعق المحرقة ١٨٧ ، تاريخ ابن خلدون ٧ / ٣١٩ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٦٨ ، كنز العمال ١٢ / ٩٧.



مفارقة علي عليه‌السلام ضلال

«وأنَّك مولاي ، ومولى المؤمنين ، وأنَّك عبد الله ، ووليه ، وأخو الرسول ، ووصيه ، ووارثه وأنَّه القائل لك : والذي بعثني بالحق ، ما آمن بي من كفر بك ، ولا أقر بالله من جحدك ، وقد ضلَّ من صدَّ عنك ، ولم يهتد إلى الله ولا إليَّ من لا يهتدي بك ، وهو قول ربي عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)(١) إلى ولايتك ، مولاي فضلك لا يخفى ، ونورك لا يطفا ، وإنَّ من جحدك الظلوم الأشقى ، مولاي أنت الحجة على العباد ، والهادي إلى الرشاد ، والعدة للمعاد» :

اللغة : الظلوم الكثير الظلم. الرشاد : نقيض الغي (٢). المعاد : كل شيء إليه المصير ، والآخرة معاد الناس (٣).

الإيمان بعلي عليه‌السلام :

يتفق المسلمون على أنَّ إنكار أيَّ أصل من أصول العقيدة ، أو ضرورة من ضرورات الدين ، أو جحد شيء مما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعد مرتكبه ضالاً خارجاً عن الدين الحنيف ؛ لأنَّ الرسالة التي جاء بها ، وحدة واحدة لا تتجزأ ،

__________________

(١) طه ٢٠ : ٨٢.

(٢) لسان العرب.

(٣) لسان العرب.


فليس بوسع أحد أن يكفر ببعضها ، أو يجحده ، ويدعي مع ذلك البقاء على الإيمان لأنَّه يتمسك بالبعض الآخر ، ويقرّ به ، قال عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١).

والولاية وأصول العقيدة الأخرى ، مع الأحكام الشرعية الثابتة ، تشكل الهيكل العام للعقيدة الإسلامية ، كعقيدة متكاملة ، ونظام شامل للحياة ، فمن اُنقص منها جزءً أصاب عقيدته التشويه ، وخرجت عن مسارها الصحيح إلى الإنزلاق في مهاوي الكفر ، والضلال ، والخروج عن الإسلام.

وبعد هذه المقدمة لا بد لنا من ذكر مقدمة أخرى ليتضح لنا ما يرمي إليه الإمام الهادي عليه‌السلام في هذه الفقرة من الزيارة :

لقد عُرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قبل البعثة في دار الشرك ـ بالصادق الأمين ، فلا ينكر أحدٌ صدقه ، وقد شهد له بذلك الأعداء قبل الموالين والأتباع ، وأثبتته التجارب المتكررة ، ثمَّ جاء الوحي فأكَّد ذلك وأيَّده ، فأخبر الذكر الحكيم أنَّه يفصح في أقواله عمّا يوحى إليه ، قال عزوجل : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ)(٢).

وفي مقام آخر يؤكد الذكر الحكيم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتصرف في أمر الرسالة بشيء ، ولا يقول إلّا ما أمر الله تعالى به ، ولو خالف لعجل له بالعقوبة ، يقول عزوجل : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٨٥.

(٢) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٥.


مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(١).

هذه الآيات الكريمة تضمنت تنزيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا اتهمه به المشركون من أنَّه كاهن ، أو شاعر ، وتضمنت التأكيد على أنَّ ما جاء به منزَّل من رب العالمين ، ولو تقوَّل على الله تعالى ما لم يؤمر به لنال أشد العقوبة ، وليس بوسع أحد أن يحجب عنه غضب البجار.

ويؤكد الذكر الحكيم أنَّ ما جاء به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمر الله الذي يجب على العباد الأخذ به ، واتباعه في آيات عديدة ، منها قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ)(٢) ، وقوله عزوجل : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(٣) إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم التي أمرت باتباعه في كل ما يأتي به ، ونهت عن مخالفته.

إنَّ تدصيق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووجوب اتباعه من لوازم تصديق نبوَّته ، والإيمان بعصمته التي دل عليها العقل لاستحالة فرض إرسال نبي يعصي الله تعالى ، ويفرض اتباعه ، والمسلمون على اختلاف مذاهبهم ، واختلاف آرائهم في حجية أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته يتفقون على أنَّ ما يصدر عنه في مجال التبليغ حجة ، وهو جزء لا يتجزأ من الشريعة الحقة ، يجب التعبد باتباعه فيه ، ويختص شيعة أهل البيت عليهم‌السلام بالإعتقاد بعصمته في جميع الأحوال ، ولهم على ذلك أدلتهم العقلية والنقلية.

لقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة في الإمام علي عليه‌السلام أموراً كثيرة ، تضمنتها أحاديث

__________________

(١) الحاقة ٦٩ : ٤٠ ـ ٤٧.

(٢) النساء ٤ : ١٧٠.

(٣) الحشر ٥٩ : ٧.


شريفة جاء بعضها مفسِّراً لآيات من الذكر الحكيم نزلت في فضله ، وقد تضمنت تلك الأحاديث : فرض ولايته ، ووجوب التمسك بها ، ووجوب حبه ، ووجوب طاعته ، واتباعه ، والرجوع إليه ، وما إلى ذلك مما صح به النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تضمّن هذا الكتاب نقل الكثير من هذه الأحاديث.

ملأت هذه الأحاديث كتب الصحاح ، وسائر كتب الحديث ، وكتب التفسير التي ألفها علماء المذاهب الإسلامية ، والذين ألف البعض منهم كتباً خاصة في ما رووه من أحاديث في فضائله ، وقد نص محققوهم على تواتر الكثير منها ، كما نصوا على صحة ما لم يبلغ حد التواتر منها ، أو حسنه ، مؤكدين استفاضته ، أو شهرته ، فهي مما يصح الاحتجاج به ، والركون إليه ، والقطع بصدوره من المشرع الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعل ما جاء من الأحاديث التي يصح الإحتجاج بها فيه عليه‌السلام لم يأت مثله في كثرته وسلامة طرقه في أي موضوع آخر.

يتبين لنا ممّا قدمناه أنَّ الكفر بما جاء في علي عليه‌السلام تكذيب للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ لما جاء به عن الله وبلّغه للأمة ، ويستلزم ذلك الطعن برسالته ، وإنكار عصمته ، وترك ضروري من ضرورات الدين التي جاء بها ، وهذا كفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّ من آمن بنبوته ، وجبت عليه طاعته ، والأخذ بكل ما صدر عنه دون تردد ، ومن كفر بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجحده بعض ما جاء به فقد كفر بالله عزوجل ، حيث جحد ما أمر به ، وبلّغه عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إقامة الحجة والدليل.

ومن صدّ عن الإمام علي عليه‌السلام بعد معرفة فضله ومكانته ، والإطلاع على ما جاء فيه من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ممّا يوجب تقديمه ، والتمسك بولايته ، فإنه ضال لمخالفته لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمفارقته الكتاب والسنة ، برفض الولاية التي أكمل الله عزوجل بها الدين ، وأتم النعمة على الأمة ، ورضي لها الإسلام


ديناً.

كما أكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجوب الطاعة لعلي عليه‌السلام ، وفرض على الأمة الرجوع إليه فيما اختلفوا فيه من بعده ، وأعلمهم بأنَّه مستودع علمه ، وموضع سرِّه ، وأنَّه أعلمهم بالسنة ، وبالقضاء ، وأنَّه باب مدينة علمه ، وعيبة علمه ، ووارث علمه ، إلى غير ذلك ممّا نوه به من فضله (١).

فمن أراد أن يصل إلى ما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عزوجل ، فلابد أن يكون الإمام علي عليه‌السلام طريقه إلى ذلك ، فهو المرجع والسبيل السليم الذي يجب أن يؤخذ عنه ما استودع من التفسير الصحيح لما انطوى عليه الكتاب العزيز من أسرار ، وما حوته السنة النبوية الشريفة ، ومن أخذ عنه فإنَّه يحصل على ما جاء به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون شائبة ، ولا أدنى شك.

ومن كان حاملاً لعلم الرسالة ، ومتعهداً بنشر العلم ، والدعوة إلى الله عزوجل ، ومن أرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة إلى اتباعه ، وألزمها بولايته ، فإنَّه يهدي إلى الله ورسوله ، ومن أعرض عنه ، ولم يهتد به ، أو اتبع غيره ، فإنَّه لم يهتد إليهما ، لأنَّه لم يسلك الطريق الذي أرشدا إليه.

ولاية علي وأهل البيت عليهم‌السلام :

روى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه‌السلام عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ، فقال : «إنّ الله تعالى يقول : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)* ثمَّ قال لعلي بن أبي طالب : إلى

__________________

(١) كل جملة من هذه الفقرة تشير إلى حديث نبوي شريف ممّا تواتر أو نص الجمهور على صحته واستفاضته ، وقد تقدم نقلها مع ذكر بعض مصادرها في هذا الشرح.


ولايتك» (١).

وفي روايات أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام بلفظ : ولايتنا أهل البيت ، وما بمعنى هذه العبارة (٢).

وفي رواية عن أبي ذر في هذه الآية : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ...) قال : لمن آمن بما جاء به محمد ، وأدى الفرائض (ثُمَّ اهْتَدَىٰ) ، قال : اهتدى إلى حب آل محمد (٣) ، ولا شك أنَّ حبَّهم يستلزم ولايتهم ، وطاعتهم ، والإقتداء بهم ، والسير على نهجهم.

وظاهر الآية يحتمل المعنى ، فإنَّ من تاب من ذنوبه ، وآمن بالله عزوجل ، وبما جاء به رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرن إيمانه بالعمل الصالح ملتزماً بأحكام الإسلام ، فلابد له أن يهتدي بأهل البيت عليهم‌السلام لأنَّهم المنبع الصافي ، والطريق السليم لما جاء به الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، التي أمرت المسلمين باتباعهم والأخذ عنهم ، والتمسك بموالاتهم.

نور علي عليه‌السلام وفضله :

الإمام علي عليه‌السلام كالشمس لا يخفيها شي ، ولا يحجب نورها شي ، بل تزداد مدى الدهر توهجاً وتألقاً ، وأعداؤه ما استطاعوا إخفاء فضائله بما بذلوا من جهود ، وما اصطنعوا من أكاذيب ، وما اختلقوا من حجب ، لأنَّ الله عزوجل قدَّر لها الإنتشار ، ولأنَّها نعمة منه أنعم بها على عباده ، لينتفعوا بها ، ولابد من وصولها إلى من رغب الإنتفاع بها ، لأنَّه لا راد لما أعطى.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٦.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٥ ، الصواعق المحرقة ١٥٣.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٧.


لقد مكث الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته بعد الرسالة نيفاً وعشرين عاماً ، والإمام علي عليه‌السلام يلازمه طيلة هذه المدة ، لا يفارقه ، يحفظ عنه ، ويهتدي بهداه ، وهو يحدث بفضائل علي عليه‌السلام ، ويبلغ بها كلّما استدعت ذلك مناسبة ، أو سنحت فرصة ، حتى لم يبق مسلم شهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو سمع حديثه ، إلّا وعرف فضل علي عليه‌السلام ، ومكانته منه ، وقد تلقى ذلك التابعون عن الصحابة ، وتناقلته عنهم الطبقات التي جاءت من بعدهم ، كل يؤدي الأمان لمن يأتي بعده.

حارب الأمويون الإمام علياً عليه‌السلام بكل الوسائل ، وأعلنوا لعنه على المنابر ، وحرّموا على الناس ذكر فضائله ، أو الرواية عنه ، وحاربوا أولياءه ومحبيه ، فاستأصلوا بعضهم ، وهدموا دور آخرين ، وقطعوا عطاءهم ، وزجوا بهم في السجون ، فلم يزدهم ذلك إلّا كراهية ومقتا ، ولم يخرجوا منه إلّا بالخزي ، واحتمال المآثم عمّا أتوه من بهتان عظيم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فلم ينقص من فضله شيء ، ولم تخف مآثره وفضائله على الناس ، بل ازدادت فضائله انتشاراً ، وتألق نوره ليملأ قلوب المؤمنين ، فقد روى ابن عبد ربه عن الرياشي ، قال : (إنتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً ، فقال له أبوه : يا بني إنَّه والله ما بنت الدنيا شيئا إلّا هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئا ، فهدمته الدنيا.

أما ترى علياً وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر ، فكأنَّما ـ والله ـ يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنما يكشفون عن الجيف) (١).

ولما كان جحد الإمام علي عليه‌السلام جحد لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا شك أنَّ مرتكب

__________________

(١) العقد الفريد ٥ / ٩٠.


هذا الذنب العظيم ظلوم شديد الظلم ، لمخالفته الحق الصريح بجحده ما أمر به الشرع الشريف ، فهو ظالم لنفسه ، لأنَّه أوردها المهالك باتباعه الهوى ، ومخالفته الشريعة ، وهو ظالم للإمام علي عليه‌السلام ، لأنه أنكر حقه ، وظالم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّه خالف أوامره ، فهو أشقى الناس بما ارتكبه من ظلم ، وما حمَّل نفسه من تبعة مخالفة الكتاب ، والسنة ، وإقحامها في نار جهنم.

الهادي إلى الرشاد :

مرّ بنا أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو حجة الله عزوجل على العباد لعصمته ، ولما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، ومن كان مع الحق ، ويفصح عن أمر الله تعالى بما استودع من علم الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وما ألزم به نفسه من العمل بهما ، والإهتمام بتطبيقهما ، فهو الهادي إلى الرشاد ، وسيرته خير دليل على ذلك.

وقد جاء النقل يؤيد كونه هادياً في تفسير قوله تعالى : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(١). ففي حديث ابن عباس ، قال : (لما نزلت : * (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) قال رسول الله : «أنا المنذر ، وعلي الهادي من بعدي» وضرب بيده إلى صدر علي ، فقال : «أنت الهادي بعدي ، يا علي بك يهتدي المهتدون» (٢).

أما كون الإمام علي عليه‌السلام العدة للمعاد ، فلتعلق كثير من الأحكام به ، فحبه علامة الإيمان ، وعبادة ، وبولايته يكمل الدين ... إلى غير ذلك من مختصاته التي شهد بها الكتاب والسنة ، ومن تعبد بما جاء فيه ، والتزم به ، تزود من دنياه لآخرته ، ومن أخلَّ بذلك لا يرى غير الخسران المبين ، لأنَّه خالف الكتاب والسنة.

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٧.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢٠ ، جامع البيان ١٣ / ١٤٢ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٨٢ ، فتح الباري ٨ / ٢٨٤.


علي عليه‌السلام ومخالفوه في النشأتين

«مولاي لقد رفع الله في الأولى منزلتك ، وأعلى في الآخرة درجتك ، وبصَّرك ما عَمِيَ على من خالفك ، وحال بينك وبين مواهب الله لك ، فلعن الله مستحلّي الحرمة منك ، وذائدي الحق عنك ، وأشهد أنَّهم الأخسرون الذين * (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)(١) *» :

اللغة : بصَّرك جعلك في بصيرة من الأمر ، والبصيرة : الحجة ، والإستبصار في الشي. عَمِيَ : عَمِيَ عليه الأمر : إلتبس (٢). الذود : الدفع ، وذائدي الحق : دافعيه. تلفح : لفح : لفحته النار ، تلفحه لفحاً ، ولفحاناً : أصابت وجهه ، ولفحته النار : أحرقته. كلح : الكلوح : تكشر في عبوس ، وهو بدو الأسنان عند العبوس (٣).

منزلة علي عليه‌السلام :

جزاء الأعمال أمر حتمي ، وهو وعد من الباري لعباده : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٤) فقد اقتضت عدالته ولطفه أن يكافئَ المحسن ، ويعاقب المسي ، إلّا ما تقتضيه رحمته ببعض عباده المسيئين ،

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٠٤.

(٢) الصحاح.

(٣) لسان العرب.

(٤) الزلزلة ٩٩ : ٧ ـ ٨.


فيعفو عمن يشاء ، ويعذب من يشاء.

وجزاء الأعمال ـ خيراً كان أم شراً ـ قد يراه الإنسان في الدنيا فقط ، وقد يؤجل للآخرة ، وقد يجمع الله عزوجل الجزاء للإنسان في الدنيا والآخرة ، وذلك يعود لاختياره عزوجل ، فلا راد لأمره ، وما اقتضته حكمته.

وقد جمع عزوجل للإمام علي عليه‌السلام الجزاء في النشأتين ؛ لإخلاصه له ولبذله غاية الجهد في العمل طاعة لله تعالى ، أما جزاؤه في الدنيا فلم يكن جزاءً مادياً ، فمصير المادة إلى الفناء والزوال ، بل كان جزاءً معنوياً خالداً ما بقي الدهر ، لا يزول إلى قيام الساعة ، ليتصل بالجزاء في الآخرة ، إذ بلغ درجة عظيمة لم يبلغها غيره ، ولا يأمل بلوغها أحد بعده.

فالإمام علي عليه‌السلام نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخوه ، ووصيه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، وبمنزلة الرأس من البدن ، والذراع من العضد ، وهو وارث علمه ، ومن قال فيه : إنَّه منّي وأنا منه ، وأنَّه خير البرية ، وسيد المسلمين ... إلى غير ذلك من مآثره ومزاياه التي اختصه الله تعالى بها جزاءً لطاعته ، وإخلاصه لله عزوجل.

ولم ينل الإمام علي عليه‌السلام منزلته الرفيعة في الإسلام ، ومكانته من الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسبه العريق ، أو بأموال اكتنزها ، أو سلطة زمنية تسنَّمها ، بل نالها بطاعته وإخلاصه لله عزوجل ، لأنَّ النسب يكون فضيلة إذا اقترن بالطاعة ، والإمام علي عليه‌السلام كان يهب الأموال للمعوزين ، ولا يرى لها وزناً ، أما المنصب فهو كما قيل عنه : (لقد زان الخلافة ، وما زانته) ، وما ذلك إلّا لأنَّه استغل وجوده فيها لإقامة العدل ، وتنفيذ أحكام الله عزوجل ، لذا نراه لم يتخذها مغنماً ، ولا اكترث بما يصاحبها من نفوذ وبهارج.

بقيت شخصية الإمام علي عليه‌السلام خالدة مع الأيام ، وتحت أقسى الظروف ،


واخترقت كل ما أحيط حولها من حجب بفضل إخلاصه لله عزوجل متمثلاً بعمله الصالح ، وحرصه على التقوى ، ومجانبة الهوى ، ما جعل سيرته دروساً وغبر ، تتدارسها الأجيال على مدى القرون المتطاولة لتنهل من معينها.

ولم يبق تقديس الإمام علي عليه‌السلام ، ودراسة شخصية وقفاً على شيعته ، أو على سائر المسلمين فحسب ، بل وجد كلّ أبناء البشرية ـ على اختلاف أديانهم وميولهم ـ من مصلحين ومفكرين في سيرته العطرة العبر والعظات ، وما هو جدير بالدراسة والعناية ، وقد تبارى كثير ممن لا ينتمي إلى الإسلام ليتدارسوا سيرته ، فتناولوها بالشرح والتحليل وووقفوا عندها موقف إجلال ، وإكبار ، وتقديس ، فاستخلصوا منها دروساً قيمة ، ونعوا على أبناء عصره جهله م وعنادهم لمفارقتهم إياه ، وعدم استفادتهم من علومه.

وحسب الإمام علي عليه‌السلام عزّاً ، وشرفاً ، وفخراً ، ورفعة ، وعلو منزلة أن يقترن اسمه باسم المنقذ الأكبر للبشرية والرسول المصطفى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقترن شخصيته بشخصيته ، وأن يكون البحث عن سيرة أحدهما يستدعي ويستلزم البحث عن سيرة الآخر ؛ لأنَّه معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المواسي له بنفسه ، والذي يقتدي به في جميع تصرفاته ، وبالتالي فهو مفتاح شخصيته.

إنَّ هذه السيرة العطرة هي مركز إشعاع حرك أقلام المفكرين ، والعلماء ، والأدباء ، فألفوا الكتب ، وأعملوا الفكر ، ليرسموا للبشرية صوراً ملؤها العظات ، والدروس ، والعبر ، كما حرك قرائح الشعراء فانبروا ينشدون للأجيال نشيد العطاء ، والعمل الصالح ، والمثال الذي ينبغي أن يحتذي به المخلصون.

أما الجزاء الأخروي الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين ، وأعده لهم من لطفه وكرمه ، فقد نال منه الإمام علي عليه‌السلام ما يليق بما قدّمه من عمل صالح ، كما


نصت على ذلك الأحاديث المتواترة والصحيحة عن النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نقلها عنه أهل البيت عليهم‌السلام ، وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد نقلنا نماذج مختارة منها في موضوع (وفاء بعهد الله) (١).

مخالفوا الإمام علي عليه‌السلام :

سيرة الإمام علي عليه‌السلام تدلنا على أنَّه كان على بصيرة من أمره في كل خطوة يخطوها ، فهو لا يقدم على أمر ، ولا يحجم عن أمر ، ولا يأمر ، ولا ينهى إلّا وفق أحكام الشريعة المقدسة ، لا يحيد عنها قيد شعرة ، فالكتاب ، والسنة نصب عينيه يطبقهما بكل دقة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أودع عنده أسرارهما ، ليكون المرجع إليه بعده ، حيث كان يهيؤه لخلافته ، بأمر من الله تعالى.

أما مخالفوه فإنَّهم اندفعوا لمخالفته بدوافع شتى منها : التعصب ، والجهل ، والحسد ، والنفاق ، ومهما كانت دوافع المخالفين فإنَّهم يشتركون في ترك الطريق الواضح ، والنهج القويم ، فقد أغمضوا أعينهم ، وأصمّوا آذانهم عمّا ثبت من الكتاب والسنة في ولايته ، وتأوّلوا أدلة تنصيبه للخلافة ، وأحقيته بها ، وحرموا الأمة مما يتحلى به من ملكات شخصية ، وما اختصه الله تعالى من صفات تؤهله لها ، وبذلك حالوا بينه وبين مواهب الله تعالى له ، وترتّب على ذلك تعثّر مسيرة الأمة نحو الخير ، والرقي ، وصُبَّت عليها الويلات بانحراف الخلافة عن مسارها الصحيح ، الذي أراده لها الله عزوجل ، وبلّغ به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأصبحت بعد برهة من الزمن ملكاً عضوضاً ، يتوارثه الأبناء عن الآباء ، فيعيث الخلف في الأرض فساداً ، متبعاً سيرة سلفه ، ويزيد على سلفه ما أمكنته الفرصة ؛ لأنَّه لم يأت إلّا لإشباع رغباته ونزواته ،

__________________

(١) ص ١٤١ من هذا الكتاب.


لا يبالي بما يترتب على ذلك من فساد.

توارث الخلافة من لا يعرف السنّة إلّا عندما يستغل أحكامها ، ليُبرر أعماله ، فيشتري ضمائر ذوي الأطماع لتأويلها ـ بام لا تحتمله من تأويل ـ خدمة لمصالحه ، فيتخذها ستاراً يخفي وراءه جرائمه ، حتى بلغ أمر الخلافة من الهبوط والإنحدار إلى أن يموت الخليفة ، فيبلغ نبأ وفاته ولي عهده ـ وكان بيده مصحفاً يقرؤ فيه ـ فخاطب المصحف قائلاً : (هذا فراق بيني وبينك) ... أجل ، لقد آن الوقت للفراق! لأنَّه عقد العزم على نبذ الكتاب ، ومخالفة أحكامه ، ولم تصل الخلافة إلى هذا الحضيض ، ولم تصبح تراثاً للطلقاء وأبنائهم ، إلّا بعد أن زويت عن الإمام علي ، وأهل البيت عليهم‌السلام ، وحيل بينهم وبينها.

ولو كان الإمام علي عليه‌السلام قد تسلم الخلافة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لسار على نهجه ، ولعمل بما أخذه عنه من علم ، ويتم بذلك إكمال المسيرة التي بدأها ، وبناء المجتمع الإسلامي بما يتناسب والنهوض به نحو آفاق المجد والرقي ، ولما كانت الدولة الإسلامية تتوسع كمّاً ، وتنكمش كيفاً ، بسبب إقصاء القائد المؤهل لتزعمها ولما سُلِّط على الأمة من عاث في الأرض فساداً ، فعطل الحدود والأحكام ، وتلاعب بمقدّراتها ، ولما تكونت طبقة تنعم على حساب الأمة ، فتسلب خيراتها ، ولما طمع بالولاية من ليست له كفاءة ، ولكان توسع الدولة الإسلامية على غير ما شهده التأريخ.

علي عليه‌السلام وظالموه :

جعل الإسلام لكل إنسان حرمة ، بما هو إنسان ، وبغض النظر عن دينه ، ومنزلته الإجتماعية ، وجنسه ، وقوميته ... وما إلى ذلك مما تبتني عليه الفوارق بين


الناس ، فالخلق كلهم عباد الله ، وكل فرد منهم يستحق ـ باعتباره إنساناً ـ أن يعيش بحرية ، وأن تحفظ له كرامته ، وأن ينال قسطه من العدل ، فيعامل بإنصاف ، ولا يحق لإنسان أن ينتهك حرمة أخاه الإنسان ، فيوجه له أي نوع من أنواع الأذى ، إلّا إذا كان ذلك جزاءً عادلاً يفرضه القانون ، حسب الحدود التي رسمتها الشريعة الغرّاء ، وقد جاء في الحديث الشريف : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» (١) ، فانتهاك حرمة أي إنسان مخالفة للشريعة الحقة ، يحاسب عليها مرتكبها.

وإذا كانت نظرة الإسلام إلى حرمة الإنسان بهذا الشكل ، فكيف بمن ينتهك حرمة المؤمن عامداً؟! بل ، وحرمة سيد المؤمنين ، ويعسوبهم؟! فيعتدي عليه ، ويوجه له أصناف الأذى دون مبرر سوى الحسد والتعصب.

لقد أصاب الإمام علياً عليه‌السلام حيفٌ كبير ، وانتهكت حرمته طيلة حياته ، فكان يشعر بأنَّه مظلوم ، وكان الظلم فاحشاً تجاوز الحدود ، وترك أثراً مؤلماً على الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يقتصر هذا الظلم على فترة دون أخرى من حياته بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعله ظلم وانتهكت حرمته أيام تسنّمه الخلافة ، أكثر مما ناله من ظُلم وهو لا يمسك بزمام الأمور ، يقول عليه‌السلام : «ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا» (٢) ، وقال عليه‌السلام ـ وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم ـ : «هلم فلنصرخ معاً ، فإنّي ما زلت مظلوماً» (٣) ، وقال عليه‌السلام : «ما زلت مستأثراً عليَّ ، مدفوعاً عما أستحقه ، وأستوجبه» (٤) ، وقال عليه‌السلام : «ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ،

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ٨ / ١٠٥ ، مسند أحمد ٢ / ٢٢٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٨٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ٣٠٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ٣٠٧.


وأصبحت أخاف ظلم رعيتي» (١).

وأهم حرمة انتهكت للإمام علي عليه‌السلام دفعه عن حقه ، ومنعه منه بعد أن عرف جميع المسلمين تنصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه للخلافة ، وأخذ البيعة له بالولاية يوم الغدير قبيل وفاته ، وقد ثبت له بالعقل والنقل من الأدلة ما يؤيد حقه الشرعي فيها ، وهو ما لم يثبت لسواه.

ولاشك أنَّ من انتهك حرمة الإمام علي عليه‌السلام بأي أذىً وظلم ، فقد انتهك حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص عليه الحديث الشريف : «من آذى علياً فقد آذاني» (٢) ، وروى عروة أنَّ رجلاً وقع في علي بمحضر عمر فقال عمر : (تعرف صاحب هذا القبر؟ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، لا تذكر علياً إلّا بخير ، فإنّك إن آذيته ـ وفي حديث : إن أبغضته ـ آذيت هذا في قبره) (٣).

فمن انتهك حرمة علي عليه‌السلام وآذاه ، فقد انتهك حرمة رسول الله وآذاه ، وهو مخالف لله تعالى ورسوله ، ويستحق بذلك اللعنة والخسران المبين ، وهو ممن (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٧٠.

(٢) أسد الغابة ٤ / ١١٤ ، أنساب الأشراف ١٤٦ ، التاريخ الكبير ٦ / ٢٠٧ ، الجامع الصغير ٢ / ٥٤٧ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٣٦٥ ، المستدرك ٣ / ١٢٢ ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٠٩ ، مسند أحمد ٢ / ٤٨٣.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥١٩ ، كنز العمال ١٢ / ١٢٣.



حديث المنزلة (١)

«وأشهد أنَّك ما أقدمت ، ولا أحجمت ، ولا نطقت ، ولا أمسكت ، إلّا بأمر من الله ورسوله قلت : والذي نفسي بيده ، لقد نظر إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضرب بالسيف قدماً ، فقال : يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي ، وأعلمك أنَّ موتك وحياتك معي ، وعلى سنتي فوَالله ما كذِبتُ ، ولا كُذبت ، ولا ضَللتُ ، ولا ضُلَّ بي ، ولا نسيت ما عهد إليَّ ربي ، وإنّي على بيِّنة من ربي ، بيَّنها لنبيه ، وبيَّنها النبي لي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً ، صدقت والله ، وقلت الحق» :

اللغة : أقدم على الأمر إقداماً ، والإقدام : الشجاعة. وحجمته عن الشي ، فأحجم : كففته ، فكف. أمسكتَ عن الكلام : سَكَتَّ (٢).

لقد تحدثنا فيما مرَّ من الشرح عن تقيّد الإمام علي عليه‌السلام بما أمر به الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع تصرفاته ، وذكرنا لذلك شواهد في أكثر من مناسبة ، والمقصود من الإقدام ، والإحجام ، والنطق ، والسكوت ـ هنا ـ ما دار في أمر الخلافة ، فقد طالب بها ، وعندما رأى أنَّ القوم مصرين على إبعاده عنها ، أحجم عن المطالبة بها ، وكان ذلك مراعاة منه لأحكام الدين ، وما أمره به سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) راجع كتاب (حديث المنزلة) للمؤلف.

(٢) الصحاح.


أما الحديث الذي رواه الإمام علي عليه‌السلام في هذه الفقرة فيعرف بـ (حديث المنزلة) ، وقد اشتهرت روايته في غزوة تبوك ، حيث استخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام علياً عليه‌السلام على المدينة ، فأرجف المنافقون بأنَّه استثقله ، وكره صحبته ، فتبع الإمام علي عليه‌السلام الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خارج المدينة المنورة ، وأخبره بما أرجف به المنافقون ، فأجابه : «كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي» ، وفي بعض الروايات : «لابد أن أقيم أو تقيم» وفي رواية أخرى : «إنَّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي» وفي رواية ثالثة : «فإن المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك» (١).

وقد اقتصر كثير من المحدثين على رواية هذا الحديث في هذه المناسبة دون غيرها ، وحاول بعضهم الإستدلال على اختصاصه بها ، فهو يخص استخلافه على المدينة المنورة عند خروجه لغزوة تبوك ، وروى بعضهم أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف على المدينة غيره ، وقد خلفه على أهله فقط ، وهذا يخالف ما يستفاد من الحديث ، لأنَّ خلافته على المدينة كخلافة هارون عليه‌السلام على أمة موسى عليه‌السلام ، ولكن هذه محاولات باطلة ، لا يمكن إثباتها ، ترمي لإبعاد الحديث عما يفهم منه من إرادة خلافة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحديث المنزلة من الأحاديث المتواترة ، وقد تعددت مناسبات صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل تبوك ، وبعدها ، وقد بلغت موارد صدوره ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ واحداً وعشرين مورداً ، منها هذه الرواية التي رواها الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة عن جده المرتضى عليه‌السلام ، ومن الواضح أنَّ هذه الرواية لا ارتباط لها بغزوة تبوك ، لأنَّها صدرت في واقعة اشتركا فيها معاً ، وكان الوصي المرتضى عليه‌السلام يذب

__________________

(١) راجع ص ٣٠ من كتاب : (حديث المنزلة) للمؤلف.


فيها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رواها في خطبة في صفين ، رواها نصر بن مزاحم بهذا النص : «والذي نفسي بيده لنظر إلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضرب بين يديه بسيفي هذا ، فقال : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي ، فقال لي : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (١) ، والذي يبدو من هذه الرواية أنَّ الحديث صدر في أحد.

وقد روى حديث المنزلة في موارده المختلفة من الصحابة أربعة وأربعون صحابياً (٢) ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ رواه عنهم عدد كبير من التابعين ، وتابعوهم في مختلف الطبقات.

وقد روي حديث المنزلة في جميع كتب الصحاح ، والمسانيد ، ومعاجم الحديث ، وكتب التأريخ ، والتفسير ، حتى لا يكاد يخلو كتاب منها من رواية هذا الحديث في مختلف مناسبات صدوره ، وقد أفرد بعضهم فصلاً خاصاً لهذا الحديث جمع فيه ما رواه من طرق روايته المختلفة عن الصحابة.

وللحديث دلالة واضحة على استخلاف الإمام علي عليه‌السلام (٣) ، وولايته العامة ، فهو يثبت له كل ما لهارون عليه‌السلام من موسى عليه‌السلام ، ولا يستثني سوى النبوة.

ولا شك أنَّ هارون عليه‌السلام كان خليفة موسى عليه‌السلام عند غيابه ، وأنَّ ذلك ثابت له لو بقي بعد وفاته ، وبمقتضى هذا الحديث يكون الإمام علي عليه‌السلام خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّه أثبت له ما لهارون عليه‌السلام من خصائص ، وما انفك يطبق عليه خصائص هارون كالسماح له بالنوم في المسجد ، والجنب فيه أسوة بهارون عليه‌السلام.

__________________

(١) راجع ص ٤٨ من كتاب حديث المنزلة للمؤلف.

(٢) راجع ص ٥٧ من كتاب حديث المنزلة للمؤلف.

(٣) راجع ص ٦٣ من كتاب حديث المنزلة للمؤلف.


الثبات على السنة :

عاش الإمام علي عليه‌السلام شطراً من حياته مع الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تكفله طفلاً ، فنشأ ، وترعرع في كنفه ، وتلقى تربيته ، وعطفه ، وحنانه ، وانطبع بسلوكه ، فكان مثله الأعلى الذي يقتدي به في جميع شؤون حياته ، لم تفارق سيرته سنته ، ولم يفارق هدي النبوة ، وهو الذي تحمل أعباء الدعوة معه في حياته ، فكان المكافح الأول من أجل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ، ولم يزل يتحمل أعباءها بعد وفاته ليواصل مسيرتها الظافرة.

كانت حياته جهاداً متواصلاً من أجل اتباع الكتاب والسنة ، وتطبيق أحكامها ، حتى لقي ربه متشحطاً بدمه في محراب مسجد الكوفة ، فكانت حياته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموته معه لأنَّه استشهد وهو ملتزمٌ بسنته ، متبعٌ لسيرته ، وقد مر بنا أنَّه في الجنة معه ، يحمل لواءه في المحشر ، وهو من سادات أهل الجنة.

اتهامه بالكذب :

الكذب صفة مبغوضة مستهجنة ، يستقبحها ذوو الألباب من جميع البشر على اختلاف معتقداتهم ومشاربهم ، لما فيها من الإخبار بالشي على خلاف حقيقته ، وقد حرَّمها الدين الإسلامي الحنيف ، واعتبرها من كبائر الذنوب ، التي يمثت الله مرتكبيها.

ومن كان ربيب الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاشاه أن يكذب ، وهو الإمام المعصوم ، وأحد الخمسة الذين شهد الذكر الحكيم بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، ولما كان المقصود بالرجس الذنوب فالكذب من كبائرها ، وارتكابه يتنافى مع ما جاء في فضله من الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة.


ويبدو أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام قد تعرض للإتهام بالكذب ، وكان ذلك ـ في الغالب ـ لأغراض سياسية ، تتعلق بما كان يطالب به من حقه بالخلافة ، وما يحتج به من الحديث النبوي الشريف ، أو ما كان ينبيء به أيام خلافته ، مما عهد به إليه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنَّ ما كان يخبر به من اقتصاص الملاحم ، وما يخبر به من الأمور الغيبية ، دفعت البعض إلى اتهامه بالكذب ، ويبدو أنَّ ذلك لم يقتصر على فترة من حياته دون سواها ، بل تكرر ، لذا نرى أنَّ الإمام عليه‌السلام يكرر نفي الكذب عنه في مواطن عديدة :

يقول عليه‌السلام في خطبته القاصعة : «فما وجد ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لي كذبة في قول» (١).

وقال في خطبة له : «أتراني أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! والله لأنا أول من صدقه ، فلا أكون أول من كذب عليه» (٢).

وقال عليه‌السلام : «ولقد بلغني أنَّكم تقولون : علي يكذب ، قاتلكم الله ، فعلى من أكذب؟! أعلى الله ، فأنا أول من آمن به؟! أم على نبيه ، فأنا أول من صدَّقه؟! كلّا والله ...» (٣).

وقوله عليه‌السلام : (ولا كُذبت) بالبناء للمجهول تحدٍّ واضح لمن اتهمه بالكذب ، لما يترتب على ذلك من تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الذي (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ)، والتكذيب بما جاء به الذكر الحكيم من طهارته وإذهاب الرجس عنه.

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٥٧.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٥٩.

(٣) نهج البلاغة ١ / ١١٩.


اتهامه بالضلال :

أما الضلال فقد اتهمه به الخوارج بعد قبوله التحكيم في صفين ، فطلبوا منه أن يقر على نفسه بالكفر ، وأن يتوب إلى الله عزوجل ممّا اقترفه من ذنب ، ولو افترضنا أنَّ التحكيم ذنب ـ وليس هو بذنب ـ فقد اقترفه من أجبر الإمام علياً عليه‌السلام على قبوله ، واضطره إليه.

وما دلَّ على بطلان اتهامه بالكذب يدل على بطلان اتهامه بالضلال ، ومن كان مطهراً من الرجس ، ومن كان مع الحق ، فهو بعيد كل البعد عن الضلال ، وقد قضى حياته في محاربة الضلال.

ولقد عهد الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإمام علي عليه‌السلام بما اُوحي إليه من أسرار الشريعة الغرّاء ، في أحكامها وآدابها ، وما سيجري لهذه الأمة ، وهو يؤكد أنَّه لم ينس تلك العهود ، بل حفظها ، ورعاها ، وعمل بمقتضاها ، مستنّاً بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ملتزماً طريقته ، لم يفارق هديه.

والإمام علي عليه‌السلام على بصيرة من أمره في كل خطوة خطاها بعد الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يتحرّى رضى الله عزوجل بإتباعه الكتاب والسنة ، فقد كان مع الحق في سائر تصرفاته ، وصدق في كل ما ادعاه لنفسه.


هل يستوي الذين يعلمون

«فلعن الله من ساواك بمن ناواك ، والله جلَّ اسمه يقول : * (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(١) * فلعن الله من عدل بك من فرض الله عليه ولايتك» :

اللغة : ناواك عاداك ، يقال : ناوأت الرجل ، مناوءة ، ونواءً : عاديته (٢). عَدَلَ (بالفتح) : عدلت فلاناً بفلان : سوّيت بينهما (٣).

مر بنا أنَّ ما يستفاد من النصوص التي وردت في الإمام علي عليه‌السلام من الكتاب والسنة أنَّه أفضل الأمة إيماناً ، وعلماً ، وعملاً ، ولا يفضله في ذلك أحد من هذه الأمة سوى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا غيره من المسلمين : الصحابة ومن دونهم ، فإنَّه يتقدم عليهم في الفضل إلى درجة كبيرة ، وهذا ما بحثناه في مناسبات عديدة في هذا الكتاب اهتداءً بما نقلناه من النصوص ، والإمام علي عليه‌السلام يؤكد ما ذهبنا إليه حيث يقول في خطبته الشقشقية : «فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟!» (٤) ، يضاف إلى ذلك أنَّ

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٩.

(٢) الصحاح.

(٣) الصحاح.

(٤) نهج البلاغة ٣٤.


المسلمين جميعاً ملزمون بطاعته ، وولايته بموجب نص الغدير ، وغيره من النصوص الدالة على خلافته.

اختلاف المسلمين في التفضيل :

اختلف المسلمون في التفضيل بين الصحابة :

١ ـ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم : وهو أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام أفضل الخلق بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبداً بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

ويتفق أغلب علماء المعتزلة مع الشيعة على تفضيله عليه‌السلام ، وقد خالف ذلك بعض علمائهم ، فقالوا بالترتيب بالفضل بينه وبين الخلفاء على حسب ترتيبهم في الخلافة (١) ، واتفق مع الشيعة والمعتزلة على تفضيله المحققون من غيرهم.

٢ ـ مذهب أغلب علماء السنة في التفضيل :

يختلف علماء السنة في التفضيل ، فيرى بعضهم الترتيب بالفضل حسب التسلسل في الخلافة ، بينما يرى آخرون تفضيل أبي بكر ، ثمَّ عمر ، ويساوون بين الإمام علي عليه‌السلام وبين عثمان بالفضل ، ويرى فريق ثالث تفضيله على عثمان بعد تفضيل الشيخين عليه (٢).

نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام :

ومن عادى نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيد المؤمنين ، ووليهم فليس من الإسلام في شي ، وهو خارج عن الدين الحنيف ، وقد عادى الله عزوجل ورسوله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٧.

(٢) الصواعق المحرقة ٥٧.


حديث الغدير ـ : «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه».

ولا مجال للسماوات بين ولي الله وعدوه ، وهذا أمر بيِّن لا يخفى على ذي لب ، يعرفه كل مسلم بالضرورة لشهرته ، وتواتره عن المشرع ، ويعرفه العقل بالبداهة ، فمن ساوى بينه عليه‌السلام وبين أعدائه استحق اللعن لإصراره على الباطل ، وجحده ما أقره الشرع الشريف.

رجوع الصحابة للإمام علي عليه‌السلام :

ينسب للخليل بن أحمد أنَّه أجاب من سأله عن الدليل على تقديم الإمام علي عليه‌السلام للإمامة قائلاً : (استغناؤه عن الكل ، واحتياج الكل إليه ، دليل على أنَّه إمام الكل) (١).

هذه الحقيقة يكشف عنها التأريخ بما نقل من موارد كثيرة لمراجعة الصحابة ، وبشكل أخص الخلفاء للإمام علي عليه‌السلام في كثير ممّا أشكل عليهم ، ولم يهتدوا إلى معرفته من الأحكام الشرعية ، والقضاء ، فكان أبو بكر يرجع إليه كلما أشكل عليه أمرٌ ، أو استعصت عليه مسألة ، وكذلك فعل عمر عندما تولى الخلافة ، وقد اشتهر ذلك عنه ، لأنَّ مدة خلافته كانت أطول ، وله في ذلك كلمات دونتها كتب التاريخ ، منها قوله : (لو لا علي لهلك عمر) (٢) ، وقوله : (لا أبقاني الله لمعضلى ليس لها أبو حسن) (٣) ، وقوله : (أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها) (٤) ... إلى غير ذلك من

__________________

(١) لم أعثر على مصدر لهذا القول مع اشتهاره عن الخليل.

(٢) نظم درر السمطين ١٣٠ ، المناقب ١١ ، ينابيع المودة ٣ / ١٤٧.

(٣) أنساب الأشراف ١٠٠.

(٤) البداية والنهاية ٧ / ٣٩٧.


العبارات المشابهة (١).

وقد روت كتب التاريخ مراجعات لعثمان ، كما روت إرجاع الصحابة : كعائشة ، وابن مسعود ، وأبو الدرداء ، وغيرهم إليه ، وأخذهم بقوله عند تضارب الأقوال.

كما سجل التاريخ على خصمه اللدود معاوية أنَّه كان يرسل الكتب إلى الكوفة ، إلى من يسأل له الإمام علياً عليه‌السلام عمّا استعصى عليه من مسائل ، ويبعث بالجواب إليه.

سجل التأريخ للإمام علي عليه‌السلام هذا ، وأكثر منه ، ولم يسجل عليه موقفاً واحداً احتاج فيه إلى أن يسأل أحداً في مسألة استعصت عليه ، وجهل الحكم فيها ، كما تحيّر غيره ، وبان جهله ، كما لم يسجل عليه أنَّه أخطأ حكم الكتاب والسنة ، كما أخطأ غيره وخالف ، ولا أصدر أحكاماً يناقض بعضها البعض الآخر في مسألة واحدة ، كما تجدد السؤال عنها ، كما فعل ذلك غيره.

يقول عليه‌السلام : «أين الذين زعموا أنَّهم الراسخون في العلم دوننا ، أن رفعنا الله ، ووضعهم ، وأعطانا ، وحرمهم ، وأدخلنا ، وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إنَّ الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم» (٢).

والآية الكريمة من الآيات التي فسرت في أهل البيت عليهم‌السلام ، فعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قول الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ... الآية). قال : «الذين يعلمون» نحن «والذين لا يعلمون» عدونا (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)

__________________

(١) راجع كتاب : (قضاء أمير المؤمنين للتستري) ، وكتاب : (عجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين).

(٢) نهج البلاغة ٢ / ٢٧.


شيعتنا (١).

وعن ابن عباس في قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) قال : يعني بـ «الذين يعلمون» : علياً وأهل بيته من بني هاشم ، و «الذين لا يعلمون» : بني أمية ، «وأولوا الألباب» : شيعتهم (٢).

وتقديم العالم على الجاهل ممّا يدل عليه الشرع المقدس ، ويؤيده العقل السليم ، لأنَّ العالم يهدي إلى سبيل الرشاد ، والجاهل يحتاج إلى من يهديه ، ويرشده ، قال عزوجل : (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٣).

التسوية بين علي عليه‌السلام وغيره :

لا مجال للتسوية بين الإمام علي عليه‌السلام وبين غيره ، فهو ولي الأمر الذي نصبه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله عزوجل ، وهذه الولاية فرض على الأمة شهد بها الذكر الحكيم ، وبلّغها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي ممّا يُسأل عنه يوم القيامة ، فهي فريضة ملزمة لكل مسلم بدون استثناء ، فالصحابة بما فيهم الخلفاء ، ومن تبعهم على مرّ العصور ، وتتابع الدهور ، ملزمون بهذه الولاية ، لأنَّها من ضروريات الدين التي يُسأل عنها يوم القيامة ، ومن سوّى بين الإمام علي عليه‌السلام ومن فرض الله تعالى طاعته عليه ، فقد رد على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخالف الكتاب والسنة من حيث يريد ، أو لا يريد ، وهو بذلك يستحق اللعن.

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٧٥.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ١٧٥.

(٣) يونس ١٠ : ٣٥.



فضيلة الجهاد

«وأنت ولي الله ، وأخو الرسول ، والذاب عن دينه ، والذي نطق القرآن بتفضيله ، قال الله تعالى : * (وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)(١)»

اللغة : الذب المنع والدفع (٢).

تحدثت ـ في مواضيع سابقة من هذا الشرح ـ عن كون الإمام علي عليه‌السلام ولي الله تعالى ، وأخو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه المدافع الأول عن الدين الإسلامي الحنيف ، يذبُّ عنه بيده ، وبلسانه ، ويبذل في سبيل ذلك كل ما يملك ، حتى لو كلّفه ذلك حياته.

ومن مختصات الإمام علي عليه‌السلام التي انفرد بها ، من بين أفراد الأمة من الصحابة ، أنَّ القرآن نزل بتفضيله ، والثناء عليه في آيات عديدة ، ولم تشمله أيَّة آية من الآيات التي نزلت في عتاب الصحابة في اُحد ، وحنين ، وغيرهما من مناسبات ، ولم يحظَ غيره بمثل هذا الشرف العظيم ، الذي ناله بما قدّم من تضحيات في سبيل الله عزوجل ، وقد تضمن هذا الشرح بعض تلكم الآيات حسب ما يقتضيه شرح الزيارة.

__________________

(١) النساء : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) الصحاح.


القاعدون عن الجهاد :

وهم أصناف :

الأول : الذين يقعدون عن الجهاد اكتفاءاً بغيرهم ، وذلك عندما يكون الجهاد فرض كفاية ، وقد تقدَّم عدد من المجاهدين يكفي لأداء واجب الجهاد المقدس ، ولا حاجة للمزيد من المجاهدين ، فيسقط فرض الجهاد عنهم ، وهم غير مأثومين ؛ لسقوط الجهاد عنهم ، وعدم الحاجة إليهم.

الثاني : الذين يقعدون عن الجهاد لعذر شرعي من عاهة أو مرض ، أو غير ذلك من الأعذار اليت تعيق الإنسان ، وتمنعه عن الجهاد ، وهؤلاء غير مأثومين ؛ لأنَّ التكليف ساقط عنهم لعدم تمكنهم من الجهاد.

ويستطيع هذان الصنفان أن يشتركا في الجهاد بتقديم الدعم المعنوي أو المادي للمجاهدين ، والعمل على تقوية الجبهة الداخلية لإسناد المجاهدين ، فيتحقق لهم الأجر بذلك.

الثالث : الذين يقعدون عن الجهاد والجيش في حاجة ماسة إليهم ، بدون أي مبرر ، هرباً من القتال ، وإخلاداً للدعة والراحة حتى لو كان البلد في حالة نفير عام ، متعللين بأسباب كاذبة ، وهؤلاء مأثومون لتأخرهم عن الجهاد ، ولتركهم الواجب العيني.

والآية الكريمة تعقد مفاضلة بين المجاهدين والقاعدين الذين يكتفون بغيرهم ، لأنَّهم يشكلون قوة إحتياطية لجيش الإسلام ، يلتحقون به إذا اقتضت الضرورة ، كما يقدمون الدعم للجيش ، يدل على ذلك ما تضمنته الآية الكريمة : (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً


وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). ومن الواضح أن الوعد بالحسنى للقاعدين يكون جزاءاً مترتباً على ما يقدمونه من دعم للمجاهدين ، واستعدادهم للجهاد إذا دعت الحاجة إليهم.

