بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين

كتاب الضمان

اعلم أن الضمان عند الفقهاء لفظ مشترك يطلق على معنيين أحدهما أخص من الأخر والمعنى الأعم عبارة عن عقد شرع للتعهد بمال أو نفس ، والتعهد بالنفس هو الكفالة والتعهد بالمال ان كان ممن في ذمته مال فهو الحوالة والا فهو الضمان بالمعنى الأخص الا ان في هذا المقام اشكالا من حيث الخلاف في الحوالة ، وأنه هل يشترط فيها شغل الذمة أم لا قولان : والأقسام الثلاثة انما تتم بناء على الأول وأما على الثاني فهي داخلة في الضمان بالمعنى الأخص. والمحقق في الشرائع مع قوله بعدم اعتبار شغل لذمة المحال عليه للمحيل قائل بالتقسيم إلى الأقسام الثلاثة ، وهو جعل الحوالة قسيما للضمان بالمعنى الأخير وهو مشكل لما عرفت ولا مخرج من هذا الإشكال إلا بجعل التقسيم مخصوصا بمحل الوفاق ، أو باعتبار القسم الأخر للحوالة ، وهو ـ تعهد مشغول الذمة للمحيل ، فيكون هو أحدا للأقسام الثلاثة خاصة ، ويكون القسم المشترك ذا جهتين من حيث تسميته هنا ضمانا خاصا وحوالة ، فيسهل الخطب بذلك.


وكيف كان فالمراد هنا عندنا بالضمان هو المعنى الأخص وهو التعهد بالمال من البري‌ء والمتبادر من إطلاق لفظ الضمان في كلامهم هو المعنى الأخص ولذا ان جملة منهم أفراد لكل من الثلاثة كتابا على حده وبعض لاحظ المعنى الأعم ، وجعل الثلاثة في كتاب واحد ، وقسمه الى الأقسام الثلاثة كالمحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد وغيرهما في غيرهما ، وعلى هذا النهج جرينا في هذا الكتاب ، وحينئذ فالبحث في هذا الكتاب يقع في مقاصد ثلاثة

الأول في الضمان بالمعنى الأخص وهو التعهد بالمال من البري‌ء وفيه بحوث ثلاثة : الأول ـ في الضامن : والكلام فيه يقع في مواضع ، أحدها ـ لا خلاف في أنه يشترط في الضامن جواز التصرف المالي ، فلا يصح ضمان الصبي ولا المجنون ، بل الغافل والساهي أيضا ، والظاهر أنه لا خلاف فيه كما ذكره بعضهم ، والظاهر أن السفيه المحجور عليه لسفهه كذلك ، وبه صرح في التذكرة وغيرها.

وأما المملوك فان ضمن بغير اذن سيده ففي صحته قولان : أحدهما ـ وبه قطع المحقق في الشرائع من غير نقل خلاف ـ العدم ، وهو قول الشيخ وابن الجنيد ، واستدلوا عليه بأن العبد لا يقدر على شي‌ء ـ كما وصفه الله تعالى (١) وذمته مملوكة للمولى ، فلا يملك إثبات شي‌ء فيها إلا باذنه.

وقيل : بالصحة ، واختاره العلامة في المختلف ، وقربه في التذكرة ، وعلل بانتفاء الضرر على المولى ، لان استحقاق المطالبة له بما يستقر في ذمته بعد العتق لا ضرر فيه ، كما لو استدان بغير اذن سيده ، وأجاب في المختلف عن الآية بأن المراد بالشي‌ء المال ، لقوله في مقابلته : ـ «وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً» والمسألة محل توقف واشكال ، وان كان ضمانه باذن سيده ، فإنه يصح إجماعا كما ذكره العلامة في المختلف.

__________________

(١) سورة النحل الآية ٧٥.


لكن بقي الكلام في أنه لو أطلق له الاذن ولم يشترط له الأداء من كسبه ، ولا الصبر الى أن يعتق ، فهل يتعلق بذمته أم بكسبه ، قولان : قال في المبسوط : قيل : انه يتعلق بكسبه ، وقيل : انه يتعلق بذمته ، وان عينه في ذمته أو كسبه أو غيرهما من أمواله تعين ، ووجب قضاؤه ، ولم يرجح الشيخ هنا شيئا من القولين المذكورين ، وعلل القول الأول بأن إطلاق الضمان أعم من كل منهما ، والعام لا يدل على الخاص ، فلم يقع من المولى ما يدل على التزامه في ملكه ، وكسبه ملكه ، ولأن الاذن في الكلي ليس إذنا في الجزئي المعين ، وان كان لا يوجد إلا في ضمنه كما حقق في الأصول ، وعلل القول الثاني بأنه انما يتعلق بكسبه ، لأن إطلاق الضمان انما يحمل على الضمان الذي يستعقب الأداء ، فإنه المعهود ، والأداء من غير مال السيد يمتنع ، وكذا في مال غير الكسب ، والا لكان هو الضامن لا العبد ، وهو خلاف التقدير فيكون في كسبه ، قال في المسالك : والبحث في ذلك قريب مما لو أذن له في الاستدانة فينبغي ترتب قول ثالث ، وهو ان الضمان يتعلق بالمولى ولا يختص بكسب العبد ، ولعله أقوى. انتهى.

أقول : هذا القول الثالث مستقر على حمله هذه المسألة على مسألة الاذن في الاستدانة ، فإنه لا إشكال في كون ذلك على السيد ، سواء كان الاستدانة للعبد أو السيد كما تقدم تحقيقه في كتاب الديون ، وحينئذ فيتجه هنا هذا القول الثالث بناء على ذلك ، وهو قريب من حيث الاعتبار ، لأن الاذن في الضمان في معنى الاذن في الاستدانة ، الا أن المسألة لخلوها من النص بجميع شقوقها محل اشكال. والله العالم.

الثاني ـ هل يشترط علم الضامن بالمضمون له ، والمضمون عنه ، ومعرفتهما بنسبهما أو وصفهما ، قيل : نعم ، وقيل : لا يشترط ، وقيل : يشترط معرفة المضمون عنه دون معرفة المضمون له ، والقول الأول ـ للشيخ في المبسوط ، والثاني له أيضا في الخلاف ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، والشهيد ، والعلامة في غير المختلف ، والشهيد الثاني في المسالك وجماعة ، والثالث للعلامة في المختلف ، وعلى القول


الثاني فإنه وان لم يشترط المعرفة على الوجه المتقدم ، لكن يشترط عندهم ان يمتاز المضمون عنه عند الضمان بما يصح معه القصد الى الضمان عنه.

استدل العلامة في المختلف على اشتراط معرفة المضمون عنه قال : لنا ان المضمون عنه لا بد وأن يتميز عند الضامن ، ويتخصص عن غيره ليقع الضمان عنه ، وذلك يستدعي العلم به.

وما رواه أبو سعيد الخدري (١) «قال كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جنازة فلما وضعت قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : هل على صاحبكم من دين؟ قالوا : نعم ، درهمان ، فقال : صلوا على صاحبكم ، فقال على (عليه‌السلام) : هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن ، فقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصلى عليه ، ثم أقبل على على فقال : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك».

وروى جابر بن عبد الله (٢) «أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان لا يصلى على رجل عليه دين فأتي بجنازة فقال : هل على صاحبكم دين؟ فقالوا : نعم ديناران ، فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة هما على يا رسول الله قال : فصلى عليه فلما فتح الله على رسوله ، قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا فعلى».

وهما يدلان على صحة الضمان مع عدم العلم بالمضمون له ، ثم قال : احتج الشيخ في الخلاف بالحديثين ، «فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يسأل عليا (عليه‌السلام) ولا أبا قتادة عن صاحب الدين ولا الميت ، فلا يشترط علمهما وعلى قوله في المبسوط بأنه يشترط معرفة المضمون له ليعرف هل هو سهل المعاملة أم لا ، ومع انتفاء ذلك يتطرق الغرر ، ومعرفة المضمون عنه لينظر هل يستحق بذلك عليه أم لا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ١٥١ الباب ٣ من أبواب أحكام الضمان الرقم ٢.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ١٥١ الباب ٣ من أبواب أحكام الضمان الرقم ٣.


ثم قال : والجواب عن الأول القول بالموجب في المضمون له ، وأما المضمون عنه فإنه متعين لتشخصه ، وحضوره عنده ، ولا يشترط علمه بنسبه ولا حاله ، والغرر ليس بمعتبر ، إذ لا يشترط علمه حال الضمان بحسن معاملة المضمون له وعدمه ، وان علمه بعينه إجماعا فلو كان الغرر معتبرا كان العلم بهذه الوصف شرطا ، وليس كذلك بالإجماع انتهى.

أقول : وبذلك علم حجج هذه الأقوال المذكورة في المقام ، وهي عند التحقيق لا اعتماد عليها في تأسيس الأحكام ، أما قوله لنا : ان المضمون عنه الى آخره ، ففيه أولا أنه مصادرة محضة ، لأن هذا عين المدعى ، ومع تسليمه فإنه يكفي التميز بوجه ما ، كما اعترف به القائلون بعدم الاشتراط بالنسبة إلى المضمون عنه ، وبه يظهر ضعف قوله وذلك يستدعي العلم به.

وأما الخبران المذكوران فإنهما وان ذكرهما الشيخ في الخلاف ، الا أن الظاهر أنهما من روايات العامة ، فإنهم كثيرا ما يستسلفون رواياتهم ، ولا سيما الشيخ في الكتاب المذكور ، فلا تقوم بهما حجة ، ومع تسليم صحتهما فهما بالدلالة على العدم ـ في كل من المضمون له ، وعنه ـ أقرب ، كما ذكره الشيخ في الخلاف ، حيث استدل بهما على ذلك بالتقريب الذي تقدم نقله عنه. (١)

وأما ما استدل به الشيخ في المبسوط فهو أظهر ضعفا من أن يتعرض لبيانه ،

__________________

(١) أقول : هذان الخبران وان لم ينقلا في كتب أخبارنا ، لكن في بعض الاخبار ، ما يشير الى ذلك ، كصحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أنه ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دينا فلم يصل عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال : صلوا على صاحبكم حتى ضمنهما عنه بعض قرابته فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ذلك الحق ، ثم قال ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض ، ولئلا يستخفوا بالدين. الحديث. الوسائل ج ١٣ ص ٧٩ الباب ٢ من أبواب الدين والقرض الرقم ـ ١. وقد تقدم في صدر كتاب الدين ـ منه رحمه‌الله.


ولو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات الواهية لاتسع المجال والكلام في تشريع الأحكام مع استفاضة النصوص عن ذوي الخصوص بالمنع من القول فيها الا بما ورد عنهم (عليهم‌السلام) والا فالسكوت ، وما أجاب به في المختلف عن حجة المبسوط ـ بالنسبة إلى المضمون عنه بأنه متعين لتشخصه وحضوره عنده ـ انما يتم بالنسبة إلى مورد الخبرين ، والمدعى أعم من ذلك.

وبالجملة فإن الاعتماد في تأسيس الأحكام على مثل هذا الكلام مجازفة محضة في أحكام الملك العلام ، والعجب منهم (رضوان الله عليهم) أنهم يطعنون في الاخبار المتفق على روايتها في الأصول المشتهرة المتعمدة ، بناء على الاصطلاح المحدث ، ويعولون هنا على نقل هذه الروايات الواهية التي هي كبيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت مضاهية.

وبذلك يظهر لك أن الأصح من هذه الأقوال هو القول بعدم الاشتراط مطلقا ، ومما يدل صريحا على عدم معرفة المضمون له ما رواه في الكافي عن فضيل وعبيد (١) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم فقال لهم : لقد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم ، وعلى دين فأحب أن تقضوه عنى ، فقال على بن الحسين (عليهما‌السلام) ثلث دينك على ، ثم سكت وسكتوا ، فقال على بن الحسين (عليهما‌السلام) على دينك كله ، ثم قال على بن الحسين (عليهما‌السلام) أما انه لم يمنعني أن أضمنه أولا إلا كراهة أن يقولوا : سبقنا».

وهذا الخبر كما أنه يدل على عدم اشتراط معرفة المضمون له ، كذلك يدل على عدم اشتراط معرفة قدر الدين ، وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ، والأصحاب القائلون بعدم الاشتراط مطلقا عللوا عدم اعتبار العلم بالمضمون عنه بأن الضمان وفاء دين عنه ، وهو جائز عن كل مديون.

وأما المضمون له فان اعتبر فيه القبول لفظا كما هو مقتضى العقد اللازم ،

__________________

(١) الكافي ج ٨ ص ٣٣٢ ح ٥١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٥١.


اقتضى ذلك تميزه وان لم يعتبر ، فإنه لا يعتبر العلم به.

أقول : الأظهر في الاستدلال على ذلك هو التمسك بأصالة العدم حتى يقوم دليل على الاشتراط في المضمون عنه ، أو المضمون له.

وأما اعتبار القبول وأنه لا بد من عقد يشتمل عليه فقد عرفت من الخبر المذكور ما يدفعه ، فإنه (عليه‌السلام) بمجرد اخبار محمد المذكور أن عليه دينا ضمنه من غير فحص ، ولا علم بصاحب الدين بالكلية ، ولا علم بقدر الدين ، وكذلك يؤيده الخبران المتقدمان هذا.

وأما ما ذكره القائلون بهذا القول ـ من اشتراط امتياز المضمون عنه عند الضامن ليصح معه القصد الى الضمان عنه كما قدمنا نقله عنهم.

فقيل : ان وجهه أن الضمان يتوقف على القصد ، وهو متعلق بالمضمون عنه والحق ، فلا بد من تميزه بوجه تزول عنه الجهالة ليمكن القصد اليه.

وأورد عليه بأنه يشكل بمنع توقف القصد على ذلك ، فان المعتبر القصد الى الضمان ، وهو التزام المال الذي يذكره المضمون له في الذمة ، وهو غير متوقف على معرفة من عليه الدين ، والدليل انما دل على اعتبار القصد في العقد ، لا في من كان عليه الدين ، فلو قال شخص مثلا : انى استحق في ذمة شخص مأة درهم ، فقال له آخر : ضمنتها لك ، كان قاصدا الى عقد الضمان ، على أى من كان الدين عليه ، ولا دليل على اعتبار ما زاد عن ذلك.

والى ذلك مال في التذكرة حيث قال : «وهل يشترط معرفة ما يميزه عن غيره؟ الأقرب العدم ، بل لو قال : ضمنت الدين الذي لك على من كان من الناس جاز. نعم لا بد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن ، بما يمكن القصد معه الى الضمان عنه ، لو لم يقصد الضمان عن أى من كان. انتهى.

أقول : ما حكموا به من صحة الضمان وثبوته في هذه الصورة بمعنى على أى من كان من الناس لم أقف فيه على نص يدل عليه ، أو يشير اليه ، والمفهوم من الروايات


الواردة في هذا الباب انما هو اعتبار معرفة المضمون عنه ولو بوجه ما ، والحكم بالصحة فيما ذكروه يتوقف على الدليل ، لأن الأصل براءة الذمة ، والحكم باشتغالها يحتاج الى دليل واضح ، والركون الى هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما عرفت ، ودعوى العموم في بعض روايات الضمان ـ على وجه يشمل هذه الصورة ـ ممنوعة ، وبذلك يظهر أن الأظهر في الاحتجاج على اعتبار ذلك انما هو كونه هو الوارد في النصوص ، لا ما عللوا به من القصد الذي تطرقت اليه هذه المناقشة. والله العالم.

الثالث ـ المشهور عند الأصحاب اشتراط رضا المضمون له في صحة الضمان ، وعللوه بأن حقه يتحول من ذمة غريمه إلى ذمة الضامن ، والناس يختلفون في حسن المعاملة وسهولة القضاء ، فلو لم يعتبر رضاه لزم الضرر والغرر ، ونقل عن الشيخ قول بعدم اشتراط رضاه ، محتجا بأن عليا (عليه‌السلام) وأبا قتادة ضمنا الدين عن الميت ، ولم يسأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن رضا المضمون له ، وأجيب بأنها واقعة لا عموم لها ، وأن ذلك انما يدل على عدم بطلان الضمان قبل علمه ورده ، ونحن نقول بموجبه ، لانه صحيح ، ولكن لا يلزم الا برضا المضمون له.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ نور الله تعالى مرقديهما عن عبد الله بن سنان (١) في الصحيح «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت».

ورواه في الفقيه (٢) عن الحسن بن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، والحسن بن صالح زيدي ضعيف ، والخبر المذكور ظاهر في الدلالة على القول المشهور ، وبه استدل جملة من أصحابنا المتأخرين من غير أن ينقلوا له معارضا في ذلك ، مع وجود المعارض في الاخبار ، بل تعدده كما

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٨٧ ح ١٧ وفروع الكافي ج ٥ ص ٩٩ ح ٢.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١١٦ ح ٣٣.


ستقف عليه.

ومثل هذا الخبر قول الرضا (عليه‌السلام) في كتاب فقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام): «وان كان لك على رجل مال ، وضمنه رجل عند موته وقبلت ضمانه فالميت قد برء وقد لزم الضامن رده عليك».

ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار (٢) عن أبى ـ عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : على دينك قال : يبرئه ذلك ، وان لم يوفه وليه من بعده ، وقال : أرجو أن لا يأثم ، وانما إثمه على الذي يحبسه ،.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم في الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل مات وله على دين ، وخلف ولدا رجالا ونساءا وصبيانا ، فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي وأنت في حل مما لإخوتى وأخواتي ، وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال : تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت فان لم يعطهم؟ قال : كان ذلك في عنقه ، قلت : فان رجع الورثة على فقالوا : أعطنا حقنا ، فقال : لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما بينك وبين الله عزوجل فأنت منها في حل إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل الضامن لك» الحديث (٣).

والخبران المذكوران ظاهرا الدلالة ، صريحا المقالة ، ولا سيما الثاني في صحة الضمان ولزومه ، من غير توقف على رضا المضمون له ، فإن الثاني صريح في أنه مع عدم الرضا ، فان الضمان لازم ، وقد ذكرنا في هذا الخبر جملة من الفوائد

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩١.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٨٨ ح ٢٢.

(٣) فروع الكافي ج ٧ ص ٢٥ كتاب الوصايا ح ٧ ، وفي التهذيب ج ٩ ص ١٦٧ كتاب الوصايا ح ٢٨ ـ إذا كان الرجل الذي حللك يضمن عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك ، وفي الوسائل ج ١٣ ص ١٥٢ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الضمان ـ إذا كان الرجل الذي حللك يضمن عنهم رضاهم فيحمل لما ضمن لك.


الزائدة على محل الاستدلال في كتاب الديون.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن حبيب الخثعمي والصدوق في الفقيه عن ابن ابى عمير عن حبيب الخثعمي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير اذن صاحبه قال : لا يأخذ الا أن يكون له وفاء قال : قلت أرأيت ان وجدت من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم». (١).

وهو كما ترى أيضا ظاهر في صحة الضمان من غير اشتراط رضا المضمون له ، والمراد من الخبر أن الضامن أشهد على نفسه بأنه ضامن ، وينبغي تقييده بملائة الضامن أيضا ، وحمله على ذلك.

ولم أقف على من تعرض لنقل هذه الاخبار في المقام ، فضلا عن الجواب عنها سوى صاحب الكفاية ، فإنه نقل موثقة إسحاق بن عمار ، وأجاب عنها بأنها تضعف عن مقاومة الخبر الصحيح المعتضد بالشهرة بين الأصحاب ، وهو كما ترى ، مع أن المخالفة غير منحصرة في الموثقة المذكورة كما عرفت ، والمسألة عندي محل توقف واشكال ، لعدم معلومية ما يجمع به بين هذه الاخبار. (٢)

__________________

(١) (في الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٢ كتاب الوديعة الباب ـ ٨ ـ قال : قلت. بغير اذن فقال. أرأيت ان وجد من. إلخ) ـ (وفي من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٤) ـ (وفي التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ ح ٥ كتاب الوديعة).

(٢) والعجب من المحدث الكاشاني في المحجة حيث أنه ممن اختار القول المشهور فقال : ـ بعد ذكر المسألة خلافا للشيخ في أحد قوليه للخبر ـ وهو قاصر الدلالة ، والظاهر أنه أشار بالخبر إلى موثقة إسحاق بن عمار ولا أدرى بما أراد من قصور الدلالة مع أنها واضحة الدلالة على القول المذكور فان ظاهرها أنه بمجرد قول وليه على دينك ، تبرأ ذمة المضمون عنه من الدين ، وتنتقل إلى ذمة الولي المذكور ، من غير توقف على العلم بالمضمون له ، فضلا عن رضاه بذلك ، وأخرج منها رواية الحسين بن الجهم كما عرفت. منه رحمه‌الله.


ثم انه بناء على القول المشهور من اشتراط رضا المضمون له فهل المعتبر مجرد رضاه كيف اتفق ولو مع التراخي؟ أم لا بد من كونه بصيغة القبول ، قولان : استجود في المسالك الثاني ، قال : لانه عقد فلا بد فيه من القبول ، ولأصالة بقاء ما كان من شغل ذمة المضمون عنه وسلامة ذمة الضامن ، وانتفاء حق المضمون له الى أن يتحقق المزيل ، وحينئذ فيعتبر فيه ما يعتبر في سائر العقود من التواصل المعهود بين الإيجاب والقبول ، وكونه بلفظ الماضي واللفظ العربي ، لأنه من العقود اللازمة.

ثم قال : ووجه العدم قصة على (عليه‌السلام) وأصالة عدم الاشتراط ، ومخالفته لغيره من العقود المملكة ، لأن الضمان لا يثبت ملكا جديدا وانما يتوثق به الدين الذي كان مملوكا ، وفيه ان استحقاق المضمون له عند الضامن حقا ضرب من التملك ثم ينتقض بالرهن ، فإنه فائدته التوثق مع اشتراطه فيه انتهى.

