

بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب
العالمين ، والصّلاة والسّلام
على سيّدنا ونبيّنا
محمد وآله الطيبّين
الطاهرين ، ولعنة
الله على أعدائهم
أجمعين ، إلى يوم
الدين.

المقصد الرابع
في العام والخاص
جرى الأصحاب
المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن مباحث المطلق والمقيد.
وكأنّ مبنى الفرق
بينهما عندهم على أنّ العام ما يفيد الشمول والسريان في الأفراد وضعا ، والمطلق ما
يستفاد فيه ذلك من مقدمات الحكمة.
كما قد يظهر من
بعض كلمات متقدميهم إطلاق العام على ما يكون حكمه شموليا ، والمطلق على ما يكون
حكمه بدليا.
لكن الظاهر تداخل
جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق ، كمباحث الجمع بين العام والخاص ، والعمل
بالعام قبل الفحص عن المخصص ، وتعقب الاستثناء لجمل متعددة وغيرها ، حيث يكون
البحث فيها عن العام من حيثية ظهوره في تساوي الأفراد أو الأحوال من حيثية الحكم ،
الذي لا يفرق فيه بين القسمين.
ولذا كان المناسب
تعميم هذا المقصد لكلا القسمين ، بجعل موضوعه العموم والخصوص من الحيثية المذكورة
، وعقد فصل فيه لبيان منشأ ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنه أولى مما جروا عليه من
البحث في مقصدين مع تداخل جملة من مباحثهما ، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق
على السريان
لمقدّمات الحكمة
دون الوضع ليس اتفاقيا ، وكذا دلالة بعض ما عدّ من ألفاظ العموم على ذلك بالوضع ،
كالنكرة في سياق النفي والنهي ، على ما يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
بل لا إشكال في
عموم المباحث المذكورة لما إذا استندت الدلالة على العموم لقرائن خارجية خاصة ،
دون الوضع ومقدمات الحكمة ، من دون أن يجعل له عنوان يخصّه ، بل يطلق عليه عنوان
العام عندهم في مقام البحث والاستدلال.
ومن هنا كان
المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه : «ما دل على سريان الحكم في أفراد
متعلّقه أو أحواله ، بحيث تتساوى فيه» مهما كان منشأ الدلالة.
وكثيرا ما جروا
على ذلك في مقام الاستدلال والنظر في النسبة بين الأدلة وبيان حالها ، حيث يغافلون
منشأ الدلالة على العموم عند إطلاق عنوان العام على الدليل.
نعم ، يخرج عن ذلك
ما إذا كان الاستيعاب مأخوذا في مفهوم المتعلّق ، كالعشرة والشهر في قولنا : أضف
عشرة رجال شهرا ، لوضوح أن نسبة الأجزاء له حينئذ ليست نسبة الفرد أو الحال
للمتعلق ، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه. ومجرد إمكان قصره عن بعضها
بالاستثناء ـ كالعام بالإضافة للأفراد ـ لا يوجب عموم مفهوم العام له اصطلاحا بعد
عدم شمول المهم من مباحث العموم والخصوص له.
أما الخاص فلا
يراد به إلا «ما دلّ على حكم موافق أو مناف لحكم عام أوسع منه شمولا» سواء كان
الموضوع فيه جزئيا أم كليا ، كقولنا : لا تكرم زيدا ، أو : لا تكرم النحويين ،
بالإضافة لقولنا : أكرم العالم ، أو : كل عالم ، أو : أكرم عالما ، فهو عنوان
إضافي ، حيث لا يصدق على الدليل عنوان الخاص في محل الكلام
مع قطع النظر عن
عام أوسع منه شمولا ، وبلحاظه يصدق عليه وإن كان هو عاما في نفسه. وذلك هو المراد
بالمقيّد ، وإن افترقا عندهم بأن الخاص في مقابل العام ، والمقيّد في مقابل
المقيّد.
وحيث عرفت عموم
العام للمطلق في محل الكلام يتعين عموم الخاص للمقيّد. وعلى ذلك جرى كثير من
إطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة النسبة بين الأدلة ، نظير ما ذكرناه في
العام.
هذا ، وينبغي
الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول ..
الفصل الأول
في أقسام العموم
لا يخفى أنّ تعلق
الحكم بالطبيعة بنحو يشمل جميع أفرادها ، إما أن يكون بنحو الانحلال ، بأن يرجع
إلى أحكام متعددة بعدد أفرادها ، لكل منها أثره من إطاعة ومعصية وغيرهما. وإما ألا
يكون كذلك ، بل يكون حكما واحدا متعلقا بالطبيعة ذات الأفراد.
وهو تارة : يقتضي
الجمع بين الأفراد فعلا أو تركا.
وأخرى : يقتضي
فردا واحدا منها بدلا بنحو يستلزم التخيير بينها عقلا.
والأول هو العموم
الاستغراقي ، والثاني المجموعي ، والثالث البدلي.
وحيث كان صدق
العموم على الجميع وانقسامه لها مبنيا على تعريفه بنحو يشملها كان مبنيا على محض
الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
فلا وقع مع ذلك
لما ذكره بعض الأعاظم من أن في عدّ العموم البدلي من أقسام العموم مسامحة ،
لمنافاة البدلية للعموم بلحاظ أن متعلق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فردا واحدا
، وإن كانت البدلية عامة. فتأمل.
هذا ، وإن علم أحد
الأقسام بعينه فلا إشكال ، وإلا لزم النظر فيما هو مقتضى الظهور النوعي.
والظاهر عدم
الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه ، بل الوضع والقرائن العامة والخاصة
وافية بتمييز موارده عن مواردهما. ولو فرض الاشتباه بينهما فلا يظهر لنا فعلا طريق
لتعيين أحدهما.
وإنما الكلام في
الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.
وقد ذكر بعض
الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل في العموم أن يكون استغراقيا ، لاحتياج العموم
المجموعي إلى مئونة زائدة ، وهي مئونة اعتبار الأمور الكثيرة أمرا واحدا ، ليحكم
عليها بحكم واحد ، وهو خلاف الأصل.
ويشكل بعدم وضوح
لزوم ملاحظة الامور المتكثرة أمرا واحدا في العموم المجموعي ، بل يكفي لحاظها في
أنفسها وجعل حكم واحد لها ، بنحو يكون واردا عليها بتمامها ، لا بنحو يكون واردا
على أمر واحد منتزع منها ، ليرجع إلى لحاظ الوحدة بينها ويكون خلاف الأصل ، في قبال
ما إذا جعل لكل منها حكم مستقل به ، الذي يكون العموم معه استغراقيا انحلاليا.
وذلك جار في تعاطف
المفردات ، كما لو قيل : أكرم زيدا وعمرا وبكرا ، حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها
لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية والارتباطيّة.
بل الظاهر أن
العموم الاستغراقي هو المبني على نحو من العناية ، وهي ملاحظة الحكم الذي تضمنته
القضية منحلا إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فإن ذلك إن لم يكن خلاف الظهور
الأولي فلا أقل من كونه خلاف الأصل.
هذا ، وقد يقرب
أصالة الانحلال في العموم بأن العموم المجموعي مستلزم لتقييد حكم كل فرد بإطاعة
أحكام بقية الأفراد ، وهو خلاف الإطلاق.
لكنه يندفع : بأن
إطلاق حكم الفرد بالنحو المقتضي لعدم دخل إطاعة أحكام بقية الأفراد فيه فرع كونه
استقلاليا وكون العموم انحلاليا ، أما إذا كان ضمنيا لكون العموم مجموعيا فلا
إطلاق فيه ، ليمنع من البناء على التقييد المذكور ، فلا مجال للاستدلال بالإطلاق
على الانحلالية. وكذا الحال في تعاطف المفردات.
نعم ، يتجه
الإطلاق في حكم الفرد مع تعدد الجمل ، كما في قولنا أكرم
زيدا ، وأكرم عمرا
، وأكرم بكرا.
فالعمدة في وجه
البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف العرف إليه من الإطلاق تبعا
للمرتكزات الاستعمالية ، حيث تبتني المجموعية على الارتباطية الّتي تحتاج عندهم
إلى مئونة بيان.
وقد سبق في آخر
الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في حكم النهي لو خولف ما ينفع في المقام
فراجع.
الفصل الثاني
في ما يدل على العموم
اختلفت كلمات أهل
الفن من قدماء ومتأخرين في تحديد ما وضعت له أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على
المفاهيم الكلية الذاتية والعرضية ، وأنه هل هو المطلق الساري في تمام الأفراد
بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازا ، أو ما يعمّه والمقيد.
وقد أطال
المتأخرون تبعا لذلك في أقسام الماهية واعتباراتها ، واختلفوا في تعداد الأقسام
وتحديدها ونسبة بعضها إلى بعض.
والظاهر أن الكلام
في ذلك راجع الى تحديد المصطلحات وتشخيصها ، هو أمر لا يترتب عليه كثير فائدة ، بل
لا أثر له فيما هو محل الكلام في المقام ، ليحسن إطالة الكلام فيه ومحاكمة آرائهم
، ولا سيما مع كثرة كلامهم وشدة الخلاف بينهم ، كما يظهر بالنظر في كلماتهم في
المقام.
ولعل الأولى أن
يقال : لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها ..
تارة : يرجع إلى
لحاظها بنفسها بما لها من حدود مفهومية مقومة لها من دون أن يسري إلى ما في الخارج
من أفرادها ، فيكون الحكم مقصورا عليها بما هي كلي ذهني لا يسري إلى ما في الخارج
كما في قولنا : الإنسان نوع ، وكما في موارد الحمل الأولي الذاتي الذي يقصد به شرح
المفهوم وتحديده ، ولعل ذلك هو المراد بالماهية الذهنية.
واخرى : يرجع إلى
لحاظها عبرة إلى ما في الخارج من أفرادها ، بحيث
يكون الحكم منصبا
على الأفراد الخارجية وجاريا عليها حقيقة. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الخارجية
في كلماتهم.
وهي تارة : تلحظ
بنفسها مع قطع النظر عما هو خارج عنها ، فيعبر عنها بالماهية لا بشرط ، كما في
قولنا : أكرم العالم.
واخرى
: تلحظ مع ما هو
خارج عنها مقيدة بوجوده ، كما في قولنا : أكرم العالم العادل ، ويعبر عنها
بالماهية بشرط شيء ، أو بعدمه ، كما في قولنا : أكرم العالم غير الفاسق ، ويعبر
عنها بالماهية بشرط لا.
وبهذا يظهر أن
انقسام الماهية إلى الأقسام المذكورة من الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ليس
كسائر الانقسامات راجعا إلى تباين الأقسام بخصوصياتها مع رجوع اشتراكها في المقسم
إلى تماثل ما به الاشتراك بينها ، بل هو راجع إلى تبادل حالات الأمر الواحد ، وهو
الماهية بحدودها المفهومية المحكية باللفظ التي يختلف لحاظها باختلاف الوجوه
المتقدمة ، فهو نظير انقسام زيد إلى القائم والقاعد ، لا كانقسام الإنسان إلى
الرجل والمرأة.
وإن كان قد يظهر
من بعض كلماتهم أن التقسيم المذكور ونحوه حقيقي ، وأن الأقسام متباينة في أنفسها.
والأمر سهل ، إذا
المهم معرفة الأقسام لا حال التقسيم.
هذا ، ولا إشكال
ظاهرا في أن استعمال الألفاظ الموضوعة للماهية في القسم الأول ـ وهو الماهية
الذهنية ـ حقيقة ، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على العناية التي لا بد منها في
المجاز ، وكذا القسم الثاني ، وهو الماهية الخارجية الملحوظة بنحو اللابشرط ،
لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن الماهية بحدودها المفهومية ، وسوقها عبرة للأفراد
مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.
وإنما الإشكال في
القسم الثالث ، وهو الماهية الخارجية المقيدة بشرط شيء أو بشرط لا ، فقد حكي عن
القدماء أن استعمالها فيه مجازي.
وعن السلطان ومن
تأخر عنه أنه حقيقي ، وهو الأظهر ، لقضاء التأمل بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ
في حالتي الإطلاق والتقييد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيدا
او الحكاية عن التقييد بدال آخر لا يوجب خروج اللفظ الحاكي عن الماهية عما هو
الموضوع له ، نظير الإخبار والتوصيف اللذين لا يوجبان خروج اللفظ الدل على الموضوع
عن معناه الحقيقي.
وتوهم : أخذ
السريان والإطلاق فيها قيدا في الموضوع له ، فيكون التقييد مستلزما للتصرف في
الموضوع له ويلزم المجاز.
مدفوع : بقضاء
التأمّل بأن السريان أمر زائد على المفهوم عرفا ، حيث قد يؤخذ بدال آخر ، كأدوات
العموم ، فلو كان مأخوذا في مدلول اللفظ كانت الأدوات المذكورة متمحضة في التأكيد
، وهو بعيد عن المرتكزات الاستعمالية جدا.
ودعوى : أن
السريان وإن لم يؤخذ في الموضوع له إلا أن التقييد مستلزم لأخذ أمر زائد على
الموضوع له في مدلول اللفظ ، وهو الخصوصية المتقومة بالقيد الزائدة على الماهية ،
فيلزم المجاز.
مدفوعة : بأن
خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ الموضوع للماهية المقيدة ، ليلزم
أخذ أمر خارج عن الموضوع له في المستعمل فيه ، بل ليس المستعمل فيه إلا الماهية
بحدودها المفهومية ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، وهو التقييد ، الذي هو مطرد
ولا يبتني الاستعمال في مورده على العناية ، والذي هو نحو نسبة بين ذات المقيّد ـ وهو
الماهية بحدودها المفهومية الموضوع لها اللفظ ـ والقيد تقتضي قصر الحكم على خصوص
ما قارن القيد من الذات.
ولو كان الاستعمال
معه مبنيا على الخروج باللفظ عن مدلوله إلى المقيّد
بما هو مقيّد لم
يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحيالها ومؤدى بها ، بل كانت ألفاظا مهملة
لا غرض من الإتيان بها إلا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى اللفظ ، من دون أن تفيد
معنى زائدا عليه ، وهو غير معهود في الاستعمالات العرفية.
ولا مجال لتنظيرها
بقرينة المجاز والمشترك ونحوهما ، لأن تلك القرائن ذات مدلول خاص مباين للمعنى
المراد من اللفظ ، وقرينتها إنما هي بلحاظ ملائمتها له ، لا لتمحضها للإشارة
لاستعمال اللفظ فيه.
ويتضح ما ذكرنا
فيما لو اريد بيان شجاعة زيد تارة : بقولنا زيد رجل. واخرى : بقولنا : زيد رجل
شجاع ، حيث لا إشكال ظاهرا في وضوح الفرق في معنى الرجل بين الوجهين ، وابتناء
الأول على الخروج به عن معناه ، واستعماله في خصوصية الشجاع زائدا عليه ، نظير :
يا أشباه الرجال ولا رجال ، وعدم الخروج به في الثاني عن معناه ، وإنما افيدت
الشجاعة بالتقييد زائدا عليه.
وبالجملة : ليس
المستعمل فيه عند إرادة الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة إلا الماهية
بحدودها المفهومية التي وضع لها اللفظ ، وليس مفاد التقييد إلا نسبة زائدة على
الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ ، ليلزم المجاز ، غايته أن مفاد النسبة المذكورة
قصر الحكم على خصوص واجد القيد من أفراد الماهية ، وهو لا يستلزم المجاز ، كما هو
الحال في سائر النسب ، حيث لا تستلزم تبدل المستعمل فيه في أطرافها والخروج بها عن
معناها ، بل إضافة معنى زائد عليها خارج عن المستعمل فيه.
ثم إن هذا إنما
يقتضي عدم المجازية مع التقييد المتصل ، ولا ينهض بدفع المجاز مع ثبوت التقييد
المنفصل الكاشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع فرض نسبة الحكم للماهية لا بشرط من دون
أخذ نسبة التقييد زائدا عليها ، ليجري ما تقدم في وجه عدم المجاز.
وقد حاول غير واحد
توجيه عدم المجاز في الاستعمال المذكور ، بدعوى : أن الموضوع له هو القدر المشترك
بين الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ، الذي قد يعبر عنه باللابشرط
المقسمي.
لكن لا يخفى أن
القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه ، لانحصار الماهية الملحوظة بأحد
الوجوه المتقدمة.
ومن ثمّ قيل : انه
ليس اعتبارا للماهية في قبال الاعتبارات الأخر ، بل هو موجود في ضمنها ، فهو جامع
انتزاعي بينها ، لا جامع حقيقي مفهومي يمكن لحاظه بنفسه بنحو يشملها ، فليس مرجع
الوضع له إلى تصور الماهية بنحوه حين الوضع وتعيين اللفظ بإزائه ، بل إلى الوضع
لأقسامه الثلاثة بنحو الترديد ، نظير الاشتراك وتعدد الوضع ، وهو مما يقطع بعدمه ،
لما فيه من التكلف.
بل التحقيق ما سبق
من كون الموضوع له هو الماهية بما لها من حدود مفهومية قابلة للتحديد والتصور ،
التي عرفت أنها تقبل اللحاظ على أحد الوجوه المذكورة.
وحينئذ يرجع
الإشكال مع التقييد المنفصل ، لفرض عدم تقييد الماهية عند الحكم عليها ، فإن ابتنى
ذلك على إرادة المقيد من اللفظ الموضوع للماهية لزم المجاز ، للخروج به عما وضع له
، وهو الماهية بنفسها الشاملة له ولغيره.
فالظاهر أن الأمر
يبتني على أمر آخر ، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على الماهية الخارجية بحدودها
المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام أفرادها ، بحيث لو كان مختصا ببعض
أفرادها لم يصح نسبته إليها إلا مع التقييد المتصل بما يطابق تلك الأفراد ـ الذي
سبق عدم لزوم المجازية ـ أو استعمال اللفظ في المقيد خروجا به عما وضع له ـ المستلزم
للمجاز ـ أو لا؟ بل يكفي في نسبة الحكم لها بما لها من المعنى ثبوته لبعض أفرادها
من دون حاجة للتقييد.
إذا عرفت هذا ،
فالظاهر هو الثاني ، ومرجعه إلى صحة الاستعمال بنحو
القضية المهملة
الراجعة إلى ثبوت الحكم للماهية في الجملة بالنحو المردد بين تمام الأفراد وبعضها
، من دون أن يبتني الاستعمال مع ثبوت الحكم للبعض على قصده بنحو التقييد المبتني
على أخذ الخصوصية المعينة له ، ولا بنتيجته المبتنية على ملاحظته بذاته ، بل على
ملاحظة الماهية بذاتها ونسبة الحكم إليها في الجملة.
ويشهد بما ذكرنا
عدم العناية في الاستعمال المذكور ارتكازا ، الذي يبتني على كثير من القضايا
الشائعة بين أهل اللسان ، كقولنا : قد رأيت الأسد ، وركبت الفرس ، وأكلت اللحم ،
وشربت اللبن ، وغيرها ، وكما في القضايا المتضمنة للأحكام عند عدم كون المتكلم في
مقام البيان من بعض الجهات ، حيث لا إشكال في عدم ذلك على العناية باستعمال اللفظ
في المقيد.
كيف وقد لا يحيط
المتكلم عند الاستعمال بالخصوصيات والقيود الدخيلة في الحكم ليتسنى له الاستعمال
في المقيد بها أو المقارن لها. فلو لا صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية
بمجرد ثبوته لبعض أفرادها لم تصح الاستعمالات المذكورة.
والفرق بين ما
ذكرنا وما سبق من المتأخرين من دعوى الوضع للجامع بين المطلق والمقيد : أن التوسع
ـ على ما ذكروه ـ في مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، و ـ على ما ذكرنا ـ في مفاد
الحمل والحكم على الماهية.
ولعل ارتكازية صحة
الاستعمال المذكور وعدم مجازيته هو الذي أوهم سعة ما وضع له لفظ الماهية بالنحو
المتقدم ، الذي ذكرنا عدم إمكان الالتزام به ، وأنه يتعين توجيه هذا الاستعمال بما
سبق.
نعم ، لا يتعين ما
ذكرنا في التقييد المنفصل ، بل كما يمكن ذلك فيه ، يمكن أن يبتني على قيام قرينة
متصلة حالية أو مقالية على التقييد وإن خفيت ، أو على استعمال المطلق في المقيد
مجازا ، كما سبق من القدماء. لأنه بعد أن
فرض انعقاد الظهور
في العموم والإطلاق كما تكون جميع الوجوه المذكورة مخالفة للأصل ، فلا بد في تعيين
أحدها من معين.
ولعله يتضح بعض
الكلام في ذلك عند الكلام في الجمع بين العام والخاص.
كما أن ما ذكرنا
من صحة إرادة المهملة إنما يتجه في القضية الموجبة ونحوها ، أما السالبة ونحوها
فلا إشكال في عدم صحتها مع الإهمال وتوقفها على استيعاب السلب لتمام الأفراد فلا
بد من أحد الوجهين الآخرين أو نحوهما لو ثبت الخصوص.
وتمام الكلام في
ذلك عند الكلام في مفاد النكرة في سياق النفي والنهي إن شاء الله تعالى.
ثم إن ما ذكرنا من
صحة الحمل على الماهية ..
تارة : بنحو
الإطلاق ..
واخرى : بنحو
التقييد المتصل ، وأن الأول يكفي فيه ثبوت الحكم في الجملة بنحو الإهمال الذي
يناسب التقييد المنفصل ، يجري نظيره في النسبة التي إليها يرجع العموم الأحوالي ،
فنسبة الحكم للموضوع قد تبتني على ثبوته له في خصوص حال يستفاد من تقييده بشرط أو
غاية أو غيرهما من القيود المتصلة ، كما تبتني على ثبوته له في الجملة بنحو
الإهمال الذي يجتمع مع ثبوته له دائما ، وثبوته له في خصوص حال ، وعلى الثاني قد
يبتني التقييد المنفصل ، من دون أن يخرج في شيء منها عن مفاد النسبة وضعا.
وقد تحصل من جميع
ما تقدم : أن مفاد الوضع في المفردات والهيات مع عدم التقييد ليس إلا ثبوت الحكم
للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة بالإضافة إلى الأفراد والأحوال.
ومن هنا لا بد من
الكلام في ما يدل على العموم وضعا أو عقلا أو بقرائن
عامة ، ليترتب
عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام ، وله عقدنا هذا الفصل. ويكون ذلك في
ضمن مباحث ..
المبحث الأول
لا إشكال في دلالة
بعض الأدوات على العموم الأفرادي أو الأحوالي وضعا ، مثل : (كل) و (جميع) و (أي)
في مثل : أكرم كل رجل ، أو جميع الرجال ، أو أي رجل ، ودائما في مثل : الخمر نجسة
دائما ، ونحوها ، لأن ذلك هو المتبادر منها.
ومعه لا مجال لما
حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم والخصوص ، أو اختصاصها بالخصوص.
كما لا مجال
لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في كتاب المعالم وغيره.
هذا ، ويظهر من
غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم لتمام أفراد الماهية الداخلة
عليها ، حيث لا إشكال في عدم دلالتها على العموم لها مع تقييدها ، ففي مثل : أكرم
كل عالم عادل لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم ، بل لخصوص أفراد العادل منه ،
ومرجع ذلك إلى أن مفاد الأداة هو عموم الحكم لأفراد ما يراد من مدخولها مطلقا كان
أو مقيدا ، فلا بد في استفادة العموم منه لتمام افراد المدخول من إحراز كون المراد
به الماهية المطلقة المرسلة ، وهو إنما يكون بضميمة مقدمات الحكمة ، ومع عدم
تماميتها لا مجال لإحراز العموم لتمام أفرادها من الأداة.
لكنه يبتني على
كون اللفظ الدال على الماهية موضوعا للقدر المشترك بين المطلقة المرسلة والمقيّد ،
حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى إلى قرينة
الحكمة.
وقد سبق ضعفه ،
وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية ، والتقييد نسبة زائدة عليها ، غاية الأمر
أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضي بنفسه استيعاب أفرادها به ، بل يكفي ثبوته لها في
الجملة بنحو القضية المهملة ، فمع فرض دلالة الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد ما
أريد من مدخولها ـ وهو الماهية بحدودها المفهومية ـ يتعين خروجها عن الإهمال ،
والبناء على العموم لتمام الأفراد بلا حاجة لمقدمات الحكمة.
ولا ينافي ذلك
قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل ، واختصاصه بأفراد المقيد ، لأن نسبة
التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي قصر العموم عليها ، ومع عدمه
لا بد من سعة العموم.
نعم ، لو احتمل
التقييد المتصل بقرينة حالية أو مقالية قد اختفت علينا فاستفادة العموم لتمام
الأفراد تبتني على أصالة عدم القرينة ، وهي مباينة لمقدمات الحكمة مفادا وموردا ،
كما هو ظاهر.
أما لو لم يحتمل
التقييد المتصل فأداة العموم بنفسها تقتضي سعته لتمام أفراد المدخول وضعا ، من دون
ضميمة مقدمات الحكمة ، وإلا خرجت أدوات العموم في إفادته عن التأسيس ، للتأكيد ،
إذ مع عدم تمامية المقدمات المذكورة لا تصلح لإفادة العموم لأفراد المدخول ، بسبب
احتمال إرادة المقيد منه ، ومع تماميتها تستند إفادة العموم لها ، غاية الأمر أنها
قد تنفع في تبدل نحو العموم من البدلية للاستغراقية أو المجموعية ، كما لو كان
مدخولها نكرة.
وهو كما ترى بعيد
عن المرتكزات الاستعمالية ، لقضاء التأمل فيها بإفادة الأدوات أصل العموم تأسيسا ،
لا تأكيدا. ومعها لا تتم مقدمات الحكمة ، لأن منها عدم البيان. فلاحظ.
المبحث الثاني
لا إشكال في دلالة
النكرة في سياق النفي والنهي العموم ، لأن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها كما
يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهي
إلا بانتفاء تمام الأفراد.
ومن ثمّ كانت
الدلالة على العموم في ذلك عقلية متفرعة على دلالة اللفظ على الماهية ذات الوجود
الواسع بما لها من حدود مفهومية.
وبذلك ظهر عدم
اختصاص ذلك بالنكرة ، بل يجري في كل ما يدل على الماهية إذا وقع في سياق النفي
والنهي.
وقد تقدم بعض
الكلام في ذلك في الفصل الخامس من مقصد الأوامر والنواهي عند الكلام في الفرق بين
الأمر والنهي في مقام الامتثال.
هذا ، وقد استشكل
في ذلك بعض المحققين رحمه الله ، قال في أوائل مبحث النهي : «لا يخفى عليك أن
الطبيعة توجد بوجودات متعددة ، ولكل وجود عدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود
مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها ، فيقابله
إضافة العدم إلى مثلها ، ونتيجة المهملة جزئية ، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقق
بوجود واحد كذلك عدم مثلها. وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة ،
فلكل وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وأعدام ، وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة
، أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذ عنه وجود ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة
العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثرة ، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم ...
فما
اشتهر من أن تحقق
الطبيعة بتحقق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل له ، حيث لا مقابلة بين
الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي
بانتفاء جميع أفرادها».
لكنه كما ترى!
لأنه إذا كان وجود الطبيعة المهملة بوجود بعض الأفراد وعدمها بعدم بعضها لزم
اجتماع الوجود والعدم المضافين لها بوجود بعض الأفراد دون بعض ، وإذا كان وجود
الطبيعة بنحو الكثرة ـ الراجعة إلى ملاحظة كل فرد فرد بنحو العموم الانحلالي ـ أو
بنحو السعة ـ الراجعة إلى ملاحظة مجموع الأفراد شيئا واحدا بنحو الارتباطية
والمجموعية ـ بوجود تمام الأفراد وعدمها بأحد النحوين بعدم كل منها ، لزم ارتفاع
الوجود والعدم المضافين لها بأحد النحوين المذكورين ، بوجود بعض الأفراد دون بعض.
ولازم ذلك عدم
التناقض بين الوجود والعدم مع وحدة موضوعهما ، لإمكان اجتماعهما في الأول ،
وارتفاعهما في الأخيرين ، مع أن التناقض بينهما من أول البديهيات.
ومن ثمّ كانت
الطبيعة المهملة المفروض وجودها بوجود فرد واحد لا تنعدم إلا بعدم جميع الأفراد ،
ولذا كان نقيض المهملة ـ التي هي في قوة الجزئية ـ سالبة كلية. كما أن الطبيعة
الملحوظة بنحو الكثرة والتي توجد بوجود تمام أفرادها تنعدم بعدم بعض أفرادها. ولذا
كان (ليس كل) سورا للسالبة الجزئية.
وكذا الملحوظة
بنحو السعة في الوجود التي يتحد وجودها مع وجود تمام أفرادها بنحو المجموعية
والارتباطية ، لوضوح أنه يكفي في صدق نقيض الكل أو المقيد عدم جزئه أو قيده.
والذي ينبغي أن
يقال : الوجود والعدم عارضان حقيقة على الفرد ، دون الماهية ، بل هي أمر اعتباري
انتزاعي لا يصح نسبة الوجود له إلا اعتبارا بلحاظ وجود أفراده ، إلا أن سعة
مفهومها بنحو تنطبق على تمام الأفراد ـ على ما هي
عليه من الاعتبار
والانتزاع ـ مستلزم لصحة نسبة الوجود إليها بوجود فرد واحد ، وتوقف نسبة العدم
إليها على عدم تمام الأفراد ، وتقابل وجود كل فرد إنما يكون مع عدمه اذا نسب
الوجود والعدم للفرد ، دون ما إذا نسب للماهية المنطبقة على كل فرد فرد ، لما
ذكرنا.
هذا ، وقد سبق أن
الإهمال في القضية ليس لسعة مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، بل ليس الموضوع له
اللفظ إلا الماهية بحدودها المفهومية ، وليس الإهمال إلا من شئون النسبة ، حيث
يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها ، أما سلبه فيتوقف على عدم
ثبوته لشيء من أفرادها ، كما سبق.
ثم إن لازم ما
ذكره عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم إلا مع إحراز كون المراد
بها الماهية غير المهملة ، بل المطلقة السارية في تمام الأفراد بأحد النحوين
الأخيرين المذكورين في كلامه. ولذا التزم بتوقف دلالتها على العموم على تمامية
مقدمات الحكمة فيها.
وهو الذي ذكره
غيره أيضا ، لا لاحتمال صدق السلب على الماهية ببعض أنحائها بعدم بعض أفرادها ، كما
سبق منه قدّس سرّه ، بل للبناء منهم على أن الموضوع له هو القدر المشترك بين
المطلق والمقيّد ، ووقوع المقيّدة في سياق النفي والنهي لا يقتضي العموم إلا
لأفرادها ، فاستفادة العموم لتمام أفراد المدخول موقوف على كون المراد به المطلقة
الذي يحرز بالمقدمات المذكورة.
وأما ما ذكره
بعضهم من أن النفي قرينة عند العرف على إرادة الشياع بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة.
فغير ظاهر ، إذ لم
يتضح وجه خصوصية النفي في ذلك لأنه كسائر النسب الطارئة على الموضوع لا تقتضي بيان
المراد منه زائدا على مدلوله اللفظي ، وأنه قد لحظ بنحو السريان والشياع.
فالعمدة في وجه
الاستغناء عن المقدمات المذكورة ما تقدم منا من عدم
الوضع للقدر
المشترك بين المطلق والمقيد ، بل ليس الموضوع له إلا الماهية بحدودها المفهومية ،
التي ذكرنا أن لازم سعة وجودها بتكثر أفرادها هو صدق الوجود عليها بوجود بعضها ،
وتوقف عدمها على عدم تمام الأفراد.
كما ذكرنا آنفا
أنه يكفي في إثبات الحكم لها ثبوته لبعض أفرادها ، ولا يصح سلبه عنها إلا بعدم
ثبوته لشيء من أفرادها.
نعم ، لو شك في
العموم الأحوالي الراجع للشك في إطلاق النسبة نفسها فالظاهر عدم جريان ما تقدم ،
لعدم الفرق بين النسبة الإيجابية والسلبية في الصلوح للإهمال ، فمع عدم إحراز
إطلاقها من مقدمات الحكمة أو نحوها يتعين التوقف ، وعدم البناء على العموم
الأحوالي. فتأمل جيدا.
تنبيه
ذكر غير واحد أن
مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد.
لكن الظاهر أنه
يختلف ـ مع قطع النظر عن خصوصية النسبة ـ باختلاف أقسامها ، فهي ...
تارة : تدل على
الماهية بنفسها مع قطع النظر عن القلة والكثرة ، فتنطبق على الكثير بعين انطباقها.
على القليل ، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد المشتقات. ولذا تقدم أن الأمر
لا يدل على المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس الإفرادي ، كماء وتراب وحنطة.
واخرى
: تدل على الماهية
المتشخصة بواحد. كالمصدر الذي على وزن فعلة ، ومثل رجل وامرأة وثوب ، وما يقترن
بالتاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجرة ، وثمرة ، وحبة وتمرة ، وما يتجرد
عنها من عكسه ككمء.
وثالثة
: تدل على الماهية
المتكثرة ، وهو اسم الجنس الجمعي ، كالمجرد عن التاء مما يفرق بينه وبين واحده بها
، كشجر وثمر ، وحب ، وتمر ، والمقترن
بها من عكسه ،
ككمأة ، بناء على أنه ليس جمعا ، بل اسم جنس.
هذا ، وربما يجمع
بين ما ذكرنا وما ذكروه من إطلاق دلالة النكرة على الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد
بأن مرادهم بما ذكروه دلالة النكرة على الفرد المردد بالنحو المدلول للنكرة
المأخوذ فيها من إطلاق أو تقييد بالوحدة أو التكثر ، فمثل شجر وإن كان يدل على
أشجار كثيرة ، إلا أنه يدل على فرد واحد شايع في أفراد الشجر الكثير ، كما يدل لفظ
شجرة على فرد شايع في أفراد الشجرة الواحدة ويدل لفظ حنطة على فرد شايع في أفراد
الحنطة الصادقة على القليل والكثير ، فأخذ الكثرة في القسم الثالث لا تنافي دلالة
النكرة على الفرد الواحد ، والذي تكون الكثرة مقومة لفرديته.
إذا عرفت هذا ،
فلا يخفى أن ما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم من
توقف انتفاء الطبيعة على انتفاء تمام أفرادها كما يجري في القسم الأول يجري في
القسم الثاني ، لأن انتفاء المتشخص بالواحد لا يكون مع وجود الأفراد المتكثرة ،
وكما ينافيه انحصار الوجود بالواحد ينافيه وجود المتكثر.
نعم ، لو كان مفاد
نفيها انتفاء التشخص بالواحد وانتفاء وحدة التشخص لم يناف التشخص بالمتكثر. لكن من
المعلوم أن مفاد النكرة ليس هو التشخص بالواحد ووحدة التشخص ، الذي لا يصدق مع
التكثر ، بل المتشخص بالواحد الذي يصدق معه ، فلا يصح نفيه إلا مع نفيه.
وأما مثل : لا رجل
في الدار بل رجلان ، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود المنفي بالانفراد بقرينة
الاستدراك ، ولولاه يكون المفهوم نفي الرجل مطلقا ولو مع الكثرة ، فكأنه قيل : لا
رجل فقط في الدار بل رجلان ، نظير قولنا : ليس بعض العلماء في الدار بل كلهم ،
وليس زيد في الدار ، بل الزيدان معا.
وإليه يرجع ما
ذكره بعض النحويين من أن (لا) لنفي الوحدة ، لا لنفي
الجنس ، وإلا
فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائما لنفي الجنس.
وأما الثالث فقد
يشكل جريان ما تقدم فيه ، لعدم توقف انتفاء الطبيعة المتكثرة على انتفاء الفرد
الواحد أو الفردين ، فيلزم عدم دلالة وقوع هذا القسم في سياق النفي والنهي على
انتفاء الطبيعة رأسا ، بل على انتفاء المتكثر منها.
لكن الرجوع
للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك ، فمثل : لا شجر في الدار ، ولا ثمر في الشجرة ،
ولا بقر في المرعى ، يدل على انتفاء الماهية رأسا ، كما عن بعض النحويين التنبيه
على ذلك.
وليس هو كنفي
الجمع أو المثنى ، حيث لا يدل قولنا : ليس في الدار شجرتان ، أو أشجار ، على
انتفاء الشجرة الواحدة في الأول ، والشجرتين في الثاني.
ولعله ناشئ عن
شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهي في نفي الطبيعة فأوجب الانصراف إلى ذلك
وفهمه عرفا منه حتى في هذا القسم ، وإن لم يقتضه الجمود على المعنى اللغوي له.
كما ربما يبتني
على أن استعمال هذا القسم في خصوص المتكثر ليس لأخذ التكثر قيدا في مفهومه لغة ،
بل هو موضوع لغة للطبيعة بما هي كالقسم الأول ، وإن كان ينصرف إلى المتكثر بسبب
كثرة الاستعمال فيه عرفا ، كما احتمله أو جزم به بعض النحويين.
ولذا يتجرد عن قيد
التكثر عند دخول لام الجنس عليه ، ويراد به الطبيعة من حيث هي ، كما في مثل قولنا
: الشجر نبت له ساق مرتفع وأغصان متكثرة ، وقولنا : رأيت الشجر ، وأكلت التمر
والثمر ، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهي يستعمل في معناه ومدلوله اللغوي
المذكور ، الذي لا يكون انتفاؤه إلا بانتفاء تمام الأفراد.
ولعل الأول أقرب
ارتكازا.
هذا ، ومن الظاهر
اختلاف مفاد النكرة ، حيث يراد بها ..
تارة : الكلي
القابل ثبوتا للانطباق على كل فرد فرد من دون تعيين ، كما في قولنا : أكرم رجلا.
ولك علي درهم.
واخرى : الفرد
المعين ثبوتا المردد إثباتا بين أفراد ، كما في قولنا : أكرمت رجلا ، أو : يدخل
الدار غدا رجل.
والظاهر أن
الاختلاف ليس في مفاد النكرة وضعا ، لبعد الاشتراك جدا ، بل هي موضوعة للأول : وهو
الكلي القابل للانطباق على كل فرد من دون تعين له ثبوتا ، لأن ذلك هو المتبادر
منها مع قطع النظر عن خصوصيات النسب ، ولبعد الاشتراك جدا.
والتعيين ثبوتا في
الثاني ناشئ عن خصوصية النسبة ، لأن النسبة الخبرية قد يتعين مطابقها ثبوتا ، وإن
كان قد لا يتعين ، كما لو كان الحاصل في الخارج أكثر من فرد واحد ، حيث لا يتعين
فرد بعينه لمطابقة النسبة الخبرية حتى ثبوتا ، لعدم المرجح.
أما النسبة
الطلبية ونسبة التمليك الواردة على الكلي فهما لا يتعلقان إلا بالكلي على ما هو
عليه من الشياع والسريان ، وليس التشخّص والتعيّن إلا من لوازم تحقيق مقتضاها في
مقام الامتثال أو الوفاء المتأخرين عن مقام الخطاب والجعل رتبة ، ولذا لا تعيّن لو
فرض عدم الوفاء أو الامتثال.
ثم إن الظاهر عدم
الإشكال في أن شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضي العموم المجموعي أو
الاستغراقي لأفراد الطبيعة في مثل الأوامر مما يقتضي إيجاد المتعلق ، بل غايته
العموم البدلي ، إذ بعد ما سبق من تحقق الطبيعة بتحقق فرد واحد يتعين موافقة الحكم
به.
نعم ، استفادة
سعته لتمام الأفراد ، بحيث يجزئ أي منها تتوقف على قرينة خارجية ، ولو كانت هي
مقدمات الحكمة ، لإمكان نسبة الحكم للطبيعة
بنحو الإهمال ،
نظير ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس.
لكن القرينة
المذكورة إنما تقتضي السعة للطبيعة على النحو الذي تضمنه الكلام من إطلاق أو تقييد
، فمع تقييدها بمتصل لا تقتضي القرينة المفروضة سعته لغير المقيد.
المبحث الثالث
لا إشكال في دلالة
اللام على التعريف في الجملة ، وإنما الإشكال في اختصاصها به أو دلالتها على غيره
، وفي سنخ التعريف الذي تدل عليه.
وقد ذكر غير واحد
أنها تدل ..
تارة : على
التعريف العهدي ، الذي يراد به الإشارة لفرد معهود بسبب تقدم ذكره ، وهو العهد
الذكري ، نحو قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، أو انس الذهن به وهو العهد الذهني ، نحو قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها).
واخرى : على
الاستغراق لتمام أفراد المدخول نحو قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
وثالثة : لتعريف
الجنس نحو : الرجل خير من المرأة ، و : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، ورأيت الأسد ،
حيث لا عهد.
ورابعة : للتزيين
أو للمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ ، كما في الأعلام الشخصية (كالحسن) و (الحسين)
و (الفضل).
هذا ، والظاهر بعد
الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في الجميع عن التعريف ، وحقيقته
الإشارة لما اريد من المدخول بما أنه متعين ذهنا
__________________
وحاضر عند العقل.
لكن لا على أن يكون الوجود الذهني هو تمام المراد من المعرف ، أو جزءاً منه ، كما
قد توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام التعريف ، ليمتنع كون المعرف طرفا
للنسبة ذات المطابق الخارجي ، لعدم انطباق الوجود الذهني على ما في الخارج ، إلا
بالتجريد والعناية اللذين لا مجال للبناء عليهما في الاستعمالات العرفية الشائعة.
بل على أن يكون
مقارنا للاستعمال مع كون المراد نفس المفهوم ـ في التعريف الجنسي ـ أو الفرد ـ في
التعريف العهدي ـ المفروض حضوره ذهنا.
فطرف النسبة هو
المفهوم أو الفرد بنفسه من دون دخل لحضوره ذهنا حتى بنحو التقييد ، من دون أن يلزم
التجريد أو العناية. وليس حضوره ذهنا المستفاد من اللام إلا مقارنا للاستعمال.
فالتعريف نظير
الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في طرفيته للنسبة بوجه.
ومنه يظهر اندفاع
ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في وجه كون التعريف الجنسي في علم الجنس ولامه
لفظيا من استلزام كونه حقيقيا تعذّر حمل المعرف على الأفراد ، لعدم انطباق ما في
الذهن على ما في الخارج ، على ما أوضحناه في تعقيب كلامه وشرحه. فراجع.
ثم إن تمحض اللام
في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف مفاد الكلام في ما سبق ذكره من
الأقسام لاختلاف خصوصيات الموارد.
فحيث يكون هناك ما
يقتضي تعيّن فرد بخصوصيته من تقدّم ذكره أو أنس الذهن به ينصرف التعريف للماهية من
حيثية تشخصها في الفرد المذكور ، فيشار بها إليه من حيثية تعيّنه ذهنا ، دون بقية
الأفراد ، ويكون التعريف عهديا.
ومع عدمه ينصرف
التعريف للماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو مدلول المدخول المتعين ذهنا ، من دون
صارف عنه ، فيكون التعريف جنسيا ، ويراد
بالمدخول مفهومه
من حيثية تعيّنه ذهنا.
ودعوى : أن مفهومه
مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهنا بلا حاجة إلى اللام ، ومع الجهل به لا تصلح
اللام لتعيينه ، فلا بد من كون التعريف صوريا لفظيا ، لا حقيقيا معنويا ، بخلاف
التعريف العهدي ، حيث تكون فائدة اللام رفع الشياع في الفرد الحاصل لو لا اللام ،
وتعيّنه بالفرد المعهود ، فيكون تعريفا حقيقيا معنويا.
مدفوعة : بأن
فائدة اللام ليست هي التعيين ذهنا بل الإشارة للمتعين بما هو متعين ، مع استناد
التعين الذهني لغيرها ، فهي تقتضي التنبيه لتعيّن المراد ذهنا ، من دون فرق بين
الفرد الذي يكون تعريفه عهديا ، والمفهوم الذي يكون تعريفه جنسيا ، وإنما يقتضي
التعريف العهدي رفع الشياع وانحصار المراد بالفرد المعهود لأن المدخول بنفسه لا
يصلح لتعيين الفرد ، وإنما يصلح لبيان إرادة الفرد الشائع في الأفراد المردد بينها
، فمع اقتضاء اللام التنبيه على تعيين المراد وفرض انحصار التعين في الذهن بالفرد
الخاص يتعين انصراف المراد إليه واختصاصه به ، فيرتفع الشياع والتردد فيه.
أما مع عدم تعين
فرد خاص في الذهن وتساوي الأفراد فيه ولزوم كون التعريف والتعيين المفروض من مفاد
اللام للمفهوم نفسه ، فحيث لا شياع في المفهوم بنفسه يتعين عدم استفادة رفع الشياع
، لعدم الموضوع له ، من دون أن ينافي إفادتها التعريف الذي هو عبارة عن الإشارة
لتعين المراد ومعهوديته في الذهن ، ولا ملزم بكون التعريف حينئذ لفظيا صوريا.
ولذا كان دخول
اللام في مثل ذلك موجبا لفهم عدم إرادة الفرد الشائع بين الأفراد ، كما يكون هو
المراد مع التجرد عنها ، بل الماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو المتعين دون الفرد
المفروض عدم تعينه ، ولو كانت اللام في ذلك منسلخة عن التعيين والتعريف الحقيقي لم
يكن وجه لاختلاف مفاد النكرة عن
مفاد اللام في مثل
ذلك.
وأما ما ذكره
بعضهم من أن المدخول في مثل قولنا : ادخل السوق ، واشتر اللحم ، مع عدم العهد في
معنى قولنا : ادخل سوقا واشتر لحما.
فهو مخالف للوجدان
، لأن المستفاد مع التنكير نسبة الحكم رأسا للفرد الواحد الشائع في الأفراد
والمردد بينها ، وإن أمكن ثبوته لما زاد عليه ، والمستفاد مع التعريف باللام نسبته
رأسا للجنس ، وثبوته للفرد بتبعه ، لعدم صحة نسبة الحكم المذكور للماهية إلا بلحاظ
ثبوته لأفرادها.
ولذا لا نظر فيه
لكمية الأفراد ، لأن ثبوت الحكم للماهية يصح بلحاظ ثبوته لأفرادها في الجملة.
وبالجملة : وضوح
الفرق ارتكازا ـ مع عدم العهد ـ بين المعرف باللام والمجرد عنها مانع من البناء
على كون التعريف صوريا لفظيا.
ومجرد عدم إفادة
اللام رفع الشياع والترديد لا يستلزم ذلك ، لعدم تقوّم التعريف برفع الشياع ، بل
بالإشارة للمتعين ذهنا بما هو متعين ، ورفع الشياع إنما يستلزمه في تعريف الفرد
القابل له ، دون المفهوم الكلي غير القابل له.
وبذلك يظهر أن
مؤدى اللام العهدية والجنسية واحد ، وأن خصوصية العهد تابعة لخصوصية المورد ، لا
لاختلاف مؤدى اللام.
ثم إن اللام حيث
تكون للجنس مع عدم العهد ، ويكون طرف النسبة هو الجنس والماهية ، فإن كان الحكم من
شئون الماهية بحدودها المفهومية مقصورا على ذاتها وذاتياتها من دون نظر للخارج لم
يقبل العموم ولا الخصوص ، كما في القضايا الذهنية ، مثل : الانسان نوع ، أو
الواردة للتحديد ، مثل : الإنسان حيوان ناطق.
وإن كان من شئون
الماهية الخارجية ، لكونه لا حقا للأفراد ، فهو يقبل العموم والخصوص ، وحيث تقدم
أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته
لبعض أفرادها ،
فليس مفاده إلا قضية مهملة ، ولا يستفاد عمومها إلا بقرينة عامة ، كمقدمات الحكمة
، أو خاصة ، كالاستثناء الذي هو فرع العموم. وإليه ترجع اللام الاستغراقية
المتقدمة في كلماتهم.
وليس العموم معه
مستفادا من نفس اللام ، بحيث يكون مؤدى لها في مقابل التعريف ، وتكون في قبال
الجنسية قسيمة لها ، لاستبعاد الاشتراك في الأدوات ، وعدم الفرق في معنى اللام
ارتكازا.
وقد يشهد بما
ذكرنا من استناد استفادة العموم للاستثناء أنه لو تعذر العموم الحقيقي في مورده
يستفاد العموم الإضافي بالنحو المناسب له ، ففي مثل : أكلت اللحم إلا لحم البقر أو
: إلا اللحم المشوي حيث يعلم بعدم إرادة العموم الحقيقي بلحاظ تمام أفراد اللحم
يتعين الحمل على العموم الإضافي بلحاظ أنواعه في الأول ، لتقوّم المستثنى بالنوع ،
وبلحاظ حالاته في الثاني ، لتقوّم المستثنى بالحال.
ولو كانت الدلالة
على العموم مستندة للام لزم إما البناء على أن اللام للاستغراق التام إلا فيما علم
بخروجه ، أو أنها جنسية ليست للاستغراق مع التسامح والتوسع في نسبة الاستثناء بجعل
متعلقها القضية المهملة التي لا عموم فيها. فلاحظ.
نعم ، لا يبعد
ظهور تعريف المبتدأ أو ما هو بمنزلته ـ كاسم كان ـ في عموم الحكم لتمام الأفراد ،
بخلاف تعريف غيره من أطراف النسب كالفاعل والمفعول به ونحوهما.
ولذا نجد الفرق
الواضح بين قولنا : أكلت اللحم ، وقولنا : اللحم مأكول ، حيث يتعين حمل الثاني على
العموم وإرادة القابلية للأكل ، دون القضية المهملة وإرادة فعلية الأكل ، كما في
الأول. ومنه مثل قولنا : الرجل خير من المرأة ، والعالم خير من الجاهل. حيث يراد به
أن كل رجل خير من المرأة ، وكل عالم خير من
الجاهل ، لكن لا
من جميع الجهات ، بل من حيثية الرجولة والانوثة ، والعلم والجهل ، لا أن الرجل
والعالم خير من المرأة والجاهل في الجملة لا بنحو العموم.
ومن هنا كان على
من يرى وجود لام الاستغراق عدّ اللام في ذلك منها ، لا جنسية. لكن ربما يكون ذلك
لخصوصية في هيئة الجملة ، لا لخصوصية في اللام.
كما ربما يكون
مستندا لمقدمات الحكمة على ما قد يتضح عند الكلام فيها وقد تقدم بعض الكلام في ذلك
في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.
وبالجملة : الظاهر
بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية عدم دلالة اللام بنفسها وضعا على الاستغراق ،
بل هي في مورده متمحضة في التعريف الجنسي ، والاستغراق مستفاد من خصوصيات الموارد
المختلفة.
كما أن الظاهر
رجوع لام التزيين في الأعلام الشخصية إلى لام العهد التي هي لتعريف الفرد وتعيينه
، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى المعنى الأصلي الكلي القابل
للانطباق على كثيرين ، والذي يمكن أن يراد به ـ بضميمة اللام ـ خصوص الفرد
المعهود.
ولذا تكون الإشارة
بها للمسمى من حيثية ذلك المعنى ، فتشعر بواجديته له ، وليست متمحضة في الدلالة
على الذات ، كما هو حال الأعلام الشخصية ، لتكون اللام لمحض التزيين اللفظي ، بل
هي لتزيين البيان ، بلحاظ تضمنه معنى زائدا على الذات ، أو لتزيين المراد بها إذا
كان المعنى الأصلي حسنا ، ولو كان ذما كانت للتهجين والذم.
ويناسب ما ذكرنا
أنهم ذكروا أن اللام المذكورة للمح المعنى المنقول عنه اللفظ ، واعتبروا في جواز
دخولها قابلية المعنى المذكور لها.
نعم ، ربما يغافل
عن ذلك في مقام الاستعمال في أعرافنا المتأخرة للبعد
عن اللغة والجهل
بخصوصيات البيان.
وبهذا تم ما
ذكرناه آنفا من تمحض اللام في التعريف ، وأن الأقسام المذكورة لها لا تخرج عنه.
واختلافها إنما يكون لاختلاف خصوصيات الموارد من دون أن يرجع إلى تعدد مؤداها
واختلافه.
كما ظهر أن إفادة
المعرف باللام العموم يحتاج إلى قرينة عامة ـ كمقدمات الحكمة أو تعريف المبتدأ ـ أو
خاصة ، كالاستثناء.
هذا كله في تعريف
المفرد ، وأما تعريف الجمع فالظاهر عدم الإشكال في إفادته العموم مع عدم العهد
لخصوص بعض الأفراد. وإنما الكلام في وجهه بينهم.
والظاهر أن منشأه
ظهور اللام في التعريف وفرض المراد بمدخولها المتعين ذهنا. لكن لا بلحاظ تعريف
الماهية بنفسها ، على أن يكون التعريف جنسيا ، كما في تعريف المفرد ، لما هو
الظاهر من أن هيئة الجمع تقتضي كون المراد بالمدخول الأفراد ، لأنها القابلة
للتكثر ، دون الطبيعة بنفسها.
ولا بلحاظ تعريف
نفس مرتبة الجمع المدلولة لهيئته ، لما هو المعلوم من صلوح الهيئة لجميع المراتب
من دون مرجح لأحدها في التعيين والحضور الذهني.
ومجرد كون المرتبة
العليا المستغرقة لتمام الأفراد طرفا للمراتب ليس فوقه طرف لا يقتضي ترجيحها ، لأن
ذلك ليس بأولى من ترجح المرتبة السفلى بكونها طرفا ليس دونه طرف ، والوسطى بكونها
وسطا بين الطرفين.
مضافا إلى أن
الجمع بمراتبه مستفاد من الهيئة ، فيكون معنى حرفيا غير قابل للتعريف.
بل الظاهر بعد
التأمل في المرتكزات الاستعمالية كون استفادة العموم بسبب كون التعريف للأفراد
المحكية بالجمع ، فيكون التعريف عهديا. بتقريب :
أنه حيث لا مرجح
لبعض الأفراد على بعض ـ لفرض عدم ما يوجب العهد لبعضها بخصوصه ـ يتعين إرادة
جميعها ـ بعد فرض دلالة اللام على التعريف والتعين الذهني ـ بلحاظ تعينها في الذهن
من حيثية كونها فردا للماهية ، فيراد باللام الإشارة للأفراد المتميزة عن غيرها من
الذوات بالحيثية المذكورة ، فيلزمه كون المراد بالجمع المرتبة العليا وإن لم تكن
هي موضوع التعريف. بخلاف ما لو اريد بعض الأفراد ، لفرض عدم المميز لها عن غيرها
من الأفراد ، ليمكن فرض التعيين لها.
نعم ، لو كانت
هناك جهة تصلح لترجيح بعض الأفراد ذهنا كانت هي المتيقن من الجمع المعرف وتعين
حمله عليها.
ومنه يظهر أنه لا
ملزم بما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من ابتناء دلالة الجمع المحلى باللام
على العموم إما على وضعه بهيئته له ابتداء ، أو على كون اللام فيه للاستغراق.
على أن الوجه
الأول يشكل ..
تارة : بعدم
معهودية اختصاص المركب بمجموعه بوضع لمعنى لا تؤديه مفرداته بأنفسها.
واخرى : بأن لازمه
كون دلالة الجمع المعرف على الخصوص في موارد العهد الذكري أو الذهني لخصوص بعض
الأفراد مبنيا على الاشتراك أو المجاز ـ كما نبه له بعض مشايخنا ـ وهو بعيد في
نفسه مخالف للمرتكزات الاستعمالية جدا.
كما يشكل الوجه
الثاني ..
تارة : بأن اللام
إذا كانت مشتركة بين الاستغراقية وغيرها احتاج تعيين الاستغراقية في الداخلة على
الجمع للقرينة الخاصة كما يحتاج إليها في الداخلة على المفرد ، مع أنه لا إشكال
عندهم في عدم توقف فهم العموم منه عليها.
واخرى
: بما تقدم من
استبعاد الاشتراك في مفاد اللام ، بل لا ينبغي التأمل في عدمه بعد ملاحظة ما
ذكرنا.
تنبيهان :
الأول
: ما ذكرناه كما يجري
في المعرّف باللام يجري في المعرّف بالإضافة ، نحو أكرم علماء بلدك ، أو أكرم عالم
بلدك ، لما أشرنا إليه في ذيل الكلام في تعريف المسند من أن الإضافة بمقتضى الأصل
تقتضي العهد والتعريف زائدا على الاختصاص ، للفرق الواضح بين قولنا : غلام زيد ،
وغلام لزيد.
فإذا كان المضاف
جمعا كعلماء المدينة اقتضى الاستغراق والعموم بالتقريب المتقدم ، وإذا كان مفردا
حمل غالبا على العهد الذهني ، فيراد من مثل : عالم المدينة ، أظهر علمائها ، وقد
يراد به الجنس المقيد ، كما لو اريد به ما يقابل عالم القربة ، كما في قولنا :
عالم المدينة أعلم من عالم القرية ، فيلحقه ما تقدم في تعريف الجنس باللام.
نعم ، أشرنا هناك
إلى أن الإضافة للمعرفة قد تتمحض في الاختصاص من دون تعريف وعهد. وهو الحال في
الإضافة للنكرة لأن شيوع المضاف إليه مستلزم لشيوع المضاف ، كعالم بلد ، أو علماء
بلد ، وحينئذ يكون كسائر المطلقات التي تحتاج استفادة العموم منها إلى قرينة
خارجية. فلاحظ.
الثاني
: كما اختلفوا في
تعريف الجنس وأنه حقيقي معنوي أو صوري لفظي ، اختلفوا في علم الجنس ، كاسامة للأسد
، وثعالة للثعلب.
وحيث لا يتعارف
استعماله في عصورنا فلا مجال للرجوع فيه للتبادر والمرتكزات الاستعمالية.
نعم ، الظاهر
إطباقهم على كونه بمعنى المعرف بلام الجنس ، ولذا كان
اختيارهم فيهما
متفقا ، ويناسبه صحة استعمال أحدهما في مورد الآخر ، فكما يقال : هذا الأسد مقبلا
، والأسد أشجع من الثعلب ، يقال : هذا اسامة مقبلا ، واسامة أشجع من ثعالة. وحينئذ
يجري فيه ما تقدم في المعرف بلام الجنس من تقريب كون تعريفه حقيقيّا.
نعم ، أشرنا آنفا
إلى أن حمل مدخول اللام على الجنس ناشئ عن كون تعريفها حقيقيا ، إذ لو كان لفظيا
لزم كون مفاده مفاد النكرة المجردة عبارة عن الفرد الشائع بين الأفراد ، أما علم
الجنس فالظاهر عدم الإشكال في أن مفاده الجنس والطبيعة بنفسها لا الفرد الشائع بين
الأفراد وإن كان تعريفه لفظيا. وحينئذ يجري على الحكم الوارد عليه ما يجري على
الحكم الوارد على الجنس من احتمال العموم والخصوص ، وأن المتيقّن منه المهملة.
المبحث الرابع
بعد أن سبق أنه
يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، وأن
استفادة العموم الأفرادي والأحوالي تحتاج إلى قرينة خارجية خاصة أو عامة ، فعدم
انضباط القرائن الخاصة ملزم بإيكال النظر فيها للفقه عند الابتلاء بالأدلة
والظهورات الشخصية وتشخيص مفاداتها ، ولا مجال للبحث عنها في الاصول ، لأن موضوع
البحث فيها الظهورات النوعية.
وأما القرينة
العامة فهي عبارة عن مقدمات الحكمة التي يبتني عليها استفادة الإطلاق الأفرادي
والأحوالي عندهم ، وقد اختلفوا في عددها وتحديدها.
ولا بد من التعرض
لجميع ما ذكروه على اختلافهم فيه ، والنظر في توقف الظهور في الإطلاق على كل مقدمة
مقدمة بعد تحديدها.
الاولى
: إمكان التقييد.
فلو امتنع ، لاستحالة لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم ، لكونه متفرعا عليه ، يمتنع
انعقاد الظهور في الإطلاق ، كما في تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله ، وتقييد الحكم
بالعلم به ، على ما ذكره غير واحد وأطالوا الكلام في وجهه ، أولهم ـ في ما عثرت
عليه ـ شيخنا الأعظم رحمه الله ، على ما في التقريرات.
وقد تعرضنا لذلك
في مبحث التعبدي والتوصلي في تقريب أصالة التوصلية ، وذكرنا هناك أنه ..
تارة
: يراد بذلك ما
يظهر من بعض الأعاظم رحمه الله من أن امتناع التقييد
يستلزم امتناع
الإطلاق ويلزم الإهمال ثبوتا.
واخرى
: يراد به ما يظهر
من جماعة أولهم شيخنا الأعظم ـ على ما يظهر من التقريرات ـ من أن امتناع التقييد
بقيد ما مانع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق من حيثيّة ، فلا يكون بيانا عليه
في مقام الإثبات ، بل يكون مجملا ، وإن كان دائرا بين الإطلاق والتقييد ثبوتا غير
خارج عنهما ، لامتناع الإهمال.
وذكرنا هناك أنه
لا مجال للأول ، بل يمتنع الإهمال ثبوتا مطلقا.
وأما الثاني فقد
سبق توجيهه بأن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم
التقييد مع دخله في الفرض منافيا للحكمة ، وهو إنما يتم مع إمكان التقييد ، إذ مع
تعذره لا يكون الإخلال به منافيا للحكمة.
كما سبق دفع ذلك
بأن تعذر التقييد لا يستلزم تعذر بيان إرادة خصوص واجد القيد بطريق آخر ، فعدم
بيانه مع إمكانه يستلزم ظهور المطلق في الإطلاق ، كعدم التقييد مع إمكانه. ولا أقل
من قدرته على ترك بيانه بالوجه المنافي لغرضه ، أو على إحاطته بما يوجب إجماله من
حيثية القيد المذكور ، فإقدامه على بيان المطلق مع ذلك موجب لظهور كلامه في إرادة
الإطلاق.
وقد أشرنا هناك
إلى أن تعذر البيان والتقييد لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق ، وأحلنا في
توضيحه على ما نذكره هنا.
وحاصله : أن عدم
منافاة الإخلال بالتقييد للحكمة مع التعذر لا يختص بالتعذر الذاتي العقلي الناشئ
من امتناع اللحاظ ـ والذي هو محل الكلام ـ بل يجري في التعذر بالعرض لخوف أو ضرر ،
أو غفلة عن القيد كما في الموالي العرفيين بالإضافة إلى بعض القيود التي لا يقع
منشأ انتزاعها موردا لابتلائهم ليلتفتوا إليها ، كما يجري في سائر الجهات المصحّحة
للإخلال بالبيان التام بنظر العقلاء ، ولو كانت أمرا غير التعذر ، كعدم استيعاب
السامع لتمام ما يلقى إليه مع
عدم ابتلائه بفاقد
القيد ، حيث لا يخل ترك التقييد في خطابه بالغرض ، بل قد يستوجب ذكر القيد فوته.
بل مقتضى ذلك
التوقف عن الرجوع للإطلاق بمجرد احتمال وجود الجهات المصححة لترك التقييد من تعذر
أو غيره ، لاحتمال استناد ترك التقييد لها ، فلا يكون منافيا للحكمة لو كان القيد
دخيلا في الغرض ، ولا أصل يدفع الاحتمال المذكور.
ولازم ذلك عدم
الرجوع للإطلاق إلا مع العلم بانحصار سبب عدم التقييد بعدم دخل القيد في الغرض ،
بحيث لو كان دخيلا كان ترك التقييد منافيا للحكمة.
وحينئذ يكون
الإطلاق موجبا للعلم بالمراد مع فرض حكمة المتكلم ، وهو خلاف المقطوع به من محل
كلامهم ـ تبعا لأهل اللسان ـ في حجية الإطلاق ، لما هو المعلوم من أنه من صغريات
حجية الظهور ، الذي قد لا يوجب الظن ، فضلا عن العلم.
فلا بد من البناء
على أن وجود الجهات المصحّحة بنظر العقلاء لترك التقييد مع دخله في الغرض إنما
يكون عذرا للمتكلم في ترك البيان والتقييد من دون أن يمنع من انعقاد ظهور المطلق
في الإطلاق ، الذي هو حجة للمتكلم وعليه ، كما هو محل الكلام.
وإن شئت قلت :
اقتصار المتكلم في شرح مراده على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها ظاهر في وفائها
بغرضه ، من دون فرق بين الخصوصيات المقارنة لأفرادها وأحوالها ، بنحو يصح أن يعتمد
عليه وإن لم تف بغرضه واقعا لاعتبار بعض القيود فيه مما كان له عذر عقلائي في ترك
بيانه.
ومن هنا يتعين على
المتكلم الحكيم تجنب البيان بالنحو المذكور الظاهر في الإطلاق ، لئلا يكون مفوّتا
لغرضه ، إما بتركه البيان رأسا ، أو بإحاطته بما يمنع
من ظهوره في
الإطلاق ، أو بغير ذلك مما تقدم.
فلو فرض وجود
الملزم العقلائي له بالبيان بالنحو الظاهر في الإطلاق ، على خلاف غرضه ، كان عذرا
له من دون أن يخل بظهور كلامه ، ويكون الظهور حجة ما لم يبتل بما يسقطه عن الحجية.
وأما ما ذكروه من
أن منشأ ظهور المطلق في إرادة الإطلاق لزوم الإخلال بالحكمة في ترك التقييد مع
إرادته. فالجمود على ظاهره مستلزم لما تقدم مما عرفت تعذّر الالتزام به.
ولا يبعد أن يراد
به أن تعلق الغرض بالمقيّد لما كان مقتضيا لبيانه ـ بأي صورة ـ من الحكيم لو لا
المانع كان ذلك قرينة عامة بنظر العقلاء يصح الركون إليها في معرفة مراد المتكلم
موجبة لظهور اقتصاره على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها في عدم دخل أي قيد يحتمل
، وإرادة الإطلاق ، ولا يعتنى باحتمال استناد عدم التقييد للجهات المانعة في ظهور
كلامه المذكور وحجيته.
فمحذور الإخلال
بالحكمة جهة ارتكازية لاحظها العقلاء وأهل اللسان بلحاظ المقتضيات الأولية ، فكانت
عندهم قرينة عامة موجبة لظهور المطلق في الإطلاق ، وليست علة شخصية فعلية بلحاظ
تمام الجهات يدور انعقاد الظهور مدارها.
ولذا لا إشكال في
انعقاد الظهور المذكور حتى مع احتمال عدم حكمة المتكلم ، وعدم تقيده باستيفاء
مراده ببيانه ، أو العلم بذلك ، كما يصح الاحتجاج له وعليه بظاهر الكلام المستند
لقرينة الحكمة النوعية وإن احتمل خروجه في بيانه عليها ، لعدم حكمته.
هذا كله بناء على
ما هو الظاهر من أنه يكفي في الإطلاق عدم أخذ القيد في موضوع الحكم أو متعلّقه ،
فهو أمر عدمي مقارن للبيان ، والتقابل بينه وبين التقييد تقابل العدم والملكة ،
كما سبق في مبحث التعبدي والتوصلي الإشارة
إليه.
أما بناء على أنه
عبارة عن رفض القيود ، وأنه أمر وجودي مقابل للتقييد تقابل الضدين ، فقد يدعى
توقفه على إمكان لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم ، لأن رفضه فرع لحاظه ، كما قد
ينزّل عليه ما في التقريرات.
لكنه يندفع ..
أولا : بضعف المبنى المذكور ، لوضوح أنه يكفي في الإطلاق ثبوتا إدراك الحاكم وفاء
الماهية بالغرض المقتضي لجعل الحكم أو إناطته بها بلا حاجة إلى مئونة رفض القيود ،
ومع عدم توقف الإطلاق في مقام الثبوت على رفضها لا موجب لتوقف الإطلاق في مقام
الإثبات عليه ، فضلا عن توقفه على إحرازه.
وثانيا
: بأن المراد من
رفض القيود ليس إلا رفضها إجمالا ، الراجع إلى لحاظ تجرد الماهية في موضوعيتها
للحكم ووفائها بالغرض وحدها من دون حاجة إلى انضمام أمر آخر إليها بلا ملاحظة
للقيود بمشخصاتها وخصوصياتها تفصيلا ، لما هو المعلوم من عدم إحاطة الموالي
العرفيين بتمام القيود الفرضية ، لعدم تناهيها ، بل قد يعلم بغفلتهم عن بعض القيود
تفصيلا لعدم الابتلاء به أو لعدم مناسبته للحكم ، أو لغير ذلك ، ومع ذلك يبنى على
انعقاد الظهور لإطلاقاتهم بلحاظ كل قيد يفرض ، وإن علم غفلتهم عنه حين الخطاب
إجمالا أو تفصيلا ، وحينئذ لا يخل بالإطلاق تعذّر لحاظ القيد بخصوصيته ، لتأخره عن
الحكم رتبة وتفرعه عليه ، لكفاية رفضه في جملة القيود الملحوظة إجمالا.
والمتحصل من جميع
ما تقدم عدم توقف الإطلاق ثبوتا ولا إثباتا ـ الذي هو محل الكلام هنا ـ على إمكان
التقييد ذاتا ، فضلا عن إمكانه بلحاظ الجهات العرضية أيضا. فلا مجال لعدّ ذلك من
مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها انعقاد الظهور في الإطلاق.
ويتضح ما ذكرنا
بأدنى ملاحظة لسيرة أهل اللسان ومرتكزاتهم ، حيث
يستفيدون بطبعهم
العموم بلحاظ القيود المذكورة من الإطلاق من دون التفات لهذه الخصوصيات.
ولذا بنى من منع
من الإطلاق في الفرض على نتيجته ، فأصرّ في التقريرات على ظهور الأمر في التوصلية
، كما أصر بعض الأعاظم رحمه الله على استفادتها بمتمّم الجعل ، وغيره على وفاء
الإطلاق المقامي بها ، من دون أن يتضح وجه تقريبها في كلماتهم بعد فرض عدم انعقاد
الإطلاق اللفظي.
بل الظاهر عدم
الإشكال في عدم تماميتها لو صرح في الخطاب بثبوت الحكم بنحو القضية المهملة
الصالحة للإطلاق والتقييد ، مع أن مرجع إنكار الإطلاق اللفظي إلى ذلك. وقد تعرّضنا
لذلك في الجملة في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع.
الثانية
: عدم وجود البيان
على التقييد ، سواء كان بلسان الحصر وثبوت نقيض الحكم لفاقد القيد ، كالقيود ذات
المفهوم ، مثل الشرط والاستثناء ، ام بلسان آخر لا يقتضي إلا قصور شخص الحكم عن
الفاقد للقيد ، كالوصف والظرف.
ولا إشكال في
اعتبار هذه المقدمة ومانعية البيان من الظهور في الإطلاق ، وإنما الإشكال في أنها
تعم البيان المنفصل بحيث يكون وروده رافعا لموضوع الإطلاق ومانعا من تمامية مقتضي
الظهور فيه ، أو تختص بالمتصل ، فلا يكون العثور على المنفصل مانعا من تمامية
مقتضي الظهور الإطلاقي ، بل يكون منافيا له ، كسائر الظهورات المتنافية التي يعالج
تنافيها بالجمع العرفي المبتني على تنزيل أضعف الظهورين على أقواهما.
صرّح في التقريرات
بالأول ، قال في بيان ما يتوقف عليه الإطلاق : «انه موقوف على أمرين أحدهما : انتفاء
ما يوجب التقييد داخلا وخارجا ... فلو دل دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق
، لارتفاع مقتضي الإطلاق ، لا لوجود
المانع عنه ، وإن
كان الدليل الدال على التقييد أيضا مما يحتمل فيه التصرف بحمل الوارد فيه على
الاستحباب ، إلا أن أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال ، ولا تعارض بأصالة
الحقيقة في المطلق ، لعدم لزوم مجاز فيه ، وإنما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة
عدم الدليل. فالإطلاق حينئذ بمنزلة الاصول العملية في قبال الدليل ، وإن كان
معدودا في عداد الأدلة دون الاصول ، فكأنه برزخ بينهما». ويظهر من بعض الأعاظم
رحمه الله في مبحث التعارض الجري على ذلك.
لكن التأمل في
المرتكزات الاستعمالية قاض بعدم تمامية ما ذكره ، وأن مقتضي الظهور في الإطلاق لا
يرتفع بورود البيان المنفصل ، بل هو من سنخ المعارض للإطلاق مع تمامية مقتضي ظهوره
بمجرد عدم البيان المتصل ، وأن الإطلاق كسائر الظهورات الكلامية التابعة لفراغ
المتكلم عن كلامه ، لابتناء طريقة أهل اللسان على أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما
شاء ، وظهور كلامه تابع لفراغه منه ومتحصل من مجموعه ، وبهذا يفترق البيان المتصل
عن المنفصل في مانعية الأول من الظهور الإطلاقي ، دون الثاني ، بل هو مناف له.
ولذا كان احتفاف
الكلام بما يصلح للبيان والقرينية على التقييد من دون أن يكون ظاهرا فيه مانعا من
انعقاد ظهوره في الإطلاق ـ على ما يأتي في المقدمة الثالثة إن شاء الله تعالى ـ مع
عدم الإشكال في عدم مانعية البيان المنفصل بالنحو المذكور من حجية الظهور في
الإطلاق ، فضلا عن انعقاده.
وأما ما ذكره بعض
الأعاظم رحمه الله من خروج الشارع الأقدس عن طريقة العقلاء وأهل اللسان في البيان
لاعتماده على القرائن المنفصلة فهو ـ مع عدم اختصاص الإطلاق به ، بل يجري في
الظهورات الوضعية أيضا ـ غير تام في نفسه ، على ما يأتي في مبحث التعارض عند
الكلام في الجمع العرفي.
وعلى ذلك يلزم
النظر في وجوه الترجيح بين الظهور الإطلاقي والبيان
المنفصل من دون أن
يكون الثاني رافعا لموضوع الأول ، كما هو الحال في سائر موارد تعارض الظهورين.
ومجرد عدم لزوم
المجاز من التصرف في المطلق ولزومه من التصرف في البيان المنفصل ـ مع عدم تماميته
في التصرف بالحمل على الاستحباب المفروض في كلامه المتقدم ، على ما تقدم في بحث
الأوامر ـ لا يصلح لترجيح ظهور البيان المنفصل ، فضلا عن كونه رافعا لموضوع الظهور
الإطلاقي ، لأن الرجوع لأصالة الحقيقة بملاك الرجوع لأصالة الظهور ، ولذا يختص بما
إذا كان المعنى الحقيقي هو الظاهر ، فمع فرض تمامية ظهور الإطلاق وعدم ارتفاع
موضوعه يشتركان في تحقق ملاك الحجية ، ويبقى الترجيح منوطا بأقوائية أحد الظهورين
، الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الظهورات المتنافية ، على ما ذكرناه في
مبحث التعارض.
وأما ما ذكره بعض
الأعاظم رحمه الله هنا من أن البيان المنفصل وإن لم يمنع من الدلالة التصديقية
للكلام ، بمعنى انعقاد الظهور في ما قاله المتكلم ، بحيث يكون قابلا للنقل بالمعنى
، كما يمنع منه البيان المتصل ، إلا أنه يمنع من الدلالة التصديقية على مراد
المتكلم الواقعي.
فهو مسلم في
الجملة ، إلا أنه لا يصلح وجها لعدّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الحكمة التي
يبتني عليها الإطلاق ، لما هو المعلوم من أن الظهور الإطلاقي الذي هو محل الكلام
هو الدلالة التصديقية الاولى ، التي هي الموضوع للدلالة التصديقية الثانية الراجعة
إلى الحكم بحجية الظهور على مراد المتكلم.
وإنما ينهض البيان
المنفصل بالمنع من حجيته إذا كان قرينة عرفا على شرح المراد من الإطلاق لأقوائيته
منه ظهورا ، كما هو الحال في رافعيته لحجية سائر الظهورات المستقرة التابعة للوضع
أو القرائن العامة أو الخاصة.
فلو كان ذلك كافيا
في عدّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الإطلاق لزم
عدّه مقدمة لسائر
الظهورات ، حتى الوضعية ، ولم يعهد ذلك منهم.
ومن ثمّ كان كلامه
قدّس سرّه مضطربا ، بل لا يتناسب مع ما ذكره في مبحث التعارض ، وإن كان الظاهر منه
هناك التحويل على ما ذكره هنا.
الثالثة
: عدم وجود القدر
المتيقن في مقام المتخاطب ، فلو وجد لا مجال للبناء على الإطلاق ، بل يقتصر على
القدر المتيقن ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه.
وتوضيح الكلام في
ذلك : أن أفراد المطلق أو أحواله ..
تارة : تتساوى في
احتمال شمول الحكم لها ، من دون مرجح لبعضها على الآخر ، لا بلحاظ مقام الخطاب ،
ولا بلحاظ مقام آخر.
واخرى
: لا تتساوى فيه ،
بل يكون شمول الحكم لبعضها أظهر من شمولاه للآخر.
إما بلحاظ أمر
خارج عن الخطاب لا يكون من القرائن المحيطة به عرفا ، كما لو كان الحكم تعبديا لا
مناسبة ارتكازية بينه وبين الموضوع ، ثم علم من الخارج وجه المناسبة بينهما ، وكان
ذلك الوجه في بعض الأحوال أو الافراد أظهر منه في غيرها ، أو ثبت بدليل آخر ورود
الحكم على بعض الأفراد أو الأحوال ، ولم يثبت في غيرها ، أو نحو ذلك.
وإما بلحاظ مقام
الخطاب وما يحيط به من قرائن عرفية حالية ، كما لو كانت المناسبة ارتكازية ينسبق
إليها الذهن من الخطاب بالحكم ، وكانت في بعض الأفراد أو الأحوال أظهر منها في
الآخر ، أو مقالية ، كما لو كان بعض الأفراد أو الأحوال موردا للإطلاق ، أو وقع
التمثيل به من المتكلم ، أو نحوهما. والجمود على عبارة المحقق الخراساني قدّس سرّه
يناسب إرادة هذا القسم.
ومرجع استدلاله
عليه إلى أن المفروض من حال المتكلم ـ بمقتضى المقدمة الآتية ـ أنه في مقام بيان
تمام مراده ، فمع عدم وجود المتيقن مطلقا لو لم
يكن في مقام بيان
إرادة تمام الأفراد أو الأحوال بالإطلاق بلحاظ صلوحه لإرادة كل منها ، بل كان
مريدا بعضها ، كان مخلا بغرضه ، لعدم صلوح الإطلاق لبيان إرادة خصوص ذلك البعض بعد
فرض تساوي الأفراد بالإضافة إليها وحيثية صلوحه لها مشتركة بينها.
وكذا لو كان هناك
متيقن لا بلحاظ مقام التخاطب ، لفرض أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده بخطابه ،
لا مطلقا ولو بطريق آخر ، والمفروض عدم صلوح الخطاب لإرادة خصوص ذلك المتيقن.
بخلاف ما لو كان
هناك متيقن في مقام التخاطب ، حيث يكون الإطلاق صالحا لبيانه بخصوصه بعد فرض ترجحه
على بقية الأفراد ، فلا يكون مخلا بغرضه لو أراده بخصوصه ، ولا مجال مع ذلك لإحراز
إرادة غيره بالإطلاق.
وهذا الوجه إنما
يتجه لو كان المراد بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ـ الذي يأتي في المقدمة
الرابعة ـ كونه في مقام بيان تمام الأفراد والأحوال التي يشملها حكمه ، بحيث لو
قصر بيانه عن بعضها كان مخلا بغرضه ، إذ عليه يكون وجود المتيقن في مقام التخاطب
مستلزما لصلوح الإطلاق لأن يكون بيانا لتمام المراد لو كان المراد مختصا به.
لكن الظاهر عدم
إرادتهم به ذلك ..
أولا
: لعدم الطريق
لإحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بالمعنى المذكور في غالب الإطلاقات ،
إذ غاية ما يقتضيه الأصل في حال المتكلم أنه بصدد كون ما بيّن مرادا له ، لا أنه
تمام مراده ، بل هو محتاج لعناية خاصة ، كوروده في مقام التحديد ونحوه.
وثانيا
: لأن لازمه ثبوت
المفهوم للإطلاق ، فمثلا ، إذ احرز أن المتكلم في مقام بيان تمام الأفراد التي ثبت
لها الحكم في قوله : أكرم العالم ، لزم كون أفراد العالم تمام من يجب إكرامه ، ولا
يثبت وجوب الإكرام لغيرها ، مع أنه ليس
بناؤهم على ذلك في
الإطلاقات.
ومنه يظهر أنه لو
كان الوجه في استفادة العموم ما ذكره كفى في تصوير المقدمة الآتية بكون المتكلم في
مقام بيان مراد له وإن لم يكن تمامه ، مع أنهم مطبقون على أخذ التمامية فيها.
وثالثا
: لأنه بعد فرض عدم
صلوح الإطلاق في نفسه لبيان العموم ، وصلوحه لإرادة كل فرد وحده ، لعدم ظهوره في
نفسه إلا في الإهمال ، فمجرد كونه في مقام البيان بالنحو المذكور لا يتضح عرفا
كونه مصححا على قرينية الصلوح المذكورة في بيان إرادة تمام الأفراد بالإطلاق.
ومن هنا يتعين حمل
مرادهم من كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد على ما تقتضيه أكثر كلماتهم ، وهو
كونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض وما يؤخذ في موضع الحكم ، الذي كلما
زاد كان موضوع الحكم أضيق وافراده أقل ، لا الاقتصار على بيان بعض ما يؤخذ فيه ،
فإذا كان موضوع الحكم هو العالم العادل يكون بيان تمام المراد ببيان دخل العدالة
زائدا على العلم ، ولا يكتفى ببيان دخل العلم الذي هو جزء الموضوع ، إذ بناء عليه
يكون اقتصار المتكلم على بيان الماهية ظاهرا في كونها تمام الموضوع الذي يفي بالغرض
، المستلزم لثبوت الحكم لتمام أفرادها من دون فرق بين خصوصياتها ، لأن اختصاص
الحكم ببعضها مستلزم لدخل خصوصيتها في الموضوع والغرض زائدا على الماهية.
وهذا المعنى قد
يتيسر إحرازه من المتكلم في جملة من الموارد على ما يأتي في المقدمة الرابعة إن
شاء الله تعالى.
كما أنه لا يستلزم
ثبوت المفهوم للإطلاق ، لأن كون الماهية تمام الموضوع للحكم بحيث لا يحتاج إلى
انضمام شيء آخر إليها في ثبوته لا ينافي كون ماهية اخرى موضوعا له أيضا ، بأن يثبت
الحكم لهما معا.
وحينئذ فوجود
القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يكفي في كون الكلام بيانا لتمام المراد لو اختص
المراد بالمتيقن المذكور ، لأن كون الكلام بيانا لشمول الحكم للمتيقن المذكور لا
يستلزم كونه بيانا لدخل خصوصيته في الحكم ، بل هو موقوف على ذكر ما يدل على
التقييد بها ، والمفروض عدمه ، وأن التقييد محتمل واقعا ، لا مدلول للكلام.
ومن ثم لا يتم ما
ذكره في وجه توقف الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بالمعنى
المتقدم.
بل لا مجال للبناء
عليه بعد ملاحظة سيرة أهل الاستدلال للمرتكزات الاستعمالية ، ولذا اشتهر أن المورد
لا يخصص الوارد ، بل الظاهر المفروغية عن عدم اختصاص الإطلاق بموارد التمثيل ولا
بأظهر الأفراد ونحوها مما يكون متيقّنا بلحاظ مقام التخاطب.
نعم ، يتجه اعتبار
عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لو اريد منه ما يمنع من انعقاد ظهور
المطلق في الإطلاق مما لا يبلغ مرتبة الظهور في التقييد ، كما في مورد احتفاف
الكلام بما يصلح للقرينية عرفا من دون أن يتعين لها ، لما تقدم في المقدمة الثانية
من أن للمتكلم ما دام مشغولا بكلامه أن يلحق به ما شاء ، وأن انعقاد ظهور كلامه
تابع لتمام ما يشتمل عليه ويحيط به من قرائن حالية ومقالية.
فوجود ما يصلح
للقرينية بالوجه المذكور يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق ، كما يمنع من انعقاد
سائر الظهورات الوضعية وغيرها.
ومرجعه إلى عدم
بيان تمام المراد بالكلام ، لعدم صلوحه له بسبب وجود المتيقّن بالمعنى المذكور ،
لا إلى بيانه به لو كان المراد خصوص المتيقن ، كما تقدم من المحقق الخراساني قدّس
سرّه.
ولذا يتعذر حمل
كلامه عليه ، ويتعين حمله على ما تقدم مما عرفت عدم
تماميته.
الرابعة : كون
المتكلم في مقام البيان. من الظاهر أن الغرض من الكلام هو البيان والإفادة للمقاصد
، وعدم كون المتكلم في مقام البيان أصلا إما أن يكون لخروجه عن مقتضى طبيعة الكلام
، الذي هو خلاف الأصل فيه ، أو لغافلته عن صدور الكلام منه ، التي يدفعها أصالة
عدم الغافلة ، المعوّل عليها في جميع تصرفات الإنسان وأفعاله. ومن هنا كان بناء
العقلاء على كاشفية الكلام عن مقاصد المتكلم وأغراضه.
إلا أن ذلك بمجرده
لا ينفع في محل الكلام ، لوضوح أنه إنما يقتضي كونه بصدد إفادته لمؤداه الذي يصلح
لبيانه ويكون قالبا له ، دون غيره مما يخالفه أو يزيد عليه ، وحيث فرض في محل
الكلام أن مفاد المطلق وضعا ليس إلا القضية المهملة فاستفادة العموم منها يحتاج
إلى مزيد عناية ، ولا يكفي فيها إحراز كون المتكلم في مقام البيان بالوجه المتقدم.
ومنه يظهر ضعف ما
ذكره بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله في تقريب أصالة كون المتكلم في مقام البيان
بالنحو الذي ينفع في التمسك بالإطلاق ورفع احتمال كون القضية مهملة ، قال : «ولو
شك في أن المتكلم في مقام البيان أو الإهمال فإن الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في
مقام البيان ، فإن العقلاء كما يحملون المتكلم على أنه ملتفت غير غافل ، وجادّ غير
هازل ، عند الشك في ذلك ، كذلك يحملونه على أنه في مقام البيان والتفهيم ، لا في
مقام الإهمال والإيهام».
إذ فيه : أن
الإهمال إذا لم يكن منافيا لمفاد الكلام ، بل الكلام صالح له بمقتضى وضعه وطبعه ،
فلا وجه لجعله في سياق الإيهام الذي هو خلاف طبع الكلام بالتقريب المتقدم. إلا أن
يريد بالإهمال ما يساوق الإيهام ، لا مفاد القضية المهملة. لكن نفيه لا يستلزم
إرادة العموم بوجه.
وبالجملة : لا
مجال لإرجاع البيان في المقام إلى البيان الذي يقتضيه طبع الكلام ، والذي لا إشكال
في أنه مقتضى الأصل عند العقلاء ، كما يظهر من الكلام المتقدم وقد تشعر به بعض
كلماتهم الأخر.
ومن هنا كان
مرادهم من هذه المقدمة أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ما يكون دخيلا في موضوع
الحكم وترتب الغرض ، لا بمعنى ما ينحصر الموضوع به ويتوقف الغرض عليه ، ليستلزم
المفهوم ، بل بمعنى ما يتم به الموضوع ويتحصل به الغرض ـ في مقابل ما يحتاج تمامية
الموضوع وتحقق الغرض به إلى انضمام غيره إليه ـ وإن أمكن تحقق الموضوع بغيره ، كما
ذكرناه في المقدمة الثالثة.
وحينئذ فاقتصار
المتكلم على بيان الماهية لا يرجع إلى مجرد دخلها في الموضوع والغرض وحصولهما معها
في الجملة ولو بانضمام غيرها من القيود إليها ، كما هو لازم القضية المهملة ، بل
إلى بيان كونها تمام ما هو الدخيل فيه المستلزم لعموم الحكم وثبوته لتمام أفرادها
وفي جميع أحوالها.
وحيث كان ذلك
زائدا على مفاد الإطلاق وضعا ـ بناء على من سبق ـ فقد وقع الكلام في وجه البناء
عليه.
وقد ذكر أو يذكر
لذلك وجوه ..
الأول
: ما في التقريرات
، قال : «وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشك في ورود المطلق في مقام البيان؟ قد يقال
: إن أغلب موارد استعمال المطلقات إنما هو ذلك ، فعند الشك يحمل عليه. وليس بذلك
البعيد. فتأمل».
وفيه : أن الغلبة
ـ مع عدم الدليل على حجيتها ـ غير ظاهرة ، إذ لا قرينة في أكثر المطلقات على ذلك ،
وغاية ما ثبت ببناء العرف جواز التمسك بها والرجوع إليها في استفادة العموم ـ كما
سيأتي ـ فلو كان التمسك بها عندهم مبنيا على هذه المقدمة كشف عن بنائهم على هذه
المقدمة بمقتضى الأصل ، لا
عن غلبة وجودها.
الثاني
: بناء العقلاء على
أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو المذكور ، لما ذكره بعض المحققين قدّس
سرّه من أن العقلاء كما يحكمون بمطابقة مراد المولى الجدي لاستعماله ، وعدم إرادته
خلافه ، كذلك يحكمون بأنه إذا كان له مراد جدي يكون بصدد بيانه ، وكونه بصدد إظهار
أمر آخر يحتاج إلى التنبيه ، وحيث كان المراد له غير مهمل بل إما مطلق أو مقيد ،
فمع فرض عدم التقييد يتعين كونه هو المطلق ، ولا يبنى على الإهمال.
وفيه : أن مخالفة
المراد الجدي للاستعمال لما كانت على خلاف مقتضى الطبع حسب ما أودعه الله سبحانه
من غريزة البيان وجعله يدركه من وظيفة الكلام ، توجه دعوى بناء العقلاء على أصالة
عدمها.
أما القضية
المهملة فليست مخالفة للمراد الجدي ، سواء كان هو الإطلاق أم التقييد ، بل مفادها
جزؤه الأعم المشترك بين الأمرين ، فالحمل عليها ـ بعد كونها المفاد الوضعي للكلام
ـ لا يخالف مقتضى طبع الاستعمال. غاية ما يلزم منه كون المبين بعض المراد ، وليس
هو مخالفا للأصل ، إذ كما كان للمتكلم أن لا يبين شيئا من مراده له أن يقتصر على
بيان بعضه ، ولم يتضح بناء العقلاء على أنه لو تصدى لبيان مراده في الجملة لزمه
استيعابه بالبيان.
ولذا لو سيق غير
الإطلاق لبيان دخل شيء في الحكم واحتمل دخل غيره معه فلا يظن من أحد البناء على
عدم دخل غيره للأصل المدعى ، فلو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ،
لا يستفاد منه عدم توقفه على غيره ، ولو قيل : لا صلاة إلا بطهور ، لم يستفد عدم
دخل غير الطهارة في الصلاة وخصوصية الإطلاق في الأصل المذكور عين المدعى.
الثالث
: بناء العقلاء على
أن الأصل في الكلام أن يترتب عليه العمل ، لأن الغرض من الكلام هو بيان المقاصد
مقدمة لاستيفائها بالعمل ، ومن الظاهر أن
القضية المهملة
غير صالحة لأن يترتب عليها العمل ، وكذا بيان جزء الموضوع الدخيل في الغرض ، وإنما
يترتب العمل مع بيان تمام الموضوع وتمام ما هو الدخيل في الغرض ، وهو لا يكون إلا
بحمل القضية على الكلية الذي هو المدعى.
وفيه .. أولا :
أنه لو كان ذلك هو الوجه في بالبناء على كون المتكلم في مقام البيان لزم عدم حمل
الإطلاق على العموم في القضايا التي لا يترتب عليها العمل أو يعلم بعدم كون
المقصود من بيانها ترتبه ، بل مجرد الإعلام بمضمونها ، كالأخبار التاريخية
والقضايا العملية والواقعية الصرفة ، كقولنا : أسلم من في المدينة المنورة قبل
الفتح ، ويتبخر الماء إذا كانت حرارته بدرجة كذا ، وتكثر الأمطار في الشتاء ،
ونحوها ، مع أن الظاهر عدم الفرق في ظهور المطلق في العموم بين أقسام القضايا.
كما يلزم عدم حمل
الإطلاق على العموم في القضايا التي يقصد من بيانها العمل مع وجود القدر المتيقن
في مقام التخاطب ـ بالمعنى الذي تقدم ظهور كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه فيه ـ كالمورد
والتمثيل ونحوهما من القرائن المتصلة الكاشفة عن إرادة بعض أفراد المطلق أو أحواله
، لأن عدم حمل المطلق معه على السريان في تمام الأفراد والأحوال لا يستلزم عدم
صلوحه لترتب العمل عليه ، إذ يكفي ترتبه في مورد القدر المتيقن ، وإرادة ما زاد
عليه تحتاج إلى قرينة أخرى.
وقد سبق أنه لا
مجال لذلك ، حيث لم يعهد منهم التوقف عن حمل المطلق على العموم لوجود القدر
المتيقن المذكور.
وثانيا
: أن كون الغرض من
الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل ليس بنحو يمنع عرفا من الحمل على
القضية المهملة ـ المتكلفة ببيان دخل شيء في الموضوع في الجملة ـ إذا كان هو مقتضى
الكلام وضعا ، إذ كثيرا
ما يكون غرض
المتكلم مقصورا على ذلك ، إما لعدم كون غرضه من البيان ترتب العمل عليه ، بل مجرد
الإعلام بالمضمون اكتفاء ببيان آخر يكفي في ترتب العمل ، أو لعدم إحاطته حين
الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في الغرض ـ كما في الموالي العرفيين الذين يمكن في
حقهم الجهل ـ أو لتعلق الغرض بتأخير بيان الخصوصيات لوقت آخر ، أو لغير ذلك مما لا
يكون الغرض معه من البيان استقلاله بترتب العمل عليه ، ولم يتضح بناء العرف وأهل
اللسان على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة ، بنحو يكون الأصل عندهم كون
المتكلم في مقام البيان الذي يستقل بترتب العمل عليه ، المستلزم لكونه في مقام
بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض والموضوع ، فيلزمه حمل الإطلاق على القضية
الكلية.
ولذا لا إشكال في
عدم بنائهم على ذلك في غير الإطلاق مما يتضمن دخل شيء في موضوع الحكم والغرض في
الجملة ، كما لو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ، نظير ما تقدم في
رد الوجه السابق.
نعم قد يحتفّ
بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يترتب عليه العمل فعلا ، فيتعين وروده لبيان
تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض ، وحمله على القضية الكلية دون المهملة. كما
لو ورد الخطاب بالإطلاق أو غيره مما يدل على دخل شيء في موضوع الحكم عند طلب
المكلف من المولى بيان ما يعمل عليه حال فراقه له وعدم توقعه بيانا آخر منه ، أو
نحو ذلك. لكن من الظاهر أن حمل الإطلاق على العموم لا يختص بالمورد المذكور.
الرابع : بناء
العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في خصوص الإطلاق.
وقد استشهد له غير
واحد ببناء العرف في محاوراتهم على التمسك بالاطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام
صدوره في مقام بيان أصل التشريع من
دون نظر لبيان ما
هو المشروع نظير قول الطبيب للمريض : لا بد لك من استعمال الدواء ، أو في مقام
البيان من خصوص بعض الجهات ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الأكل من
حيثيتها ، لا من جميع الجهات بحيث لا يجب تطهير محل الإمساك ، ولا يفرق بين أقسام
الحيوان المصيد ، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.
وفيه : أن السيرة
المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان إلا إذا ثبت توقف
التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في ذلك المقام ، نظير توقفه على عدم
التقييد المتصل ، حيث يكشف بناؤهم على التمسك بالإطلاق مع الشك في القرينة على
التقييد عن بنائهم على أصالة عدم القرينة. لكن بناءهم على توقف التمسك بالإطلاق
عندهم على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد غير ثابت ، بل قد يكون
مبنيا على وجه آخر ، ومجرد صحة التمسك به مع إحراز كون المتكلم في المقام المذكور
أعم منه ، لإمكان صحته مع عدم إحرازه أيضا للوجه الآخر.
ومن هنا لا يبعد
عدم ابتناء التمسك بالإطلاق على المقدمة المذكورة ، بل هو مبتن على أن الإهمال
كالتقييد خلاف الأصل لا يحمل عليه المطلق عرفا إلا بدليل.
فإن ما تقدم من
صحة إرادة المهملة من الإطلاق وإن كان تاما ، إلا أن مصححه لما كان هو الرجوع
لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة ، فاللازم النظر في كيفية سيرتهم ، وحيث
تقدم أن بناءهم على التمسك بالإطلاق وحمله على العموم ، لظهوره فيه ، ما لم يحتفّ
بما يقتضي صدوره لبيان أصل التشريع من دون نظر لخصوصياته أو في مقام البيان من
خصوص بعض الجهات ، تعين
__________________
متابعتهم في ذلك
من دون حاجة إلى دعوى ابتنائه على إحراز كونه في مقام البيان من جميع الجهات وبيان
تمام المراد ، ثم النظر في وجه إحراز ذلك والتشبث له بما لا ينهض به.
بل التأمل في
المرتكزات العرفية الاستعمالية قاض بأن ورود المطلق في مقام البيان بالنحو المذكور
مقتضى ظهوره في العموم والسريان وتابع له ، كالعام الوضعي ، لا من مقدمات الظهور
في العموم التي يلزم إحرازها في رتبة سابقة على الظهور فيه من دون أن تستفاد منه ،
نظير عدم وجود القيد المتصل الذي هو مقتضى أصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من
نفس الكلام.
ولذا لو ثبت من
الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان من دون قرينة على ذلك محتفّ بها الكلام لم
ينكشف عدم ظهور المطلق في السريان ، بل الظهور باق وإن سقط عن الحجية.
بخلاف ما لو ثبت
احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد ، حيث ينكشف بذلك عدم
الظهور في السريان ، وكذب أصالة عدم القرينة ، لا أن الظهور باق وإن سقط عن
الحجية.
والذى تحصل من
جميع ما تقدم : أن حمل الإطلاق على العموم وظهوره فيه لا يتوقف إلا على مقدمات
ثلاث ..
الاولى
: عدم اشتماله على
التقييد المتصل.
الثانية
: عدم احتفافه بما
يصلح للقرينة على التقييد ، وإن لم يكن ظاهرا فيه عرفا ، بل يكون موجبا لإجماله.
ويكفي في إحرازهما في فرض الشك أصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان في
جميع الموارد من دون خصوصية للإطلاق.
الثالثة
: عدم احتفافه بما
يناسب وروده في مقام البيان من خصوص بعض الجهات غير الجهة التي يراد التمسك
بالإطلاق من حيثيتها ، وإلا تعين
الإهمال من تلك
الجهة.
وأما ما عدا ذلك
مما عدّ من مقدمات الإطلاق فليس دخيلا فيه.
كما ظهر مما سبق
في المقدمة الاولى أن ما ذكروه من ابتناء اقتضاء مقدمات الإطلاق العموم على قرينة
الحكمة ـ حتى سميت بمقدمات الحكمة ـ ليس بلحاظ منافاة عدم إرادة العموم معها
للحكمة فعلا ، بل بلحاظ خصوص المقتضيات الأولية بحسب طبع الكلام.
ومما ذكرنا يظهر
حال الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد الذى كثيرا ما يذكرون مانعيته من التمسك
بالإطلاق ، فإنه إنما يمنع منه إذا كان مانعا من تمامية إحدى المقدمتين الاوليين ،
إما لكونه عرفا بمنزلة القرينة الحالية الظاهرة في التقييد ، أو لكونه صالحا
للقرينية عليه وإن لم يكن ظاهرا فيه ، بل يكون موجبا للإجمال. سواء كان ناشئا من
كثرة الاستعمال أم غيرها ، كمناسبة الحكم والموضوع.
أما لو لم يكن
بأحد النحوين المذكورين فهو بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق ، كالناشئ من
كثرة الابتلاء بالفرد أو من كونه أظهر الأفراد أو نحوهما.
وأما كثرة
الاستعمال في بعض الأفراد الموجبة للاشتراك أو ما يقاربه بنحو يكون كالمجاز
المشهور فهي موجبة لإجمال لفظ المطلق وتردده بين الماهية الواسعة والضيقة ، فيلزم
الاقتصار على المتيقن.
وليس ذلك من
الانصراف في شيء ، لأنه عبارة عن قصور ظهور دليل الحكم عن بعض أفراد الموضوع ،
والمفروض في محل الكلام عدم إحراز عموم مفهوم الموضوع بما هو معنى إفرادي مع قطع
النظر عن الحكم ، كسائر موارد إجمال مفردات الكلام.
الفصل الثالث
في العام المخصّص
ذكرنا في مباحث
التعارض أنه مع تنافي الدليلين بدوا لو كان أحدهما أظهر من الآخر تعين العمل
بالأظهر وتنزيل الآخر عليه من باب الجمع العرفي.
وعلى هذا يبتني
تقديم الخاص على العام مع التنافي بينهما ، لأن الخاص أظهر في مورده من العام ،
على كلام تعرضنا له هناك.
ومحل الكلام في
المقام العام والخاص المتنافيان بعد الفراغ عما ذكرنا من تقديم الخاص في مورده على
العام بنحو يمنع من البناء على عمومه له ، ولذا كان عنوان البحث العام المخصّص.
نعم ، محل كلامهم
يعم ما إذا كان المخصّص متصلا ، كالوصف والاستثناء ، ولا يختص بما إذا كان منفصلا
ليكون من موارد الجمع العرفي الذي أشرنا إليه بسبب تنافي الدليلين.
إذا عرفت هذا ،
فالمعروف عدم سقوط العام عن الحجية رأسا بالتخصيص ، بل يبقى حجة في الباقي غير
مورد التخصيص قال في الفصول : «كما عزي إلى أصحابنا ، وعليه المحققون من مخالفينا»
،
وفي المعالم : «ولا
أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا. نعم ، يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة
عنه».