أما أولي الضرر فاستثناؤهم جاء لأنَّ التكليف ساقط عنهم بسبب عجزهم عن الجهاد ، وأمّا المتهربون فهم مأثومون ، لذا لا تصح المفاضلة بينهم وبين المجاهدين أو المعذورين ، والمجاهد أفضل من القاعد المكتفي بغيره ، لمخاطرته بنفسه ، وتحمله من مشقة الجهاد ما لا يخفى ، وصبره على المشقة ، والأذى في سبيل الله ، أمّا القاعد فهو وإن كانت نيته مع المجاهدين ، ويود لو كان قد اشترك معهم في أداء واجب الجهاد المقدس ، وبالفعل يقوم بدعمهم ، ولكنه يعيش ، ويعمل ذلك في محيط خال من الأخطار ، وما يتحمله المجاهدون ، فهو دونهم في الفضل.

والمجاهدون يتفاضلون فيما بينهم كل حسب ما يقدم من جهد ، وما يتحمل من مشقة الجهاد ، فمن حضي بالبذل في سبيل الله أكثر كان أفضل (والأجر على قدر المشقة) ومن هنا تعرف مكانة الإمام علي عليه‌السلام بين المجاهدين ، كان أكثرهم جهاداً ، وأكثرهم مشقة وجهوداً في سبيل إعلاء كلمة الحق ورفع راية الإسلام الحنيف ، وكثيراً ما حسم المعارك لصالح المسلمين ، وقد شهد له بذلك الكتاب العزيز والسنة النبويّة الشريفة ، كما أقرَّ له به المؤمنون ، ونقل التاريخ صوراً رائعة من جهاده ، ومواقفه البطولية التي طالما جاءت بالنصر المؤزر للإسلام ، أو حولت هزيمة المسلمين إلى نصر ماحق لقوى الشرك ، وحولت نصر المشركين إلى هزيمة.

يؤوب من القتال مثخناً بالجراح ، يداوي جراحه فترة من الزمن حتى يبرأ منها ، ثم يستعد للقاء خصوم الإسلام في معركة جديدة ، هذا ما عرفه به الصحابة


الكرام ، وعهدوه منه ، فحدثوا به الأجيال ، والفضل ، والأجر ، والدرجات الرفيعة ، والرحمة الإلهية التي أعدها الله عزوجل لمن أخلص من عباده ، ولا يعرف كنهها غيره ، ولا شك أنَّها تتناسب وما قدمه من جهاد ، كما تقرره الآية الكريمة الثانية التي فصَّلت ما أجملته الآية السابقة لها ، والله عزوجل لا يخلف وعده.

وعلى تقدير أنَّ الإمام الهادي عليه‌السلام جاء بهاتين الآيتين على سبيل الاستشهاد ، فإنَّ ما مر بيانه يوضح ، ويؤكد شمولها للإمام علي عليه‌السلام ، وأنّه أصدق مصاديقها ، وأعظمهم فضلاً ، أمّا إذا كان يروي نزولها فيه ـ وهو أمر يرجحه نص الزيارة ـ فلابد من الأخذ بروايته لأنه من أعلام أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أهل الذكر ، وحملة علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ذكرناه في مختلف مواضيع هذا الشرح يؤكد رجحان هذه الرواية ، وصحتها.


الإيمان أعظم الفضائل عن الله تعالى

«وقال تعالى : * (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١) *».

لا شك أنَّ خدمة البيت الحرام بالعمارة والحجابة ، وخدمة الحاج بالسقاية من الفضائل التي أقرها الدين الإسلامي الحنيف ، وقد كان العرب قبل الإسلام يعدونها من أعظم مفاخرهم ، فكان لمن يتولى السقاية ، أو الحجابة شرف عظيم عندهم.

والإيمان هو مقياس الفضل عند الله عزوجل ، فكل عمل خال من الإيمان لا ينتفع به عامله إلّا بمقدار ما يحقق له مصالح وقتية زائلة تكسبه سمعة ومفاخر ، أمّا إذا اقترنت أعمال الخير بالإيمان اكتسبت الفضيلة التي تترتب عليها صفة الدوام والشمول ، لاقترانها بما يرضي الله تعالى ، والمؤمن الملتزم بالأحكام يكون مصدراً للخير ، وجامعاً للفضائل ، لأنَّه يتوخى رضى الله تعالى في كل ما يصدر عنه من عمل.

أمّا غير المؤمن فقد تصدر منه فضيلة ، ثم يفسدها بجريرة تأتي على كل الفضائل ، فتضيع آثارها ، لأنَّ غير المؤمن يفتقر إلى التقوى التي يتحلى بها المؤمن ، فتمنعه من الموبقات.

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٩ ـ ٢٢.


وإذا ذهبنا في نظرتنا إلى أبعد من هذه الحياة الفانية ، فإنَّ الدار الآخرة يرتبط مصير الإنسان فيها بإيمانه بالله عزوجل ، لأنَّ الإيمان به عنوان كل فضل ، وبه تقاس الأعمال ، فيتقرر مصير المؤمن العامل إلى الجنة التي أعدت للمؤمنين المتقين ، ومصير غير المؤمن إلى العذاب ، وإن عمل في حياته صالحاً ، وقد تنفع الأعمال الصالحة غير المؤمن ، فتخفف عنه العذاب إذا عملها حباً بالخير ، ولم تصدر منه لمصلحة شخصية أو هدف غير مشروع.

سبب نزول الآية الكريمة :

والآية الكريمة ليست بصدد المفاضلة بين الطرفين ، لأنَّ المفاضلة تكون بين متجانسين مؤمن وآخر ، يختلفان في العمل ، والإخلاص ، وما يترتب على ذلك من فضل ، فيكون المعيار الأسبقية وتحمل الجهد ، وما شابههما من المرجحات.

فيتعين أن يكون المراد نقض ما ادعي من فضل عمارة البيت والسقاية مقابل الأيمان ، يدل على ذلك قوله تعالى : (لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ)، فالآية الكريمة تقرر فضل الإيمان والجهاد ، وتنقض الفضل المدعى لعمل غير المؤمن ، مهما كان يحمل من فضيلة ، وبأي اعتبار ، ويؤيد ذلك ما جاء من الأحاديث في سبب نزول الآية الكريمة.

نقل المفسرون والمحدثون روايات متعددة في نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام ، وأنَّه المقصود بقوله تعالى : (كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) وفي شيبة (١) صاحب البيت الذي كان يتولى حجابته ، وعمارته ، والعباس ابن عبد المطلب الذي كان يتولى سقاية الحاج ، وإليك نماذج من

__________________

(١) في أسباب النزول ١٦٤ (طلحة بن شيبة).


الروايات :

١ ـ عن أنس ، قال : قعد العباس وشيبة صاحب البيت يفتخران ، فقال له العباس : أنا أشرف منك ، أنا عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصي أبيه ، وساقي الحجيج. فقال شيبة : أنا أشرف منك ، أنا أمين الله على بيته ، وخازنه ، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟! فهما على ذلك يتشاجران حتى أشرف عليهما علي. فقال له العباس : على رسلك يا ابن أخ. فوقف علي. فقال له العباس : إنَّ شيبة فاخرني ، فزعم أنَّه أشرف مني. فقال : فما قلت له أنت يا عمّاه؟ قال : قلت له : أنا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسل ، ووصي أبيه ، وساقي الحجيج ، أنا أشرف منك ، فقال لشيبة : ماذا قلت له أنت يا شيبة؟ قال : قلت له : أنا أشرف منك ، أنا أمين الله على بيته ، وخازنه ، ألا ائتمنك عليه كما ائتمنني؟!. قال لهما : إجعلا لي معكما فخراً. قالا : نعم. قال : فأنا أشرف منكما ، أنا أول من آمن بالوعيد من ذكور هذه الأمة ، وهاجر ، وجاهد.

فانطلقوا ثلاثتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجثوا بين يديه ، فأخبر كل واحد منهم بمفخره ، فما أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء ، فانصرفوا عنه ، فنزل عليه الوحي بعد أيام فيهم ، فأرسل إليهم ثلاثتهم ، حتى أتوه ، فقرأ عليهم : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخر العشر ، قرأها أبو معمر (١). وقد رُوي الحديث بهذا المعنى عن : ابن عباس (٢) ، وعن بريدة (٣) ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (٤).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٥٧ ، الدر المنثور ٣ / ٢١٩ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٢٦ ، كفاية الطالب ٢٣٧ ، نظم درر السمطين ٨٩.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٢٧.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٣٢٩.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ٣٣٠.


وللحديث صورة أخرى رواها عروة بن الزبير ، وهي : أنّ العباس بن عبد المطلب ، وشيبة بن عثمان ، أسلما ، ولم يهاجرا ، فقام العباس على سقايته ، وشيبة على حجابته ، فقال العباس لعلي بن أبي طالب : أنا أفضل منك ، أنا ساقي بيت الله ـ وكان بينهما كلام ـ فأنزل الله تعالى فيما تنازعا فيه : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)(١).

ويؤخذ على هذه الرواية أنَّ من المعروف لدى المؤرخين أنَّ شيبة ، إمّا أن يكون قد أعلن إسلامه مكرهاً في فتح مكة ، وقد حاول اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين ، فلم يفلح ، وقد هداه الله لما رآه من كرامة ، وإنَّه لم يسلم إلّا عند ذلك ، وهذا يعني أنَّه خرج مشركاً مع من خرج من المشركين إلى حنين. قال ابن عساكر : شهد حنيناً مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشركاً (٢).

وصورة ثالثة مروية عن ابن عباس في نزولها في علي والعباس عليهما‌السلام خاصة ، قال : قال العباس بن عبد المطلب حين اُسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني ، فأنزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله : (الظَّالِمِينَ)(٣). يعني أنَّ ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك (٤).

وفي رواية ابن سيرين ، قال : قدم علي بن أبي طالب من المدينة إلى مكة ، فقال للعباس : يا عم ، ألا تهاجر؟! ألا تلحق برسول الله؟!. فقال : أعمِّر البيت ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٣٢٤.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٢٣ / ٢٤٩.

(٣) أسباب النزول ١٦٤ ، الدر المنثور ٣ / ٢١٨ ، لباب النقول ١٠٢.

(٤) جامع البيان ١٠ / ٢١٨.


وأحجب البيت ، فأنزل الله : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ)(١).

ويؤخذ على هاتين الروايتين إسنادهما الحجابة للعباس عليه‌السلام ، والمعروف الثابت تأريخيا أنَّ الحجابة لم تكن له ، وإنّما كانت لشيبة بن عثمان ، ورثها عن أبيه عثمان بن طلحة ، وبقيت في آل شيبة يتوارثها الخلف منهم عن السلف ، والذي كان للعباس السقاية.

والآيات الثلاثة قد جاءت في سياق واحد ، توضح ما أجملته الآية السابقة لها في فضل المؤمن المجاهد ، وهو الإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) أسباب المنزول ١٦٤ ، الدر المنثور ٣ / ٢١٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٢٣ ، لباب النقول ١٠٣.



المخصوص بمدحة الله تعالى

«أشهد أنَّك المخصوص بمدحة الله ، المخلص لطاعة الله ، لم تبغ بالهدى بدلاً ، ولم تشرك بعبادة ربك أحداً» :

اللغة : المدح الثناء الحسن (١).

مدحة الله تعالى :

الإنسان يستحق المدح عندما يسمو بسلوك حسن ، كقيامه بعمل إنساني نبيل طاعة لله عزوجل ، أو خدمة للدين الحنيف ، أو لما من شأنه خدمة وطنه ، وأمته ، وما إلى ذلك من أعمال الخير المحببة في مختلف مجالات الحياة.

ومدح الإنسان لأخيه الإنسان لا يكون بالضرورة منطبقاً على الممدوح ؛ لأنَّ الإنسان لا يتعدى بمعرفته وخبرته ظواهر الأمور ، فقد يخطيء في التقدير ، لجهله بما تنطوي عليه نفوس الآخرين ، وعدم معرفته بحقائق الأمور ، وعواقبها ، وما يترتب عليها.

أمّا الباري عزوجل فلا يخفى عليه شيء ، ولا يفوته ، وهو عالم بحقائق الأمور ، وعواقبها ، وما يترتب عليها ، ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر ، وما تخفيه الصدور ، ولا يخطيء في تقديره ، وهو العالم بالسرائر ، والخبير الذي لا تخفى عليه خافية ، فمدحه ينطبق على الممدوح ، ويكشف عن حقيقته.

__________________

(١) الصحاح.


وقد لا يتعدى مدح الإنسان لأخيه الإنسان التملق ، والمحاباة ، كمدح ذوي المال ، طمعاً بما في أيديهم ، أو لمصلحة يرجوها منهم ، أو مدح ذوي السلطان ، خوفاً من سطوتهم ، أو محاولة للتقرب إليهم ، وهو في كلا الحالين يعلم أنَّه كاذب في مدحه ، وقد سجّل التأريخ عبر القرون شواهد لا تحصى لمن عرفوا بوعّاظ السلاطين ، والشعراء الذين كانوا يمدحون السلطان لنيل جوائزه ، ويغمضون أعينهم عن جميع عيوبه وعوراته ، ثمَّ يلتمسون له فضائل ، ومناقب قد لا تخطر له على بال ، ولا يعرفها ، فيمدحونه بها.

والله عزوجل لا يتملّق لأحد من عباده ، ولا يحابي أحداً ، ولا يحتاج أحداً ، ولا طمع له عند ذوي المال والجاه ، بل الخلق كلهم عباده ، وأمرهم بيده ، وما في أيديهم من عطاياه ، وهم محتاجون إلى كماله المطلق في كلِّ آن ، لا يستغنون عن فضله ، ورحمته ، وجوده ، لحظة واحدة.

والله عزوجل لا يخاف سطوة ظالم ، ولا يرهبه سلطانه ، وهو القاهر الجبار ، الذي ينتقم من الظالمين ، وينتصف للمظلومين منهم بعدله ، وقوته.

وكثيراً ما ينخدع الناس بما يتظاهر به المراؤون من أعمال الخير ، متوهمين استقامتهم ، وحسن سريرتهم ، ولو اطلعوا على زيفهم لعرفوا أنَّهم يريدون بما عملوا مصالح شخصية ، ولو تحققت مصالحهم في الأعمال التخريبية ، لما ترددوا في الإقدام عليها ، ولمارسوها بأبشع صورها ، ولانقلب مدح الناس لهم ذمّاً.

من هنا تتجلى أهمية مدح الله عزوجل ، فمدحه لا يشوبه جهل ، أو طمع ، أو خوف ، وفي مدحه دلالة واضحة على أنَّ الممدوح معصوم يستحيل عليه أن يتخلّف عمّا مُدح به ، أو يسلك طريقاً منافياً له ، وإن ذمَّ أحداً علمنا ـ بالضرورة ـ خبثه ، وضلاله ، وأنَّه رجس لا يهتدي أبداً ، وخير شاهد على ذلك ما جاء من الذكر


الحكيم في ذم أبي لهب ، حيث بقي على ضلاله حتى هلك ، وكان ذلك دليل على إعجاز القرآن الكريم ، وصدق من جاء به.

اختص الإمام علي عليه‌السلام بمدحة الله عزوجل ، وقد أبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدحه عن طريق الوحي في مناسبات متعددة : منها بالنص القرآني ، ومنها ما تلقاه ليبلغه الأمة عن طريق السنة النبوية الشريفة ، وقد تضمّنت الزيارة عدداً من آيات الذكر الحكيم التي نزلت في مدحه ، وهذا الإختصاص بالمدح حدَّث به بعض الصحابة والتابعين ، ورواه الحفاظ ، والمحدثون ، والمفسرون في مصنفاتهم ، وإليك نماذج من أقوالهم :

١ ـ حذيفة إنَّ أناساً تذاكروا ، فقالوا : ما نزلت آية في القرآن فيها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا في أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال حذيفة : ما نزلت في القرآن : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا كان لعلي لبها ولبابها (١).

٢ ـ عبد الله بن عباس ، قال : ما أنزل الله قط : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعلي أميرها ، وشريفها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان ، وما ذكر علياً إلّا بخير (٢). وهذه الرواية تبين للإمام علي عليه‌السلام خصيصة امتاز بها عن الصحابة الذين مدحوا في القرآن الكريم ، لأنَّهم عوتبوا ، واختص من بينهم بالمدح دون العتاب.

وقال ابن عباس : نزل في علي ثلاثمائة آية (٣).

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٦٣.

(٢) هذا الأثر مروي بنصه أو بمعناه في : تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٣ ، شواهد التنزيل ١ / ٦٧ ، الصواعق المحرقة ١٢٧ ، المعجم الكبير ١١ / ٢١١ ، ينابيع المودة ٢ / ٤٠٦.

(٣) تاريخ بغداد ٦ / ٢١٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٤ ، كفاية الطالب ٢٣١ ، ينابيع المودة ٢ / ٤٠٦.


وقال : ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي (١).

٣ ـ وقال مجاهد نزلت في علي سبعون آية لم يشركه فيها أحد (٢).

٤ ـ وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى لقد نزل في علي ثمانين آية صفواً في كتاب الله ما يشركه فيها أحد من هذه الأمة (٣).

٥ ـ وقال يزيد بن رومان ما نزل في أحدٍ من القرآن ما نزل في علي بن أبي طالب (٤).

والإختلاف في العدد بين هذه الروايات لا يدل على تضاربها : فابن عباس يتحدث عن مجمل ما نزل فيه ، شركه فيه غيره ، أو لم يشركه ، وأمّا مجاهد ، وابن أبي ليلى فإنهما يتحدثان عمّا نزل فيه ، ولم يشركه فيه غيره ، واختلافهما في العدد ربما يعود لحفظ كلٍّ منهما ، أو لما صحت عنده روايته.

هدي علي عليه‌السلام :

تحدثنا عن إخلاص الإمام علي عليه‌السلام لطاعة الله عزوجل فيما مرّ من الشرح ، أمّا كونه لم يبغ بالهدى بدلاً ، فذلك نتيجة حتمية لإخلاصه لله تعالى ، فالؤمن المخلص يتبع في سلوكه سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويسير على هديه ، ويرى أنَّ الدنيا وما فيها من المباهج ، والملذات ، وما يمكن أن يحصل فيها من ثراء ، وجاه ، وسلطان ، وما

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٣ ، شواهد التنزيل ١ / ٥٢ ، الصواعق المحرقة ١٢٧.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٥٢.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٥٥.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ٥٤.


شابه ذلك ، لا قيمة له في قبال ما هو عليه من الهدى ، الذي ليس له أجر سوى الجنة التي أعدت للمتقين ، أمّا الدنيا فليست هي بأجر للمؤمنين ، ولا تصلح أن تكون كذلك ، لأنَّها دار فناء ، وكل ما فيها إلى زوال ، ومن طمع فيها ، وجعلها همَّه الأكبر والوحيد ، ضيَّع حظه في النشأتين ، فلا ديناً يكسب ، ولا آخرة.

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام خير شاهد على أنَّه لم يبف بالهدى بدلاً ، بل كانت غايته التزام الطريق المستقيم الذي رسمته الشريعة الغرّاء.

والشرك : هو الإعتقاد بوجود إله مع الله تعالى ، وإشراكه بالعبادة ، سواء كان ذلك الشريك المدّعى وثناً ، أو بشراً ، أو غير ذلك كالنجوم ، والشمس ، والقمر ، وما شاكلها ، ممّا كان يعبد في الجاهلية.

والرياء يسمى : (الشرك الخفي) ؛ لأنَّ المرائي يشرك في عبادته من عمل لأجله ، ولا يصدق عليه الإخلاص لله تعالى في العبادة ، فهو مشرك بهذا المعنى ، وإن لم يقصد ذلك.

والإمام علي عليه‌السلام اختص من بين الصحابة بأنَّه لم يشرك بالله عزوجل بل نشأ في بيت الوحي ، وترعرع في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يوحّد الله تعالى قبل نزول الوحي ، وكان يرافقه في حراء ، فشهد معه نزول الوحي ، وكان أول من آمن به وهو غلام ، ثم اقتحم ميادين الجهاد ، لم ينفك عن الدعوة إلى الله تعالى ، والذب عن دينه حتى استشهد في المحراب ، فلم يشرك بالله لحظة واحدة.



آية التبليغ

«وأنَّ الله تعالى استجاب لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيك دعوته ، ثم أمره بإظهار ما أولاك لأمته ، إعلاءً لشأنك ، وإعلاناً لبرهانك ، وقطعاً للمعاذير ، فلمّا أشفق من فتنة الفاسقين ، واتقى فيك المنافقين ، أوحى إليه رب العالمين : * (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١) *» :

اللغة : أولاك أولاني : أي أنعم عليّ من الآلاء ، وهي النعم. المعاذير : الحجج : كل حجة يعتذر بها.

أشفقت منه : حذرته.

إتقاه : حذره.

الفاسق : الفسق : هو العصيان والترك لأمر الله عزوجل ، والخروج عن طريق الحق.

المنافق : هو الذي يستر كفره ، ويظهر إيمانه (٢).

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ممّا اختص به الإمام علي عليه‌السلام دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له في مناسبات مختلفة ، وقد نقل المحدثون بعض تلك الأدعية في مصنفاتهم ، منها :

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦٧.

(٢) لسان العرب.


١ ـ دعاؤه له ولفاطمة عند زفافهما حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم إنَّهما منّي ، وأنا منهما ، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني تطهيرا ، فأذهب عنهما الرجس وطهرهما تطهيرا» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جمع الله شملكما ، وأسعد جدَّكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً» (٢).

٢ ـ دعاؤه له يوم الأحزاب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم إنَّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، فاحفظ عليَّ اليوم علياً ، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين» (٣).

٣ ـ دعاؤه له يوم خيبر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد» (٤).

٤ ـ دعاؤه له ، وللصدِّيقة ، والحسنين عليهم‌السلام في حديث آية التطهير ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرا» (٥).

والدعاء المقصود في هذه الفقرة من الزيارة يخص الولاية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث دعا له بقوله : «اللهم إنّي أقول كما قال موسى : اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبّحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً ، إنَّك كنت بنا بصيراً» (٦).

__________________

(١) كفاية الطالب ٣٠٦ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٤١٢ ، ينابيع المودة ٢ / ٦٤.

(٢) الصواعق المحرقة ١٤٢ ، ينابيع المودة ٢ / ١٢٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦١.

(٤) البداية والنهاية ٧ / ٣٧٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٠٥ ، خصائص أمير المؤمنين ١٢٨ ، سنن ابن ماجة ١ / ٤٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٢٢ ، ينابيع المودة ٢ / ٧٢.

(٥) أسباب النزول ٢٣٩ ، جامع البيان ٢٢ / ١٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١١٣ ، مسند أبي يعلى ١٢ / ٤٥١ ، المعجم الأوسط ٧ / ٣١٩ ، المعجم الكبير ٣ / ٥٤.

(٦) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٢ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٧٩ ، المعيار والموازنة ٧١ ، ينابيع المودة


وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «ما سألت الله تبارك وتعالى شيئاً إلّا سألت لك مثله ، ولا سألت الله شيئاً إلّا أعطانيه ، غير أنَّه قيل لي لا نبي بعدك» (١). وفي قوله : (لا نبي بعدك) دلالة على أنَّ المراد من الدعاء الولاية.

وبديهي أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفصح في جميع أقواله عن أمر الله تعالى لأنَّه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)(٢) ، فكل ما بلّغه للأمة في الإمام علي عليه‌السلام هو ممّا أنعم به الله عزوجل ، وتكرَّم به عليه من الفضائل ، وقد بلّغه وأظهره للأمة بأمر منه تعالى ، وكل ذلك إعلاء لشأن الإمام علي عليه‌السلام ببيان فضائله ، وما وهبه الله عزوجل له من كرامة.

التبليغ :

وهذا التبليغ ينطوي على إعلان برهانه ، فكل أحاديث الفضائل هي براهين لتفضيله على غيره من الأمة ، وإذا ثبت أنَّه أفضل الأمة فهو الأحق بالولاية ، والذي يتعين أن يكون الخليفة للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا لا يدع مجالاً لحجج يعتذر بها معتذر ، بعد وضوح البراهين التي قدَّمتها تلك النصوص.

والفرق واضح بين الفااسقين والمنافقين : فالفاسقون يجهرون بمخالفتهم الشريعة ، وخروجهم عن طريق الحق ، أمّا المنافقون فإنَّهم يتظاهرون بالإيمان ، ويبطنون الكفر ، وهم أشد خطراً على الدين وأهله ، وكلا الصنفين من أشد أعداء

__________________

= ١ / ٢٥٨.

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣١٠ السنة لعمرو بن عاصم ٥٨٢ ، كنز العمال ١١ / ٦٢٥ ، معجم الزوائد ٩ / ١١٠ ، المعجم الأوسط ٨ / ٤٧ ، المناقب ١١٠.

(٢) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.


الإمام علي عليه‌السلام ؛ لأنَّه سيد المؤمنين ، وأولهم إيماناً ، والإيمان من جهة ، والفسق والنفاق من جهة على طرفي نقيض ، والإمام علي عليه‌السلام بجهاده قد وتر الفاسقين ، والمنافقين بقتله أئمة الكفر ، ورؤوس الضلال ، لذلك استحكم عداؤهم له.

وكان هؤلاء يتربصون الفرص لإثارة الفتن ، ويتعللون بكل ذريعة للخروج على الدين الحنيف ، يحاولون الإجهاز عليه ، والتخلص منه ، وبذلك كانوا يشكّلون خطراً مستمراً يهدد الأمة الإسلامية.

وعندما اُبلغ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستجابة دعائه للإمام علي عليه‌السلام ، واُمر بأن يعلن ولايته للأمة من بعده ، ويلزمهم بالتمسك بها ، لتتم الحجة بذلك عليهم ، بعد أن يعرِّفهم بولي أمرهم ، توقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التبليغ ، وأراد تأخيره ، ولم يكن ذلك تلكؤاً منه ، وتردداً في تبليغ ما أمر الله تعالى به ، فقد كان أتقى ، وأورع ، وأقوى من ذلك ، وهو الذي نهض بمفرده ، متحدياً العالم كله ، إذ أعلن دعوة التوحيد ، ولم يُرهِبه العالم بأسره ، ينفّذ إرادة الله عزوجل ، وهو غير مكترث بما يحيط به من خطر ، وقد قال كلمته المشهورة : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والمقر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته» (١).

ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد فسحة في الوقت ليمهِّد لهذا الأمر الخطير قبل إعلانه ، ليفوِّت الفرصة على الفاسقين ، والمنافقين ، كي لا يستغلوا هذا الموقف للتلاعب بعواطف الناس ، ويعملوا على إعادة الناس إلى جاهليتهم ، وكان إعلان الولاية ـ بما يتضمنه من إظهار ما منحه الله تعالى للإمام علي عليه‌السلام من الفضل ، والكرامة ، والتقديم على سائر المسلمين ، بجعله تالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضل ـ يثير حسد قوم ، وضغائن آخرين.

__________________

(١) البداية والنهاية ٣ / ٦٣.


كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرغب في أن يعمل على خلق ظروف ملائمة لإعلان الولاية ، ويخشى أن يؤدي الإسراع في تبليغها إلى إثارة الفتنة ولكن الإرادة الإلهية كانت في غاية الصرامة ، فتضمن الأمر بالتبليغ موقفاً حدِّياً ، لا مجال فيه للتأخير ، ولا فسحة فيه في الوقت ، إذ تضمّن إنذاراً : (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، فلا بد من المبادرة ، إذ لا خيار سواها ، وقد جاء الأمر بالتبليغ مشغوعاً بضمان من الله عزوجل : (وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

فليس سوى التبليغ في ذلك الموقف ، إذ لا تردد ، ولا حرج في تنفيذ إرادة الله عزوجل ، وتبليغ أوامره ، وهو العاصم الذي يتكفل منع حدوث الفتنة ، أو إماتتها بعد حدوثها ، لذلك جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس في غدير خم على الثرى المنصهر ، وتحت أشعة الشمس المحرقة ، ليصدع بأمر الله عزوجل ، وليكون نزول الآية ، وجمع الناس في تلك الظروف إمارة على أهمية ما يراد تبليغه ، وهو كاف لردع من يريدون الفتنة ، وكمِّ أفواههم عن إثارتها.

إنّ نزول الآية في غدير خم مروي عن عدد من الصحابة ، وقد رواه عنهم جمع غفير من التابعين ، وأخذه عنهم المفسرون ، والحفاظ ، والمحدثون بأسانيد معتبرة ، دونتها كتب السنة ، وقد أحصى الحجة الأميني رواية نزولها في غدير خم عن ثلاثين مصدراً من كتب السنة الموثوقة في التفسير والحديث (١).

كما نقل الحجة الأميني ما جاء في المصادر من وجوه في تفسير قوله تعالى : (وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وسبب نزولها ، وناقش تلك الوجوه مثبتاً عدم تناقضها مع تفسير الآية في غدير خم ، وإمكان الجمع بين مختلف الوجوه (٢) ، لذا

__________________

(١) الغدير ١ / ٢١٤ ـ ٢٢٣.

(٢) الغدير ١ / ٢٢٣.


فنحن في غنىً عن إيرادها ومناقشتها.

على أنَّ نزول هذه الآية الكريمة في الغدير هو رأي أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم أهل الذكر ، وقد رواه عنهم المحدثون من الفريقين ، لذا نقتصر على نقل بعض ما روي عن طريق السنة :

روى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ما نصه : قال : سمعت زياد بن المنذر يقول : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي ، وهو يحدث الناس ، إذ قام إليه رجل من أهل البصرة ، يقال له : عثمان الأعشى ـ كان يروي عن الحسن البصري ، فقال له : يا ابن رسول الله ـ جعلني الله فداك ـ إنَّ الحسن يخبرنا : أنَّ هذه الآية نزلت بسبب رجل ، ولا يخبرنا من الرجل : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)؟

فقال : لو أراد أن يخبر به ، لأخبر به ، لكنه يخاف. إنَّ جبرائيل هبط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : إنَّ الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم ، فدَلَّهم عليها. ثم هبط ، فقال : إنَّ الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم ، فدَلَّهم عليها. ثم هبط ، فقال : إنَّ الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم ، فدَلَّهم. ثم هبط ، فقال : إنَّ اله يأمرك أن تدل أمتك على حجِّهم ، ففعل. ثم هبط ، فقال : إنَّ الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم ، وزكاتهم ، وصيامهم ، وحجهم ، ليلزمهم الحجة من جميع ذلك.

فقال رسول الله : يا ربّ إنَّ قومي قريبوا عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس ، وفخر ، وما منهم رجل إلّا وقد وتره وليُّهم ، وإنّي أخاف ، فأنزل الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)ـ يريد فما بلغتها تامة ـ (وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فلما ضمن العصمة ، وخوفه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب ،


ثم قال : «يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، وأحب من أحبه ، وابغض من أبغضه» (١).

وروى الثعلبي في تفسيره ، قال : قال جعفر بن محمد : معنى قوله : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) في فضل علي ، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي ، فقال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (٢).

نكتفي بهاتين الروايتين عن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام ، وقد روُي عنهما روايات أخرى في هذا المعنى لست بصدد استقصائها.

ورواية الإمام علي الهادي عليه‌السلام التي تضمنتها الزيارة في معنى هاتين الروايتين.

وهناك روايات أخرى في معناها رويت عن عدد من الصحابة ننقل منها رواية عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ، قالا : (أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ، ليخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله أن يقولوا : حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) الآية ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم (٣)).

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٢٥٤.

(٢) الميزان ٦ / ٥٤ نقلاً عن تفسير الثعلبي.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٢٥٥.



مع حديث الغدير

«فوضع على نفسه أوزار المسير ، ونهض في رمضاء الهجير ، فخطب ، وأسمع ، ونادى فأبلغ ، ثم سألهم أجمع ، فقال : هل بلّغت؟ فقالوا : بلى. فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا : بلى. فأخذ بيدك ، وقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فما آمن بما أنزل الله فيك على نبيه إلّا قليل ، ولا زاد أكثرهم غير تخسير» :

اللغة : أوزار جمع وزر : وهو الحمل الثقيل.

والرمضاء : شدة وقع الشمس على الرمل.

والهجير : نصف النهار ، عند زوال الشمس إلى العصر ، أو شدة الحر.

التخسير : الإبعاد عن الخير (١) ، والتخسير : الإهلاك (٢).

عود إلى حديث الغدير :

تحدثنا عن غدير خم بما لا يحتمل هذا الموجز المزيد عليه في موضوعي : (يوم الغدير وحجة الوداع ، وفي رحاب الغدير) (٣) ، وما ذكر هناك يوضح ما

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) مجمع البحرين.

(٣) راجع ص ١٥ وص ٢١ من هذا الكتاب.


تضمنته هذه الفقرة من الزيارة ، ونضيف إليه شيئاً عن مصادر حديث الغدير :

حديث الغدير من الأحاديث المتواترة ، لأنَّ عدد رواته في جميع الطبقات بلغ الكثرة التي يمتنع معها التواطؤ على الكذب ، ولا أغالي إن قلت : لم يتوفر لحديث آخر أن يحضى بهذه الكثرة من الرواة ، وقد أحصى الحجة الأميني قدس سره رواته في حدود ما اطلع عليه من مصادر السنة فقط ، فبلغ الإحصاء ما يأتي :

١ ـ عدد رواة الحديث من الصحابة : ١١٠ صحابياً (١).

٢ ـ عدد رواة الحديث من التابعين : ٨٤ تابعياً (٢).

٣ ـ عدد رواة الحديث من المحدثين والمؤلفين : ٣٦٠ مؤلفاً (٣).

٤ ـ عدد المؤلفين الذين ألفوا كتباً للبحث في حديث الغدير : ٢٦ مؤلفاً (٤).

عدم الإيمان بما اُنزل في علي عليه‌السلام :

لا نجد في تأريخ الإسلام ، بل في تأريخ البشرية قضية يبلغ عدد شهودها مائة ألف أو أكثر ـ على الإختلاف بين الروايات في التقدير ، ثم تضيع قبل أن تمر بضعة أشهر ، فالمدة بين يوم الغدير وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام ، وبين يوم وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثامن والعشرين من شهر صفر تبلغ سبعين يوماً ، وقد تزيد على ذلك بأيام على رواية من روى وفاته في شهر ربيع الأول ، فهل ذهب حديث الغدير ، وما تبعه من بيعة طيَّ النسيان في هذه المدة الوجيزة؟!

__________________

(١) الغدير ١ / ١٤ ـ ٦٠.

(٢) الغدير ١ / ٦٢ ـ ٧٢.

(٣) الغدير ١ / ٧٣ ـ ١٥١.

(٤) الغدير ١ / ١٥٢ ـ ١٥٧.


أم حصل ما أنبأ به الذكر الحكيم في قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)(١)؟! إنَّ نسيان هذا الحدث الخطير ـ على ما فصلناه ـ أمر غير ممكن في مثل هذه المدة القصيرة ، بل وفي مدة أطول منها ومهما طال الزمن ، فيتعين إذاً الإنقلاب على الأعقاب ، وعدم الإيمان بما جاء به الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ولاية علي عليه‌السلام عن الله عزوجل.

ولابد من تكرار القول بأنَّ الإيمان بما أنزل الله عزوجل فيه ، يعني الإيمان بأنَّه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وولي أمور المسلمين بعه بلا فصل بما تعنيه هذه الولاية من كونه أولى بهم من أنفسهم ، يتصرف في شؤونهم حسب ما يقرره الشرع القويم ، وبما تستلزمه هذه الولاية العامة من وجوب الطاعة ، والإذعان لأوامره ، ونواهيه ، ووجوب نصرته ، ومحاربة أعدائه ، والبراءة منهم ... وما إلى ذلك من لوازم الولاية.

والشيعة يؤمنون بولايته عليه‌السلام بهذا المعنى ، يتعبّدون بما قامت عليه الأدلة القطعية ، لا يحيدون عنها ، وقد ضحّوا من أجل ذلك بكل غال ونفيس ، وجادوا بأنفسهم للثبات على هذه العقيدة ، ومقاومة من نصب العداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، وحاول استئصالهم ، واستئصال شيعتهم.

ومن لم يؤمن بهذه الولاية بعد قيام الأدلة القطعية عليها ، وهي أدلة لا تقبل التأويل ، والتمحل ، فإنَّه مخالف لأوامر الله تعالى ، ورادّ على رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاحد لما جاء به عنه واهتم بتبليغه ، وأكد عليه ، ولا شك أنَّ من نهج هذا السبيل المعوج لا يزداد إلّا خسراناً في الدنيا والآخرة ، لمخالفته لله عزوجل ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عناداً وتعصباً ، وهو من الضالين الهالكين.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٤٤.



جهاد المرتدين

«ولقد أنزل الله فيك من قبل وهم كارهون : * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(١) *» :

اللغة: أذلّة على المؤمنين : رحماء على المؤمنين ، أعزّة على الكافرين : غلاظ شداد على الكافرين (٢).

اختلف المفسرون في تحديد المقصود بهذه الآية الكريمة على أقوال ، وأحد هذه الأقوال ما نصت عليه الزيارة من أنَّ المقصود بها هو الإمام علي عليه‌السلام ، وهو ما ذهب إليه أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم خزنة علم الكتاب ، وتراجمة الوحي ، وتشمل من خرج لقتاله في حروبه الثلاثة من البغاة وهم : الناكثون ، والقاسطون ، والمارقون ، يؤيد ذلك أمور ، هي :

١ ـ تضمنت الآية الكريمة قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وقد ثبت بالسنة المتواترة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر في الإمام علي عليه‌السلام : «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) مجمع البحرين.


الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» (١) ، وقد أيد الرازي نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام بهذا الدليل (٢).

٢ ـ إنَّ نزول الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام هو رأي أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم أعلم الناس بتأويل الكتاب العزيز ، لأنَّهم أهل الذكر الذين أودع الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمه عندهم ، قال الإمام علي عليه‌السلام يوم البصرة : «والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم» ، وتلا هذه الآية الكريمة (٣) ، كما روي القول بنزولها فيه عن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام ، وروي ذلك عن عمار ، وحذيفة (٤) ، وبين أيدينا رواية الإمام الهادي عليه‌السلام التي تضمنتها الزيارة.

٣ ـ تتضمن الآية الكريمة قوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) وهذه الصفاة كلها مجتمعة في الإمام علي عليه‌السلام ، ومن درس سيرته العطرة ، اتضح له أنَّ هذه الأوصاف من أخص خصائصه ، والسنة النبوية الشريفة تنص على ذلك.

٤ ـ إنَّ الآية الكريمة التي تلي هذه الآية هي قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(٥) ، ومن المتفق عليه بين علماء المسلمين من الفريقين من مفسرين ، وحفاظ ،

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٠٣ ، السنة لعمرو بن أبي عاصم ٥٩٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٣٦٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٧٩ ، صحيح البخاري ٤ / ١٢ ، ٢٠٧ ، صحيح مسلم ٥ / ١٩٥ ، مسند أحمد ١ / ١٣٣ ، المصنف للصنعاني ٥ / ٢٨٧ ، المعجم الكبير ٧ / ٣٦.

(٢) فضائل الخمسة ١ / ٢٨٢ نقلاً عن تفسير الرازي.

(٣) التبيان ٣ / ٥٥٦.

(٤) التبيان ٣ / ٥٥٥.

(٥) المائدة ٥ : ٥٥.


ومحدِّثين ، أنَّ هذه الآية نزلت في علي عليه‌السلام ، ويُستدل على نزول ما سبقها فيه بوحدة السياق ، وهي أنَّ قتال البغاة المرتدين يختص به ولي أمر المؤمنين ، يقول الرازي في تفسيره : (فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه ـ أي الإمام علي عليه‌السلام ـ) (١).

٥ ـ وممّا يؤيد نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام الأحاديث المستفيضة التي رواها الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تنص على أنَّه عهد إلى الإمام علي عليه‌السلام بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، وإنَّه سيقاتلهم على تأويل القرآن ، كما قاتلهم على تنزيله ، وأمر بعض الصحابة أن يقاتلوا معه ، وتحت لوائه ، وإليك نماذج من تلك الأحاديث الشريفة :

قال ابن حجر : أخرج أحمد ، والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : إنَّك تقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله (٢).

ورُوي عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟. قال : لا ، ولكنه هذا خاصف النعل. وكان في يد علي نعل يخصفها.

ورُوي هذا الحديث عن أبي سعيد بألفاظ جاء في بعضها مضافاً لما جاء في هذا الحديث : قال عمر : فأنا هو يا رسول الله؟. قال : لا ، ولكن خاصف النعل (٣).

ورُوي عن علي عليه‌السلام ، قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والمارقين ،

__________________

(١) فضائل الخمسة ١ / ٢٨٢ عن تفسير الرازي للآية الكريمة.

(٢) الصواعق المحرقة ١٢٣.

(٣) تجد هذين الحديثين في : أسد الغابة ٤ / ٣٢ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٥١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٤ ، المستدرك ٣ / ١٢٣ ، مسند أحمد ٣ / ٣٣ ، نظم درر السمطين ١١٥.


والقاسطين (١).

ورَوى عتاب بن ثعلبة ، قال : حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب ، قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين مع علي بن أبي طالب (٢).

ورُوي عن عبد الله بن مسعود ، قال : اُمر علي بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين (٣).

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٨ ، تاريخ بغداد ٨ / ٣٣٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٦ ، كنز العمال ١٣ / ١١٣ المعجم الأوسط ٨ / ٢١٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧٢ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المناقب ١٩٠.

(٣) مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ١ / ٩٢.


آية الولاية

«* (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)(١) * (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(٢) * (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)(٣) * اللهم إنّا نعلم أنَّ هذا هو الحق من عندك ، فالعن من عارضه واستكبر ، وكذب به ، وكفر * (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(٤) *» :

اللغة: الزيغ : الميل عن الحق ، ومنه قوله : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ): أي فلما مالوا عن الحق والطاعة ، أمال الله قلوبهم عن الإيمان والخير (٥).

نزول الآية :

يتفق علماء المسلمين من الفريقين : المفسرون ، والمحدثون ، والحفاظ على نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام عندما تصدَّق بخاتمه على المسكين ، وهو يصلي في المسجد في حال الركوع ـ وقد مرَّ بنا ذلك أكثر من مرة أثناء

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) آل عمران ٣ : ٥٣.

(٣) آل عمران ٣ : ٨.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٢٢٧.

(٥) معجم البحرين.


الشرح ـ وسننقل نماذج من الروايات في نزولها فيه ، واستعمال صيغة الجمع للمفرد من الأساليب المألوفة في اللغة العربية ، ومن مسوغاته فيها إرادة الإجلال والتعظيم.

ويعتبر الشيعة هذه الآية الكريمة من جملة النصوص الصريحة التي يستدلون بها على إمام الإمام علي عليه‌السلام ؛ لأنَّ الآية عطفت ولايته على ولاية الله عزوجل ، وولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستفاد من أداة الحصر (إنَّما) قصر هذه الولاية عليه بعدهما ، فهي تتفرع عن ولايتهما التي هي ولاية التصرف في أمور المسلمين ، وهذه الولاية أكَّدَها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم ، وفسرها عندما ناشد من حضر من المسلمين ، فقال : أيها الناس من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يكررها ثلاثاً أو أربعاً.

وممّا لا شك فيه أنَّ السنة النبوية الشريفة تفسر ما جاء به الكتاب العزيز ، وما حديث الغدير إلّا تفسير لهذه الآية الكريمة يفصِّل ما تضمنته بوضوح لا لبس فيه ، أما صرف معنى الولاية إلى النصرة ، والحب ، وما شابههما من معانٍ ، فهو تأويل بلا دليل ، وتوجيه لمعنى آيات الذكر الحكيم بتمحل ، وابتعاد عمّا يحتمله اللفظ من معنى ، ليتفق مع عمل السلف ، وآرائهم ـ وإن خالفوا الكتاب والسنة ـ وهو بالتالي تحريف معنوي لما جاء به القرآن المجيد.

ويؤيد ما ذهب إليه الشيعة من المقصود بالولاية بعض ما رواه السنة في سبب نزول الآية الكريمة :

عن عمّار بن ياسر ، قال : وقف على علي بن أبي طالب سائل ـ وهو راكع في


تطوع ، فنزع خاتمه ، فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعلمه بذلك ، فنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» (١).

عن أبي ذر الغفاري ، قال : أما إنّي صليت مع رسول الله يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله ، فلم يعطني أحد شيئاً. وكان علي راكعاً ، فأومى إليه بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رفع رأسه إلى السماء ، وقال : «اللهم إنَّ أخي موسى سألك فقال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(٢) ، فأنزلت عليه كتاباً ناطقاً : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(٣) ، اللهم وأنا محمد نبيك ، وصفيك ، اللهم فاشرح لي صدري ، ويسِّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً أخي اشدد به أزري».

قال : فوالله ما استتم رسول الله الكلام حتى نزل جبرائيل من عند الله ، وقال : يا محمد ، هنيئاً ما وهب لك في أخيك. قال : وماذا يا جبرائيل؟. قال : أمر الله أمتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٢٢٣ ، مجمع الزوائد ٧ / ١٧ ، المعجم الأوسط ٦ / ٢١٨.

(٢) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٢.

(٣) القصص ٢٨ : ٣٥.


الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١).

وهذان الحديثان واضحي الدلالة على ما ذهب إليه الشيعة من إرادة ولاية التصرف من معنى الولي ، لنص الأول منهما بما تضمنه حديث الغدير ، ونص الثاني على أنَّ نزول الآية الكريمة كان استجابة لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما دعا به موسى لأخيه هارون عليهما‌السلام ، فولاية علي عليه‌السلام في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كولاية هارون في أمة موسى عليهما‌السلام ، ولا شك أنّ ولاية هارون عليه‌السلام كانت ولاية تصرف ، لأنَّه كان نبياً ، والذي يفهم من نص حديث المنزلة أنَّ ما لهارون عليه‌السلام ثابت لعلي عليه‌السلام باستثناء النبوة (٢).

والآية الثانية بينت فضل من يلتزم بالولاية التي نصت عليها الآية السابقة لها ، وهي ولاية الإمام علي عليه‌السلام الذي تصدَّق بخاتمه حال الركوع ، فوضت الآية الكريمة الذين يتولونه بأنَّهم حزب الله ، وما ذلك إلّا لأنَّهم أطاعوا الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التزامهم بولاية الإمام علي عليه‌السلام ، وهي الولاية المتفرعة عن ولايتهما ، والمتممة لها ، ولم تمل بهم الأهواء ، ولم تؤثر فيهم نزعات الجاهلية ، بل آثروا أوامر الله تعالى ، والتزموا بها ، ولهذا الإلتزام ، ولما تمسكوا به من أوامر الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، تحقق لهم وعد الله تعالى بالنصر والغلبة.

إقرار ودعاء :

بعد أن استعرض الإمام علي الهادي عليه‌السلام بعض آيات الذكر الحكيم التي نزلت في جده المرتضى عليه‌السلام ، إنتقل إلى الدعاء ، فاقتبس من أدعية القرآن الكريم آيتين

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٢٣٠ ، نظم درر السمطين ٨٧.

(٢) راجع للمؤلف كتاب حديث المنزلة ، موضوع : (دلالة حديث المنزلة) ص ٦١.


تلائمان غرضه.

تضمنت الآية الأولى الإقرار بما أنزل الله تعالى ، والإيمان به ، والإلتزام باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ما جاء به من عند الله عزوجل ، ويشمل ذلك ما مرَّ من جهاد المرتدين ، ومن الولاية للإمام علي عليه‌السلام التي نزل بها الذكر ، وأكدتها السنة في مواقف عديدة ، والدعاء إلى العلي القدير أن يجعلنا من الشاهدين ، بالإيمان بما أنزل الله تعالى ، والشاهدين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما بلّغ ، ثم الشهادة على من خالف ذلك من الأمة بأنَّه لم يطع الله عزوجل ورسوله فيما أمر به ، بعد التبليغ ، وقيام الحجة بالدليل.

وقد تضمنت الآية الثانية الدعاء ، والإبتهال إلى الله تعالى بأن يثبتنا على ما اعتقدنا به ممّا جاء في الكتاب والسنة ، بما فيه اختصاص الإمام علي عليه‌السلام بقتال المرتدين ، وولايته للأمة ، وأن يشملنا بتوفيقه ، كي لا نتبع الأهواء بمخالفة ما جاء فيهما ، فتزيغ قلوبنا ، ونميل عن الإيمان ، ونحيد عن الطريق القويم.

والله عزوجل لا يزيغ قلب أحد عن الهداية ، ثمَّ يعاقبه على ميله عن الهدى ، فقلب الإنسان يزيغ إذا اتبع هواه ، وأعطى قياده للشيطان ، واتبع وساوسه ، وبذلك يحرم نفسه من توفيق الله تعالى ، ويزيغ قلبه ، فالدعاء هنا طلب للمساعدة على الثبات ، وطلب الرحمة من الوهّاب الذي لا نفاد لعطائه.

لا شك أنَّ كل ما جاء به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حق ينبئ عن إرادة الله تعالى ، والتبليغ بها ، لأنَّه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)، ومن ذلك ما أخبر به عن نزول هذه الآيات الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام ، وما بلَّغ به الأمة من فرض ولايته على كل مؤمن ، فمن عارض الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، ولم يذعن لما أمر به ، فهو راد على الله تعالى ، معارض لما أمر به ، وفرضه على عباده ، وحائد عن الحق الذي جاءت به الشريعة ، وبذلك يستحق اللعن.


والمستكبر الذي لم يذعن لولاية الإمام علي عليه‌السلام تكبّراً ، واعتداداً بنفسه ، بعد قيام الحجة عليها من الكتاب والسنة ، وكذلك التكذيب والكفر بما قام عليه الدليل فيها ، يستحق مرتكبه اللعن لأنَّه رادٌّ عليهما.

ومن حاد عن الحق فهو ظالم ، فالمعارض للولاية ، والمستكبر ، والمكذب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكافر بما جاء به من عند الله كلُّهم من الذين حادوا عن الحق ، وظلموا ، وهم من مصاديق الآية الكريمة ، وسيعلمون غداً منقلبهم يوم الحساب ، إذ ينتظرهم الجزاء العادل ، وسيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ولا مجال يؤمئذٍ لأن يدفع الإنسان عن نفسه بتأويل باطل ، أو تعصب ، وعناد يموِّه بهما ، هناك تتكشف الحقائق ، فلا مكان للزيف والتمويه ، وسيعرف من خالف الكتاب ، والسنة ، وتحدّاهما ، وحرَّف الكلم عن مواضعه ، بأنَّه ظلم نفسه قبل أن يظلم أحداً ، لما اختاره لها من سوء المنقلب.