أقول جميع ما ذكره وأطال به لا يخرج عن مجرد الدعوى ، ولم أره استند الى دليل يدل عليه ولا برهان يلجأ اليه الا التمسك بأصالة بقاء شغل ذمة المضمون عنه ، وعدم شغل ذمة الضامن ، وفيه أنه وان كان الأمر كذلك لكن يجب النظر في الدليل المخرج عن ذلك من الاخبار الواردة في هذا المضمار ، لا مجرد الدعاوي العارية عن الاعتبار.

وأنت خبير بأنه لم يرد في الاخبار مما يدل على اشتراط رضا المضمون له الا صحيحة عبد الله بن سنان ، وقوله «فيها إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت» وظاهرها بل صريحها هو توقف ذلك على ما يدل على الرضا بأي لفظ كان ، بل بغير لفظ أيضا ، وفي معناها عبارة كتاب الفقه الرضوي ، ومن أين يفهم من ذلك اشتراط كونه عقدا مشتملا على الإيجاب والقبول بهذه الاعتبارات التي أطال بها ، مضافا إلى ما عرفته في كتاب البيع من عدم دليل على هذه الأمور المذكورة ، بل قيام الدليل على خلافها ، وهو ممن وافق على ذلك ثمة ، على أنك قد عرفت من الروايات الثلاث التي أوردناها أنه يكفى في حصول الضمان ـ وانتقال المال إلى ذمة الضامن ـ قوله


«على دينك أو أنا ضامن لرضاهم عنك» ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على ذلك ، وبالجملة فإن كلامه هنا بمحل من الضعف الذي لا يخفى على المصنف والله العالم.

الرابع : ظاهر جملة من الأصحاب أن رضى المضمون عنه غير شرط في صحة الضمان ، بل يظهر من المسالك أن ذلك موضع وفاق ، حيث قال بعد قول المصنف : ـ ولا عبرة برضا المضمون عنه ، لان الضمان كالقضاء ، هذا موضع وفاق ، ولأن أداء الدين كما يجوز بغير اذنه فالتزامه في الذمة أولى ، ولصحة الضمان عن الميت كما مر في واقعة المصلى عليه ولا يتصور رضاه. انتهى.

وأشار بالواقعة المذكورة إلى حديثي على (عليه‌السلام) وأبى قتادة المتقدمين.

أقول : ما نقله هنا من الاتفاق على الحكم المذكور ينافيه ما نقله في المختلف عن الشيخ أنه قال في النهاية : متى تبرع الضامن من غير مسألة المضمون عنه ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد برء عهدة المضمون عنه ، الا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله لم ينتقل عنه بالضمان ، ثم نقل عن ابن البراج أنه قال : إذا تبرع انسان بضمان حق ثم أنكر المضمون عنه ذلك كان الحق باقيا في جهته ، لم ينتقل الى المتبرع بضمان ذلك ، قال : وهذا يوافق قول الشيخ من اعتبار رضى المضمون عنه في الضمان ، وبه قال ابن حمزة ، وهو قول شيخنا المفيد رحمه‌الله في المقنعة ، ثم نقل عن ابن إدريس أنه لا يعتبر رضى المضمون عنه ، بل يلزم الضمان مع رضى الضامن والمضمون له ، قال : وهو مذهب والدي رحمه‌الله ، ثم استدل على ذلك فقال : لنا قوله (عليه‌السلام) (١) «الزعيم غارم». وما رواه داود الرقي (٢) في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) قال : مكتوب في التوراة «كفالة ندامة غرامة». ولانه كالقضاء فلا خيار له كما لو قضى عنه. انتهى

ومنه يظهر ما في دعوى الاتفاق مع ظهور خلاف هؤلاء الأجلاء والقائلون

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٧.

(٢) الوسائل ج ١٣ الباب ٧ من أبواب الضمان ص ١٥٥ ح ٥.


بعدم اشتراط رضى المضمون عنه ، قالوا : تفريعا على ذلك : بأنه لو أنكر المضمون عنه بعد الضمان لم يبطل الضمان ، وعللوه بأنه لا أثر له ، فإنه إذا لم يعتبر رضاه ابتداء فلا عبرة بإنكاره بعده ، ثم نقلوا هنا خلاف الشيخ وجماعة حيث حكموا ببطلانه بعد إنكاره ، وردوه بأنه ضعيف جدا.

أقول : ان الشيخ انما حكم هنا ببطلان الضمان بالإنكار تفريعا على قوله باشتراط رضى المضمون عنه في صحة الضمان ، مع أنهم لم ينقلوا خلافه هناك ، بل ادعوا الاتفاق ، وهو يشعر بموافقة الشيخ لهم في تلك المسألة ، وتخصيص مخالفته بهذه ، ومن ثم نسبوه الى كونه ضعيفا جدا.

وأنت خبير بأنا لم نجد لهم دليلا شافيا على ما ادعوه من عدم اشتراط رضى المضمون عنه في صحة الضمان ، الا ما يذكرونه من جواز أداء الدين عنه بغير رضاه ، وغاية ما يستند اليه هنا في أداء الدين حديث الضمان عن الميت ، حيث أنه لا يتصور الرضا أو عدمه من الميت.

وما ادعوه من جواز أداء الدين عن الحي وبراءة ذمته مع عدم رضاه بذلك لم نقف له على دليل ومع وجود الدليل عليه فحمل الضمان على ذلك قياس ، وان كان مما يرجع اليه بنوع من الاعتبار والاستناد الى الضمان عن الميت أو الأداء عنه غير دال على ما نحن فيه ، لظهور الفرق بين الحي والميت ، فهو قياس مع الفارق ، وما ذكره العلامة من الدليل عليل لا يهدى الى سبيل وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في أنه متى تحقق الضمان على الوجه المعتبر شرعا انتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، وبرء المضمون عنه من حق المضمون له ، وانما يبقى الحق في ذمة الضامن إذا كان الضمان باذنه دون ما إذا كان تبرعا وخالف كافة العامة في ذلك حيث قالوا : بان الضمان غير ناقل ، وانما هو ضم ذمة إلى ذمة ، فللمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه.


ويدل على القول المذكور مضافا الى اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) ، صحيحة عبد الله بن سنان ، وموثقة إسحاق بن عمار ، وموثقة الحسين بن الجهم المتقدمات ، فإنها صريحة في خلو ذمة المضمون عنه ، وانتقال المال إلى ذمة الضامن ، فعلى هذا لو أبرأ المضمون له ذمة المضمون عنه لم يفد شيئا ، بل كان لغوا وذلك لأنك قد عرفت أنه بالضمان انتقل المال إلى ذمة الضامن ، وبرئت ذمة المضمون عنه من حق المضمون له ، فهذا الإبراء لم يصادف محلا لانه غير مشغول الذمة له.

نعم لو أبرأ ذمة الضامن برئا جميعا ، أما الضامن فلانه مشغول الذمة له ، فإذا أبرئه برئت ذمته ، وأما المضمون عنه فلان الضامن لا يرجع عليه الا بما أداه عنه ، وهو هنا لم يؤد عنه شيئا ، فلا يرجع إليه بشي‌ء ، وخالف الجمهور في ذلك ، فقالوا : ان كل واحد من الضامن والمضمون عنه ذمته مشغولة ، فإذا أبرأ المضمون له المضمون عنه فقد أبرأ الضامن ، لسقوط الحق كما لو أدى المال ، ولو أبرأ الضامن لم يبرء المضمون عنه ، لان الضامن عندهم كالوثيقة فلا يلزم من سقوطها سقوط الدين كفك الرهن.

والحكم المذكور اتفاقي بين أصحابنا كما ذكره في التذكرة : حيث ادعى إجماع علمائنا على ذلك ، والمحقق في الشرائع نسبه إلى قول مشهور ، وربما كان فيه اشعار بوجود مخالف منا ، أو إشارة الى عدم تحقق الإجماع المدعى.

السادس : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يشترط في الضامن الملاءة أو العلم بإعساره والمراد انه شرط في اللزوم لا في الصحة فلو ضمن ثم بان إعساره كان للمضمون له الفسخ ، قالوا : لان عقد الضمان مبنى على الارتفاق ، والقصد منه استيفاء الدين من الضامن ، وانما يكون ذلك إذا أمكن الأداء بإيساره ، فإذا فات هذا المقصود ثبت للمضمون له الخيار بين الصبر على الضامن ، وبين فسخ العقد والرجوع على المضمون عنه.

وهل الخيار هنا على الفور أم لا لم أقف فيه على كلام لهم ، والأصل يقتضي


امتداده الى ان يثبت المزيل ، والمراد بالملاءة المشترطة في الضامن أن يكون مالكا لما يؤدى به الدين فاضلا عن المستثنيات في البيع ، وانما تعتبر الملاءة ابتداء لا استدامة فلو كان مليا وقت الضمان ثم تجدد عدمها قبل الأداء لم يبطل الضمان ، ولم يجز له الفسخ ، لحصول الشرط حين الضمان.

ولم يحضرني الان خبر في المقام الا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن عيسى بن عبد الله قال احتضر عبد الله بن الحسن ورواه في الفقيه مرسلا قال : «وروى أنه احتضر عبد الله بن الحسن فاجتمع إليه غرماؤه فطالبوه بدين لهم فقال لهم : ما عندي ما أعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من أخي وبنى عمى على بن الحسين أو عبد الله بن جعفر فقال الغرماء : اما عبد الله بن جعفر فملي مطول ، واما على بن الحسين ، فرجل لا مال له صدوق وهو أحبهما إلينا ، فأرسل إليه فأخبره الخبر فقال عليه‌السلام : أضمن لكم المال إلى غلة ولم تكن له غلة فقال القوم : قد رضينا وضمنه فلما أتت الغلة أتاح الله عزوجل له المال فأداه». (١).

والخبر مع ضعف سنده وعدم إسناده الى الامام (عليه‌السلام) لا دلالة فيه على محل البحث ، وظني أن الأصحاب لو جعلوا الشرط هنا رضا المضمون له بالضامن ، وقبوله له مليا كان أو غير ملي لكان أظهر ، فإن مجرد الملاءة مع حصول المطل كما تضمنه هذا الخبر لا تفيد فائدة في ترتب الأثر عليها.

وبالجملة فإن اشتراطهم رضا المضمون له كما هو المشهور بينهم بالضمان والضامن كاف عن هذا الشرط هنا ، مع أنه لا دليل عليه الا ما ذكروه من التعليل الذي يحصل بالرضا بالضامن ، إلا أنك قد عرفت اختلاف الاخبار في ذلك ، وأن أكثر الأخبار ظاهر في العدم. والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٧ باب قضاء الدين ح ٧ وفي التهذيب ج ٦ ص ٢١١ ح ١٢ وفي من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٥٥ باب الحوالة حديث ٢ ـ (ولا يخفى ان في النسخ اختلافا جزئيا) وفي الوسائل ج ١٣ ص ١٥٢ ح ١.


السابع ـ الحق المضمون اما أن يكون حالا أو مؤجلا ، ثم انه اما أن يضمنه الضامن حالا أو مؤجلا ، وعلى تقدير ضمان المؤجل مؤجلا ، اما أن يكون الأجل الثاني مساويا للأول ، أو أنقص أو أزيد ، وعلى التقادير اما ان يكون الضمان تبرعا ، أو بسؤال المضمون عنه ، فالصور اثني عشرة ، وقد صرح جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم بأنها كلها جائزة ، للأصل ، وعموم دلائل مشروعية الضمان ، وتحقق الغرض المطلوب منه في الجميع ، ولانه كالقضاء عن المدين ، وبعض هذه الصور إجماعي ، وبعضها محل خلاف ، الا أن محل الخلاف في كلامهم غير محرر.

وظاهر كلام المحقق في الشرائع أن الضمان المؤجل جائز إجماعا ، وفي الحال تردد أظهره الجواز ، والمراد من الثاني الذي هو محل التردد عنده ما لو كان الدين مؤجلا فضمنه الضامن حالا.

والمنقول عن الشيخ وجماعة منع الضمان هنا ، لان مبنى عقد الضمان على الإرفاق ، وتسهيل الأمر على المضمون عنه ، والضمان في هذه الصورة ينافي الغرض المذكور ، لان الدين مؤجل والضامن يريد أن يضمنه حالا ، ويرجع به على المضمون عنه ، ووجه آخر وهو أن ثبوت المال في ذمة الضامن فرع ثبوته في ذمة المضمون عنه ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل ، (١) والقائلون بالصحة أجابوا عن ذلك بأن المنتقل بالضمان هو الدين ، وأما الأجل فإذا أسقطه المديون وأدى المال حالا جاز ، فكذا إذا سأل الضمان كذلك ، لان الضمان انما ضمن كذلك باذنه وسؤاله ، فهو في معنى الاسقاط له ، لكنه لا يرجع على المضمون عنه الا بعد تمام

__________________

(١) قال في المبسوط : إذا ضمن المؤجل حالا الأقوى أنه لا يصح ، لانه لا يجوز ان يكون الفرع أقوى من الأصل ، قال في المختلف : بعد نقل ذلك عنه : الوجه عندي الصحة ، ولا نسلم تحقق القوة هنا ، فإنه يجوز للمضمون عنه دفع المال معجلا كذا يجوز الضمان معجلا ، فان الضمان كالقضاء إذا ثبت هذا ، فإذا ضمن حالا لم يكن له الرجوع على المضمون عنه ، الا بعد الأجل وان أخذ منه المال حالا انتهى. منه رحمه‌الله.


الأجل ، وان أداه حالا بمقتضى الضمان ، ولو كان الضامن متبرعا بالضمان فأولى بعدم الاشتراط ، إذ لا رجوع له على المضمون عنه فيكون في معنى ما لو أدى عنه ـ دينه المؤجل قبل الأجل ، وهو جائز.

ومن ذلك يظهر أن الجواز هو الأقوى وفي هذه الصورة أعني صورة الضمان حالا صورة أخرى ، وهي ما إذا كان الدين حالا ، وسيأتي الكلام فيها في المقام. ان شاء الله تعالى.

وأما الصورة الأولى مما نقلناه من كلام المحقق وهي قوله ان الضمان المؤجل جائز إجماعا فهي شاملة لجملة من الصور ، منها ما لو كان الدين حالا فضمنه مؤجلا ، وهذه الصورة مجمع عليها ، ودعواه الإجماع هنا في محله ، والتعليل بالارتفاق وتسهيل الأمر على المضمون عنه هنا متجه ، لان الدين حال وبالضمان صار مؤجلا ، قالوا : وليس هذا تعليقا للضمان على الأجل ، بل تأجيل للدين الحال في عقد لازم ، (١) ومن حكم هذه الصورة أن المضمون عنه لا يطالب قبل حلول الأجل.

أما من المضمون له ، فلانه لا طلب له عليه ، لانتقال حقه الى ذمة الضامن ، وأما من الضامن فلانه ليس له المطالبة حتى يؤدى ولو كان حالا فمع الأجل أولى وليس للمضمون له أيضا مطالبة الضامن قبل حلول الأجل عملا بمقتضى الشرط.

ومن صور تلك الصورة المشار إليها ما لو كان الحق مؤجلا مع قصور أجل الضمان أو مساواته وتعليل الشيخ والجماعة المانعين من ضمان المؤجل حالا يقتضي المنع من هاتين الصورتين ، لما عرفت من أنهم عللوا ذلك وبه صرح في المختلف وغيره أيضا بأن الضمان إرفاق ، (٢) فالإخلال به يقتضي تسويغ المطالبة للضامن ،

__________________

(١) بمعنى أنه ليس له مطالبة المضمون عنه حتى يؤدى ما ضمنه في صورة حلول الدين ، فكيف في صورة الأجل ، فهو بطريق أولى. منه رحمه‌الله.

(٢) أما لو كان أجل الضمان أزيد من أجل الحق ، فإنه داخل في الإجماع ، لأن الأجل الزائد يحصل فيه الارتفاق المطلوب من الضمان. منه رحمه‌الله.


فيتسلط على مطالبة المضمون عنه في الحال ، فينتفى فائدة الضمان ، وهذا التعليل بعينه آت في الأجل المساوي والقاصر ، ويقتضي أن الضامن لو كان متبرعا لم يضر ، لانتفاء المانع من التسلط على المضمون عنه.

والشيخ فخر الدين منع من ضمان الحال كما ذهب اليه الشيخ ، الا أنه علله بعلة أخرى قال : لانه ضمان ما لم يجب ، وهذا التعليل يجري في الأجل القاصر عن أجل الدين ، كما هو شامل للحال ، ومخرج للمساوي (١) وبالجملة فإطلاق كلام الشيخ ومن تبعه حيث خصوا المنع بصورة ضمان المؤجل حالا يقتضي ثبوت الإجماع المدعى في صورة الضمان مؤجلا لما كان حالا أو مؤجلا بجميع أقسامه ، وبالنظر الى التعليلات يدل على اختصاصه بغير الصورتين المذكورتين ، وأما الضمان حالا فان كان الدين مؤجلا فقد اتفق المانعون على منعه نصا وتعليلا كذا قيل.

وفيه أن الشيخ فخر الدين من القائلين بهذا القول ، وقد تقدم تعليله بغير ما علل به الشيخ وان كان حالا ، فالشيخ فخر الدين وأتباعه جوزوه لوجوب الحق ، والشيخ وأتباعه منعوه لعدم الارتفاق. والله العالم.

الثامن : لو ضمن مؤجلا مع كون الدين حالا ثم مات قبل حلول الأجل حل الدين المذكور ، وأخذ من تركته ، لما تقدم من أن الميت تحل ديونه المؤجلة بموته ، وهذا من جملة أفرادها ، وللورثة حينئذ مطالبة المضمون عنه ، لان الدين عليه حال كما هو المفروض ، ولم يحصل ما يقتضي تأجيله ، والمؤجل انما هو الدين الذي في ذمة الضامن ، لا الذي في ذمته ، والضامن انما امتنع رجوعه عليه في حياته

__________________

(١) قال العلامة في المختلف : بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في الحاشية المقدمة من نقل كلام الشيخ في المبسوط ورده له : ما صورته وقد استخرج ولدي العزيز محمد جعلت فداه وجها هنا يقوى قول الشيخ رحمه‌الله ، وهو أن الحلول زيادة في الحق ، ولهذا يختلف الأثمان به ، وهذه الزيادة غير واجبة على المديون ، ولا ثانية في ذمته ، فيكون ضمان ما لم يجب فلا يصح عندنا انتهى. منه رحمه‌الله.


من حيث أنه لا يرجع الا بعد دفع ما ضمنه ، وحيث أنه قد مات وحل عليه الدين وأخذ من تركته زال المانع من مطالبة المضمون عنه ، ويأتي مثله أيضا في ما لو دفع الضامن المال في حياته قبل حلول الأجل باختياره ، فان له الرجوع على المضمون عنه ، لعين ما ذكر.

وهذا بخلاف ما لو كان الدين مؤجلا على المضمون عنه فضمنه الضامن كذلك ، فإنه بحلوله عليه بعد الموت وأخذه من تركته لا يحل على المضمون عنه ، لان الحلول عليه لا يستلزم الحلول على الأخر كما لا يحل عليه المؤجل لو ضمنه الضامن حالا على القول بذلك.

التاسع : قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه متى حصل الضمان على الوجه المعتبر شرعا ، فإنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما دفعه الى المضمون له ان ضمن باذنه ولو أدى بغير اذنه ، ولو ضمن بغير اذنه لم يرجع عليه ، وان أدى باذنه ، ولو ضمن باذنه وأدى بإذنه فأولى بالضمان ، ولو ضمن بغير اذنه وأدى بغير إذنه فأولى بعدم الضمان.

وظاهر المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) المناقشة في هذا المقام ، حيث قال :

بعد ذكر عدم الرجوع مع عدم الاذن في الضمان ما صورته : وأما الرجوع مع الاذن في الضمان مع الاذن في الأداء وعدمه ففيه تأمل ، إذ الاذن في الضمان والأداء لا يدل على قبول أداء العوض ، بشي‌ء من الدلالات ، والأصل عدمه ، الا أن تدل قرينة حال أو مقال على ذلك ، كما في لزوم الأجرة على من أمر شخصا بفعل له أجرة عادة ، ولهذا قال في التذكرة : لو قال : أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع ، وكذا لو قال : أعتق عبدك أو الق متاعك في البحر عند خوف الغرق وعدمه ، الا أن ينضم اليه ما يدل على قبول العوض ، مثل قوله عنى في الأولين ، وعلى ضمانه وعوضه في الثالث ، وبهذا المقدار يلزم ، وهذا دليل على عدم اشتراط الصيغة الخاصة ، والمقارنة وغيرهما فافهم ، ولي في اللزوم مع انضمام قوله عني أيضا تأمل ، وان قالوه الا أن ينضم إليه قرينة ، و


يعلم من التذكرة الإجماع على الرجوع مع الاذن في مجرد الضمان فتأمل. انتهى

أقول : ويدل على ما ذكره الأصحاب مضافا الى الإجماع المنقول عن التذكرة ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن خالد قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك قول الناس الضامن غارم ، قال : فقال : ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال». (١).

وهو ظاهر كما ترى في رجوع الضامن على المضمون عنه بما اغترمه للمضمون له ، وأنه لا غرم عليه ، بمعنى عدم رجوعه على المضمون عنه ، ولو صح ما ذكره من عدم الرجوع للزم حصول الغرم عليه ، مع أنه (عليه‌السلام) قد نفاه عنه ، وجعل الغرم على من أكل المال وهو المضمون عنه ، وبالخبر المذكور يجب الخروج عن الأصل الذي استند اليه ، والخبر وان كان مطلقا الا أنه محمول على ما إذا كان الضمان باذن المضمون عنه.

وما رواه الشيخ بإسناده عن عمر بن يزيد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال : ليس له ، الا الذي صالح عليه». ورواه الكليني عن عمر بن يزيد في الموثق (٣) ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب عبد الله بن بكير عنه (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما ضمنه فقال قال : ليس له الا الذي صالح عليه». وهو أيضا ظاهر في الرجوع ، ومحمول على الاذن في الضمان ، ولو كان ما توهمه من عدم الرجوع حقا لنفاه (عليه‌السلام) ولم يثبت له الرجوع بشي‌ء بالكلية.