وعن بعضهم أنه
أنكر حجيته مطلقا ، أو مع تفصيلات لا مجال لاستقصائها ، والمهم منها التفصيل بين
ما إذا كان المخصّص متصلا وما إذا كان
منفصلا ، فالعام
في الأول حجة في الباقي ، دون الثاني.
وقد احتج منكر
الحجية في الباقي مطلقا أو مع التفصيل ..
تارة : بأن اللفظ
حقيقة في العموم ، وهو غير مراد منه بقرينة التخصيص ، وما دونه من المراتب مجازات
، واللفظ صالح لكل منها ، ولا قرينة على تعيين اللفظ المستعمل فيه ، فيبقى اللفظ
مجملا.
واخرى : بأن العام
بعد التخصيص غير ظاهر في الباقي ، وما لا يكون الكلام ظاهرا فيه لا يكون حجة فيه.
هذا ، وقد تقدم في
أول الفصل السابق أن التخصيص المتصل نحو نسبة تقتضي قصور الحكم عن مورد التخصيص ،
من دون أن تستلزم استعمال العام الوضعي أو الإطلاقي في غير المعنى الموضوع له ،
ليلزم المجاز فيه.
على أنه لو فرض
لزوم المجاز فلا إشكال في ظهور العام في إرادة تمام الباقي بعد التخصيص ، وهو كاف
في الحجية ، بل المدار عليه لا على الحقيقة.
ولذا لم يقع
الكلام في دلالة القضايا ذات القيود الخاصة كالاستثناء والتوصيف وغيرهما على
المنطوق ، ولا في حجيتها فيه ، وإنما وقع الكلام في دلالتها على المفهوم. فتأمل.
وبالجملة : لا
إشكال في أن ثبوت الحكم لتمام ما عدا مورد التخصيص مقتضى الظهور الحجة ، وضعيا كان
أو إطلاقيا أو عرفيا.
هذا ، والظاهر
عموم ذلك لما إذا كان التخصيص بقرينة حالية غير لفظية ، قد احتفّ بها الكلام بسبب
ظهورها حين صدوره ، بنحو يصلح للمتكلم الاعتماد عليها في البيان ، فإن العام معها
ظاهر في إرادة الباقي بلا إشكال.
غاية الأمر أن
الاستعمال معها ..
تارة : يبتني على
حذف التخصيص وتقديره اعتمادا على القرينة ، الذي هو كسائر موارد الحذف والتقدير
ليس من المجاز في شيء.
واخرى
: يبتني على التوسع
في استعمال الكلام الدال في نفسه على العموم ، لتنزيل التخصيص منزلة العدم ، فيلزم
المجاز.
ولا أهمية لتشخيص
موارد كل من القسمين بعد اشتراكهما فيما هو المهم ، وهو ظهور العام في إرادة
الباقي ، وحجية الظهور المذكور ومن هنا يلزم صرف الكلام لما إذا كان المخصص منفصلا
، فنقول :
العمدة في تقريب
الإشكال فيه : أن العام في نفسه ظاهر في إرادة العموم ، وحيث كان الخاص منافيا
لذلك ، وفرض تقديمه على العام ، فلا بد من رفع اليد به عن ظهور العام في إرادة
العموم. ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة تمام الباقي لا من العام بنفسه ، لعدم ظهوره
في نفسه إلا في إرادة العموم بتمامه ، دون تمام ما عدا مورد التخصيص ، ولا بضميمة
دليل التخصيص ، لأنه إنما يتضمن عدم إرادة مورده من العام ، من دون أن يتضمن شرح
المراد من العام.
نعم ، لو فرض نظره
للعام وشرحه للمراد منه تعين البناء على مفاده ، كما لو أمر المولى بإكرام جيرانه
، ونبه بعد ذلك على أنه أراد من عدا زيد منهم.
لكن الخاص يكون
حاكما على العام حكومة بيانية ، وهو خارج عن محل الكلام.
ثم إنه لا يهم مع
ذلك تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص المنفصل حقيقي أو مجازي ، إذ لو كان
ظاهرا بنفسه أو بضميمة المخصص في إرادة الباقي كان حجة وإن كان مجازا ، وإن لم يكن
ظاهرا فيه لم يكن حجة وان كان حقيقة ، لإمكان إرادة ما دونه الذي هو حقيقة أيضا.
وإن كان ربما يتضح الحال فيه من هذه الجهة تبعا للكلام في وجه الحجية الذي هو
المهم في المقام.
هذا ، وقد حاول
غير واحد دفع الإشكال في حجية العام في الباقي ، وما ذكر في كلماتهم أو يمكن أن
يذكر وجوه :
الأول
: أن الاستعمال في
ما دون العموم من المراتب وإن كان مجازا إلا أن
الترجيح لتمام
الباقي بعد التخصيص ، لأنه أقرب للعام مما دونه ، فيتعين الحمل عليه بعد تعذر
الحمل على المعنى الحقيقي ، وهو العموم.
وفيه
: أنه لا اعتبار في
الترجيح لبعض المجازات بالأقربية بحسب المقدار ، بل المعيار فيه الأقربية الذهنية
عرفا ، إما لتعارف الاستعمال فيه وكثرته عند عدم إرادة الحقيقة ، أو لقوة المناسبة
بينه وبين المعنى الحقيقي ، بحيث ينتقل الذهن منه إليه ، فمثلا إرادة خصوص المنافع
من عموم العالم بلحاظ مناسبة العلم للنفع أقرب عرفا من إرادة كل من عدا زيد منه ،
وإن كان الثاني أكثر أفرادا أو أقرب مقدارا للعام.
الثاني
: ما في التقريرات
من دعوى ظهور العام في تمام الباقي بعد التخصيص ، لأن دلالة العام على أفراده
انحلالية ، فدلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على بقية الأفراد. وحينئذ فصرف
دليل التخصيص للعام عن دلالته على مورده لا ينافي ظهوره في غيره من افراده ودلالته
عليه ، فيلزم العمل به فيه بعد فرض عدم الصارف عنه.
وفيه
: أن دلالة العموم
على حكم الأفراد ليست انحلالية ، بل ارتباطية ، لأن العموم ان كان وضعيا فأداة
العموم لها مدلول واحد ، وهو العموم ، وإن كان إطلاقيا فمقتضى مقدمات الحكمة كون
الماهية تمام الموضوع ، المستلزم لعموم الحكم لتمام أفرادها. وتحليله في القسمين
إلى حكم كل فرد فرد عقلي لا عرفي يبتني على استقلال كل منها في كونه مدلولا للكلام
، بنحو يكون للكلام دلالات متعددة ، نظير تعدد المضامين تبعا لتعدد الكلام.
إلا أن يرجع إلى
ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من التفكيك بين الدلالات الضمنية في الحجية.
بتقريب : أن العام
وإن كان له دلالة واحدة على حكم جميع الأفراد بنحو الارتباطية ، إلا أنها لا ترتفع
بالمخصّص بعد فرض كونه منفصلا.
غايته أن المخصص
ينافي دلالة العام الضمنية على حكم مورد التخصيص ، فيلزم رفع اليد عنها بعد فرض
تقديمه ، ولا ملزم معه برفع اليد عن بقية دلالاته الضمنية على حكم بقية الأفراد ،
لأن دلالات الكلام الواحد الضمنية وإن كانت ارتباطية حدوثا وارتفاعا ، إلا أنه لا
ارتباطية بينها في الحجية.
بل هي أولى بعدم
الارتباطية في الحجية من الدلالة الالتزامية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية ، حيث
تقرر عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية بسقوط الدلالة المطابقية عنها ، وإن
كانت تابعة لها ومتفرعة عليها ثبوتا ، وليست كالدلالات التضمنية التي ليس بينها
إلا مجرد التلازم من دون تفرع لبعضها على بعض.
لكن الظاهر عدم
تمامية ما ذكره قدّس سرّه من عدم الارتباطية في الحجية بين الدلالة الالتزامية
والمطابقية ، على ما ذكرناه في مبحث التعارض عند الكلام في دلالة المتعارضين على
نفي الثالث ، بل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالمعارضة مستلزم لسقوط الدلالة
الالتزامية عنها.
ونظيره المقام ،
الراجع إلى الارتباطية في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية ، لا بين
الدلالات التضمنية فقط ، لوضوح أن الخاص كما ينافي دلالة العام التضمنية على ثبوت
حكمه في مورد التخصيص ينافي دلالته المطابقية على العموم ، فلو بني على بقائه حجة
في دلالاته التضمنية على ثبوت حكمه في بقية الأفراد لزم التفكيك في الحجية بين
الدلالة المطابقية والتضمنية ، الذي هو كالتفكيك بين الدلالة المطابقية
والالتزامية ، لا أهون منه.
ومنه يظهر عدم
نهوض ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه بدفع الإشكال ، فإنه ذكر أن تخصيص العام
بالمنفصل لا يستلزم مجازيته ، لأنه إنما يكشف عن أن المراد بمدخول أداة العموم هو
المقيد لا المطلق ، وذلك لا يوجب المجاز ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.
أما الأداة فلأنها
موضوعة لعموم ما يراد من المدخول ، فاذا اريد منه المقيد لم تقتض وضعا إلا عموم أفراده.
وأما المدخول
فلأنه موضوع للماهية المهملة الصادقة مع الإطلاق والتقييد ، وإنما تحمل على
المطلقة بمقدمات الحكمة ، وغاية ما يلزم من التخصيص هو انكشاف عدم مطابقة مقتضى
مقدمات الحكمة لمراد المتكلم ، وأن مراده الماهية المقيدة ، وإن أخل بذكر القيد
غفلة أو لمصلحة في إهماله.
للإشكال فيه :
بأنه لما كان مقتضى مقدمات الحكمة كون المطلق تمام المراد من دون دخل أي قيد فيه ،
فمع قيام الدليل المنفصل على دخل قيد خاص يكون منافيا لمقتضى المقدمات المذكورة ،
وإثبات كون تمام الموضوع هو خصوص واجد القيد الخاص بلا حاجة إلى انضمام قيد آخر
مما لا ينهض به الخاص ، ولا العام إلا بناء على التفكيك في الحجية بين الدلالة
المطابقية ـ وهي الدلالة على كون المطلق تمام المراد ـ والدلالة الالتزامية ـ وهي
الدلالة على عدم دخل بقية القيود غير القيد الخاص ـ فتبقى الثانية حجة مع سقوط
الأولى ، لمنافاتها للخاص ، وقد سبق المنع منه.
على أن ما ذكره من
الوجه يبتني على أن استفادة العموم لتمام أفراد. المدخول من الأدوات الموضوعة له
يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل
السابق المنع منه.
كما سبق هنا أن
المهم تحقيق الظهور في إرادة الباقي ، ولا يهم تحقيق أن استعمال العام في مورد
التخصيص حقيقي أو مجازي.
الثالث
: ما ذكره المحقق
الخراساني قدّس سرّه من أن العام في مورد التخصيص لا يلزم استعماله في الخصوص ،
ليكون مجازا مرددا بين مراتب الخصوص ، بل يمكن استعماله في العموم من باب ضرب
القاعدة مع كون الخاص مانعا من حجية ظهوره تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا
مصادما لأصل ظهوره في
العموم ، فيقتصر
في الخروج عنه على مورد المزاحمة ، وهو مورد التخصيص ، ويرجع إلى ظهوره في الباقي.
ودعوى : أن ذلك
مجرد احتمال لا يرتفع به إجمال العام ، لاحتمال عدم استعماله في العموم بقرينة
الخاص ، بل في بعض مراتب الخصوص التي يلزم بسبب عدم تعيينها الإجمال.
مدفوعة : بأن مجرد
احتمال الخروج بالعام عما وضع له من العموم لا يمنع من الرجوع لأصالة الحقيقة فيه
بعد فرض استقرار ظهوره في العموم المطابق لها ، بل يتعين البناء عليه والاقتصار في
الخروج عنه على مورد مزاحمته بالخاص ، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه قدّس سرّه.
ولا يخلو المراد
به عن إجمال ، لأن القاعدة إذا كانت مجعولة حقيقة بنحو العموم لبيان الحكم الواقعي
امتنع مخالفتها بالتخصيص ، إلا أن يرجع إلى النسخ الذي هو خلاف الفرض.
ومن هنا فقد يوجه
ما ذكره بوجهين ..
أحدهما
: أن العام لم يرد
لبيان الحكم الواقعي ، بل الظاهري الذي يكون قاعدة يرجع إليها عند الشك ، فإنه
كثيرا ما لا يتسنى بيان الحكم الواقعي بوجه تفصيلي إما لكثرة الخصوصيات المأخوذة
فيه بنحو لا مجال معه للمتكلم لاستيعابها بالبيان ولو لخوف ضياعها على المخاطب ،
أو لمحذور خارجي في بيان الخصوصيات المأخوذة فيه ، فيبين الحكم الظاهري بوجه عام
ثم يبين خلافه في مورد الحاجة.
مثلا : لو علم
المولى أن أكثر الواردين عليه يستحق الإكرام ، وأن من لا يستحقه منهم قليل يعسر
ضبطه أو لا يحسن بيانه بعنوان جامع له ، فقد يوجه الخطاب لوكيله بدوا بأن عليه
ظاهرا أن يكرم كل من يرد عليه ، منبها له على أنه إذا راى أحدا منهم لا يستحق ذلك
أعمله به.
غايته أن القرينة
على ورود العام بالنحو المذكور قد لا تضيع ، وقد تضيع فيحمل العام بدوا على بيان
الحكم الواقعي ، وبورود الخاص ينكشف حال العام ويحمل على بيان الحكم الظاهري من
باب الجمع العرفي.
ويشكل : بأن ذلك
وان كان وجها للجمع يرفع به التعارض بين الدليلين ، كما أنه يفي بحجية العام في
الباقي ، لوجوب الرجوع للحكم الظاهري عند الشك في الحكم الواقعي.
إلا أنه خلاف
الظاهر جدا ، لما فيه من التصرف في موضوع حكم العام بتقييده بالشك في حكمه الواقعي
، وفي نفس حكمه بحمله على التعبد بالحكم ظاهرا في مقام العمل ، لا على جعل نفس
الحكم ، كما أن لازمه عدم التنافي بين حكمي العام والخاص وتحكيم الثاني عملا بأقوى
الدليلين ، بل شرح الخاص للمراد من العام مع التباين بين حكميهما سنخا ، على وجه
يكون ورود الخاص رافعا لموضوع العام.
وكل ذلك مما تأباه
المرتكزات العرفية في الجمع بين الأدلة.
ومنه يظهر أن هذا
الوجه لا يرجع إلى استعمال العام في العموم ، ليكون مقتضى أصالة الظهور والحقيقة ،
لأن تقييد الموضوع بالجهل نحو من التخصيص ، كاستعمال العام في الخاص ، ويزيد عليه
بأن حمل القضية على إرادة التعبد بالحكم ظاهرا ، لا على جعله واقعا نحو من الخروج
بها عما هي موضوعة له وظاهرة فيه.
ومن هنا كان هذا
الوجه خلاف المقطوع به من مرتكزات أهل اللسان ، ولا سيما أهل الاستدلال ، حيث لا
إشكال عندهم في أن العام المخصّص من الأدلة الواقعية ، دون الأصول الظاهرية
العملية.
ثانيهما
: أن العام وإن
تضمن بيان الحكم الواقعي التابع لواقع العنوان المأخوذ في العام مع قطع النظر عن
الجهل به ، إلا أنه لم يرد لبيان المراد الجدي
الذي يجب العمل
عليه ، كما هو مقتضى الأصل العقلائي في كلام المتكلم المعبر عنه بأصالة الجهة ، بل
لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ، ويخرج عنها في مورد دليل أقوى
منها ، تسهيلا لبيان المراد الجدي فيما لو لم يتسن للمتكلم استيعابه بتمام
خصوصياته ببيان واحد ، لما تقدم في الوجه السابق ، إذ كما يكون للمتكلم مخالفة
بيانه مراده الجدي لتقية أو لمصلحة الامتحان ، كذلك يكون له مخالفته لمصلحة يتعلق
بالبيان نفسه.
وبذلك يظهر الفرق
بين هذا الوجه وما قبله ، لابتناء الوجه السابق على ورود العام لبيان المراد الجدي
، وإن كان هو الحكم الظاهري عند الشك ، وابتناء هذا الوجه على تضمن العام الحكم
الواقعي من دون أن يكون مرادا جديا ، بل لضرب القاعدة.
كما أن الرجوع
لحكم العام ظاهرا عند احتمال التخصيص على الأول مقتضى نفس الحكم المؤدى بالعام ،
أما على الثاني فليس هو مقتضى نفس الحكم المؤدى ، لفرض أن المؤدى هو الحكم الواقعي
، بل مقتضى الغرض من بيان القضية ، وهو ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم
المخصص.
ودعوى : أنه مع
عدم ورود العام لبيان المراد الجدي لا مجال لحجيته في الباقي ، لأن الخاص وإن لم
يصلح لبيان عدم إرادة غير مورده بالإرادة الجدية ، إلا أنه لا طريق لإحراز إرادة
الباقي بإرادة جدية بعد فرض عدم صدور العام لذلك.
والتفكيك في أصالة
الجهة بالإضافة لأفراد العام مما لا مجال له مع وحدة الاستعمال والبيان. نظير : ما
لو علم بصدور العام تقية واحتمل إرادة بعض أفراده بارادة جدية ومطابقة مضمونة فيه
للحكم الواقعي.
مدفوعة بأن مبنى
ضرب القاعدة ـ الذي فرض في هذا الوجه ـ على ذلك ، وإلا لم يصلح العام لأن يكون
قاعدة يرجع إليها في مقام العمل عند فقد المعارض.
هذا حاصل ما قد
يوجه به كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه. ولعله أقرب إلى كلامه من الوجه السابق ،
لظهور كلامه في أن تقديم الخاص لأنه أقوى الدليلين ، لا لأنه رافع لموضوع حكم العام.
كما شيد هذا الوجه غير واحد من مشايخنا على اختلاف منهم في بيانه.
لكنه يشكل ..
أولا
: بأن مرجع ذلك إلى
رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ، وليس هو بأولى من رفع اليد عن أصالة الظهور
والحقيقة فيه بحمله على الاستعمال في الخصوص.
بل لعل العكس هو
الأولى ، وأن أصالة الجهة مقدمة على أصالة الظهور ، ولذا كان بناء أهل الاستدلال
على عدم حمل أحد الدليلين على التقية إلا مع تعذر الجمع عرفا بينهما بالتصرف في
ظهور أحدهما أو ظهورهما معا ولو بنحو يلزم المجاز.
على أن رفع اليد
عن أصالة الجهة في العام ليس بأولى من رفع اليد عنها في الخاص ، بحمله على التقية
أو نحوها ، لأن أقوائية الخاص ليست من حيثية جهة ، بل من حيثية ظهوره ، وذلك إنما
يقتضي تقديمه على العام من حيثية الظهور مع المحافظة على أصالة الجهة فيهما معا ،
لا تقديمه على العام من حيثية الجهة مع المحافظة على أصالة الظهور فيهما معا ، كما
هو مقتضى هذا الوجه.
وثانيا
: بأن هذا الوجه لا
يصلح لتوجيه الرجوع للعام المخصّص عند الشك في زيادة التخصيص بعد فرض منافاة الخاص
له ، لأنه قد اخذ فيه مفروغا عنه ، حيث كان غرضا من العام لم ينظر في وجه ترتبه
عليه ، لما تقدم من أن ترتبه عليه بعد البناء على هذا الوجه مقتضى فرض كون الغرض
من العام ضرب القاعدة. فهو أشبه بالقضية بشرط المحمول لا تتكفل ببيان وجه ترتب
المحمول.
وهذا بخلاف الوجه
السابق ، لأن ابتناءه على حمل العام على الحكم الظاهري مستلزم لعدم التنافي بين
العام والخاص الوارد لبيان الحكم الواقعي ، فيكون الرجوع للعام مع الشك في وجود
الخاص الآخر مقتضى عموم العام غير المخصص في الحقيقة والذي لا منافي له ، الذي هو
حجه بلا إشكال.
وبالجملة : لا يصح
كون الغرض من العام ـ المفروض تضمنه الحكم الواقعي ـ ضرب القاعدة التي يرجع إليها
عند الشك في زيادة التخصيص إلا بعد الفراغ عن حجية العام المخصّص ، فلا يصلح لأن
يكون توجيها لحجية العام المذكور الذي هو محل الكلام.
بل لا أثر للبناء
عليه مع ذلك بعد عدم وقف الأثر العملي عليه.
نعم ، لو ابتنى
هذا الوجه على مجرد رفع اليد عن أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى مورد التخصيص
من دون أن يبتني على كون الغرض منه ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج
عنها ـ كما قد يظهر من بعض تقريباته في كلماتهم ـ كان بنفسه صالحا لبيان وجه
الرجوع للعام المخصص بعد فرض الاستعمال في العموم وجريان أصالة الجهة فيه بالإضافة
إلى بقية الأفراد.
لكن يتوجه عليه
حينئذ ما سبق من أنه لا مجال للتفكيك في أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى أفراده
مع وحدة الاستعمال والبيان.
وربما يظهر من بعض
كلماتهم تقريب هذا الوجه بأن الخاص لا يقتضي رفع اليد عن ظهور العام في الاستعمال
في العموم ، ولا عن أصالة الجهة فيه ، بل عن حجيته في الفرد بإرجاع أصالة الجهة
إلى الحجية ، وحيث كان منشأ رفع اليد بالخاص عن حجية العام معارضته له وأقوائيته
منه لزم الاقتصار على مورد المعارضة ، دون غيره.
ويشكل : بأن حجية
الكلام متفرعة عن كاشفيته عرفا ـ بمقتضى سيرة أهل اللسان ـ عن مراد المتكلم الجدي
التابع للملاك والمستتبع للعمل ، وحيث يمتنع إرادة المتنافيين بالوجه المذكور كان
الخاص منافيا للعام لو كان مستعملا في
العموم بداعي
المراد الجدي.
فإن كان المدعى
كاشفيته عن عدم استعمال العام في العموم امتنع العمل بالعام مع عدم تعيين ما
استعمل فيه ـ كما قرر في أصل الإشكال ـ
وإن كان المدعى
كاشفيته عن عدم صدور العام بداعي بيان المراد الجدي رجع لهذا الوجه الذي عرفت
الكلام فيه.
وأما رافعيته
لحجيته في الفرد من دون أن يكشف عن أحد الأمرين فلا نتعقله.
الرابع : ما أشار
إليه بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه حجية العام المخصص من أن تخصيص العام لا
يستلزم عدم إرادة العموم منه ، لإمكان أن يراد العموم منه إرادة تمهيدية ، ليكون
ذكر العام توطئة لبيان مخصصه.
وفيه : أن المراد
إن كان هو التمهيد بضرب القاعدة التي يرجع إليها تسهيلا للبيان رجع للوجه السابق ،
وجرى فيه ما تقدم.
وإن كان هو التمهيد
البياني ، نظير التمهيد بذكر عموم الحكم للمستثنى منه او الموصوف لذكر التقييد
بالمستثنى أو الوصف.
فهو إنما يتم في
التخصيص المتصل بهيآت خاصة ويكون المحصل معه من مجموع الكلام مضمونا واحدا عرفا ،
وهو إرادة تمام أفراد الباقي ، ولا مجال لذلك في التخصيص المنفصل الذي يكون المحصل
منه مضمونا مباينا لمضمون العام عرفا ومنافيا له بنحو لا بد من الجمع بينهما.
وصحة اتكال
المتكلم أو خصوص الشارع على القرائن المنفصلة كالمتصلة لا يصحح التمهيد لها بالنحو
المذكور بعد خروجه عن طريقه أهل المحاورة في الاستعمال.
غاية الأمر أنها
تكون صالحة لرفع اليد بها عن مقتضى الظهور المنعقد للكلام الآخر ، ومن الظاهر أنها
كما قد تكون قرينة عرفا على تعيين المراد به على خلاف مقتضاه الأول ، كذلك قد تكون
موجبة للتوقف في مفاده وصيرورته
بحكم المجمل ، فلا
بد في بيان وجه عدم إجمال العام في المقام بعد النظر في حجة القائلين به.
ولعل الأولى أن
يقال : الوجه في حجية العام المخصّص في الباقي بناء أهل المحاورة على ذلك وسيرتهم
القطيعة الارتكازية التي جرت على طبقها سيرة العلماء في مقام الاستدلال من صدر
الإسلام إلى يومنا هذا بمقتضى طبعهم من غير نكير منهم ولا توقف.
ولا يعتنى بخلاف
من تقدم لشبهة حصلت له بعد شذوذه وخروجه عن سيرتهم وسيرة أهل المحاورة ، التي
لولاها لاختل نظام الاستدلال واستنباط الأحكام ، لكثرة التخصيص في العمومات ، حتى
قيل : ما من عام إلا وقد خص.
وكفى بسيرة أهل
المحاورة وارتكازياتهم حجة في المقام ، لأنها الدليل على حجية الظواهر الكلامية في
جميع الموارد.
والظاهر ابتناء
حجية العام في الباقي عندهم على صرف العام للباقي بعد تعذر إبقائه على عمومه بسبب
الخاص ، لا لكون الخاص ناظرا له وشارحا للمراد منه ، ولا لكون الباقي أقرب
المجازات ، ولا لكون دلالة العام على أفراده انحلالية ، ولا لبقية الوجوه المتقدمة
، لما سبق من الإشكال فيها.
بل لكون العام
بنظر العرف من سنخ المقتضي للكشف عن إرادة المتكلم لأفراده وأحواله ، فلا يرفع
اليد عنه فيها إلا في مورد المزاحمة بالخاص ، عملا بالمقتضي ما لم يثبت المانع ،
بناء منهم على التفكيك بين الأفراد والأحوال في استكشاف مراد المتكلم من العام ،
لخصوصية في العام ، لا لعموم التفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية.
نعم ، لا بد من
كون الباقي صالحا لأن يحمل العام عليه عرفا ، ولا يكون سوقه لأجله مستنكرا عند أهل
المحاورة ومستهجنا لديهم ، وإلا امتنع حمل العام عليه ، ولزم الجمع بوجه آخر إن
أمكن ، وإلا كان التعارض بين العام والخاص مستحكما ، كما لو لزم تخصيص الأكثر أو
أظهر الأفراد أو المورد أو
غيرها. كما لا بد
من تعيين الخاص للتقديم عرفا في مقام الجمع بينهما ، فلو كان هناك وجه آخر صالح
لأن يبنى عليه في مقام الجمع تعين اختياره ان كان أقرب عرفا ، ولزم التوقف مع عدم
المرجح لأحدهما.
وحيث لا ضابط لذلك
تعين إيكاله لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة ومحاولة الجمع بينها. إلا أن
المفروض في محل الكلام تقديم الخاص ورفع اليد به عن عموم العام ، كما سبق في أول
الفصل.
هذا ، وبعد الفراغ
عن تقديم الخاص على العام ، وحجية العام في الباقي معه ، فالعام المخصص يبتني
صدوره ثبوتا ..
تارة : على
التسامح والتوسع في العموم بتنزيل الأفراد الخارجة بالتخصيص منزلة العدم لقلتها أو
عدم الاعتداد بها ، أو في اللفظ الدال على الماهية بارادة المقيد منها مجازا ،
لقرينة اختفت علينا.
واخرى
: على وجود قرينة
على التخصيص المتصل ، الذي تقدم أنه لا يبتني على المجاز ، وقد اختفت تلك القرينة
أيضا ، وعلى الوجهين لا يكون العام ظاهرا في العموم حين صدوره ، وإن ظهر فيه بعد
ذلك بسبب اختفاء القرينة والتعويل على أصالة عدمها.
وثالثة
: على كون الداعي
من بيان العام الظاهر في العموم حين صدوره ضرب القاعدة التي يرجع إليها في مقام
العمل اعتمادا على البيان المنفصل وقت الحاجة ، وإن لم يكن العموم مرادا جديا ...
إلى غير ذلك مما يمكن ثبوتا ، وإن لم يدركه العرف في مقام الجمع بين العام والخاص
، بل لا يدركون إلا مجرد صرف الخاص للعام عن مورده إلى الباقي ، وحجيته فيه لأجل
ذلك ، لأن ذلك هو المهم الذي يناط به العمل ، فيقتصر نظر العرف عليه ، وما سواه
امور واقعية لا دخل لها في العمل قد تدرك بدليل خارج وقد لا تدرك.
الفصل الرابع
في إجمال الخاص واشتباهه
لا إشكال في أن
التمسك بالدليل في مورد فرع إحراز موضوعه فيه ، فلا يتمسك به مع عدم إحرازه للشبهة
الموضوعية أو لإجمال الدليل بنحو الشبهة المفهومية أو غيرها.
ومن هنا لا إشكال
في عدم حجية كل من العام والخاص مع عدم إحراز عنوانه. وإنما الإشكال والكلام بينهم
في حجية العام بعد إحراز عنوانه في مورد إجمال الخاص والشك في تحقق عنوانه.
هذا ، وحيث سبق أن
المخصّص المتصل مانع من انعقاد ظهور العام في العموم تعين عدم حجية العام في مورد
اشتباه الخاص المتصل وإجماله مطلقا لسريان إجمال الخاص المذكور للعام ، ويكون
العام مجملا بالإضافة إليه حقيقة ، كما لو كان الإجمال والاشتباه في عنوان العام
بنفسه.
ومن هنا ينبغي جعل
موضوع الكلام اشتباه الخاص المنفصل الذي لا يسري إجماله إلى العام حقيقة ، ولا
يمنع من انعقاد ظهوره في العموم الذي عرفت أنه المقتضي للحجية.
إذا عرفت هذا ،
فإجمال الخاص واشتباهه في بعض الموارد ..
تارة : يكون
للشبهة المفهومية.
واخرى
: للشبهة المصداقية
، بسبب اشتباه الامور الخارجية مع وضوح المفهوم وعدم إجمال معنى الخاص.
فيقع الكلام في
مقامين ..
المقام الأول
في الشبهة المفهومية.
والمعيار فيها
خفاء المراد بالخاص ، إما لإجمال مفهوم عنوانه لغة أو شرعا أو عرفا ، أو لاحتفافه
بما يمنع من انعقاد ظهوره ويوجب إجماله.
بل يكفي إجماله
حكما مع انعقاد ظهوره بدوا ، بسبب القرائن المنفصلة الكاشفة عن عدم إرادة ظاهره به
، وأن المراد به أمر آخر مورد للإجمال.
ولا يخفى أن
الإجمال بأحد الأنحاء المذكورة ..
تارة : يكون
للتردد بين الأقل والأكثر ، حيث يكون الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كما لو تردد
الفاسق بين مطلق العاصي وخصوص مرتكب الكبيرة ، حيث يكون مرتكب الصغيرة فقط موردا
للاشتباه ، وكما لو تردد المسافر بين مطلق من خرج عن بلده وخصوص قاطع المسافة بنحو
يوجب التقصير شرعا.
واخرى
: يكون للتردد بين
المتباينين ، لاشتراك أو غيره ، كما لو تردد زيد بين رجلين.
ومنه ـ إذا تردد
بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، كما لو تردد الشريف بين العلوي وذي الشأن
والمقام الاجتماعي ، لأن مورد الاجتماع وإن كان متيقنا من الخاص ـ نظير صورة
التردد بين الأقل والأكثر ـ إلا أن تباين موردي افتراق كل منهما ، والعلم بارادة
أحدهما إجمالا كاف في جريان حكم المتباينين ، إذ لا أثر لوجود المتيقن في محل
الكلام ، حيث لا إشكال في حجية الخاص دون العام فيه ، وإنما الإشكال في حجية العام
في مورد الشك ، الذي قد يختلف حاله مع العلم الإجمالي.
أما في الصورة
الاولى ـ وهي التردد بين الأقل والأكثر ـ فالظاهر ـ تبعا لما صرح به جماعة ـ هو
حجية العام في مورد الإجمال والاشتباه.
لما تقدم من أن
سقوط العام عن الحجية في مورد الخاص المنفصل ليس لارتفاع ظهوره فيه ، ولا لكشفه عن
عدم استعماله في العموم ، بل لمزاحمة ظهوره فيه بما هو أقوى منه ، وما يكون عرفا
من سنخ الرافع لمقتضي حجيته.
وذلك لا يتم
بالإضافة إلى مورد إجمال الخاص ، لأن الخاص لا يكون حجة إلا فيما هو ظاهر فيه ،
وهو الأقل المتيقن ، دون مورد الإجمال والاشتباه ، فلا يصلح لمزاحمة العام ، الذي
تقدم أنه المقتضي للحجية ، بل يتعين العمل فيه بالعام ، لعدم جواز رفع اليد عن
المقتضي في المقام ، إلا مع ثبوت المانع. فمورد الإجمال في المقام كسائر موارد
الشك في التخصيص الزائد ، الذي تقدم حجية العام المخصص فيها. ومجرد احتمال شمول
التخصيص المعلوم له لا يصلح فارقا بينه وبينها بعد فرض عدم حجية الخاص فيها.
ودعوى : أن الخاص
وإن كان مجملا يكشف عن عدم إرادة أفراده من العام ـ وإن كان العام ظاهرا في
إرادتها ـ فمع فرض إجماله لا يعلم بإرادة مورد الإجمال من العام ، فلا وجه لحجيته
فيه.
مدفوعة : بأن كشف
الخاص عن عدم إرادة أفراده من العام بنحو يلزم برفع اليد عن ظهور العام فيها لما
كان بملاك تقديم أقوى الحجتين كان متفرعا على حجيته في أفراده ، فمع فرض عدم حجيته
في مورد الإجمال لا يصلح للكشف عن عدم إرادته من العام ، ليرفع به اليد عن مقتضى
الحجية فيها.
نعم ، لو كان
الجمع بين العام والخاص مبتنيا على كون الخاص قرينة على استعمال العام في ما عداه
، خروجا به عن معناه الموضوع له فقد تتجه الدعوى المذكورة ، حيث يلزم إجمال المعنى
المستعمل فيه العام وعدم وضوح شمولاه لمورد الاشتباه بعد فرض عدم استعماله في ما
هو ظاهر فيه في نفسه ، فلا أثر
لشمولاه للمورد
المذكور ، نظير : ما لو وجب إكرام العالم ، ثم قامت القرينة الخارجية على عدم
استعمال العالم في معناه الحقيقي ، بل اريد منه مجازا معنى مرددا بين خصوص العامل
به في نفسه النافع به لغيره ، ومطلق العامل به وإن لم ينفع به غيره.
لكن سبق عدم
ابتناء الجمع بينهما على ذلك ، بل على تقديم الخاص بملاك تقديم أقوى الحجتين ،
فيقصر عن مورد الإجمال ، كما تقدم ، وينفرد به العام.
بل قد يدعى أن
العام يكون بيانا للخاص وشارحا له ، لأن العام حيث يكون حجة في مورد الإجمال وصالحا
للكشف عن كونه مرادا جديا منه فاللازم عدم إرادته من الخاص وقصوره عنه.
لكن الظاهر عدم
تمامية ذلك ، لعدم نظر العام للخاص ، ليكون بيانا شارحا للمراد منه ورافعا
لإجماله.
وأصالة العموم وإن
اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك ، إلا أنها لا تنهض بشرح المراد من الخاص
وتعيين مفهومه ، وإن كان لازما له ، لعدم وضوح بناء العقلاء على ذلك الذين هم
المرجع في تحديد مقتضى أصالة العموم ، وقد تقرر في محله أن حجية الأمارة في لازم
مؤداها سعة وضيقا تابع لبناء العقلاء الذي هو المعيار في حجيتها.
وإن شئت قلت :
المتيقن من بناء العقلاء على أصالة العموم هو الرجوع إليها في إجراء حكم العام في
مورد الشك في التخصيص ، دون ترتيب جميع لوازم ذلك بما فيها شرح مفاد الأدلة الأخر
ورفع إجمالها ، وبيان مفاهيم العناوين المأخوذة فيها.
كيف ولازم ذلك
ارتفاع الإجمال في عنوان الخاص بلحاظ جميع أحكامه ، حتى غير حكم الخاص! ولا يظن من
أحد البناء عليه.
ولعله يأتي نظير
ذلك في بعض المباحث المتعلقة بالمقام.
وأما في الصورة
الثانية ـ وهي الدوران بين المتباينين ـ فالظاهر سقوط العام عن الحجية في كل طرفي
الترديد بخصوصه ، للعلم الإجمالي بإرادته من الخاص ، فيكون الخاص حجة فيه إجمالا ،
بنحو يمنع من جريان أصالة العموم في كل منهما بخصوصه ، للعلم الإجمالي بكذبها معه
، مع عدم المرجح لأحدهما بعد كون نسبتهما لكل من العام والخاص بنحو واحد.
ولا مجال لقياسه
بالعلم الإجمالي بكذب الأصل العملي في أحد الموردين إجمالا ، حيث تقرر في محله جريان
كل منهما وترتب الأثر عليه ما لم يلزم مخالفة عملية لعلم إجمالي منجز.
للفرق بينهما بأن
لأدلة الاصول العملية إطلاقا يشمل أطراف العلم الإجمالي من دون محذور في التعبد
الظاهري على خلاف العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزا ، لعدم التنافي بين الحكم
الظاهري والواقعي.
بل لا يلزم
التكاذب بين التطبيقين حقيقة بلحاظ ذلك.
أما أصالة العموم
فليس الدليل عليها إلا بناء العقلاء ، وهو يقصر عن صورة العلم الإجمالي بالكذب بعد
كون مفاد العام حكما واقعيا ، وثبوته في أحد طرفي الترديد بمقتضى عموم العام
مستلزم لانتفائه في الآخر ، فيلزم التكاذب بين تطبيقي العام في كلا طرفي الترديد
بلحاظ المدلول الالتزامي المذكور.
ولا أقل من الشك
في بناء العقلاء على الرجوع لأصالة العموم حينئذ ، حيث يلزم التوقف عنها بعد
انحصار الدليل عليها به.
نعم ، الظاهر أنها
إنما تقصر عن كل منهما بخصوصيته ، لا عن أحدهما إجمالا ، لأن الخاص إنما يكون حجة
في أحدهما إجمالا ، لا في كليهما ، والتوقف في كل منهما بخصوصه إنما هو لعدم
المرجح ، لا بنحو يمنع من حجية العام في أحدهما إجمالا ، لأصالة العموم.
فيلزم البناء على
ثبوت حكم العام كذلك وترتيب أثره من وجوب الاحتياط ـ لو كان تكليفا ـ وغيره.
وعلى ذلك يلزم
الرجوع إلى قواعد العلم الإجمالي في طرفي الترديد ، فإن كان حكم الخاص إلزاميا دون
العام ، أو بالعكس ، أو كلاهما إلزاميا من دون تناف عملي بينهما ـ كما لو تضمّن
أحدهما وجوب الإكرام بديا نار والآخر وجوب الإكرام بثوب ـ لزم الاحتياط في الفردين
على طبق الحكم الإلزامي المفروض ، وان كان كلاهما إلزاميا مع التنافي بينهما عملا
ـ كما لو تضمن أحدهما وجوب الإكرام والآخر حرمته ـ امتنع الاحتياط ، وكان كلا
الطرفين موردا للدوران بين محذورين ، الذي تحقق في محله أن حكمه التخيير.
إلا أن يكون هناك
دليل أو أصل آخر مانع من منجزية العلم الإجمالي ، وشارح للوظيفة في كل من الفردين
بنحو لا ينافي العلم الإجمالي المذكور. على ما يذكر في محله من مباحث العلم
الإجمالي.
ونظير ذلك ما لو
علم إجمالا بالتخصيص في أحد فردين من عام واحد أو عمومين ، لا لإجمال المخصص
الواحد ـ كما هو محل الكلام ـ بل للعلم الإجمالي بصدور أحد الخاصّين أو حجيته ،
لعين الوجه المتقدم.
بل الظاهر جريانه
أيضا فيما لو دار الأمر بين التخصيص في أحدهما المردد والتخصيص في كليهما ، فإن
التخصيص المعلوم إجمالا واحد ، وهو وإن لم يحرز تعينه واقعا ، لاحتمال ثبوت التخصيصين
معا ، ولا مرجح لأحدهما في انطباق التخصيص المعلوم عليه ، إلا أن الظاهر من بناء
العقلاء حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم إجمالا وإن لم يكن له تعين
واقعي.
ولازمه البناء على
ثبوت حكم العام في أحد طرفي الترديد ، فيجري فيه ما سبق من مقتضى العلم الإجمالي.
فلاحظ.
تنبيه :
قد يكون الدليل
المجمل مرددا بين معنيين يلزم تخصيص العام من أحدهما دون الآخر ، كما لو ورد : يجب
إكرام كل فقيه ، وورد : لا يجب إكرام زيد ، وتردد زيد بين شخصين أحدهما فقيه
والآخر نحوي ، أو ورد : لا يجب إكرام أولاد عمرو ، وورد : يجب إكرام زيد ، وتردد
زيد بين أحد أولاد عمرو وغيره.
وحينئذ لا إشكال
في أن الدليل المجمل المذكور لا ينهض بتخصيص العام ، بل مقتضى أصالة العموم في
العام إرادة فرده الذي هو طرف الترديد.
نعم ، إن كان ثبوت
الحكم للفرد الآخر منافيا لعموم آخر ، كما لو ورد المثال الأول عموم وجوب إكرام
النحوي أيضا ، لزم العلم الإجمالي بتخصيص أحد العمومين الذي تقدم الكلام فيه.
وأما إن كان
منافيا لأصل عملي ، كما في المثال الثاني المتقدم ، لأن مقتضى أصالة البراءة عدم
وجوب إكرام الشخص المذكور ، فلا يبعد لزوم رفع اليد عن الأصل المذكور ، لأن الدليل
المذكور وإن لم ينهض بنفسه لرفع اليد عن الأصل بسبب إجماله ، كما أن العام لا يصلح
لشرح المراد منه بنحو يرفع إجماله ، لما سبق من قصور العموم عن ذلك ، إلا أن الخاص
لما كان بنفسه حجة على ثبوت حكمه لمورده على إجماله ، والعام حجة على ثبوت حكمه
لفرده الذي هو طرف الترديد ، وكان لازم ثبوت حكمه لفرده المذكور ثبوت حكم الدليل
المجمل للفرد الآخر ، كان العام حجة بمدلوله الالتزامي على ذلك ، لأن الظاهر من
بناء العقلاء حجية العام في مثل هذا من لوازم مؤداه ، فيكون حاكما على الأصل
الجاري في الفرد المذكور.
ومن هنا لا مجال
للبناء على التوقف عن عموم العام في فرده المذكور وعن الأصل العملي في الفرد الآخر
، لدعوى : مخالفة مؤداهما للعلم الإجمالي بثبوت التكليف في أحد الفردين من دون
مرجح لأحدهما. فتأمل جيدا.
المقام الثاني
في الشبهة الموضوعية
وقد اختلف كلماتهم
في حجية العام في مورد الاشتباه بين القول بحجيته مطلقا ، وبعدمها كذلك ،
وبالتفصيل بوجوه مختلفة يأتي الكلام فيها.
ومحل كلامهم ـ حسبما
يظهر من حججهم ـ هو صورة الشبهة البدوية.
أما مع العلم
الإجمالي بفردية أحد فردين للخاص فالظاهر عدم الإشكال بينهم في جريان حكم العلم
الإجمالي بالتخصيص الذي تقدم الكلام فيه في المقام الأول ، لعدم الفرق بين الشبهة
الحكمية والموضوعية فيه ، وإنما لم يتعرضوا لذلك لوضوحه ، وليس الإشكال إلا من
حيثية الشك بنفسه مع قطع النظر عن الخصوصيات الزائدة عليه ، لاختلاف الشبهة
الحكمية والموضوعية فيه.
نعم لو دار الأمر
بين فردية فرد واحد للخاص وفردية فردين فالشك في فردية الثاني من صغريات الشبهة
البدوية التي هي محل الكلام ، ولا مجال للجزم فيها بحجية العام ، كما تقدم في
المقام الأول ، لابتنائه هناك على المفروغية عن حجية العام مع الشك في التخصيص
بنحو الشبهة الحكمية.
إذا عرفت هذا ،
فالظاهر عدم حجية العام في الشبهة المذكورة مطلقا ، وأن ما قيل بحجيته فيها من
الموارد إما غير تام أو خارج عنها حقيقة.
والوجه في ذلك :
أن التمسك بالعام ـ بل بكل دليل ـ في مورد إنما هو بعد الفراغ عن تعيين المراد
الجدي به ، بحيث ينقح به موضوع الحكم المستلزم له ثبوتا ، ثم إحراز تحقق ذلك
الموضوع في ذلك المورد بالوجدان أو بدليل آخر.
فالتمسك بالعام
يبتني على قياس اقتراني مؤلف من كبرى حملية تتضمن موضوع الحكم الملازم له ثبوتا
يستفاد من الدليل كون مضمونها مرادا بالإرادة
الجدية ، وصغرى
حملية تتضمن ثبوت الموضوع المذكور في الموارد الذي يراد الرجوع للدليل فيه.
فإذا ورد : أكرم
كل عالم ، فلا بد في التمسك به لوجوب إكرام زيد أن يحرز ..
أولا
: المراد الجدي منه
، لينقح به موضوع الحكم الواقعي.
وثانيا
: تحقق الموضوع
المستفاد من ذلك في زيد. ولا يكفي إحراز أن زيدا عالم في وجوب إكرامه إذا لم يحرز
تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، فضلا عما إذا احرز عدم تعلقها به. ولذا لو كان
العموم مخصصا واحرز دخول زيد في الخاص لم ينهض العموم بإثبات وجوب إكرامه بلا
إشكال.
وحينئذ حيث كان
مقتضى العام والخاص عدم تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، بل بما عدا مورد الخاص منه
، لا وجه للاكتفاء بإحراز عنوان العام في مورد الشك في تحقق عنوان الخاص ، لعدم
إحراز موضوع الحكم الواقعي المستلزم له ثبوتا بذلك.
ولا أثر لإحراز
عنوان العام بعد ثبوت عدم كونه تمام الموضوع ، إذ لا يكفي في ترتب الحكم إحراز جزء
الموضوع قطعا.
وبعبارة اخرى :
التوقف عن حكم العام في الفرد ليس لحجية الخاص فيه ، بل لحجيته بعد فرض عدم
الإجمال فيه في شرح المراد من العام وتحديد موضوع حكمه وتخصيصه بما عدا أفراد
الخاص الواقعية ، فمع فرض عدم ظهور حال الفرد من هذه الجهة يتعين التوقف فيه عن
حكم كل من العام والخاص بعد عدم إحراز موضوعه الواقعي المتحصل بعد الجمع بين
الأدلة.
نعم ، لو كان
الخارج عن العام واقعا خصوص ما علم كونه من أفراد الخاص اتجه حجية العام في مورد
الشك وخرج عن محل الكلام ، لرجوعه إلى اليقين بعدم فردية مورد الشك من الخاص.
لكن ذلك إن ابتنى
على ظهور الخاص في نفسه في الاختصاص ، فهو مخالف لإطلاق دليله.
وان ابتنى على
تنزيل الخاص على ذلك في مقام الجمع بينه وبين العام ، فلا وجه له بعد فرض إطلاق
الخاص وكون الفرد المذكور كسائر أفراد الخاص موردا للتنافي بينه وبين العام
المفروض تقديمه عليه.
كما أنه لو احرز
خروج الفرد عن الخاص بدليل آخر أو بأصل فالمتجه البناء على ثبوت حكم العام على ما
يأتي الكلام فيه في ذيل الكلام في المسألة. لكنه خارج عن محل الكلام.
وربما يوجه المدعى
بوجه آخر يرجع لما تقدم ، حاصله : أن العام كسائر الأدلة إنما يكون حجة على مضمونه
المراد منه جدا ، المستكشف به باستقلاله أو بضميمة القرائن الخارجية ، ومنها الخاص
، وهو في المقام الحكم التابع للموضوع بما له من حدود مفهومية ، ولا يكون بنفسه
حجة على ثبوت الحكم للفرد ، لعدم تعرضه له بوجه ، وانما يبني على ثبوت حكمه في
الفرد لأن ذلك مقتضى طبيعة نفس الحكم المستفاد منه والمضمون المؤدى به ، الذي هو
حجة فيه ، فإن ثبوت الحكم للموضوع بضميمة تحقق الموضوع في الفرد يقتضي ثبوت الحكم
للفرد.
وحينئذ بعد فرض
كون مقتضى الجمع بين العام والخاص قصور موضوع حكم العام عن بعض أفراد عنوانه ـ وهو
الداخل في الخاص واقعا ـ واختصاصه بما عداه ، فملازمة الحكم للموضوع إنما تنفع في
إثبات الحكم للفرد بعد إحراز الموضوع الحقيقي فيه ، وهو المتحصل بعد التخصيص ، ولا
يكفي فيه إحراز عنوان العام الذي ثبت عدم كونه تمام الموضوع.
ولا مجال لقياسه
بصورة إجمال مفهوم الخاص ، لأن كلا من العام والخاص لما كان متعرضا للحكم ، وكانا
متنافيين في تحديد موضوعه ، فمع
فرض عدم حجية
الخاص في مورد الإجمال يتعين حجية العام في إحراز عموم موضوع الحكم له ، لظهوره
فيه من دون معارض ، فمع إحراز تحققه في الفرد يتعين ثبوت الحكم له.
هذا ، ويظهر من
التقريرات الاستدلال لعدم حجية العام في المقام بأن العام لا يصلح لرفع الشك في
المصداق المشتبه ، ولا يكون بيانا على خروجه عن أفراد الخاص ، لعدم سوق الكلام له
، وعدم كون بيانه وظيفة للمتكلم.
ولا يخفى أن
الاستدلال بذلك إنما يتجه بعد الفراغ عن توقف الرجوع للعام في الفرد المشتبه على
رفع الشك المذكور فيه.
وبعد تسليم ذلك لا
يظن من أحد التوقف في عدم حجية العام ليحتاج للاستدلال المذكور ، وإن كان قد يظهر
من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه نهوض العام برفع الاشتباه ، كما يأتي.
والظاهر أن عمدة
أدلة القائلين بحجية العام ترجع إلى حجيته مع بقاء الاشتباه في الفرد ، نظير حجيته
مع إجمال المخصص مفهوما ، حيث تقدم أن العام حجة وإن لم ينهض بشرح حال الخاص ،
وأنه شامل لمورد الشك أولا.
ومن ثمّ كان
الأنسب في الاحتجاج على المدعى ما ذكرنا. فلاحظ.
لكن يظهر من بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه العكس ، فقد ذكر أن العمدة في المنع عن التمسك بالعام
ما سبق من التقريرات ، وأنه لولاه تعين حجية العام في مورد الاشتباه ، لأن دليل
التخصيص لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع للحكم ، بل
يبقى عنوان العام على ما هو عليه من الموضوعية والتخصيص لا يكشف إلا عن خروج مورده
عن حكم العام ، دون أن يقتضي إضافة جزء آخر متمم للموضوع ، وذكر أن هذا هو الفرق
بين التخصيص والتقييد ، فإن تقييد الإطلاق يوجب رفع اليد عن ظهور المطلق في كون
عنوانه تمام الموضوع ، ويكشف عن كون عنوان القيد متمما لموضوع
حكم المطلق ،
بخلاف التخصيص ، فإنه لا يقتضي إلا رفع اليد عن عموم الحكم مع بقاء عنوان العام
تمام الموضوع لحكمه.
وحينئذ لا مانع من
التمسك بالعام في الفرد المشتبه بعد فرض إحراز عنوان العام فيه الذي هو تمام
الموضوع لحكمه ، وعدم إحراز خروجه بالتخصيص ، لعدم إحراز عنوانه. وإنما يتجه ذلك
في المطلق إذا ثبت تقييده وشك في دخول أفراده تحت المقيد ، لما تقدم من عدم كون
المطلق حينئذ تمام الموضوع.
وكأن مبنى الفرق
الذي ذكره بين التخصيص والتقييد على ما قد يدعى من أن أداة العموم تكشف عن كون
مدخولها الماهية المطلقة ، وحيث كان التخصيص منافيا لسريان الحكم في أفرادها تعين
حمل الخاص على الإخراج من دون أن يكشف عن إرادة الماهية المقيدة من الدخول ،
لمنافاته للأداة. أما في المطلق فاستفادة إرادة الماهية المطلقة لما كان بسبب
مقدمات الحكمة ، وكان ورود المقيد مانعا من التعويل على المقدمات المذكورة ، تعين
كشف المقيد عن إرادة الماهية المقيدة من المطلق المستلزم لدخل القيد في موضوع
الحكم.
هذا ، ولا يهم
الكلام في تمامية الفرق المذكور ، وإنما المهم تحقيق حال ما ذكره في التخصيص ،
فانه لا يخلو عن غموض.
إذ المراد
بالموضوع في كلامهم ما يكون بمنزلة العلة التامة للحكم ، بحيث يستلزمه ولا يحتاج
ثبوت الحكم معه إلى امر آخر. وحينئذ يكون الجمع بين كون عنوان العام تمام الموضوع
للحكم وعدم ثبوت الحكم لأفراد الخاص كالجمع بين النقيضين.
إلا أن يريد بكون
العام تمام الموضوع أنه تمام الموضوع العنواني بمعنى أن دليل التخصيص لا يقتضي
إضافة عنوان لموضوع الحكم غير عنوان العام يكون قيدا فيه ، بل مجرد خروج مورده
المستلزم لعدم ثبوت الحكم لتمام أفراد
الموضوع العنواني
، وعدم كونه تمام الموضوع بالمعنى الأول المتقدم منهم.
وهو حينئذ أمر
معقول في نفسه يأتي الكلام فيه في ذيل المسألة ، إلا أنه لا ينفع في حجية العام في
ما نحن فيه ، لأن إحراز الموضوع العنواني في الفرد إنما يقتضي ثبوت الحكم له إذا
احرز كونه موضوعا بالمعنى الأول المتقدم ، بحيث يثبت الحكم لجميع أفراده ـ ليترتب
معه شكل قياسي بالنحو المتقدم ـ لا في مثل المقام مما فرض فيه خروج بعض الأفراد
منه ، واحتمل كون الفرد من القسم الخارج.
ثم إنه قدّس سرّه
قد أشار في مقالاته إلى دفع الإشكال الذي ذكرناه بقوله : «كما أن مجرد كون المخصص
موجبا لتضييق دائرة حجية العام بغير ما انطبق عليه مفهومه ـ ومع الشك في مصداق
المخصص يشك في انطباق الحجة من العام عليه أيضا ـ لا يوجب رفع اليد عن العام
بالمرة ، إذ العام إنما خرج عن الحجية من جهة الشبهة الحكمية. وأما بالنسبة إلى
الشبهة الموضوعية فلا قصور للعام بعد صدقه على هذا الفرد أن يشمله ، وبالملازمة
يستكشف بأن المشكوك خارج عن مصداق الخاص ...».
وهو كما ترى!
لوضوح أن الملازمة لو كانت كافية في مثل ذلك ـ وغض النظر عما تقدم في نظير المقام
ـ فمن الظاهر أن الخروج عن مصاديق الخاص ليس ملازما لعنوان العام المفروض إحرازه
في الفرد المشتبه ، بل لحكمه المفروض الشك فيه ، وقد سبق أن العام إنما يكون حجة
على إثبات حكمه في الفرد بعد حجيته على تحديد الموضوع الواقعي للحكم ، وإحراز ذلك
الموضوع في الفرد ، وحيث كان العام قاصرا عن أفراد الخاص الواقعية ـ بمقتضى فرض
التخصيص واعترف به في الإشكال ـ لم يكن حجة في إثبات حكمه للفرد المشتبه ، ليتعدى
منه للازمه ، وهو خروجه عن مصاديق الخاص.
وبعبارة اخرى :
حجية العام في الشبهة الموضوعية فرع حجيته في الشبهة
الحكمية ، لما
تقدم من أن التمسك به في الفرد إنما هو بعد إحراز كونه من مصاديق موضوع الحكم الذي
يكون العام حجة فيه ، وحيث فرض قصور موضوع الحكم المتحصل بعد التخصيص وعدم إحرازه
في الفرد لا وجه لحجيته العام فيه على إثبات حكمه ، ليتعدى من ذلك إلى إحراز خروجه
عن الخاص بضميمة الملازمة المذكورة.
على أنه إذا كانت
حجية العام في حكم الفرد المشتبه موقوفة على إحراز خروجه عن الخاص لزم إحرازه في
مرتبة سابقة على حجيته فيه ، وإحرازه في مرتبة لاحقة بضميمة الملازمة دوري ، وإن
لم تكن موقوفة عليه فلا أهمية لإثبات نهوض العام بإحرازه بضميمتها ، لأن المهم
إنما هو إثبات الحكم في الفرد المشتبه.
وبالجملة : الظاهر
عدم الإشكال في عدم نهوض العام بإثبات خروج الفرد عن عنوان الخاص ، لعدم تعرض
العام إلا لثبوت حكمه في فرض ثبوت موضوعه ، من دون نظر لتنقيح موضوعه ، فضلا عن
تنقيح عنوان الخاص ونفيه. وعليه يبتني ما سبق من التقريرات ، وسبق أنه قدّس سرّه
قد عول عليه. ومن ثم كان كلامه في غاية الاضطراب والإشكال.
بقي الكلام في وجه
القول بحجية العام في مورد اشتباه الخاص في المقام ، فاعلم أنه قد يستدل عليه
بوجهين :
الأول
: أن الخاص إنما
يزاحم العام في ما هو حجة فيه ، وحيث لا يكون حجة في مورد الاشتباه لا وجه لرفع
اليد عن العام فيه ، إذ لا ترفع اليد عن الحجة إلا بالحجة.
ويظهر اندفاعه مما
سبق ، إذ الخاص بعد أن لم يكن مجملا كان حجة في تمام أفراده حتى ما كان منها موردا
للاشتباه ، وصالحا لمزاحمة العام فيها ، بنحو يكشف حكمه عنها بتمامها ، وحيث كان
العمل بالدليل في الفرد متفرعا على
إحراز تحقق موضوع
حكمه فيه ، لا يكفي في العمل بالعام في مورد الاشتباه إحراز عنوانه بعد أن كان
مقتضى الجمع عدم كونه تمام الموضوع للحكم ، بل لا بد من إحراز تمام الموضوع
المتحصل منه بعد الجمع ، وبعد فرض عدم إحرازه فيه لا مجال للبناء على ثبوت حكمه
فيه ، وإن لم يكن الخاص حجة فيه أيضا.
الثاني
: أن عنوان العام
مقتض لثبوت حكمه ، وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، فمع إحراز المقتضي في الفرد
المشتبه والشك في المانع يتعين البناء على عدم المانع والعمل على طبق المقتضي ،
ومرجع ذلك إلى عدم تعويل العقلاء على احتمال المانع وهو الخاص بعد إحراز المقتضي
وهو العام في المقام ، بل يبنون معه على ثبوت المعلول ، وهو حكم العام.
ويندفع بما ذكره
غير واحد من منع الكبرى والصغرى. حيث لم يتضح من بناء العقلاء عموم الرجوع لقاعدة
المقتضي ، سواء اريد بها مجرد عدم الاعتناء باحتمال المانع في مقام العمل ، أم
التعبد ظاهرا بعدمه عند احتماله ، وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد وليس منها
المقام.
كما أنه لا يطرد
كون عنوان العام من سنخ المقتضي للحكم وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، بل قد
يكون عنوان العام جزء المقتضي أو من سنخ ارتفاع المانع ، والتخصيص متضمنا بيان
المقتضي أو متممه أو شرطه.
وهو لا ينافي ما
سبق منا في وجه حجية العام في الباقي من أن العام من سنخ المقتضي للحجية والخاص من
سنخ المانع ، فإن كون دليل العام من سنخ المقتضي للحجية لا يستلزم كون عنوانه من
سنخ المقتضي للحكم ، كما لا يلزم من كون دليل الخاص من سنخ المانع من حجية العام
كون عنوانه من سنخ المانع من حكمه ، لعدم السنخية بين مقامي الإثبات والثبوت.
وحيث اتضح وجه
الاستدلال للقول بحجية العام في الشبهة المصداقية
وبعدمها يقع
الكلام في الأقوال المفصلة ، وقد أشرنا آنفا إلى أن ما قيل فيه بحجية العام من
موارد الشبهة المصداقية إما غير تام أو خارج عنه حقيقة.
ومن ثم يتعين
النظر في الأقوال المفصلة وفي أدلتها.
فاعلم أن النظر في
كلماتهم يشهد بعد التأمل بتداخل التفصيلات في كلماتهم ، حيث قد يظهر منهم
الاستدلال والتمثيل لكل منها بما يناسب الآخر. ولعل الأولى إرجاعها إلى وجوه أربعة
..
الأول
: ما يظهر من
التقريرات في عنوان كلامه ـ وإن لم يناسبه تمامه بلحاظ الأمثلة ووجه الاستدلال ـ من
أن الخاص إذا كان عنوانيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن لم يكن عنوانيا
كان العام حجة فيه.
وتوضيح ذلك أن
الخاص ..
تارة : يكون مسوقا
لبيان دخل عنوانه في الحكم ، بحيث يكون ثبوته للأفراد من حيثيته. كما هو الظاهر في
العنوان الذي له منشأ انتزاع في الخارج كالعالم والجار ونحوهما ، دون مثل (هؤلاء)
مما يحكى عن الأفراد رأسا.
واخرى
: يكون مسوقا لمحض
الحكاية عن الأفراد والإشارة إليها مع كونها بخصوصياتها المتباينة موضوعا للحكم ،
سواء كانت الأفراد جزئيات خارجية ، كما لو سبق من المتكلم ذكر مجموعة أشخاص
للمخاطب ، ثم قال : لا تكرم من سبق ذكره ، لوضوح أن سبق الذكر لا دخل له في الحكم
، أم عناوين كلية ، كما في قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، لوضوح أن موضوع التحريم هو العناوين الخاصة من الخنزير
والميتة وغيرهما بخصوصياتها المتباينة ، لا بعنوان كونها مما يتلى.
أما الأول فمقتضاه
ثبوت الحكم لعنوانه المستلزم لقصور حكم العام عن
__________________
مورده تبعا لقصور
موضوعه عنه ، من دون فرق بين أن يكون العام عنوانيا وأن يكون غير عنواني.
ولازم ذلك امتناع
الرجوع للعام في مورد الشك في الخاص ، لعدم إحراز موضوع حكمه ، كما تقدم. من دون
فرق في ذلك بين أن يكون العنوان دخيلا في الملاك ثبوتا ، وأن يكون ملازما لعنوان
آخر هو الدخيل فيه لا يتيسر تشخيصه من غير طريقه ، لأن الفرق المذكور لا يوجب
الفرق في إناطة الحكم بالعنوان في مقام الاحتجاج والإلزام ، إذا إناطة الحاكم حكمه
بالعنوان إنما هو لتحديد مورد الملاك ، وهو حاصل في المقام.
نعم ، لو صرح بأن
ذكر العنوان إنما هو لملازمته لعنوان أو عناوين أخر لم يبعد ظهور حاله في إناطة
الحكم بذلك العنوان أو العناوين الأخر على إجمالها.
لكن حيث كان الشك
في العنوان المذكور ملازما للشك الذي هو موضوع الحكم جرى فيه ما سبق من لزوم
التوقف عن العام في مورد الشك في عنوان الخاص ، لعدم الفرق بينهما في الجهة
المتقدمة.
نعم ، قد يظهر
الفرق بينهما عند الرجوع للاصول الموضوعية ، حيث يلزم هناك تنقيح الأصل للعنوان
المذكور في دليل التخصيص ، وهنا تنقيحه للعنوان الآخر على إجماله ، وهو خارج عن
محل الكلام. فتأمل.
وأما الثاني فهو
حجة على ثبوت الحكم للأفراد المتعددة بخصوصياتها المستلزم لتخصيصات متعددة بعدد
الأفراد تبعا لتعدد الخصوصيات التي لا يثبت حكم العام معها. ولازم ذلك أن يرجع
الشك في انطباق عنوان الخاص على بعض الأفراد إلى الشك في تخصيص العام بذلك الفرد
بخصوصيته استقلالا زائدا على التخصيص بالأفراد المعلومة ، من دون فرق بين أن يكون
العام بنفسه عنوانيا وكونه غير عنواني ، فيتعين حجية العام فيه بعد فرض عدم حجية
الخاص فيه ، لأصالة العموم مع الشك في زيادة التخصيص بلا إشكال.
وبعبارة اخرى :
وضوح العنوان مفهوما لا أثر له بعد فرض عدم كونه بنفسه موردا للتخصيص ، وإنما
المهم وضوح أفراده التي هي مورد التخصيص ، والتي سبق لمحض الحكاية عنها ، ومع فرض
الاشتباه في بعضها وعدم المنجز للفرد المشتبه من غير طريق العنوان يتعين الرجوع
فيه لأصالة العموم.
فهو في الحقيقة
خارج عن محل الكلام من الشك في مصداق الخاص إلى الشك في مقدار التخصيص.
ودعوى : أن ظاهر
حال الحاكم أنه أو كل تشخيص موضوع حكمه إلى المكلف ، فمع فرض تقييده بقيد لم يحرزه
المكلف في مورد الاشتباه لا مجال لإحرازه الحكم.
مدفوعة : بأنه بعد
فرض دوران القيد بين الأقل والأكثر ، وكون نفي الزائد مقتضى أصالة العموم يحرز
موضوع الحكم في مورد الاشتباه ، فيحرز الحكم بتبعه.
ومن هنا كان
الظاهر تمامية التفصيل المذكور. لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام حقيقة وإن أوهمه.
هذا ، وقد احتج
عليه في التقريرات بما يناسب التفصيل الثاني الذي يأتي الكلام في وجهه.
الثاني
: أنه إذا كان
العام ظاهرا في إحراز عنوان المشتبه ـ المفروض إناطة الحكم به زائدا على عنوان
العام ـ في تمام أفراده تبعا لتحقق الحكم فيها كان حجة في الفرد المشتبه وتعين
البناء على ثبوت حكمه فيه ، وإن لم يكن ظاهرا في ذلك تعين عدم حجيته في الفرد
المشتبه والتوقف عن ثبوت حكمه فيه.
وتوضيح ذلك : أنه
لما كان ظاهر العام بدوا ثبوت حكمه في تمام أفراده ، كان مقتضاه بدوا ثبوت تمام ما
يتوقف عليه الحكم من الملاك وما يستلزمه فيها ، فإذا قال المولى : أكرم كل من يدخل
بيتي ، وعلم من الخارج توقف وجوب
الإكرام بنظره على
العلم والعدالة كان ظاهر العموم المتقدم كون كل من يدخل بيته عالما عادلا ، كما
يكون مقتضاه تمامية ملاك وجوب الإكرام في جميعهم ، ومقتضاه عدم التنافي بينه وبين
ما دل على اعتبار العلم والعدالة في من يجب إكرامه.
لكن البناء على
ذلك مما لا يمكن في أكثر عمومات الأحكام ـ الشرعية وغيرها من الأحكام العامة في
القوانين ونحوها ـ مع أدلة اعتبار بعض الامور في موضوعاتها ، لوضوح غلبة عدم
التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في العمومات والعناوين المأخوذة في تلك
الأدلة ، بنحو لا مجال عرفا معه لحمل العام على تحقق تلك الأمور والعناوين في
أفراده ، بل يتعين البناء على التنافي بين الدليلين.
ومن ثمّ يبنى على
أن أدلة اعتبار تلك الامور في حكم العام مخصّصة للعام وكاشفة عن أن المراد الجدي
بالعام إثبات حكمه في بعض أفراد موضوعه أو أحواله ، وهو مورد تحقق ما دلت تلك
الأدلة على اعتباره في الحكم. ومرجعه إلى اختصاص موضوع حكم العام بصورة تحقق ذلك
الشيء.
ولذا تقدم منا في
الاستدلال للمدعى أن إحراز عنوان العام في الفرد لا يكفي في جريان حكمه فيه ، بل
لا بد من إحراز موضوعه الحقيقي المتحصل منه بعد الجمع بينه وبين الخاص.
لكن كثيرا ما يكون
ظاهر العام ـ في القضايا الشرعية وغيرها ـ تحقق ذلك الأمر المعتبر في الحكم في
تمام أفراد ، وأنه ملازم لعنوان العام كحكمه ، لعدم المانع من ذلك بسبب عدم وضوح
الانفكاك بينهما عند العرف. بل لا إشكال في دلالته على ذلك لو كان ذلك الأمر ظاهر
الملازمة للحكم عقلا ، كالملاك ، أو عرفا ، كالطهارة اللازمة عرفا وارتكازا
للمطهرية ، حيث يكون وضوح لزومها فيها مستلزما لدلالة عموم مطهرية الشيء على عموم
طهارته ، فيما لو لم يتضح
عدم التلازم
بينهما ، على ما فصلنا الكلام فيه في مباحث المياه من الفقه.
وفي مثل ذلك لا
مجال لدعوى تقييد موضوع حكم العام بصورة وجود ذلك الشيء ، إذ لا معنى للتقييد به
مع الحكم بوجوده تبعا لعموم الحكم الملزوم له ، بل يكون مقتضى عمومه ثبوته في تمام
أفراده ، حتى أنه لو فرض عدم ثبوته في فرد كان منافيا للعموم المذكور وكاشفا عن
تخصيص موضوع حكم العام بالإضافة إلى ذلك الفرد بخصوصيته.
ومثل ذلك ما لو
كان المستفاد من العام ـ بنفسه أو بقرائن خارجية ـ أنه وارد لتحديد مفهوم ذلك
الأمر المعتبر في الحكم أو مصداقه أو بيان مورده ، وأن ما تضمنه من جعل الحكم
مترتب على ذلك ومتفرع عليه.
فالأول : مثل ما
لو دل الدليل على جريان حكم التوارث بالشهادتين ، ودل آخر على اعتبار الاسلام فيه
، حيث يفهم من الأول أن مفاد الشهادتين مطابق لمفهوم الإسلام ، وأن الدليل الأول
شارح لموضوع الثاني.
والثاني : ما دل
على ترك المرأة الصلاة إذا رأت الدم ثلاثة أيام مع ما دل على اعتبار الحيض في جواز
ترك الصلاة ، حيث يفهم من الأول تحديد مصاديق الحيض ، وأنها تتحقق بالدم المذكور.
والثالث : مثل ما
لو دل الدليل على الأمر بلعن بني أمية قاطبة مع ما دل على حرمة لعن المؤمن ، حيث
يستفاد من الأول أنهم مستحقون للعن ، لأنهم غير مؤمنين.
وفي جميع ذلك لا
ينبغي التأمل في عدم التنافي بين الدليلين ، ليكون أحدهما مخصصا للآخر ، بل يكون
العام واردا على الآخر ومنقحا لموضوعه.
ولو فرض ثبوت عدم
تحقق ذلك الأمر ـ المعتبر في الحكم ـ في بعض أفراد العام المستلزم لعدم ترتب حكمه
ـ كما لو ثبت كفر منكر الضروري ، وإن شهد الشهادتين ، وعدم حيضية الدم المستمر
ثلاثة أيام إذا لم يفصل بينه وبين
الحيض السابق عشرة
، أو إيمان بعض بني أمية المعين ـ لم يرجع إلى تخصيص عموم العام بصورة وجوده ـ بأن
يبنى في الأمثلة المتقدمة على تخصيص عموم جريان حكم التوارث بالشهادتين بما إذا
كان قائلهما مسلما ، وعموم ترك الصلاة مع استمرار الدم ثلاثة أيام بما إذا كان
حيضا ، وعموم الأمر بلعن بني أمية بما إذا لم يكونوا مؤمنين ـ لأن ذلك خلاف فرض
سوق العموم لبيان وجوده.
بل لا بد من
البناء على تخصيص العموم المذكور بذلك الفرد بخصوصيته ، فيبنى مثلا على تخصيص عموم
إسلام من أقر بالشهادتين المستفاد من عموم جريان حكم التوارث معهما بغير منكر
الضروري ، وتخصيص عموم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام المستفاد من عموم ترك الصلاة
معه ، بما إذا فصل بينه وبين الحيض السابق عشرة أيام ، وتخصيص عموم عدم إيمان بني
امية المستفاد من الأمر بلعنهم بغير الشخص الخاص الذي ثبت إيمانه.
ومنه يظهر أن
المرجع مع الشك في حال بعض أفراد العام المذكور وأنه واجد للأمر المفروض اعتباره
في الحكم أو فاقد له هو عموم ذلك العام ، لصلوحه لأن يكون بيانا على ثبوته فيه
اقتصارا في تخصيصه على الفرد المتيقن عدم ثبوته فيه ، لما ذكرناه من كون التخصيص
به بخصوصيته لا بعنوانه المشكوك ثبوته في الفرد الآخر. ومن هنا يتم التفصيل
المذكور.
لكنه ليس تفصيلا
في محل الكلام ، لعدم الشك في دخول الفرد تحت عنوان يعلم بتخصيص العام بالإضافة
إليه ـ كما هو محل الكلام ـ بل في التخصيص بالفرد بخصوصيته زائدا على التخصيص
المتيقن الذي لا إشكال في حجية العام معه ، وصلوحه لأن يكون بيانا لجهة الشك
وإحراز ما يعتبر في الحكم.
وكأن بعض الأعاظم
قدّس سرّه نظر إلى ما ذكرنا حين ذكر أن الشك إذا كان في
الملاك كان العام
صالحا لبيان ثبوته في تمام أفراده ، فلا يعتنى بالشك في ثبوته في بعضها ، بل يتمسك
فيه بعموم الحكم ، وأن ذلك ليس من صغريات محل الكلام ، لعدم كون الملاك قيدا في
موضوع الحكم ، ليكون الشك فيه شكّاً في المخصص.
ولعله لذا مثل له
بمثال اللعن المتقدم ، مع وضوح أن ذلك ليس من الشك في الملاك ، فإن عدم الإيمان
ليس ملاكا لجواز اللعن ، بل موضوع له كما ذكره بعض مشايخنا. غايته أنه الموضوع
الذي يستفاد من العام بيان مورده ، أو مما يستفاد من العام ثبوته للملازمة الذهنية
بينه وبين حكمه نظير ملازمة المطهرية للطهارة.
الثالث
: ما ذكره غير واحد
من أن المخصص إن كان لفظيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن كان لبيا كان
العام حجة فيه.
وربما نسب ذلك
للتقريرات. لكن ما في التقريرات ظاهر في إرادة التفصيل الأول. غاية الامر أنه ذكر
أن أغلب ما يكون المخصص عنوانيا إذا كان لفظيا ، وأغلب ما يكون غير عنواني إذا كان
لبيا. وهو أمر آخر غير التفصيل في حجية العام بين المخصص اللفظي واللبي ، الذي نحن
بصدده.
على أنه غير ظاهر
، وإنما الذي يكثر في المخصص اللبي إجمال مورد التخصيص وتردده مفهوما بين الأقل
والأكثر أو نحوهما.
وكيف كان ، فقد
استدل عليه بوجوه ..
أحدهما
: ما ذكره المحقق
الخراساني من أن المخصص إذا كان لفظيا فقد ألقى المولى حجتين يجب اتباع كل منهما ،
وحيث كان مقتضى الجمع بينهما تقديم الخاص بنحو يكشف عن عدم إرادة مورده من العام
وقصور موضوع حكم العام عنه لزم التوقف في مورد الشك ، لعدم العلم بدخوله في ما
اريد من العام.
أما إذا كان
المخصص لبيا فالملقى من المولى ليس إلا العام الظاهر في إرادة العموم بتمامه ، فلا
بد من اتباعه إلا فيما يعلم بعدم إرادته منه ، لأن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق
غرضه ومرامه.
واليقين بعدم
إرادة الخاص إنما يكون حجة فيما يعلم باضافة عليه وخروجه عن العام.
ويشكل : بأن مجرد
الفرق بين المخصصين بإلقاء اللفظي من قبل المولى دون اللبي لا يصلح فارقا بعد
اشتراكهما في صحة احتجاج المولى بهما على العبد ، وفي الكشف عن مراده من العام ،
وأنه يقصر عن موردهما وعن تمام أفرادهما الواقعية التي يحتمل كون الفرد المشتبه
منها ، حيث سبق منا ومنه أن ذلك هو المعيار في عدم حجية العام في الفرد المذكور ،
وإن كان الخاص غير حجة فيه أيضا ، لعدم إحراز موضوعه.
وما ذكره في وجه
التمسك بالعام في الفرد المذكور مع المخصص اللبي من أن على الحكيم إلقاء كلامه على
وفق غرضه ومرامه إنما ينفع لو لم ينكشف بالخاص مخالفة ظهور العام لمراده ، وقصوره
عن أفراد الخاص الواقعية ، كما ذكرنا.
إلا أن يرجع إلى
ما ذكرناه في التفصيل الثاني من أن ظاهر العام بدوا لما كان هو ثبوت حكمه في تمام
أفراده كان مقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم فيها ، من دون أن يكون موضوعه
مقيدا بها ، فإذا شك في ثبوت بعض ما يعتبر في الحكم في بعض الأفراد لزم البناء على
ثبوته وترتب الحكم عليه ، عملا بعموم العام ، واقتصارا في الخروج عنه على ما علم
بفقده لشيء مما يعتبر في الحكم.
وقد يناسبه قوله
قدّس سرّه بعد ذلك : «بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما
علم بخروجه عن حكمه ، فيقال في مثل : لعن الله
بني أمية قاطبة :
إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه ، لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون
مؤمنا ، فينتج : انه ليس بمؤمن».
وبما تقدم يظهر
حال ذلك ، وأنه لو تم يجري في المخصص اللفظي ، كالأمثلة المتقدمة ، ومنها المثال
الذي ذكره ، لوضوح أن عدم جواز لعن المؤمن يستفاد بالمطابقة والالتزام من الأدلة
اللفظية المتضمنة تحريم لعن غير المستحق ، وسب المؤمن ، وتعييره وتأنيبه ، وإيذائه ، وإهانته ، وإذلاله واحتقاره ، والطعن عليه وغير ذلك ، مما
يتضمن حرمة نفسه وعرضه.
كما أن لعن
المعصوم أو أمره باللعن في حق شخص يفيد بالملازمة عدم إيمانه ، كافادة دليل
المطهرية الطهارة أو نحو ذلك مما تقدم.
وحينئذ يتعين ألا
يكون عدم الإيمان قيدا لموضوع العموم المذكور ـ ليكون مما نحن فيه ـ بل العموم منقح
له ، فلو ثبت إيمان بعضهم كان التخصيص به بخصوصيته ، ورجع احتمال إيمان غيره إلى
احتمال زيادة التخصيص المدفوع بأصالة العموم ، وخرج عن محل الكلام ، وهو الشك في
مصداق الخاص المحدد المفهوم.
ولو لا ذلك لم
يتجه التمسك بعموم اللعن حتى لو كان دليل حرمة لعن المؤمن لبيا ، وتم التفصيل
المذكور ، لأن حرمة لعن المؤمن من الوضوح في
__________________
ارتكازيات
المتشرعة بنحو تلحق بالتخصيص المتصل المانع من انعقاد ظهور العام في العموم ، فلا
يصح التمسك معه بالعموم في مورد الشك مطلقا ، وإن كان المخصص لبيا ، كما اعترف به
قدّس سرّه وأشرنا إليه في أول هذا الفصل.
ثانيها
: ما حكاه بعضهم عن
التقريرات من أن إلقاء المولى للخاص اللفظي كاشف عن أنه أحال معرفة أفراده وتمييزها
عن بقية أفراد العام على المخاطب ، فلا يكون دخول المشكوك في الباقي تحت العام
بأولى من دخوله في الخاص الخارج عنه ، وأما إذا كان الخاص لبيا فالمتكلم لم يلق
لبيان حكمه إلا حجة واحدة ، وهي العام ، وظاهره أنه بصدد بيان مصاديق حكمه بنفس
عنوان العام وأنه كلما يصدق عليه فهو محكوم بحكمه ، وأنه ليس في أفراده عنوان مناف
لحكمه ، فيكون حجة في كل ما لم يعلم بخروجه من الأفراد.
وفيه : أنه إن
استفيد من العام بعد الجمع بينه وبين الدليل الدال على اعتبار شىء ما في موضوع
حكمه كون أفراد العام واجدة لذلك الشيء ، فلا تنافي بين العام وذلك الدليل ، ليكون
مخصصا له ، بل يكون العام واردا عليه ومنقحا لموضوعه.
وحينئذ يتجه
التمسك بالعام في الفرد المشكوك واجديته للأمر المعتبر في الحكم وإن كان الدال على
اعتبار ذلك الشيء لفظيا ، لأن ظاهر حال المتكلم في الدليل اللفظي وإن كان هو
الإحالة على المخاطب في معرفة أفراده وتمييزها ، إلا أنه يكفي المخاطب الرجوع
للعام المذكور في التمييز بعد فرض نهوضه به.
على أن الإحالة
على المخاطب في تشخيص موضوع الخاص إنما هو لترتيب حكمه ، لا لترتيب حكم العام ،
فلا ينهض برفع اليد عن ظهور العام المفروض قطعا.
وإن لم يستفد من
العام بعد الجمع ذلك ، بل لا ظهور للعام إلا في كون
عنوانه تمام موضوع
الحكم ، كان الدليلان متنافيين ، وبعد فرض تخصيص العام بذلك الدليل يقصر عن أفراد
الخاص الواقعية ، فلا يصح التمسك به فيما احتمل كونه منها وإن كان ذلك الدليل لبيا
، لما تقدم من أنه يكشف أيضا عن قصور موضوع حكم العام وتقييده بغير أفراده.
فليس معيار الفرق
بين الأمرين كون الخاص لفظيا وكونه لبيا ، بل ما تقدم في التفصيل السابق.
ويأتي في الوجه
الثالث تقريب عدم نهوض العام بنفي المنافي لحكمه في أفراده ، كما يأتي أن لازم ذلك
عدم التمسك بالأصل الموضوعي المنقح لعنوان الخاص.
ثالثها
: ما ذكره بعض
المحققين قدّس سرّه من أن العام لما كان دالّا على ثبوت حكمه الفعلي لأفراده ، دون
الاقتضائي ، كان دالّا بالملازمة على عدم منافاة أي عنوان تتصف به أفراده لحكمه ،
وعلى عدم وجود العناوين المنافية له فيها.
وحينئذ يكون الخاص
اللفظي منافيا له في الأمرين معا ، فهو يدل بالأصل على كون عنوانه منافيا لحكم
العام ، ويدل تبعا على كون العنوان المذكور موجودا أو متوقعا بين الأفراد وإلا كان
بيانه عبثا ، لعدم الفائدة ، وحيث فرض تقديم الخاص لزم رفع اليد به عن دلالة العام
على كلا الأمرين ، فلا رافع للشك في الفرد المشتبه ، أما الخاص اللبي فهو ينافي
العام في الأمر الأول ، لمشاركته للفظي في الدلالة على عدم ثبوت حكم العام مع
عنوانه ، دون الثاني ، لعدم كونه ملقى من المولى ، ليكون إلقاؤه مع عدم وجوده أو
توقعه عبثا منه ، بل هو حاصل بسبب إدراك المنافاة بين حكم العام وعنوان الخاص وإن
لم يكن موجودا في أفراد العام. فيبقى العام حجة في الدلالة على عدم وجود المنافي
لحكمه في أفراده ، فيرتفع به الشك في الفرد المشتبه ويحرز به خروجه عن الخاص ،
المستلزم لثبوت حكم العام له.
ويشكل : بأن العام
في الشرعيات حيث كان غالبا أو دائما بنحو القضية الحقيقية كان مفاده نفي منافاة كل
عنوان يمكن طروؤه على أفراده لحكمه وإن لم يوجد ولا يتوقع فيها ، لأن موضوع القضية
الحقيقية لما كان هو العنوان بما له من أفراد موجودة أو فرضية فمقتضى عموم العام
ثبوت الحكم لأي فرد يفرض وإن اتصف بالعنوان غير المتوقع ، المستلزم لعدم منافاة
العنوان المذكور لحكم العام. ولا مجال مع ذلك لدلالته على نفي العنوان المنافي
لأفراده ، حيث لا منافي حتى يدل على انتفائه فيها. وإنما يثبت المنافي بالخاص
الكاشف عن عدم مطابقة ظهور العام للواقع ، وأن موضوع حكمه ليس مطلق عنوانه ، بل
خصوص الحصة الفاقدة لعنوان الخاص منه ، وحينئذ لا مجال للرجوع إليه في الفرد
المشتبه ، لعدم احراز موضوع حكمه فيه وعدم الرافع لاشتباهه بعد ما ذكرناه من عدم
نهوض العام بنفي المنافي لحكمه عن أفراده.
وأما القضية
الخارجية فهي لا تدل على عدم منافاة كل عنوان لحكم العام ، بل عدم منافاة خصوص
العناوين الموجودة في الأفراد ، فإذا فرض العلم بوجود العنوان الخاص ولو في فرد
واحد لم يكن للعام ظهور في نفسه عن بقية الأفراد ، لا بنفسه مع قطع النظر عن الخاص
، ولا بعد الجمع بينه وبين الخاص ، لأن مقتضاه في نفسه عدم منافاة العنوان المذكور
لحكمه ـ لان مقتضاه ثبوت حكمه للفرد الواجد له ـ فلا ينهض بنفيه عن بقية الأفراد ،
ومقتضاه بعد الجمع قصور موضوعه عن الحصة الواجدة للعنوان من دون نظر لتعيينها.
وإن فرض عدم العلم
بوجود العنوان في فرد فقد يكون مقتضى العموم عدم وجود العنوان على تقدير منافاته
المفروض ثبوتها بالدليل الآخر. وحينئذ يخرج ذلك الدليل عن كونه مخصصا ويخرج عن محل
الكلام على ما يتضح في التفصيل الرابع إن شاء الله تعالى.
وهو غير مهم في
محل الكلام ، لما ذكرناه من أن العمومات الشرعية بنحو
القضية الحقيقية
التي ذكرنا عدم دلالة العموم معها على نفي العنوان المنافي ، بل على عدم منافاة أي
عنوان يفرض.
هذا ، ولو غض
النظر عن ذلك ، وسلم ما ذكره من دلالة العام على عدم وجود المنافي في أفراده ،
ومنافاة الخاص اللفظي له دون اللبي ، لأشكل الاستدلال بذلك على التفصيل المذكور ..
تارة : بأن ظهور
الخاص اللفظي في وجود المنافي بين أفراد العام حيث كان لدفع محذور العبث واللغوية
فهو مختص بما إذا كان الخاص أخص مطلقا ، دون ما لو كان أخص من وجه ـ وفرض تقديمه
على العام ـ إذ يكفي في رفع اللغوية حينئذ وجوده في الأفراد الأخر الخارجة عن
العام ، فلا يعارض العام في الدلالة على عدم وجوده في أفراده ، مع عدم الفرق عندهم
ظاهرا بين نوعي الخاص المذكورين في محل الكلام.
واخرى : بأن دلالة
الخاص المطلق على وجود المنافي بين أفراده لما كان بمعنى وجوده فيها في الجملة ،
لا في تمامها ، تعين الاقتصار فيه على المتيقن ، ولم يرفع به اليد عن حجية العام
في الدلالة على عدم وجود المنافي بالإضافة إلى الفرد المشتبه لو زاد على المتيقن.
ولو فرض عدم التفكيك في حجية العام بين الأفراد ، لابتنائها على الارتباطية فلا
وجه لتقديم الخاص على العام في الدلالة على وجود المنافي بين أفراده ، لاستحكام
التعارض بينهما حينئذ بعد امتناع الجمع العرفي بالتخصيص.
على أنه لو سلم
تقديم الخاص حينئذ وسقوط الخاص رأسا عن الحجية لزم رفع اليد عن العام في الدلالة
على عدم وجود المنافي بين أفراده لو علم بوجود المنافي فيها في الجملة ، ولو كان
المخصص لبيا ، واختص هذا الوجه بما إذا لم يعلم بوجود عنوان الخاص اللبي أصلا في
أفراد العام.
وثالثة
: بأن لازم ذلك عدم
الرجوع في المخصص اللبي للأصل
الموضوعي المنقح
لكون المشتبه واجدا لعنوان الخاص ومحكوما بحكمه ، لكون الأصل المذكور محكوما للعام
المفروض نهوضه بنفي عنوان الخاص في أفراده ، ولا يظن منهم البناء عليه.
رابعها
: ما ذكره سيدنا
الأعظم قدّس سرّه من أنه إذا كان المخصص لفظيا فحيث كان موضوع الحجية فيه مدلوله
بماله من مفهوم محدود فالفرد المشتبه يحتمل كونه موضوعا للحجة على خلاف العام بسبب
احتمال انطباق مفهوم الخاص وعنوانه عليه.
أما إذا كان لبيا
فحيث كان المخصص فيه هو العلم امتنع حصوله في الفرد المشتبه ، للتضاد بين العلم
والشك ، وبذلك يكون الفرد المشتبه معلوم الخروج عن الحجة المخالفة للعام ، فتتعين
حجية العام فيه ، لانفراده فيه.
وفيه .. أولا :
أنه حيث كان المفروض في محل الكلام ورود التخصيص على العنوان ، لا على الفرد
ابتداء فاحتمال دخول الفرد المشتبه في موضوع الحجية في المخصص اللفظي ليس لاحتمال
حجية المخصص فيه ابتداء ، بل لكون المخصص بيانا وحجة على العنوان المحتمل انطباقه
على الفرد المذكور ، ومثل هذا جار في المخصص اللبي إذا كان عنوانيا.
وثانيا
: أن منشأ سقوط
العام عن الحجية في الفرد المشتبه ليس هو احتمال دخوله في موضوع الحجة ، إذ لا
يتجه رفع اليد عن الحجة في مورد لاحتمال دخوله في حجة أخرى معارضة لها ، بل يتعين
العمل بالحجة ما لم يثبت المعارض ، وانما المنشأ له هو صلوح الخاص لبيان المراد من
العام عرفا ، بحيث يكشف عن قصوره عن الأفراد الواقعية للخاص ، فلا يحرز دخول الفرد
المذكور في المراد الواقعي منه.
وإن شئت قلت :
العام والخاص ليسا متعارضين في الأفراد ابتداء ، وإلا تعين تقديم العام في الفرد
المشتبه ، بل هما متعارضان في تعيين مراد المتكلم
من العموم ، وحيث
كان مقتضى الجمع بينهما حمل العام على ما عدا الخاص لا يحرز تحقق موضوع الحجية في
الفرد المشتبه ، وذلك كما يجري في المخصص اللفظي يجري في المخصص العنواني اللبي.
وقد تحصل من جميع
ما تقدم عدم تمامية التفصيل بين المخصص اللفظي واللبي.
ولعل نظر المفصلين
إلى ما إذا كان العام بيانا لحال أفراده ، وأنها خارجة عما دل الدليل اللبي على
منافاته لحكم العام من دون أن يكون انتفاؤه قيدا في موضوعه ، كما يناسبه بعض
أمثلتهم والوجهان الثاني والثالث للاستدلال على التفصيل المذكور. مع الغافلة عن أن
ذلك خارج عن محل الكلام ، حيث لا يكون الدليل اللبي مخصصا بالإضافة إلى العنوان
المحتمل انطباقه على الفرد ، بل لو كان هناك تخصيص كان موضوعه الفرد بخصوصيته ،
وليس العنوان إلا مرآة للأفراد ، أو جهة تعليلية للتخصيص بالإضافة إليها ، ويكون
مرجع الشك في انطباقه على الفرد إلى الشك في زيادة التخصيص بالإضافة إليه ، الذي
لا إشكال معه في حجية العام. كما يتضح بملاحظة ما تقدم.
الرابع
: من التفصيلات في
المقام : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
وبيانه ، أنه تارة
: يكون العام والخاص بنحو القضية الحقيقية.
واخرى : يكونان
بنحو القضية الخارجية.
وثالثة : يكون
العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.
ورابعة : بالعكس.
فلا يجوز التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية في الصور الثلاث الاول ، للتكاذب بين العام والخاص ،
بسبب العلم بكون أفراد الخاص أفرادا للعام ، فيلزم الجمع بينهما ، وحيث فرض أن
الجمع بتقديم الخاص والبناء على
اختصاص موضوع
العلم بما عدا مورده امتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، لعدم إحراز دخوله في
موضوع حكم العام وإن كان واجدا لعنوانه ، على ما تقدم مكررا.
أما في الصورة
الرابعة فلا يعلم بالتكاذب بينهما لإمكان كون تمام أفراد العام الخارجية غير متصفة
بعنوان الخاص ، فلا ملزم بالخروج عن ظاهر العام ، بل يجعل دليلا على عدم انطباق
الخاص على أفراده.
لكن ما ذكره من
عدم التكاذب في الصورة الرابعة انما يتم مع عدم العلم باتصاف بعض أفراد العام
بعنوان الخاص ، أما مع العلم باتصاف بعضها به وتردده بين الأقل والأكثر فلا بد من
التكاذب بين الدليلين ، فيجري فيه ما يجري في بقية الصور.
كما أن ما ذكره من
التكاذب في الصور الثلاث الاول إنما يتم في الخاص المطلق مفهوما ، كما لو ورد :
أكرم العلماء ، و : لا تكرم النحويين. أما في الخاص من وجه المفروض التقديم في
مورد الاجتماع ـ كما لو ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم الفساق ، وفرض تقديم
الثاني في مورد الاجتماع وتخصيصه الأول ـ فقد لا يعلم بالتكاذب بين الدليلين ،
لإمكان مباينة أفراد العام الخارجية لأفراد الخاص لو كانا معا بنحو القضية
الخارجية ، وملازمة عنوان أحدهما لعدم الآخر في الخارج ـ ولو اتفاقا ـ لو كانا
بنحو القضية الحقيقية ، وعدم اتصاف شيء من أفراد الخاص الخارجية بعنوان العام لو
كان العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.
ومن الظاهر عدم
الفرق في محل الكلام بين الخاص المطلق والخاص من وجه المفروض التقديم على العام.
وعليه يبتني دخول الصورة الرابعة في محل الكلام ، لوضوح أن الخاص فيها لما كان
بنحو القضية الحقيقية الشاملة لأفراد عنوانه الفرضية يكون أعم من وجه من العام
المختص بأفراد عنوانه
الخارجية.
ودعوى : أن ذلك
خارج عن فرض العموم والخصوص حتى من وجه ، لرجوع الاحتمال المذكور إلى احتمال
التباين الموردي ، الذي لا تنافي معه بين الدليلين.
مدفوعة : بأن فرض
العموم والخصوص في المقام إنما هو بلحاظ مفهوم كل من العنوانين ، لا بلحاظ الخارج
، وإلا لم يتجه فرضه في الصورة الرابعة ، لأن احتمال عدم اتصاف شيء من أفراد العام
الخارجية بعنوان الخاص فيها مساوق لاحتمال التباين الموردي بين الدليلين وعدم
التنافي بينهما أيضا.
وبالجملة : مجرد
كون القضية حقيقية أو خارجية لا يصلح بنفسه معيارا في التكاذب بين الدليلين وعدمه
اللذين يبتني عليهما التفصيل المذكور.
نعم ، ذكرنا في
أول التفصيل الثاني أن العام لما كان ظاهرا بدوا في ثبوت حكمه لتمام أفراده
فمقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم في جميعها ، المستلزم لعدم التنافي بينه وبين
دليل اعتبار ذلك الشيء في الحكم ، بل يكون واردا على ذلك الدليل ومحرزا لثبوت
موضوعه في أفراد العام ، فإذا قال : أكرم كل من يدخل بيتي ، وقال : لا يكرم الفاسق
، يكون مقتضى الأول أن كل من يدخل بيته غير فاسق ، فلا ينافي الثاني ، بل يكون
واردا عليه.
كما ذكرنا هناك
أنه لا مجال للبناء على ذلك في غالب عمومات الأحكام الشرعية ونحوها من الأحكام
العامة ، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في عمومات الأحكام
المذكورة والامور المستفاد من الأدلة الأخر دخلها في تلك الأحكام ، بل لا بد من
البناء على التنافي بين الدليلين والجمع بينهما بالتخصيص أو غيره ، إلا في بعض
الموارد التي ذكرنا بعض الضوابط لها في ما تقدم فراجع.
أما عمومات
الأحكام غير العامة فقد يمكن فيها ذلك ، من دون فرق بين
أن تكون بنحو
القضية الخارجية ، كما لو قال : أكرم من في الدار ، أم الحقيقية ، كما لو قال :
أكرم من اجالسه ، حيث لا مجال للبناء على تخصيصهما بمثل : لا يكرم الفاسق ، مع
احتمال أن كل من في الدار ليس بفاسق ، وأنه لا يجالس الفاسق ، بل حيث لا يحرز
التنافي بين العمومين المذكورين وذلك الدليل يتعين العمل بالعمومين في تمام
أفرادهما ، ويكونان دليلا على عدم اتصاف شيء منها بالفسق.
غاية الأمر أن
الحكم في القضية الخارجية لما لم يكن عاما بسبب انحصار موضوعه بالأفراد الموجودة
فكثيرا ما يتجه فيه ما سبق ، بخلاف الحكم في القضية الحقيقية ، فإنه كثيرا ما يكون
عاما فلا يتجه فيه ما سبق.
كما أنهما يفترقان
فيما لو علم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص ، الذي يعلم معه بتخصيص العام في
الجملة وعدم بقائه على عمومه ، حيث لا مجال غالبا لاحتمال تخصيص العام لو كان بنحو
القضية الحقيقية بالإضافة لخصوصيات الأفراد المتصفة بعنوان الخاص ، لعدم انحصارها
، بل يكون التخصيص بالإضافة لعنوان الخاص الجامع لها على ما هي عليه من الكثرة
وعدم الانحصار ، فيمتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، لما تقدم.
نعم ، لو كانت
الأفراد المذكورة قليلة منضبطة فالأمر كما لو كان العام بنحو القضية الخارجية
المنحصرة الأفراد ، التي كثيرا ما يتجه فيها احتمال التخصيص بالإضافة لخصوصيات
الأفراد ، ويكون عنوانها المنافي للحكم تعليليا ، فيتجه التمسك بالعموم في الفرد
المشتبه ، لرجوع الشك فيه للشك في زيادة التخصيص.
كما أنه لو تردد
الأمر بين الوجهين تعين البناء على الثاني اقتصار على المتيقن من التخصيص.
لكن كثيرا ما
يستفاد التخصيص بالنحو الأول حتى مع كون العام بنحو
القضية الخارجية
أو الحقيقية غير العامة ، كما لو ورد التخصيص في المثالين السابقين بلسان : لا
يكرم منهم من كان فاسقا ، أو : إنما يكرم منهم العادل.
وبالجملة : لا
مجال لجعل الضابط في الفرق كون العام بنحو القضية الخارجية وكونه بنحو القضية
الحقيقية ، بل الضابط فيه ما تقدم في التفصيل الثاني من صلوح العام لبيان عدم ثبوت
المنافي للحكم في أفراده ، المستلزم لعدم التنافي بين الدليلين ، وعدم العلم
بتخصيص العام ، أو العلم بتخصيصه في الجملة ولو بخصوصيات الأفراد ، من دون أن يحرز
تخصيصه بالعنوان المنافي للحكم ، فيرجع الشك في اتصاف الفرد بالعنوان المنافي للشك
في أصل التخصيص أو في زيادته بالإضافة إلى الفرد بخصوصيته ، الذي يصح فيه التمسك
بالعام بلا كلام ، ويخرج عن الشك في مصداق الخاص الذي هو محل الكلام في المقام.
غاية الأمر أن
العام إذا كان بنحو القضية الخارجية فكثيرا ما يحرز فيه ذلك. ولعل هذا هو الذي
أوهم التفصيل المذكور.
وقد تحصل من جميع
ما تقدم : أنه لا يتجه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا ، وأنه لا يصح من
التفصيلات المتقدمة إلا الأولان اللذان لا يرجعان حقيقة إلى التفصيل في ذلك ، بل
إلى لزوم التمسك بالعام مع الشك في أصل التخصيص أو زيادته ، الذي هو خارج عن محل
الكلام. وأن التفصيلين الأخيرين لا يتجهان إلا إذا رجعا إلى أحد الأولين. فلاحظ
وتأمل جيدا. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
وينبغي التنبيه
على امور ..
الأمر
الأول : حيث ظهر مما تقدم
أن المتجه من التفاصيل المتقدمة هو الأول والثاني فمن الظاهر اشتراكهما في أمر
واحد ، وهو كون التخصيص المعلوم أو المحتمل ليس بالإضافة للعنوان الذي يشك في
ثبوته للفرد ، بل بالإضافة إلى خصوصيات الأفراد ، بحيث يرجع الشك في حال الفرد
للشك في التخصيص بالإضافة إليه بخصوصيته ، الذي يكون نفيه مقتضى أصالة العموم ، لا
إلى الشك في انطباق عنوان الخاص عليه.
ومن هنا كان تشخيص
موضوع التخصيص وأنه العنوان أو الفرد مهما جدا ، إذ كثيرا ما يغافل عن رجوع
التخصيص للفرد ويتخيل رجوعه للعنوان بسبب اطراده في أفراده.
ولا مجال لإعطاء
الضوابط العامة التامة له ، إذ كثيرا ما يخضع للقرائن الخاصة غير المنضبطة ، والتي
يختلف تشخيصها باختلاف الموارد والأنظار ، وكثيرا ما يلتبس الحال في موردين ..
أحدهما
: ما إذا كان
العنوان تعليليا ، بأن يكون هو المنشأ للتخصيص بالإضافة إلى الفرد من دون أن يكون
بنفسه موردا للتخصيص.
فإن الدخيل في
موضوع الحكم وإن كان هو العنوان ، تبعا لدخل منشأ انتزاعه في الملاك ، وأخذ الفرد
ليس إلا لاتصافه بالعنوان ، إلا أن المتكلم قد يأخذ الفرد موردا للتخصيص دون
العنوان ، لأنه ليس بصدد بيان موضوع الحكم مع إيكال تشخيصه للمخاطب ، بل بصدد
تشخيص الموضوع بنفسه ـ إما لأنه مما يرجع إليه فيه ، أو لتيسر تشخيصه عليه أو لغير
ذلك ـ فلا بد له من بيان مورد العنوان الدخيل في الحكم ، وهو الفرد وجعله بنفسه
طرفا للتخصيص ، ولا معنى مع ذلك لأخذ العنوان ، بكون العنوان تعليليا ، كما ذكرنا.