زهد وإيثار

«السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وأول العابدين ، وأزهد الزاهدين ، ورحمة الله وبركاته ، وصلواته وتحياته ، أنت مطعم الطعام على حبه مسكيناً ، ويتيماً ، وأسيراً ، لوجه الله لا تريد منهم جزاءً ولا شكورا (١) ، وفيك أنزل الله تعالى : * (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢) *» :

اللغة : الزهد في الشي : خلاف الرغبة فيه ، تقول : زَهِدَ في الشي (بالكسر) ، زُهداً ، وزهادة : بمعنى تركه ، وأعرض عنه ، فهو زاهد.

وفي معاني الأخبار : الزاهد : من يحب ما يحب خالقه ، ويبغض ما يبغض خالقه ، ويتحرج من حلال الدنيا ، ولا يلتفت إلى حرامه (٣).

آثر : فضَّلَ وقدَّم.

الخصاصة : الفقر.

الشح : حرص النفس على ما ملكت ، وبخلها به (٤).

يُوقَ : يدفع عنه ، يمنع عنه (٥).

__________________

(١) إشارة لما تضمنته سورة الإنسان.

(٢) الحشر ٥٩ : ٩.

(٣) مجمع البحرين.

(٤) لسان العرب.

(٥) مجمع البيان.


الزهد ونظرة الإسلام إليه :

تحدثنا عن كون الإمام علي عليه‌السلام : أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وأول العابدين ، في فصل مستقل لكل منها ، وجاء الدور للحديث عن زهده :

لقد اتخذ المتصوّفة من الزهد جانباً سلبياً ، حيث جعلوا من مبادئهم الإعراض عن الدنيا إعراضاً تاماً ، يتركون فيه العمل ، ويتفرغون للعبادة ، ويقيمون طقوسهم الدينية على هذا الأساس ، ولهذه الظاهرة سلوك مشابه لدى الرهبان من النصارى ، وهو سلوك بعيد عن الآفاق التي جاء بها الإسلام ، وعن مبادئه القيِّمة التي تضمن للإنسان الصلاح في النشأتين معاً ، فمبادئ الإسلام تقرر مبدأ : «اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً» ، وترى أنَّ «من لا معاش له ، لا معاد له» وأهم ، وأوضح من هذا القول وذاك قوله عزوجل : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(١).

فالتفرغ للعبادة فقط ، والإعراض عن الدنيا إعراضاً تاماً ، وترك ما أحله الله من زينتها ، ومباهجها ، على الطرق التي تعتمدها المتصوفة من المبتدعات التي لا يقرها الإسلام ، فهذا السلوك يوقف عجلة التقدم إذا ساد في مجتمع ما ، ويحرم المجتمع من طاقات وإمكانات مجموعة من أبنائه ، وتبقى هذه المجموعة عالة على المجتمع تثقل كاهله ، بدل أن تستخدم طاقاتها لتنمية المجتمع وتطوره ، وهذا لا يتلاءم مع أهداف الإسلام ، ونظرته في تطوير المجتمع ، وتوفير الخير والسعادة لأبنائه.

ولا يحبّذ الإسلام ـ في الوقت ذاته ـ أن يتجه أبناء المجتمع اتجاهاً مادياً صرفاً ، بحيث يسيطر الجشع على مشاعر أبنائه سيطرة تنسيهم ما جاء به دينهم

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٧٧.


الحنيف من مثل وآداب ، وتوجههم نحو المادة فتكون الدنيا أكبر همهم ، وهدفهم الأسمى الذي لا يشعرون بغيره ، لأنَّ هذا الإتجاه يمسخ أبناء المجتمع ، فيسلب عنهم الشعور بالمسؤولية ، ويفسح المجال لانتشار الجرائم ، وإشاعة الفاحشة ، وهذا ما نراه اليوم في المجتمعات المادية ، حيث تنحسر المثل ، وتطغى الأنانية في ظل حب المادة ، والاعتزاز بها ، لتصبح الهدف الأسمى الذي يسوِّغ أبشع الجرائم من أجل نيلها ، فتقتل الملايين ، وتستعبد الشعوب ، وينهب الضعفاء ، وما إلى ذلك من المآسي والآلام التي تلم بشرائح كبيرة من المجتمع البشري.

أمّا الإسلام ، فيختار الطريق الوسط المعتدل لمعتنقيه ، فهو يفسح المجال للإنسان لأن يكتسب ، ويعمل ، ويستثمر في الحدود التي تؤدي إلى تحقيق الرفاه والسعادة للفرد وللمجتمع ، بتظافر جهود أفراده ، وتعاونهم دون المساس بحقوق الآخرين ، وفي الوقت ذاته لا يغفل الآخرة ، فعلى المؤمن أن يستغل فرصة وجوده في الدنيا بالتوجه إلى الله عزوجل ، والإستزادة من العبادة ، والطاعة ، وتجنب المعاصي ، وأن يثابر في ذلك ، ليضمن النجاة والفلاح في الآخرة ، ولا ننسى ما ذكرناه سابقا من أن كل عمل يقوم به الإنسان خدمة لمجتمعه هو عبادة إن أراد به وجه الله عزوجل ، فأعمال التجارة ، والزراعة ، والصناعة ، وبناء المؤسسات الخيرية ، كلها عبادة لأنَّها توفّر للفرد وللمجتمع على حد سواء الرفاه والخير.

فالزهد في الإسلام : هو الإلتزام بحدود الشريعة الإسلامية ، وعدم التكلّف لملذات الحياة ، وعدم الإنهماك في أمورها المادية ، والعمل والسعي باعتدال للترفيه عن النفس ، وعن أبناء المجتمع ، مع الإهتمام بالآخرة ، والسعي لنيل السعادة فيها ، ويتضح لنا هذا المعنى من المحاورة الآتية التي جرب بين الإمام علي عليه‌السلام وأحد أصحابه :


دخل عليه‌السلام في البصرة على العلاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلمّا رأى سعة داره ، قال : ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟. وبلى ، إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذاً أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد.

قال : وما له؟.

قال : لبس العباءة ، وتخلّى عن الدنيا.

قال : عليَّ به. فلمّا جاء ، قال : يا عُدَيَّ نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك؟!. أترى أنَّ الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها؟!. أنت أهون على الله من ذلك.

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك!.

قال : ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنَّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدِّروا أنفسهم بضَعَفَة الناس ، كي لا يتبيَّغ بالفقير فقره (١).

فالتنعّم بدار واسعة في حدود ما رسمه الشرع الشريف ، يكسب الإنسان أجر الآخرة ، والذي يعيش منقطعاً عن أهله ، تاركاً ملذات الحياة ، فإنه عدوَّ نفسه ، قد أعطى قياده للشيطان ، فأبعده عن الطريق الصحيح ، وهل حرَّم الله تعالى على المؤمن أن يكون إجتماعياً ، يرعى عياله ، ويسعدهم بكده ، فيوفر لهم العيش السعيد؟!. وأن يتعاون مع أبناء مجتمعه ، لغرض بناء مجتمع أفضل ، يسوده الرخاء والخير؟!. وهل ذلك إلا عبادة يثيب الله تعالى عليها المؤمنين المخلصين؟. لقد خلق الله عزوجل ما خلق من نعم الدنيا وملذاتها للبشر كافة ، ليتمتعوا بها ، ولم يشترط لذلك

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ١٨٧.


إلّا أن يكون التمتع بها في حدود ما يحل في الشريعة المقدسة.

زهد علي عليه‌السلام :

لقد تقشف الإمام علي عليه‌السلام في مأكله ، وملبسه ، ومسكنه ، فعاش يأكل خبز الشعير بنخالته ، يأتدم معه باللبن أو الملح ، ولبس مدرعة استحيا من راقعها ـ على حد تعبيره ـ وهو ابنه الحسن عليه‌السلام ، فما اتخذ من غنائمها وفراً ، ولا أعد لبالي ثوبيه طمراً ، ولا بنى قصوراً فخمة ، وذلك أمرٌ يختص به لمكان المسؤولية التي كان يتحملها بعد أخيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنَّه خليفته الذي يتحمل أعباء الرعاية الأبوية للأُمّة ؛ ولأنَّه المسؤول الأول عنها ، فقد أملت عليه ظروف مجتمعه ذلك النوع من العيش.

عاش عليه‌السلام في مجتمع لم تزل نزعات الجاهلية متغلغلة في أعماق أبنائه ، والناس بين فقير لا يجد لقمة العيش لسد رمقه ورمق عياله ، ولا يملك داراً تقيهم الحر والقر ، وبين من يملك الملايين ، ويبني القصور الفخمة ، ويكدس سبائك من الذهب والفضة ، فما الذي ننتظر من إمام العدل؟ وكيف سيتصرف؟ أم كيف يعين الضعفاء ، فيخفف عنهم شظف العيش وآلام الحياة؟. إنَّ سيرته العطرة تجيب على هذه التساؤلات ، وعلى كل ما يخطر على البال من تساؤلات غيرها ، فهو يواسي الفقراء ليخفف عنهم آلامهم ، ثم لا يكتفي بذلك ، بل يعمل ، ويجهد نفسه ليحصل على المال ، وينفقه عليهم ، ليساعدهم على مكاره الدهر ، فيحمل إليهم الحبوب ، والسمن ، واللحم ، ويلعق بيده يتاماهم العسل.

فزهد الإمام علي عليه‌السلام ليس ابتعاداً عن معترك الحياة ، ولا ابتعاداً عن أبناء مجتمعه ، يستصلح الأراضي ، ويحفر فيها الآبار ، ويعمل فيها بيده ، يغرس ، ويحصد


لينفق ريعها على الفقراء ، ولم يمنعه الزهد من المطالبة بحقه المغتصب في الخلافة ، كما لم يمنعه من ممارسة مسؤولياته عندما تولاها ، فأقام العدل ، وقضى بين الناس ، وحارب البغاة ، جمع بين دنيا الخلافة ، وبين الزهد ، فلا دنيا الخلافة فتنته ، ليفارق ما كان عليه من الزهد ، ولا الزهد شغله عن مسؤوليات الخلافة ، بل كان كل منهما وظيفة مستقلة يؤديها على أكمل وجه ، فكانت سيرته مصدر خير وعطاء ، وهو رب عائلة يرعى شؤونها ، وهو راعي أمة يدير حياتها السياسية ، والإقتصادية ، والإجتماعية ، ومع ذلك لم يفتتن بشي من بهارجها ، وزخارفها.

إيثار المعوزين :

روى المحدثون والمفسرون قصة نزول سورة الإنسان في أهل البيت عليهم‌السلام بصور مختلفة في اللفظ ، متفقة في المعنى ، مع كثرة طرق روايتها (١) ، وإليك ملخصها :

مرض الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فنذر الإمام علي عليه‌السلام أن يصوم ثلاثة أيام إن برئا من مرضهما ، ونذرت البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام أن تصوم ثلاثاً ، ونذر الحسنان عليهما‌السلام أن يصوما ثلاثاً ، وكذلك نذرت خادمتهم النوبية فضة.

برأ الحسنان عليهما‌السلام من مرضهما ، فوفا أهل البيت عليهم‌السلام وخادمتهم بالنذر ، وصاموا ، فجاء الإمام علي عليه‌السلام بثلاثة أصوع من الشعير ، ولم يكن عندهم شي من الطعام سواها.

__________________

(١) أسباب النزول ٢٩٦ ، تفسير القرطبي ١٩ / ١٣١ ، ذخائر العقبى ١٠٢ ، شواهد التنزيل ٢ / ٣٩٤ ، فضائل الخمسة ١ / ٢٥٤ عن عدد من المصادر ، كفاية الطالب ٣٤٥ ، المناقب ٢٦٧ ، نور الأبصار ١١٢ ، ينابيع المودة ١ / ٢٧٩.


فطحنت فضة صاعاً لليوم الأول ، وخبزته ، ووضعوا الخبز عند الإفطار ، فجاءهم مسكين ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وطويت تلك الليلة على الجوع ، لم يذق فيها أهل البيت عليهم‌السلام سوى الماء.

وفي اليوم الثاني ، صنعت الخبز ، ووضعهوا للإفطار ، فجاءهم يتيم ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وأفطروا على الماء.

وفي اليوم الثالث ، صنعت الخبز ، ووضعوه للإفطار ، فجاءهم أسير ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وأفطروا على الماء ، وهكذا بقي أهل البيت عليهم‌السلام وخادمتهم فضة ثلاثة أيام بدون طعام ، يقدمون طعامهم للمحتاجين ، ويفطرون على الماء ، فنزلت فيهم سورة الإنسان ، تنوِّه بفضلهم ، وتبيِّن ما لهم عند الله عزوجل من الدرجات الرفيعة ، والجزاء الجميل ، والفضل الجزيل على ما تحمّلوا من الجوع في سبيله من أجل إشباع المحتاجين.

إنَّ تقديم المعوزين على النفس وإكرامهم بما هي في حاجة ماسّة إليه ، بسبب قلة ذات اليد ، ليس أمراً يسيراً ، بل يحتاج إلى مجاهدة النفس ، لمنع ما تبخل به ، وتحرص عليه ممّا تمس إليه حاجتها ، وهذا لا يتأتى لكل أحد ، بل يحتاج إلى درجة رفيعة من الإيمان ، والجود مع اليسار قد لا يكون أمراً عسيراً ، ومع ذلك نرى كثيراً من الناس يمتنعون عنه.

لقد ضرب أهل البيت عليهم‌السلام المثل الأعلى في الإيمان في جميع تصرفاتهم ، فلم يكن بدعاً أن يتصرفوا بشكل يعجز عن الإتيان به غيرهم ، لذا نراهم دائماً يضربون أروع الأمثلة في الإيثار ، والتضحية ، وتحمل الآلام ، والشدائد ، لتأدية طاعة خالصة لله تعالى ، وبذلك نالوا خير جزاء المحسنين ، وأنزل الله عزوجل فيهم من القرآن المجيد ما يشيد بهم ، ويعدهم الأجر الجزيل.


لقد رأينا في هذه الفقرة من الزيارة صورة عن إيثار أهل البيت عليهم‌السلام ، وخادمتهم فضة التي نالت بفضل تربيتهم لها ما نالته من عظيم المنزلة.

وأمامنا الآن آية أخرى نص الإمام الهادي عليه‌السلام على نزولها فيهم ، وهو وارث علم الكتاب عن آبائه الطاهرين عليهم‌السلام.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، قال : نزلت في علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين (١).

وعن أبي هريرة ، قال : إنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الجوع ، فبعث إلى بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلّا الماء. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لهذا الليلة؟. فقال علي : أنا يا رسول الله. فأتى فاطمة ، فأعلمها. فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصبية ، ولكنا نؤثر به ضيفنا. فقال علي : نوِّمي الصبية ، وأطفئي للضيف السراج. ففعلت ، وعشى الضيف ، فلما أصبح ، أنزل الله عليهم هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ) الآية (٢).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٣٣٢.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ٣٣١ ، وقد روى هذه الرواية عن أبي هريرة المفسرون وأصحاب الصحاح والسنن ، ورواياتهم تختلف في تحديد من قام بهذا العمل فنزلت فيه الآية الكريمة ، فبعضها تقول : رجل ، ولم تحدد من هو ، وبعضها الآخر تقول : رجل من الأنصار.


لا يستوي المؤمن والفاسق

«وأنت الكاظم للغيظ ، والعافي عن الناس ، والله يحب المحسنين ، وأنت الصابر في البأساء ، والضرّاء ، وحين البأس ، وأنت القاسم بالسوية ، والعادل في الرعية ، والعالم بحدود الله من جميع البرية ، والله تعالى أخبر عمّا أولاك من فضله بقوله : * (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(١)» :

اللغة : كظم الرجل غيظه : إذا اجترعه ، كظم ، يكظم ، كظماً : رده ، وحبسه ، فهو رجل كظيم (٢).

البأساء : من البأس ، أو البؤس ، والضراء : من الضر ، وقيل : البأساء : القحط ، والجوع ، والضرّاء : المرض ، ونقصان الأنفس (٣) والبأس : الشدة في الحرب (٤).

تتضمن هذه الفقرة من الزيارة وما بعدها جملة من صفات المؤمنين ، وهذه الصفات تصلح أن تكون معياراً ومقياساً لمدى إيمان الإنسان ، حيث تتعلق بالنزعات الفطرية التي لا يمكن التحلل منها إلّا بقوة الإيمان ، فالإنسان بطبعه ـ مؤمناً كان أو غير مؤمن ـ يميل إلى الإنتقام ممن يغيظه ، ويعتدي عليه ، ويميل إلى

__________________

(١) السجدة ٣٢ : ١٨ ـ ١٩.

(٢) لسان العرب.

(٣) مجمع البحرين.

(٤) الصحاح.


مقابلة الإحسان بالإحسان ، والإساءة بالإساءة ، ويميل إلى الجزع عند النوائب ، وما شاكل ذلك من النزعات الذاتية ، التي لا يملك الإنسان زمام نفسه عندما يواجهها ، إلّا إذا كان مؤمناً ، قد روَّض نفسه على مخالفة الهوى ، والصمود أمام الصعاب والمكاره.

وقد تم شرح مضمون هذه الفقرة في موضوع : (من مظاهر إيمان الإمام علي عليه‌السلام) (١) ، ولا مزيد على ما ذكر هناك.

يجمع هذه الصفات عنوان واحد هو (الشدائد) ، والصبر عند الشدائد من سمات المؤمنين.

والجزع من نزعات النفس البشرية ، وهو يؤدي إلى الإنهيار ، والفشل ، والوهن ، فيصيب الإنسان الجزوع ما لا يحمد عقباه بوهنه ، وانهياره أمام الشدائد التي تلم به.

أمّا الصابر فإنَّه يقف أمام الشدائد بحزم وثبات ، ويتعامل معها بتعقّل وروية ، ويصل بذلك إلى أحد أمرين : فإمّا أن لا يضيف إلى مصيبته مصيبة أخرى ، بما يجنب نفسه من نتائج الجزع. أو يتخلص ممّا حلَّ به بالثبات ، وحسن التصرف.

والصبر من الصفات الحميدة التي يؤجر الله تعالى عليها عباده : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(٢) ، وقال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(٣) إلى غير ذلك ممّا وعدهم الله تعالى ، وأعده لهم.

ويتجلى الصبر بأعلى مراتبه في سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وهو يواجه أحرج

__________________

(١) راجع ص ١٥٩.

(٢) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٣) البقرة ٢ : ١٥٥.


المواقف ، وأصعب المحن ، فكل سيرته أمثلة رائعة ، ودروس بليغة لصبره وأناته ، وحسن تصرفه في مواجهة المشكلات والصعاب ، ولا فرق في ذلك بين ما حلَّ به في السلم أو الحرب ، وعندما زوي عنه حقه في الخلافة ، أو عندما ألقت إليه زمامها ، وعندما كان يرى الأمور تسير على ما يرام ، أو عندما احلولك الأفق ، وتعثَّرت مسيرة الخلافة ، فأثيرت الفتن ، وبدا أنَّ عاصفة هوجاء تعصف بكيان الأمة ، وهي تريد أن تمحق كل ما تبقى لديها من المثل والأخلاق الكريمة ، وقد تقدم الحديث عن صبره في موضوع : (صبر علي عليه‌السلام) (١).

العادل في الرعية :

القسمة بالسوية ، والعدل في الرعية ، من الأمور التي يصعب على الحاكم الإلتزام بها ، ورعايتها ، لأنَّهما يصطدمان بميله النفسي إلى أقربائه ، وأحبائه ، وكل إنسان ـ في العادة ـ يفضِّل ذويه ومحبيه بصورة غريزية ، لا إرادية ، فيجد نفسه مدفوعاً إلى ذلك التفضيل شاء أم أبى ، ولا يتحلل من هذا الميل إلّا من اتصف بنكران الذات ، وروَّض نفسه على مخالفة الهوى بتقواه ، وإيمانه ، وثباته على العقيدة.

وهنا ترجح كفة الإمام علي عليه‌السلام رجحاناً يجعل العدل والقسم بالسوية مقترنين باسمه ، لا ينفكان عن صفاته ومكارمه بحال .. فالذي لا يفضل نفسه على غيره في العطاء ، كيف ينتظر منه أن يفضل قريباً على بعيد؟! أم كيف يفضل صحابياً على آخر ، أو على تابعي؟! أم كيف يفضل عربياً على مولى؟!. الكل عنده في شرعة الحق سواء ، «وكلهم لآدم ، وآدم من تراب» ، و «لا فضل لعربي على

__________________

(١) راجع ص ١٢٥.


عجمي إلّا بالتقوى» ، و (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(١) ، أجل ، كلهم عباد الله يدينون بدين واحد ، ويعبدون ربّاً واحداً ، ولا يمتاز أحدهم بالفضل إلّا بمقدار ما يقدمه لدينه ، ولأمته من خير وعطاء مبتغياً به وجه الله ، وما يتحلى به من التقوى والصلاح.

تلك هي نظرة الإسلام للجميع ، وعلى وفقها كانت سيرة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ساوى بين مستحقي العطاء ، لم يفرق في ذلك بين مسلم وآخر ، واستمرّت هذه السيرة إلى بداية تولّى عمر الخلافة ، ولكنه عدل عن هذه السيرة ، ورأى أن يفضِّل بعض المسلمين على بعض في العطاء ، فأنشأ نظاماً طبقياً ، قسَّم فيه المسلمين مراتب ، وأعطى كل واحدٍ منهم حسب المرتبة التي صُنِّف فيها ، وتبعه عثمان على هذه السيرة.

وقد أسرف عثمان في سياسته المالية ، فاستأثر هو وبنو أمية بالأموال أيام خلافته ، ووهب الأموال لبعضهم بدون حساب ، فحصل من ذلك ثراء عريض لفئة من الناس بدون استحقاق ، وعلى حساب غيرهم من أبناء الأمة من المستضعفين المحرومين ، وقد وهب عثمان ـ إلى جانب ذلك ـ الهبات الكبيرة لبعض الصحابة بغية إسكاتهم عن معارضة سياسته المالية هذه ، وكمِّ أفواههم عنه ، أمّا الذين رفضوا استلام الأموال إلّا بحقها ، واعترضوا على هذه السياسة ، فقد حاول إسكاتهم بما استعمله من القسوة ، والبطش ، والنفي ، بسبب هذه المعارضة ، وكانت الإضطرابات تتفاقم بسبب هذه المخالفات ، وغيرها إلى أن انتهت بمقتل الخليفة.

وعندما تولى الإمام علي عليه‌السلام الخلافة بعد مقتل عثمان ، أعاد الأمور إلى نصابها ، وأرجع الناس إلى العمل بسيرة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فساوى بين جميع

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.


المسلمين في العطاء ، لم يفضل أحداً على غيره لأي اعتبار زائف ، وقال لمن عاتبه في ذلك ، وطلب منه أن يفضل البعض لاستمالتهم إليه : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ، والله ما أطور به ما سمر سمير ، وما أمَّ نجم نجماً. لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنّما المال مال الله؟!. ألا وإنَّ إعطاء المال في غير حقه تبذير ، وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ، ويهينه عند الله» (١).

ولم يكتف الإمام علي عليه‌السلام بالعودة إلى السنّة في توزيع الأموال ، بل أعلن عن عزمه على استرداد الأموال المنهوبة ، والتي وهبت في العهد السالف بدون حق ، ليعيد الحق إلى نصابه باسترجاع أموال المحرومين ، وتوزيعها عليهم ، وهذا ما تقتضيه سنن العدل ، والإنصاف ، ويقرّه الشرع المقدس ، فأعلن سياسته في الأموال المأخوذة ، وملك به الإماء ، لرددته ، فإنَّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق» (٢).

ولتسويته في العطاء اقتداءً بالسنة النبوية الشريفة ، وإعلانه عن عزمه على استرجاع الأموال التي أخذت بغير حق ، تمرد عليه كل من ضربت مصالحه الشخصية ، وشعر أنَّه سيحرم من الإمتيازات التي منحت له بدون حق ، وأنَّ ما كسبه من أموال المستضعفين سيسترد منه ، ليعاد إلى أهله ، فنكث طلحة ، والزبير ، ومن تبعهما البيعة ، والتحقت بهما عائشة ، معلنة التظلم لعثمان ، بعد أن ألّبت الناس عليه ، وحرضتهم على الثورة ، وامتنع معاوية عن أخذ البيعة له ، واستقل بالشام ، فكانت

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٦.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٤٦.


حرب الجمل ، وكانت الحرب في صفين ، وما تبعهما من مآس.

ولكن الإمام علياً عليه‌السلام مادام على النهج القويم ، ذلك النهج الذي اختطه ، وطبقه الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّه لم يكترث لأيَّة معارضة ، ولم يستوحش حتى لو بقي على طريق الحق وحده ، أو مع قلة ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى ، لأنَّ طريق الحق يناقض النزعات الفردية ، والمطامع الشخصية ، ولذلك يقلّ سالكوه ، ويكثر مناوئوه ، ثبت على السير في هذا الطريق ، وإن دفع الثمن غالياً ... بدأ المسيرة بالتطبيق على نفسه وذويه ، فكان يأخذ من العطاء ما يعطيه لأي فرد من المسلمين الذين لهم فيه حق ، ويعطي ولديه الحسن عليه‌السلام ، والحسين عليه‌السلام بقدر ما يعطي مولاه قنبر ، وقدر ما يأخذ هو ، أو أي مسلم آخر ، إذ لا فرق بين عربي وعجمي ، ولا بين سيد ومولى ، ويؤكد هذه السيرة قولاً وعملاً في مختلف المواقف.

روى البلاذري بإسناده إلى الحرث ، قال : كنت عند علي ، فأتته امرأتان ، فقالتا : يا أمير المؤمنين [إننا] فقيرتان مسكينتان. قال : قد وجب حقكما علينا ، وعلى كل ذي سعة من المسلمين ـ إن كنتما صادقتين ـ ثمَّ أمر رجلاً ، فقال : انطلق بهما إلى سوقنا ، فاشتر لكل واحدة منهما كرّاً من طعام (١) ، وثلاثة أثواب ـ فذكر رداءً ، وخماراً وإزاراً ـ ، واعط كل واحدة منهما من عطائي مائة درهم ، فلما ولَّتا ، سفرت (٢) إحداهما ، فقالت : يا أمير المؤمنين فضِّلني بما فضلك الله به ، وشرَّفك.

قال : وبماذا فضلني الله وشرّفني؟!.

قالت : برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : صدقت ، وما أنت؟!.

__________________

(١) الكرّ : مكيال لأهل العراق (لسان العرب).

(٢) سفرت : ألقت نقابها (لسان العرب).


قالت : امرأة من العرب ، وهذه من موالي!.

قال [الحرَث] : فتناول شيئاً من الأرض ، ثمَّ قال : قد قرأت ما بين اللوحين ، فما رأيت لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما‌السلام فضلاً ، ولا جناح بعوضة (١).

وموقفه الشهر مع أخيه عقيل عندما طلب منه أكثر ممّا يستحق ، يغني عن كل حديث ، وهو خير شاهد في مجال عدله ، وتسويته في العطاء.

العالم بحدود الله تعالى :

الإمام علي عليه‌السلام أعلم هذه الأمة بعد الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما يتفق عليه المحققون من علماء المسلمين من جميع المذاهب ، وقد مرّ بنا في مواضع متعددة من هذا الشرح ما روي من السنة في أنَّه وارث علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه مستودع علمه ، وعيبة علمه ، وما ثبت تأريخياً من رجوع الصحابة إليه ، وسؤالهم منه في ما أشكل عليهم من معرفته أحكام الدين ، وفهم الكتاب العزيز ، واختصاصه من بينهم بعدم حاجته إلى سؤال أحدٍ منهم ، وهذا يدل بوضوح على أنَّه الأعلم ، والمرجع الذي يحتاجه الجميع.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُرجع إليه الناس ليقضي بينهم ، ويؤيد ما يقضي به ، وقد ولّاه قضاء اليمن ، وشهد له بأنَّه أقضى الأمة ، فقال : «أقضى أمتي علي» (٢) ، وقال : «يا علي أخصمك بالنبوة ، ولا نبوة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ، ولا يحاجّك فيه أحد من قريش : اللهم أنت أولهم إيماناً بالله ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم عند الله

__________________

(١) أنساب الأشراف ١٤٠.

(٢) ذخائر العقبى ٨٣ ، فتح الباري ٨ / ١٢٧ ، كشف الغطاء ١ / ١٦٢ ، ينابيع المودة ٢ / ١٧٣.


مزية» (١).

وفي الأثر ، روي عن عمر بن الخطاب قوله : (علي أقضانا) (٢) وقد مرت الإشارة إلى ما تواتر به النقل من مراجعاته للإمام علي عليه‌السلام ، وما أثر عنه من قول في هذا الشأن.

وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود ، قال : (كنّا نتحدث أنّ أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب) (٣).

وعنه أيضاً ، قال : (أفرض أهل المدينة ، وأقضاها علي بن أبي طالب) (٤).

وعن الشعبي ، قال : (ليس منهم أحدٌ أقوى قولاً في الفرائض من علي بن أبي طالب) (٥) وقد روي هذا النص عن مغيرة (٦).

بين علي عليه‌السلام والوليد :

ذكر المفسرون والمحدثون في سبب نزول هذه الآية قصة شهيرة ، إليك ما رواه الواحدي فيها عن ابن عباس ، قال : قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنا أحدُّ منك سناناً ، وأبسط منك لساناً ، وأملأ للكتيبة

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٨ ، ذخائر العقبى ٨٣ ، فضائل الخمسة ١ / ٢٦٤ عن حلية الأولياء ، كنز العمال ١١ / ٦١٧.

(٢) أنساب الأشراف ٩٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٢ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٩ ، فتح الباري ٧ / ٦٠ ، كشف الخفاء ١ / ١٦٢ ، كنز العمال ٢ / ٥٩٢ ، المصنف لابي أبي شيبة ٧ / ١٨٣.

(٣) أسد الغابة ٤ / ٢٤ ، أنساب الأشراف ٩٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٢ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨ ، فتح الباري ٨ / ١٢٧ ، كشف الخفاء ١ / ١٦٢ ، ينابيع المودة ٢ / ٤٠٥.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٥ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٥ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤.

(٦) فتح الملك العلي ٧٩.


منك. فقال له علي : أسكت ، فإنَّما أنت فاسق. فنزل : (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ). قال : يعني بالمؤمن : علياً ، وبالفاسق : الليد بن عقبة (١) ، ورُوي نزول الآية الكريمة فيهما عن : ابن عباس بطرق أخرى ، وعن عطاء بن يسار ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقتادة ، والسدي (٢).

وروى الكنجي الشافعي وغيره أبياتاً من الشعر قالها حسان بن ثابت بمناسبة نزول هذه الآية الكريمة (٣) ، وهي كما رواها الكنجي :

أنزل الله ـ والكتاب عزيز ـ

في علي وفي الوليد قرانا

فتبوأ الوليد في ذاك خزياً

وعلي مبوأ إيمانا

فليس من كان مؤمناً عرف الله

كمن كان فاسقاً خوانا

فعلي يجزى هناك نعيماً

ووليد يجزى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزياً وعاراً

وعلي لا شك يجزى جنانا

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تؤيد ما جاءت به الروايات من كونه المقصود بالمؤمن في الآية ، كما عرفنا من خلال شرح الزيارة أنَّه سيد المؤمنين.

ولابد من إلقاء الضوء على سيرة الوليد ، لنتعرف على فسقه : روى المؤرخون أنَّ أباه عقبة بن أبي معيط كان في مكة أشد المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى

__________________

(١) أسباب النزول ٢٣٦.

(٢) تجد رواياتهم في : أنساب الأشراف ١٤٨ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٣ / ٢٣٥ ، تفسير القرطني ١٤ / ١٠٦ ، جامع البيان ٢١ / ١٢٩ ، الدر المنثور ٥ / ١٧٧ ، شرح نهج البلاغة ١٧ / ٢٣٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٥٧٢ ، كفاية الطالب ١٤٠ ، لباب النقول ١٥٥ ، المناقب ٢٧٩ ، ينابيع المودة ٢ / ١٧٦.

(٣) كفاية الطالب ١٤١ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٩٣ ، الغدير ٢ / ٤٥ عن عدد من المصادر.


المسلمين ، وكان كثير الأذى له ، وقد اُسر يوم بدر مع من اُسر من المشركين ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله سولم بقتله صبراً ، فاستعطفه ، وطلب منه أن يتركه كغيره من الأسرى ، وقال له : من للصبية؟. فأبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تركه ، وأجابه : النار ، فعُرف الوليد وإخوته : بصبية النار (١).

وقد أعلن الذكر الحكيم فسق الوليد في آية أخرى لقضية سبقت نزول هذه الآية الكريمة ، عرف الوليد بالفسق على أثرها ، وملخص القضية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ، ليجبي منهم الزكاة ، وكان بينه وبينه مفي الجاهلية أمر ، وكانوا قد خرجوا لاستقباله ، فلما رآهم فرق ، وظن أنَّهم يريدون قتله ، فرجع وكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخباره أنَّهم امتنعوا عن إعطاء الزكاة ، وأرادوا قتله ، فأرسل بعثاً لقتالهم ، بينما هم أرسلوا وفداً يحمل إليه الزكاة ، فوصل وفدهم والبعث الذي أرسل لقتالهم خارج المدينة ، فالتقوا بالبعث ، وسألوهم عن سبب خروجهم ، وأقسموا لهم بأنَّ رسول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل إليهم ، وأنَّهم جلبوا زكاتهم ، ليدفعوها إليه ، ثم دخلوا المدينة ، وأدَّوا إليه الزكاة ، وأخبروه بكذب الوليد ، فنزلت عليه الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(٢). (٣)

وعندما ولّاه عثمان الكوفة أيام خلافته ، تجاهر بالفسق ، فكان يشرب الخمر

__________________

(١) البداية والنهاية ٣ / ٣٧٢ ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ١٩٧.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٣) راجع تفاصيل ما أوجز في : الآحاد والمثاني ٤ / ٣٠٩ ، أسباب النزول ٢٦١ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٣ / ٢٢٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٢٣ ، تفسير القرطبي ١٦ / ٣١١ ، تفسير مجاهد ٢ / ٦٠٦ ، جامع البيان ٢٦ / ١٦٠ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١٨ ، ٤ / ١٨ ، ١٧ / ٢٣٨ ، لباب النقول ٣٠١ ، مجمع الزوائد ٧ / ١٠٨ ، المعجم الكبير ٣ / ٢٧٤ ، ١٨ / ٧.


متجاهراً ، وقصة دخوله المسجد سكراناً مشهورة ، وقد صلى بهم صلاة الغداة أربعاً ثم التفت إليهم ، فقال : أزيدكم؟!. وقاء الخمرة في المحراب ، فحصبه الناس ، وأخذوا خاتمه من يده ، وذهبوا به إلى عثمان ، وأقاموا لديه البيِّنة ، فوبَّخهم أولاً ، ثم استدعاه ، وأقام عليه الحد بعد ضغط من كبار الصحابة ، فأقامه الإمام علي عليه‌السلام (١).

فالآية الكريمة تميز بين من عرف بالإيمان الصادق والصلاح ، وبين من تجاهر بالفسق ، وتردفها الآية التالية : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)على نسق وسياق واحد ، لتبين ما أعده الله عزوجل للمؤمن المقصود في الآية السابقة لها ، وأنَّ جزاءه جنة المأوى لما قدَّم من الطاعة لله تعالى في هذه الدنيا.

__________________

(١) تجد تفاصيل ما أوجز في : الغدير ٨ / ١٢١ عن مصادر سنية موثوقة ، وكذلك في : أسد الغابة ٥ / ٩١ ، تهذيب الكمال ٣١ / ٥٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٢٤٨ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٨٩.



من خصائص الولي عليه‌السلام

«وأنت المخصوص بعلم التنزيل ، وحكم التأويل ، ونص الرسول» :

اللغة : أنزل الله الكلام : أوحى به (١) ، والتنزيل : الترتيب ، وبه سمي القرآن ، لأنّه أنزل منجَّماً (٢).

التأويل : إرجاع الكلام ، وصرفه عن معناه الظاهري إلى معنى أخص منه ، مأخوذ من آل ، يؤول : إذا رجع ، وفي حديث علي عليه‌السلام : «ما من آية إلّا وعلمني تأويلها» : أي معناها الخفي ، لما تقرر من أنَّ لكل آية ظهراً وبطناً ، والمراد : أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطلعه على تلك المخفيات المصونة ، والأسرار المكنونة (٣).

مرّ بنا في فصول هذا الشرح أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو مستودع علم النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه تربى في حجره ، ولازمه ملازمة الظل لذيِّه ، وأخذ عنه علومه ، وقد واكب نزول القرآن الكريم من أول آية نزلت ، حينما كان معه في غار حراء عند بدء نزول الوحي عليه ، وحتى تمَّ نزول آخر آية قبيل رحلته إلى لقاء الله عزوجل ، وكان يتلقى منه تأويل الآيات ، وكان يكتب ما ينزل من كتاب الله تعالى عند نزوله ، فكان مصحفه الذي كتبه مرتّباً على نزول القرآن الكريم ، وكان يحفظه عن ظهر قلب ، ثمَّ يعمل به بكل دقة.

__________________

(١) المنجد.

(٢) مجمع البحرين.

(٣) مجمع البحرين بتصرف.


قال عليه‌السلام متحدثاً عن علمه بتنزيل الكتاب المجيد : «والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت ، إنَّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً سؤولاً» وفي بعض الروايات : «ناطقاً ، أو طلقاً ، أو طلقاً سؤولاً» (١).

وقال عليه‌السلام : «سلوني عن كتاب الله ، فإنَّه ليس من آية إلّا وقد عرفت أبليل نزلت؟ أم بنهار؟ أم في سهل؟ أم في جبل» (٢).

وعلم التنزيل يشمل كل ما يتصل بنزول القرآن الكريم ، ونلاحظ أنَّ العلماء عند تفسيرهم لآيات الذكر الحكيم ، يرجعون إلى معرفة ظروف نزول الآية الكريمة ، لمعرفة سبب نزولها ، لأنَّ ذلك يعتبر قرينة ، يفهم معنى الآية على ضوئها ، وترجع المعنى الذي يجب أن تتصرف إليه الآية دون غيره من المعاني ، وما من شك أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام بحكم صلته بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وملازمته له ، وحرصه على الأخذ منه ، وحرص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تعليمه ، فهو أعلم الصحابة بعلم التنزيل ، بل هو المختص به من بينهم.

وإذا كان الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلقى عن طريق الوحي تأويل الكتاب العزيز ، وما فيه من معنىً باطن ، وما حواه من أسرار ، فقد كان يودع كل ذلك عند الإمام علي عليه‌السلام ، ويختصه به من بين الصحابة ، لأنَّه كان يعده لتحمل أعباء الرسالة ومسؤولياتها من بعده ، ليكون للأمة علماً وموئلاً يبيِّن لها ما تختلف فيه ، ويوضح

__________________

(١) تجد مختلف الروايات في : أنساب الأشراف ٩٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٩٨ شواهد التنزيل ١ / ٤٥ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨ ، كفاية الطالب ٢٠٧ كنز العمال ١٣ / ١٢٨ ، نظم درر السمطين ١٢٦.

(٢) أنساب الأشراف ٩٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٧ / ١٠٠ ، ٤٢ / ٣٩٨ ، تفسير القرطبي ١ / ٣٥ ، ذخائر العقبى ٨٣ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨ ، كفاية الطالب ٢٠٨ ، المناقب ٩٤ ، نظم درر السمطين ١٢٦.


لها أحكام التأويل باعتباره المصدر الفريد لهذا العلم.

قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : (إنَّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلّا له ظهر وبطن ، وإنَّ علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن) (١).

وقد عرف ابن مسعود بأنَّه أقرأ الصحابة للقرآن ، وأعلمهم به ، وكان المسلمون من الصحابة والتابعين يرجعون إليه ، ويأخذون عنه ، وهو مدين للإمام علي عليه‌السلام ، لأنَّه أخذ هذا العلم عنه ، وقد روي في الأثر عن ابن مسعود ، قال : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطايا). قال : فقال له رجل : فأين أنت عن علي؟!. قال : به بدأت ، إنّي قرأت عليه (٢).

وممن أخذ عنه هذا العلم حبر الأمة عبد الله بن عباس ، الذي عرف بترجمان القرآن ، والذي أخذ عنه جمع غفير من أئمة التفسير من جميع الفرق والمذاهب الإسلامية ، قال ابن أبي الحديد : (ومن العلوم : علم التفسير ، وعنه ـ أي الإمام علي عليه‌السلام ـ اُخذ ، ومنه فرع ، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لأنَّ أكثره عنه ، وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وإنَّه تلميذه ، وخرّيجه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ، فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط) (٣).

المقصود بنص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو تعيين الإمام علي عليه‌السلام للإمامة والولاية العامة بعده ، واختصاصه بها من بين كبار الصحابة وأجلائهم ، وإلزام المسلمين بها باعتبارها تشريعاً ثابتاً له ، والنصوص التي جاءت في الحديث النبوي الشريف

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٠ ، ينابيع المودة ١ / ٢٢٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٠٠ ، ينابيع المودة ١ / ٢٢٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ١٩.


متعددة ، وهي على نوعين :

١ ـ النصوص التي تصرح بالولاية : كحديث الغدير ، وحديث : «من كنت وليه فعلي وليه» ، وما شابهها.

٢ ـ النصوص التي تدل بصورة ضمنية على الولاية : وهي تشمل كل حديث يدل على أفضلية الإمام علي عليه‌السلام على سائر الأمة ، وأنَّه تالي الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضل ، كالأحاديث التي تدل على أنَّه وارث علمه ، ومستودعه ، وعيبته ، وباب مدينته ، والأحاديث التي تدل على عصمته لأنَّه مع القرآن ، ومع الحق ... إلى غير ذلك من مآثره وفضائله الجمة ، التي اختصه الله تعالى بها ، فنال مراتب من الفضل لم يبلغها غيره ، كل هذه الفضائل تدل بالإلتزام على أحقيته بالخلافة ، والولاية العامة.

وهذين النوعين من النصوص تعدد صدورهما ، وأكدهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرة بعد المرة ، وهو يقتنص كل فرصة للإدلاء بما يراه مناسباً لإظهار ما يتحلى به الإمام المرتضى عليه‌السلام من الفضل ، لتكون له الحجة على الأمة ، وليقطع العذر بالتبليغ والإرشاد ، على أنَّ مآثر هذا الإمام الزكي ظاهرة للعيان تدل عليه بعين الإنصاف قبل صدور النص.

من هنا نلاحظ أنَّ الإمام الهادي عليه‌السلام قرن بين ثلاث من مختصات جده المرتضى عليه‌السلام ، لما بين هذه المختصات من ترابط وثيق ، فإذا كان النص يعيِّن الولي ، فإنَّ من لوازم الولاية التي لا تنفك عنها أن يكون الولي عالماً بالتنزيل وحكم التأويل ، مختصاً بذلك من بين المسلمين ليقود الأمة على هدي الرسالة ، بما أودع عنده من العلم بالتنزيل والتأويل ، وهما يمثلان دستور الإسلام ، وأحكامه ، وآدابه ، وتعليماته في مختلف مجالات الحياة ، والتي تنظم شؤون الأمة ، وتحقق لها السعادة في النشأتين.


المواقف المشهودة

«ولك المواقف المشهودة ، والمقامات المشهورة ، والأيام المذكورة» :

الإمام علي عليه‌السلام أول المجاهدين في سبيل الله تعالى من هذه الأمة ، ومواقفه في الحروب والغزوات التي جرت بين المسلمين والمشركين ، ثم بينهم وبين اليهود ، كانت حازمة وحاسمة ، وقد شهدها وشهد بها الأعداء والموالون على حد سواء ، واشتهرت بين الناس على مدى التأريخ.

وعندما نتحدث عن المواقف البطولية للإمام علي عليه‌السلام فإنَّ حديث البطولات عنه لا يعني طغيان الروح العسكرية ، وما نعهده عند غيره ممَّن عرف بالبطولة والإقدام والشجاعة ، وإذا كانت البطولات تقترن بروح شريرة ، تدفع صاحبها إلى الفتك ، وارتكاب الفضائع بأبشع صورها ، فإنَّ الهدف المادي ، والعصبية العمياء كانا هما الدافعان للغزو ، ولا مانع من إظهار البطولة بأي أسلوب من الوسائل الدنيئة ، وارتكاب الجرائم الموبقة ، والخروج على المبادئ الإنسانية النبيلة.

ولكننا نجد للبطولة مظهراً ومفهوماً عند الإمام علي عليه‌السلام يختلف عنه عند غيره ، لأنَّ البطولة مظهر من مظاهر إيمانه الصادق ، وهي تتفرع عن مبادئه السامية ، فلا اعتداء ، ولا تخريب ، ولا خروج على المبادئ الإنسانية السامية ، التي أقرها الدين الحنيف ، وإذا صح لنا أن نضرب مثلاً للجهاد المقدس الذي خاضه الوصي عليه‌السلام ، فهو كالطبيب الذي يعالج عضواً أصيب بمرض عضال ، فإن تعسر عليه شفاؤه ، وأيس منه ، بتره لضمان سلامة الجسد ، كي لا يسري الداء إليه.

لقد وقف عناة المشركين واليهود حجر عثرة في طريق إنقاذ البشرية من


الضلال ، والأخذ بيدها إلى السعادة في الدارين ، وحاولوا بكل جهد الإجهاز على النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لإعاقته عن انتشال البشرية من الهوَّة السحيقة التي وصلت إليها ، فأعلنتها حرباً شعواء لا هوادة فيها عليه وعلى أتباعه الذين أنقذهم الله تعالى به من الضلال ، فكان وجود هؤلاء خطر جسيم على الإنسانية ، لابد من علاجه بدعوتهم إلى الصراط القويم ، فإن تعسر ذلك ، فالمناجزة للتخلص منهم ودفع خطرهم عن البشرية.

وقد ظهر ذلك واضحاً جلياً في جهاد الإمام علي عليه‌السلام لخصوم الإسلام ، إذ تعامل معهم على أساس إنساني فريد ، استقاه من أخلاق الدين الإسلامي الحنيف ، وتعليماته ، فكان رائده الإصلاح ، وإنقاذ خصمه من هوة الضلال ، فيبدأ بدعوته إلى الله عزوجل لينقذه ، وليجنِّبه كل سوء ، وليضمن له السعادة ، فإن أخفق ، وأصرَّ على عناده ، جاء دور المناجزة ، ولكنه يتعامل مع من يناجزهم الحرب معاملة البَر الرحيم ، فلا يجهز على جريح ، ليزيده ألماً على ألمه ، ولا يتبع هارباً ليزيده رعباً على ما به من الهلع وآلامه ، بل يتركه وشأنه ليراه أفراد العدو هارباً ، فيصيبهم الوهن ، ويقتفي أثره الضعاف منهم ، وتصبح الهزيمة أمر لا مناص منه.

بهذا الخق الرفيع ، وبهذه النظرة الإنسانية التي هي من آداب الإسلام ، مارس الإمام علي عليه‌السلام البطولات ، فكان مثالاً يجب أن يحتذى به ، وقد أعطى للأجيال درساً رائعاً في التضحية والفداء ، وفي السلوك الرسالي الذي ينسجم مع الأسس القويمة للدين الحنيف في جميع الأحوال ، لا يتخلف عنها في أحلك الظروف ، وأحرجها.

والحديث عن بطولات الإمام علي عليه‌السلام يحتاج إلى بحث مفصل ، لا يسعه هذا الموجز ، لذا نكتفي بما اُشير إليه ، وننتقل إلى ما أشارت إليه الزيارة من تلك المواقف البطولية :


واقعة بدر

«يوم بدر» (١) :

بدر : ماء مشهور بين مكة والمدينة ، أسفل وادي الصفراء ، بينه وبين الجار ـ وهو ساحل البحر ـ ليلة (٢) ، يقع جنوب غربي المدينة المنورة ، وهو محط القوافل المتجهة إلى بلاد الشام ، والعائدة منها ، تتوقف فيه لتستقي من آباره ، وتتزود بالماء للطريق ، وفي هذا المكان وقعت معركة بدر الكبرى ، يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة ، إلتحم فيها المسلمون والمشركون ، وباسمه عرفت.

وسبب وقوع هذه المعركة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم بعودة قافلة تجارية لقريش من بلاد الشام ، فأراد الإستيلاء عليها ، لغرض تعويض المسلمين الذين هاجروا من مكة عن أموالهم التي أخذها المشركون في مكة ، فخرج ومعه من المسلمين أكثر من ثلاثمائة ، ومعهم سبعون من الإبل يتعاقبون عليها.

علم أبو سفيان ـ وكان على قافلة قريش ـ بخبر خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين إلى بدر ، فابتعد بالقافلة عنها إلى ساحل البحر الأحمر ، وأرسل إلى مكة من يخبر أهلها بخروج المسلمين للإستيلاء على قافلتهم ، ويطلب منهم إنقاذها.

خرج المشركون لإنقاذ قافلتهم ، وكان عددهم تسعمائة وخمسون ، بينهم مائة

__________________

(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٣٠ ، أيام العرب في الإسلام ٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ١٢٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٥ ، السيرة النبوية ١ / ٤٤٠.

(٢) معجم البلدان ١ / ٣٥٧.


فارس دارع ، ومعهم من الإبل سبعمائة ، فوصلوا بدراً ، وحطوا رحالهم بالقرب منها ، وكانت قافلتهم التجارية التي خرجوا من أجل إنقاذها قد نجت ، ولكنهم أصرّوا على الإشتباك بالحرب مع المسلمين لاستئصالهم بتحريض من أبي جهل.