وبالجملة فإن كلامه هنا ناش عن عدم الوقوف على شي‌ء من الاخبار المذكورة ، وأما

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٤٨٥ وص ٢٠٦ ح ٤ ..

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٧.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ الباب ٨٤ باب الكفالات والضمانات. وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٤٩ الباب ١ وص ١٥٣ الباب ٦ من كتاب الضمان.


قياسه على لزوم الأجرة فهو ـ مع كونه قياسا لا يجوز التعويل عليه في الأحكام الشرعية ـ قياس مع الفارق ، لأنه ان كان ذلك الفعل المأمور به يرجع الى الأمر بمعنى أنه أمره أن يفعله له ـ فان دعوى عدم استحقاق الأجرة ممنوعة ، وان كان لا كذلك كالأمر برمي ماله في البحر ونحوه فهو ليس من محل البحث في شي‌ء والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ، والقياس عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه. والله العالم.

العاشر : لو دفع الضامن للمضمون له عما في ذمته عروضا برء الضامن مما عليه ، وكان له الرجوع مع الاذن في الضمان بأقل الأمرين من قيمة العروض وما تباع به في السوق ، ومما كان في ذمة المضمون عنه ، لان الضامن لا يستحق أكثر مما أدى ، والمضمون عنه لا يؤدى أكثر مما في ذمته ومما أداه الضامن ، فلو فرضنا أن الذي في ذمته كان مأة درهم ، والعروض التي دفعها الضامن كانت تساوى خمسين درهما فليس عليه الا الخمسين ، وكذا لو فرضنا أن العروض كانت تساوى مأة وعشرين فليس عليه الا المأة.

أما الأول فلان الضامن لا يستحق الرجوع بأزيد مما دفعه ، ولهذا لو أبرء المضمون له لم يرجع بشي‌ء ولو ابرء عن البعض لم يرجع إلا بالباقي.

وأما الثاني فلان المضمون عنه لا يجب عليه أداء أكثر مما في ذمته اتفاقا ، وقال ابن الجنيد على ما نقل عنه في المختلف : لو ضمن زيد لعبد الله دينا على عمرو ، فصالح زيد عبد الله عن جملة ضمانه عن عمرو ، على ما يجوز التتابع به بينهما ، فان كان ذلك قبل وجوب الحكم على زيد بالمال الذي ضمنه (١) لم يكن له الا قيمته ، أو قدر ما أعطاه عبد الله يرجع به على عمرو ، وان كان بعد وجوب الحكم كان له الرجوع بأصل الحق على عمرو.

وأجاب عنه العلامة فقال لنا : انه وضع للإرفاق ، والرجوع بأكثر مما دفع

__________________

(١) أقول : الظاهر أن مراده بوجوب الحكم على زيد كناية عن وقت المطالبة ووجوب الدفع عليه. منه رحمه‌الله.


مناف له ، فلا يصح ثم قال : احتج بأن الثابت في ذمة الضامن قدر المال ، ودفع الأقل بعد الحكم عليه ، بالأكثر ابتداء عطية من المضمون له للضامن فلا يسقط.

والجواب ما تقدم من منافاة الضمان لذلك ، فالحكمة يقتضي عدم الصحة. انتهى أقول : والأظهر في الجواب هو ما قدمناه سابق هذا الموضع من روايتي عمر بن يزيد وعبد الله بن بكير الواردتين في الصلح ، وانه ليس له الا الذي صالح عليه ، وهي مبنية على أنه أقل الأمرين كما هو الغالب ، فان الظاهر من المصالحة هو دفع ما هو أقل من الحق وتراضى الطرفين عليه ، والا فلو كان ذلك قدر الحق كان أداء للدين ، ولا يحتاج الى صلح ولا تراض عليه ، والرواية دالة بإطلاقها على ذلك ، سواء كان قبل الحكم الذي هو كناية عن المطالبة ، والحكم بوجوب الدفع أو بعده ، وما ذكره العلامة طاب ثراه يكون مؤيدا لذلك. والله العالم.

الحادي عشر : قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن باذنه كان له مطالبة المضمون عنه بتخليصه وان لم يطالبه المضمون له ، وقال أيضا في الكتاب المذكور : إذا ادعى الضامن الجنون حالة الضمان ولم يعرف له حالة الجنون كان القول قوله ، لأن الأصل براءة الذمة ، وكلا الحكمين محل بحث وإشكال.

أما الأول فإن ظاهر الأصحاب هو المنع من المطالبة في الصورة المذكورة ، لأنه انما يرجع عليه بعد الأداء بما يؤديه ، والحال أنه هنا لم يؤد شيئا ، ولعل المضمون له يبرؤه من الدين كلا أو بعضا فكيف يتسلط الان على المطالبة ، وأما الثاني فإن ما استند اليه من أصالة البراءة معارض أيضا بأن الأصل عدم الجنون ، والأصل صحة الضمان فيعارض ما ذكره من الأصل بأحد هذين الأصلين ، ويبقى الأصل الثاني سالما عن المعارض.

الثاني عشر : ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن رجل عن رجل ألف درهم وضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز ، لان المضمون عنه أصل للضامن ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يصير الأصل فرعا والفرع أصلا ، وأيضا فلا فائدة فيه.


قال في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه عندي صحة ذلك لوجود المقتضى ، وانتفاء المانع ، أما وجود المقتضى فلان عقد الضمان صدر من أهله في محله ، وأما انتفاء المانع فليس إلا الأصالة والفرعية ، وذلك لا يصح للمانعية ، لتحقق المال في ذمة الضامن ، وبراءة ذمة المضمون عنه ، فيكون كالأجنبي ، قوله «لا فائدة فيه» قلنا : ممنوع لجواز أن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس انتهى.

أقول : ظاهر كلام جملة من الأصحاب جواز التسلسل في الضمان ، بأن يضمن ضامن ، ثم يضمن عنه آخر ، وهكذا ، ويصح دوره ، كما صرح به العلامة فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ولم يخالف في ذلك الا الشيخ كما عرفت.

ومن فروعه المترتبة عليه أنه لو وجد المضمون له الأصل الذي صار ضامنا معسرا جاز له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، ومنها الاختلاف ، بأن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس ، كما ذكره العلامة ، وبه يندفع كلام الشيخ أنه لا فائدة فيه.

وبالجملة فإنه لا مخالف في الحكم المذكور الا ما تقدم حكايته عن الشيخ ، والعجب هنا من المحقق الأردبيلي حيث ادعى الاتفاق على الحكم المذكور ، مع اشتهار خلاف الشيخ ، وتصريح الأصحاب به (١) والله العالم.

__________________

(١) حيث انه (قدس‌سره) قال بعد قول المصنف وترامى الضمان ما صورته أى يصح أن يضمن ضامن شخصا ثم يضمنه آخر وهكذا ويسمى التسلسل ويكون حكم كل لا حق مع سابقه حكم الأولين والظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك ووجهه ظاهر مما تقدم وكأنهم يريدون الرد على بعض العامة والظاهر تجويز دوره أيضا عندهم بخلاف العامة. انتهى ومما ذكرنا يعلم ان الأصحاب انما أرادوا بما ذكروه الرد على الشيخ كما عرفت ، لكنه لما غفل عن خلاف الشيخ ، وظن الاتفاق في الحكم حمل كلامهم على الرد في هذا المقام على العامة. منه رحمه‌الله.


البحث الثاني في الحق المضمون

وفيه مسائل ـ الأولى يشترط في المال المضمون أن يكون ثابتا في الذمة وان لم يكن مستقرا ، كالثمن في مدة الخيار فيصح ضمانه ، وهذا الضمان قد يكون للبائع القابض الثمن ، فيضمن له عن المشترى على تقدير ظهور كونه مستحقا للغير ، أو على تقدير ظهور عيب فيه ، ليرجع بأرشه ، وقد يكون ضمانه للمشتري على تقدير ظهور كون البيع مستحقا للغير ليرجع به ، وعلى التقديرين فإنما هو ضمان لعهدته ، لا له نفسه ، والفرق بين الضمانين ظاهر من جهة اللفظ والمعنى.

أما الفرق اللفظي فإنه في ضمانه نفسه ، يقول ضمنت لك الثمن الذي في ذمة زيد مثلا ، وفي ضمان العهدة يقول ضمنت لك عهدته أو دركه.

وأما المعنوي فإنه بالنسبة إلى ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن ، كما عرفت فيما تقدم ، وبرأيه المضمون عنه ، وضمان العهدة ليس كذلك ، بل انما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات ، وفي ضمان المال ليس بلازم ، ولكن يؤل الى اللزوم كمال الجعالة قبل فعل ما شرط ، ومال السبق والرماية على خلاف.

ووجه الصحة ـ على ما ذكروه ـ هو أن الجعالة وان كانت من العقود الجائزة والمال فيها لا يلزم الا بتمام العمل ، فإن بقي منه شي‌ء وان قل فليس له شي‌ء الا انه يؤل الى اللزوم بتمام العمل ، وقد وجد سبب اللزوم ، وهو العقد فيكون كالثمن في مدة الخيار ،

وأجيب عن ذلك بمنع وجود السبب ، فإنه العقد والعمل معا لا العقد وحده ، وانما هو جزء السبب ، ولم يحصل به ثبوت ولا لزوم ، حتى أنه لو لم يتم العمل وبقي منه شي‌ء ، فإنه لا يستحق شيئا بما مضى ، فيكون الباقي بمنزلة الشرط في استحقاق الجميع ، فكيف إذا كان قبل الشروع في العمل ، والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار ظاهر ، لان الثمن ثابت في ذمة المشترى ـ مملوك للبائع ، غاية الأمر أنه


متزلزل بخلاف الجعالة ، فإنها لا ثبوت لها أصلا حتى يكمل الفعل كما عرفت.

نعم يمكن أن يستدل على هذا القول بظاهر قوله عزوجل (١) «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» فان فيها دلالة على جواز ضمان مال الجعالة قبل العمل ، لانه ضمنه قبل العمل ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على جملة من مسائل الجعالة والضمان ، والظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك.

وقطع العلامة في التذكرة بعدم الجواز قبل الشروع في العمل ، لانه ضمان ما لم يجب ، واستقرب الجواز بعد الشروع ، هذا بالنسبة إلى الجعالة ، وأما مال السبق والرماية فلا إشكال في جواز ضمانه بعد العمل كما تقدم ، وأما قبله ، فإنه يبنى على كونه جعالة أو إجارة ، وفيه خلاف سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى في موضعه ، قال في المسالك : والأقوى أنه عقد لازم كيف كان فيلزم المال فيه بالعقد فيصح ضمانه.

الثانية : اختلف الأصحاب في مال الكتابة المشروطة هل يصح ضمانه أم لا؟ فقيل : بالثاني ، لأنه ليس بلازم ولا يؤل الى اللزوم ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، قال : لانه ليس بلازم في الحال ، ولا يؤل الى اللزوم لان للمكاتب إسقاطه بفسخ الكتابة للعجز فلا يلزم العبد في الحال ولا يؤول إلى اللزوم ، لأنه إذا أداه عتق ، وإذا عتق خرج عن أن يكون مكاتبا ، فلا يتصور أن يلزمه في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له الامتناع ، ولان الضمان إثبات مال في الذمة ، والتزام لأدائه ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون المال في الأصل غير لازم ويكون في الفرع لازما ، فلهذا منعنا من صحة ضمانه.

والمشهور الجواز ، وبه صرح المحقق والعلامة ، والخلاف هنا مبنى على الخلاف في مال الكتابة المشروطة هل هو لازم أم لا؟ وحيث أن مذهب الشيخ عدم لزومه من قبل العبد ، لانه لو عجز نفسه رجع ، وقد بنى عليه مسئلة الضمان.

ومذهب الأصحاب لما كان هو القول باللزوم ثمة ، قالوا : باللزوم هنا.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٧٢.


قال في المسالك : ولو تنزلنا الى الجواز فالصحة متجهة أيضا ، لأن المال ثابت في ذمة المكاتب بالعقد ، غايته أنه غير مستقر كالثمن في مدة الخيار ، فعلى هذا متى ضمنه ضامن انعتق لأنه في حكم الأداء بناء على انه ناقل ، وامتنع التعجيز كما ادى المال بنفسه. انتهى.

وبالجملة فالظاهر هو المشهور لما عرفت ، وموضع الخلاف كما عرفت هو الكتابة المشروطة.

أما المطلقة ، فالظاهر أنه لا خلاف في لزومها وصحة ضمانها. والله العالم.

الثالثة : لا خلاف في أنه يصح ضمان نفقة الزوجة الماضية والحاضرة ، لاستقرارها في ذمة الزوج.

أما المستقبلة كنفقة الشهر المستقبل فلا ، ووجه الفرق بين الحالين أن النفقة عوض التمكين ، وهو بالنسبة إلى الزمان المستقبل غير حاصل ، لجواز النشوز ، فالنفقة فيه غير متعلقة بالذمة ، فلا يصح ضمانها ، ثم ان ما علل به الضمان في الموضعين الأولين من استقرار النفقة في الذمة إنما يتجه في النفقة الماضية ، وأما الحاضرة فإنه لا اشكال عندهم في وجوبها وثبوتها في الذمة مع التمكين.

لما صرحوا به من أنها تجب في كل يوم حاضر بطلوع فجره مع التمكين.

واما استقرارها ففيه اشكال ، مبنى على انها لو نشزت في أثناء النهار هل يسترد منها نفقة ذلك اليوم أم لا؟ وفيه خلاف يأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى في محله.

قالوا : أما لو ماتت أو طلقها استقرت ، وفي تخصيص نفقة الزوجة بالذكر في هذا المقام مع وجوب الإنفاق على غيرها من العمودين إشارة الى عدم الضمان في نفقة غيرها ، لأن الفائت منها لا يثبت في الذمة ، كما تثبت نفقة الزوجة ، بل غاية ما يلزم من الإخلال بها الإثم والمؤاخذة ، لأن الغرض المقصود من الأمر بها البر والصلة ، فتفوت بفوات وقتها ، بخلاف نفقة الزوجة فإنها معاوضة ، وقعت في مقابلة التمكين فسبيلها سبيل الدين.


وقد وقع الخلاف هنا في موضعين :

الأول ـ قال الشيخ في المبسوط : يصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة دون المستقبلة ، لأنها تجب بالتمكين ، ومتى ضمن النفقة فإنما يصح مقدار نفقة المعسر ، لأنها ثابتة لكل حال ، وأما الزيادة عليها الى تمام نفقة الموسر ، فهي غير ثابتة لأنها تسقط بإعساره ، وتبعه ابن البراج على ذلك.

وهذا الكلام غير خال من الأشكال بل الاختلال ، لأنه متى كان الذي يجب قضاؤه انما هو النفقة الماضية والحاضرة ، والزوج يضمن بنسبة حاله ، فأن كان موسرا ضمن نفقة الموسر ، وان كان معسرا ضمن نفقة المعسر ، ولا يسقط الزائد على نفقة المعسر بإعسار الموسر بعد وجوبه.

ولا يتم هذا الكلام الا على مذهب من يقول بضمان النفقة المستقبلة ، كما صرح به في المختلف حيث قال : وانما يتم ذلك على مذهب القائلين بصحة ضمان النفقة المستقبلة ، وقول الشيخ في المبسوط كأنه مذهب المخالف ، وتفريع على تسويغ ضمان النفقة المستقبلة ، وتبعه ابن البراج توهما أن ذلك فتواه. انتهى وما ذكره (قدس‌سره) جيد في حد ذاته ، الا أن تطبيق عبارة الشيخ عليه مشكل ، والحق أن كلامه (قدس‌سره) هنا في المبسوط لا يخلو عن سهو وغفلة ، لعدم ارتباط العبارة وانتظامها.

الثاني : قال ابن إدريس : في الموضع الذي يصح ضمانها فلا تصح الا أن تكون معلومة ، لأن ضمان المجهول على الصحيح من المذهب وعند المحصلين من أصحابنا لا يصح ، وهو ظاهر في عدم صحة ضمان النفقة مع مجهوليتها ، وعدم معلومية قدرها وكميتها ، وفيه ما يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في هذه المسألة.

الرابعة : اختلف الأصحاب في ضمان المجهول ، والمراد به ما يمكن استعلامه بعد ذلك كما لو ضمن ما في ذمته ، أما لو لم يكن الاستعلام لم يصح الضمان قولا واحدا كما لو قال : ضمنت لك شيئا مما لك على فلان ، لصدق الشي‌ء على القليل والكثير ، واحتمال لزوم أقل ما يتناوله الشي‌ء كالإقرار ، يندفع بأنه ليس هو المضمون ، وان كان بعض أفراده.


وممن قال بصحة الضمان في المسألة ، الشيخ في النهاية ، وشيخنا المفيد في المقنعة ، وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة وابن البراج في الكامل ، والمحقق والعلامة وهو القول المشهور على ما نقله في المسالك.

وممن ذهب الى العدم ، الشيخ في المبسوط والخلاف ، وبه قال ابن البراج في المهذب وابن إدريس.

احتج في المختلف على القول الأول قال : لنا الأصل الصحة ، وعموم قوله تعالى (١) «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» وأشار الى حمل البعير ، والأصل عدم تعينه ، وقوله (عليه‌السلام) (٢) «الزعيم غارم». وما رواه عطاء عن الباقر (٣) (عليه‌السلام) قال : قلت له : جعلت فداك ان على دينا إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه : فقال (ع) : سبحان الله أو ما بلغك أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول في خطبته : من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك دينا فعلى دينه ، ومن ترك مالا فأكله (٤) فكفالة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ميتا ككفالته حيا وكفالته حيا ككفالته ميتا ، فقال الرجل : نفست عني جعلني الله فداك». ولو لم يكن ضمان المجهول صحيحا لم يكن لهذا الضمان حكم ولا اعتبار ، إذ الباطل لا اعتبار به فامتنع من الامام (عليه‌السلام) الحكم بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كافل.

ثم نقل عن الشيخ : أنه احتج بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «نهى عن الغرر» وضمان المجهول غرر ، لانه لا يدرى كم قدرا من المال عليه ، ولعدم الدليل على صحته ، ثم أجاب عنه (قدس‌سره) بأن الغرر انما هو في المعاوضات التي تفضي إلى التنازع ، أما مثل الإقرار والضمان وشبههما ، فلان الحكم فيها معين ، وهو الرجوع الى قول المقر في الإقرار ، والى البينة في الضمان ، فلا غرر هنا ، والدليل قد بيناه انتهى.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٧٢.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٧.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢١١ ح ١١ ـ والوسائل ح ١٣ ص ٩٢ ح ٥.

(٤) قيل قوله فأكله أى إرثه ، لأنه (ص) والأئمة من بعده وارث من لا وارث له. منه رحمه‌الله.


أقول : ويدل على القول المشهور زيادة على المذكور ما تقدم من حديث ضمان على بن الحسين (١) عليهما‌السلام ، لدين عبد الله بن الحسن ، وحديث ضمانه عليه‌السلام لدين محمد بن أسامة (٢) فإنهما ظاهران بل صريحان في عدم معلومية الدين قدره وكميته وقت الضمان ، الا أن لقائل أن يقول : ان الظاهر من كلام المانعين من ذلك من حيث الغرر أن محل البحث والخلاف في المسألة انما هو بالنسبة إلى الضمان الذي يرجع به صاحبه على المضمون عنه ، وظاهر هذه الاخبار أعني خبر ضمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وضمان على بن الحسين (عليهما‌السلام) أنه ليس كذلك فلا تكون هذه الاخبار من محل البحث في شي‌ء ، وهكذا الكلام في الاية فإنه متى خص محل البحث بما ذكرناه ، فان الآية ليست من ذلك في شي‌ء أيضا ، لأن الظاهر منها انما هو ضمان الجعالة كما تقدمت الإشارة اليه.

وبالجملة فإنه ان جعل موضع البحث الضمان بقول مطلق ، فالحق في جانب القول المشهور للاية والاخبار المذكورة ، وان خص بما ذكرناه فباب المناقشة غير مسدود لما عرفت. والله العالم.

الخامسة : قد عرفت في سابق هذه المسئلة أن المشهور صحة ضمان المجهول ، الا أن القائلين بذلك اختلفوا فيما يرجع إليه في بيان ذلك المجهول وتعيين قدره ، فقيل بالرجوع في ذلك الى البينة ، بأنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان ، لا ما يوجد في كتاب ، ولا ما يقربه المضمون عنه ولا ما يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، فلو لم يكن ثابتا وقت الضمان بأن تجدد بعده ، فإنه لا يصح لانه ضمان ما لم يجب ، والشهادة به لا تفيد فائدة ـ ولا عبرة أيضا بما يوجد في دفتر أو كتاب لعدم الثبوت في ذمته بذلك ، وانما يلزم ضمان الثابت ، ولا ما يقر به المضمون عنه ، لأن إقراره انما ينعقد على نفسه لا على غيره ولا يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، لأن الخصومة الان بين الضامن والمضمون عنه ، فلا يلزم ما ثبت

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ١٥١ وص ١٥٣ الباب ٣ و ٥ من أبواب الضمان.

(٢) وقد تقدم حديث محمد بن أسامة في الموضع الثاني من البحث الأول ، واما حديث عبد الله بن الحسن فقد تقدم في الموضع السادس من البحث المذكور منه رحمه‌الله.


بمنازعة غيره ، كما لا يثبت بما يقربه.

نعم لو كان حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن ، فان كان النزاع بينه وبين الضامن ثبت على الضامن ما حلف عليه المضمون له وقيل : بلزوم ما يقربه الغريم أيضا ، ونقل عن أبى الصلاح وابن حمزة ، وفيه ما عرفت آنفا من ان إقرار المقر انما ينعقد على نفسه لا على غيره (١).