ومن هنا التبس
الأمر على غير واحد فادعى تخصيص عموم لعن بني أمية بغير المؤمن ، وعموم إكرام
الجيران بغير الأعداء ، ونحو ذلك ، مع الغافلة عن أن مورد التخصيص في ذلك هو
الأفراد ، دون العناوين ، على ما تقدم توضيحه في التفصيل الثاني.
ثانيهما
: ما إذا كان
العنوان انتزاعيا متفرعا على ثبوت الحكم لموضوعه ، على ما أطال الكلام فيه في
التقريرات ، حيث لا مجال مع ذلك لأن يكون بنفسه دخيلا في متعلق الحكم المذكور ،
كعنوان الصحيح والفاسد المجزي والمشروع وغيرها مما ينتزع من مطابقة الفعل للتشريع
وعدمها ، وإن غفل عن ذلك غير واحد. فقد تقدم في أوائل مبحث الصحيح والأعم التعرض
لتوهم بعضهم تقييد إطلاقات التشريع بناء على الأعم بالصحيح ، وأنه يمتنع لأجل ذلك
التمسك بها مع الشك في الصحة ، وتكرر نظيره من صاحب الحدائق.
وقد سبق دفعه بما
ذكرناه هنا من امتناع التقييد بالصحيح ، بل مقتضى الإطلاق صحة كل ما يحتمل فساده
ما لم يدل الدليل على عدم مشروعيته بخصوصيته تقييدا لإطلاق دليل المشروعية.
نعم ، يمكن أخذها
قيدا في غير أدلة التشريع مما يتضمن ترتيب الآثار على المسميات ، كتقييد ما تضمن
أن تزويج البنت محرم لامها بالتزويج الصحيح ـ لو قلنا بأن المسمى هو الأعم ـ لعدم
لزوم محذور أخذ المتأخر في المتقدم منه ، لأن العنوان المذكور متأخر رتبة عن تشريع
العقد وتنفيذه ومنتزع منه ، لا عن ترتب الآثار الأخر عليه ، كما لعله ظاهر.
ثم إنه يترتب على
عدم أخذ العنوان طرفا للتخصيص أنه لا مجال لإحراز دخول الفرد في التخصيص أو خروجه
عنه بالأصل المحرز للعنوان أو لعدمه ، بل لا بد من إحرازه بطريق آخر ، ولو كان هو
العموم نفسه ـ لو كان صالحا لإثباته ، على ما تقدم تقريبه في بعض الموارد ـ أو كان
هو الأصل المحرز المنشأ انتزاعه
لو كان انتزاعيا.
فلاحظ.
الأمر
الثاني : لا يخفى أن
المخصص متصلا كان أم منفصلا ..
تارة : يتضمن
تحديد موضوع حكم العام بحدود مفهومية. فالمتصل كالتخصيص بالوصف في مثل قولنا :
أكرم العالم العادل. والمنفصل كتخصيص قولنا : أكرم العلماء بقولنا : إنما يكرم
العالم العادل.
واخرى : لا يتعرض
لحكم العام ولا لتحديد موضوعه ، بل لتحديد ما يخرج عنه ويكون موضوعا لحكم الخاص.
فالمتصل كالتخصيص
بالاستثناء في مثل قولنا : أكرم العلماء إلا النحويين ، حيث لا يتضمن تحديد الباقي
المحكوم بحكم العام ، بل تحديد الخارج عنه ، وهو المستثنى المحكوم بحكم الخاص.
والمنفصل كتخصيص
عموم قولنا : أكرم العلماء بقولنا : لا يكرم النحوي ، ولا إشكال في أن هذا القسم
يوجب تعنون موضوع حكم العام بالعنوان الخاص بنحو يمنع من ظهور العام في تعنونه
بعنوانه لو كان متصلا ويوجب رفع اليد عن ظهوره في ذلك لو كان منفصلا.
لكن يظهر من
استدلال بعض المحققين قدّس سرّه لعدم نهوض المخصص المنفصل ببيان تعنون موضوع حكم
العام على خلاف مقتضى العام عموم ذلك لهذا القسم من المنفصل ـ وإن ذكره في القسم
الثاني ـ قال : «لما أشرنا إليه سابقا من أن الواقع لا ينقلب عما هو عليه ، فما هو
الموضوع لحكم العام بحسب الظهور المنعقد له يستحيل أن ينقلب عما هو عليه بسبب ورود
كاشف أقوى ، بل يسقط عن الحجية في القدر المزاحم. لا يقال : يكشف المخصص عن أن
الموضوع الحقيقي للحكم ما عدا الخاص ، لا أنه يوجب انقلاب الظهور ، ليقال : إنه
محال.
لأنا نقول : ليس
للموضوعية للبعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ
انتزاعه مقام إلا
مقام تعلق البعث الإنشائي بشيء ، وجعل الداعي إلى غير ما تعلق به البعث الإنشائي
محال ، لأنه مصداق جعل الداعي ، والمفروض تعلقه بهذا العنوان ، فصيرورته داعيا إلى
غير ما تعلق به خلف محال ، فليس شأن المخصص إلا إخراج بعض أفراد العام وقصر الحكم
على باقي الأفراد من دون أن يجعل الباقي معنونا بعنوان وجودي أو عدمي».
وكأنه يريد بذلك ـ
على غموض في كلامه ـ أن البعث الحقيقي لما كان تابعا للبعث الإنشائي فموضوعه هو
موضوع البعث الإنشائي المستفاد من الكلام ، وحيث كان المفروض تعلق البعث الإنشائي
بعنوان العام وكان الغرض من تعلقه به داعويته له فلا مجال معه لفرض كونه داعيا إلى
غيره ، لأنه خلف محال فيتعين البناء على بقائه على ما هو علة من داعويته إلى نفس عنوان
العام ، كما هو مقتضى ظهوره ، فيكون عنوان العام هو الموضوع للبعث الحقيقي ، وإن
لم يكن حجة في المقدار الخارج بالتخصيص ، عملا بأقوى الحجتين.
ومنه يتضح عدم
الفرق بين أدلة التخصيص المنفصل وعدم اختصاص ذلك بالقسم الثاني منه بعد اشتراك
القسمين في انعقاد ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع.
وفيه : أن البعث
الحقيقي وإن كان تابعا للبعث الإنشائي ، وكان الغرض من البعث الإنشائي جعل الداعي
على طبقه ، إلا أن تبعية البعث الإنشائي لظهور العام متفرع على حجية العام في
الكشف عن مراد المتكلم ، فمع فرض معارضة ظهور الخاص له في ذلك وتقديمه عليه يتعين
رفع اليد عن ظهور العام في تحديد موضوع البعث الإنشائي ، فإن كان الخاص وافيا به
كان هو الحجة في تعيينه ، ولا مجال معه للرجوع فيه للعام.
بل كيف يمكن الجمع
بين فرض موضوعية عنوان العام لحكمه مع خروج بعض أفراده عنه ، إذ من المعلوم أن مرادهم
بالموضوع ما هو كالعلة التامة
للحكم بحيث لا
ينفك عنه ، وقد تقدم منا نظير ذلك في رد نظيره الذي تقدم من بعض الأعيان المحققين
قدّس سرّه عند الاستدلال لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
نعم ، لو لم يكن
مقتضى الجمع بين العام والخاص عدم مطابقة العام لمراد المتكلم ، بل يبقى ظهوره حجة
عليه ، غايته أنه يحمل مراد المتكلم به على ضرب القاعدة الظاهرية عند عدم الدليل
المخرج ، فيكون حكم العام ظاهريا لا واقعيا ، يتجه حينئذ البناء على كون عنوان
العام تمام الموضوع لحكمه الظاهرى المذكور ، فيطابق ظاهره من كونه صادرا بداعي جعل
الداعي ، ولا ينافيه الحكم الثابت في مورد الخاص ، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري
والواقعي.
لكن مرادهم بتعنون
موضوع حكم العام هو موضوع حكمه الواقعي المستفاد بعد التخصيص ، الظاهري المذكور.
ومن هنا لا مخرج
عما ذكرنا من صلوح الخاص في هذا القسم لبيان تعنون موضوع حكم العام بعنوانه بما له
من حدود مفهومية.
وأما القسم الثاني
فقد اختلفوا في مقتضى الجمع بينه وبين العام على أقوال واحتمالات ..
الأول
: أنه يوجب تعنون
موضوع حكم العام بعنوان وجودي مضاد لعنوان الخاص. ولعله المتراءى من بعض عبارات
التقريرات ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
الثاني
: أنه يوجب تعنونه
بكل عنوان مناف لعنوان الخاص ، كما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه. وأما حمل
كلامه على أن كل عنوان مباين لعنوان الخاص لا ينافي حكم العام. فهو بعيد عن ظاهر
كلامه غير مناسب للثمرة التي رتبها عليه.
الثالث
: أنه يوجب تعنونه
بعنوان عدمي نقيض لعنوان الخاص. وبه
صرح بعض الأعاظم
قدّس سرّه.
الرابع
: أنه لا يقتضي
تعنون موضوع الحكم بعنوان آخر غير عنوان العام ، بل يوجب خروج مورده عن عموم
الحكم. وإليه ذهب بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما ويناسبه ما تقدم
من بعض المحققين من المحشين في القسم الأول.
لكن لا ينبغي
التأمل في بطلان الأول ، لمخالفته للمرتكزات في فهم الأدلة ، لوضوح أن المدلول
المطابقي للتخصيص في هذا القسم ليس إلا إخراج مورده عن حكم العام ، وهو لا يستلزم
أخذ العنوان المضاد للخاص في موضوع حكم العام بنحو يكون دخيلا في ثبوته واقعا وفي
التعبد به ظاهرا.
ولا سيما وأن
العناوين المضادة للخاص قد تتعدد مع تلازمها ، والترجيح بينها في الموضوعية بلا
مرجح ، والجمع بينها بلا فائدة ، فيمتنع للزوم اللغوية.
ومنه يظهر ضعف
الثاني ، ومجرد ثبوت حكم العام مع أي عنوان يفرض لا يستلزم دخلها فيه ، كما هو
الحال في جميع العناوين الملازمة لموضوع الحكم.
وأما الثالث فقد
استدل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنه حيث كان الإهمال في موضوع الحكم ممتنعا
فموضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص إن كان ملحوظا بشرط شيء أو لا بشرط لزم
التناقض والتهافت بين حكم العام وحكم الخاص ، فتعين لحاظه بشرط لا ، وهو المدعى ،
لرجوعه إلى تقييد موضوعه بعدم عنوان الخاص.
وقد يجاب عن ذلك :
بإمكان اشتمال ذات المطلق المحفوظة في أفراد عنوان العام على ملاك مقتض لحكمه ، مع
اشتمال الواجد منها لعنوان الخاص على ملاك مقتض لحكم الخاص أيضا ، ومع أقوائية
الثاني يثبت حكم الخاص للمقيد بما هو مقيد ، وإن كانت الذات المحفوظة فيه بما هي
هي مشتملة على
الملاك المقتضي
لحكم العام. ومن هنا لا مانع من كون تمام موضوع حكم العام هو عنوانه مع ثبوت حكم
الخاص لمورده.
لكنه كما ترى! فإن
ذلك إنما يتم في العناوين الثانوية التي لا يكون موضوع الحكم وملاكه قاصرا عن
موردها ، بل يكون طروها مانعا من فعلية الحكم مع تمامية مقتضبة ، وموردها خارج عن
المتيقن من باب التخصيص وداخل في التزاحم الملاكي.
على أنه انما
يقتضي إطلاق موضوع حكم العام الاقتضائي ، لا الفعلي الذي هو محل الكلام ، وإلا
فعموم موضوع الحكم الفعلي لا يجتمع مع التخصيص. بل لا بد في مثل ذلك من الالتزام
بأخذ عدم عنوان الخاص في موضوع حكم العام ، لأن عنوان الخاص لما كان من سنخ الرافع
أو المانع كان عدمه متمما لموضوع الحكم ، كما يكون عدم المانع متمما للعلة في
التكوينيات ، كما لا يخفى.
ويختص الإشكال بما
إذا كان عنوان العام قاصرا عن الاقتضاء في مورد الخاص ، الذي هو المتيقن من باب
التخصيص.
والذي ينبغي أن
يقال : أنه لا إشكال في أن التخصيص يكشف عن عدم إطلاق موضوع حكم العام واختصاصه
بفاقد القيد ، إلا أنه لا يستلزم أخذ عنوان نقيض الخاص قيدا في موضوع الحكم ، بحيث
يكون سورا له ودخيلا فيه ، بل يمكن كون قصر الحكم عنه بنتيجة التقييد. فما هو
الدخيل في موضوع حكم العام في مورد فقد عنوان الخاص ليس إلّا عنوان العام وإن لم
يكن صالحا للتاثير في مورد عنوان الخاص. وليس ذلك لأخذ عنوان عدم الخاص متمما
لموضوع حكم العام ، بل هو محض لازم مقارن مع كون تمام الموضوع في مورده المأخوذ من
الشارع هو عنوان العام لا غير.
وحينئذ لا ملزم
باستفادة تقييد موضوع حكم العام بعدم عنوان الخاص
بعد أن لم يكن
مفاد التخصيص المطابقي ولا الالتزامي إلا خروج مورد الخاص عن حكم العام وقصور ،
عنوان العام عن تأثير حكمه في مورده ، بل يتعين اختصاص الموضوع العنواني بعنوان
العام ، وإن لم يكن تمام الموضوع الحقيقي الذي هو بمنزلة العلة التامة يدور الحكم
مداره وجودا وعدما ، لفرض قصوره في مورد الخاص. ولا يبعد رجوع ما ذكره سيدنا
الأعظم قدّس سرّه لذلك.
بقي الكلام في
ثمرة الأقوال في المقام ، وهي تظهر في التمسك بالاصول الموضوعية لإحراز حكم العام
في الفرد المشتبه ، لوضوح أنه لا بد في ترتب الحكم الذى تضمنه الدليل عملا من
إحراز موضوع حكمه ، ولا ينفع فيه إحراز غيره من العناوين ، وإن كان لازما للموضوع
إلا بناء على الأصل المثبت.
وحينئذ يلزم في
ترتيب حكم العام في المقام على الأول إحراز العنوان الوجودي المضاد للخاص ، وعلى
الثالث إحراز العنوان العدمي ، وعلى الثالث يكفي إحراز أي عنوان مناف له وجوديا
كان أو عدميا.
وهذا كله واضح ،
إنما الإشكال على القول الرابع ، فقد صرح بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس
سرّهما بامتناع التمسك بالأصل الموضوعي وجوديا كان أو عدميا ، وأن الأصل العدمي
وإن كان ينفع في نفي حكم الخاص إلا أنه لا يقتضي إثبات حكم.
نعم ، لو لم يتضمن
العام حكما ، بل مجرد نفي حكم الخاص ـ كما لو قيل : لا يجب إكرام العالم إلا
العادل ـ لزم ترتبه ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
لكن يصعب البناء
على ذلك بالنظر للمرتكزات الاستدلالية ، فإذا قيل : يجب صلة كل فقير ، ثم ورد :
يستحب صلة الفقير المكفي المئونة. فالتوقف عن وجوب صلة زيد مع استصحاب عدم كونه
مكفي المئونة بعيد جدا ، ولا يظن منهما ولا من غيرهما البناء على ذلك في نظائره من
الفقه.
بل قد جرى سيدنا
الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه على خلاف ذلك في جملة
من الفروع ، فقوّى
وجوب تغسيل من شكّ في شهادته ، لأصالة عدم شهادته المحرزة لدخوله في عموم وجوب
تغسيل الميت ، والعفو عن قليل الدم المشكوك كونه دم الحيض أو نحوه ، لأصالة عدم
كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم العفو عما دون الدرهم ، وعدم العفو عن الدم
المشكوك كونه من القرح أو القرح ، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم
مانعية النجاسة من الصلاة.
بل قال عند الكلام
في الأخير : «بناء على ما هو الظاهر من أن نفي عنوان الخاص بالأصل يكفي في ثبوت
حكم العام له». وهو صريح في مخالفته لما ذكره هنا من عدم الاكتفاء بالأصل المذكور.
نعم ، قال في وجه
ذلك عند الكلام في الثاني : «وقد عرفت أن الجمع بين الخاص والعام يقتضي عرفا كون
موضوع حكم العام عنوان العام الذي ليس بخاص».
وهو صريح في عدوله
عن أصل مبنى المنع من التمسك بالأصل ، وبنائه على الوجه الثالث دون الرابع.
لكن لم يتضح بناء
العرف على ذلك في غير ما إذا كان عنوان المخصص ثانويا بعد ما ذكرنا. كما لم يتسن لي
عاجلا العثور على توضيح ذلك منه لينظر فيه.
ولا يبعد كون
استيضاحه له ناشئا عما أشرنا إليه من قضاء المرتكزات الاستدلالية بالاكتفاء في
ثبوت حكم العام للفرد بالأصل المحرز لعدم دخوله في عنوان الخاص ، لدعوى التلازم
بينهما.
لكن الظاهر عدم
التلازم بينهما ، بل يكفي الأصل المذكور حتى بناء على ما ذكرنا من عدم تعنون موضوع
حكم العام بالعنوان العدمي النقيض للخاص. لأن العنوان العدمي وإن لم يكن مأخوذا في
موضوع حكم العام ولا دخيلا
في ترتبه ، إلا أن
إحرازه يقتضي إحراز عدم خروج مورده عن عموم حكم العام ، بل إحراز بقائه تحته محكوما
بحكمه.
إن قلت : كون
المورد محكوما بحكم العام ليس مفادا للأصل المذكور ، ولا أثر لمفاده بعد فرض عدم
أخذ القيد العدمي في موضوع حكمه ، بل هو لازم له ، فالتمسك به فيه لا يخرج عن
الأصل المثبت.
قلت : التخصيص وإن
لم يقتض تعنون موضوع العام بعنوان عدم الخاص ، إلا أنه يقتضي تحديد موضوعه بما
يطابقه ، لما أشرنا إليه من أنه يكشف عن عدم كون عنوان العام تمام الموضوع الحقيقي
، بل هو مقيد بخصوصية ما ، وهذه الخصوصية وإن لم تحدد من قبل الشارع الأقدس مفهوما
بعنوان صالح لأن يكون سورا للموضوع ، إلا أنها قد حدّدت من قبله مصداقا ببيان عدم
خروج غير موارد عنوان الخاص عنه ، فمع إحراز أن الفرد من القسم الباقي لا الخارج
بالأصل الموضوعي يحرز واجديته لحدّ الموضوع المأخوذ من قبل الشارع.
وذلك كاف في
الخروج عن الأصل المثبت ، لأن المعيار فيه ليس على إحراز عنوان موضوع الحكم الدخيل
فيه ، بل على إحراز مورده ، تبعا للحدّ المستفاد من الشارع الأقدس الإناطة في مقام
العمل وبيان الحكم وإن كان من طريق اللازم ، كما ذكرناه في بحث الأصل المثبت.
وإلا فأخذ العنوان
في الأدلة اللفظية لا ظهور له إلا في ترتب الحكم عند ترتب العنوان وتحديد مورده ،
لا في دخل العنوان في الحكم ، لإمكان أن يكون العنوان ملازما لما هو الدخيل فيه ،
غايته أنه قد يشعر بدخله فيما لو كان مناسبا للحكم ارتكازا. فلو لا الاكتفاء
بإحراز ذلك في التعبد بالحكم والخروج عن الأصل المثبت لم يكن وجه للاكتفاء بإحراز
العنوان إلا مع العلم بدخله في الحكم بمعنى دخل منشأ انتزاعه ، ومن المعلوم من
المرتكزات الاستدلالية
خلافه.
ويظهر وجه ذلك
بملاحظة ما ذكرناه في مبحث الأصل المثبت من أن منشأ عدم الرجوع إليه هو انصراف
أدلة التعبد الظاهري إلى التعبد بالكبريات الشرعية موضوعا أو حكما ، ولا تشمل
الملازمات الخارجية. وهو مختص عرفا بما إذا لم تكن الملازمة مستفادة من الشارع
الأقدس في مقام تحديد الحكم وبيان مورده من دوم خصوصية للعنوان في ذلك.
وقد يتضح ما ذكرنا
بملاحظة ما إذا نسخ حكم العام في مورد عنوان الخاص ، فإن استفادة تعنون الباقي
بعنوان عدم الخاص بعيد جدا ، وعدم الاكتفاء بأصالة عدم الخاص لإحراز حكم العام
أبعد.
وأما عدم الاكتفاء
بإحراز العنوان الانتزاعي ـ وإن كان مذكورا في كلام الشارع الأقدس ـ فليس هو لعدم
دخل العنوان المذكور في الحكم ، بل لسوقه في كلام الشارع لمحض الحكاية عما هو الحد
للحكم من دون أن يراد به تحديد الحكم وبيان موارده.
وبما ذكرنا يتضح
أنه لا فرق بين القول الثالث والرابع في مقام العمل. ومن ثم لا يهم تحقيق الحق
منهما مع وضوح بطلان القولين الأولين ، وكون الثمرة المشتركة بين القولين الأخيرين
ارتكازية. فلاحظ.
الأمر
الثالث : قال المحقق
الخراساني قدّس سرّه : «ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد
لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل
بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقا للنذر ،
بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء بالنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا
محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما
ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك».
ثم تعرض لرد ذلك.
وسبقه إلى ذلك في التقريرات.
وحاصل ما ينبغي أن
يقال في وجه رده : أن الاستدلال بعموم الحكم الثانوي ـ كوجوب الوفاء بالنذر
وبالشرط ، وإطاعة المولى والزوج والوالدين ـ فرع إحراز موضوعه ، وحيث فرض تقييده
بالحكم الأولي ـ كالرجحان في الوفاء بالنذر ، وعدم مخالفة الكتاب في الوفاء بالشرط
وعدم معصية الله سبحانه في إطاعة المخلوق ـ فإن كان التقييد به مستفادا من قرينة
متصلة كان التمسك بالعموم مع الشك في القيد تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من
طرف العام الذي لا يصح بلا كلام. وإن كان تقييده به مستفادا من قرينة منفصلة كان
التمسك به مع الشك المذكور تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي
سبق أن التحقيق عدم جوازه. وإذا لم يصح التمسك بعموم الحكم الثانوي : لا مجال
للانتقال للازمه ، وهو الحكم الأولي المذكور.
على أنه لو صح
التمسك بالعموم المذكور لم يصح إثبات اللازم المذكور إلا إذا كان لزومه عقليا ،
أما إذا كان شرعيا ـ تبعا لعموم الدليل ـ مع إمكان التخلف خارجا ـ تخصيصا للعموم ـ
فالتمسك به مبني على ما يأتي في الأمر الرابع من الكلام في حجية العام في عكس
نقيضه ، وهكذا الحال لو دل الدليل بالخصوص على ثبوت الحكم الثانوي المذكور في
مورد.
نعم ، لو كان ذلك
الدليل مسوقا لبيان اللازم المذكور والكناية عنه من باب بيان اللازم ببيان الملزوم
، أو كان مستفادا منه بسبب ملازمة عرفية بينهما فلا إشكال.
هذا ، وأما ما
تضمن صحة الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر مع نذرهما كذلك فهو أجنبي عما نحن
فيه ، لأن مقتضاه سببية النذر لرجحان المنذور في الفرض وإن لم يكن راجحا في نفسه ،
لا كشف وجوب الوفاء بنذره عن رجحان الفعل في نفسه مع الشك في رجحانه كذلك ، كما هو
المدعى في
المقام.
هذا ، وقد تعرض
المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره لبيان وجه صحة نذر الصوم في السفر والإحرام قبل
الميقات بما لا مجال لإطالة الكلام فيه لخروجه عن محل الكلام.
الأمر
الرابع : لا إشكال في جواز
التمسك بالعام لإثبات حكمه بعد إحراز موضوعه ، وإنما الإشكال في جواز التمسك به
لإثبات حال الموضوع بعد إحراز الحكم.
وقد ذكر في
التقريرات لذلك موردين :
الأول
: ما لو علم بعدم
جريان حكم العام في مورد معين وشك في كون خروجه عنه تخصيصا مع واجديته لعنوانه ،
أو تخصصا مع عدم واجديته لعنوانه ، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء ، وعلم
بعدم وجوب إكرام زيد واحتمل كونه عالما.
الثاني
: ما لو علم بعدم
جريان حكم العام في مورد مردد بين ما هو من أفراد العام ليلزم التخصيص ، وما هو
خارج عنه فيلزم التخصص ، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء ، وورد عدم وجوب
إكرام زيد ، وكان زيد مشتركا بين شخصين أحدهما عالم دون الآخر. وظاهر شيخنا الأعظم
قدّس سرّه المفروغية عن حجية العام فيهما ، كما صرح به في التقريرات ، ويقتضيه ما
ذكره في الرسائل ، وحكي عنه في بعض الموارد. فيبنى في الأول على أن زيدا ليس بعالم
، وفي الثاني على أن المراد بزيد هو زيد غير العالم.
بل قال في
التقريرات : «وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة
الغسالة على أنها «بأنها. ظ» لا تنجس المحل ، فإن كان نجسا غير منجس يلزم تخصيص
قولنا : كل نجس منجس».
هذا ، ولا إشكال
ظاهرا في أنه لا نظر للعام في نفسه إلى حال
الموضوعات ، بل هو
متكفل بإثبات الحكم بعد الفراغ عن حال الموضوع.
وغاية ما يقال في
وجه ما في التقريرات : أن ثبوت الحكم لتمام أفراد العام الذي هو مقتضى أصالة
العموم ـ لشرح حال الموضوع لزم البناء عليه ، لأن العام من سنخ الأمارة التي هي
حجة في لازم مؤداها ، وليس كالأصل يقصر عن ذلك. فمثلا قضية : كل عالم يجب إكرامه ،
تستلزم أن كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، لأنه عكس نقيضها الملازم لها في الصدق
، فيترتب عليه ما تقدم في المثالين.
لكنه يندفع بما
ذكره غير واحد : من أن الدليل على حجية العموم لما كان هو سيرة أهل اللسان
الارتكازية لزم الاقتصار في حجيته على مقتضاها ، والمتيقن منها الرجوع للعام في
تسرية حكمه لأفراده ، لا في شرح حال الموضوع من غير هذه الجهة.
وما اشتهر من أن
الأمارة حجة في لازم مؤداها ليس على إطلاقه على ما ذكرناه عند الكلام في الأصل
المثبت من مباحث الاستصحاب. ولذا لا يظن منه قدّس سرّه البناء على رفع إجمال الخاص
بالعام وإن كان العام حجة في مورد إجماله ، كما نبهنا عليه في أوائل هذا الفصل.
نعم ، لو كان بيان
الحكم المخالف للعام في مورد مسوقا لبيان عدم ثبوت حكم العام فيه أو مستفادا منه
بسبب الملازمة العرفية الذهنية بينهما من باب بيان الموضوع ببيان الحكم فلا إشكال
في البناء على عدم التخصيص.
لكنه ليس لأصالة
العموم في العام ، بل لظهور الدليل المفروض في نفي عنوان العام ، كما في ما تضمن
عدم وجوب غسل ملاقي بعض الامور ، كالجاف والمذي ، أو عدم وجوب الوضوء أو الغسل من
بعض الامور كالقبلة وخروج المذي والاحتلام من دون خروج شيء وغيرها ، فإنه ظاهر في
عدم تنجس الملاقي وعدم سببية الامور المذكورة للحدث ، ولا مجال معه لاحتمال التنجس
وتحقق الحدث من دون أن يجب التطهير من الخبث أو التطهر من الحدث
تخصيصا لعموم
مانعيتهما.
ولعل هذا هو الذي
أوهم صحة الاستدلال بأصالة العموم في المقام ، كما نسبه في التقريرات للأصحاب في
استدلالاتهم.
ثم إنه لا إشكال
في البناء في المثال الثاني المتقدم على ثبوت حكم العام في الفرد الواجد لعنوانه
من طرفي التردد ، فيجب إكرام زيد العالم في الفرض لأصالة العموم بعد فرض الشك في
التخصيص بالإضافة إليه بسبب إجمال الدليل. بل لا يبعد ـ بعد التأمل في مرتكزات أهل
اللسان ـ البناء على انتفاء على حكم العام في الطرف الآخر ، للعلم الإجمالي
بانتفائه في أحد الطرفين الراجع لاستلزام ثبوته في أحدهما لانتفائه في الآخر ،
فإذا دل العام على ثبوته في الطرف الواجد لعنوانه دل على انتفائه في الطرف الآخر ،
للملازمة بين الأمرين ، وإن لم يكن دالا على أنه هو المراد من الدليل المفروض الإجمال
، الذي هو ملازم أيضا لثبوت حكم العام في الطرف الواجد لعنوانه ، إذ لا مانع من
حجية العام في إثبات أحد اللازمين دون الآخر ، تبعا للمرتكزات التي عرفت دوران
حجية العام سعة وضيقا مدارها. وبذلك ينحل العلم الإجمالي المسبب عن إجمال الدليل
المذكور ، فلا يهم النظر في مقتضاه الذي يختلف باختلاف نحو الحكم الذي تضمنه من
حيثية كونه إلزاميا أو غيره. فلاحظ.
الفصل الخامس
في عموم الحكم لغير المخاطبين
لا إشكال في عموم
الأحكام التي تتضمنها الخطابات الشرعية لمن لم يوجد حين الخطاب ، فضلا عمن لم يحضر
مجلسه من الموجودين حينه ، لما هو المعلوم من عموم الشريعة الإسلامية واستمرار
أحكامها إلى يوم القيامة.
وإنما الإشكال في
أن ذلك مقتضى ظهور الكلام نفسه ـ إما لعموم الخطاب به أو بدونه ـ أو مستفاد من
أدلة اخرى تقتضي اشتراك الكل في الأحكام المذكورة ، كما يظهر من جملة من عباراتهم
، فقد تكرر في كلماتهم الاستدلال على العموم بالإجماع على الاشتراك.
ومن الظاهر أن محل
الكلام هو الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية.
وأما ما يستفاد من
الأدلة اللبية ، فعمومه تابع لعموم الموضوعات المأخوذة في تلك الأدلة ، إذ لا
محذور في نهوض الدليل اللبي بإثبات الحكم لمن لم يوجد حين تحقق الدليل على نحو
يكون حجة عليه بعد وجوده وصلوحه للتكليف ، لتمحض الدليل اللبي في الكشف ، ولا مانع
من انكشاف الحكم المذكور بهذا النحو وإن لم يوجد صاحبه بعد.
إذا عرفت هذا
فنقول : لا إشكال في ظهور الكلام في عموم الحكم لغير الموجودين إذا تضمن جعله على
موضوعه بنحو القضية الحقيقية التي هي في قوة الشرطية من دون أن يتضمن جعل الموضوع
طرفا للخطاب ، كما في قوله
تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وقوله صلّى الله عليه وآله : «رفع عن امتي تسعة ...» وغيرهما ، ومثله في ذلك ما كان بنحو القضية الشرطية صريحا
نحو قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).
وامتناع ثبوت
الحكم لغير الموجود إنما هو بمعنى امتناع فعلية الحكم في حقه ، والدليل المذكور
غير متضمن للحكم الفعلي ، بل لمجرد جعل الحكم على موضوعه وإنشائه ، بحيث لا يكون
فعليا إلا بفعليته ، فكما يشمل الموجودين غير المتصفين بعنوان الموضوع إذا اتصفوا
به بعد ذلك ، كذلك يشمل غير الموجودين إذا وجدوا واتصفوا به بعد ذلك.
ولا يخل بذلك
توجيه الخطاب بالقضية لجماعة خاصة أو لشخص واحد كالنبي صلّى الله عليه وآله ، لأن
خطابهم لمجرد الإعلام أو لطلب التبليغ ، لا لاختصاص الحكم بهم ، ولذا قد لا يكونون
واجدين لموضوع الحكم.
وأما ما ورد بلسان
خطاب الموضوع ، كما في كثير من آيات الأحكام والنصوص المتضمنة لخطاب السائلين أو
الحاضرين بأحكامهم ، فقد يمنع العموم فيه لمن لم يحضر مجلس الخطاب من الموجودين
فضلا عن غيرهم ، لامتناع الخطاب الحقيقي مع غير المواجه به.
وقد حاول المحقق
الخراساني قدّس سرّه دفع ذلك بأن أدوات الخطاب كضمائره وأدوات النداء ونحوها ليست
موضوعة للخطاب الحقيقي ، بل الإيقاعي الإنشائي ، وإن كان بداع آخر غير التفهيم من
التحسر والتأسف وغيرهما ، كما في خطاب العجماوات والجمادات وغيرها مما لا يصلح
للخطاب الحقيقي.
__________________
وكذا الحال في
الخطاب بتوجيه الكلام وإن لم يكن بأدواته الخاصة. غاية الأمر أن المنصرف من الجميع
إرادة الخطاب الحقيقي ، نظير ما ذكره في أدوات وصيغ المعاني الإنشائية من
الاستفهام والطلب والتمني وغيرها. ولا مجال لذلك في خطابات الشارع الأقدس ،
للمفروغية عن عدم اختصاص مضمونها بمن حضر مجلس الخطاب.
ويشكل : بأن
الخطاب يفترق عن غيره من المعاني الإنشائية ، فإن للمعاني الإنشائية واقعا نفسيا
حقيقيا مباينا لمقام الإنشاء ، فتتجه دعوى وضع الأدوات والصيغ لمحض الإنشاء والإيقاع
، إما بداعي بيان ذلك الواقع النفسي أو بداع آخر.
أما الخطاب فهو
قائم بنفس الكلام ونحوه من أدوات البيان ، كالكتابة والإشارة وغيرها ، وليس له
واقع وراء ذلك ، يكون هو المراد بالخطاب الحقيقي لتتجه دعوى وضع الأدوات للخطاب
الإيقاعي ، وأنه تارة يكون بداعي الخطاب الحقيقي ، واخرى بداع آخر. بل ليس في
المقام إلا أمر واحد ، وهو الخطاب الحقيقي الذي هو مقتضى الكلام.
ولذا قد يدعى
تجريد الكلام عن معناه في مورد خطاب من لا يقبل الخطاب ، ويكون مجازا. لكنه بعيد
جدا عن المرتكزات الاستعمالية والبيانية ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لها.
ومن هنا فالظاهر
أنّه اريد بخطاب من لا يقبل الخطاب خطابه حال عدم قابليته ، كخطاب الأموات والرسوم
والأطلال وغيرها ، فهو مبني على ادعاء أنه صالح للخطاب بإعمال قوة التخييل.
ولذا قد ينسب إليه
ما يناسب الخطاب مما هو من شأن ذي الإحساس والشعور ، كالجواب والعتاب والبكاء
والضحك والفرح والحزن وغيرها.
وإن اريد به خطابه
بعد قابليته للخطاب وتفهيمه حينئذ ، كخطاب الغائب
أو غير الموجود
بالكتابة والتسجيل في مقام الوصية أو نحوها ، كان مبنيا على ملاحظة الحال الذي
يصلح معه للخطاب كأنه حالّ حاضر ، ولذا لا يترتب على الخطاب في القسم الأول أي أثر
ويتمحض في التخييل ، أما في هذا القسم فيترتب الأثر في وقته ، لقصد التفهيم حينه
بالخطاب ، كما يقصد بخطاب الحاضر القابل للخطاب.
لكن من الظاهر أن
جميع ما تقدم في توجيه الخطاب في حق من هو غير قابل له مبني على عناية تحتاج إلى
قرينة.
وما سبق من المحقق
الخراساني قدّس سرّه من أن عموم الحكم واستمراره يصلح قرينة على ذلك. في غير محله
، لإمكان قصر الخطاب بالحكم العام على بعض المكلفين وتبليغ غيرهم به من غير طريق
الخطاب المذكور ، كخطاب آخر أو الإجماع على الاشتراك في المقام أو غيرهما. بل هو
المقطوع به في البيانات الخاصة الواردة في النصوص المتضمنة لخطاب الحاضرين أو
السائلين بأحكامهم. ولذا قد تشتمل تبعا على بعض الخصوصيات الزائدة على الحكم مختصة
بهم دون غيرهم ، حيث لا مجال مع ذلك لعموم الخطاب لغيرهم. ومن ثمّ لا يكون دالا
بالمطابقة إلا على حكم المخاطب.
غاية الأمر أنه قد
يستفاد عموم الحكم من الكلام بضميمة إلغاء خصوصية مورده عرفا ولو للمفروغية عن
عموم أحكام الشريعة واستمرارها التي هي من سنخ القرينة الحالية المحيطة بالكلام.
ولذا قد يتعدى في غير مورد الخطاب أيضا لو تضمن الكلام بيان حكم شخص خاص غير
مخاطب.
وحينئذ لا بد في
تحديد الموضوع من الاقتصار في الخصوصيات الملغية على المقدار المتيقن إلغاؤه عند
العرف ، بلحاظ القرائن المقالية والحالية ، ومنها المناسبات الارتكازية ، دون ما
لم يستظهر إلغاؤه ، ولا ضابط لذلك.
لكن ذلك غير عموم
الخطاب لغير من يحضر مجلسه أو يوجه له بأحد
الوجوه المتقدمة
التي عرفت احتياجها للقرينة.
نعم ، قد يتجه ذلك
في الخطابات القرآنية الموجهة للعناوين كالناس والمؤمنين والعباد ، وذلك لما هو
المعلوم من عدم خطابه تعالى لهم في مجلس خاص وبنحو المشافهة ، ليمكن حمله على
ظاهره من دون تنزيل ولا عناية ، وإنما هو منزل على النبي صلّى الله عليه وآله
للتبليغ به ، فلا بد أن يكون المخاطب به كل من أريد تبليغه سواء كان موجودا أو
صالحا للتبليغ حين التنزيل أم لا ، لأنه صلّى الله عليه وآله مرسل للكل ، كل في
وقته.
ويتعين حمله على
ما سبق منا من تنزيل حال الصلوح للتبليغ والخطاب منزلة الحال الحاضر.
ومثله في ذلك ما
يوجه في الكتب ونحوها للعامة ، نظير كتب الأئمة عليه السّلام إلى شيعتهم ، وكتب
الامراء لرعاياهم ، من طريق الولاة أو الرسل.
وأما ما تضمن في
القرآن المجيد خطاب النبي صلّى الله عليه وآله بضمير الجمع نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) ، فالخطاب فيه وإن اختص به صلّى الله عليه وآله ، إلا أن
موضوع الحكم المبين بالدليل يعم جميع المسلمين حتى غير الموجودين حين الخطاب ،
لوضع أدوات الخطاب بالجمع لما يعم خطاب الواحد وإرادة غيره معه في الحكم ، وحيث لا
معين لمقدار الجمع ، وكان خطابه صلّى الله عليه وآله بلحاظ كونه مبلغا لغيره ،
ينصرف لعموم من وظيفته صلّى الله عليه وآله تبليغه بالأحكام وإن لم يكن موجودا.
نعم ، ما تضمّن
خطابه صلّى الله عليه وآله بشخصه بضمير المفرد نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، يجري فيه ما سبق في الخطابات التي تضمنتها النصوص من أن
مدلولها المطابقي خصوص حكم المخاطب ، ويكون التعميم
__________________
لغيره بإلغاء
خصوصية المورد ، أو بقرينة حالية أو مقالية تقضي بأن مبنى خطابه على ارادة تفهيم
غيره ، من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).
الفصل السادس
في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد وقع الكلام
بينهم في أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يمنع من البناء على عموم حكمه
فيقتصر فيه على خصوص الأفراد المرادة بالضمير ، أو لا ، بل يبقى العام على عمومه.
والظاهر أن محل
الكلام ما إذا كان حكم العام مباينا لحكم الضمير ، ليتجه احتمال التفكيك بينهما في
العموم والخصوص ، دون ما لو كان الحكم واحدا ، كما في قولنا : أثم أعداء زيد بشتمهم
له ، حيث لا إشكال ظاهرا في اختصاص حكم العام ، وهو الإثم بمن شتم زيدا ، دون
غيرهم من أعدائه ، وإن أمكن إثمهم أيضا لا من جهة الشتم الذي هو حكم آخر لم يتضمنه
العام.
إذا عرفت هذا ،
فالظاهر التفصيل بين أن يكون اختصاص حكم الضمير ببعض الأفراد مقتضى قرينة متصلة ،
وأن يكون مقتضى دليل منفصل.
فالأول : نحو قوله
تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فإن الإيلاء وإن كان هو الحلف على ترك الوطء ، فلا يمنع
من عموم النساء للمتمتع بها ، إلّا أن قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ) مختص بمن يشرع طلاقهن ، وهن الدائمات.
وفي مثل ذلك يتعين
التوقف عن عموم حكم العام ، فلا يبنى على عموم
__________________
حكم الإيلاء في
الآية للمتمتع بها ، لأن ذلك من القرائن المحيطة بالكلام المانعة من انعقاد الظهور
في عمومه. وجميع ما ذكر في كلماتهم في وجه عدم رفع اليد عن العموم ولزوم التصرف في
الضمير لو تم إنما يتوجه مع انعقاد الظهور في العموم وبلوغه مرتبة الحجية.
والثاني : نحو قوله
تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ... (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ...) ، فإن ظاهر الصدر عموم العدة للمطلقات ، وظاهر الذيل
المشتمل الضمير جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة. وتخصيصه ببعض الأقسام إنما استفيد
من أدلة أخرى خارجة عن الكلام.
والفرق بينه وبين
الآية الاولى أنه وارد لتشريع الرجعة ، فيكون ظاهرا في عموم تشريعها للمطلقات
بمقتضى إسناده لضمير هن. أما الآية الاولى فهي غير واردة لتشريع ، لتكون ظاهرة في
عموم تشريعها للمؤالي منهن ، بل لبيان أن الطلاق يحل مشكلة الإيلاء عملا بعد
الفراغ عن تشريعه ، فلا يكون لها ظهور في عموم تشريعه.
وكيف كان ، ففي
هذا القسم حيث لا إشكال في انعقاد الظهور في عموم حكم العام ـ كثبوت العدة للمطلقة
في الآية ـ الذي هو حجة في نفسه ، لا ملزم برفع اليد عنه بالدليل الخارج المتضمن
تخصيص حكم الضمير ، لعدم التلازم بينهما ، فلا مجال للبناء عليه والخروج عن أصالة
العموم.
إن قلت : لما كان
ظاهر الكلام التطابق بين الضمير ومرجعه فبعد قيام الدليل الخارج على اختصاص حكم
الضمير ببعض أفراد العام يدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على خصوص الأفراد
الباقية المحكومة بحكم الضمير ، والتصرف في الضمير بالبناء على عدم التطابق بينه
وبين مرجعه من باب الاستخدام ، أو على التوسع في إسناد الحكم عليه على عمومه مع
ثبوت
__________________
حكمه لبعض أفراده
، وليس التصرف في الضمير بأحد الوجهين بأولى من التصرف في العام بالتخصيص ، بل لعل
الثاني أولى. ولا أقل من التوقف عن عموم العام بعد عدم المرجح.
ودعوى : أن التصرف
في عموم المرجع تصرف في الضمير أيضا ، والتصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في عموم
المرجع ، فالتصرف في الضمير معلوم على كل حال ، ولا تجري فيه أصالة الضمير ،
والتصرف في العام مشكوك ، فتجري فيه أصالة الظهور.
مدفوعة : بأن
مقتضى الظهور في الضمير ليس هو حمله على ما يظهر من مرجعه مطلقا ، بل حمله على ما
يراد من مرجعه ، فإذا فرض كون المراد بمرجعه بعض الأفراد ، فإرادة خصوصها بالضمير
لا تنافي ظهوره ، بل هي على طبق أصالة الظهور فيه ، وإنما يكون إرادة خصوصها
منافية لظهوره إذا اريد من مرجعه العموم الذي هو على طبق ظهوره. ومن ثم لا يكون في
المقام إلا تصرف واحد في الضمير أو في المرجع.
وأما ما ذكره
المحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم نهوض أصالة الظهور في الضمير بمعارضة أصالة
الظهور في العموم ، لأن أصالة الظهور إنما تكون حجة في تعيين المراد ، لا في تعيين
كيفية الاستعمال مع العلم بالمراد ، والمفروض في المقام العلم بالمراد من الضمير
وهو الخصوص ، والشك في المراد بالمرجع ، فلا تجري أصالة الظهور في الضمير لتعيين
كيفية الاستعمال لتعارض أصالة الظهور في المرجع لتعيين المراد به وحمله على
العموم.
فيشكل : بأن ذلك
إنما يتم مع تعدد الكلام ، وأما مع وحدته ولزوم التصرف فيه تبعا للقرينة الخارجية
ـ وهي في المقام القرينة الدالة على تخصيص حكم الضمير ـ فلا بد من ملاحظة جميع خصوصيات
الكلام في مقام التصرف فيه ، وتنزيله على مقتضي القرينة.
وبعبارة اخرى :
ليس التعارض في المقام بين أصالة الظهور في المرجع وأصالة الظهور في العام ، ليتجه
ما تقدم من حجية أصالة الظهور في تعيين المراد دون كيفية الاستعمال ، بل بين
الكلام الظاهر في عموم حكمي الضمير ومرجعه معا والقرينة الخارجية الدالة على تخصيص
حكم الضمير ، وبعد فرض تقديم القرينة يتعين التصرف في الكلام وتنزيله بمجموعه على
ما يناسبها ، وليس التصرف فيه بتخصيص حكم الضمير وحده مع استلزامه التصرف فيه بأحد
الوجهين المتقدمين بأولى من التصرف فيه بتخصيص كلا الحكمين وحمل المرجع على خلاف
ظاهره الذي لا يستلزم التصرف في الضمير. بل لعل الثاني أولى ، كما تقدم.
قلت : إنما يتم
ذلك لو كان مرجع الجمع بين العام والخاص بالتخصيص إلى حمل العام على كونه مستعملا
في بعض أفراده ، حيث يلزم مع تخصيص حكم الضمير دون حكم مرجعه التصرف في الضمير
بالوجه المتقدم ، وقد سبق أن الجمع بينهما لا يبتني على ذلك ، بل على مجرد رفع
اليد عن ظهور العام في إرادة العموم لمورد الخاص تقديما لأقوى الحجتين في الكشف عن
مراد المتكلم ، وإن أمكن أن يكون العام مستعملا في العموم لضرب القاعدة التي يرجع
إليها عند عدم المخرج عنها ، أو مع قرينة متصلة على الخصوص قد خفيت علينا.
ومن الظاهر أن ذلك
يقتضي الاقتصار في المقام على مورد المزاحمة ، وهو حكم الضمير دون حكم مرجعه. بل
لا مخرج فيه عن ظهور العام في العموم المفروض انعقاده وحجيته في نفسه.
وأما ما يظهر من
التقريرات من الإشكال في ذلك : بأن الضمير ليس من صيغ العموم ليدعى أنه هو المعارض
لدليل التخصيص ، ويلزم الاقتصار في التخصيص عليه ، بل هو من سنخ الكنايات ، فتارة
يكون كناية عن جماعة
محصورة وأخرى عن
غيرها ، والمعارض للتخصيص هو المرجع.
فيندفع : بأن
الضمير وإن لم يكن من صيغ العموم اصطلاحا إلا أنه كالعام في إمكان الحكم عليه
وإرادة الخاص منه بقرينة متصلة حالية أو مقالية ـ كالاستثناء والشرط ـ أو منفصلة
مع وروده لضرب القاعدة أو غير ذلك مما تقدم عند الجمع بين العام والخاص. ومن ثمّ
لا مانع من معارضة دليل التخصيص له وتحكيمه عليه وحده.
تنبيه :
ما ذكرناه في
معيار التفصيل يجري في جميع موارد اشتمال الكلام على عمومات متعددة ثبت التخصيص في
بعضها بقرينة متصلة أو منفصلة واحتمل سريانه لجميعها. ومنه الجمل أو المفردات
المتعددة المتعقبة باستثناء واحد ، كما في قولنا : أكرم العلماء وأكرم الأشراف إلا
الفساق منهم ، وقولنا : أكرم العلماء والأشراف إلا الفساق ، وقولنا : أكرم العلماء
وأضفهم إلا الفساق ، وقولنا : أكرم العلماء وجالس الأشراف إلا الفساق ، ونحوها.
فيتوقف عن العموم
في الأمثلة المذكورة بالإضافة إلى غير الأخير المتيقن التخصيص ، لأن التخصيص
المذكور من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم في بقية
المتعلقات والجمل.
نعم ، لا يبعد
أقربية الرجوع للأخير وحده مع اتحاد متعلق الحكم وتكراره لفظا ، كما في المثال
الأول ، ليكون فائدة التكرار اللفظي وعدم الاكتفاء بعطف المفرد استقلال الجملة
الأخيرة بمتعلقها ـ وهو الاستثناء ـ وانفرادها به.
كما لا يبعد
أقربية الرجوع للكل مع تعاطف المفردات ـ كما في المثال الثاني ـ أو الجمل المتضمنة
لتكرار الموضوع بوجه تبعي وهو الضمير ـ كما في المثال الثالث ـ لاحتياج الاستثناء
من المفرد والجملة المذكورة لعناية وكلفة.
لكن في بلوغ ذلك
حدّ الظهور النوعي الحجة إشكال ، بل قد يكون من سنخ النكت البلاغية التي لا توجب
إلا الإشعار.
وقد أطالوا الكلام
في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما ذكرناه من المعيار للظهور النوعي المتبع
لو لا القرائن الخاصة التي لا تنضبط ، بل توكل لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.
الفصل السّابع
في الجمع بين المطلق والمقيد
لقد جرى أهل الفن
على تحرير هذه المسألة في مبحث المطلق والمقيد الذي هو بحسب تبويبهم مباين لمبحث
العام والخاص.
وحيث سبق ما في
أول مبحث العام والخاص أن موضوعه يعم المطلق والمقيد تعين إلحاق هذه المسألة
بالمبحث المذكور ، كما جرينا عليه هنا.
هذا ، وقد سبق في
أول فصل العام المخصص أن الكلام فيه بعد فرض تقديم الخاص على العام من باب الجمع
العرفي الذي ذكرنا في مبحث التعارض ضوابطه ولزوم الجري عليه ، وهو مبني على فرض
التنافي بين العام والخاص بحسب ظهورهما البدوي ، وعلى كون ظهور الخاص أقوى بحيث
يصلح قرينة عرفا على تنزيل العام على غير مورده ، والأول مما يسهل تشخيصه بعد
الإحاطة بالضوابط العامة للظهورات النوعية وملاحظة القرائن الخاصة المحيطة بالكلام
، والثاني مقتضى العام والخاص بطبعهما ، لأن الخاص في مورده كالنص بالإضافة إلى
العام ، وإن أمكن أقوائية العام بلحاظ جهات أخر ، بحيث يكون التصرف في الخاص
وتنزيله على ما لا ينافي العام أقرب من تخصيص العام به ، ولا ضابط لذلك ، بل يوكل
لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة.
وذلك كما يجري
فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ليكون من صغريات العموم يجري فيما لو كانت
بمقدمات الحكمة ، ليكون من صغريات الإطلاق باصطلاحهم.
غير أنه وقع
الكلام بينهم في الجمع بين المطلق والمقيد بلحاظ بعض الجهات التي أوجبت تنبههم
لتحرير الكلام في ذلك ، دون الكلام في الجمع بين العام والخاص.
ونحن نتابعهم في
ذلك ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير المطلق والمقيد. ومن هنا فحيث كان
الجمع بين المطلق والمقيد فرع التنافي بدوا بينهما فالتنافي بينهما يتوقف على
أمرين.
أحدهما
: وحدة الحكم
الكبروي الذى يردا لتحديده ، فلو كان ظاهر كل منهما بيان حكم خاص به فلا تنافي
بينهما ، لأن الإطلاق والتقييد من سنخ الضدين اللذين يتوقف التنافي بينهما على
وحدة الموضوع ، وذلك ظاهر مع اختلاف موضوعيهما ، كما لو ورد : إن ظاهرت فأعتق رقبة
، و : إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، أو : إن أفطرت فلا تعتق رقبة غير مؤمنة.
ومنه ما لو اطلق
أحدهما وعلق الآخر على موضوع خاص. وأما في غير ذلك فلا إشكال فيما لو صرح فيهما
بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما.
بل لا يبعد البناء
على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين غير معلقين على شيء أو معلقين على أمر واحد ، حيث
لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما ، لبعد اقتصار المتكلم في كل دليل على بيان أحد
التكليفين ، وإهمال الآخر مع وحدة الموضوع.
نعم ، الظاهر عدم
الفرق بين الاحتمالين في لزوم الاتيان بالمقيد ، بناء على ما يأتي من حمل المطلق
على المقيد مع وحدة التكليف ، وفي جواز الاقتصار على فرد منه ، بناء على ما سبق في
مسألة التداخل من أن مقتضى القاعدة تداخل التكليفين في الامتثال مع اختلاف
متعلقهما بالإطلاق والتقييد.
وإنما يختلفان في
أنه بناء على وحدة التكليف لا يكون الإتيان بالفاقد للقيد مع القدرة على المقيد
مشروعا ، لعدم التكليف به بعد فرض حمل المطلق
على المقيد ، بل
وكذا مع تعذر القيد إلا بدليل خارجي يقتضي الاكتفاء بالميسور. وأما بناء على تعدده
فيكون الإتيان بالفاقد مشروعا امتثالا لأمر المطلق ، كما يجب عند تعذر القيد ، لأن
تعذر امتثال أحد التكليفين لا يسقط الآخر ، كما هو ظاهر.
ثانيهما
: أن يتنافيا بحسب
ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد ، كما لو كان المطلق بدليا ، ظاهرا في
الاكتفاء بأصل الماهية وكان المقيد ظاهرا في مطلوبية خصوصية منها ، أو عدم
الاكتفاء بخصوصية منها ، كما في قولنا : اعتق رقبة ، مع قولنا : اعتق رقبة مؤمنة ،
أو : لا تعتق رقبة كافرة.
وأما لو كان
المطلق شموليا ، وكان المقيد متضمنا ثبوت الحكم لبعض الأفراد أو في بعض الأحوال.
فإن كان المقيد ظاهرا في الحصر فلا إشكال في التنافي بينهما. من دون فرق بين أن
تكون دلالته نوعية وضعية أو سياقية ، كما في المفاهيم المتقدمة ، كقولنا : أكرم
العالم ، مع قولنا : إنما يكرم العالم العادل ، أو : أكرم العالم إن نفع ، وأن
تكون شخصية لخصوصية خاصة في الكلام ، كما لو ورد مورد التحديد. والظاهر وضوح لزوم
تنزيل المطلق على المقيد عندهم ، لأن ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في
الإطلاق ، بل كثيرا ما يكون أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم ، كما يأتي إن
شاء الله تعالى في الفصل الآتي.
وأظهر من ذلك ما
لو دل المقيد على نفي الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال صريحا أو ظاهرا ، كما في
قولنا : أكرم العالم ، مع قولنا : لا يكرم العالم الفاسق ، أو : لا يكرم العالم إن
لم ينفع.
وإن لم يكن المقيد
ظاهرا في الحصر فلا تنافي بين الدليلين ، لأن ثبوت الحكم لبعض الأفراد لا ينافي
ثبوته لجميعها.
ومن ثمّ يختص
الكلام في المقام بالقسم الأول. بل مقتضى فرضهم
الكلام الإثباتيين
كون محل كلامهم بعض أقسامه ، وأن تحكيم المقيد مع كونه نافيا ليس موردا للإشكال ،
كما صرح به بعضهم.
إذا عرفت هذا ،
فالمعروف بينهم حمل المطلق على المقيد. والوجه فيه ما أشار إليه المحقق الخراساني
قدّس سرّه من أن ظهور المقيد في الأمر التعييني الإلزامي أقوى من ظهور المطلق في
الإطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد ، فيتعين تحكيم المقيد ورفع اليد عن الإطلاق.
دون العكس وتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري ، بأن يراد به في المقام
بيان أحد أفراد الواجب ، أو على الاستحباب التعييني ببيان أفضل الأفراد. لأن حمل
الأمر بالشيء على كونه تخييريا لبيان أحد افراد الواجب بعيد عن ظاهره جدا ومحتاج
إلى عناية خاصة.
وحمله على بيان
أفضل الأفراد وإن لم يكن كذلك ، إلا أنه أبعد من حمل المطلق على المقيد ، ولذا لا
إشكال عندهم في تقديم المقيد المنفي مع أنه يمكن أيضا حمله على الكراهة ببيان
الفرد المرجوح وإن كان مجزيا تحكيما للمطلق.
نعم ، قد يحتفّ
المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية تقتضي أقوائية المطلق ، فيلزم
تحكيمه وحمل المقيد عليه بأحد الوجهين المتقدمين ، ولا سيما الثاني منهما ، كما لا
يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي لقوة دلالته على العموم ، بنحو قد لا يسهل
تنزيله على المقيد.
لكن الظاهر خروج
ذلك عن محل الكلام ، وأن مورد البحث المطلق المستفاد عمومه من مقدمات الحكمة مع
المقيد في نفسيهما ، مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجري ذلك
في بقية الأقسام ، التي عرفت عدم الإشكال بينهم في تقديم المقيد فيها ، كما لو كان
المقيد منفيا أو مثبتا دالا على الحصر ، فيحكم المطلق للقرينة المذكورة ، ويحمل
المقيد المنفي على بيان الفرد المرجوح ، والمثبت على أفضل الأفراد.
هذا ، وقد استدل
في كلماتهم على تقديم المقيد في محل الكلام ..
تارة : بأنه جمع
بين الدليلين ، وهو أولى من الطرح كما عن المشهور.
واخرى
: بأن المقيد يكشف
عن عدم صدور المطلق في مقام البيان الذي هو شرط في انعقاد الإطلاق ، فلا إطلاق معه
كي يرفع به اليد عن ظهور المقيد في الوجوب كما يظهر من التقريرات.
وثالثة
: بأنه مقتضى مفهوم
الوصف ، كما عن البهائي ، ولذا أورد على المشهور بالتناقض ، لعدم بنائهم على ثبوت
مفهوم الوصف.
ورابعة
: بالاحتياط ، كما
يظهر مما عن المحقق القمي.
والكل كما ترى!
لاندفاع الأول : بعدم انحصار الجمع بالوجه المذكور ، كما يظهر مما سبق.
والثاني : بأنه
يكفي في انعقاد الإطلاق عدم البيان المتصل ، كما سبق عند الكلام في مقدمات الحكمة.
والثالث
: بأن موضوع المقيد
قد لا يكون وصفا ، فلا مفهوم له إجماعا ، ولو كان له مفهوم خرج عن محل كلامهم من
فرض الدليلين مثبتين ، كما نبه له في التقريرات.
والرابع : بأن
الكلام في مفاد الجمع بين الدليلين عرفا ، لا في مقتضى الأصل العملي الذي هو مورد
للكلام في مسألة الدوران بين المطلق والمقيد. فالعمدة ما سبق.
نعم ، قد يستشكل
فيه بعدم بنائهم عليه في المستحبات ، بل يغلب بناؤهم فيها على حمل المقيد على أفضل
الأفراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه تحكيما للإطلاق. ولعل ذلك هو الموجب
لتحرير المسأله في كلماتهم والمنبه لخصوصيتها من بين فروض العام والخاص ، حتى
افردت بالبحث والكلام.
وقد حاول في
التقريرات تقريب الفرق بين الواجبات والمستحبات ..
تارة
: بغلبة العلم
بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، فلا يصلح المقيد للكشف عن عدم
ورودها في المقام المذكور ، ليمنع من انعقاد الإطلاق على مسلكه المتقدم. ويحمل
مورد الشك على الأعم الأغلب.
واخرى : بغلبة
العلم باختلاف مراتب المحبوبية في المستحبات ، ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.
وزاد عليه المحقق
الخراساني قدّس سرّه بأن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة السنن استحباب المطلق على
إطلاقه.
ويشكل الكل : بعدم
المنشأ للعلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، وعدم صلوح المقيد
المنفصل للمنع من انعقاد الإطلاق حتى في الواجبات كما سبق. كما أن غلبة اختلاف
مراتب المحبوبية ـ مع قرب استناد إحرازها ولو ببعض مراتبها لبنائهم على الجمع
المذكور ، فلا تكون مستندا له ـ لا تختص بالمستحبات ، لما هو المعلوم من كثرة
اختلاف أفراد الواجبات في الفضيلة. مضافا إلى الإشكال فيه وفي ما قبله بعدم وضوح
كون الغلبة من القرائن الموجبة لتبدل مقتضى الجمع العرفي.
وأما قاعدة
التسامح في أدلة السنن فهي ـ على التحقيق ـ إنما تنهض بحسن الإتيان بالفعل بالرجاء
المطلوبية ، لا بالاستحباب الشرعي ، كما هو مبناهم في المستحبات في المقام.
على أنه لما كان
موضوعها بلوغ الثواب على العمل فالمطلق وإن كان في نفسه دليلا على استحباب ما عدا
أفراد المقيد فيصدق به بلوغ الثواب عليه ، إلا أنه إذا كان مقتضى الجمع العرفي
حمله بقرينة المقيد على ما عدا فاقد القيد خرج عن كونه دليلا على ذلك ولم يتحقق به
موضوع القاعدة. فتأمل.
مضافا إلى أنه لو
تم كون مقتضى القاعدة استحباب فاقد القيد فلا يتضح وجه البناء على كون فاقد القيد
أفضل الأفراد. وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا
المحقق الخراساني
قدّس سرّه.
فالذي ينبغي أن
يقال أنّه : إن كان إطلاق دليل المستحب شموليا ، كدليل استحباب قراءة القرآن ،
وزيارة المعصومين عليهم السّلام ، والدعاء ، والصدقة ، والإحسان ، وغيرها مما هو
كثير ، فلا إشكال بلحاظ ما سبق من عدم التنافي بين المطلق الشمولي والمقيد ، ليلزم
رفعه بالتقييد ، لأن ثبوت الحكم لبعض أفراد الماهية لا ينافي ثبوته لتمامها.
نعم ، لا ينهض
دليل المقيد حينئذ بإثبات كون واجد القيد أفضل الأفراد ، بل لا بد في البناء على
ذلك من التشبث بإشعار أخذ العنوان في المتعلق في كونه علة للحكم ، حيث يكون مقتضى
ذلك عليه كل من عنوان المطلق والمقيد للحكم المستلزم لتأكد الحكم في أفراد المقيد
بتعدد مقتضيه ، أو الاستعانة بالمناسبات الارتكازية أو القرائن الخارجية المقتضية
لأفضلية المقيد لو تمت ، وبدونها لا يبنى على ذلك.
وأما إن كان بدليا
فالمقيد وإن كان ظاهرا في التعيين وعدم امتثال أمره بغير واجد القيد ، إلا أن أمره
كما يمكن أن يكون هو عين الأمر بالمطلق المستلزم للتنافي بين الدليلين ـ لامتناع
اختلاف متعلق متعلق الأمر الواحد بالإطلاق والتقييد ـ فيلزم الجمع بتنزيل المطلق
على المقيد ، والالتزام بعدم إرادة فاقد القيد من المطلق وعدم تحقق الامتثال به ،
كذلك يمكن أن يكون أمرا آخر متعلقا بالخصوصية زائدا على الماهية المطلوبة بأمر
المطلق ، من دون أن ينافي المطلق ليلزم حمله عليه ، بل يبقى المطلق على إطلاقه
متعلقا أمره بأصل الماهية دون الخصوصية ، فيصلح فاقد القيد لامتثاله ، ومرجعه إلى أن
المقيد أفضل الأفراد.
ولا مجال للبناء
على الأول بعد منافاته لمقتضى الإطلاق إلّا بقرينة خاصة.
وأما ما سبق عند
الكلام في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين ، من استبعاد تعدد الحكم مع إطلاقه في
الدليلين او تعليقه على شرط واحد ، فهو
مختص بالحكم
الإلزامي ، الذي يهتم ببيانه والقيام بمقتضاه ، حيث يبعد اهتمام الحاكم ببيان أحد
الحكمين الإلزاميين دون الآخر مع وحدة موضوعهما واتحاد سنخهما بمجرد اختلاف
متعلقهما بالإطلاق والتقييد ، بخلاف الحكمين غير الإلزاميين ، حيث قد يهتم الحاكم
ببيان بعض المطلوب لإحداث الداعي له ، دون بعض ، لعدم كونه إلزاميا وعدم مناسبة
المقام لبيانه.
على أن الأثر
المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد ، وفي المستحبات هو مشروعية فاقد
القيد.
وقد سبق أن الأول
كما لا يترتب مع وحدة الحكم لا يترتب مع تعدده ، ولا ينفع الإطلاق في الواجبات في
ترتبه إما لتقييده مع كون الحكم واحدا ، أو للزوم امتثال أمر المقيد مع كون الحكم
متعددا ، ومن هنا لا يهم إثبات وحدة الحكم هناك.
وأما الثاني
فيترتب مع تعدد الحكم لا مع وحدته ، وحيث كان مقتضى الإطلاق ترتبه المستلزم لتعدد
الحكم ، فلا بد في الخروج عنه من قرينة ملزمة بوحدة الحكم.
وبعبارة اخرى :
حمل المقيد على بيان أفضل الأفراد في الواجبات مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في
الإلزام وهو أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق غالبا ، فيلزم رفع اليد به عن الإطلاق
، أما في المستحبات فحيث فرض عدم إرادة الإلزام منه لا ينافي المطلق ، فلا بد في
الخروج فيها عن مقتضى الإطلاق من قرينة خاصة تقضي بوحدة الحكم ، كما ذكرنا.
نعم ، ذلك إنما
يتم إذا كان المقيد بلسان محض الأمر بعنوانه ، أما إذا كان الأمر فيه واردا لشرح
الماهية المستحبة ، كما ورد السؤال عن زيارة الحسين عليه السّلام فاجيب بالأمر
باستقبال القبلة فيها فمقتضاه وحدة الحكم وانحصار الماهية المذكورة بالمقيد ،
فيلزم تنزيل المطلق عليه ورفع اليد عن الإطلاق به. وحمله
حينئذ على أفضل
الأفراد مخالف للظاهر ومحتاج للقرينة. هذا وقد أشار في التقريرات لبعض ما ذكرنا في
توجيه مبنى المشهور على مسلكهم من عدم مانعية البيان المنفصل من انعقاد الإطلاق.
فراجع.
هذا كله إذا كان
المقيد بلسان الأمر ، وأما إذا كان بلسان النهي عن بعض الأفراد ، فإن أمكن إبقاؤه
على ظاهره من كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا فلا إشكال في كونه أقوى من ظهور
المطلق في الإطلاق ، فيقيد به المطلق لو كان شموليا ، بل لو كان بدليا أيضا على ما
يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
وان كان للإرشاد
لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره امتناع امتثال المستحب بمورده إلا بقرينة تقضي
بحمله على بيان الفرد المرجوح والأقل فضيلة. وكذا لو كان بلسان تحديد الموضوع
إثباتا ، نحو قولنا : إنما النافلة بعد الفريضة ، أو نفيا ، نحو قلنا : لا نافلة
لمن لا يؤدي الفريضة ، حيث يكون حاكما على إطلاق الاستحباب حكومة عرفية.
هذا ما تيسر لنا
في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبيعة الأدلة المفروضة ، وكثيرا ما تتحكم القرائن
الخاصة بما فيها مناسبات الحكم والموضوع في كيفية الجمع بين الأدلة بنحو تؤكد ما
ذكرنا أو تلزم بالخروج عنه ، ولا ضابط لذلك.
الفصل الثامن
في تخصيص العام بالمفهوم
لما كان المعيار
في التخصيص على قوة الخاص ظهورا من العام ـ كما سبق ـ فقد وقع الكلام في تخصيص
العام بالمفهوم بلحاظ أن دلالة الكلام على المفهوم ليست كدلالته على المنطوق ،
وحيث كانت دلالة العام على العموم بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وإن
كان أضعف منه من حيثية العموم والخصوص.
ومن ثمّ اختلفوا
في تخصيص العام بالمفهوم.
لكن لا يبعد غلبة
أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له ، وإن كان اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة
بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في كيفية الجمع العرفي بينهما ، والتي لا ضابط
لها ، بل توكل لنظر الفقيه.
هذا في مفهوم
المخالفة ، وأما مفهوم الموافقة فلا إشكال بينهم في تخصيص العام به ، لأن وضوح
ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفا ، فعدم تخصيص العام لا ترجع إلى رفع
اليد عن المفهوم وحده ، بل عن المنطوق أيضا ، فلا يجري فيه الوجه السابق للتوقف.
ثم إن أهل الفن قد
حرروا في مبحث العام والخاص بعض المسائل الاخرى ، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر
الواحد ، ومسألة الدوران بين التخصيص والنسخ ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن
المخصص.
ويظهر الحال في
المسألة الاولى مما يأتي في استدلال المانعين من
حجية خبر الواحد
بمخالفته بكثرة مخالفته لظواهر الكتاب.
وفي الثانية مما
يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض عند الكلام في الدوران بين النسخ
والجمع العرفي بين الدليلين.
وفي الثالثة مما
يأتي في خاتمة علم الاصول من الكلام في وجوب الفحص عن الأدلة.
ولا مجال مع ذلك
لتحرير الكلام هنا في هذه المسائل ، لأن البحث في تلك المواضع أوسع وأشمل.
كما أنهم عقدوا
بحثا للمجمل والمبين وأطالوا الكلام في تعريفهما ، وفي بعض صغرياتهما بما لا مجال
لصرف الوقت فيه ، بعد كون مفهومهما بالمقدار الذي يحتاج إليه في مقام العمل من
المفاهيم العرفية الجلية ، وعدم انضباط صغرياتهما ، لأنها كما تتبع الظهورات
النوعية المنضبطة تتبع القرائن الشخصية غير المنضبطة ، لو تعارضت ، كما تتبع تحديد
مفاهيم المفردات وعدمه. ومن هنا كان الأنسب إيكال تشخيصها لنظر الفقيه عند ممارسة
النظر في الأدلة.
خاتمة مباحث
الألفاظ
ما ذكرناه من
الكبريات في هذه المباحث مبتن على ملاحظة الظهورات النوعية المنضبطة التي تكون
مرجعا لو لا القرائن الخاصة. وعلى الفقيه أن لا يتسرع في استنباط الأحكام تبعا لها
، بل يلزمه التأمل في خصوصيات الموارد وفي ما يكتنف بالكلام من القرائن ، ولا سيما
الحالية منها التي كثيرا ما يغافل عنها.
كما عليه أن يتحفظ
ويتروى كي لا يخرج في فهم الكلام اعتمادا على ما عنده من مقدمات الاستظهار عما
تقتضيه السليقة العرفية والذوق السليم في خصوصيات الاستعمالات ، فإن مؤدى الكلام
هو المفهوم هو المفهوم العرفي منه ، وليست الكبريات المتقدمة ونحوها مما يذكر في
علوم اللغة إلا لتسهيل فهمه وإدراكه من دون أن تستقل به وحدها ، فلا ينبغي أن
يكتفي بها ، بل ينبغي عرض نتائجها على المفهوم العرفي وتحكيم الذوق والسليقة فيها
، فإن خالفتها كشف ذلك عن قرينة مغفول عنها يلزم التأمل لتحديد مفادها ، أو خطأ
بعض الكبريات التي اعتمدها فلا بد من النظر في حالها.
ومن ثمّ كان الفقه
من أشق العمليات العلمية ، لعدم انضباط مقدماته ، وعدم تحديد نتائجه ومحصلاته ،
بخلاف غالب العلوم الاخرى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
انتهى الكلام في
مباحث الألفاظ ضحى الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الأول ، من السنة الثانية
بعد الألف والأربعمائة ، للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى
التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم
المشرف على مشرفه
الصلاة والسلام ، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلّامة الجليل
حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
والحمد لله في
البدء والختام ، وبه الاعتصام ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله
الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام.
وانتهى تبييضه بعد
تدريسه ضحى الاثنين ، التاسع والعشرين من الشهر المذكور ، بقلم مؤلفه الفقير حامدا
مصليا مسلما.

الباب الثاني
في الملازمات العقلية
أشرنا في المقدمة
إلى أن الاصول النظرية التي يكون مضمونها أمرا واقعيا مدركا لا يتضمن العمل بنفسه
، بل بخصوصية متعلقة ـ لكونه حكما شرعيا عمليا أو ملازما له ـ تنحصر في مباحث
الألفاظ المتضمنة تشخيص الظهورات الكلامية ـ والتي تقدم الكلام فيها ـ ومباحث
الملازمات العقلية المتضمنة للكلام في إدراك العقل أمرين لينتقل من أحدهما للآخر.
وهي التي عقد البحث في هذا المقام لها.
ويفترقان في أن
الظهورات اللفظية ، حيث لا تستلزم العلم بمضمونها ، توقف العمل بها على ثبوت كبرى
حجية الظهور التي هي من مسائل الاصول ، فهي ترجع إلى تنقيح صغريات الكبرى
المذكورة.
أما الملازمات
العقلية فحيث كانت وجدانية قطعية فترتب العمل عليها لا يتوقف على حجية شيء غير
العلم الذي لا يكون البحث عن حجية من مسائل الاصول ، بل يكون البحث في مسائل
الاصول بعد الفراغ عن لزوم العمل به ، حيث لا يترتب العمل عليها لولاه.
وأما ما جرى عليه
بعض المعاصرين في اصوله من جعل مسائل الملازمات صغريات لكبرى مسألة اصولية ، وهي
مسألة حجية الدليل العقلي.
فهو خروج عما
يقتضيه نظم البحث في المسائل الاصولية. وربما جرّه اضطراب كلماتهم في المقام.
ثم إن الملازمات
العقلية المبحوث عنها في علم الاصول في نتائجها وكيفية الاستدلال بها ، فغالبها
يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، بخلاف مسألة الإجزاء فإنها تقع في طريق تشخيص
الوظيفة العملية العقلية.
كما أن غالبها
ينتج بواسطة صغرى شرعية ، فمسألة مقدمة الواجب التي يبحث فيها عن ملازمة وجوب
الشيء لوجوب مقدمته ـ لو بني عليها ـ لا تكون نتيجتها وجوب كل مقدمة لشيء إلا بعد
فرض وجوبه شرعا ، ومثلها غيرها ، بخلاف مسألة ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ، فإنها
لو تمّت لا تنتج حكم الشارع في مورد إلا بعد فرض حكم العقل في ذلك المورد ، بلا
حاجة إلى فرض حكم الشارع.
ومن هنا يكون
الدليل على الحكم الشرعي المبتني عليها عقليا محضا ، بخلاف ما قبلها. ولذا قسم بعض
المعاصرين بحث الملازمات العقلية إلى قسم المستقلات العقلية ، وقسم غير المستقلات
العقلية. وإلا فالملازمات ـ التي هي موضوع هذا الباب ـ بنفسها عقلية محضة في الجميع
، فهو أشبه بالتقسيم بلحاظ حال المتعلق ، ومن ثمّ لا نرى داعيا لهذا التقسيم.
إذا عرفت هذا ،
فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول ..

الفصل الأول
في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
قد وقع الخلاف
واضطربت كلماتهم من عصور الإسلام الاولى إلى العصور المتأخرة في ثبوت حكم العقل
الذي هو موضوع الملازمة ، ثم في حقيقته ، ثم في ملازمة حكم الشارع له.
بل قد يظهر من بعض
كلماتهم الكلام بعد ذلك في حجية الدليل العقلي المبتني على ذلك على الحكم الشرعي
المنكشف به ، ومرجعه إلى الكلام في حجية القطع الحاصل من دليل العقل المذكور.
وقد أشرنا إلى
خروجه عن علم الاصول ، لأن الكلام في مسائل الاصول بعد الفراغ عن حجية القطع التي
يأتي الكلام فيها في مقدمة بحث الاصول المبتنية على العمل إن شاء الله تعالى.
ولطول مدة البحث
في ذلك وكثرة اضطرابهم فيه لا يسعنا متابعة كلماتهم فيه ، بل نحاول اختصار البحث
والاقتصار على ما نصل إليه في تحقيقه وما يتعلق بذلك من كلماتهم التي لا بد من
التعرض لها.
ونسأله أن يمدنا
بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد ، إنه ولي الامور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا ، وقد أشرنا
إلى أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم الشرعي في مورد إلا بضميمة حكم
العقل في ذلك المورد.
ومن هنا ينبغي
البحث عن ذلك وإن كان خارجا عن مسألة الملازمة ، لأن
الملازمة لا تتضح
إلا بعد اتضاح أطرافها ، وحيث لا يكون البحث في حكم العقل تحت متناول الناظر في
علم الاصول ، يتعين البحث عنه وبيان حقيقته هنا.
وهو وإن كان من
سنخ المقدمة للكلام في الملازمة إلا أن أهميته تناسب عقد بحث مستقل له. وعلى هذا
يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين ..
المبحث الأول
في ثبوت الحكم للعقل في الوقائع وعدمه
من الظاهر أن صدور
الفعل الاختياري لا بدّ له من داع في الفعل يدركه الفاعل فينبعث عنه ، كما لا
إشكال في وجود الدواعي الفطرية ـ كطلب النفع ودفع الضرر ـ والعاطفية ـ كالحب
والرحمة والبغض والقسوة والشهوة والغضب ـ والتأديبية ـ الشرعية والخلقية ـ والعاديات
ـ العرفية والشخصية ـ.
وإنّما الإشكال في
وجود الدواعي العقلية التي تصلح لداعوية العقل بما هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن
الفعل ، وهي دواعي الحسن والقبح ، فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك
، فادعى العدلية وجود الحسن والقبح في الأشياء في الجملة ـ لا بمعنى أن كل شيء إما
حسن أو قبيح ، بل في مقابل السلب الكلي ـ بحيث لو أدركت جهاتهما كانت صالحة
للداعوية العقلية. وأنكر ذلك الأشاعرة مدعين أن الحسن ما حسنه الشارع ، والقبيح ما
قبحه ، وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبح.
والحق الأول ، وقد
استدل عليه بوجوه متعددة ، ولعل الأولى الاقتصار على وجهين :
أولهما
: الرجوع للوجدان ،
فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام والمنزه عن الدواعي
الخارجية الشهوية والغضبية وغيرها يرى أن هناك أمورا حسنة ينبغي فعلها ويمدح
فاعلها ، كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار ، وأخرى قبيحة لا ينبغي فعلها ويذم
فاعلها ، كالكذب والخيانة والإيذاء والتعدي. وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها قد
تبتني على
شبهات تخرج
بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.
نعم ، لا إشكال في
أن جهات الحسن والقبح في هذه الامور قد تزاحم بجهات تضادها ، فيكون المعيار في
فعلية الداعوية على الأهمية ، على ما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من
سنخ واحد أو داع واحد ، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة لا يخرج في الحقيقة عن
قبحه ، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن حسنه ، بل تسقط داعوية قبح
الأول وحسن الثاني ويسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.
ولعل هذا هو
مرادهم بأن الحسن والقبح في مثل هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين ، وأنها مقتضية لهما
لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه من الحسن أو القبح الاقتضائي
بطروء الجهة المزاحمة.
لكنه في غير محله
، لأنه لو كان طروء الجهة المزاحمة رافعا للجهة الأولية الاقتضائية لكان الكذب
الذي تندفع به المفسدة المهمة في مورد كغيره مما لا قبح فيه إذا اندفعت به تلك
المفسدة ، مع أنه ليس كذلك ارتكازا.
ويأتي بعض الكلام
في ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين.
كما أن جهات الحسن
والقبح العقلية قد تزاحم بدواع خارجية عاطفية أو غيرها تمنع من تأثيرها في فعلية
الاندفاع عنها ، كما هو الحال في جميع الدواعي.
بل الدواعي
المذكورة المزاحمة قد تمنع من الاعتراف بالحسن والقبح ، حيث قد لا يهون على
الإنسان الاعتراف بجريمته ، بل يفرض عليه كبرياؤه
__________________
الانكار
والمباهتة.
لكن ذلك لا يغير
الحق عما هو عليه ولا يقوم بعذر في مقابل المرتكزات العقلية التي بها تقوم الحجة
عند الله تعالى والناس.
ثانيا
: أنه بعد صدور
الممكنات منه تعالى من التكوينيات والتشريعيات ، فحيث يمتنع صدور الإرادة من غير
داع ، وامتنع في حقه عزّ شأنه الداعي الفطري ـ كطلب النفع ودفع الضرر ، لاستلزامها
الحاجة ـ وغيره من الدواعي غير العقلية المتقدمة ـ لاستلزامها النقص ـ فضلا عن
الدواعي غير العقلائية ـ لاستلزامها العبث المنزه عنه تعالى ـ يلزم البناء على
ثبوت الداعي العقلي ـ الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي المعلوم له جل
شأنه في رتبة سابقة على تعلق إرادته تعالى به ، لا أن حسنه تابع لإرادته.
غاية الأمر أنا لا
نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنهما ، وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور
واقعا والعلم به إجمالا بسبب العلم بجريان الإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه
، خلافا لما عليه الأشاعرة.
هذا وقد احتج
الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع النظر عن حكم الشارع بوجوه ..
أحدها : أن
الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه والاعتبارات ، حيث قد يكون الصدق
مثلا قبيحا ، كما لو ترتبت عليه مفسدة مهمة ، والكذب حسنا ، كما لو اندفعت به
مفسدة مهمة ، وكذا غيرهما.
ويظهر الجواب عنه
مما تقدم من أن الاختلاف إنما يكون في داعوية الحسن والقبح بسبب المزاحمة وعدمها ،
لا في أصل ثبوتهما.
ولو سلم فهو إنما
يمنع من كون الامور المذكورة عللا تامة للحسن والقبح ، لا من ثبوتهما لها في
الجملة ولو عند عدم المزاحم ، لأنها من سنخ المقتضي لأحدهما بذاتها مع قطع النظر
عن حكم الشارع الأقدس.
هذا ، وأما ما
تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين من أن بعض الأمور علل
تامة للحسن أو القبح ، ولا تنفك عن أحدهما ، كما لا تقبل المزاحمة ، كالعدل
والإحسان والظلم والعدوان.
فيتضح الحال فيه
مما يأتي إن شاء الله تعالى.
ثانيها
: ما قيل إنه أهم
أدلتهم ، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين
حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء ، مع وضوح الفرق بنيهما ، فإن الحكم الثاني
لا يختلف فيه اثنان مع وقوع الاختلاف في الأول.
وفيه : أن
الملازمة ممنوعة ، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية بالوضوح والخفاء ، بل تختلف
باختلاف القضايا ، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها كانت
من الأوليات التي يكون التصديق بها لازما لمفهوم طرفيها ، بخلاف قضية التحسين
والتقبيح ، فإنها وإن كانت قطعية ، إلا أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها ، بل يحتاج
التصديق بها إلى شيء من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة
للتنبيه ، وإلى التمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات
النفسية المتقدمة ، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها
والإشكالات عليها حتى قد يلتبس الأمر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.
وأما ما يظهر من
بعضهم ـ فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم المذكور ـ من أن القضية المذكورة من
القضايا التأديبيّة التي لو خلي الانسان وعقله المجرد لم يذعن بها ، بل لا بد في
إذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف بها تبعا لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق
آرائهم المحمودة عليها.
فهو غير ظاهر بعد
الرجوع للمرتكزات ، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه العقل إليها وتمييز الدواعي
العقلية عن غيرها في إذعان النفس بها ما لم تمنع
الشبهات من ذلك.
ثالثها
: أنه لو حسن الفعل
أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون الباري مختارا في تشريع الأحكام ، لأن
قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه تعالى يستلزم امتناع مخالفته ، فلا يكون مختارا
فيه.
وفيه : أن امتناع
صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه ، كي ينافي اختياره ، بل لأن كماله لا يناسب
اختياره للقبيح ، ويلزم باختياره للحسن ، فهو مبتن على الاختيار ، وليس منافيا له.
وهناك بعض الوجوه
الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لوضوح ضعفها ، أو لابتنائها على مبان ظهر
بطلانها في محله المناسب.
ولا سيما مع أن
ثبوت الحسن والقبح من الوضوح بنحو لا يحتاج معه للنقض والإبرام ، بل الوجوه
المستدل بها على عدمهما لو كات متينة بحسب الصورة فهي لا تخرج عن كونها شبهة في
مقابل البديهة لا ملزم بالتطويل فيها والتعريج عليها.
بقي الكلام في
حقيقة الحكم بالحسن والقبح وكيفية ادراك العقل لهما. والظاهر بعد التأمل في
المرتكزات أن العقل يدرك أولا حسن الشيء أو قبحه على أنه أمر واقعي كسائر المدركات
الواقعية ، ثم يدعو لفعل الحسن وترك القبيح.
والداعوية
المذكورة وإن كانت نحوا من الحكم إلا أنه لا يعتمد على قوة وسلطان لتكون أمرا
ونهيا ، إذ لا حول للعقل ولا سلطان ، بل محض إرشاد ونصح مبتن على نحو من التشجيع
والتأنيب نابع من صوت الحس والوجدان والضمير الذي أودعه تعالى في الإنسان واحتج به
عليه.
وإليه يرجع حكم
العقلاء باستحقاق المدح أو الذم وأهلية الثواب أو العقاب.
والحكمان
المذكوران مختلفان سنخا ومترتبان في أنفسهما ترتب الحكم والموضوع.
ونظير ذلك إدراك
الإنسان اللذات ثم دعوة النفس لتحصيلها ، وغير ذلك من الداعويات المختلفة.
وتحقيق أن الحاكم
بهما العقل النظري أو العملي يرجع ـ على الظاهر ـ يبتني على محض اصطلاح لا مشاحة
فيه. والمهم ما ذكرنا.
هذا ، وقد ذكر بعض
المعاصرين في اصوله أنه ليس للحسن والقبح واقعية إلا إدراك العقلاء ، وتطابقهم على
أن الشيء ينبغي أن يفعل أو يترك ، وأن ذلك من التأديبات الصلاحية الداخلة في
القضايا المشهورة التي ليس لها واقع وراء تطابق العقلاء. قال : «فمعنى حسن العدل
أن العلم عندهم أو فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله
مذموم لديهم. ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات
الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة ، وأنها ليست من قسم الضروريات ـ ما قاله
الشيخ الرئيس في منطق الإشارات ، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة. وربما خصصناها
باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة ، وهي آراء لو خلي الإنسان وعقله المجرد
ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة
لعقله أو وهمه أو حسه ، مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح ، وأن الكذب قبيح ، لا
ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي».
ومرجع ذلك إلى
إنكار الحكم الأول الذي ذكرناه آنفا ، وأن الحسن والقبح عبارة عن الحكم الثاني مما
سبق.
ولا مجال للبناء
عليه ، لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الفعل ليس اعتباطيا ، بل لإدراكهم أمرا فيه
يقتضي فعله أو تركه ، تكون الداعوية العقلية
متفرعة عليه تفرع
الحكم على الموضوع ، وذلك الأمر هو الحسن أو القبح.
فالحسن والقبح
أمران واقعيان لا يتوقفان ثبوتا على إدراك العقلاء ، ولا على مدحهم وذمهم. ولذا
يصح عرفا أن يقال : ينبغي للإنسان أن يصدق ولا ينبغي له أن يكذب ، لأن الصدق حسن
والكذب قبيح. وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه آنفا من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن
والقبح لا يخرج الحسن عن حسنه والقبيح عن قبحه ، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية
لو لم يكونا أهم من المزاحم.
أما لو قيل بأن
الحسن والقبح عبارة عن نفس الحكم بأن الشيء مما ينبغي فعله أو لا ينبغي ، وأنه
يستحق عليه المدح أو الذم ـ الذي هو عبارة عن نفس الداعوية ـ لزم البناء على تأثير
المزاحم في نفس الحسن والقبح ورفعه لهما ، بل يخرج عن كونه مزاحما بل يكون عدمه من
قيود الموضوع ، كما هو ظاهر.
ولعل ما تقدم من
الاشارات مسوق لبيان أن الشهرة هي العمدة في إثبات الحسن والقبح وإدراكهما لا في
ثبوتهما ، فلا ينافي ما ذكرناه هنا.
كما قد يناسبه أن
المحقق الطوسي ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة يجوز ارتكاب أقل القبيحين ، وهو
يبتني على ما ذكرناه من عدم خروج القبيح المرجوح عن قبحه بالمزاحمة. فلاحظ.
على أنه لو سلم أن
مدح العقلاء وذمهم لا يستند إلى إدراكهم حسن الشيء أو قبحه ، بل ليس الحسن والقبح
إلا استحقاق المدح والذم وكون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه ، إلا أن الظاهر أن
كون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه مستند للداعوية العقلية التي يستقل كل أحد بها
بنفسه ، لا بسبب تطابق آراء العقلاء ، بحيث لو فرض عدم وجود غير عاقل واحد لحكم
عقله بذلك ، وليس تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.
تطابق آراء
العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.
وبالجملة : لا دخل
لتطابق آراء العقلاء في ثبوت الحسن والقبح ، ولا في الداعوية لفعل الحسن وترك
القبيح ، كما تقدم أنه غير دخيل في إثبات التحسين والتقبيح وإقرار الإنسان بهما.
هذا ، ولبعض
المعاصرين قدّس سرّه في منطقه عند شرح حقيقة الخلقيات من المشهورات كلام يقارب ما
ذكرنا لو لم يطابقه ، قال : «والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالى خلق في
قلب الإنسان حسا وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها ، وذلك الحسّ هو
الضمير بمصطلح علم الأخلاق الحديث ، وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي أو العقل
المستقيم أو الحسّ السليم عند قدماء علماء الأخلاق وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم.
فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به
ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ، ويقرّ عين فاعل الفضيلة ، وهو
موجود في قلب كل إنسان ، وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الأفعال ،
فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة والرذيلة ، وإن اختلفت في قوة هذا التمييز
وضعفه ، كسائر قوى النفس ، إذ تتفاوت في الأفراد قوة وضعفا. ولأجل هذا كانت
الخلقيات من المشهورات وإن كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر ، بل هي من
خاصة الخاصة. نعم الإصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل إنسان إلا
بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه ...».
وهو ـ كما ترى ـ صريح
في أن إقرار عين فاعل الفضيلة وتأنيب مرتكب الرذيلة متفرع على إدراك حسن الأشياء
وقبحها ، وأن قوة الإدراك مودعة في الإنسان غير مكتسبة من تطابق العقلاء ، بل
تطابقهم هو المسبب عن واجديتهم للقوة المذكورة.
وهو وان ذكر ذلك
في الخلقيات ، دون التأديبات الصلاحية ، التي خصها بما تطابق عليه العقلاء من أجل
قضاء الصالح العام لأن بها انحفاظ النظام وبقاء النوع ، إلا أن الظاهر أن حسن
الحفاظ على النظام والسعي لبقاء النوع يختص بما يبتني على الفضيلة واجتناب الرذيلة
كما يناسبه تمثيله له بحسن العدل وقبح الظلم ، وإلا فلا يدعو العقل إليه ولا يراه
حسنا. غاية الأمر أن تدعو إليه الفطرة لو لازم دفع الضرر ، أو جلب النفع للنفس ،
أو تدعو إليه العاطفة وغير ذلك من الدواعي غير العقلية.
على أنه لا إشكال
في كون الخلقيات من صغريات التحسين والتقبيح العقلين ، فما ذكره فيها لا يناسب ما
ذكره في حقيقتهما في كلامه المتقدم وغيره من اصوله.
ومن الغريب أنه في
اصوله قد حول على ما ذكره في منطقه بنحو قد يظهر منه جريه فيهما على نهج واحد.
المبحث الثاني
في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
لعل المعروف بين
أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض
الامور شرعا بالأدلة الأربعة ، لابتناء الاستدلال بحكم العقل عليها على إدراك
قبحها ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.
وربما ابتنى عليها
عدهم للأدلة أربعة ، وأرادوا برابعها حكم العقل ، وإن اختلفوا في تعيينه.
وكيف كان ، فقد
استدل عليها بوجوه تعرض لجملة منها في الفصول وأطال الكلام فيها ، ولعل أمتنها ما
جعله ثالث الوجوه ، وإليه يرجع ما اعتمده بعض المعاصرين في اصوله ، وذكره بقوله : «فإن
العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم
عقلاء على حسن شيء ، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ، أو على قبحه ، لما فيه
من الإخلال بذلك ـ فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع
بحكمهم ، لأنه منهم ، بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء
لا بد أن يحكم بما يحكمون ، ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم
بادي رأي الجميع ، وهذا خلاف الفرض».
ومقتضاه كون
الملازمة في المقام من صغريات الملازمة بين الكل والجزء ، نظير الملازمة بين
الإجماع المصطلح بين الأصحاب وقول الإمام عليه السّلام.
وفيه : أن محل
الكلام ليس هو إدراك الشارع حسن الشيء أو قبحه
وداعوية العقل على
طبقهما ، واستحقاق المدح والذم بمتابعة الداعوية المذكورة ومخالفتها ، فإن ذلك حكم
العقل نفسه وليس إدراك الشارع له إلا كإدراك غيره من العقلاء لا يصحح نسبة الحكم
إليه بنحو تكون موافقته ومخالفته طاعة له مستتبعة لاستحقاق ثوابه ومعصية له
مستتبعة لاستحقاق عقابه.
وأما ما ذكره بعض
المعاصرين من أن المراد باستحقاق المدح والذم المفروض في حكم العقل بالتحسين
والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب والمكافأة بالشر الشامل للعقاب.
فهو كما ترى! لوضوح
أن الموافق للداعي العقلي لا يستحق على سائر العقلاء الثواب ، كما لا يستحق
المخالف له العقاب منهم ، مع أنهم يشاركون الشارع في إدراك حكم العقل المذكور ، بل
لا يصح منهم إلا المدح والذم المساوقان لمفاد (نعم)و (بئس).
وإنما يصح من
الشارع العقاب لتميزه عنهم بكونه المنعم المالك الذي له حق الطاعة على عبده ،
ويترتب على ثبوت الحق المذكور مقتضاه من استحقاق حسن الجزاء على أدائه وسوء العقاب
على التفريط فيه.
ومن الظاهر أن حق
الطاعة فرع نسبة الحكم للمولى زائدا على حكم العقل به ، وهو لا يكون إلا بجعل
الحكم المولوي منه زائدا على إدراكه مقتضى حكم العقل.
ودعوى : أنه يكفي
في نسبة الحكم إليه حكمه به بما هو عاقل كسائر العقلاء ، وإنما يفترق عنهم بأنه
يستحق الطاعة على العبيد ، فينبغي منه ثوابه عليها ، ويستحق عقابه بالتفريط فيها ،
بخلافهم ، وإذا لم يستحقوا الطاعة لم ينتظر منهم الثواب عليها ولا يصح منهم العقاب
على التفريط فيها ، وإن كان الحكم منسوبا لهم بمجرد حكمهم به بما هم عقلاء ، كما
ينسب للشارع.
ممنوعة ، وإلا لزم
انقلاب الأحكام الإرشادية إلى أحكام مولوية ، لإدراك
الشارع حكم العقل
فيها ، فيكون منسوبا إليه ومنشأ لاستحقاق الثواب والعقاب منه.
وهو مما لا يمكن
البناء عليه.
كما لا يصح عند
العقلاء عقاب من له حق الطاعة من الناس شرعا ـ كالمولى المالك ـ أو عرفا ـ كالرئيس
الصالح المعترف برئاسته ـ أو ادعاء ـ كالسلطان القاهر ـ بمخالفة مقتضى الداعوية
العقلية ، بل لا بد من صدور الحكم المولوي منه على طبقها ، بحيث يعلم منه الإلزام
بمقتضاها زائدا على إلزام العقل.
بل لو حكم على
خلاف مقتضى الداعوية العقلية ـ كما لو أمر بالكذب ـ نسب إليه الحكم المذكور وكان
موضوعا للطاعة والمعصية دون مقتضى الداعوية العقلية وإن كان مدركا له كالشارع.
على أن عدم
استحقاق العقلاء الطاعة انما يمنع من استحقاق العقاب منهم بمعصيتهم ، لا من
استحقاق الثواب عليهم بإطاعتهم ، فلو كان الحكم العقلي منسوبا لكل منهم بمجرد
إدراكهم له لزم استحقاق الثواب عليهم بموافقته.
وبالجملة : محل
الكلام هو حكم الشارع المولوي المجعول منه زائدا على حكم العقل المدرك له ، ولا بد
في دعوى ملازمته لحكم العقل المذكور من الدليل.
ولم يتضح لنا
عاجلا ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه التي ذكرها في الفصول.
والتحقيق : أن
لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل يبتني على وجوب اللطف منه تعالى
عقلا بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعا ، وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في
الجري على مقتضى حكم العقل ،
لمزاحمتها
بالدواعي الاخرى التي هي أقوى منها في حق أكثر الناس ، فيجب على الشارع لحفظ
مقتضيات الأحكام العقلية جعل الحكم على طبقها ، للتأكد الداعوية العقلية بالداعوية
الشرعية ، حيث يتسنى بجعل الحكم الشرعي الجري على مقتضاه لأجله تعالى والعمل
لحسابه ، لكونه المنعم المالك الكامل القادر ، إما لأنه اللازم الشكر لإنعامه ، أو
الذي هو أهل لأن يعبد بالطاعة لكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بمثله ، أو لأنه
المحبوب لإنعامه وكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي العاطفي ، أو لأنه المرجوّ
المرهوب ، لمالكيته وقدرته ، المستلزمين لاستحقاق الثواب ورجائه ، واستحقاق العقاب
ورهبته ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر ،
الذي هو أقوى الدواعي عند العامة.
لكن ذلك لا يكون
لمجرد حكم العقل بحسن الحسن وقبح القبيح ، وداعويته لفعل الأول وترك الثاني ، بل
هو تابع لحكم عقلي آخر متفرع على الحكم المذكور ، وهو وجوب حفظ مقتضى حكم العقل
المذكور بالتشريع على طبقه ، نظير تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المتفرع ثبوت المعروف والمنكر تشريعا.
وذلك الحكم مختص
بالشارع الأقدس ، لاختصاص القدرة على مقتضاه به ، بلحاظ علمه المطلق التام
بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد تزاحمها ، وقدرته على حفظها بالدواعي
المذكورة آنفا بسبب التشريع ، لواجديته لجهاتها ، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم
وجه ، وكل ذلك مما ينفرد به جل شأنه وعزّ اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه.
هذا ، ولكن وجوب
حفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع لا بد فيه من أمرين ..
أحدهما
: عدم المزاحم
للمقتضيات المذكورة بما يمنع من فعلية تأثيرها
في الداعوية
العقلية.
ثانيهما
: عدم المانع من
التشريع على طبقها وإن كانت فعلية التأثير في الداعوية العقلية ، حيث قد يكون في
جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية ،
وتلزم بجعل الحكم منه على نحو آخر. نظير رفع القلم عن الصبي المميز ، فإن الداعي
العقلي في حقه وإن كان فعليا ـ فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلا ـ إلا
أن الشارع الأقدس حيث أدرك المفسدة في إلزامه بمقتضاه شرعا تعين رفع القلم عنه من
قبله الراجع في ترخيصه بمخالفته.
ولعل كثيرا من
المستحبات والمكروهات إنما لم يكن حكمها إلزاميا للمانع من إلزام الشارع فيها ، لا
لقصور مقتضي الداعوية العقلية فيها عن الإلزام ، كما فيما لو كان المانع من
الإلزام مصلحة التسهيل والامتنان ، لوضوح عدم كون المنة والتسهيل من المصالح
المترتبة على الفعل أو الترك والصالحة لمزاحمة مقتضي الداعي العقلي بنحو تمنع من
كون داعويته إلزامية ، بل من الجهات المانعة من نفس الإلزام والتكليف ، مع بقاء
الفعل على ما هو عليه من الداعوية العقلية ، نظير مصلحة رفع الإلزام عن الصبي
المميز.
وأما ما تضمن
اهتمام شريعة الاسلام بالفضائل ومحاسن الاخلاق كالنبوي المشهور : «بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق». فهو محمول على كون الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولي
فيه ، في مقابل الشرائع الباطلة المهملة لذلك ، أو المبنية على انتهاك الحرمات
وترويج الرذائل والتشجيع ، فلا ينافي ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع
المذكور والوقوف عندها.
ومن هنا يمتنع
البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه ، بنحو ينتقل من
الثاني للأول ، وينفع في الاستنباط ، لما هو المعلوم من عدم إحاطة العقل بكثير من
المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية التي لو
اطلع عليها لم تكن
الداعوية فعلية.
والداعوية مع
الجهل المذكور وإن كانت فعلية ، لعدم الخروج عن المقتضي المعلوم باحتمال المزاحمة
، إلا أن الاحتمال المذكور يمنع من العلم بالجعل الشرعي على طبق المقتضي المذكور ،
لاحتمال اطلاع الشارع الأقدس على ما لم يطلع عليه من المزاحمات.
كما أن العقل لا
يحيط أيضا بكثير من موانع التشريع غير المانعة من الداعوية العقلية ، فلا يتسنى له
العلم بالتشريع على طبقها أيضا ، كي ينفع ذلك في الاستنباط الذي هو محل الكلام.
وأما ما تكرر في
كلماتهم من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح وللداعوية العقلية ، ولا تقبل
المزاحمة بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها ، وأنه لا بد من حكم الشارع على طبق
الداعوية العقلية المذكورة فيها ، كعنوان العدل والإحسان والظلم والعدوان. فهو وإن
كان مسلما في الجملة إلا أنه لا ينفع في المقام ، لأن تشخيص مصاديق العناوين
المذكورة تابع للتشريع ، لما هو المعلوم من أن العدل الذي هو محل الكلام هو وضع
الشيء في موضعه ، والإحسان هو فعل ما هو حسن ، وأن الظلم والعدوان عبارة عن هضم حق
الغير والتصرف على خلاف مقتضى حقه ، ولا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة
التي هي موضوع الحسن والقبح العقليين التشخيص العرفي لأفرادهما ، بل ليس موضوعها
إلا الفرد الحقيقي المتحصل بتشخيص الشارع ، ولذا لا يكون قتل المؤمن بالكافر عدلا
، ولا إعانة المرتد إحسانا ، ولا ذبح الحيوان ولا قتل الحربي ولا أكل المارة من
ثمر الشجر الذي في الطريق المملوك للغير ظلما وعدوانا إلى غير ذلك.