بدأت المعركة بخروج شيبة ، وعتبة ، والوليد من بين صفوف المشركين ، وطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج إليهم أكفاءهم من قريش ، ليبارزوهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وانتدب عبيدة ، وحمزة ، وعلي عليهم‌السلام ، فبارز عبيدة شيبة ، وبارز حمزة عتبة ، وبارز علي الوليد (١) فقتل حمزة عتبة ، وقتل علي الوليد ، واختلف عبيدة وشيبة بضربتين ، فأصيب عبيدة ، واستنقذه حمزة وعلي عليهما‌السلام ، واشتركا في قتل شيبة.

بان الوهن والفشل في صفوف جيش المشركين بمصرع هؤلاء الثلاثة ، ثم التحم الجشيان ، فكان الإمام علي عليه‌السلام يصول في الميدان مخترقا صفوف المشركين يبدد جموعهم بسيفه ، يبارز ذوي الكفاءة والإقدام منهم ، حتى صرع شطر من قتل يوم بدر من المشركين ، وكانوا سبعين قتيلاً ، وشارك المسلمين في قتل عدد آخر منهم ، بمساعدته المقاتلين الذين يشتبكون معهم.

وعندما رأى المشركون كثرة من قتل منهم لاذوا بالفرار ، ولاحقهم المسلمون يأسرون من وقع في أيديهم منهم ، ويجمعون ما استطاعوا جمعه من المتاع ، فعاد المشركون إلى مكة منكوبين قد أثقلتهم خسائر المعركة من القتلى ، والأسرى ، وما

__________________

(١) هذا ما رواه الشيخ المفيد (قدس سره) في الإرشاد ، وهو يخالف ما روي في المصادر السنية التي تتفق على أنّ عبيدة بارز عتبة ، وحمزة بارز شيبة ، ورواية الشيخ المفيد هذه تتفق مع القواعد العربية في مبارزة المتقاربين بالسن عند القتال ، ويؤيدها برواية أبي جعفر الباقر عن جده الإمام علي (ع) ، الإرشاد ٣٣.


غنم منهم من المتاع ، وعاد المسلمون إلى المدينة منتصرين يصحبون معهم من أسروا من المشركين ، وكانوا سبعين أسيراً ، وما غنموا من أسلاب تلك المعركة من متاع ، وسلاح ، وخيل ، وإبل ، ولم يستشهد من المسلمين سوى أربعة عشر ، ولم يؤسر منهم أحد.



واقعة الأحزاب (١)

«ويوم الأحزاب * (إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)(٢) * وقال الله تعالى : * (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)(٣) ، فقتلت عمرهم `، وهزمت جمعهم ، * (وَرَدَّ اللَّـهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّـهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّـهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)(٤)» :

اللغة : زاغت : الزيغ : الميل. يقال : زاغ ، يزيغ. وزاغ البصر : أي كلَّ. غروراً : غره ، يغره ، غروراً : خدعه (٥).

__________________

(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٤٣ ، أيام العرب في الإسلام ٦٢ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٢٣٣ ، تفسير الميزان ١٦ / ٢٨٤ ، السيرة النبوية ٣ / ٦٩٩ ، شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦٢ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٠.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ١٠ ـ ١٣.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٢٢.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٢٥.

(٥) الصحاح.


المنافقون : هم الذين يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان. والذين في قلوبهم مرض : الشاكين في الإسلام مع إظهارهم كلمة الإيمان (١).

عورة : العورة في الثغور ، والحروب ، والمساكن : خلل يتخوف منه القتل ، وقوله عزوجل : (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): أي ليست بحريزة (٢).

سميت هذه الواقعة باسم الأحزاب لتحزب يهود بني النضير مع قريش ، وغطفان ، وخروجهم لحرب النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش واحد بلغ تعداده أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وكانوا قد اتفقوا مع بني قريظة ـ وهم يهود المدينة ـ على نقض العهد الذي أبرمه هؤلاء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن ينظموا إليهم في حربه ، فاستجابوا ، ونقضوا العهد ، كان ذلك في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة.

استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين في البقاء بالمدينة ، والتحصن بها ، وعدم الخروج منها لمواجهة الأعداء ، فوافقوه على ذلك ، وأشار عليه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق حول المدينة المنورة ، ليصد عنها الأعداء ، فاستصوب رأيه ، وأمر بحفره ، فخفَّ المسلمون لحفره ، وعملوا جميعاً فيه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل معهم في حفره ، وسميت بواقعة الخندق إشارة إليه.

وبينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل في حفر الخندق أخبر المسلمين بأنَّهم سيفتحون اليمن ، وأنَّهم سيسيطرون على مدائن كسرى ، وعرش قيصر.

وبعد أن تم حفر الخندق ، وصل المشركون إلى مشارف المدينة المنورة ، فوجدوا أمامهم هذا الحصن ، ففتشوا عن موضع يستطيعون العبور منه ، فلم يجدوا ، فقال بعضهم لبعض : (إنَّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها) ، وحطوا رحالهم

__________________

(١) التبيان ٥ / ١٣٦.

(٢) كتاب العين.


بالقرب من الخندق.

خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين ، وكان عددهم ثلاثة آلاف ، فنزلوا قرب الخندق من جهة المدينة المنورة ، وجعلوا ظهورهم لجبل من جبالها اسمه : (سلع) ، ولم يكن بين الجيشين فاصل سوى الخندق.

بلغ المسلمين خبر نقض بني قريظة لعهدهم ، وتأليهم مع الأحزاب ، فأصاب الكثير منهم الهلع ، واشتد بهم الخوف ، لأنَّهم أصبحوا بين خطرين ، وتعين عليهم أن يحاربوا على جبهتين :

جبهة خارجية : تتمثل بالجيش الذي عسكر على الجانب الآخر من الخندق ، والذي لم يزل منذ قدومه يفتش عن وسيلة لعبوره.

وجبهة داخلية : تتمثل ببني قريظة الذين نقضوا العهد ، والتزموا للعدو الخارجي بأن يقفوا معه في حربه ، ويعينوه من الداخل حيث كانوا يسكنون حول المدينة.

ثمَّت جبهة ثالثة ليست أقل خطراً من ذينك الجبهتين ، بل ربما كانت في بعض الأحيان تشكل خطراً أكبر ، لأنَّها تفتح الطريق أمام قوى العدوان ، وتنكشف أمامها ، هذه الجبهة تتمثل بالمنافقين والذين في قلوبهم رمض.

بلغ الخوف بكثير من المسلمين أن بلغ الأمر إلى حالة تشبه حالة المحتضر الذي تميل عينيه ، ويضطرب قلبه حتى يبلغ من شدة اضطرابه إلى الحنجرة ، وهي حالة من حشرجة الصدر عند المحتضر المشرف على الموت ، وفي هذه الحال من الشدة ظن المنافقون بأن النصر سيكون حليف الأعداء ، وأن الإسلام سيقضى عليه ، فكانوا يتطلعون إلى غد يظهرون فيه الكفر ، الذي كانوا يبطنونه ، ويعودون إلىل جاهليتهم ، كما ظن الذين في قلوبهم مرض بأنَّ هزيمة المسلمين أصبحت حتمية ،


وأن المشركين سينتقمون من أهل الإيمان.

كان الموقف في غاية الصعوبة والتعقيد ، فالخطر محدق بالمسلمين من الخارج ومن الداخل ، حيث أراد المشركون واليهود الإجهاز على الإسلام ، وحيث كان وجود المنافقين بين صفوف الجيش يثير له المشاكل ، بيما يبثه هؤلاء من دعايات مغرضة ، تفت في عضد المجاهدين ، فكانت هزَّة عنيفة تعرَّض لها المسلمون ، أدَّت بهم إلى اضطراب شديد ، فيما كانت اختباراً لهم بالبلاء.

كشف المنافقون عن دخائل نفوسهم ، وما يبطنون من الكفر ، ومعهم الذين في قلوبهم مرض ، من ضعاف النفوس الذين لم يجد الإيمان مجالاً في أعماقهم ، وذلك عندما مروا بهذه التجربة الصعبة والهزة العنيفة ، فكذبوا ما وعدهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند حفر الخندق من فتح اليمن ، والإستيلاء على مدائن كسرى ، وعرش قيصر ، وقالوا : ليس ذلك إلّا خداع ، وتغرير للوقوف أمام عدو لا يستطيعون مقابلته بالعدة ولا بالعدد ، وقال معتب بن قشير العوفي ـ وهو من رؤوسهم ـ : (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط).

لم يقف المنافقون عند هذا الحد ، بل راحوا يبثون الأراجيف ، وينشرون الخوف والهلع في صفوف المسلمين ، يحثونهم على الفرار من جبهة القتال ، ويؤكدون لهم عدم جدوى البقاء ، والإقامة عند الخندق ، لأنَّ الأمر محسوم ، والنصر والغلبة للكثرة.

ولم يكتف المنافقون والذين في قلوبهم مرض بالأراجيف ، بل عمدوا إلى أسلوب آخر أشد خطراً ، فقد عملوا على إضعاف الجيش بتقليل عدده ، فكانوا يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العودة إلى بيوتهم لحراستها ، مدعين أنَّها مكشوفة أمام


العدو ، وأنَّهم لا يأمنون تركها ، وهو ادعاء كاذب ، لأنَّ المدينة كانت محصَّنة ، ولا منفذ لها إلّا من جانب الخندق ، وقد عجز جيش الأحزاب عن اجتيازه.

الإيمان والتحدي :

هذه الهزة العنيفة التي تعرض لها المسلمون كان لها عند المؤمنين رد فعل مخالف لرد فعل المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، كما وصف الذكر الحكيم حال كل من الفريقين ، وما انطوت عليه سريرتهما ، فالمؤمن عندما تحل به كارثة. يسلم أمره إلى الله عزوجل ، ثمَّ يعمل بجدٍ وثبات وروية ما يراه مناسباً للخروج من المأزق الذي أحاط به ، مستعيناً بالله تعالى ، ومتوكلاً عليه ، ومستمدا منه العون والسداد.

وإذا كان المنافقون والذين في قلوبهم مرض قد أدت بهم هذه الأزمة إلى الإنزلاق في هووة سحيقة ، فإنَّ أثرها في المؤمنين لم يكن سوى الثبات على العقيدة ، بل استفادوا منها درساً بليغاً تمثل في تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أنبأ به عن الله تعالى حول هذا الموقف الحرج ، فلم يزدهم ذلك المأزق إلّا إيماناً وتسليماً ، فانبلج لهم الحق ، ولم يجد الشك طريقا إلى نفوسهم ، بل ازدادوا وثوقاً بما هم فيه من الإيمان ، وازدادوا يقينا.

أما المشركون فقد أقاموا إلى جانب الخندق ما ينوف على العشرين يوماً لم يكن فيها بينهم وبين المسلمين سوى المراماة بالنبل والحجارة ، فتقدم من فرسانهم : عمرو بن عبد ود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطاب بن مرداس ، وأقبلوا نحو الخندق ، فوجدوا فيه مكاناً ضيقاً ، فأقحموا خيلهم فيه بالضرب ، وعبروا منه ، وأخذوا يجولون بخيلهم بينه وبين المسلمين ، وكان عمرو بن عبد ود فارساً شجاعاً ، أصابته جراحات كثيرة في بدر ، منعته من


الحضور في أحد ، فجعل يجول ، ويدعوا المسلمين إلى مبارزته ، ويصرخ فيهم : هل من مبارز؟. فلم يقم أحدٌ منهم لمبارزته ، وقام الإمام علي عليه‌السلام ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجلوس.

أخذ عمرو يعرِّض بالمسلمين ، ويقول : (أيّها الناس إنَّكم تزعمون أنَّ قتلاكم في الجنة ، وقتلانا في النار ، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة؟! أو يقدم عدوّاً له إلى النار؟!) ، فلم يقم أحد لمبارزته إلّا الإمام علي عليه‌السلام ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجلوس ثانية.

فأنشد عمرو قائلاً :

ولقد بححت من الندا

ء بجمعكم : هل من مبارز؟

ووقفت إذ وقف المشيع

موقف القرن المناجز

إنّي كذلك لم أزل

مسترعاً قبل الهزاهز

إنَّ الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز

وللمرة الثالثة لم يقم لمبارزته سوى الإمام علي عليه‌السلام ، فأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مبارزة عمرو ، وقال له : «ادن منّي» ، فدنا منه ، فعممه بعمامته ، وقلده سيفه ، وقال له : «إمض لشأنك» ، ورفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدع بالدعاء له : «اللهم إنَّك أخذت مني عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، فاحفظ عليَّ اليوم علياً ، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين».

برز الإمام علي عليه‌السلام لعمرو ، فقال له عمرو : من أنت؟. فانتسب له ، وقال : أنا علي بن أبي طالب. فقال عمرو : كان أبوك نديماً لي وصديقا ، فارجع ، فإنّي لا أحب أن أقتلك!. فقال له : لكنّي أحب أن أقتلك!. فقال عمرو : يا ابن أخي إنّي


لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك ، فارجع وراءك خير لك!. فأجابه : إنَّ قريشاَ تتحدث عنك أنَّك قلت : لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث إلّا أجبت إلى واحدة منها. قال عمرو : أجل. فدعاه علي عليه‌السلام إلى الإسلام. فقال : دعْ عنك هذه. فدعاه إلى الرجوع بالجيش إلى مكة. فقال : إذاً تتحدث نساء قريش عنّي أنَّ غلاماً خدعني!. فدعاه إلى المبارزة. فقال : ما كنت أظن أنَّ أحداً من العرب يرومها منّي!.

فنزل عمرو عن فرسه ، وعقرها ، وضرب وجهها ، وتجاولا ، فعلت غبرة ، انجلت بمصرع عمرو ، ورأى الناس من الجيشين علياً عليه‌السلام وهو جاثم على صدر عمرو ، يحز رأسه ، ففرّ الفرسان على أعقابهم ، وارتفعت أصوات المسلمين بالتكبير ، مؤذنة بالنصر.

عاد الإمام علي عليه‌السلام وهو منتصر على العدو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستقبله فرحاً مستبشراً ، وقال : «هذا أول النصر» ثمَّ قال : «ذهبت ريحهم ، ولا يغزوننا بعد اليوم ، نحن نغزوهم إن شاء الله». وقال لعلي عليه‌السلام : «أبشر يا علي ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد ، لرجح عملك بعملهم ، وذلك أنَّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا وقد دخله عز بقتل عمرو» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة» (٢).

كان مقتل عمرو بن عبد ود حدثاً حاسماً ، له أثر كبير وخطير في نفوس المشركين واليهود ، بث اليأس في نفوسهم ، وأدركوا أنَّ عبور الخندق أمرٌ مستحيل ، وأنَّ مصير من يعبره مصير عمرو ، وإذا كان الأمر كذلك ، فهل يتعين عليهم أن

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ / ١٩ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٤ ، المستدرك ٢ / ٣٢ ، المناقب ١٠٧.


يرسلوا فرسانهم وأبطالهم للقتل؟!. وما الفائدة من المقام في مثل هذا المكان؟!. وإلى متى؟!. وكيف يؤمَّن لذلك الجيش الكبير ما يحتاجه من ميرة؟!.

كان مصرع عمرو هاجساً أثار التساؤلات ، وأدخل الرعب ، وأدى إلى اليأس ، فانتهى الأمر برجوع الجيش عن المدينة يجر أذيال الخيبة والفشل ، يقول الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري ـ الذي رافق الإمام علياً عليه‌السلام عندما خرج لمبارزة عمرو ـ : (والله ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمرواً ، وتخاذل المشركين بعده إلّا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله : * (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)(١)(٢).

رد الله المشركين والذين تحالفوا معهم عن المدينة المنورة ، وهم يتحرقون من الغيض ، لما نالهم من هذا الغزو الخاسر ، ولأنَّهم لم يحققوا شيئاً طيلة هذه المدة التي قضوها في محاصرتهم المدينة ، بل تحملوا خسائر جسيمة بما هيئوا من السلاح والمتاع ، وما أنفقوا مدة مكثهم عند الخندق ، وقد فقدوا أشجع فرسانهم.

أمّا المسلمون فقد كفاهم الله عزوجل قتال جيش الأحزاب بما تحقق لهم من نصر حاسم على يد الإمام المرتضى عليه‌السلام ، كان سبباً في يأس الأحزاب ، وعودتهم خائبين ، وقد روي أنَّ ابن مسعود كان يقرأ : «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» (٣) ، كما روي عن ابن عباس في قوله : «وكفى الله المؤمنين القتال». قال : كفاهم الله القتال يوم الخندق بعلي بن أبي طالب حين قتل

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٥١.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦٢.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٦٠ ، الدر المنثور ٥ / ١٩٢ ، شواهد التنزيل ٢ / ٧ ، ميزان الإعتدال ٢ / ٢٨٠.


عمرو بن عبد ود (١).

لقد غلبت إرادة الله عزوجل ما حسبه المشركون واليهود من كثرتهم واجتماعهم وتآلفهم سبباً للنصر والغلبة ، وفاتهم أنَّ النصر بيد الله عزوجل ، وهو القوي الذي تنعدم أمام قوته كل قوة ، والعزيز الذي يمنح العز والنصر لأوليائه ، وليس الأمر كما ظن المشركون واليهود أنَّهم سينتصرون بما أعدوا من عدة وعدد ، ولا كما ظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ـ عندما رأوا هول الموقف ـ أنَّ النصر محسوم للأحزاب.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٨٤ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٠.



واقعة اُحُد (١)

«ويوم أحدٍ : إذ يُصعدون ولا يلوون على أحدٍ والرسول يدعوهم في أخراهم (٢) ، وأنت تذود بُهَمَ المشركين عن النبي ذات اليمين وذات الشمال ، حتى ردهم الله تعالى عنكما خائبين ، ونصر بك الخاذلين» :

اللغة : يُصعدون : صعد صعوداً : أي ارتقى مكاناً مشرفاً (٣). قوله تعالى : (وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ): أي لا يقف أحدٌ لأحد ، ولا ينتظره (٤). اُخراهم : يقال : جاء في اُخريات الناس : أي في أواخرهم (٥) تذود : ذاد ، ذدته ، أذوده عن كذا : أي دفعته (٦). بُهَم : البُهمة (بالضم) : الفارس الذي لا يُدرى من أين يُؤتى من شدة بأسه ، والجمع : بُهَم ، ويقال ـ أيضاً ـ للجيش : بُهمة (٧).

اُحُد جبل يقع شمالي المدينة المنورة ، وقعت عنده المعركة التي عرفت باسمه

__________________

(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٣٥ ، أيام العرب في الإسلام ٣٣ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ١٨٦ جامع البيان ٤ / ٩٣ ، السيرة النبوية لابن كثير ٣ / ١٩ ، سيرة النبي ٣ / ٥٨٤ ، شرح نهج البلاغة ١٤ / ٢٣٥.

(٢) إشارة إلى الآية ١٥٣ من سورة آل عمران.

(٣) كتاب العين.

(٤) مجمع البحرين.

(٥) الصحاح.

(٦) كتاب العين.

(٧) الصحاح.


بين المسلمين والمشركين ، يوم الجمعة في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وكان سببها خروج قريش ليثأروا في بدر ، وينتقموا من المسلمين لما أصابهم من خسائر مادية ممّا غنمه المسلمون عند فرار المشركين ، وما أخذوه فداءً ممن أسر منهم لإطلاق سراحهم.

إتفق المشركون على أن يجعلوا أرباح تجارتهم التي حملتها القافلة التي أفلتت يوم بدر من أيدي المسلمين لتأجيج حرب جديدة على الإسلام بتلك الأموال ، واستعدوا لذلك أتم استعداد ، وحرَّضوا القبائل المحيطة بمكة للخروج معهم ، وأخرجوا معهم النساء ، ليذكرنهم بقتلى بدر ، ويشجعنهم على القتال.

بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبأ استعداد قريش وخروجهم لحربه ، فجمع المسلمين للتشاور معهم ، وكان رأيه البقاء في المدينة ، والتحصّن بها ، وقال لهم : «إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة ، وتَدَعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا ، أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا ، قاتلناهم فيها». فوقع خلاف بين المسلمين ، وصاروا فريقين :

فريق أيَّد رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المقام بالمدينة المنورة ، ومن هؤلاء عبد الله بن اُبي بن سلول رأس المنافقين ، وكان من المتحمسين لهذا الرأي.

وفريق كانوا متحمسين للقتال ، ونيل الشهادة ، وهؤلاء يريدون الخروج للقاء العدو ، فاندفعوا لرأيهم دون أن يشعروا بما ارتكبوه من مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتد النزاع بين الفريقين ، وألح الراغبون في الخروج للقتال ، ونيل الشهادة عليه إلحاحاً شديداً ، فساءه ما حصل من النزاع ، ودخل بيته ، ثم خرج عليهم وهو لابس لامة حربه استعداداً للخروج.

ندم المتحمسون للخروج على مخالفتهم لرغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشعروا بأنَّهم ارتكبوا خطأ جسيماً ، باستكراههم إياه ، ومخالفتهم لما يرغب ، فجاءوا إليه


يعتذرون منه ، وقالوا : (استكر هناك ، ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد) ، فرد عليهم قائلاً : «لا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل» ، ثمَّ خرج بألف من أصحابه.

وخرج رأس المنافقين عبد الله بن اُبي بن سلول مع الجيش ، وفي الطريق انظم إليه المنافقون ، فاتفقوا على العودة إلى المدينة المنورة متعللين بمخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرأيهم في البقاء فيها ، فعاد ومعه ما يقرب من ثلث ذلك الجيش ، بينما واصل الباقون سيرهم نحو اُحد للقاء العدو.

وصل الجيش الإسلامي إلى اُحد ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنزول في الوادي ، وجعلوا ظهورهم إلى جبل اُحد ، وعبَّأ أصحابه ، وكانوا سبعمائة رجل ، فوضع الرماة ـ وهم خمسون رجلاً ـ على الجبل ، ليقوموا بحماية ظهور المسلمين من العدو ، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال له : «إنضح الخيل عنّا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك».

وتعبَّأ المشركون ، وكان لواؤهم مع بني عبد الدار ، يحمله طلحة بن أبي طلحة ، والنساء خلفهم ، يضربن الدفوف ، يذكرنهم بقتلى بدر ، ويحرضنهم على القتال ، وينشدن :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وابتدأت المعركة بخروج طلحة حامل اللواء ، فصاح : من يبارز؟. فبادر إليه الإمام علي عليه‌السلام ، فتبارزا ، فضربه على رأسه ، ففلق هامته ، وخر صريعاً إلى الأرض ، وأخذ بنو عبد الدار كلما سقط اللواء بمصرع أحدهم أخذه الآخر ، إلى أن أخذه


غلام لهم ، فقتله الإمام علي عليه‌السلام فسقط اللواء ، وهزم المشركون ، وأخذ المسلمون يلاحقونهم ، ويجمعون ما في معسكرهم من غنائم.

شاهد الرماة المسلمين يطاردون المشركين ، ويجمعون الغنائم من معسكرهم ، فقال بعضهم : (لم تقيمون ها هنا في غير شيء؟!. قد هزم الله العدو ، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين ، فاغنموا مع إخوانكم).

فأجابهم البعض الآخر : (ألم تعلموا أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لكم : إحموا ظهورنا ، وإن غنمنا فلا تشركونا). فأجابوهم : (لم يرد ذلك). وخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير ، وطلب منهم أن يثبتوا مكانهم ، وأن يطيعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن لا يخالفوا أمره ، وان لا يعصوا أميرهم ، فلم يستجيبوا له ، ولحقوا بالجيش يجمعون الغنائم ، ولم يبق معه إلّا نفر قليل لا يبلغون عشرة رجال.

كان خالد بن الوليد بإزاء الجبل ، فاغتنم فرصة خلوِّه من الرماة ، وتقدم بمن معه من المشركين ، فقاومهم عبد الله بن جبير والصفوة الذين ثبتوا من الرماة ، وقاتلوهم قتالاً عنيفاً ، فاستشهدوا جميعاً ، وهجم خالد بمن معه من المشركين على المسلمين من خلفهم ، وعاد المنهزمون من المشركين إلى صفوفهم ، فأحاطوا بالمسلمين ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضاً من هول الموقف ، وكمن وحشي لحمزة عليه‌السلام ، فقتله غدراً ، ومثلت به هند ، فقطعت أنفه وأذناه ، واستخرجت كبده فلاكتها ، وانقلب النصر إلى هزيمة.

انهزم المسلمون ، وصعدوا إلى الجبل لينجو كلُّ واحد منهم بنفسه ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الميدان ، ليس معه إلّا الإمام علي عليه‌السلام ، ونفر قليل من صحابته الكرام.

تصف الآية الكريمة كيفية فرارهم : (وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ) إيماناً منهم في


الفرار ، يندفع أحدهم فيه فلا يقف ، ولا ينتظر ، ولا يلتفت إلى ورائه ، ليرى إخوانه الذين تبعوه في الفرار ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إليه ، فلم يرجع منهم أحد لنجدته ، حتى أولئك الذين كانوا قريبين منه في آخر الفارين يبلغهم صوته ، ولكن أصمَّهم عن سماع صوته ، ما حل بهم من رعب.

باشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القتال بنفسه ، فكُلِمَت شفته ، وكُسِرت رباعيته ، وشجَّت جبهته ، وسالت الدماء على وجهه الشريف ، وتكاثر عليه المشركون يريدون قتله ، وكان الإمام علي عليه‌السلام يدافع عنه ، وهو ينادي : «يا علي إكفني هذه الكتيبة». فيحمل عليها ، حتى يردها عنه ، ويصرع أبطالها ، ثم تحمل عليه كتيبة أخرى ، فينتدبه لها ، ولم يزل كذلك حتى قال جبرائيل عليه‌السلام : «يا محمد إنَّ هذه لهي المواساة ، وقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى». فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما يمنعه وهو منّي وأنا منه؟!». فقال جبرائيل عليه‌السلام : «وأنا منكما». وسُمِع صوت هاتف ينادي في السماء ـ مراراً ـ : «لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي». فسُئِل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «هذا جبرائيل».

سَئِم المشركون من حملات الإمام علي عليه‌السلام ، ودفعه الكتائب ، ومطاردته الأقران ، وهو يذودهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيئسوا من الوصول إليه ، وتمكن هو ومن بقي معه من الصعود إلى الجبل ، للإحتماء به من كيد الأعداء ، وليجمع الجيش الذي شتته الهزيمة ، وعلى سفح جبل اُحد عاد المنهزمون ، وتجمعوا حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية.

خارت قوى المشركين ، وأيقنوا أنَّ بقاءهم لا يحقق لهم ما يهدفون إليه ، وارتهبوا لتجمع المسلمين من جديد ، وخشوا أن يصل المسلمين مدد من المدينة ، فتدور عليهم الدائرة من جديد ، فعادوا إلى مكة في يأس ، والرعب يملأ قلوبهم


خشية طلب المسلمين لهم.

فالنصر يتمثل في هذه المعركة بثبات الإمام علي عليه‌السلام ، ورده الكتائب عن النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفويته الفرصة التي اغتنمها المشركون للقضاء عليه بثباته ، وجهاده ، وبذله النفس في سبيل الله عزوجل ، فلم يتحقق لهم هدف ، وقد ردهم الله تعالى بجهاده خائبين ، ونصر به الذين خذلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحرج الأوقات وأعسرها ، فتركوه وحيداً ، وفرّوا من الزحف ، وأسلموه لرماح الأعداء وسيوفهم ونبالهم لينجو كلّ منهم بنفسه ، ولم يفكر أحد منهم بالتضحية دونه ، والدفاع عنه ، ومواساته فيما يحل به من أذى.


واقعة حُنين (١)

«ويوم حنين على ما نطق به التنزيل : * (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٢) * والمؤمنون أنت ومن يليك ، وعمك العباس ينادي المنهزمين : يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، حتى استجاب له قوم قد كفيتهم المؤونة ، وتكفلت دونهم المعونة ، فعادوا آيسين من المثوبة ، راجين وعد الله تعالى بالتوبة ، وذلك قوله جل ذكره : * (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّـهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ)(٣) * وأنت حائز درجة الصبر ، فائز بعظيم الأجر» :

اللغة : الرَّحب (بالفتح) : الواسع ، تقول : من بلد رحب ، وأرض رحبة (٤).

وَلّيتم : ولّى عن الشي : أعرض وابتعد عنه.

مدبرين : أدبر عنه : جعله وراءه (٥).

السكينة : قال بعضهم : السكينة : هي الرحمة ، وقيل : هي الطمأنينة ، وقيل : هي

__________________

(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٦٣ ، أيام العرب في الإسلام ١٠٩ ، البداية والنهاية ٤ / ٣٦٨ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٣٤٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٢ ، السيرة النبوية لابن كثير ٣ / ٦١٠ ، سيرة النبي (ص) ٤ / ٨٩٥.

(٢) التوبة ٩ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) التوبة ٩ : ٢٧.

(٤) الصحاح.

(٥) المنجد.


الوقار ، وما يسكن به الإنسان (١).

المؤونة : قال الفرّاء : هي مفعلة من الأين : وهو التعب والشدة (٢).

المعونة : المساعدة (٣).

حُنين : وادٍ بين مكة والطائف ، اشتبك فيه المسلمون مع هوازن بعد فتح مكة في شهر شوّال من السنة الثامنة للهجرة ، وسبب وقوع هذه المعركة ، أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما خرج إلى فتح مكة لم يفصح عن الجهة التي يقصدها ، وسلك طريقا يموه فيه على الناس ، لأنَّه كان يريد أن يدخل مكة على حين غفلة من أهلها ، وكان يكره أن يقاتل فيها ، حفاظاً على حرمة الحرم ، فبلغت أخبار مسيره إلى الطائف ، وظنت هوازن أنَّه يريد غزوها ، فاستعدت لذلك ، وبقيت هوازن تترقب أخباره.

بلغت أخبار فتح مكة هوازن ، وسمعوا باستسلام أهلها بدون مقاومة ، وأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَنَّ عليهم ، ودخل أكثرهم في الإسلام ، فدخلهم لذلك رعب شديد ، وخافوا أن يغزوهم الجيش المنتصر ، فاجتمع أشرافهم ، وأشراف ثقيف ، وقرروا أن يغزوا جيش المسلمين في مكة قبل أن يغزوهم.

خرجت هوازن وثقيف بقيادة مالك بن عوف ، وكان رئيسهم يومذاك ، فأمرهم أن يصبحوا معهم النساء والصبيان ، وأن يسرقوا معهم الماشية ، ليدافعوا عن أعراضهم وأموالهم ، وساروا حتى نزولوا وادي حنين ، وكان عددهم يقدَّر بعشرين ألفاً.

بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر استعداد هوازن ، وخروجها لغزو مكة ، فأرسل عيناً

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) الصحاح.

(٣) المنجد.


ليستطلع له أخبارهم ، ثمَّ عاد ، وأخبره بعددهم وعدَّتهم ، فتهيأ للخروج إليهم ، فخرج بألفين من الذين أسلموا يوم الفتح من أهل مكة ، وبالجيش الذي فتح به مكة ، فكان عددهم اثني عشر ألف رجل ، وقد اُعجب المسلمون بكثرتهم ، إذ لم يسبق لهم أن يخرجوا بهذه الكثرة ، وظن أكثرهم أنَّ هذه الكثرة لا تغلب ، وأنَّ النصر سيكون حليفهم ، فقال أبو بكر : (لن نغلب اليوم من قلة) ، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ولكن الأحداث أثبتت عكس ذلك ، وأنَّ الكثرة لم تغن عنهم شيئاً.

إنحدر جيش المسلمين ليلاً في وادٍ شديد الإنحدار من أودية تهامة ، كان جيش هوازن قد سبقهم إليه ، وكمن لهم في مضايقه ، وشعابه ، ومنعطفاته ، فشدَّ عليهم جيش هوازن شدة رجل واحد ، فتفرق المسلمون ، ودخلهم الرعب والفزع ، وانهزموا أمام زحف العدو والسبب الذي أدى إلى هذه الهزيمة يعود إلى أمور منها :

١ ـ إنَّ القتال كان في الليل ، وفي منطقة وعرة ، وأرض متعرجة لا يعرف المقاتلون مسالكها ، بينما كان العدةو يقاتل في أرضه التي يعرف مسالكها جيداً ، فأحاط بجيش الإسلام من كل جانب.

٢ ـ وجود عدد لا يستهان به من المنافقين في جيش المسلمين ، وقد خرجوا مع الجيش من المدينة ، وهؤلاء يتربصون بالإسلام الدوائر ، ويريدون القضاء على الإسلام ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا يثبتون عند لقاء العدو وقتاله.

٣ ـ إنَّ ألفي مقاتل من ذلك الجيش كانوا من مسلمي فتح مكة ، وهؤلاء لم يخرجوا للقتال عن عقيدة راسخة ، لأنَّ الإسلام لم يتمكن بعد من قلوبهم ، وأكثرهم دخل الإسلام رهبة ، ولم يدخله رغبة ، فهم بين مشرك يتظاهر بالإسلام ، وبين


مسلم ضعيف الإيمان.

أمعن هذا الفريقان بالفرار ، وولّوا الدبر ، لا يلوون على شي ، فبان الوهن والفشل في الجيش ، وانتشر الفزع ، وفر الجميع من الزحف ، حتى (ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) واتسعت من شدة هلعهم.

كان الفرار فرصة لمن كانوا يرون أنَّ الإسلام غلبهم ، فراحوا يظهرون دخائل نفوسهم ، وما تنطوي عليه من الكفر ، فجهروا بما أخفوه خوفاً ، ومن هؤلاء : أبي سفيان الذي كان مع الجيش يحمل في كنانته الأزلام التي يستقسم بها أهل الجاهلية ، فأظهر الشماتة بالمسلمين ، وقال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.

ومنهم : كلدة بن الحنبل ، قال : ألا بطل السحر اليوم.

ومنهم : شيبة بن عثمان من بني عبد الدار ، همَّ بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : اليوم أدرك ثاري ، سأقتل محمداً ، يريد أن يثأر لأبيه الذي قتل يوم اُحد ، ولكنه فشل في محاولته.

بقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد فرّ عنه المسلمون ، ولم يبقَ معه إلّا نفر من بني هاشم ، أنزل الله عليهم الطمأنينة لأنَّهم ثبتوا أمام العدو ، ولم يفروا من الزحف ، فلم يكترثوا لكثرة عدوهم وقلة عددهم ، ولم يرهبهم هول الموقف ، بل صمدوا حتى تحقق النصر المبين ، ولولا ثباتهم لم تقم للإسلام قائمة ، ولكان أثراً بعد عين ، وهؤلاء النفر هم :

١ ـ العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٢ ـ الفضل بن العباس عن يساره ٣ ـ أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ممسك بسرجه ٤ ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام بين يديه يدافع عنه بسيفه ٥ ـ نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ٦ ـ ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ٧ ـ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ٨ ـ عتبة بن أبي


لهب بن عبد المطلب ٩ ـ معتب بن أبي لهب بن عبد المطلب ١٠ ـ أيمن بن أم أيمن مولاهم ، وهؤلاء كانوا محيطين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي هؤلاء العشرة فسر الإمام علي الهادي عليه‌السلام قوله تعالى : (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) كما يفهم من قوله في الزيارة : «والمؤمنون أنت ومن يليك» ، لأنَّه لم يثبت أمام زحف العدو غيرهم ، وفيهم يقول العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فرَّ من قد فرَّ عنه فأقشعوا

وقولي ـ إذا ما الفضل شد بسيفه

على القوم ـ : أُخرى يا بني ليرجعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجع

عندما رأى النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرار المسلمين أمام زحف عدوِّهم ، التفت إلى عمه العباس عليه‌السلام ـ وكان جهوري الصوت ـ فقال له : «ناد بالقوم ، وذكرهم العهد». فأخذ يناديهم برفيع صوته : (يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين تفرون؟!). ومن الواضح أنَّ العباس عليه‌السلام خصَّ بندائه هذا المؤمنين المخلصين دون غيرهم ، فالمنافقون ، والذين أظهروا الإسلام رهبة ، لا يؤمنون بشيء من أحكام الإسلام بما فيها الجهاد ، ولا يلتزمون بعهد من عهوده ليفوا به ، ولا يأثمون من الفرار أمام زحف العدو.

أمّا قوله عليه‌السلام : (يا أصحاب سورة البقرة) ، فلم أجد فيما لدي من مصادر تفسيراً له سوى احتمالات ذكرها العلّامة المجلسي رحمه‌الله في البحار (١) ، وهي : (قوله : يا أصحاب سورة البقرة ، كأنَّه وبَّخهم بذلك ، لقوله تعالى فيها : * (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ)(٢) * ، أو لاختتامها بقوله : * (فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ / ١٦١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٤٦.


الْكَافِرِينَ)(١) * ، أو لاشتمالها على آيات الجهاد ، كقوله تعالى : * (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٢) * ، كما ورد في أخبار العامة.

ويمكن إضافة احتمالات أخرى لما ذكره الشيخ المجلسي في البحار ، فقد افتتحت سورة البقرة المباركة بذكر المؤمنين في قوله تعالى : (الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣) ، واختتمت بذكر المؤمنين ـ أيضاً ـ في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)(٤) ... إلى آخر السورة المباركة» ولافتتاح السورة واختتامها بذكرهم يصح القول بأنَّهم أصحاب سورة البقرة ، والنداء تذكيرٌ لهم بما آمنوا به ، وألزموا أنفسهم ، من إطاعة أوامر الله عزوجل ، واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعمل بالأحكام ، بما فيها أحكام الجهاد ، وهي تشمل وجوب الثبات في الميدان ، وعدم الفرار من الزحف.

وقد يكون هذا النداء جاء لمناسبة اُخرى وهو ما جاء في الآية الكريمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(٥) ، فيكون النداء تذكيراً لهم بأن القتال الذي فرّوا منه طلباً للسلامة ، هو فرض من الله تعالى ، مع ما به من

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٩٣.

(٣) البقرة ٢ : ١ ـ ٥.

(٤) البقرة ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٥) البقرة ٢ : ٢١٦.


كره.

وكل واحد من هذه الإحتمالات التي تقدم ذكرها يصح أن يكون مقصوداً من النداء ، كما يصح أن تكون كلها مقصودة منه ، ولم أعثر على نص يؤيد أحدها ، أو يعيِّن المقصود من النداء.

بيعة الشجرة

أمّا بيعة الشجرة : فهي البيعة التي أداها المؤمنون الذين خرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية ، وتسمى ـ أيضاً ـ بيعة الرضوان ، لقوله تعالى فيها : (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)(١) ، وقد سميت ببيعة الشجرة ـ كما أشارت الآية الكريمة ـ لأنَّها تمت تحت شجرة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلس تحت ظلها عندما بايعه المسلمون على أن لا يفروا ، وفي بعض الروايات بايعوه على الموت.

وسببها أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما بلغ الحديبية في طريقه إلى مكة ، لغرض أداء العمرة في السنة السادسة للهجرة ، نزل فيها ، وأرسل عثمان بن عفان إلى مشركي مكة ، ليبلغهم أنَّ المسلمين يقصدون العمرة ، وقد ساقوا معهم الهدي ، فذهب عثمان إلى مكة ، فأبطأ ، فشاع خبر بين المسلمين أنَّه قتل ، فدعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البيعة لمقاتلة المشركين إن تأكد النبأ ، فبايعوه ، ونداء العباس عليه‌السلام : يا أهل بيعة الشجرة ، يذكر الذين حضروا بيعة الرضوان ، وبايعوا ، بعهدهم على عدم الفرار ، أو على الموت ـ على اختلاف الروايات ـ (٢).

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٨.

(٢) راجع التفاصيل في : البداية والنهاية ٤ / ١٨٨ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٢٧٠ ، سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٣ / ٧٧٤.


أمّا الإمام علي عليه‌السلام فقد كان أول من ثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقاتل بين يديه قتالاً حوَّل الهزيمة إلى نصر ، فهو الرجل الذي لم يخذله فرار من فرَّ ، بل زاده عزماً ، وشوقاً لنيل إحدى الحسنيين ، فتقدم نحو حامل لواء هوازن ، وهو رجل شجاع طويل القامة ، بيده رمح طويل شدَّ به اللواء ، يركب على جمل أحمر ، وكان يدعى : (أبا جرول) ، وكان يطعن بالرمح ، ثم يرفعه للمشركين ليلحقوا به ، ويشدوا على المسلمين ، فصمد الإمام علي عليه‌السلام لأبي جرول ، وأرداه صريعاً ، فسقط بمصرعه لواء المشركين ، وتشتت جمعهم.

فحمل الإمام علي عليه‌السلام بمن ثبت معه من بني هاشم ، ومن عادوا من الفرار ، ولحقوا به ، فالتأم جمع المسلمين ، وفرَّ المشركون ، وحلت بهم الهزيمة ، وراح المسلمون يطاردونهم ، يقتلون ، ويأسرون ، ويغنمون ، وتحقق هذا النصر بفضل الإمام علي عليه‌السلام ، ومن ثبت معه ، بموقفه البطولي الذي حوَّل هزيمة المسلمين إلى نصر ساحق ، وقد تكفل ضرب وجوه الأعداء بسيفه ، ليصدهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبذلك كفى الفارين مؤونة القتال ، وتكفل دونهم معونة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحرج الأوقات وأشدها صعوبة.

لقد عاد المسلمون إلى ساحة القتال ، والتحقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فوات الأوان ، فكانوا في يأس من نيل الثواب الذي يأمل المؤمن حصوله من الجهاد ، والثبات أمام زحف العدو ، وقد ارتكبوا الفرار الذي هو من كبائر الذنوب ، وهم يعلمون أنَّ جزاء من ارتكبه الخسران والذل في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة.

ولكن الله عزوجل بلطفه ورحمته ورأفته بالمؤمنين ، وعدهم التوبة من بعد ذلك على من يشاء.

ويفهم من الآية الكريمة أنَّ التوبة لا تشمل الجميع ، وعلة ذلك واضحة ، فمن


شروط التوبة سلامة العقيدة ، والإتجاه إلى الله تعالى بنيَّة صادقة ، والندم على ما صدر من تفريط ، والتصميم على عدم العودة إلى الذنب الذي يراد التوبة منه ، وهذا ما لم يتوفر لكثير منهم.

والثبات أمام جيش تعداده عشرون ألفا ، وقد فرَّ الناس من هول الموقف ، والصمود في مثل تلك الظروف لا يتأتى إلّا بالصبر والإيمان الراسخ ، وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشجع البشر ، وقد أحاط به من بني هاشم جماعة يشد بعضهم أزر بعض في الدفاع عنه ، وحفظه من كل سوء ، فقد كان للإمام علي عليه‌السلام شأن آخر انفرد به عنهم ، إذ تقدم بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهاجم تلك الآلاف ، ويدفعها عنه ، حتى تحقق النصر بصبره وثباته ، بشكل ليس له نظير في تاريخ البطولات ، وفي خوض غمار الحروب ، وبذلك فاز بعظيم الأجر.



واقعة خيبر (١)

«ويوم خيبر إذ أظهر الله خور المنافقين ، وقطع دابر الكافرين ، والحمد لله رب العالمين * (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّـهِ مَسْئُولًا)(٢) *» :

اللغة : الخِوَر : خار الرجل يخور : ضعف وانكسر.

الأدبار : الدبر : الظهر (٣).

خيبر : مدينة تتكون من مجموعة من الواحات ، ذات قلاع وحصون منيعة. تقع إلى الشمال من المدينة المنورة ، كانت مسكناً لليهود ، غزاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثر مؤامرات اليهود على المسلمين ، وتواطئهم مع المشركين ضد المسلمين ، وذلك بعد عودته من الحديبية ، في شهر صفر من العام السابع للهجرة ، وخرج من الصحابة لغزوها أربعمائة وألف ، منهم مائتا فارس.

نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن معه خيبر ، وأخذ يستولي على حصونها وقلاعها ، فهجر اليهود القلاع والحصون ، واجتمعوا في حصن منيع من حصونها ، له باب كبير يعسر

__________________

(١) باختصار وتصرف عن : الإرشاد ٥٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٣٠٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٨٣ سيرة النبي (ص) ٣ / ٨٠٣ ، فضائل الخمسة ٢ / ١٦١.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ١٥.

(٣) الصحاح.


فتحه ، وأخذوا يدافعون عن أنفسهم وأموالهم التي جمعوها في ذلك الحصن.

وبعد حصار دام عشرين ليلة ، أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتيبة لفتح الحصن ، أمَّر عليها أبا بكر ، وأعطاه الراية ، فذهبت الكتيبة ، ولكنها لم تستطع خرق مقاومة اليهود ، ولم تثبت أمامهم بل انكشفت عنهم ، وعاد هو وأصحابه منهزمين ، وقد أصابهم جهد كبير من حملتهم الخاسرة.

وفي اليوم التالي أرسل كتيبة أخرى ، أمَّر عليها عمر ، وأعطاه الراية ، وذهبت الكتيبة ، ولم تحقق شيئاً ، بل انكشفوا أمام العدو ، وعادوا منهزمين ، يجبِّنهم ويجبِّنونه ـ على حد تعبير الرواة ـ وقد أصابهم جهد كبير.

ويفهم من قول الإمام علي الهادي عليه‌السلام في الزيارة : «إذ أظهر الله خور المنافقين» وجود المنافقين في هاتين الحملتين ، فظهر ضعفهم ، وانهاروا أمام العدو ، فانكشفوا فارين من الزحف ، مستغلين ضعف القائد ، وعدم كفاءته.

إنَّ فرار هاتين الحملتين أزعج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأغضبه ، فخطب بالمسلمين ، وقال في آخر خطبته : «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، يفتح الله على يديه» فسرَّ قوله المؤمنين ، وأيقنوا أنَّ الفتح سيتم يوم غدٍ بوعده.

وفي اليوم الثاني تطاول بعض الصحابة ، كلٌّ يرجو أن يعطى الراية ، ليكون الفتح على يده ، وليحظى بحب الله ورسوله ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب الإمام علياً عليه‌السلام ليكلفه بهذه المهمة ، وكان في عينيه رمد ، فجيء به ، فتفل في يده ، ومسح بها عينيه ، فبرأتا ، ودعا له ، فقال : «اللهم أذهب عنه أذى الحر والبرد». ثمَّ أعطاه الراية ، وقال له : «إذهب ، فقاتل حتى يفتح الله عليك ، ولا تلتفت». فسار عليه‌السلام بالراية ، ثمَّ وقف ، ولم يلتفت ، وقال : «يا رسول الله اُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟».


فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنفذ على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم ، فادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما كتب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم». ثمَّ أنفذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين خلفه ، فخرجوا للقتال ، ولم يكتمل وصولهم حتى تمَّ الفتح لمن وصل منهم.

تقدم الإمام علي عليه‌السلام نحو حصنهم ، فبرز له مرحب ، وهو يرتجز :

قد علمت خيبر إني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحيانا وحينا أضرب

إذا الليوث أقبلت تلهب

فأجابه الإمام علي عليه‌السلام مرتجزاً :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

كليث غابات شديد القسورة

فتبارز هو والإمام علي عليه‌السلام ، واختلفا ضربتين ، فطرحت ضربته ترس الإمام علي عليه‌السلام من يده ، بينما وقعت ضربة الإمام علي عليه‌السلام على هامته ، ففلقت البيضة والمغفر ، وفلقت هامته ، ووصل السيف إلى أضراسه ، ثم قلع عليه‌السلام باب الحصن فتترس به ، وهجم هو والمسلمون على اليهود في حصنهم بعد أن وضع باب الحصن على الخندق الذي يحيط به ، وعبر عليه المسلمون ، فحلت الهزيمة باليهود ، واستولى المسلمون على الحصن وما به ، وجاءوا بالنساء سبايا ، فاصطفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهن صفية بنت حيي ، وصالحه اليهود على أن يتركوا جميع أموالهم وحصونهم ، وينزحوا.

تمَّ القضاء على آخر مقاومة لليهود بفتح خيبر ، ولم يستطع اليهود بعدها من التحريض على المسلمين ، وكانت تلك آخر حملة عليهم ، ولم يبق منهم غير أهل فدك ، فدخلهم الرعب ، وخافوا أن يكون مصيرهم مصير يهود خيبر ، ومصير من


نكث قبلهم العهد ، وحرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من اليهود ، فجاءوه ، وصالحوه على دفع أموالهم ، والنزوح عن المدينة المنورة بدون قتال خشية التعرض للغزو.

أما الآية الكريمة التي استشهد بها الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّـهِ مَسْئُولًا). فإنها نزلت في غزوة الأحزاب تندد بمن كانوا يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبرروا فرارهم ، والعهد المقصود بالآية هو ما يلزم المؤمن به نفسه عند اعتناقه للدين الإسلامي الحنيف ، من تطبيق الأحكام وهي التي تتضمن الجهاد ، وعدم الفرار من الزحف.

وللآية معنىً عام لا يخصصه مورد نزولها ، فيصح الإستشهاد بها لكل مورد مشابه ، والإستشهاد بها في الزيارة من هذا الباب ـ كما يفهم من السياق ، ويبدوا أن المقصود بالعهد ـ مضافاً لما تقدم ـ العهد الذي أعطوه في بيعة الرضوان تحت الشجرة بالحديبية ، وهو العهد الذي لم يمر على إبرامه سوى شهران ونصف تقريباً ، وكان أكثر من حضر خيبر قد حضر الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان.

وعلى هذا فمن حضر منهم الحديبية فهو مسؤول عن عهده الذي عاهده فيها ، وهو تأكيد لعهده عند اعتناق الإسلام ، والذي يشاركه فيه سائر من حضر ممن لم يشهد الحديبية ، ولكنهم فروا من الزحف ، ولم يراعو كلا العهدين ، والله تعالى سائلهم عن ذلك يوم الجزاء ، ومحاسبهم عليه.


البرهان المنير

«مولاي أنت الحجة البالغة ، والمحجة الواضحة ، والنعمة السابغة ، والبرهان المنير ، فهنيئاً لك بما آتاك الله من فضلٍ وتبّاً لشانئك ذي الجهل» :

اللغة : الحجة البرهان.

المحجة : جادة الطريق.

السابغة : شيء سابغ : أي كامل وافٍ ، وسبغت النعمة ، تسبغ (بالضم) ، سبوغاً : اتسعت. تبّاً : التباب : الخسران والهلاك ، وتقول : تبّاً لفلان ، تنصبه على المصدر بإضمار فعل : أي ألزمه الله هلاكاً وخسراناً (١).