نعم لو كان الإقرار سابقا على الضمان فإنه يلزم الضامن ما أوجبه الإقرار ، كما صرح في المختلف ، وقيل : بلزوم ما يحلف عليه المضمون له مطلقا (٢) وهو منقول عن الشيخ المفيد ، قال (قدس‌سره) ـ على ما نقله عنه في المختلف : ضمان المجهول لازم ، كضمان المعلوم حتى يخرج منه بحسب ما تقوم به البينة للمضمون عنه ، أو يحلف عليه ، وتفسير هذا أن يقول : لإنسان قد لازم عليه على حق له عنده خل سبيله ، وأنا ضامن لحقك عليه كائنا ما كان ، فإن أقام المضمون له البينة على مقدار الحق خرج له الضامن ، ولا يقبل دعواه بغير بينة ، الا أن يحلف على ما يدعيه ، ولا يجوز أن يضمن انسان عن غيره ما يدعيه كائنا ما كان ، ولا ما يقترحه من الحقوق ، ولا ما يخرج حساب في كتاب لا حجة فيه الا أن يتعين المضمون ، أو يقوم به حجة على ما ذكر انتهى.

وهو ظاهر في إلزام الضامن ما يحلف عليه المضمون له وهو قول الشيخ أيضا الا أنه قيده برضا الضامن بالحلف ، وحينئذ فيكون هذا قولا رابعا في المسألة ،

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمل أن المراد بالرضا هنا الرد من الضامن بأن حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن كما هو أحد فردي الإطلاق في عبارة الشيخ المفيد ، وقد عرفت آنفا أنه في هذه الصورة يلزم الضمان ويجب عليه الأداء.

__________________

(١) واما إذا كان حلفه انما هو لدفع المضمون عنه وإثباته الدعوى عليه باليمين المردودة من قبل المضمون عنه فلا يلزم منهما ثبوت ذلك على الضامن والدعوى الان انما هو معه كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(٢) اى أعم من ان يكون رد اليمين عليه من الضامن أو المضمون عنه منه رحمه‌الله.


وانما الإشكال في صورة رد المضمون عنه ، وحينئذ بناء على هذا الاحتمال يرجع الى قول المفيد ، ويكون تخصيصا له بهذه الصورة ، وهو جيد ، الا انه باعتبار حمل الرضا على الرد لا يخلو من بعد ، لان الرد أعم من ذلك كما عرفت.

والعلامة في المختلف فرع ذلك على أن يمين المدعى هل هي كالبينة ، أو كالإقرار؟ قال : والتحقيق أن يقول : ان جعلنا يمين المدعى كالبينة كان له الرجوع على الضامن ، سواء رضى بيمينه أم لا ، وان جعلناها كالإقرار افتقر الى رضا الضامن إذا ضمن المجهول.

وبالجملة فالقدر المتيقن من ذلك هو القول الأول وهو الحكم بالبينة وكذا مع رد اليمين من الضامن وحلف المضمون عليه وما عدا ذلك محل توقف واشكال

والعجب هنا من المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ولا يلزمه ما يقربه المضمون عنه ولا ما يثبت عليه برد اليمين ، لأن الإقرار والحلف لا يؤثر في ثبوت حق على الغير وهو ظاهر ، وكأنه مجمع عليه انتهى.

وتوهم الإجماع على الانحصار في البينة مع وجود الخلاف كما عرفت ، وانتشاره في كتب الأصحاب كالمسالك والمختلف وغيرهما عجيب منه (قدس‌سره) ولو ضمن ما يشهد به عليه لم يصح الا ان يكون ثابتا في ذمته وقت الضمان فإنه لا مانع من صحة ضمانه ، وأما ما تجدد بعد ذلك فلا ، لانه ضمان ما لم يجب ، ومن شرط صحة الضمان تعلقه بالدين الثابت في الذمة وقت الضمان ، وحينئذ فضمانه لما يشهد به عليه شامل لما كان ثابتا في ذمته وقت الضمان وما كان متجددا ، والأول صحيح دون الثاني وبذلك يظهر ان إطلاق بعض العبارات بأنه لا يصح أن يضمن ما يشهد به عليه لانه لا يعلم بثبوته في الذمة وقت الضمان ـ ليس في محله.

السادسة قد صرح أكثر الأصحاب بجواز ضمان الأعيان المضمونة التي يجب على من هي في يده ردها ، ولو تلفت رد قيمتها كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ، والعارية المضمونة كأحد النقدين المشروط قال في التذكرة : يجوز ضمان أعيانها فإنه مال مضمون على المضمون عنه فجاز الضمان عنه ، ولو ضمن قيمتها لو تلفت فالأقوى عندي الصحة ، لأن ذلك ثابت في ذمة القابض انتهى.


وتردد المحقق في الشرائع ثم قال : الا شبه الجواز.

أقول : ضمان هذه الأعيان اما أن يكون بمعنى تكليف الضامن برد أعيانها على مالكها ، أو بمعنى ضمان قيمتها لو تلفت عند الغاصب ، والمستام ونحوهما ، أو الأعم منهما ، وفي صحة الكل اشكال ، لعدم الدليل على ما ذكروه من الجواز ، والأصل عدمه.

وما استدلوا به ـ من أن منشأه وجود سبب الضمان للعين ، والقيمة وهو القبض على الكيفية المخصوصة ، فيصح ، أما الأول فلأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وأما الثاني فلثبوت القيمة في ذمة الغاصب ونحو لو تلفت ـ منظور فيه بأن الثابت في الأول انما هو وجوب الرد ، وهو ليس بمال ، والثاني ليس بواقع ، فهو ضمان ما لم يجب وان وجد سببه ، لأن القيمة لا تجب الا بالتلف ولم يحصل.

ومنه يظهر أن الأظهر عدم الجواز وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما ذكرناه وزاد أيضا في القسم الأول فسادا من وجه آخر ، وهو ان من خواص الضمان كما قد عرفت انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ، وهنا ليس كذلك ، لان الغاصب مخاطب بالرد ومكلف به إجماعا ، وانما يفيد هذا الضمان ضم ذمة إلى ذمة ، وليس من أصولنا.

ومرجعه الى ما قدمناه من أن الحق الواجب على من بيده المال انما هو الرد الى صاحبه ، وهو لا ينتقل ، كما هو الحكم الجاري في الضمان ، بل يجب على من هو في يده رده ، ولا يخاطب به غيره.

وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ويحتمل الثبوت لصدق الضمان عرفا مع ثبوت شرعيته مطلقا ، وليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه. نعم غالبا انما يكون كذلك ، ولهذا قال في التذكرة : ضمان المال عندنا ناقل ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه الى آخره ، بعد ان اختار جواز ضمان الأعيان المضمونة والعهدة ، وكأنه لذلك تردد البعض واستشكل فتأمل. انتهى.

ففيه نظر لان الرجوع الى صدق الضمان عرفا ممنوع ، إذ لا مدخل للعرف


هنا مع وجود النهي الشرعي وثبوته نصا وفتوى ، ودعوى ثبوت شرعيته مطلقا ممنوع أيضا فإنه محل البحث ومطرح النزاع ، فان الخصم يمنع من ثبوت شرعيته على الوجه المذكور.

وقوله ـ انه ليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه ، مشيرا بذلك الى ما احتج به الخصم من أن مقتضى الضمان الانتقال إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ـ فيه أنه قد تقدم في الموضع الخامس من البحث الأول ما يدل على أن الحكم اتفاقي نصا وفتوى ، ودعوى كونه غالبا دون أن يكون كليا ممنوعة. نعم هذا الحكم انما ورد في المواضع التي قام الدليل على صحة الضمان فيها ، وأما ما ذكر هنا من ضمان الأعيان فإنا لم نقف في الاخبار ما يدل عليه ، وانما جوزه من جوزه بما عرفت من ذلك الوجه الاعتباري الذي تقدم ذكره مع انتقاضه بما عرفت أيضا ، وكلامه في التذكرة الذي استند اليه هنا لا يسمن ولا يغني من جوع فإنه يرد عليه جميع ما ذكرنا.

وبالجملة فإنه لما لم يقم هنا على الضمان كما ادعوه دليل واضح ، فالمانع مستظهر ، والأصل العدم ، ودعوى عموم أدلة الضمان لذلك ممنوع لما عرفت ، ثم انه بناء على المشهور من الحكم بجواز ضمان الأعيان المضمونة نفوا الجواز عن الأعيان الغير المضمونة كالوديعة والعارية الغير المضمونة ومال المضاربة وما في يد الوكيل وأمين الحاكم والوصي فإنه لا يصح ضمانها ، وقد ادعى في التذكرة الإجماع على ذلك ، وجعلوا الفرق بينها وبين ما سبق باعتبار الضمان ، وعدمه ، فحيث كانت تلك الأعيان مضمونة على من هي في يده ، لان يده يد عارية صح جواز الضمان فيها ، بخلاف هذه حيث أنه لا ضمان عليه ، وان فرض ضمانه لها على تقدير التعدي والتفريط ، الا أن السبب الان ليس بواقع.

نعم لو كان قد تعدى فيها وصارت مضمونة عليه جاز الضمان ، وصارت من جملة أفراد تلك المسألة ، لوجود السبب وهو كونها مضمونة ، والبحث فيها عن جواز ضمان الأعيان المضمونة أعم من أن يكون ضمانها بالأصل أو العارض ، وأنت خبير بما في هذا الفرق الذي بنوا عليه ، لما عرفت من أن مجرد كونها مضمونة على من


هي بيده لا تصلح سببا لجواز ضمانها ، لاختلال شروط الضمان كما عرفت ، والعمدة في ثبوت الأحكام على النصوص الشرعية وحيث لم يرد فيها نص فإثبات الحكم والاعتماد على مثل هذه التعليلات مجازفة سيما مع ما عرفت من انتقاضها وعدم تمامها ، والله العالم.

البحث الثالث في اللواحق

وفيه أيضا مسائل ، الاولى ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب «رضوان الله عليهم» في جواز ضمان العهدة ، وهو أن يضمن عهدة الثمن للمشتري عن البائع إذا كان قد قبضه البائع في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من أصله ، بأن يكون مستحقا لغير البائع ، ولم يجز المالك البيع على تقدير صحة بيع الفضولي أو أجازه ولم يرض بقبض الثمن ومثله ما لو تبين خلل في البيع اقتضى فساده كتخلف شرط فيه أو اقترانه بشرط فاسد على القول بكون ذلك مبطلا لأصل العقد ، وملخصه اشتغال الذمة بالمضمون على أحد هذه الوجوه وقت الضمان ، فان ضمان الثمن للمشتري يصح في جميع ذلك وكما يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري ، يصح للبائع أيضا عن المشتري ، بأن يخرج الثمن مستحقا لغيره ونحوه ، وأن يكون معيبا يستحق الأرش به وظاهر جملة منهم أن دليل هذا النوع من الضمان انما هو الإجماع أو الضرورة فإنه لو لم يجز مثله للزم تعطيل بعض المعاملات ، فان كثيرا ما يحتاج الإنسان إلى المعاملات مع من لا يوثق به في تلف الثمن ، على تقدير بطلان البيع وعمل المسلمين والى ذلك أشار في التذكرة فقال : وهذا الضمان عندنا صحيح ان كان البائع قد قبض الثمن ، الى أن قال : لإطباق الناس عليه في جميع الأعصار ، ولأن الحاجة تمس إلى معاملة من لا يعرف ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو خرج مستحقا للغير.

أقول : وكأنه لذلك : قال به من قال : بعدم جواز ضمان الأعيان ، قال في المسالك : وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد الأعيان المضمونة على تقدير كونه موجودا حالة الضمان ، وقد تقدم ما في ضمان الأعيان والمصنف هنا انما رتب الحكم على مذهبه هناك ، أو أن هذا الفرد خارج من البين ، لمكان الضرورة : فإن ظاهرهم


الإطباق على جوازه انتهى.

وأنت خبير بما في تعليلاتهم في هذا المقام من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام ، ولو تم الرجوع الى مثل هذه التعليلات العليلة في تأسيس الأحكام الشرعية لا تسع المجال ، وكثر الخبط في شريعة ذي الجلال ، مع استفاضة الاخبار عن الآل بالمنع عن الفتوى الا بما يعلم عنهم (صلوات الله عليهم) والأمر بالرد إليهم فيما لم يرد فيه نص عنهم ، والأمر بالسكوت عما سكت الله عنه ونحو ذلك كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، وجاس خلال تلك الديار.

نعم لا يبعد فيما ذكروه في ضمان الثمن بعد التصرف فيه ورجوعه إلى الذمة ، فإنه يصير حينئذ من قبيل ضمان ما في الذمة لا ضمان الأعيان ، وهو مما لا خلاف فيه ، فإنه متى كان ثابتا في ذمة المضمون عنه وضمنه الضامن والحال هذه فإنه لا إشكال في صحته.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ولا استبعاد في ضمان الأعيان بمعنى جواز طلب العين ممن في يده والضامن مخير في وجوب رد العين عليهما ، وعوضها بعد التلف بعد الضمان ، بل لا يبعد كونه ناقلا أيضا بمعنى وجوب الرد ، فيطلب العين عن الضامن فيأخذها من المضمون عنه ويردها إلى أهلها ان ثبت النقل بالدليل مطلقا والا يكون النقل مخصوصا فيما يمكن من الأموال التي في الذمة.

قال في التذكرة ضمان المال عندنا ناقل للمال من ذمة المديون إلى ذمة الضامن على ما يأتي ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه ، أما الضامن فللضمان ، وأما المضمون عنه فلوجود العين في يده أو تلفها فيه ، وفي العهدة ان شاء المشترى طالب البائع وان شاء طالب الضامن ، لان القصد هنا بالضمان التوثق لا غير انتهى.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام فإنه مجرد دعوى وعارية عن الدليل ، والبحث

في صحة الضمان في هذا المقام وإثباته بالدليل الظاهر ليمكن بناء ما ذكروه من هذه الأحكام عليه ، وان كان بنوع من التجوز في بعض الموارد ، ومتى كان ذلك غير ثابت ولا صحيح.


فجميع هذا الكلام نفخ في غير ضرام ، وتفسير الضمان بمعنى طلب العين ممن في يده كما ذكره في صدر كلامه مجاز بعيد ، لا يصار اليه الا بدليل ، والا فمعنى الضمان شرعا هو انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وتفسير النقل بما ذكره من وجوب الرد أبعد ، وقوله والا يكون النقل مخصوصا بما في الذمة فيه ما تقدمت الإشارة إليه من أنه انما اختص بما في الذمة ، لكونه هو مورد الضمان شرعا.

وأما غيره مما ذكروه في ضمان العين المضمونة والعهدة الراجع إليه أيضا فليس من الضمان في شي‌ء لعدم الدليل عليه ، فلم يترتب عليه الحكم المذكور وتكلف ترتيبه عليه بهذه التجوزات السخيفة فرع ثبوته أولا ، وليس فليس.

وبما ذكرنا يظهر لك ان ضمان العهدة ان تعلق بالعين الموجودة فهو داخل تحت ضمان الأعيان المضمونة وان كان ظاهرهم هنا الاتفاق عليه للضرورة كما ادعوه بخلافه ثمة لما تقدم من الخلاف في تلك المسئلة وان تعلق بالثمن بعد تلفه واستقراره في الذمة فهو داخل في ضمان الديون التي في الذمة ، ولا إشكال في الصحة.

تنبيهات الأول

قال في التذكرة المناط في ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري : ضمنت لك عهدته أو ثمنه أو دركه أو خلصتك ، والظاهر أن مراده من ذكر هذه الألفاظ مجرد التمثيل ، بمعنى أن كل لفظ يفهم منه ذلك كهذه الألفاظ ونحوها ، فإنه ، يقع به الضمان ، ويصح ذلك للبائع أو المشترى ، ومحل الضمان المذكور كل موضع يظهر فيه بطلان العقد ، كما تقدم.

الثاني ـ قد عرفت مما تقدم أن من شروط صحة ضمان العهدة اشتغال الذمة بالمضمون على أحد الوجوه السابقة ، وحينئذ فالمعتبر في ضمان العهدة وجود الضمان حالته ، فلا عبرة بالتجدد بعد ذلك كالفسخ بالتقابل ، وتلف المبيع قبل القبض ، والفسخ بخيار الحيوان ، وخيار المجلس ونحوها فإنه حالة الضمان ليس بفاسد ، ولم يحصل الاستقرار في الذمة الذي هو شرط في الضمان ، فلم يكن مضمونا فضمانه على هذا التقدير يكون من قبيل ضمان ما لم يجب وحينئذ فلا يدخل هذا في ضمان العهدة ، ومثله أيضا لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة


فلا يلزم الضامن الثمن على تقدير الفسخ بالعيب بل يرجع به المشترى على البائع ، ويطالبه به ، لان الفسخ بالعيب إنما أبطل العقد من حينه ، لا من أصله كما في ضمان العهدة الذي تقدم تحقيقه فلم يكن حالة الضمان وهو وقت البيع مضمونا.

حتى أنه لو صرح بضمانه في ذلك الوقت فسد (١) لانه ضمان ما لم يجب ، والذمة إنما اشتغلت به بعد الفسخ ، والشرط الذي يبنى عليه الضمان كما تقدم هو ضمانه حال اشتغال الذمة به ، فوقت الضمان الذمة غير مشغولة ، ووقت الاشتغال متأخر لم يقع فيه ضمان ، فلم يصادف الضمان محله ، ولا يؤثر هنا تقدم سبب الفسخ ، وهو العيب الموجود حال البيع ، لأنك قد عرفت أن المدار على اشتغال الذمة وقت الضمان ، وهو غير حاصل ، ومجرد تقدم السبب مع أنه قد يرضى به المشترى ولا يفسخ العقد غير موجب لصحة الضمان لما عرفت.

الثالث ـ قد اشتهر في كلام الفقهاء تسمية هذا الضمان بضمان العهدة ، وضمان الدرك ، وقد صرح العلامة في التحرير وغيره في غيره بأن العهدة ، في الأصل اسم للوثيقة ، أو الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه مقدار الثمن وأحواله من وصف وحلول وتأجيل ، ثم نقل الى نفس الثمن ، وغلب فيه.

وقال في التذكرة : سمي ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده ، لما ذكره في الصحاح ، فقال : يقال في الأمر : عهدة بالضم : أى لم يحكم بعد وفي عقله عهدة أي ضعف ، فكان الضامن ضمن ضعف العقد ، والتزم ما يحتاج اليه فيه من عزم ، أو أن الضامن من التزم رجعة المشترى عليه عند الحاجة. انتهى.

وأما تسمية ضمان الدرك فقال في التذكرة أيضا : وأما الدرك فقال في الصحاح الدرك التبعة ، وقيل : سمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك المستحق عين ماله.

وقال في المسالك : وقيل : يسمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك الشخص عين ماله.

أقول : قال في القاموس الدرك ويسكن : التبعة ، وفي الصحاح ، الدرك :

__________________

(١) فيه إشارة إلى الرد على من قال بدخول هذا الفرد في الإطلاق وصحة ضمانه وأنه من جملة ضمان العهدة لتقدم سبب الفسخ وفيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه‌الله.


التبعة ، وقال في كتاب المصباح المنير بعد أن قال : أدركته إذا طلبته فلحقته ، والدرك بفتحتين وسكون الراء لغة من أدركت الشي‌ء ، ومنه ضمان الدرك انتهى.

الرابع ـ قد عرفت أنه لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة ، ولا يلزم الضامن الثمن لعدم اشتغال ذمة المضمون عنه وقت العقد بالثمن ، وانما حصل ذلك بعد الفسخ.

وانما يبقى الاشكال (١) (فيما لو طالب المشتري بالأرش ، فهل يرجع به على الضامن متى ضمنه لان استحقاقه ثابت وقت العقد ، وهو مناط الفرق بين الثمن والأرش ، فيدخل الأرش في ضمان العهدة ، دون الثمن على تقدير الفسخ بالعيب ، فان الثمن انما يجب بالفسخ اللاحق المتأخر عن الضمان.

وأما الأرش فإنه جزء من الثمن ثابت به وقت الضمان ، فيندرج في ضمان العهدة غاية الأمر انه مجهول القدر ، وقد تقدم صحة ضمان المجهول على التفصيل المتقدم ، والحكم هنا مبنى على ما ثبت هناك ، أم لا يرجع نظرا الى أن الاستحقاق للأرش انما جعل بعد العلم بالعيب ، واختيار أخذ الأرش ، والموجود حالة العقد من العيب ما كان يلزمه بغير الأرش ، بل اللازم التخيير بينه وبين الرد ، فلم يتعين الرد الا بالاختيار.

وملخص الاشكال المذكور يرجع الى أن الأرش هل هو ثابت بالعقد ، وانما يزول بالفسخ ، والرجوع الى الثمن أو أن سببه وان كان حاصلا ، فإنه لا يثبت الا باختياره ، ولعل الأول أقرب ، بناء على هذه التعليلات ، نظرا الى أن الأرش كان واجبا بالأصل ، لأنه عوض جزء فائت من مال المعاوضة ، ويكفي في ثبوته بقاء المشترى على الشراء وانما ينتقل الى الثمن بارتفاق آخر حيث لم يسلم له المبيع تاما ، والله العالم.

المسألة الثانية ـ قالوا : إذا خرج المبيع مستحقا رجع على الضامن ، أما

__________________

(١) وفيه إشارة إلى أنه لو كان الضمان انما هو بعهدة الثمن فإنه لا يشمل الأرش ، الا أن يكون ذلك معلوما ومقصودا منهما ، ويمكن أن يكون هذا وجه الرد والاشكال ، وأما إذا ضمن الأرش وخرج به ، فإنه لا إشكال في صحة الضمان لما ذكرناه في الأصل ، وظاهرهم أن محل الخلاف انما هو إذا ضمن الثمن خاصة ، وكلام الأكثر خال من التخصيص بالثمن. منه رحمه‌الله.


لو خرج بعضه فإنه يرجع على الضامن بما قابل المستحق ، وكان في الباقي بالخيار ، فان فسخ رجع بما قابله على البائع خاصة.