وبعد فرض أخذ
التشخيص من الشارع يكون الحكم معلوما في رتبة سابقة على إحراز كون الفرد حسنا أو
قبيحا ، فلا ينفع العلم بالحسن والقبح في
الاستنباط.
بل مرجع ذلك إلى
ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع الأقدس هو المالك المطلق والمنعم
المفضل الذي يجب عقلا متابعته والجري على مقتضى حكمه ، وإن لزم كون حكمه أيضا على
طبق الموازين العقلية التي يحيط بها أكمل إحاطة ، لأن كماله يمنع من اختياره ما
يخالفها.
ولأجل ذلك قد يحمل
الأمر والنهي الواردان على العناوين المذكورة على الإرشاد ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ) ، وقوله سبحانه : (يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) ، وقوله عزّ اسمه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) ، ونحو ذلك.
لأن فرض كون الشيء
عدلا وإحسانا عند الشارع متفرع على أمره به ، وفرض كونه فاحشة ومنكرا وبغيا وإثما
متفرع على نهيه عنه ، فلا معنى للأمر بالأول والنهي عن الثاني مولويا ، بل لا بد
من حمل الأمر والنهي على الإرشاد ، نظير الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية.
لكنه مخالف للظاهر
، لاستلزامه عدم ترتب العمل على الأوامر والنواهي المذكورة ، فيتعين إبقاؤها على
ظهورها في المولوية ، غاية الأمر الرجوع في تشخيص أفراد العناوين المذكورة للعرف ،
كما هو مقتضى الإطلاقات المقامية ، ما لم يثبت من الشارع الأقدس خلافه.
وهذا لا ينافي ما
ذكرنا من أن المرجع في تشخيص موضوع القضية العقلية هو الشارع دون العرف.
__________________
لأن المعيار في
البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع والقرائن الخاصة والعامة ،
ومنها الإطلاق المقامي ، أما في القضايا العقلية فالمعيار على ما يعلم من العقل ،
ولا دخل للظهور العرفي.
ومن جميع ما سبق
يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع
على طبقه ، بل بين حكم العقل بحسن الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه ـ مع
عدم المزاحم والموانع ـ ونفس الحكم.
بل يكفي حسن الحكم
لمصلحة فيه ، لا في المتعلق ، كمصلحة الامتحان أو التأديب والعقاب ، حيث يمكن
ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق ، كما لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم عليه السّلام
بذبح ولده ، وفي تحريم بعض الامور على اليهود ، كما قد يظهر من قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما
إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ
جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) وغيره.
وعلى ذلك جرى في
الفصول بعد التعرض لجملة ما ذكرنا وغيره مما لا مجال لإطالة الكلام فيه.
وإليه يرجع ما
ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين من أن ما صدر من
الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر
في حقه.
ومن الظاهر أن
الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية ، لعدم إحاطة العقل
بالملزوم بجميع خصوصياته ، ليتسنى تشخيص موارده ، بل هو مما ينفرد به الشارع
الأقدس ، وإن أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.
ولعله عليه يحمل
ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.
__________________
نعم ، قد يدرك
العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف ، وأنه ظلم ينزه عنه تعالى ، كالتكليف
واقعا بما لا يطاق ، وظاهرا مع الجهل المطلق ـ لا عن تقصير ـ حتى بوجوب الاحتياط ،
الذي هو مرجع البراءة العقلية.
وذلك ينفع في
معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعية ، ومعرفة الوظيفة الظاهرية العملية.
إلا أن ذلك خارج
عن محل كلامنا ، للتسالم على عدم التكليف بما لا يطاق ، بنحو لا يهتم بإثباته من طريق
الملازمة ، ولعدم نهوض البراءة العقلية بمعرفة الحكم الواقعي ، لتكون من الأدلة
التي هي مورد البحث ، وإنما هي أصل عملي يبحث عنه في محل آخر.
نعم ، يتجه دخولها
في محل الكلام لو كان المراد من الأدلة ما يعم دليل الوظيفة الظاهرية العملية.
ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.
بقي شيء ، وهو أن
صاحب الفصول وإن نفى الملازمة الواقعية بين حكم العقلي بحسن الشيء أو قبحه وحكم
الشرع على طبقه ، كما تقدم ، إلا أنه ذهب إلى الملازمة بينهما ظاهرا ، بمعنى أنه
يبنى ظاهرا على حكم الشرع بما حكم به العقل ما لم يثبت خلافه من قبل الشارع
الأقدس.
مستدلا على ذلك
بوجهين :
أولهما
: إطلاق الآيات
المتقدمة.
ثانيهما
: أن العقل بعد أن
يدرك مقتضي الحكم لا يعتد باحتمال المانع.
لكن الوجه الأول
حيث لا يرجع لحكم العقل ، بل لظهور الأدلة النقلية فهو خارج عن مورد البحث ، ولا
يسعنا إطالة الكلام في ذلك ، لأن نتيجته أحكاما فرعية لا قاعدة اصولية ، ولعدم
اختصاص الأدلة المناسبة بالآيات المذكورة ، واستقصاء الكلام في جميعها وفي مقتضى
الجمع بينها في أنفسها وبينها وبين غيرها يحتاج إلى جهد كثير ووقت طويل.
فالأولى إيكاله
إلى مورد الحاجة إليه من الفقه ، وبحثه بالمقدار الذي يقتضيه المورد.
وأما الثاني فهو
يبتني على قاعدة المقتضي التي لم تثبت كلية ، كما لم يتضح التعويل عليها في خصوص
المورد ، وإنما ثبت الرجوع إليها في بعض الموارد لخصوصيتها.
ولا مجال لقياس
المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن وقبح القبيح ، حيث لا يعتد به العقل
في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن أو القبح المعلوم ، فلا ينبغي بنظره الكذب
لاحتمال ترتب مصلحة مهمة عليه ، ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.
للفرق بأن الشك في
المزاحم إنما هو بعد إحراز تمامية موضوع الداعوية العقلية ، نظير ما لو شك في وجود
المزاحم للتكليف الشرعي المعلوم.
أما في المقام
فالشك في تمامية موضوع الداعوية الشرعية ، حيث لم يحرز إلا المقتضي للملاك ، وهو
الحسن أو القبح العقليين ، مع احتمال وجود المانع من تأثيره في لزوم الجعل الشرعي
، فينحصر الأمر فيه بقاعدة المقتضي الذي ذكرنا عدم تماميتها.
وقد تحصل من جميع
ما تقدم : أن التحسين والتقبيح العقليين وإن كانا ثابتين ، بمعنى إدراك العقل
الحسن والقبح في بعض الموارد وداعويته على طبقهما ، إلا أنهما لا يستلزمان حكم
الشارع الأقدس على طبقهما ، لإمكان اطلاعه على ما يزاحم مقتضياتهما ، أو على ما
يمنع من جعل الحكم من قبله على طبقهما. كما لا يستتبعان لزوم البناء ظاهرا على جعل
الحكم الشرعي ، لينفع ذلك في مقام الاستنباط.
نعم ، لو حسن جعل
التكليف من قبله إما لحسن متعلقه أو قبحه ـ من دون مزاحم يوجب قصور داعويتهما عقلا
، ولا مانع من جعل الحكم الشرعي على
طبقهما ـ أو
لمصلحة في نفس الحكم لا دخل للمتعلق فيها ، فلا بد من جعله الحكم ، لكماله المانع
من تخلفه عن الداعي العقلي.
إلا أنه لا يتسنى
للعقل غالبا إدارك حسن الجعل ، لعدم إحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك. فلا تنفع
الملازمة المذكورة في الاستنباط.
غاية الأمر أنه قد
يتسنى له إدراك قبح التكليف الواقعي أو الظاهري في بعض الموارد ، كالتكليف بما لا
يطاق ، والتكليف مع الجهل المطلق حتى بوجوب الاحتياط ، الذي ترجع اليه البراءة
العقلية التي يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب
العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق.

الفصل الثاني
في الإجزاء
اختلفوا في أن
الإتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الأمر ويدعو إليه هل يقتضي الإجزاء أو لا
يقتضيه؟
وقد وقع الكلام
منهم في تحديد معنى الإجزاء الذي هو محل الكلام ، وأنه عبارة عن الامتثال وإسقاط
الأمر أو إسقاط القضاء. والظاهر ـ كما ذكره في التقريرات في الجملة ـ عدم خروج
الإجزاء عن معناه اللغوي والعرفي ، وهو الكفاية ، وحيث كان المعنى المذكور إضافيا
يختلف باختلاف ما يكفي الشيء عنه أو فيه فهو يختلف باختلاف الأمر المهم الذي يراد
البحث عنه ، وأنه الامتثال أو سقوط القضاء ، ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب
، قد يكون منشؤه اختلاف الأمر الذي هو موضوع كلامهم بين الواقعي الأولي والاضطراري
والظاهري.
ولا ينبغي إطالة
الكلام في تحقيق ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله تعالى بالجميع. وإن لم يبعد
رجوع الجميع لأمر واحد ، وبسبب تلازمها.
وينبغي التمهيد
لمحل الكلام ببيان أمر ، وهو أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار
المتقدمة ، أن البحث في تلك المسألة عما يقتضيه ظهور إطلاق الأمر من تحديد المأمور
به ، وأنه مطلق الماهية ، أو المقيد منها بالمرة ، أو بالتكرار. وهنا في تحقق
الإجزاء بالفعل المطابق للمأمور به بعد فرض تحديده بإطلاق الأمر او غيره.
ومن ثمّ كان البحث
في تلك المسألة إثباتيا موضوعه ظهور الأمر ، وهنا ثبوتيا موضوعه فعل المأمور به ،
وكانت تلك المسألة من مسائل الظهورات اللفظية ، أما هذه المسألة فهي على بعض وجوهها
عقلية ، وعلى بعضها الآخر تبتني على مقتضى الظهور أو الأصل.
وبلحاظ الأول
حررناها في مباحث الملازمات العقلية تغليبا.
ولا ينبغي إطالة
الكلام هنا في تفصيل ذلك بعد ظهوره عند الدخول في المسألة ، ولا في وجه التغليب
المذكور ، بعد خلوه عن الفائدة ، وكونه أشبه بتوجيه الاصطلاح ، إذ المهم نفس البحث
، لا موضعه وبابه.
وقد تعرضوا في
تمهيد المسألة لبعض الامور الاخرى مما يرجع لتحديد محل النزاع رأينا الإعراض عنها
أحرى ، لظهور حالها ، فالبحث فيها أشبه بالبحث اللفظي.
إذا عرفت هذا ،
فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الأمر بالنحو الذي يدعو إليه تقتضي الإجزاء ، بمعنى
امتثاله وسقوط داعويته ، لأن الأمر لا يدعو إلا إلى موافقته بتحقيق المأمور به ،
فمع موافقته لا يبقى موضوع للداعوية ، وذلك عبارة اخرى عن عدم لزوم الإعادة ، التي
هي عبارة اخرى عن تكرار الامتثال بتحقيق المأمور به التام في الوقت ، فضلا عن
القضاء الذي هو عبارة عن تدارك فوت المأمور به في وقته بالإتيان به خارج الوقت
محافظة على أصل الواجب دون خصوصية الوقت.
إذ لا فوت مع
موافقته ليتحقق موضوع القضاء. من دون فرق بين كون القضاء بالأمر الأول وكونه بأمر
جديد ، إذ على كلا المبنيين لا بد فيه من الفوت.
ومنه يظهر أن
التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامح ، إذ السقوط فرع المقتضي للثبوت.
ووضح ما ذكرنا
يغني عن إطالة الكلام فيه ، وإن حكي عن بعضهم
الخلاف فيه ، قال
في الفصول : «ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الأمر يستلزم الإجزاء. وذهب أبو هاشم
وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار في ما نقل عنه : لا يمتنع عندنا
أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب ، ويلزم القضاء مع ذلك.
هذا كلامه ...». وهو من الشذوذ ومخالفة الضرورة بمكان ظاهر.
نعم ، يمكن وجوب
الإتيان بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه من دون أن يكون إعادة أو قضاء ، بل على
أن يكون مأمورا من أول الأمر بالتعدد ، فلا يكون الإتيان بمرة واحدة موافقة للأمر
ولا أداء للواجب. لكنه خارج عن مفروض الكلام.
هذا ، وقد ذكر غير
واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر ، وذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن ذلك
وإن أمكن في مقام الثبوت إلا أنه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وجعل منه ما
ورد في تبديل الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة جماعة.
أما المحقق
الخراساني قدّس سرّه فقد خصه بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض وإن
كان يفي به بعد ذلك لو اكتفى به ، قال : «كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه
فلم يشربه بعد ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق الماء واطلع
عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا. ضرورة بقاء طلبه ما
لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء
آخر موافق للأمر ـ كما كان له قبل إتيانه الأول ـ بدلا عنه ... ويؤيد ذلك بل يدل
عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة ، وإن الله يختار أحبهما
إليه».
وكأن ما ذكره
يبتني على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من إمكان عدم مطابقة المأمور به
للغرض. وحيث سبق منا امتناعه في حق المولى
الملتفت لما يطابق
الغرض تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيدا لبا بما يترتب عليه الغرض ،
ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الماهية بصرف الوجود ، بل يكون مراعى
بترتبه عليه ، فتبديله بفرد آخر قبل حصوله لا يكون من تبديل الامتثال ، بل من
العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره ، كما لو عدل عن ذلك قبل الإتيان بالفرد.
وهذا هو الوجه في
ما ذكره من أن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، وإلا ففرض الامتثال بالفرد
الأول لا يناسب عدم سقوط الأمر.
نعم ، لا إشكال في
احتياج ذلك للدليل الخاص ، وإلا فمقتضى الإطلاق كون المأمور به الماهية بنفسها لا
بشرط ، بنحو تنطبق على الوجود الأول ولا تنسلخ عنه ، المستلزم لترتب الغرض على أول
وجود منها ، ولتحقق الامتثال به وسقوط الأمر ، وعدم مشروعية العدول لغيره بعد
حصوله. والتقييد اللبي المذكور يحتاج للدليل على عدم مطابقة المأمور به للغرض.
وأما مسألة إعادة
الصلاة جماعة التي دلت عليها جملة من النصوص ، فهي لا تبتني على تبديل الامتثال بالمعنى الذي هو محل
الكلام ، حيث لا إشكال في تحقق الامتثال بالصلاة الاولى ، وسقوط الأمر ، الذي لا
موضوع معه للامتثال الآخر ، بل على مشروعية الإعادة أو استحبابها بملاك زائد على
ملاك الأمر الممتثل ، إما أن يقتضي استحباب الإعادة والتكرار زائدا على أصل
الماهية ، كما يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلاة اخرى ، وقد يستفاد من غيره ، أو يقتضي التفاضل بين الأفراد في مقام الامتثال ، كملاك
الجماعة ونحوها.
غاية الأمر أن
ظاهر دليل تشريع التفاضل المذكور بدوا اختصاص
__________________
موضوعه بامتثال
أمر الماهية ، فلا موضوع له مع امتثاله بفرد آخر ، إلا أن الأدلة الخاصة دلت على
إمكان استيفائه معه بالإتيان بفرد آخر واجد للخصوصية ، فيترتب ملاك الفرد الأفضل
عليه كما يترتب لو كان امتثال أمر الماهية به ابتداء.
وعليه يحمل ما
تضمن من نصوص المسألة أن الله يختار أحبهما إليه ونحوه ، بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل ،
وإن كان الامتثال بغيرها ، وإليه يستند سقوط أمر الواجب.
نعم ، في صحيحي
هشام بن سالم وحفص بن البختري : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة» ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره ، لسقوط الفرض بالفرد
الأول ، فلا بد من حمله على أن المأتي به من سنخ الفريضة ماهية فهو ظهر اخرى مثلا
، لا صلاة مباينة للصلاة المأتي بها ماهية ، وإن لم تكن فريضة بالفعل ، غاية الأمر
أنه يقصد أنها تحسب في مقام الثواب كما لو امتثل الفرض بها ، نظير ما ذكرناه فيما
تضمن أن الله يختار أحبهما إليه.
وأما ما ذكره بعض
مشايخنا من حمله على قصد القضاء بها ، كما هو صريح قوله عليه السّلام في حديث
إسحاق : «صل واجعلها لما فات» .
فهو بعيد جدا ،
لأن ظاهر تعريف الفريضة معهوديتها ، ولا معهود عرفا إلا الفريضة التي أداها.
ومجرد تضمن حديث
إسحاق نية القضاء لا يلزم بذلك ، نظير ما تضمن جعلها نافلة بل الظاهر الجمع بجواز الكل.
وبالجملة : يمتنع
تبديل الامتثال ، لأن الامتثال الأول مستلزم لسقوط الأمر ،
__________________
ومعه لا يبقى
موضوع الثاني. وإنما يمكن تقييد المأمور به بنحو ينطبق على الفرد الثاني على تقدير
وجوده دون الأول ، نظير ما تقدم فيما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ،
فيكون الإتيان بالثاني عدولا عن الامتثال بالأول ، لا تبديلا في الامتثال ، كما
تقدم في نظيره.
ثم إن ما ذكرنا من
أن موافقة الأمر تستلزم امتثاله وسقوطه الراجع لعدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء ،
بل عدم مشروعيتهما كما يجري في الأمر الواقعي الأولي يجري في الأمر الاضطراري
الثانوي وفي الأمر الظاهري ، بمعنى أن موافقة كل منهما تمنع من التعبدية به ثانيا
بالإعادة أو القضاء على طبقه ، لعين الوجه المتقدم من أن الأمر لا يدعو إلا إلى
متعلقه.
وقد وقع الكلام
بينهم في امرين ..
أولهما
: إجزاء الأمر
الاضطراري عن الأمر الاختياري ، بمعنى أن موافقة الأمر الاضطراري هل تقتضي الإجزاء
بعد ارتفاع التعذر ، فلا تجب الإعادة ولا القضاء على طبق الأمر الاختياري؟
ثانيهما
: إجزاء الأمر
الظاهري عن الأمر الواقعي ، بمعنى أن موافقة الأمر الظاهري هل تقتضي الإجزاء عن
الأمر الواقعي ، فلو انكشف الخطأ لا تجب الإعادة على طبق الأمر المذكور؟
وعمدة الكلام في
مبحث الإجزاء في هذين الأمرين ، لما فيهما من النقض والإبرام الكلام فيهما على
المباني المختلفة.
وأما إجزاء موافقة
الأمر عن امتثاله ثانيا فقد سبق أن وضوحه مغن عن إطالة الكلام فيه.
ومن هنا يقع
الكلام في مقامين ..
المقام الأول
في إجزاء الأمر الاضطراري
والكلام في إجزائه
عن الإعادة لو ارتفع التعذر في أثناء الوقت إنما يكون بعد الفراغ عن مشروعية الأمر
الاضطراري بمجرد تعذر المأمور به الاختياري في أثناء الوقت وإن لم يستوعبه.
وإلا فلو فرض
اختصاص مشروعيته بالتعذر المستوعب للوقت يكون ارتفاع التعذر في أثناء الوقت
مستلزما لعدم مشروعيته من أول الأمر ، فيخرج عن موضوع الكلام من إجزاء الأمر
الاضطراري.
غاية الأمر أنه لو
فرض القطع باستمرار التعذر أو التعبد به ظاهرا مع احتماله فأتى بالمأمور به
الاضطراري ثم ارتفع التعذر قبل خروج الوقت يكون ارتفاعه كاشفا عن خطأ القطع أو
التعبد الظاهري بمشروعية البدار ، فيبتني اجزاؤه على إجزاء الفعل الخطائي أو الأمر
الظاهري ، الذي يأتي الكلام فيه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا ،
فقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن مشروعية المأمور به الاضطراري في الوقت مستلزمة
لإجزائه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت ، لأن تعذر القيد في الوقت إن
أوجب سقوط قيديته حال التعذر كان فاقد القيد وافيا بالملاك ، فلا يصدق مع الإتيان
به الفوت هو موضوع القضاء ، وإن لم يوجب سقوط قيديته ـ لعدم حصول ملاك الواجب
بدونه ـ امتنع الأمر بفاقد القيد ـ كما في فاقد الطهورين ـ ففرض الأمر بفاقد القيد
حال التعذر
ووجوب القضاء متناقضان.
ولا مجال لوجوب
القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وإن حصلت مصلحة أصل الواجب بالمأمور به
الاضطراري.
لأن مصلحة القيد
إنما يمكن تحصيلها حال كونه قيدا في المأمور به ، فمع فرض عدم قيديته فيه ، لحصول
أصل المأمور به وسقوط أمره بفعل الاضطراري في الوقت لا يبقى موضوع لاستيفاء مصلحة
القيد وإن كانت لازمة التحصيل في نفسها.
وبالجملة : فرض
مشروعية الاضطراري ووفائه بملاك أصل المطلوب مانع من مشروعية القضاء ، لا لتدارك
ملاك أصل المطلوب ، لفرض حصوله بالاضطراري ، ولا لتدارك مصلحة القيد ، لتعذر
تحصيلها بعد اختصاص مشروعية القيد بما إذا كان قيدا في المطلوب المفروض سقوط أمره.
وأما إيجاب الفعل
خارج الوقت بعنوان آخر غير عنوان القضاء فهو وإن كان ممكنا ، إلا أنه خارج عن محل
الكلام في المقام.
وفيه .. أولا :
أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافيا بملاك أصل الواجب دون قيده ،
بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب بعض أو تمام المفسدة الحاصلة من تأخير المأمور به
الاختياري عن الوقت ، من دون أن يؤدي شيئا من مصلحته ، كما لو وجب غسل المسجد يوم
الجمعة أو دفع عشرة دنانير لزيد ، فإن تعذر الغسل وجب سدّ باب المسجد ، وإن تعذر
المال وجب الاعتذار من زيد بالعجز ، وكان مصلحة الغسل التطهير ومصلحة دفع المال
وفاء دين في الذمة ، وكان إيجاب سدّ باب المسجد عند تعذر الغسل لتجنب صلاة الناس
في موضع نجس ، والاعتذار من زيد عند تعذر المال لتطييب خاطره ، وفي مثل ذلك يتعين
تدارك المأمور به الاختياري بالقضاء عند ارتفاع العذر ، لعدم وفاء المأمور به
الاضطراري بشيء من مصلحته.
ودعوى : خروج ذلك
عن المأمور به الاضطراري اصطلاحا ، كما قد يظهر منه قدّس سرّه.
ممنوعة ، إذ ليس
المراد به إلا ما يجب بدلا عن الواجب المتعذر ، ولا طريق لتشخيصه إلا ذلك ، حيث لا
يتيسر لنا تشخيص حال الملاكات وكيفية ترتبها ، وأنها بالنحو الذي فرضه قدّس سرّه ،
بل يمكن أن تكون بالنحو الذي ذكرنا أو غيره وإن كان الاضطراري من سنخ فاقد القيد
عرفا ، لا من سنخ آخر كالمثالين المتقدمين.
وثانيا
: أنه لو سلم لزوم
وفاء المأمور به الاضطراري بملاك المأمور به الاختياري بذاته دون ملاك قيده ـ كما
فرضه هو قدّس سرّه فلا ملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء ، بل
يمكن وفاء القيد بملاكه إذا حصل في العمل ثانيا وإن كان ملاك أصل العمل قد استوفي
سابقا ، فلا يجب العمل لملاكه الأصلي ـ لغرض استيفائه ـ بل لأجل استيفاء ملاك
القيد لا غير ، كما لو وجب الغسل بالماء الحار لأجل التطهير والتدفئة ، فتعذر
الماء الحار فوجب أصل الغسل لأجل التطهير ، حيث يمكن وجوب الغسل بالماء الحار عند
القدرة عليه لأجل التدفئة ، لا لأجل التطهير المفروض الحصول.
ودعوى : أن ذلك لا
يناسب فرض الارتباطية بين القيد والمقيد.
ممنوعة ، لأن فرض
الارتباطية إنما كان في حال القدرة ، لا في حال التعذر الذي هل محل الكلام ، إذ لا
إشكال في عدم الارتباطية بينهما في الجملة ، ولذا شرع الفاقد للقيد حال التعذر.
هذا ، ولا يخفى أن
الوجه الذي ذكره ـ لو تمّ ـ كما يجري في القضاء يجري في الإعادة ـ في فرض ارتفاع
العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع الأمر الاضطراري مطلق التعذر وإن لم يستوعبه ـ لتوقف
الإعادة على عدم استيفاء الملاك وإمكان استيفائه ، إلا أنه ذكر لنفي وجوب الإعادة
وجها آخر
يرجع إلى أن
مشروعية البدار للمأمور به الاضطراري في محل الكلام تستلزم ، بعد فرض الإجماع على
عدم وجوب صلاتين على المكلف في اليوم الواحد ، وفاء الاضطراري بتمام ملاك
الاختياري الملزم ، إذ مع عدم وفائه بها يكون تشريعه مفوتا لغرض المولى ، وهو
ممتنع ، وإذا كان وافيا بتمام ملاك الاختياري لم تشرع الإعادة.
لكنه يشكل : ـ مضافا
إلى اختصاصه بالصلاة التي قام الإجماع على عدم وجوبها مرتين دون غيرها مما لا
إجماع فيه ـ بأن الإجماع إنما يقتضي عدم وجوب الجمع بين المبادرة للاضطراري حال
التعذر والإعادة بعد ارتفاع التعذر ، وليس هو محل الكلام حتى على القول بعدم إجزاء
الاضطراري عن الإعادة ، لأن مشروعية الاضطراري مع عدم إجزائه عن الاعادة لا ترجع
إلى وجوب المبادرة إليه ، بل إلى عدم لغويته لو أتى به لترتب بعض الملاك عليه وإن
جاز عدم الإتيان به وانتظار ارتفاع العذر والاقتصار على الاختياري ، فلا تنافي
الإجماع المذكور.
كما لا مانع منه
ولا محذور في التخيير بين الاقتصار على الاختياري في آخر الوقت والجمع بينه وبين
الاضطراري في أوله ، لعدم وفاء الاضطراري إلا ببعض الملاك الملزم ، وإمكان استيفاء
الباقي منه بالإتيان بالاختياري ، نظير ما تقدم في مثال التطهير بالماء الحار.
وأما ما ذكره بعض
مشايخنا من امتناع التخيير المذكور لرجوعه إلى وجوب الاختياري في آخر الوقت على كل
حال ، ولا مجال معه لوجوب الاضطراري في أول الوقت تخييرا ، لأن لازمه أن يكون
واجبا على تقدير المبادرة إليه وغير واجب على تقدير عدم المبادرة إليه ، وهو باطل.
فهو كما ترى! لأن
الوجوب التخييري للزائد ثابت قبل وقوعه ، والتعييني غير ثابت له حتى بعد وقوعه ،
وإنما التابع لوقوعه هو تعينه خارجا للامتثال ، كما
هو الحال في سائر
موارد امتثال التكاليف الوجوبية والاستحبابية.
ولو تمّ ما ذكره
لزم امتناع التخيير بين الأقل والأكثر مطلقا حتى لو كان الزائد دخيلا في ترتب
الملاك على تقدير وجوده ، مع أنه قد اعترف بإمكانه حينئذ ، وإنما يمتنع التخيير
المذكور لو كان الأقل مستقلا بالملاك ولم يكن للزائد دخل فيه على تقدير وجوده ،
ولا مجال له في المقام ، لأن المفروض ترتب بعض الملاك على الاضطراري وكون الإعادة
لاستيفاء الباقي منه بالاختياري ، لا لاستيفائه بتمامه.
وقد تحصل مما تقدم
: أنه لا مجال للبناء على لزوم إجزاء المأمور به الاضطراري عن الإعادة أو القضاء
بعد ارتفاع التعذر على ما يطابق المأمور به الاختياري ، بل يمكن فرض عدم إجزائه
عنهما ، فلا مانع من الالتزام به لو اقتضته الأدلة.
هذا كله في مقام
الثبوت ، وأما مقام الإثبات ومفاد الأدلة بعد فرض إمكان كل من الإجزاء وعدمه ..
فالذي ينبغي أن
يقال : المأمور به الاضطراري ـ سواء كان فردا من الماهية المأمور بها ووجدا
لعنوانها ، كالصلاة من جلوس والطهارة الترابية ، أم بدلا عنها ، كما لو وجب
الاستغفار على من لم يجد الكفارة ـ لما كان تشريعه معلقا على تعذر الاختياري
فالمستفاد من دليله عرفا عدم وفائه بتمام الملاك ـ الذي هو مورد الغرض ـ حال
التعذر ، وليس هو كسائر الأفراد أو الأبدال المشروعة في حال خاص ، فالصلاة من جلوس
حال تعذر القيام ـ مثلا ـ ليست كالصلاة قصرا حال السفر ، بل هي نظير الميسور من
المطلوب الذي لا يسقط بالمعسور منه ، ويجتزأ به للضرورة. ولذا لا يجوز ـ ارتكازا ـ
تعجيز النفس عن المأمور به الاختياري لتحقيق موضوع الاضطراري كما يجوز السفر
لتحقيق موضوع القصر. ولازم ذلك عدم الاكتفاء بها بالمأمور به الاضطراري مع عدم
استيعاب
التعذر للوقت ،
لقبح الاجتزاء ببعض الملاك الذي هو مورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في الوقت
بانتظار ارتفاع العذر.
وحينئذ إن دل
الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق التعذر وإن لم يستوعب الوقت ، فإن
كان المراد به مجرد المشروعية في مقابل لغويته وعدم ترتب شيء من الملاك عليه ، لم
يناف ما ذكرنا من عدم وفائه بتمام الملاك المذكور.
ويتعين حينئذ عدم
الاجتزاء به عن الإعادة بعد ارتفاع التعذر ، عملا بإطلاق دليل المأمور به
الاختياري المقتضي لفعلية الأمر به بالقدرة عليه في بعض الوقت ، من دون أن ينافيه
دليل مشروعية الاضطراري بعد كون المراد به المشروعية بالمعنى المذكور.
وإن كان المراد به
الاجتزاء به في أداء الخطاب المتوجه في الوقت كان مسوقا لبيان إجزائه عن الإعادة
الذي هو محل الكلام في المقام ، وكشف عن وفائه في حال التعذر بتمام الملاك الذي
يفي به الاختياري في حال القدرة أو ببعضه مع عدم فعلية الغرض بتحصيل الباقي ،
لمصلحة التسهيل أو غيرها ، على خلاف ما سبق أنه المستفاد عرفا من إطلاق دليل تشريع
البدل الاضطراري ، ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.
هذا ، ومن الظاهر
أن المفهوم عرفا من تشريع البدل الاضطراري هو المعنى الثاني ، لأنه المهم لعامة
المكلفين ، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة والبيانات الشرعية ، وإرادة المعنى الأول
تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام عليها إلا بقرينة. ومن ثم كان الأول هو
المفهوم حتى من الدليل اللبي المتفرع على مدلول الكلام وتشخيص المراد به ،
كالإجماع المستفاد من كلام أهل الفتوى.
وعلى هذا يبتني ما
تكرر منا ومن غير واحد من أن قرينة الاضطرار ـ
المناسبة لعدم
وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري ، كما تقدم ـ تقتضي اختصاص مشروعية المأمور
به الاضطراري بالتعذر في تمام الوقت.
لوضوح أن القرينة
المذكورة إنما تقتضي ذلك لو استفيد من دليل مشروعيته إجزاؤه ، لقبح الاجتزاء ببعض
الملاك ومورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في آخر الوقت عند ارتفاع العذر ، أما
لو استفيد منه مجرد المشروعية في مقابل اللغوية فالقرينة المذكورة لا تمنع من
مشروعيته بالتعذر في بعض الوقت ، لما عرفت من عدم ملازمة المشروعية بالمعنى
المذكور للاجتزاء عن الإعادة المستلزم لفوت بعض الملاك.
وقد ظهر مما ذكرنا
أن استفادة الإجزاء من دليل مشروعية الاضطراري بمطلق التعذر ـ وإن لم يكن مستوعبا
للوقت ـ إنما هو لأجل أن الدليل المذكور مسوق نوعا لبيان ذلك ، لا لكون المشروعية
مستلزمة للإجزاء عقلا ، كما يظهر مما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه.
هذا كله في
الإعادة ، وأما القضاء فعدم وجوبه في فرض كون موضوع الاضطراري مجرد التعذر وإن لم
يستوعب الوقت مستفاد عرفا مما دل على عدم وجوب الإعادة ، لأن عدم وجوب الإعادة حيث
كان مستلزما لوفاء الاضطراري بتمام الملاك أو ببعضه مع عدم فعلية تعلق الغرض
بالباقي فهو مستلزم لعدم تحقق موضوع القضاء مع الإتيان بالاضطراري في وقته ، لأن
موضوع القضاء إن كان هو الفوت فهو لا يصدق عرفا بالإضافة للمطلوب بعد حصول تمام ما
هو مورد الغرض من ملاكه. وإن كان هو عدم الاتيان بالواجب فالمراد منه خصوص ما
يلازم فوت غرضه ، لفعلية تعلق الغرض به تعيينا حين فوته ولو مع عدم فعلية الخطاب
به لمانع من نوم أو نحوه ، لا مطلق عدم الإتيان به ولو مع حصول غرضه ببدله المجزي
عنه.
وإن شئت قلت :
المأمور به الاضطراري إن كان واجدا لعنوان الماهية
المأمور بها حال
الاختيار والتي يكون فوتها أو عدم الإتيان بها موضوعا للقضاء ـ كالصلاة من جلوس
عند تعذر الصلاة من قيام ـ كان دليل تشريعه واردا على دليل القضاء ، لأنه منقح
لفرد المأمور به حال الاضطرار.
وإن كان فاقدا
لعنوانها كان مرجع تشريعه إلى بدليته عن الماهية المذكورة ، ومن الظاهر حكومة دليل
للبدلية على دليل الواجب ، حيث يكون مفاده قيامه مقامه ، فلا يترتب معه أثر فوته
أو عدم الإتيان به وبذلك يكون حاكما على دليل القضاء أيضا. مضافا إلى أن سقوط
القضاء أولى عرفا من سقوط الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت. كما لا يخفى.
وأما إذا كان
موضوع الأمر الاضطراري التعذر في تمام الوقت فإجزاؤه عن القضاء ليس بذلك الوضوح
لعدم المخرج عما هو المرتكز ـ بسبب أخذ التعذر في موضوعه ـ من عدم وفائه بتمام
ملاك الاختياري الذي هو مورد الغرض الفعلي ، لإمكان كون تشريعه لأهمية مصلحة الوقت
الملزمة بتحصيل ما يمكن تحصيله من ملاكه فيه ، مع كون الباقي ممكن التحصيل بالقضاء
عند ارتفاع التعذر بعد الوقت ، كما أنه لازم ، فيتحقق موضوع القضاء.
إلا أنه لا يبعد
ظهور أدلة تشريعه في الاجتزاء به عن القضاء عند ارتفاع العذر وورودها لبيان الخروج
به عن الخطاب المتوجه في الوقت من أصله بلحاظ تمام الملاك الذي هو مورد الغرض
الفعلي ، لا بلحاظ خصوصية الوقت منه مع بقاء شيء منه يطالب به المكلف خارج الوقت ،
لأن ذلك هو مقتضى ما سبق في القسم الأول من ورود دليل الاضطراري أو حكومته على
دليل القضاء.
ومجرد عدم وفاء
الاضطراري بتمام ملاك الاختياري لا ينافي ذلك ، لإمكان كون الإتيان بالمأمور به
الاضطراري ـ المشروع والمحصل لبعض الملاك ـ في الوقت مانعا من فعلية تعلق الغرض
بالباقي من الملاك ، إما لتعذر تحصيله بالقضاء ، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل رفع
اليد عنه.
ولا أقل من كون
ذلك مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة تشريع الاضطراري ، للغافلة عن وجوب القضاء معه
جدا.
ولعله لأن مقتضى
القاعدة الارتكازية في تعذر المطلوب الارتباطي في الوقت ـ ولو بتعذر قيده ـ هو
تعذر تحصيل شيء من الملاك المستلزم لسقوط الأمر رأسا وعدم وجوب الميسور الاضطراري
، بل انتظار القضاء عند ارتفاع التعذر لتحصيل الملاك بتمامه إذا كان العمل مما
يقبل القضاء ، فدليل تشريع المأمور به الاضطراري كما يكون ردعا عن مقتضى القاعدة
من سقوط الأمر في الوقت يكون عرفا ردعا عن وجوب القضاء لتحصيل الملاك بتمامه ،
لكونه مترتبا على ذلك ، ووجوب القضاء لتتميم الملاك الحاصل بالاضطراري وإن كان
ممكنا إلا أنه مغفول عنه ، لعدم اقتضاء القاعدة له ، فعدم التنبيه عليه في أدلة
تشريع الاضطراري موجب لظهورها في عدمه بمقتضى إطلاقاتها المقامية.
ومرجع ذلك إلى عدم
تعلق الغرض الفعلي بعد الوقت بتحصيل الملاك الفائت الذي لم يستوف بالاضطراري إما
لتعذره ، أو لرفع اليد عنه ولو لمصلحة التسهيل ، وإن كان مهما في نفسه لازم
التحصيل في ضمن الوقت ، ولذا اختص تشريع الاضطراري والاكتفاء به بالتعذر المستوعب
لتمام الوقت ، كما هو مفروض الكلام.
على أنه لو فرض
إجمال دليل تشريع المأمور به الاضطراري من هذه الجهة ، ولو لكونه لبيا لا ينهض
المتيقن منه بإثبات سقوط القضاء فلا أقل من كون نفيه مقتضى الأصل ، لاختصاص أدلة
القضاء بفوت الفريضة أو عدم الإتيان بها رأسا بالنحو المستلزم لفوت ملاكها رأسا ،
ولا يشمل فرض الإتيان بالفرد أو البدل الاضطراري المحصل لبعض ملاك الفريضة. فوجوب
القضاء في محل الكلام يحتاج إلى دليل خاص.
نعم ، لو كان
لدليل الأمر الاختياري بالعمل التام إطلاق يقتضي عدم
التوقيت ، ولم يكن
لدليل التوقيت ظهور في قيدية الوقت ودخله في مصلحة الماهية المأمور بها ، بل في
مجرد مطلوبية إيقاع العمل فيه ولو بنحو تعدد المطلوب ، يكون وجوب الإتيان به بعد
ارتفاع التعذر خارج الوقت مقتضى الإطلاق المذكور ، الذي يخرج به عن الأصل المتقدم
، واحتاج إجزاء المأمور به الاضطراري عن القضاء للدليل ، كالتشبث له بما سبق.
لكن في صدق القضاء
حينئذ إشكال ، لما سبق في مبحث الموقت من اختصاصه بما إذا كان الوقت قيدا في
المطلوب ودخيلا في مصلحته. فراجع وتأمل جيدا.
تنبيه
حيث ذكرنا ظهور
أدلة تشريع الاضطراري في بيان الاجتزاء به عن الإعادة والقضاء ، وكان ذلك ـ بضميمة
ارتكاز عدم وفائه بتمام الملاك ـ منشأ لانصراف إطلاقاته إلى التعذر المستوعب للوقت
، فلا مجال لأن يستفاد من الإطلاقات المذكورة مشروعيته بمعنى عدم لغويته بالتعذر
غير المستوعب للوقت وإن لم يكن مجزئا ، بل لا بد فيه من دليل خاص ، هو مفقود
غالبا.
المقام الثاني
في إجزاء الأمر الظاهري
ولا فرق فيه بين
أن يكون أوليا اختياريا ، وأن يكون ثانويا اضطراريا ، غايته أن إجزاء الثاني يراد
به إجزاؤه عن الأمر الاضطراري الواقعي ، ويبتني إجزاؤه عن الأمر الاختياري الواقعي
على ما سبق في المقام الأول.
ومحل الكلام في
المقام هو مقتضى الحكم الظاهري بمقتضى ظاهر دليله أو دليل خارج بعد الفراغ عن ظهور
دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الأمر للواقع.
أما لو فرض ظهور
دليل الحكم الواقعي في أن موضوعه الأعم من الواقع والظاهر أو خصوص الظاهر فلا
إشكال في الإجزاء ، ويدخل في إجزاء موافقة الأمر الواقعي عن امتثاله والتعبد به
ثانيا ، الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل.
ومن هنا لزم
البناء على الإجزاء بناء على التصويب المنسوب للأشاعرة ، الراجع إلى عدم جعل حكم
واقعي غير مؤدى الطريق ، والتصويب المنسوب للمعتزلة المبني على جعل الأحكام
الواقعية في مرتبة سابقة على التعبد الظاهري مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعا
لها ، لكونه سببا لحدوث الملاكات المزاحمة لملاكاتها والمانعة من فعلية تعلق الغرض
بها ، بل يتعلق الغرض الفعلي بالملاكات الناشئة من قيام الطرق بنحو يستتبع جعل
الحكم على طبقها ورفع اليد عن الحكم الواقعي.
أما على الأول
فظاهر ، لعدم وجود واقع تفرض مخالفته ، بل ليس الواقع
إلا ما أدى إليه
الطريق الذي فرض العمل على طبقه.
غاية الأمر أن
قيام الطريق المخالف للطريق الذي عمل على طبقه يوجب تبدل الواقع ، وهو إنما يقتضي
تبدل الوظيفة في حق المكلف إذا لم يعمل على طبق الطريق الأول ، أما مع عمله على
طبقه فقد سقط الأمر ، نظير ما لو سافر بعد أن صلى تماما.
وأما على الثاني
فلأن الواقع لما لم يكن فعليا ، لعدم فعلية تعلق الغرض بملاكه فلا أثر لموافقته
ومخالفته ، بل الأثر للحكم الفعلي المفروض موافقته.
ومن هنا كان
الإجزاء بناء على التصويب ـ بكلا وجهيه ـ خارجا في الحقيقة عن محل الكلام من إجزاء
الأمر الظاهري عن الواقعي ، حيث لا أمر واقعي حين العمل وراء الظاهر ، ليقع الكلام
في إجزاء الظاهر عنه.
نعم ، هذا مختص
بما إذا اختلف الطريقان في كيفية العمل المطلوب ، كما لو أدى الأول إلى عدم اعتبار
الطهارة في الصلاة على الميت ، والثاني إلى اعتبارها ، أو أدى الأول إلى وجوب صلاة
الجمعة ، والثاني إلى وجوب صلاة الظهر.
أما لو اختلفا في
ثبوت الوظيفة وعدمه ، كما لو دل الأول على عدم وجوب صلاة الكسوف والثاني على
وجوبها ، فإن كان قيام الثاني في الوقت فلا إشكال في وجوب الأداء على طبقه ،
لتمامية موضوعه ، وإن كان خارج الوقت فالظاهر عدم وجوب القضاء ، لأنه فرع فعلية
ملاك الأداء ، كما سبق ، والمفروض عدم فعليته.
كما أن الظاهر
اختصاص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد الشرعي الظاهري الكبريات الشرعية المتضمنة
للأحكام الكلية ، دون ما إذا كان موضوعه الموضوعات الجزئية المستلزمة لأحكام جزئية
، حيث ادعي الإجماع على عدم التصويب فيها.
وإن كان تحقيق
مقتضى التصويب بوجهيه سعة وضيقا موقوفا على الإحاطة بمباني القائلين بها وحججهم ،
وهو مما لا يسعه الوقت ، كما أنه غير مهم بعد ظهور بطلان التصويب ، والمهم إنما هو
الكلام بناء على التخطئة التي ادعي اتفاق أصحابنا عليها.
وقد ظهر مما سبق
في محل الكلام أن مقتضى الأصل الأولي عدم الإجزاء ، لأن مقتضى فرض ظهور دليل الحكم
الواقعي في لزوم متابعته عدم ترتب الأثر مع مخالفته ، فلا بد في دعوى الإجزاء من
إقامة الدليل المخرج عن ذلك ، إما لاستفادته من نفس دليل الحكم الظاهري أو من دليل
آخر.
إذا عرفت هذا ،
فقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في كفايته أن الحكم الظاهري إن ابتنى على تعبد
الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله ظاهرا ـ كما هو مفاد قاعدة الحل
والطهارة ، بل الاستصحاب ، بناء على أنه يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، لا
تنزيل الشك منزلة اليقين ـ اقتضى الإجزاء ، لحكومة دليله على دليل الأمر الواقعي ،
حيث يكون موسعا للموضوع ومبينا أنه أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح العمل ويجزي
لواجديته لجزئه أو شرطه ، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان
العمل لجزئه أو شرطه ، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل.
بخلاف ما يبتني
منه على التعبد بوجود الشرط واقعا ، كما في موارد الأمارات ، فإنه حيث لا يبتني
على جعل الموضوع في قبال الواقع ، بل على إحراز ثبوت الموضوع في الواقع ـ كما هو
مقتضى لسان الأمارة بضميمة دليل حجيتها ـ فبانكشاف الخطأ ينكشف عدم تحقق الموضوع
واقعا ، وفقد العمل لجزئه أو شرطه ، فلا يجزي.
أقول
: الحكم بثبوت
عنوان الموضوع في مورد ..
تارة : يبتني على
التطبيق الحقيقي لاشتباه المصداق أو المفهوم ، كما في
قوله عليه السّلام
في الفقاع : «هو خمر مجهول» ونحو : كل دين جر نفعا فهو ربا.
واخرى : يبتني على
الجعل الحقيقي فيما لو كان الموضوع أمرا جعليا ، مثل ما تضمن الحكم بالملكية مع
الحيازة بالإضافة إلى أحكام الملك.
وثالثة : يبتني
على التطبيق الادعائي التنزيلي بلحاظ الاشتراك في الأحكام ، نحو : المطلقة رجعيا
زوجة.
والأولان لا
يبتنيان على توسيع موضوع الحكم ، بل على بيان مفهومه أو مصداقه أو جعل مصداقه ،
ويكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان بمعونة دليل
التطبيق في الجملة.
وأما الثالث فحيث
كان مصحح الادعاء فيه هو الاشتراك في الأحكام كان كناية عن عدم اختصاص موضوع الحكم
بعنوانه الذي تضمنه دليله ، وأنه يعم مورد التطبيق ، فهما يشتركان في الحكم الواحد
، وهو راجع إلى توسيع موضوع الحكم ، ولذا يكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى
دليل التطبيق ، لا دليل الحكم.
وحيث ظهر ذلك فإن
كان مبنى كلامه قدّس سرّه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية ونحوهما في أنفسها كون
الجزء أو الشرط هو الأعم من الأمر الواقعي والظاهري من الطهارة والحلية ونحوهما ،
فدليل الحكم الظاهري وإن تضمّن جعل الحل والطهارة حقيقة لا يكون حاكما على دليل
الجزئية والشرطية ، ولا موسعا لموضوعهما ، بل يكون واردا عليه ، لتضمنه جعل
الموضوع حقيقة ، كما تقدم في الوجه الثاني. ويكون الإجزاء حينئذ مقتضى دليل الحكم
الواقعي ، كالإجزاء مع الطهارة أو الحل الواقعيين.
وإن كان مبنى
كلامه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية كون الجزء
__________________
والشرط خصوص الأمر
الواقعي من الطهارة أو الحلية أو نحوهما فدليل الحكم الظاهري إنما يكون حاكما عليه
لو كان مفاده الحكم بالطهارة والحل ونحوهما ادعاء وتنزيلا من دون أن يتضمن جعلا
حقيقيا ، على ما سبق في الوجه الثالث. وهو خلاف مفروض كلامه.
أما لو كان مفاده
الحكم بهما ظاهرا بنحو يتضمن الجعل الحقيقي ـ كما هو مقتضى كلامه ـ. فإن كان الحل
والطهارة الظاهريان من أفراد الحل والطهارة الواقعيين ، وليس الفرق بينهما إلا في
الموضوع ، حيث يكون موضوع الواقعيين الذات بنفسها ، وموضوع الظاهريين الذات بعنوان
كونها مجهولة الحال ، لم يكن دليلهما حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، بل واردا
عليه ، نظير ما تقدم على المبنى الأول.
وإن كانا مباينين
للحل والطهارة الواقعيين لم يكن الحكم بهما مقتضيا لترتب حكم الحل والطهارة
الواقعيين ظاهرا ، فضلا عن ترتبه واقعا بنحو يقتضي الإجزاء حتى لو انكشف الخطأ ،
لعدم كونهما حينئذ من أفراد الموضوع.
إلا أن يثبت بدليل
آخر تنزيلهما منزلة الحل والطهارة الواقعيين في الأحكام. ولا تنهض به أدلة جعلهما
لأن جعل الموضوع في مرتبة سابقة على جعل حكمه ، فلا يتكفل بهما معا دليل واحد
متضمن لجعل واحد. ومن هنا لم يكن كلامه خاليا من الاضطراب.
على أن لازمه
تأسيس فقه جديد ، فإن مفاد أدلة الاصول المذكورة ـ ومنها الاستصحاب ـ لو كان حاكما
على أدلة الأحكام الواقعية وموسعا لدائرة الجزء والشرط بنحو يقتضي الإجزاء واقعا
في المأمور به الذي هو موضوع الصحة والفساد والإجزاء لجرى في شروط وأجزاء غيره مما
يكون مردا للآثار ، كالعقود والإيقاعات وموضوعات الأحكام الأخر ، فإذا تم التعبد
الظاهري ـ الذي تتضمنه تلك الاصول ـ بتلك الشروط صحت العقود والإيقاعات وترتبت تلك
الأحكام
واقعا ولو مع خطأ
التعبد المذكور ، فيصح بيع ووقف مستصحب الملكية ، وتستحق مستصحبة الزوجية النفقة ،
ويكون عقد الغير عليها محرّما لها عليه مؤبدا ، وينجس الجسم بملاقاة مستصحب
النجاسة ، كما يطهر المتنجس بغسله بماء مستصحب الطهارة ، إلى غير ذلك ، لأن دليل
التعبد الظاهري كما يكون حاكما على دليل الشرطية في المأمور به يكون حاكما على
سائر أدلة الشرطية ، لأن نسبته للجميع على نحو واحد.
كما لا يختص ذلك
بما اذا كان موضوع التعبد أمرا مجعولا شرعا ـ كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة
وغيرها ـ بل يجري فيما إذا كان موضوعة أمرا خارجيا مأخوذا في موضوع أحكام شرعية ،
ككون المرأة في العدة المستلزم لتحريمها مؤبدا بالعقد عليها ، وكونها حائضا
المستلزم لوجوب الكفارة بوطئها ، وكونها طاهرا المستلزم لصحة طلاقها ، ونحو ذلك ،
إما للتعبد بنفس الأمر الخارجي أو بأحكامه على ما يذكر في محله. ووهن اللازم
المذكور غني عن البيان. بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب.
ومنه يتضح أنه لا
مجال للبناء على أن موضوع الشرطية والجزئية ـ للمأمور به وغيره من العقود
والايقاعات ـ وغيرهما من الأحكام الأعم من الظاهر والواقع ، ولا على كون موضوعها
خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري من أفراد الواقع ، لأن المبنيين معا
مستلزمان للمحذور المتقدم وهو ترتب الأثر واقعا ولو مع خطأ التعبد.
كما أن البناء على
أن الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري مباينا له وليس من أفراده
مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى ظاهرا حال الجهل ، لعدم كون مؤدى التعبد من
أفراد موضوع الحكم الشرعي ، ليترتب عليه الحكم. وهو أوهن مما سبق ، لاستلزامه
لغوية جعل الحكم الظاهري ، كما لا يخفى.
فالتحقيق : أن
مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير جعل الحكم الواقعي ، ليقع الكلام في أنه
من سنخه وأفراده أو مباين له ، بل ليس في المقام إلا أمر واحد حقيقي كالموضوعات
الخارجية أو جعلي اعتباري كالأحكام الشرعية يكون بنفسه موضوعا للاثر العملي الشرعي
أو العقلي.
وتحققه في مقام
الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجيا حقيقيا ، ولجعله من قبل الشارع إذا
كان جعليا اعتباريا ، وهو الذي تتضمنه أدلة الأحكام الواقعية.
كما أن البناء
عليه في مقام الإثبات والعمل تابع للقطع به ، ومع عدمه فللتعبد الظاهري ، فالتعبد
الظاهري لا يتضمن جعل الحكم في عرض الحكم الواقعي ، بل جواز البناء في مقام العمل
عليه إثباتا وفي طوله. غايته أن البناء عليه بمقتضى التعبد الشرعي ..
تارة
: يتفرع على قيام
الحجة عليه ، لصلوحها شرعا لإثباته.
واخرى
: لا يتفرع عليها ،
بل يكون التعبد به ابتدائيا لمحض الجهل به أو مع سبق اليقين به أو لغير ذلك ، على
ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مسألة قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي إن شاء
الله تعالى.
ومنه يظهر أن
ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد ، وإن كان موضوع الأثر
ثبوتاً هو الواقع بنفسه ، لا ما يعمه والظاهر ، وأن عدم الإجزاء بانكشاف الخلاف
إنما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان العمل لجزئه أو شرطه بعد سقوط دليل
التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل المفروض ارتفاعه.
ومن هنا لا مخرج
عما يقتضيه الأمر الواقعي من عدم الإجزاء بعد انكشاف وقوع العمل على خلاف ما أخذ
فيه.
هذا ، وقد يدعى
أنه يلزم الإجزاء بناء على أن الطرق والاصول مجعولة
بنحو السببية لا
الطريقية ، بمعنى أن جعلها ناش عن مصلحة في متابعتها. إذ عليه يتدارك الواقع الذي
اخطأه بتلك المصلحة ، ومع تداركه يتعين البناء على الإجزاء.
ويشكل : بأن مصلحة
جعل الطريق إن كانت في قبال الملاك الواقعي بنحو تصلح لمزاحمته وتدارك فوته بنحو
يستلزم الإجزاء لزم التصويب المنسوب للمعتزلة الذي هو خارج عن الفرض.
بل يلزم التصويب
الباطل حتى لو لم يلزم الإجزاء من التدارك ، لكون المتدارك ، خصوص مفسدة تاخير
الواجب عن وقته إذا استلزمه العمل بالطريق ، على ما يأتي في مبحث الجمع بين
الأحكام الواقعية والظاهرية إن شاء الله تعالى. كما ربما يأتي هناك وفي مبحث قيام
الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي ما ينفع في المقام. فلاحظ.
بقي في المقام
امور ..
الأول
: لا ينبغي التأمل
في عدم الإجزاء لو كان العمل مخالفا للأمر الواقعي من دون أمر ظاهري ، بل لنسيان
أو غفلة أو اعتقاد خاطئ في الموضوع أو الحكم ، لأن مجرد العذر العقلي لا ينافي
بطلان العمل المستلزم لوجوب التدارك بمقتضى الأصل.
نعم ، يمكن دلالة
الدليل الخاص فيه على الإجزاء الواقعي خروجا عن مقتضى الأصل ، كما قد يدل على
إجزاء الأمر الظاهري كذلك ، على ما يأتي في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
الثاني
: حيث ذكرنا أن
مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفة الأمر الواقعي فالمخالفة ..
تارة
: تثبت بالعلم
الوجداني. ولا إشكال حينئذ في لزوم ترتيب أثرها المذكور ، وهو عدم الإجزاء. وهو
المتيقن مما سبق.
واخرى
: تكون مقتضى
التعبد الشرعي ، لتبدل الاجتهاد في حق المجتهد أو عدول المقلد عن فتواه السابقة أو
تقليد غيره في حق المقلد ، أو لابتناء العمل على أصل قامت الأمارة بعد العمل على
خلاف مقتضاه ، أو تبدل مفاد الأمارة ، كما لو عدلت البينة عن الشهادة بوجه إلى
غيره ، وغير ذلك مما لا يبلغ العلم. وقد وقع الكلام بينهم في الإجزاء في هذا القسم
في الجملة وعدمه.
ولا يخفى أنه بعد
فرض اختلاف مؤدى التعبد الشرعي حين العمل عنه بعد العمل لا يعقل حجيتهما معا في
واقعة واحدة ، لامتناع التعبد بالنقيضين.
وحينئذ حيث فرض
حجية التعبد الثاني ، فإن اختص دليل حجيته بالوقائع اللاحقة مع بقاء التعبد الأول
حجة في الوقائع السابقة فلا إشكال في إجزاء العمل السابق بمقتضى حجية التعبد الأول
وعدم انكشاف مخالفته للأمر الواقعي بالتعبد الثاني.
نعم ، قد يلزم من
ذلك مخالفة علم إجمالي منجّز ، فيسقط كلا التعبدين عن الحجية في الوقائع المختصة
به ، كما لو قلد من يقول بوجوب التقصير بالسفر ثمانية فراسخ ملفقة ، وعمل عليه مدة
، ثم قلد من يقول بوجوب الإتمام في ذلك ، وأنه لا بد في التقصير من السفر ثمانية
فراسخ امتدادية. فلو فرض حجية كل من التقليدين في الوقائع المقارنة له فحيث يعلم
اتحاد جميع الوقائع في الحكم الواقعي يعلم إجمالا إما بخطإ مقتضى التقليد الأول ،
فيجب قضاء ما وقع على طبق التقليد الأول تماما ، أو بخطإ الثاني ، فيجب القصر في
الوقائع اللاحقة.
وإن كان دليل
حجيته يعم الوقائع السابقة بنحو ينهض بإثبات وجوب التدارك فيها بالإعادة والقضاء
المستلزم لسقوط التعبد الأول عن الحجيّة فيها واختصاصه بصورة عدم قيام التعبد
الثاني تعين عدم الإجزاء ولزوم التدارك ، كما لو استندت فتوى المجتهد أو عمل
المكلف للأصل الترخيصي الجاري في
الشبهة الموضوعية
أو الحكمية ، ثم عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على خبر معتبر ، أو قامت بينة عند
المكلف ، على خلاف مقتضى الأصل المفروض الذي وقع العمل على طبقه.
وإن فرض الشك في
حال التعبدين بنحو لا يحرز عموم الثاني للوقائع السابقة وسقوط الأول عنها ، ولا
قصور عنها وبقاء الأول حجة فيها ، لإجمال دليلهما ، كان العمل السابق غير محرز
الصحة والإجزاء ، لأن الحكم بصحة العمل وإجزائه وترتيب أثرهما في كل زمان موقوف
على حجية التعبد بهما في ذلك الزمان ، ولا يكفي حجيته عليهما في زمان صدور العمل ،
كما هو الحال في القطع.
وحينئذ إن كانت
الشبهة موضوعية ـ كما لو شك في الطهارة الحديثة فيما اعتبر فيه الطهارة ـ فلا
ينبغي التأمل في لزوم الإعادة ، لأصالة الاشتغال بالتكليف المتيقن المفروض الشك في
امتثاله.
بل لا يبعد وجوب
القضاء لأصالة الاشتغال ـ أيضا بناء على ما هو الظاهر من أن القضاء وإن احتاج إلى
دليل إلا أنه بعد فرض ثبوته متحد مع الأداء ، وأن الوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب ،
فسقوطه بالتعذر لا ينافي جريان قاعدة الاشتغال في أصل المكلف به.
ولو فرض مباينته
للأداء ، بحيث يسقط التكليف بالأداء ويخلفه التكليف بالقضاء كفت أصالة عدم الإتيان
بالواجب في وقته في وجوب القضاء ، بناء على ما هو الظاهر من أن موضوعه ذلك ، لا
عنوان الفوت الذي لا يحرز بالأصل.
ويأتي بعض الكلام
في ذلك في ذيل التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة ، كما ذكرناه في الفقه في
المسألة الحادية والثمانين من مباحث الوضوء من شرح منهاج الصالحين. فراجع.
نعم ، لو كان هناك
محرز آخر لصحة العمل غير التعبد الأول ، كقاعدة
الفراغ ، وقاعدة
عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت جاز التعويل عليه. ولا مجال لإطالة الكلام في
صغريات ذلك ، بل يوكل لمورد الحاجة من الفقه ، لخروجه عن محل الكلام ، إذ الكلام
في الإجزاء من حيثية التعبد الأول لا غير.
وإن كانت الشبهة
حكمية فإن كان مفاد التعبد الأول عدم التكليف أصلا ومفاد الثاني ثبوته ووجوب
القضاء بالتخلف عن مقتضاه ، كما لو قلد من يفتي بعدم وجوب صلاة الكسوفين وعمل على
ذلك مدة ثم قلد من يفتي بوجوبهما ووجوب قضائهما ، كان مقتضى أصالة البراءة عدم
التكليف في الوقائع السابقة بعد فرض كون المتيقن من حجية فتوى الثاني الوقائع
اللاحقة.
وكذا لو اختلفا في
اعتبار خصوصية مفقودة في العمل السابق ، كما لو صلى بدون سورة مقلدا لمن يقول بعدم
وجوبها ثم قلد من يقول بوجوبها ، بناء على ما هو الظاهر من جريان البراءة في الأقل
والأكثر الارتباطيين فيبنى على الاجزاء في الفرض.
إلا أن يلزم
مخالفة علم إجمالي ، كما لو صلى قصرا تبعا لتقليد من يفتي به ، ثم قلد من يفتي
بالتمام ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب قضاء ما صلاه قصرا أو وجوب القصر في الصلوات
اللاحقة.
وأما لو اختلفا في
إحراز المكلف به مع الاتفاق على تحديده فيجري ما سبق في الشبهة الموضوعية ، كما في
موارد الاختلاف في المحصل ، مثل ما لو قلد من يقول بكفاية المسح بماء جديد في
الوضوء وترتب الطهارة المطلوبة عليه ، ثم قلد من يقول ببطلان الوضوء معه.
ومثلها موارد
الاختلاف في التعبد الظاهري ، كما لو عمل تبعا لتقليد من يقول بجريان قاعدة الفراغ
مع عدم الالتفات لمنشا الشك حين العمل ، أو من يقول بأصالة العدالة في المسلم ، ثم
قلد من يخالف في ذلك.
وقد تحصل من جميع
ما تقدم : أن المدار في الإجزاء على بقاء التعبد
الأول حجة في
الوقائع السابقة ، ليحرز به مطابقة العمل فيها للأمر الواقعي ، لا على مجرد عدم
حجية التعبد الثاني فيها ، كي لا يحرز به مخالفة العمل للأمر الواقعي ، إلا فيما
إذا كانت الشبهة حكمية وكان الشك في أصل التكليف أو في جزء المكلف به أو شرطه مع
عدم لزوم مخالفة علم إجمالي منجز ، فيكفي في الإجزاء مجرد عدم حجية التعبد الثاني
في الوقائع السابقة وإن لم يثبت بقاء حجية التعبد الأول فيها ، لإجمال دليله.
إذا عرف هذا ،
فاعلم أنه لم يتضح منهم الخلاف في أصالة عدم الإجزاء مع تبدل مقتضى التعبد إلا في
اختلاف مقتضى الاجتهاد ، حيث يظهر من جملة منهم أن الأصل فيه الإجزاء وعدم وجوب
تدارك ما وقع من الأعمال على طبق الاجتهاد الأول.
وقد استدل له في كلامهم
بوجوه ..
أولها
: ما ذكره في
الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ، ولو بحسب زمانين ، لعدم الدليل
على ذلك.
ومرجعه إلى أنه
بعد فرض سبق حجية الاجتهاد الأول في الوقائع السابقة ، لا دليل على حجية الاجتهاد
الثاني فيها بعد حدوثه ، ليجب العمل على مقتضاه بالبناء على عدم الإجزاء.
وفيه .. أولا :
أنه ظهر مما تقدم أن مجرد عدم الدليل على حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة
لا يكفي في الإجزاء في كثير من الموارد ، بل لا بد فيه من بقاء الاجتهاد الأول على
الحجية في تلك الوقائع ، وهو محتاج إلى الدليل.
وثانيا
: أن حجية الاجتهاد
الثاني في الوقائع السابقة مقتضى عموم أدلة حجية الأدلة التي ابتنى عليها ، لعدم
الفرق في حجية الظواهر وخبر الواحد والاصول وغيرها بين الوقائع.
ومجرد العمل على
خلافها في بعضها اعتمادا على حجة اخرى قد ظهر
لزوم رفع اليد
عنها لا يخرجها عن موضوع الحجية ، بل هي كما لو لم يعمل فيها بتلك الحجة السابقة
بعد فرض تقديم الحجة اللاحقة عليها ورفع اليد بها عنها.
ثانيها
: ما حكاه في
التقريرات عن بعض الأجلة من أن تبدل الاجتهاد وقيام حجة اخرى على خلاف الحجة
الاولى ليس إلا نظير النسخ ، فإنه بوصول الحجة الثانية ينقضي زمان الحجة الاولى ،
من دون أن ترتفع حجيتها في ما كانت حجة فيه.
وفيه : أنه بعد
فرض عدم تبدل الواقع باختلاف الحجج لا مجال لقياس المقام بالنسخ ، لا بالإضافة
للواقع ، كما هو ظاهر ، ولا بالإضافة للحجة السابقة ، لأنه إن اريد بذلك بقاء
حجيتها في الوقائع السابقة فهو موقوف على ثبوت الإطلاق لها وقصور إطلاق دليل الحجة
الثانية عن شمول تلك الوقائع ، وقد سبق أنه لا مجال لذلك في الأدلة التي يبتنى
عليها الاجتهاد.
وإن اريد به
الاكتفاء في الإجزاء بمطابقة العمل للحجة السابقة حين صدوره ولو بعد سقوطها عن
الحجية ، فهو أوهن ؛ لوضوح أن البناء عملا على الإجزاء في كل زمان موقوف على قيام
الحجة عليه في ذلك الزمان ، ولا يكفي قيامها عليه سابقا بعد فرض سقوطها عن الحجية
بعد ذلك ، نظير القطع.
ثالثها
: أن الأخذ
بالأمارة الثانية في الوقائع السابقة دون الأولى ترجيح من غير مرجح بعد كونهما معا
ظنيتين ، فعن كاشف الغطاء بعد كلام له في المقام : «على أنه لا رجحان للظن على
الظن السابق حين ثبوته».
ويظهر ضعفه مما
تقدم ، فإنه بعد فرض سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ـ بمقتضى أدلة الأمارتين ـ يتعين
التعويل على الثانية دون الآلي ، وإنما تكون الآلي كالثانية بالثانية ما دامت حجة
، كما هو الحال قبل قيام الثانية ، لا مطلقا ولو بعد سقوطها عن الحجية بها.
رابعها
: أنه مقتضى
الاستصحاب.
وفيه : أنه إن
اريد به استصحاب الحكم الظاهري التابع للأمارة الاولى فهو معلوم الارتفاع بعد
سقوطها عن الحجية ، لما تقدم.
وإن أريد به
استصحاب الحكم الواقعي المحكي بالأمارة الاولى ، فهو ـ مع اختصاصه بما إذا كان
التعبد بلسان الأمارة او الأصل التعبدي ، على كلام في الثاني ـ غير متيقن الحدوث
بعد سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ، بل هو بمنزلة متيقن العدم بعد حجية الثانية.
على أن الشك ليس في
استمراره بعد حدوثه الذي هو مفاد الاستصحاب ، بل في أصل ثبوته وهو موضوع الأثر ،
وإن كان استمراره على تقدير ثبوته معلوما.
خامسها : أنه لو
بني على عدم الإجزاء يلزم الحرج ويرتفع الوثوق بالاجتهاد ، لكثر التعرض للاختلاف
فيه ، وهو خلاف الحكمة الداعية إليه.
وفيه : ـ مع أن
لزوم الحرج غير مطرد ، وقاعدة نفيه لا تنهض بتشريع حجية التعبد السابق ونحوه من
الأحكام التي يتدارك بها الحرج ، وأنه لا طريق لإحراز أن الحكمة من الاجتهاد هو
الوثوق بالنحو المذكور ، كما يأتي في الأمر الثالث توضيحه ـ أن ذلك إن رجع إلى كون
الجهتين المذكورتين كاشفتين عن بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في الوقائع السابقة
، واختصاص سقوطه وحجية الاجتهاد الثاني بالوقائع اللاحقة.
فهو مخالف
للمرتكزات جدا بعد النظر في أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما
ذكرناه آنفا ، ويبتني على عناية خاصة لا مجال للبناء عليها لأجل الجهتين
المذكورتين.
نعم ، قد يدعى كشف
الجهتين المذكورتين عن كون موافقة العمل للاجتهاد الأول موجبة للإجزاء ثبوتا ولو
مع مخالفة الأمر الواقعي ، بحيث يبني على الإجزاء بالمخالفة ، فضلا عما لو كانت
مقتضى الاجتهاد الثاني غير قطعي ،
وهو أمر آخر خارج
عن مقتضى الأصل المتقدم ، يأتي الكلام فيه في الأمر الثالث كما يأتي الكلام في حال
الجهتين المذكورتين ، ومحل الكلام هنا في ما يقتضيه الأصل والقاعدة الظاهرية بعد
الفراغ عما سبق من أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفه الحكم الواقعي. ولذا صرح
بعضهم بعدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، وتقدم أنه المتيقن من محل
الكلام.
هذا كله مع أن ما
عدا الوجه الأول ـ لو تمّ ـ لا يختص بتبدل الاجتهاد ، بل يجري في غيره من مورد
تبدل مقتضى التعبد في الشبهة الموضوعية والحكمية.
بل لا يبعد ذلك في
الوجه الأول أيضا ، لعدم الفرق غالبا بين ألسنة أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها
الاجتهاد وألسنة غيرها مما يبتني عليه التعبد في الموارد الاخرى. بل قد يرجع
التعبد الذي يبتنى عليه الاجتهاد في الشبهة الحكمية والتعبد في الشبهة الموضوعية
إلى دليل واحد ، كما هو الحال في الاصول.
لكن من البعيد جدا
بناؤهم على مقتضى الوجوه المتقدمة في غير تبدل الاجتهاد ، بل الظاهر مفروغيتهم فيه
عن رفع اليد عن الإجزاء الذي هو مقتضى التعبد السابق بالتعبد اللاحق المخالف له
وإن كانت بعض كلماتهم قد لا تناسبه ..
ثم إنهم ذكروا عدم
الفرق في البناء على الإجزاء اعتمادا على الاجتهاد السابق بين المجتهد نفسه
والمقلد ، لعموم الوجوه المتقدمة.
والظاهر أن ما سبق
منا في وجه المنع عن ذلك كما يجري في حق المجتهد نفسه يجري في حق المقلد ، سواء
عدل مقلده عن فتواه السابقة أم اجتهد هو على خلاف مقتضى تقليده السابق ، حيث لا
إشكال في عموم حجية الاجتهاد الثاني منه أو من مقلده للوقائع ، تبعا لعموم حجية
الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما تقدم.
وأما لو عدل عن
تقليد المجتهد إلى تقليد غيره ممن يخالفه في الاجتهاد
ويرى بطلان العمل
السابق ، فعموم حجية اجتهاد الثاني للوقائع السابقة موقوف على عموم دليل العدول
لها ، وهو يختلف باختلاف موارد العدول ، ولا يسع الوقت استقصاء ذلك ، بل يوكل
لمباحث الاجتهاد والتقليد الآتية في محلها.
كما أنا قد
استوفينا الكلام في هذا المقام في الفقه في المسألة السادسة عشرة من مباحث
الاجتهاد والتقليد من شرح منهاج الصالحين. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
الثالث
: لا يخفى أن عدم
الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري مع مخالفته للواقعي وإن كان مقتضى الأصل ـ كما تقدم
ـ إلا أنه لا إشكال في إمكان حكم الشارع بالإجزاء بنحو يرجع إلى أن موضوع الحكم
الواقعي أعم من الوجود الواقعي والظاهري ، بل هو يخرج في الحقيقة عن موضوع الأصل
المتقدم ، لرجوعه إلى موافقة الحكم الواقعي ، الذي لا بد معه من الإجزاء كما تقدم.
كما يمكن حكمه
بالإجزاء مع تبعية الحكم الواقعي للواقع وفرض تحقق المخالفة له بمتابعة الحكم
الظاهري ، على خلاف مقتضى الأصل المتقدم ، من باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره ،
إما لوفائه بغرضه في ظرف الإتيان به خطأ ، أو لسقوط غرضه معه عن الفعلية ، لمصلحة
الامتنان والتسهيل أو لتعذر استيفاء غرضه معه ، أو لغير ذلك.
وقد ثبت ذلك في
جملة من موارد الخطأ في الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي ، كموارد : «لا تعاد الصلاة
...» وغيرها مما لا ضابط له ، ولا مجال لاستقصائه ، فلا مجال للكلام فيه هنا ، بل
يوكل لمباحثه المناسبة في الفقه.
نعم ، ينبغي
الكلام هنا في ما وقع الكلام فيه بينهم من الإجزاء وعدمه مع استناد العمل لاجتهاد
أو تقليد سابق يلزم رفع اليد عن مؤداه ، لأنه أمر عام منضبط في الجملة ، ومورد
للابتلاء الكثير.
وهو وإن كان من
شئون الاجتهاد والتقليد ، ولذا حرره غير واحد في
مباحثهما ، إلا
أنه لابتناء بعض الكلام فيه على مباني مسألة الإجزاء ومناسبته لها يحسن التعرض له
هنا.
فنقول : لا يخفى
أن المراد بالإجزاء ..
تارة : هو الإجزاء
الظاهري ، لاحتمال إصابة مقتضى الاجتهاد أو التقليد السابق الواقع.
واخرى
: هو الإجزاء
الواقعي حتى مع فرض المخالفة للواقع ، لاجتزاء الشارع بالعمل المذكور عن الواقع
لإحدى الجهات المتقدمة.
ولازم الأول عدم
الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، بخلاف الثاني. وقد يظهر من جملة كلماتهم
إرادة الأول ، ويظهر حاله مما تقدم في التنبيه السابق.
والذي يناسب البحث
المعقود له هذا التنبيه هو الثاني. وقد يستدل عليه بوجوه ..
الأول
: أنه لو لاه يلزم
العسر والحرج ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد بالإضافة لعمل نفسه ، وتعرض
المقلد لاختلاف الفتاوى عليه لأجل ذلك ، ولأجل العدول في التقليد أو حدوث الاجتهاد
له بعد العمل على التقليد مدة طويلة ، ومقتضى قاعدة نفي العسر والحرج البناء على
الإجزاء وسقوط التكليف الواقعي حينئذ.
وفيه : أن لزوم
الحرج من عدم الإجزاء في غير موارد (لا تعاد) ونحوها مما دل الدليل على الإجزاء
فيه بالخصوص لا يطرد في جميع الموارد ، بل يختلف باختلاف التكاليف ومدة العمل على
الاجتهاد الخاطئ ، وغاية ما يدعى لزوم الحرج نوعا ، وهو لا ينفع في جريان القاعدة
، لأن موضوعها الحرج الشخصي.
مع أن ذلك منتقض
بما إذا تفرعت المخالفة على تعبد شرعي غير الاجتهاد والتقليد في الشبهات الموضوعية
كاستصحاب عدم البلوغ وأصالة
الطهارة والتذكية
وغيرها. وكذا لو لم يتفرع على تعبد شرعي ، بل على خطأ أو نسيان ، وكذا لو تعمد ترك
الواجب مدة طويلة ، مع أنه ليس البناء على سقوط التكليف في ذلك ، بل غايته رفع
وجوب المبادرة لو كانت واجبة بالأصل ونحوها.
الثاني
: أن حكمة تشريع
الاجتهاد والتقليد هو الوثوق بهما في العمل على طبقهما والركون إليهما فيه ، ومع
عدم الإجزاء لا تترتب الحكمة المذكورة ، بسبب كثرة التعرض للاختلاف ، كما اشير
إليه في الوجه الأول ، لأن صعوبة القضاء تمنع من الركون بالوجه المذكور وتحمل على
الاحتياط مهما أمكن.
وفيه : ـ مع عدم
اختصاص الحكمة المذكورة بالاجتهاد ، بل هي لو تمت تجري في غيرهما من موارد التعبد
الظاهري التي لم يظهر منهم البناء فيها على الإجزاء ـ أنه لا دليل على كون الحكمة
هو الوثوق بالنحو المذكور ، بل لعلها رفع التحير حال الجهل لا غير. فالوجه المذكور
كسابقه استحساني لا ينهض بالاستدلال. نعم ، قد ينهضان بالتأييد على ما يأتي في
تقريب الاستدلال بالسيرة.
الثالث
: الإجماع المدعى
في كلام بعض ، ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم : أنه ظاهر
المذهب ، وعن آخر : أنه مقتضى الإجماع ، بل الضرورة.
نعم ، ذكر بعض
الأعاظم قدّس سرّه أن المتيقن منه العبادات ، بل ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس
سرّه أن المتيقن منه الصلاة ، وأن عهدة دعوى الإجزاء مطلقا على مدعيها.
وفيه : أنه لا
مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير ، ولا سيما مع
إنكار مثل شيخنا الأعظم قدّس سرّه له ، حتى نسب في التقريرات دعوى الإجماع
والضرورة إلى بعض من لا تحقيق له. مضافا إلى إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات
والطرق الظاهرية بعد انكشاف خطئها بنحو يشمل
المقام ، قال في
التقريرات : ـ في بيان القول بعدم الإجزاء فيها ـ «وفاقا للنهاية ، والتهذيب ،
والمختصر وشروحه ، وشرح المنهاج ، على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم ، بل وفي محكي
النهاية الإجماع عليه ، بل وادعى العميدي قدّس سرّه الاتفاق على ذلك ...».
الرابع
: سيرة المتشرعة
لابتلائهم بذلك كثيرا ، خصوصا بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد
الميت ، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.
لكن أنكرها غير
واحد ، وذكر بعض مشايخنا أنها ـ لو تمت ـ مستندة في أمثال عصرنا إلى فتاوى
المجتهدين ، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين).
ثم إن هذه الوجوه
قد سيقت في كلماتهم لبيان الإجزاء أو عدمه مع تبدل التعبد بتعبد مثله غير علمي ،
لاختلاف الاجتهاد أو التقليد بنحو قد يظهر منهم اختصاص الكلام بذلك ، بل صرح غير
واحد ممن بنى على الإجزاء بعدم الإجزاء مع ظهور المخالفة بالعلم الوجداني ، حتى
حكى بعض الأعاظم قدّس سرّه دعوى جماعة الإجماع عليه.
ولازم ذلك كون
الإجزاء ظاهريا مبتنيا على قصور الاجتهاد الثاني عن شمول الوقائع السابقة وبقاء
الاجتهاد الأول حجة فيها ، وقد سبق في رد الوجه الخامس للاستدلال على الإجزاء
الظاهري في آخر التنبيه الثاني استبعاد ذلك جدا. ولذا قد تساق الوجوه المذكورة
للاستدلال على الإجزاء الواقعي الذي هو محل الكلام في هذا التنبيه ، كما جرينا
عليه هنا.
وحيث ظهر ضعف
تقريباتها المتقدمة فربما توجه بنحو آخر ترجع إلى الاستدلال عليه بالسيرة.
وحاصله : أنه لا
ريب في ابتناء معرفة الأحكام الشرعية في عصور المعصومين عليهم السّلام على الخطأ
كثيرا ، لأن ظهور اختلافنا مع العامة في الفقه ـ المنبه
للزوم أخذ أهل
الحق أحكامهم من أئمتهم وأصحابهم الذين على نهجهم ـ قد بدأ في عصر الصادقين عليهما
السّلام أو قريبا منه ، وقبل ذلك كان الأمر مختلطا على المسلمين بجميع فرقهم ، فلا
امتياز لفقه كل فرقة عن فقه غيرها.
ثم لما تنبه
الشيعة للاختلاف ووسّع الأئمة عليهم السّلام الكلام وبدءوا يرجعون إليهم في فقههم
ابتلوا بأسباب الاختفاء والالتباس ، حيث كثر اختلاف الأحاديث من جهة التقية والخطأ
والكذب ، حتى تضمنت بعض النصوص أنهم عليهم السّلام بصدد إحداث الخلاف بين الشيعة
محافظة عليهم حتى لا يتميزوا بقول فيأخذوا به.
وكان صدور
الروايات منهم عليهم السّلام تدريجيا تبعا لتنبه السائل أو حاجته الشخصية غالبا ،
ولم يكن وصولها لجميع الشيعة متيسرا ، بل كانت تصل تدريجيا لأشخاصهم. وذلك بطبعه
مستلزم لاطلاع أفراد الشيعة بوجه شايع على خطأ ما وصل إليهم وجروا عليه في مقام
العمل ـ في الصدر الأول قبل رجوعهم لأئمتهم عليهم السّلام وبعده ـ على اختلاف
أسباب اطلاعهم على ذلك من سؤالهم عليهم السّلام مباشرة أو بسماع الأحاديث المروية
عنهم أو بالاستفتاء ممن يتصدى للفتوى من أصحابهم المنتشرين تدريجا في أقطار الأرض
، كما تشير إلى بعضه النصوص.
فلو كان البناء مع
ذلك على عدم الإجزاء بعد ظهور الخطأ لزم الهرج والمرج وكثر الوقوع في العسر والحرج
، ولكان شيوع الابتلاء به مستلزما لظهوره المانع لهم عادة من الركون الى النصوص
وفتاوى الأصحاب ، بل فتاوى الأئمة عليهم السّلام أنفسهم بسبب احتمال التقية فيها
أو عدم فهمها ، لأن لزوم مثل هذه المشكلة ينبه للاحتمالات المغفول عنها بدوا ،
ويرفع الوثوق الطبيعي.
وبذلك يضطرب
نظامهم ويرتبك أمر الفقه عليهم. ولو كان الأمر على ذلك لظهر وبان ، وكثر السؤال عن
حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها ، وما
يترتب على ذلك من
فروع متشعبة ، فإهمال ذلك ظاهر في المفروغية عن الإجزاء.
وهو المناسب لما
هو المرتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج والضيق ، وما تضمنته جملة من
النصوص من أنهم عليهم السّلام لا يوقعون شيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمة
لهم تداركا للمشاكل التي أحاطت بهم من جراء سلطان الظلمة واستضعافهم في الأرض حتى
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وعصفت بهم أعاصير الفتن والمحن. ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ، وهو المعين على ما ناب من خطب.
بل لا يبعد كون
ذلك موجبا لظهور بعض النصوص الدالة على اختلاف الأحاديث وصدور بعضها للتقية في
الإجزاء ، ولو بإطلاقاتها المقامية ، حيث يحتاج لزوم التدارك للتنبيه فعدمه ظاهر
في عدمه.
بل لعل النظر في
النصوص وسيرها بعد التنبيه لما ذكرنا يوجب القطع به. ولا سيما مع تأيده بسيرة
المتشرعة في العصور القريبة المعتضدة بما عرفت من دعوى الإجماع على الإجزاء التي
لا يبعد عدم استنادها لتصريحاتهم ، لما أشرنا إليه من استحداث تحرير المسألة ، بل
للسيرة المذكورة بعد إحراز اتصالها بعصور المعصومين عليهم السّلام لما ذكرنا ،
الذي لا يبعد رجوع جميع الوجوه المتقدمة إليه ، كما يظهر بملاحظته وملاحظتها.
ودعوى : أن
المتيقن من ذلك ما دلت الأدلة الخاصة على اغتفار الخطأ فيه ، كما في موارد : «لا
تعاد الصلاة» ونحوها ، ولم يعلم بناؤهم على الإجزاء في غير ذلك.
مدفوعة .. أولا :
بأن الإجزاء في الموارد المذكورة مع الخطأ في الحكم الشرعي الكلي وإن كان مقتضى
إطلاق بعض هذه الأدلة وصريح بعضها ، إلا أن الإجزاء في مواردها لما لم يكن
ارتكازيا ، لعدم خصوصيتها ، ولم تكن الأدلة
عليه كثيرة مشايعة
فهو لا يستغنى فيه عن السؤال عند ظهور الخطأ في الحكم ، فعدم السؤال شاهد
بالمفروغية لخصوصية الجهل بالحكم الناشئ عن خطأ الدليل الذي يعتمد عليه ، التي لا
يفرق فيها ارتكازا بين مورد وأخر.
وبعبارة اخرى :
ليس الاستدلال بمجرد عدم البيان من الشارع الأقدس ، كي يدعى أنه يكفي في بيان
الإجزاء في هذه الموارد الأدلة المشار إليها ، وفي بيان عدمه في غيرها أنه مقتضى
القواعد العامة ، وعدم وضوح سيرة على خلافها ، بل بعدم ورود السؤال عن حكمها من
المتشرعة عند الالتفات للخطإ الذي لا وجه له ـ بعد ما أشرنا إليه من استلزام عدم
الإجزاء العسر والحرج ، والهرج والمرج ـ إلا المفروغية عن العفو والإجزاء مع
استناد الخطأ والبطلان للبيان الواصل ، لا للمكلف نفسه ، ولا خصوصية للموارد
المذكورة ارتكازا في المفروغية المذكورة ، فالجهة الارتكازية التي عليها تبتني
السيرة لا تختص بالموارد المذكورة وإن اختص المتيقن من السيرة بها.
وثانيا : بأنه لا
خصوصية للموارد المذكورة في وقوع الخطأ من المتشرعة تبعا لاختلاف النصوص والفتاوى
عليهم ، بل هو جار في غيرها ، كتحديد الكر ، وكيفية التطهير ، والنجاسات ، والوضوء
والتيمم ونواقضهما ، والقصر والتمام ، والتذكية وغيرها مما يوجب الخطأ فيه رأسا أو
بالواسطة بطلان العمل وما يترتب عليه من قضاء وضمان وغيرهما. فعدم الاهتمام بتمييز
الموارد المذكورة عن غيرها عند الالتفات للبطلان شاهد بالمفروغية عن الإجزاء في
الكل للجهة التي أشرنا إليها.
ومثلها دعوى : أن
ذلك يكشف عن الإجزاء الواقعي ، بل يكفي فيه الإجزاء الظاهري المبتني على عدم
التعويل في الوقائع السابقة على احتمال المخالفة للحكم الواقعي.
لاندفاعها .. أولا
: بأن الإجزاء الظاهري لما كان مبنيا على قصور حجية
الحجة اللاحقة عن
شمول الأعمال السابقة ، وبقاء حجية الحجة السابقة فيها ، وقد سبق أنه بعيد عن
المرتكزات جدا ، فلا مجال لابتناء السيرة المتقدمة عليه ، لظهور حالها في أنها
ارتكازية مبنية على المفروغية عن مقتضاها ، بنحو يستغنى معها عن السؤال ، كما
تقدم.
وثانيا
: بأن عثورهم على
الخطأ في عصور المعصومين عليهم السّلام كثيرا ما يكون بطرق تفيد العلم بطبعها ،
كسؤال الأئمة عليهم السّلام بأنفسهم ، أو الرجوع لخلّص أصحابهم في رواياتهم أو
فتاواهم ، فإن الالتفات لاحتمال مخالفة ذلك للواقع لتقية أو نحوها في تلك العصور
يحتاج إلى منبه غالبا ، وبدونه كثيرا ما يحصل العلم ، فلولا البناء على الإجزاء
الواقعي لم تتم السيرة المذكورة. كيف ولازم الإجزاء الظاهري للبناء على بقاء حجية
الحجة السابقة حصول العلم الإجمالي بالمخالفة في كثير من الموارد الملزم بالاحتياط
بالجمع بين الوظيفتين! كما تقدم ، ومن المعلوم عدم ابتناء السيرة عليه.
نعم ، لا يبعد
اختصاص السيرة بالأوامر ونحوها مما يكون مقتضى البطلان فيها عدم الإجزاء ووجوب
الإعادة والقضاء ونحوهما مما هو من سنخ التدارك أو الجزاء كالكفارة.
أما غيرها من
موارد الخطأ كالمعاملات ونحوها فيشكل البناء على الصحة فيها ، لعدم شيوع الاطلاع
على الخطأ فيها ، لجري المتشرعة بطبعهم فيها غالبا على ما يغلب جري الشارع عليه ،
وهو الطرق العرفية ، وليست هي كالامور المأخوذة من الشارع الأقدس التي يستند فيها
لما ينسب للشارع من بيانات يكثر فيها الخطأ ، على ما تقدم.
مع أنه لو فرض
الاطلاع على الخطأ فيها فلا يبعد بناؤهم معه على البطلان ولو لاحتمال اختصاص الجهة
الارتكازية بما يرجع للشارع الأقدس ، تنازلا منه عماله تسهيلا على المكلفين ، دون
ما يرجع إلى غيره كالضمانات
ونحوها.
وعدم ترتيبهم أثر
البطلان قد يكون للضياع والاختلاط وعدم تيسر المراجعة ، وإلا فلم يتضح بناؤهم على
عدم المراجعة مع تيسرها.
وأظهر من ذلك ما
لا يكون من سنخ التدارك ، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق وترتيب آثار
صحته ، فمن ذكى بغير الحديد ـ مثلا ـ لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ
له ، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل بعد ذلك على عدم مشروعيته ، لم يبعد
توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية عليها ونحو ذلك.
ولا أقل من خروجه
عن المتيقن من السيرة ، لأن المتيقن منها عدم تدارك بطلان العمل بالقضاء ونحوه ،
لا البناء على صحة العمل أو ترتيب جميع آثار صحته.
ولعله إليه يرجع
ما قيل من اختصاص الإجماع بالعبادات ، وإلا فلم يظهر وجه خصوصيتها. بل لا يبعد
قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الاعادة في الوقت ، لعدم كونها بنظر المتشرعة من
سنخ التدارك.
ولا أقل من خروجه
عن المتيقن من السيرة لندرة الابتلاء بانكشاف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت ،
وعدم وضوح بنائهم على عدم وجوب الإعادة معه بعد عدم أهميته ، فلا حرج ولا ضيق في
الإعادة ليلتفت إليها ويسأل عنها ، ليكشف عدم السؤال عن المفروغية عن الإجزاء.
كما أن المتيقن
أيضا ولو بلحاظ الارتكاز الذي لا يبعد ابتناؤها عليه ما لو كان خفاء الحكم مستندا
لقصور البيان ، إما لعدم وصوله أو لوصول خلاف الواقع ، لا لخطأ المكلف في
الاستفادة من الأدلة الواصلة له أو نسيانه للدليل أو نحوهما مما يعود للمكلف نفسه
، وإن كان معذورا ، لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور أيضا ، لقربهم من زمان
الخطاب بالحكم المناسب لإحاطتهم
بالقرائن المكتنفة
له وتيسر فهمهم له غالبا وعدم ضياع مؤداه عليهم.
ولو فرض ابتلاؤهم
به فلا يتضح بناؤهم على الإجزاء معه ، لاحتمال كون منشأ الاجزاء عندهم ارتكازا
التخفيف تداركا لما يقع على المكلفين بسبب محنتهم ، دون ما يحصل بسبب المكلف نفسه.
ومنه يظهر عدم
الإجزاء في حق المجاهد نفسه عند تبدل اجتهاده في أمثال عصورنا ، لابتناء تبدل رأيه
غالبا على انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها أو عن كيفية الجمع
بينها ، لا لعدم تيسر الوصول إليها ، بخلاف العامي لو بقي على تقليد المجتهد بعد
عدوله عن فتواه ، أو عدل لغيره ممن يخالفه في فتواه ، أو اجتهد على خلاف رأيه ،
لعدم استناد خطئه في العمل لأمر يعود له ، بل الفتوى المجتهد التي هي الطريق الشرعي
المتيسر في حقه مع تعذر الوصول للواقع من طريق آخر.
نعم ، لو كان
ناشئا من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص المجتهد الذي قامت الحجة على
تعيينه ، أو كان مقصرا في الرجوع للمجتهد المذكور اتجه عدم الإجزاء في حقه ،
لاستناد الخطأ له كالمجتهد ، لا لقصور الأدلة.
هذا ، وأما ما سبق
من دعوى الإجماع على عدم الإجزاء ، بل سبق عن غير واحد دعواه مع ظهور الخطأ بالعلم
الوجداني وأنه المتيقن من كلامهم. فلا يبعد حمل ما اطلق فيه عدم الإجزاء على إرادة
بيان مقتضى الأصل في الأحكام الظاهرية في مقابل التصويب الذي عليه العامة ، فهو
راجع إلى الإجماع على التخطئة ، أو بيان عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه ، أو في
المعاملات ونحوها ، بنحو يرجع إلى عدم ترتيب أثر الصحة على العمل بعد ظهور بطلانه
بالاجتهاد الثاني ـ كما هما مورد كلام العميدي ـ حيث سبق عدم وضوح السيرة على
الإجزاء في الموردين.
وأما الإجماع على
عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالخطإ ، المستلزم لعدم الإجزاء الواقعي ، فلا مجال
للتعويل عليه بعد ظهور ذهاب جماعة للإجزاء في صورة اختلاف الاجتهاد. لما عرفت من
أن حمله على الإجزاء الظاهري لا يناسب المرتكزات جدا ، مع استلزامه حدوث علم إجمالي
منجز يقتضي وجوب الاحتياط الذي ليس بناؤهم عليه ، حيث يناسب ذلك إرادتهم الإجزاء
الواقعي.
وإلا كانت مبانيهم
مضطربة ، ومع ذلك لا مجال للتعويل على دعوى الإجماع المذكورة والتوقف لأجلها عن
السيرة التي سبق تقريبها.
هذا ، وبقي في
المقام بعض الجهات تخص الاجتهاد لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا ، بل توكل لمبحث
الاجتهاد والتقليد من الاصول أو الفقه.
الرابع
: الأمر الظاهري
كما لا يقتضي الإجزاء في حق المخاطب به ثبوتا مع مخالفته للواقع ، وإثباتا مع ظهور
خطئه له ، كذلك لا يقتضي الإجزاء في حق غيره ممن يترتب الأثر في حقه على عمل
المخاطب بالحكم الظاهري ، فلا يترتب الأثر في حق ذلك الغير ثبوتا مع خطأ الحكم
الظاهري الذي اعتمد عليه المخاطب به ، كما لا يجوز له ترتيب الأثر ظاهرا مع ظهور
الخطأ له ولو بمقتضى التعبد الظاهري الثابت في حق نفسه ، فمن صلى متعبدا ظاهرا
بالطهارة ـ مثلا ـ لا يجوز الائتمام به لمن يرى خطأ التعبد المذكور وإن لم يستند
في البناء على الخطأ للعلم الوجداني ، بل لتعبد آخر ثابت في حقه ، عملا بعموم حجية
ذلك التعبد ، لأن المدار في عمل كل شخص التعبد الثابت في حقه ، لا الثابت في حق
غيره.
نعم ، لو كان
موضوع جواز الائتمام بالمصلي صحة صلاته ولو ظاهرا في حقه ـ ولو مع بطلانها في حق
المؤتم به ـ اتجه الائتمام به في الفرض ، لثبوت الموضوع له ، وهو تابع لدليل الحكم
المذكور ، ولسنا بصدد تحقيق ذلك هنا.
لكن في التقريرات
بعد أن ذكر ذلك قال : «والمسألة في غاية الإشكال ، نظرا إلى بعض اللوازم ، إذ على
تقديره يجوز العقد على المعقود بالفارسية لمن لم يجوّز ذلك ، وأمثاله».
ولا يخفى أن ذلك
ليس محذورا يوجب الإشكال في ما تقتضيه القاعدة وجرى عليه الأصحاب ، على ما نبه له
بعد ذلك بذكر جملة من تصريحاتهم. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

الفصل الثالث
في مقدمة الواجب
قد حررت هذه
المسألة في كلام قدماء الاصوليين أهل الاستدلال ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب
مقدمة الواجب تبعا لوجوبه وعدمه.
ويظهر من مطاوي
كلماتهم في الفقه والاصول المفروغية عن عدم خصوصية الواجب في موضوع الكلام ، بل
يعم المستحب ، وأن مقدمته هل تكون مستحبة تبعا لاستحبابه أو لا؟. بل الظاهر عموم
ملاك النزاع للحرام والمكروه ، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.
ومن هنا يكون
موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم الاقتضائي للشيء وثبوت مثله
لمقدمته. وبهذا يكون البحث المذكور في قسم الملازمات العقلية.
كما أنه قد تعرض
المتأخرون بتبع الكلام المذكور لبعض ما يتعلق بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في
ضمن مباحث عقدت تمهيدا لمحل الكلام ، أو من لواحقه التابعة له.
هذا ، والظاهر أن
موضوع كلامهم ـ وهو الملازمة المذكورة ـ ليس موردا للأثر العملي ، وأن جميع ما
يترتب من الآثار العملية على تقدير الملازمة يترتب على تقدير عدمها ، كما سيتضح
عند الكلام فيها.
كما أن الامور
التي بحثت في كلامهم تبعا هي المهمة في مقام العمل ، ولا يترتب الكلام فيها على
ثبوت الملازمة ، كما يتضح أيضا.
ومن هنا لا يحسن
تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في الامور المذكورة تابعا له ، كما جروا
عليه.
بل ينبغي بحث كل
من الامور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل عن بحث الملازمة.
وإنما تبحث
الملازمة مع ما عرفت من عدم الأثر لها في مقام العمل ..
أولا
: لمتابعتهم في ما
جروا عليه من الاهتمام بالبحث فيها.
وثانيا
: ليظهر من مطاوي
البحث المذكور إلى ما ذكرناه من عدم الأثر العملي للملازمة المذكورة.
وينبغي التمهيد
للمباحث المذكورة بأمرين لهما تمام الدخل في تنقيح محل الكلام ، وتحديد موضوع
الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.
الأمر
الأول : لا إشكال ظاهرا
في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من الدواعي لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي
المسانخ له لفعل مقدمته ، على أن يكون الدعي الثاني في طول الداعي الأول ، تابعا
له ، فانيا فيه ، مرتبطا به ، غير مستقل عنه ، لوحدة الغرض الموجب لهما ، فلا يكون
الثاني صالحا للحركية ما لم يصلح الأول لها ، بل محركية الأول إنما تكون بالجري
على طبق الثاني ، كما أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول ، ولا يكون
متعلقه موضوعا للداعوية إلا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة
غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من إنكاره ، ويغني عن إطالة الكلام فيه. وإنما
الكلام في ما يلحق ذلك ..
تارة : في تحديد
موضوع الداعوية المقدمة ، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها ، وهي التي يترتب
ذوها عليها ، المعبر عنها بالمقدمة الموصلة ، أو التي يقصد بها التوصل إليه أو نحو
ذلك.
واخرى : في سعة
الداعوية المذكورة ، وأنها مطلقة أو مقيدة.
وثالثة
: في أن المقدمة
التي هي موضوع الداعوية بالنحو المذكور هل يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي
المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل ، أو لا؟ فإذا وجب أو استحب شيء شرعا لزم
وجوب أو استحباب مقدمته كذلك ، أو لا؟ بل ليست المقدمة إلا موردا للداعوية للعقلية
تبعا للداعوية الثابتة لذيها بسبب الحكم الشرعي الثابت له ، من دون أن تكون موردا
لحكم شرعي آخر.
وإليه يرجع البحث
في الملازمة التي هي موضوع البحث في مقدمة الواجب في كلامهم ، حتى جعلوا البحث في
الأمرين من لواحقه. ولا وجه له بعد عدم تفرع البحث فيهما عليه ، كما سبق.
نعم ، قد يحسن
لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما ، لأنه أقرب لا تساق الكلام فيهما
مع كلامهم.
هذا ، وبما ذكرنا
من وضوح تبعية المقدمة لذيها في الداعوية يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه
ـ وأقرّه عليه غيره ـ من إمكان عدم اقتضاء التكليف بذي المقدمة تحصيل المقدمة ، بل
يكفى حصولها من باب الاتفاق ، حيث ظهر امتناع ذلك.
ولو كان هناك
مقدمة لا يلزم تحصيلها لزم البناء على كونها شرطا لأصل التكليف بذيها ، فلا يكون
التكليف به قبل حصولها فعليا ليقتضي الاتيان به وبها تبعا له ، على ما تقدم التعرض
له في مبحث الواجب المشروط من فصل تقسيمات الواجب من المقصد الثاني من مباحث
الألفاظ. فراجع.
الأمر
الثاني : من الظاهر أن
المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود الواجب ويكون له الدخل فيه ، ولذا تكون
الداعوية للواجب مستلزمة للداعوية إليه.
وقد قسمت في
كلماتهم بتقسيمات كثيرة ، بعض الأقسام فيها خال عن
الأثر المصحح
للتقسيم ، وبعضها خارج عن محل الكلام. كمقدمة الوجوب ، وهي التي يتوقف عليها وجوب
الشيء ، بحيث لا يجب إلا في رتبة متأخرة عن وجودها ، كالبلوغ بالإضافة إلى جميع
الواجبات ، وكالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج ، فإنه وإن أمكن أن يتوقف عليها
الواجب بذاته ـ كالاستطاعة في الجملة بالإضافة للحج ـ إلا أنه لا يتوقف عليها بما
هو واجب وبعد فرض وجوبه ، ليدعو إليها وتدخل في محل الكلام ، لفرض وجودها في رتبة
سابقة على وجوبه وثبوت الداعوية إليه. وكمقدمة العلم التي يراد بها ما يتوقف عليه
إحراز امتثال الواجب ، وإن كان مباينا له غير دخيل في وجوده.
ولعل الأولى
الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في تحديد محل الكلام ..
الأول : تقسيمها
إلى داخلية وخارجية.
والداخلية : هي
عبارة عن الأجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها معه.
والخارجية : هي ما
يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه ، كالشروط الشرعية وأجزاء العلة
التكوينية.