الحجة البالغة : قد يراد بها التامة أو الواضحة ، وقد يراد بها المبلغ بها فهي بالغة لجميع من شمله التبليغ ، ويصح كلا الفرضين في الإمام علي عليه‌السلام ، وقد تحدثنا في موضوع مستقل عن كونه حجة الله تعالى على العباد ، وأنَّ كونه حجة يثبت بخصائصه الشخصية ، كما يثبت بما صحَّ به النقل ، وقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة بكل ما يدل على كونه حجة ، فهو حجة تامة واضحة من حيث الدلالة ، ومن حمله علوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتاب وسنة.

وهو الطريق الواضح الذي من أراد الوصول من المؤمنين إلى مفاهيم سليمة وصحيحة للشريعة ، خالية من كل شائبة ، لما فيها من أسس ، وأحكام ، وآداب ، فلابد له أن يسلك هذا الطريق ، وأن يسير بهدي من هو عيبة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الصحاح.


لا يفصح إلّا عنه ، ولا يقتدى إلّا به ، وهو الملاذ الآمن الذي دلّ الكتاب والسنة على عصمته ، وطهارته من كل رجس ، فلا يتصور أن يصدر منه ذنب ، أو خطأ ، لا عمداً ، ولا سهواً ، وهو الذي جسَّد أحكام الإسلام ، وآدابه في سلوكه ، وفي أوامره ، ونواهيه ، مترجماً إياها بالعمل الصالح الجاد ، والتطبيق المبتني على التقوى ، وبذلك يكون الجادة التي لا يضل من سلكها ، واستنار بهديها.

ومن البديهي أنَّ إرسال الرسل ، ونصبهم الأوصياء بأمر من الله عزوجل ليقوموا بتوجيه البشر بعدهم ، وليؤدوا عن الرسل ما جاءوا به ، بقدر ما هو حجة لله عزوجل على عباده ، فهو لطف بهم ، ونعمة أسبغها عليهم ، لينالوا بها خير الدنيا والآخرة ، لأنَّه يصلح لهم بهذه الوسيلة شؤونهم ، ويرشدهم لما فيه خيرهم.

والإمام علي عليه‌السلام نعمة تامة ، لا تشبهها نعمة من النعم ، ومن دراسة سيرته العطرة يتضح لنا ذلك ، فهي تعكس لنا ما تقدمه من دروس وعبر ، وما خلّف من عطاء ثر للإنسانية على اختلاف مللها ونحلها ؛ لذا نرى المفكرين من مختلف الأديان والأهواء يتدارسون سيرته العطرة ؛ لينهلوا من نمير معينها العذب ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وكلما تقدم مفكروا الأمم ، وارتقوا فكرياً ، ازدادت معرفتهم بشخصيته ، مستفيدين من اتساع آفاقهم الفكرية للإستزادة من التراث الفكري الذي خلفه ، واستقامته في سيرته ، ومنهاجه في الحياة.

عرفنا من البحوث السابقة أنَّ الأدلة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام أدلة قطعية ثابتة ، من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وأنَّ سيرته أيدت ما ثبت بالأدلة ، وأنَّ خصائصه الفريدة تدل بوضوح على أنَّه تالي الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضل ، والتقوى ، والعلم ، والعمل ، والجهاد ، وهو بذلك الرجل الذي ينبغي أن يخلفه ، ولا مجال للشك في أحقيته لهذا المنصب.


والإمام علي عليه‌السلام هو معجزة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالدة ؛ لأنَّه تربى في حجره ، وترعرع في كنفه ، واكتسب منه علومه وآدابه ، فهو البرهان المنير على عظمة الرسالة التي ربته ، وأفصح عنها من علومه ما ملأ الآفاق ، وهو البرهان المنير بسيرته وخصائصه على أحقيته للخلافة.

أوتي الإمام علي عليه السلا من الفضل ما لم يبلغه أحد من العالمين ، الفضل الذي لم يترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرصة إلّا نوه به ، وأشار إليه ، حتى سارت به الركبان ، وتعذر على الحاقدين طمس معالمه ، وقد نزل به الذكر الحكيم ، وشهد به الملائكة المقربون ، ولا شك أنَّ الله عزوجل يلزم مبغضه الخسران والهلاك ؛ لأنَّه يبغض سيد أوليائه بدون مبرر ؛ ولأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام مبعث فخر واعتزاز للبشرية جمعاء في مختلف عصورها ، وهو يستحق منها الحب والمودة والوفاء ، ومن أبغضه ضيَّع نصيبه من اكتساب الفضل بمعرفة حقه ، والسير على هديه في الدنيا ، كما حخسر ببغضه إياه ما أعده الله تعالى لمحبي أوليائه من الجزاء الجميل ، وأقحم نفسه فيما أعده لمبغضي أوليائه ، ومن نصب لهم العداء من العذاب.



المؤهل للإمارة

«شَهِدْتَ مع النبي جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية أمامه ، وتضرب بالسيف قدّامه ، ثمَّ لحزمك المشهور ، وبصيرتك في الأمور ، أمَّرك في المواطن ، ولم يكن عليك أمير» :

اللغة : الرايَة : العَلَم الكبير ، واللواء أصغر منه ، والراية هي التي يتولاها صاحب الحرب ، ويقاتل عليها ، وإليها تميل المقاتلة (١).

حامل راية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يجمع المؤرخون ، وكُتّاب السير على أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام حضر مع النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع حروبه ومغازيه ، لم يختلف عنه في واحدة منها ، وغزوة تبوك هي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها معه ، وكان قد خلفه فيها على المدينة لمصالح اقتضت ذلك ، وقال له : «لابد أن أقيم ، أو تقيم» ، وقد مرَّ بيان ذلك في الكلام على حديث المنزلة (٢).

وكان الإمام علي عليه‌السلام يحمل راية المهاجرين ، وهي راية النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع الحروب التي شهدها معه ، أما اللواء فكان مع مصعب بن عمير في (بدر) وفي (اُحد) ، وبعد استشهاد مصعب في اُحد ، دفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء إلى الإمام

__________________

(١) مجمع البحرين.

(٢) راجع ص ٢٣٩ من هذا الكتاب ، وكتاب : (حديث المنزلة) للمؤلف.


علي عليه‌السلام ، فجمع له الراية واللواء ، وقد تحدثنا عن مواقف الإمام علي عليه‌السلام في ميادين الجهاد ، وبلائه الحسن في الذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يتردد ، ولم يتلكّأ عند مبارزة الأقران ، بل كانت مواقفه حاسمة لا تمهل الأعداء ، ولا تمنحهم فرصة للتحرك ، يرمي نفسه في لهوات الحرب ، غير مبال بما يصيبه من ألم وأذى من أجل أن يحرز النصر للإسلام.

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تدل على أنَّه كان حازماً ، لا يثنيه عن حزمه شيء ، ما دام ملتزماً بتقوى الله تعالى ، وطاعته ، لا يعرف الكسل ، أو الملل ، بل يمضي بما عهد به إليه ، وبما يلزمه به الشرع المقدس ، ويقترن هذا الحزم ببصيرة نافذة في الأمور التي يلتزم تنفيذها ، يتصرف بفكر ثاقب ، ورأي صائب ، يحيط بما يريد عمله ، ويتمتع بأعلى درجات حسن التقدير ، والنظر إلى العواقب والنتائج ، يتضح ذلك لمن تتبع سيرته التي تميزت بكفائته.

الأمير في كل المواطن :

والنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أعرف الناس بصنوه المرتضى عليه‌السلام ، كان يختاره لكل مهمة عسيرة ، وكل أمر جسيم ، فيعهد به إليه ، لما يعرف من كفاءته ، وحسن تصرفه ، وما يتحلى به من صبر ، وتعقل ، وروية ، وحزم ، وإمضاء عزم ، في حل المعضلات.

ومن تتبع كتب التأريخ والسيرة يتضح بجلاء أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقدِّمه للإمارة دائماً ، وتحت إمرته شيوخ المهاجرين : كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ... وغيرهم ، ولم يثبت بالنقل الصحيح أنَّه اُرسل في سرية أو بعثٍ ، وكان فيها مأموراً ، والأمير غيره من الصحابة.


والشيعة ـ اقتداءً بأهل البيت عليهم‌السلام ـ اعتبروا هذا التصرف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليلاً عملياً من أدلة إمامته ، وتقديمه للخلافة بعده ؛ لأنَّ سيرة العقلاء جارية على تقديم الأفضل ، والأكثر كفاءة ؛ ولأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصدر في جميع تصرفاته عن أمر الله تعالى ، بدون أي أثر للعاطفة وما شاكلها من المؤثرات التي يصدر عنها الناس عادة في تصرفاتهم ، فاعتبروا ذلك سنة عملية ، وبه دعموا غيره من الأدلة العقلية ، والأدلة النقلية ، التي اقتبسوها من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة.

والدلالة على أحقيته عليه‌السلام للخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة من هذه السنة العملية ؛ فمن تكرر اختياره للإمارة ، ولم يؤمَّر عليه أحد ، أحق بالخلافة ممّن كان دوماً تحت إمرته ، وإمرة غيره ، والمسلمون يُجمعون على أنَّ السيرة العملية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة ، يجب الأخذ بها ، وقد استدل بعض علماء السنة بما نقل من استدلال عمر يوم السقيفة ، من أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالمسلمين ، ولما كان قد رضيه لأمور دينهم ، فهو يصلح للتقديم لأمور دنياهم ، على أنَّ تقديم أبي بكر للصلاة أمر تدور حوله الشكوك ، والتحقيق يدل على أنَّه لم يكن بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل خروجه إلى الصلاة على ما به من ضعف ومرض ، لينحي عنها أبا بكر ، ويقيمها بنفسه ، على أنَّ إمامة الصلاة يشترط بها عند السنة صحة القراءة فقط ، ويضيف الشيعة شرط العدالة ، وكلا هذين الشرطين لا يقتضيان الصلاحية للولاية ، إذا لم تتحقق لها الشروط الأخرى.



سياسة علي عليه‌السلام تقواه

«كم من أمر صدَّك عن إمضاء عزمك فيه التقى ، واتبع غيرك في مثله الهوى ، فظن الجاهلون أنَّك عجزت عمّا إليه انتهى ، ضل والله الضان لذلك ، وما اهتدى ، ولقد أوضحت ما أشكل من ذلك لمن توهم وامترى بقولك صلى الله عليك : قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونها حاجز من تقوى الله ، فيدعها رأي العين ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (١) ، صدقت وخسر المبطلون» :

اللغة : أشكل إلتبس. توهَّم : ظن. إمترى : ماريت الرجل ، اُماريه ، مراءً : إذا جادلته ، والإمتراء في الشي : الشك فيه (٢).

حُوَّل (بتشديد الواو) : أي بصير بتحويل الأمور ، وهو حُوَّل قُلَّب ، وقولهم هو : حُوَّل قُلَّب : أي محتال بصير بتقليب الأمور (٣).

يَدَعُ : دَعْ ذا : أي اتركه ، وأصله : وَدَعَ ، يَدَعُ (٤).

__________________

(١) جاء في نهج البلاغة قوله (ع) : (قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين) نهج البلاغة ١ / ٩٢ ويبدو أن هذا النص هو غير النص الذي ورد في الزيارة ، وأن كلاً منهما صدر في مناسبة خاصة به.

(٢) الصحاح.

(٣) لسان العرب.

(٤) الصحاح.


حريجة : المتحرِّج : الكاف عن الإثم (١).

يعتمد أغلب ساسة الدول وقادتها ومن يتولون الأمور في مختلف شؤون الحياة في التوصل إلى أهدافهم كل سبيل ، حتى لو توقف ذلك على ارتكاب كل ما ينافي المبادئ الإنسانية السامية ، والشرائع السماوية ، وهذا ما يعرف ـ اليوم ـ بمبدأ : (الغاية تبرر الوسيلة) ، وهو المبدأ الذي تنتهك به كل الحرمات ، وتعاني منه الشعوب آلام الظلم والحرمان ، لتتحقق للمتسلطين أهواءهم بما يسلكون من طرق ملتوية ، ويخالفون السنن ، والقوانين ، والشرائع ، في سبيل التوصل إليها ، لمجرد اعتقادهم أو ادعائهم أنَّها تحقق لهم غاية مشروعة ، وهذه السيرة اعتمدها المتسلطون على مدى تاريخ البشرية ، وشواهدها أكثر من أن تحصى ، ولا زال العالم يشهد آثارها كل يوم.

إنَّ الإسلام يرفض هذا المبدأ رفضاً قاطعاً ؛ لأنَّه يخالف ما جاء به من أسس العدل والإنصاف ، فهو لا يبيح لولي الأمر أن يسير خلف هواه ، سالكاً أي طريق يحقق مصالحه الشخصية ، ونزواته الفردية ، بل لابد له أن يتقيد بالمثل الإنسانية السامية ، التي أقرها الإسلام ، فجعلها جزءً لا يتجزأ من تشريعاته ، وتعلمياته الأخلاقية ، والتقوى هي الأساس الذي يجب أن يعتمده ولي الأمر في جميع تصرفاته ، باعتبارها الأساس الذي يجب أن يعتمده ولي الأمر في جميع تصرفاته ، باعتبارها الأساس الذي يجب أن تبتني عليه تصرفات المؤمنين ، ولابد لولي الأمر أن يضحي من أجل إسعاد أمته ، ولا (يطلب النصر بالجور) ، ولا مصلحة في تحقق هدف يتوصل إليه بمعصية الله تعالى ، ومخالفة أوامره ، مهما كانت أهمية ذلك الهدف.

والإمام علي عليه‌السلام هو تالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي عرف باتباعه والسير على

__________________

(١) لسان العرب.


هديه ، والذي ثبتت عصمته ، لا يمكن أن يحيد عن الأسس والأحكام التي قررها الدين الحنيف قيد شعرة ، وقد حفل التأريخ بشواهد كثيرة على نبذه الأساليب والسبل التي لا تتفق مع مبادئه وأخلاقه ، وتحمله في ذلك النتائج التي يفرزها هذا السلوك حتى لو كانت غاية في القسوة ، وقد اشتهر عنه عليه‌السلام ـ على سبيل المثال ـ موقفه مع معاوية في طريقه إلى صفين ، فلم يقابله بالمثل عندما أخذ شريعة الفرات من جيش معاوية ، بل سمح لهم أن يتزودوا من الماء ، وكانوا يريدون قتله وجيشه بالعطش.

الإمام علي عليه‌السلام صاحب رسالة ، ورجل مبادئ ، لا يرضى لنفسه أن يكسب موقفاً على حساب دينه ، ولم يكن همّه بسط السيطرة وتوسيع السلطان فحسب ، بل كان همه الأكبر تطبيق أحكام الدين ، وبسط العدل ، وهداية الخلق ، بدعوتهم إلى الله عزوجل ، وتعليمهم أحكام الدين وآدابه ، وإلّا فما قيمة التوسع إذا كان على حساب الأخلاق ، والآداب ، والأحكام التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف.

لقد قارن الناس بين ما كان يجري في ظل حكومة الشام على يد معاوية ، وبين ما كان يجري في ظل الدولة الإسلامية على يد الإمام علي عليه‌السلام ، وجعلوهما ضمن معادلة ذات طرفين ، وأخذ بعضهم يكيل الإنتقادات لما صدر عن الإمام علي عليه‌السلام ، وكأنَّهم بذلك يريدون أن يجعلوا منه نظيراً لمعاوية في ما ارتكب ، ويأبى هو إلّا أن يكون نظيراً ومتبعاً للحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يطبق سيرته ، فاعتبر بعضهم سياسته غير رشيدة ، ولم تكن هذه الإعتراضات والإنتقادات وليدة زمن محدود ، بل واجهت الإمام علياً عليه‌السلام في حياته ، واستمرت إلى يومنا هذا ، تجري بها ألسن الخطباء ، وأقلام الكتاب ، ومن هذه الإعتراضات :

١ ـ سياسته المالية : وهي التي تتمثل في تسويته بين الناس في العطاء ،


وتشدده في استرجاع ما نهبه بنو أمية وصنائعهم على عهد عثمان ، وعدم استرضائه الأشراف بالأموال ، وهؤلاء ملكوا الملايين مما استأثروا به أنفسهم ، أو وهب لهم بغير حق ، مما أفاءه الله تعالى على الفقراء والمحرومين.

٢ ـ تشدده عليه‌السلام مع ولاته : لقد كان يختار للولاية ذوي الكفاءة ، ومن عرف بالأمانة ، والتقوى ، والصلاح ، ومع ذلك فلم يتركهم لشأنهم ، يتصرفون كيفما أرادوا ، بل كان يحملهم على التقيد بأسس الدين ، وأحكامه ، وآدابه ، ويحثهم على التقوى ، وكان يراقب أعمالهم مراقبة دقيقة مستمرة ، فإذا بلغه أنَّ أحدهم خالف ذلك ، حاسبه على قدر مخالفته ، وينال جزاءه بقدر ما تقتضيه مخالفته.

٣ ـ عدم إشراك طلحة والزبير في الحكم ، وقد طلبا منه ذلك قبل خروجهما عليه ، ونكثا بيعته ، وزعما أنَّهما إنَّما بايعاه على أن يشركهما في الحكم ، ولكنه عليه‌السلام لم يولِّ أحداً منهما ، لما كان يعرفه من طمعهما بالولاية ، وعدم اطمئنانه إلى أنهما سيتورعان في التصرف بشؤونها.

هذه أهم الإعتراضات ، أذكرها على سبيل المثال ، ولست بصدد استقصاء جميع الإعتراضات.

أمّا معاوية الذي حاولوا أن يجعلوه ندّاً للإمام علي عليه‌السلام ، فقد كان يهب الأموال الطائلة لغرض شراء الضمائر ، ويفضِّل في العطاء الأشراف لاستمالتهم ، وكسب ودِّهم ، ويولي على الناس الأشداء ، والأشرار ، ويترك لهم الأمر ، ليتصرفوا حسب ما تمليه أهواؤهم ، ولا يسمع فيهم شكوى أحدٍ من الناس ، بل يحملهم على إخضاع الناس بالقوة والإكراه ، فيرهبون الناس ، وينتقمون منهم بمباركته ، ومن أجل توطيد ملكه ، وسلطانه ، فولّى عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ليتخلص من شغبهما ، ويكسب تأييدهما لسلطانه.


ولا مجال للمقارنة بين الإمام علي عليه‌السلام ، وبين معاوية لأنَّ كلّا منهما كان يتخذ نهجاً يغاير نهج الآخر ، ويعاكسه ، والفرق بينهما هو الفرق بين الحق والباطل ، فهما متباينان ، ومن ظنَّ خلاف ذلك وساوى بينهما ، فجعلهما نظيرين ، فإنَّه لا يميز بين الحق والباطل ، وهو ضال في ما أصدره من حكم ، ولم يهتد إلى الحق ، لأنَّ الإهتداء إلى الحق ، لا يتأتى لمن يصدر الأحكام اعتباطاً ، بل لابد من التدبر ، والتفكير ، والتحليل ، والمقارنة من أجل الوصول إلى معرفة الحق ، وإصدار الحكم فيه.

أوضح الإمام علي عليه‌السلام الأسس التي يعتمدها في سيرته ، ولم يبقِ مجالاً للشك والتوهم ، فقد أبان للعالم أنَّه ليس ـ كما يظن البعض ـ ضعيف الرأي ، عاجزاً عن إدارة شؤون الخلافة ، وأنَّ من ذهب إلى هذا الرأي إمّا أن يجهل الحقيقة ، أو يتجاهلها ، فهو عليه‌السلام يعبِّر عن نفسه بالحوَّل القلَّب ، فليس هو مغفلاً ، ولا تفوته حيلة للتوصل إلى أهدافه ، يرى سبل الوصول إليها عياناً ، ولكنه لا يسلك طريقاً يتنافى مع تقواه ، بل يلتزم بما يمليه عليه دينه القويم ، الذي يحجز بينه وبين ما يفعله غيره من الأعمال المنافية للدين ، من أجل الوصول إلى النزوات ، والنزعات الشخصية الرخيصة ، لأنَّه لا يضحي بدينه ، ولا يجعل دينه مطية للأهواء ، وهو سيد المتقين.

أما رقيق الدين ، الذي لا يتحرج من ارتكاب المآثم ، ولا يعرف طعم التقوى ، فإنَّه ينتهز الفرصة عندما تظهر أمامه الحيلة ، ويتعرف على وسائلها ، فيسلك سبلها الوعرة بدون تردد ، لأنَّه لا يرى مانعاً من ارتكاب أيَّة جريمة ، ما دامت تحقق له هدفاً ، يوصله إلى أهوائه ، وشهواته الفانية ، وقد صنفت الأحداث جميع خصوم الإمام علي عليه‌السلام ، وأعدائه ضمن هذه الفصيلة ، حيث كشفوا أنفسهم ، بما ارتكبوا من الآثام ، فأبانوا عن واقعهم بالقول والفعل.


وقد صدق الإمام علي عليه‌السلام في ما تحدث به عن نفسه ، وشهد له محبوه ، ومبغضوه ـ على حدٍّ سواء ـ بالتقوى ، واتباع النهج الإسلامي ، ولم يكسب المبطلون سوى الخسران ، لأنَّهم لم ينالوا خيراً في دنياهم التي جهدوا أنفسهم لعمارتها على حساب دينهم ، كما خسروا الآخرة ، بما ارتكبوا من الآثام ، وذلك هو الخسران المبين.


مكرُ الناكِثَين

«وإذ ما كَرَكَ الناكثان ، فقالا : نريد العمرة. فقلت لهما : لعَمْرَكُما ما تريدان العمرة ، ولكن تريدان الغدرة ، فأخذت البيعة عليهما ، وجددت الميثاق ، فجدّا في النفاق ، فلمّا نبهتهما على فعلهما أغفلا ، وعادا ، وما انتفعا ، وكان عاقبة أمرهما خسراً» :

اللغة : ما كَرَكَ المكر : احتيال ما يضمر.

الناكثان : نكث العهد ، ينكثه ، نكثاً : أي ينقضه بعد إحكامه ، ونكث البيعة (١).

أغفلا : أغفلت الشيء : إذا تركته على ذكر منك ، وتغافلت عنه (٢).

الفتنة وقبول الخلافة :

قُتل عثمان ، فبقيت الدولة الإسلامية بدون خليفة يدير شؤونها ، ولابد منم ملء هذا الفراغ ، باختيار رجل جدير ، يرتضيه الثوار ، ويتفق عليه معهم المهاجرون والأنصار ، باعتبارهم أهل الحل والعقد ، ولم يكن في الصحابة أحدٌ يمكن أن تجتمع عليه آراء الفريقين ، ليشغل هذا المنصب الخطير سوى إلّا بإعادة الحق إلى نصابه ، وتوليته زمام الأمور ، غير أنَّ هناك نفر من الصحابة كانوا غير راغبين

__________________

(١) كتاب العين.

(٢) الصحاح.


بتوليته الخلافة ، ولكل من هؤلاء سببه الخاص به ، فهو إما طامع بتولي الخلافة ، كما تولاها غيره من النظراء ، أو يشعر بأنَّه سيفقد الإمتيازات غير المشروعة التي منحت له فيما سلف من الزمان ، بينما تأثر آخرون بدافع الحسد ، ولكن هؤلاء لم يتمكنوا من إبداء رأيهم أمام الأغلبية الساحقة ، بل صمتوا ، وبايع أغلبهم ، بينما امتنع آخرون عن البيعة ، فلم يجبرهم الإمام علي عليه‌السلام عليها عندما تمت له البيعة ، بل تركهم لشأنهم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فقد وجد نفسه في موقف صعب ، وبين أمرين خطيرين :

الأول : أن يعتزل أمر الخلافة ، فلا يستجيب لطلب الثوار ومن وافقهم من الصحابة ، وعندها تعصف الفتنة بكيان الدولة الإسلامية ، لخلوِّها من قائد ينظم شؤونها ، ويسيِّر أمورها ، بأوامره يأتمر الجند ، وبها تجبى الأموال ، وتقام الحدود.

الثاني : أن يقبل الخلافة مع ما بها من تركات الماضي ، ومخلفاته المؤلمة ، وعندها تدرؤ الفتنة ، ويستقر كيان الدولة الإسلامية ، لوجود خليفة شرعي تمت له البيعة ، ولكن سرعان ما سيهتز هذا الكيان ، ويتصدع بتمرد الطامعين ، ولا مناص له عندئذ من إعلان الحرب للقضاء على المترد ، وحفظ كيان الدولة.

رفض الإمام علي عليه‌السلام الخلافة في بداية الأمر ، رجاء أن يختاروا لها غيره ، لأنَّه كان عل علم أنَّ السيرة التي سينتهجها ، لا يذعن لها الناس بسهولة ، بل لا يهضمونها ، وإنَّها ستولد ردود فعل عكسية غاضبة ، لأنَّ الناس اعتادوا أموراً لا يقرها الدين ، ولا يستطيع هو إقرارها وإبقاءها بحال ، لأنَّ ذلك يستلزم المسامس بدينه ، ولكن إلحاح الثوار ، ومن اتفق معهم من الصحابة عليه بقبول الخلافة ، وهتافهم باسمه ، لم يترك له خياراً ، حيث وجد أن استمرار الرفض سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ، فقبل الخلافة ليحافظ على كيان الدولة الإسلامية ، قال عليه‌السلام في


خطبته الشقشقية : «أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها ـ أي الخلافة ـ على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (١).

أعلن عليه‌السلام عن تحمله المسؤولية في خطاب وجهه إلى الناس في المسجد النبوي الشريف ، أوضح فيه الخطوط العريضة ليساسته التي سنتهجها ، ليعلم الجميع على أيَّة شروط يبايعون ، قال عليه‌السلام : «دعوني ، والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإنَّ الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت ، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل ، وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم ، وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير» (٢) ، وفي خطبته هذه بيان واضح ، وإشارة إلى الأوضاع الفاسدة التي كانت سائدة في الدولة الإسلامية ، والتي أدت إلى الفتنة التي كان فيها مصرع الخليفة ، وبيان واضح لما يعزم انتهاجه مما لا تستسيغه النفوس المريضة ، فصارحهم بأنَّ إمارته لا تفارق الحق ، وبديهي أنَّ الحق مُرٌّ عند ذوي الأطماع.

البيعة للإمام علي عليه‌السلام :

كان طلحة أول من بايع الإمام علياً عليه‌السلام بعد قبوله تولي الخلافة (٣) ، ثم بايعه

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٣٦.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٨١.

(٣) أنساب الأشراف ٢٠٧ ، الإمامة والسياسة ١ / ٤٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٣ / ٤٥٦.


المهاجرون ، وفيهم الزبير ، ثم بايعه الأنصار ، وسائر من حضر من المسلمين ، وقام الإمام علي عليه‌السلام بعد أن تمت له البيعة ، ينفذ سياسته التي أعلنها على الناس قببل البيعة ، فقسَّم ما في بيت المال بالسوية بين المهاجرين والأنصار ، من البدريين وغيرهم ، ومن العرب والموالي ، لم يفضل أحداً على أحدٍ من مستحقي العطاء ، كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متبعاً سنته ، فبدأ المنتفعون الذين كانوا يتمتعون بحقوق غيرهم ، يتذمرون من هذا الوضع ، وأخذوا يعلنون نقمتهم على الإمام علي عليه‌السلام ، بعد أن أمنوا سطوة الثوار الذين عادوا إلى بلدانهم بعد البيعة.

موقف طلحة والزبير :

كان كل من طلحة والزبير في طليعة المتذمرين الناقمين ، وقد أظهرا نقمتهما بعدم حضورهما القسمة ، ولم يأخذا حقهما الذي فرضه الله تعالى ، احتجاجاً على التسوية (١) ، ثم جاءا يعاتبان الإمام عليه‌السلام لعدم استشارتهما في شيء من الأمر ، وعدم إشراكهما في شؤون الخلافة ، ولأنَّه لم يولهما ما طلبا من ولاية الكوفة والبصرة ، فردَّ عليهما بقوله : «لقد نقمتما يسيراً ، وأرجأتما كثيراً ، ألا تخبراني أي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟!. وأي قسم استأثرت عليكما به؟!. أم أي حق رفعه إلي أحد من المسلمين ضعفت عنه ، أم جهلته ، أم أخطأت بابه؟!.

والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنكم دعوتموني إليها ، وحملتموني عليها ، فلما أفضت إليَّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به فاتبعته ، وما استسن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتديته ، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ، ولا رأي غيركما ، ولا وقع حكم جهلته ، فأستشيركما وإخواني من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٣٨.


المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ، ولا عن غيركما.

وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة [أي التسوية في العطاء] فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ، ولا وليته هوىً منّي ، بل وجدت أنا وأنتم ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرغ منه ، فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما ـ والله ـ عندي ولا لغيركما في هذا عتبى ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر. ثم قال عليه‌السلام : رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه ، أو رأى جوراً فرده ، وكان عوناً بالحق على صاحبه» (١).

نلاحظ أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام قد أوضح الموقف بجلاء ، فلم يترك أمراً إلّا أوضحه ، وبرَّر عمله باتباعه الكتاب والسنة ، وبيَّن أن ما يريده كل من طلحة والزبير مخالف للكتاب والسنة ، وأنَّهما نقما عليه اتباعه الحق ، وأنَّ ما يخبِّئان له ، أشد مما أظهرا ، ولكنه لا يتأثر بمعارضة الحق ممن ظهر منه النفاق ، فنصحهما بالدعاء الذي ختم به حديثه ، وهو يعظهما ، وينبههما بأنَّ الأمثل لهما أن يكونا عونا للحق ، وأن يعملا على رد الباطل ، ويصبرا على ذلك.

دبَّ اليأس إلى نفس كل من طلحة والزبير منذ البداية ، فهما يعرفان عن الإمام علي عليه‌السلام تنمُّره في ذات الله ، وأنَّه سيد المتقين الذي لا ينال أحدٌ من العطاء في ظل حكمه على حساب المحرومين من الأمة ، فلا يتخم في ظل حكمه غني بما يجوع به فقير ، كما لا يطمع أحدٌ بولاية تكون له طُعمَة ، يتصرف فيها بما يمليه هواه في ظل خلافته ، وهذا طلحة يقول للزبير بعيد البيعة : (ما أرى أنَّ لنا من هذا الأمر إلّا كلحسة أنف الكلب) (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ / ١٧.


كان الإمام علي عليه‌السلام يعرف الرجلين ، ويعرف توجهاتهما ، فقد حذر الزبير عندما بايعه من نكث البيعة ، فقال له : «إني لخائف أن تغدر بي ، وتنكث يبعتي. فقال الزبير : لا تخافن ، فإنَّ ذلك لا يكون مني أبداً. فقال عليه‌السلام : فليَ الله عليك راع وكفيل. قال : نعم ، الله لك عليَّ بذلك راع وكفيل» (١).

يئس كل من طلحة والزبير من الولاية ، ويئسا من أي زيادة ، وتمييز في العطاء ، فكانا يسرّان المكر به ، وقد صمَّما على نقض البيعة ، فاستأذناه في الخروج إلى مكة لأداء العمرة ، لينفذا ما أضمراه من نقض البيعة ، والخروج عليه ، ولم يخفَ ذلك عليه ، فأخبرهما بما انطوت عليه نيتهما ، وجدد البيعة عليهما ، فأعطياه من المواثيق ما تطمئن به النفس ، وخرجا ، وهو يعلم أنَّهما لا يفيان له ، يقول ابن أبي الحديد : (دخل الزبير وطلحة على علي عليه‌السلام ، فاستأذناه في العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، وإنما تريدان الغدرة ، ونكث البيعة. فحلفا بالله ما الخلاف عليه ، ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير العمرة. فقال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية. فأعاداها بأشد ما يكون من الأَيمان والمواثيق. فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلّا في فتنة يقتتلان فيها. قالوا : يا أمير المؤمنين ، فمُر بردِّهما عليك. قال : ليقضي الله أمراً كان مفعولا) (٢).

ولابد أن نعرف أنَّ تجديد البيعة ، وأخذ المواثيق المؤكدة ، كان اعتماداً على ظاهر الإيمان ، الذي يقتضي الوفاء بالعهود ، وهو زيادة في الحجة له عليهما أمام الله تعالى ، وأمام الناس سواء من حضر ذلك المحضر ، أو من بلغه ذلك المحضر ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣٠.

(٢) شرح نهحج البلاغة ١ / ٢٣٢.


وما جرى فيه ، فلابد أن يعرف الناس الحق ، ويميزوا أهله ، ويحكموا على من خرج عليه.

لقد ادعى طلحة والزبير أنَّهما بايعا بأيديهما ، ولم يبايعا بقلبيهما ، وادعيا أنَّهما أضمرا عند بيعتهما أن يشركهما في أمر الولاية والمشورة ، وما شابه ذلك ، وكل ما ادعياه لا يغري من الواقع شيئاً ، ولا يبرر نقض العهد ، والتاريخ يشهد عليهما بأنَّهما بايعا غير مكرهين ، لأن الإمام علياً عليه‌السلام لم يكره أحداً على البيعة ، وهذا عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ممن امتنع عن بيعته ، فتركهما ، وقد أوضح ـ كما مرّ ـ سياسته التي يريد انتهاجها قبل إبرام البيعة ، ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم عند إبرامها.

أمّا قول الإمام الهادي عليه‌السلام : «فجدّا في النفاق» فلأنَّهما اجتهدا في إخفاء الغدر ، وإظهار الطاعة بتجديد البيعة ، وتوكيد المواثيق ، وهذا نفاق لما فيه من إظهارهما غير ما يبطنان ، وإنَّ نقض بيعة الإمام بعد إبرامها ، بدون مبرر شرعي نفاق ، وقد دلت النصوص على أنَّ بغض الإمام علي عليه‌السلام وحربه نفاق.

تغافل طلحة والزبير ما أعطياه من بيعة ومواثيق مؤكدة ، كما تغافلا ما حذرهما الإمام علي عليه‌السلام عندما استأذناه من ركوب الفتنة ، وتغافلا عن كل ما يعرفان من الآثار ، والمآثم التي تترتب على ما عزما عليه ، فاجتمعا في مكة المكرمة مع أم المؤمنين عائشة ، وانظم إليهم الطريد بن الطريد مروان بن الحكم ، كما انظم إليهم جمع ممن يئسوا من تحقيق المنافع غير المشروعة في ظل حكومة العدل ، وهم بقية الطلقاء وأبناؤهم الذين كانوا يريدون الكيد بالإسلام وأهله ، فأظهروا الطلب بدم عثمان ، وجميع هؤلاء مشتركون بدم عثمان بصورة مباشرة ، أو غير مباشرة ، إما بالتحريض عليه ، أو التقاعس عن نصره ، أو العمل على تفاقم


الأمور التي أدت إلى الثورة عليه.

إجتمعت كلمة هؤلاء على اتهام الإمام علي عليه‌السلام بإيواء قتلة عثمان ، لم ينسَ هؤلاء التناقضات بينهم ، بل تناسوها ، ليجتمعوا على دعوة ضلال ، فكانت تلم شتاتهم المصالح الشخصية ، والحسد ، والبغض لإمام المتقين ، ورمز الحق ، والعدل ، ليؤججوا نار الحرب عليه ، فخرجت هذه التشكيلة تطوي الفيافي والقفار ، يجدّون السير نحو البصرة ، ليوقعوا مجزرة من أكبر مجازر التاريخ ، أزهقت فيها نفوس آلاف من المسلمين دون مبرر ، كما أودت بحياة طلحة والزبير اللذين أججاها ، وأشعلا فتيلها.

خسر طلحة والزبير الدنيا التي كانا يرجوان الفوز بها ، ومن أجلها سلكا الطريق الوعر ، وكبَّدا الأمة خسائر جمة ، وقد خسرا آخرتهما ، بنقضهما العهود والمواثيق ، وإخراجهما حرمة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اُمرت أن تقرَّ في بيتها ، وتحملهما دماء المسلمين التي أريقت في تلك الحرب.


الفِئَة الباغية

«ثم تلاها أهلُ الشام ، فسرت إليهم بعد الإعذار ، وهم لا يدينون دين الحق ، ولا يتدبرون القرآن ، همجٍ رعاع ضالون ، وبالذي أنزل على محمد فيك كافرون ، ولأهل الخلاف عليك ناصرون ، وقد أمر الله تعالى باتباعك ، وندب المؤمنين إلى نصرك ، وقال عزوجل : * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١) * مولاي بك ظهر الحق ، وقد نبذه الخلق ، وأوضحت السنن بعد الدروس والطمس ، فلك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل ، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل ، وعدوك عدو لله جاحد لرسول الله ، يدعو باطلاً ، ويحكم جائراً ، ويتأمر غاصباً ، ويدعو حزبه إلى النار» :

اللغة : الإعذار : أعذر فلان : أي كان منه ما يعذر به ، والإعذار المصدر ، وفي المثل : أعذر من أنذر.

التدبر في الأمر : التفكر فيه (٢).

همج رعاع : الهمج (بالتحريك) : جمع همجة : وهو ذباب صغير كالبعوضة ، يسقط على وجوه الغنم والحميرو أعينها ، ويستعار للأسقاط من الناس ، والجهلة.

والرَعاع (بالمهملات وفتح الأول) : العوام ، والسفلة (٣).

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١٩.

(٢) لسان العرب.

(٣) مجمع البحرين.


الدروس : درس الشي ، يدرسه ، دروساً : ودرسته الريح ، تدرسه ، درساً : أي محته.

الطمس : استئصال أثر الشي (١).

نفوذ معاوية في الشام :

تولى معاوية الشام على عهد عمر ، وبقي في ولايته عليها بقية خلافته ، وطيلة خلافة عثمان ، وفي هذه المدة الطويلة التي ناهزت العشرين عاماً ، استطاع أن يوكد حكمه فيها ، ويُحكم سيطرته عليها ، فقد أغدق العطاء للوجوه والرؤساء ، ووهب الهبات الجزيلة لمن يخاف سطوته ليتألفهم ، فاتسقت له الأمور فيها ، وأطاعه أهلها طاعة عمياء ، فكانت ولايته أهدأ الويلات على عهد عثمان ، لم يُسمع فيها صوتٌ لمعارضة ، سوى صوت أبي ذر ، وقد انتهت معارضته بإرجاعه إلى المدينة المنورة ، وقد اتخذ عثمان الشام منفىً لمعارضيه من مختلف الأمصار اعتماداً على ولائها لمعاوية ، وضبطه لها.

وعندما بويع الإمام علي عليه‌السلام بعد مقتل عثمان ، كتب إلى ولاة الدولة الإسلامية في مختلف الأمصار ، يأمرهم بأخذ البيعة له في ولاياتهم ، فامتثل الولاة أمره ، وأخذوا البيعة له ، إلّا معاوية فإنَّه تلكأ ، وتمرد ، وانفرد بالشام من بين سائر الأمصار ، فقرر الإمام علي عليه‌السلام أن يجهز جيشا لإخضاعها ، وأمر بالتهيؤ لذلك.

وقد أغرى معاوية طلحة والزبير ، فكتب إلى الزبير مدعياً أنَّه أخذ البيعة من أهل الشام للزبير ، ومن بعده لطلحة ، وأنَّهم بايعوه على ذلك ، وحرّضهما على نكث

__________________

(١) لسان العرب.


بيعة الإمام علي عليه‌السلام والخروج عليه (١) ، يريد بذلك إثارة الفتنة عليه ، وتقويض حكمه ، وقد وافق ذلك ما عقدا عليه العزم ، وما كانا يصبوان إليه ، فأعدّا العدة لتنفيذه.

وما أن انتهى الإمام علي عليه‌السلام من تجهيز جيشه ليتوجه به إلى الشام ، حتى وافته أخبار خروج الناكثين : عائشة ، وطلحة ، والزبير ، ومن تبعهم إلى البصرة ، فغيّر وجهته ، وتوجه بمن تبعه من المهاجرين والأنصار إلى البصرة ، وبعد أن استنقذها منهم ، توجه إلى الكوفة ليتخذها مقراً لخلافته ، ثم أرسل بيد جرير بن عبد الله البجلي رسالة إلى معاوية لأخذ البيعة (٢) ، ولكن معاوية أخذ يماطله ، ويعدّ العدة في الخفاء للحرب.

استعانة معاوية بعمرو :

كثرت المراسلات بين الإمام علي عليه‌السلام ومعاوية ، وكان معاوية ـ بعد أن استمال الرؤساء والوجوه ـ قد كتب إلى عمرو بن العاص يستعين به على أمره ، ووعده بولاية مصر إن تمَّ له ما يريد ، فوعده عمرو بأن ينصره ، وسار إليه مؤثراً دنياه على آخرته في نصرة معاوية ، ووقوفه مع الباطل ضد الحق ، وبعد أن انضم عمرو إلى معاوية ، كتب معاوية إلى الإمام علي عليه‌السلام يتهدده بالحرب.

رفع معاوية قميص عثمان علماً لأهل الشام ، وأظهر ظلامته ، واتهم الإمام علياً عليه‌السلام بالتحريض على قتله ، ثم إيواء قاتليه ، وهو بذلك يحرضهم على الإستعداد للحرب.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦١.


علي عليه‌السلام يدعوهم إلى الوحدة :

لقد أعذر الإمام علي عليه‌السلام إلى معاوية وأهل الشام بما أرسله من كتب تدعوهم إلى الدخول في ما دخل فيه عامة المسلمين من بيعته ، وحذرهم فيها من الفتنة ، وإراقة الدماء ، ورغّبهم بالحفاظ على وحدة الأمة ، بإعلان الطاعة للخليفة الشرعي ، وقد تظمنت كتبه أقوى ما يمكن إيراده من الحجج ، وبيّن بالأدلة القاطعة زيف معاوية ، وبطلان دعواه ، وكشف نواياه الشريرة ، ولكن معاوية ومن تبعه من أهل الشام بغوا عليه ، ولم يدينوا بدين الحق ، حيث ثقل نداء الحق على أسماعهم ، وأصمتها الأطماع ، فلم يعوا ما قيل لهم من صريح الحق ، واستجابوا لدعوة الباطل عندما استخفتهم أطماعه ، فهرعوا لينالوا من حطام الدنيا على حساب دينهم ، وسار إليهم الإمام علي عليه‌السلام وهو يحمل راية الحق الذي ينطق به لسانه ، وعنه يدافع بسيفه ، ليحسم الأمر ، فمن استجاب للحق مسلم ، ومن أودى به الباطل فإلى النار. ن

لقد دعا القرآن الكريم إلى الوحدة ، ونهى عن الفرقة ، كما نهى عن اتباع الهوى ، ونهى عن اتباع أئمة الجور ، ودعا إلى الإلتزام بالعهود والمواثيق ، ونهى عن نقضها ، ومن خالف ما أمر به الذكر الحكيم ، أو نهى عنه ، فهو مسؤول أمام الله تعالى.

ويتفق علماء المسلمين ـ على اختلاف مذاهبهم ـ على صحة إمامة الإمام علي عليه‌السلام ، ولزوم بيعته لجميع المسلمين بدون استثناء ؛ لأنَّ أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار قد بايعوه ، وتبعهم على ذلك المسلمون من كافة أرجاء البلاد الإسلامية عدا أهل الشام ، يقول عليه‌السلام : «إنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل ، وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن ، أو بدعة ، ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى ، قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.


الجهل بالأحكام :

لم يتدبر أهل الشام القرآن وأحكامه ، من أوامر ، ونواهي ، بل اتبعوا دعوة الباطل التي أطلقها معاوية ، فعملوا معه على تفريق المسلمين ، وتشتيت شملهم ، وأججوا نار الحرب ضدَّ إمام الحق ، حيث كانوا من سفلة الناس وأسقاطهم ، سلكوا طريقا معوجاً ، وارتكبوا بذلك حماقات أدت إلى تفتت كيان الدولة الإسلامية ، فتردوا بالضلال لمخالفتهم صريح الحق ، وابتعادهم عن سواء السبيل.

وقد نزل الوحي معلناً فضل الإمام علي عليه‌السلام في مناسبات كثيرة ، منها ما جاء في القرآن الكريم ، وقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة كل ما جاء به الوحي ، حتى تواتر به النقل في مختلف الطبقات ، ولكن أهل الشام بخروجهم على الإمام علي عليه‌السلام ، ولعدم إذعانهم لبيعته ، ولما جاء فيه من الذكر الحكيم ، والحديث القطعي الصدور ، فقد كفروا بكل ذلك ، وقد تجاهلوا ما أمر به الله تعالى في كتابه المجيد ، وعلى لسان نبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لزوم اتباع الإمام علي عليه‌السلام ونصره.

أمّا الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فقد جاء في تفسيرها عدد من الروايات التي تدل على أنَّ المقصود بـ (الصادقين) هو الإمام علي عليه‌السلام ، وهي :

١ ـ روي تفسيرها فيه وحده عن ابن عباس (١) ، وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (٢).

٢ ـ روي تفسيرها في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد

__________________

(١) الدر المنثور ٣ / ٢٩٠ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤٢ ، المناقب ٢٨٠ ، نظم درر السمطين ٩١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٦١ ، الدر المنثور ٣ / ٢٩٠ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤٤ ، كفاية الطالب ٢٣٦.


الصادق عليه‌السلام (١).

٣ ـ روي تفسيرها في عامة أهل البيت عليهم‌السلام عن عبد الله بن عمر (٢).

كما روي نزولها في أهل البيت عليهم‌السلام عن ابن عباس (٣) وعن علي عليه‌السلام (٤) ، وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (٥).

ومن البديهي أنَّ أمره تعالى المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين هو إلزامهم باتباعهم ، ونصرتهم ، والأخذ بأقوالهم ، والسير على نهجهم.

موقف علي عليه‌السلام من البغاة :

جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدين هو الحق من الله تعالى ، وقد أوضح للأمة طرق الحق ومسالكه بما بلّغها من أحكامه ، وآدابه ، وتعليماته ، في مختلف شؤونها الدينية والدنيوية ، وكان هو وأهل بيته الكرام عليهم‌السلام أول من طبّق ما جاء به ، وجسّدوه في سيرتهم العملية ، وتبعهم على ذلك خيار الصحابة ، وبذلك أبانوا الحق للناس ، وميزوه عن الباطل.

وبعد أن التحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، بدأت تظهر في الأفق أنواع من الإنحرافات ، وما تلبث أن تنتشر ، وتأخذ طابعاً من القبول ، وتفاقم الأمر حتى صارت تلك الإنحرافات سنناً يعمل بها ، بينما اختفت معالم بعض سنن الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاندرست ، وانمحت آثارها.

__________________

(١) تهذيب الكمال ٥ / ٨٤ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤١.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٥.

(٣) ينابيع المودة ١ / ٣٥٨.

(٤) ينابيع المودة ١ / ٣٤٤.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٣.


والإمام علي عليه‌السلام هو تالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي قال عنه : «علي مع الحق والحق مع علي» وعندما وصلت الخلافة إليه أعاد الأمور إلى نصابها ، وأخذ على عاتقه تطبيق السيرة النبوية والسير على النهج النبوي الصحيح ، فظهر به الحق ، وطبق سننه على نفسه ، وعلى كل قريب منه ، قبل أن يطبقه على البعيد.

جاهد الإمام علي عليه‌السلام على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشركين واليهود على تصديق ما جاء به الوحي ، من تنزيل القرآن المجيد ، وأنباء السماء ، حتى أذعن الناس ، ودخلوا في دين الله أفواجاً ، وتحقق الظفر ، والفتح للدين الإسلامي الحنيف ، فصلُب عوده ، وقويت شوكته.

وبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تقدمه من ولاة الأمر ، بدأ صفحة جديدة من الجهاد في سبيل الله تعالى ، تمثلت بقتال البغاة ، الذين خرجوا عليه من أهل القبلة ، وكان قتاله هذه المرة على تحقيق ما جاء به التنزيل ، والبغاة الذين قاتلهم الإمام علي عليه‌السلام ، هم :

١ ـ الناكثون (وهم طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومن تبعهم) : وهؤلاء نقضوا بيعته ، فخالفوا كتاب الله تعالى فيما أمر به من الوفاء بالعهد.

٢ ـ القاسطون : وهم معاوية ومن تبعه من أهل الشام وغيرهم ممن انضوى تحت لوائه في حرب صفين ضد الإمام علي عليه‌السلام طعناً في بيعته ، أو لم يدخل فيما دخل فيه المسلمون ، بل خرج على وحدة الأمة ، مخالفاً الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

٣ ـ المارقون : وهم الخوارج الذين أوَّلوا الكتاب في غير معناه ، وخرجوا على إمام زمانهم ، والخليفة الشرعي الذي تمت بيعته ، فكفَّروه ، وكَفَّروا كل من لم يؤمن بأفكارهم من المسلمين ، فاستحلوا الدم الحرام ، ثم شهروا سيوفهم ، وراحوا


يحكِّمونها في رقاب الناس ، وعاثوا في الأرض فساداً.

وبقتال هذه الفئات الثلاثة حاز الإمام علي عليه‌السلام فضيلة الجهاد على تأويل الكتاب العزيز ، ممتثلاً ما أمر به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وعده به ، من خروجهم عليه ، وما أمر به بعض الصحابة الكرام من القتال معه ضدهم ، وهو من الأمور التي تظافر بها النقل ، واشتهرت عند المحدثين ونقلة الأخبار ، وقد نقلنا بعضها ولننقل طائفة أخرى منها :

قال علي عليه‌السلام : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والمارقين ، والقاسطين» ، وفي بعض الروايات : (عهد إلي) بدل : (أمرني) ، وفي بعضها إضافات ، أو تقديم ، أو تأخير (١).

وقال مخنف بن سليم : (أتينا أبا أيوب الأنصاري ـ وهو يعلف خيلاً له بصفين ـ فقلنا : قاتلت المشركين بسيفك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ جئت تقاتل المسلمين!.

قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتال ثلاثة : الناكثين ، والقاسطين ، وأنا مقاتل ـ إن شاء الله ـ المارقين بالسعفات ، بالطرقات ، بالنهروانات ، وما أدري أين هو؟!). وفي رواية عقاب بن ثعلبة عنه ، قال : (حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين) (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٨ ، تارخ بغداد ٨ / ٣٣٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ١٢٩ ، كنز العمال ١٣ / ١١٣ ، المناقب ١٧٦.