أقول : أما الكلام فيما إذا خرج الجميع مستحقا فظاهر ، وأما فيما لو خرج بعضه مستحقا فإنه يطالب الضامن بحصته من الثمن ، وذلك فان ثمن ذلك البعض حيث أن البائع باعه ، وهو لا يستحقه بقي في ذمة البائع وقت البيع ، فصح ضمانه.

ولو قلنا بصحة بيع الفضولي توقف على اجازة المالك لذلك البعض ، فان أجازه صح ، وان لم يجز فالحكم كما ذكر ، ثم ان المشترى يتخير بين الفسخ لتبعيض الصفقة ، وبين الرضا على الوجه المذكور ، فان فسخ في الباقي رجع بثمنه على البائع خاصة على المشهور ، لعدم تناول الضمان له ، فان ثبوت ثمن هذا الباقي انما حصل بعد الفسخ ، لا حال الضمان ، ومن شرط الضمان كما تقدم اشتغال الذمة بالمضمون حال الضمان.

ونقل عن الشيخ الخلاف هنا ، والقول بجواز الرجوع على الضامن للجميع قال في المختلف : إذا خرج بعض المبيع مستحقا رجع المشترى على الضامن للعهدة بما قابل المستحق من الثمن ، فان فسخ البيع لتبعيض الصفقة ، قال الشيخ : رجع بما قابل الباقي أيضا على الضامن ان شاء ، وليس بجيد ، لنا انه حصل بسبب متأخر وهو الفسخ المتجدد بعد البيع ، فلا يرجع به على الضامن لعدم دخوله في ضمانه ، لانه لم يجب وقت الضمان ، احتج الشيخ : بأن السبب فيه الاستحقاق الذي حصل في بعضه ، والجواب المنع ، بل السبب الفسخ ، انتهى.

أقول : قد تقدم في مسألة الرجوع بالأرش بسبب العيب ان الأشهر الأظهر الرجوع به على الضامن ، لوجود سبب الاستحقاق وقت الضمان ، فإنه ضمنه ، والمبيع معيب يستحق للمشتري فيه الأرش ، لأنه عوض من ذلك الجزء الفائت من المبيع وما نحن فيه كذلك كما ذكره الشيخ ، فان تبعيض الصفقة الذي هو سبب الفسخ الناشئ من استحقاق بعض المبيع كان متحققا وقت المبيع ، والقائل ـ بعدم جواز الضمان هنا ـ عليه بيان الفرق بين الموضعين ، فإنهما من باب واحد لا يعرف بينهما فرق ، وبذلك يظهر أن المسألة لا تخلو من الاشكال ، والله العالم.


المسألة الثالثة ـ قالوا لو ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، والمراد أنه حيث كان للمشتري التصرف فيما يشتريه بالبناء والغرس ونحو ذلك ، فلو خاف ظهور كون المبيع مستحقا ويذهب ما يغرسه فيه ويبنيه مجانا فضمن له ضامن أنه ان ظهر كونه مستحقا وقلع المالك الغرس وهدم البناء فهو ضامن لدرك ذلك ، هل يصح هذا الضمان أم لا؟ الوجه أنه لا يصح ، لانه ضمان ما لم يجب ، لانه حين الضمان لم يكن مستحقا للأرش على البائع ، وانما استحقه بعد القلع ، وخراب البناء ، المتأخرين عن وقت الضمان.

والمراد بالدرك الذي ضمنه الضامن هو الأرش الذي يلزم للمشتري في مثل هذه الصورة ، وهو تفاوت ما بين قيمة تلك الأشجار ، والبناء مثبتة ومقلوعة ، ويأتي على ما تقدم من صحة الضمان مع تقدم سبب الاستحقاق صحة الضمان هنا ، لانه وان كان الأرش غير مستحق الا بعد القلع وهو الذي بنى عليه عدم الضمان كما عرفت ، الا أن سببه كان موجودا وقت الضمان ، وهو كون الأرض مستحقة للغير ، فينبغي جريان الاحتمال السابق فيما نحن فيه ، وحيث انه قد تقرر وعلم أنه إذا ظهرت الأرض مستحقة وقد بنى المشتري فيها أو غرس ، فأزال المالك ما أحدثه فإن له الرجوع على البائع بالأرش كما تقدم ، فلو ضمن البائع والحال هذه درك ذلك.

فهل يصح الضمان ، قيل : نعم ، لانه لازم بنفس العقد ، وكأنه أريد انه لازم بالعقد ضمن أم لم يضمن ، فضمانه يصير مؤكدا.

وأورد عليه بأنه لا يلزم من ضمانه لكونه بايعا مسلطا له على الانتفاع مجانا ضمانه ، لعقد الضمان ، مع عدم شرائطه التي من جملتها كونه ثابتا حال الضمان ، فعدم الصحة أولى.

وبذلك يظهر أنه ليس الخلاف في ثبوته على البائع أم لا فإنه ثابت عليه بغير اشكال كما تقدم ، بل الخلاف انما هو في ثبوته بسبب الضمان ـ وان كان ثابتا بدونه ، بمعنى أن كلا منهما سبب على حده ، ويظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عن البائع حق الرجوع بسبب البيع ، فإنه يبقى له الرجوع بسبب الضمان لو قلنا بصحته كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما فإن له الفسخ بالاخر ان شاء ، والله العالم.


المسألة الرابعة ـ إذا اختلف الضامن والمضمون له في قبض مال الضمان وادعى الضامن دفعه مع كون ضمانه باذن المضمون عنه ، وأنكر المضمون له ذلك فان مقتضى القاعدة أن القول قول المضمون له بيمينه ، لانه منكر ، والأصل عدم الدفع فها هنا أحوال :

الأولى ـ هذه الحال ومقتضاها أنه ليس للضامن رجوع على المضمون عنه بشي‌ء لأنه انما يرجع عليه بما غرمه ، وهنا لم يتحقق غرمه ، واستحقاق الرجوع مشروط به وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون ضمانه بالاذن وعدمه ، وانما قيدنا بالاذن أولا ليترتب الأحكام الاتية عليه ، إذ لا تهمة مع التبرع ـ ولا رجوع.

الثانية ـ أن يشهد المضمون عنه للضامن بأنه دفعه ، بشرط عدالته وعدم تطرق التهمة إليه ، فإنه تثبت شهادته على القول بدفعه ، والوجه فيه أن شهادته بذلك متضمنة للشهادة على نفسه ، حيث انه لما كان الضمان باذنه موجبا لرجوع الضامن عليه فشهادته بالأداء شهادة على نفسه ، وشهادة لغيره فتسمع ، الا أن يتطرق إليها التهمة.

وقد فرضوا للتهمة صورا ، منها ـ أن يكون الضامن قد صالح على أقل من الحق ، فيكون رجوعه انما هو بذلك الأقل ، فشهادة المضمون عنه له بذلك تجر الى نفسه نفعا ، فان ذلك إذا لم تثبت يبقى مجموع الحق في ذمته للضامن.

ورد ذلك بأنه يكفي في سقوط الزائد عن المضمون عنه اعتراف الضامن بذلك ولا حاجة الى الثبوت بالبينة كما سيأتي ، وعلى هذا تندفع التهمة فتقبل الشهادة.

قالوا : ومنها أيضا أن يكون الضامن معسرا ثم يعلم المضمون له بإعساره ، فإن له الفسخ حيث لا تثبت الأداء ، ويرجع المضمون له على المضمون عنه ، فيدفع بشهادته عود الحق إلى ذمته.

ومنها أن يكون الضامن قد تجدد عليه الحجر بالفلس ، والمضمون عنه عليه دين ، فإنه يوفر بشهادته مال الضمان ، فيزداد ما يضرب به.

الثالثة ـ أن لا يكون شهادة المضمون عنه مقبولة لأحد الوجهين المتقدمين ، فيحلف المضمون له ، فإنه متى حلف كان له مطالبة الضامن ، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما ادعى أنه أداه أولا ، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه ، وأن ما أخذ


منه بعد اليمين انما هو ظلم وعدوان ، مع موافقة المضمون عنه له على ذلك ، وينبغي أن يعلم أن رجوعه بما دفعه أولا مقيد بأن يكون مساويا للحق أو أقل منه ، وإلا رجع بأقل الأمرين لأنه لا يستحق الرجوع بأزيد من الحق.

الرابعة ـ لو لم يشهد المضمون عنه قالوا : يرجع الضامن بما أداه أخيرا ، لأنه لم يثبت ظاهرا أداء سواه ، هذا إذا لم يزد على ما ادعاه أولا ولا على الحق ، وإلا رجع بالأقل من الثلاثة ، لأن الأقل ان كان هو ما غرمه أولا فلزعمه أنه لا يستحق سواه ، فإن الثاني ظلم ، وان كان الأقل ما غرمه ثانيا ، فلانه لم يثبت ظاهرا سواه ، وان كان الأقل هو الحق ، فلأنه انما يرجع بالأقل من المدفوع والحق ، هذا.

أقول : وعندي في الفرق بين هذه الصورة وسابقتها تأمل. حيث حكم في هذه بالرجوع بما أداه أخيرا لما ذكروا في سابقتها بما أداه أولا لما تقدم ، مع إمكان إجراء كل من العلتين بل في كل من الموضعين.

وبالجملة فالغرض من التطويل بهذه الأحكام مع عدم النصوص فيها من أهل الذكر (عليهم‌السلام) تشحيذ الأذهان والافهام ، والاطلاع على تفريعاتهم في كل مقام ، مع أن جملة منها لا يمكن استنباطه من القواعد الشرعية ، والضوابط المرعية ، والعمل على الاحتياط ، في كل حكم خلا من النصوص. والله العالم.

المسألة الخامسة : إذا كان له على رجلين مال ، فضمن كل منهما صاحبه ، فإنه لا إشكال في صحة هذا الضمان من استكمال شرائطه المتقدمة ، وعلى هذا يتحول ما كان على كل واحد منهما الى صاحبه ، وحينئذ فإن تساوى المالان وكان ضمان كل واحد بسؤال الأخر ولم يتغير وصف الدين بالحلول والتأجيل ، ففائدة هذا الضمان تعاكسهما في الأصالة والفرعية.

ومما يترتب على ذلك ، ما لو أبرء المضمون له أحدهما ، فإنه يبرء الأخر ، وهذا الإبراء انما ينصرف الى ما ضمنه عن صاحبه ، لانه هو الباقي في ذمته للمضمون له ، والا فأصل المال الذي دفعه قد انتقل بالضمان إلى ذمة صاحبه ، فلا معنى للإبراء منه كما تقدم ، وحينئذ فإذا أبرأه من مال الضمان لم يكن له الرجوع على صاحبه ، لانه لا يرجع عليه الا بما اغترمه عنه ، والحال أنه لم يغرم شيئا بسبب الإبراء ، فمن


أجل ذلك برئت ذمة الأخر من ذلك.

وأما ما اشتغلت به ذمة الأخر من مال الضمان الذي ضمنه عن ذلك الذي أبرأه المضمون له ، فهو باق في ذمته فبراءة ذمة الأخر انما هو مما كان عليه لا مما ضمنه ، وانما يتحول ما كان على كل واحد الى صاحبه مع ضمانهما دفعة ، ورضى المضمون له بهما فلو رد أحدهما واجتمع الحقان على الأخر ، وكذا لو ضمنا على التعاقب اجتمعا على الأخير الا أن يحصل التخصيص. (١)

المسألة السادسة ـ إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال ، أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما اداه ولو أبرأ من بعضه لم يرجع على المضمون عنه الا بما أداه ولو أبرأه منه كملا لم يرجع بشي‌ء ، وكذا لو دفع الضامن عرضا عما في ذمته للمضمون له ، فإنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمته السوقية ومن أصل الدين.

قال في المسالك : ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد رضى المضمون له بالعرض عن دينه بغير عقد ، وبين ان يصالحه الضامن به عن ماله ، فلو كان ثوبا يساوى مأة وصالحه عن الدين وهو مائتان لم يرجع إلا بقيمة الثوب هذا إذا أجرى البيع على العرض بنفس المال المضمون له.

أما لو صالحه عليه في المثال بمأتين مطلقا ثم تقاصا فالمتجه رجوعه بالمأتين لأنها تثبت له في ذمته بغير الاستيفاء ، وانما وقع الأداء بالجميع ، ويحتمل الرجوع بقيمته خاصة ، لأن الضمان وضع للإرفاق ، وتوقف في التذكرة في ذلك. انتهى.

أقول : وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في الموضع الخامس والموضع العاشر من البحث الأول.

__________________

(١) ووجهه أنه إذا ضمن زيد ما في ذمة عمرو انتقل ما في ذمة عمرو إلى ذمة زيد مع ما كان في ذمة زيد أولا ، وحينئذ فإذا ضمن عمرو ما في ذمة زيد انتقل جميع ما في ذمة زيد من الدين الذي عليه أولا ومال الضمان الذي ضمنه عن عمرو كله إلى ذمة عمرو ، أما لو خصص الضمان فان قال : ضمنت ما في ذمتك من المال الذي استدنته من فلان اختص الضمان به ، وهذا فائدة القيد الذي رووناه في الأصل منه رحمه‌الله.


المسألة السابعة ـ قد صرح الأصحاب بجواز ترامى الضمان ودوره ، بان يضمن ضامن ثم يضمن عنه آخر وهكذا الى عدة ضمناء ، ولا مانع منه لتحقق شرطه ، وهو ثبوت المال في ذمة المضمون عنه ، وهو هنا كذلك ، وحينئذ فيرجع كل ضامن على من ضمن عنه إذا كان الضمان باذنه بما أداه عنه ، ويصح دوره ، بأن يضمن الأصل ضامنه ، أو ضامن ضامنه وان تعدد ، فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ويترتب عليه أحكامه ، كما لو وجد المضمون له الأصل. الذي صار ضامنا معسرا مثلا.

فان له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، وقد يختلفان بأن يضمن الحال مؤجلا ، وبالعكس كما تقدم في الموضع السابع من البحث الأول ، وقد تقدم نقل خلاف الشيخ في ذلك. والله العالم.

المقصد الثاني في الحوالة

والبحث فيها يقع في مسائل الأولى : قيل الحوالة عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله ، وفي التذكرة : عرفها بأنها تحويل الحق من ذمة إلى ذمة ، ولم يشترط في الذمة المحول إليها الاشتغال بمثل المال المحول ، إدخالا للحوالة على البري‌ء في التعريف المذكور ، وظاهر التعريف الأول خروجه ، مع أنهم عدوا الحوالة على البري‌ء من هذا الباب ، وأورد على العلامة في تعريفه في التذكرة ـ بأنه وان قصد بإسقاط هذا القيد المحاولة لإدخال هذا الفرد لئلا ينتقض التعريف في عكسه ، الا أنه وقع فيما هو أصعب منه ، لشموله حينئذ للضمان بالمعنى الأخص لأن المال يتحول فيه من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، فانتقض في طرده.

وأجاب عنه المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، بأن المراد كما هو الظاهر التحويل من ذمة المحول الذي هو المحيل لا مطلقا ، قال : على أنه ليس أصعب ، لأن التعريف بالأعم جائز عند المتقدمين ، بخلاف الأخص فإنه غير جائز عند أحد فقوله في شرح الشرائع : فوقع فيما هو أصعب منه محل التأمل ، انتهى.

ثم ان في تعريفهم لها بأنها تحويل الحق أو تحويل مال ، ما يشير الى أن الحوالة ناقلة للمال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، ومن أجل ذلك سميت حوالة.


قال في التذكرة : الحوالة عقد لازم ، فلا بد فيها من إيجاب وقبول ، كغيرها من العقود ، والإيجاب كل لفظ يدل على النقل والتحويل مثل أحلتك وقبلتك واتبعتك ، والقبول ما يدل على الرضا نحو رضيت وقبلت ، ولا تقع معلقة بشرط ولا صفة ، بل من شرطها التنجيز ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر أو ان قدم زيد فقد أحلتك عليه لم يصح ، لأصالة البراءة وعدم الانتقال ، ولا يدخلها خيار المجلس. لانه مختص بالبيع ، وليست بيعا عندنا ، وهل يدخلها خيار الشرط ، منع منه أكثر العامة ، والحق جواز دخوله لقولهم (١) (عليهم‌السلام): «كل شرط لا يخالف الكتاب والسنة فإنه جائز» ، ولو قال : أحلنى على فلان ، فقال أحلتك ، افتقر الى القبول ، ولا يكفي الإيجاب ، انتهى.

أقول : قد عرفت في غير موضع ولا سيما في كتاب البيع مما في اشتراطهم للإيجاب والقبول ونحوهما من الشروط التي أوجبوها في العقود من عدم الدليل على ذلك ، بل إطلاق الاخبار وعبارات العقود المذكورة فيها تردد جميع ما ذكروه ، وأن الأمر في العقود أوسع مما ضيقوه ، والظاهر أيضا تطرق المناقشة الى ما ذكره من عدم جواز كونها معلقة على شرط ، لعدم الدليل عليه ، ولعموم (٢) «المسلمون عند شروطهم» ، والله العالم.

الثانية ـ لا يخفى أن أركان الحوالة ثلاثة : المحيل ، والمحتال ، والمحال عليه ويعتبر رضا الثلاثة عند الأصحاب ، أما المحيل فموضع وفاق ، قال في التذكرة :

يشترط في الحوالة رضى المحيل ، وهو الذي عليه الحق إجماعا ، فلو اكره على أن يحيل فأحال بالإكراه لم يقع الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافا ، فان من عليه الحق مخير من جهات القضاء ، فله أن يقضى من أي جهة شاء ، لا يتعين عليه بعض الجهات قهرا.

وأما المحتال فالوجه في اعتبار رضاه أن حقه ثابت في ذمة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمة أخرى إلا برضاه ، والحكم في ذلك أيضا إجماعي كما صرح به في التذكرة ، فقال : يشترط رضاء المحتال عند علمائنا أجمع ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، ثم ذكر نحو ما ذكرناه من التعليل.

__________________

(١ ـ ٢) الوسائل ج ١٢ الباب ٦ ـ من أبواب الخيار ص ٣٥٣.


وأما المحال عليه فالمشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) اعتبار رضاه أيضا ، (١) بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ، قال في المختلف : احتج الشيخ على ما اختاره بأن الإجماع واقع على صحة الحوالة مع رضى المحال عليه ولا دليل على صحتها من غير رضاه ، ولأن إثبات المال في ذمة الغير مع اختلاف الغرماء في شدة الاقتضاء وسهولته تابع لرضاه.

ويمكن أن يجاب بأن نفى الإجماع نفى دليل خاص ، ونفى الخاص لا يستلزم نفى العام ، مع أن الأصل يقتضي الصحة لقوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) ، ونمنع اعتبار رضاه كما لو باعه ، ولم نقف على حديث ـ يتضمن ما ادعاه علمائنا في هذا الباب ، مع أن الشيخ المفيد لم يذكر اعتبار رضى المحال عليه ، بل عبارته تشعر بعدم اعتبار رضاه ، ثم نقل العبارة المذكورة ، ثم قال : وكذا قال الشيخ في النهاية.

أقول : لا يخفى أنه وان لم يرد في الاخبار ما يقتضي رضى أحد من هذه الثلاثة المذكورة ، الا أن ما علل به رضى الأولين مضافا الى الإجماع على ذلك لا يخلو من قوة ، وأما ما علل به الأخير فهو ظاهر الضعف عند التأمل ، ومثله أيضا ما قيل : من أن الأصل بقاء المال في ذمة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب.

والتحقيق كما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، أن المحيل قد أقام المحتال مقامه في القبض بالحوالة ، فلا وجه لافتقاره الى رضاء من عليه الحق ، كما لو وكله في القبض منه ، بخلاف الأولين لما عرفت.

__________________

(١) المفهوم من كلام العلامة في التذكرة أيضا عدم الخلاف في ذلك حيث قال : في أصحابنا من يشترط رضى الثلاثة ، وقال في موضع آخر : ويشترط عندنا رضى المحال عليه ، ثم نقل الخلاف عن بعض العامة فقط ، وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه ، مع انه في المختلف كما نقلناه في الأصل خالف في ذلك ، وتبعه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وهو الأقرب كما أوضحناه في الأصل ، ويشير أيضا الى وجود الخلاف في المقام ، ما في عبارة ابن حمزة على ما نقله في المختلف ، حيث قال : تصح الحوالة بشروط عشرة الى أن قال : ورضى المحال عليه على الصحيح ، قال في المختلف وهو يشعر بوجود قول لبعض أصحابنا ينافيه وانه لا يعتبر رضاه ، انتهى وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الأردبيلي حيث انه نسب الخلاف في هذه المسألة إلى الشهيد الثاني في المسالك خاصة مع اعترافه بنقل الشيخ الإجماع وفيه ما عرفت. منه رحمه‌الله.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.


واختلاف الناس في الاقتضاء لا يمنع مطالبة المستحق ومن يعينه لذلك ، والتوقف على رضاه محل البحث ، فأخذه في الدليل مصادرة محضة.

قوله : ولأن إثبات المال في ذمة الغير تابع لرضاه ، بمعنى أن نقلة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه يتوقف على رضاه ، يمكن دفعه ، بأنا نمنع من اقتضاء الحوالة النقل ، وانما هي إيفاء لما في ذمة الغير ، فلا تقصر عن بيعه كما أشار إليه العلامة فيما تقدم من جوابه عن كلام الشيخ ، وأصالة بقاء الحق معارضة بأصالة عدم الاشتراط ، والاستصحاب انقطع بما ذكرناه ، خصوصا مع اتفاق الحقين جنسا ووصفا.

نعم لو كانا مختلفين وكان الغرض استيفاء مثل الحق المحال ، توجه اعتبار رضى المحال عليه ، لأن ذلك بمنزلة المعاوضة الجديدة ، فلا بد من رضى المتعاوضين ، ومع ذلك لو رضى المحتال بأخذ جنس ما على المحال عليه ، زال المحذور.