وقد وقع الكلام
بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام ، فمنع بعضهم من دخولها ، لعدم
المقدمية بينها وبين الواجب ، لفرض كونها عينه ومتحدة معه حقيقة ولا اثنينية
بينهما ، فليس في المقام إلا الداعوية النفسية نحو المركب المنبثة على أجزائه بنحو
ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمنا بنحو الارتباطية.
وقد حاول بعضهم
دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار. وقد اطيل الكلام في ذلك بما لا مجال
لاستقصائه.
والعمدة في
الإشكال فيه : أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام ، لأن
الداعوية للمقدمة
لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة عنها ، بحيث يكون الجري
عليها شروعا في الجري عليها ـ كما تقدم ـ فهي مختصة لبا بصورة تحقق تمام المقدمات
، على ما يظهر مما يأتي في بحث المقدمة الموصلة ، فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية
للأجزاء لكانت مختصة بصورة تحقق تمامها ، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي
هو موضوع الداعوية النفسية ، ولا فرق بينهما ، ليمكن تعدد الداعوية ، بحيث تكون
إحدى الداعويتين في طول الاخرى.
ودعوى : أنه يمكن
اجتماع الداعويتين النفسية والغيرية في الشيء الواحد ، كما لو كان مطلوبا في نفسه
وشرطا في مطلوب آخر ، كصلاة الظهر مع صلاة العصر ، غاية الأمر أن تكون إحداهما
مؤكدة للاخرى.
مدفوعة : بالفرق
بأن الداعوية الغيرية في الفرض المذكور ليست في طول الداعوية النفسية ، بل هي
مستقلة عنها وإن كانت في طول داعوية نفسية اخرى ، وهي الداعوية الثابتة للمطلوب
الآخر المشروط بذلك الشيء.
أما في المقام فهي
ـ لو ثبت ـ في طول الداعوية النفسية ولأجل تحقيق متعلقها ، ومع اتحاد متعلقهما لا
موضوع للغيرية ، ولا أثر لها في مقام العمل. ولا مجال لفرض التأكد بينهما لو فرض
إمكان تعددهما ، لتعدد متعلقهما ، إذ مع فعلية تأثير الداعوية النفسية في مقام
العمل لا يحتاج للداعوية الغيرية ، ومع عدم فعليته لا تصلح الداعوية الغيرية
للتأثير ، لأنها في طول الداعوية النفسية ، كما سبق.
ومن هنا لا تتأكد
الداعوية الغيرية في المقدمة الواحدة لو تعددت جهة دخلها وتوقف ذيها عليها ، كما
لو توقفت الطهارة الحديثة والخبثية للصلاة على إيصال الماء المتنجس بالمادة ليطهر
، فإن الداعوية النفسية للصلاة وإن اقتضت داعوية غيرية للإيصال المذكور ؛ لتوقفها
عليه من جهتين ، إلا أن داعويته الغيرية
المذكورة واحدة لا
تأكد فيها ، كالداعوية للمقدمة التي يتوقف عليها من جهة واحدة ، كالستر للصلاة ،
لوحدة الداعوية النفسية التي تنتهي إليها الداعوية الغيرية وتناط بها وتكون في
طولها. فلاحظ.
وبالجملة : لا
ينبغي التأمل في خروج المقدمة الداخلية عن محل الكلام ، بل ليست هي مقدمة في
الحقيقة. وربما يظهر أثر ذلك في مسألة دوران التكليف بين الأقل والأكثر
الارتباطيين ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
الثاني
: تقسيمها إلى
تكوينية وشرعية.
فإن توقف الواجب
على شيء ..
تارة : يبتني على
علاقة تكوينية بينهما يدركها المكلف بحكم العقل أو بعادة أو نحوهما ، كتوقف الحج
على قطع المسافة.
واخرى : يبتني على
تقييد الواجب بذلك الشيء شرعا ، كتوقف الصلاة على الستر أو الطهارة أو نحوهما.
ولا إشكال في دخول
الاولى في محل النزاع.
وأما الثانية فقد
قال بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله : «ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا ـ على ما
يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إلى أن الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب
الغيري ـ وسماه مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ـ باعتبار أن التقييد لما كان داخلا في
المأمور به وجزءاً له فهو واجب بالوجوب النفسي ، ولما كان انتزاع التقييد إنما
يكون من القيد ـ أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ
انتزاعه ، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشأ انتزاعه ، فيكون الأمر
النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالقيد ، وإذا كان القيد واجبا نفسيا فكيف يكون
مرة اخرى واجبا بالوجوب الغيري؟!».
وكأن مراده بشيخه
المذكور بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لتعارف التعبير عنه بمثل
العبارة المذكورة
، ولأنه صرح بأن الشروط الشرعية مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ، بلحاظ دخول التقييد
بها في المأمور به ، وخارجية بالمعنى الأعم بلحاظ خروج ذواتها عن المأمور به ،
وجعل الداخلية بالمعنى الأخص الأجزاء ، لدخولها في المأمور به بذواتها وبالتقييد
بها ، والخارجية بالمعنى الأخص المقدمات التكوينية ـ التي عبروا عنها بالمقدمات
العقلية ـ لعدم دخولها في المأمور به ، لا بذواتها ولا بالتقييد بها. لكنه قدّس
سرّه لم يشر ـ على ما في تقرير درسه لبعض مشايخنا ـ إلى احتمال خروج الشروط
الشرعية عن محل النزاع. بل ظاهره اختصاص الكلام في ذلك بالمقدمة الداخلية بالمعنى
الأخص ـ التي هي الجزء ـ بل صرح بذلك وبدخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل
الكلام على ما في تقرير درسه للكاظمي.
وكيف كان ، فيشكل
ما ذكر : بأن التقييد ليس من أفعال المكلف ، ليدخل في المأمور به ، بل هو كالإطلاق
من شئون جعل التكليف الذي هو فعل المولى ، وليس مفاده إلا اختصاص المأمور به
بالحصة المقارنة للقيد ، وذلك لا يقتضي دخول شيء في المأمور به غير الأجزاء ، وليس
القيد إلا ملازما للمأمور به ، غاية الأمر ظهور التقييد في كون القيد دخيلا في
ترتب الغرض على المأمور به ، من دون أن يكون بنفسه وافيا بالغرض في جملة الأجزاء ،
وهو لا يقتضي دخول التقييد ولا القيد في المأمور به.
اللهم إلا أن يراد
بالتقييد حفظ القيد حال الإتيان بالمأمور به الذي هو فعل المكلف ، والذي هو عبارة
اخرى عن نفس وجود القيد ومنتزع من القيام به وفعله ، كالتستر حال الصلاة.
لكن البناء على
دخوله في المأمور به مستلزم لكونه مقدمة داخلية بالمعنى الأخص ، ودخل الشرط بذاته
في المأمور به ، وانقلاب الشروط أجزاء. ولا يظن من أحد البناء على ذلك ، لوضوح
الفرق بينهما ثبوتا ، بأن الجزء ما
يكون مقوما
للمأمور به ويستند الغرض إليه ، والشرط ما يخرج عن المأمور به وإن كان دخيلا في
ترتب الغرض عليه ، بحيث لا يكون المركب وافيا بالغرض إلا في ظرف واجديته له.
وإثباتا باختلاف
ألسنة أدلة الجعل ، ولازم ذلك عدم دخول القيد في المأمور به ، لعدم وجوب حفظه
لنفسه ، بل لأجل تحقيق الحصة المقارنة له والتي هي موضوع الأمر النفسي ، وبذلك
يكون موضوعا للداعوية الغيرية ، ويدخل في محل الكلام.
بقي شيء ، وهو أن
المقدمة التكوينية لا بد أن تكون متصلة بذيها ، بحيث لا يكون بينهما إلا التقدم
الرتبي ، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ،
لامتناع تأثير المعدوم قبل وجوده وبعده.
وأما تقدم بعض
أجزاء العلة في بعض الموارد ، وهو ما يسمى بالمعد ، فليس لكون المؤثر بلا واسطة هو
الوجود المتقدم ، بل إما لكون المؤثر هو الوجود المذكور بتوسط أثره الباقي بعد
ارتفاعه ، أو أثر أثره ، الذي يستند إليه المعلول مباشرة ، كما في تأثير الحديد
المحمي في النار في كيّ الجسم بعد إخمادها ووضعه على الجسم ، فإن المؤثر للكي ليس هو
النار السابقة عليه ، بل أثرها ، وهو حرارة الحديد الباقية بعد إخماد النار ، وإما
لكون المؤثر هو الوجود الاستمراري المتصل بالمعلول ، كما في تأثير النار في إحراق
الثوب المبتل الملقي فيها بعد جفافه ، فان الإحراق لا يستند للنار بحدوثها السابق
على الجفاف بل ليس أثرها إلا تجفيف الثوب ، وإنما يستند الإحراق للنار بوجودها
الاستمراري بعد الجفاف ومرجع الأمرين إلى اتصال العلة بالمعلول ، وإن تقدمت عليه
صورة.
ومنه يظهر امتناع
تأخرها عنه حتى صورة ، إذ قبل وجودها لا أثر لها ولا استمرار.
لكن يظهر من بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ على طول في الكلام المنقول عنه في تقرير درسه ـ اختصاص
امتناع التقدم والتأخر عن المعلول بالمقتضي الذي يستند إليه المعلول ويترشح منه ،
دون الشرط ، بتقريب : أن الأثر لا يستند للشرط ، بل ليس المؤثر إلا الحصة الخاصة
من ماهية المقتضي ، وهي المضافة للشرط ، وليس دخل الشرط إلا بلحاظ كونه طرفا
للإضافة مع الحصة المؤثر من المقتضي ، وكما يمكن كون الشيء طرفا للإضافة مع
المقارن يمكن كونه طرفا للإضافة مع المتقدم والمتأخر.
ويشكل : بأن
اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي المضافة للشرط إن كان من جهة دخل الشرط
في فعلية تأثير المقتضي ، بحيث يقتضي تميز الحصة المضافة له عن غيرها بميزة
تكوينية خارجية تستلزم فعلية الأثر ، كان اللازم مقارنة الشرط ـ كالمقتضي ـ للتأثير
والأثر ، إذ حيث كانت تلك الخصوصية والميزة مستندة للشرط استحال انفكاكها عنه. إلا
أن تكون مستندة إليه بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه ، فيمكن تقدم الشرط حينئذ
ويكون معدا ، وإن امتنع كونه متأخرا ، كما تقدم.
وإن كان اختصاص
التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي لمحض الإضافة للشرط من دون أن يستند للشرط
بوجوده جهة دخيلة في فعلية التأثير ، فالإضافة المذكورة أمر انتزاعي صرف لا يعقل
توقف التأثير عليه في العلل التكوينية ذات الآثار الحقيقية الخارجية التي هي محل
الكلام ، لعدم السنخية ، كما لعله ظاهر.
ومنه يظهر ضعف
دعوى : أن المتأخر يكون شرطا بوصف تأخره ، لا بذاته ، وعنوان التأخر يصدق قبل وجود
المتأخر بذاته ، فالشرط في الحقيقة مقارن لا متأخر.
إذ فيها : ـ مضافا
إلى خروجها عن مفروض الكلام من تأخر الشرط ، وإلى
عدم وضوح صدق
عنوان التأخر قبل وجود المتأخر ـ أن التأخر بنفسه عنوان انتزاعي متقوم بالإضافة
التي هي أمر اعتباري محض ، لا يستند إليه الأثر التكويني ، ولا يكون جزءاً من علته
، وليس الأثر إلا للذات المفروض تأخرها وعدم اتصالها بالمعلول ، فلا يعقل تأثيرها
فيه ، لما تقدم.
وأضعف من ذلك ما
قد يدعى : من أنه لا مانع عندهم من كون العدم حافظا لقابلية المحل ، بشهادة أن عدم
المانع من أجزاء العلة ، كالشرط ، فإذا جاز فيه جاز في الشرط.
إذ فيه : أن دخل
العدم في المعلول وإن كان ممكنا ، إلا أنه مختص بعدم المانع الذي يكون بوجوده
دخيلا في عدم المعلول ، ولا يكون وجوده ـ المقارن أو المتقدم أو المتأخر ـ دخيلا
في وجود المعلول ، ولا يجري في عدم الشرط المفروض كون وجوده دخيلا في وجود
المعلول.
لوضوح أنه مع كون الشيء
شرطا ووجوده دخيلا في وجود المعلول فتحقق المعلول قبل وجوده أو بعد ارتفاعه. إن
ابتنى على استناد المعلول لوجوده المتقدم أو المتأخر ، لزم تأثير الشيء حال عدمه
الذي عرفت امتناعه.
وإن ابتنى على
استناد المعلول للعدم المقارن ـ كما يناسبه قياسه بعدم المانع ـ فهو ـ مع استلزامه
عدم الحاجة للوجود المتقدم أو المتأخر ، وخروجه عن محل الكلام من فرض الشرط
المتأخر أو المتقدم ـ ينافي فرض كون الشيء شرطا ، لرجوعه إلى كون الشرط هو الجامع
بين الوجود والعدم ، وهو محال.
فالإنصاف : أن
بداهة امتناع الشرط المتقدم ـ في غير المعد بالتوجيه المتقدم ـ والمتأخر تغني عن
إطالة الكلام فيه وفي الاستدلال عليه لو لا ظهور القول بإمكانه أو احتماله ممن لا
ينبغي تجاهل كلامه.
هذا كله في العلل
التكوينية ، وأما العلل والمقدمات الشرعية فحيث سبق أن منشأ عليتها ومقدمتيها
أخذها قيدا في المأمور به شرعا فمن الظاهر أن
التقييد ـ كسائر
الإضافات الاعتبارية ـ كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن يكون بالمتقدم والمتأخر.
نعم ، لما كان
الأمر تابعا للفرض سعة وضيقا فتقييد المأمور به لا بد أن يكون لاختصاص الغرض
بالمقيد.
وحينئذ قد يشكل :
بأن المتأخر والمتقدم كيف يكون دخيلا في فعلية ترتب الغرض على المأمور به مع عدم
وجوده حينه ، نظير ما تقدم في العلل التكوينية ، لأن ترتب الغرض على المأمور به
ليس تابعا للجعل الشرعي ، بل لخصوصيات تكوينية.
ولا بد من توجيهه
بأحد وجهين ..
أولهما
: أن القيد ملازم
للحصة المؤثرة للغرض ، فيكون كاشفا محضا عنها من دون أن يكون دخيلا في فعلية
الغرض.
ثانيهما
: أن الشرط المتقدم
يبتني على ما تقدم في المعدّ في التكوينيات ، والمتأخر يبتني على كون المأمور به
غير مؤثر لفعلية الغرض الأقصى بل لقابلية تحققه ، وفعليته تابعة لوجود الشرط ،
نظير ما تقدم في المعدّ ، فإن ذلك ممكن عقلا وواقع عرفا ، نظير إكرام الضيف
بالطعام القليل ، الذي لا يترتب عليه الغرض ـ وهو حسن الضيافة ـ إلا بضميمة
الاعتذار بعده بأنه تمام الميسور وإن لم يناسب حق الضيف ومقامه.
هذا ، وقد ذكر بعض
الأعاظم قدّس سرّه في توجيه الشرط المتأخر في المأمور به أن الشرط لا يزيد في
المعنى على الجزء الدخيل في المأمور به ، فكما لا إشكال في إمكان تأخر أجزاء
المأمور به بعضها عن بعض كذلك لا ينبغي الإشكال في جواز تأخر شرط المأمور به عنه ،
لكون الشرط بنفسه موردا للتكليف كالجزء ، لما سبق منه من دخول التقييد بالشرط في
المأمور به ، وحيث كان التقييد منتزعا من القيد ، وكان التكليف بالأمر الانتزاعي
راجعا إلى التكليف بمنشإ انتزاعه ، لزم كون الشرط بنفسه داخلا في المأمور به ،
كالجزء ، فيجري فيه ما يجري فيه من
جواز تأخره. لكن
سبق أنه لا مجال للبناء على رجوع الشرط للجزء. بل الأمر بالعكس ، لأن أخذ الجزء في
المركب راجع إلى أمرين ..
أحدهما
: وجوب الجزء في
ضمن الكل.
ثانيهما
: تقييد بعض
الأجزاء ببعض ـ الذي هو مقتضى الارتباطية ـ بحيث لا يترتب الغرض من كل منهما ولا
يدخل في حيز المأمور به إلا بوجود الباقي وانضمامه إليه. والتقييد المذكور كالتقييد
بالشرط يرجع إلى اختصاص مورد الغرض والأمر بالحصة الخاصة من الماهية.
وحينئذ يشكل تأخر
الأجزاء بعضها عن بعض بما سبق في الاشكال على الشرط المتأخر ، وينحصر الجواب عنه
بما سبق. ولولاه لامتنع أخذ الأجزاء التدريجية في المركب ، ولزم كون التكليف به
بنحو الانحلال ، دون الارتباطية ـ التي إليها يرجع التقييد ـ واختصت الارتباطية في
المركب بما إذا كانت أجزاؤه دفعية. ووضوح بطلانه كاشف عن تمامية ما ذكرنا.
تتميم
كما وقع الكلام في
الشرط المتقدم والمتأخر للمأمور به كذلك وقع في الشرط المتقدم والمتأخر للحكم
الشرعي التكليفي والوضعي.
والظاهر إمكانه ،
لنظير ما سبق في وجه إمكانه في المأمور به ، لوضوح تبعية شرطية شيء للحكم لأخذه
فيه قيدا ، وقد سبق أن التقييد كما يمكن بالمقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر.
غاية الأمر أن أخذ
الشيء قيدا في الحكم إنما يحسن مع دخله في فعلية تعلق الغرض الداعي لجعله ، بحيث
تتوقف فعليته على ثبوت الشرط في ظرفه ، بخلاف شرط المأمور به ، فإن أخذه موقوف على
دخله في تحقق الغرض من المأمور به وترتبه في الخارج ، على ما تقدم توضيحه في مبحث
الواجب المشروط.
لكنه ليس فارقا في
محل الكلام ، إذ كما يمكن توقف تعلق الغرض على أمر مقارن للحكم ـ كدخل المرض في
حسن استعمال الدواء ـ كذلك يمكن توقفه على أمر متقدم أو متأخر عنه ، كما في توقف
حسن إكرام زيد ـ بملاك الشكر ـ على سبق حسن الصنيع منه ، وتوقف حسن إعداد الطعام
في يوم على مجيء الضيف في غده ، ولازم ذلك جعل الحكم منوطا بالشرط على نحو دخله في
الغرض ، لتبعية الحكم للغرض سعة وضيقا.
لكن بعض الأعاظم
قدّس سرّه منع من كون شرط الحكم متأخرا ، بتقريب : أن شرطية شيء للحكم وإن لم ترجع
إلى عليته له حقيقة ، لوضوح كون تمام علة الحكم جعل الحاكم له ، إلا أنها راجعة
إلى أخذه فيه مفروض الوجود ، كما هو مفاد القضية الشرطية والحملية الحقيقية
الراجعة إليها ، ومع أخذه فيه مفروض الوجود تمتنع فعلية الحكم قبل وجوده ، لأنه
خلف.
ويشكل : بأنه لا
يراد بأخذ الشرط مفروض الوجود تعليقه على وجوده فعلا ، بحيث لا يكون الحكم فعليا
حتى يوجد ، بل تعليقه على وجوده في ظرفه المعتبر في الحكم مقارنا أو سابقا أو لا
حقا ، فلا بد من فرض وجوده في الظرف المذكور ، وهو الظرف الذي تصدق بوجوده فيه
النسبة التي تتضمنها جملة الشرط في الشرطية او تستفاد من عنوان الموضوع في القضية
الحقيقية الحملية ، فإذا كان مطابق النسبة هو وجود الشرط فعلا لزم مقارنة الشرط
للحكم ، كقولنا : إن كنت مسافرا فقصر ، أو : المسافر يقصر ، وإن كان مطابقها وجود
الشرط سابقا أو لا حقا لزم تقدم الشرط أو تأخره ، كما لو قيل : إن سافرت أول الشهر
، أو : إن تسافر آخر الشهر ، وجب عليك في وسطه الصدقة ، أو قيل : المسافر أو الشهر
أو آخره يجب عليه في وسطه الصدقة.
وحيث كان الكل
ممكنا ثبوتا تبعا لنحو دخل الشرط في الغرض ـ كما سبق ـ فلا مجال للمنع من بعض ذلك
لو ساعدت عليه الأدلة إثباتا.
ودعوى : أن مرجع
ذلك إلى كون الشرط مقارنا مطلقا ، لأن الشرط على
ذلك هو النسبة
الماخوذة في الحكم المفروض لزوم مقارنة صدقها له وإن كان ظرف مقتضاها متقدما أو
متأخرا.
مدفوعة : بأن
النسبة معنى حرفي انتزاعي لا تصلح لأن تكون دخيلة في الغرض ولا موضوعا للحكم
بنفسها ، بل بلحاظ مطابقها الخارجي الحقيقي الذي يكون هو الدخيل في الغرض وفي
موضوع الحكم ، وهو القابل للوجود والعدم ، دون النسبة ، فانها إنما تتصف بالصدق
والكذب دون الوجود والعدم.
ولو بني على كون
الشرط مقارنا بلحاظ مقارنة صدق النسبة المأخوذة في الحكم وإن كان مطابقها متقدما
أو متأخرا لم يبق في المقام شرط متقدم أو متأخر ليقع الكلام في إمكانه وامتناعه ،
وانقلب النزاع لفظيا.
ومما ذكرنا يظهر
اندفاع دعوى : أن الشروط الشرعية للأحكام دخيلة في موضوعاتها ، ويستحيل انفكاك
الحكم عن موضوعه بحيث يتقدم عليه.
إذ فيها : أن
الممتنع هو انفكاك الحكم عن تحقق موضوعه في ظرفه المعتبر في الحكم والذي يستفاد من
النسبة التي يتضمنها دليله ، لا عن تحقق موضوعه في الخارج حينه.
ولو لا ما ذكرنا
لأشكل الشرط المتقدم أيضا ، لوضوح أن استحالة انفكاك الحكم عن موضوعه تقتضي
تقارنهما. بل يجري ذلك على ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه أيضا ، لوضوح أن
مقتضى أخذ الشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم وجوده حينها ، لا قبلها مع انعدامه
حينها.
ومن هنا لا مخرج
عما ذكرنا من إمكان الشرط المتقدم والمتأخر في الأحكام كما يمكن في المأمور به.
وبذلك ينتهي
الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة ، ويقع الكلام في المباحث المقصودة بالأصل ، وهي
ثلاثة ..
المبحث الأول
في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته
قد اختلفت كلماتهم
في تحرير مورد النزاع في المقام ، فحرر في كلام جماعة من المتأخرين بالوجه الذي
ذكرناه ، وهو البحث في الملازمة بين الوجوبين ، وبذلك لا تكون المسألة فرعية فقهية
، لعدم البحث فيها عن نفس الحكم الشرعي ، بل اصولية لوقوعها في طريق استنباط الحكم
المذكور في الموارد المتفرقة التي يفرض فيها وجوب شيء ما له مقدمة.
وأما القدماء ،
فقد حررها جملة منهم بعنوان البحث في وجوب مقدمة الواجب. وذلك قد يوهم كونها فرعية
، للبحث فيها عن نفس الحكم الشرعي الفرعي ، وهو وجوب المقدمة. وقد منع جماعة من
ذلك ، لوجوه لا تخلو عن إشكال أو كلام لا يسع المقام استقصاءه.
ولعل الأولى في
تقريب عدم كونها فرعية أن يقال : وحدة المسألة الفرعية موقوفة على وحدة الحكم
الفرعي الذي يبحث عنه فيها ، ووحدة الحكم تابعة لوحدة الموضوع بعنوانه الذي اخذ
فيه عند جعل الحكم ، ومن الظاهر أنه لا حكم للشارع بوجوب المقدمة بما هي مقدمة ،
لأن العنوان المذكورة تعليلي لا تقييدي ، لعدم تضمن الأدلة الشرعية له ، وإنما
استفيد الحكم ـ على تقدير ثبوت وجوب المقدمة ـ من حكم العقل ، والعقل لا يرى لهذا
العنوان دخلا في الحكم بنفسه ، بل تمام الموضوع ذات المقدمة على اختلاف مواردها ،
لأن الواجب يتوقف عليها بذواتها وخصوصياتها ، لا بالعنوان المذكور ، فموضوع الحكم
الشرعي هو مصاديق المقدمة المختلفة بخصوصياتها ، ولازم ذلك تعدد الأحكام الشرعية
بعددها.
فهذه المسألة تشير
إلى تلك الأحكام ، لا إلى حكم واحد ، فلا تكون مسألة فرعية واحدة ، بل مشيرة إلى
مسائل فرعية كثيرة.
وحيث كان البحث
هنا عن الجهة الجامعة بين المسائل ، ـ وهي الملازمة ـ خرجت عن كونها مسألة فرعية ،
لعدم البحث فيها عن الحكم الشرعي ، بل عن أمر عقلي. وتعين كونها اصولية لو كان
المعيار في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي مطلقا
وإن لم يكن للحكم المذكور أثر عملي ، أما إذا اختصت بما إذا كان للحكم المستنبط
بها أثر عملي خرجت عن كونها اصولية أيضا ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا ، ويأتي
توضيحه إن شاء الله تعالى من أن الأمر الغيري لا يترتب عليه أثر في مقام العمل ،
بل الأثر الثابت معه ثابت بدونه ـ وحينئذ تكون المسألة علمية محضة. فلاحظ.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنهم اختلفوا في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها على أقوال ، من الإثبات
مطلقا ، والنفي مطلقا ، والتفصيل.
واللازم النظر في
الوجوه التي استدل بها القائلون بثبوت الملازمة ، ثم النظر في حجة المفصلين.
وأقدم الوجوه فيما
يظهر هو ما نسب لأبي الحسين البصري ومن تبعه من أنها لو لم تجب لجاز تركها ، فإن
بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه
واجبا.
وقد أطالوا في
بيان هذا الوجه ومناقشته ، إلا أن ظهور وهنه يغني عن ذلك ، لوضوح أن عدم وجوب
المقدمة شرعا لا ينافي وجوبها عقلا ـ كما يأتي ـ فضلا عن أن يستلزم امتناعها ،
ليلزم سقوط التكليف بذيها أو كون التكليف به تكليفا بما لا يطاق.
ومن هنا يلزم
النظر فيه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد سطر في الفصول والتقريرات وجوها
كثيرة لعل أهمها وجهان ، لأن باقي الوجوه بين ما
هو ظاهر الضعف ،
وما هو راجع للوجهين المذكورين أو يظهر الحال فيه من الكلام فيهما ..
أحدهما
: ما عن المحقق
السبزواري من أنها لو لم تجب لم يستحق العقاب مع ترك المقدمات المفوتة ، وهي التي
يكون التفريط فيها قبل وقت الواجب مستلزما لتعذر الواجب في وقته ، كقطع المسافة
للحج ، لأن التفريط حينئذ ليس إلا بالمقدمة المفروض عدم وجوبها ، دون نفس الواجب ،
لفرض عدم حضور وقته ، ومع عدم استحقاق العقاب بتركها لا مجال للعقاب على ترك
الواجب في وقته ، لفرض تعذره.
لكنه إن بني على
داعوية التكليف عقلا قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه ، بامتثاله كفت داعويته في
العقاب عليه مع ترك المقدمة المؤدي في الفرض لتركه وإن بني على عدم داعوية التكليف
قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه في وقته فلا مجال للبناء على داعوية وجوب المقدمة بنحو
يستحق العقاب بتركها ، لأن داعويته في طول داعوية التكليف بذي المقدمة.
ومن هنا لا مجال
لابتناء استحقاق العقاب في الفرض على وجوب المقدمة غيريا تبعا لوجوب ذيها الذي هو
محل الكلام في المقام ، بنحو يستدل به عليه.
ومن ثمّ يأتي في
المبحث الثالث إن شاء الله تعالى توجيه العقاب في الفرض بأن التكليف يدعو قبل وقته
لحفظ نفسه في وقته بلا حاجة للبناء على وجوب المقدمة. ولو لا ذلك تعين البناء على
وجوب المقدمة نفسيا. وتمام الكلام هناك.
ثانيهما
: ما ذكره جماعة من
المتأخرين كصاحب الفصول وشيخنا الأعظم وجماعة ممن تأخر عنهما وحكي عن المحقق
السبزواري أيضا ما قد يرجع إليه ، وتقريبه : ـ بعد النظر في كلمات جملة منهم على
اختلاف يسير بينها ـ
أن الوجدان السليم
يقضي بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه ، إذ ليس المدعى في المقام هو
الطلب الفعلي للمقدمة على نحو طلب ذيها ، لوضوح أن الطالب قد يغافل عن المقدمات ،
بل يعتقد عدم توقف على بعضها ، بل هو طلبها تبعا إجمالا بمقتضى الارتكازيات
الكامنة في النفس ، على نحو لو توجه إليها تفصيلا لوجه الطلب بها كذلك ، وذلك نحو
من أنحاء الطلب الذي يترتب عليه آثاره ، بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب
المقدمة في التكاليف الشرعية ، فاستحالة الغافلة في حق الشارع الأقدس تستلزم الطلب
الفعلي التفصيلي منه بعد ثبوت هذا النحو من الملازمة بين التكليف بالمقدمة
والتكليف بذيها.
أقول
: الظاهر رجوع دعوى
الوجدان المذكورة إلى ما تقدم في الأمر الأول من التمهيد لمباحث المقدمة من أن ،
حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته
، فإن ذلك لا يختص بالمكلف ، بل يجري في المولى أيضا ، ففرض حصول الإرادة والداعي
له لفعل المكلف بنحو يطلبه منه ويكلفه به لا بد أن يستلزم حدوث ذلك بالإضافة لمقدمته.
لكن ذلك وحده لا
يكفي في إثبات تعلق الطلب الغيري بالمقدمة والتكليف بها ، لأمرين ..
أولهما
: أنه لما كان
الغرض من الطلب والتكليف إحداث الداعي لفعل الشيء ـ وإن لم يندفع عنه المكلف ـ فإن
كان التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي المذكور نحوه لزم ـ بمقتضى
الملازمة المتقدمة ـ حدوث الداعي المسانخ له نحو المقدمة نفسها أيضا بلا حاجة إلى
تعلق الطلب والتكليف المولوي الغيري بها ، فيكون طلبها والتكليف بها لغوا لا فائدة
فيه ، وإن لم يكن التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي نحوه لم يصلح التكليف
بالمقدمة لإحداث الداعي نحوها ، وكذا الحال في التحرك عن الداعي
المسبب عن التكليف
النفسي والتحرك عن الداعي المسبب عن التكليف بالمقدمة ، لما هو المعلوم من أن
داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي وبملاك امتثاله ، على غرار ما سبق
من تفرع الداعوية نحو المقدمة على الداعوية نحو ذيها ، فلا يصلح الأمر الغيري حتى
لتأكيد داعوية المقدمة المسببة عن الأمر النفسي ، لما سبق عند الكلام في المقدمة
الداخلية من امتناع التأكيد في الداعويتين الطوليتين اللتين تكون إحداهما فانية في
الاخرى.
هذا ، وقد أجاب
بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّه عن ذلك : بأن الإرادة الغيرية إرادة
قهرية ترشحية معلولة للإرادة النفسية ، ومثلها لا يحتاج إلى ملاحظة الغرض والثمرة.
ولا يخفى أنه تكرر
في كلماتهم خروج الإرادة مطلقا عن الاختيار ، وأنها لازمة لإدراك ترتب الغرض
الفعلي على المراد من دون مزاحم ، وليس الفرق بين الإرادة النفسية والغيرية علية
الاولى للثانية ، بل أن الاولى ناشئة عن غرض استقلالي قائم بالمراد ، والثانية
ناشئة عن غرض غير مستقل ، بل فان في الغرض الأول وفي طوله وفي طريق تحصيله ،
وملازم له.
وذلك وحده لا يكفي
في كون الإرادة الغيرية منشأ للتكليف بمتعلقها بعد كون المصحح للتكليف والغرض منه
عقلا إحداث الداعي نحو المكلف به مع ما ذكرناه من كفاية التكليف بذي المقدمة في
إحداث الداعي له وللمقدمة في طوله بلا حاجة لتكليف آخر بها.
فالمقام يشبه تعلق
إرادة المولى بإطاعة أوامره المتفرعة على إرادته لمتعلقاتها وفي الملازمة لها وفي
طولها ، حيث لا إشكال عندهم في عدم صلوحها للتكليف بالإطاعة زائدا على التكليف
بمتعلق الأمر بعنوانه بعد أن لم تكن ناشئة عن غرض آخر مستقل عن الغرض من المأمور
به ، لتصلح للداعوية نحوه ولو بتأكيد داعوية أمره.
اللهم إلا أن يدعى
أن لزوم كون الغرض من التكليف والمصحح له هو إحداث الداعي للمكلف به مختص بالتكليف
النفسي الناشئ عن إرادة استقلالية مسببة عن ملاك استقلالي ، أما التكليف الغيري
فلا يعتبر فيه ذلك ، بل يكفي فيه ثبوت الإرادة الغيرية بالتبعية بالوجه المتقدم
ولو لم تترتب عليه ثمرة.
لكن لا نتعقل
اعتبار العقلاء للتكليف وانتزاعهم له مع عدم الثمرة. إلا أن يرجع النزاع لفظيا ،
لعدم الإشكال في ثبوت الإرادة الغيرية في فرض ثبوت الإرادة النفسية ، وفي عدم ترتب
الثمرة العملية لها ، وإنما النزاع في الاكتفاء بذلك في إطلاق التكليف. وليس هو
بمهم.
ثانيهما
: أن ذلك يبتني على
ما تكرر في كلام جملة منهم من انتزاع التكليف من تعلق إرادة المولى بفعل المكلف
على نحو إرادته لفعل نفسه ، من دون فرق بينهما إلا في متعلق الإرادة. وعليه يبتني
ما قيل من أن الإرادة التشريعية ـ التي هي منشأ انتزاع التكليف ـ من سنخ الإرادة
التكوينية. إذ عليه لا يتحقق التكليف النفسي إلا بعد تعلق غرض المولى وإرادته بذي
المقدمة المستلزم ـ بمقتضى الملازمة المتقدمة ـ لتعلق غرضه وإرادته للمقدمة تبعا.
لكن سبق في مقدمة
الاصول عند الكلام في حقيقة الحكم التكليفي المنع من ذلك ، وأن الحكم التكليفي
منتزع من الخطاب بداعي جعل السبيل مبنيا على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعة المكلف
للحاكم من خوف أو رجاء أو استحقاق أو غيرها.
وحينئذ لا مجال
لاحتمال وجوب المقدمة ، لوضوح أن الخطاب بذي المقدمة لا يبتني إلا على جعل السبيل
بالإضافة إليه ، لكونه بنفسه موضوعا للملاك والغرض الفعلي ، وهو الذي يكون مقصودا
بالاطاعة والمعصية وما يستتبعهما من ثواب وعقاب وغيرهما ، ولا ملازمة بين جعل
السبيل بالإضافة إليه وجعله بالإضافة للمقدمة ، لأن الملازمة المتقدمة إنما هي
بالإضافة إلى
الإرادة والداعوية
، لا بالإضافة إلى جعل السبيل ، بل هو تابع لموضوع الغرض. كما أنه يلغو بالإضافة
للمقدمة بعد فرض عدم ترتب آثاره بالإضافة إليها.
نعم ، لما كان
التكليف بذي المقدمة مستلزما لحدوث الداعي إليه في حق المكلف فهو مستلزم لحدوثه
بالإضافة إلى المقدمة في حقه أيضا تبعا للملازمة المتقدمة. فالمقدمة تشارك الواجب
في الداعوية المسببة عن التكليف ، لا في الداعوية السابقة عليه رتبة ، وهي
الداعوية لجعل السبيل ، بل هي مختصة بالواجب الذي هو موضوع الملاك والغرض.
هذا ، وأما
الأوامر الشرعية ببعض المقدمات فهي مسوقة إما لبيان شرطيتها ومقدميتها للواجب أو
لبيان مطلق اللزوم والثبوت ولو بلحاظ الداعي العقلي ، أو بلحاظ الكيفية الخارجية
لإيقاع الواجب أو غير ذلك مما يناسبه لسان تلك الأدلة ، ولا مجال لحمله على الوجوب
الشرعي بعد ما ذكرنا.
بقي الكلام في
التفصيلات المذكورة في المقام ، وهي كثيرة قد يتضح بعضها مما يأتي في المبحثين
الآتيين ، وبعضها ظاهر الضعف بملاحظة ما تقدم ، فالكلام فيه خال عن الفائدة.
ولعل الأولى
الاقتصار هنا على التفصيل بين السبب وغيره ، لعدم خلوه عن الفائدة ولو تبعا.
وكأن مرادهم
بالسبب هو السبب التوليدي الذي لا ينفك عنه الواجب ، ويكون نتيجة قهرية له من دون
توسط اختيار الفاعل بينهما ، كإلقاء الثوب في النار الموجب لاحتراقه وأفعال الوضوء
الموجبة للطهارة.
وقد استدل على
وجوبه بأنه لا بد من صرف التكليف بالمسبب إليه ، لأنه هو فعل المكلف المقدور له ،
دون المسبب ، بل هو نتيجه فعله ، ممتنع عليه في فرض عدم تحقق السبب وواجب في فرض
تحققه ، من دون أن يكون فعلا له ولا مقدورا له بنفسه ، ليصح تكليفه به.
لكنه ـ كما ترى ـ لا
يصلح لأن يكون دليلا على وجوب السبب غيريا ـ كما هو محل الكلام ـ بل على اختصاص
الوجوب النفسي بالسبب دون المسبب.
وحينئذ يشكل :
بأنه يكفي في نسبة المسبب للمكلف وقدرته عليه المصححين لتكليفه به قدرته على فعل
سببه المذكور الذي لا ينفك عنه ، فلا وجه لصرف التكليف للسبب في فرض ظهور الدليل
في التكليف بالمسبب.
وتظهر الثمرة
بينهما في فرض إجمال السبب وتردده بين الأقل والأكثر ، فإن كان المكلف به هو السبب
كان المورد من صغريات دوران المكلف به بين الأقل والأكثر الذي هو مجرى البراءة ،
وإن كان المكلف به هو المسبب كان المورد من صغريات الشك في الامتثال الذي هو مجرى
قاعدة الاشتغال ، وهو المتعين بعد ما عرفت.
بل لو فرض انطباق
العنوان المكلف به على ما هو فعل المكلف بالمباشرة بحيث يكون متحدا معه عرفا ، لا
مسببا عنه ، إلا أنه كان منتزعا من جهة زائدة عليه مسببة عنه ، فالمرجع قاعدة
الاشتغال أيضا ، كما لو وجب استعمال الدواء ، وتردد الفعل الذي ينطبق عليه العنوان
المذكور بين الأقل والأكثر ، لأن التكليف ينصب عرفا على منشأ انتزاع العنوان ،
كترتب الأثر المطلوب الذي بلحاظه يصدق على الشيء أنه دواء ، لا على فعل المكلف
بنفسه ، وإن كان عنوان المكلف به منطبقا عليه ، كما تقدم التعرض لذلك في تقريب
الجامع الصحيحي من طريق الأثر. فراجع.
ولنقتصر على ما
تقدم في ذكر الأقوال والاحتجاج لها ، لكفايته في المهم من محل الكلام ومورد الخلاف
في المقام.
تنبيهان
التنبيه
الأول : لا إشكال في
استحقاق العقاب بمخالفة تكليف المولى الأعظم المستحق للطاعة وعصيانه ، وكذا في
استحقاق الثواب بموافقته وإطاعته ، لا بمعنى ثبوت حق للمطيع على المولى ، نظير
استحقاق الأجير أجرته ، بل لعدم وضوح ذلك بعد كون الطاعة حقا للمولى ، بل بمعنى
صيرورته أهلا للثواب بملاك الشكر والجزاء ، لا بملاك التفضل الابتدائي.
والمتيقن من ذلك
هو موافقة ومخالفة التكليف النفسي بذي المقدمة ، وأما التكليف الغيري بالمقدمة ـ بناء
على ثبوته ـ فيظهر مما نقله في التقريرات عن بعضهم مشاركته للتكليف النفسي في ذلك
، حتى صرح في محكي الإشارات بثبوت عقابين.
وهو مما يصعب
البناء عليه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية التي هي المرجع في مثل ذلك ، فإن
المعيار عندهم في الطاعة والمعصية والتقرب والتمرد التي بها يناط الثواب والعقاب
هو التكاليف النفسية المجعولة بالأصل بلحاظ الملاكات والأغراض الأصلية المقتضية
لها ، دون الغيرية التي هي في طولها في مقام الجعل ومقام الطاعة والعصيان.
وملازمة التكليف
لاستحقاق العقاب والثواب ممنوعة جدا بعد كون منشأ الملازمة حكم العقل.
بل لو فرض ثبوت
الملازمة المذكورة كانت دليلا على عدم ثبوت التكليف الغيري بالمقدمة ، بضميمة ما
ذكرنا من عدم استحقاق الثواب والعقاب عليها بمقتضى المرتكزات العقلائية.
بل قد تكون كثرة
المقدمات موجبة لتخفيف العقاب على مخالفة
التكليف النفسي ،
حيث قد تستلزم صعوبته ، فتكون مخالفته أبعد عن التمرد من مخالفة التكليف الذي تسهل
موافقته لقلة المقدمات المتعلقة به.
نعم ، حيث كان ترك
المقدمة موجبا لمخالفة التكليف النفسي تعين كونه سببا لاستحقاق العقاب عليه.
كما أنه لما كان
المعيار في استحقاق الثواب هو الحسن الفاعلي بالانقياد للمولى والخضوع لأمره وتحمل
المشقة في سبيله أمكن كون فعل المقدمة منشأ لاستحقاق الثواب ، لا لأجله ، بل لكونه
شروعا في امتثال التكليف النفسي الذي يزيد ثوابه كلما زادت المشقة به وطال أمد
الانقياد بمتابعته. وعلى هذا ينزل ما ورد في كثير من النصوص من ثبوت الثواب على
المقدمات في كثير من الطاعات.
لكن لا يفرق في
ذلك بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.
التنبيه
الثاني : حيث ظهر مما سبق
أن الأمر الغيري بالمقدمة لا يكون بنفسه موردا للإطاعة والثواب والمعصية والعقاب
إلا في طول الأمر النفسي بلحاظ كون إطاعته شروعا في إطاعته ومعصيته موصلة لمعصيته
، فمن الظاهر أن ذلك ثابت للمقدمة في نفسها وإن لم نقل بوجوبها غيريا ، كما هو
الحال في الداعوية وكذا الحال في الداعوية العقلية لها تبعا للداعوية لذيها
المسببة عن الأمر الشرعي به.
ومرجع ذلك إلى عدم
الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه ، فلا يهتم الفقيه بإثباته
لتنفعه مسألة الملازمة في الاستنباط ويتحقق بها الغرض من المسألة الاصولية.
لكن ذكر بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه أن الأثر العملي للأمر الغيري هو إمكان التقرب بقصده ،
لأن حقيقة الامتثال هو الاتيان بالمأمور به بداعي الأمر
المولوي المتوجه
إليه من دون نظر لخصوصيات الإرادة.
وفيه : أن التقرب
بالأمر إنما هو يقصد متابعته على نحو داعويته ، وحيث كانت داعوية الأمر الغيري في
طول داعوية الأمر النفسي فلا بد في التقرب به من قصد الأمر النفسي في طول قصده ،
ومع قصد الأمر النفسي يتحقق التقرب بالمقدمة ولو مع عدم قصد الأمر الغيري بها ، بل
ولو مع عدم ثبوته بل سبق منا في مبحث التعبدي والتوصلي أن التقرب إنما هو بقصد
ملاك المحبوبية المستكشف بالأمر ، ومن الظاهر أن الغرض من المقدمة الداعي للأمر
بها هو الغرض من الأمر النفسي ، فلا بد في مقربية المقدمة من قصده ، سواء كانت
مأمورا بها غيريا أم لا.
فلا مخرج عما
ذكرنا من عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه.
نعم ، قد يدعى
ثبوت الأثر له بلحاظ بعض اللوازم الخارجية ، وبلحاظه تكون المسألة ذات ثمرة عملية
لا علمية محضة.
ومن الظاهر أن
الأثر المذكور لا يكون ثمرة للمسألة الاصولية ـ كما هو المهم في المقام ـ إلا إذا
نفع في تشخيص حكم شرعي كلي أو وظيفة عملية كلية في الشبهات الحكمية ، دون ما لو
كان منقحا للحكم الجزئي أو الوظيفة في الشبهات الموضوعية ، فمثل الاكتفاء بالوفاء
بنذر فعل الواجب بفعل المقدمة لا يكون أثرا مهما في المقام ، لوضوح أن الشك في
الوفاء بالنذر المذكور بفعل المقدمة لا يرجع الشبهة الحكمية ، بل الموضوعية التي
يهتم بها الفقيه دون الاصولي ، فلا يهم البحث عن مثل ذلك في المقام ، وإن كثر
التعرض له في كلماتهم. فلتلحظ.
ومن هنا فقد تقرب
الثمرة الاصولية للمسألة بوجهين :
أولهما
: أن المقدمة إذا
كانت محرمة في نفسها فإن قلنا بوجوب مقدمة
الواجب يكون
المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وإن لم نقل به كانت المقدمة محرمة
لا غير.
وفيه : أن كون
المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي وعدمه إنما يكون ثمرة بلحاظ اختلاف
الأثر العملي بينهما ، ولا اختلاف في المقام ، إذ الأثر العملي إما أن يكون هو
إمكان التوصل بالمقدمة ، أو ثبوت الحرمة لها المستلزم لاستحقاق العقاب عليها ، أو
إمكان التقرب بها لو كانت عبادة.
أما الأول فهو
ثابت مطلقا ، سواء قيل بوجوب المقدمة وكون المورد من صغريات مسألة الاجتماع أم لم
نقل بذلك ، لوضوح عدم دخل ذلك في خصوصية المقدمة المقتضية لإمكان التوصل بها.
وأما الثاني فمع
انحصار المقدمة بالمحرمة يقع التزاحم بين التكليف النفسي بذي المقدمة وحرمة
المقدمة ، فمع أهمية حرمتها تبقى هي الفعلية ويسقط التكليف النفسي ، فلا تكون
مقدمة لواجب ، ومع أهمية التكليف النفسي أو تساويهما تسقط حرمة المقدمة ، وعلى
كليهما لا يكون المورد من صغريات مسألة الاجتماع ، من دون فرق بين القول بوجوب
مقدمة الواجب وعدمه.
ومع عدم الانحصار
بالمحرمة لا إشكال في فعلية حرمة المقدمة ، أما بناء على عدم وجوب مقدمة الواجب
فواضح ، وأما بناء على وجوبها فكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي
إنما يستلزم عدم حرمتها بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الأمر ،
ولا مجال للثاني مع كون الأمر تخييريا ، كما في المقام لفرض عدم الانحصار.
وأما الثالث ـ وهو
التقرب بالمقدمة ـ فإن قلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية
والمبعدية تعين امتناع التقرب بالمقدمة في فرض فعلية حرمتها ـ إما لعدم الانحصار
بالمحرمة أو لأهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها في فرض الانحصار ـ وإن قيل
بوجوب مقدمة الواجب وكون المورد من
صغريات مسألة
اجتماع الأمر والنهي.
كما يتعين إمكان
التقرب بها في فرض عدم فعلية حرمتها ـ للانحصار بها مع عدم أهمية حرمتها من
التكليف النفسي بذيها ـ وإن قيل بعدم وجوب مقدمة الواجب ، لكفاية قصد امتثال الأمر
بذيها في التقرب بها من دون مانع.
وإن قلنا بكفاية
تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين إمكان التقرب بها ، حتى بناء
على عدم وجوب مقدمة الواجب ، حيث يكفي في مقربيتها قصد امتثال الأمر بذيها ـ في
ظرف فعليته ، لأهميته من حرمة المقدمة مع الانحصار بالمحرمة أو لعدم الانحصار بها
ـ أو قصد التقرب بموافقة ملاكه ـ في ظرف عدم فعلية الأمر نفسه ، لأهمية حرمة
المقدمة ، مع الانحصار بها ـ وإن لم يقصد الأمر الغيري.
ثانيهما : فساد
العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب فعلي ، حيث يكون تركها واجبا بناء على الملازمة
، فيكون فعلها محرما ـ بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ـ فيمتنع
التقرب بها ، فتفسد ، أما بناء على عدم الملازمة فلا يكون تركها واجبا لتحرم
ويمتنع التقرب بها.
ويشكل : بأنه يكفي
في امتناع التقرب بالعبادة حينئذ مقدمية تركها للواجب الفعلي ، وإن لم يكن تركها
حينئذ واجبا شرعا ، لعدم البناء على الملازمة ، لأن ذلك راجع إلى كونها مانعة من
امتثال الواجب ، وفعل المانع من الامتثال مبعد وإن لم نقل بحرمته شرعا ، لما فيه
من التمرد على المولى ، نظير التجري ، فلا تترتب الثمرة المطلوبة.
وقد تعرض غير واحد
لبعض الجهات الأخر للإشكال على هاتين الثمرتين لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما
ذكرنا.
ومن هنا فالظاهر
عدم الثمرة العملية لمسألة الملازمة. وربما يأتي في المبحثين الآخرين ما ينفع في
المقام. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
المبحث الثاني
في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية
حيث سبق في أول
الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو غيره نحو الشيء يستتبع فعلية الداعي المسانخ له
نحو مقدمته فيقع الكلام هنا في تحديد موضوع الداعوية التبعية المذكورة وأنه مطلق
المقدمة أو خصوص قسم منها.
ومحل كلامهم وإن
كان هو تحديد موضوع الوجوب بناء على الملازمة ، إلا أن الظاهر عدم اختصاص ملاك
الكلام وثمرته بذلك ، بل يجري حتى بناء على عدم الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب
مقدمته بلحاظ الداعوية المذكورة.
لكن حيث كان موضوع
كلامهم الوجوب فالمناسب لنا متابعتهم محافظة على نسق الكلام في عرض الحجج والأقوال
، ومنه يستفاد تحديد موضوع الداعوية ، لأن الظاهر تبعية الوجوب ـ بناء على القول بالملازمة
ـ للداعوية المذكورة سعة وضيقا ، كما يظهر مما سبق في تقريب الاستدلال بالوجدان
على الملازمة.
إذا عرفت هذا ،
فقد ذهب المحقق الخراساني قدّس سرّه إلى وجوب مطلق المقدمة.
بدعوى : أنه ليس
الغرض منها إلا سدّ العدم من جهتها بحصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، ولا
يفرق في ذلك بين أفرادها.
وربما ينسب ذلك
للمشهور ، لعدم التنبيه على التفصيل إلا في العصور المتأخرة ، وإن كان في كفاية
ذلك في نسبة الإطلاق إليهم إشكال ، لعدم توجههم
لهذه النكات وقوة
احتمال جريهم على الارتكازيات التي يدعي القائلون بالتفصيل متابعتهم لها.
وكيف كان ، فالمذكور
في كلماتهم للتفصيل وجهان ..
الأول
: ما يظهر من
التقريرات من أن الواجب من أفراد المقدمة خصوص ما يؤتى به بقصد التوصل لذيها ، وإن
كان الغرض ـ وهو التوصل لذي المقدمة ـ يتحقق بغيره أيضا.
وربما يستفاد من
بعض فقرات كلامه عدم إرادة ذلك ، بل إرادة أن امتثال أمر المقدمة ووقوعها على نحو
العبادية موقوف على قصد التوصل بها لذيها.
وهو وإن كان
مناسبا لاستدلاله في التقريرات ولبعض فقرات كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في طهارته
، إلا أن صدر كلامه وذيله صريح في إرادة ما نسب له من اعتبار قصد التوصل في وقوع
المقدمة على صفة الوجوب ، حيث صرح بعدم ظهور أثر النزاع في غير المقدمات العبادية
بسبب إجزاء الفعل المأتي به لا بقصد التوصل ، لأن الغرض منه التوصل الحاصل مطلقا ،
ثم قال : «نعم يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق ، فلو قلنا
بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك
الغير إذا كانت (كان. ظ) مقدمة لإنقاذ غريق ، بل يقع واجبا سواء ترتب عليه الغير
أو لا ، وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا
لانقاذ الغريق».
وقد استدل على ما
ذكره بالوجدان على عدم تحقق امتثال الأمر الغيري إلا قصد التوصل بالمقدمة لذيها.
ويشكل : بأنه إن
أراد بالامتثال موافقة الأمر بتحقيق المأمور به فتحققه في المقام تابع لسعة
المأمور به وعدم دخل قصد التوصل فيه ، ولا بد من البناء على ذلك ، لأن منشأ تبعية
المقدمة لذيها في الداعوية هو توقفه عليها والغرض من
وجوبها غيريا ـ بناء
على الملازمة ـ هو التوصل بها إليه ، ومعه لا وجه لاختصاصهما بما يقصد به التوصل
بعد عدم دخل القصد المذكور في ترتب ذي المقدمة عليها.
وإن أراد به ما
يساوق العبادية ـ كما يناسبه الوجه الآخر لاستدلاله ـ فلا إشكال في عدم تحققه في
المقام ، لما تقدم من أن التقرب بالأمر الغيري في طول التقرب بالأمر النفسي ، فما
لم يقصد بالمقدمة التوصل لامتثال الأمر النفسي لا تكون مقربة ، إلا أنه لا يستلزم
اختصاص ما يقصد به التوصل بالوجوب ، نظير توقف عبادية الواجب التوصلي على قصد أمره
مع عموم الواجب نفسه لما لم يقصد به الأمر ، تبعا لعموم ملاكه والغرض منه.
هذا ، وتظهر
الثمرة لذلك فيما تقدم منه التعرض له من اختصاص ارتفاع حكم المقدمة الأولي المزاحم
بتكليف ذي المقدمة بما قصد به التوصل وعمومه لغيره ، لوضوح أن فعلية الداعوية
العقلية في المقدمة على مقتضى حكم ذيها ـ وما يستتبعها من التكليف الغيري بناء على
الملازمة ـ لا يجتمع مع حكم المقدمة الأولي المزاحم لها.
وحيث عرفت عدم
اختصاص المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل تعين البناء على ارتفاع حكمها حتى عما
لم يقصد به التوصل.
نعم ، بناء على
اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يلزم بقاء الحرمة في غير الموصلة واقعا ، فإن قصد
بها التوصل كان مخطئا في اعتقاد وجوبها لاعتقاده إيصالها ويكون معذورا ، وإن لم
يقصد بها التوصل كان عاصيا بالإقدام عليها. إلا أن يترتب عليها ذو المقدمة فينكشف
عدم حرمتها واقعا ، وإن كان متجريا في الإقدام عليها ، لاعتقاده حرمتها وعدم
إيصالها.
ولعل ما تقدم منه
مبنى على اشتباه مقتضى اعتبار قصد التوصل بمقتضى اعتبار الإيصال. فلاحظه.
لكن ذكر في
التقريرات ثمرتين اخريين :
إحداهما
: ما إذا كان على
المكلف فائتة فتوضأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا لإحدى غايات الوضوء الآخر ،
فعلى القول باختصاص الوجوب بما قصد به التوصل لا يجوز الدخول بذلك الوضوء في
الفائتة ولا في الحاضرة التي يدخل وقتها ، وعلى القول بعمومه لما لم يقصد به
التوصل يجوز الدخول به فيها.
ويشكل : بأن عدم
جواز الدخول بالوضوء المذكور في الصلاة لا يبتني على اختصاص الوجوب بالمقدمة التي
يقصد بها التوصل ، بل على اختصاص العبادية بها ، لأن الوضوء من العبادات ، فمع عدم
التقرب به يبطل فلا يجوز الدخول به في إحدى غاياته ، وإن قلنا بأن الواجب مطلق
المقدمة.
فما ذكره قدّس
سرّه يبتني على الخلط بين الأمرين كما يبتني عليه كثير من فقرات كلامه.
ثانيتهما
: ما إذا اشتبهت
القبلة في جهات ، وقلنا بوجوب الاحتياط ، فلو صلى إلى إحدى الجهات غير قاصد
الاحتياط بالصلاة لباقيها ، فعلى القول باختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها
التوصل لا تصح الصلاة المذكورة ، بل لا بد في الاحتياط الواجب من إعادة الصلاة
للجهة المذكورة مع الصلاة لبقية الجهات ، وعلى القول بالعموم تصح الصلاة المذكورة
ويكتفي في الاحتياط بضم الصلاة لبقية الجهات إليها.
وهو كما ترى! إذ
ليست الصلاة المذكورة مقدمة وجودية للواجب ، لتكون موضوعا للداعوية التبعية
والوجوب الغيرى ، ويجري فيها ما تقدم من الكلام في اعتبار قصد التوصل وعدمه ، بل
هي مقدمه علمية واجبة عقلا وجوبا ظاهريا ، فهي أجنبية عن محل الكلام.
نعم ، ذكر شيخنا
الأعظم قدّس سرّه في التنبيه الثاني من تنبيهات الشبهة الوجوبية
الموضوعية
المقرونة بالعلم الإجمالي ، أنه لا بد في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت عبادة أن
ينوى بكل منها الإتيان به احتياطا لإحراز الواجب الواقعي ، وذلك موقوف على قصد
الإتيان بجميع الأطراف ، لعدم إحراز الواجب الواقعي إلا بذلك.
وهو ـ لو تمّ ـ يبتني
على خصوصية النية المعتبرة في العبادات ، لا على أخذ قصد التوصل في وقوع المقدمة
على صفة الوجوب الذي هو محل الكلام.
على أنه غير تام ،
على ما ذكرناه في تعقيب كلامه قدّس سرّه. ومن هنا فالظاهر انحصار الثمرة العملية
بما ذكرناه أولا. كما ظهر من جميع ما تقدم شدة اضطراب ما في التقريرات. ومنه
سبحانه نستمد العصمة والسداد.
الثاني
: ما ذكره في
الفصول ـ منبها إلى عدم الوقوف على من تفطن له ـ من أن الواجب خصوص المقدمة
الموصلة ، وهي التي يترتب عليها الواجب ، فإذا حصلت المقدمة كانت مراعاة بترتب
ذيها عليها ، فإن ترتب كشف عن وقوعها على صفة الوجوب ، وإن لم يترتب عليها انكشف
عدم وقوعها على الصفة المذكورة.
وقد أنكر ذلك عليه
أشد الإنكار شيخنا الأعظم ـ على ما في التقريرات ـ والمحقق الخراساني وبعض الأعاظم
قدّس سرّهما. كما وافقه عليه جماعة من الأكابر كالسيد الطباطبائي اليزدي ـ في ما
حكي عنه ـ وبعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما وغيرهم. وهو الحق ،
على ما سيتضح إن شاء الله تعالى.
وينبغي نقل كلام
صاحب الفصول الذي هو الأصل في التفصيل المذكور والنظر في حجته.
قال قدّس سرّه : ـ
في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة مقدمة الواجب ـ «والذي يدل على ذلك أن وجوب
المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر
المذكور.
وأيضا ، لا يأبى
العقل أن يقول الامر الحكيم اريد الحج واريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له
(كذا) دون ما لا يتوصل به إليه وإن كان من شأنه أن يتوصل به إليه ، بل الضرورة
قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك ، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له
مطلقا أو على تقدير عدم التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل
ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه.
وأيضا ، حيث إن
المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصل إليه
وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض
بأن من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم أن يكون
وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله».
ولا يخفى أن مرجع
الوجهين الأولين إلى دعوى الوجدان التي يسهل على الخصم إنكارها ، كما أنكرها في
المقام ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها ، وإن كان على حق فيهما.
فالعمدة الوجه
الأخير المبني على ما هو المعلوم من تبعية الواجب للغرض سعة وضيقا.
وقد أجاب عنه
المحقق الخراساني قدّس سرّه : بأن الغرض من وجوب المقدمة ليس هو التوصل لذي
المقدمة ، لما هو المعلوم من أن الغرض الداعي لإيجاب الشيء هو ما يكون معلولا
بوجوده الخارجي للواجب ومترتبا عليه ، ومن الظاهر أن ذا المقدمة لا يترتب على
المقدمة بنفسها ، بل يتوقف على مقدماته الاخرى ، ومنها اختيار المكلف له.
إلا أن تكون
المقدمة تسبيبية توليدية ، والمفروض عدم اختصاص الوجوب الغيري ـ وكذا الداعوية
التبعية ـ بها ، فلا بد من كون الغرض من وجوب
المقدمة أمرا آخر
مشترك الترتب على جميع المقدمات ، وهو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة.
ويندفع : بأن مراد
صاحب الفصول من كون الغرض الداعي لوجوب المقدمة هو التوصل لذيها ليس هو ترتب ذيها
عليها استقلالا ، بحيث لا ينفك عنها ، ليختص بالمقدمة السببية التوليدية ، بل
فعلية استناد وجود الواجب للمقدمة وترتبه عليها ، ولو ضمنا باشتراك بقية المقدمات
فيه ، وذلك لا يختص بالمقدمة السببية التوليدية ، بل يعم كل مقدمة موصلة.
وأما ما ذكره من
أن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول الواجب فقد استشكل فيه غير واحد : بأن
إمكان الواجب لا يستند لوجود المقدمة ، بل لإمكانها ، فلا يعقل أن يكون هو الغرض
من إيجابها والسبب في الداعوية التبعية لها.
لكن هذا إنما
يتوجه عليه لو كان مراده ان الواجب يمتنع حين عدم المقدمة ، وهو بعيد عن ظاهر
كلامه ، بل ظاهره أن الواجب يمتنع بشرط عدم المقدمة ، لامتناع وجود المعلول بشرط
عدم العلة وإن أمكن حال عدمها ، فالغرض من وجوب المقدمة حصول ما يمتنع الواجب بشرط
عدمه .
وإليه يرجع ما في
التقريرات من أن وجه وجوب المقدمة أن عدمها يوجب عدم المطلوب ، لرجوعه إلى وجوب
عدم المعلول وامتناع وجوده بشرط عدم المقدمة.
نعم ، يشكل ذلك :
بأن امتناع وجود الواجب في فرض عدم شيء
__________________
وبشرطه لا يقتضي
وجوب ذلك الشيء ـ ولا الداعوية إليه ـ على إطلاقه بنحو يسري لجميع أفراده ، كي
يتعين عموم المقدمة الواجبة لغير الموصلة ، بل يقتضي وجوبه ـ كذا الداعوية إليه ـ في
الجملة في مقابل السلب المطلق الذي بشرطه يمتنع الواجب.
ولذا يصدق ذلك
بالإضافة إلى الجامع بين المقدمة وغيرها ، فكما يصح أن يقال : لو لا الغسل لم تمكن
الصلاة ، وعدمه موجب لعدمها ، كذلك يصح أن يقال : لو لا غسل البدن لم تمكن الصلاة
وعدمه موجب لعدمها.
وكما أن الثاني لا
يصح وجوب مطلق غسل البدن ولو لم يتحقق به الغسل ، كذلك لا يجب في الأول أن يصحح
وجوب مطلق الغسل ولو لم يكن موصلا للصلاة ، كما هو المدعى.
هذا ، وقد يدعى أن
الغرض من وجوب المقدمة هو سدّ باب عدم ذيها من جهتها ، فإن وجود ذي المقدمة لما
كان موقوفا على وجود تمام مقدماته ، فعدم كل منها موجب لعدمه ووجوده يسد باب عدم
ذي المقدمة من جهته وإن لم توجد بقية المقدمات.
وحينئذ فالمدعى أن
الغرض من وجوب كل مقدمة ليس هو حصول ذيها ، ليختص بالموصلة ، بل سدّ باب عدمه من
جهتها ولو مع عدم غيرها ، وذلك مشترك بين الموصلة وغيرها.
وربما يحمل على
هذا ما تقدم من التقريرات والمحقق الخراساني ، وإن كان الجمود على حاق عبارتهما لا
يقتضيه.
وكيف كان ، فبعد
أن لم يكن مراد صاحب الفصول من التوصل بالمقدمة لذيها هو ترتبه عليها باستقلالها
ليندفع بما سبق من المحقق الخراساني ، بل فعلية استناد ذي المقدمة إليها ولو
بانضمام بقية المقدمات إليها ، يقع الكلام في أن الغرض من وجوب المقدمة هو ذلك ،
ليختص الوجوب والداعوية المسببان
عن وجوب ذي
المقدمة بالمقدمة الموصلة ، أو مطلق سدّ باب العدم من جهتها ولو لم يترتب عليها ذو
المقدمة لعدم تحقق بقية المقدمات ، فيعم الوجوب والداعوية غير الموصلة أيضا.
ولا ينبغي التأمل
في أن الغرض هو الأول ، حيث لا إشكال ظاهرا في جواز تبديل المقدمة قبل حصول ذيها ،
فإذا نصب المكلف السلم للصعود على السطح جاز له قبل الصعود عليه تبديله بسلم آخر
يصعد عليه.
كما لا إشكال في
وجوب تكرارها لو تعذر ترتب ذيها عليها بعد التمكن منه ، كما لو انكسر السلم في
الفرض ، وقد سبق في مبحث الإجزاء أن تبديل الفرد الذي يمتثل به إنما يجوز أو يجب
إذا لم يكن المأتي به علة تامة لحصول الغرض ، كما اعترف به المحقق الخراساني قدّس
سرّه وغيره ، ومن الظاهر أن الغرض من الأمر بالمقدمة لو كان هو مجرد سدّ باب العدم
من جهتها فالمأتي به منها علة تامة له ، وإنما لا يكون علة تامة بالإضافة إلى نفس
التوصل الموقوف على تحقق بقية أجزاء علة ذي المقدمة ، فجواز التبديل ووجوبه في
الفرض قبل حصوله شاهد بكونه هو الغرض ، كما ذكره في الفصول.
وأما سدّ باب
العدم من جهتها فهو لو كان غرضا لا يكون غرضا على إطلاقه ، بل يكون مقيدا بسدّ باب
العدم من بقية الجهات ، وإلا فسدّ باب العدم من جهة خصوص مقدمة دون غيرها لا فائدة
فيه بعد فرض عدم ترتب ذي المقدمة عليه الذي هو الملحوظ بالأصل والمقدمة ملحوظة
بتبعه ، كما اعترف به المحقق الخراساني قدّس سرّه نفسه ، ومع ذلك لا وجه لدخوله في
موضوع الغرض ، كما لا يخفى.
وأشكل من ذلك ما
يظهر منه ومن التقريرات في ردّ ما ذكره في الفصول في تقريب لزوم تبعية الواجب
للغرض سعة وضيقا بقوله المتقدم : «وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد حصول
شيء آخر لا يريده إذا وقع
مجردا عنه ...» ـ من
أنه لو سلم كون الغرض من وجوب المقدمة هو حصول ذيها ، إلا أن ذلك لا يقتضي قصور
المقدمة المطولة عن صورة عدم حصوله ، بل تقع على ما هي عليه من المطلوبية وإن لم
يحصل.
بدعوى : أن حصول
ذي المقدمة جهة تعليلية ، وهي لا تقتضي قصور المطلوب وتبعيته لها ، وإنما ذلك في
الجهة التقييدية ولا مجال للبناء على أن حصول ذي المقدمة جهة تقييدية في المقام ،
لما يأتي ، حتى قال المحقق الخراساني قدّس سرّه : «ولعل منشأ توهمه خلطه بين الجهة
التقييدية والتعليلية».
إذ فيه : أن الجهة
التعليلية لما كانت هي الغرض الداعي للطلب فعدم تبعية المطلوب لها سعة وضيقا خلف.
غاية الأمر أن تبعية الطلب للغرض ـ الذي هو الجهة التعليلية ـ ليس بوجوده الواقعي
، بل العلمي ، فإذا اعتقد الطالب وفاء شيء به طلبه ، وإن لم يكن ذلك الشيء وافيا
به واقعا. وبهذا تفارق الجهة التعليلية الجهة التقييدية التي يتبعها المطلوب
بوجودها الواقعي.
لكن تقدم في مبحث
التعبدي والتوصلي أن المعيار في الداعوية العقلية ولزوم الإطاعة هو الغرض دون
الأمر إذا لم يكن مطابقا له.
كما تقدم أن عدم
مطابقة الأمر للغرض بوجوده الواقعي إنما تمكن مع غفلة المولى وجهله بعدم استيفاء
غرضه بالأمر ، ولا يعقل في حق العالم الملتفت ، كالشارع الأقدس. بل لا بد من
التطابق لبّا بين طلبه وموضوع غرضه بماله من وجود واقعي ، وإن لم يطابقه لفظا ،
فلا يظهر الفرق بين الجهة التقييد والتعليلية في أوامره من هذه الجهة.
هذا كله في الطلب
الفعلي التفصيلي الأصلي ، وأما الطلب الارتكازي ـ ومنه الطلب الغيرى المدعى
للمقدمة ، كما سبق في الاستدلال عليه ـ فهو تابع للغرض واقعا سعة وضيقا حتى في حق
من يمكن في حقه الجهل والغافلة ، لعدم توجه الطالب لموضوعه تفصيلا ، كي يمكن خطؤه
في تشخيص موضوع
الغرض ، بل هو
كامن في مرتكزاته التابعة لارتكازية الغرض ، فلا يعقل انفكاكه عن الغرض وعدم
مطابقته له.
ولعله إلى هذا
يرجع ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من رجوع الجهة التعليلية للجهة التقييدية في
الأحكام العقلية.
بل وضوح ارتكازية
الغرض في المقام ووضوح اختصاصه ببعض أفراد المقدمة صالحان عرفا للقرينية على تقييد
المقدمة المطلوبة بالموصلة لو فرض وقوعها موردا للطلب في دليل له إطلاق لفظي صادر
ممن يمكن في حقه الغافلة.
والمتحصل من جميع
ما تقدم : أنه لا ينبغي التأمل في اختصاص الغرض الذي هو المنشأ للداعوية التبعية
والوجوب الغيري ـ لو قيل به ـ بالمقدمة الموصلة ، وفي لزوم اختصاص الداعوية
والوجوب بها تبعا لاختصاص الغرض بها.
وعلى ذلك يبتني ما
تقدم منا في مبحث الإجزاء من أن المأمور به إذا لم يكن علة تامة لحصول الغرض كان
مقيدا لبّا بما يترتب عليه الغرض ، وأن ما قيل إنه من تبديل الامتثال ليس منه
حقيقة ، بل من العدول في الامتثال قبل تحققه. ، وذكرنا هناك أن كلام المحقق
الخراساني قدّس سرّه يناسبه ولا يأباه. وعلى هذا ينبغي البناء في المقام.
ولعل الأولى في
تقريبه أن يقال : ان الداعوية نحو الشيء إنما تستتبع الداعوية نحو جميع مقدماته
بنحو الارتباطية لا بنحو الانحلال ، وعلى هذا النحو يبتني الطلب الغيري المتفرع
عليها ـ كما تقدم ـ فالمطلوب من كل منها ما يقارن بقيتها ، وليس موضوع الداعوية
الاستقلالية إلا المركب منها ، وهو العلة التامة ، لأنه هو الذي يترتب عليه ذو
المقدمة ، دون كل جزء بحياله واستقلاله ، فليس في المقام إلا داعوية غيرية واحدة
تابعة للداعوية النفسية متعلقة بالعلة التامة
ومنحلة إلى
داعويات ضمنية ارتباطية بعدد أجزائها.
وعلى هذا النحو
تكون المقدمات موضوعا للوجوب الغيري ، غايته أنه إذا كان بعضها غير قابل للتكليف ـ
كما قد يدعى في مثل اختيار المكلف لذي المقدمة وإرادته ـ لا يكون بنفسه موضوعا
للوجوب الغيري ، بل قيدا للواجب من سائر المقدمات ، فالمطلوب من كل منها ما يقارنه
، ليتحقق به ذو المقدمة الذي هو موضوع الوجوب النفسي والداعوية الأصلية.
وعلى ذلك يبتني ما
تقدم منا في أول الفصل من أن الداعوية الغيرية في طول الداعوية النفسية ومرتبطة
بها ، وأنها لا تصلح للحركية ما لم تصلح الداعوية النفسية لها ، وأن محركيتها ومقربيتها
باعتبار كون الجري عليها شروعا في الجري على طبق الداعوية النفسية ، فإن ذلك لا
يتم مع فرض عموم موضوع الداعوية الغيرية للمقدمة غير الموصلة ، إذ مع ذلك يمكن
الجري على طبق الداعوية الغيرية مستقلا عن الجري على طبق الداعوية النفسية باختيار
المقدمة غير الموصلة.
ويزيد الأمر وضوحا
وجهان ..
أحدهما
: النظر في ثمرة
النزاع في المقام التي تقدمت الإشارة إليها في آخر الكلام في اعتبار قصد التوصل ،
وهي أن المقدمة لو كانت محرمة في نفسها وزوحمت حرمتها بوجوب ذيها بنحو يرفع حرمتها
، لأهميته ، فإن قيل باختصاص وجوب المقدمة الغيري وداعويتها التبعية بالموصلة تعين
بقاء غير الموصل منها على حرمته ، فيعاقب عليه مع الإتيان به لا بداعي التوصل
للواجب ، بل كان التوصل بفرد آخر متأخر عنه ، وإن قيل بعموم الواجب لزم البناء على
عدم حرمة غير الموصل أيضا فلا يعاقب عليه كما لا يعاقب على الموصل.
ودعوى : أن عموم
وجوب المقدمة لغير الموصل لا ينافي لزوم الاقتصار عقلا على الموصل في الفرض ، جمعا
بين غرضي الشارع.
مدفوعة : بأن بعد
فرض فعلية وجوب ذي المقدمة وتبعية الداعوية العقلية للمقدمة له ، وكذا وجوبها
الغيري لو قيل به وفرض عموم موضوعهما لغير الموصل لا معنى لمنع العقل من غير
الموصل ، ولا لفعلية تعلق غرض المولى بتركه ، بل هو خلف. فلزوم ترك غير الموصل في
الفرض شاهد بقصور الداعوية والوجوب الغيري عنه.
ثانيهما
: أنه لو علم
المكلف في سعة الوقت بعدم ترتب الواجب على الفرد الأول من المقدمة ، لا لقصور فيه
، بل لأمر يرجع لاختياره ، فالأمر النفسي بذي المقدمة إن كان يدعو غيريا لخصوص
الفرد المذكور سقط به وجاز ترك الفرد الآخر المستلزم لترك ذي المقدمة ، ومن
المعلوم عدم جوازه ، وإن كان يدعو له ولما بعده من الأفراد حتى يتحقق الفرد الموصل
، فهو خلاف المعهود من تعلق الأمر بالطبيعة بنحو البدلية المستلزم للاجتزاء في
امتثاله بصرف الوجود المنطبق على الوجود الأول. وإن كان يدعو لخصوص غيره مما يترتب
عليه الواجب فهو المطلوب.
هذا ، مضافا إلى
الوجهين الأولين المذكورين في كلام الفصول المتقدم المبتنيين على ملاحظة الوجدان ،
وأن أنكرهما المحقق الخراساني قدّس سرّه تبعا للتقريرات. بل لا يبعد ظهور بعض
الوجوه الوجدانية الاخرى بالتأمل.
ومن هنا كان
اختصاص الوجوب والداعوية بالمقدمة الموصلة من الوضوح بحد يغني عن إطالة الكلام فيه
، لو لا إنكار من عرفت من الأكابر له حتى صار موردا للنقض والإبرام بين الأعلام.
وذلك يلزمنا بالنظر في وجوه الإشكال التي اوردت عليه في كلماتهم استيفاء للكلام في
المسألة ، وهي جملة من الوجوه ..
الأول
: ما في التقريرات
والكفاية من قضاء صريح الوجدان بسقوط التكليف الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من
دون انتظار ترتب الواجب عليها ،
وذلك آية عدم
اعتبار ترتب الواجب في وقوعها على صفة المطلوبية.
ويظهر اندفاعه مما
سبق ، حيث لا بد من البناء على أن تحقق الامتثال به مراعى بتحقق بقية المقدمات
وترتب ذي المقدمة ، فإن ترتب كشف عن وقوعها على صفة الوجوب الغيري ، وإلا انكشف
عدمه كما هو الحال في سائر الواجبات الارتباطية والمنوطة بغرض متأخر عنها.
ولذا تقدم عدم
الإشكال في جواز تبديلها بفرد آخر ، بل وجوبه لو تعذر ترتب ذي المقدمة عليها بعد
إمكانه ، ويكون الامتثال بالثاني مع أنه لا معنى لامتثال الأمر ثانيا بعد سقوطه
بالامتثال.
غايته أن الأمر في
المقام لا يدعو فعلا إلى الإتيان بفرد آخر ، لأن الفرد المأتي به مشارك للفرد
الآخر في صلوحه لأن يكون امتثالا بترتب الواجب عليه بعد ذلك ، والأمر لا يدعو إلا
صرف الوجود الصالح للانطباق على كلا الوجودين من غير مرجح ، فكما يكون المكلف
مخيرا بين الفردين قبل الإتيان بالفرد الأول يكون مخيرا بعده بين الاتيان بالواجب
بعده ، ليكون الامتثال به ، والامتثال بغيره.
إلا أن يسقط الفرد
المأتي به عن قابلية ترتب الواجب عليه فيتعيّن غيره ، نظير الإتيان بجزء الواجب
الارتباطي ، حيث يكون الامتثال به مراعى بإكمال الواجب ، من دون أن يدعو التكليف
به إلى فرد آخر منه إلا بعد طروء المانع من تحقق الامتثال به بطروء المبطل.
الثاني
: ما في التقريرات
من أن وجوب خصوص المقدمة الموصلة مستلزم لوجوب مطلق المقدمة في لحاظ الواقع ، لأن
الأمر بالمقيد بقيد منتزع عن أمر مغاير له في الوجود يقتضي الأمر بالمطلق ، إذ لا
بد من إيجاد المطلق أو لا ثم إلحاقه بالقيد ، وفي المقام حيث كان الإيصال منتزعا
من ترتب الواجب المغاير وجودا للمقدمة لزم الإتيان بمطلق المقدمة ثم إلحاقها
بالقيد.
وفيه : ـ مع أن
ذلك يجري في جميع موارد الأمر بالمقيد ـ أن الأمر بالمقيد لا يستلزم الأمر بالمطلق
بما هو مطلق بحيث ينطبق على فاقد القيد ، بل ينافيه ، وانما يستلزم الأمر بالذات
المحفوظة في حالتي الإطلاق والتقييد ، ولازمه في المقام وجوب ذات المقدمة في ضمن
الموصلة ، لا وجوب مطلق المقدمة ولو لم تكن موصلة لينافي المدعى.
الثالث
: أنه إذا كان
الواجب من المقدمة خصوص الموصلة ، كان الإيصال واجبا غيريا كسائر قيود المقدمة ـ نظير
الطهارة في الساتر ـ وحيث كان الإيصال منتزعا من ترتب الواجب النفسي بالوجوب تبعا
لوجوب مقدمته غيريا.
وفيه : أن امتناع
ذلك إن كان بلحاظ لزوم الدور بتقريب : أن وجوب المقدمة إنما نشأ من وجوب ذيها ،
فلو ترشح وجوب ذيها من وجوبها لزم الدور ، كما قرره بعض الأعاظم قدّس سرّه.
أشكل : بظهور أن
وجوب ذي المقدمة الناشئ من قبل وجوب المقدمة الغيري ليس هو وجوبه النفسي الذي نشأ
منه وجوب المقدمة ، بل وجوب غيري آخر ، فلا دور.
وإن كان بلحاظ
لزوم التسلسل بتقريب أن وجود ذي المقدمة إذا كان قيدا في الواجب من المقدمة كان
مقدمة له ، وحيث لا يجب من المقدمة إلا الموصل الموقوف على وجود ذيها كانت المقدمة
من قيوده ومقدمة له فتجب ، وهكذا إلى ما لا نهاية ، لرجوع ذلك إلى أن كلّا من
المقدمة وذيها يكون مقدمة للواجب من الآخر في المرتبة المتأخرة عن مقدميته له ،
فيتسلسل الوجوب لكل منهما ، كما قرره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
أشكل : بما ذكره
قدّس سرّه من أنه في فرض ثبوت ذي المقدمة الذي به يتحقق الإيصال للمقدمة يلزم تحقق
المقدمة ، فلا موضوع لتقييده بالإيصال إليها ، لتجب غيريا تبعا لوجوبه. ويلزم
التسلسل.
وإن كان بلحاظ ما
سبق منا عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع اجتماع الوجوب النفسي والغيري
في موضوع واحد مع وحدة الغرض الموجب لهما ، للزوم اللغوية.
أشكل : بأن ذلك لا
يقتضي امتناع تقييد المقدمة الواجبة بالإيصال المنتزع من وجود ذيها ، بل امتناع
استتباع التقييد المذكور وجوب ذي المقدمة غيريا بتبع وجوب المقدمة ، لأن المقدمية
إنما تقتضي الداعوية التبعية والوجوب الغيري ـ لو قيل به ـ مع ـ عدم المانع ،
كلزوم اللغوية ، نظير ما تقدم في المقدمة الداخلية.
ومنه يظهر وجه آخر
في الجواب عن التقريبين الأولين ، لابتنائهما على لزوم وجوب ذي المقدمة غيريا بتبع
وجوب المقدمة ، ولا موضوع لها بدون ذلك.
الرابع : ما ذكره
بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الواجب لو كان هو خصوص المقدمة الموصلة فبما أن ذات
المقدمة مقومة لها ، تكون مقدمة لتحققها في الخارج ، فإن التزم الخصم بوجوبها مع
عدم اعتبار قيد الإيصال إلى جزئها الآخر فقد اعترف بما أنكره ، وإن اعتبر قيد
الإيصال في اتصافها بالوجوب فقد لزمه التسلسل ، إذ كل ما هو مقيد بالإيصال له ذات
تكون مقدمة له.
وفيه : أن ذات
المقيد في ظرف وجود قيده عين المقيد ، لا مقدمة له ، كي تجب بوجوب غيري آخر مباين
لوجوبه ، ويلزم التسلسل بلحاظ أن المقدمة لما كانت مقيدة بالإيصال ، فهي في كل
مرتبة لها قيد وذات مقدمة له.
على أن التسلسل في
مثل ذلك لما كان في الوجوبات الغيرية المترتبة فهو من التسلسل في المعلولات الذي
لا وجه لبطلانه إلا الوجدان على عدم وجود جعول غير متناهية ، ولا مجال له في
المقام ، لما تقدم عند الاستدلال لوجوب المقدمة من كون عدم الوجوب الغيري الثابت
لها جعليا فعليا ، بل ارتكازيا تبعيا
بسبب دخله في
الغرض الارتكازي ، بمعنى أن المولى لو سئل عن المقدمة لطلبها ، ولا محذور في
الالتزام بالتسلسل في ذلك ، بمعنى أن كل ما يفرض مقدمة للغرض المقتضي للطلب ، وإن
لم يطلب فعلا ، لعدم الداعي لفعلية طلبه بعد اقتضاء الخطاب النفسي الإتيان به
عقلا. وهذا يجري في الوجه الثالث لو قرر بالتسلسل أيضا. فتأمل جيدا.
الخامس
: ما ذكره بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه من لزوم الدور ، حيث يستلزم كون ذي المقدمة مقدمة لها.
وكأنه لأن تحقق
منشأ القيد ـ وهو في المقام الإيصال المنوط بوجود ذي المقدمة ـ ممّا يتوقف عليه
وجود المقيد ـ وهو في المقام المقدمة الموصلة ـ بما هو مقيد.
ويندفع : بأنه ليس
المدعى هو دخل الإيصال في مقدمية المقدمة ، لتبعية مقدميتها لخصوصية ذاتها
المشتركة بين الموصلة وغيرها من أفراد ماهية المقدمة ، بل في وقوعها على صفة
الوجوب ، فالواجب النفسي موقوف على ذات المقدمة ، وماهيتها ، وهي غير موقوفة عليه
، وإنما الموقوف عليه وقوعها على صفة الوجوب.
السادس
: ما ذكره هو قدّس
سرّه أيضا من أن تقييد المقدمة الواجبة بترتب ذي المقدمة عليها يرجع إلى تقييد
الواجب بما لا يمكن انفكاك الواجب عنه على تقدير تحققه ، ومثل ذلك مستحيل ، لأنه
يؤول إلى اشتراط الواجب وتقييده بوجود نفسه.
ولعله يريد أن
المقدمة لما كانت قيدا في الواجب النفسي ، فإذا كان هو قيدا فيها لزم كونه قيدا
لنفسه.
وفيه .. أولا : أن
الإيصال لا يستلزم وجود الواجب النفسي على إطلاقه ، بل خصوص ما يقارن القيد منه
وليس هو ملازما لماهية الواجب النفسي ، ليمتنع
رجوع تقييده
بالمقدمة للتقييد به ، بل هو أخص منه ، ولا محذور في تقييده به.
وثانيا
: أن تقييد المقدمة
الواجبة بالإيصال لا يستلزم تقييد الواجب النفسي به ، كيف ومقدمية المقدمة من
أصلها قد لا تبتني على تقييد الواجب النفسي بها ، لكونها تكوينية ، مع وضوح عموم
الكلام في الموصلة لها.
بل لزوم وجود
المقدمة الموصلة مقتضي مقدمية المقدمة على إطلاقها ، ولذا لا إشكال في عدم كفاية
المقدمة غير الموصلة ، سواء قيل باختصاص الوجوب بالموصلة أم لا.
غاية الأمر أن
القائل بعدم الاختصاص يقول بوقوع غير الموصل على صفة الوجوب أيضا ، وهذا الوجه لا
ينهض بإثبات ذلك.
وبعبارة اخرى :
تقييد المقدمة الواجبة بالإيصال لا يستلزم تقييد الواجب النفسي به ، لعدم تقييد
الواجب النفسي بأصل المقدمة ، فضلا عن إيصالها. غاية الأمر أنه قد يكون مقيدا بما
يتوقف تحققه على فعل خارج عنه مباين له ـ كتقييد الصلاة بالطهارة والستر ـ فيكون
فعله مقدمة شرعية اصطلاحا ، والقيد حينئذ هو ذلك الأمر بذاته على النحو الذي
يقتضيه التقييد ، غايته أن فعل ما يحققه ..
تارة
: لا يوصل التحقق
المقيد ، بل لمجرد سدّ باب عدمه من جهته.
واخرى
: يوصل إليه ،
والمدعى هو اختصاص الوجوب الغيري بالثاني ، وأنه لا يعم الأول ، ولا دخل لذلك
بالواجب النفسي بوجهه ، بل هو تابع لتحديد الغرض من الواجب الغيري ، الذي تقدم
الكلام فيه. فتأمل جيدا.
هذا ، والوجوه
الأربعة الأخيرة مبنية على أمرين :
الأول
: أن إيصال المقدمة
منتزع من ترتب ذي المقدمة عليها.
الثاني
: أن اختصاص الوجوب
بالمقدمة الموصلة راجع إلى أخذ عنوان الإيصال قيدا في المقدمة الواجبة ، كسائر
القيود المأخوذة في بعض المقدمات ، نظير الطهارة في الساتر.
وقد أنكر بعض
المحققين قدّس سرّه الأول ، مدعيا أن إيصال المقدمة منتزع من بلوغها إلى حيث يمتنع
انفكاكها عن ذيها ، فهو ملازم لترتب الواجب ، لا أنه منتزع منه.
ولا يخفى أن عنوان
الإيصال لم يؤخذ بنفسه في موضوع دليل لفظي ، ليهتم بتحديد مفهومه ومنشأ انتزاعه ،
وإنما وقع التعبير به في كلام الفصول في مقام تحديد الواجب من المقدمة ، فلو فرض
تمامية المحاذير المتقدمة أمكن التخلص منها بالمنع من أخذ الإيصال بالمعنى المنتزع
من ترتب ذي المقدمة والالتزام بأن المأخوذ هو الإيصال بالمعنى المنتزع مما ذكره
قدّس سرّه أو نحوه مما لا يستلزم المحاذير المذكورة ، عملا بما تقدم من الأدلة على
عدم وجوب مطلق المقدمة وإن لم تكن موصلة.
بل يمكن إنكار
الأمر الثاني رأسا ـ وهو ابتناء اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة على أخذ عنوان الإيصال
قيدا في المقدمة الواجبة ـ بالالتزام بأن الواجب هو الفرد الموصل بذاته لا بقيده ـ
كما جرى عليه بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ وليس ذكر الإيصال إلا للإشارة إلى
الفرد المذكور ، الذي هو مورد الغرض ، فهو عنوان تعليلي كعنوان المقدمة ، لا
تقييدي.
وكلام الفصول لا
يأبى الحمل على ذلك وإن نسب إليه الالتزام بالتقييد ، لعدم ظهور كلامه في التوجه
لهذه الجهة ، والتقييد ـ لو فرض منه التعبير به أو بما يرجع إليه ـ أعم من دخل
القيد في موضوع الحكم ، بل قد يراد به مجرد اختصاص متعلق الوجوب بالموصل ، الذي
يظهر منه قدّس سرّه أنه المهم في المقام.
وأما ما ذكره بعض
السادة المعاصرين قدّس سرّه من أن تحصص الطبيعة إنما يكون بواسطة تقييدها بقيد ،
فالحصة هي الطبيعة المقيدة بقيد ، بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، ومع قطع
النظر عن القيد والتقييد لا حصة في البين.
فهو لا يخلو عن غموض.
إذ لو اريد بتحصص
الطبيعة تحصيصها خارجا ، فهو لا يتوقف على التقييد ، لأن كل حصة متميزة بنفسها
وبخصوصياتها المقارنة لها خارجا ، ولو مع إطلاق الطبيعة في مقام جعل الحكم عليها.
ولو اريد به
تحصصها ذهنا في مقام جعل الحكم عليها ، ليقصر الحكم عن باقي الحصص. فهو مسلم ، إلا
أنه لا يستلزم دخل القيد في الحكم ، بحيث يقتضي وجوب منشأ انتزاعه ، بل غاية ما
يلزم هو أخذه أو أخذ ملازمه لمحض الإشارة للحصة المقارنة له.
غاية الأمر أن
ظاهر التقييد بالعنوان في لسان الأدلة دخله في الحكم وترتب الغرض. لكن لا يعول
عليه في فرض لزوم محذور عقلي. بل لا موضوع له فيما لو لم يكن دليل الحكم لفظيا ،
بل عقليا ، كما في وجوب المقدمة.
وقد تقدم في تقسيم
المقدمة إلى شرعية وتكوينية ما له نفع في المقام.
على أن تميز الحصة
ذهنا إنما يحتاج إليه إذا كان الحكم مجعولا جعلا استقلاليا ، إذا كان الحكم تبعيا ارتكازيا
ـ كوجوب المقدمة غيريا ، على ما سبق ـ فلا يحتاج إلى لحاظ الموضوع وتحديده
بالعنوان ليلزم التقييد لو كان مختصا ببعض حصص الماهية ، بل هو تابع للغرض
الارتكازي سعة وضيقا ، فإذا اختص الغرض ببعض الحصص من الماهية ـ كالموصل في المقام
، على ما ذكرنا ـ لزم اختصاص الحكم تبعا له به ، من دون حاجة لتحديده بالعنوان
والقيد.
وقد يظهر من جميع
ما تقدم أنه لا محذور في البناء على اختصاص الداعوية التبعية والوجوب الغيري ـ لو
قيل به ـ بالمقدمة الموصلة.
بل الإنصاف : أن
وضوح اختصاصهما بها يجعل الوجوه المذكورة من سنخ الشبهة في مقابل البديهة ، فلا
ينبغي إطالة الكلام فيها لو لا صدورها من أعيان الفن وأعلام التحقيق ممن لا ينبغي
تجاهل كلامهم والإعراض عن مطالبهم ، شكر الله تعالى سعيهم وقدس أسرارهم ، ونفعنا
ببركة تحقيقاتهم
وإفاداتهم وجزاهم
عنا خير الجزاء.
وقد أعرضنا عن بعض
ما ذكروه في المقام ، لعدم أهميته أو عدم دخله في إثبات اختصاص الواجب من المقدمة
بالموصلة أو عمومه لغيرها ، الذي هو المهم في المقام ، فلا يسعنا إطالة الكلام فيه
زائدا على ما سبق مما لم يسعنا الإعراض عنه لما ذكرنا. ومنه سبحانه نستمد العون
والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إن الثمرة
المهمة للنزاع في المقدمة الموصلة هو ما ذكرناه في الوجه الأول للاستدلال عليها ،
وأشرنا إليه عند الكلام في ثمرة القول باعتبار قصد التوصل ، من أن المقدمة لو كانت
محرمة في نفسها فعلى القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يختص ارتفاع الحرمة
بالفرد الموصل ، وعلى القول ترفع الحرمة حتى عن غير الموصل.
لكنهم لم يتعرضوا
بوجه معتد به للثمرة المذكورة ، وإنما تعرضوا لغيرها ممّا يتعلق بمسألة الضد لا
يسعنا إطالة الكلام فيها ، وربما يأتي في مسألة الضد ما يتعلق بذلك.
المبحث الثالث
في تحديد داعوية المقدمة
حيث ذكرنا في أول
الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو نحوه نحو الشيء يستتبع فعلية الداعي المسانخ له
نحو مقدمته.
فلا ينبغي التأمل
في أن مقتضى ذلك تبعية الداعي التبعي نحو المقدمة للداعي الأصلي نحو ذيها سعة
وضيقا ، لأنه مقتضى تبعيته له في أصل وجوده ، وحيث كانت الداعوية الأصلية نحو ذي
المقدمة ملازمة للتكليف النفسي به ، وكان وجوب المقدمة غيريا ـ على القول به ـ متفرعا
على الداعي التبعي المذكور لها وتابعا لها سعة وضيقا اتجه ما ذكروه من تبعية
الوجوب الغيري ـ على القول به ـ للوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط ، فلا يعقل
اشتراط أحدهما بشيء وإطلاق الآخر من جهته.
ووضوح ذلك يغني عن
إطالة الكلام فيه.
وهم وإن ذكروا ذلك
في الوجوب الغيري إلا أنه ناشئ عن كونه هو المهم عندهم في البحث عن المقدمة ، مع أنه
في الحقيقة مبتن على التبعية في الإطلاق والاشتراط بين الداعويتين ، وأثر التحديد
يظهر فيهما حتى بناء على المختار من عدم ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة.
ومن ثمّ عقدنا
لذلك بحثا مستقلا عن بحث الملازمة ، تابعا لأصل المقدمة ومتفرعا على داعويتها
المذكورة.
هذا ، ويظهر من
المعالم ما ينافي التبعية المذكورة ، حيث ذكر أنه يمكن تصحيح العبادة إذا كانت ضدا
لواجب ، حيث لا تقع محرمة حتى بناء على
وجوب مقدمة الواجب
وأن من مقدماته ترك ضده الخاص.
وقال في تقريب ذلك
: «وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنما تنهض دليلا على
الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها
حق النظر. وحينئذ فاللازم عدم وجوب ترك الضد الخاص في حال عدم إرادة الفعل المتوقف
عليه من حيث كونه مقدمة له ...».
وظاهره اختصاص
وجوب المقدمة بما إذا اريد ذوها ، مع وضوح عدم اختصاص وجوب ذيها بالحال المذكور ،
وهو ينافي ما سبق من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.
ولا مجال للبناء
عليه بعد ما ذكرنا ، بل لا بد من البناء على فعلية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها
الغيري ـ لو قيل به ـ تبعا لفعلية وجوب ذيها حتى في حال عدم إرادته.
نعم ، لو جيء
بالمقدمة حال عدم إرادة ذيها لم تقع موردا للداعوية ولا على صفة الوجوب بناء على
ما تقدم في المبحث السابق من اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة.
إلا أن يترتب ذوها
عليها ، فينكشف وقوعها موردا للداعوية وعلى صفة الوجوب ، على خلاف ما قصد بها.
وكأن هذا منه قدّس
سرّه وما تقدم من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة
على صفة الوجوب ، مبنيان على اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة ، غايته أن
الاختلاف مسبب عن الاشتباه في تحديد مورد الارتكاز واختلاف مؤداه.
ثم إنه يتفرع على
ما سبق من تبعية داعوية المقدمة ووجوبها ـ لو قيل به ـ لوجوب ذيها في الإطلاق
والاشتراط الكلام المشهور في المقدمات المفوتة ،
وهي التي لو لم
يؤت بها قبل وقت الواجب تعذر الإتيان بها في وقته ، فيفوت الواجب ، حيث يشكل
البناء على وجوبها ولزوم تهيئتها قبل الوقت بعد فعلية وجوب ذيها حينئذ ، فكيف تجب
مقدمته عقلا أو شرعا ، لمنافاته لما سبق من التبعية المذكورة.
ومن هنا تصدى
الأصحاب لدفع الإشكال المذكور وتوجيه وجوب المقدمة في الفرض شرعا أو عقلا بما لا
ينافي ما سبق.
وقد ذكروا وجوها
لا بد من التعرض لها والنظر فيها ..
الأول
: ما تقدم من
الفصول من الالتزام بالواجب المعلق برجوع قيد الوقت للمكلف به لا للتكليف.
وإليه يرجع ما
ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من رجوع القيد للهيئة لا للمادة ، كما تقدم في
تقسيمات الواجب. حيث يكون مقتضى ذلك فعلية الداعوية نحو المكلف النفسي قبل الوقت ـ
تبعا لفعلية التكليف به ـ فيلزم حفظ القدرة عليه بفعل مقدمته المذكورة ، فتكون
فعلية داعويتها قبل الوقت تابعة لفعلية داعوية ذيها.
بل لو تمّ ذلك
اقتضى فعليه الداعوية للمقدمات غير المفوتة ـ وهي التي يمكن تحصيلها في الوقت ـ أيضا
، لأن فعلية الداعوية للمقدمة ـ تبعا لفعلية الداعوية لذيها ـ تقتضي السعي
لتحصيلها ، غايته أنه مع تضيق وقتها تلزم المبادرة ، ومع عدمه لا تلزم ، نظير
الواجب الفعلي مع سعة وقته.
هذا ، وقد سبق منا
في مبحث الواجب المعلق أنه ممكن ثبوتا.
ولكنه يحتاج إلى
إثبات ، وأن ما ذكره في الفصول من ظهور الدليل في رجوع التقييد بالوقت للمكلف به
غير تام ، وكذا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم رجوع جميع القيود له.
فراجع.
الثاني
: ما يظهر من بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه على مسلكه في التكليف
المشروط من أنه
فعلي قبل فعلية شرطه خارجا ، وأن المنوط بفعلية الشرط هو فعلية محركيته ، حيث
التزم في المقام في دفع إشكال المقدمات المفوتة بأن المتوقف على فعلية الشرط هو
محركية التكليف المشروط نحو نفس المكلف به ، وأما محركيته نحو مقدماته فهى غير
موقوفة عليه ، بل تابعة لفعلية التكليف بذيها وإن لم يكن محركا نحوه ، ولازم ذلك وجوب
التحرك قبل الشرط للمقدمات المفوتة مضيقا ولغير المفوتة موسعا ، نظير ما تقدم على
الوجه الأول.
ويشكل ... أولا :
بضعف المبنى المذكور ، على ما أوضحناه بتفصيل في مبحث استصحاب الحكم مع الشك في
نسخه ، حيث ذكرنا هناك أن فعلية الحكم تابعة لفعلية شرطه على النحو الذي اخذ فيه.
وثانيا : بأن وجه
تبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري للداعوية نحو ذيها ووجوبه النفسي كما
يقتضي بتبعيتهما لهما في الفعلية يقتضي تبعيتهما لهما في المحركية ، كما يساعده
الرجوع للارتكازيات التي هي الدليل على أصل التبعية بينهما.
كيف وقد التزم
قدّس سرّه ـ بناء على المبنى المذكور ـ بفعلية التكليف المشروط حتى مع عدم تحقق
الشرط أصلا وإن لم يكن محركا نحو متعلقه ، فلو كانت محركيته نحو مقدمته تابعة
لفعليته لا لمحركيته نحو متعلقه لزم فعلية المحركية نحو المقدمة مطلقا حتى مع
العلم بعدم تحقق الشرط في حق المكلف أصلا ، وهو بديهي البطلان.
الثالث
: ما ذكره بعض
الأعاظم قدّس سرّه من الالتزام بوجوب المقدمة بمتمم الجعل ، بتقريب : أنه لما كان
المفروض تمامية الملاك في ظرفه وفعلية تعلق الغرض بالواجب حينئذ فالعقل يحكم بوجوب
حفظ القدرة بفعل المقدمة التي يكون تركها مفوتا للواجب في ظرفه ، لوجوب حفظ الغرض
، ولا يكون فوته في وقته بتفويتها في وقتها عذرا ، لأن الامتناع بالاختيار لا
ينافي الاختيار ، ولا
يمنع من العقاب.
وحينئذ يستكشف
بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وجوب المقدمة شرعا في ظرف القدرة عليها
، ومثل هذا الوجوب يكون متمما للجعل الأول ـ وهو جعل التكليف النفسي لذي المقدمة ـ
لعدم وفاء الجعل المذكور بغرضه إلا به.
وفيه : أنه بعد
فرض حكم العقل بوجوب حفظ الغرض وقبح تفويته يكون الحكم المذكور كافيا في محركية
المكلف نحو المقدمة المفروضة التي يتوقف عليها حفظ الغرض ، لرجوعه الى استحقاق
العقاب بتفويت الغرض بتركها ، ومع ذلك لا حاجة للجعل الشرعي على طبقه الذى يكون
متمما للجعل الأول ، إذ ليس الغرض من الجعل المذكور إلا إحداث الداعي العقلي
المفروض حدوثه في رتبة سابقة على الحكم ، فالحكم العقلي المذكور نظير حكمه بوجوب
الإطاعة وقبح المعصية الذي يلغو معه الجعل الشرعي على طبقه.
وهذا وإن جرى في
أصل وجوب المقدمة ـ كما سبق ـ إلا أنه كان المدعى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها
ارتكازا بلا حاجة لجعل استقلالي ، حتى قيل : إنه وجوب قهري ، كما سبق.