(٢) تجد الرووايات في ذلك في : أسد الغابة ٤ / ٣٣ ، تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، كفاية الطالب ١٦٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المعجم الكبير ٤ / ١٧٢.


وبهذا المعنى جاءت الرواية عن أبي سعيد الخدري (١) ، وعن عبد الله بن مسعود (٢) ، وعن أم المؤمنين أم سلمة (٣) ، وعن عمار بن ياسر (٤) ، وعن عبد الله بن عباس (٥) ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (٦).

عداء مع الله تعالى :

لاشك أنَّ من عادى الإمام علياً عليه‌السلام ، فهو عدو لله عزوجل ، وجاحد للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنَّه نفسه بنص الكتاب العزيز ، وقد تواتر النقل عنه في وجوب حبِّه ، وفرض ولايته ، والنهي عن بغضه ، ونصب العداء له ، كما تواتر النقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال في غدير خم : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

وثمَّت ملحوظة هامة ، هي نافلة القول في هذا المجال ، فالذين أعلنوا العداء للإمام علي عليه‌السلام ، وشنّوا عليه الحرب ، لم ينقموا عليه إلّا جهاده ، وتقواه ، والتزامه طريق الحق الذي رسمه الدين الإسلامي الحنيف ، فكان عداؤهم له لأنَّه يحملهم على الحق ، ويطبق سنن العدل ، وإن تضاربت معها مصالح المنتفعين على حساب الغير ، وأهواء المبطلين ؛ ولذا فإنَّ نقمة أعداء الإمام علي عليه‌السلام لم تكن لدوافع شخصية بحتة ، بل هي نقمة وعداء لما جاء به الدين الحنيف ، من أسس العدل ، وهي

__________________

(١) أسد ال غابة ٤ / ٣٣ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، المناقب ١٩٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ١٠ / ٩١ ، المناقب ١٩٠.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، المناقب ٨٧.

(٤) سيأتي الحديث عن رواية عمار وما روي عن النبي (ص) في شأنه في محله من الزيارة.

(٥) كفاية الطالب ١٦٧.

(٦) الدر المنثور ٦ / ١٨.


عداء للإسلام فيما شرَّع ، وعداء لله عزوجل ولرسوله الحبيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تقول الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام : «وما الذي نقموا من أبي الحسن ، نقموا ـ والله ـ منه نكير سيفه ، وشدة وطئته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله» (١).

والعدو المقصود ـ هنا ـ هو معاوية بن أبي سفيان الذي أخرج أهل الشام لحرب الإمام علي عليه‌السلام ، وعداء معاوية لله تعالى حقيقة دلَّ عليها سلوكه ، وأثبتتها سيرته ، لقد حارب معاوية الإسلام مع أبيه أبي سفيان في جميع الحروب قبل فتح مكة ، وأنكر على أبيه تظاهره بالإسلام يوم الفتح ، حيث كان خارج مكة يوم الفتح ، ثم أعلن الإسلام كرهاً بعد عودته إليها ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّه في عداد المؤلفة قلوبهم.

ولو لم يرتكب معاوية من الموبقات سوى عداءه للإمام علي عليه‌السلام لكفى به شاهداً على كفره ونفاقه ، ومن راجع سيرته اتضح له بجلاء أنَّه كان جاحداً لما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان يستبيحه من الحرمات ، ويتجاهر بارتكابه من الموبقات ، كتجاهره بشرب الخمر ، وقتله الأبرار من الصحابة والتابعين ، يستحل دماءهم بدون مبرر ، وتنكيله بالصلحاء من المسلمين ، ونهب الأموال ، وتوليتة الفسقة على رقاب الناس ، ونقضه العهود التي أعطاها للإمام الحسن السبط عليه‌السلام ، حيث أعلن بعد إبرامها ـ بلا فصل ـ نواياه الشريرة بعدم الوفاء بها ، واغتياله له بدس السم إليه ، وأخذه البيعة لابنه الفاسق يزيد بالإكراه ، والتهديد ، والوعيد ، وبذله الأموال الطائلة لذوي المطامع من أجل إتمامها (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٣٣.

(٢) راجع تفاصيل ما أشير إليه في : النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ، النص والإجتهاد ٣١٩ ، ٣٣٣ ، الغدير : ج ١٠ / ١١.


إنَّ الإستهتار بأمور الدين بالدرجة التي بلغها معاوية تدل على كفره ، وتؤكد أنَّه جاحد للرسول صلى الله عليه وآله وسل ورسالته ؛ لأنَّه جدَّ واجتهد ، وبذل ما في وسعه لمخالفة ما جاء به ، والعمل على إشاعة البدعة ، وإماتة السنة ، وهو يدعي مع ذلك خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمثيله ، والقيام مقامه في الأمة ، وليس أدل على دعوة الباطل عند معاوية من إعلانه العصيان على الخليفة الشرعي الذي تمت له البيعة ، وتحريضه أهل الشام على قتاله بدعوى التحريض على قتل عثمان وإيواء قاتليه ، وتظاهره بالطلب بدمه بعد أن خذله في حياته.

خدعة معاوية :

اتخذ معاوية دعوى الثأر وسيلة للعصيان ، والتمهيد للتوصل إلى الخلافة ، فجمع حوله أهل المطامع ، وموَّه على المغفلين ، فدعا أهل الشام لبيعته مع قيام البيعة للخليفة الشرعي الذي نص عليه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبايعه المسلمون ، ويعتقد جميع المسلمين بصحة خلافته ، فالشيعة يعتقدون أنَّه الخليفة المعين بالنص بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بلا فصل ، والسنة يعتقدون أنَّ الخلافة انعقدت له بالبيعة الصحيحة بعد مقتل عثمان ، ويتفق المسلمون على عدم جواز وجود خليفتين في وقت واحد ، ويرون أنَّ من تمت له البيعة أولاً هو الخليفة الشرعي ، وعلى هذا فمعاوية لا تصح له ولاية على الشام لأنَّ الخليفة الشرعي لم يقره عليها ، بل أمره بالتنحي ، فتمرَّد ، ولم تصح له خلافة لوجود خليفة شرعي تمت له البيعة ، فهو غاصب في تأمره على الشام ، وكان جائراً في حكمه ، لتمرده على الخليفة الشرعي ، ولما مر من مخالفاته الصريحة للكتاب والسنة.

ويرى الشيعة أنَّ معاوية ومن جاء بعده من الخلفاء الأمويين والعباسيين


لا تصح لهم خلافة ، وأنَّهم غاصبون في تسلطهم على أمور المسلمين ؛ لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على خلافة الإمام علي عليه‌السلام من بعده ، كما نصّ على الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام من ذرية الإمام علي عليه‌السلام ، والخلافة لا تصح إلّا بنصٍّ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المعصوم الذي تمَّ تعيينه بالنص. ن

إنَّ كل دعوتين متضادتين تتصارعان على أمر ، لابد أن تكون إحداهما على الحق ، والأخرى على الباطل ، وللتمييز بين الحق والباطل معايير متختلف باختلاف طبيعة كل دعوة وظروفها ، وممّا تقدم عرفنا أنَّ معاوية داعية ضلال ، وأن دعوته دعوة باطل ، وكان حزب معاوية عوناً للباطل والضلال على الحق والهدى ، لإصرارهم على ذلك بعد قيام الحجة ، ووضوحها بما احتج به عليهم الإمام علي عليه‌السلام وخيار أصحابه ، وبذلك كان معاوية يدعوهم إلى النار ، ويقودهم إليها ، لإيثارهم الباطل على الحق الصريح.


عمار بن ياسر

«وعمار يجاهد ، وينادي بين الصفين : الرواح .. الرواح إلى الجنة ، ولمّا استسقى فسُقيَ اللبن ، كبَّر ، وقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية ، فاعترضه أبو العادية الفزاري فقتله ، فعلى أبي العادية لعنة الله ، ولعنة ملائكته ، ورسله أجمعين» :

اللغة : ضَياح الضَياح (بالفتح) : اللبن الرقيق الممزوج (١).

ضمَّ جيش الإمام علي عليه‌السلام في صفين جمع من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وفيهم من البدريين ، ومن حضر بيعة الرضوان ، وذوي الفضل منهم ، ومن التابعين ، من أمثال : أبي أيوب الأنصاري ، وخزيمة بن ثابت (ذي الشهادتين) ، وعمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وأضرابهم ، بينما ضمَّ جيش معاوية المنافقين ، والمؤلفة قلوبهم ، ومن خرج في الحروب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغرض القضاء على الإسلام من أبناء الأحزاب ، وممن غرّر بهم معاوية ، أو أغراهم ، فباعوا دينهم ، لينالوا من دنيا معاوية ، ولم يكن في جيشه من أهل الدين والورع ، وهذا فارق كبير له أهميته في تقييم طرفي النزاع.

وعمار بن ياسر من السابقين إلى الإسلام ، تحمل الأذى في سبيل الله تعالى ، وشاهد أبويه وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة تحت وطأة تعذيب المشركين ، ولم

__________________

(١) الصحاح.


تفارق شفاههما كلمة التوحيد ، فمضيا شهيدين من أجل الثبات على الدين الذي هو جزء لا يتجزأ من كيانهما ، وكان هو الآخر يعذب بأبشع صنوف العذاب ، فلم يعتز لذلك كيانه ، بل ثبت على عقيدته ، ولم يزل يساير الدعوة منذ الأيام الأولى لإعلانها ، وحتى ارتحال الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ومن ملازمته له عرف مكانة الإمام علي عليه‌السلام ، وتفهَّم ما جاء فيه من الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة ، وما ألزما به المسلمين من ملازمته ، ومتابعته ، وعرف أحقيته في الخلافة ، وقد عُرف عمار على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانقطاعه للإمام علي عليه‌السلام ، وملازمته له ، حتى عُدَّ من شيعته ، ولم يزل عمار ثابتاً على تلك العقيدة ، لم يتأثر بكل ما جرى من أحداث ؛ لأنَّه أخذ ما يعتقده من الكتاب العزيز والسنة النبوية ، وهما منبع الوحي الصافي.

وقف عمار يوم صفين موقف البطل المجاهد ، الذي لا تلين قناته ، فكان على كبر سنه (١) يقتحم جيش الشام ، ثم يعود يحرض الناس على القتال ، وكلماته تنم عن بصيرته ، وعمق إيمانه بالقضية التي يدافع عنها ، وثباته على العقيدة الراسخة ، يقف أمام جيش الإمام علي عليه‌السلام فينادي : (الرواح ... الرواح إلى الجنة) (٢) ، ويندفع إلى القتال منادياً : (اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه) (٣) ، ويقول : (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر (٤) لعلمنا أنّا على الحق ، وأنَّهم على الباطل) (٥) ،

__________________

(١) يتفق كتاب السير والمؤرخون على أنّ عمره كان ينوف على التسعين عاماً.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٦٣ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٢ ، وقعة صفين ٣٣٩.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٦٤ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، المستدرك ٣ / ٢٩٤ ، وقعة صفين ٣٤١.

(٤) هَجَر (بفتحتين) : بلد في الحجاز معروف بكثرة نخيله ، يقال : كمُبضِع تمر إلى هَجَر.

(٥) أنساب الأشراف ٣١٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٧ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، المستدرك ٣ / ٣٨٦ ، المناقب ١٢٦ ، وقعة صفين ٣٢٢.


وعندما نظر إلى راية أهل الشام مع عمرو بن العاص ، قال : (لقد قاتلت هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الرابعة ، وما هي بأبر ولا أتقى) (١) ، ولعل خير ما يوضح لنا رسوخ عقيدته ، وبصيرته في قتال أهل الشام قوله : (اللهم إنَّك تعلم أنّي لو أعلم أنَّ رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر ، لفعلته ، اللهم إنَّك تعلم لو أنّي أعلم أنَّ رضاك في أن أضع ضبَّة سيفي في صدري ، ثمَّ أنحني عليها حتى تخرج من ظهري ، لفعلت ، وإنّي لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم أنَّ عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته) (٢).

وكان عمار كلما شدَّ على القوم يرتجز قائلاً (٣) :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

وبينما كان عمار يخوض غمار الحرب ، يقارع الأبطال ، وينازل الأقران ، أصابه جهد ، وأحس بعطش شديد ، فاستسقى ، فسقي ضياح من لبن ، وعندما نظر إليه تذكر ما أخبره به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصاح : الله أكبر ، وراح يردد الحديث النبوي الشريف : «آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣١٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٣٦٢ ، شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٥٧ ، المستدرك ٣ / ٣٨٤ ، مسند أحمد ٤ / ٣١٩ ، المناقب ١٩٥ ، وقعة صفين ٣٢١.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٥٣ ، وقعة صفين ٢٢٠.

(٣) أنساب الأشراف ٣١٠ ، شرح نهج البلاغة ١٠ / ١٠٤ ، المناقب ٢٣٣ ، وقعة صفين ٣٤١.


الباغية» (١) ، وهذا الحديث رواه عدد كبير من الصحابة بألفاظ مختلفة ، وهم في حدود ما اطلعت عليه : أبو أمامة ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو رافع ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو قتادة ، وأبو هريرة ، وأبو اليسر ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن سمرة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وزياد بن الفرد ، وزيد بن أبي أوفى ، وعائشة ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن ميمون ، وكعب بن مالك ، ومعاوية بن أبي سفيان (٢).

وقد اشتهر أمر هذا الحديث في جيش معاوية يوم صفين ، وراجع ذو الكلاع الحميري عمرو بن العاص فيه ، فأجابه : (سيرجع إلينا ، ويفارق أبا تراب! ، فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع ، فقال عمرو لمعاوية : والله ما أدري بقتل أيِّهما أنا أشد فرحاً! والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار ، لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا أمرنا ـ وفي بعض الروايات : جيشنا ـ) (٣) ، وعندما قتل عمار ، أحدث قتله ضجة في جيش معاوية ، فاستعمل حيلته ليموه عليهم الأمر ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٦٨ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٨٩ ، صحيح الترمذي ٥ / ٣٣٣ ، صحيح مسلم ٨ / ١٨٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٩٨ ، المستدرك ٢ / ١٤٨ ، ٣٨٦ ، المعجم الأوسط ٦ / ٢٠١.

(٢) تجد رواياتهم في : الآحاد والمثاني ٣ / ٤٣٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٣٣ ، ٤٣٥ ، خصائص أمير المؤمنين ١٣٤ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، فضائل الصحابة ٥١ ، فضائل الخمسة ٢ / ٣٧٧ ـ ٣٩٠ ، كنز العمال ١١ / ٧٢٥ و ١٣ / ٥٢٢ و ٥٣٨ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٤٢ ، ٩ / ٢٩٦ ، مسند أحمد ٢ / ١٦١ ، ٥ / ٢٠٧ ، و ٦ / ٣٠٠ ، ٣١١ ، المعجم الكبير ١ / ٣٢ ، ٥ / ٢٦٦ ، ١٩ / ٣٣١ ، وقعة صفين ٣٤١.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٢٩٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٨ / ٢٨ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، وقعة صفين ٣٤١.


وليخدعهم ، فقال لهم : (إنَّما قتله من أخرجه) يخدع بذلك طغام الشام (١) ، وما أظن هذه الحيلة تنطلي على ذي لب ، ولكن القوم حليت الدنيا بأعينهم ، فاتبعوا الهوى ، ونصروا الباطل ضد الحق.

وكما اشتهر أمر الحديث في جيش معاوية اشتهر في جيش الإمام علي عليه‌السلام حتى غالى بعضهم ، فادعى أنَّ الصحابة إنَّما قاتلوا معه لوجود عمار في جيشه ، وأنَّ خزيمة بن ثابت ـ ذا الشهادتين ـ حضر الجمل وصفين وهو لا يسل سيفاً ، ينظر من يقتل عماراً ليعرف الفئة الباغية (٢) ، وهذا بعيد عن الواقع ؛ لأنَّ خزيمة بن ثابت رجل ذو بصيرة ، وهو يعرف أنَّ الحق مع علي ، ويميِّز بين دعوة الحق ، ودعوة الضلال ، وكيف يشتبه الأمر بين من ثبتت إمامته بالنص ، وتمت له البيعة ، وبين من نكث البيعة ، وتمرد على الخليفة الشرعي ، هذا وإنَّ مقتضى الحال أن تعرف استقامة عمار ، ولزومه الحق من متابعته للإمام علي عليه‌السلام ، ومن يذهب إلى عكس ذلك فهو مدفوع إمّا بالتعصب أو الجهل.

جاهد عمار بن ياسر بين يدي الإمام علي عليه‌السلام ، وحرّض على القتال معه حتى استشهد ، واختلف فيمن قتله ، فقيل : قتله أبو العادية الفزاري ، وقيل : شاركه غيره ، وقيل غير ذلك ، ولكن المشهور والذي عليه رواية الإمام علي الهادي عليه‌السلام هذه أنَّ الذي تولى قتله هو أبو العادية الفزاري.

روى البلاذري بإسناده إلى حنظلة بن خويلد ، قال : بينما أنا عند معاوية ، إذ

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١١٠ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٩٨ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٦ ، وقعة صفين ٢٤٣.

(٢) أسد الغابة ٤ / ٤٧ ، الإصابة ٢ / ٢٤٢ ، تاريخ مدينة دمشق ١٦ / ٣٧٠ ، ٤٣ / ٤٧١ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٢٥٩ ، المستدرك ٢ / ٢٤٠.


أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : (لتطب نفس كل واحد منكما لصاحبه برأس عمار ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : تقتل عماراً الفئة الباغية) (١).

وروى ابن قتيبة أنَّ عمرواً قال للمتخاصمين في رأس عمار : (والله إن تتنازعان إلّا في النار ، سمعت رسول الله يقول : تقتل عماراً الفئة الباغية) (٢).

ومن قتتل عماراً فإنَّه يتسحق اللعن من الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملائكته ورسله أجمعين ، لأنَّه قتل مؤمناً من خيرة الصحابة ، وقد شهد الذكر الحكيم له بالإيمان مؤيداً شهادة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في قوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)(٣) ، روي في نزولها : (وأما عمار فإنَّه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فاُخبِر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنَّ عماراً كفر ، فقال : «كلّا ، إنَّ عماراً مُليءَ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه ، وقال : «إن عاادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فأنزل الله هذه الآية) (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣١٢.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١١٠.

(٣) النحل ١٦ : ١٠٦.

(٤) أسباب النزول ١٩٠ لباب النقول ١٣٥ ، وقد روى نزول هذه الآية فيه عدد من المفسرين والمحدثين.


أعداءُ الحق

«وعلى من سلَّ سيفه عليك ، وسللت سيفك عليه يا أمير المؤمنين ، من المشركين ، والمنافقين ، إلى يوم الدين ، وعلى من رضي بما ساءك ، ولم يكرهه ، وأغمض عينه ، ولم ينكر ، أو أعان عليك بيد ، أو لسان ، أو قعد عن نصرك ، أو خذل عن الجهاد معك ، أو غمط فضلك ، أو جحد حقك ، أو عدل بك من جعلك الله أولى به من نفسه وصلوات الله عليك ، ورحمة الله ، وبركاته ، وسلامه ، وتحياته ، وعلى الأئمة من آلك الطاهرين ، إنَّه حميد مجيد» :

اللغة : غَمَطَ : غمطة : حقره وازدرى به.

جَحَدَ : جحد حقه : أنكره بعد علمه به (١).

عَدَلَ بك : عدل فلاناً بفلان : سوّى بينهما (٢).

بعد أن لعن الإمام الهادي عليه‌السلام من قتل عمار بن ياسر ، عطف عليهم باللعن أصنافاً من أعداء الإمام علي عليه‌السلام ، وما من شك أنَّ من عاداه فقد عادى الحق ، وهم :

١ ـ من وقع القتال بينه وبين الإمام علي عليه‌السلام ، وهم صنفان :

الصنف الأول : المشركون : وقد حاربهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يجاهد بين يديه حاملاً رايته ، أو أميراً على جيش أرسله لقتالهم ، وكل من سل سيفه على الإمام علي عليه‌السلام ، أو سل الإمام علي عليه‌السلام سيفه عليه في هذه الحروب

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) المنجد.


لا شك أنَّه مستحق للعن إلى يوم القيامة ، لأنَّه مشرك بالله تعالى ، محارب لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الصنف الثاني : البغاة : وهم الذين عبَّرت عنهم الزيارة بالمنافقين ، وهم جميع من حاربوا الإمام علياً عليه‌السلام أيام خلافته في الجمل ، وصفين ، والنهروان ، لأنَّهم يتظاهرون بالدين ، ويعملون على هدم كيانه ، وتشتيت شمل أهله ، والقضاء على دولته ، لمحاربتهم الخليفة الشرعي ، على أنَّ النفاق ثابت لمن أبغض علياً عليه‌السلام لما روي عنه أنَّه قال : «عهد إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّه لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق» (١) ، وهذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو ذر ، وأبو سعيد الخدري ، وأم سلمة ، وبريدة ، وجابر ، وحنطب ، وعمران بن حصين (٢).

٢ ـ من ريضي بما ساء الإمام علي عليه‌السلام ولم يكرهه : الإمام علي عليه‌السلام سيد المؤمنين ، ورضاه وغضبه لله تعالى ، لأنَّه أذاب نفسه في ذات الله تعالى ، فمن ساءه وأغضبه ساء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك من رضي بما ساءه ، ولم يكرهه لأنَّه بذلك ساند أعداءه بدعمهم معنوياً ، ورضي بفعلهم ، ولو قدِّر له أن يكون معهم لشاركهم فيما هم فيه من النفاق والبغي ، لذا يدخل في عدادهم ، ويكون حكمه حكمهم في استحقاق اللعن والعذاب.

__________________

(١) الإصابة ٤ / ٤٦٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٣٤٩ ، ٤٢ / ٢٧١ ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٥ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٠٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٣٧ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٨.

(٢) تجد رواياتهم في : أنساب الأشراف ٩٦ ، تاريخ الخلفاء ١٧٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٩ ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٥ ، ذخائر العقبى ٩١ ، الصواعق المحرقة ١٢٢ ، فضائل الخمسة ٢ / ٢٠٧ ـ ٢١١ ، كفاية الطالب ٦٨ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٣ ، المعجم الأوسط ٢ / ٣٧٧ ، ٥ / ٨٧.


٣ ـ من أغمض عينه ، ولم ينكر : الزم الدين الإسلامي أتباعه النهي عن المنكر ، وجعل ذلك من أقدس الواجبات ، كما جعل تركه من كبائر الذنوب ، وقد جاء في الحديث الشريف : «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (١) ، فإذا كان في المنكر ما يسيء إلى نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهدد كيان الأمة الإسلامية ، وقد دعا الخليفة الشرعي لدرء الخطر ومحاربته ، وجب على المسلمين النهوض والإنقياد لأمره كل حسب طاقته ، ومن تخلف استحق اللعن والعذاب ، لتهاونه عن نصرة الدين وإمام العدل.

٤ ـ من أعان على الإمام علي عليه‌السلام باليد أو اللسان : أما الإعانة باليد فتشمل : حمل السلاح ، والإشتراك في الحرب ، كما تشمل التجهيز بالسلاح والمؤن ، وشحذ السيوف ، وإصلاح أدوات القتال من السيوف ، والحراب ، والدروع ، والرماح ، والأقواس ، وبري النبال ، وما شاكل ذلك من أعمال يحتاج إليها المقاتلون عند الإستعداد للقتال ، أو أثناء القتال ، ولا يمكن لطرف أن يدخل الحرب بدون هذه الأعمال ، وهي مباحة بالأصل ، وقد تكون واجبة عند تجهيز الجيش الذي يدافع عن الإسلام ، ولكنها تعتبر مساعدة على البغي إذا احتاج إليها جيش البغاة ؛ فتحرم ، ومن مارسها يعتبر مشاركاً في الأعمال الحربية العدوانية ، ومقترف لإحدى كبائر الذنوب ، فيستحق اللعن والعذاب.

وأما الإعانة باللسان ، فتشمل : ما نسميه اليوم : الإعلام المضاد ، أو الحرب الإعلامية ، كتخذيل الناس ، وجثهم على عدم الخروج للجهاد ، وتحريضهم وتشجيعهم على الإنضمام لجيش العدو ، وبث الدعايات المغرضة التي من شأنها قلب الحقائق ، لإيجاد الفرقة في صفوف الجيش ، أو بث الرعب في نفوس أفراده ،

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ٦ / ٥٢٢.


وهذه الأعمال الدعائية تعتبر مشاركة معنوية في الحرب إلى جانب العدو ، ودعم له ، غرضها إلحاق الأذى بالمجاهدين وخذلانهم ، ومن ارتكبها حكمه حكم المحاربين في استحقاق اللعن والعذاب.

٥ ـ من قعد عن نصرة الإمام علي عليه‌السلام ، أو ترك الجهاد معه : لقد أوجب الدين الإسلامي الحنيف على المسلمين نصرة الحق باليد واللسان ، كما أوجب الوقوف بوجه أهل الباطل والبغي ، وذلك لتكون كلمة الله تعالى هي العليا ، وتكون كلمة أعدائه السفلى ، فمن قعد عن نصرة الحق ، أو تخلف عن الجهاد ، فقد ترك ضرورياً من ضروريات الدين ، وخذل أهل الدين بخذلانه إمام العدل ، وساعد البغاة من حيث يريد ، أو لا يريد ، وارتكب بذلك ذنباً من كبائر الذنوب ، فاستحق بذلك اللعن والعذاب.

٦ ـ من تجاهل فضل الإمام علي عليه‌السلام ، وجحد حقه : بعد أن ثبت بالنقل الصحيح والمتواتر لدى جميع المسلمين ، على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم أنَّ الله عزوجل ، والرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهدا بالفضل للإمام علي عليه‌السلام ، وأوجبا حقه على الأمة ، في كثير من الآيات التي فسرت فيه ، والأحاديث الشريفة التي نصت عليه ، وقد تداولها عامة المسلمين ، وحفظوها ، وتناقلها أهل الحديث ، ولم تعد أمراً يجهله أحد من المسلمين ، ومن ازدرى بها ، وأنكرها بعد اليقين ، وثبوتها في الشريعة الإسلامية المقدسة ، فهو راد على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مخالف لما أمرا به ، مستحق للعن والعذاب.

٧ ـ من عدل بالإمام علي عليه‌السلام غيره : جعل اللهُ الإمام علياً عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، كما أكّد ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته يوم الغدير ـ كما مرّ ـ إذ سألهم : مَن أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟. قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : إنَّ الله مولاي ، وأنا


مولى المؤمنين ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ـ يكررها ثلاثا أو أربعاً على اختلاف الروايات (١) ، ثمَّ وثق ذلك ببيعة مشهورة مشهودة ، أدّاها كل من حضر من الصحابة.

فالإمام علي عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، له من الولاية ما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّها متفرعة عنها ، وهي امتداد لها ، وللولاية الإلهية ، فهو أفضل الأمة بمقتضى الولاية ، وبما جاء في بيان فضله من الكتاب والسنة ، وبما تميز به من المكارم ، والفضائل ، والكمالات التي تجعله سابقا لكل من سواه من المؤمنين في جميع الميادين.

ومن الظلم ، والتجاوز ، والجور في الحكم أن يُجعل أحدٌ غير الإمام علي عليه‌السلام عدلاً له ومساوياً في الفضل ، وفي ذلك مخالفة ما ثبت في الكتاب والسنة ، وإذا كان هذا أمر من ساوى بينه وبين غيره ، فمن قدَّم عليه غيره أو فضّله عليه ، فالله تعالى أعلم بما يستحق هؤلاء جميعاً من اللعن والعذاب الأليم ، جزاءً وفاقاً لما اقترفوا من الإثم.

الصلاة على آل محمد :

الصلاة على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريضة أمر بها الكتاب العزيز وأكّدتها السنة النبوية ، وندبت إليها ، وهي من أفضل الأعمال باتفاق المسلمين ، وأكثر علمائهم يرون أنَّ فريضة الصلاة لا تتم إلّا بها ، فهي جزء من التشهد في الصلاة ، واشتهر في ذلك قول الإمام الشافعي (٢) :

__________________

(١) راجع الخطبة في التمهيد ص ١٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) الصواعق المحرقة ١٤٨.


يا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنَّكم

من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

وقال تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (١) ، وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية فيه ، وفي أهل بيته عليهم‌السلام ، فهم شركاؤه في الصلاة والسلام عليه وعليهم ، وقد أمر المسلمين بذلك ، وأرشدهم إليه ، كما نهاهم عن الصلاة عليه دون ذكر أهل بيته عليه وعليهم‌السلام.

روى طلحة بن عبيد الله ، قال : قلنا : يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟. قال : «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد» ، وقد روى عدد من الصحابة أحاديث بهذا المعنى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : إبراهيم ، وابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو مسعود الأنصاري ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وبريدة ، وزيد بن أبي خارجة ، وعائشة ، وعقبة بن عمرو ، وعلي ، وكعب بن عجرة ، ويونس بن خباب (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء. فقالوا : وما الصلاة البتراء؟. قال : تقولون : اللهم صلِّ على محمد ، وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد» (٣). والإمام علي عليه‌السلام هو سيد آل البيت بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوهم ، وكل ما يختص بهم فهو أول أفراده ، وبذلك يستحب السلام والصلاة عليه دائماً.

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٦.

(٢) تجد رواياتهم في : سنن ابن ماجة ١ / ٢٩٣ ، سنن أبي داود ١ / ٢٢١ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٤٨ ، مسند الشافعي ٤٢.

(٣) الصواعق المحرقة ١٤٦.


فَدَك

«والأمر الأعجب ، والخطب الأفظع ، بعد جحدك حقك غصب الصديقة الطاهرة الزهراء سيدة النساء فدكاً ، ورد شهادتك ، وشهادة السيدين سلالتك وعترة المصطفى صلى الله عليكم ، وقد أعلى الله على الأمة درجتكم ، ورفع منزلتكم ، وأبان فضلكم ، وشرَّفكم على العالمين ، فأذهب عنكم الرجس وطهَّركم تطهيرا» :

اللغة : الخطب الشأن أو الأمر ، صغر أو عظم ، يقال : ما خطبك؟ أي ما أمرُكْ؟ وتقول : هذا خطب جليل ، وخطب يسير (١).

الأفظع : فظع الأمر (بالضم) ، فظاعة ، فهو فظيع : أي شديد شنيع ، جاوز المقدار (٢).

الخلافة حق لعلي عليه‌السلام :

الإمام علي عليه‌السلام هو الخليفة الشرعي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، بدليل ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة ، وما دلَّ عليه العقل من أفضليته ، واجتماع مؤهلات الخلافة فيه ـ كما أسلفنا في ما تقدم من هذا الشرح ـ وهذا هو مذهب الإمام علي وأهل بيته عليهم‌السلام في الإمامة ، وتبعهم عليه شيعتهم منذ أن قبض

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) الصحاح.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى هذا اليوم.

وإذا كانت النصوص في ذلك كثيرة متظافرة ، واضحة الدلالة ، ولا تقبل التأويل ، ولا تحتمل التمحّل ، فإنَّ علماء الشيعة من الصدر الأول جارَوا خصومهم تنزلاً عن الدليل القطعي الصدور ، فأضافوا إلى أدلة الكتاب والسنة جملة من الأدلة العقلية التي لا يمكن ردّها ، يجمعها عنوان واحد ، وهو أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ـ كما تدل سيرته ـ تجتمع فيه جميع مؤهلات الخلافة ، وهو أفضل المؤمنين علماً وعملاً ، فلا وجه لتقديم غيره عليه.

ولكن الذي لا ينقضي له الأسف هو أنَّ كثيراً من المسلمين جحدوا ذلك مع وضوحه ، وأعرضوا عن تلك الأدلة ـ عقلية كانت أم نقلية ـ مع علمهم بها ، وفهمهم لما تضمنته ، وعدم وجود ما هو أقوى منها سنداً ودلالة ، فأقصوه عن الخلافة التي نصبه فيها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله عزوجل ، وليتهم اكتفوا بذلك ، ولم يسوّدوا صفحات التأريخ بما اقترفوه في حقه وحق أهل البيت عليهم‌السلام من بعده ، مما يندى له الجبين ، وتمجه الأسماع ، وتشمئز منه النفوس ، وتتفطر له الأكباد أسىً.

فَدَك والمطالبة بها :

أمّا فدك فقد تصالح أهلها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسلموها له صلحاً ، وكانوا قوماً من اليهود أرعبهم ما رأوا من شوكة الإسلام ، بعد نقض اليهود عهودهم ، حيث هزم يهود خيبر ، وسقطت حصونها ، فخافوا أن يصيبهم ما أصاب يهود خيبر.

وعلى هذا فملكية فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا حقَّ لأحدٍ من المسلمين فيها ، لأنَّه أخذها صلحاً بدون حرب ، وقد نحلها لسيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، بعد أن نزل الذكر الحكيم يأمره بذلك في قوله تعالى : (وَآتِ


ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ)(١) فكانت ملكاً لها ، تتصرف فيها على عهده ، والروايات تدل على أنَّه أعطاها فدكاً بعد نزول الآية الكريمة.

قال السيوطي : وأخرج الطبراني ، وغيره عن أبي سعيد الخدري ، قال : لمّا نزلت : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ)دعا رسول الله فاطمة ، فأعطاها فدكاً ـ كذا ، قال ابن كثير : (هذا مشكل ، فإنَّه يشعر بأنَّ الآية مدنية ، والمشهور خلافه) ، وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس مثله (٢) ـ أي مثل ما روى أبو سعيد ـ ويؤخذ على ابن كثير أنَّ هذه الآية وآيات أخرى من سورة الإسراء مدنية ، فهل فات السيوطي وابن كثير ذلك؟! أم أنَّ الإذعان بما جاء في نزولها دليل على تجاوز السلف ، ومخالفتهم الكتاب العزيز ، فأغمضا عيناهما تعصباً؟! والله تعالى هو العالم بما يضمر عباده.

وقد نقل رواية أبي سعيد هذه عدد من الحفاظ في كتبهم (٣) ، كما روي الحديث بذلك عن الإمام علي عليه‌السلام (٤) ، وعن ابن عباس (٥) ، وعن الإمامين : الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ، والإمام جعفر الصادق عليه‌السلام (٦) ، وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام (٧).

قال الإمام علي عليه‌السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف : «بلى كانت في أيدينا فدك

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٦.

(٢) لباب النقول ١٢٣.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٣٩ ، الدر المنثور ٤ / ١٧٧ ، شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٦٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٣٨ ، فضائل الخمسة ٣ / ١٣٦ ، كنز العمال ٣ / ٧٦٧ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٣٣٤.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٢ ، كنز العمال ٥ / ٧٢٦ ، ينابيع المودة ١ / ٣٥٩.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٣ ، الدر المنثور ٤ / ١٧٧.

(٦) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٢ ، الميزان ١٦ / ١٨٩.

(٧) ينابيع المودة ١ / ٢٥٩.


من كل ما أظلته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله» (١) ، وهذا يؤيد أنَّ فدكاً كانت في يد الزهراء عليها‌السلام ، وقد طالبت بها على أنَّها نحلة من أبيها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فطولبت من قبل الخليفة بإقامة البيِّنة على ذلك ، فأقامتها ، وكان شهودها في القضية ثلاثة شهد الذكر الحكيم بإهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، وهم : نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسبطاه سيدا شباب أهل الجنة عليهم‌السلام ، وقد أعلى الله درجة هؤلاء الصفوة بما خصهم من الفضائل التي شهد بها الذكر الحكيم ، ونصَّت عليها السنة النبوية الشريفة ، حيث فرض الله عزوجل على الأمة مودتهم ، وولايتهم ، وجعلهم عدل القرآن ، وأوجب الصلاة عليهم ، إلى غير ذلك مما حباهم به ، فأبان فضلهم ، وشرَّفهم على العالمين ، وقد مرَّ الإستدلال على عصمتهم.

وشهادة الإمام علي عليه‌السلام للبضعة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ممّا اتفق عليه جميع الرواة من الشيعة والسنة ، ويروي السنة أنَّ أم أيمن رضي الله عنها شهدت لها معه ، ويقولون : إنَّ أبا بكر ردَّ شهادتها ، لعدم إتمام الشهادة ، وهو اعتذار وُلد بعد عهد طويل ، ولكن روايات أهل البيت عليهم‌السلام تنص على شهادة السبطين الحسن والحسين عليهما‌السلام في القضية ، وهي أصح ما روي في الموضوع لأمرين : الأول : إنَّ أهل البيت هم أعلم بما جرى في هذا الشأن الذي يهمهم ، ويرتبط بأحقيتهم بخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إنَّ رواية غيرهم في هذا الموضوع لم تسلم من التلاعب تعصباً للسلف ، وتوجيهاً لما تصرَّفوا به ، وما نتج عنه من حيف كبير أصاب العترة الطاهرة.

وقد ردَّ ابن حجر رواية الشيعة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال : (وزعمهم ـ أي

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧١.


الشيعة ـ أنَّ الحسن ، والحسين ، وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أنَّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة) (١) ، والقول بعدم قبول شهادة الفرع والصغير مردود بعصمتها ، والذكر الحكيم عندما أخبر بإذهاب الرجس عنهما ، أما كانا صغيرين؟! وهل أنَّ إذهاب الرجس عنهما لا يقتضي صدقهما ، واستحالة صدور الكذب منهما؟! وهل يمكن أن يتصور أحدٌ أنَّهما لو كانا قد شهدا في قضية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما بهذا السن ، فهل يرد شهادتهما؟!.

وعلى فرض عدم شهادة السبطين عليهما‌السلام ـ كما يدعي ابن حجر ـ فإنَّ أبا بكر لم يأخذ بنظر الإعتبار ما تسالم عليه المسلمون من قاعدة اليد ، حيث كانت فدك في يد الصديقة الطاهرة عليها‌السلام ، كما دلَّ عليه قول الإمام علي عليه‌السلام : «بلى كانت في أيدينا فدك» ، وما دلت عليه الأخبار من أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنحلها إيّاها ، وكانت في حياته بيدها ، كما مرّ بنا آنفا.

والحاصل أنَّ أبا بكر ردَّ ادعاء البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فأغضبها ، كما ردَّ شهادة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمه بأنَّ الله عزوجل قد أذهب عنهما الرجس ، فهما منزَّهان عن الكذب ، وحاشا ابنة الوحي أن تدعي باطلاً ، أو تطلب ما ليس لها فيه حق ، كما رد شهادة أم أيمن ، وقد أقر لها بأنَّ النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر بأنَّها من أهل الجنة ، ولا يدخل الجنة (٢) كاذب ، وهذا ما لم تسالم عليه أهل النقل ، ولا مجال فيه للنقاش والتوجيه والتأويل ، ولكن السؤال الذي يبقى ماثلاً أمام كل منصف هو : أما كان ادعاء البضعة ، وشهادة بعلها ، وولديها عليهم‌السلام كافياً لحصول العلم في القضية ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس؟!.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٢٠.



إلّا المصلين

«قال الله عزوجل : * (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(١) * فاستثنى الله تعالى نبيَّه المصطفى ، وأنت يا سيد الأوصياء من جميع الخلق ، فما أعمَهَ من ظلمك عن الحق» :

اللغة : الهلع : الحرص ، وقيل : الجزع ، وقلة الصبر ، وقيل : هو أسوء الجزع ، وأفحشه ، هلع ، يهلع ، هلعاً ، وهلوعاً.

والشر : السوء ، وضد الخير.

والجزوع : ضد الصبور على الشر ، والجزع نقيض الصبر ، جزع (بالكسر) : يجزع ، جزعاً ، فهو جازع ، وجزع ، وجزوع ، وقيل : إذا كثر منه الجزع ، فهو جزوع.

والعَمَه : التحيُّر والتردد ، وقيل العَمَه : التردد في الضلال (٢).

وفي تفسير الميزان : (الهلوع : صفة مشتقة من الهلع (بفتحتين) : وهو شدة الحرص ، وذكروا ـ أيضاً ـ أنَّ الهلوع تفسره الآيتان بعده ، فهو الجزوع عند الشر ، والمنوع عند الخير ، وهو تفسير سديد ، والسياق يناسبه) (٣).

الهلع من الصفات المتأصلة في بني البشر ، فالإنسان بطبعه يجزع ويتضجر إذا مسه شر ، ويلاحظ ذلك بوضوح عندما يحل به مرض ، أو فقر ، أو ما شابههما ،

__________________

(١) المعارج ٧٠ : ١٩ ـ ٢٢.

(٢) لسان العرب.

(٣) تفسير الميزان ٢٠ / ١٣.


ويكون حريصا عندما يمسه الخير فيكون في حالة من الغنى ، والرفاه ، والسعة ، شحيحاً على المال ، ولكن المؤمنين الذين عبَّر الذكر الحكيم عنهم بالمصلين ، لمداومتهم على الصلاة ، واستزادتهم منها ، يتصفون بالصبر عند الشدائد ، فيسلمون أمرهم إلى الله عزوجل ، فلا يصيبهم هلع ، ولا جزع ، ولا يتصفون بالشح ومنع المال ، بل يُخرجون من أموالهم ما فرض الله تعالى عليهم من حقوق ، ويجتهدون في إسعاد المعوزين من الناس بما يبذلونه لهم مما رزقهم الله تعالى ، يبتغون بذلك وجهه ، ولا شك أنَّ المؤمنين يتفاوتون في ذلك كل حسب درجة إيمانه.

والرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه وصنوه المرتضى عليه‌السلام هما أكمل المؤمنين إيماناً ، وهما أكمل الأفراد الذين تصدق عليهم هذه الآية الكريمة ، حتى كأنَّهما مخصوصان بهذا الإستثناء دون غيرهما ، وسيرتهما خير دليل على ذلك ، ولم أجد فيما لدي من المصادر رواية تخصص نزول هذه الآية الكريمة فيهما ، وما نصَّ عليه الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة كافٍ لمن اتبع هدى أهل البيت عليهم‌السلام.

وكل ظالم هو متردد في الضلال ، متحير ، غير مهتدٍ للحق ، جائر عن القصد ، فكيف بمن ظلم صنو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه ، ومن كان منه بمنزلة الرأس من الجسد ، والذراع من العضد ، ووليه ، والذاب عن حوضه ، إلى غير ذلك مما حباه الله عزوجل من فضل؟! وهو يعلم بما جاء في فضله في الكتاب العزيز والسنة الشريفة ، مع قرب العهد ، ووضوح الحجة والدليل.


سَهمُ ذوي القربى

«ثمَّ أفرضوك سهم ذوي القربى مكراً ، وأحادوه عن أهله جوراً ، فلما آل الأمر إليك أجريتهم على ما أجريا رغبة عنهما بما عند الله لك ، فأشبهت محنتك بهما محن الأنبياء عليهم‌السلام عند الوحدة وعدم الأنصار» :

اللغة : أفرضوك : قطعوا عنك.

أحادوه : حاد عن الشي ، يحيد حيوداً : مال عنه ، وعدل (١).

بعد أن أخذ أبو بكر فدكاً من البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، قطع عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى ، وقد أوجب الذكر الحكيم هذا السهم في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّـهِ ... الآية)(٢).

يتفق المسلمون أنَّ المقصود بـ (ذي القربى) في الآية الكريمة هم : آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرض الله تعالى لهم هذا السهم ، وحرَّم عليهم الصدقة إكراماً لهم لصلتهم النَسَبيَّة به ، وروى الحاكم الحسكاني بسنده عن الإمام علي عليه‌السلام في تفسير هذه الآية الكريمة ، قال : «لنا خاصة ، ولم يجعل لنا في الصدقة نصيباً ، كرامة أكرم الله نبيه وآله بها ، وأكرمنا عن أوساخ أيدي المسلمين» (٣) ، وروى الطبري بسنده

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الأنفال ٨ : ٤١.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٢٨٥ وروي نزولها فيهم عن مجاهد وابن عباس.


عن مجاهد ، قال : كان آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تحل لهم الصدقة ، فجعل لهم الخمس ، وروي نزولها فيهم عن ابن عباس ، وعن علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

وقد اختلف الشيعة والسنة في عدد أسهم الخمس ، كما اختلفوا في مستحقيها ، واختلفوا في ما يجب فيه الخمس :

فالشيعة يرون أنَّ الخمس ينقسم إلى ستة أسهم ، هي : سهم الله عزوجل ، وسهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذان السهمان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسهم ذوي القربى يعود للإمام ، فتكون الأسهم الثلاثة للإمام عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأسهم الثلاثة الأخرى : لليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل من آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة.

وهذا التقسيم ينسجم مع ظاهر الآية الكريمة ، وأحكامه مأخوذة من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم أهل الذكر الذين أمرت الأمة باتباعهم ، والإقتداء بسيرتهم ، ويفتي علماء الشيعة ـ استناداً لأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ـ أنَّ الخمس يجب في الفائض من أرباح جميع الواردات من التجارة ، والصناعة ، والمعادن ، والزراعة ، والخدمات ، لأنَّ الغنم في اللغة يعني كل كسب (٢).

أما السنة فيرون أنَّ الخمس ينقسم إلى خمسة أسهم ، هي : سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسهم ذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل ، واختلفوا في كيفية توزيع هذه الأسهم وفي إلغاء بعضها ، أو إلغائها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل الخمس كله لولي الأمر يتصرف به حسب اجتهاده ، كما يرون أنَّ الخمس يختص بغنائم الحرب ، ولا يتعداها ، ويتمسكون بروايات تنص على أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان

__________________

(١) جامع البيان ١٠ / ٨ وما بعدها.

(٢) راجع تفاصيل ذلك في التبيان ٥ / ١٢٢ ، مجمع البيان ٤ / ٤٦٧ ، الميزان ٩ / ١٠٣ وسائر كتب التفسير والفقه عند الشيعة.


يختص لنفسه من الخمس بسهم ، ويعطي ذوي قرباه سهماً آخر ، وآنَّ أبا بكر جعل هذين السهمين للمسلمين ، فحجب عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى (١).

وبعد ثبوت دفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهم ذوي القربى لأهل البيت عليهم‌السلام عند الشيعة والسنة ، فإنَّ قطعه عنهم ، مقترنا بمنع الزهراء عليها السلام ميراثها من سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلب نحلتها من أبيها ـ فدك ـ وقد احتجت ، وأقامت البيِّنة ، واستدلت بالكتاب العزيز ، وبالسنة الشريفة على ثبوت حقها ، فكان عدم إذعان القوم لمطالبها مكرٌ منهم ، أظهروا فيه حرصهم على الأمة ، فأضافوا لبيت المال ما ليس من وارداته التي شرَّعها الله تعالى على حساب حقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنَّ ذلك يستلزم ثنيهم عن المطالبة بحقهم المغتصب بالخلافة ، ومن منع الحق أهله ، وحجبه عنهم دون مسوغ شرعي فهو جائر ، لأنَّ الحق وسنن العدل تقتضي إعطاء كل ذي حق حقه ، وكل ما خالف ذلك فهو جور.

علي عليه‌السلام والحق المغتصب :

غصبت فدك من الزهراء عليها السلام ، وحجب عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى بأمر من أبي بكر ، وبدعم ومساندة وتأييد من عمر ، واستمر ذلك إلى نهاية عهد عثمان ، وكان ما يرد من هذين الموردين يصرف في شؤون المسلمين في عهد الشيخين ، ولكن عثمان الذي أمضى حكمهما في حجب هذين الموردين عن أهل البيت عليهم‌السلام ، تصرف بأسلوب مختلف ، فقد كان يدفع هبات كبيرة من أموال الخمس ، فقد أعطى الخمس كله مرة لمروان بن الحكم ، وأقطعه فدك ، وهو طريد

__________________

(١) راجع تفاصيل ذلك في : تفسير القرطبي ٨ / ١١ وما بعدها ، جامع البيان ١٠ / ٥ وما بعدها ، النص والإجتهاد ٩٧ نقلاً عن الكشاف في تفسير الآية.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن طريده (١).

عاد الحق إلى نصابه ، واختار المسلمون للخلافة من اختاره الله عزوجل لها ، فأصبح كل من السهم وفدك تحت تصرف الإمام علي عليه‌السلام ، فلم يغير شيئاً ، بل كان يصرف ما يرد منهما في شؤون المسلمين ، رغبة عنهما بما عند الله تعالى من الأجر ، هذا ما يفهم من نص الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة ، ولو راجعنا سيرة الإمام علي عليه‌السلام وجدناها تتفق مع هذا النص ، فقد كان ينفق كل ما يملك في سبيل الله تعالى ، ويؤثر الفقراء والمساكين على نفسه ، وقد جعل ريع الأراضي التي استصلحها في ينبع وغيرها وقفا على فقراء المسلمين ، ولم يجعل لورثته منها إلّا ما يكفي لمؤونتهم.

وقد يقال : أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لم يتصرف بفدك والسهم أيام خلافته تقيَّة ، وإنَّ الظروف لم تكن مواتية للتصرف بهما خلاف ما تصرف بهما سابقيه ، فهذا تعليل بعيد ، قد يعبر عن سبب ثانوي ، ليس هو بالضرورة تفسيراً لما تصرف به الإمام عليه‌السلام ؛ لأنَّه لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا تثنيه عن إحقاق الحق معارضة معارض ، وهو الذي يملك زمام الأمور ، وبيده التغيير ، ولكن الأشبه بسيرته إيثار المعوزين.

محنة علي عليه‌السلام :

تظافر الشيخان على صرف الخلافة عن الإمام علي عليه‌السلام بعد وفاة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث استغلا فرصة انشغال الإمام علي عليه‌السلام وبني هاشم بغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجهيزه ، فلم يُحضِراهم للتشاور في أمر الخلافة ، ودبَّرا أمرهما على حين غرة ، فكان ما كان من حرمانهم من سهم ذوي القربى ، وانتزاع فدك من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٩٨ ، الغدير ٨ / ٢٣٦ نقلاً عن مصادر عديدة من كتب السنة المعتبرة.


الزهراء عليها‌السلام.

وكان إقصاء الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة ـ وهي حقه الشرعي الذي نصبه الله تعالى بها ـ محنة ، وقد استمرت هذه المحنة يوم أوصى أبو بكر بالخلافة إلى عمر ، وأراد لها عمر أن تستمر عندما وضع مبدأ الشورى قبيل وفاته ، ليقصيه عنها ثالثة ، وبصورة غير مباشرة.