وبذلك يظهر قوة القول بعدم اشتراط رضى المحال عليه ، الا في صورة اختلاف المال المحال ، مع ما في ذمة المحال عليه ، وعدم رضا المحتال بأخذه ، لما عرفت.

تنبيهات الأول ـ ينبغي أن يعلم أنه على تقدير القول المشهور من اعتبار رضى الثلاثة فإن اعتبار رضى المحال عليه ليس على حسب رضى الآخرين ، فان الآخرين ركنا العقد الذي لا يتم إلا بالإيجاب والقبول ، فالإيجاب من المحيل والقبول من المحتال ، ويعتبر في عقدها عند الأصحاب ما يعتبر في غيره من العقود من اللفظ والمقاربة ونحوهما بخلاف المحال عليه ، فإنه يعتبر رضاه كيف اتفق ، مقارنا أو متراخيا ، أو متقدما أيضا ، لحصول الغرض المطلوب منه على كل من هذه الوجوه.

الثاني ـ لا يخفى أنه على ما اخترناه من القول بعدم اعتبار رضى المحال عليه ، انما يتجه فيما إذا كان مشغول الذمة بمال المحيل ، أما لو كان بري‌ء الذمة وقلنا بصحة الحوالة كما هو أصح القولين ـ فإنه يشترط رضاه إجماعا.

الثالث ـ ان ما تقدم من الإجماع على اشتراط رضى المحيل في صحة الحوالة مخصوص بما إذا لم يتبرع عنه متبرع بوفاء الدين الذي عليه ، أما لو تبرع المحال عليه بالوفاء فإنه لا تعتبر رضى المحيل قطعا ، لانه وفاء دينه وضمانه بغير اذنه ،


والعبارة عنه أن يقول المحال عليه للمحتال : احتلت بالدين الذي لك على فلان على نفسي ، فيقبل ، وفي هذه الصورة انما يشترط رضى المحتال والمحال عليه ويقومان بركن العقد.

الثالثة ـ المشهور انه مع تحقق الحوالة فإنه يبرأ المحيل من حق المحتال من غير أن يتوقف على الإبراء بل يبرئ بمجرد الحوالة ، وذهب الشيخ : في النهاية وابن الجنيد والشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة وأبو الصلاح الى توقف ذلك على الإبراء زيادة على الحوالة ، وقال ابن إدريس ومن تأخر عنه : بالأول.

ويدل على ما ذهب اليه المشايخ المتقدم ذكرهم : ما رواه ثقة الإسلام والشيخ بأسانيد فيها الصحيح عن زرارة (١) عن أحدهما (عليهما‌السلام) في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر فيقول له : الذي احتال : برئت من ما لي عليك ، قال : إذا أبرأه فليس له أن يرجع اليه ، وان لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله».

وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكروه : والمفهوم منها أن الحوالة لا تفيد نقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، لانه مع حصول النقل بالحوالة لا يصادف الإبراء محلا.

هذا ان تأخر الإبراء عن الحوالة ، والا لم يصادف الحوالة محلا ، ولا خلاف بين الأصحاب في أن الحوالة تفيد نقل المال إلى ذمة المحال عليه ، وأن المحتال ليس له الرجوع على المحيل.

وعلى ذلك تدل الاخبار ، ومنها ما رواه في الكافي (٢) عن منصور بن حازم قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه قال : لا يرجع عليه أبدا الا أن يكون قد أفلس قبل ذلك».

وما رواه الصدوق في الفقيه (٣) عن أبي أيوب أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١١ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٤.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ٣ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ الباب ١١ ص ١٥٨ ح ٢ و ٣ و ١.


عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال : لا يرجع عليه أبدا الا أن يكون قد أفلس قبل ذلك».

وما رواه في التهذيب (١) عن عقبة بن جعفر عن أبى الحسن (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بمال على الصيرفي ثم يتغير حال الصيرفي أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى فقال : لا».

وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في نقل الحوالة وبراءة ذمة المحيل بعد الحوالة ، للمنع من رجوع المحتال عليه معتضدة باتفاق الأصحاب على ذلك.

وبالجملة فان كلا من الحوالة والبراءة موجب لخلو ذمة المحيل ، فأيهما سبق كان الثاني لاغيا ، لا أثر له.

وبه يظهر ما في الرواية المذكورة من الاشكال ، ومخالفة القواعد الشرعية (٢) وقد تأولها الأصحاب بتأويلات بعيدة ، أقلها بعدا ما ذكره في المسالك ، وهو أن الإبراء في الخبر كناية عن قبول المحتال الحوالة ، فمعنى قوله برئت من مالي عليك أنى رضيت بالحوالة الموجبة للتحويل ، فبرئت أنت فكنى عن الملزوم باللازم وهكذا القول في قوله : ولو لم يبرأه فله أن يرجع ، لان العقد بدون رضاه غير لازم ، فله أن يرجع فيه.

ومذهب جمهور العامة في هذه المسألة موافق لمذهب أصحابنا في عدم التوقف على البراءة ، ويمكن حملها على التقية ، لا بهذا الاعتبار ، بل باعتبار ما قدمناه في المقدمة الاولى من المقدمات المذكورة في صدر كتاب الطهارة من أنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يقصدون المخالفة في الأحكام تقية وان لم يكن بها قائل من العامة محافظة على الشيعة لو اتفقوا على نقل الأحكام عنهم كما تقدم تحقيقه ثمة ، فإن الخبر كما عرفت : فيه من الاشكال ، ومخالفة القواعد المتفق عليها ما يمنع من العمل به.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٥٨ ح ٤.

(٢) منها ما إذا ظهر إعسار المحال عليه حل الحوالة فإن له الرجوع على المحيل إذا لم يبرءه ، ومنها ما إذا اشترط المحيل البراءة فإنه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه فلا يخفى فيه من البعد عن سياق الخبر وان كان في حد ذاته جيدا الا ان فهم ذلك من الخبر انما هو من قبيل الألغاز والمعما. منه رحمه‌الله.


وما ذكر من التأويلات لا يخلو من التعسف ، وليس بعد ذلك الا ما ذكرناه. والله العالم.

الرابعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب ، والظاهر أنه المشهور ، بجواز الحوالة على البري‌ء للأصل ، فان الأصل الجواز ، والأصل أيضا عدم اشتراط شغل ذمة المحال عليه بمال المحيل.

والشيخ في المبسوط في أول كتاب الحوالة جوزها على من ليس عليه شي‌ء للمحيل ، ثم قوى في آخره المنع ، ولم ينقل المنع هنا عن غير الشيخ.

قال في المسالك : ومبنى القولين على أن الحوالة هل هي استيفاء أو اعتياض؟ فعلى الأول يصح دون الثاني ، لأنه ليس على المحال عليه شي‌ء يجعل عوضا عن حق المحتال.

أقول : لا يخفى أن الوارد من الاخبار في هذه المسئلة ، وهو ما قدمناه في سابق هذه المسئلة ، وليس غيره في الباب دالا بظاهر إطلاقه على صحة الحوالة ، أعم من أن يكون المحال عليه مشغول الذمة أو بريئا ، فالأظهر في الاستدلال على هذا الحكم هو الاستناد إلى إطلاق الاخبار المذكورة ، وعدم التعويل على هذه الاعتبارات المتكلفة ، والله العالم.

الخامسة ـ من شروط الحوالة رضى الثلاثة المتقدم ذكرهم ، وقد عرفت الكلام في الاتفاق على المحيل والمحتال ، والخلاف في المحال عليه.

ومنها كمالهم وعدم الحجر عليهم ، وأكثرهم لم يذكر هذا الشرط وكأنه لظهوره والاكتفاء بذكره في أمثال هذا المقام من الضمان ونحوه.

ومنها أنه يشترط ملاءة المحال عليه أو العلم بإعساره وقت الحوالة ، فلو قبل الحوالة جاهلا بحاله ثم بان إعساره وقت الحوالة كان له فسخ الحوالة ، والرجوع على المحيل ، ويدل عليه ما تقدم من رواية منصور بن حازم (١) ورواية أبي أيوب (٢). ولو كان وقت الحوالة مليا ثم تجدد له الإعسار فلا خيار ، وتدل عليه رواية عقبة بن جعفر المتقدمة (٣) ومفهوم الروايتين المذكورتين أيضا حيث منعتا من

__________________

(١) ص ٥٠.

(٢) ص ٥٠.

(٣) ص ٥١.


الرجوع بعد الحوالة مطلقا الا في صورة إفلاسه وقت الحوالة.

ولو انعكس الفرض المذكور بأن كان وقت الحوالة معسرا ثم تجددت الملائة قبل أن يفسخ المحتال ، فهل يزول الخيار أم لا؟ اشكال ، لزوال الضرر المترتب على الإعسار ، فيزول الخيار ، ومن ثبوت الخيار أولا فيستصحب ، لان الموجب للخيار ليس هو الإعسار مطلقا ، ليزول بزواله بل الإعسار وقت الضمان وهو ، متحقق فيثبت حكمه ، ورجحه في المسالك ، فقال : بأن الأقوى ثبوت الخيار لذلك.

ومنها ثبوت المال في ذمة المحيل للمحتال إجماعا ، فلو لم يكن المحيل مشغول الذمة للمحتال لم تصح الحوالة ولم تتحقق.

نعم لو أحال على شخص والحال هذه فان كان ذلك الشخص المحال عليه غير مشغول الذمة ، فإن هذه الحوالة تصير وكالة في القرض منه. فهي وكالة ، وان كانت بهذا اللفظ : فإنها جائزة بكل لفظ دل على ذلك ، وان كان مشغول الذمة فهي وكالة أيضا ، لكن في الاستيفاء.

وبالجملة فإن ما لم يكن ثابتا في الذمة لا تجزى الحوالة فيه ، وان وجد سببه كمال الجعالة قبل العمل ، فإنه لا يصح احالة الجاعل به للمجعول له ، لعدم ثبوته ، أما لو أحال به المجعول له على الجاعل لمن له عليه دين ثابت ، فإنه يجوز ، بناء على القول بصحة الحوالة على البري‌ء.

ومنها أن يكون المال المحال معلوما عند المحيل ، فلو أحاله بمال مجهول عنده كما لو أحاله بماله من الدين لم يصح للغرر ، ولأن الحوالة اما أن تكون اعتياضا أو استيفاء وعلى الأول فلا يصح على المجهول ، كما أنه لا يصح بيعه ، وعلى الثاني فإنه انما يمكن استيفاء المعلوم.

قال في التذكرة : ويحتمل هنا (١) الصحة ، ويكون على المحال عليه للمحتال ما يقوم به البينة ، كما قلنا في الضمان ، ولا فرق في اشتراط كونه معلوما بين أن

__________________

(١) أى على تقدير كونه استيفاء. منه رحمه‌الله.


يكون مثليا كالطعام ، أو قيميا كالعبد والثوب خلافا للشيخ (١) وجماعة حيث منعوا من جواز الحوالة بالقيمي ، لكونه مجهولا.

ورد بأنه معلوم بالوصف المصحح للبيع ، والواجب فيه القيمة وهي مضبوطة أيضا تبعا لضبطه ، فلا مانع مع شمول عموم الأدلة.

ومنها سبق اشتغال ذمة المحال عليه عند بعض ، وهو من قال بعدم جواز الحوالة على البري‌ء ، وأما على ما قدمناه من القول بالجواز فإنه لا وجه لهذا الشرط.

ومنها انه يشترط تساوى المالين جنسا ووصفا تفصيا من التسلط على المحال عليه ، إذ لا يجب أن يرفع الا مثل ما عليه ، وتردد المحقق في الشرائع في هذا الشرط.

قال في التذكرة : من مشاهير الفقهاء وجوب تساوى الدينين ، أعنى الدين الذي للمحتال على المحيل ، والدين الذي للمحيل على المحال عليه جنسا ووصفا وقدرا ، فلو كان له دنانير على شخص فأحاله عليه بدراهم لم يصح ، لئلا يلزم التسلط على المحال عليه بما لا يستحق ، وأما قدرا (٢) فلا يجوز التفاوت بمعنى

__________________

(١) قال الشيخ في المبسوط : انما تصح الحوالة في الأموال التي هي ذوات الأمثال ، ونحوه كلام ابن حمزة ، وقال ابن الجنيد : الحوالة جائزة بسائر ما يصح السلم فيه من الأمتعة مع من تجوز ذلك معه ولم يذكر الشيخ المفيد ولا السلار ولا ابن إدريس ذلك ، قال في المختلف : والمعتمد عدم الاشتراط كما قال ابن الجنيد : أصالة صحة العقد عدم اشتراط كونه مثليا ، احتج المانعون بأنه مجهول ، والجواب المنع من الجهالة ، بل ربما يوصف به السلم ، قال الشيخ في الخلاف : نمنع كونه مجهولا ، لأنه لا بد أن يكون معلوما يعنى الحيوان بوصفه وسمنه وجنسه ، فان لم يكن كذلك لم يصح الحوالة ، انتهى ، منه رحمه‌الله.

(٢) أقول : المراد بقوله وأما قدرا الى آخره أنه لو كان للمحيل في ذمة المحال عليه عشرة ، وللمحتال في ذمة المحيل خمسة ، فلا يحيل تلك الخمسة على تلك العشرة ، بمعنى أنه يأخذ تلك العشرة عوض هذه الخمسة ، وكذا بالعكس لما علله به في التذكرة قال : ان هذا العقد للإرفاق ولا لإيصال كل حق الى مستحقه ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حط شي‌ء ، والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، انتهى. نعم على تقدير التفاوت بين الدينين يجوز الحوالة بالمساوي كأن يحيل إليه في الصورة الأولى بخمسة من تلك العشرة ، قال في التذكرة : وللشافعية وجه في الإحالة بالقليل على الكثير أنها جائزة ، وكان المحيل يتبرع بالزيادة منه رحمه‌الله.


الحوالة بالزائد على الناقص وكذا العكس ومع التفاوت يجوز بالمساوي ، وأما الأجل فيجوز الحال بالحال ، والمؤجل بمثله وبالحال والا بعد بالأنقص لا العكس ، لأنه تأجيل حال. نعم لو شرط في الحوالة في الحالين عدم القبض الا بعد أشهر مثلا يجوز ، لدليل وجوب العمل بالشرط. انتهى.

كذا نقل عنه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ، والظاهر أنه نقل بالمعنى لمخلص ما ذكره في الكتاب المذكور ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة.

أقول : وتفصيل الكلام في المقام هو أن الشيخ (رحمة الله عليه) وجماعة ذهبوا الى اشتراط تساوى المالين أى المال المحال به ، والمال المحال عليه جنسا ووصفا ، لأن حقيقة الحوالة تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فإذا كان الدين الذي على المحيل دراهم مثلا ، والدين الذي على المحال عليه دنانير ، فكيف يصير حق المحتال على المحال عليه دراهم ، ولم يقع عقد يوجب النقل من الدنانير التي في ذمته الى الدراهم.

والجواب عن ذلك أنه متى قيل باشتراط رضى المحال عليه كما هو المشهور أو لم نقل ثمة به ، ولكن نقوله في هذا المقام حيث أنها معاوضة تتوقف على رضاه كما أشار إليه العلامة في المختلف ، حيث أنه ممن منع اشتراط رضاه ، ولكن أوجبه في هذا المقام ، حيث أنها معاوضة.

وكذا إذ قلنا بجواز الحوالة على البري‌ء ـ كما هو الأشهر الأظهر مما عرفت فيما تقدم ـ فإنه لا وجه لما ذكروه من المنع بالكلية ، ومتى جاز الحوالة على البري‌ء الذي لاحق عليه بالكلية ، فلأن يجوز على من عليه حق مخالف اولى ، وغاية ما يلزم هو مخالفة الحق المحال به لما هو عليه ، وهذا لا يصلح للمنع ، لأن الحوالة ان كانت استيفاء ، فالاستيفاء يجوز بالجنس وغير الجنس مع التراضي على ذلك ، وان كانت اعتياضا فكذلك ، لجواز المعاوضة على المختلفين وهذه المعاوضة هنا ليست من قبيل المعاوضة في البيع ، حتى يعتبر فيها التقابض ونحوه مما اعتبر في البيع ، بل هي معاوضة مبنية على الإرفاق والمسامحة.


وبالجملة فإنه متى حصل التراضي من الجانبين كما هو المفروض فلا مانع والتسلط الذي التجأوا إليه في المنع انما يتم مع عدم التراضي والمفروض وجوده ، نعم لو قلنا بعدم جواز الحوالة على البري‌ء اتجه ما ذكروه. والله العالم.

السادسة ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في جواز ترامى الحوالات ودورها ، لحصول شرائط الصحة ، وعدم المانع فكما تصح الاولى تصح الثانية والثالثة ، وهكذا لعين ما ثبت به صحة الاولى ، فلو أحال المديون زيدا على عمرو ثم أحال عمرو زيدا على خالد ، ثم أحال خالد زيدا على بكر صح ، وهذا في صورة تعدد المحيل والمحال عليه ، فان كلا منهم ما عدا الأول محيل ومحال عليه ، مع اتحاد المحتال ، فان المحتال في جميع هذه الفروض واحد ، وهو زيد ، ويجوز أن يرجع الأخير منهم على المديون الأول ، ويحيل عليه ، أما بأن تكون ذمته مشغولة بدين لمن أحال عليه ، أو بناء على جواز الحوالة على البري‌ء فيصح دورها ، ومثله (١) باقي الحوالات السابقة.

السابعة ـ لو أحال عليه فقبل الحوالة وأدى ثم رجع على المحيل بما أداه مدعيا براءة ذمته من مال المحيل ، وادعى المحيل اشتغال ذمته ، وأنه انما أحال عليه من حيث كونه مشغول الذمة بماله ، فان قلنا بجواز الحوالة على البري‌ء كما هو أظهر القولين ، وأشهرهما ، فإن القول هنا قول المحال عليه بيمينه ، لانه منكر لاشتغال الذمة ، وان اعترف بصحة الحوالة ، فإن صحتها لا تستلزم شغل الذمة لما عرفت من جوازها على البري‌ء ، فيرجع بما أداه على المحيل بعد اليمين ، وان قلنا بأن الحوالة مشروطة بشغل ذمة المحال عليه فوجهان :

أحدهما ـ أنه لا يقبل قوله في نفى شغل الذمة ، لأن الحوالة تقتضي شغلها ، حيث أن الحوالة لا تصح الا مع شغل الذمة كما هو المفروض ، وهو موافق على الحوالة.

وبالجملة فالمنكر وان كان معه أصالة عدم شغل الذمة ، الا أن ذلك يقتضي

__________________

(١) المراد مثل ذلك في الحوالة على البري‌ء أو مشغول الذمة فإنك قد عرفت صحة الحوالة على البري‌ء فيما تقدم ، فهو جائز في كل موضع تصح الحوالة فيه بدون ذلك.

منه رحمه‌الله.


بطلان الحوالة على هذا التقدير ، ومدعى الدين يدعى صحتها ، ومدعى الصحة عندهم مقدم ، وعلى هذا فلا تسمع دعوى المحال عليه ، ولا يرجع على المحيل بشي‌ء ، وثانيهما ـ أن يقال : ان هنا أصلين تعارضا ، أصالة عدم شغل الذمة مع المحال عليه وأصالة صحة العقد مع المحيل فتساقطا ، وبقي مع المحال عليه أنه أدى عن المحيل باذنه ، فيرجع عليه حينئذ على التقديرين (١).

واستحسنه في المسالك ثم اعترضه بأن الاذن في الأداء انما وقع في ضمن الحوالة ، وإذا لم يحكم بصحتها لا يبقى الاذن مجردا ، لانه تابع فيستحيل بقاؤه بدون متبوعه.

ثم أجاب بأن الاذن وان كان واقعا في ضمن الحوالة الا أنه أمر يتفقان على وقوعه ، وانما يختلفان في أمر آخر ، فإذا لم يثبت لا ينتفي ما وقع الاتفاق منهما عليه ، انتهى.

ومنه يظهر أن الأقرب الى الاعتبار هو كون القول قول المحال عليه مطلقا وهو اختيار المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) أيضا في شرح الإرشاد ، والله العالم.

الثامنة ـ قالوا : إذا أحال المشتري البائع بالثمن ثم رد المبيع بعيب سابق فهل تبطل الحوالة؟ لأنها تبع للبيع ، فيه تردد ، فان لم يكن البائع قبض المال فهو باق في ذمة المحال عليه للمشتري ، وان كان البائع قبضه فقد بري‌ء المحال عليه ، ويستعيده المشترى من البائع.

أما لو أحال البائع أجنبيا بالثمن على المشترى ، ثم فسخ المشترى بالعيب أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة ، لأنها تعلقت بغير المتبايعين ، ولو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في الموضعين.

أقول : تفصيل إجمال هذا الكلام وبيان ما اشتمل عليه من الأحكام يقع في مواضع الأول ـ فيما إذا أحال المشتري البائع بالثمن على شخص آخر ، ثم رد المبيع بعيب سابق وفسخ العقد ، فهل تبطل الحوالة أم لا؟ قد تردد في ذلك المحقق

__________________

(١) أى على تقدير صحة الحوالة على البري‌ء ، أو اشتراط شغل الذمة في صحة الحوالة وعدم جواز الحوالة على البري‌ء. منه رحمه‌الله.


في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد.

ومنشأ التردد من جهة ما ذهب اليه الشيخ : من بطلان الحوالة في الصورة المذكورة ، معللا ذلك بأن الحوالة تابعة للبيع ، فإذا بطل البيع بطلت ، لاستحالة وجود التابع من جهة ما هو تابع بدون متبوعه ، ومن أن الحوالة ناقلة للمال إلى ذمة المحال ، عليه ، فقد انتقل ما في ذمة المشترى من المال الذي هو ثمن المبيع للمحتال إلى ذمة المحال عليه ، فلا يبطله الفسخ المتأخر ، لأن الفسخ انما يبطل العقد من حينه لا من أصله.