فإن كان المدعى
ذلك في المقام رجع إلى دعوى عموم وجوب المقدمة التبعي الارتكازي للمقدمات المفوتة
، وأنه لا مانع من فعلية وجوب المقدمة وداعويتها قبل وجوب ذيها بلا حاجة إلى متمم
الجعل.
وإن كان المدعى
وجوب المقدمات المفوتة بجعل استقلالي لا يقتضيه وجوب ذيها أشكل بما ذكرنا من عدم
الحاجة إليه مع حكم العقل المذكور ، لكفايته في المحركية.
وأما الحكم العقلي
الذي يستتبع الحكم الشرعي ـ بناء على تمامية قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم
الشرع ، وإن سبق منا المنع منها في الفصل
الأول من مبحث
الملازمات العقلية ـ فهو الحكم بمجرد الحسن والقبح من دون أن يرجع إلى استحقاق
العقاب والثواب ، حيث لا يكفي ذلك في محركية المكلف وجريه على طبقه ما لم يستتبع
حكم الشارع وجعله المستتبع للعقاب والثواب بنظر العقل ، فيجب على الشارع الجعل
حفظا لمقتضى حكم العقل.
اللهم إلّا ألا
يريد من وجوب حفظ الغرض عقلا وجوبه على المكلف ، بنحو يستتبع استحقاق العقاب
والثواب ، بل وجوبه على الشارع ، بتقريب أنه كما يجب على الشارع حفظ الملاك الفعلي
بجعل التكليف على طبقه في وقته يجب عليه حفظه بالتكليف قبل الوقت بالمقدمة التي
يتوقف حفظ المكلف به في وقته بالإتيان بها حينئذ.
لكنه مخالف لظاهر
كلامه جدا ـ وإن ناسب بعض فقراته ـ خصوصا مع استدلاله بقاعدة أن الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لوضوح رجوعها إلى أن التفويت بالاختيار الذي هو فعل
المكلف مورد للمسئولية عقلا.
على أن من الظاهر
أن وجوب حفظ الملاك على الشارع بالتكليف بالمقدمة السابقة على الوقت فرع أهميته
بالنحو المقتضي لذلك ، لاختلاف الملاكات في ذلك ، ولا طريق لإحراز ذلك إلا من طريق
الشارع ، ومرجع ذلك إلى توقف وجوب المقدمة المفوتة على الدليل الخاص الذي هو خارج
عن محل الكلام ، ولا يكفي فيه إطلاق دليل الواجب المقتضي لفعلية التكليف في الوقت
مع ما هو المعلوم من توقف فعلية التكليف على القدرة ، وفرض أن وجوب حفظ القدرة
بفعل المقدمة المفوتة تابع لجعل خاص غير محرز.
وهذا بخلاف ما لو
تمّ حكم العقل بالوجه الأول ، لرجوعه إلى أن فعلية التكليف في الوقت مع القدرة
تبعا لفعلية ملاكه ـ المفروض إحرازها بإطلاق دليله ـ كما يقتضي حكم العقل بوجوب
امتثاله في وقته مع القدرة عليه ، بنحو يستتبع العقاب والثواب ، كذلك يقتضي حكمه
بالنحو المذكور بوجوب حفظ
القدرة عليه بفعل
المقدمة المفوتة وقبح تفويته بتركها ، بلا حاجة إلى جعل شرعي ، لأنه من شئون إطاعة
التكليف ولواحقها.
وأشكل من ذلك ما
ذكره قدّس سرّه من أن متمم الجعل المذكور يقتضي حفظ الواجب في وقته ووجوب مقدمته
المفوتة شرعا حتى لو كان وقت المقدمة سابقا على البلوغ.
إذ فيه : أن ذلك
مناف لإطلاق دليل رفع القلم عن الصبي.
وأما ما ذكره قدّس
سرّه من أن البلوغ إنما يكون شرطا للتكاليف الشرعية التي لم تستكشف بقاعدة يستقل
العقل بها ، دون ما استكشف من استقلال العقل بحكم ، حيث يستحيل اشتراط تلك
التكاليف بالبلوغ وعدم تحققها قبله ، لمنافاته للحكم الذي استقل به العقل ، كما في
وجوب المعرفة في الاصول الاعتقادية قبل البلوغ ، فإن العقل يستقل به لأجل أن يكون
المكلف مؤمنا في أول زمان بلوغه ، ولا يتخلف عنه في أول أزمنته بالمقدار الذي
يقتضيه الفحص.
فهو كما ترى!
لوضوح أن حكم العقل المذكور. إن اريد به حكمه في حق المكلف بوجوب حفظ غرض المولى
في وقته ، المستفاد من فعلية تكليفه حينئذ ، فهو متفرع على التكليف الشرعي المذكور
وفي طوله ، وراجع لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فمع حكم الشارع نفسه برفع القلم
عن الصبي لا مجال لحكم العقل المذكور ، إذ مع تفريط الصبي في المقدمة فالعقاب على
فوت الواجب في وقته إن كان بلحاظ تفريطه حال صباه فهو مخالف لرفع القلم عن الصبي ،
وإن كان بلحاظ تركه للواجب بعد البلوغ فالمفروض تعذره في حقه.
ومرجع ذلك إلى أن
مقتضى الجمع بين إطلاق دليل الحكم المقتضي لفعليته في الوقت وإطلاق حديث رفع القلم
توقف فعلية الحكم في الوقت على قدرة المكلف بعد بلوغه على حفظه ، بأن تتحقق
المقدمة في الفرض قبل البلوغ ، لعدم تمامية ملاكه بنحو يقتضي الإلزام إلا حينئذ ،
لا عموم فعليته تبعا
لتمامية ملاكه
الملزم بالنحو المقتضي لوجوب المقدمة قبل البلوغ.
وإن اريد به حكمه
في حق الشارع بوجوب حفظ الغرض والملاك بتشريع وجوب المقدمة المفوتة ، فهو متفرع
على أهمية الملاك بالنحو المذكور ، ومقتضى إطلاق حديث رفع القلم عن الصبي عدم
أهميته بهذا النحو.
وبعبارة اخرى :
لما كان عموم رفع القلم عن الصبي حاكما على إطلاقات التكاليف الأولية ـ ومنها وجوب
المعرفة والإيمان ـ فهو كما يقتضي عدم فعليتها في حق الصبي واختصاصها بالبالغ كذلك
يقتضي عدم فعليتها في حق البالغ بالنحو الملزم للصبي بالمحافظة عليها بفعل
المقدمات المفوتة ، بل تختص فعليتها في حقه بما إذا كان قادرا على حفظها بعد بلوغه
، بأن تحققت منه المقدمة المفوتة في الفرض حال الصبى ، من دون ان يكون مكلفا بها
أو مسئولا عنها حينئذ.
ونظير دليل رفع
القلم عن الصبي سائر أدلة الرفع الثانوية ، كرفع الحرج والضرر والإكراه لو فرض
انطباق عناوينها على المقدمات المفوتة دون الواجب في وقته ، حيث لا إشكال ظاهرا في
أن مقتضى حكومتها على عمومات التكاليف الأولية قصور التكاليف الأولية عن اقتضاء
حفظ القدرة عليها بفعل المقدمات المذكورة ، بل اختصاص فعليتها بما إذا كانت مقدورة
من دون أن تستلزم الوقوع ولو من حيثية المقدمة المفوتة في ما ينافي دليل الرفع
كالحرج والضرر ونحوهما.
ولا يختص ذلك
بالمقدمات المفوتة ، بل يجري في غيرها أيضا إذا كان ارتفاع الصبا أو الإكراه أن
نحوهما من عناوين الرفع في آخر الوقت ، بنحو لو لم يأت بالمقدمة في الوقت حال
الصبا أو الإكراه مثلا لتعذر الواجب بعده ، كل ذلك لإطلاق أدلة الرفع.
وأما ما اشتهر من
امتناع رفع اليد عن حكم العقل بحكم الشرع أو غيره.
فهو مختص
بالمستقلات العقلية ، كحكم العقل بحسن بعض بعض الامور أو قبحها ، وبمثل امتناع
اجتماع النقيضين.
وأما أحكامه
المتفرعة على أحكام الشارع والتابعة للملاكات المدركة له فلا بد من البناء على
سلطان الشارع عليها تبعا لسلطانه على حكمه بتخصيصه ، بل تخصيصه لحكمه إنما يستلزم
قصورها موضوعا وتخصصا في مورد التخصيص ، لا تخصيصها ، ليدفع بامتناع تخصيص الحكم
العقلي ، كما يظهر منه قدّس سرّه في المقام.
نعم ، لما كان
عموم رفع القلم ونحوه شرعيا أمكن تخصيصه في بعض الموارد. إلا أنه يحتاج إلى دليل
خاص ، وهو خارج عن محل الكلام.
ثم إنه قد حكى في
التقريرات عن المحقق التقي في حاشيته على المعالم أن المقدمات المفوتة واجبة بوجوب
أصلي وإن كانت الحكمة الباعثة على تعلق الطلب بها تحصيل ملاك الواجب في الوقت
بلحاظ أنها توصل للواجب المذكور ، حيث يكون بسببها مقدورا عليه قابلا لأن يكلف به.
ولا يخفى رجوع ذلك
إلى الوجه الثاني الذي ذكرناه في تعقيب كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه. غايته أنه لم
يصرح باستكشافه بطريق العقل.
فإن كان مراده ذلك
بالتقريب المتقدم اتجه عليه ما سبق من توقفه على أهمية ملاك التكليف الموقت ، ولا
بد في إحرازها من دليل خاص.
وإن كان مراده
مجرد توجيهه في ظرف وقوعه لم ينفع في إثبات وقوعه واحتاج للدليل الخاص.
على أنه ذكر أن
التكليف المذكور يستتبع العقاب ، وان عدّه غيريا محل تأمل ، بل لا يبعد كونه
نفسيا. وظاهره أن مخالفته تقتضي العقاب عليها ، لا على فوت الواجب الموقت المسبب
عنها. وهو مخالف للمرتكزات العقلائية التي هي المرجع في العقاب والثواب ، بل
الظاهر أن ترك المقدمات المفوتة كترك
بقية المقدمات لا
يكون مردا للعقاب إلا بلحاظ أدائه لترك ذي المقدمة الذي هو مورد الملاك والغرض
الأصلي.
ومن ثمّ يكون كلام
بعض الأعاظم قدّس سرّه من هذه الجهة أقرب للمرتكزات.
الرابع
: ما ذكره سيدنا
الأعظم قدّس سرّه من أن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط وإن
كان مسلما ـ لما سبق من تبعية وجوبها لوجوبه وأنه في طوله ـ إلا أن ذلك إنما يقتضي
إناطة وجوب المقدمة بما انيط به وجوب ذيها من دون أن يستلزم اتفاقهما في نحو
الإناطة ، بل يمكن أن يكون الشرط الواحد دخيلا في وجوب ذي المقدمة بنحو الشرط
المتقدم أو المقارن ، وفي وجوب نفس المقدمة بنحو الشرط المتأخر ، ولا ملزم باتحاد
نحو الإناطة في الوجوبين.
ولا يخفى أن نحو
النسبة بين الوجوب النفسي والغيري تابع لجهات ارتكازية غير خاضعة للتصرف الشرعي ،
فإذا أمكن اختلاف نحو الإناطة فيهما بالوجه المذكور فلا وجه لاختصاص ذلك بالمقدمات
المفوتة ، بل يجري في غيرها أيضا.
غايته أن الواجب
خصوص ما يترتب عليه الغرض ، وهو التوصل لذي المقدمة ، فإن اختص بما قبل وقت الواجب
اختص الوجوب به ، وكانت المقدمة مفوتة ، وإن عمّه وغيره ممّا يكون بعد الوقت كان
الواجب هو الأعم ، ويكون وجوبه من قبل الوقت موسعا ، كما هو الحال في كثير من
المقدمات ، وإن اختص بما يكون في الوقت اختص الوجوب به ، كما قد يختص بما يكون بعد
الوقت ، كشروط الواجب المتأخرة عنه ، كغسل المستحاضة الليلي الذي قيل بأنه شرط في
صحة الصوم الواقع منها في النهار.
هذا ، وقد اقتصر
قدّس سرّه في مبحث شروط البراءة الشرعية من حقائقه وكتاب
الصوم من مستمسكه في تقريب هذا
الوجه على ما تقدم.
وحينئذ يشكل : بأن
تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط تبتني ـ كما تقدم ـ على تبعية
الداعوية نحو المقدمة للداعوية نحو ذيها ، بلحاظ أن حدوث الداعي العقلي أو غيره
نحو الشيء يستتبع حدوث الداعي المسانخ له نحو مقدمته.
ومقتضى ذلك
التقارن بين الداعويتين وعدم انفكاك إحداهما عن الاخرى خارجا ، وذلك كما يقتضي
إناطة كل منهما بما يناط به الآخر يقتضي اتفاقهما في نحو الإناطة.
ودعوى : أن كيفية
إناطة التكليف بالشرط تابعة لنحو دخل الشرط في فعلية غرضه ، وحيث كان غرض التكليف
بالمقدمة هو تحصيل ذيها وترتبه عليها ، فإذا كان ترتبه موقوفا على سبق المقدمة على
الشرط تعين وجوبها قبله ، وإن كان وجوب ذيها لا حقا له ، لأن دخله في غرضه وملاكه
يقتضي ذلك.
مدفوعة : بأن ذلك
إنما يفي بتوجيه كون المقدمة الواجبة هي المقدمة السابقة على الشرط ، لأنها هي
التي تفي بالغرض المقتضي لوجوبها ، دون غيرها ، ولا ينهض بتوجيه سبق وجوبها عليه
مع عدم فعلية وجوب ذيها.
لكنه قدّس سرّه
دفع الإشكال المذكور في أوائل فصل الوضوءات المستحبة من مستمسكة ، بأن الشرط للأمر
النفسي ليس هو الوجود الخارجي للأمر المنوط به ، كي لا يكون فعليا قبله ويمتنع
فعلية الأمر الغيري ، بل الوجود الذهني له ، فقبل تحقق الشرط خارجا يكون الأمر
النفسي حاصلا ، لكنه منوط بالشرط ، فلا مانع من أن يكون مثل هذا الأمر المنوط
بالشرط مستتبعا لأمر غيري منوط أيضا
__________________
بذلك الشرط ، لكن
على نحو آخر من الإناطة.
وهو مبتن على ما
تقدم من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من فعلية الواجب المشروط ولو مع عدم فعلية
شرطه ، وأن المنوط بفعلية وجود الشرط خارجا هو فعلية محركيته.
فيرجع ما ذكره
قدّس سرّه إلى أن كلا من الوجوب النفسي والغيري فعلي قبل تحقق الشرط ، والمنوط
بوجود الشرط خارجا هو محركيتهما ، غايته أن اختلافهما في الإناطة بالوجه المتقدم
منه قدّس سرّه يقتضي كون محركية الوجوب النفسي نحو ذي المقدمة مقارنة أو متأخرة عن
وجود الشرط ، لأنه بالإضافة إليها شرط مقارن أو متقدم ، ومحركية الوجوب الغيري نحو
المقدمة سابقة على وجود الشرط ، لأنه بالإضافة إليها شرط متأخر.
ولا فرق بينه وبين
ما تقدم من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في الوجه الثاني ، إلا أن مقتضى هذا
الوجه تبعية محركية الأمر الغيري نحو المقدمة لمحركية الأمر النفسي نحو ذيها في
الاشتراط والاناطة وإن اختلف نحوهما ، بخلاف ذلك الوجه ، حيث يظهر منه عدم إناطة
المحركية نحو مقدمة الواجب المشروط بالشرط أصلا.
ولذا تقدم الإيراد
عليه بأن لازمه فعليه محركية الواجب المشروط نحو مقدمته حتى مع العلم بعدم وجود
الشرط أصلا ، ولا يرد ذلك على هذا الوجه.
نعم ، يرد عليه ـ مضافا
إلى ما تقدم من ضعف المبنى المذكور في الواجب المشروط من فعليته ولو مع عدم تحقق
الشرط ـ أن الجهة الارتكازية القاضية بتبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري
للداعوية نحو ذيها ووجوبه النفسي كما تقتضي التقارن بين الداعويتين والوجوبين
المذكورين ـ على ما تقدم ـ تقتضي التقارن بين محركيتيهما ، حيث تكون محركية
الداعوية والوجوب الغيري في طول محركية الداعوية والوجوب النفسي ، ولا نتعقل
انفكاكها عنها.
وأما ما قد يظهر
منه قدّس سرّه في مبحث شروط البراءة من حقائقه من تقريب إمكان انفكاكها عنها بأنه
لا ريب في أن الوجوب المطلق إذا كان لمتعلقه مقدمات لا يصلح للمحركية إلا بعد فعل
المقدمات ، والوجوب الغيري له فعلية المحركية إلى تلك المقدمات ، فإذا جاز
اختلافهما في هذا المقدار جاز اختلافهما في غيره.
فهو كما ترى!
لوضوح أن محركية الوجوب الغيري في الوقت للمقدمة فرع محركية الوجوب النفسي لذيها
وفي طولها ، لأن الإتيان به إنما يكون من طريقها ، والإتيان بها جري للإتيان به
وشروع في امتثال أمره ، الذي هو فرع محركيته ، فلا انفكاك بين محركيتيهما.
ولا وجه مع ذلك
لقياسه بالمقام المفروض فيه فعلية المحركية نحو المقدمة ، مع عدم محركية ذيها ،
لكون المحركية لها سابقة على وجود الشرط والمحركية لذيها لا حقة له ، لاختلاف نحو
إناطتهما به.
ومن هنا كان
الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدّس سرّه في دفع الإشكال وإن حاول تتميمه في كلماته المتفرقة
المشار إليها. فلاحظ.
الخامس
: ما ذكره بعض المعاصرين في اصوله متمما به الوجه الذي نسبه
لشيخه بعض المحققين قدّس سرّه الذي لا مجال لإطالة الكلام فيه ، لعدم دخله في دفع
الإشكال ، وإنما يتكفل بحله المتمم المذكور.
وحاصله : أن الأمر
بالواجب قبل وقته وإن لم يكن فعليا إلا ان عدم فعليته ليس لدخل الوقت في مصلحة
الواجب وملاكه ، بل للمانع ، بلحاظ استلزام البعث للانبعاث ، فمع امتناع البعث نحو
الواجب ، لعدم حضور وقته يمتنع البعث نحوه ، وإن تمّ ملاكه ، وحيث كان المانع
مفقودا في المقدمة ، لفرض حضور وقتها فيمكن الانبعاث نحوها تعين فعلية البعث نحوها
وثبوت الأمر
بها. من دون أن
ينافي كبرى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ، لأن الكبرى
المذكورة إنما تمنع من فعلية وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها في ظرف عدم تمامية ملاك
وجوب ذيها ، لا مع تمامية ملاكه ووجود المانع من فعلية البعث نحوه.
ومرجع ما ذكره
قدّس سرّه إلى أن وجوب المقدمة لا يتبع وجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ، وإنما
يتبع تمامية ملاك وجوبه فيهما وإن لم يكن وجوبه فعليا لمانع خارجي ، كعدم حضور
وقته.
لكنه ـ لو تم ـ لا
يفي بدفع الإشكال ، إذ هو ـ مع ابتنائه على عدم دخل الوقت في ملاك الواجب ، وهو
يحتاج للإثبات بعد فرض قصور إطلاق الأمر عن إثبات فعليته قبل الوقت ، لامتناعها ـ إنما
يدفع الإشكال في المقدمات التي يمكن الإتيان بها بعد تمامية ملاك الواجب النفسي
قبل فعليه وجوبه ، ولا يمكن الاتيان بها بعد فعلية وجوبه ، دون المقدمات التي لا
يمكن الإتيان بها إلا قبل تمامية ملاك الواجب النفسي ، لعدم تمامية موضوعه ، كما
لو علم بتعذر شراء الدواء للمريض إلا قبل مرضه أو تعذر شراء الطعام للضيف إلا قبل
مجيئه ، مع العلم بأنه سوف يتحقق المرض وسوف يأتي الضيف.
فلعل الأولى توجيه
وجوب المقدمات المفوتة بما ذكره غير واحد ...
وحاصله : أن العقل
كما يحكم بوجوب امتثال التكليف الفعلي في وقته يحكم بكونه منشأ للمسئولية على
المكلف قبل وقته بنحو يقبح منه تعجيز نفسه عن امتثاله ، لقبح تفويت غرض المولى
الفعلي في وقته ، والعجز إنما يكون عذرا عقلا إذا لم يستند للمكلف. فللتكليف
والغرض قبل الوقت نحو من الداعوية العقلية تقتضي حفظ القدرة عليه ، كما يكونان في
الوقت موضوعين الداعوية العقلية للامتثال.
ويكفي في استيضاح
ما ذكرنا الرجوع للمرتكزات العقلية والعقلائية في
التكاليف الشرعية
العرفية.
وعليه تبتني
منجزية العلم الاجمالي في التدريجات فإن طرف العلم الإجمالي المتأخر لو لم يكن
مستتبعا لنحو من الداعوية لم يصلح العلم الإجمالي للتنجيز ، بل يكون كما لو خرج
بعض أطراف العلم الاجمالي عن الابتلاء ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
هذا ، ولا مجال
للاستشهاد بذلك على فعلية التكليف قبل الوقت ، على مسلك صاحب الفصول وشيخنا الأعظم
قدّس سرّه في الواجب المعلق والمشروط ، أو على مسلك بعض الأعيان المحققين وسيدنا
الأعظم قدّس سرّه المشار إليه آنفا في الواجب المشروط. لعدم الملزم بانحصار
الداعوية العقلية لحفظ المكلف به ومورد الغرض بحال فعلية التكليف.
كيف والجهة
المذكورة تجري حتى مع العلم بعدم توجه صاحب التكليف والغرض لحدوثهما في الوقت
اللاحق ، فلو علم زيد من حال صديقه ـ مثلا ـ أنه سوف يتعلق غرضه وطلبه بفعل شيء ما
، لم يحسن منه بمقتضى حقوق الصداقة بينهما تعجيز نفسه عن ذلك الشيء وإن كان الصديق
حال التعجيز غافلا عن تعلق غرضه في المستقبل بذلك الشيء ، بل كان معتقدا عدم تعلق
غرضه به فيما بعد جهلا بحدوث الحاجة له أو بتبدل نظره ، من باب تبدل الاجتهاد أو
الذوق.
حيث لا مجال مع
ذلك لتوهم سبق وجود تكليف معلق أو مشروط منه ، كي يدعى أن له نحوا من الفعلية وأن
الداعوية العقلية لعدم التعجيز ناشئة منها.
ومنه يظهر أن
الداعوية لفعل المقدمة قبل الوقت ليست أصلية نفسية ـ كما تقدم عن المحقق التقي ـ ولا
متفرعة على الداعوية لامتثال التكليف النفسي ، تبعا لفعليته قبل الوقت ـ لتبتني
على الواجب المعلق أو ما يرجع إليه من دعوى رجوع القيد للمادة ، أو على فعلية
التكليف المشروط قبل الوجود
الخارجي لشرطه ـ او
مع البناء على فعليته بعد الوقت ـ ليلزم عدم تقارن الدّاعويتين ـ بل هي متفرعة على
داعوية التكليف والغرض الفعلي المتأخر لحفظه قبل وقته ، وكونه منشأ للمسئولية
بالوجه المتقدم ، فالداعويتان متقارنتان مع تفرع داعوية المقدمة على الداعوية
النفسية وعدم استقلالها عنها.
وبالجملة : لا ريب
في ثبوت الداعوية العقلية بالوجه المذكور المستلزم لمنع العقل من تعجيز العبد نفسه
قبل وقته عن امتثاله بعده ، واستتباع ذلك ثبوت الداعي العقلي نحو المقدمة بنحو
يقتضي حفظ التكليف والغرض بفعلها ، واستحقاق العقاب مع العجز عن الامتثال بتركها ،
وإن كان العجز المذكور مانعا من توجه التكليف في الوقت ، لامتناع تكليف العاجز
وتوجيه الخطاب إليه.
فليس العقاب في
المقام على مخالفة التكليف بعد ثبوته ، بل على التفريط فيه وتفويت ملاكه ، كما صرح
بذلك في التقريرات ـ مدعيا أنه قد يظهر من بعضهم ـ وعبر عنه بالمعصية الحكمية ، في
مقابل المعصية الحقيقية التي هي عبارة عن مخالفة التكليف بعد ثبوته.
وإن كان ذلك لا
يناسب مبناه من رجوع الشرط للمادة والواجب ، لا للوجوب ، وما صرح به في المقام من
أن الوجوب فعلي قبل تحقق الشرط ، لأن لازم ذلك كون التعجيز معصية حقيقة ومخالفة
للتكليف بعد ثبوته ، كالتعجيز عن المقدمة بعد دخول الوقت.
وهو أمر راجع
لاضطراب مبناه في الواجب المشروط ، لا لعدم تمامية ما ذكره وأوضحناه هنا.
نعم ، في كفاية
ذلك في ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة لمحض ملازمة وجوب الشيء لوجوب مقدمته ـ لو تمت
ـ إشكال ، بل منع ، لأن المسئولية بالواجب والداعوية لحفظه وعدم جواز التعجيز عنه
قبل الوقت ليست شرعية لتستتبع الداعوية الشرعية للمقدمة ، بل عقلية محضة تابعة
لثبوت التكليف
الشرعي وفعلية
الغرض في وقته ، فلا يتحقق معها موضوع الملازمة المدعاة بين وجوب المقدمة ووجوب
ذيها.
وأما دعوى : لزوم
الجعل الشرعي على طبق الداعوية العقلية. فيظهر حالها مما تقدم في دفع الوجه الثالث
الذي سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه.
نعم ، قد يدعى أن
الجهة الارتكازية المقتضية لوجوب المقدمة شرعا تبعا لوجوب ذيها لو تمّت تقتضي أيضا
وجوب المقدمة شرعا في المقام قياسا على الإرادة التكوينية.
لكن حيث تقدم ثبوت
الداعوية ، العقلية في المقام في مورد عدم توجه صاحب الغرض والتكليف قبل الوقت
لهما ، بل اعتقاده بعدمهما المستلزم لعدم طلبه للمقدمة المفوتة لو نبّه إليها ،
فلا مجال لدعوى عموم وجوب المقدمات المفوتة غيريا تبعا لعموم الداعوية العقلية
المدعاة لها ، غاية ما يدعى ثبوت الوجوب الغيري في صورة توجه صاحب الغرض والتكليف
لحدوثهما في وقتهما.
وإن كان تحقيق ذلك
غير مهم ، خصوصا بعد ما سبق من عدم ثبوت ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها رأسا ،
وعدم الأثر له عملا لو ثبت ، وإنما المهم لزوم الإتيان بالمقدمات المفوتة مطلقا
وعدم جواز التفريط بها عقلا ، بنحو يستتبع العقاب على فوت الواجب معه ، وهو ما
يتكفل به الوجه الذي ذكرناه.
ثم إن ما ذكرنا لا
يختص بالمقدمات المفوتة ، بل يجري في نظيرها ، وهو شرط الواجب المتأخر ، كغسل
المستحاضة الليلي الذي قيل بتوقف صحة صوم اليوم السابق عليه ، حيث لا معنى للتكليف
بالواجب بعد فعله وخروج وقته ، لتجب مقدمته المذكورة تبعا لوجوبه ، بل يجب عقلا
الإتيان بها محافظة على تمامية الواجب المأتي به في الوقت ، ليكون به امتثال الأمر
السابق واستيفاء
غرضه الفعلي في
وقته.
كما يجرى أيضا في
المقدمة الموسعة القابلة للتحصيل في الوقت وخارجه ، كالوضوء للصلاة ، فلا مانع من
البناء على داعوية العقل لها قبل الوقت بنحو السعة ، فيتخير المكلف بين المبادرة
إليها وتأخيرها بعد دخول الوقت ، وإن لم يتسن الإتيان بها بداعي الوجوب الغيري لو
فرض عدم ثبوته والظاهر كفاية الداعوية المذكورة في مقربية المقدمة قبل الوقت لو
قصد التوصل بها لامتثال أمر ذيها في وقته واستيفاء غرضه ، وإن لم يقصد بها امتثال
أمرها ، لعدم توقف المقربية على قصد الأمر.
فإذا كانت المقدمة
عبادة وكان المعتبر فيها مطلق التقرب دون المقيد بحال فعلية أمر ذيها اتجه صحتها ،
ولأجله يتعين صحة الإتيان بالوضوء والغسل قبل الوقت للتهيؤ لامتثال أمر الصلاة في
وقتها ، بلا حاجة إلى قصد أمر آخر بها ، كالأمر بالكون على الطهارة أو غيره ، على
ما أوضحناه في مباحث نية الوضوء من شرح منهاج الصالحين ، وتقدم في التنبيه الثاني
من تنبيهات مبحث التعبدي والتوصلى ما ينفع في المقام. فلاحظ.
تنبيه :
ما ذكرناه من عدم
جواز التعجيز عن امتثال التكليف في وقته موقوف على تمامية ملاكه وفعلية غرضه على
تقدير التعجيز ، لعدم أخذ القدرة عليه جزءاً من الموضوع ، وإن توقف عليها فعلية
الخطاب ، لقبح خطاب العاجز ، كما هو مقتضى إطلاق الخطاب بالتكليف معلقا على الشرط
أو الوقت ، على ما أوضحناه في أوائل مبحث التعارض عند الكلام في الفرق بينه وبين
التزاحم وبيان حقيقة التزاحم.
أما لو كانت فعلية
القدرة عليه في الوقت دخيلة في ملاكه ومأخوذة في
موضوعه فلا محذور
في التعجيز قبل الوقت ، حيث لا يتحقق معه موضوع التكليف ويكون مانعا من تمامية
ملاكه وغرضه ، فلا يلزم من التعجيز عنه تفويت ملاك فعلي.
بل قد يجوز
التعجيز في الوقت ، كما لو كان العجز فيه موجبا لارتفاع الموضوع والملاك بعد
ثبوتهما ، حيث لا يقبح عقلا رفع موضوع التكليف وملاكه ، كما لو سافر الصائم فساغ
له الإفطار ، وإنما القبيح تفويت الملاك مع فعليته وتمامية الموضوع ، وهو غير لازم
في الفرض.
ومن هنا يجوز
تعجيز المكلف نفسه عن الحج قبل ملك الزاد والراحلة ، وعن التصرف بالمال الزكوي قبل
حلول الحول.
وعليه يبتني ما
تضمن من النصوص جواز إجناب المكلّف نفسه مع عدم الماء على كلام لا يسعنا استقصاؤه
، بل هو موكول للفقه. فلا مجال لتوهم منافاة ذلك لما ذكرناه هنا في توجيه وجوب
المقدمات المفوتة مطلقا.
خاتمة
ذكرنا في أول
الفصل أن موضوع المسألة في تحرير الاصوليين لها هو مقدمة الواجب ، وأنه يظهر من
مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عموم جهات الكلام فيها المقدمة
المستحب.
وأما مقدمة الحرام
والمكروه فالظاهر مشاركتها لمقدمة الواجب والمستحب في بعض جهات الكلام المتقدمة.
وتوضيح ذلك : أن
الظاهر مشاركة مقدمة الحرام والمكروه لمقدمة الواجب والمستحب في حدوث الداعي للترك
، فكما يكون حدوث الداعي لفعل الشيء مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته
كذلك يكون حدوث الداعي لترك الشيء مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لترك مقدمته.
ويتفرع على ذلك
الكلام في جهات ثلاث تقدّم الكلام في نظيرها ..
الاولى
: الملازمة بين
حرمة الشيء شرعا أو حرمة كراهته لحرمة مقدمة أو كراهتها. والظاهر ابتناؤها على ما
تقدم في مقدمة الواجب ، فإذا كانت الداعوية التبعية لفعل مقدمة الواجب والمستحب
منشأ لمطلوبيتها شرعا تبعا لمطلوبية ذيها فالداعوية التبعية لترك مقدمة الحرام
مستلزمة للنهي عنها شرعا تبعا للنهي عن ذيها ، لعدم الفرق بينهما في الكلام
المتقدم.
الثانية
: تحديد المقدمة
التي هي مورد الداعوية المذكورة. وقد تقدم في مقدمة الواجب أنها خصوص العلة التامة
، وأن مقتضى ذلك وجوب كل جزء من أجزائها بوجوب ضمني ارتباطي ، ومرجعه إلى اختصاص
الوجوب بالمقدمة الموصلة ، إما بقيد الإيصال أو بذاتها.
وأما هنا فحيث فرض
أن الداعي الأصلى يقتضي ترك الشيء ، وكان وجوده مستندا للعلة التامة كان الدعي
المذكور مستتبعا لحدوث الداعي لعدم تمامية العلة. ومرجعه إلى اقتضاء الداعي ترك كل
جزء من أجزاء العلة على البدل ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه في الجملة.
وبعبارة اخرى :
تعلق الأمر والنهي بالمركب تابع لنحو تعلق الغرض به وترتبه عليه ، فحيث كان الغرض
الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفا على وجود تمام أجزائها تعين مطلوبية
الأجزاء بنحو المجموع ، وحيث كان الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب
موقوفا على عدم تماميتها بنحو يكفي في ترتبه عدم وجود بعض أجزائها على البدل تعين
مبغوضية أجزائها بالنحو المذكور ، لا بنحو المجموعية.
وحينئذ فمقتضى
البدلية المذكورة عدم مخالفة الداعي التبعي المذكور إلا بفعل ما ينحصر بتركه عدم
تمامية العلة ، وهو آخر أجزائها لو كانت تدريجية أو ما قبل الآخر إذا كان الآخر
قهري الحصول ، فلا يكون التمرد والمخالفة إلا بفعل
الجزء المذكور.
نظير مخالفة الأمر
الموسع التي لا تتحقق إلا بترك آخر الأفراد الطولية الممكنة ، دون الأفراد الأول ،
فلا يكون المكلف متمردا ومخالفا للتكليف بتركه للواجب الموسع إلا بمضي آخر زمان
يمكن فيه فعل الواجب ، من دون أن يكون مخالفا له بتركه فيما سبق عليه ، وإن كان
ناويا الترك من أول الأمر.
غاية الأمر أن
القصد المذكور موجب للقبح الفاعلي في حقه ، وهو أمر آخر لا يرجع إلى فعلية
المخالفة بالفعل أو الترك.
نعم ، لو كان
الإتيان بالجزء الأول لعلة الحرام بقصد التوصل للحرام فالظاهر تحقق التمرد به
بملاك التجري ، لا بملاك المخالفة.
وأما لو أتى به لا
بقصد التوصل للحرام فلا تمرد به ولا تجري أيضا ، ولو مع العلم بترتب الحرام عليه
بالاختيار للعزم على فعل الحرام بعد تمامية مقدماته ، وإنما يكون العزم المذكور
موجبا للقبح الفاعلي دون الفعلي ، وهو أمر آخر.
ومما ذكرنا يظهر
ضعف ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام من حرمة المقدمة الموصلة في
ظرف الإيصال ـ لا بقيده ـ مطلقا ولو مع عدم قصد التوصل بها للحرام ، نظير ثبوت
الوجوب لمقدمة الواجب.
فإنه يبتني على
حرمة تمام أجزاء العلة في ظرف تماميتها ولو تدريجا. وهو في غير محله ، لأنه حيث
كان يكفي في عدم تحقق المبغوض عدم أي جزء من أجزاء علته بدلا فلا وجه لمبغوضية
تمامها في ظرف اجتماعها ، كما تقدم توضيحه.
نعم ، لو فرض
وجودها دفعة تعين استناد المخالفة والعصيان للكل ، لعدم المرجح بينها بعد صلوح كل
منها لانطباق الوجود البدلي عليه ، لا لمبغوضية الكل بنحو المجموع ، نظير ترك تمام
الأفراد العرضية للواجب البدلي ، فإنه إنما
يقتضي المخالفة
بترك الكل لعدم المرجح بينها في استناد ترك الوجود البدلي المطلوب إليه ، لا
لإرادة الكل بنحو المجموع.
وتظهر الثمرة لذلك
في مثل ما لو توضأ المكلف في حوض مباح ناويا أو عالما بفتح طريق جريان الماء
منه بعد إكمال الوضوء للأرض المغصوبة فعلى القول بحرمة المقدمة الموصلة مطلقا
يتعين بطلان الوضوء لكونه مقدمة إعدادية موصلة للحرام المفروض تحقق بقية أجزاء
علته فيما بعد ، فيكون تمردا ومخالفة للحرمة ويمتنع التقرب به ، وعلى ما ذكرنا يصح
الوضوء ، لعدم التمرد والمخالفة إلا بفعل الجزء الأخير من علة الحرام ، وهو فتح
الطريق من الحوض للأرض المغصوبة ، وإنما يبطل الوضوء إذا كان هو آخر أجزاء العلة ،
لانفتاح الطريق من أول الأمر.
وإلى ما ذكرنا
يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في المقام ، حيث خصا الحرمة بالمقدمة التي
يمتنع معها ترك الحرام.
الثالثة
: تحديد الداعوية
نحو المقدمة.
والظاهر أنه يجري
هنا ما تقدم في مقدمة الواجب من تبعية حكم المقدمة لحكم ذيها في الإطلاق والاشتراط
، وأن المنع قبل وقت الحرام من مقدمته التي ينحصر تركه في وقته بتركها قبل وقته
يبتني على ما تقدم في المقدمات المفوتة ، من دون فرق بين المقامين ، كما يظهر
بالتأمل في الوجوه السابقة.
وبهذا ينتهي
الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله رب العالمين ، ومنه نستمد العون والتوفيق ،
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________________

الفصل الرابع
في مسألة الضد
قد وقع الكلام
بينهم في أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟.
ومرادهم بالضد كل
ما ينافي المأمور به ، بحيث لا يمكن اقترانهما في الخارج ، سواء كان عدميا ، وهو
ترك المأمور به ، الذي يعبر عنه في كلماتهم ب (الضد العام) ، أو وجوديا ، وهو الذي
يعبر عنه ب (الضد الخاص) ، كالصلاة الذي يتعذر معه إزالة النجاسة عن المسجد ، سواء
اريد به كل واحد من الأضداد الخاصّة أم الجامع بينها ، الذي قيل انه قد يعبر عنه
بالضد العام أيضا.
والمراد باقتضائه
له مطلق لا بديته معه ، سواء رجع إلى عينية الأمر بالشيء مع النهي عن ضده أم إلى
جزئيته له ـ كما قد يدعى في الضد العام ـ أم إلى ملازمته له لمقدمية ترك الضد لفعل
المأمور به أو بدونها ، كما يظهر بالنظر في مجموع كلماتهم.
وبلحاظ الأخير صح
لنا عقد المسألة في مباحث الملازمات العقلية ، لأنه هو المهم من جهات الكلام في
المسألة.
وما يظهر من بعض
كلماتهم من التعرض للدلالة اللفظية لا يوجب جعل المسألة من مباحث الألفاظ ، لما هو
المعلوم من عدم اختصاص محل الكلام بما إذا كان الأمر مستفادا من اللفظ ، بل ليس
ذلك منهم إلا لاستكمال البحث في المسألة واستيفاء الاحتمالات فيها مع كون المهم هو
الملازمة التي قد تكون هي
المنشأ للكلام في
الدلالة اللفظية الالتزامية.
هذا ، وينبغي التمهيد
لمحل الكلام بأمرين ..
الأول
: أن محل الكلام في
المقام الضد المستلزم لمعصية الأمر ، لكون الأمر مضيقا يقتضي صرف القدرة الفعلية
لامتثاله وينافيه صرفها في ضده ، دون الموسع الذي لا يقتضي إلا صرف القدرة في بعض
الوقت إليه من دون أن ينافيه صرف القدرة في بعضه الآخر إليه. ووضوح ذلك يغني عن
إطالة الكلام في توجيهه.
الثاني
: حيث كانت نتيجة
المسألة متضمنة لحكم الضد شرعا صح منهم عدها من مسائل الاصول بناء على المعيار
المتقدم للمسألة الاصولية ، إلا أن من الظاهر أن الحرمة المدعاة للضد ليست بنفسها
موردا للأثر العقلي من العقاب بالمخالفة والثواب بالموافقة. حيث لا إشكال ظاهرا في
أنها في طول الأمر بالضد في الغرض والطاعة والمعصية.
ولذا لا يظن من
أحد البناء على استحقاق فاعل المأمور به وتارك ضده لثوابين ولا استحقاق تارك
المأمور به وفاعل ضده لعقابين ، ولذا لا تكون النتيجة المذكورة مهمة في مقام العمل
، نظير ما تقدم في مسألة مقدمة الواجب.
فالظاهر أن ثمرة
المسألة العملية عندهم ـ كما صرح به بعضهم ـ هو امتناع التعبد بالضد والتقرب به ،
فيبطل لو كان عبادة ، بناء على ما يأتي في الفصل السادس إن شاء الله تعالى من
اقتضاء النهي في العبادة الفساد.
لكن الثمرة
المذكورة لا تتوقف على حرمة الضد شرعا ، بل يكفي فيها كونه تمردا على المولى ولو
لم يكن محرما شرعا ، كما يتضح فرضه في ما يأتي.
ومن هنا لا يكون
بحثهم في المسألة عن حرمة الضد مناسبا للثمرة التي حررت لأجلها. ولعل لذلك دخلا في
اضطراب بعض كلماتهم في المقام ، فكان نظر القدماء في إثبات اقتضاء الأمر بالشيء
للنهي عن ضده في بعض الموارد
الى كون فعل الضد
تمردا على المولى ومخالفة لأمره ، لاختلاط ذلك عليهم بالنهي عن الضد ، ونظر
المتأخرين في نفي الاقتضاء في ذلك إلى تحقيق مفهوم الأمر والنهي والتدقيق في
مفادهما ومقتضاهما مع إغفال حال الثمرة التي ذكرناها ، وعمد التنبيه إلى أن نفي
الاقتضاء لا ينافي ترتبها.
ومن هنا كان
المناسب لنا في هذا البحث الجمع بين الأمرين بالبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي
عن ضده وعدمه لمتابعتهم في تحرير محل النزاع ، وعن ترتب الثمرة المذكورة ، لكونه
الغرض المهم من النزاع.
بقي في المقام شيء
، وهو أنه لا بد في ترتب الثمرة المذكورة من أمرين :
أحدهما
: تمامية ملاك
الأمر بالعبادة مع الأمر بالضد ، ليمكن صحتها في نفسها ـ لو لا التمرد على المولى
اللازم منها ـ بالتقرب بقصد أمرها الأصلي أو الترتبي ـ على القول به ـ أو قصد
الملاك المذكور ـ أما لو استلزم فقدها للملاك وخروجها عن الطبيعة المأمور بها ذاتا
فبطلانها لعدم المقتضي لا للمانع وهو كونها ضدا للمأمور به.
وتمييز أحد
الأمرين يبتني على ما يذكر في مبحث التزاحم ويأتي بعض الكلام فيه في مسألة اجتماع
الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
ثانيهما
: التفات المكلف
للجهة الموجبة لكون الفعل تمردا على المولى ، بل يكفي اعتقاده بذلك خطأ ، أما مع
الغافلة عنها فلا يمتنع التقرب بالعمل ولو مع وجودها واقعا ، كما هو ظاهر.
إذا عرفت هذا
فالكلام في تحرير محل النزاع ومورد الثمرة المذكورة يكون في ضمن امور ..
الأمر
الأول : سبق منا في مقدمة
المقصد الثاني في الأوامر والنواهي من مباحث الألفاظ أن الأمر والنهي متقابلان
مفهوما واقتضاء ، فالأمر بالشيء نحو إضافة تقتضي فعله ، والنهي نحو إضافة تقتضي
تركه ، كما أنه تقدم في مقدمة
الأصول عند الكلام
في الفرق بين الحكم الإلزامي والاقتضائي غير الإلزامي أن كلا من الحكمين بسيط له
منشأ انتزاع خاص به ، ولا تركيب في أحدهما.
ومن هنا لا مجال
لدعوى : أن الأمر بالشيء ـ إذا كان إلزاميا ـ مركب من طلبه مع النهي عن تركه ،
بحيث يكون النهي المولوي عن ترك الشيء ـ الذي سبق عنهم التعبير عنه بالضد العام ـ جزءاً
من الأمر به ، فضلا عن أن يكون عينه ، كما قد يدعى في المقام.
نعم ، اقتضاء
الأمر بالشيء لفعله مستلزم لاقتضائه عدم تركه ، للتلازم بينهما ، والمقتضي لأحد
المتلازمين مقتض للآخر. ومرجع ذلك إلى أن عدم الترك مما يقتضيه الأمر في مقام
الامتثال ويدعو إليه عقلا ، لا أن الترك مورد لنهي متحد مع الأمر بالشيء أو جزء
منه ، ولذا لا يفرق في الاقتضاء المذكور بين الأمر الإرشادي والمولوي الإلزامي
وغيره. غايته أن نحو الاقتضاء من حيثية المولوية والإلزام يختلف باختلاف الأمر في
الجهة المذكورة.
كما ظهر مما ذكرنا
أنه لا مجال لدعوى ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن تركه ، لأن الغرض من النهي لما
كان هو الداعوية لعدم الترك فالداعوية المذكورة حاصلة بنفس الأمر ، كما سبق ،
فيكون النهي معه خاليا عن الأثر ولاغيا ، لعدم دخله في ترتب الغرض المطلوب ، بل
يترتب بدونه.
ومن هنا لا مجال
لدعوى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ـ وهو الترك ـ بشيء من الوجوه
المتقدمة ، وإن استوضحها جماعة.
نعم ، حيث كان
الأمر بالشيء مقتضيا عملا لفعله وعدم تركه ـ كما تقدم ـ يكون الترك مخالفة للأمر ،
فإذا كان الأمر مولويا إلزاميا كان الترك معصية للمولى وتمردا عليه ، فلا يمكن
التقرب به ، بل يبطل إذا كان عبادة وإن لم يكن منهيا عنه شرعا ، فإذا وجب الأكل في
نهار شهر رمضان ـ مثلا ـ لخوف ظالم ونحوه فعصى المكلف بتركه ، امتنع منه التقرب
بالصوم الذي هو عبارة عن ترك المفطرات
ومنها الأكل
المذكور ، ونظير ذلك ما لو أمر بترك الشيء ، فإن فعله يكون معصية وتمردا وإن لم
يكن منهيا عنه ، لعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن نقضيه. فإذا وجب ترك الارتماس
، لأنه من المفطرات امتنع التقرب بفعله.
بل لا يبعد جريان
ذلك في الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون والاجتماع
والافتراق ، فإن الأمر بأحدهما وإن لم يقتض النهي عن الآخر ، إلا أن فعل الآخر
يكون عرفا بنفسه مخالفة للآخر وتمردا على الامر ، بحيث يمتنع معه التقرب به منه.
ومجرد التباين بين
ترك المأمور به وفعل الضد المذكور حقيقة لا ينافي ذلك. لأن المعيار في التمرد
والانقياد ونحوهما من الأمور الارتكازية على النظر العرفي دون الدقي.
ومن هنا تترتب في
جميع ما ذكرنا الثمرة المتقدمة لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن لم يكن
الاقتضاء تاما فيها ، لما سبق.
الأمر
الثاني : ربما يدعى اقتضاء
الأمر بالشيء لمجرد ملازمة فعل الشيء لترك ضده ، لدعوى امتناع اختلاف المتلازمين
في الحكم ، فإذا كان الشيء واجبا كان ترك ضده واجبا أيضا ، فيكون فعله منهيا عنه.
لكنه يشكل : ـ مع
ابتنائه على اقتضاء الأمر بترك الشيء النهي عن فعله ، الذي تقدم في الأمر الأول
المنع منه ـ بأن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم لا يقتضي لزوم اتفاقهما فيه بل
لما كان الغرض من جعل الحكم للشيء إحداث الداعي نحوه بلحاظ الملاك المقتضي له ،
فإذا كان الملاك مختصا بأحد المتلازمين فلا وجه لجعل الحكم على الآخر وإن كان
موافقا لحكم ذي الملاك ، بل يكون عبثا.
نعم ، إذا كان كل
منهما موردا للملاك صح جعل الحكم لكل منهما ، حيث يكون أثره تعدد الداعوية وثبوتها
من الجهتين ، نظير تأكيدها بسبب تأكد الحكم
الواحد للموضوع
الواحد الواجد لأكثر من ملاك واحد.
لكنه خارج عن محل
الكلام من اقتضاء مجرد الملازمة بين الشيئين اتفاقهما في الحكم مع قطع النظر عن
اشتراكهما في الملاك.
الأمر
الثالث : ربما يدعى اقتضاء
الأمر بالشيء النهي عن ضده بلحاظ توقف الشيء على عدم ضده ومقدمية عدم الضد له ،
فيستلزم الأمر به الأمر بعدم الضد وتركه ، الملازم لحرمة فعل الضد.
ومرجع ذلك إلى
مقدمات ثلاث ..
الاولى
: مقدمية ترك الضد
لفعل ضده.
الثانية
: ملازمة وجوب
المقدمة لوجوب ذيها.
الثالثة
: اقتضاء وجوب ترك
الشيء لحرمة فعله.
ويظهر بطلان
الثالثة مما تقدم هنا في الأمر الأول ، وبطلان الثانية مما تقدم في الفصل السابق ،
ويأتي الكلام في الأولى إن شاء الله تعالى.
لكن المقدمتين
الأخيرتين إنما يحتاج إليهما لإثبات النهي الشرعي عن الضد أما بلحاظ الثمرة
المتقدمة ـ وهي امتناع التقرب بالضد وبطلانه لو كان عبادة ـ فلا حاجة للمقدمة
الثالثة ، لما سبق في الأمر الأول من أن وجوب ترك الشيء مانع من التقرب بفعله
لكونه تمردا على المولى وإن لم يكن منهيا عنه.
كما لا حاجة
للمقدمة الثانية ، لأن مقدمة الواجب وإن لم تجب شرعا إلا أن وجوب ذيها لما كان
يدعو إليها في طول داعويته إليه فلا مجال بنظر العقلاء للتقرب بمخالفة مقتضى
الداعوية المذكورة ، لرجوعه إلى مخالفة مقتضى الوجوب النفسي المذكور ، فيكون معصية
للمولى وتمردا عليه ، فكيف يتقرب به إليه؟! ، فإذا فرض كون ترك الضد مقدمة لفعل
ضده كان الأمر بالشيء داعيا لترك ضده تبعا ، فيكون فعله مخالفة لمقتضى داعويته
المذكورة.
ويظهر من الفصول
عدم تمامية ذلك بناء على ما تقدم منه ومنا في الفصل
السابق من اختصاص
الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة ، بتقريب : أنه إذا كان ترك الضد مقدمة للواجب ،
كان الواجب الغيري هو تركه الموصل لفعل الواجب ، لا مطلق تركه ، فيكون الحرام ترك
الترك الموصل ، لا فعل الضد وإن كان فعله لازما للترك المذكور ، لأن الترك المذكور
إما أن يكون بالترك غير الموصل أو مع الفعل.
وقد أطال قدّس
سرّه هو ومن بعده الكلام في ذلك نقضا وإبراما بما لا يسع المقام استقصاءه. إلا أنه
حيث ذكرنا أن المعيار في الثمرة ليس على النهي الشرعي ، ليهتم بتحديد موضوعه ، بل
على كون الفعل تمردا على المولى ، فالمرتكزات العرفية والعقلائية حاكمة بما سبق
منا من أن داعوية الواجب النفسي للترك في الفرض موجبة لكون الفعل مخالفة لمقتضى
الداعوية المذكورة وتمردا على المولى فلا يمكن التقرب بالفعل.
ولذا لا ينبغي
التأمل في امتناع التقرب من المتطهر بفعل سبب الحدث ـ كالجماع ـ مع تضيق وقت
الصلاة ، بحيث لا يسع الطهارة لها ، وما ذلك إلا لتوقف الصلاة الواجبة على ترك سبب
الحدث ، فيكون مخالفة لمقتضى وجوبها وتمردا على المولى ، ووضوح ذلك يغني عن إطالة
الكلام فيه.
ومن هنا كان
الظاهر عدم دخل المقدمتين الاوليين في ترتب الثمرة المهمة لمسألة الضد ، وهي
امتناع التقرب بالضد وفساده لو كان عبادة ، بل يكفي فيها المقدمة الاولى وهي
مقدمية ترك الضد لفعل ضده.
ولذا اهتم جماعة
من الأعيان بالكلام فيها وجعلوه من أهم مباحث المسألة ، وهو ما يأتي إن شاء الله
تعالى.
الأمر
الرابع : وقع الكلام بينهم
في توقف وجود الشيء على عدم ضده الراجع لمقدمية عدم الضد للواجب ، وقد أطالوا
الكلام في المقدمية المذكورة وجودا وعدما ، وأصر جماعة على امتناعها ولزوم
المحاذير العقلية منها.
والظاهر أن مجرد
التضاد بين الشيئين بنحو يمتنع اجتماعهما في الوجود لا يقتضي إلا ملازمة وجود
أحدهما لعدم الآخر وتركه ، دون توقفه عليه الذي هو المعيار في المقدمية.
ويظهر من بعض
المحققين قدّس سرّه كفاية ذلك في التوقف والمقدمية ، بدعوى : أن عدم الضد متمم
لقابلية الموضوع للاتصاف بالضد الآخر ، وقابلية الموضوع لعروض الشيء من أجزاء علة
ذلك الشيء التي يتوقف عليها وجوده.
ويدفعه : أن مجرد
امتناع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد لا يستلزم توقف قابلية الموضوع لأحد
الضدين على خلوه عن ضده الآخر في رتبة سابقة عليه ، ليكون عدم الضد من مقدمات ضده
وأجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها ، وإنما يتم ذلك في المانع.
ومحصل الفرق بين
المانع والضد : أن المانع ما يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده ـ بما له من
خصوصية ذاتية وعرضية معتبرة في التأثير ـ في المعلول ، إما لخصوصيته التكوينية ،
كالرطوبة المانعة من تأثير النار للإحراق ، أو لأخذ عدمه في الموضوع شرعا كزوجية
الأمّ المانعة من زوجية بنتها.
من دون فرق بين ما
إذا كان المانع غير ممكن الارتفاع إما لمانعيته مطلقا بحدوثه ، كزوجية البنت
المانعة من زوجية امها ، أو بحدوثه وبقائه مع تعذر ارتفاعه ، كالسور الحصين المانع
من اقتحام العدو للمدينة ، وما إذا كان ممكن الارتفاع ، إما بتأثير المقتضي بأن
يكون المقتضي بحدوثه مؤثرا فيه ورافعا له أولا ثم يكون باستمراره مؤثرا في المعلول
بعد رفعه للمانع ، كالرطوبة المانعة من تأثير النار في أطراف الجسم بمماسته إلا
بعد تجفيفها له مع استمرارها بعد التجفيف أو برافع آخر كغلق الباب المانع من دخول
الحيوان الدار إلا بعد فتح الإنسان له ، وزوجية الأمّ قبل الدخول المانعة من زوجية
بنتها إلا بعد ارتفاعها
بطلاق أو نحوه.
والجامع بين الكل
أن يكون وجود الشيء بنفسه مانعا من تأثير المقتضي في المعلول ، بحيث يستند إليه
عدم تأثير المقتضي حين وجوده ، فإن مقتضى ذلك توقف وجود المعلول على عدم المانع كتوقفه
على وجود المقتضي والشرط وكونه مثلها من أجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها في
رتبة سابقة عليه.
أما الضد فهو لا
يصلح للمانعية من تأثير مقتضي ضده فيه ، لعدم واجديته للخصوصية المناسبة لذلك ،
فلا يكون وجود كل من الضدين مفتقرا لعدم الآخر ، بحيث لا بد من عدم الضد في رتبة
سابقة على وجود ضده ، وإن امتنع اجتماعهما في الوجود ، إما للتنافر بين مقتضاهما
بنحو يلزم من وجود مقتضي كل منهما عدم المقتضي للآخر ، كالصلاة وإزالة النجاسة ،
حيث لا يعقل تعلق الارادة بكل منهما التي هي من سنخ المقتضي لهما بعد فرض قصور
القدرة عن الجميع بينهما ، فيستند عدم كل منهما في ظرف وجود الآخر لعدم المقتضي له
، لا لمانعية وجود الآخر من تأثير مقتضيه فيه.
أو لمانعية مقتضي
أحدهما من تأثير مقتضي الآخر كحركة الثوب المستندة للهواء وسكونه المستند جاذبية
الأرض ، فمع حدوث الهواء المقتضي للحركة لا يستند عدم السكون لعدم المقتضي ، لبقاء
قوة الجاذبية معه وإن كانت مغلوبة له ، بل لوجود الهواء المقتضي للحركة ، حيث يكون
هو المانع من تأثير الجاذبية في السكون ، فيستند عدم السكون إليه لا لعدم المقتضي
ولا للحركة ، كما أنه مع عدم الهواء يستند السكون للجاذبية من دون دخل لعدم الحركة
، فليس كل من الحركة والسكون مانعا من الآخر.
ومما ذكرنا يظهر
أن قابلية الموضوع للعارض التي هي من أجزاء علته إنما تكون بخلوه عن الموانع التي
يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه ، لا بخلوه
عن الأضداد حيث لا
وجه لجعله من أجزائها بعد عدم دخله في تأثير المقتضي ، لعدم مانعية وجود الأضداد
من تأثيره ، وإن كانت منافية للعارض ، بحيث لا تجتمع معه في الخارج ولا يسعهما
الموضوع في وقت واحد.
هذا ، وحيث تقدم
أن المعيار في التضاد بين الشيئين مجرد عدم اجتماعهما في الوجود ، وأن ذلك بنفسه
لا يقتضي توقف أحدهما على عدم الآخر ، ومقدمية عدمه له الذي هو محل الكلام ، بل لا
بد فيه من مانعية أحد الأمرين من تأثير مقتضي الآخر فيه ـ الذي لا بد في إحرازه من
الرجوع الصالحة لإثباته ـ وهو خارج عن محل الكلام ، تكون دعوى مانعية أحد الضدين
للآخر خلفا لا يحتاج في بطلانها للاستدلال.
لكن قد اهتم غير
واحد في امتناع مانعية أحد الضدين للآخر وعدمه وقد يقرب الامتناع بدعوى استلزام
المانعية للدور.
ولعل الأولى في
تقريبه أن يقال : كما يستند وجود الشيء لعدم المانع بحيث يكون من مقدماته ، كذلك
يستند عدمه لوجود المانع بحيث يكون من مقدماته ، فإذا كان كل من الضدين مانعا من
الآخر ، فكما يلزم استناد وجود كل من الضدين لعدم الآخر ومقدميته له ، بملاك عليّة
عدم المانع للمعلول ومقدميّته له ، كذلك يلزم استناد عدم كل منهما لوجود الآخر
ومقدميته له ، بملاك عليه وجود المانع لعدم المعلول ومقدميته له. فيكون عدم الصلاة
ـ مثلا ـ مقدمة لإزالة النجاسة ، لمقدمية عدم المانع للمعلول ، كما تكون الإزالة
مقدمة لعدم الصلاة ، لمقدمية المانع لعدم المعلول ، وهو دور واضح.
وقد حاول غير واحد
دفع ذلك ، والمستفاد منهم في دفعه وجوه ..
أولها
: ما ذكره بعض
المحققين قدّس سرّه في تتميم توجيه ما سبق منه في تقريب التمانع بين الضدين ، بأن
قابلية المحل من أجزاء العلة ، من أن العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، ليتصور
شرطية شيء له ، فلا منشأ للمقدمية من جانب العدم ،
بل يختص التوقف
بالوجود ، فلا دور.
ويشكل : بأن عدم
احتياج العدم إلى فاعل وإن كان مسلما ، إلا أنّه يحتاج الى قابل بالمعنى المتقدم ،
إذ لا إشكال في توقفه على عدم تمامية علة الوجود ، لأن العلة المذكورة رافعة للعدم
ومانعة منه بلا إشكال ، فيكون عدمها متمما لقابلية المحل له ، نظير رافعية وجود
المانع للوجود الموجبة لعلية عدمه له ، فإذا كان عدم المانع من أجزاء علة الوجود
كان وجوده مؤثرا للعدم ومقدمة له.
ثم إنه قدّس سرّه
قد أطال في تتميم مدعاه وتحقيقه والكلام في ترتب الثمرة عليه بما لا يسع المقام
استقصاءه ويضيق الصدر عن متابعته فيه وتعقيبه.
ثانيها : ما عن
المحقق الخونساري قدّس سرّه من أن عدم الضد مستند إلى عدم تمامية علته بعدم أي جزء
منها ، ولا يتوقف على وجود المانع الذي فرض أن منه الضد.
نعم لو وجد تمام
أجزاء العلة غير عدم المانع اتجه توقف عدم الضد حينئذ. على وجود المانع المفروض أن
منه الضد ، لانحصار عدم تمامية العلة به حينئذ ، لكن فرض تمامية أجزاء العلة غير
عدم الضد قد يكون محالا.
وما ذكره من
احتمال محالية الغرض المذكور قد يرجع الى ما يأتي في الوجه الثالث.
وأما ما ذكره من
عدم توقف وجود الضد على وجود المانع ، بل يكفي فيه عدم تمامية بقية أجزاء العلة
فيشكل : بأنه لا يعتبر في توجه محذور الدور التوقف من الطرفين ، لانحصار علة كل
منهما بالآخر ، بل يكفي فعلية الاستناد إليه لأنه أحد أفراد العلة ، لأن علة
الوجود إذا كانت مركبة والشرط وعدم المانع كان ارتفاع كل منها علة للعدم ، فمع
ارتفاع الكل ـ بعدم المقتضي والشرط ووجود المانع ـ يستند العدم للكل ، ومنه وجود
المانع ، لعدم المرجح. إلا أن يدعى وجود المرجح لما يأتي الكلام فيه.
لكنه ـ لو تم ـ فعدم
فعلية استناد العدم لوجود المانع لا ينافي كونه في مرتبة علة العدم ومتقدما عليه ،
فإذا كان المانع هو الضد كان متقدما رتبة على عدم ضده فيستحيل توقفه على العدم
المذكور ، لاستلزام تقدم المتأخر ، وهو لا يقصر عن محذور الدور. وإلى هذا أشار
المحقق الخراساني قدّس سرّه بامتناع توقف الشيء على ما يصلح لأن يتوقف عليه.
ثالثها
: أن عدم الشيء وإن
كان يكفي فيه عدم تمامية أجزاء علته ولو بتخلف بعضها ، إلا أن استناده الى كل جزء
منها ليس في عرض واحد ، كي يلزم عدم الجميع الاستناد لعدم الكل ، بل استناده بعضها
متقدم رتبة على استناده للآخر ، فهو في الرتبة الأولى يستند لعدم المقتضي ، فإن
وجد المقتضي استند لعدم الشرط الوجودي ، فإن وجد أيضا استند لوجود المانع ، ولا
يستند لوجود المانع في ظرف عدم المقتضي أو الشرط. ولذا يستهجن عرفا تعليل عدم
الإحراق ـ مثلا ـ مع عدم النار ، أو عدم قربها من الجسم برطوبة الجسم.
وحينئذ فكون كل من
الضدين مانعا من الآخر إنما يقتضي استناد وجود الضد لعدم ضده ، لأنه من أجزاء علته
، ولا يقتضي استناد عدم الضد لوجود ضده ، بل في فرض عدم مقتضي الضد الآخر أو عدم
شرطه يستند عدمه لهما ، في فرض وجودهما يمتنع وجود الضد الأول ، لامتناع وجود
مقتضى الضدين مع أقوائية كل منهما وسائر شروط تأثيرهما الوجودية ـ كالقدرة في
الأفعال الاختيارية ـ بل لا بد من ارتفاع مقتضي أحدهما أو ارتفاع شرطه الملازم
لارتفاعه ، فيوجد الضد الآخر ، ولا يستند عدمه لوجود الضد في حال. وربما يحمل على
ذلك كلام الخونساري ، وإن كان ظاهره ما تقدم.
ويشكل .. أولا :
بما عرفت في سابقه من أن عدم فعلية استناد عدم الضد لوجود ضده لا ينافي تقدم وجود
ضده عليه رتبة بعد فرض مانعيته وكون العدم المذكور من أجزاء علة الوجود ، فيلزم
تقدم المتأخر.
ثانيا
: بأن الترتب
المذكور غير ظاهربعد كون الخصوصية الذاتية في المانع الموجبة لسد باب الوجود من
جهته غير تابعة لوجود المقتضي والشرط. ومجرد الترتب في نسبة العدم عرفا لا يكفي في
مثل ذلك من الأمور الواقعية المدركة للعقل. فتأمل.
ثالثا
: أنه إذا فرض
امتناع استناد عدم الضد إلى وجود ضده ، فكيف يمكن الجزم بمانعية الضد ، لأن مانعية
الشيء في التكوينيات منتزعة من خصوصيته الذاتية المقتضية لاستناد العدم اليه مطلقا
، أو في ظرف وجود المقتضي والشرط ، على الكلام المتقدم ، والخصوصية المذكورة إنما
تدرك بطريق فعلية الاستناد ، فإذا فرض عدم فعليته فلا طريق إلى إدراك الخصوصية
المذكورة.
بل فرض امتناع
بقاء الضد حال وجود مقتضي ضده الآخر وشرطه ـ لما تقدم ـ مساوق لفرض عدم مانعيته ،
إذ لا معنى لمانعية الشيء للمقتضي الذي لا يجتمع معه ، لوضوح أن المانعية نحو من
المزاحمة المتفرعة على اجتماع المتزاحمين ، وفرض عدم اجتماعهما بالضرورة مساوق
لفرض عدم التزاحم بينهما.
وقد أشار إلى ذلك
في الجملة في التقريرات والكفاية ، بل ساق بعض الأعاظم قدّس سرّه ذلك في الجملة
دليلا على عدم التمانع بين الضدين. فراجع.
ورابعا
: بأن مانعية الضد
بالنحو المذكور ـ لو تمت ـ لا تصحح التكليف الغيري بعدمه ولا الداعوية الغيرية له
عقلا بنحو يكون فعله مخالفة لمقتضى الأمر وتمردا على الامر لتترتب الثمرة المهمة
للمسألة ، إذ المفروض أنه مع عدم المقتضي والشرط يستند العدم إليه لا لوجود الضد ،
فلا منشأ للتكليف والداعوية الغيريين بعدمه ، ومع وجودهما لا وجود للضد ، فلا
يستند إليه عدم ضده المأمور ، كي يدعو الأمر بالضد لعدمه.
رابعها
: ما عن المحقق
الخونساري قدّس سرّه من الفرق بين الضد الموجود ، فيتوقف ضده على عدمه ، والمعدوم
، فلا يتوقف ضده على عدمه. وصريح كلامه أن ذلك ليس لخصوصية في الضد ، بل هو الحال
في كل مانع ، فالمعلول إنما يتوقف على عدم المانع إذا كان المانع موجودا ، ولا
يتوقف عليه إذا كان معدوما.
قال في محكي كلامه
ـ بعد أن دفع الدور بما سبق ـ «وهنا كلام آخر ، وهو أنه يجوز أن يقال : إن المانع
إذا كان موجودا فعدمه مما يتوقف عليه وجود الشيء ، أما إذا كان معدوما فلا ...
وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور إن حمل كلامه على ظاهره أيضا ...».
قال في التقريرات
: «وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل : هو أنه إذا فرضنا اشتغال المحل بوجود
أحد الأضداد ، كالسواد مثلا ، كان وجود الآخر ـ كالبياض ـ موقوفا على ارتفاع
الموجود ، لمكان التضاد. وأما وجود السواد في ذلك المحل لم يكن موقوفا على عدم
البياض ، لأن هذا العدم سابق على علة السواد ومقارن لها ، فلا توقف من الطرف الآخر
، فلا دور».
أقول
: ليس منشأ الدور
هو لزوم توقف كل من الضدين على عدم الآخر ، كي يرتفع بالتفصيل بين الموجود
والمعدوم ، بدعوى : أن عدم المعدوم لا يتوقف عليه الموجود ، لحصوله ، بل منشؤه
لزوم عليّة وجود الضد لعدم ضده ، لما تقدم من استناد عدم الشيء لوجود مانعة ، وهو
لا يرتفع بالتفصيل المذكور ، فإن عدم توقف السواد حال وجوده على عدم البياض وغيره
من الأضداد المفقودة لا ينافي علية البياض لعدم السواد الموجود ، بملاك علية
المانع لعدم المعلول ، فتوقف البياض على عدم السواد مستلزم للدور.
ودعوى : أن السواد
الموجود إذا لم يتوقف على عدم البياض المعدوم لم يكن وجود ذلك البياض علة لعدم
السواد ، لأن علة العدم إنما هي نقيض علة
الوجود.
مدفوعة : بأنه لم
يفرض في كلام المحقق المذكور خروج المانع المعدوم عن كونه مانعا وعن كون عدمه من
أجزاء العلة ، بل مجرد عدم فعلية توقف وجود المعلول الموجود على عدمه ، لتحقق
العدم المذكور. وإلا فالخصوصية الذاتية بين المانع والممنوع لا تتوقف على وجود
الممنوع قطعا.
وكيف كان ، فلا
ينبغي التأمل في بطلان التفصيل المذكور ، فإن عدم المانع لما كان من أجزاء العلة
فلا يفرق في افتقار المعلول إليه وتوقفه عليه بين تحققه وعدمه. قال في التقريرات :
«الفرق بين حالة وجود الضد وحالة عدمه والتزام التوقف في الأول دون الثاني مما لا
سبيل إليه ، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلا في الثاني ، ولا معنى
لمنع التوقف في المقدمات الحاصلة».
نعم ، قد يدعى أنه
مع تحققه لا مجال للتكليف به غيريا تبعا لوجوب المعلول نفسيا ، لأنه طلب الحاصل.
لكنه ـ مع خروجه
عن محل الكلام من التوقف والاستناد الذي هو منشأ لزوم الدور ـ إنما يتم مع تعذر
ارتفاعه بعد حدوثه ، أما مع عدم تعذره فيتعين التكليف غيريا بالمحافظة عليه ،
كسائر المقدمات الموجودة.
هذا ما تيسر لنا
الكلام فيه من الوجوه المذكورة في كلماتهم للتخلص من محذور الدور الموجه على دعوى
التمانع بين الضدين. وقد يظهر عدم تماميتها.
بقى
فى المقام شيء ، وهو أنه ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه امتناع مانعية الضد أن عدم
المانع لما كان سابقا رتبة على الممنوع لأنه من أجزاء علته كان وجود المانع سابقا
عليه أيضا ، لأن النقيضين في رتبة واحدة ، فلو كان كل منهما مانعا من الآخر لزم
تقدم كل منهما رتبة على الآخر وهو محال ، بل لا بد من
البناء على أنهما
في رتبة واحدة كنقيضهما ، وقد حكي ذلك عن بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أيضا.
ويشكل : بأن
الملاك في تقدم الشيء على الآخر رتبة خصوصية بينهما مقتضية لذلك ، كالعلية ، ولا
يكفي فيه كون أحدهما في رتبة ما هو متقدم على الآخر ، فالعم لا يكون متقدما على
ابن أخيه رتبة ، وإن كان هو فى رتبة أبيه المتقدم عليه بملاك العلية.
وحينئذ فمجرد كون
الضد في رتبة نقيضه المتقدم على ضده الآخر رتبة بملاك العلية لا يقتضي تقدمه على
الضد الآخر المذكور.
بل كون النقيضين
في رتبة واحدة بمعنى عدم المنشأ لتقدم أحدهما على الآخر مسلم ، وأما بمعنى لزوم
كونهما في رتبة واحدة ، كالعنوانين المتضايفين المنتزعين من منشأ انتزاع واحد ،
فهو مورد لكلام لا مجال لإطالة الكلام فيه.
فالعمدة في منع
التمانع بين الضدين لزوم محذور الدور المتقدم ، وإن تقدم أنّا في غنى عنه بعد ما
سبق منا من ذكر المعيار في المانعية ، وأن مجرد التضاد بين الشيئين والتنافر
بينهما في الخارج بحيث يمتنع اجتماعهما لا يكفي فيها.
الأمر
الخامس : أشرنا في الأمر
الثاني من التمهيد لهذه المسألة الى أن الثمرة المهمة لها هي فساد الضد لو كان
عبادة ، بناء على اقتضاء النهي عن العبادة الفساد.
وقد يظهر من بعض
الأعاظم قدّس سرّه إنكار الثمرة المذكورة ، بدعوى : أن النهي الغيري لا ينافي ثبوت
ملاك الأمر المصحح للتقرب والعبادية ـ على ما يأتي ـ فلا موجب للفساد معه.
وهو مبني على أن
منشأ اقتضاء النهي فى العبادة الفساد هو كشفه عن عدم ملاك الأمر فيها ـ كما ذكره
في تلك المسألة ـ وما ذكرناه يبتني على أن منشأه
امتناع التقرب بما
يكون معصية للمولى وتمردا عليه ، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله
تعالى.
ولذا سبق اختصاص
الثمرة المذكورة بما إذا التفت المكلف لجهة المبعدية المذكورة ، إذ مع الغافلة عنه
لا يمتنع التقرب بالعبادة بخلاف ما لو كان مبنى الثمرة القصور الملاكي ، حيث يبطل
العمل الخالي عن ملاك الأمر مطلقا ، كصلاة الحائض.
ثم إن امتناع
التقرب بالضد مع النهي الغيري المبتني على مانعية الضد ومقدمية عدمه لوجود ضده
المأمور به مما لا إشكال فيه ، بل تقدم في الأمر الثالث امتناعه مع فرض المانعية
وإن لم نقل باستلزامها النهي الغيري.
وأما امتناعه مع
النهي التبعي المبتني على محض الملازمة بين فعل الشيء وترك ضده ، الذي سبق الكلام
فيه في الأمر الثاني ، فهو موكول الى نظر القائلين بثبوت هذا النهي ، وأنه هل
يقتضي مبعدية المنهي عنه وامتناع التقرب به أو لا؟ ولا يتيسر لنا النظر فيه بعد ما
سبق منا من المنع عن ثبوت النهي المذكور ، لعدم الموضوع.
هذا ويظهر مما عن
البهائي إنكار الثمرة المذكورة بدعوى : أن الأمر بالضد وإن لم يقتض النهي عن ضده
إلا أنه يستلزم عدم الأمر بضده ، فيمتنع التقرب به ، لأنه فرع الأمر به ، فيبطل لو
كان عبادة ، فبطلان الضد لو كان عبادة لازم مطلقا سواء قيل باقتضاء الأمر بالشيء
النهي عن ضده أم لا.
أقول
: أما امتناع
التقرب بالعبادة ولو مع عدم النهي ، لاستلزام فعلية الأمر بضدها عدم الأمر بها ،
فإن ابتنى استلزام الأمر بضدها عدم الأمر بها على قصور الأمر عنها خطابا وملاكا ،
نظير الصلاة الفاقدة للطهارة ، فلا مجال للبناء عليه ، لأن قصور الأمر المذكور
إنما هو من جهة التزاحم بين الأمرين ، وهو إنما يوجب فعلية الأهم وقصور المهم
خطابا لا ملاكا ، على ما تقدمت الإشارة إليه من بعض
الأعاظم قدّس سرّه
، وأوضحناه عند الكلام في معيار التزاحم من مقدمات مبحث التعارض. فراجع.
وإن ابتنى
الاستلزام المذكور على قصور الأمر بها خطابا مع بقاء الملاك ، مع البناء على توقف
العبادية على قصد الأمر الفعلي فيظهر ضعفه مما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي من
أن معيار العبادية التقرب بقصد ملاك المحبوبية ، وأن قصد الأمر راجع إليه لكشف
الأمر عن الملاك ، فمع فرض ثبوته في المقام يكفي قصده في التقرب المعتبر في
العبادية ما لم يمنع منه وقوع الفعل على نحو التمرد على المولى ، لكونه منهيا عنه
، أو لكون تركه مقدمة لواجب نفسي فعلي ، وهو الذي يرجع إليه الكلام في هذه المسألة
، ولازم ذلك ابتناء بطلان العبادة على الكلام في هذه المسألة.
وأما ما ذكره من
استلزام الأمر بالضد عدم الأمر بضده الآخر فهو يتم في الجملة مع كون الأمر بالضد
الآخر مزاحما له لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، إذ مع فرض فعلية أحدهما
لأهميته بتعين سقوط الآخر وعدم فعليته في عرضه لامتناع التكليف بغير المقدور.
نعم ، وقع الكلام
في إمكان الأمر به في طول الأمر الفعلي المفروض بالأهم بنحو الترتب ، ويأتي تحقيقه
في الأمر السادس إن شاء الله تعالى.
وإنما الإشكال
فيما لو لم يكن الأمر بالضد الآخر مزاحما للأمر الفعلي المفروض ، لإمكان الجمع
بينهما في مقام الامتثال بامتثال الأمر بالضد الآخر بفرد لا يزاحم الضد المأمور به
فعلا ، ما لكونه موسعا ، كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد مع سعة وقت صلاة
الواجبة ، حيث يمكن الجمع بين الامتثالين بتطهير المسجد ثم الصلاة ، أو لكونه
مضيقا ذا فردين فرد مضاد للواجب الفعلي يتعذر جمعه معه وأخر غير مضاد له كما لو
وجبت المبادرة لتطهير المسجد وضاق وقت الغسل للصلاة ، إلا أنه يمكن الغسل تارة :
بنحو يتحقق معه تطهير
المسجد بتكثير ماء
الغسل حتى يجري على الموضع النجس منه فيطهره ، واخرى : بنحو لا يتحقق معه التطهير
بالغسل بالماء القليل.
فقد وقع الكلام
بينهم في مثل ذلك في أن الأمر بالضد الآخر هل يشمل الفرد المزاحم للمأمور به
الفعلي بحيث يمكن قصد امتثال الأمر وإن استلزم عصيان ذلك الأمر ، أو يقصر عنه فلا
يمكن قصد الامتثال به إلا بناء على ثبوت الأمر الترتبى الطولي المشار إليه آنفا ،
ويأتي الكلام فيه.
ويظهر من غير واحد
ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في مسألة تعلق الأمر والنهي بالطبائع والأفراد ،
فعلى الأول ـ الراجع عند بعضهم إلى تعلق الأمر التعيينى بالطبيعة من دون دخل
للخصوصيات الفردية ـ لا مانع من قصد الامتثال بالفرد المزاحم ، لأن قصد الأمر به
ليس لكونه بنفسه مأمورا به كي لا يجتمع مع الأمر الفعلي بضده المزاحم له ، بل
لتعلق الأمر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا ، فمع عدم سقوط الأمر بالطبيعة لعدم
مزاحمته للأمر الفعلي بالضد لإمكان امتثاله بفرد غير مزاحم بتعين إمكان قصد
الامتثال بالفرد المزاحم منها أيضا. أما بناء على الثاني ـ الراجع عند بعضهم الى
تعلق الأمر بالأفراد تخييرا ـ فيتعين سقوط الأمر بالفرد المزاحم واختصاص الأمر
بغيره ، فلا مجال لقصد الامتثال به. هذا ما يظهر من بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم
قدّس سرّه وحكاه بعض الأعاظم قدّس سرّه عن المحقق الثاني قدّس سرّه ، بل قد يظهر
منه جريان غير واحد ممن تأخر عنه من المحققين إليه.
وهو يرجع الى
دعويين ..
الاولى
: تحقق الامتثال
بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالطبائع ، لعدم سقوط أمر الطبيعة بعد فرض
عدم مزاحمته للتكليف الفعلي بالضد وانطباقها على الفرد المزاحم قهرا.
وقد استشكل فيها
بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنها إنما تتم بناء على أن منشأ اعتبار
القدرة في التكليف
هو قبح تكليف العاجز ، حيث يكفي في رفع قبح التكليف بالطبيعة القدرة على فرد منها.
لكن التحقيق
اقتضاء التكليف بنفسه القدرة على متعلقه ، لأن الغرض منه إحداث الداعي للمكلف
لتحريك عضلاته نحو متعلقه باختياره ، وذلك يقتضي لزوم القدرة على المتعلق ،
لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع عقلا ـ لأمر تكويني ـ أو شرعا ـ بسبب المزاحمة
لتكليف فعلي ، كما في المقام ـ ولازم ذلك تقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة ،
وخروج غير المقدور عنها ، وهو الفرد المزاحم في المقام ، فلا يقع امتثالا ، لعدم
انطباق الطبيعة المأمور بها عليه بعد فرض التقييد المذكور.
ويندفع : بأن ذلك
ـ كقبح تكليف العاجز ـ إنما يقتضي اعتبار القدرة وصفا للماهية المكلف بها شرطا
للتكليف ، لا قيدا للماهية المكلف بها ، بحيث يقتضي تحصيصها الى حصتين مقدورة وغير
مقدورة ، ليختص التكليف بالاولى ويقصر عن الثانية ، كما هو الحال في سائر القيود
المأخوذة في المادة ، وحينئذ حيث يكفي في القدرة على الطبيعة القدرة على بعض
أفرادها كفى ذلك في التكليف بها من دون حاجة لتقييدها بالأفراد المقدورة ، فتنطبق
على الفرد المزاحم قهرا أو يمكن قصد امتثال أمرها به بعد فرض فعليته.
نعم ، إنما يتم
ذلك فيما اذا كان عدم التزاحم بين التكليفين مع تعدد أفراد الضد العرضية واختصاص
المزاحمة ببعضها ، نظير ما تقدم في مثال الغسل وتطهير المسجد ، لفعلية القدرة على
الطبيعة ، أما إذا انحصر منشؤه بوجود أفراد طولية ، لكون أمره موسعا ، نظير ما
تقدم في مثال الصلاة والتطهير ، فهو يبتني على إمكان الواجب المعلق ، أما بناء على
امتناعه فالمتعين سقوط التكليف بمزاحمة بعض الأفراد الطولية للضد المكلف به فعلا ،
لعدم فعلية القدرة المصححة للتكليف بها ، لا بلحاظ الفرد المزاحم لتعذره شرعا ،
ولا بلحاظ
الأفراد الاخرى ،
لأنها استقبالية ، لا تكون القدرة عليها مصححة للتكليف على المبنى المذكور المزاحم
ومعه لا موضوع لقصد الامتثال بالفرد.
ومن ثمّ كان
الأولى لبعض الأعاظم قدّس سرّه سلوك ذلك في وجه منع الامتثال به ، لما سبق منه من
منع الواجب المعلق قدّس سرّه ، كما نبه لذلك بعض مشايخنا دامت بركاته.
لكن حيث تقدم منا
في محله إمكانه فلا مجال للتوقف من هذه الجهة في فعلية التكليف بالطبيعة ، وفي
إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم.
الثانية
: تعذر الامتثال
بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالأفراد ـ بالوجه المتقدم ـ حيث لا بد من
سقوط أمره التخييري بالمزاحمة واختصاص الأمر بغيره. والظاهر عدم تماميتها ، لأن
الأمر بالفرد المزاحم لما كان تخييريا على المبنى المذكور لم يكن مزاحما للأمر
الفعلي بالضد ، لأنه إنما يقتضي صرف القدرة للامتثال بأحد الأفراد المفروض عدم
مزاحمة بعضها ، لا بخصوص الفرد المزاحم منها ، بل هو من حيثية الفرد المذكور لا
اقتضائي ، فلا يزاحم الاقتضائي ، وهو الأمر الفعلي بالضد ، فلا وجه لقصور الأمر
التخييري عن الفرد المزاحم.
إن قلت : يلغو
الأمر التخييري بالفرد المزاحم ، لأن أثره العملي هو التخيير عقلا بين فعل الفرد
المذكور وتركه الى البدل ، ومع فرض التكليف الفعلي بالضد المزاحم للضد المذكور لا
مجال للتخيير المذكور ، بل يتعين عقلا امتثال الأمر بالفرد غير المزاحم ، فلا بد
من اختصاص التكليف به. نظير ما لو استلزم الواجب مباحا بالأصل ، حيث لا مجال معه
لبقاء الإباحة وفعليتها ، بدعوى : أنها غير اقتضائية ، فلا تزاحم الوجوب الاقتضائي
، بل لا بد من البناء على لغويتها ، لعدم بقاء اثر العملي ، وهو التخيير العقلي
بين الفعل والترك مع فرض الملازمة المذكورة.
قلت : لا يختص
الأثر العملي للأمر التخييرى بالتخيير عقلا بين الأفراد ، ليلغو مع فرض ارتفاعه
بالمزاحمة ، نظير ما ذكر في ملازمة الواجب للمباح ، بل له أثر آخر ، وهو امتثال
التكليف التخييري بكل من أطراف التخيير وسقوطه به ، ومن الظاهر عدم منافاة هذا
الأثر للأمر الفعلي بالضد المزاحم بوجه ، فلا وجه لارتفاعه به ، وبلحاظه يتعين
بقاء الأمر التخييري على سعته ، ولا يلزم لغويته.
وبالجملة : الأمر
الفعلي بالضد لا ينافي الأمر الموسع بالضد الآخر ، لا من جهة المزاحمة ، لغرض
إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ولا من جهة لزوم اللغوية ، لأن تحقق
الامتثال بالفرد اثر مصحح للأمر التخييري ، فلا وجه لقصوره عن الطرف المزاحم ،
ولازم ذلك إمكان قصد الامتثال حتى لو قيل بتعلق الأوامر بالأفراد.
ولو فرض امتناع
سعة الأمر التخييري للفرد المزاحم للزوم اللغوية تعين امتناع بقاء الطبيعة على
سعتها له بناء على تعلق الأمر بالطبائع أيضا ، لأن الأثر العملي للأمر بالطبيعة
المطلقة ليس إلا السعة العملية أيضا والتخيير العقلي في امتثال الأمر بها وصلوح كل
فرد له ، ومع المزاحمة لا تبقى السعة العملية بالوجه المذكور ، كما لا تبقى مع
الأمر التخييري بتمام أفرادها ، بل يتعين تقييدها بالأفراد المقدورة وتعذر قصد
الامتثال بالفرد المزاحم.
وكيف كان ، فلا
يتم ما سبق منهم من ابتناء إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم على الخلاف في مسألة
تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع والأفراد. بل التحقيق إمكانه مطلقا.
ونظير ذلك يجري في
الأمر الشرعي التخييري ، كالأمر بخصال الكفارة لو كان بعض الأطراف مزاحما لتكليف
فعلي ، حيث يتعين عدم سقوطه ، لعين ما سبق.
وعلى ذلك يختص
سقوط الأمر بالضد مع فعلية الأمر بضده بما إذا كان
مزاحما للأمر
الفعلي المذكور ، لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال.
هذا كله بناء على
عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، بل مجرد سقوط أمره. وأما بناء على اقتضائه
له ففي منافاة النهي المذكور للأمر بالضد مطلقا أو في خصوص صورة المزاحمة ،
لانحصار الضد المأمور به بالفرد المنهي عنه ، أو عدم منافاته له مطلقا ، كلام يأتي
في مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
الأمر
السادس : حيث سبق سقوط
الأمر بالضد في فرض فعليه الأمر بضده مطلقا أو في فرض التزاحم بين الأمر وتعذر
الجمع بينهما في مقام الامتثال فالمتيقن من ذلك سقوطه في الجملة ، بمعنى عدم بقائه
على النحو الذي كان عليه بحسب أصل تشريعه من الإطلاق بنحو يقتضي ثبوته ولزوم امتثاله
ولو مع مخالفة الآخر ، لأنه مناف لفرض فعلية الآخر ولزوم امتثاله.
أما سقوطه مطلقا
فهو محل كلام بينهم ، حيث اشتهر في العصور المتأخرة الكلام في ثبوته بنحو لا يقتضي
معصية الآخر ، بل في طولها وبنحو الترتب بينهما مع فعليته في ظرف فعلية الآخر ،
بحيث يمكن قصد الامتثال بمتعلقه ويصح لو كان عبادة وإن قيل بعدم كفاية قصد الملاك
في التقريب المعتبر في العبادة.
والكلام المذكور
وإن حرر في كلمات المتأخرين في مسألة الضد المفروض فيها التزاحم بين الأمرين تبعا
للتضاد بين متعلقيهما ، إلا أن ملاكه لا يختص بذلك ، بل يجري في النهيين
المتزاحمين تبعا لامتناع ترك متعلقيهما معا ، وفي الأمر والنهي لو فرض التلازم بين
متعلقيهما بحيث لا يمكن فعل متعلق الأمر وترك متعلق النهي. فهو من مباحث التزاحم
بين التكليفين الذي لم يختص في كلامهم بباب يبحث عنه وعن أحكامه بل صار البحث فيه
وفي أحكامه متفرقا في الأبواب المناسبة لكل منها.
إذا عرفت هذا ،
فاعلم انه قد تقرر في محله أنه مع تزاحم التكليفين في مقام الامتثال فمع عدم
المرجح لأحدهما يتخير في امتثال كل منهما ، ومع وجوده يتعين الراجح.
ومرجع ذلك الى
تصرف صاحب التكليف وجاعله مع التفاته في تكليفه بنحو يقتضي ذلك. ويأتي الكلام في
مرجع التخيير مع عدم المرجح.
وأما تعين الراجح
مع وجوده فهو يبتني على بقاء الراجح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف القدرة إلى امتثاله
وإهمال المرجوح ، ولا إشكال معه في امتناع بقاء المرجوح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف
القدرة لامتثاله ولو مع إهمال الراجح ، لتنافي مقتضاهما بعد فرض التزاحم بينهما ،
فيمتنع فعليتهما مع فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما.
وإنما الكلام في
إمكان فعلية المرجوح في الجملة في ظرف فعلية الراجح لكن بنحو لا يصلح لمزاحمته ،
بل بنحو الترتب عليه ، كما قرّبه جماعة من الأعيان أولهم ـ في ما قيل ـ المحقق
الثاني قدّس سرّه ، ثم تبعه كاشف الغطاء ، وتلميذه التقي في حاشية المعالم ،
وأخوه في فصوله وغيرهما ، وشيد ذلك السيد الشيرازي الكبير وأوضحه ، وتبعه جماعة من
أعاظم المتأخرين عنه إلى عصرنا الحاضر ، وصرح بعضهم بامتناعه ، وأنه لا بد من
سقوطه مطلقا بحيث لا يصير فعليا إلا بعد سقوط الراجح بالامتثال أو العصيان ، كما
أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ على ما في التقريرات ـ وشدد النكير على القول
بالترتب ، وتبعه
__________________
المحقق الخراساني
قدّس سرّه.
وقد يوجه الأمر
الترتبي بالمرجوح في ظرف فعلية الأمر بالراجح بما عن التقي في حاشيته على المعالم
، وهو : أن يكون مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر ، بحيث يكون عصيان
الراجح في وقته مستلزما لفعلية المرجوح من أول الأمر ، فيجتمع الأمران في مقام
الفعلية ، الراجح لإطلاقه ، والمرجوح لتحقق شرطه ـ وهو عصيان الراجح ـ في وقته.
أما لو كان مشروطا
بعصيان الراجح بنحو الشرط المتقدم أو المقارن فلا يجتمع الأمران ، إذ لا يكون
المرجوح فعليا إلا في المرتبة المتأخرة عن عصيان الراجح ، وهي مرتبة سقوط الراجح
عن الفعلية.
لكن أصر بعض
الأعاظم قدّس سرّه على كفاية أخذ عصيان الراجح شرطا في فعلية المرجوح بنحو الشرط
المقارن في اجتماع الأمرين ، بدعوى : أن العصيان كالامتثال لا يكون إلا في زمان
ثبوت الحكم وفعليته ، لأنه الموضوع لهما ، كما أن زمان فعلية الحكم هو زمان تحقق
شرطه وتمامية موضوعه ، لا متأخر عنه ، لاستحالة انفكاك الحكم عن موضوعه.
وحينئذ فحيث فرض
كون عصيان الراجح مأخوذا موضوعا للمرجوح وشرطا لفعليته كان زمانه وزمان فعلية
الراجح وزمان فعلية المرجوح واحدا ، ويجتمع الأمران في الزمان المذكور ، وهو كاف
في الترتب.
وفيه : أن التكليف
الراجح وإن كان محفوظا في مرتبة عصيانه ، إلا أنه يسقط في المرتبة المتأخرة عنه ،
والتكليف المرجوح لما كان شرطه المتمم لموضوعه عصيان الراجح كان متأخرا عن العصيان
رتبة. فلا يجتمع التكليفان رتبة ، حيث لا يكون المرجوح فعليا إلا في المرتبة
المتأخرة عن العصيان والتي يسقط فيها الراجح. كما لا يجتمعان زمانا ، لأن زمان
حدوث العصيان هو زمان سقوط الراجح وفعلية المرجوح ، فهما متصلان متعاقبان في
الفعلية ، لا مجتمعان
فيها ، نظير وجوب
الصوم المنتهى بالمغرب وجواز الإفطار الحاصل به ، وانشغال الذمة بالدين الذي ينتهي
بالإبراء وفراغ الذمة منه الحاصل به.
ولو لا ذلك لزم
اجتماع النقيضين في زمان واحد ، لأن زمان حدوث الرافع هو زمان وجود المرفوع ، كما
أن الرافع علة لعدم المرفوع وموضوع له ، فيلزم اجتماع وجود المرفوع وعدمه في زمان
وجود الرافع.
وحينئذ فليس مثل
ذلك منشأ لتوهم التزاحم ، كي يحتاجه في تصحيحه للترتب ، إذ التزاحم بين التكليفين
إنما يكون مع اجتماع مقتضى الداعوية لكل منهما لتمامية شرط فعليته وتعذر الجمع بين
مقتضاهما ، لا مع تعاقب مقتضي الداعوية لكل منهما ، حيث يتعين تأثير كل مقتض في
الداعوية ، لعدم المزاحم له حين وجوده.
وهو أيضا لا ينفع
في ما نحن فيه الذي لأجله قيل بالترتب ، إذ الهم وقوع الضد امتثالا للأمر المرجوح
مع فعلية الأمر الراجح بضده ، إما مع كون الأمر الراجح مستمرا ، كالأمر بتطهير
المسجد المبني على لزوم الإتيان به فورا ففورا ، فعصيانه في كل ان لا ينافي توجهه
في الآن الثاني ، أو مع كون زمان الراجح أوسع منه قليلا بنحو لا يكفي للمرجوح ،
كما لو شرع في الصلاة في زمان يمكن إنقاذ الغريق فيه قبل إكمالها ، بحيث لا يتعذر
بمجرد الشروع فيها ويتعذر بعد إكمالها ، حيث لا إشكال في فعلية الأمر الراجح حين
إرادة امتثال أمر المرجوح وعدم سقوطه بالعصيان بعد ، لفرض سعة وقته.
وأما ما ذكره فهو
إنما ينفع فيما إذا كان الشروع في امتثال المرجوح مقارنا لسقوط الراجح بالعصيان
وإن كان لذلك صورتان :
إحداهما
: ما إذا كان منشؤه
سببية الشروع في المرجوح لعصيان التكليف بالراجح ، ومانعيته من امتثاله ، كما لو
كان مشغولا بصلاة يجب إتمامها ويحرم قطعها ، فبدأ مؤمنا بالسلام عليه الذي هو
مأمور به ذاتا.
وهي خارجة عما نحن
فيه من فرض التزاحم لمجرد التضاد ، لأن التزاحم حينئذ لمانعية المأمور به المرجوح
من المأمور به الراجح زائدا على التضاد بينهما.
على أنه يتعذر
وقوع المرجوح ـ كالسلام على المؤمن ـ امتثالا لأمره ، بناء على ما ذكره قدّس سرّه
لأن الامتثال متأخر رتبة عن حدوث الأمر ، وفي مرتبة الإقدام على المرجوح لا أمر به
، لعدم فعلية العصيان لأمر الراجح ، بل هو في مرتبة متأخرة عن فعل المرجوح.
ثانيتهما
: ما إذا كان
امتثال المرجوح مقارنا صرفا للعصيان من دون أن يكون سببا له ، كما لو وجب على
المكلف أن يكون مسافرا حين طلوع الفجر ، فعصى وصام ذلك النهار.
وفي مثل ذلك كثيرا
ما يتعذر الراجح ـ كالسفر في المثال ـ إن لم يؤت به قبل الوقت اثما ، فيسقط قبل
فعلية أمر المرجوح ، فلا يتعاقبان زمانا ، فضلا عن أن يجتمعا.
نعم ، قد لا يتعذر
، كالأمور القصدية غير المحتاجة إلى مقدمة خارجية ، كنيّة الإقامة للمسافر أو
تركها ، فينفع ما ذكره قدّس سرّه في توجيه تحقق الامتثال مع التعاقب.
لكن كلام الأصحاب
الذي دعاهم لتحرير مسألة الترتب لو شمل ذلك فليس هو المهم في المقام.
ومنه يظهر أنه ليس
من الترتب المهم عند الأصحاب ما إذا وجب السفر على الحاضر أو ترك الإقامة على
المسافر ، ثم وجب عليه الصوم على تقدير عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة. وإن
جعله قدّس سرّه من الترتب بتقريب : أن الصوم والسفر أو ترك الإقامة متضادان ، مع
أنه لا إشكال في وجوب الصوم في فرض عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة ، كما جعل
هذا من شواهد صحة الترتب.
وبما ذكرنا يتضح
أن كلامه إنما ينفع فيها ، لأن عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة في كل ان من
النهار قبل الزوال شرط لوجوب الصوم في ذلك الآن.
كما عرفت خروجها
عن المهم من الترتب الذي هو محل الكلام ، وإنما المهم ما إذا كان عصيان الراجح
شرطا متأخرا لفعلية المرجوح.
نعم ، من يرى
امتناع الشرط المتأخر ـ كبعض الأعاظم قدّس سرّه ـ يمكنه التخلص بفرض كون الشرط المقارن
هو تعقب العصيان المنتزع في الزمن السابق من تحققه في الزمن اللاحق ، حيث لا فرق
عملا بينه وبين كون العصيان بنفسه شرطا متأخرا. فلا بد من النظر في توجيه الأمر
الترتبي معه مع استلزامه التكليف بالضدين.
إذا عرفت هذا ،
فقد يوجه الأمر المذكور بأنه وإن استلزم التكليف بالضدين المفروض تعذر الجمع
بينهما ، إلا أن ذلك حيث كان باختيار المكلّف عصيان الراجح لم يكن محذورا ، لقدرته
على عدم عصيانه فلا يكلف بالمرجوح ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
ويشكل بما ذكره
غير واحد : بأن امتناع التكليف بالضدين وما لا يقدر عليه المكلف لا يختص بما إذا
كان موضوع التكليف خارجا عن اختيار المكلّف ، بل يجري حتى مع كونه باختياره ، لما
تقدم من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي للمكلّف نحو امتثاله ، فمع تعذر امتثاله
يكون التكليف لغوا.
وقاعدة أن
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما تنفع في استحقاق العقاب على ما يستند
تعذره للاختيار ، لا في تصحيح فعلية التكليف بما يستند تعذره للاختيار ، فضلا عن
تصحيحه بمجرد استناد موضوعه له ، كما في المقام.
فالعمدة في دفع
المحذور المذكور ما ذكر في كلام غير واحد ..
وحاصله : أن تعذر
الجمع بين التكليفين في الامتثال إنما يمنع من الجمع
بينهما في مقام
الفعلية بلحاظ اقتضاء كل منهما صرف القدرة لامتثاله وترك امتثال الآخر ، فيتزاحمان
، ولا يصلحان لإحداث الداعي لموافقة مقتضاهما.
وذلك غير لازم مع
الجمع بينهما بنحو الترتب ، لعدم منافاة المرجوح للراجح ، إذ حيث كان مشروطا
بعصيان الراجح فهو لا يقتضي عصيانه ، لأن التكليف لا يقتضي حفظ شرطه ، وإنما يقتضي
امتثاله في فرض تحقق شرطه وفعليته.
كما أن الراجح لا
ينافي المرجوح أيضا ، لأن المرجوح حيث لا يقتضي حفظ نفسه بحفظ شرطه فالراجح لما
كان مقتضيا امتثال نفسه وعدم عصيانه كان مقتضيا لرفع التكليف المرجوح برفع شرطه ،
لا لمخالفته في ظرف فعليته وتحقق شرطه ، كي ينافي مقتضاه.
وبعبارة اخرى :
مجرد فعلية التكليفين مع تعذر امتثالهما لا يكفي في التزاحم بينهما ، بل لا بد فيه
من تنافي مقتضاهما بنحو لا بد معه من مخالفة أحدهما ، فيتزاحمان ، وذلك غير حاصل
في المقام ، لأن المرجوح لا يقتضي صرف القدرة لامتثاله بنحو يستلزم عصيان الراجح ،
لأن التكليف لا يدعو لحفظ شرطه ، والراجح وإن اقتضى صرف القدرة لامتثاله وعدم
موافقة المرجوح ، إلا أن عدم موافقة المرجوح حينئذ ليست مخالفة لمقتضاه ، ولا
عصيانا له ، لارتفاعه تبعا لارتفاع شرطه بامتثال الراجح وعدم عصيانه ، فكل من
التكليفين لا ينافي مقتضى الآخر ولا يقتضى عصيانه.
ولو فرض تحقق
العصيان للراجح وحده أو مع المرجوح فهو مستند لسوء اختيار المكلف من دون أن يكون
مقتضى أحد التكليفين ليلزم التزاحم بينهما المانع من فعليتهما.
وما اشتهر من أن
التكليف المشروط يصير مطلقا بتحقق شرطه ، راجع إلى أنه يصير كالمطلق في فعلية
داعويته تبعا لفعليته بتحقق شرطه ، لا أنه
كالمطلق في إطلاق
داعويته بنحو يقتضي حفظه مطلقا ولو بحفظ شرطه.
ومما ذكرنا يتضح
أن اجتماع التكليفين بالنحو المذكور لا يقتضي الجمع بينهما في مقام الامتثال ،
ليمتنع مع تعذر الجمع المذكور ، بل يقتضي امتثال الراجح مطلقا وامتثال المرجوح عند
عصيان الراجح ، وكل منهما مقدور للمكلف من دون تزاحم بينهما ، فلا وجه لامتناع
اجتماعهما.