لم يكن للإمام علي عليه‌السلام من الأنصار العدد الكافي ، لينتزع حقه في الخلافة من غاصبيه بالقوة ، يقول ابن قتيبة : (وخرج علي كرم الله وجهه ، يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابة ليلاً في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنَّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!. فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم) (١). كان هذا موقف الأنصار ، أما المهاجرون فكان أغلبهم يؤيدون موقف الشيخين.

وعلى الإجمال فلم يكن مع الإمام علي عليه‌السلام إلّا نفر يسير جداً من الصحابة والهاشميين ، فاضطر للسكوت عن حقه ، يقول عليه‌السلام : «فنظرت ، فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فظننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرّ من طعم العلقم» (٢). ودخل عليه المقداد ـ يوم بويع عثمان ـ فقال : قم ، فقاتل ، حتى نقاتل معك. قال علي : فبمن أقاتل ، رحمك الله؟!. وأقبل عمار بن ياسر ينادي :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٦٧.


يا ناعي الإسلام ، قم ، فانعه

يا ناعي الإسلام ، قم ، فانعه

قد مات عزٌّ ، وبدا نكر

أما والله لو أنَّ لي أعواناً لقاتلتهم ، والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن ثانياً.

قال علي : «يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون» (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٥.


علي عليه‌السلام والهجرة

«وأشبهت في البيات على الفراش الذبيح عليه‌السلام إذ أجبت كما أجاب ، وأطعت كما أطاع إسماعيل ، صابراً محتسباً ، إذ قال له : * (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١) * وكذلك أنت لما أباتك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمرك أن تضجع في مرقده ، واقياً له بنفسك ، أسرعت إلى إجابته مطيعاً ، ولنفسك على القتل موطنا ، فشكر الله تعالى طاعتك ، وأبان عن جميل فعلك ، بقوله جل ذكره : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(٢) *» :

اللغة : يشري : شريت الشيء ، أشريه ، شراءً : إذا بعته ، وإذا اشتريته ـ أيضا ـ (وهو من الأضداد) ، قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ): أي يبيعها (٣).

يُبتلى الإنسان خلال حياته باختبارات كثيرة ، إذ تحل به أنواع من المحن ، والرزايا ، والكوارث ، ويقتحم هو كثيراً من الصعاب لغاية أو لأخرى ، والناس يختلفون في معالجة المواقف الصعبة التي تمرّ بهم بين من يقابلها بالجزع ، فيظهر عليه الوهن والفشل منذ اللحظة الأولى لابتلائه بها ، وبين من يقابلها بالصبر

__________________

(١) الصافات : ١٠٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٣) الصحاح.


والثبات ، فيسلّم أمره إلى الله تعالى ، معتقداً أنَّ المخرج بيده ، وهو المعين على تجاوز الصعاب ، والأمور كلها خاضعة لقدرته وإرادته ، وهو العالم بالمصالح ، فلا راد لحكمه ، وهو أحكم الحاكمين.

وكل المؤمنين من الصنف الثاني ، وإن اختلفوا في درجات الصبر والتحمل كل حسب إيمانه ، ويتحلى الأنبياء وأوصياؤهم بأعلى درجات الصبر والتحمل ، فإبراهيم أبو الأنبياء ، وابنه إسماعيل عليهما‌السلام قد مرّا باختبار صعب ، يعتبر أشد الإختبارات صعوبة ، وعسراً ، وإيلاماً للنفس.

بين إسماعيل عليه‌السلام وعلي عليه‌السلام :

اُمر إبراهيم بذبح ولده إسماعيل عليهما‌السلام ، فاستدعاه ، وأبلغه بما أمر الله تعالى فيه ، فلم يجد منه سوى التسليم والإمتثال ، فقد استجاب إسماعيل عليه‌السلام لأمر الله تعالى بكل رحابة صدر ، لم يتردد ، ولم يرهبه الموت ، ما دام ذلك استجابة لأمر الله تعالى ، وإرادته ، وهو الذي اختار له هذه الميتة ، وفيها رضاه.

ووقف إسماعيل عليه‌السلام ينظر إلى أبيه نظرة وداع وهو يشحذ مديته ، منتظراً بثبات ورباطة جأش تنفيذ ما أمر الله تعالى به ، وأضجعه أبوه على الأرض ، ووضع المدية على رقبته ، ليفرغ من تكليفه الشرعي ، ولكن المدية لم تصنع شيئاً ، فقد شاءت إرادة الاله عزوجل أن ينجي إسماعيل من مدية أبيه ، بعد أن مرّا باختبار حققا فيه أعلى درجات الطاعة لله تعالى والإذعان لحكمه ، ففداه الله بذبح عظيم ، وامتثل إبراهيم أمر ربه مرة أخرى ، فرفع المدية عن رقبة إسماعيل ، وانجلت بذلك محنتهما ، وبقيت قصتهما هذه عبرة ، تحدث بها الذكر الحكيم ، يتلوها المؤمنون ليل نهار ، ليتعلموا منها أنَّ أمر الله عزوجل فوق كل اعتبار ، وأنَّه يجب تنفيذه بدون تردد ،


مهما كانت النتائج.

والإمام الهادي عليه‌السلام يشبِّه موقف جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموقف أبيه الوصي عليه‌السلام يوم الهجرة بموقف أبويهما إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، ووجه الشبه بين الموقفين هو أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرعى الإمام علياً عليه‌السلام ، ويتكفله منذ طفولته ، فهو بمنزلة ابنه ، بل كان أكثر شفقة عليه من الأب على ابنه.

وكما كان إبراهيم يريد امتثال أمر الله تعالى بقتل ابنه ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّف الإمام علياً عليه‌السلام بما يواجه به خطر الموت امتثالاً لأمر الله تعالى ، فاستجاب الإمام علي عليه‌السلام بدون تردد ، ممتثلاً أمر الله تعالى ، مستسلماً لإرادته ، كما امتثل إسماعيل عليه‌السلام ، موطناً نفسه على القتل ، ليقي بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكما نجا إسماعيل في اللحظة الحاسمة ، نجا الإمام علي عليه‌السلام من القتل بإرادة الله تعالى ومشيئته.

موقف علي عليه‌السلام يوم الهجرة :

عندما اتفق المشركون على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن هاجر بعض أصحابه إلى المدينة المنورة ، وانتشر فيها الدين الإسلامي الحنيف ، فكانت خطتهم تقضي بأن يجتمع على قتله من كل قبيلة رجل ، ويُجْهزوا عليه ليلاً في داره ، فيضيع دمه بين القبائل ، ويعجز بنو هاشم من الطلب بدمه.

أراد المشركون أن يطفئوا نور الله تعالى ، وأبى الله إلّا أن يتم نوره ، قد خططوا ، فأحكموا خطتهم ، وأحاطوا بدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلاً ، لينفذوا خطتهم تحت جنح الظلام ، ونزل الوحي يخبره بما دبروا له ، ويأمره بأن لا يبيت في داره ، وأن يغادر مكة سرّاً ، ليهاجر إلى المدينة.


كان لابد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخطط لخروجه من بينهم ، فيبقي مكانه أحداً ، حتى لا يشعر المشركون بخروجه ، فيفسد عليه أمره ، وكانت عنده لبعض أهل مكة أمانات ، لابد أن يودعها عند من يأتمنه ، لإعادتها إلى أهلها ، ولابد أن يعهد لمن يرعى عائلته ، وينقلها إلى دار هجرته.

ومما لاشك فيه أنَّ من يمكث مكانه سيتعرض للخطر ، إذ سيُجْهز عليه المشركون في الوقت الذي يرونه مناسباً لذلك ، فإن شعروا بما حدث من تدبير ، وذهلوا عن قتله بالبحث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّه سوف لا يسلم من الأذى والتعذيب ، لأنَّه فوَّت عليهم الفرصة ، فأفشل ما خططوا له ، وهم يطمعون أن يدلهم عليه ، ويخبرهم بالجهة التي توجه إليها ، ويصبح هو الخصم الذي ساعده على النجاة من مكرهم ، وفي ذلك ما يكفي للإنتقام منه.

كانت مهمة من يبيت على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة مهمة بالغة الصعوبة ، وليس للمهمات ، والشدائد ، والصعاب سوى المرتضى الكرار عليه‌السلام ، فاستدعاه ، وبيَّن له ما خطط له القوم ، وعرض عليه ما عزم عليه ، وبيَّن له الواجبات التي تلقى على عاتقه ، فاستجاب الإمام علي عليه‌السلام لأمر الله تعالى ، ولأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون تردد ، مصمما على إنجاز ما عهد به إليه من المهمات على أكمل وجه ، وأحسنه ، حتى لو كلفه ذلك حياته.

خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسار حتى بلغ مأمنه ، بينما اضطجع الإمام علي عليه‌السلام في مضجعه ، وكان المشركون يتسورون الدار ، فيجدونه مضطجعاً في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متشحاً ببرده الحضرمي ، فيقذفونه بالحجارة ، وكان يتحمل الألم ، ولا يتحرك من مكانه ، كي لا يشعروا بخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتركوا الدار ، ويذهبوا للبحث عنه.


وما إن حان الموعد الذي اتفقوا عليه ، واقتحموا الدار لينفّذوا جريمتهم التي خططوا لها ، نهض بوجههم الإمام علي عليه‌السلام كما ينتفض الأسد من عرينه ، فأذهلهم الموقف ، وشعروا بالخيبة ، وكما حفظ الله تعالى إسماعيل عليه‌السلام من الذبح ، فلم تؤثر فيه مدية أبيه ، فقد حفظ علياً عليه‌السلام من كيد المشركين ، فذهلوا عن إنزال الأذى به.

بقي الإمام علي عليه‌السلام في مكة المكرمة ثلاثاً ، أدى فيها ما كلفه به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأوصل الأمانات إلى أهلها ، ورعى عائلته ثم غادر بها مكة المكرمة ، ليلحق بركبه المتجه نحو المدينة المنورة.

وإذا كان هذا الموقف قد جسّد مظهراً من مظاهر تضحية الإمام علي عليه‌السلام التي تنم عن رسوخ عقيدته ، وكمال إيمانه ، وطاعته لله تعالى ، وهو يمثل الإستسلام والإنقياد التام ، لأمر الله تعالى ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون اكتراث بالمخاطر ، بل ببذل النفس في سبيل الله تعالى.

شكر الله تعالى سعي الإمام علي عليه‌السلام وبذله ، فأنزل فيه قرآناً يتلوه المؤمنون جيلاً بعد جيل ، يبين فيه فضله ، قال عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(١) ، يقول الإسكافي في رده على الجاحظ ما نصه : (وقد روى المفسرون كلهم أنَّ قول الله تعالى : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)* اُنزلت في علي عليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش) (٢).

وروى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : (لما أُسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بالغار ـ بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٢.


أطول من الآخر ، فأيُّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟. فكلاهما اختاراها ، وأحبا الحياة ، فأوحى الله إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟. آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبات على فراشه ، يقيه بنفسه ، إهبطا إلى الأرض ، فاحفظاه من عدوه ، فكان جبريل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ .. بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، الله عزوجل يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله تعالى : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)*) (١).

وقد روى نزولها فيه عبد الله بن عباس (٢) ، والسدي (٣) ، والإمام علي بن الحسين (٤).

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ١٢٢ ، الغدير ٢ / ٤٨ ، فضائل الخمسة ٢ / ٣١٠ ، كفاية الطالب ٢٣٩.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٧ ، شواهد التنزيل ١ / ١٢٧ ، كفاية الطالب ٢٣٩ ، ينابيع المودة ١ / ٢٧٤.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ١٢٩.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ١٣٠ ، فضائل الخمسة ٢ / ٢١٣.


رفع المصاحف في صفين

«ثمَّ محنتك يوم صفين ، وقد رُفعت المصاحف حيلة ومكراً ، فأعرض الشك ، وعزف الحق ، واتبع الظن ، أشبهت محنة هارون ، إذ أمَّره موسى على قومه ، فتفرقوا عنه ، وهارون ينادي بهم ، ويقول : * (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ)(١) * وكذلك أنت لما رفعت المصاحف ، قلت : يا قوم إنَّما فتنتم بها ، وخُدِعْتُم. فعصوك ، وخالفوا عليك ، واستدعوا نصب الحكمين ، فأبيت عليهم ، وتبرَّأت إلى الله من فِعلهم ، وفوَّضته إليهم» :

اللغة : أعرض : ظهر. عُزفَ : زُهدَ فيه ، وانصُرف عنه (٢).

إستمر القتال في صفين مدة طويلة بين جيش الإمام علي عليه السالم ، وبين جيش معاوية ، وقد قاتل الجانبان قتالاً شديداً ، لا هوادة فيه ، وكان القتال على أشده ليلة الهرير ، فقد بدأ من الظهيرة ، واستمر طيلة تلك الليلة حتى الصباح دون انقطاع ، وكان لمالك الأشتر رضوان الله عليه موقف مشهود ، وأثرٌ كبير في تقدم جيش الإمام علي عليه‌السلام ، حتى صار يقاتل في معسكر أهل الشام. وفي هذه الليلة خطب الإمام علي عليه‌السلام الناس يحضرهم على القتال ، فقال : «أيها الناس .. قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلّا آخر نفس ، وإنَّ الأمور إذا أقبلت إعتبر

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) لسان العرب.


آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين ، حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزوجل» (١).

وعندما بلغ قول الإمام علي عليه‌السلام معاوية ، عرف أنَّه مصمم على حسم الأمر غداً ، فأحس بالخطر لأنَّ جيشه فقد معنوياته ، وأصبح على وشك الإنهيار والهزيمة ، فدعا عمرو بن العاص ليشاوره ، فقال له : يا عمرو ، إنَّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفيصل ، فما ترى؟. قال : إنَّ رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون علياً إن ظفر بهم ، ولكن إلق إليهم أمراً ، إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، إدعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم ، فإنَّك بالغ به حاجتك في القوم ، وإنّي لم أزل اُؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فعرف معاوية ذلك ، وقال : صدقت (٢).

أمر معاوية جيش الشام برفع المصاحف على الرماح في صباح اليوم التالي ، فرُفع خمسماءة مصحف على أطراف الرماح ، ونادى مناديهم : يا معشر العرب ، الله .. الله في نسائكم وبناتكم من الروم ، والأتراك ، وأهل فارس غداً إذا فنيتم. الله .. الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال الإمام علي عليه‌السلام : «اللهم إنَّك تعلم أنَّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنك أنت الحكم الحق المبين» (٣).

اختلف جيش الإمام علي عليه‌السلام ، فانقسموا إلى طائفتين : طائفة تصرّ على

__________________

(١) وقعة صفين ٤٧٦.

(٢) وقعة صفين ٤٧٦.

(٣) وقعة صفين ٤٧٨.


الإستمرار في القتال حتى يتحقق النصر : وهؤلاء هم أهل البصائر من المهاجرين ، والأنصار ، وفي طليعتهم الهاشميين ، ومن تبعهم من الأنصار ، كانوا على معرفة تامة بسلامة موقف الإمام علي عليه‌السلام ، وأنَّ القتال معه كالقتال مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعرفون زيف معاوية ، وعمرو بن العاص ، وخروجهما على الخليفة الشرعي ، وما يتصفان به من مكر وخداع.

وطائفة أخرى خُدِعت برفع المصاحف : وهؤلاء لم يكونوا على بصيرة ؛ فعرض لهم الشك ، وزهدوا فيما جهلوا من الحق ، فاتبعوا الظن ، ولم ينفع معهم النصح ، فتركوا القتال ، وأخذوا ينادون : المحاكمة إلى الكتاب ، لا يحل لنا الحرب ، وقد دعينا إلى حكم الكتاب (١).

بين علي عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام :

عندما خرج موسى عليه‌السلام إلى المناجاة ، استخلف أخاه هارون عليه‌السلام على أمته ، وطال غيابه ، فتأخر عن موعد العودة ، فصنع السامري عجلاً من الحلي ، له خوار كصوت العجل ، ودعاهم لعبادته مستغلاً تأخر موسى عليه‌السلام عن موعد العودة ، فأضَلَّ بالعجل أمة موسى عليه‌السلام ، فاتبعوا السامري ، وتفرقوا عن هارون عليه‌السلام ولم يلتفتوا لنصحه حيث قال لهم : (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(٢) ، ولكنهم لم يتركوا عبادة العجل ، إذ عميت بصائرهم من الجهل ، وأصرّوا على الإستمرار بعبادته حتى يرجع إليهم موسى عليه‌السلام ، فكانت المحنة بهم ، وبعبادتهم عظيمة على هارون عليه‌السلام ، وهو يراهم يتركون عبادة الله تعالى ،

__________________

(١) وقعة صفين ٤٧٩.

(٢) طه ٢٠ : ٩٠.


ويتمسكون بعبادة العجل.

لقد دعا الإمام علي عليه‌السلام معاوية إلى حكم القرآن مراراً ، قبل أن تنشب الحرب بينهما ، ليتفادى إراقة الدماء ، محاولاً الحفاظ على وحدة الأمة ، وجمع شملها ، بينما كان معاوية يعلم أن ليس له في حكم الكتاب شيٌ يكسبه ، فتمرد ، وأبى إلّا العناد ، ومخالفة الحق ، والخروج على إمام العدل ، والخليفة الشرعي ، وأصرَّ على تعنته وغيِّه.

خالف معاوية الكتاب ، ولم يرض بحكمه ، فأشعل نار الحرب ، وعندما رأى أنَّ جيشه بدأت عليه علامات الإنهيار ، والضعف عن القتال ، فأصبح غير قادر على الصمود والمقاومة ، وأيقن أنَّه سيُغلَب إذا استمرت المعركة على الوتيرة التي كانت تستعر فيها ، تظاهر بالدعوة إلى حكم الكتاب ـ عملاً بمشورة عمرو بن العاص كما مرّ ـ ، فأمر برفع المصاحف ، ولم يفعل ذلك إذعاناً لحكم الكتاب العزيز ، بل فعله لما يقتضيه الموقف من حيلة ومكر ، ليوقف الحرب بإيقاع الخلاف بين جيش الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يكن له مخرج من ذلك المأزق سوى هذه الحيلة.

انطلت حيلة معاوية ، وابن العاص هذه على غالبية جيش العراق ، وكان في الجيش عدد من الخونة والذين يحابون معاوية للنيل من دنياه ، ومن هؤلاء الأشعث بن قيسي الذي ردَّ على المتحمسين للقتال المصرين عليه ، فخاطب الإمام علياً عليه‌السلام ، وقال : (يا أمير المؤمنين ، إنّا لك اليوم على ما كنّا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوَّله ، وما من القوم أحدٌ أحنى على أهل العراق ، ولا أوتر على أهل الشام منّي ، فأجب القوم إلى كتاب الله ، فإنَّك أحق به منهم ، وقد أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال) (١).

__________________

(١) وقعة صفين ٤٨٢.


بهذا المنطق الزائف وقف الأشعث يخذل الناس عن الإمام علي عليه‌السلام ، وكأنَّه يحرضهم على التمرد ، وإلّا ، فمتى أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال؟! وهم منذ أيام يتبادلون الكرَّ والفر مع جيش العدو ، أحينما قضوا ليلتهم تلك في قتال شديد ، وأصبحوا وقد آن لهم أن يحققوا النصر الساحق ، ويقطفوا ثمار ما بذلوا من جهد؟! أم حينما بان الفرع والوهن على جيش الشام ، واقترب من الهزيمة؟!. ولكنَّها الأحقاد الكامنة ، والأطماع بما عند معاوية ، دفعت الرجل لهذا الموقف ، فأجابه الإمام عليه‌السلام : «هذا أمرٌ ينظر فيه» ، وقد أثَّر موقف الأشعث في الجيش ، واستجاب له كثيرون ، ونادى الناس من كل جانب : الموادعة (١) ، لقد نادى بهذا النداء من خُدعوا ، فلم يستطيعوا أن يميزوا بين صريح الحق وزيف الباطل ، فأيدوا دعوة الضلال ، وتفرقوا عن سيد الأوصياء ، ومن هنا يتضح وجه الشبه بين موقفه عليه‌السلام ، وموقف هارون عليه‌السلام ، إذ تفرق عنهما قومهما إثر دعوة ضلال.

وجد الإمام علي عليه‌السلام نفسه أمام وضع محيِّر ، فحاول أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه ، فخاطب القوم ، وهو يسدي لهم النصح ، ويضع أمامهم الحقائق ، قائلاً : «عباد الله ... إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ، ولا قرآن. إنّي أعرَف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، ورجالاً ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال.

إنَّها كلمة حق يراد بها باطل ، إنَّهم والله ما رفعوها أنَّهم يعرفونها ، ويعملون بها ، ولكنَّها الخديعة ، والوهن ، والمكيدة .. أعيروني سواعدكم ، وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلّا أن يقطع دابر الذين ظلموا». فجاءه زهاء

__________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة ٢ / ٢١٦.


عشرين ألفاً سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء ، الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه ، لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله ، إذ دعيت إليه ، وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوَ الله لنفعلنَّها إن لم تجبهم (١).

وعاد الإمام علي عليه‌السلام : إلى نصحهم ، فقال : «أنا أول من دعا إلى كتاب الله ، وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله ، فلا أقبله ، إنّي إنَّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنَّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم إنَّهم قد كادوكم ، وإنَّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون (٢)».

لقد نصح الإمام علي عليه‌السلام القوم ، وبيَّن لهم وجه الحق ، وأوضح حقيقة ما يجري بجلاء ، وألفت نظر الجميع إلى الواقع ، إذ لم يبق ما يغيب عن الأذهان ، بعد أن أبان لهم وجه الحيلة في رفع المصاحف ، وكشف قناع الزيف الذي تستر به كل من معاوية ، وابن العاص ، ولكن القوم أعماهم الغي ، وأصمهم ، فلم يعوا ما أوضحه لهم ، ولم يسترشدوا بما أرشدهم إليه ، واندفعوا مستجيبين لدعوة الباطل.

وبينما كان مالك الأشتر يقاتل في معسكر أهل الشام ، وقد قارب النصر ، اجتمعوا على الإمام علي عليه‌السلام ، فأكرهوه بالتهديد والوعيد على إرجاعه ، ومنعه من القتال ، ثم تطورت الأمور ، فأفلت زمامها من يده عليه‌السلام ، واجتمع قرّاء المصرين ـ العراق ، والشام ـ بين الصفين ، واتفقوا فيما بينهم ، فأعلنوا أن يحيوا ما أحيا القرآن ، ويميتوا ما أمات القرآن ، ولكن الفريقان أماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات

__________________

(١) وقعة صفين ٤٨٩.

(٢) وقعة صفين ٤٨٩.


القرآن عملاً ، فقد اتبع قراء أهل الشام الطليق الباغي ، وخرجوا لقتال الخليفة الشرعي ، ولم يعملوا بقوله تعالى : (١) ، وتقاعس قرّاء العراق عن نصرة إمامهم بعد رفع المصاحف ، وأعلنوا العصيان عليه ، وأكرهوه على الموادعة ، ولم يعملوا بقوله تعالى : (٢) ، وما ذلك إلّا لأنَّهم كانوا يقرأون القرآن بألسنتهم ، ولم تعِ قلوبهم ما تضمنته آياته ، فلم يعملوا بأحكامه.

أسفر اجتماع القرّاء عن الإتفاق على اختيار حكمين للفصل في النزاع ، فاختار قرّاء الشام عمرو بن العاص ، واختار قرّاء العراق أبا موسى الأشعري ، وقد رفض الإمام علي عليه‌السلام اختيار أبي موسى ، والذي جرى دون أخذ رأيه ، فقال : «فإنّي لا أرضى بأبي موسى ، ولا أرى أن أوليه» ، وأراد أن يولي ابن عباس ، أو الأشتر ، فأبى عليه الأشعث ، وابن فدكي ، والقراء ، وأكرهوه على أن يولي أبا موسى حكماً ، كما أكرهوه على قبول التحكيم من قبل (٣) ، وكأنَّه أصبح مأموراً بعد أن كان الأمر والنهي بيده ، فأشبهت محنته محنة هارون عليه‌السلام إذ سار القوم خلف أهوائهم ، فلم يصغ أحد منهم إلى نصحه ، وأعرضوا عما يوجههم إليه.

__________________

(١) هود ١١ : ١١٣.

(٢) النساء ٤ : ٥٩.

(٣) وقعة صفين ٤٩٩.



الخوارج

«فلما أسفر الحق ، وسَفِهَ المنكر ، واعترفوا بالزلل ، والجور عن القصد ، اختلفوا من بعده ، وألزموك على سَفَهٍ التحكيم ، الذي أبيته ، وأحبوه ، وحظرته ، وأباحوا ذنبهم الذي اقترفوه ، وأنت على نهج بصيرة وهدى ، وهم على سنن ضلالة وعمى ، فما زالوا على النفاق مصرين ، وفي الغي مترددين ، حتى أذاقهم الله وبال أمرهم ، فأمات بسيفك من عاندك ، فشقي وهوى ، وأحيى بحجتك من سعد ، فهُدي» :

اللغة : أسفر : انكشف ، أشرق (١).

السَّفَهُ : ضد الحلم ، وأصله الخفقة ، والحركة (٢). وسفِهَ المنكر : ظهر به من خفة ، وبان سفهه. وسفه التحكيم : ما به من خفة وجهل.

الجور عن القصد : جار ، يجور : ضلَّ ، ومال.

القصد : العدل ، والقصد من الأمور : المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط (٣).

أبيته : أبى ، يأبى (بالفتح فيهما) : أي امتنع (٤).

حظرته : حظر الشيء ، يحظره ، حظراً : منعه ، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الصحاح.

(٣) تاج العروس.

(٤) الصحاح.


حظره عليك (١).

بعد أن أكره القوم الإمام علياً عليه‌السلام على الموادعة ، وقبول التحكيم ، وعلى اختيار أبي موسى حكماً عنه ، اتفق الطرفان على الهدنة ، وكتبا بينهما عهداً أشهدا فيه جمعاً من وجهاء الجيشين المتحاربين ، ورؤسائهم ، ثم أخذ الأشعث عهد الهدنة بعد إبرامه ، فقرأه على الجيشين.

وبعد أن عزم جيش العراق على العودة ، أدركوا أنَّهم كانوا على خطأ في قبول التحكيم ، والإنصراف عن القتال ، لأنَّ الحجة لهم ، وأنَّ عدوَّهم باغْ ماكر ، لا حجة له ، ولا دين ، فندموا على ما اقترفوه من مخالفة الإمام عليه‌السلام ، ولكنهم إذ وعَوا ذلك وعرفوه ، لم يحسنوا التصرف ، بل تصرفوا بأسوأ مما اقترفوه من قبل ، وأخذوا ينادون : (لا حكم إلّا لله ، الحكم لله ـ يا علي ـ لا لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله ، إنَّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يُقتلوا ، أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم ، وقد كانت منّا زلة ، حين رضينا بالحكَمَين ، فرجعنا ، وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا ، وتب إلى الله كما تبنا ، وإلّا برئنا منك (٢)). بهذا المنطق الزائف واجهوا الإمام علياً عليه‌السلام ، يطلبون منه أن يتوب من ذنب هم اقترفوه ، إذ لم يسمعوا نصح إمامهم عندما نهاهم عنه ، وأسدى لهم النصح ، ولم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه نقض العهد الذي أكرهوه على إبرامه ، وفي ذلك مخالفة للكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، ونقض العهد من كبائر الذنوب ، فما الذي يُنتظر من إمام المتقين عليه‌السلام إلّا أن رد عليهم قائلاً : «ويحكم! أبعد الرضا ، والميثاق ، والعهد ،

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) وقعة صفين ٥١٣.


نرجع؟!. أليس الله تعالى قد قال : * (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) *؟!. وقال : * (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)(٢)(٣).

بين الهدى والضلال :

كان الإمام علي عليه‌السلام على بصيرة من أمره ، لأنَّه يسير على نهج الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقتفي أثره ، ويهتدي بهداه ، لذا فإنَّه لم يفارق الصواب قط ، ولم ينحرف عن الحق في جميع تصرفاته ، فهو يتمسك بحقه الشرعي ، ويدلي بحجة قوية واضحة ، لا يسع أحدٌ ردَّها ؛ لذا فإنَّه لم يشك في موقفه لحظة واحدة ، ولم يمسك عن القتال لشبهة علقت في ذهنه ، ولا لشك عرض له ، بل اضطر لأمرٍ لا مناص له من قبوله ، فقبله على مضض ، وأعلن للملأ خطأ ما ألجأوه إليه ، والمخاطر التي تترتب على ذلك الخطأ ، ونبَّههم إلى أنَّهم خُدعوا بدعوة ضلال ، ودعاهم إلى التمسك بما هم عليه من الحق ، والإستمرار بالقتال ، ولكن القوم أعماهم جهلهم ، ورسخت الشبهات في أذهانهم ، وخدعتهم مكيدة معاوية ، وابن العاص ، فتمسكوا بدعوة الضلال ، وتمردوا على إمام الحق والخليفة الشرعي ، ولم يعوا نصحه ، ونصح صفوة أصحابه المؤمنين من الصحابة والتابعين ، ثم جاءوه يطلبون منه نقض العهد بعد إبرامه وتوكيده ، وهل هذا إلّا ضلال وعمى؟!.

وعندما بدأت الهدنة ، دفن الناس قتلاهم ، ونادى منادي الإمام علي عليه‌السلام

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) النحل ١٦ : ٩١.

(٣) وقعة صفين ٥١٣.


بالرحيل ، وركب الناس ليعودوا إلى الكوفة ، ولكنهم عادوا منقسمين بعد اجتماعهم ، وقطعوا طريق العودة بالتشاتم ، يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم (١) في دين الله. ويقول المؤمنون : فارقتم إمامنا ، وفرقتم جماعتنا.

ولم ينفع الخوارج نصح الإمام علي عليه‌السلام ، ووضوح حجته في تمسكه بالهدنة إلى أجلها ، لينظر ما يسفر عنه اجتماع الحكَمَين ، فإن حكما بما جاء به الكتاب ، فهو أحق باتباعه ، وإن حكما بخلافه ، فلا يلزمه عهد ، فأصرّوا على عنادهم ، وما أن اقتربوا من الكوفة ، اعتزلوا الجيش ، وذهبوا إلى حَرَوراء (٢) ، فنزلها منهم اثنا عشر ألفاً ـ على رواية أبي مخنف ـ ونادى مناديهم : (إنَّ أمير القتال : شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة : عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر) (٣).

لم يترك الإمام علي عليه‌السلام الخوارج ، ليبقوا على ضلالهم ، بل حاول إنقاذهم من الضلال ، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، فذهب إلى حروراء ، فنصحهم ، وبيَّن لهم الحقائق ، وأبطل ما علق في أذهانهم من شبهات ، ولكنَّهم لم يذعنوا ، ولم ينفع معهم نصح. فذهب إليهم الإمام علي عليه‌السلام بعد ذلك بنفسه ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : «اللهم إنَّ هذا مقام من أفلج (٤) فيه ، كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطق فيه ، فأوعث (٥) ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ثم قال

__________________

(١) المداهنة : إظهار خلاف ما يضمر (القاموس المحيط).

(٢) حَرَوراء : قيل : هي قرية بظاهر الكوفة ، وقيل : موضع على ميلين منها ، نزل به الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فنسبوا إليها (معجم البلدان).

(٣) أنساب الأشراف ٣٤٢.

(٤) أفلج : الفلج : الظفر والفوز ، وأفلج الله حجته : قومها وأظهرها (الصحاح).

(٥) أوعث : عجز عن الكلام (المنجد).


لهم : من زعيمكم؟. قالوا : ابن الكواء. قال علي : فما أخرجكم علينا؟!. قالوا : حكومتكم يوم صفين!. قال : أنشدكم بالله ، أتعلمون أنَّهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنَّهم ليسوا بأصحاب دين ، ولا قرآن ، إنّي صحبتهم ، وعرفتهم ، أطفالاً ، ورجالاً ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال ، إمضوا على حقكم ، وصدقكم ، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ، ودهنا ، ومكيدة ، فرددتم علي رأيي ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم؟!.

فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ، ومعصيتكم إيّاي ، فلما أبيتم إلّا الكتاب ، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بالقرآن ، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا ، فنحن من حكمهما براء.

قالوا : فخبَّرنا ، أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟!. فقال : إنّا لسنا حكّمنا الرجال ، إنَّما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنَّما هو خط مسطور بين دفتين ، لا ينطق ، إنَّما يتكلم به الرجال. قالوا : فخبرنا عن الأجل ، لم جعلته فيما بينك وبينهم؟!. قال : ليعلم الجاهل ، ويتثبت العالم ، ولعل الله عزوجل يصلح في هذه الهدنة ، أدخلوا مصركم رحمكم الله» (١).

أبان الإمام علي عليه‌السلام للقوم سلامة موقفه ، وأبطل بحججه ما علق في أذهانهم من شبهات ، وأرشدهم لما فيه الصواب ، وأوضح لهم أن ما نقموا عليه من أمور ، كانوا هم السبب لها ، إذ أكرهوه على المهادنة والتحكيم ، فأظهروا له الرضا ، ودخلوا الكوفة ، وقلوب قسم منهم على ما كانت عليه من الخلاف له ، فكانوا فريقين : فريق اهتدى إلى الصواب ، فدخل في الطاعة ، وفريق بقي على غيِّه ، أضمر

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٤٧.


الشر ، فصمم على العصيان ، والعدوان على الأمة ، ولم يخفَ على الإمام علي عليه‌السلام ذلك ، فما برح يسدي لهم النصح في خطبه ، ويقيم الحجج والبراهين الواضحة على سلامة موقفه ، ويدعوا إلى وحدة الأمة ، مستغلاً كل مناسبة عله يهدي بنصحه أحداً منهم ، لينقذه من النار.

لم ينتفع الخوارج بنصح ، ولم تنفع معهم موعظة ، ولم يذعنوا لحجة ، فأخذوا يتسللون من الكوفة ، فخرجوا إلى النهروان قرب المدائن ، وعاثوا في الأرض فساداً ، واستحلوا الدماء والأموال ، ولم يسع الإمام علي عليه‌السلام أن يدع الخوارج يقتلون وينهبون بلا رادع ، فخرج بجيشه لملاحقتهم ، فوصل إلى النهروان ، وأعذر لله تعالى في الخوارج بالنصح والإرشاد ، ثم طلب منهم أن يسلموه القتلة ، ليمضي فيهم حكم الله تعالى ، ويرجعوا إلى ما خرجوا منه ، ولا يشتتوا شمل الأمة ، اهتدت جماعة أخرى من الخوارج ، فانضموا إلى جيشه ، وأصرّ الباقون على الغي والضلال ، وأبوا تسليم الجناة ، وأقروا له : بأنَّهم جميعاً مشتركون في القتل ، وما جرى من الفساد في الأرض ، فناجزهم القتال ، واسفرت المعركة عن قتل عدد كبير منهم ، إذ لم يبق منهم سوى عشرة رجال هربوا.

لقد شقي أهل الضلال ، الذين أصروا على الخلاف ، واتباع الهوى ، فخسروا الدنيا والآخرة ، وهم مخلدون في النار ، لخروجهم على إمام زمانهم ، ولسوء عقيدتهم ، ولما ارتكبوا من شق الصف ، والقتل ، والنهب ، وأمّا الذين وعوا نصائح الإمام علي عليه‌السلام ، وتدبروا حججه وما جاء به من براهين واضحة ، فعادوا إلى رشدهم ، وأعلنوا التوبة عما بدر منهم من خلاف ، ودخلوا في طاعة من فرض الله تعالى طاعته ، وولايته ، وهؤلاء كسبوا الدنيا ، إذ أنجوا أنفسهم من القتل ، وسعدوا في الآخرة لأنَّ : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (١).

__________________

(١) الجامع الصغير ١ / ٥١٩.


جامع الفضائل

«صلوات الله عليك غادية ، ورائحة ، وعاكفة ، وذاهبة ، فما يحيط الماح وصفك ، ولا يُحْبط الطاعن فضلك ، أنت أحسن الخلق عبادة ، وأخلصهم زهادة ، وأذبَّهم عن الدين ، أقمت حدود الله بجهدك ، وفللت عساكر المارقين بسيفك ، تُخْمِدُ لَهَبَ الحروب ببنانك ، وتهتك ستور الشُبَهِ ببيانك ، وتكشف لبس الباطل عن صريح الحق ، لا تأخذك في الله لومة لائم ، وفي مدح الله تعالى لك غنىً عن مدح المادحين ، وتقريض الواصفين» :

اللغة : صلوات الله : الصلاة من الله تعالى : الرحمة (١).

غادية : الغدوة : ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (٢).

رائحة : الرواح : نقيض الصباح : وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل (٣).

عاكفة : عكف على الشيء ، يعكف ، عكفاً : أقبل عليه مواظباً ، لا يصرف عنه وجهه ، وقيل : أقام.

ذاهبة : الذهاب : السير والمرور (٤).

__________________

(١) الصحاح.

(٢) القاموس المحيط.

(٣) الصحاح.

(٤) لسان العرب.


يحبط : حبط عمله ، حبطاً (بالتسكين) ، وحبوطاً : بطل ثوابه (١).

أذبَّهم : الذب : الدفع والمنع.

المارقين : مرق السهم من الرمية ، يمرق ، مروقاً : خرج من الجانب الآخر ، وفي الحديث (وذكر الخوارج) : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية : أي يجوزونه ، ويخرقونه ، ويتعدونه ، كما يخرق السهم المرمي به ، ويخرج منه ، وفي حديث علي عليه‌السلام : اُمرت بقتال المارقين (يعني الخوارج).

البنان : الأصابع ، وقيل : أطرافها (٢).

تضمنت هذه الفقرة الدعاء للإمام علي عليه‌السلام ، بأن تلازمه رحمة الله تعالى دائماً ، وفي كل الأوقات ، لا تفارقه ، ولا تنقطع عنه ، في الغداة عند الصباح الباكر ، وبعد الزوال عند الرواح ، والذهاب ، وعاكفة ملازمة بين الصباح الباكر والزوال ، ومن الرواح إلى الفجر ، بما قدَّم من العمل الصالح ، والخدمات الجليلة للدين الإسلامي الحنيف ، والتضحيات الجسيمة في سبيل الله تعالى ، ومن أجل نصرة دينه ، وإقامة العدل في الأرض.

مدح الإمام علي عليه‌السلام :

إنَّ حياة الإمام علي عليه‌السلام تزخر بالخير والعطاء ، وقد جرت الأقلام علَّها تستكشف خفايا أسرارها ، وغاصت الأفكار علّها تبلغ الأعماق ، فتحضى باستخراج بعض الكنوز التي حواها هذا البحر الزاخر ، ولا أراني مبالغا إن قلت : أن جميع من بحث ، وكتب عن حياته ، يشعر بالقصور مهما بلغ من علم ، ودقة ، وحنكة ،

__________________

(١) الصحاح.

(٢) لسان العرب.


وعمق ، إنَّ رجلاً قضى عمره الشريف في طاعة الله عزوجل ، بلا كلل ، ولا ملل ، وتحمل ما تحمل في سبيل ذلك من المخاطر ، يلقي نفسه في لهواتها دون اكتراث ، ولم يزل يجد ويجتهد في العمل دائباً ، مسخراً كل طاقاته في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض بالدعوة إلى دينه ، والسعي إلى تطبيق شريعته الغراء ، وإقامة العدل على الأسس التي وضعتها ، لم يغفل عن ذلك لحظة واحدة ، ولم يترك العمل به ، ولم يتوان عنه ، كما لم تخطر له المعصية على بال ، مثل هذا الإمام الطاهر عليه‌السلام يصعب وصفه ، ويصعب مدحه بما هو أهله ، وبما يستحق ، فأي فضيلة من فضائله يستطيع الباحث ـ مهما أوتي من القدرات والمواهب العلمية والأدبية ، والدقة في البحث ـ أن يشبعها بحثاً ، وتدقيقاً ، فضلاً عن الإطاحة بالجميع؟!.

أمّا الذي يريد إحباط فضله عليه‌السلام ، فهمته أشد صعوبة وعسراً ، لأنَّه كمن يريد أن يأتي برابعة المستحيلات ، أو يريد أن يحجب نور الشمس بحجاب رقيق ، فهو لا يستطيع أن يجد فيمن طهَّره الله عزوجل من الرجس تطهيرا ، وعصمه من الزلل سوى الفضائل والمكرمات ، وإذا تركنا ما جاء في الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة جانباً ، مجاراة لمن يرى التأويل ، أو يدعي التكذيب والتحريف ، فإنَّ ما جاء في كتب التاريخ عن سيرته ـ على الرغم من توجّهات كاتبيها ـ يشهد للوصي المرتضى عليه‌السلام بأسمى افضائل ، فيدونها بفخر واعتزاز ، ويشهد على أعدائه بالتجني ، والزور ، والبهتان ، والظلم ، ويدون مخازيهم ، ومخالفاتهم للكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وقد أجهدوا أنفسهم ، وأتعبوها ، ليختلقوا مطعناً ، يمكنهم إلصاقه به ، فلم يتمكنوا ، وقد جازفوا بذلك ، فافتضحوا ، وباءوا بالفشل ، وبان ما ارتكبوه من بهتان ، ثمَّ اتجهوا لإخفاء فضائله ، فاستخدموا لذلك كل ما لديهم من قوة ، وقسوة ، فقطعوا العطاء ، وهدموا الدور ، وسجنوا ، وعذبوا ، وقتلوا ، فلم تنجح تلكم


المحاولات اليائسة في إخفاء فضله ، بل على العكس نراهم ـ وهم يبذلون كل الجهود لإخفاء فضله ـ يعترفون بفضائله في أحلك الظروف ، وفي أشدها حاجة لإخفاء فضله ، ولننقل أنموذجين لذلك :

١ ـ روى ابن قتيبة ، قال : (وذكروا أنَّ رجلاً من هَمدان ، يقال له : برد ، قدم على معاوية ، فسمع عمرواً يقع في علي ، فقال له : يا عمرو ، إنَّ أشياخنا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، فحق ذلك أم باطل؟!. فقال عمرو : حق ، وأنا أزيدك أنَّه ليس أحدٌ من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي ، ففزع الفتى. فقال عمرو : إنَّه أفسدها بأمره في عثمان. قال برد : هل أمر ، أو قتل؟!. قال : لا ، ولكنه آوى ، ومنع. قال : فهل بايعه الناس عليها؟. قال : نعم. قال : فما أخرجك من بيعته؟!. قال : اتهامي إيّاه في عثمان. قال له : وأنت ـ أيضاً ـ اتهمت. قال : صدقت ، فيها خرجت إلى فلسطين. فرجع الفتى إلى قومه ، فقال : إنّا أتينا قوماً ، أخذنا الحجة عليهم من أفواههم. علي على الحق ، فاتبعوه) (١).

٢ ـ وروى ابن قتيبة ـ أيضاً ـ قال : (ذكروا أنَّ عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب. فقال معاوية : لله أنت! أتدري ما قلت؟!. أما قولك : الغبي ، فوالله لو أنَّ ألسن الناس جمعت ، فجعلت لساناً واحداً ، لكفاها لسان علي. وأمّا قولك : إنَّه بخيل ، فوَالله لو كان له بيتان : أحدهما من تبر ، والآخر من تبن ، لأنفذ تبره قبل تبنه. فقال الثقفي : فعلام تقاتله إذاً؟!. قال : على دم عثمان ، وعلى هذا الخاتم ، الذي من جعله في يده ، جادت طينته ، وأطعم عياله ، وادَّخر لأهله. فضحك الثقفي ، ثم لحق بعلي ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة.


فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي يدي بجرمي ، لا دنياً أصبت ، ولا آخرة. فضحك علي ، ثمَّ قال : أنت منهما على رأس أمرك ، إنَّما يأخذ الله العباد بأحد الأمرين) (١).

ولننقل تقييم ما ظهر على ألسن من حاولوا النيل من الإمام علي عليه‌السلام والطعن عليه ، من رجل لا يؤمن بولايته ، فقد روى ابن عبد ربّه عن الرياشي ، قال : (انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً ، فقال له أبوه : يا بني ، إنَّه ـ والله ـ ما بنت الدنيا شيئاً إلّا هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئاً فهدمته الدنيا ، أما ترى علياً ، وما يظهر بعض الناس من بغضه ، ولعنه على المنابر ، فكأنَّما ـ والله ـ يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء؟!. وما ترى بني مروان ، وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنَّما يكشفون عن الجيف) (٢).

من خصائص علي عليه‌السلام :

مرّ الحديث عن عبادة الإمام علي عليه‌السلام في موضوع مستقل (٣) ، وقلت : أنَّ كل عمل من شأنه إسعاد الناس في الدنيا والآخرة ، فهو عبادة ، إذا أريد به وجه الله تعالى ، وأعطف على ما تحدثت عنه هناك : أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام بمعرفته التامة بأحكام الشريعة ، وتعليماتها ، ولفهمه للعبادات فهماً سليماً يخلو من كل شائبة ، ولأنَّه أخذ ذلك من أسلم طرقه ، حيث تربى في حجر المشرع ، وتعلم من الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان من بعده مرجع الأمة في ذلك ، وإمامها الذي يجب عليها الإقتداء به ، لذلك فهو يتوخى من العبادة أفضلها ، وأكثرها أهمية ونفعاً ، وأفضلها

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٠١.

(٢) العقد الفريد ٥ / ٩٢.

(٣) ص ١١١ من هذا الكتاب.


عند الباري عزوجل ، فيؤديها بما عهد عنه من إخلاص ، فلا شك أنَّه أحسن الخلق عبادة ، لا يفضله في ذلك سوى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يختلف زهده عن عبادته في ذلك ، فهو أخلصهم زهادة (١).

ولم يعرف التاريخ رجلاً في الإسلام أكثر جهاداً ، وتضحية ، وذبّاً عن الدين بيده ولسانه ، وقد تقدم الحديث في مواضيع عديدة من هذا الكتاب عن مواقفه الحاسمة في مختلف الحروب والمغازي ، وأثرها في نصرة الدين ، وما ذكر منها جزء يسير من مواقفه ، أمّا ذبّه عن الدين باللسان فقد نقلت الكتب منه ما لا يسع نقله في هذا المختصر.

المارقون :

وكل من حارب الإمام علياً عليه‌السلام فهو مارق خارج على الدين ؛ لأنَّه راد على الله عزوجل ، وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تنصيبهما إيّاه للخلافة ، وولاية الأمر ، وقد اختص هذا الاسم بالخوارج ، وعرفوا به دون غيرهم ، لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سماهم به ، وهذا من دلائل نبوته ، إذ أخبر عن أمر حدث بعد وفاته بسبع وثلاثين عاماً ، روى أبو سعيد الخدري ، قال : (بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من تميم ، فقال : يا رسول الله إعدل!. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك ، من يعدل إذا لم أكن أعدل. فقال عمر : ائذن لي فيه ، فأضرب عنقه. قال : دَعْهُ ، فإنَّ له أصحاباً ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ... إلى أن قال : آيتتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة

__________________

(١) راجع ص ٢٨٩ من هذا الكتاب.


تدردر ، ويخرجون على خير فرقة من الناس. قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذا الحديث من رسول الله ، وأشهد أنَّ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قاتلهم ، وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل ، فالتمس ، فأتي به ، حتى نظرت إليه ، على النعت الذي نعت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

وقد رُويت تسميتهم بالمارقين عن عدد من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : ابن عباس ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو برزة ، وأبو ذر ، وأبو سعيد ، وأبو بكرة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وعائشة ، وعبد الرحمن بن عديس ، وعبد الله بن خباب ، وعقبة بن عامر ، وعمار بن ياسر (٢).

وفي النهروان تشتت المارقون ، فقتل أغلبهم ، وفر من بقي منهم ، أو أظهر التوبة لينجو.

بنان علي عليه‌السلام وبيانه :

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٢٢ / ١٥٨ ، خصائص أمير المؤمنين ١٣٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٧١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٩ ، صحيح البخاري ٤ / ١٧٩ ، صحيح مسلم ٣ / ١١٢ ، المناقب ٢٥٩.

(٢) تجد رواياتهم في : البداية والنهاية ٧ / ٣٢٩ ، السنة لعمرو بن عاصم ٤٢٨ ، ٥٨٥ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦٠ ، ٦١ ، سنن أبي داود ٢ / ٤٢٨ ، سنن البيهقي ٣ / ٢٢٥ ، ٧ / ١٨ ، ٨ / ١٧١ ، سنن الترمذي ٣ / ٣٢٦ ، سنن النسائي ٥ / ٣١ ، ٣٢ ، ٧ / ١١٩ ، صحيح البخاري ٤ / ١٠٨ ، ٥ / ١١١ ، ٢٠٥ ، ٦ / ١١٥ ، ٧ / ١١١ ، ٨ / ٥٢ ، صحيح مسلم ٣ / ١١١ ، ١١٤ ، ١١٦ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٢٧ ، ٢٢٩ ـ ٢٣١ ، ٢٣٥ ، ٢٣٩ ، المستدرك ٢ / ١٤٦ ـ ١٤٨ ، ١٥٤ ، مسند أبي داود الطيالسي ٦٠ ، ٦١ ، ١٢٤ ، ٣٥٠ ، مسند أحمد ١ / ٨٨ ، ١٢١ ، ١٦٠ ، ٣ / ١٨٣ ، ٢٢٤ ، ٤٨٦ ، ٣٥٣ ، ٤ / ٤٢٢ ، ٤٢٥ ، ٥ / ٤٢ ، ١٧٦ ، المعجم الأوسط ٣ / ٣٢٢ ، ٥ / ٣١٤ ، المعجم الكبير ٢ / ١٨٥ ، ٦ / ٩١ ، ١١ / ٢٢٣ ، ١٧ / ٢٢٥.