وربما بنى التردد ايضا وحصول الوجهين المذكورين على أن الحوالة هل هي استيفاء ما على المحيل؟ ـ نظرا الى عدم اشتراط القبض فيها ولو كان الحقان من الأثمان ، بمعنى أن المحتال استوفى دينه الذي على المحيل بمجرد الحوالة من غير أن يقبض منه شيئا ، ولو كانت اعتياضا كان ذلك بيع دين بمثله.

ولتحقق برأيه الأخر وهو المحيل بمجرد الحوالة ، وعلى هذا تبطل الحوالة ، لأنها نوع إرفاق (١) وإذا بطل الأصل بطل مهية الإرفاق ، كما لو اشترى شيئا بدراهم مكسرة وتطوع بأداء صحاح عوضها ثم فسخ ، فإنه يرجع عليه بالصحاح ، ولا يقال : انه يطالب بمثل المكسرة ليبقي التطوع بحاله ، لأن التطوع انما بنى على البيع ، والبيع قد انفسخ وبطل ، فيبطل ما تفرع عليه ، أو ان الحوالة اعتياض لا استيفاء نظرا إلى أنه لم يقبض نفس حقه ، بل أخذ بدله عوضا عنه ، وهو معنى الاعتياض ، وعلى هذا لا تبطل كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوبا ثم فسخ ، فإنه يرجع بالثمن لا بالثوب.

أقول : وهذا الوجه الأخير الذي بنى عليه التردد نقله العلامة في التذكرة عن الشافعية : بالاحتمالين المترتبين عليه ، وظاهره وكذا ظاهر جملة من الأصحاب ، التوقف هنا ، لاقتصارهم على نقل الأوجه المذكورة في المسألة ، والخلاف المنقول عن الشيخ من غير أن يرجحوا شيئا وهو في محله.

__________________

(١) وجه كونها نوع إرفاق أنه يستحق الثمن في ذمته فالواجب دفع عين الثمن ، وقبول الحوالة إرفاق بالمحيل ومسامحة له ، فإذا كان بناء الحوالة على الإرفاق والمسامحة للمحيل ، فحين بطل البيع بالفسخ تبعه ما يترتب عليه من الإرفاق فيبطل حسب ما ذكر في المثال المذكور في الأصل منه رحمه‌الله.


وينبغي أن يعلم أنه لا فرق فيما ذكر من الحكم المذكور بالوجوه المتقدمة ، بين كون الرد بالعيب بعد قبض المبيع أو قبله ، ولا بين أن يتفق الرد بعد قبض المحتال مال الحوالة أو قبله ، ولا بين الفسخ بخيار العيب أو غيره من أنواع الخيار ، والإقالة والفسخ بالتحالف ونحو ذلك مما لا يبطل البيع من أصله.

ولكن المتأخرين من الأصحاب مثلوا بالعيب تبعا لمن فرض المسألة ، وكذا لا فرق بين العيب السابق على البيع أو اللاحق على وجه يجوز الفسخ ، كالعيب قبل القبض وقبل انقضاء الثلاثة في الحيوان ، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للحكم المذكور في الصورة المفروضة في كلام من فرضها ، وأصل هذه الفروض والفروع في هذه المسألة وأمثالها كله من كلام العامة ، كما لا يخفى على من لاحظ التذكرة ، وأصحابنا كالشيخ : وأتباعه جروا عليها.

الثاني ـ أنه متى قلنا ببطلان الحوالة كما هو أحد الوجهين المتقدمين بأي سبب من السببين المتقدمين أيضا ، فإن كان المحتال وهو البائع قد قبض المال من المحال عليه فقد برئت ذمة المحال عليه ، ويستعيده المشترى من البائع ان كان موجودا بعينه ، ولو تلف لزمه بدله وان تلف بغير تفريط ، لانه مضمون عليه حيث أنه قبضه عوضا عن الثمن ، وليس للمحتال رده على المحال عليه ، فان رده عليه فللمشتري مطالبته ، وان كان لم يقبض فليس له قبضه ، لبطلان الحوالة ، فيبقى في ذمة المحال عليه لصاحبه ، وهو المشترى كما كان.

فلو خالف المحتال وقبضه بعد بطلان الحوالة لم يقع عنه لبطلان حقه. وهل يقع للمشتري قالوا : فيه وجهان (١)؟ ومتى قلنا بصحة الحوالة كما هو الوجه الأخر ، فإن كان البائع قد قبض برأ المحال عليه ، ورجع المشترى على البائع ، ولا يتعين حقه فيما قبضه ، وان لم يكن قد قبض فله القبض ، وللمشتري الرجوع عليه ، قبل

__________________

(١) منشأهما من أن الحوالة متضمنة للإذن في القبض ، فان قلنا أن الاذن يبطل ببطلان الحوالة ، لأنه متى كان من لوازمها فإنه يتبعها وجودا وعدما ، فإذا بطلت بطل ، لاستحالة تخلف اللازم عن ملزومه ، وان قلنا بأن الإذن الضمني لا يبطل ببطلان ما كان في ضمنه كما هو أحد القولين فيه ، كما ذكروه في الشركة والوكالة وتحقيق ذلك في باب الوكالة ، ان شاء الله تعالى. منه رحمه‌الله.


القبض لأن الحوالة كالمقبوض ، ومن ثم يسقط حق حبس المبيع لو أحال المشتري البائع بالثمن.

قيل : ويحتمل عدم جواز رجوعه الى أن يقبض ، لعدم وجود حقيقة القبض ، وان وجد ما هو بمعناه في بعض الأحكام.

أقول : من المحتمل قريبا أن ترتب الرجوع على القبض أو ما في معناه لا يظهر له وجه وجيه ، لأن الحوالة بناء على ما هو المفروض من القول بصحتها أمر منفك عن البيع غير مترتب عليه صحة وبطلانا ، فيعمل في الحوالة بما هو مقتضاها من قبض المحتال من المحال عليه متى أراد ، رجع عليه المشتري أو لم يرجع ، وفي البيع ما يقتضيه من رجوع المشترى بالثمن بعد الفسخ على البائع ، قبض مال الحوالة أم لم يقبض. والله العالم.

الثالث ـ لو أحال البائع أجنبيا بالثمن على المشترى ثم فسخ المشترى بالعيب أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة لما ذكر من التعليل ، وهو تعلق الحوالة هنا بغير المتبايعين ، بخلاف المسألة المتقدمة ، وهي حوالة المشتري البائع بالثمن ، فإن الحوالة متعلقة بالمتبايعين ، وهذا هو وجه الفرق بين المسألتين.

وبيان الفرق ان الحق في تلك المسألة كان مختصا بالمتبايعين بسبب البيع ، فإذا بطل السبب بطل ما يترتب عليه ، بخلاف حوالة الأجنبي ، فإنه لا تعلق له بالبيع ، ولا بصحته ولا ببطلانه ، وان حكمنا ببطلان البيع بعد الفسخ ، حيث أن الثمن صار مملوكا لذلك الأجنبي المحتال قبل فسخ العقد ، ونقل عن الشيخ : هنا الإجماع على عدم بطلان الحوالة ، قيل : ويحتمل ضعيفا البطلان هنا أيضا ، لأن استحقاق المحتال فرع استحقاق المحيل ، فإذا بطل حق المحيل بطل تابعه ، ووجه ضعفه أنه تابعه حين الحوالة لا بعد ذلك ، لإفادتها الملك حين وقعت بغير معارض.

أقول : وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون المحتال قد قبض أم لا ، لان الناقل للملك الحوالة ، لا القبض ، وحينئذ فإن المحتال يرجع على المشترى بما أحيل له به من الثمن لو لم يقبضه ، والمشترى بعد الفسخ يرجع به على البائع.

الرابع ـ لو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في كل من الموضعين المذكورين ،


اعنى حوالة المشتري البائع بالثمن كما مر في المسألة الاولى ، وحوالة البائع الأجنبي بالثمن على المشترى.

وتوضيحه أن صحة الحوالة فرع استحقاق البائع الثمن ، وثبوته له على كل من التقديرين المذكورين ، ومع تبين بطلان البيع من أصله يظهر عدم استحقاق البائع الثمن في ذمة المشترى في نفس الأمر.

والتحقيق أن الحوالة وقعت باطلة من أصلها ، الا أنه انما انكشف البطلان بظهور بطلان البيع ، وعدم استحقاق الثمن ، فيكون بطلان البيع كاشفا عن بطلانها ، وحينئذ فإن كان البائع بالنسبة إلى المسألة الأولى أو المحتال بالنسبة إلى الثانية لم يقبض ، فليس له القبض بظهور البطلان كما عرفت ، وان كان قد قبض ، فإن للمشتري أن يرجع عليه بذلك ، وللمشتري أيضا الرجوع في المسئلة الثانية (١) على البائع بما قبضه محتاله ، لانه قد وفى عنه ما في ذمته للمحتال ، وهو الأجنبي ، فقبضه منسوب اليه ، وليس للمشتري الرجوع في المسألة الاولى ، وهي ما إذا أحال المشتري البائع بالثمن على شخص آخر على ذلك الشخص الأخر المحال عليه لصدور القبض باذنه ، وانما يرجع على البائع. والله العالم.

المقصد الثالث في الكفالة :

المفهوم من جملة من الاخبار كراهة الكفالة والتأكيد في المنع منها ، فروى في الكافي عن حفص بن البختري (٢) في الصحيح قال : «أبطأت عن الحج ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أبطأ بك عن الحج؟ فقلت : جعلت فداك تكفلت برجل فخفر بي فقال : مالك والكفالات ، أما علمت أنها أهلكت القرون الاولى ، ثم قال : ان قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفا شديدا ، فجاء

__________________

(١) وهي ما إذا أحال البائع أجنبيا على المشترى بالثمن ، ووجه رجوعه على البائع ان البائع إنما أحال بالثمن على المشترى للأجنبي ، لأنه مشغول الذمة للأجنبي ، فيكون المشترى قد أدى عنه ما في ذمته باذنه ، فيرجع به عليه حينئذ ، فعلى هذا يتخير بين الرجوع على البائع وعلى محتاله. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٣ ح ١ باب الكفالة والحوالة.


آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فانزل الله عزوجل عليهم العذاب ، ثم قال تبارك وتعالى : خافوني واجترأتم على». والخفر نقض العهد.

وروى الشيخ في التهذيب عن أبى الحسن الخزاز (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لأبي العباس الفضل بن عبد الملك : ما منعك عن الحج؟ قال : كفالة تكفلت بها قال : مالك والكفالات أما علمت أن الكفالة هي التي أهلكت القرون الاولى».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) وقال الصادق (عليه‌السلام): الكفالة خسارة غرامة ندامة».

وبإسناده عن إسماعيل بن جابر (٣) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، انه قال : لا تتعرضوا للحقوق ، فاذ ألزمتكم فاصبروا لها».

وروى الشيخ بإسناده عن داود الرقى (٤) قال : قال : أبو عبد الله (عليه‌السلام) مكتوب في التورية كفالة ندامة غرامة».

والبحث في هذا المقصد يقع في مواضع : الأول ـ الكفالة هي التعهد بالنفس بمعنى التزام إحضار المكفول متى طلبه المكفول له ، فهي متعلقة بثلاثة ، الكفيل وهو هنا بمعنى الفاعل وان كانت هذه الصيغة تصلح للمفعول أيضا ، الا أنهم انما أرادوا به هنا الكافل ، والمكفول له ، والمكفول ، ولا ريب في اعتبار رضى الأولين ، ولا خلاف فيه أيضا لأن الكفالة من جملة العقود اللازمة المتوقفة على الإيجاب والقبول ونحوهما.

قال في التذكرة : ولا بد فيه من صيغة دالة على الإيجاب والقبول ، فيقول الكفيل : كفلت لك بدن فلان ، أو أنا كفيل بإحضاره ، أو كفيل به أو بنفسه ، أو ببدنه. أو بوجهه أو برأسه ، لأن ذلك يعبر به عن الجملة وحينئذ فلا بد من وقوعها بين اثنين ، وهما الكفيل والمكفول له ، ولا بد من رضاهما.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ٦.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٠٣ ح ٦٧.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ٩ والروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٤ الباب ٧.


أما الكفيل فلانه ملتزم للحق ، وهو غير صحيح الا برضاه ، وأما المكفول له فلانه صاحب الحق ، فلا يجوز إلزامه شيئا إلا برضاه ، وبهما يتم العقد.

وأما المكفول فالمشهور أنه لا يعتبر رضاه ، لوجوب الحضور عليه متى طلبه صاحب الحق وان لم يكن ثمة كفالة ، والكفيل انما هو بمنزلة الوكيل حيث يأمره المكفول له بإحضاره ، فغاية الكفالة هي حضور المكفول حيث يطلب.

وظاهر العلامة في التذكرة الإجماع على ذلك ، حيث قال : تصح الكفالة وان كرهها المكفول عند علمائنا ، مع أنه نقل غير واحد من أصحابنا عن الشيخ في أحد قوليه (١) أنه يشترط رضاه ، وقواه هو أيضا في التحرير ، وبه قال ابن إدريس أيضا ، ونقل عنهم الاحتجاج على ذلك بأنه إذا لم يأذن فيها أو يرضى بها لم يلزمه الحضور مع الكفيل ، فلم يتمكن من إحضاره ، ولا تصح كفالته لأنها بغير المقدور عليه ، وهذا بخلاف الضمان ، لإمكان تأديته من مال غيره بغير اذنه ، ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور.

ورد ذلك بأن مدار هذا الاستدلال على عدم وجوب الحضور معه بغير رضاه ، وهو ممنوع ، لان المستحق متى طلبه وجب عليه الحضور وان لم يكن مكفولا كما قدمنا ذكره ، وهو مما لا خلاف فيه ، والغرض من الكفالة له راجع الى التزام الكفيل بإحضاره متى طلبه المكفول له ، ومتى ثبت وجوب الحضور عليه بعد الطلب وان لم يكن مكفولا ، فإنه لا يجب في صورة الكفالة أيضا ، لأن الكفيل انما هو بمنزلة الوكيل في طلب الإحضار ، وبالجملة فضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى على الناظر. والله العالم.

الثاني ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الكفالة تصح حالة ومؤجلة ، للأصل ، ولان الحضور حق شرعي فلا يمنعه الحلول ، ومنع الشيخ في

__________________

(١) قال في المبسوط : إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعى عليه مالا. يصح الا انها لا تصح إلا بإذن من يكفل عنه وتبعه ابن البراج ، وابن حمزة وابن إدريس ، قال في المختلف : ولم يشترط باقي علمائنا ذلك ، وهو المعتمد ، لنا الأصل ولانه لا يشترط رضاه في كفالة المال ، فكذا البدن ، انتهى. منه رحمه‌الله.


النهاية والشيخ المفيد الكفالة الحالة ، قالا : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل معلوم ، وتبعهما ابن حمزة ، وهو الظاهر من كلام السلار ، ولابن البراج قولان ، وسوغ في المبسوط الحالة ، وبه قال ابن إدريس وجملة المتأخرين لما تقدم.

ثم انه متى اشترط الأجل وجب أن يكون معلوما كما في غير هذا الموضع لما في الجهالة من الغرر ، إذ ليس له وقت يستحق المطالبة فيه كغيره من الآجال ولا خلاف في ذلك الا لبعض العامة ، حيث جوز أن يكون الأجل هنا مجهولا ، لاشتمال الكفالة على التبرع فيتسامح فيها كالعارية.

ورد بأن العارية غير لازمة فلا يقدح فيها الأجل المجهول ، لجواز المطالبة بالمستعار في الأجل وان كان معلوما.

الثالث ـ للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا ان كانت الكفالة مطلقة أو معجلة ، وبعد الأجل ان كانت مؤجلة ، فإن أحضره وسلمه فقد بري‌ء ، وإلا وجب حبسه حتى يحضره أو يؤدى ما عليه ، كذا ذكره بعض الأصحاب.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا الحكم ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عمار (١) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أتى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) برجل تكفل بنفس رجل فحبسه وقال أطلب صاحبك».

ورواه الشيخ في التهذيب عن عمار بن مروان (٢) عن جعفر عن أبيه عن على عليهم‌السلام مثله.

وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) أن عليا (عليه‌السلام) أتى برجل كفل برجل بعينه فأخذ بالمكفول فقال : احبسوه حتى يأتي بصاحبه».

وما رواه في الفقيه عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة (٤) قال : «قضى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس ، وقال له : أطلب

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٥ ح ٦.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٤.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٥٤ ح ١ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٦ الباب ٩.


صاحبك ، وقضى (عليه‌السلام) أنه لا كفالة في حد».

وفي كتاب الفقه الرضوي (١) على ما نقله عنه في كتاب بحار الأنوار روى إذا كفل الرجل بالرجل حبس الى أن يأتي بصاحبه.

أقول : وهذه الاخبار على تعددها لم يتضمن أزيد من حبسه حتى يحضر المكفول ، والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد قيدوا التسليم بكونه تسليما تاما ، بمعنى أنه لو اشترط الوقت والمكان في العقد فلا بد من أن يكون التسليم في ذلك الوقت وذلك المكان المشترطين ، والا لم يكن تسليما تاما ، ونحوهما في بلد العقد ولو مع الإطلاق ، لانصراف الإطلاق إليه عندهم ، وأن لا يكون للمكفول مانع من تسليمه ، بأن يكون في يد ظالم أو متغلب يمنعه منه ، أو في حبسه ، أو يكون المكفول قويا والمكفول له ضعيفا لا يتمكن من وضع اليد عليه ونحو ذلك ، فإذا سلمه كذلك كان تسليما تاما موجبا لبرائته وخلو عهدته.

ولو لم يتسلمه المكفول له والحال هذه قيل : سلم الى الحاكم ان أمكن ، وبرء أيضا ، وان لم يكن أشهد عدلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناعه من قبضه ، وقيل بالاكتفاء بالإشهاد بدون التسليم الى الحاكم وان قدر عليه ، لان مع وجود صاحب الحق لا يلزم دفعه الى من ينوب عنه من حاكم وغيره.

وعندي أيضا في وجوب الاشهاد نظر ، لعدم الدليل عليه في المقام : كما أنه لا دليل على التسليم للحاكم أيضا ، الا أن يراد بذلك براءة الذمة عن المطالبة بالإحضار مرة أخرى ، والا فهو في حد ذاته من غير ملاحظة ذلك لا وجه له في كل من الموضعين ، هذا ما يتعلق بالكفيل إذا سلم.

أما لو امتنع التسليم فقد عرفت من الاخبار المتقدمة أن للحاكم حبسه حتى يحضره ، والأصحاب قد ذكروا هنا أن للحاكم حبسه حتى يحضره ، وله عقوبته عليه كما في كل ممتنع عن أداء الحق.

وفيه أن غاية ما دلت عليه الاخبار المتقدمة هو الحبس حتى يحضره ، وهذا كاف في عقوبته فلا معنى لعقوبته زيادة على ذلك ، لعدم الاذن فيه شرعا ثم انهم

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٨.


ذكروا أنه ان سلمه بعد ذلك فلا كلام ، وان أبى وبذل ما عليه فقد صرح الشيخ :

وجمع منهم المحقق في الشرائع وغيره كما قدمنا الإشارة إليه ببراءة ذمته من الكفالة لحصول الغرض من الكفالة.

ورد بأنه على تقدير تمامه انما يصح فيما يمكن أخذه من الكفيل كالمال ، ولو لم يكن كذلك كالقصاص وزوجية امرأة والدعوى بعقوبة توجب حدا ، فلا بد من إحضاره.

وذهب جمع من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة إلى أنه لا يتعين على المكفول له قبول الحق ، بل له إلزامه بالإحضار مطلقا ، وهذا هو ظاهر الاخبار التي قدمناها ، كما أشرنا إليه ذيلها ، وأصحاب هذا القول عللوا ما ذكروه بعدم انحصار الأغراض في أداء الحق ، وقد يكون له غرض لا يتعلق بالأداء ، أو بالأداء من الغريم لا من غيره ، وخصوصا فيما له بدل ، فإنه بدل اضطراري ، لا عين الحق الذي يتعلق الغرض غالبا بحصوله.

وأنت خبير بما في هذا التعليل العليل من تطرق المناقشة ، فإن البناء على هذه الأغراض انما يصح فيما لو كانت حقوقا شرعية لا مجرد التشهي ، والكفالة انما وقعت وترتبت على حق شرعي.

والأظهر في التعليل انما هو الوقوف على ظاهر الاخبار المتقدمة ، حيث أن ظاهرها انحصار الحق في إحضار المكفول ، وأنه لا تبرئ الذمة إلا بإحضاره ، وقبول ما بذله عنه من المال المطلوب عنه على تقدير كون متعلق الكفالة المال انما هي معاملة أخرى بمنزلة الصلح ، يتوقف على رضى الطرفين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو تراضيا على قبول المال كما ذكرنا فبذله الكفيل وقبله المكفول له ورضى به عن حقه الذي تعلقت به الكفالة ، فهل يرجع بما دفعه على المكفول عنه؟ قالوا : ان كان قد كفل باذن الغريم ، أو أدى باذنه وان كان كفل بغير اذنه فله الرجوع عليه ، وان انتفى الأمران ، فإن أمكنه إحضاره فلم يحضره لم يرجع عليه ، وكذا ان كفل بغير اذنه ، وأدى بغير اذنه مع تمكنه من مراجعته ، لأن الكفالة لم تتناول المال اختيارا فيكون كالمتبرع ، وان تعذر عليه إحضاره رجع


عليه مع اذنه في الكفالة ، وفي رجوعه مع عدمه نظر ، وظاهرهم أنه يرجع أيضا كذا ذكره في المسالك.

وفيه أن ظاهر صدر كلامه أنه إذا كفل باذن الغريم فله الرجوع مطلقا ، وظاهر كلامه بعد ذلك أنه لا يرجع مع الاذن في الكفالة إلا مع تعذر الإحضار ، فلو أمكن الإحضار لم يرجع ، وهذا هو الا وفق بقواعدهم ، لأن الاذن في الكفالة انما يقتضي تسليم المكفول دون المال ، فمتى أمكن إحضاره ودفع عنه المال والحال هذه ، فإنه لا معنى لرجوعه به عليه ، لانه كالمتبرع كما تقدم. نعم لو تعذر الإحضار أمكن ذلك لظهور المانع. والله العالم.