ودعوى : أن إطلاق
الراجح يوجب تعذر امتثال المرجوح ، وسلب القدرة عليه شرعا ، فلا مجال لجعله ولو
مقيدا.
مدفوعة : بأن سلب
القدرة على امتثال المرجوح شرعا بسبب الراجح إنما هو لاقتضاء الراجح صرف القدرة
إليه ، فمع فرض عدم تأثيره بسبب مزاحمته بالدواعي الموجبة للعصيان فلا وجه
لمانعيته من التكليف المرجوح مع القدرة التكوينية على امتثاله ، بل يصح جعله
حينئذ.
وإنما امتنع
جعلهما معا بنحو الإطلاق مع القدرة على امتثال كل منهما في ظرف عصيان الآخر ،
لاقتضائهما الجمع في مقام الامتثال المتعذر تكوينا ، فمع فرض عدم اقتضائهما ذلك
لتقييد المرجوح بعصيان الراجح لا وجه لامتناع اجتماعها. بل يلزم جعلهما حينئذ
بالنحو المذكور بعد فرض تمامية ملاك المرجوح المقتضي لوجوب حفظه على المولى بجعل
التكليف مهما أمكن.
وتعذر حفظه مع
تحصيل ملاك الراجح بالامتثال لا يصحح التفريط فيه مع فوته بالعصيان ، بل يلزم حفظه
بجعل الحكم على طبقه ، كما يجب جعله على الإطلاق مع عدم المزاحمة بالراجح.
هذا ، وقد يستشكل
في الترتب بوجهين ..
الأول
: ما ذكره المحقق
الخراساني قدّس سرّه من أن ملاك استحالة جعل التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما في
عرض واحد آت في جعلهما بنحو الترتب ، لأنهما وإن لم يجتمعا في مرتبة التكليف
الراجح ، لتأخر المرجوح عنه رتبة
بسبب أخذ عصيانه
في موضوعه ، إلا أنهما يجتمعان في مرتبة المرجوح. قال في حاشية الرسائل : «لعدم
تقيد تنجز الأول بمرتبة ، بل يعم المراتب ومنها هذه المرتبة».
وفيه .. أولا : أن
الوجود البقائي الاستمراري للشيء لا يكون إلا بالاضافة إلى الزمان تبعا لاستمرار
العلة أو تجددها ، أما بالإضافة إلى المرتبة فلا بقاء ولا استمرار له ، ليكون في
مرتبة ما هو متأخر عنه ، لأن منشأ اختلاف الرتبة في الشيئين والترتب بينهما خصوصية
فيهما تقتضي ذلك ، وهي لا ترتفع عنهما بعد فرض وجودها فيهما ، فلا يعقل ارتفاع
الترتب بين المترتبين طبعا كالعلة والمعلول ، ومنه المقام لأن منشأ الترتب بين
التكليفين أخذ عصيان أحدهما في موضوع الآخر ، وقد سبق أن تحقق شرط التكليف لا
يجعله مطلقا ، بحيث ترتفع إناطته بالشرط وتكون داعويته مطلقة.
وبعبارة اخرى :
منشأ التأخر الرتبي خصوصية في المترتبين غير قابلة للارتفاع ، وهي في المقام أخذ
عصيان الراجح في موضوع المرجوح غير المرتفع بوجود الشرط ، فلا يجتمعان في رتبة
واحدة ، بخلاف منشأ التقدم الزماني ، فإنه ليس إلا وجود علة المتقدم وعدم وجود علة
المتأخر ، ويمكن اختصاص الزمان الأول بذلك ، واجتماع العلتين بعده في الوجود ،
فيجتمع المعلولان زمانا.
وثانيا
: أن محذور اجتماع
التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما ليس هو وجودهما في رتبة واحدة ، ويكون مراد
القائل بالترتب التخلص من المحذور المذكور ، كي ينفع ما ذكره قدّس سرّه ـ لو تم ـ في
دفعه ، بل هو تزاحم التكليفين وتنافي مقتضاهما ، الذي سبق عدم لزومه مع الترتب ،
ولذا لا إشكال في امتناع اجتماعهما مع اختلافهما رتبة بوجه آخر لا يرفع التزاحم ،
كاشتراط أحدهما بالعلم بالآخر أو إطاعته ، فمع ارتفاع محذور التزاحم بالترتب
بالوجه المتقدم
لا يهم ما ذكره
قدّس سرّه من لزوم اجتماعهما في مرتبة وجود المرجوح وفعليته وإن تم.
ولعله لذا تدرّج
في الكفاية من الحديث المتقدم إلى الإصرار على عدم ارتفاع التزاحم بالترتب بما
يظهر اندفاعه مما تقدم. فراجع كلامه وتأمل فيه.
ومن ثم لا يختص
الترتب الذي يندفع به المحذور بما إذا كان شرط المرجوح هو عصيان الراجح بعنوانه ،
ليلزم تأخره عنه رتبة ، بل يكفي فيه كون الشرط عدم تحقق مقتضى الراجح بترك المأمور
به وفعل المنهي عنه ، وإن لم يلزم معه تأخر المرجوح عنه رتبة ، فلا فرق في عدم
مزاحمة الأمر بالصلاة للأمر بإنقاذ الغريق بين كون أمر الصلاة مشروطا بعصيان أمر
الإنقاذ بعنوانه ، ليتأخر رتبة عن الأمر بالإنقاذ ، وكونه مشروطا بعدم الإنقاذ
بنفسه من دون أخذ العصيان ، فلا يتأخر عن الأمر بالإنقاذ.
بل لعل مرادهم
بالاشتراط بالعصيان ذلك ، لا أخذ العصيان بعنوانه ، ويكون هو الوجه في إطلاقهم
الترتب عليه ، لا اختلاف التكليفين رتبة لأخذ أحدهما في موضوع الآخر ، لعدم دخل
ذلك للأثر المهم في المقام.
الثاني
: ما ذكره هو قدّس
سرّه أيضا من أن لازمه استحقاق عقابين في صورة مخالفة كلا التكليفين ، ولا يظن
التزامهم به ، لضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف.
قال : «وكان سيدنا
الاستاذ قدّس سرّه لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنا نورد به على الترتب وكان
بصدد تصحيحه».
لكن أصر غير واحد
ممن يلتزم بالترتب على تعدد العقاب في المقام تبعا لتعدد التكليف وتعدد العصيان ،
وقد وجهه بعض الأعاظم قدّس سرّه بوجهين ..
أولهما
: أن العقاب ليس
ترك الجمع بين الامتثالين المفروض تعذره على المكلف ، بل على الجمع بين العصيانين
، بمعنى أن يعاقب على ترك امتثال كل منهما في حال ترك الآخر ، ومن الظاهر أن ترك
امتثال كل منهما في حال ترك
امتثال الآخر
مقدور للمكلف ، فيعاقب عليه.
وفيه : أن العقاب
إن كان على الجمع بين العصيانين المقدور للمكلف لزم وحدة العقاب ، لأن الجمع أمر
واحد.
مضافا إلى أن
الجمع لا دخل له في غرض المولى ، ولا في تكليفه ، وإنما هو عنوان انتزاعي لكل من
العصيانين المتعلقين بتكليفي المولى.
وإن كان على منشأ
انتزاع الجمع المذكور ، وكل من العصيانين بنفسه المفروض اجتماعه مع الآخر ، بأن
يكون لكل عصيان عقاب يخصه. فالوجه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال ، لوضوح أن العقاب
لا يحسن بمجرد القدرة على المعصية ، بل لا بد فيه من القدرة على الطاعة أيضا ، ومن
الظاهر عدم القدرة على طاعة التكليفين معا.
ومجرد القدرة على
كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في صحة العقاب ، بل لا بد من القدرة المطلقة
على الشيء من تمام الجهات ، فمع العجز من بعض الجهات يتعين قصور العقاب من جهتها ،
والعقاب على قدر الطاقة ، وإلا جرى ذلك في التكليفين المتزاحمين أيضا ، مع ارتكاز
أن امتناع العقاب عليهما معا ليس لمجرد امتناع فعليتهما ذاتا ، لامتناع إحداث
الداعي لغير المقدور ، بل لكونه ظلما أيضا قبيحا بملاك قبح العقاب على ما لا يطاق.
على أن ذلك لو كفى
فلا داعي لدعوى العقاب على الجمع بين العصيانين ، بل يمكن له دعوى أن العقاب على
ترك كل من الامتثالين المفروض كونه مقدورا في نفسه مع قطع النظر عن الآخر.
ثانيهما
: أنه لا يلزم في
جواز تعدد العقاب القدرة على الجمع بين العصيانين ، بل يكفي فيه القدرة على كل
منهما في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر ، فمع فرض تعدد التكليف وعدم الارتباطية بين
التكليفين يكون لكل منهما عصيانه المختص به المقدور في نفسه مع قطع النظر عن
الآخر.
ويظهر اندفاعه مما
تقدم من أن مجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في تعدد العقاب
عليهما مع امتناع الجمع بينهما في مقام الامتثال والعصيان.
اللهم إلا أن يرجع
ما ذكره إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من عدم اعتبار القدرة في العقاب إلا
لتصحيح التكليف.
قال : «بل ضرورة
حسن العقاب على مخالفة التكليف الفعلي تقتضي الالتزام بترتب عقابين بعد ما عرفت من
إمكان التكليف بهما وفرض معصيتهما معا. وقبح العقاب على ما لا يقدر عليه لا أصل له
ما لم يرجع إلى قبح العقاب على ما لا تكليف به ، فلا يكون العقاب عليه عقابا على
المعصية».
لكن يظهر مما سبق
منا في رد الوجه الأول المنع من ذلك ، وأن العقاب إنما يحسن على قدر الطاقة.
نعم ، بعد أن كان
القائلون بالترتب مختلفين في وحدة العقاب ـ كما حكاه المحقق الخراساني قدّس سرّه
عن السيد الشيرازي الكبير قدّس سرّه ـ وتعدده ـ كما تقدم من بعض الأعاظم وسيدنا
الأعظم قدّس سرّه ووافقهما غيرهما ـ يظهر أنه لا مجال للاستدلال على بطلان الترتب
باستلزامه تعدد العقاب ، لأن ذلك إنما يصلح للاستدلال إذا لم يلتزم به القائل
بالترتب ، كما لا يخفى.
ومن هنا فالكلام
في ذلك لا يرجع لتتميم الاستدلال على الترتب ، بل لتحقيق حال التكليف والعقاب في
المقام.
وحينئذ نقول :
كبرى استلزام المعصية للعقاب تقضي بتعدد العقاب مع ثبوت الأمر الترتبي ووحدته مع
عدمه. وحيث كان ثبوت الأمر الترتبي مقتضى كبرى لزوم حفظ الملاك والغرض تشريعا ،
كما تقدم ، وتعدد العقاب مناف لكبرى قبح العقاب على ما لا يطاق ، لزم التدافع بين
الكبريات الثلاث المذكورة الكاشف عن قصور بعضها عن المقام ، وحيث لم تكن الكبريات
المذكورة
مأخوذة من أدلة
لفظية قابلة للتخصيص ، بل هي عقلية وجدانية كشف ذلك عن قصور بعضها في نفسه ، وأن
صيغتها بنحو القضية الكلية الشاملة للمورد في غير محله ناشئ عن اختلاط الأمر على
الوجدان ، بل اللازم الرجوع للوجدان في خصوصيات الموارد والتمييز بينها ، ليتضح
عموم هذه الكبريات لها أو قصورها عنها ، ولا ينبغي سوقها على أنها مسلمة الثبوت
على عمومها. فضلا عن الاحتجاج بها في المورد مع ثبوت الخلاف في عموم كل منها له ،
حيث أنكر جماعة الترتب على خلاف عموم الكبرى الثانية ، والتزم به بعضهم مع وحدة
العقاب على خلاف عموم الاولى ، كما التزم آخرون به مع تعدد العقاب على خلاف عموم
الثالثة.
هذا ، ولا ينبغي
التأمل في إمكان الترتب ولزومه بعد ملاحظة ما تقدم في تقريبه وتوضيحه ، ولا أقل من
جعل مفروض الكلام ثبوته والتسليم به.
كما لا ينبغي
التأمل في عدم تعدد العقاب معه ، بحيث يكون عقاب عاصي التكليفين معا في المقام
كعقاب عاصيهما مع عدم المزاحمة وإمكان الجمع في الامتثال ، فمثلا : لو تعرض للغرق مؤمن
ومستضعف وأشرفا على الخطر ، وكان هناك شخصان أحدهما يستطيع إنقاذ أحد الغريقين لا
غير سباحة ، والآخر يستطيع إنقاذهما معا بسفينة ، فتركاهما حتى غرقا ، فهل يمكن
بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والتأمل فيها دعوى : أن عقاب الشخصين بنحو واحد ،
لاشتراكهما في مخالفة تكليفين ، وإن كان التكليفان ثابتين في حق الأول بنحو الترتب
وفي حق الثاني في عرض واحد.
وأيضا ، فالأمر
الترتبي كما يجري في التكلفين المختلفين في الأهمية كذلك يجري في التكليفين
المتساويين ، غايته أن كلا منهما مشروط بعدم امتثال الآخر ، وحينئذ لو تعرضت للغرق
سفينة تحمل جماعة كثيرة يغرقون بغرقها ، وكان هنا جماعة مختلفوا الطاقة على
انقاذهم ، فبعضهم يستطيع إنقاذهم
بأجمعهم بسفينة
كبيرة ، وأخر يستطيع إنقاذهم نصفهم بسفينة متوسطة ، وثالث يستطيع إنقاذ ربعهم
بسفينة صغيرة ، ورابع يستطيع إنقاذ جماعة قليلة بقارب صغير ، وخامس يستطيع إنقاذ
شخصين منهم بخشبة ، وسادس يستطيع إنقاذ واحد منهم سباحة مثلا ، فهل يمكن البناء
على كون عقاب الكل واحدا لو تكاسلوا وتركوهم حتى غرقوا ، لأنهم تركوا إنقاذ كل
منهم مع تكليفهم بإنقاذه مطلقا أو بشرط ترك إنقاذ غيره المفروض التحقق؟!.
وهكذا ما يشبه
المثالين المذكورين من الأمثلة الكثيرة التي يزيد النظر فيها والتأمل في حالها
استيضاح ما ذكرنا من عدم تعدد العقاب في فرض العجز عن الجمع بين الامتثالين وإن
تعددت المعصية لفعلية كل من التكليفين.
ومن هنا يتعين
البناء على أن العقاب إنما يكون بقدر طاعة المكلف ، فإذا كان التكليفان المتزاحمان
متساويين كان العقاب المستحق بقدر العقاب على واحد منهما ، نظير الأمر التخييري
الذي لا يستحق مع ترك امتثاله بترك تمام الأطراف إلا عقاب واحد ، وإن افترقا بتعدد
التكليف الفعلي والملاك في المقام ووحدتهما في الأمر التخييري على ما سبق في محله.
غايته أن وحدة العقاب هناك لوحدة الغرض ، وهنا لعجز المكلف وقصوره عن استيفاء
الغرضين.
وإن كانا مختلفين
في الأهمية فحيث كان المرجوح مشاركا للراجح في مرتبة من الأهمية ويمتاز الراجح
بمرتبة اخرى ، فبلحاظ ما به الاشتراك يلحقهما حكم المتساويين ، فلا يوجب تركهما
إلا عقابا واحدا مناسبا لتلك المرتبة ، بلحاظ العجز عن استيفائهما معا ، نظير
التكليف التخييري ، على ما تقدم ، وبلحاظ ما به الامتياز يكون الراجح كالواجب
التعييني المستقل يستحق لأجله العقاب ، للقدرة على استيفائه بفعله.
ومرجع ذلك إلى أن
ترك امتثال المرجوح لا يزيد في العقاب الحاصل بترك امتثال الراجح غاية الأمر أن
امتثال المرجوح يوجب تخفيف العقاب
المستحق بعصيان
الراجح ، لما فيه من استيفاء ملاكه المشارك لملاك الراجح في بعض مراتب الأهمية.
والتي ذكرنا أن الحال بالإضافة إليها نظير الواجب التخييري. فيكون عقاب من اقتصر
على عصيان الراجح من دون أن يبتلي بالمرجوح أو مع الابتلاء به وعصيانه أشد من عقاب
من ابتلي بالمرجوح فامتثله بدلا عن الراجح.
فالعقاب في المقام
كالعقاب الحاصل بترك التكليفين غير المتزاحمين إذا كان أحدهما وافيا ببعض ملاك
الآخر ، كالأمر باللبن بملاك كونه شرابا وغذاء ، والأمر بالماء بملاك كونه شرابا ،
حيث لا إشكال في لزوم التكليف بهما بنحو التكليف الترتبي بالضدين ، في كون الراجح
مطلقا والمرجوح مقيدا بعصيان الراجح ، مع خلوهما عن إشكال التكليف بالضدين.
كما لا إشكال في
أنهما لو عصيا معا لم يستحق الا عقاب واحد بقدر عقاب عصيان الراجح ، ولو عصي
الراجح وامتثل المرجوح لم يستحق الا بعض ذلك العقاب بلحاظ ما لم يستوفه المرجوح من
الملاك ، ولا فرق بين ذلك والمقام في كيفية الاستحقاق ارتكازا ، وإن افترقا في أن
وحدة العقاب في ذلك لقصور الملاك ، وفي المقام لقصور المكلف وعجزه عن امتثال
التكليفين ، كما يفترقان في كيفية الملاك للتداخل بين الملاكين في ذلك والتباين
بينهما في المقام ، لأن الفرقين المذكورين كالفرق بين التكليف التخييري الأصلي
والتكليفين المتزاحمين المتساوي الأهمية ، الذي عرفت أنه لا يوجب فرقا في كيفية
استحقاق العقاب.
ومنه يظهر أنه لا
مجال لدعوى كون الخطاب الترتبي المرجوح إرشاديا ، بلحاظ عدم استتباع مخالفته
العقاب زائدا على عقاب مخالفة الراجح ، إذ يكفي في مولويته استتباع موافقته تخفيف
العقاب الواحد اللازم من عصيانهما.
على أن المعيار في
مولوية التكليف ليس هو استتباعه الثواب والعقاب ،
بل صحة إضافة
مؤداه للمولى ، بحيث تكون موافقته لحسابه ولأجله ، لصدوره بداعي جعل السبيل منه ،
حيث لا يتوقف جعل السبيل على العقاب والثواب ، بل يكفي فيه لحاظ حق المولى ،
المستتبع لشكره أو نحوه من دواعي الموافقة ، وذلك لا يجري في الخطابات الإرشادية.
هذا كله حال
العقاب بلحاظ طبيعة الأمرين الترتبيين وبالنظر لملاكيهما. وربما تبتني الإطاعة
والمعصية على خصوصيات أخر تقتضي نحوا آخر.
فقد يبتني ترك
الراجح وموافقة المرجوح على الاستهانة برجحان الراجح وبأهميته شرعا ، كما لو انقذ
المستضعف ، لا لأنه أيسر عليه ، بل لعدم بنائه على أهمية المؤمن وعدم اهتمامه
بعظيم حقه وحرمته ، حيث قد يكون ذلك أشد من تركهما معا تكاسلا عن تحمل مشقة
الإنقاذ واستصعابا له ، مع الإذعان بأهمية الإيمان وحرمة الإسلام.
كما قد يبتني
تركهما معا على الاستهانة بتكليف المولى وعدم احترامه لا على تجنب مشقة الامتثال
والكسل عنه ، حيث يكون البعد عن المولى والتمرد عليه بتركهما معا أشد من البعد
والتمرد بترك الراجح لصعوبته وتجنب مشقته من دون أن يبتلي بالمرجوح. لكن هذا خارج
عن محض الإطاعة والمعصية بما هما الذي هو محل الكلام.
وقد يظهر من جميع
ما تقدم أن الالتزام بوحدة العقاب لا ينافي البناء على ثبوت الأمر الترتبي
بالمرجوح وكونه مولويا ، وأنه لا وجه للمنع منه مع ذلك وبعد عدم مزاحمته للأمر
بالراجح ، ولا سيما مع عدم إباء المرتكزات العرفية منه.
بل اعترف المحقق
الخراساني قدّس سرّه بوقوعه في العرفيات. قال سيدنا الأعظم قدّس سرّه : «كما يقول
الأب لولده : اذهب اليوم إلى المعلم ، فإن عصيت فاكتب في الدار ولا تلعب مع
الصبيان. وببالي أني سمعته رحمه الله يمثل بذلك في مجلس
درسه الشريف».
لكنه قدّس سرّه مع
اعترافه به قال في توجيهه : «لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن
الأمر به وطلبه حقيقة ، وإما أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما
هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة
، فيذهب به بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ، لا أنه أمر مولوي
فعلي كالأمر به».
ويظهر حاله مما
تقدم من توجيه كونه مولويا موجبا لتخفيف العقاب بنفسه ، لكونه محققا للملاك
المشارك للفائت في بعض المرتبة من الأهمية ، لا من باب مقابلة الثواب للعقاب
وإحباط الأول للثاني.
مضافا إلى ما
أشرنا إليه من ثبوت النظير له فيما لو كان أحد الواجبين وافيا ببعض ملاك الآخر ،
وليس الفرق بينهما إلا في أن تقييد المرجوح في النظير مقتضى ملاكه بطبعه ، وفي
المقام مقتضى قصور قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين ، وليس هو فارقا بعد كون
مقتضى التقييد المذكور عدم الجمع بين الامتثالين وارتفاع التزاحم بين التكليفين
على ما سبق.
وينبغي تتميم
الكلام في الترتب بتنبيهات ..
التنبيه
الأول : تقدم توجيه الأمر
الترتبي المرجوح بأن يكون مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر. وقد يوجه أيضا
بأن يكون مشروطا بالعزم على عصيانه ، لا بفعلية عصيانه وهو الذي اقتصر عليه كاشف
الغطاء قدّس سرّه في محكي كلامه.
ولا يعتبر حينئذ
كونه شرطا متأخرا ، بل يمكن كونه شرطا متقدما أو مقارنا ، لعدم سقوط التكليف
بالعزم على العصيان ، فيجتمع التكليفان في زمان واحد.
بل قد يظهر من
المحقق الخراساني قدّس سرّه لزوم كونه بأحد الوجهين وامتناع كونه شرطا متأخرا. وإن
كان هو غير ظاهر الوجه.
وكيف كان ،
فالظاهر عدم تمامية الوجه المذكور في تقريب الترتب ..
أولا
: لأن لازمه فعلية
التكليف المرجوح في ظرف تحقق العزم المذكور من المكلف حتى لو وافق التكليف الراجح
غفلة وبلا قصد ، ولا يمكن البناء على فعلية المرجوح مع موافقة الراجح بعد فرض تعذر
الجمع بين امتثاليهما.
وثانيا
: لعدم ارتفاع
محذور التزاحم بين التكليفين بذلك ، إذ بعد فرض تحقق العزم على عصيان الراجح
وفعلية كلا التكليفين فكل منهما يدعو لامتثاله وإن استلزم عصيان الآخر ، وحيث لم
يكن امتثال الراجح رافعا لفعلية المرجوح ، لفرض عدم اشتراط المرجوح بالعصيان ، بل
بالعزم عليه كان كل منهما مقتضيا لمخالفة مقتضى الآخر ، الذي هو المعيار في
التزاحم بينهما.
ومجرد استناد
فعلية التكليفين معا لسوء اختيار المكلف لا يكفي في دفع محذور التزاحم ، كما تقدم.
إن قلت : لما كان
الراجح يدعو لامتثاله فهو يدعو تبعا لقصد امتثاله وعدم العزم على عصيانه ، الذي هو
شرط فعلية المرجوح ومتمم لموضوعه ، فلا ينافي مقتضى المرجوح ، لما تقدم من أن
التكليف لا يدعو لحفظ شرطه وتحصيل موضوعه.
قلت
: داعوية الراجح ـ كغيره
من التكاليف ـ لامتثاله إنما هي بمعنى اقتضائه الموافقة ولو من دون قصد ، بل ولو
مع قصد العصيان والعزم عليه ، لا بمعنى داعويته لقصد الامتثال وعدم العزم على
العصيان.
نعم ، إذا كان
الراجح تعبديا فحيث يكون مقيدا ـ ولو لبّا ـ بقصد الامتثال أو نحوه ، تكون موافقته
موقوفة على القصد المذكور ، فالداعوية للموافقة ترجع لداعويته ـ بالأصل ، لا تبعا
ـ للقصد المذكور المنافي لقصد العصيان والعزم عليه
الذي فرض كونه
شرطا للمرجوح.
لكن هذا وحده لا
يكفي في رفع التزاحم بين التكليفين ، لأنه بعد تحقق العزم على عصيان الراجح
فالراجح وإن اقتضى عدم العزم المذكور ، إلا أن المرجوح بعد تمامية موضوعه بتحقق
العزم المذكور يقتضي موافقته ولو مع عصيان الراجح ، وهو كاف في التزاحم.
فهو كما لو وجب
بنحو الإطلاق إراقة الماء بعيدا عن المسجد ، ووجب غسل المسجد به مشروطا بكونه في
المسجد ، حيث يتزاحمان حين كونه في المسجد وإن كان الأول يقتضي رفع شرط الثاني لداعويته
لإخراج الماء من المسجد مقدمة لإراقته بعيدا عنه. فتأمل جيدا.
التنبيه
الثاني : الكلام المتقدم
في الترتب يختص بما إذا كان التزاحم بين التكليفين لمجرد التضاد وتعذر الجمع بين
الامتثالين ، دون ما إذا كان منشؤه مقدمية مخالفة أحد التكليفين لامتثال الآخر ، كحرمة
العبور في الأرض المغصوبة ووجوب إنقاذ الغريق لو توقف إنقاذه على عبورها ، وكوجوب
تطهير المسجد وحرمة قتل المؤمن لو توقف التطهير على قتله.
ومنه التزاحم في
الضدين بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر. حيث يشكل التكليف الترتبي
المرجوح ،
أما إذا كان ترك
موافقة التكليف المرجوح مقدمة لموافقة التكليف الراجح ، كالمثال الأول ، فلأنه حيث
تقدم اختصاص الداعوية الغيرية بالمقدمة الموصلة ، فالتكليف المرجوح بالإضافة لغير
الموصل فعلي مطلقا ، سواء امتثل الراجح أم لم يمتثل ، وبالإضافة للموصل غير فعلي
مطلقا ، لأن فرض إيصاله ملازم لفرض امتثال الراجح الذي لا موضوع معه للترتب.
ولو فرض عموم
الداعوية الغيرية لغير الموصل ففرض فعلية الراجح
ملازم داعويته
لمخالفة المرجوح ، فيمتنع معها فعلية المرجوح مطلقا ولو بنحو الترتب بملاك امتناع
اجتماع الأمر والنهي في متعلق واحد ، مع غض النظر عن التزاحم.
وأما إذا كان ترك
موافقة الراجح مقدمة لموافقة التكليف المرجوح ـ كالمثال الثاني ـ فلأن فعلية
المرجوح ولو بنحو الترتب تستلزم داعويته لمخالفة الراجح التي يمتنع فرضها مع فرض
فعلية الراجح وإطلاقه بملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي. وإنما تتجه فعليته بعد
سقوط الراجح بالعصيان ، لعدم المانع.
نعم ، لو كان
التكليفان متساويين فلا مانع من الترتب بالنحو الآتي في المتساويين ، الراجح
لتقييد كل منهما بمخالفة الآخر ، حيث لا يكون كل منهما فعليا في ظرف موافقة الآخر
ليدعو لترك موافقة الآخر ، ويمتنع معه فعلية الآخر ، كما لعله ظاهر.
التنبيه
الثالث : ما سبق في تقريب
الأمر الترتبي كما يجري في التكليفين المختلفي الأهمية كذلك يجري في التكليفين
المتساويين في الأهمية ، غايته أن كلا منهما يكون مشروطا بمخالفة الآخر ، نظير ما
سبق في الوجه الثالث في بيان حقيقة الوجوب التخييري ، وإنما سبق هناك رده لارتكاز
وحدة التكليف تبعا لوحدة الغرض ، ولا مانع من البناء عليه في المقام مع تعدد
التكليف تبعا لتعدد الغرض ، وإن امتنع إطلاق فعلية التكليفين معا بسبب التزاحم
الاتفاقي بينهما ، كما يمتنع إطلاق أحدهما ، لعدم المرجح.
ودعوى : أن الجمع
لا ينحصر بالترتب بالنحو المذكور ، بل يمكن انقلاب التكليفين التعيينيين إلى تكليف
تخييري واحد بكلا الطرفين.
مدفوعة : مضافا
إلى ارتكاز تبعية التكليف للغرض في الوحدة والتعدد ،
فمع فرض تعدد
الغرض في المقام لا مجال للبناء على وحدة التكليف. فتأمل ـ بأن التزاحم لا يختص
بالأمرين ، ليمكن انقلابهما إلى أمر تخييري بالطرفين ، بل يجري في تزاحم النهيين ،
وتزاحم الأمر والنهي ، وفرض التخيير حينئذ يحتاج إلى عناية أشد من عناية تقييد كل
من التكليفين بالنحو الذي ذكرنا ، فلا وجه للخروج عنه بعد مطابقته للارتكاز.
لكن ذكر بعض
الأعيان المحققين قدّس سرّه أن الترتب بالوجه المتقدم في التكليفين المختلفي
الأهمية ، إلا أنه ممتنع في التكليفين المتساويين فيها ، لأن تقييد كل منهما
بمعصية الآخر مستلزم لتأخر كل منهما رتبة عن الآخر ، لأخذه في موضوعه ، وهو ممتنع
عقلا ، فيتعين الجمع بينهما بوجه آخر مع إبقاء كل منهما على إطلاقه.
وحاصله : أن الطلب
إن كان ممكن الامتثال ولم يبتل بالمزاحم كان طلبا تاما مقتضيا حصول المطلوب على كل
حال ومن جميع الجهات ، أما إذا ابتلي بالمزاحم فهو طلب ناقص لا يقتضي حصول المطلوب
من تمام الجهات ، بل من غير جهة المزاحم وبنحو لا يمنع منه ، فكل من الطبين في
المقام وإن كان مطلقا لا تقييد فيه ، إلا أنه ناقص إنما يقتضي وجود المطلوب من غير
جهة المزاحم.
وحينئذ يمكن جريان
ذلك في مختلفي الأهمية ، فيلتزم بإطلاق كل منهما مع كون طلب الراجح تاما لا نقص
فيه ، وطلب المرجوح ناقصا يقتضي وجوده من غير جهة المهم وبنحو لا يمنع منه ، لعدم
الفرق عرفا بين المقامين ، ولا موجب لالتزام تقييد طلب المهم وإن كان ممكنا.
ويندفع ما ذكره في
وجه امتناع الترتب بين المتساويين في الأهمية بأنه لا يلزم في الترتب كون شرط أحد
التكليفين عصيان الآخر بعنوانه ، ليلزم تأخره عنه رتبة ، بل يكفي كون الشرط ترك
متعلقه إن كان أمرا وفعله إن كان نهيا الذي
يتحقق به العصيان
، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في الاختلاف الترتبي بين الأمرين الترتبيين في
دفع الإيراد الأول من إيرادي المحقق الخراساني قدّس سرّه على الترتب. فراجع.
كما أن ما ذكره من
تقريب كون الطلب في كل منهما ناقصا مبني على تعقل نقص الطلب الذي تقدم منه قدّس
سرّه في مبحث الواجب التخييري تقريبه بالإضافة إلى تمام أطراف التخيير. وتقدم منا
المنع من ذلك.
والحمد لله رب
العالمين.

الفصل الخامس
في اجتماع الأمر
والنهي
وقع الكلام بينهم
في إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعه.
والظاهر أن محل
الكلام اجتماعهما مع تعدد الجهة في ما يكون مجمعا للجهتين ، مع المفروغية عن
امتناع اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة وبعنوان واحد.
فمرجع النزاع إلى
أن تعدد الجهة والعنوان لكل من الأمر والنهي هل يكفي في تعدد متعلقهما ولو مع
اجتماع الجهتين والعنوانين في وجود خارجي واحد ، فيكون الوجود المذكور مجمعا لهما
تبعا لتعدد عنوانه ، أو لا بد معه من تعدد الوجود الخارجي ، ومع وحدته لا يكفي
تعدد الجهة في إمكان اجتماع الأمر والنهي ، بل لا بد من قصور أحدهما أو كليهما عن
المجمع.
كل ذلك بعد الفراغ
عن دخل العنوان في الحكم وعدم سوقه لمحض الحكاية عن الأفراد بذواتها ، إما لظهور
الدليل في ذلك أو للعلم به من دليل خارجي.
ومن هنا كانت
المسألة عقلية يبحث فيها عن كيفية ورود الحكم على العنوان وكيفية دخله فيه ، الذي
يستقل به العقل بعد استفادة أصل دخله من دليل الحكم اللفظي أو غيره وربما يأتي
لذلك مزيد توضيح.
كما لا ينبغي
التأمل في كون المسألة اصولية بعد تحريرها لأجل استنباط
الأحكام الفرعية
ووقوع نتيجتها في طريق استنباطها ، وهي أحكام موارد الاجتماع ، وما يترتب عليها من
إمكان امتثال الأمر بها وعدمه على ما يتضح بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
ولا ينافي في ذلك
واجديتها لجهات أخر تقتضي عدها في غير مسائل الاصول ، لأنه لا يعتبر في المسألة
الاصولية تمحضها في غرض الاستنباط وعدم ترتب غرض آخر عليها ، بل يكفي تحريرها لأجل
الاستنباط وصلوحها لأن يترتب عليها.
هذا ، وكلامهم في
المسألة في غاية الاضطراب والتشويش ، لاختلافهم في تحديد موضوع النزاع والمعيار
فيه ثبوتا ، وعدم إيضاح جملة منهم لكيفية تشخيصه إثباتا ، كما اختلفوا في مباني
المسألة ومقدمات الاستدلال فيها.
ومن هنا يضيق
الوقت ولا ينشرح الصدر لاستيعاب كلماتهم والنظر فيها ، بل ينبغي الاقتصار على ما
يخص الثمرة المهمة للمسألة ، وهي حكم مورد الاجتماع بنحو يمكن الامتثال به ويصح مع
الالتفات للحرمة أو مع الغافلة عنها أو الجهل بها.
وتحديد مباني
الكلام في ترتبها يكون بذكر أمور مقدمة للكلام في المطلوب.
الأمر
الأول : لا إشكال في تضاد
الأحكام التكليفية الخمسة بمعنى امتناع اجتماع أكثر من حكم واحد منها في موضوع
واحد. إلا أن الكلام وقع بينهم في وجه التضاد. وينبغي التعرض لذلك ، لابتناء تحديد
مورد التضاد سعة وضيقا عليه.
فنقول : من
البديهي امتناع اجتماع البعث والزجر الحقيقيين بالإضافة إلى شيء واحد ، لتقومهما
بالانبعاث والانزجار نحوه ، وهما حركتان خارجيتان متنافيتان.
لكن هذا وحده لا
ينفع في ما نحن فيه ، لعدم اقتضاء الوجوب أو الحرمة والاستحباب والكراهة البعث
والزجر الحقيقيين ، بل يقتضيان الاعتباريين أو الإنشائيين ، وحينئذ لا بد من النظر
في وجه التضاد بينهما مع ما هو المعلوم من أن الاعتبار والإنشاء خفيف المئونة.
وقد يستدل لذلك
بوجوه ..
أولها
: ما يظهر من
الفصول وقد يستفاد من التقريرات من أن منشأ تضادها وتنافيها هو تضاد منشأ انتزاعها
، وهو المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة.
ويندفع بما تقدم
في مقدمة علم الاصول عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية من عدم انتزاعها من
المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة ، وأن الإرادة والكراهة التشريعتين اللتين
اشتهر انتزاع الأحكام التكليفية منها مباينتان للارادة والكراهة والمحبوبية
والمبغوضية سنخا. وتضاد الإرادة والكراهة التشريعيتين محل الكلام ومحتاج لبيان آخر
غير ما تقدم.
ثانيها
: ما ذكره سيدنا
الأعظم قدّس سرّه من أن منشأ التضاد بين الأحكام هو تضاد ملاكاتها ، فملاك وجوب
الشيء كونه ذا مصلحة بلا مزاحم وملاك حرمته كونه ذا مفسدة بلا مزاحم.
قال قدّس سرّه : «فلو
فرض محالا كون الشيء الواحد ذا مصلحة بلا مزاحم وذا مفسدة كذلك لا بد أن تتعلق به
الإرادة والكراهة معا ، والأمر والنهي كذلك ... ومنه يظهر حال بقية الأحكام
التكليفية ، فإن التنافي بين الجميع لذلك ، فنسبة التنافي إليها إنما هي بالعرض ،
أما ما هو مورد التنافي أولا وبالذات فهو الملاكات لا غير. ولذلك يظهر الفرق بين
اجتماع الوجوب والحرمة في موضوع واحد وبين التكليف بالمحال ، فإن الثاني لا قصور
في ملاكه ، فلو ثبت كان بملاك ، وإنما القصور في القدرة عليه لا غير ، والأول
يمتنع ، لعدم الملاك حتى لو فرض محالا
ثبوت القدرة على
الامتثال ...».
وفيه
.. أولا : أن ذلك ـ كما
أشار إليه في آخر كلامه ـ مبني على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ،
ولا يتم بناء على عدم تبعيتها للمصالح والمفاسد مطلقا ، أو على تبعيتها للمصالح في
أنفسها ، لا في متعلقاتها ، مع أن الظاهر عدم ابتناء تضاد الأحكام على شيء من ذلك
، بل هو ثابت مطلقا ، كما أنه مسلم عند الكل حتى من لم يقل بابتنائها على ذلك.
وثانيا
: أن هذا مختص
بالأحكام الصادرة من المولى الحكيم الذي تبتني أحكامه على ملاحظة الملاكات ، دون
أحكام غيره ممن لا يتقيد في أحكامه بذلك ، مع أن امتناع صدور الحكمين منه ظاهر ،
بحيث لو فرض خطابه بالحكمين معا ، لحمل على عدم القصد لأحدهما ، أو العدول عنه
ونسخه بالآخر ، أو لغوية خطابه ، بحيث لا ينتزع منه الحكم ، ولا ينتزع منه بنظر
العقلاء الحكمان معا.
وثالثا
: أن مقتضي الوجوب
مثلا هو المصلحة الملزمة ، والمفسدة الملزمة من سنخ المانع من تأثير المقتضي ، كما
أن مقتضي الحرمة هو المفسدة الملزمة والمصلحة من سنخ المانع وحيث لا يراد بملاك
الحكم المقتضي وحده ، بل مع عدم المانع لزم امتناع الاجتماع حتى مع تعدد الموضوع
إذا فرض امتناع امتثال الحكمين خارجا ، لأن ذلك يكفي في التمانع بين المقتضيين
المستلزم لعدم تمامية ملاكي الحكمين معا ، بل يكفي في عدم تمامية ملاك الحكم
الواحد تعذر امتثاله ، لأن التعذر من سنخ المانع من فعلية تأثير المقتضي في الحكم
، فيكون عدم جعل الحكم لعدم الملاك أيضا.
وبعبارة اخرى :
كما يكون اشتمال نفس موضوع المصلحة على المفسدة المزاحمة مانعا من تأثير المصلحة
في الوجوب ، كذلك يكون التلازم بين موضوع المصلحة وموضوع المفسدة ، وتعذر موضوع
المصلحة وحده مانعين
من تأثيرها فيه ،
ولا فرق بينهما في عدم تمامية العلة التامة التي هي المراد بملاك الحكم ، فلا وجه
للفرق بين المقامين بأن الامتناع في الأول بملاك امتناع الضدين لامتناع تمامية
الملاكين وفي الثاني بملاك امتناع التكليف بغير المقدور مع تمامية الملاك.
ورابعا
: بأن ظاهره عدم
التضاد بين الإرادة والكراهة ذاتا ، بل بالعرض بسبب التضاد بين الملاكين ، وهو
خلاف المرتكزات القطعية ، ولذا لا إشكال في امتناع اجتماعهما حتى في مثل الجنون لو
تحقق منه الالتفات للموضوع مع عدم ملاحظة للملاك قطعا.
بل الإرادة كيف
نفساني خاص بالإضافة للمتعلق لا يجتمع مع الكراهة التي هي كيف آخر بالإضافة له ،
والتنافر بينهما ذاتي ومن ثم اخذ مفروغا عنه في الوجه الأول.
وما يظهر من بعض
المحققين قدّس سرّه من عدم التضاد بينهما إما مخالف للبداهة أو أنه يريد من التضاد
تنافرا خاصا لا مطلق التنافي المستلزم لامتناع الاجتماع الذي هو محل الكلام في
المقام. وقد أطلنا الكلام فيه في شرحنا لكفاية الاصول ، ولا مجال للتعرض له في
المقام.
ومما ذكرنا يظهر
أن البناء من سيدنا الأعظم قدّس سرّه على عدم تضاد الأحكام التكليفية ذاتا ـ بل
بالعرض تبعا للتضاد بين الملاكات ـ لا يناسب مبناه في حقيقة الأحكام التكليفية من
انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين اللتين هما بنظره من سنخ الإرادة
والكراهة التكوينيتين.
ثالثها
: أن الأحكام
التكليفية وإن كانت من سنخ الامور الاعتبارية ـ بناء على ما سبق منا في حقيقة
الإرادة والكراهة التشريعيتين ، لأن جعل السبيل من سنخ الاعتبار ـ والامور
الاعتبارية قائمة بنفس المعتبر وتابعة لجعله الذي هو خفيف المئونة ، إلا أن مصحح
اعتبارها بنظر العقلاء هو تميزها بآثارها ، بحيث
يكون ترتبها عليها
نوعا ملحوظا في مقام جعلها ، كالزوجية المناسبة للاستمتاع ، والطهارة المناسبة
للمباشرة ، والنجاسة المناسبة للتوقّي الاجتناب والحرية المناسبة للاستقلال في
التصرف ، والرقبة المناسبة للتحجير فيه وتبعيته للمالك ، ونحو ذلك.
ولو لا ملاحظة
الآثار النوعية وترتبها على الأمر المعتبر لكان الاعتبار لغوا لا يكون بنظر
العقلاء منشأ لتحقق الأمر المعتبر ، كاعتبار النجاسة للهواء والزوجية للماء
والحرية للتراب المفروض عدم قابليتها للآثار المناسبة لهذه الامور.
ولا ينافي ذلك
اختلاف أفراد العنوان الاعتباري في الآثار المناسبة ورفع بعضها في بعض الموارد ،
كحرمة وطء الزوجة حال الحيض أو مع الظهار أو الإيلاء ، وجواز شرب النجس للضرورة
وعدم تنجس ماء الاستنجاء أو ملاقيه ـ مع ملاقات أحدهما للنجس ـ وعدم جواز التطهير
بماء الاستنجاء بناء على طهارته وعدم استقلال الصبي بالتصرف مع حريته وغير ذلك إذ
ليس المدعى كون ترتب تمام الآثار المناسبة فعلا مقوما للعناوين الاعتبارية ، بحيث
لو تخلف بعضها أو تمامها في بعض الأحوال لا يصح الاعتبار المذكور ، بل المدعى أن شأنية
ترتب الآثار المذكورة مصحح للاعتبار ، وإن لم تترتب لمانع أو ترتب بعضها واختلفت
أفرادها فيها. ولذا احتيج ترتب الآثار للجعل المستقل عن جعل العناوين الاعتبارية ،
ولم يكف جعلها عن جعل الآثار ، كما لا يكفي جعل الآثار عن جعلها ، إلا بناء على
انتزاع الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ، الذي لا مجال للبناء عليه ، على ما
تقدم في مقدمة علم الاصول.
إذا عرفت هذا
فتضاد الامور الاعتبارية إنما يكون بلحاظ تنافي آثارها النوعية عرفا ، بحيث يدرك
العرف امتناع اجتماع السنخين ، كما في تضاد الطهارة والنجاسة والحرية والرقية ونحوها
مما لا منشأ للتضاد عرفا إلا تنافي
الآثار النوعية ،
حيث لا يصح بنظر العقلاء اعتبار كلا الأمرين في الموضوع الواحد ، بل يكون بينهما
بسبب ذلك كمال المعاندة والمنافرة ، وإن كان الاعتبار في نفسه خفيف المئونة ولا
يلزم من جعل الحكمين معا التكليف بغير المقدور ، لعدم ابتناء الأحكام الوضعية على
العمل إلا بضميمة أحكامها التكليفية التى يمكن جعلها مع تضاد الحكمين الوضعيين
بنحو لا يلزم منه التكليف بغير المقدور بإثبات بعض آثار كل من الحكمين.
وإنما يصح اعتبار
كلا الأمرين في الموضوع الواحد مع عدم تنافي آثارهما النوعية عرفا ، كالنجاسة
والملكية ، وكزوجية المرأة وحريتها.
ومن هنا يتضح
الوجه في تضاد الأحكام التكليفية ، لأن مصحح جعلها اقتضاؤها بنظر العقل نحوا من
العمل ، وحيث كانت متنافية بطبعها في نحو الاقتضاء ، كانت متضادة عرفا بحيث لا يصح
اعتبارها في الموضوع الواحد بنظرهم.
بل حيث كانت
متقومة بالاقتضاء المذكور بنحو تقتضي فعلية التأثير في إحداث الداعي للعمل كانت
تابعة لفعلية الاقتضاء المذكور ، لا لشأنيته ـ كما تقدم في بقية الاعتباريات
بالإضافة إلى آثارها المناسبة ـ فيمتنع اعتبارها مع عدمه مطلقا حتى لو كان مسبّبا
عن تعذر امتثال الحكم اتفاقا في الموضوع الواحد أو أحد الموضوعين بسبب التزاحم ،
لا من جهة قبح التكليف بما لا يطاق بملاك الظلم ، بل من جهة اللغوية كما تقدم من
بعض الأعاظم قدّس سرّه عند الكلام في ثمرة مسالة الضد.
غايته أن الامتناع
المذكور لا يوجب التضاد إلا بالإضافة إلى الحكمين في الموضوع الواحد لاختصاص
التضاد اصطلاحا بتنافي العارضين لذاتيهما في الموضوع الواحد. ومن هنا صح دعوى
التضاد بين الأحكام التكليفية.
ومن ذلك يظهر أن
تنافي الحكمين ليس تابعا للتضاد بين أمرين حقيقيين
كالإرادة والكراهة
أو الملاكين ـ كما هو مبنى الوجهين السابقين ـ بل للتنافي بينهما بأنفسهما ، إما
على نحو التنافي بين سائر الأحكام الوضعية والأمور الاعتبارية المتضادة ، أو
للتنافي بين أنحاء اقتضائها للعمل ، الذي هو المقوم لها والمصحح لجعلها.
وأما ما ذكره بعض
المحققين قدّس سرّه في وجه منع التضاد من إمكان اجتماع الحكمين في موضوع واحد ولو
من موالي متعددين ، حيث يكشف عن عدم تضاد الحكمين بحسب حقيقتهما ، وخصوصيات
الموالي من المقومات الفردية التي لا تكون دخيلة في التضاد ، لأنه من شئون الحقائق
والطبائع ، لا من شئون الأفراد.
ففيه : أن خصوصية
المولى وإن كانت من المقومات الفردية إلا أنه مانع من دخل الخصوصيات الفردية في
امتناع الاجتماع الناشئ عن التضاد ـ بالمعنى الراجع لامتناع الاجتماع الذي هو محل
الكلام ـ إذا كانت الخصوصيات الفردية مقومة للموضوع ، ولذا يمتنع اجتماع الضدين في
الموضوع الواحد ، لا مطلقا ،
وفى المقام حيث
كان الحكم التكليفي نحو إضافة قائمة بالمكلّف والمكلّف والمكلف به فهو متقوم
بالأطراف المذكورة ، وهي الموضوع له ، فالتضاد بين الأحكام إنما يقتضي امتناع
اجتماعها مع وحدة الموضوع بانحفاظ الأطراف الثلاثة ، لا مع تعدده باختلاف بعضها ،
كما هو الحال في سائر الامور الإضافية كالابوة والبنوة اللذين يمتنع اجتماعهما في
الشخص الواحد بالإضافة إلى شخص واحد ، وإن أمكن اجتماعهما فيه بالإضافة إلى شخصين.
إلا أن يريد من التضاد تنافرا خاصا خارجا عن محل الكلام.
وبالجملة : التضاد
بين الأحكام التكليفية بالمعنى الراجع لامتناع اجتماع أكثر من حكم واحد في الموضوع
الواحد لذاتيهما من البديهيات المستغنية عن الاستدلال والاستدلال على منعه ملحق
بالشبهة في مقابل البديهة ، وإنما الكلام
في منشأ التضاد ،
والظاهر تمامية ما تقدم في تقريبه.
هذا ، وحيث كانت
الأحكام التكليفية كلها مختلفة في نحو اقتضائها للعمل بالإضافة لمتعلقاتها كان
التضاد ثابتا بينها كلها ولا يختص ببعضها.
غايته أن تضاد
الوجوب والتحريم تضاد تام بلحاظ تمام الحدود ، لعدم اشتراكهما في جهة من جهات
الاقتضاء ، فلا يمكن موافقة كل منهما إلا بمخالفة الآخر وعصيانه ، بخلاف التضاد
بين بقية الأحكام في أنفسها أو بينها وبين الوجوب والتحريم ، فإنه ليس تاما ، بل
من جهة خصوص ما به امتياز أحد الحكمين عن الآخر من الحدود ، فالوجوب والاستحباب
يشتركان في اقتضاء الفعل ، ويختلفان في ابتناء الاستحباب على عدم الحرج في الترك ،
واقتضاء الوجوب الحرج فيه ، والوجوب والكراهة يشتركان في عدم الحرج في الفعل ،
ويمتاز الوجوب باقتضائه الحرج في الترك والكراهة باقتضاء الترك ورجحانه ، كما أن
الكراهة والاستحباب يشتركان في عدم الحرج في كل من الفعل والترك مع امتياز كل
منهما باقتضاء خصوص أحد الأمرين ، وهكذا.
ويظهر أثر ذلك في
إمكان تأكد أحد الحكمين بالآخر بالإضافة إلى الحد المشترك اذا كان اقتضائيا ،
كتأكد الوجوب بالاستحباب بالإضافة إلى ما يشترك بينهما ، وهو اقتضاء الفعل
ورجحانه. نظير التأكيد في الحكم الواحد الحاصل باجتماع جهتين تقتضيانه.
كما يبتني على ذلك
عدم التضاد التام بين الوجوب أو الاستحباب البدلي ـ إما للتخيير العقلي أو الشرعي
ـ والتحريم فيما لو أمكن امتثال الأول بغير مورد الثاني ، لكون موضوعه أعم من
موضوع الثاني مطلقا أو من وجه ، كوجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الفاسق العالم أو
مطلقا ، وذلك لأن الحكم البدلي يقتضي عملا السعة بالإضافة إلى مورد الاجتماع
والاجتزاء به في امتثاله ، ومقتضى الثاني بالإضافة إليه وإن كان عدم السعة ،
فينافي حدّه الاول ، إلا أنه لا ينافي حده الثاني ،
وهو الاجتزاء به
في مقام امتثال الحكم البدلي ، لإمكان وفائه بغرضه وإن كان مستلزما للإخلال
بالثاني وعصيانه. نظير ما تقدم في ثمرة مسألة الضد من عدم التنافي بين التكليف
الموسع والمضيق بنحو يمكن شمول الموسع للأفراد الحاصلة في وقت المضيق.
فإذا كان مورد
الاجتماع في المقام وافيا بملاك الحكم البدلي فمجرد كون الإتيان به مخلا بغرض
الحكم الآخر وموجبا لعصيانه لا ينافي إجزاءه عن الحكم البدلي ، ليلزم تقييد متعلق
الحكم البدلي بغيره ، كما لا وجه للتزاحم بين الملاكين بعد إمكان استيفاء كل منهما
بامتثال البدلي بغير مورد الاجتماع ، بل يتعين في مثل ذلك سعة متعلق الحكم البدلي
لمورد الاجتماع وإن كان متعلقا للحكم الآخر ، ولا يتضادان من هذه الجهة.
والفرق بينه وبين
التقييد نظير الفرق بين التقييد بشيء زائد على الماهية كتقييد الصلاة بالطهارة
المستلزم لعدم اجزاء فاقد القيد ، ومطلوبية شيء في شيء بنحو تعدد المطلوب كالأمر
بايقاع الصلاة في المسجد المستلزم لإجزاء الفاقد عن أصل المطلوب وإن لزم منه
الإخلال بالآخر.
كما لا تضاد اصلا
بين الوجوب أو الاستحباب المذكور والكراهة في الفرض ، لأن الأمر بالماهية إنما
يقتضي السعة في امتثاله بالاضافة إلى مورد الاجتماع من دون أن ينافي مرجوحيته بنحو
ينبغي اختيار غيره من الأفراد ، كما نبه لذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه فمسألة اقتضاء
النهي عن العبادة الفساد. فلاحظ.
إن قلت : لازم هذا
عدم تعارض الدليلين في مثل ذلك أصلا والعمل على إطلاق كل منهما ، مع أن بناء العرف
ظاهرا على التعارض بينهما بدوا ثم الجمع بالتخصيص والتقييد ، فإذا ورد : أكرم
عالما ، ثم ورد : يحرم إكرام العالم الفاسق ، لا مجرد حرمته مع اجزائه.
قلت : لا إشكال في
ذلك لو اريد بالنهي الارشاد لعدم إجزاء مورده
وخروجه عن الماهية
المطلوبة نظير النهي الوارد لشرح الماهيات الشرعية ، كالنهي عن الصلاة في أجزاء ما
لا يؤكل لحمه. لكنه أجنبي عن المقام من فرض التنافي بين الوجوب البدلي والتحريم.
وأما لو اريد
بالنهي مجرد التحريم لملاك أجنبي عن ملاك الأمر فاطراد التعارض والجمع بالنحو
المذكور لا يخلو عن إشكال ، بل لا يبعد اختلافه باختلاف الموارد تبعا لخصوصيات
المناسبات والقرائن المحيطة بالكلام. بل الظاهر عدمه لو كان النهي للكراهة دون
التحريم.
ولو سلّم فهو مختص
بالتحريم ولعله ناشئ عن أن إطلاق الأمر كما يقتضي إجزاء كل فرد كذلك يقتضي السعة
وعدم الحرج بالإضافة إلى الأفراد ، وحيث كان النهي منافيا للثاني فرفع اليد عن
الإطلاق في متعلق الأمر وحمله على غير مورد النهي أقرب عرفا من التكليف بين
الإجزاء والسعة في مورد النهي محافظة على الإطلاق فيه.
وذلك راجع إلى
مقام الإثبات التابع للظهور ، فلا ينافي ما ذكرنا من إمكان إجزاء مورد النهي ،
لعدم التضاد بين الأمر المذكور والنهي من هذه الجهة الذي هو راجع لمقام الثبوت ،
فلا ينهض ذلك لو تم بالخروج عما تقدم. فلاحظ.
الأمر
الثاني : من الظاهر أنه لا
تعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي في مسالة الاجتماع بناء على جواز الاجتماع ،
لعدم التنافي بين الدليلين.
كما أنه بناء على
الامتناع فالمشهور أنه مع تقديم جانب النهي لا يخرج مورد الاجتماع عن موضوع الأمر
تخصيصا وملاكا ، بل للمانع ، مع دخوله فيه ذاتا وواجديته لملاكه بتمامه ، فإن كان
الأمر توصليا أجزاء عنه مطلقا ، وإن كان تعبديا أجزاء مع عدم مبعدية النهي للغافلة
عنه أو الجهل به ، فضلا عما لو لم يكن فعليا بسبب الاضطرار لمخالفته.
كما لا ريب في
كفاية العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي في
الدخول في هذه
المسألة ، مع الكلام في الاكتفاء في ذلك بما إذا كان بينهما عموم مطلق ، على كلام
لا يهم التعرض له.
هذا ولا إشكال
عندهم أيضا في التعارض البدوي بين الدليلين المتضمنين لحكمين متضادين إذا كان بين
موضوعيهما عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، ولم يشر أحد منهم للتفصيل في ذلك بين القول
بامتناع اجتماع الأمر والنهي وعدمه.
كما لا إشكال
عندهم ظاهرا في أنه مع عدم المرجح لأحد الدليلين يسقطان معا عن الحجية في مورد
الاجتماع ، ومع المرجح لأحدهما يسقط الآخر عنه ، وفي الموردين لا مجال للبناء على
ثبوت ملاك الحكم الذي يسقط دليله عن الحجية في مورد الاجتماع ، بل يتوقف في ذلك ،
فلا يجتزأ به في امتثال الأمر لو سقط دليله عن الحجية بسبب التعارض ، أو تقديم
الدليل الآخر.
وهذا كاشف عن أن
موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي بنظرهم مباين لمورد التعارض ، وإن اشتركا في كون
النسبة بين العنوانين العموم من وجه فقط أو مع العموم المطلق أيضا.
وقد وقع الكلام
بينهم في ضابط موضوع مسألة الاجتماع ، وفي الفرق بينه وبين موضوع التعارض المذكور.
ويظهر منهم في ضابط الفرق بينهما وجهان ..
أولهما
: ما ذكره بعض
المعاصرين قدّس سرّه في اصوله وحاصله : أن العنوان الذي يؤخذ موضوعا للحكم ..
تارة : يلحظ فانيا
في مصاديقه على نحو يسع جميع الأفراد بما لها من المميزات ، فيكون شاملا بسعته
للجمع بين العنوانين ، فيعدّ في حكم المتعرض له بالخصوص ، ولو من جهة كونه متوقع
الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبه عليه المتكلم ، وحينئذ يكون دليل الحكم دالا
التزاما على نفي الحكم الآخر المضاد له في المجمع قال : «ولا نضايقك في أن تسمي
مثل هذا العموم العموم
الاستغراقي ، كما
صنع بعضهم».
واخرى
: يلحظ فانيا في
مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد
، فلم تلحظ كثرتها ومميزاتها في مقام الأمر والنهي ، فيكون المأمور به والمنهي عنه
صرف وجود الطبيعة. قال : «ولتسم مثل هذا العموم العموم البدلي ، كما صنع بعضهم».
ففي الصورة الاولى
يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ، لتكاذبهما في مورد
الاجتماع ، لاقتضاء كل منهما ثبوت حكمه فيه بالمطابقة ونفي حكم الآخر بالالتزام ،
للتنافي بين الحكمين. وحينئذ يتعين التعارض بينهما ، ومقتضى القاعدة تساقطهما معا
في المورد المذكور ، فلا يحرز فيه الوجوب ولا الحرمة.
ومعه لا مجال
لدخوله في موضوع مسألة الاجتماع ، لاختصاصه بما إذا فرض شمول الدليلين لمورد
اجتماع العنوانين وحجيتهما بالإضافة اليه ، وذلك إنما يكون مع عدم التعارض بينهما
في مقام الجعل والتشريع.
أما في الصورة
الثانية فيدخل المورد في موضوع مسالة الاجتماع ، ولا تعارض بين الدليلين ، لعدم
لحاظ الأفراد بنحو يسع الأفراد جميعها ، وإن كان العنوان في ذاته شاملا لها ، لأن
الحكم يتعلق بصرف الطبيعة المأمور بها ـ كالصلاة ـ والمنهي عنها ـ كالغصب ـ فلا
يكون دليل وجوب الصلاة مثلا دالا على وجوبها حتى في مورد الغصب ، بنحو يدل
بالالتزام على انتفاء الحرمة فيه ، كما لا يكون دليل حرمة الغصب دالا على حرمته
حتى في مورد الصلاة بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الوجوب فيه ، فلا يقع التعارض
بين الدليلين. وحينئذ لو اختار المكلف الجمع بينهما في مقام الامتثال يقع الكلام
في جواز الاجتماع وعدمه ، فعلى الجواز يكون مطيعا وعاصيا ، وعلى الامتناع يكون
مطيعا لا غير إن رجح الأمر ، وعاصيا لا غير إن رجح النهي ، لوقوع التزاحم بين
التكليفين
الموجب للرجوع إلى
أقوى الملاكين.
هذا حاصل ما ذكره
في المقام. وقد اطال في تقريبه بنحو اضطرنا إلى إطالة الكلام في شرحه تبعا له ،
لئلا يفوت شيء بسبب الاختصار يخل بالمطلب ، وإن أعرضنا عن بعض التفصيلات ، لعدم
أهميتها في بيانه.
وفيه .. أولا :
أنه لم يتضح الفرق بين الصورتين.
إذا لو اريد
بالاولى العموم الاستغراقي ـ بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد
بنحو الجمع الذي هو مفاد الواو ـ وبالثانية العموم البدلي ـ بالمعنى المعروف
الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو التخيير الذي هو مفاد أو ـ فلا مجال لفرض
الثانية في النهي ، لعدم الإشكال في كون عمومه استغراقيا بالمعنى المعروف.
وإن اريد بالاولى
العموم الوضعي وبالثانية العموم الإطلاقي فالفرق بينهما بالإضافة إلى بيان حكم الأفراد
في غاية الإشكال ، فإن منشأ الدلالة على حكم الأفراد وإن اختلف فيهما ، إلا أنهما
مشتركان في أصل الدلالة عليه وعلى كيفية تعلق الحكمين ، ولذا لا إشكال في أن ما
ذكروه من تحقق التعارض بين العامين من وجه يجري في المطلقين ، فالمراد بالعام فيه
وفي كثير من أحكام العام ما يعم المطلق ، كما ذكرناه في مبحث العموم والخصوص ،
ويشهد به أدنى سبر لكلماتهم في الفقه والاصول.
وكيف كان فالدليل
بعد فرض ظهوره في العموم يدل على سعة الحكم للفرد بنفسه دون ما هو خارج عنه مما
يقارنه وجودا ولا يتحد معه خارجا.
وحينئذ فإن قيل
بأن موضوع الحكم هو العنوان أو بأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون ـ اللذين
عليهما يبتني القول بامكان اجتماع الأمر والنهي عندهم كان موضوع أحد الدليلين
مقارنا لموضوع الآخر في مورد الاجتماع ، مع خروجه عنه ومباينته له ، فلا يكون عموم
موضوع أحد الحكمين له منافيا لعموم
موضوع الآخر له ،
ليقع التعارض بين الدليلين.
وإن قيل بأن موضوع
الحكم هو المعنون مع عدم تعدده بتعدد العنوان ـ الذي عليه يبتني القول بالامتناع
عندهم ـ كان موضوع حكم أحد الدليلين متحدا مع موضوع الآخر في مورد الاجتماع ،
فيكون عموم موضوع احد الحكمين له منافيا لعموم موضوع الآخر له ، ويقع التعارض بين
الدليلين من دون فرق بين الأدلة وأنحاء دلالتها بعد فرض عمومها لمورد الاجتماع.
ثانيا : أن كلا من
الدليلين في الصورة الثانية إن كان في نفسه متكفلا ببيان حكم مورد الاجتماع كانا
متكاذبين متعارضين بناء على امتناع اجتماع الحكمين في الوجود الواحد المجمع
للعنوانين ، لعين ما ذكره في الصورة الاولى ، أما بناء على إمكان اجتماعهما فيه
فلا تنافي بين مفادي الدليلين ، ومعه لا تعارض حتى في الصورة الاولى أيضا ، لما
سبق من أن العموم مطلقا إنما يقتضي سعة حكمه للفرد بنفسه دون ما يقارنه.
وإن لم يكونا
متكفلين ببيان حكمه ، لتعرضهما لثبوت الحكم للماهية من دون نظر للأفراد ، كان
مرجعه إلى عدم الإطلاق لكل منهما ووروده بنحو القضية المهملة ، ومعه لا مجال لكون
المجمع من مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي ، لتوقفه على ثبوت كل منهما فيه بمقتضى
دليله ، لينظر في إمكان اجتماعهما ويعمل بكل من الدليلين فيه أو امتناعه ويتعين
سقوط أحدهما أو كليهما فيه ، ويكون أبعد عن المسألة من صورة التعارض.
ومن ثم كان كلامه
في غاية الغموض والاضطراب ، ولم يتحصل منه ما يمكن الركون إليه في بيان ضابط موضوع
المسألة ، والفارق بينه وبين مورد التعارض.
ثانيهما : ما حكاه
هو رحمه الله عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الجهتين في العامين من وجه إن كانتا
تعليليتين كان العامان متعارضين ، لاتحاد المأمور به مع المنهي
عنه ، فيمتنع معه
اجتماع الحكمين في مورد اجتماع الجهتين وإن تعددت علتهما ، وإن كانتا تقييديتين
فلا تعارض بينهما ، لتعدد الموضوع ، ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة
، وفي باب التزاحم مع عدمها.
وفيه : أنه لا
ضابط للفرق المذكور بين العناوين ، كما لا تتعرض له أدلة أحكامها ، بل هي إنما
تتعرض لإثبات الحكم على العنوان الحاكي عن المعنون ، بنحو يظهر منه نوعا دخله في
الحكم والغرض ، فإما أن يبنى على كونه تعليليا في الجميع أو تقييديا في الجميع .
نعم قد تدل
القرينة الخاصة على سوق العنوان لمحض الحكاية عن أفراده والإشارة إليها من دون دخل
له في الحكم والغرض ، وهو حينئذ لا يكون تعليليا ولا تقييديا.
مع أن كون
العنوانين تقييديين من مباني القول بجواز الاجتماع في موضوع مسألة اجتماع الأمر
والنهي عندهم ، لاستلزامه تعدد موضوع الحكمين ولو مع اجتماع العنوانين في فرد واحد
، لا ضابط لموضوع المسألة المذكورة ، بنحو يتنازع بعد البناء عليه في جواز
الاجتماع فيه وامتناعه ، كما لعله ظاهر بالتأمل.
نعم ، لم أعثر
عاجلا على التفصيل المذكور في تقريري درس بعض الأعاظم قدّس سرّه المعروفين ، لا
هنا ولا في مسألة الضد ، وإن تعرض في المسألتين لما هو الدخيل في المقام في الجملة
، كما لم ينقله عنه غير بعض المعاصرين ممن تسنى لي العثور على كلامه.
وإنما ذكر هنا أن
مرجع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في أن الجهتين
__________________
تعليليتان ، ليلزم
التعارض في موردها ، أو تقييديتان كي لا يلزم التعارض ، بل يدخل المورد في
التزاحم.
وليس هذا فرقا بين
موضوع المسألة ومورد التعارض المشار إليه ، الذي هو محل الكلام ، بل بيان لمبنى
كون موضوع المسألة من صغريات التعارض ، وهو أمر آخر.
وبعبارة اخرى :
محل الكلام هو الفرق بين الموارد التي يحكم فيها بالتعارض ابتداء وعلى كل حال ،
وموضوع مسألة الاجتماع التي يبتني دخولها عنده في صغريات التعارض على ما ذكر ، لا
ضابط دخول موضوع هذه المسألة في التعارض أو التزاحم ، الذي تعرض له.
مع أن ما ذكره من
لزوم التعارض في موضوع المسألة بناء على أن الجهتين تعليليتان لا يناسب بناء
المشهور على الامتناع وتقديم جانب النهي مع إجزاء المجمع عن الأمر في التوصليات
مطلقا ، وفي التعبديات مع الغافلة عن النهي أو الجهل به أو الاضطرار لمخالفته ،
كما يظهر بالتأمل.
هذا ، ويظهر منه
قدّس سرّه في ضابط كون الجهتين تعليليتين وكونهما تقييديتين أن التركب بين الجهتين
إن كان اتحاديا كانتا تعليليتين ، وإن كان انضماميا كانتا تقييديتين.
لكنه في الحقيقة
ليس ضابطا لتعيين حال الجهة وأنها تعليلية او تقييدية ، بل لتمييز موارد تعدد
المعنون بتعدد العنوان ، وموارد وحدته مع تعدد العنوان ، وبينهما فرق ظاهر.
نعم ، هو مثله في
أنه مبنى جواز الاجتماع وامتناعه في موضوع المسألة ، دون ما هو محل الكلام من ضابط
الفرق بين موضوعها ومورد التعارض.
ويأتي تمام الكلام
في ما ذكره إن شاء الله تعالى.
والمتحصل : أنه لا
يتضح من كلامهم ما ينهض بالفرق بين موارد
التعارض وموضوع
المسألة في العامين من وجه.
نعم ذكر المحقق
الخراساني قدّس سرّه في ضابط موضوع المسألة أنه لا بد من اشتمال المجمع على ملاكي
الحكمين معا ، كي يمكن جريان النزاع حينئذ في إمكان ثبوت كلا الحكمين ، تبعا
لملاكه ، وعدمه ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين.
وقد تبعه في ذلك
بعض الأكابر من تلامذته في درره ، وجعله ضابطا للفرق بين موارد التعارض وموضوع
المسألة ، وأنه لا بد في التعارض من وحدة الملاك واختصاصه بأحد الحكمين.
وهو في محله في
الجملة ، لمناسبته لما سبق من المشهور من البناء على إجزاء المجمع عن الأمر مع
بنائهم على الامتناع وتقديم جانب النهي وما سبق من عدم الإشكال في عدم الإجزاء في
مورد التعارض البدوي.
إلا أنه ضابط
ثبوتي لا إثباتي ، ليتجه الرجوع إليه في تمييز موضوع المسألة عن مورد التعارض ،
لوضوح أن الأدلة لا تتعرض للملاكات ابتداء ، ليمكن دلالتها على ثبوت ملاكي الحكمين
في مورد مجمع العنوانين وإن امتنع اجتماع الحكمين فيه ، وإنما تتعرض للأحكام
واستفادة الملاكات منها بتبعها.
فلا بد من التمييز
بين الموارد التي يحكم فيها ابتداء بتعارض الدليلين في مجمع العنوانين بنحو يستلزم
سقوط احدهما أو سقوطهما معا عن الحجية حتى بالاضافة إلى الملاك وموضوع هذه المسألة
الذي يحرز فيه من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، ويبتني إحراز كلا
الحكمين أو أحدهما فيه على النزاع في إمكان الاجتماع وامتناعه.
أما مع عدم
التمييز المذكور وفرض الموارد بنحو واحد فاللازم بناء التعارض بين الدليلين وعدمه
على الخلاف في جواز الاجتماع وامتناعه. فإن قيل بالجواز فلا تعارض بين الدليلين
مطلقا لا في الملاكين ولا في الحكمين ،
وإن قيل بالامتناع
يلزم التعارض بينهما في مدلولهما المطابقي ، وهو إثبات كلا الحكمين في مجمع
العنوانين.
وحينئذ فإن قيل
بأن تعارض الدليلين في مدلولهما المطابقي كما يسقطهما عن الحجية فيه يسقطهما عن
الحجية في مدلولهما الالتزامي ـ كما هو التحقيق على ما ذكرناه في مبحث التعارض ـ تعين
عدم إحراز ملاك أحد الحكمين أو كليهما من الإطلاقين في المجمع ، فلا يجزي عن الأمر
بناء على تقديم جانب النهي.
وإن قيل بأنه لا
يسقطهما عن الحجية في المدلول الالتزامي ، تعين إحراز الملاكين في المجمع وإجزائه
عن الأمر ولو مع تقديم جانب النهي في التوصليات مطلقا وفي التعبديات مع عدم صلوح
النهي للمبعدية.
لكن عرفت أن بناء
المشهور ليس على ذلك ، بل على التعارض في بعض الموارد مطلقا وإن قيل بجواز الاجتماع
المستلزم لعدم إجزاء المجمع عن الأمر مع عدم تقديم دليله ، وعلى إجزاء المجمع عن
الأمر في خصوص موضوع مسألة الاجتماع مع بنائهم على الامتناع وتقديم النهي فيه.
ومن ثمّ ذكر بعض
مشايخنا (دامت بركاته) أن ذلك من المشهور ناش عن الغافلة عن مقتضي التعارض اللازم
بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، وأن اللازم بطلان الامتثال بالمجمع مع
الجهل بالنهي ونحوه مما لا يرتفع معه النهي واقعا ، لأن فعلية النهي في المجمع
تستلزم قصور متعلق الأمر عنه ، فلا يحرز ملاكه فيه ، ليكون مجزيا.
نعم ، لم يلتزم
بذلك مع الاضطرار لمخالفة النهي ، كما يظهر من غيره أيضا.
وقد يقرب : بأنه
بعد فرض قصور النهي عن مورد الاضطرار لا مانع من عموم إطلاق الأمر له ، فيحرز
الأمر به تبعا لثبوت الملاك فيه ، ويتعين إجزاؤه.
لكنه يشكل : بأن
المنشأ للتعارض في العامين من وجه وإن كان هو تنافي الحكمين بنحو يمتنع فعليتهما
معا ، فيقصر عن فرض الاضطرار لمخالفة حكم الراجح حيث يلزم سقوطه ولا يمتنع معه
فعلية الآخر ، إلا بناء المعرف فيه على كون مورد التعارض الموجب لقصور أحد
الدليلين أو كليهما هو المجمع بذاته وبعنوانه الأولي ، لا بما هو محكوم فعلا
بالحكم الآخر ، فيؤخذ بذاته قيدا في موضوع الدليل المرجوح ويستثنى منه ملاكا
وخطابا مطلقا ولو مع سقوط حكم الدليل الراجح بمثل الاضطرار والحرج مما لا يرتفع
الملاك ، كما يشهد بذلك ملاحظة النظائر في سائر موارد العامين من وجه.
مثلا إذا ورد :
أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم الفساق ، ففرض تقديم الثاني في العالم الفاسق راجع
عرفا إلى تقييد الأول بغير الفساق من العلماء وقصوره عنهم ذاتا وإن ارتفعت حرمة
إكرامهم بالاضطرار.
ولذا لا يظن من
أحد الالتزام في فرض الاضطرار إلى إكرام فاسق من العلماء أو غيرهم بلزوم إكرام
الفاسق من العلماء تحكيما لعموم وجوب إكرام العلماء بعد فرض قصور عموم حرمة إكرام
الفساق بالاضطرار ، نظير المقام.
بل لو تم ذلك جرى
في العموم المطلق فيلتزم بأنه لو سقط حكم الخاص للاضطرار يرجع في مورده لحكم العام
، مع أنه لا يظن بأحد الالتزام بذلك ، وإنما يجمع بينهما بخروج مورد الخاص عن حكم
العام مطلقا على النحو الذي ذكرناه في العامين من وجه.
ومن ذلك يظهر حال
ما ذكره دامت بركاته من أن ملاك الحرمة لما لم يكن مؤثرا في مبغوضية المجمع فعلا
حال الاضطرار له لا يكون مانعا من إيجابه بعد فرض اشتماله في نفسه على الملاك
الملزم ، فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب فيه ، فيثبت صحة امتثال أمر
الطبيعة به ، ويكون مصداقا للطبيعة الواجبة في الخارج.
لاندفاعه : بأنه
لا إشكال في صحة الامتثال بالجمع في فرض إحراز ملاك الوجوب فيه ، لعدم المانع من
تأثير الملاك لحكمه ، بلا حاجة للإطلاق ، بل يكفي التقرب بالملاك لو فرض عدم الأمر
بعد عدم فعلية النهي المانع من التقرب.
إلا أن الإشكال في
إحراز الملاك بعد فرض تعارض الدليلين وتقديم دليل الحرمة في المجمع المستلزم لقصور
دليل الوجوب عنه بذاته ، كما تقدم.
ومن ثم كان الظاهر
عدم تمامية ما ذكره من التفصيل بين الجهل بالنهي والاضطرار لمخالفته ، بل يلزم عدم
صحة الامتثال في الجميع بناء على ما ذهب إليه من كون المورد من صغريات التعارض.
فالعمدة في المقام
عدم تمامية المبنى المذكور ، وأن مورد اجتماع الأمر والنهي ملحق بالتزاحم دون
التعارض ، لإحراز كلا الملاكين فيه من الإطلاق ، فإن الجمود في تحرير محل النزاع
في مسألة الاجتماع على ما تقدم من إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين قد يوهم عموم
النزاع في كفاية تعدد العنوان في إمكان سعة الحكمين المتضادين للمجمع بين
العنوانين لكل عنوان من دون فرق بين العناوين وأنحاء اجتماعها في المورد الواحد ،
المستلزم لابتناء التعارض بين دليلي الحكمين المختلفي العنوان في المجمع على
النزاع في مسألة الاجتماع مطلقا ، فإن قيل بامتناع الاجتماع لزم التعارض بين
الدليلين لتكاذبهما تبعا لتنافي مفاديهما في الجميع ، وإن قيل بجواز الاجتماع فلا
تعارض في الجميع.
لكن لا مجال لذلك
بعد ملاحظة مفروغيتهم عن التعارض البدوي في بعض العناوين من دون ابتناء على مسألة
الاجتماع وإجراء أحكام التعارض من الجمع العرفي مع إمكانه والترجيح أو التخيير أو
التساقط مع تعذره ، بنحو يبنى على عدم إحراز ملاك الحكم الذي تضمنه الدليل المرجوح
أو الساقط
بالتعارض ، مع ما
اشرنا إليه آنفا من بناء المشهور على إحراز ملاك الحكم في موضوع مسألة الاجتماع ،
حيث يكشف ذلك عن الفرق عندهم بين العناوين ، بل عن ارتكازية الفرق المذكور ، حيث
جروا عليه بطبعهم من دون تنبيه له وتحديد لموارده.
وتوضيح ذلك : أن
امتناع التمسك بالإطلاقين معا لإثبات فعلية الحكمين المتضمنين لهما كما يكون مع
تضاد حكميهما ووحدة متعلقهما ، كذلك يكون مع تعدد متعلق حكميهما وتعذر الجمع
بينهما في مقام الامتثال ، إما للغوية جعل الحكم مع تعذر الامتثال ، أو لقبح
التكليف بما لا يطاق كما تقدم في ثمرة مسألة الضد.
إلا أن بناء العرف
في الأول على تكاذب الإطلاقين في مقام الإثبات بنحو يسقط أحدهما أو كلاهما عن
الحجية رأسا ، فكما لا يثبت به الحكم الفعلي لا يثبت ملاكه ، وهو المراد بالتعارض
الذي يكون معيار الترجيح فيه قوة الدليل ولا أثر فيه لأهمية الحكم.
أما في الثاني فلا
تكاذب بين الاطلاقين بنظر العرف ، بل يحمل كل منهما على بيان ثبوت حكمه في نفسه لو
لا العجز عن الامتثال الذي يسقط معه الحكم عن الفعلية مع بقاء ملاكه ، المستلزم
لتزاحم الملاكين ثبوتا في تأثير الحكم ، وهو المراد بالتزاحم الذي يكون معيار
الترجيح فيه أهمية الحكم تبعا لأهمية ملاكه ، ولا أثر فيه لقوة الدليل ، على ما
حقق في محله من مباحث التعارض. ولا إشكال في شيء من ذلك.
كما لا إشكال في
أن أظهر مصاديق الأول ما إذا اتحد موضوع الحكمين بحسب العنوان والمعنون معا ، كما
لو دل أحد الدليلين على وجوب إكرام العلماء والآخر على حرمته ، وأن أظهر مصاديق
الثاني ما إذا تعدد موضوعهما بحسب العنوان والمعنون ، كما في ما دل على وجوب إنقاذ
المؤمن وما دل على
حرمة التصرف في
المغصوب لو توقف الإنقاذ على التصرف.
وإنما الإشكال
فيما لو تعدد موضوعهما بحسب العنوان واتحد بحسب المعنون ، لاجتماع العنوانين في
بعض الأفراد ، لاضطرابهم في ذلك جدا.
وعليه يبتني
اشتباه مورد تعارض العامين من وجه بموضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي اللذين نحن
بصدد التمييز بينهما.
والظاهر أن الحال
يتضح بملاحظة أقسام العناوين وكيفية انتزاعها لمعنوناتها.
فإن العناوين
الحاكية عن فعل المكلف الصالح لأن يكون موضوعا للأحكام التكليفية ومعروضا لها ...
تارة : تكون أولية
حاكية عنه بذاته من دون نظر لشيء خارج عنه ، كعنوان المشي والنوم والتكلم والأكل
والشرب والسب والمدح والغيبة وغيرها.
واخرى : تكون
ثانوية منتزعة من الفعل بلحاظ أمر خارج عنه ، كالعناوين التسبيبية المنتزعة من
ترتب شيء عليه ، كعنوان الإحراق والإيذاء والإضرار والتأديب والتكريم والانقاذ
والتداوي وغيرها ، والعناوين الاضافية المنتزعة من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره
، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة والمشابهة والفوقية والتحتية
وغيرها.
والظاهر أن مرجع
التكليف بالعناوين بقسميها إلى التكليف بمنشإ انتزاعها ، لكونه موطن الغرض
والملاك.
ففي القسم الأول
يكون المكلف به هو الفعل بذاته ، لأنها هي منشأ انتزاع العنوان ، من دون فرق بين
التكليف بها على إطلاقها والتكليف بها مقيدة ببعض القيود الخارجة عنها ، كتقييد
المشي بالسرعة والأكل بطعام خاص والنوم بوقت خاص إلى غير ذلك ، وليست فائدة
التقييد إلا تضييق مورد التكليف وقصره على ما يقارن القيد من دون أن يكون القيد
بنفسه موردا للتكليف وجزءاً من متعلقه ،
على ما سبق توضيحه
في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية. فراجع.
أما في القسم
الثاني فليس المكلف به وموطن الغرض حقيقة إلا منشأ انتزاع العنوان الخارج عن فعل
المكلف وليس التكليف بفعله إلا للتوصل إليه ، لكونه مسببا عنه ، كما في العنوان
التسبيبي ، حيث يكون فعل المكلف سببا لمنشا انتزاع العنوان ، أو لكونه قائما به ،
كما في العنوان الإضافي ، حيث يكون فعل المكلف طرفا للإضافة التي هي منشأ انتزاع
العنوان ، فتقوم به قيام العرض بموضوعه.
ومن ثمّ ذكرنا أنه
مع تردد فعل المكلف في هذا القسم بين الأقل والأكثر يجب الاحتياط لإحراز منشأ
انتزاع العنوان الذي هو المكلف به حقيقة من دون أن يكون مجملا بخلاف القسم الأول ،
حيث يرجع إجمال فعل المكلف إلى إجمال المكلف به ، لغرض انتزاع عنوانه من نفس الذات
، فيقتصر في التكليف على المتيقن ، ويقتصر ويرجع في الزائد البراءة.
نعم ، لو رجع
الإجمال في القسم الأول إلى إجمال منشأ الانتزاع الواجب وتردده بين الأقل والأكثر
تعين الرجوع للبراءة في الزائد المشكوك ، كما لو تردد الحطب الواجب الإحراق بين
القليل والكثير.
ويترتب على ذلك أن
اختلاف العنوانين مع وحدة فعل المكلف المعنون بهما. إن كان لتعدد منشأ انتزاع
العنوان ، بأن يكون أحدهما أوليا منتزعا من الذات والآخر ثانويا منتزعا من أمر
خارج عنها ـ كعنواني المشي والإيذاء ـ أو كلاهما ثانويا مع اختلاف منشأ انتزاعهما
ـ كعنواني الإيذاء والإكرام ـ كان راجعا لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم ، لأن
فعل المكلف وإن كان واحدا ، إلا أنه ليس متعلقا لأحد المكلفين أو كليهما إلا تبعا
لتعلقه وتعلق الغرض والملاك بمنشإ انتزاع العنوان المباين له.
ولذا كان المرتكز
أن عمومات استحباب إيناس المؤمن وقضاء حاجته ، ووجوب إنقاذه من الهلكة ، لا تعارض
مثل عمومات حرمة الغناء والغيبة والكذب ، وإن كانت نسبة كل واحد من تلك العمومات
مع كل واحد من هذه هي العموم من وجه ، حيث قد يتحقق العنوانان في فعل واحد ويصدقان
عليه ، بل يكون مجمع العنوانين موردا للتزاحم بسبب تحقق الملاكين الفعليين معا كل
في موضوعه ، فيرجع فيه لمرجحات التزاحم ، فيقدم الأهم على المهم ، والإلزامي على
غيره ، والتعييني أو المضيق على التخييري أو الموسع ، إلى غير ذلك مما يذكر في
محله.
أما إذا كان منشأ
اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة للخصوصيات الخارجية عن منشأ الانتزاع ،
كخصوصيات الزمان والمكان والمتعلق وغيرها ، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج ،
كان راجعا لوحدة الموضوع الذي عرفت لزوم التعارض معه ، سواء كان العنوانان أوليين
كالسفر في شهر رمضان والسفر إلى كربلاء ، أم ثانويين كإيذاء المؤمن وإيذاء العاصي.
وإليه نظروا في الحكم بالتعارض البدوي بين العام والخاص والمستحكم في العامين من
وجه.
نعم ، لو كان
القيد مقوما في الخارج لمنشا الانتزاع دخل في تعدد الموضوع ، كإكرام زيد وإكرام
عمرو لو حصلا بفعل واحد ، وكذا إكرام العادل وإكرام الفاسق ، لوضوح تقوم إضافة
الإكرام خارجا بالشخص المكرم ، فتتعدد مع تعدده ، كما في المثالين ، وتتحد مع
وحدته وإن اختلف عنوانه بأن كان عالما وفاسقا. فلاحظ.
كما أنه لو كانت
خصوصية كل من العنوانين دخيلة في ثبوت حكمه ـ ولو بمقتضى المناسبة الارتكازية بين
الحكم والموضوع ـ كان مورد الاجتماع من موارد التزاحم الملاكي الراجع لتزاحم
المقتضيات ، دون الملاكات الفعلية ،
ولذا يلتزم
بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين ، كما لو وجب كل من إكرام العالم وإكرام العادل ،
حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكدا ، تبعا لتأكد ملاكه بتعدد المقتضي فيه.
لكن تحقق في محله
أن مورد التزاحم الملاكي من موارد التعارض ، فتجري أحكامه المتقدمة ، وتختص أحكام
التزاحم المتقدمة بالتزاحم الحكمي ، الذي لا يكون إلا مع فعلية الملاكين واختلاف
المتعلقين ، ومنه ما ذكرنا من اختلاف العنوانين إذا كان مختلفين في منشأ الانتزاع.
إذا عرفت هذا
فالظاهر اختصاص موضوع مسألة الاجتماع عندهم بما إذا كان اختلاف العنوانين بالوجه
الأول ، المبتني على اختلاف منشأ انتزاعهما ، والذي تقدم أنه من صغريات التزاحم ،
دون الثاني المبتني على اختلاف قيودهما الخارجة عن منشأ الانتزاع ، والذي تقدم أنه
من صغريات التعارض.
وبه يجمع بين ما
ذكروه من التعارض بين العامين من وجه وما ذكروه في المقام مما تقدم ظهوره في
المفروغية عن إحراز ملاك الحكمين.
كما يناسبه
مفروغيتهم في المقام عن تقديم جانب النهي ، مع أنه لا يتجه في المتعارضين ، وإنما
يتجه في التزاحم بلحاظ أن النهي لما كان شموليا يكون تعيينا في المجمع ، بخلاف
الأمر المفروض في أمثلتهم كونه بدليا تخييريا.
وكذا تمثيلهم
لتعارض العامين من وجه بمثل : أكرم العلماء أو عالما ، ولا تكرم الفساق ، الذي
تقدم أنه من القسم الثاني ، ولمسألة الاجتماع بمثل حرمة الغصب ووجوب الوضوء أو
الغسل أو الصلاة ، لوضوح أن موضوع الأمر في الوضوء والغسل هو الغسل بذاته أو
بعنوان كونه طهارة الذي هو من العناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب الطهارة عليه ،
وفي الصلاة هو الأفعال بعناوينها الأولية من القيام والركوع والسجود ، أما موضوع
النهي في الغصب فليس هو الفعل بأحد العناوين المذكورة ، بل بعنوان كونه تصرفا في
ملك الغير بغير إذنه
الراجع للتعدي
عليه ومخالفة مقتضي سلطنته وحقه ، وهو من العناوين الإضافية المباينة في منشأ
الانتزاع للعناوين المذكورة ، إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد تتبع في كلماتهم.
ومنه يظهر الإشكال
في ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في التنبيه الثالث من هذه المسألة من عدم
الفرق بين العناوين وأنحاء اختلافها ، وحمل كلماتهم على ما يناسب ذلك فراجع.
ومثله ما تقدم من
بعض مشايخنا (دامت بركاته) من الحكم بالتعارض المستلزم لعدم إحراز الملاك في موضوع
مسألة الاجتماع ونسبة الغافلة للمشهور في حكمهم بالإجزاء كما تقدم.
بل هو لا يناسب ما
ذكره في وجه تقديم النهي في مثل الصلاة والغصب من أن المفهوم عرفا أن الغصب من سنخ
العنوان الثانوي الرافع للحكم الأولي ، إذ لو تم ذلك فالعنوان الثانوي وإن اقتضى
رفع الحكم الاولي إلا أنه لا يقتضي رفع ملاكه ، فلا وجه لعدم إجزائه ، إلا أن يريد
بالعنوان الثانوي كل عنوان زائد على الذات موجب لتبدل حكمها. لكن الوضوء والغسل
والصلاة أيضا عناوين ثانوية بالمعنى المذكور ، لأخذ خصوصيات فيها زائدة على ذوات
الأفعال ، فيرجع السؤال عن وجه دليل تقديم الغصب على دليلها.
وبالجملة : الظاهر
وفاء ما ذكرنا ببيان ضابط موضوع مسألة الاجتماع والفرق بينه وبين مورد التعارض في
العامين من وجه ، وتوجيه مباني في المشهور في المقام.
بقي الكلام في ما
ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في ضابط موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي والفرق بينه
وبين مورد التعارض مع اشتراكهما في العموم من وجه بين العنوانين ، من أن التركيب
بين العنوانين في الخارج إن كان انضماميا كان موضوعا لمسألة الاجتماع ، وإن كان
اتحاديا خرج عنه ودخل في
التعارض. وقد أطال
الكلام في بيان ذلك وفي المقدمات التي يبتني عليها.
والذي يتحصل مما
تضمنه تقرير درسه لبعض مشايخنا : أن موضوع الأحكام التكليفية لما كان هو فعل
المكلف ، وهو المبدأ المصدري ، كالقيام والصلاة والسفر والغصب وغيرها ، فإن كان
أحد المبدأين الصادرين من فاعل واحد مبانيا للآخر وجودا وإيجادا ، بمعنى أن إيجاد
أحدهما لا يستلزم إيجاد الآخر ، كالصلاة والنظر للأجنبية ، خرجا عن محل الكلام من
فرض اجتماع العنوانين في موجود واحد ، بلا إشكال.
وكذا إن كانا
موجودين بتأثير واحد ، بنحو لا يمكن التفكيك بينهما في الخارج إلا أن الإشارة
الحسية لأحدهما لا تكون إشارة للآخر ، كاستقبال المغرب واستدبار المشرق.
وإن كانا موجودين
بتأثير واحد ، وكانت الإشارة لأحدهما عين الإشارة للآخر ـ كالغصب والصلاة في الدار
المغصوبة ـ كان بينهما نحو من التركب ، لكن التركب المذكور ليس اتحاديا مبنيا على
اتحادهما في الموجود الواحد ، بل هو انضمامي يبتني على امتياز أحدهما عن الآخر
حقيقة ، بخلاف العنوانين الاشتقاقيين منهما ـ كالغاصب والمصلي ـ فإن التركيب
بينهما يكون اتحاديا.
والسر في الفرق :
أن مبدأ الاشتقاق ـ ومنه فعل المكلف ـ ماهية واحدة موجودة في جميع الأفراد ،
فالصلاة في المكان المغصوب متحدة مع الصلاة في غيره ماهية ، والغصب الموجود في ضمن
الصلاة متحد مع الغصب الموجود في غيرها ، والبياض الموجود في اللبن متحد مع البياض
الموجود في العاج ، فمع اجتماعهما في الموجود الواحد يمتنع اتحادهما في الخارج ،
لاستحالة صدق الماهيتين المتباينتين في فرد واحد ، لوضوح أنه ليس للفرد إلا ماهية
واحدة.
وحينئذ يتعين أن
يكون التركب بينهما في الخارج انضماميا مع التعدد حقيقة ، ويدخل في موضوع مسألة
الاجتماع.
بخلاف معروض
المبادي المحكي عنه بالعنوان الاشتقاقي ، إذ لا مانع من توارد الأعراض المتباينة
على المعروض الواحد وجودا وماهية ، فتعدد عناوينه الاشتقاقية تبعا لذلك ، ويكون
مجمعا لها. ومن هنا يكون التركيب بينها اتحاديا لا انضماميا ، فمع اختلاف متعلق
الحكمين فيها لا غير ، لأخذها على اختلافها قيدا في فعل المكلف الواحد الذي هو
متعلق الحكم ـ كما في : أكرم العالم أو العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التركيب
بينها في المجمع اتحاديا ، لا انضماميا ، ويدخل في التعارض.
لكنه يشكل ...
أولا : بأنه إذا أمكن تعدد الموجود من مبدأ الاشتقاق مع وحدة الاشارة الحسية له
الراجع لخطأ الإشارة المذكورة أو ابتنائها على التسامح أمكن ذلك في العناوين
الاشتقاقية من المبادئ المتعددة.
وما تقدم من إمكان
اتحاد العناوين المذكور في الموجود الخارجي الواحد ، لعدم المانع من وحدة المعروض
مع تعدد أعراضه. لا ينافي التعدد المذكور ، لأن الإمكان أعم من الوقوع.
وحينئذ لا وجه
للبناء على التعارض المبني على تكاذب الأدلة ، لأن إحراز التكاذب فرع إحراز تنافي
مضموني الدليلين ، والمفروض عدم إحرازه بسبب إمكان التعدد ، بل مقتضى إطلاق
الدليلين عدمه.
إلا أن يدعى أن
وحدة الإشارة الحسية كافية في بناء العرف على التعارض ورفعهم اليد عن إطلاق الدليل
عرفا ، وإن لم يستلزم التنافي بين مفادي الإطلاقين عقلا.
لكنه كما يجري في
العناوين الاشتقاقية يجري في مبادئ الاشتقاق ، فلا بد في الفرق من وجه آخر.
وثانيا : بأن ما
ذكره من امتناع اتحاد الماهيتين في الخارج الذي عليه يبتني امتناع اتحاد المبادئ
الاشتقاقية ـ ومنها فعل المكلّف ـ في الموجود الواحد ، وإن
كان من المسلمات
التي لا إشكال فيها عندهم ، إلا أنه مختص بالماهيات الحقيقية الراجعة إلى أحد
الأجناس العالية والمقولات العشر ، كالانسان والفرس والقيام والكلام. بخلاف
الماهيات الاعتبارية ، كالغصب والصلاة ، حيث لا مانع من اتحادها في أنفسها أو
اتحادها مع بعض الماهيات الحقيقة في الموجود الخارجي ، لعدم تقوم مفاهيمها
بالذاتيات ، بل بمحض الاعتبار والانتزاع ، ومن الظاهر إمكان أن يكون الموجود
الخارجي المتحد الماهية الحقيقية موضوعا لأكثر من اعتبار أو انتزاع واحد ، كالشخص
الواحد الذي يكون زوجا ورقا ، والعمل الواحد الذي يكون مستحبا ومملوكا للغير ، كما
يمكن أن يكون الاعتبار أو الانتزاع الواحد امورا متعددة مختلفة في الماهية ،
الحقيقية ، كالغصب المنتزع من التصرف في ملك الغير أو المنافي لحقه الصادق على الكون
في الدار المغصوبة الذي هو من مقولة الأين ولبس الثوب المغصوب الذي هو من مقولة
الفعل وغيرهما.
ويترتب على ذلك
إمكان اجتماع المبادئ الاشتقاقية المتعددة ـ ومنها أفعال المكلف التي هي موضوع
الأحكام التكليفية ـ في موجود واحد إذا كانت جميع عناوينها أو بعضها حاكية عن
ماهية اعتبارية أو انتزاعية بنحو يكون التركيب بينها اتحاديا بالمعنى الذي ذكره ،
كما هو الحال في مثل الصلاة والغصب المتحدين في السجود الواحد على الأرض المغصوبة
، لكونه جزءاً صلاتيا وتصرفا في ملك الغير بغير إذنه.
ولذا اعترف في
جملة كلامه بأن التركيب اتحادي بين متعلق الأمر والنهي في قولنا : اشرب الماء ،
ولا تغصب لو كان الماء مغصوبا ، حيث يقع كل تصرف فيه غصبا ، ومنه الشرب وجعل ذلك
خارجا عن موضوع مسألة الاجتماع الذي تقدم منه اختصاصه بما إذا كان التركب بين
المتعلقين انضماميا.
ومنه يظهر حال ما
ذكره قدّس سرّه من أن الحركة في ضمن الصلاة متحدة مع
الصلاة ، والحركة
في ضمن الغصب متحدة مع الغصب ، ولا مجال للبناء على اتحاد الحركتين في حركة واحدة
، بل يتعين تباينهما ، لتباين مقوليتهما.
لظهور ابتنائه على
ما ذكره من تعدد ماهيتي الغصب والصلاة وامتناع اتحادهما ، وقد عرفت ضعفه. مضافا
إلى الإشكال فيه ..
أولا
: بأن تعدد الحركة
مستلزم لحرمة كلتا الحركتين ، لكونهما تصرفا في المغصوب ، فيقع الاشكال في اتحاد
متعلق الأمر والنهي في الحركة الصلاتية.
وثانيا
: بأن الحركة بتمام
أفرادها من مقولة واحدة ، ولا اختلاف بين الحركتين في المقولة ، وغاية ما ينهض به
كلامه انهما مختلفا الماهية.
وثالثا
: بأن وحدة الحركة
من الوضوح والبداهة بنحو لا يمكن معه الإذعان للبرهان على التعدد.
ولو فرض تعددها
فأي تركب انضمامي بين حركتين متباينتين ، وكيف تكون الإشارة الحسية إليهما واحدة ،
وهل هما إلا كحركة الماشي وحركة المنحني المتباينتين ذاتا وعلة وإيجادا وخارجا.
نعم ، ذكر قدّس
سرّه في جملة كلامه أن محل الكلام يختص بموردين.
أحدهما
: ما إذا كان متعلق
كل من الأمر والنهي من مقولة مباينة لمقولة الآخر ، كالقيام في الدار المغصوبة ،
فإن القيام من مقولة الوضع ، والهيئة الحاصلة للقائم بالإضافة للدار من مقولة
الأين ، وهما مقولتان متغايرتان في الخارج.
ثانيهما
: ما إذا كان متعلق
أحدهما فردا من المقولات ومتعلق الآخر خصوصية فيها زائدة عليها منتزعة من أمر خارج
عنها ، كالابتداء والانتهاء بالإضافة إلى السير ، فإن السير الخارجي الذي هو فرد
لمقولة حقيقية ينتزع منه الابتداء بالإضافة إلى البصرة مثلا ، فالابتداء موجود
خارجي متمم لمقولة السير باعتبار صدوره من البصرة.
ومنه الوضوء من
الإناء المغصوب أو المتخذ من الذهب أو الفضة ، إذ
الوضوء باعتبار
نفسه الذي هو فرد من أفراد المقولة مأمور به ، وباعتبار إضافته إلى الاناء الذي
يحرم التصرف فيه منهي عنه ، وليس نفس استعمال الاناء داخلا في إحدى المقولات ، بل
هو متمم لها ومنشأ لانتزاع عنوان تقييدي زائد عليها.
وهو لو تم لم يحتج
لما سبق منه أولا من عموم امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية في الخارج ، لامتناع
اتحاد الماهيتين في الموجود الواحد المستلزم لتعدد ماهية الموجود الخارجي الواحد.
بداهة أن تباين المقولات وامتناع اتحادها في أنفسها كامتناع اتحادها مع متمم
المقولة بالمعنى المذكور من الوضوح بحدّ لا يحتاج معه لإقامة البرهان.
ولا يرد عليه ما
سبق من الوجهين ، لابتناء أولهما على وحدة الإشارة الحسية للماهيتين في الخارج ،
ومن الظاهر تعددها في المقولتين ، وفي المقولة مع متممها الذي هو من سنخ الإضافة
المباينة لطرفها ، وابتناء ثانيهما على إمكان اتحاد الماهيتين في الجملة ، لا
مطلقا ولو مع تعدد المقولة أو في المقولة ومتممها.
فالعمدة عدم
تمامية ما ذكره. أما كون متعلقي الأمر والنهي من مقولتين ، وأن متعلق النهي في
الغصب من مقولة الأين ومتعلق الأمر في الصلاة من مقولة مباينة لها ، كالقيام الذي
هو من مقولة الوضع.
فهو في غاية المنع
، ولذا لا إشكال ظاهرا في خروج الصوم وقراءة القرآن في الدار المغصوبة عن موضوع
المسألة ، ومجرد اجتماع المقولتين حينهما ، لأنهما من مقولة الفعل وكون المصلي
والقارئ في الدار من مقولة الأين ، لا يكفي في دخوله في موضوعها ، كما لا يكفي في
دخول الصلاة في المكان الذي لا يحرم التصرف فيه وإن حرم الكون فيه ليمين أو نحوه.
بل ليس دخول
الصلاة في الدار المغصوبة في موضوع المسألة إلا بلحاظ حرمة التصرف في المغصوب
ومخالفة مقتضى حق المالك فيه بأي مقولة
فرض ، فيتحد مع
بعض الأفعال الصلاتية كالركوع والسجود والقيام ، سواء كانت الأفعال الصلاتية خصوص
الأفعال المذكور بمفاهيمها المصدرية أو بما هي أسماء مصادر أم مع مقدماتها من
الهوي والنهوض ونحوهما.
وكذا الصلاة في
الثوب المغصوب إنما تكون من موضوع المسألة بلحاظ كون الحركات الصلاتية بنفسها
تصرفا في الثوب فتحرم ، لا لمجرد حرمة لبسه ، ولذا لا تدخل فيه الصلاة في الثوب
الذي يحرم لبسه ليمين ونحوه من دون أن يحرم التصرف فيه ، إلى غير ذلك ..