استعمل الإمام الهادي عليه‌السلام كلمة بنان كناية عن اليد ، لأنَّ البنان جزء منها ، وبها تحمل آلة الحرب من : السيف ، والرمح ، والحراب ، والقوس ، والنبال ، وهي التي تمارس الضرب ، والطعن ، والرمي ، وبها تدار فنون القتال ، وقد عرف الإمام علي عليه‌السلام بما له من أثر واضح بيِّن في الحروب التي شارك فيها ، إذ يعجِّل بإخماد لهبها بما يحققه من نصر عاجل ساحق ، يصرح أبطال المشركين ، والبغاة ، ويخترق صفوفهم بإقدامه ، ويصمد أمام هجماتهم ، مما يؤدي إلى انهيار مقاومتهم ، ثم انهزامهم ، وانتصار المسلمين عليهم.

والإمام علي عليه‌السلام لا يقاتل أحداً بدون حجة ، فهو ببيانه البليغ يبيِّن وجه الحق ، ويكشف زيف الباطل ، ويبطل ما علق في الأذهان من الشبهات ، وهو بذلك يفتح طريق الحق لسالكيه ، فلا يبقي عذراً لمعتذر ، وليس ذلك مختص بموقفه مع الخوارج ، بل جرت سيرته في جميع حروبه على هذه الشاكلة ، وعندما تكون الشبهة مصطنعة يقصد بها إغواء الناس ، وإغراؤهم ، نراه يتعامل معها بأسلوبه الرصين في الإحتجاج ، فيبطلها ، ليميز بين الحق والباطل ، وهذا ما فعله يوم الجمل في احتجاجاته المتعددة ، وفي احتجاجات من أرسلهم من رسل ليرشدوا القوم إلى طريق الحق ، والصراط المستقيم ، وفعلا لأمر ذاته يوم صفين.

ومن استعرض سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وجد أنَّه لا يتصرف إلّا وفق أحكام الشريعة المقدسة ، يهتدي بهدي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يعمل بإخلاص ، وحرص شديدين على أن يتوخى رضا الله عزوجل في جميع تصرفاته ، أمّا أن يرضى الناس بذلك ، أم يسخطوا منه ، فليس هذا من همِّه ، ولا يخطر له على بال ، إنَّما همه الوحيد أن يحملهم على الحق : يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويؤدي


الحقوق لمن يستحقها وفق سنن العدل التي رسمها الشرع المقدس ، وأقرَّ حدودها ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، ولا مجال للأخذ برأي أحد مع وضوح حكم الله تعالى ، وصدور أمره ، وكل الناس عند الإمام علي عليه‌السلام في ذلك سواء : القريب ، والبعيد ، والصديق ، والعدو.

مدح الله تعالى :

بعد أن استعرض الإمام الهادي عليه‌السلام جملة من مآثر جده المرتضى عليه‌السلام ، وبيَّن بعض الفضائل التي انماز بها عن غيره من هذه الأمة ، وأكّد أنَّ فضائل جده لا يمكن الإحاطة بها ، كما لا يسع الخصوم مهما بلغوا من العداء والتعصب إخفاءها ، وإحباطها ، انتقل إلى ذكر فضيلة لا تعدلها الفضائل ، ولا تبلغ مداها مهما سمت ، ولا تقاس بها فضيلة غيرها مطلقاً ، ألا .. وهي مدح الله تعالى له ، وقد تحدَّثت عن أهمية مدحه تعالى في موضوع سابق (١) ، والله سبحانه قوله الحق والصدق ، وقد أنبأنا في كتابه المجيد عن مقياس الفضل عنده فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(٢) ، فأيّ تقريظ ، وأيّ مدح يبلغ في الفضل مدح الله تعالى؟! أم أيّ مدح يمكن أن يقاس به؟! ومهما عظم المادح ، فإنَّ عظمته تتصاغر ، وتتضاءل أمام عظمة الله تعالى ، بل لا عظمة إلّا عظمته ، ومدحه يغني عن مدح المادحين.

وقد تواتر النقل في نزول بعض آيات الذكر الحكيم في فضل الإمام علي عليه‌السلام ، وقد روى الحفاظ عدداً كبيراً من الروايات في نزول آيات من الذكر الحكيم ، وقد

__________________

(١) راجع ص ٢٦١ من هذا الكتاب.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.


تضمنت الزيارة بعض الشواهد لما نزل فيه ، وما لم تتضمنه الزيارة كثير ، يمكن تتبعه في مظانه (١).

__________________

(١) راجع كتاب : (شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني) والذي يقر فيه بأنه لم يرو جميع ما جاء من روايات هذا الموضوع ، فإنه يغني عن البحث والتنقيب لكثرة ما رواه ، على أننا لا نجد كتاباً من كتب الحديث أو التفسير يخلو من الروايات التي تدل على نزول آيات الذكر الحكيم في الإمام علي (ع).


ومِنْهُم مَن يَنتَظِر

«قال الله تعالى : * (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(١) * ولما رأيت أن قتلت الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، وصدقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده ، فأوفيت بعهده ، قلت أما آن أن تخضب هذه من هذه؟! أم متى يبعث أشقاها؟! واثقاً بأنَّك على بيِّنة من ربِّك ، وبصيرة من أمرك ، قادم على الله ، مستبشر ببيعك الذي بايعته به ، وذلك هو الفوز العظيم» :

اللغة : الناكثين : النكث : نقض ما تعقده ، وتصلحه من بيعة ، وغيرها ، وفي حديث علي كرم الله وجهه : أمرت بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين (٢).

القاسطين : القسوط : الجور ، والعدول عن الحق ، وقد قسط ، يقسط ، قسوطاً. قال الله تعالى : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)(٣). (٤)

المارقين : مرّ في الموضوع السالف.

أوفيت : أوفى بالعهد : وفى به : أعطاه وافياً تاماً.

كل من آمن بالله عزوجل معتنقا الدين الإسلامي الحنيف ، فقد ألزم نفسه بعهد مع الله تعالى ، يأتمر بموجبه بأوامره ، وينتهي عن نواهيه ، ويطبق أحكامه ، فإن وفى بعهده ، فأطاع ، وجاهد في سبيل الله تعالى ، باذلاً مهجته ، فهو مشمول بهذه الآية

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٢٣.

(٢) لسان العرب.

(٣) الجنّ ٧٢ : ١٥.

(٤) الصحاح.


الكريمة ، والإمام علي عليه‌السلام هو سيد المؤمنين ، وقائدهم ، وبه يقتدى في طاعته ، وجهاده.

قال ابن حجر : (وسئل ـ أي الإمام علي عليه‌السلام ـ وهو على المنبر بالكوفة عن قوله تعالى : (*(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) * فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت فيَّ ، وفي عمي حمزة ، وفي ابن عمي عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر ، وحمزة قضى نحبه شهيداً يوم أحد ، وأمّا أنا ، فأنتظر أشقاها ، يخضب هذه من هذه ، وأشار بيده إلى لحيته ورأسه ، عهد عهده إلي حبيبي أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

وقد مرّ بنا في هذا الشرح ، وفي أكثر من مناسبة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى الإمام علي عليه‌السلام في قتال هذه الفرق الثلاث ، ونقلنا بعض أحاديثه في ذلك ، ونعطف على ما تقدم قوله عليه‌السلام : «عهد إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين. فقيل له : يا أمير المؤمنين ، من الناكثون؟. قال : الناكثون : أهل الجمل ، والمارقون : الخوارج ، والقاسطون : أهل الشام» (٢). وروي نظير هذا الحديث عن أبي أيوب ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن أم سلمة رواه عنها عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن مسعود ، وعن عمار بن ياسر (٣).

__________________

(١) الصواعق المحرقة ١٣٤ ، وروى نزولها في شواهد التنزيل ٢ / ٦ عن ابن عباس ، وفيه جعفر بدل عبيدة ، نور الأبصار ١٠٧.

(٢) المناقب ١٧٦.

(٣) تجد رواياتهم في أسد الغابة ٤ / ٣٣ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، ٤٣ / ٤٥٦ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢١ ، كفاية الطالب ١٢٢ ، ١٦٩ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ٤ / ١٧٢ ، ١٠١ / ٩١ ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٩٤ ، المناقب ١٩٠ ، وقعة صفين ٣٣٨.


وقد كان الإمام علي عليه‌السلام على وفاء تام لتنفيذ ما عهد به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قاتل أعداءه ـ في حروبه الثلاثة ـ على بصيرة من أمره ، لم يؤْثِر هوىً على طاعة ، ولم يحد عن النهج القويم ، يتوخى طاعة الله عزوجل ورضاه في جميع تصرفاته ، وقد أوضح حجته لمن قاتلهم ، وكشف لهم عن صريح الحق بلا لبس ، وإذ لم يذعنوا للحق ، وتمسكوا بالباطل الذي هم عليه ، ناجزهم الحرب بعد الإعذار ، فكان ذلك غاية الوفاء بالعهد.

وقد اُثر عن الإمام علي عليه‌السلام قوله في مناسبات عديدة : «أما آن أن تخضب هذه من هذه؟ أم متى يبعث أشقاها؟» ، أو ما بمعنى هذه العبارة (١) ، وهذا من الإخبار بالمغيَّبات ، وقد أخبره به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا علّمه الله تعالى ، إذ لا يعلم الغيب إلّا هو ، ولا يُطلع عليه إلّا من ارتضى ، يقول عليه‌السلام : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادق المصدوق يقول : إنَّك ستضرب ضربة هاهنا ـ وأشار إلى صدغه ، فيسيل دمها ، حتى تخضب لحيتك ، ويكون صاحبها أشقاها ، كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود» (٢) ، وممن روى هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أبو هريرة (٣) ، وجابر بن سمرة (٤) ، وصهيب (٥) ، وعبد الله بن

__________________

(١) راجع أسد الغابة ٥ / ٢٧٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣٧ ، شواهد التنزيل ٢ / ٤٣٩ ، كنز العمال ١٣ / ١٨٨ ، مسند أحمد ١ / ١٣٠ ، ١٥٦ ، المعجم الكبير ١ / ١٠٥. نظم درر السمطين ١٣٦.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٣ ، ذخائر العقبى ١١٥ ، الصواعق المحرقة ١٣٤ ، كفاية الطالب ٢٥٩ ، كنز العمال ١٣ / ١٨٩ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٧ ، المناقب ٣٨٠.

(٣) شواهد التنزيل ٢ / ٤٤٠.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٥١.

(٥) أسد الغابة ٤ / ٣٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٦ ، ذخائر العقبى ١١٦ ، كنز العمال ١٣ / ١٩٣ ، المعجم الكبير ٨ / ٣٨.


عباس (١) ، وعمار ابن ياسر (٢) ، وجميع هذه الروايات تتفق على أنَّ قاتله أشقى الآخرين ، وأنَّه سيستشهد بضربة على مقدم رأسه ، تخضب لحيته منها.

والإمام علي عليه‌السلام كان في جميع تصرفاته على بيِّنة من ربه ، وذلك بمقتضى عصمته ، حيث شهد له الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنَّه مع الحق ، وأنَّ الحق معه ، وأنَّه مع القرآن ، وأنَّ القرآن معه ، وأودع عنده علمه ، وائتمنه على أسرار رسالته ، فسار على نهجه ، وهديه ، واقتفى أثره ، لا يحيد عن سنته ، وأي بيِّنة أجلى وأوضح من اتباع نهج الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن سار على هدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتخذ الكتاب والسنة شرعة ومنهاجاً ، وجاهد بيده ولسانه من أجل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ، وبذل في سبيل ذلك كل غال ونفيس ، فإنَّه على يقين بأنَّه قادم على رحمة الله تعالى ورضوانه بعد الموت ، وليس بينه وبين ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين سوى الشهادة التي كان ينتظرها ، ليلقى الله عزوجل قرير العين بما قدَّم ، وقد استقبل الشهادة مبتهجاً بعد طول انتظار بنداء هزَّ أركان مسجد الكوفة ، وأنهى سكون الليل عند الفجر : «فزت ورب الكعبة» ، لترجع تلك النفس المطمئنة إلى ربِّها راضية مرضية.

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٣٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٨ ، المعجم الكبير ١١ / ٢٩٥.

(٢٩ البداية والنهاية ٣ / ٣٠٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٩ ، تفسير القرطبي ٤ / ١٩٢ ، خصائص أمير المؤمنين ١٢٩ ، كنز العمال ١٣ / ١٤٠.


قتلة المصلحين وظالميهم

«اللهم العن قتلة أنبيائك ، وأوصياء أنبيائك ، بجميع لعناتك ، وأصلهم حرَّ نارك ، والعن من غصب وليك حقه ، وأنكر عهده ، وجحده بعد اليقين ، والإقرار بالولاية له ، يوم أكملت له الدين ، اللهم العن قتلة أمير المؤمنين ، ومن ظلمه ، وأشياعهم ، وأنصارهم ، اللهم العن ظالمي الحسين ، وقاتليه ، والمتابعين عدوه ، وناصريه ، والراضين بقتله ، وخاذليه ، لعنا وبيلاً ، اللهم العن أول ظالم ظلم آل محمد ، ومانعيهم حقوقهم ، اللهم خص أول ظالم وغاصب لآل محمد باللعن ، وكل مستن بما سن إلى يوم القيامة» :

اللغة : اللعن الطرد والإبعاد من الخير (١).

أصلِهِم : صليت الرجل ناراً : إذا أدخلته النار ، وجعلته يصلاها ، فإن ألقيته فيها إلقاءً كأنك تريد إحراقه ، قلت : أصليته (بالألف) (٢).

أشياعهم : الشيعة : أتباع الرجل ، وأنصاره ، وجمعها : شيع ، وأشياع : جمع الجمع (٣).

وبيلا : عذاب وبيل : شديد (٤).

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الصحاح.

(٣) لسان العرب.

(٤) الصحاح.


الصراع بين الحق والباطل قديم ، بدأ مع الإنسان منذ أن وجد على سطح الأرض ، وأول شواهد وأقدمها ما جرى بين ابني آدم عليه‌السلام ـ على ما نقله الذكر الحكيم ، وما تمثله قصتها من تعنت الظالم المبطل ، وشهامة المحق ، وإنسانيته ، وصبره ، وقد تعرض ـ على مدى تاريخ البشرية ـ عدد كبير من الأنبياء ، وأوصياؤهم ، وأتباعهم المخلصين إلى الأذى والتعذيب ، واستشهدوا على أيدي الظلمة المفسدين الذين لا يعترفون بالقيم ، ولا يهمهم سوى منافعهم المادية ، وملذاتهم الرخيصة ، فلا عدوَّ لهم سوى الحق ، وعداؤهم له لا لشي سوى أنَّه يقف أمامهم سدّاً منيعاً ، يحد من نشاطهم الإجرامي ضد أبناء جنسهم ، لينصفهم ، ويؤدي لكل ذي حق حقه ، فهم أعداء الإنسانية ، ومثلها القيمة ، وأعداء الشرايع السماوية ، ومن جاء بها من الأنبياء ، والمرسلين ، وأعداء أوصيائهم والمخلصين من أتباعهم ، وهؤلاء يستحقون اللعن من الله تعالى ، والعذاب الشديد في نار جهنم.

وفي طليعة أنصار الحق ، ودعاته المخلصين الذي تعرضوا لظلم المتعنتين ، سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فقد اعتدي عليه : فغضب حقه ، واُنكر عهده ، وجُحِد بعد اليقين ، وبعد التبليغ به يوم الغدير على رؤوس الأشهاد ، حيث أشهد الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأمة رب العزة عزوجل ، ونزل الذكر الحكيم يبشرهم بإكمال الدين ، وإتمام النعمة على المسلمين بالولاية التي فرضها الله عزوجل ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بأداء البيعة لوليهم في ذلك اليوم المشهود ، فمن اعتدى به ذلك ، فهو راد على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مخالف ما أمرا به ، وأكدا عليه ، وبذلك يستحق اللعن والعذاب.


قتلة أمير المؤمنين عليه‌السلام :

ذكر المؤرخون أنَّه (١) اجتمع عبد الرحمن بن ملجم ، والبرك بن عبد الله ، وعمر بن بكير ـ أو بكر ـ في مكة المكرمة ، وهم من الخوارج ، واتفقوا على أن يقتلوا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وتعهد كل واحد منهم أن يقتل أحد هؤلاء الثلاثة ، وتفرقوا لينفذ كل واحد منهم ما تعهد به ، فتوجه عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله إلى الكوفة ، وهو يكتم ما جاء من أجله ، خشية أن يفشل في تنفيذ ما تعهد به.

وصل ابن ملجم إلى الكوفة ، فذهب إلى بني تيم الرباب ، فرأى امرأة منهم اسمها : قطام بنت شجنة ، قتل أبوها ، وأخوها يوم النهروان ، فأعجبته ، وخطبها ، فطلبت منه أن يكون مهرها : ثلاثة آلاف دينار ، وعبداً ، وقينة ، وقتل الإمام علي عليه‌السلام ، فوافق ، وأخبرها بأنَّه قدم الكوفة من أجل ذلك ، وكان مع ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي عندما نفذ جريمته الشنيعة ، وباتاً معاً تلك الليلة عند الأشعث بن قيس الكندي ، حتى كاد الفجر أن يطلع ، فقال له الأشعث : النجاء ... النجاء ، فقد فضحك الصبح.

وجميع هؤلاء لعنهم الله ساهموا ـ بشكل أو بآخر ـ في جريمة قتلا الإمام علي عليه‌السلام ، واقترفوا أعظم جريمة ، وتحملوا من الإثم ما انتهكوا به حرمة الإسلام ، وحرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقتلهم وصيه ، وأخيه ، ونفسه ، ووليه ، ووزيره ، وخليفته في أمته ، فهم وجميع من ظلمه ، واعتدى عليه ، أو أعان أعداءه ، أو تمرد عليه ، أو شايع قتلته ، أو ظالميه ، أو رضي بفعلهم ، يستحق اللعن بما اقترف من الإثم.

__________________

(١) بتصرف وتلخيص عن : أنساب الأشراف ٤٨٧ ـ ٩٣ ـ تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٥٨ ـ ٥٥٩ ، شرح نهج البلغة ٦ / ١١٣ ـ ١١٧ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٣٥ ـ ٣٦.


ظلامة الحسين عليه‌السلام :

لم تمر في تاريخ الإسلام ، بل وفي تاريخ البشرية رزية أشد ، وأقسى ، وأمر ، وأبشع من المصائب التي مارسها الأمويون في واقعة الطف مع سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسين الشهيد عليه‌السلام ، ولم يبتل حتى أهل البيت عليهم‌السلام بمثل ما ابتلي به هو وأًصحابه وأهل بيته من قتل ، وسلب ، وتمثيل ، وتنكيل ، وسبي ، ولم يقتصر ما أصاب السبط الشهيد عليه‌السلام من ظلم على ما جرى في واقعة الطف ، فلقد صبر على ظلم معاوية ، وما جرى في عهده من جرائم بشعة ، كان يسمع شتم أبيه على المنابر ، وفي المساجد ، والمحاريب ، فلم يمر يوم من ذلك العهد المظلم إلّا بمظالم جديدة ، يرتكبها معاوية وعماله بمسمع وبمشهد من الحسين السبط عليه‌السلام ، يرى تصرفات معاوية وعماله في شؤون الدولة بخلاف أحكام الدين ، وتلاعبهم في مقدرات المسلمين ، ويرى ارتكابه أبشع الجرائم ، كدسِّه السم لأخيه الحسن السبط عليه‌السلام ، وقتله الصالحين من أصحاب أبيه المرتضى عليه‌السلام ، وهم من خيار الصحابة والتابعين ، ولم يكن بإمكانه أن يقف بوجهه يومذاك للصلح الذي أبرمه معاوية معه ، ومع أخيه الحسن عليه‌السلام ، ثم لم يف لهما بشرط من شروطه.

لقد تمادى معاوية ، فآثر هواه ، وسار خلف شهواته ، ولم يكتف بما أحدث من مفاسد ، ومخالفات ، فأخذ البيعة لابنه يزيد ، ليكون وليّاً للعهد ، يتولى الخلافة بعده ، وأكره المسلمين على البيعة له ، والحسين عليه‌السلام يتجرع من ظلم معاوية ومخالفاته للشريعة ما يضيق به الصدر ، وينفذ معه الصبر ، وقد راسله أهل الكوفة طيلة تلك المدة ، وقدمت عليه وفودهم تترى ، يطلبون منه الثورة على ذلك الحكم الفاسد ، وإنقاذ أمّة جده من مفاسد بني أمية ، ويعدوه بالوقوف معه للإنتقام من عدوه ، وعدوهم ، ولكن الإمام عليه‌السلام لم يستجب لهم إلّا بعد هلاك معاوية ، وتولي ابنه يزيد


لمقاليد الأمور ، إذ وجد نفسه غير مرتبط بعهد ، ولا بيعة ، فغادر المدينة إلى مكة المكرمة ، التي غادرها بعد ذلك متوجهاً إلى الكوفة ، منطلقا في ثورته ضد ظلم بني أمية ، وطغيانهم.

مرّت الأحداث سراعاً ، فسار ركب السبط الشهيد عليه‌السلام مغادراً مكة المكرمة نحو العراق ، لينقذ الأمة من الظلم والجور ، ويرسي قواعد العدل ، بعد أن يخلصها من أبناء الطلقاء ، ولكن الأمور سارت على غير هدى ، وإذا الذين وعدوه بالنصر ، ودعوه لإنقاذ أمة جده ، واستجاروا به من الظلم والجور بالأمس ، خرجوا اليوم مجردين سيوفهم لقتله ، وقتل أهل بيته وأصحابه ، وانظموا إلى جيش عدوه الفاسق. انتهت الأمور إلى فاجعة عظيمة ، تلك هي فاجعة كربلاء بما ارتكبت فيها من المآسي ، وانتهكت فيها الحرمات ، فقتل فيها آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهب متاعهم ، وسبيت نساؤهم وأطفالهم ، وكأنهم دعوا السبط الشهيد عليه‌السلام ليستأصلوه وأهل بيته ، وأطفاله ، وأصحابه ، فكان ذلك جزاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمته ، بعد أن أنقذهم من الضلال ، وهداهم لما فيه الخير والصلاح.

ومن ظَلَم الحسين عليه‌السلام ، ومن قتله وأهل بيته وأصحابه ، ومن تابع عدوّه ، وأيده ، ومن رضي بما جرى عليه من الظلم ، والعدوان ، والبغي ، والقتل ، ومن أعان عليه ، أو خذله ، فهو مشترك مع القتلة الظالمين فيما اقترفوه ، وبذلك يستحق اللعن.

ظالمي آل محمد عليهم‌السلام :

كان جزاء الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمته التي هداها إلى طريق الخير والرشاد ، وأنقذها من الجاهلية ومفاسدها ، أن يحفظ في ذريته وأهل بيته ، وكان حق أهل البيت عليهم‌السلام أن تراعى مودتهم امتثالاً لأمره تعالى حيث يقول : (قُل لَّا


أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)(١) ، وهم عدل القرآن ، وقرناؤه في وجوب التمسك بهم كما نص حديث الثقلين ، وهم تراجمة الكتاب ، عنهم يؤخذ تأويله ، لأنَّهم أهل الذكر الذين أمر الله تعالى المسلمين أن يسألوهم (٢).

وولاية آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض من الله عزوجل على المسلمين يجب عليهم التمسك بها ، فالإقرار بها طاعة لله تعالى ، وتصديق للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذعان لما جاء به ، وهي مما يسأل عنه المرء يوم القيامة ، على ما جاء في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)(٣).

مما تقدم نعرف أنَّ من تظافروا على ظلم أهل البيت عليهم‌السلام فغصبوا حقوقهم التي فرضها الله تعالى لهم ، وأبعدوهم عن الخلافة التي ثبتت لهم بالنصوص الجلية ، وحرموهم من حقهم الذي فرض لهم في الخمس ، وأسسوا أساس الجور عليهم ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد لم يجهّز ، ولم يدفن جثمانه الطاهر ، وارتكبوا بذلك ما ارتكبوا من المآثم بما سنّوا لهم من سنن الظلم والجور ، ولمّا كان أهل البيت عليهم‌السلام هم الإمتداد الطبيعي للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنَّ من ارتكب ذلك منهم ، فقد ارتكبه منه ، وكل إساءة ، أو سنة سيئة أصابتهم من أحد فقد أصابته ، وجزاؤه من الله تعالى : اللعن والعذاب الأليم.

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٢) الآية ٤٣ في سورة النحل ، والآية ٧ في سورة الأنبياء ، راجع نزولها فيهم في : جامع البيان ١٤ / ١٤٥ ، ١٧ / ٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٣٢ ، ٤٣٦ ، ينابيع المودة ١ / ١٤٥.

(٣) الصافات : ٢٤ ، راجع نزولها فيهم في : شواهد التنزيل ٣ / ١٦٠ ، الصواعق المحرقة ١٤٩ ، ينابيع المودة ١ / ٣٣٨ ، ٢ / ٢٤٧ ، ٣١٤ ، ٤٣٦.


الخاتمة

«اللهم صلِّ على محمد خاتم النبيين ، وعلى علي سيد الوصيين ، وآله الطاهرين ، واجعلنا بهم من المتمسكين ، وبولايتهم من الفائزين الآمنين ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» :

تحدث الإمام الهادي عليه‌السلام في زيارة الغدير عن جملة من مآثر جده المرتضى عليه‌السلام ، وفضائله ، وأبان عن عظيم شأنه ، وشرفه ، وعن مكانته عند الله عزوجل ، وعند حبيبه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيَّن أهمية عهد الولاية ، وبيعتها الملزمة لجميع المسلمين ، واستعرض بعض مظالم جده ، ومظالم أهل البيت عليهم‌السلام ، وما تعرضوا له من حيف ، ثم انتقل إلى الدعاء على ظالميهم ومانعي حقوقهم باللعن والعذاب.

وفي ختام الزيارة انتقل الإمام الهادي عليه‌السلام إلى الدعاء ، فابتدأ بالصلاة على جده المصطفى المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستمطر له ، ولجده المرتضى ، وآله عليهم‌السلام الرحمة من الباري عزوجل ، ثم ينتقل في تضرعه إليه بأن يجعله من المتمسكين بأهل البيت لأنَّهم ـ كما مر ـ تراجمة الكتاب ، وأوصياء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخزنة العلم ، والثقل الذي أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك به في حديث الثقلين ، الذي نص على أنَّهم لا يفترقون عن الكتاب إلى يوم القيامة ، وأن التمسك بهم يعصم من الضلال ، فمن تمسك بهم ، وأقر بولايتهم ، فقد أطاطع الله تعالى باتباع ما جاء به خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك يكون


من الآمنين ـ يوم الفزع الأكبر ـ الذين لا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون ، لأنَّهم أطاعوا الله تعالى ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يردوا عليهما ما أمرا به ، فهم ينتظرون ما أعده الله تعالى ، ووعد به لمن أطاعه ورسله من النعيم الدائم ، الذي لا زوال له ، ولا نفاذ ، والفوز بالجنة.


الفهارس



فهرس المصادر

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ الآحاد والمثاني : لابن أبي عاصم المتوفى ٢٨٧ هـ ط : ١ دار الدراية.

٣ ـ الإرشاد : محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد ط : دار الكتب الإسلامية.

٤ ـ أسباب نزول الآيات : لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى ٤٦٨ هـ ط : مؤسسة الحلبي وشركاه في القاهرة.

٥ ـ الإستيعاب : ليوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى ٤٦٣ هـ ط : ١ دار الجبل بيروت ١٤١٢ هـ.

٦ ـ أسد الغابة : لابن الأثير المتوفى ٦٣٠ هـ ط : انتشارات إسماعيليان طهران.

٧ ـ إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل أهل بيته الطاهرين : للشيخ محمد الصبان ط : دار إحياء التراث العربي بيروت.

٨ ـ الإصابة في تمييز الصحابة : لابن حجر العسقلاني المتوفى ٨٥٢ هـ ط : ١ دار الكتب العلمية بيروت.

٩ ـ الأصول العامة للفقه المقارن : للسيد محمد تقي الحكيم ط : ٢ ١٣٩٠ هـ مؤسسة آل البيت؟

١٠ ـ الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء : لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى ٢٧٦ هـ ط : ١ مؤسسة الحلبي وشركاه ، القاهرة.

١١ ـ أمل الآمل : للشيخ محمد بن الحسن (الحر العاملي) المتوفى ١١٠٤ هـ ط : دار الكتاب الإسلامي ، قم ١٤٠٤ هـ.

١٢ ـ أنساب الأشراف : أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ط : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ١٣٩٤ هـ.

١٣ ـ الأوائل : عمرو بن أبي عاصم الشيباني المتوفى ٢٨٧ ط : دار الخلفاء للكتاب الإسلامي ، كويت.


١٤ ـ أيام العرب في الإسلام.

١٥ ـ بحار الأنوار : محمد باقر ال مجلسي المتوفى ١١١١ هـ ط : ٢ مؤسسة الوفاء ، بيروت ١٩٨٣ م.

١٦ ـ البداية والنهاية : إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى ٧٧٤ هـ ط : ١ دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

١٧ ـ تاج العروس من جواهر القاموس : محمد مرتضى الزبيدي المتوبى ١٢٠٥ هـ ط : مكتبة الحياة ، بيروت.

١٨ ـ تاريخ ابن خلدون : العلامة ابن خلدون المتوفى ٨٠٨ هـ ط : ٤ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت.

١٩ ـ تاريخ الأمم والملوك : ابن جرير الطبري المتوفى ٣١٠ هـ ط : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت.

٢٠ ـ تاريخ بغداد أو مدينة السلام : أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى ٤٦٣ هـ ط : ١ دار الكتب العلمية ، بيروت.

٢١ ـ تاريخ الخلفاء.

٢٢ ـ التاريخ الكبير : إسماعيل بن إبراهيم البخاري المتوفى ٢٥٦ هـ ط : المكتبة الإسلامية ، ديار بكر.

٢٣ ـ تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر المتوفى ٥٧١ هـ ط : دار الفكر. بيروت ، ١٤١٥ هـ.

٢٤ ـ تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر المتوفى ٢٨٤ هـ ط : ار صادر ، بيروت.

٢٥ ـ التبيان : لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى ٤٦٠ هـ ط : ١ مكتب الإعلام الإسلامي ١٤٠٩ هـ.

٢٦ ـ تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان : أحمد بن حجر الهيتمي المتوفى ٩٧٤ هـ ط : شركة الطباعة المتحدة ، مكتبة القاهرة.


٢٧ ـ تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) : لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشي ط : دار المعرفة ، بيروت.

٢٨ ـ تفسير الثعالبي المسمى بالجواهر الحسان في تفسير القرآن : عبد الرحمن ابن محمد أبي زيد الثعالبي المالكي المتوفى ٥٧٨ هـ ط : دار إحيار التراث العربي ١٤٨١ هـ.

٢٩ ـ تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) : محمد بن أحمد القرطبي المتوفى ٦٧١ هـ ط : ٢ مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت.

٣٠ ـ تفسير مجاهد : مجاهج بن جبر التابعي المكي المخزومي المتوفى ١٠٤ هـ ط : مجمع البحوث الإسلامية ، إسلام أباد.

٣١ ـ تهذيب الكمال : لأبي الحجاج يوسف المزي المتوفى ٧٤٢ هـ ط : مؤسسة الرسالة ١٤١٣ هـ.

٣٢ ـ الثقات : محمد بن حبان المتوفى ٣٥٤ هـ ط : ١ مؤسسة الكتب الثقافية.

٣٣ ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى ٣١٠ هـ ط : دار الفكر ، بيروت ١٤٠١ هـ.

٣٤ ـ الجامع الصغير : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى ٩١١ هـ ط : ١ دار الفكر ، بيروت ١٤٠١ هـ.

٣٥ ـ حديث خيثمة : لخيثمة بن سليمان القرشي المتوفى ٣٤٣ هـ ط : ١ دار ال كتب العربي ، بيروت ١٩٨٠ م.

٣٦ ـ حديث المنزلة : عبد المطلب الموسوي الخرسان ط : ١ مطبعة برهان ، قم ١٤٢٤ هـ.

٣٧ ـ خصائص أمير المؤمنين : أحمد بن شعيب النسائي المتوفى ٣٠٣ هـ ط : مكتبة نينوى الحديثة.

٣٨ ـ الدر المنثور : جلال الدين السيوطي المتوفى ٩١١ هـ ط : ١ جدة : الفتح ، دار المعرفة ، بيروت.

٣٩ ـ دلائل الصدق : الشيخ محمد حسين المظفر ط : دار التعارف ، بيروت.


٤٠ ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : أحمد بن عبد الله الطبري المتوفى ٦٩٤ هـ ط : مكتبة القدسي ١٣٥٦ هـ.

٤١ ـ رجال النجاشي : للشيخ أبي العباس أحمد بن علي النجاشي الأسدي الكوفي ط : ٥ ، مؤسسة دار النشر الإسلامي ، قم ١٤١٦ هـ.

٤٢ ـ السنة : لعمرو بن أبي عاصم المتوفى ٢٨٧ هـ ط : ٣ المكتب الإسلامي ، بيروت ١٩٩٣ م.

٤٣ ـ سنن ابن ماجة : محمد بن يزيد القزويني المتوفى ٢٧٥ هـ ط : دار الفكر ، بيروت.

٤٤ ـ سنن أبي داود : سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى ٢٧٥ هـ ط : ١ دار الفكر ، بيروت ١٩٩٠ م.

٤٥ ـ سنن الترمذي : محمد بن عيسى الترمذي المتوفى ٢٧٩ هـ ط : ٢ دار الفكر ، بيروت.

٤٦ ـ سنن الدارمي : عبد الله بن بهرام الدارمي المتوفى ٢٥٥ هـ ط : مطبعة الإعتدال ، دمشق.

٤٧ ـ السنن الكبرى : أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى ٤٨٥ هـ ط : دار الكتب ، بيروت.

٤٨ ـ السنن الكبرى : أحمد بن شعيب النسائي المتوفى ٣٠٣ هـ ط : دار الكتب العلمية ، بيروت ١٩٩١ م.

٤٩ ـ السيرة النبوية : لابن كثير المتوفى ٧٧٤ هـ ط : ١ دار المعرفة ، بيروت.

٥٠ ـ سيرة النبي (ص) : محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المعروف بابن هشام المتوفى ١٥١ هـ ط : مكتبة محمد علي صبيح وأولاده ١٣٨٣ هـ.

٥١ ـ شرح نهج البلاغة : لابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى ٦٥٦ هـ ط : دار إحياء الكتب العربية.

٥٢ ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل : عبد الرحمن بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني ط : ١ مجمع إحياء الثقافة الإسلامية.


٥٣ ـ الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) : إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى ٣٩٣ هـ ط : ٤ دار العلم للملايين ، بيروت ١٤٠٧.

٥٤ ـ صحيح ابن حبان : محمد بن حبان المتوفى ٣٥٤ هـ ط : ٢ مؤسسة الرسالة.

٥٥ ـ صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى ٢٥٦ هـ ط : دار الفكر ، بيروت.

٥٦ ـ صحيح مسلم : لمسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى ٢٦١ هـ ط : دار الفكر ، بيروت.

٥٧ ـ الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة : أحمد بن حجر الهيتمي المكي المتوفى ٩٧٤ هـ ط : شركة الطباعة الفنية المتحدة ، مكتبة القاهرة بمصر.

٥٨ ـ الطبقات الكبرى : محمد بن سعد المتوفى ٢٣٠ هـ ط : دار صادر ، بيروت.

٥٩ ـ العقد الفريد : لابن عبد ربه ط : دار الكتاب العربي ، بيروت.

٦٠ ـ الغدير : الشيخ عبد الحسين الأميني المتوفى ١٣٩٢ هـ ط : دار الكتاب العربي ، بيروت.

٦١ ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري : لابن حجر العسقلاني المتوفى ٨٥٢ هـ ط : ٢ دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت.

٦٢ ـ فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي عليه‌السلام : أحمد بن الصديق المغربي المتوفى ١٣٨٠ هـ ط : مكتبة أمير المؤمنين ، إصفهان.

٦٣ ـ فضائل الخمسة من الصحاح الستة وغيرها من الكتب المعتبرة عند أهل السنة والجماعة : السيد مرتضى الفيروز آبادي ط : ٣ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ١٣٩٣ هـ.

٦٤ ـ فضائل الصحابة : أحمد بن حنبل ط : دار الكتب العلمية ، بيروت.

٦٥ ـ فيض القدير في شرح الجامع الصغير : محمد عبد الرؤوف المناوي المتوفى ١٣٣١ هـ ط : ١ دار الكتب العلمية ، بيروت.

٦٦ ـ القاموس المحيط : الشيخ نصر الهرويني المتوفى ٨١٧ هـ.


٦٧ ـ الكشف الحثيث : برهان الدين الحلبي المتوفى ٨٤١ هـ ط : ١ مكتبة النهضة العربية.

٦٨ ـ كشف الخفاء ومزيل الألباس : إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي المتوفى ١١٦٢ هـ ط : ٢ دار الكتب العلمية.

٦٩ ـ كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام : محمد بن يوسف الكنجي الشافعي ط : ٢ المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ١٩٧٠ م.

٧٠ ـ كنز العمال : للمتقي الهندي المتوفى ٩٧٥ هـ ط : مؤسسة الرسالة ، بيروت.

٧١ ـ لباب النقول في أسباب النزول : جلال الدين السيوطي المتوفى ٩١١ هـ ط : دار الكتب العلمية.

٧٢ ـ لسان العرب : العلامة ابن منظور المتوفى ٧١١ هـ ط : ١ دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

٧٣ ـ لسان الميزان : احمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي المتوفى ٨٥٢ هـ ط : ٢ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ١٣٩٠.

٧٤ ـ مجمع البحرين : اليخ فخر الدين الطريحي المتوفى ١٠٨٥ هـ ط : ٢ مكتب نشر الثقافة الإسلامية ١٤٠٨ هـ.

٧٥ ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : نور الدين الهيثمي المتوفى ٨٠٧ هـ ط : دار الكتب العلمية ، بيروت.

٧٦ ـ مختار الصحاح : محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى ٧٢١ هـ ط : ١ دار الكتب العلمية ، بيروت ١٤١٥ هـ.

٧٧ ـ المزار : الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي المتوفى ٧٨٦ هـ ط : ١ مدرسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ، قم المقدسة.

٧٨ ـ المزار الكبير : الشيخ محمد بن المشهدي المتوفى ٦١٠ هـ ط : ١ مؤسسة النشر الإسلامي ١٤١٩ هـ.

٧٩ ـ المستدرك : محمد بن محمد الحاكم النيسابوري المتوفى ٤٠٥ هـ ط : دار المعرفة ، بيروت ١٤٠٦ هـ.

٨٠ ـ المسند : للإمام الشافعي المتوفى ٢٠٤ هـ ط : دار الكتب العلمية ، بيروت.


٨١ ـ مسند ابن راهويه : إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنطلي المروزي المتوفى ٢٣٨ هـ ط : ١ مكتبة الإيمان ، المدينة المنورة ١٩٩١ م.

٨٢ ـ مسند أبي داود : لأبي داود الطيالسي المتوفى ٢٠٤ هـ ط : دار الحديث ، بيروت.

٨٣ ـ مسند أبي يعلى : الموصلي المتوفى ٣٠٨ هـ ط : دار المأمون للتراث.

٨٤ ـ مسند أحمد : للإمام أحمد بن حنبل المتوفى ٢٤١ هـ ط : دار صادر ، بيروت.

٨٥ ـ المصنف : ابن أبي شيبة الكوفى المتوفى ٢٣٥ هـ ط : دار الفكر.

٨٦ ـ المصنف : عبد الرزاق الصنعاني المتوفى ٢١١ هـ ط : المجلس العلمي.

٨٧ ـ المعجم الأوسط : سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى ٣٦٠ هـ ط : دار الحرمين.

٨٨ ـ معجم البلدان : ياقوت الحموي المتوفى ٦٢٦ هـ ط : دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

٨٩ ـ معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة : للسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المتوفى ١٤١٣ هـ ط : ٥ ، ١٤١٣ هـ.

٩٠ ـ المعجم الصغير : سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى ٣٦٠ هـ ط : دار الكتب العلمية ، بيروت.

٩١ ـ المعجم الكبير : سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى ٣٦٠ هـ ط : دار إحياء التراث ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة.

٩٢ ـ المعيار والموازنة : لأبي جعفر الإسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي المتوفى ٢٢٠ هـ.

٩٣ ـ المناقب : الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي المتوفى ٥٦٨ هـ ط : ٢ مؤسسة النشر الإسلامي ١٤١١ هـ.

٩٤ ـ المنجد في اللغة : ط : ٢١ دار المشرق ، بيروت ١٩٧٣ م.

٩٥ ـ النص والإجتهاد.

٩٦ ـ نظم درر السمطين : محمد بن يوسف الزرندي الحنفي المتوفى ٧٥٠ هـ ط : النجف الأشرف ١٩٥٨ م.

٩٧ ـ نهج البلاغة خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ط : دار المعرفة ، بيروت.


٩٨ ـ نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موسى بن حسن مؤمن الشبلنجي ط : دار العلوم الحديثة ، بيروت.

٩٩ ـ وقعة صفين : نصر بن مزاحم المنقري المتوفى ٢١٢ هـ ط : المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع ١٣٨٢ هـ.

١٠٠ ـ ينابيع المودة لذوي القربى : سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي المتوفى ١٢٩٤ هـ ط : دار الأسوة.


فهرس المحتويات

الاهداء

٧

ولي ربِّ العالمين

٧٣

مقدمة الشيخ الكوراني :

٩

مولى المؤمنين

٧٥

مقدمة المؤلف

١٣

أمين الله تعالى وسفيره

٧٩

يوم الغدير :

١٣

حجة الله البالغة

٨٣

تمهيد

١٥

دين الله القويم

٩١

يوم الغدير وحجّة الوداع :

١٥

النبأ العظيم

٩٣

نص خطبة الغدير

١٧

أول المؤمنين

٩٩

في رحاب الغدير

 ٢١

رواية عبد الله بن مسعود :

١٠٥

سند زيارة الغدير

 ٢٩

رواية عفيف الكندي :

 ١٠٦

نص زيارة الغدير

٣٣

جهاد متواصل

 ١٠٧

الشرح

٥١

إخلاص علي عليه‌السلام في العبادة

١١١

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين

 ٥٣

صبر علي عليه‌السلام

١١٥

السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

 ٥٤

سيد المسلمين

١١٩

خاتم النبيين :

٥٥

علي عليه‌السلام أخو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

 ١٢٣

سيد المرسلين :

٥٦

حديث دعوة العشيرة :

 ١٢٧

المصطفى :

٥٦

حديث المؤاخاة :

 ١٢٧

أمين الله :

٥٩

حديث زواج الزهراء عليها‌السلام

 ١٢٨

السلام على الأنبياء والرسل

٥٩

حديث الإختصام في ابنة حمزة :

١٢٩

أمير المؤمنين عليه‌السلام

٦١

حديث جابر بن عبد الله :

١٣١

سيد الوصيين

٦٥

حديث سلمان :

 ١٢٩

وارث علم النبيّين

٦٩

علي عليه‌السلام خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

 ١٣١


التبليغ بالولاية

١٣٧

الحجج البالغة :

 ١٨٣

وفاء بعهد الله

١٤١

الإخلاص لله تعالى

 ١٨٥

الولاية والإمارة

١٤٥

صبره عند الجهاد :

 ١٨٧

تجارة مع الله تعالى

١٤٧

جوده بالنفس :

 ١٨٨

حمزة سيد الشهداء :

١٤٧

عمله بالكتاب والسنة :

 ١٨٨

جعفر الطيار :

١٤٨

إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة :

 ١٨٨

الشاك في علي عليه‌السلام

١٥١

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر :

١٩٠

الصراط المستقيم

١٥٥

ثباته وأقدامه :

 ١٩٢

آيات الذكر الحكيم :

١٥٦

كذب وافتراء :

 ١٩٣

الحديث النبوي الشريف :

١٥٦

السابق إلى طاعة الله تعالى

 ١٩٥

من مظاهر إيمان الإمام علي عليه‌السلام

١٥٩

أول من آمن وصلى :

 ١٩٦

مخالفته الهوى :

١٥٩

جهاده في دار الشرك :

 ١٩٨

كظمه الغيظ وعفوه :

١٦٢

عزّته وأنسه بالله تعالى :

 ٢٠١

سخطه ورضاه لله عزوجل :

١٦٤

علي عليه‌السلام وحطام الدنيا

 ٢٠٣

التزامه بالعهود :

١٦٧

إعتصامه بالله تعالى وزهده

 ٢٠٣

إنتظار ما وعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٦٨

إختيار الله تعالى له عليه‌السلام :

 ٢١٠

علي عليه‌السلام والحق المغتصَب

١٧١

إستقامة علي عليه‌السلام :

 ٢١١

موقف الإمام علي عليه‌السلام من الخلافة :

١٧١

سادات الخلق

 ٢١٧

عوامل إعراض الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة :

١٧٤

مفارقة علي عليه‌السلام ضلال

٢٢٣

إحتجاجات حول الخلافة :

١٧٧

الإيمان بعلي عليه‌السلام

٢٢٣

جهاد في الله تعالى

١٨١

ولاية علي وأهل البيت عليه‌السلام :

 ٢٢٧

جوار الله تعالى :

١٨٢

نور علي عليه‌السلام وفضله :

 ٢٢٨

الهادي إلى الرشاد :

٢٣٠

علي عليه‌السلام ومخالفوه في النشأتين

٢٣١

منزلة علي عليه‌السلام :

 ٢٣١


مخالفوا الإمام علي عليه‌السلام :

٢٣٤

آية الولاية

٢٨٣

علي عليه‌السلام وظالموه :

٢٣٥

نزول الآية :

٢٨٣

حديث المنزلة

٢٣٩

إقرار ودعاء :

٢٨٦

الثبات على السنة :

٢٤٢

زهد وإيثار

٢٨٩

إتهامه بالكذب :

٢٤٢

الزهد ونظرة الإسلام إليه :

٢٩٠

إتهامه بالضلال :

٢٤٤

زهد علي عليه‌السلام :

٢٩٣

هل يستوي الذين يعلمون

٢٤٥

إيثار المعوزين :

٢٩٤

اختلاف المسلمين في التفضيل :

٢٤٦

لا يستوي المؤمن والفاسق

٢٩٧

نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام :

٢٤٦

العادل في الرعية :

٢٩٩

رجوع الصحابة للإمام علي عليه‌السلام :

٢٤٧

العالم بحدود الله تعالى :

٣٠٣

التسوية بين علي عليه‌السلام وغيره :

٢٤٩

بين علي عليه‌السلام والوليد :

٣٠٤

فضيلة الجهاد

٢٥١

من خصائص الولي عليه‌السلام

٣٠٩

القاعدون عن الجهاد :

٢٥٢

المواقف المشهودة

٣١٣

الإيمان أعظم الفضائل عند الله تعالى

٢٥٥

واقعة بدر

٣١٥

سبب نزول الآية الكريمة :

٢٥٦

«يوم بدر» :

٣١٥

المخصوص بمدحة الله تعالى:

٢٦١

واقعة الأحزاب

٣١٩

مدحة الله تعالى :

٢٦١

الإيمان والتحدي :

٣٢٣

هدي علي عليه‌السلام :

٢٦٤

واقعة اُحُد

٣٢٩

آية التبليغ

٢٦٧

واقعة حُنين

٣٣٥

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٦٧

بيعة الشجرة

٣٤١

التبليغ :

٢٦٩

واقعة خيبر

٣٤٥

مع حديث الغديري

٢٧٥

البرهان المنير

٣٤٩

عدم الإيمان بما اُنزل في علي عليه‌السلام :

٢٧٦

المؤهل للإمارة

٣٥٣

جهاد المرتدين

٢٧٩

حامل راية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٣٥٣

الأمير في كل المواطن :

٣٥٤


سياسة علي عليه‌السلام تقواه

٣٥٧

موقف علي عليه‌السلام يوم الهجرة :

٤١١

مكرُ الناكِثَين

٣٦٣

رفع المصاحف في صفين

٤١٥

الفتنة وقبول الخلافة :

٣٦٣

بين علي عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام :

٤١٧

البيعة للإمام علي عليه‌السلام :

٣٦٥

الخوارج

٤٢٣

موقف طلحة والزبير :

٣٦٦

بين الهدى والضلال :

٤٢٥

الفِئَة الباغية

٣٧١

جامع الفضائل

٤٢٩

نفوذ معاوية في الشام :

٣٧٢

مدح الإمام علي عليه‌السلام :

٤٣٠

استعانة معاوية بعمرو :

٣٧٣

من خصائص علي عليه‌السلام :

٤٣٣

علي عليه‌السلام يدعوهم إلى الوحدة :

٣٧٤

المارقون :

٤٣٤

الجهل بالأحكام :

٣٧٥

بنان علي عليه‌السلام وبيانه :

٤٣٥

موقف علي عليه‌السلام من البغاة :

٣٧٦

مدح الله تعالى :

٤٣٧

عداء مع الله تعالى :

٣٧٩

ومِنْهُم مَن يَنتَظِر

٤٣٩

خدعة معاوية :

٣٨١

قتلة المصلحين وظالميهم

٤٤٣

عمار بن ياسر

٣٨٣

قتلة أمير المؤمنين عليه‌السلام :

٤٤٦

أعداءُ الحق

٣٨٩

ظالمي آل محمد عليهم‌السلام :

٤٤٧

الصلاة على آل محمد :

٣٩٣

الخاتمة

٤٤٩

فَدَك

٣٩٥

الفهارس

٤٥١

الخلافة حق لعلي عليه‌السلام :

٣٩٥

فهرس المصادر

٤٥٣

فَدَك والمطالبة بها :

٣٩٦

فهرست المحتويات

٤٦١

إلّا المصلين

٤٠١

سَهمُ ذوي القربى

٤٠٣

علي عليه‌السلام والحق المغتصب :

٤٠٥

محنة علي عليه‌السلام :

٤٠٦

علي عليه‌السلام والهجرة

٤٠٩

بين إسماعيل عليه‌السلام وعلي عليه‌السلام :

٤١٠

شرح زيارة الغدير

المؤلف:
الصفحات: 464