وفرض كون موضوعي
الأمر والنهي من مقولتين خروج عن محل الكلام ، بل لا يناسب ما سبق منه من وجود
الصلاة والغصب بتأثير واحد ووحدة الإشارة الحسّية لهما معا ، لوضوح تباين المقولات
ذاتا وعلة وإيجادا وخارجا ، بنحو لا بد من تعدد الإشارة إليها.
كما أن كون الغصب
من مقولة الأين لا يناسب ما تقدم منه من فرض الحركة الغصبية ومباينتها للحركة
الصلاتية ، لوضوح أن الحركة ليست من مقولة الأين ، بل من مقولة الفعل.
وأما كون متعلق
أحدهما من إحدى المقولات ومتعلق الآخر متمما للمقولة.
فهو مسلم في
الجملة ، إلا أن من الواضح أن متمم المقولة لما لم يكن له ما بإزاء في الخارج
ممتاز عن المقولة صالح للإيجاد بنفسه ، بل هو من سنخ الإضافة القائمة بأطرافها ،
فهو منتزع في المقام من إضافة فعل المكلف لأمر خارج عنه ، لزم رجوع التكليف به
أمرا أو نهيا للتكليف بالفعل المحقق للإضافة الذي هو من إحدى المقولات ، فالمحرم
في المثال حقيقة نفس الأكل أو الوضوء الخاص المتعلق بالاناء ، وحيث كان هو متعلق
الأمر فرضا لزم اتحاد المتعلقين وكونهما من مقولة واحدة.
والحاصل : أن ما
ذكره من فرض التركيب الانضمامي مما لا نتعقله ولا نتحققه ، بل متعلقاهما إما أن
يتعددا خارجا بنحو تتعدد الإشارة الحسية إليهما من دون تركيب بينهما أصلا ، فيخرج
المورد عن موضوع المسألة ، أو يتحدا في الخارج حقيقة ، لكون عنوان أحدهما أو
كليهما انتزاعيا أو اعتباريا قابلا للاتحاد مع الآخر. فلا مجال للتعويل على ما
ذكره في ضابط موضوع المسألة والفرق بينه وبين مورد التعارض ، بل لا مخرج عما سبق
منا في الضابط والفرق بينهما ، فلاحظ.
الأمر
الثالث : يظهر من كلام غير
واحد ابتناء الكلام في المسألة على أن متعلق الأحكام هو العناوين أو المعنونات ،
وأنه على الأول لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في مجمع العنوانين ، لتعدد الموضوع
، بل يمكن التقرب به وامتثال الأمر بناء على ذلك أيضا ، حيث يكون من ضم الطاعة
للمعصية ، وعلى الثاني يمتنع اجتماعهما فيه ، لوحدة الموضوع بناء على أن تعدد
العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، فيلزم اجتماع الضدين ، كما يمتنع التقرب به بعد
فرض تعلق النهي به ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.
وينبغي الكلام هنا
في المبنى المذكور وإيكال الكلام في ابتناء النزاع في هذه المسألة عليه إلى ما
يأتي عند التعرض للمختار فيها.
وتوضيح المبني
المذكور : أن الاحكام ككثير من الامور الاعتبارية والذهنية تختلف في طبعها على
أقسام ثلاثة ..
أولها
: ما يتعلق بكل من
العناوين الكلية والمعنونات الجزئية ، كالملكية المتعلقة : تارة : بالعناوين ،
كالذميات ومنافع الأعيان في مثل الإجازة والشرط ، لفعلية ملكيتها وترتب الأثر
عليها بلحاظ نفس الكلي قبل وجوده في الخارج.
واخرى
: بالمعنونات
الجزئية الخارجية ، كملكية الأعيان الموجودة.
ثانيها
: ما يتعلق
بالمعنونات الخارجية لا غير ، كالزوجية ، والرقية والطهارة
والنجاسة ، وليس
تعلقها بالعناوين في مقام الجعل أو الاخبار في مثل قولنا : الميتة نجسة ، وما
أشرقت عليه الشمس فقد طهر إلا بنحو القضية التعليقية الراجعة لعدم فعلية الحكم إلا
تبعا لفعلية انطباق العنوان على الفرد في الخارج ، مع كون الموضوع له هو الفرد
المذكور ، وليس العنوان إلا جهة تعليلية ، من دون أن يكون بنفسه بماله من حدود
مفهومية كلية موضوعا للحكم.
ثالثها
: ما يتعلق
بالعناوين الكلية بما لها من حدود مفهومية دون معنوناتها ، وهو الأحكام التكليفية
، إذ لا مجال للبناء على تعلقها بالفرد الخارجي على نحو تعلق القسم الثاني به ،
لوضوح أن ظرف وجود الفرد ظرف سقوط التكليف بالاطاعة أو العصيان ، لا ظرف ثبوته
وفعليته ، وإنما يثبت ويكون فعليا في ظرف عدمه ، ولا موضوع له حينئذ إلا العنوان
الكلي ، نظير ملكية الامور الكلية من الذميات وغيرها.
نعم ، لا ينبغي
الإشكال في أن تعلق الأحكام التكليفية بالعناوين والماهيات الكلية مبني على النظر
لمقام العمل ، فكل حكم يقتضي نحوا خاصا من العمل متعلقا بالماهية ، فالوجوب يقتضي
إيجادها في الخارج بفعل فرد منها والتحريم يقتضي عدمها بعدم تمام الأفراد في
الخارج ، والإباحة تقتضي التخيير بين الفعل والترك ، فالفرد مطابق لموضوع التكليف
ومتحد معه بنحو من انحاء الاتحاد في الخارج ، ووجوده أو عدمه مطابقان لمقتضى
التكليف أو مخالفان له ، لقيام الغرض والملاك المقتضي للفعل أو الترك بالوجود
الخارجي الطارئ على الفرد ، لا بالماهية من حيث هي مع قطع النظر عنه. ومن ثم يكون
به الإطاعة والعصيان ، نظير وفاء الذمي الكلي بالأعيان الشخصية.
وكأنه إلى هذا نظر
من حكم بتعلق التكليف بالمعنون ، وإلى ما ذكرناه أولا نظر من حكم بتعلقه بالعنوان.
والمتعين ما ذكرنا
حيث يكون به الجمع بين الأمرين ويبتني على
ملاحظة كلتا
الجهتين. وقد تقدم في مبحث تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد ما قد ينفع
في المقام.
ولنقتصر في مقدمات
الكلام في المسألة على هذه الامور الثلاثة المتقدمة ، لكفايتها في توضيح محل
النزاع.
إذا عرفت ذلك كله
فاعلم : أنه حيث تقدم في الأمر الثاني تحديد محل الكلام ، وأنه ملحق بالتزاحم بين
الحكمين ، وأن إطلاق كلا الدليلين فيه ينهض بإثبات ملاك كل من الحكمين في المجمع ،
فلا إشكال في إجزاء المجمع في امتثال الأمر ، سواء قيل بامكان اجتماع الحكمين فيه
أم بامتناعه ولزوم انفراده بأحدهما ، إذ مع وفائه بملاكه لا بد من إجزائه عنه وإن
لم يكن مأمورا به فعلا للمانع. وإنما الكلام والإشكال ..
أولا
: في إمكان اجتماع
الحكمين فيه وفعليتهما معا ، الذي هو موضوع الكلام في موضوع المسألة.
وثانيا
: في إمكان التقرب
به لو كان عبادة وفرض فعلية النهي عنه إما لإمكان اجتماعه مع الأمر أو لتقديمه
عليه مع امتناع الاجتماع ، الذي هو من أهم الآثار العلمية.
فالكلام في مقامين
..
المقام الأول
في إمكان الاجتماع وامتناعه
ولا ينبغي الإشكال
في إمكانه مع فرض عدم اتحاد العنوانين في الوجود الواحد ، وأن ما يطابق أحدهما
مباين لما يطابق الآخر وإن اجتمعا في فرد واحد.
وإليه يرجع ما قيل
من أن تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون ، وما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن
التركيب بين العنوانين انضمامي لا اتحادي. لأن فرض تعدد الموضوع ملازم لفرض عدم
اجتماع الحكمين في موضوع واحد.
كما أنه حيث فرض
في محل كلامهم سعة متعلق الأمر وعدم انحصاره بالمجمع بين العنوانين وإمكان امتثاله
بغيره ، فلا تزاحم بين التكليفين ، بل يتعين فعلية النهي الاستغراقي في المجمع
ومزاحمته لبعض أفراد المأمور به.
فإن قيل بأن ذلك
يستلزم قصور النهي عن الأفراد المذكورة ـ كما هو مختار بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ لزم
قصور متعلق الأمر عن المجمع من جهة المزاحمة ، لا من جهة لزوم اجتماع الضدين.
وإن لم نقل ذلك ـ كما
هو الحق ـ تعين بقاء الأمر على إطلاقه وشمولاه للمجمع كالنهي. ويظهر الكلام في ذلك
مما تقدم في ثمرة مسألة الضد. فراجع.
وأما بناء على
اتحاد العنوانين في المجمع لاتحاد مطابق كل منهما فيه ـ على ما هو التحقيق ، كما
يظهر مما تقدم في مناقشة بعض الأعاظم قدّس سرّه في دعوى أن التركيب بين العنوانين
انضمامي ـ فبناء على ما هو المعروف بينهم من تضاد الحكمين يتعين البناء على انفراد
المجمع بأحدهما وعدم اجتماعهما فيه.
كما يتعين حينئذ
تقدم النهي ، لأن ملاكه تعييني فلا يزاحم بملاك الأمر التخييري بالفرض ، بلا حاجة
إلى جهة اخرى تقتضي ترجيحه ، لأن ذلك إنما يحتاج إليه في موارد التعارض بين
الدليلين ، دون موارد التزاحم بين الحكمين التي تقدم أن المقام منها.
لكن يظهر من جملة
من كلماتهم أنه بناء على تعلق الأحكام بالعناوين ـ كما تقدم منا ـ لا يلزم من عموم
موضوع الحكمين معا للمجمع اجتماع الضدين. أما في مقام البعث والزجر فلتعدد المتعلق
، وهو العنوان ، وأما في مقام الإطاعة والعصيان بالفرد فلسقوط أحدهما بالإطاعة
والآخر بالعصيان ، من دون أن يلزم اجتماعهما في واحد ، على ما ذكره المحقق
الخراساني قدّس سرّه.
ومن ثم ذهب إلى
جواز الاجتماع بعض المحققين وتبعه بعض المعاصرين.
حيث قال في اصوله
: «وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد ...
متعلقا للايجاب والتحريم إلا بالعرض ، وليس ذلك بمحال ، فإن المحال إنما هو أن
يكون الشيء الواحد بذاته متعلقا للإيجاب والتحريم. وعليه فيصح أن يقع الفعل الواحد
امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق المأمور به عليه وعصيانا للنهي من جهة اخرى
باعتبار انطباق عنوان المنهي عنه».
وفيه : أن منشأ
تضاد الأحكام ـ كما سبق ـ ليس إلا اختلاف مقتضياتها في مقام العمل ، وحيث كان
متعلق العمل هو الفرد لزم التضاد بينها بلحاظ اختلاف نحو العمل المتعلق به من
حيثية كل منها ولا أثر لتعدد العنوان في ذلك.
ومن ثم لا إشكال
بعد ملاحظة المرتكزات العرفية في أن امتناع اجتماع الحكمين مع التطابق بين
العنوانين وكون النسبة بينهما التساوي ليس لخصوص محذور التكليف بما لا يطاق ،
لعموم الامتناع لما إذا أمكن الجمع بين الحكمين
عملا ، كالكراهة
أو الاستحباب والوجوب ، بل لمحذور اجتماع الضدين الراجع للتنافي ارتكازا بين
الحكمين.
بل الوجه المختار
لنا ولهما لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات جار في جميع العناوين من دون فرق
بينهما ، مع أنه اعترف بعض المعاصرين رحمه الله في ما سبق بتنافي الإطلاقين في بعض
موارد العموم من وجه والتزم لأجله بالتعارض بينهما وخروجهما عن موضوع مسألة
الاجتماع واختصاص موضوعها بما إذا لحظ كل من العنوانين فانيا في مطلق الوجود
المضاف للطبيعة من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد.
ولو لا الاكتفاء
بوحدة المعنون في التنافي بين الحكمين وامتناع اجتماعهما لم يكن وجه لذلك كله ،
كما يظهر بأدنى تأمل.
ومن هنا لا مخرج
عما ذكرنا من لزوم البناء على امتناع الاجتماع في المقام بناء على تضاد الحكمين من
دون أن يكون لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات دخل في ذلك.
نعم ، تقدّم في
الأمر الأول أن التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم إذا كان موضوع الأول أعم مطلقا
أو من وجه ليس تاما ، لأن الحكم البدلي كما يقتضي السعة بالإضافة إلى تمام أطرافه
يقتضي الاجتزاء بها في مقام امتثاله ، والتحريم ينافي السعة لمورده ، ولا ينافي
إجزاءه في امتثال الأمر ، فيتعين إمكان اجتماعهما في ذلك.
غاية الأمر أنه
تقدم دعوى ظهور دليل النهي في مقام الإثبات في قصور الأمر عن متعلقه بنحو لا يجزي
عنه وإن أمكن إجزاؤه ثبوتا. لكنها ـ لو تمت ـ تختص بموارد التعارض التي لا يحرز
فيها من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، دون موضوع مسألة الاجتماع الذي
سبق نهوض الإطلاقين فيه بإحراز كلا الملاكين فيه.
إذ مع فرض إحراز
كلا الملاكين وإمكان تأثيرهما معا لا وجه للبناء على عدم ثبوت الأمر من حيثية
الإجزاء في المقام ، كما لعله ظاهر.
ولعل ارتكاز ذلك
وعدم وضوح حدوده هو الموجب لدعوى إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين ممن تقدم ، مع
الغافلة عما ذكرنا.
هذا هو المهم من
الكلام في المسألة.
وذكر في كلماتهم
الاستدلال على امتناع الاجتماع وجوازه بوجوه اخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها ،
ولا سيما مع ظهور حال بعضها مما تقدم.
نعم ، ربما احتج
للجواز بالعبادات المكروهة. ويأتي الكلام فيها في تنبيهات المسألة إن شاء الله
تعالى.
المقام الثاني في
إمكان قصد التقرب بالمجمع في فرض النهي عنه والأثر لذلك إجزاؤه لو كان عبادة.
ولا ينبغي التأمل
في إمكان قصد التقرب به مع الغافلة عن النهي أو الجهل به ، لعدم صلوحه للمبعدية
حينئذ لينافي القصد المذكور.
غايته أن التقرب
به مع البناء على إمكان الاجتماع لكونه من أفراد الطبيعة المأمور بها ، ومع البناء
على امتناعه لمجرد واجديته للملاك المفروض في المقام. كما أن الكلام في كفاية
الجهل التقصيري في تحقق التقرب المعتبر في العبادة تابع لدليل اعتبار التقرب ، وهو
يختلف باختلاف العبادات ، فيوكل للفقه ، وليس الكلام هنا إلا في إمكان قصد التقرب
الذي يكفي فيه الجهل بالنهي مطلقا ، كما ذكرنا.
وأما مع الالتفات
للنهي فإن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بملاك اجتماع الضدين ، لوحدة متعلق
الحكمين ، بناء على تعلق الأحكام بالمعنونات دون العناوين ، واتحاد العنوانين في
المجمع ، لاتحاد مطابق كل منهما فيه ، فلا إشكال في امتناع قصد التقرب في المقام ،
لامتناع فعليه التقرب والانقياد بما هو مبعد وتمرد على المولى ، وإن كان واجدا
لملاك المقربية ، كما هو المفروض في المقام.
وأما لو قيل
بإمكان الاجتماع ، لتعلق الحكم بالعنوان المفروض تعدده ، دون المعنون ، كما تقدم
من بعض المحققين والمعاصرين وغض النظر عما
تقدم ، أو لعدم
التضاد التام بين العنوانين ، كما تقدم منا ، فقد ذكرا قدّس سرّهما أن اللازم
البناء على إمكان التقرب ، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية في مقام الامتثال ، لا
من التقرب بما هو مبعد الممتنع ، لغرض تعدد موضوعي الوجوب والحرمة ، وهما
العنوانان.
لكنه يشكل بأن ذلك
لا أثر له في إمكان التقرب ، لأن الانقياد والتقرب والبعد والتمرد لا تتبع مقام
الجعل المفروض تعلقه بالعنوانين ، بل مقام الامتثال والعصيان اللذين يكونان
بالمعنون المفروض في المقام وحدته ولو مع تعدد العنوان ، فيلزم التقرب بما هو
مبعد.
ولذا يتعين امتناع
تقرب المكلف بالفعل الموصل للحرام ، بحيث لا يقدر على منعه بعده ، كما لو كانت
الصلاة في السطح موجبة لتخلخله بحيث ينفذ فيه المطر ، ويسقط على من تحته من
المؤمنين ، أو كانت موجبة لتنفر الظالم وقتله مؤمنا تحت يده ، ونحو ذلك ، كل ذلك
لأن موضوع الحرمة وإن كان مباينا لموضوع الوجوب في مقام الجعل ، إلا أن استناد
الحرام في الفرض لفعل المكلّف موجب لصدق المعصية عليه وكونه تمردا على المولى
ومبعدا منه ، فلا يناسب التقرب به منه ، ليمكن قصده.
وقد حاول بعض
المحققين قدّس سرّه دفع ذلك ، فقال : «وأما التقرب بالمبعد فإن اريد منه ما هو
نظير القرب والبعد المكانيين ، بحيث لا يعقل حصول القرب إلى مكان مع حصول البعد
عنه ، ففيه : أن لازمه بطلان العمل حتى في الاجتماع الموردي ، نظرا إلى عدم حصول
القرب والبعد معا في زمان واحد. وإن اريد منه سقوط الأمر والنهي وترتب الغرض وعدمه
فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطا للأمر ـ حيث إنه مطابق ما تعلق به ـ ومسقطا
للنهي بالعصيان ـ حيث أنه خلاف ما تعلق به ونقيضه ـ.
وكذا ترتب الثواب
عليه ، من حيث أنه موجب لسقوط الأمر بإتيان ما
يطابق متعلقه
المحصل للغرض منه ، فإنه لا ينافي ترتب العقاب عليه من حيث إنه موجب لسقوط النهي
بإتيان ما يناقض متعلقه المنافي لغرضه منه.
بل هكذا حال القرب
والبعد الناشئين من التخلق بالأخلاق الفاضلة أو الرذيلة ، فانه بواسطة التخلق
بالخلق الفاضل له التشبه بالمبدإ الكامل ، فهو قريب من هذا الوجه ، وإن كان بواسطة
التخلق بخلق رذيل بعيد منه من ذلك الوجه».
ويشكل : بأن
التقرب المعتبر في العبادة ليس بمعنى القرب المكاني ليمتنع اجتماعه مع البعد في
وقت واحد ، ولو مع تعدد الفعل ، ولا بمعنى موافقة التكليف والغرض ، ليمكن اجتماعه
مع البعد ولو مع وحدة الفعل ، بل بمعنى وقوع الفعل في طريق المولى ولأجله في حسابه
، بحيث يكون مظهرا للخضوع له ولعبادته والفناء فيه والانقياد له ، وذلك لا يمكن مع
وقوع الفعل ونفسه على وجه العصيان للمولى والتمرد عليه والخروج عن مقتضى مولويته ،
وإن أمكن ذلك بالإضافة إلى فعل آخر مباين له ولو مع وحدة الزمان.
ومنه يظهر الحال
في استحقاق العقاب والثواب ، فانهما تابعان البعد والقرب بالمعنى المذكور ، لا
لمجرد موافقة التكليف والغرض ومخالفتهما ، ليمكن اجتماعهما بالإضافة إلى الفعل
الواحد.
وأما ما ذكره
أخيرا من قياس القرب والبعد الحاصلين بالتخلق بالأخلاق الفاضلة والرذيلة بما نحن
فيه.
فهو كما ترى! إذ
ليس القرب والبعد فيهما إلا بمعنى المشابهة والمباينة اللذين هما من الامور
الإضافية المختلفة باختلاف جهتي الشبه والمباينة. على أن الخلق الفاضل مباين
للرذيلة ماهية ومظهرا في مقام العمل ، فلا ينفع الاستشهاد بهما في المقام.
وبالجملة : لا
ينبغي التأمل في امتناع التقرب بالفعل الواحد إذا كان معصية مبعدا. واختلاف
العنوان أو تعدد الغرض لا ينفع مع وحدة الفعل.
ولو لا ذلك لامكن
التقرب بالمجمع حتى بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، لأنه وإن لم يكن مأمورا
به حينئذ إلا أن المفروض واجديته لملاك الأمر ووفاؤه بغرضه ، وأن المورد من صغريات
التزاحم ، ولذا كان المعروف صحة الامتثال به مع الغافلة عن النهي.
وحينئذ يتقرب بقصد
الملاك ، مع أن ظاهره كصريح بعض المعاصرين وغيره المفروغية عن عدم التقرب حينئذ ،
لامتناع التقرب بما هو مبعد.
وما أبعد بين ما
ذكراه وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من امتناع التقرب بناء على مختاره من جواز
الاجتماع لأن التركيب بين العنوانين انضمامي.
بدعوى : أنهما وإن
لم يتحدا في الخارج إلا ان امتزاجهما في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة لأحدهما دون
الآخر يوجب اتحادهما في مقام الإيجاد والتأثير ، فيكون موجدهما مرتكبا للقبيح في
إيجاده ، ومعه يستحيل مقربية الفعل الصادر منه.
هذا ما ذكره ، وإن
كان التصديق به فرع تعقل التركيب الانضمامي ، ليرجع للمرتكزات في إمكان التقرب معه
وامتناعه ، وقد سبق عدم تعقله ، فلا مجال للجزم بحال ما ذكره.
وكيف كان ، فلا
مخرج عما ذكرنا من امتناع التقرب بناء على المختار من اتحاد العنوانين في الخارج
واتحاد مطابق كل منهما في الفرد ، بحيث يوجدان بفعل واحد من دون فرق بين القول
بإمكان الاجتماع والقول بامتناعه من القول بتعلق الأحكام بالمعنونات والقول
بتعلقها بالعناوين ، لأن المقربية والمبعدية من شئون مقام الامتثال والعصيان
المفروض اتحادهما في الخارج. فلاحظ.
بقي في المقام
تنبيهات.
التنبيه
الأول : أشرنا في مطاوي
الكلام السابق إلى اختصاص مورد كلامهم بصورة وجود المندوحة وإمكان امتثال الأمر
بغير المجمع ، حيث لا إشكال في بقاء الأمر فعليا حينئذ مطلقا وإن قيل بالامتناع ،
لعدم مزاحمته للنهي ، ولزوم تقديم النهي عملا في المجمع ، لأنه تعييني ، فلا يمكن
استيفاؤه مع استيفاء الأمر التخييري بفرد آخر.
ومعه لا حاجة في
تقديم النهي إلى وجه آخر إثباتي راجع للأدلة ، أو ثبوتي راجع للحكم نفسه بلحاظ
أهميته ، وإن أطال غير واحد الكلام في ذلك.
أما في صورة عدم
المندوحة وانحصار امتثال الأمر بالمجمع فيلزم التزاحم بين الحكمين ، ويتعين تقديم الأقوى
منهما تبعا لقوة ملاكه ، على ما هو المقرر في التزاحم ، ولا يكون الأضعف فعليا حتى
بنحو الترتب ، للغوية الخطاب به معلقا على معصية الآخر المستلزمة لموافقته هو ،
لرجوعه لطلب الحاصل.
نعم ، لو كان
الأرجح هو النهي فربما يدعى إلزام العقل في ظرف عصيانه باختيار الفرد الواجد لملاك
الأمر وإن لم يكن مأمورا به ، وأن غيره من الأفراد أشد محذورا أو عقابا ، لما فيه
من تفويت كلا الملاكين ، فلو انحصر تطهير المسجد بالماء المغصوب ، وفرض أهمية حرمة
الغصب من وجوب التطهير ، فإذا عصى المكلّف واستعمل الماء المذكور كان استعماله في
غير التطهير أشد محذورا وعقابا بنظر العقل من استعماله في التطهير.
لكن لا مجال
للتقرب بالفرد المذكور ، لما سبق من مانعية تحريم الفعل من قصد التقرب به ، فلا
يصح لو كان الأمر عباديا.
التنبيه
الثاني : أشرنا في آخر
المقام الأول إلى استدلال بعضهم على جواز اجتماع الأمر والنهي بالعبادات المكروهة
، كالصلاة في الحمام وصوم يوم عاشوراء وغيرهما.
وتقريبه : أن وجه
تضاد الأحكام الذي هو مبني امتناع الاجتماع لا يختص بالوجوب أو الاستحباب والحرمة
، بل يجري في الوجوب أو الاستحباب والكراهة أيضا ، فلو كان مانعا من اجتماع الحكمين
في محل الكلام لامتنعت كراهة العبادة ، لتقوم العبادة بالأمر ، فيلزم اجتماع
الكراهة مع الوجوب أو الاستحباب ، مع أنه لا إشكال في إمكانها ، بل ثبوتها في
الجملة.
لكن لا مجال
للاستدلال المذكور بعد ملاحظة أن من العبادات المكروهة عندهم ما ينحصر امتثال أمره
بالفرد المكروه ، كصوم التطوع يوم عاشوراء ، مع وضوح امتناع اجتماع الأمر المذكور
والنهي فيه لو كانا لزوميين.
بل كثير منها ما
يتحد فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي وإن اختلفا بالإطلاق
والتقييد ، وقد سبق بناؤهم فيه على التنافي بين الحكمين والتعارض بين الدليلين
مطلقا وخروجه عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي.
ومن هنا يلزم
النظر في العبادات المكروهة وتطبيقها على ما سبق وغيره مما تقتضيه القواعد
العقلية.
فنقول : ـ بعد
الاتكال عليه تعالى وطلب العون والتسديد منه ـ العبادات المكروهة على قسمين :
القسم
الأول : ما يختلف فيه
منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي ، كالوضوء والغسل بالماء المشمس ،
حيث يظهر من أدلة الكراهة أن موضوعها استعمال الماء المذكور في الغسل ونحوه
بعنوانه الأولي ، مع أن موضوع الأمر بالوضوء والغسل هو الغسل بلحاظ ترتب الطهارة
عليه ، فهو عنوان ثانوي تسبيبي.
والكلام في هذا
القسم هو الكلام المتقدم في مسألة الاجتماع من كون المورد ملحقا بالتزاحم في
واجديته لملاك كلا الحكمين.
فإن أمكن امتثال
الأمر بفرد آخر غير المجمع أثّر كل من الملاكين أثره ، لعدم التضاد بين الحكمين
بعد عدم كون الكراهة حكما إلزاميا وعدم كون الأمر اقتضائيا في مورد الاجتماع ،
فيلتزم ببقاء الأمر على إطلاقه بالاضافة إليه ، فيجزي عنه ، مع فعلية الكراهة فيه.
وإن انحصر امتثال
الأمر بالمجمع لزم التزاحم بين الحكمين ، فيتعين تقديم الأمر إن كان إلزاميا ،
والترجيح بالأهمية إن لم يكن إلزاميا. لكن المرجوح وإن سقط بالمزاحمة يبقى ملاكه ،
ولذا يصح الامتثال به إن كان المرجوح هو الأمر.
كما أن الظاهر عدم
الإشكال بينهم في إمكان التقرب به لو كان عبادة ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكلماتهم
في الفقه ، حيث ذكروا في شروط العبادات ـ كالطهارات والصلاة والحج ـ إباحة
متعلقاتها في الجملة ، كالماء والاناء والمصب والساتر وغيرها على تفصيل يرجع إلى
اعتبار عدم اتحاد فعل العبادة مع الحرام أو إيصاله إليه ، ولم يشيروا لذلك في
الكراهة مع كثرة المكروهات في الامور المذكورة بنحو تتحد العبادة معها أو توصل
إليها ، وما ذلك إلا لمفروغيتهم عن عدم مانعيتها من التقرب.
وكأنه لما ذكره
المحقق الخراساني قدّس سرّه من الفرق بين النهي التحريمي والتنزيهي بأن التحريمي
يقتضي كون الفعل معصية للمولى ومبعدا منه ، فيمتنع التقرب به ، بخلاف التنزيهي ،
حيث لا تكون مخالفته معصية للمولى.
ولذا اتفقوا على
صحة العبادة مع مزاحمتها لمستحب أهم ، واختلفوا في صحتها مع مزاحمتها لواجب ، فذهب
جماعة لبطلانها للنهي عنها ، بناء منهم على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده.
لكن قال سيدنا
الأعظم قدّس سرّه : «النهي التحريمي والنهي التنزيهي وإن اختلفا في اقتضاء
مخالفتهما البعد وعدمه ... إلا أنهما لا يختلفان في مانعيتهما من إمكان
التقرب ، حيث لا
يتأتى قصد التقرب بما هو مبغوض للمولى ويزجر عنه. والاتفاق على صحة العبادة إذا
كانت ضدا للمستحب الأهم ينبغي أن يكون دليلا على مختاره من عدم اقتضاء الأمر
بالشيء النهي عن ضده ، لا على عدم قدح النهي التنزيهي في إمكان التقرب».
وفيه : أن بطلان
القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن كان مسلما ، إلا أنه مبني على عدم
مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر ، فلا يكون فعل الضد المهم مانعا من ضده الأهم
ليكون منهيا عنه عرضا تبعا للأمر به ويمتنع التقرب ويبطل إذا كان عبادة.
أما لو فرض كون
العبادة مانعة من فعل الواجب ، بحيث يستند تركه إليها ، فلا إشكال في بطلانها
عندهم ، حيث يكون فعلها معصية لأمره وتمردا على المولى ، فيمتنع التقرب بها منه ،
ولا يظن من أحد الالتزام بذلك فيما لو كانت مانعة من مستحب مأمور به فعلا كالحج
والزيارة. وما ذلك إلا للفرق بين التكليف الإلزامي وغيره بما سبق من المحقق
الخراساني قدّس سرّه.
وعليه يبتني
تفريقهم الذي ذكره بين ضد الواجب وضد المستحب في الاتفاق على صحة الثاني إذا كان
عبادة والخلاف في صحة الأول وابتنائه على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده.
نعم ، يظهر من
المحقق الخراساني قدّس سرّه اختصاص ذلك بما إذا كان النهي عرضيا بسبب كون الفعل
مفوتا لمصلحة غير ملزمة ، أما لو كان أصليا بسبب ترتب مفسدة غير ملزمة على الفعل ـ
كما هو المفروض في هذا القسم ـ فيكون مانعا من التقرب.
وقد يظهر من غير
واحد المفروغية عنه.
وكأنه لدعوى أن
المفسدة توجب مبغوضية الفعل وإن لم يلزم بتركه ، فيمتنع مع ذلك التقرب به.
لكنه لا يناسب ما
أشرنا إليه من ظهور عدم الإشكال بينهم في الفقه في إمكان التقرب في هذا القسم.
وكأنه يبتني على
ما سبق منا في حقيقة الأحكام التكليفية الشرعية من عدم انتزاعها من الإرادة
والكراهة الحقيقيتين اللتين هما من سنخ المحبوبية والمبغوضية ، بل من الخطاب بداعي
إضافة الفعل أو الترك للمولى الأعظم وجعله في حسابه ، بحيث يقوم به المكلّف لأجله
مع جعل المسئولية في الأحكام الإلزامية ، وبدونه في غيرها من الأحكام الاقتضائية.
وبعبارة اخرى :
المانع من قصد التقرب للمولى بالفعل إما كونه معصية له وتمردا عليه ، أو كونه
مبغوضا له بحيث يتنفر منه ، والنهي التنزيهي لا يوجب الأول فرضا ، كما لا يستلزم
الثاني على التحقيق ، بل هو محال في حقه تعالى. فلا وجه لمانعيته من التقرب بالفعل
لو كان ذا ملاك صالح للمقربية.
ومنه يظهر أن ما
سبق من سيدنا الأعظم قدّس سرّه من امتناع التقرب بما هو مبغوض للمولى ممنوع صغرويا
، وإن تمّ كبرويا.
وبالجملة : لا
ينبغي التأمل في عدم مانعية الكراهة من التقرب ، بعد ما ذكرناه آنفا من ظهور
مفروغية الأصحاب في الفقه عن ذلك ، حيث يكشف ذلك عن وضوح المدعى بنحو يلحقه
بالبديهيات ، ويلحق وجوه المنع بالشبهات المقابلة لها التي لا تعويل عليها لو خفي
وجه حلها ، فضلا عما لو اتضح ، كما سبق.
القسم
الثاني : ما يتحد فيه منشأ
انتزاع عنواني متعلق الأمر والنهي مع الاختلاف بالإطلاق والتقييد ، كما في الصلاة
في الحمام أو في السواد وصوم يوم عاشوراء وغيرها.
ولا يخفى أن
اجتماع الملاكين في المجمع كما يمكن ثبوتا مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين ، كذلك
يمكن مع اتحاد منشأ انتزاعهما ، وإنما الفرق بينهما
في استفادة ذلك من
الإطلاقين ، حيث ينهض الإطلاقان بإثبات الملاكين في المجمع بنظر العرف مع اختلاف
منشأ انتزاع العنوانين ، ولا ينهضان بذلك مع اتحاد منشأ انتزاعهما ، بل يكونان
متعارضين فيه عرفا ، ومعه لا يحرز الملاكان ، كما تتقدم.
لكن لا بد في
المقام من إحراز ملاك الأمر ، لأن كراهة العبادة وعدم حرمتها تستلزم مشروعيتها
وصحتها التي هي فرع ثبوت ملاكها. ومن هنا يمكن حمل الكراهة المستفادة من النهي
ونحوه على أحد وجهين ..
أولهما
: الكراهة الحقيقية
الراجعة إلى مرجوحية الفعل. وذلك بأن يكون المجمع واجدا لملاكها مع ملاك الأمر
المفروض وحينئذ إن كان الأمر بدليا لا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة في
الحمام أو في السواد بالإضافة إلى وجوب صلاة الفريضة واستحباب صلاة النافلة
المرتبة ، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى قضاء رمضان أو قضاء الصوم المطلق ـ تعين
عدم التزاحم بين الحكمين ، وعموم الحكم البدلي لمورد الكراهة بناء على ما سبق منا
من عدم التضاد التام بين الأمر البدلي والنهي في مثل المقام.
وإن كان الأمر
بدليا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة المذكورة مع ضيق الوقت ، والنوافل
المبتدأة في الأوقات المكروهة ، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى عموم استحباب الصوم
الشمولي المقتضي لاستحباب صوم اليوم المذكور تعيينا ـ لزم التزاحم بين الحكمين ،
فيكون الأمر فعليا إذا كان إلزاميا ، ولا تكون الكراهة فعلية ، فلا يتأتى توهم
مانعيتها من التقرب الذي تقدم الكلام فيه. ومع عدم كون الأمر إلزاميا يتعين
الترجيح بالأهمية فلو كانت الكراهة أهم لم يكن الأمر فعليا. كما هو الظاهر في مثل
صوم يوم عاشوراء ، حيث يظهر من أدلة
النهي عنه
مرجوحيته ، بحيث يكون تركه أرجح من فعله ، بل ظاهرها الحرمة لو لا المفروغية ظاهرا عن مشروعيته وإن
كان تحقيق ذلك موكولا للفقه ، وهو خارج عن محل الكلام.
ولا مجال في الفرض
المذكور للبناء على ثبوت الأمر الترتبي معلقا على مخالفة الكراهة ، لأن مخالفتها
إنما تكون بموافقة الأمر ، فاناطة الأمر بها راجع لطلب الحاصل ، نظير ما تقدم في
التنبيه الأول.
ودعوى : أن ذلك
يختص بما إذا كان ملاك الأمر مترتبا على مطلق الوجود ، وأما إذا كان مترتبا على
حصة خاصة من الفعل فلا محالة يكون المورد داخلا في صغرى التزاحم الذي يمكن فيه
الترتب ، كما في المقام ، حيث يكون ملاك الأمر مترتبا على الفعل بما هو عبادة
مقصودا به الترتب ، فلا تكون مخالفة الكراهة بالفعل كافية في موافقة الأمر ، ليلزم
من فعلية الأمر حينه طلب الحاصل.
مدفوعة : بأن ذلك
إنما يتم لو لم يكف الفعل لا بقصد التقرب في ترتب ملاك الكراهة ، كما في مثل
التزاحم بين استحباب الصوم واستحباب إجابة المؤمن بالأكل عنده ، حيث لا يكفي في
موافقة الثاني الامساك لا بنية الصوم التقربي ، وحينئذ يمكن الأمر بالصوم التقربي
بنحو الترتب معلقا على عدم إجابة المؤمن ، وهو خلاف المفروض في المقام ، لوضوح أن
المنهي عنه تنزيها هو العبادة بما هي عبادة ، كصوم يوم عاشوراء والصلاة في الحمام
، فلا تكون مخالفته إلا بالفعل التقربي الذي يتحقق به موافقة الأمر العبادي.
وبعبارة اخرى :
الأمر في المقام دائر بين النقيضين ، إلا أنهما ليسا مطلق الفعل وتركه ، بل خصوص
الفعل العبادي وتركه ، وهو كاف في امتناع أمر العبادة بنحو الترتب.
__________________
نعم ، هذا لا
ينافي مشروعية الفعل العبادي بلحاظ ملاكه وإن امتنع الأمر به. ولا فرق بين المقام
وسائر موارد التزاحم المعهودة ، إلا في أن التزاحم في تلك الموارد اتفاقي ، فيكون
التكليف المرجوح في غير مورد المزاحمة فعليا ، وفي المقام دائمي لا يكون المرجوح
فيه فعليا دائما ، مع اشتراكهما في إمكان تحصيل ملاك المرجوح ، فيمكن التقرب به
بلحاظ ذلك بعد ما سبق في القسم الأول من عدم مانعية الكراهة من التقرب.
وأما الإشكال في
ذلك بامتناع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية التي يصلح معها للمقربية ، لأنه
حيث يلزم من تحصيله فوت الملاك الأهم ينبغي على المولى سد باب تحصيله برفع اليد
عنه بنحو لا يصلح أن ينسب إليه ويحصل لأجله ، منعا من تفويت الملاك الأهم ، ويبقى
ملاكا اقتضائيا ، كما في سائر موارد التزاحم الملاكي.
فيندفع : بأن بلوغ
الملاك المذكور مرتبة الفعلية وصلوحه للمقربية لا يكون بنفسه مفوتا للملاك الأهم ،
وإنما المفوت له هو موافقة العبد للملاك المرجوح بفعل العبادة ، غاية الأمر أن
بلوغه المرتبة المذكورة شرط في التفويت المذكور ، إذ لولاه لتعذر على العبد التقرب
بالعبادة والإتيان بها ، وكان تاركا لها قهرا ، ويتعذر عليه مخالفة ملاك الأهم ،
إلا أنه لا يجب على المولى تعجيز العبد عن مخالفة الأحكام وتفويت الملاكات.
ولا سيما مع أن
فائدة إبقاء الملاك في مرتبة الفعلية وتشريع الفعل تبعا له تحصيل العبد لثوابه لو
اختاره أو ثواب امتثال الكراهة لو قصده بالترك ، أما مع رفع اليد عنه وسقوطه عن
المرتبة المذكورة ، فيلزم عجز العبد عن الفعل ووقوع الترك منه قهرا بنحو لا يستتبع
الثواب عليه ، نظير ترك صوم يوم العيد.
وبالجملة : يتعين
البناء على إمكان مشروعية الفعل في المقام ووقوعها تبعا للملاك المفروض بنحو يمكن
التقرب به لأجله وإن لم يكن الأمر على
طبقه فعليا.
ثانيهما : يبتني
على كون الكراهة إضافية ، راجعة إلى نقص الفرد المرجوح بلحاظ ماهية المأمور به من
حيث هي بطبعها وإن كان راجحا في نفسه.
وتوضيح ذلك : أن
الماهية المأمور بها قد يكون لها بنفسها نحو من الأثر والملاك مع قطع النظر عن
المشخصات والمقارنات.
أما تشخصها في بعض
الأفراد والمقارنات ..
فتارة : لا يكون
له دخل في الأثر المذكور.
واخرى : يكون له
ميزة تقتضي نقصه.
وثالثة : يكون له
ميزة تقتضي زيادته.
والأول هو الفرد
العادي ، والثاني هو الفرد المكروه ، والثالث هو الفرد المستحب ، وإن كان الكل
مؤديا للمقدار الداعي للتشريع الوجوبي أو الاستحبابي.
فالمكروه وإن كان
راجح الوجود بلحاظ ما يحصل به من ملاك الماهية بطبعها ، إلا أنه حيث كان موجبا
لنقص الملاك الذي هو مقتضي الماهية بنفسها صدق عليه المكروه بلحاظ ذلك ، وإن كان
مجزئا لفرض كفاية الباقي في غرض التشريع الوجوبي أو الاستحبابي للماهية ، فهو أنقص
ملاكا بالإضافة إلى الماهية بطبعها ، بالإضافة إلى الماهية بما هي مشروعة بنحو
الوجوب أو الاستحباب ، بل هو مؤد لتمام الملاك المقتضي للتشريع المذكور.
ومنه يظهر أن
اختلاف افراد الماهية في الفضيلة لا يصحح إطلاق المكروه على كل ما هو أنقص من غيره
، ولا صدق المستحب على كل ما هو أفضل من غيره ، بل يختص المكروه بما ينقص معه
الملاك الثابت للماهية بطبعها ، والمستحب بخصوص ما يزيد معه الملاك المذكور ، كما
نبه له المحقق
الخراساني قدّس
سرّه.
هذا ، ومن الظاهر
أن الكراهة بالمعنى المذكور لا تقتضي مرجوحية الفعل ، لتنافي وجوبه أو استحبابه ،
ويقع الكلام في وجه الجمع بينهما.
نعم ، الكراهة
المذكورة إنما تصحح النهي الشرعي مع وجود المندوحة وإمكان تحصيل ملاك الأمر
بالطبيعة في فرد لا نقص فيه ، حيث يكون الغرض منه التنبيه لاختيار الامتثال بالفرد
المذكور.
أما مع عدم
المندوحة وانحصار الامتثال بالفرد الناقص فلا يصح النهي عنه ، إذ ينحصر به حصول ما
يمكن تحصيله من الملاك الراجح التحصيل.
ومن هنا لا مجال
لتنزيل كراهة مثل صوم يوم عاشوراء على الوجه المذكور ، لعدم اختصاصها بمثل صوم
القضاء مما يمكن امتثاله في غير اليوم المذكور ، بل يعم مثل صوم التطوع الاستغراقي
الراجع لاستحباب صوم كل يوم ، لملاكه القائم به ، ولا يفي به غيره. فتخص الكراهة
في مثله بالوجه الأول.
بقي شيء ، وهو أنه
يظهر من جميع ما تقدم الحال في استحباب حقيقيا ، ومع اتحاد منشأ انتزاعهما
والاختلاف في القيود قد يكون الاستحباب بعض أفراد الماهية المشروعة وجوبا أو
استحبابا وأنه مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين يكون الاستحباب حقيقيا ناشئا عن
ملاك مباين لملاك أصل الماهية ، أو عن ملاك مسانخ لملاكها ، نظير ما تقدم في
الكراهة الاضافية. وعلى جميع التقادير يلزم تأكد تأكد الرجحان في المجمع لواجديته
لكلا الملاكين.
وما يظهر من
المحقق الخراساني قدّس سرّه من كونه موجبا لتأكد الوجوب لو كان أمر الماهية
وجوبيا. في غير محله ، ضرورة أن تأكد الوجوب إنما يكون بتأكد الإلزام الذي لا مجال
له في المقام بعد فرض كون الجهة التي يمتاز بها الجمع إنما تقتضي استحبابه ، لا
وجوبه.
التنبيه
الثالث : بعد فرض اجتماع
ملاكي الأمر والنهي في المجمع فقد تقدم لزوم تقديم النهي عملا ، لأن مفروض كلامهم
وجود المندوحة في امتثال الأمر وإمكان امتثاله بغير مورد الاجتماع ، فلا يكون
تعيينيا في مورد الاجتماع ، ليصلح لمزاحمة النهي التعييني.
كما تقدم في
التنبيه الأول أنه مع عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بمورد الاجتماع يلحق
المورد بالتزاحم الذي يتعين فيه تقديم الأهم تبعا لأهمية ملاكه.
وحينئذ لو فرض
تقديم النهي في المجمع لوجود المندوحة ، أو لأهميته مع عدمها ، إلا أن المكلف اضطر
لارتكاب أحدا أفراد الماهية المحرمة التي منها المجمع ، فلا إشكال في سقوط النهي
عن الفعلية في تمام أفراد الماهية ، ومنها المجمع ، بنحو البدلية ، مطلقا ولو كان
الاضطرار بسوء الاختيار ، لما تقدم من امتناع التكليف في فرض تعذر امتثاله ،
لانحصار الغرض منه بإحداث الداعي العقلي المشروط بالقدرة.
وحينئذ يلزم
البناء على وجوب المجمع ، أما في فرض وجود المندوحة في امتثال الأمر مع البناء على
عدم التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم ـ كما تقدم منا ـ فظاهر ، لفرض عموم الوجوب
للمجمع قبل سقوط النهي ، فبقاؤه بعد ارتفاعه أولى.
وأما بناء على
التضاد بينهما أو فرض عدم المندوحة المستلزم لسقوط الأمر حال فعلية النهي ، فلأنه
بعد فرض عدم تأثير ملاك النهي بسبب الاضطرار يتعين تأثير ملاك الأمر وفعليته.
لكن استشكل في ذلك
سيدنا الأعظم قدّس سرّه قال : «لأن الفعل يكون مرجوحا حينئذ ، ولا يجوز الأمر بما
هو مرجوح ، والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم ، كي يكون الفعل راجحا ولو
بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا ،
نظير ارتكاب أقل
القبيحين».
وفيه : أنه بعد
فرض الاضطرار لارتكاب المرجوح وعدم صلوح ملاكه المرجح له للمنع ، فلا أثر له في
مزاحمة ملاك الوجوب ، وإن كان هو أقوى منه بدوا.
وبعبارة اخرى : في
ظرف لزوم فوت ملاك النهي بسبب الاضطرار يكون اختيار المجمع أرجح من عدمه لأن تركه
يستلزم فوت كلا الملاكين وفعله يستلزم تحصيل أحدهما ، وهو أرجح من فوتهما معا ،
فمرجوحيته في نفسه لا ينافي رجحانه عرضا في حال الاضطرار المفروض ، فيلزم الأمر به
شرعا في الحال المذكور. ولو لا ذلك لم يكن وجه للوجوب العقلي الذي ادعاه قدّس سرّه
، لعدم الفرق بين حكمي العقل والشرع في لزوم مراعاة الرجحان المذكور.
ودعوى : كفاية
الحكم العقلي المذكور عن حكم الشارع في حفظ الملاك ، ومعه لا فائدة في حكم الشارع.
مدفوعة : بأن حفظ
الملاك بالتشريع مختص بالشارع وليس للعقل إلا الحكم في مرتبة متأخرة عنه بلزوم
متابعته وإطاعته ، ولو لا ذلك لزم اكتفاء الشارع الأقدس ببيان الملاكات عن جعل
الأحكام على طبقها.
واختصاص العقل
بالحكم باختيار أقل القبيحين إنما يكون مع قيام الشارع بوظيفته في حفظ الملاك
بالتشريع ، كما لو أراد المكلّف لداع شهوي أو نحوه مخالفة أحد تكليفين للشارع
مختلفي الأهمية ، فإن العقل يحكم بأولوية موافقة الأهم فيهما.
هذا ، ويظهر من
المحقق الخراساني قدّس سرّه امتناع الأمر مع كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لا
لقصور في الملاك ، بل لوجود المانع ، وهو كون الفعل معصية ومبغوضا ومستحقا عليه
العقاب ، لدعوى منافاة ذلك للأمر به ، الذي هو فرع محبوبيته ومستلزم لكونه طاعة
مستحقا عليه الثواب ، وهذا هو الفارق بين
الاضطرار المذكور
والاضطرار لا بسوء الاختيار.
ويندفع : بأن
مبغوضية الماهية من حيثية تفويت الملاك الأهم لا تنافي محبوبية خصوص المجمع بعد
لزوم فوت الملاك المذكور ـ بسبب الاضطرار ـ لأجل تحصيل الملاك المهم ، فهو بعد
الاضطرار محبوب فعلا وإن كان مبغوضا اقتضاء. ولا فرق بين الاضطرارين بالإضافة
للملاك الذي هو المعيار في المحبوبية والمبغوضية والأمر والنهي.
بل تقدم أن
التكاليف الشرعية لا تتقوم بالمحبوبية والمبغوضية بل بالخطاب بداعي جعل السبيل
التابع لحال الملاك الذي لا يفرق فيه بين الاضطرارين ، وإنما الفرق بينهما في
المؤاخذة على الحرام بسوء الاختيار ، وعدمها إذا لم يكن كذلك.
ولا دخل لذلك في
إمكان الأمر ، إذا لا تبتني المؤاخذة على الحرام إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار
على كون الفعل بنفسه حين وقوعه معصية فعلية ، لفرض سقوط النهي ، بل على الاضطرار
مصححا للعقاب عليه في وقته بلحاظ تفويت ملاك الحرمة به ، وهو لا ينافي الأمر به
تبعا للملاك الآخر بعد فرض لزوم فوت ملاك الحرمة على كل حال بسبب الاضطرار ، فيقع
امتثالا للأمر بعد فعليته ، وإن كان الاضطرار منشأ للعقاب عليه ، لاستناد تفويت
ملاك النهي إليه.
وأما كونه معصية
للنهي فإنما هو بمعنى منجزية النهي عنه حين الاضطرار بحيث يقتضي المنع عن الوقوع
في الاضطرار ويعاقب بسببه بمقدار ما يقع من الحرام ، لا بمعنى كونه معصية وتمردا
حين وقوعه بعد الاضطرار وبعد سقوط النهي ، ليمنع من الأمر به ووقوعه طاعة للأمر
المذكور.
وبالجملة : ظرف
القبح الفاعلي الذي هو مورد المنع العقلي ويمتنع معه الأمر هو ظرف القيام بسبب
الاضطرار ، لا ظرف الفعل بعده ، وإن كان مورد القبح الفعلي هو ظرف الفعل بعد
الوقوع في الاضطرار ، وهو لا يمنع من الأمر به بعد
كونه سببا لتحصيل
ما يمكن تحصيله من الملاك ، حيث يوجب حسنه فعلا من دون أن يمنع منه قبحه الأولي ،
حيث لا يؤثر في المنع بعد لابدية حصوله بسبب الاضطرار. فلاحظ.
ونظير ذلك ما لو
لاحظ المولى ملاكا فجعل التكليف لحفظه ، فألجأه المكلف لرفع اليد عنه مع بقاء
ملاكه بإحداث الملاك المزاحم الأهم ، حيث يكون إحداث الملاك المذكور بمنزلة
التعجيز عن التكليف الأول في استحقاق عقاب مخالفته كالمعصية له ، وإن كان امتثال
التكليف الحادث على طبق الملاك الأهم لازما ، لفعليته.
كما لو أوجب
المولى حفظ الماء ، فأراد المكلف إلجاءه للتكليف بصرفه بفعل ما يوجب عطش من يهتم
المولى بحفظه ، فأمره بصرف الماء في رفع عطشه ، فإنه يستحق بفعل ما يوجب العطش
عقاب صرف الماء ، وإن وجب عليه بعد حصول العطش.
ودعوى : أن العقاب
في ذلك على إحداث الملاك الأهم ، كفعل ما يوجب العطش ، لا على صرف الماء المأمور
به بعد العطش.
مدفوعة : بأن
إحداث الملاك الأهم كالاضطرار في المقام ، وإن كان هو المنشأ في استحقاق العقاب ،
إلا أن العقاب بلحاظ الملاك الفائت ، ولذا يكون العقاب تابعا له كثرة وقلة ، فكلما
كان الماء المحتاج لصرفه أكثر كان العقاب أكثر. وإن أبيت فيه إلا عن ذلك جرى مثله
في المقام ، لأنهما من باب واحد.
وبالجملة :
المقامان من باب واحد والرجوع للمرتكزات العقلائية في الملاكات وما يستتبعها من
جعل الأحكام والطاعة والمعصية والانقياد والتمرد والثواب والعقاب يشهد بامكان
الأمر بالمجمع ، بل لزومه بلحاظ ملاكه ، وإن كان المكلف مستحقا للعقاب بلحاظ فوت
ملاك النهي عنه بسبب الاضطرار بسوء الاختيار ، وأن تبدل حكم الفعل والأمر به حين
القيام به إنما ينافي العقاب عليه
إذا لم يستند
للمكلف تفويت ملاك النهي السابق ، وإلا لم ينافه ، لعدم رجوع استحقاق العقاب
للوعيد المستتبع للداعي العقلي المنافي لمقتضى الأمر ، بل هو أمر واقعي لا أثر له
في مقام العمل.
نعم ، متابعة
الأمر اللاحق في المقام توجب نحوا من الثواب أو تخفيف العقاب السابق ، نظير ما
تقدم في الأمر الترتبي بالضد ، وإن كان بين المقامين فرق من جهات متعددة. فلاحظ.
ومما ذكرنا يتضح
أنه يمكن التقرب في فرض الاضطرار للحرام ، لأن المانع منه ليس إلا فعلية الحرمة ،
فمع فرض عدم فعليتها وسقوطها بالاضطرار لا مانع منه.
بل فرض فعلية
الأمر يستلزم إمكان التقرب ، إذ لا معنى لفعلية الأمر مع عدم التقرب بامتثاله.
ومجرد واجديته لملاك الحرمة لا يصلح للمنع من التقرب بعد فرض سقوط الملاك المذكور
عن تأثير الحرمة ، وعدم صلوحه لمزاحمة ملاك الأمر والمنع منه.
كما لا يمنع من
ذلك كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لأن التمرد الذي يمتنع معه التقرب إنما يكون
بفعل سبب الاضطرار ، لا بنفس فعل الحرام بعد سقوط حرمته بتحقق سبب الاضطرار.
والعقاب عليه ليس لكونه بنفسه تمردا ، بل بمعنى عدم معذرية الاضطرار في الإتيان
به.
نعم ، لا بد مع
ذلك من الالتفات إلى سقوط الحرمة بسبب الاضطرار ، بحيث يكون الارتكاب لأجله ، لا
لعدم الاهتمام بمخالفة المولى والتمرد عليه مع قطع النظر عنه ، لأن سقوط الحرمة مع
الاضطرار ليس لارتفاع موضوعها ، بل لكونه عرفا من سنخ العذر المانع من العقاب ،
كالحرج والجهل.
وصلوح الأعذار
لرفع المسئولية ارتكازا ، بحيث لا تكون المخالفة تمردا ، فرع الاعتماد عليها في
مخالفة التكليف للأولى بنحو لا يقدم المكلف
عليها لولاها ،
ولا يكفي تحققها واقعا مع عدم اهتمام المكلف بها وكونه بحيث يخالف المولى على كل
حال ، لعدم اهتمامه بمخالفته والتمرد عليه ، وإلا وقعت تمردا وكانت مانعة من
التقرب وإن لم يكن التكليف بها فعليا ، بل وإن وقعت موردا للأمر ، كما في المقام ،
لأن التقرب بالأمر فرع الانقياد للمولى ، فلا يقع ممن هو بفعله في مقام التمرد
عليه والاستهانة به.
وبالجملة : إذا
التفت المكلف إلى سقوط الحرمة عن المجمع بسبب الاضطرار وفعلية الوجوب له ، وكان
داعيه إلى الفعل هو الوجوب المذكور ، والانقياد للمولى بموافقته ، تم منه التقرب
المعتبر في العبادة وصحت منه ، وإن كان معاقبا بلحاظ حصول سبب الاضطرار بسوء
اختياره على المولى بفعل السبب المذكور.
وأظهر من ذلك ما
لو حصلت التوبة الماحية للذنب ، بأن ندم المكلف على ما كان منه وأقلع عنه وعزم على
عدم الرجوع اليه ، حيث لا فرق بين الاضطرار حينئذ والاضطرار بسوء الاختيار في
إمكان التقرب بالأمر بلا إشكال.
وعليه يبتني تفصيل
سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه في صحة الصلاة بين التوبة وغيرها قال : «ويظهر
من الجواهر أن التوبة إنما يترتب عليها الأثر إذا كانت بعد الفعل لا قبله. ولكنه
غير ظاهر في مثل الغرض ، أعني ما لو فعل ما هو علة تامة في الوقوع في المعصية».
وما ذكره قدّس
سرّه في محلّه ، بل حتى لو تم ما في الجواهر ، وغض النظر عما تقدم ـ من أن منشأ
استحقاق للعقاب هو إيقاع النفس في الاضطرار السابق على التوبة ـ فهو مختص بأثر
التوبة الراجع للشارع الأقدس ، وهو رفع العقاب دون مثل التقرب من الآثار التكوينية
النفسية الوجدانية ، حيث لا إشكال في إمكانه مع التوبة في الفرض ، لارتفاع حالة
التمرد المانعة منه معها ، وإن لم تكن التوبة مسقطة للعقاب في الفرض أو مطلقا. فلاحظ.
والله سبحانه وتعالى العالم.
ولنكتف بما ذكرنا
في الكلام في الاضطرار ، حيث يمكن الاستغناء بملاحظة عن الكلام في ما أطالوا فيه
الكلام من حكم الخروج من الأرض المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره ، لأن المهم من
ذلك هو إمكان التقرب بالعبادة المبنية على التصرف في الغصب حال الخروج ، الذي يظهر
حاله مما ذكرناه هنا. وأما نفس حكم الخروج فلا أهمية للكلام فيه بعد المفروغية عن
لزومه عقلا ، ولو لتجنب أشد المحذورين. وبذلك ينتهي الكلام في مسألة اجتماع الأمر
والنهي.
والحمد لله رب
العالمين.

الفصل السّادس
في اقتضاء النهي
الفساد
إن عدّ هذه
المسألة من مسائل الملازمات العقلية يبتني على ما هو الظاهر منهم من عدم الفرق في
محل الكلام بين استفادة النهي من دليل لفظي واستفادته من غيره ، حيث يظهر من ذلك
أن موضوع البحث هو الملازمة ثبوتا بين النهي والفساد ، لا إلى ظهور دليل النهي في
الفساد إثباتا.
نعم قد ينافي ذلك
ذهاب بعضهم ـ كما قيل ـ إلى دلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار
الملازمة بينه وبين الحرمة فيها.
قال سيدنا الأعظم
قدّس سرّه : «فلو كان البحث في المقام عن الملازمة التي لا مساس لها باللفظ لا عن
الدلالة التي هي من أحواله ، كان اللازم عدّ القول المذكور من القول بالنفي ، لا
قولا بالإثبات ، كما صنعوا».
ومن ثم قد يظهر من
المحقق الخراساني قدّس سرّه عدّ البحث في المسألة من مباحث الألفاظ الراجعة لمقام
الدلالة.
لكن لا مجال لرفع
اليد عما سبق بعد عدم أهمية القول المذكور ، وقرب كون منشئه دعوى الملازمة الشرعية
لظهور بعض النصوص في ذلك ، ولذا يبعد منه تخصيصه بما إذا استفيد النهي من دليل
لفظي ، فيخرج عن مباحث الألفاظ.
ومن هنا كان
الأولى إدخال المسألة في الملازمات العقلية ، وعدّ القول المذكور قولا بالنفي ،
فإنه أجمع لشتات البحث ، وأولى بنظمه.
إذا عرفت هذا
فاعلم : أن محل كلامهم العبادات والمعاملات وقد تقدم
في المسألة
الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد في العمل منتزعان من التمامية
وعدمها بلحاظ ترتب الغرض المهم عليه ، فما يترتب عليه الغرض المهم هو الصحيح وما
لم يترتب عليه هو الفاسد.
وحيث كان الغرض
العملي المهم من فعل العبادة هو الإجزاء والخروج عن مقتضى الأمر بها كان المبحوث
عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.
وجعل المعيار في
الصحة أمرا آخر كموافقة الأمر أو الشريعة تطويل لا يترتب عليه أثر في مقام العمل.
كما أنه حيث كان
الغرض من المعاملة ـ عقدا كانت أو إيقاعا ـ هو ترتب مضمونها شرعا كان المبحوث عنه
في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.
وحيث كان منشأ
المنافاة في كل منهما مباينا لمنشئه في الآخر فاللازم البحث في مقامين ..
المقام الأول
في العبادات
وقد يقرب اقتضاء
النهي عنها فسادها بمنافاة النهي للأمر بها ، الذي لا بد منه في مشروعية العبادة
وصحتها.
وهو يبتني على ما
تقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي من التضاد بين الأحكام ، وقد تقدم الكلام في
شمولاه لما إذا كان الأمر بدليا مع وجود المندوحة وإمكان امتثاله بغير مورد النهي.
مع أن المفروض في
محل الكلام إن كان هو إحراز ملاك الأمر في مورد النهي ، بدليل خاص ، أو تبعا
للضابط المتقدم في تلك المسألة فمن الظاهر أنه يكفي في صحة العبادة وغيرها مما يقع
موردا للأمر ويهتم بإجزائه واجديته للملاك ولو مع سقوط الأمر.
وإن كان المفروض
عدم إحراز ملاك الأمر في مورد النهي ، للدليل الخاص على عدم ثبوته ، أو تبعا
للضابط المتقدم فمنشأ الفساد ثبوتا ليس هو النهي ، بل فقد الملاك المذكور. غايته
أن دليل النهي قد يمنع من إحراز ملاك الأمر من إطلاق دليله ، وهو أمر آخر غير
اقتضاء النهي الفساد.
هذا ، مضافا إلى
أن الوجه المذكور لا يختص بالعبادة ، بل يجري في كل مأمور به وإن كان توصليا ،
كتطهير المسجد وتكفين الميت والانفاق على الزوجة وغيرها ، لوضوح أنه لا مجال
لإجزاء ما لا يشمله الأمر ولا يكون واجدا لملاكه ، مع أن ظاهر أخذهم العبادة في
موضوع الكلام خصوصيتها في اقتضاء النهي
الفساد.
ومن هنا كان
الظاهر أن نظرهم في دعوى اقتضاء النهي الفساد إلى مانعية النهي الفعلي من التقرب
ولو مع إحراز الملاك أو عموم الأمر لدعوى إمكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد
العنوان ـ كما تقدم من بعضهم ـ أو لدعوى عدم التضاد التام بين النهي والأمر البدلي
مع المندوحة ـ كما تقدم منا ـ وقد تقدم توضيح ذلك في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
فراجع.
ويترتب على ذلك
امور ..
الأول
: اختصاص اقتضاء
النهي الفساد في محل الكلام بما إذا كان النهي معلوما أو محرزا بدليل شرعي أو عقلي
، أو منجزا عملا بأصل كذلك ، أما مع الجهل المعذر أو الغافلة عنه أو عن وجوب
الاحتياط ولو كانت عن تقصير فلا يكون مانعا من التقرب وجدانا.
نعم قد يدعى عدم
كفاية التقرب المذكور مع التقصير المصحح للعقاب ، وهو خارج عن محل الكلام راجع إلى
تحديد التقرب المعتبر في العبادة ، وهو بالفقه أنسب.
وهذا بخلاف ما لو
كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لوضوح أن التنافي بين الأمر والنهي لو تم لا
يختص بصورة الالتفات إليهما.
الثاني : أن
اقتضاء الفساد لا يختص بالنهي الواقعي ، بل يجري في اعتقاده خطأ وإحرازه بدليل
شرعي أو عقلي أو تنجزه بأصل كذلك ، ولو مع عدم وجوده واقعا ، لاشتراك الجميع في جعل
المكلف حين الفعل في مقام التمرد به المنافي للتقرب به.
وهذا بخلاف ما لو
كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لوضوح اختصاص المنافي للأمر بالنهي الواقعي.
الثالث
: اختصاص الاقتضاء
بالنهي التحريمي دون التنزيهي ، لما تقدم
عند الكلام في
العبادات المكروهة من عدم مانعية التنزيهي من التقرب.
وهذا بخلاف ما لو
كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لوضوح أن الكراهة كالحرمة منافية للوجوب
والاستحباب.
نعم ذلك لا يجري
مع المندوحة وإمكان امتثال الأمر بغير مورد الكراهة ، لما تقدم عند الكلام في تضاد
الأحكام من عدم التضاد أصلا بين الكراهة والأمر البدلي مع المندوحة. فراجع.
الرابع
: عموم اقتضاء
الفساد للنهي الغيري الثابت لمقدمة الحرام على النحو المتقدم في ذيل مسألة مقدمة
الواجب ، بل حتى لو لم نقل بثبوت الحرمة الغيرية للمقدمة المذكورة لا بد من البناء
على بطلانها لو كانت عبادة ، لأن عصيان النهي النفسي لما كان يستند للإتيان بها
يكون الإتيان ، بها تمردا يتعذر التقرب به.
بخلاف ما لو كان
مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لأن وقوع المأمور به مقدمة للحرام الفعلي وإن أوجب
سقوط الأمر به للتزاحم لو كان مضيّقا ، ورفع اليد عنه في مقام العمل لو كان موسّعا
، إلا أنه لا ينافي بقاء ملاكه ، ومعه يتعين الإجزاء بلا إشكال ، نظير ما تقدم في
مسألة الضد.
بقي
شيء ، وهو أنه بناء على
اقتضاء النهي الفساد على أحد المبنيين السابقين فالنهي في المقام يتصور على وجوه
..
أولها
: النهي المتعلق
بالعبادة بنفسها وبتمامها ، ولا إشكال في اقتضائه الفساد.
ثانيها
: النهي عن جزئها.
والأمر فيه كذلك ، لأن الجزء حيث كان عبادة يفسد بالنهي وفساده مستلزم لفساد الكل
، إلا في فرض اجتزاء الشارع بالناقص ،
كما في موارد حديث
: «لا تعاد الصلاة ...» ، أو فرض تداركه بإعادة الجزء في محله ، إذا لم يتعذر
التدارك ببطلان المركب بزيادة الجزء الفاسد المنهي عنه ، الذي محتاج لدليل خاص.
لكن ذكر بعض
الأعاظم قدّس سرّه ـ بعد البناء منه على الوجه الأول لاقتضاء النهي الفساد ـ أنه
يكفي النهي عن الجزء في البناء على مبطليته بدعوى : أن النهي عن الجزء يستلزم أخذ
العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، وتكون مقيدة بعدمه ، فيكون من الموانع المخلة
بها.
وهو كما ترى ، فإن
حرمه الشيء لا تستلزم تقييد المركب بعدمه ، ليكون مبطلا له. ولذا لا إشكال في عدم
مبطلية الحرام للمركب إذا لم يكن من سنخ أجزائه ، كالنظر للأجنبية في أثناء
الصلاة.
ولا فرق بينه وبين
ما هو من سنخ الأجزاء إلا في أن النهي عن الثاني قد يستلزم تقييد إطلاق دليل جزئية
الجزء بغيره ، بحيث لا يجزي المنهي عنه في تمامية المركب بل لا بد من غيره ، وهو
راجع إلى فساده ، لا إفساده.
هذا وحيث كان
معيار بطلان العبادة في الفرض بطلان جزئها ، لاستلزم بطلان الجزء بطلان الكل ،
فاللازم عدم اختصاص بطلان المركب بما إذا كان بتمامه عباديا ، بل يكفي فيه عبادية
جزئه المنهي عنه ، لعموم منشأ البطلان له.
ثالثها
: النهي عن شرط
العبادة ، كالنهي عن حرمة لبس الحرير للرجال لو فرض عدم الدليل على مانعيته من الصلاة.
وقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أنه لا يوجب فساد العبادة.
ووجهه بعض الأعاظم
قدّس سرّه بأن الشرط في الحقيقة هو المعنى الاسم المصدري ، والحرام هو المعنى
المصدري ، وهما متباينان ، فالمحرم أجنبي عن
__________________
العبادة فلا يقتضي
فسادها ، بل هو كالنظر للأجنبية أثناء الصلاة.
واستشكل فيه بعض
مشايخنا (دامت بركاته) بأن المعنى المصدري عين المعنى الاسم المصدري حقيقة ووجودا
وخارجا ، وليس الفرق بينهما إلا اعتباريا ، فيمتنع كون أحدهما مأمورا به والآخر
منهيا عنه ، ولا محيص عن الالتزام بكون النهي المتعلق بالشرط موجبا لكون التقييد
بالشرط المأمور به في ضمن الأمر بالمقيد متقيدا بغير الفرد المحرم ، ضرورة أن
المأمور به لا بد أن يكون مغايرا في الوجود للمنهي عنه في الخارج ، فالعبادة
المقترنة بالشرط المنهي عنه لا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها ، فتقع فاسدة لا
محالة.
وما ذكره من اتحاد
المصدر مع اسم المصدر في محله. بل اختصاص الشرط باسم المصدر غير ظاهر المأخذ ، بل
هو تابع لدليل الشرطية الذي يمكن أن يكون بالوجهين.
إلا أن ذلك ، وحده
لا يكفي في مانعية النهي من شمول القيد للفرد المحرم ، لأن التقييد بالشرط لا يرجع
إلى الأمر به ، كي يدعى منافاة النهي له ويلزم قصور الشرط عن الفرد المنهي عنه ،
بل هو راجع إلى الأمر بالمشروط المقارن له بنحو لا يسع غيره ـ على ما تقدم توضيحه
في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية من مبحث المقدمة ـ وهو لا
ينافي حرمة الشرط بوجه ، فوجوب خصوص الصلاة المقارنة للستر لا تنافي حرمة الستر
إلا من حيثية لزوم التكليف بما لا يطاق ، فإذا لم ينحصر الستر بالفرد المحرم لم
يلزم المحذور المذكور ، ولا موجب لتقييد الستر المعتبر بخصوص غير المحرم.
نعم ، بناء على
ثبوت الأمر الغيري بالشرط ومنافاة النهي للأمر البدلي مع المندوحة يتعين قصور
الأمر الغيري عن الفرد المحرم. إلا أنه ليس لقصور الأمر المذكور عن الشرطية كي لا
يجزي ، بل للمانع مع كونه مجزيا ، عملا بإطلاق دليل الشرطية.
هذا ، وقد ذكر بعض
المحققين قدّس سرّه في وجه اقتضاء النهي عن الشرط البطلان أن التقرب بالمتقيد
بالمبغوض كالتقرب بالمبغوض ، وكذا الأمر بالمتقيد بالمبغوض كالأمر بالمبغوض. وهو
راجع إلى امتناع الأمر بالمشروط والتقرب به مع حرمة الشرط.
أقول
: أما امتناع الأمر
بالمشروط مع حرمة الشرط فهو مختص بما إذا انحصر الشرط بالحرام ، كما يظهر مما سبق.
وأما التقرب بالمشروط مع حرمة الشرط فلم يتضح الوجه في امتناعه مطلقا بعد كونهما
فعلين متباينين اختياريين صادرين عن إرادتين ، لا دخل لاحدهما بالآخر في مقام
الفعل وتحريك العضلات ، ومجرد دخل الشرط في المشروط شرعا لا اثر له في مقام
التقرب.
نعم لو كانت إرادة
المشروط مستلزمة لإرادة الشرط للالتفات إلى شرطيته وانحصار الداعي للشرط بفعله لم
يبعد امتناع التقرب بالمشروط ، حيث يكون قصد امتثال أمر المشروط ـ الذي به مقتضي
التقرب ـ راجعا إلى قصد فعل الحرام وداعيا إليه ، ومعه يمتنع التقرب ارتكازا.
ومن ثمّ ذكرنا في
الفقه امتناع التقرب بالمركب إذا استلزم فعل الحرام تدريجا ، كالوضوء بالاغتراف من
إناء الذهب لأن الغسل بنفسه وإن لم يكن محرما إلا أن القصد للغسل الوضوئي لما كان
مستلزما للقصد إلى إكماله بتكرار الاغتراف المحرم امتنع التقرب به. فلاحظ.
رابعها
: النهي المتعلق
بوصف العبادة الخارج عنها.
وقد ادعى المحقق
الخراساني قدّس سرّه أن الوصف إذا كان لازما للعبادة بحيث لا يمكن وجوده في غيرها
ـ كالجهر في القراءة الذي لا ينفك عنها ، وإن أمكن انفكاكها عنه واتصافها بغيره ـ كان
النهي عنه مساوقا للنهي عنها ، فيترتب عليه حكم النهي عن العبادة.
وهو غير ظاهر
الوجه ، إذ مجرد ملازمة الوصف للموصوف لا تقتضي
اشتراكهما في
الحكم. بل لا تمنع من اختلافهما في المقام فيه بعد فرض إمكان خلو الموصوف عن الوصف
ـ وإن امتنع العكس ـ فيكون الوصف حراما والموصوف واجبا. كيف! وقد سبق إمكان اجتماع
الوجوب البدلي مع الحرمة في موضوع واحد ، فإمكان اجتماعهما في موضوعين متلازمين
أولى.
اللهم إلا أن يرجع
إلى أن النهي عن الوصف لا يراد به إلا النهي عن الموصوف الواجد له فالمراد بالنهي
عن الجهر بالقراءة هو النهي عن القراءة الجهرية ، واستفادة النهي عن الموصوف ليس
لكونه لازما للنهي عن الوصف ، بل لكونه هو المراد منه.
لكنه لا يخلو عن
خفاء. على أنه لم يتضح الوجه في اختصاصه بالنهي عن الوصف اللازم الذي لا يتحقق في
غير العبادة.
فالأولى أن يقال :
لما كان الموصوف في المقام هو العبادة التي هي فعل المكلف ، وهو من الامور
المتصرمة غير القارة في الوجود ، فإن كان الوصف منتزعا من فعل منفصل عنها في
الوجود بإرادة متجددة لا دخل لها بإرادتها ، كالعجب بالعبادة وإعلام الغير بها
المتأخرين عنها ـ لو فرض حرمتهما ـ فلا إشكال في عدم مانعية حرمة الوصف المذكور من
التقرب بها حين وقوعها. إلا أن يكون إيجادها بداعي التوصل لتحقيق الوصف المذكور ،
حيث يكون القصد المذكور موجبا لكون العمل تجريا مبعدا يمتنع معه التقرب به.
وإن كان منتزعا من
فعل مقارن لها في الوجود بقصد مقارن لقصدها ، منتزع من أمر قائم بها ـ كالجهر
بالقراءة ـ أو خارج عنها ـ كالرياء بها ـ أشكل التقرب بها مع الالتفات لحرمة الوصف
، لأن القصد إليها قصد لتحقيق موضوع الوصف المحرم الذي يكون به وجوده وبعدمه عدمه
، فيكون فعله بهذا اللحاظ مبعدا يتعذر معه التقرب به.
والتفكيك بين
القصدين تبعا للتفكيك بين الفعلين دقة لا يكفي في
التقرب بحسب
المرتكزات العقلائية المحكمة في المقام.
وعلى ذلك يبتني
بطلان الصلاة لو قصد الرياء ببعض خصوصياتها الخارجة عنها ، كالتحنك حالها أو
إبقاءها في المسجد أو جماعة ، فضلا عن مثل المتأنّي فيها أو الجهر بها أو اختيار
بعض السور المأثورة فيها.
نعم ، لما كان
البطلان في ذلك كله بملاك امتناع التقرب بالمبعد جرى فيه ما تقدم من تحديده بصورة
الالتفات للحرمة وغيره. فلاحظ.
المقام الثاني
في المعاملات
ولا إشكال ظاهرا
عند جماعة من محققي المتأخرين في عدم اقتضاء النهي فيها الفساد لو كان راجعا لحرمة
المعاملة من حيث هي وبعنوانها ، كما في حرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، فلا
يمنع من ترتب أثرها عليها ، إذ ليس نسبتها إلى أثرها إلا نسبة الموضوع لحكمه ،
لوضوح أن سببيتها لأثرها منتزعة من حكم الشارع بنفوذ مضمونها ، ومن الظاهر عدم
منافاة حرمة الموضوع لترتب حكمه عليه ، كما في تحريم كثير من الأسباب الشرعية ،
كأسباب الضمان والقصاص والكفارات وغيرها.
وأظهر من ذلك ما
لو كان راجعا لحرمة المعاملة لجهة خارجة عنها ـ غير المسبب ـ كما لو حرم إيقاع
العقد الكلامي لإضرار الكلام بالعاقد ، أو لحرمة كلام أحد المعاقدين مع الآخر ،
لجهة تخصهما.
وأما لو كان راجعا
لحرمة الأثر ، بحيث لا تكون المفسدة قائمة بالمعاملة لذاتها أو لجهة خارجة عنها ،
بل بلحاظ أثرها وترتب مضمونها عليها شرعا ، وحرمة المعاملة إنما هي لكونها الفعل
الاختياري للمكلف المستتبع لترتب أثره شرعا مع عدم قدرته على الأثر مباشرة ، نظير
تنجيس المسجد الذي يحرم بلحاظ ترتب النجاسة عليه. ومثاله في المقام ما لو فرض حرمة
بيع المصحف أو المسلم من الكافر ، لقيام المفسدة بتملك الكافر لهما. فقد يدعى
منافاة التحريم للصحة واستلزامه الفساد لوجهين ..
الأول
: أن الأثر لما كان من الأحكام التابعة للشارع ، وترتبه على
المعاملة ليس لخصوصيتها الذاتية التكوينية ، بل لإمضائها من قبله الراجع لحكمه
بالأثر بعد تحقق المعاملة ، فمع فرض ترتب المفسدة عليه ومبغوضيته للشارع تبعا لها
، ولذا حرّمه ، كيف يمكن جعله من قبله وحكمه بترتبه ، إمضاء للسبب ، بل يتعين عدم
ترتبه الراجع لفساد المعاملة.
وقد يدفع ذلك
بإرجاع النهي عن الأثر إلى النهي عن المؤثر ، لأن الأثر ليس فعلا للمكلف ، لا
بالمباشرة ، كما هو ظاهر ، ولا بالتسبيب لعدم كون سببية السبب ذاتيه ، بل هو تابع
لاعتبار الشارع الذي هو بيده ، فيمتنع نهي المكلف عنه ، ويتعين رجوع النهي عنه
للنهي عن إيجاد المعاملة بنفسها ، لأنها الأمر الاختياري له ، فيلحقه حكم الصورة
الاولى.
وفيه : أن النهي
وإن كان راجعا إلى المعاملة ، لما ذكر ، إلا أن المفروض كون موضوع المفسدة
والمبغوضية هو الأثر ، وسراية النهي منه إلى المعاملة ليس لكونها بنفسها موضوع
المسألة والمبغوضية ، بل لأنها الأمر الاختياري الموصل اليه في الجملة ، القابل
لأن يكلف به ، مع كون موضوع المفسدة هو الأثر ، فيعود الإشكال.
ولعل الأولى دفعه
ـ مضافا إلى أن لازمه البطلان مع كون النهي تنزيهيا ، لأنه أيضا ناشئ عن مفسدة لا
تناسب جعل الشارع له ، وإن لم تكن بنحو تقتضي إلزام المكلف بتركه ـ بأن الحكم وإن
كان ذا مفسدة ومبغوضا للحاكم ، إلا أنه لا مانع من اختلاف حاله قبل وجود الموضوع
عن حاله بعده ولو لتجدد المزاحم للمفسدة المذكورة ، فان ذلك يقتضي مبغوضيته قبل
وجود الموضوع ـ وهو المعاملة ـ بنحو يوجب النهي عن إيجاده فرارا عن تجدد المزاحم
الملزم بجعل الحكم وإن لزمت المفسدة.
ونظيره في الأحكام
الشرعية غير المعاملات تحريم تنجيس المسجد الراجع للنهي عن إيجاد سبب النجاسة
بلحاظ سببيته لها ، لا لذاته ، مع الحكم بها
بعد تحققه ، وفي
الامور العرفية ما لو كان في خروج الدار عن ملك مالكها مفسدة بنظره ، إلا أنه كان
يرى أن في عدم مضي بيع ولده لها مفسدة أعظم ، فإنه ينهى ولده تكليفا عن بيعها
ويمضي بيعه وضعا.
ومن هنا يمكن نهي
الموكل وكيله تكليفا عن بعض التصرفات مع عموم وكالته لها ، إلا أن يرجع النهي إلى
تحديد موضوع وكالته من دون نهي تكليفي ، فلا يكون نظيرا للمقام.
وبالجملة : لا
منافاة بين النهي التكليفي عن المعاملة والسبب الشرعي من حيثية الأثر والمسبب مع
عموم سببيته لمورد النهي.
الثاني
: ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن المسبب بالنحو المذكور
موجب لسلب سلطنة المكلف الموقع للمعاملة عليها وحجره عنها ، فلا ينفذ تصرفه ،
لوضوح اعتبار سلطنة القائم بالمعاملة عليها في نفوذها منه.
وفيه : أن السلطنة
المعتبرة شرعا في موقع المعاملة إنما هي السلطنة الوضعية الراجعة إلى أهليته من
حيثية كون التصرف من شئونه التابعة له ، كالوكيل والمالك الكامل والولي الشرعي ـ وهي
منوطة بامور خاصة ليس منها الحل التكليفي ، لا السلطنة التكوينية الراجعة إلى
قدرته على المعاملة خارجا ، ولا التكليفية الراجعة إلى الإذن له في إيقاعها وعدم
حرمتها عليه.
نعم يعتبر في
الإجارة القدرة على العمل وفي البيع القدرة على التسليم في الجملة بالمعنى الذي
ينافيه التحريم. إلا أنه أجنبي عما نحن فيه ، لعدم مانعية حرمة نفس إيقاع المعاملة
الذي هو ح ل الكلام ، بل حرمة بعض شئونها ، لا للتنافي بينهما ، ولا من أجل اعتبار
السلطنة ، بل لجهة تختص بها ولا تجري في غيرها. ولو جرى خرج عن محل الكلام من
مانعية نفس النهي.
مع أن لازم هذا
الوجه الفساد لو كان النهي متعلقا بالمعاملة بعنوانها ، لا من جهة خصوص السبب ،
كالنهي عن البيع وقت النداء ، ولا يختص بما إذا كان النهي عنها بلحاظ مسببها ، لأن
اعتبار السلطنة على المعاملة إنما هو بالإضافة إلى
إيقاعها ، فمع فرض
النهي للسلطنة يتعين الفساد ، مع أنه قدّس سرّه صرح كغيره بعدم اقتضائه الفساد في
ذلك.
هذا وقد يدعى
استفادة اقتضاء النهي الفساد شرعا من النصوص الواردة في نكاح العبد بغير إذن مولاه
الظاهرة في أنه لو كان عاصيا لله تعالى فسد نكاحه. ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر
عليه السّلام : «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده. فقال : ذاك إلى سيده إن شاء
أجازه ، وإن شاء فرق بينهما. قلت : أصلحك الله إن الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي
وأصحابهما يقولون : إن أصل النكاح فاسد ، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر
عليه السّلام : انه لم يعص الله ، وإنما عصى سيده ، فإذا أجازه فهو له جائز» وقريب من ذلك موثقة عنه عليه السّلام : «سألته عن رجل تزوج
عبده (امرأة) بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه. قال : ذاك لمولاه إن شاء فرق
بينهما ، وإن شاء أجاز نكاحهما ... وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأول. فقلت
لأبي جعفر عليه السّلام : فإن أصل النكاح كان عاصيا. فقال أبو جعفر عليه السّلام :
إنما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، إنما عصى سيده ولم يعص الله ، إن ذلك ليس
كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه» لقرب أن يكون قول زرارة : «فإن أصل النكاح كان عاصيا»
واردا مورد الاستنكار لما تضمنه صدر الحديث من بقائهما على النكاح الأول مع إمضاء
المولى له ، وأن اللازم بطلان النكاح من أصله ، فيكون الجواب ظاهرا في إقرار ذلك
مع كونه عاصيا لله في إتيان ما حرمه ، ويدل على المدعى ، كما تقدم في الصحيح. وقد
يستفاد من غيرهما.
ودعوى : أن نفي
عصيانه له تعالى لا يناسب فرض عصيان السيد ، لوضوح ملازمته لعصيان الله تعالى
فالحكم بالصحة معه لا يناسب اقتضاء النهي
__________________
الفساد ، بل عدم
اقتضائه له ، ولا بد أن يكون المراد بنفي عصيانه تعالى نفي عصيانه الوضعي الراجع
لمشروعية النكاح ذاتا.
مدفوعة : بأن
المراد من نفي عصيانه تعالى ليس هو نفي مطلق العصيان ، لينافي فرض عصيان السيد ،
بل نفي خصوص عصيانه الراجع لمخالفة نهيه بلحاظ حقه بالمباشرة ، لا بتوسط حقوق
الناس بعضهم على بعض.
ويكون المتحصل من
الرواية أن مانعية النهي حدوثا وبقاء تابعة له حدوثا وبقاء ، فالنهي عن المعاملة
إن كان راجعا لحقه تعالى فحيث لا رافع له ، لعدم تجدد الرضا منه بما خولف فيه
يستتبع الفساد رأسا ، بنحو لا يمكن تصحيحها ، وإن كان راجعا لحق الناس فحيث يمكن
ارتفاع النهي الشرعي بتجدد رضا من له الحق تكون صحتها مراعاة بذلك لرافعيته لنهي
الشارع. هذا ما قد يرجع إليه كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه الاستدلال.
ويشكل : بأن النهي
عما وقع لا يقبل البقاء ولا الارتفاع ، لعدم الموضوع له بعد مخالفته ، والعصيان
المسبب عنه لا يرتفع بعد تحققه.
ودعوى : أن المراد
بارتفاع النهي والعصيان المسبب عنه ارتفاع موضوعه ومنشأ حدوثه ، وهو في المقام
مخالفة مقتضى سلطنة السيد الذي يرتفع بتجدد رضاه.
مدفوعة : بأن ذلك
لا يكفي في تصحيح المعاملة الفاسدة من غير جهة مخالفة مقتضى السلطنة ، فمن تزوج
بنت زوجته غير المدخول بها أو ذات العدة لم يصح زواجه بطلاق امها أو خروجها من
العدة.
على أنه لا مجال
لفرض العصيان التكليفي ـ الذي هو محل الكلام ـ في مورد النص بعد ما هو الظاهر من
عدم عصيان العبد تكليفيا بمجرد إيقاع العقد ، خصوصا إذا أوقعه غيره كمأذونه ونحوه
ممن لا سلطان للسيد عليه كما لا يتحقق العصيان المذكور في أكثر موارد إيقاع
المعاملات غير المشروعة والباطلة.
كما أنه لا يناسب
سياق عصيان الله تعالى بعصيان السيد مع عدم فرض سبق النهي من السيد الذي يتوقف
عليه عصيانه التكليفي.
ومن هنا كان
الظاهر ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ونسب لجماعة ـ منهم الوحيد والمحقق
القمي قدّس سرّهما ـ من حمل العصيان في المقام على العصيان الوضعي المنتزع من
إيقاع المعاملة على خلاف الوجه المشروع لها الذي به يترتب أثرها.
ويرجع مضمون
الحديث إلى أن مخالفة المشروع إن كان بايقاعها على وجه لم يشرعه الله تعالى أصلا ،
كالنكاح في العدة ـ وهو المراد بمعصية الله تعالى ـ فهو يبطل رأسا ولا يقبل
التصحيح.
وإن كان بإيقاعها
على وجه شرعه الله تعالى ذاتا ، وإنما لم ينفذ لمخالفته مقتضى سلطنة الغير ،
كالمولى ـ وهو المراد بمعصية السيد ـ أمكن تصحيحه برضا من له السلطنة وإجازته ،
لارتفاع المانع معه من النفوذ ، حيث يكون النفوذ حينئذ مقتضى السلطنة ، على ما
يذكر في محله من مبحث العقد الفضولي. فتكون النصوص أجنبية عن محل الكلام من النهي
التكليفي.
تنبيهان
الأول
: قال في التقريرات
: «حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ، والمنقول عن نهاية العلامة
التوقف ، ووافقهما فخر المحققين في نهاية المأمول ، وأحال الأمر على شرح التهذيب».
وقد نقل فيها
وجهين للاستدلال. يرجع أولهما إلى اعتبار القدرة في متعلق النهي مع قطع النظر عنه.
والثاني
: إلى لزوم صحة
متعلق النهي ، لعدم الفرق بينه وبين متعلق الأمر.
لكن الأول ـ كما
ترى ـ لا يقتضي القدرة بعد النهي ، ليتوهم منافاتها للبطلان.
على أنه لو اعتبرت
القدرة على المتعلق حتى بعد النهي عنه ، فلا ينافيها البطلان بناء على الأعم ،
لصدق العنوان المنهي عنه مع البطلان على المبنى المذكور.
وأما بناء على
الصحيح فمتعلق النهي وإن لم يكن مقدورا إلا مع الصحة ، لتوقف عنوانه عليها ، إلا
أن متعلق النهي هو الصحيح لو لا النهي ، لا مطلقا ولو بعد النهي ، لتقدم الموضوع
على حكمه رتبة ، والظاهر أن المتعلق المذكور مقدور بعد النهي ولو صار فاسدا بسببه
، فمثلا : لو فرض توقف صدق الصلاة على الصحة ، إلا أن متعلق النهي ليس هو إلا ما
يصدق عليه الصلاة قبل النهي ، وهو مقدور بعد النهي وإن خرج عن كونه صلاة لفساده.
ومنه يظهر اندفاع
الثاني ، لأن متعلق الأمر كتعلق النهي ليس إلا ما يصدق عليه العنوان مع قطع النظر
عن حكمه وفي رتبة سابقة عليه ، وهو لا ينافي صحته أو فساده في رتبة متأخرة عنه حتى
لو كان العنوان متوقفا على الصحة ويتوقف عليها صدقه ، بل الأمر في العبادات أظهر
بناء على توقف صحتها على الأمر ، حيث لا يكون متعلق الأمر فيها هو الصحيح الفعلي
لو لا الأمر ، بل هو الصحيح الاقتضائي لولاه ، فمع كونه هو موضوع النهي لا ملزم
بصحته. ومن ثم لا مجال للبناء على الكبرى المذكورة ، ولا مخرج عما سبق.
الثاني
: محل الكلام في
العبادات والمعاملات هو النهي التكليفي عن نفس للعبادة أو المعاملة المستتبع
للعقاب عليهما ، لا النهي الوارد للإرشاد لبطلان العمل وعدم إجزاءه أو عدم نفوذه ،
كنهي المكلف عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه ، وعن بيعه ما ليس عنده ، حيث لا إشكال
حينئذ في دلالته إثباتا على الفساد ، بل هو المفروض ، مع استناد الفساد ثبوتا لعدم
تمامية الملاك ، لا للنهي نفسه. كما أن النهي المذكور لا يقتضي التحريم التكليفي
للعمل.
ومثله النهي عن
ترتيب الأثر ، كالنهي عن أكل الثمن ، فإنه وإن أمكن أن يكون تكليفيا بالإضافة إلى
ترتيب الأثر ، إلا أنه لا يكون تكليفيا بالإضافة إلى
إيقاع نفس الفعل
ذي الأثر ، بل لا يقتضي إلا الفساد فيه.
نعم قد يجتمع
الأمران في العبادة أو المعاملة ، فتكون محرمة تكليفا وفاسدة وضعا ، كما هو الظاهر
في الصلاة بلا وضوء والمعاملة الربوية. بل قد يظهر من أدلة بعض المعاملات أنها
توجب شدة حرمة الثمن ، بحيث يكون أكله أشد من أكل مال الغير بدون إذنه ، كما هو
الحال في المعاملة الربوية.
لكنه خارج عن محل
الكلام ، ويتبع الدليل الخاص ، ولا ضابط له ، فلاحظ.
والله سبحانه
وتعالى العالم ومنه نستمد العون والتوفيق.
انتهى الكلام في
مبحث اقتضاء النهي الفساد ، وبه ينتهي الكلام في باب الملازمات العقلية من قسم
الاصول النظرية.
وكان ذلك ليلة
الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول ، للسنة الثالثة بعد الألف والأربعمائة
للهجرة النبوية ، على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية ، في النجف الأشرف
بيمن الحرم المشرف على مشرفة أفضل الصلاة والسلام.
بقلم العبد الفقير
(محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي)
الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
والحمد لله رب
العالمين ، وله الشكر على تيسير ذلك وتسهيله ، ونسأله سبحانه إتمام النعمة بقبول
العمل ، وغفران الزلل ، وصلاح الحال ، وراحة البال ، وحسن العاقبة في المبدأ
والمال ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير.
كما انتهى تبييضه
بعد تدريسه عصر الأربعاء السابع والعشرين من الشهر المذكور في النجف الأشرف ،
بيمنى مؤلفه الفقير حامدا مصلّيا مسلّما.
الفهرس
المقصد الرابع
: في العام والخاص
تعريف العام والخاص............................................................ ١٠
الفصل الأول : في أقسام العموم ومقتضى الأصل منها............................... ١٣
الفصل الثاني : في ما يدل على العموم............................................. ١٧
مفاد أسماء الأجناس............................................................. ١٧
أقسام لحاظ الماهية.............................................................. ١٧
إطلاق الحكم على الماهية مع إرادة التقييد......................................... ٢٠
المبحث الأول : الأدوات الموضوعة للعموم......................................... ٢٥
المبحث الثاني : النكرة في سياق النفي والنهي....................................... ٢٧
مفاد النكرة.................................................................... ٣٠
المبحث الثالث : مفاد لام التعريف............................................... ٣٥
إفادة لام الجنس التعريف........................................................ ٣٦
لام الاستغراق.................................................................. ٣٨
لام التزيين في الأعلام........................................................... ٤٠
الجمع المعرّف باللام............................................................. ٤١
المعرّف بالإضافة................................................................ ٤٣
علم الجنس.................................................................... ٤٣
المبحث الرابع : في مقدمات الحكمة............................................... ٤٥
الكلام في إمكان التقييد من مقدمات الحكمة...................................... ٤٥
الكلام في كون عدم البيان على التقييد من مقدمات الحكمة.......................... ٥٠
الكلام في كون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدّمات
الحكمة.............. ٥٣
الكلام في أن كون المتكلم في مقام البيان من مقدمات الحكمة أو
لا؟.................. ٥٧
منشأ البناء على كون المتكلم في مقام البيان........................................ ٥٨
الكلام في الانصراف............................................................ ٦٤
الفصل الثالث : في العام المخصّص............................................... ٦٥
الكلام في التخصيص المتصل..................................................... ٦٦
الكلام في التخصيص المنفصل.................................................... ٦٧
الفصل الرابع : في إجمال الخاص واشتباهه.......................................... ٧٩
إجمال الخاص بنحو الشبهة المفهوميّة............................................... ٨٠
الدوران بين المتباينين............................................................ ٨٣
اشتباه الخاص بنحو الشبهة الموضوعية............................................. ٨٦
أدلّة عدم حجيّة العام........................................................... ٨٦
أدلة حجية العام................................................................ ٩٢
التفصيل في الحجية بين الخاص العنواني وغيره....................................... ٩٤
التفصيل بين كون العام بيانا لحال الفرد المشتبه وغيره................................ ٩٦
التفصيل بين المخصّص اللفظي واللبي............................................ ١٠٠
التفصيل بين القضية الحقيقية والخارجية........................................... ١٠٨
موارد رجوع التخصيص للأفراد.................................................. ١١٣
الكلام في عنوان موضوع الحكم في العام المخصّص................................ ١١٥
إثبات الحكم الأولي بعموم الحكم الثانوي المأخوذ فيه............................... ١٢٣
الكلام في حجيّة العام في عكس نقيضه.......................................... ١٢٥
الفصل الخامس : في عموم الحكم لغير المخاطبين.................................. ١٢٩
الفصل السادس : في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده.................... ١٣٥
الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة................................................. ١٣٩
الفصل السابع : في الجمع بين المطلق والمقيّد...................................... ١٤١
الكلام في المستحبات.......................................................... ١٤٥
الفصل الثامن : في تخصيص العام بالمفهوم........................................ ١٥١
خاتمة مباحث الألفاظ......................................................... ١٥٣
الباب الثاني : في الملازمات العقلية
تحديد مورد البحث............................................................ ١٥٨
الفصل الأول : في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل............................... ١٥٩
التحسين والتقبيح العقليان..................................................... ١٦٣
استدلال الأشاعرة على نفي التحسين والتقبيح.................................... ١٦٥
حقيقة الحسن والقبح وكيفية إدراك العقل لهما..................................... ١٦٧
الكلام في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل واقعا.................................. ١٧٣
الكلام في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ظاهرا................................. ١٨١
الفصل الثاني : في الإجزاء...................................................... ١٨٥
معنى الإجزاء................................................................. ١٨٧
الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة اقتضاء الأمر المرة أو التكرار....................... ١٨٧
إجزاء موافقة الأمر عن امتثاله................................................... ١٨٨
تبديل الامتثال................................................................ ١٨٩
إجزاء موافقة الأمر الاضطراري.................................................. ١٩٣
الكلام في مقام الثبوت......................................................... ١٩٣
الكلام في مقام الإثبات........................................................ ١٩٧
إجزاء موافقة الأمر الظاهري.................................................... ٢٠٣
الكلام بناء على التصويب..................................................... ٢٠٣
حديث المحقق الخراساني في الاصول التعبديّة....................................... ٢٠٥
حقيقة الحكم الظاهري......................................................... ٢٠٩
إذا كانت مخالفة الحكم الظاهري مقتضى تعبّد شرعي.............................. ٢١٠
الكلام في تبدّل مقتضى الاجتهاد............................................... ٢١٤
الإجزاء مع مخالفة الأمر الواقعي................................................. ٢١٨
تقريب مقتضى السيرة......................................................... ٢٢١
عدم اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء في غير المخاطب به............................ ٢٢٨
الفصل الثالث : في مقدّمة الواجب.............................................. ٢٣١
تحديد الداعوية الغيريّة......................................................... ٢٣٤
تقسيمات المقدمة............................................................. ٢٣٥
المقدمة الداخلية والمقدمة الخارجية................................................ ٢٣٦
المقدمة التكوينية والمقدمة الشرعية............................................... ٢٣٨
الكلام في دخول التقييد في المأمور به النفسي..................................... ٢٣٩
الشرط المتأخر في التكوينيات................................................... ٢٤٠
الشرط المتأخر في الشرعيات.................................................... ٢٤٢
الشرط المتأخر للحكم......................................................... ٢٤٤
المبحث الأول : في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته...................... ٢٤٧
تقريب أن المسألة اصولية...................................................... ٢٤٧
حجة القول بالملازمة........................................................... ٢٤٨
التفصيل بين السبب وغيره..................................................... ٢٥٣
ثمرة النزاع في تعلّق التكليف بالسبب التوليدي أو بسببه............................ ٢٥٤
معيار الثواب والعقاب......................................................... ٢٥٥
ثمرة البحث عن الملازمة........................................................ ٢٥٦
المبحث الثاني : في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية
الغيرية................... ٢٦١
الكلام في قصد التوصل وثمرته.................................................. ٢٦٢
المقدمة الموصلة................................................................ ٢٦٥
تحقيق الغرض من المقدمة....................................................... ٢٦٩
تبعيّة الأمر للغرض سعة وضيقا................................................. ٢٦٩
تعلّق الداعوية بجميع المقدمات بنحو الارتباطية.................................... ٢٧١
محاذير القول بالمقدمة الموصلة................................................... ٢٧٣
المبحث الثالث : تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا.................. ٢٨٣
المقدمات المفوّتة............................................................... ٢٨٤
الوجه المختار في دفع الإشكال فيها.............................................. ٢٩٦
جواز التعجيز مع دخل القدرة في الملاك.......................................... ٣٠٠
مقدمة الحرام والمكروه.......................................................... ٣٠١
الفصل الرابع : في مسألة الضد................................................. ٣٠٥
ثمرة المسألة................................................................... ٣٠٨
الكلام في الضد العام.......................................................... ٣٠٩
الكلام في الضد الخاص........................................................ ٣١١
التمانع بين الضدّين........................................................... ٣١٣
ثمرة المسألة................................................................... ٣٢٢
الكلام في التقرّب بالملاك....................................................... ٣٢٣
الكلام في قصور الأمر بالضد عن الفرد المزاحم.................................... ٣٢٤
الكلام في الترتّب............................................................. ٣٢٩
الكلام في العقاب............................................................. ٣٣٨
الكلام في بعض تقريبات الأمر الترتبي............................................ ٣٤٥
الترتب مع مقدّمية ترك الضد لفعل ضدّه......................................... ٣٤٧
الترتب في التكليفين متساويي الأهميّة............................................ ٣٤٨
الفصل الخامس : في اجتماع الأمر والنهي........................................ ٣٥١
تضاد الأحكام التكليفية....................................................... ٣٥٤
عدم التضاد التام بين بعض الأحكام............................................ ٣٦١
ضابط موضوع المسألة......................................................... ٣٦٣
الكلام في مورد الاضطرار للحرام................................................ ٣٧١
الفرق بين التعارض والتزاحم في العامّين من وجه................................... ٣٧٤
التركيب الانضمامي والاتحادي................................................. ٣٧٩
تعلّق الأحكام بالعناوين أو المعنونات............................................. ٣٨٦
الكلام في إمكان الاجتماع..................................................... ٣٨٩
قصد التقرّب بالمجمع........................................................... ٣٩٣
الكلام في صورة وجود المندوحة وعدمها.......................................... ٣٩٧
العبادات المكروهة............................................................. ٣٩٧
استحباب بعض أفراد الماهية.................................................... ٤٠٦
الاضطرار الارتكاب الحرام...................................................... ٤٠٧
الفصل السادس : في اقتضاء النهي الفساد....................................... ٤١٥
توجيه كون المسألة عقلية....................................................... ٤١٧
النهي عن العبادة............................................................. ٤١٩
النهي عن شرط العبادة........................................................ ٤٢٢
النهي عن وصف العبادة....................................................... ٤٢٤
النهي عن المعاملة............................................................. ٤٢٧
القول باقتضاء النهي الصحة................................................... ٤٣٢
النهي الإرشادي.............................................................. ٤٣٣
الفهرست.................................................................... ٤٣٥
|