الرابع ـ قال الشيخ في النهاية : ومن ضمن غيره إلى أجل وقال : ان لم آت به كان على كذا وحضر الأجل لم يلزمه إلا إحضار الرجل ، فان قال : على كذا الى كذا ان لم أحضر فلانا ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال.

وقال ابن حمزة ان قدم ضمان المال على الكفالة ، وعجز عن التسليم يلزمه المال ، وان قدم الكفالة على ضمان المال لزمه إحضاره دون المال.

وقال ابن البراج : ان قال ان لم أحضره في وقت كذا فعلى كذا ، فقد قدم ذكر الوقت وأخر ذكر المال لم يجب عليه إذا حضر الأجل إلا إحضاره دون المال ، وان كان قال : على كذا ان لم أحضره في وقت كذا فقدم ذكر المال وأخر ذكر الوقت ، وجب عليه إذا حضر الأجل ولم يحضره ـ المال الذي ذكره.

وقال ابن إدريس : الفرق أنه ان بدأ بضمان المال ، فقال : على المال المعين الى كذا ان لم أحضره ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال ، وان بدأ بضمان النفس ، فقال : ان لم أحضره عند حلول الأجل كان على كذا ، وحضر الأجل لم يلزمه إلا إحضار الرجل دون ما ذكره من المال ، لانه بدأ بضمان النفس قبل المال وافترق الأمران.

وقال ابن الجنيد : إذا قال الكفيل لطالب الحق : مالك على فلان فهو على دونه الى يوم كذا ، وأنا كفيل لك بنفسه صح الضمان على الكفيل بالنفس ، وبالمال ان لم يؤد المطلوب الى الطالب الى ذلك الأجل وسواء قال له عند الضمان : ان لم يأتك به أو لم يقل ذلك ، فان قدم الكفالة بالنفس ، وقال أنا كفيل لك بنفس فلان


الى يوم كذا ، فان جاء بمالك عليه وهو ألف درهم ، والا فأنا ضامن للألف ، صحت الكفالة بالنفس ، وبطل الضمان للمال ، لان ذلك كالقمار والمخاطرة ، وهو كقول القائل ان طلعت الشمس غدا فمالك على فلان غريمك وهو ألف درهم على ، الذي قد اجمع على أن الضمان لذلك باطل.

قال العلامة في المختلف : وعندي في هذه المسئلة نظر ، ثم قال : وقول ابن الجنيد أنسب. (١)

أقول : والأصل في هذه المسئلة ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن أبى العباس (٢) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل كفل لرجل بنفس رجل فقال : ان جئت به والا فعليك خمسمائة درهم ، قال : عليه نفسه ، ولا شي‌ء عليه من الدراهم ، فان قال : على خمسمائة درهم ان لم أدفعه إليك قال : تلزمه الدراهم ان لم يدفعه اليه». هكذا في رواية الكافي ، وفي رواية الشيخ في التهذيب هكذا» فقال : ان جئت به ، والا فعلى خمسمائة درهم» الخبر.

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبى العباس (٣) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يتكفل بنفس الرجل إلى أجل ، فان لم يأت به فعليه كذا وكذا درهما ، قال : ان جاء به الى الأجل فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا الا أن يبدأ بالدراهم ، فان بدأ بالدراهم فهو لها ضامن ان لم يأت به الى الأجل الذي أجله».

وقد أطال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الكلام في هذه المسئلة ينقل ما وقع

__________________

(١) قال في المسالك بعد أن نقل عن العلامة في هذه المسئلة قولا غريبا نقله عن ابنه فخر المحققين : وقد صار للعلامة وحده في هذه المسئلة أربعة أقوال ، هذا أحدها ، والثاني قوله في القواعد بلزوم المال في الثانية مطلقا ، والثالث في التحرير والتذكرة بلزوم المال ان لم يحضره ، والرابع في المختلف مذهب ابن الجنيد وهو قول يحتاج تقريره مع تطويل فأعرضنا عنه هنا ، انتهى. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٤ ح ٣ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ١٠.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٥٤ ح ٤ والتهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٥ هما في الوسائل ج ١٣ ص ١٥٧ ح ١ و ٢.


فيها من الأقوال ، والمناقشة في كل منها ، ووجه الإشكال في الخبرين المذكورين ، وخروجهما عن مقتضى القواعد.

ونحن نذكر هنا ملخص ذلك ليتضح به الحال ، ويظهر به ما في الخبرين المذكورين من الاشكال ، وذلك فان ظاهر الخبرين الاشتمال على حكمين مختلفين ، ومسئلتين متغايرتين باعتبار الفرق بين تقديم الجزاء على الشرط ، وتأخيره عنه ، مع أن ذلك لا مدخل له في اختلاف الحكم ، لان الشرط وان تأخر فهو في حكم المتقدم ، الا أن الجماعة جمدوا على النص ، ومع ذلك فإن جملة منهم لم يقفوا على قيوده ، فان الشيخ والمحقق في الشرائع (١) والعلامة في الإرشاد والقواعد ذكروا لزوم المال في المسئلة الثانية غير مقيد بقيد ، مع أنه مقيد في الخبرين بقوله في الاولى ان لم يدفعه اليه ، وفي الثانية بقوله ان لم يأت به الى الأجل الى آخره ، وقد تفطن لذلك المحقق في النافع ، فقال : كان ضامنا للمال ان لم يحضره إلى الأجل ، وكذلك العلامة في التحرير والتذكرة.

ثم ان جملة منهم جمدوا على النص ولم يلتفتوا الى تعليل في دفع ما اشتمل عليه من المخالفة ، لمقتضى القواعد كما هو طريقة الشيخ في النهاية ، ومنهم من التجأ الى أن الحكم في المسئلتين إجماعي ، ومع ذلك فإنه منصوص ، فلا يمكن العدول عنه بمجرد التباس الفرق بين الصيغتين ، وعلى هذا بنى الشيخ ابن فهد في المهذب ، وتبعه المحقق الشيخ على في شرح القواعد.

وفيه نظر لعدم تحقق الإجماع المذكور (٢) ومنهم من اكتفى بمجرد الدعوى

__________________

(١) قال في الشرائع : ولو قال : ان لم أحضره كان على كذا لم يلزمه إلا إحضاره دون المال ، ولو قال : على كذا الى كذا ان لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال. وقال في الإرشاد : ولو قال : ان لم أحضره كان على كذا لزمه الإحضار خاصة ، ولو قال : على كذا الى كذا ان لم أحضره وجب المال ، انتهى. منه رحمه‌الله.

(٢) وتوضيحه ان أحدا لم يدع الإجماع في المسئلة ، والموجود كلامهم في المسئلة جماعة يسيرة من الأصحاب والباقون لم يتعرضوا للكلام فيها بالكلية مع ان العلامة كما تقدم نقل كلامه في المختلف وتنظر في ذلك ، ثم قال الى كلام ابن الجنيد المخالف لما ذكروه وقد عرفت أيضا اختلاف قولي المحقق في الشرائع والنافع في ذلك ، فدعوى الإجماع والحال كما عرفت مجازفة محضة. منه رحمه‌الله.


كابن إدريس على ما تقدم في كلامه ، وهو فرق بمجرد الدعوى لا يتحصل له فائدة ، ولهذا قال المحقق في نكت النهاية في رده : ان الشرط متقدم على المشروط طبعا فلا عبرة بتأخره وضعا ، ومنهم من علل ذلك بعلة ظنها وافية بالمراد ، خالية عن الإيراد ، كالشيخ (رحمة الله عليه) حيث ذكر أن السر في لزوم المال إذا قدمه براءة ذمة المضمون عنه ، فيمتنع الكفالة ، وإذا قدم الكفالة كان الضمان المتعقب لها لكونه معلقا على شرط باطلا ، ولمنافاة الضمان صحة الكفالة وهذا السر الذي أظهره ناش من عبارة العلامة في القواعد والإرشاد ، والمحقق في الشرائع (١) حيث أطلقوا لزوم المال في المسئلة الثانية ، وقد عرفت مما قدمنا ذكره أنه في الرواية مشروط بعدم إحضاره ، فتكون الكفالة أيضا صحيحة ، وان تأخرت عن ذكر المال.

هذا مع أنه مع تقديم المال قد جعل ضمانه مشروطا بعدم إحضاره ، فكيف يقال : ببراءة ذمة المضمون عنه حتى تمتنع كفالته؟ وما هذا الا رجوع الى فرق ابن إدريس الذي لم يجد نفعا ، ومع تقديم الكفالة قد ذكر في الرواية أنه ان جاء به الى الأجل فليس عليه مال ، ومفهوم الشرط أنه ان لم يجي‌ء به لزمه المال ، فدل بمفهومه على خلاف ما ذكره الجماعة ـ وأبدأوه من الفرق الا أن لا يقولوا بمفهوم الشرط.

أقول : لا يخفى ان فهم هذا الحكم الذي ذكروه واختلفوا التفصي عن صحته من الرواية الأولى انما يتم على تقدير رواية الشيخ لها في التهذيب كما تقدم ذكره وأما على رواية الكافي فإن الظاهر أن القائل بقوله «ان جئت به والا فعليك خمسمائة درهم» انما هو المكفول له خاطب بذلك الكفيل ، كما هو ظاهر سياق الرواية ، وحينئذ فقوله (عليه‌السلام) : «عليه نفسه ولا شي‌ء عليه من الدراهم» ظاهر ، لان مقتضى الكفالة إحضار المكفول خاصة ، وما اشترطه عليه المكفول له لغو من القول ، لا عبرة به ، ولا أثر يترتب ، وحينئذ فلا تكون هذه الرواية من

__________________

(١) وانهم ذكروا أنه مع تقديم ذكر الكفالة في العبارة ، فالواجب الإحضار ، دون المال ، والرواية دلت بالمفهوم الشرطي على أنه ان لم يجي‌ء بالرجل إلى الأجل فعليه المال فإطلاق لزوم الكفالة بمجرد تقديمها في العبارة لا وجه له لما دل عليه النص من التفصيل في ذلك. منه رحمه‌الله.


المسئلة في شي‌ء.

بقي قوله في تتمة الرواية ، «فإن قال» يحمل على قول الكفيل ، بمعنى أنه ان قال ذلك وألزم نفسه المبلغ المذكور لزمه ان لم يدفعه ، وما ربما يقال : ـ من أنه يخالف المشهور ، من أن مقتضى الكفالة أداء المال ان لم يحضر المكفول ـ مردود بما قدمنا ذكره ، من أن غاية ما يفهم من أخبارها المتقدمة انما هو إحضار المكفول خاصة ، غاية الأمر انهما إذا اصطلحا وتراضيا بدفع المال صح ذلك ، والا فالحق الذي أوجبته الكفالة انما هو الإحضار خاصة.

نعم يبقى الإشكال بالنسبة الى الخبر الثاني ، قال في الوافي ـ ونعم ما قال ، بعد ذكر الخبرين المتقدمين على الترتيب الذي قدمناه ونقله الرواية الأولى بما في الكافي ـ ما لفظه : بيان الفرق بين الصيغتين في الخبرين غير بين ولا مبين ، وقد تكلف في ابدائه جماعة من أصحابنا بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، صونا لهما من الرد ، وقد ذكره الشهيد الثاني في شرحه للشرائع ، من أراد الوقوف عليه وعلى ما يرد عليه فليرجع اليه ويخطر بالبال أن مناط الفرق ليس تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه ، كما فهموه ، بل مناطه ابتداء الكفيل بضمان الدراهم من قبل نفسه مرة ، وإلزام المكفول له بذلك من دون قبوله أخرى كما هو ظاهر الحديث الأول والحديث الثاني ، وان كان ظاهره خلاف ذلك الا أنه يجوز حمله عليه ، فان قول السائل «فان لم يأت به فعليه كذا» (١) ليس صريحا في أنه قول الكفيل ، وعلى تقدير إبائه عن هذا الحمل يحمل على وهم الراوي ، أو سوء تقريره ، فان صدر الخبرين واحد ، والسائل فيهما واحد ، هذا على نسخة الكافي كما كتبناه.

وأما على نسخة التهذيب الذي نشأت فيها تكلفات الأصحاب فلا يتأتى هذا التوجيه ، فان الحديث فيه هكذا «رجل تكفل لرجل بنفس رجل ، فقال : ان جئت به والا فعلى خمسمائة درهم» الحديث ، والظاهر أنه من غلط النساخ والعلم عند الله. انتهى.

أقول : بل الظاهر انه من سهو قلم الشيخ ، فإنه لا يخفى على من نظر الكتاب

__________________

(١) الأظهر في العبارة ان نقول إلزام المكفول له الكفيل بذلك من دون قبوله ، ولعله سقط من النسخة التي عندنا. منه رحمه‌الله.


المذكور بعين التأمل ، فإنه قلما يخلو حديث من أحاديثه من التغيير أو التبديل أو التحريف في السند أو المتن. والله العالم.

الخامس ـ قالوا : من أطلق غريما من يد صاحب الحق قهرا ضمن إحضاره أو أداء ما عليه ، ولو كان قاتلا لزمه إحضاره أو دفع الدية. والوجه في وجوب الإحضار في كل من المسئلتين أنه بإطلاقه الغريم قهرا غاصب ، فعليه ضمان ما غصبه بإحضاره ، لأن اليد المستولية يد الشرعية مستحقة وبه يتحقق الغصب ، ويبتنى عليه الضمان بالإحضار.

وأما الوجه في أداء ما عليه في المسئلة الاولى فإنهم عللوه بأنه بإطلاقه له غصبا فاللازم له اما إرجاعه وتسليمه ، أو أداء ما عليه من الحق الذي بسببه ثبتت اليد عليه.

والظاهر أنه يبنى على ما تقدم في الكفيل الممتنع من الإحضار وتسليم المكفول ، فان قلنا بالتخيير بين الإحضار ودفع ما عليه ثم ما ذكروه هنا ، والظاهر أن القائل به هنا بنى على ذلك في تلك المسئلة.

وان قلنا : بأن الحق الذي اقتضته الكفالة انما هو الإحضار خاصة والرضى بما عليه معاملة أخرى ، تتوقف على التراضي لم يتجه ما ذكروه هنا من التخيير ، وبالنسبة إلى دفع الدية في المسئلة الثانية هو الحيلولة أيضا بينه وبين غريمه.

ولكن الظاهر تقييد ذلك بعدم التمكن من إحضاره وان كان ظاهر كلامهم الإطلاق ، ولم أقف في المقام على خبر الا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن حريز (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» قال : سألته عن رجل قتل رجلا عمدا فرفع إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فوثب عليهم قوم فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء ، فقال : أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل ، قيل فان مات القاتل وهم في السجن ، قال : فان مات فعليهم الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول».

وهذا الخبر كما ترى ظاهر الدلالة ، في أن حكم المسئلة الثانية انما هو حبس من أطلق للقاتل حتى يحضره ، ولا تعرض فيه لما ذكروه من التخيير بين إحضاره ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٨٦ ح ١ ـ التهذيب ج ١٠ ص ٢٢٣ ح ٨ ـ الفقيه ج ٤ ص ٨٠ ح ١٥ الوسائل ج ١٩ ص ٣٤ : الباب ١٦.


وبين دفع الدية والامام (عليه‌السلام) انما أوجب عليه الدية بعد موت القاتل وعدم إحضاره ، فهو ظاهر في أنه مع حيوة القاتل فليس الحكم إلا إحضاره وتسليمه الى أولياء الدم ، وهو موافق لما تقدم من أخبار الكفالة من حيث أن مقتضاها انما هو إحضار المكفول ، دون أداء ما عليه كما ادعاه جملة منهم.

ومنه يفهم أيضا حكم المسئلة الاولى ، وأن الحكم فيها انما هو إحضاره لا أداء ما عليه ، لان مرجع المسئلتين إلى أمر واحد ، وهو من أطلق من عليه حق من يد غريمه قهرا ، فإنه يضمنه ، ويجب عليه إحضاره وتسليمه لمن أخذه من يده ، وأن للحاكم أن يحبسه كما يحبس الكفيل حتى يحضره.

بقي الكلام في أنهم قالوا في المسئلة الاولى : وحيث يؤحذ المال لا رجوع له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه ، إذ لم يحصل من الإطلاق ما يقتضي الرجوع ، وهو جيد لو ثبت جواز أخذ المال ، الا أنه لا دليل عليه كما عرفت.

وقالوا في الثانية : لا فرق بين كون القتل عمدا وغيره ، إذ القصاص لا يجب الا على المباشر ، فإذا تعذر استفاؤه وجبت الدية ، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات ، ثم ان استمر القاتل هاربا ذهب المال على المخلص ، وان تمكن الولي منه وجب عليه رد الدية إلى الغارم وان لم يقبض من القاتل ، لأنها انما وجبت لمكان الحيلولة وقد زالت ، وعدم القتل الان مستند الى اختيار المستحق (١).

أقول : وفي هذا أيضا ما في سابقه ، فان وجوب الدية على المخلص انما ثبت في صورة موت القاتل خاصة ، كما عرفت من الخبر المتقدم ، بمعنى أن المخلص له لم يسلمه حتى مات ، والا فمع حياته فالحكم انما هو إحضاره ، فيحبس المخلص له حتى يحضره.

__________________

(١) بمعنى أنه بعد الهرب أخذ الولي الدية من المخلص فان استمر على هربه ذهب ما دفعه المخلص ، وان تمكن منه الولي فلا ريب في رده الدية إذا اختار القصاص ، وكذا يجب عليه ردها لو لم يتخير القصاص ، لأنه إنما أخذها من حيث الحيلولة ، وقد سقطت بعد رؤيته فيرجع بالدية على القاتل ، ويجب ردها على المخلص ، هذا حاصل كلامه ، وفيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه‌الله.


فقوله «انه مع تعذر استيفاء القصاص يجب الدية ، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات» ، مسلم بالنسبة إلى الموت خاصة ، دون الهرب ، فإنه لا دليل على أخذ الدية في الصورة المذكورة ، وبه يظهر ما في تفريعه على ذلك بقوله «ثم ان استمر القاتل هاربا» الى آخره.

وقالوا أيضا لو كان تخليص الغريم من يد كفيله وتعذر استيفاء الحق من قصاص أو مال وأخذ المال أو الدية من الكفيل كان له الرجوع على الذي خلصه لعين ما ذكر في تخليصه من يد المستحق.

وفيه أيضا ما عرفت من أن الواجب بمقتضى النصوص في هذه الصورة انما هو حبس المخلص حتى يحضر الغريم الذي خلصه ويدفعه الى الكفيل ، ثم ان الكفيل يدفعه الى المكفول له ، وليس على الكفيل أن يغرم المال كما ادعوه ، حتى أنه يرجع به بعد ذلك على الذي خلصه.

نعم قد ورد ذلك كما عرفت في صورة موت الغريم ، ويحتمل قريبا إجرائه في كل موضع تعذر فيه تحصيل الحق من الغريم ، لا مطلقا كما ادعوه ، وقد تقدم في الموضع الثالث ان الواجب على الكفيل بمقتضى الأخبار المذكورة ثمة انما هو الإحضار خاصة دون أداء ما على الغريم.

وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام كله مبنى على وجوب الأداء على الكفيل في الكفالة ، والمخلص في صورة هذا الموضع ، وقد عرفت ما فيه ، وأنه مع عدم الدليل عليه مدفوع بالأخبار الواردة ثمة وهنا أيضا. والله العالم.

السادس ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في وجوب كون المكفول معينا ، فلو قال : كفلت أحد هذين لم يصح ، وكذا لو قال : كفلت بزيد أو فلان ، وكذا لو قال : كفلت بزيد فان لم آت به فبعمرو ، لاشتراك الجميع في الجهالة ، وإبهام المكفول فتبطل لان الغرض من الكفالة هو وجوب إحضار المكفول متى طلبه المكفول له وإذا لم يعلم المكفول بعينه لم يستحق المطالبة بإحضاره.

وفي الصورة الثالثة ما يوجب البطلان ـ زيادة على الجهالة ـ من تعليق كفالة عمرو على شرط ، وهو عدم الإتيان بزيد فتبطل من هذا الوجه أيضا ، وكفالة زيد


ليست متعينة ، لأن الكفيل جعل نفسه في فسحة بإحضار عمرو ان اختار ، فيرجع الى الإبهام كالسابق ، هكذا قرروه.

والتحقيق أن يقال : ان الكفالة من العقود اللازمة الموجبة لاشتغال الذمة فيجب الوقوف فيها على ما ورد به الشرع ، وقرره من المواضع التي تتحقق فيه ، وهو ما إذا كان المكفول متعينا معلوما ، وأما ما عداه فلا يصح ، لعدم الدليل عليه.

السابع : قال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل مؤجلا صح ، فإن أحضره قبل الأجل وسأله تسلمه نظر ، فان كان لا ضرر عليه لزمه تسلمه ، وان كان عليه ضرر لم يجب ، وتبعه ابن البراج على ذلك.

والمشهور بين المتأخرين وبه صرح المحقق والعلامة وغيرهما هو عدم الوجوب ، لانه غير التسليم الواجب ، حيث أن وجوبه مشروط بحلول الأجل ، فحقه مخصوص بحلول الأجل ، فلا يجب أن يقبض غير حقه ولا يعتديه.

ومثله ما لو شرط تسليمه في مكان أو قلنا باقتضاء الإطلاق الانصراف الى موضع العقد ، فسلمه في غيره وان انتفى الضرر أو كان أسهل ، كذا قالوا ، ولو سلمه الكفيل الا أن المكفول له لا يمكنه تسلمه وقبضه ، لكونه ممنوعا بيد قاهر لم يبرأ الكفيل ، لأن براءة مشروطة بالتسليم التام كما تقدم بيانه في الموضع الثالث ، فلا يعتبر بالتسليم الممنوع معه من استيفاء الحق بقاهر أو غيره.

ولو كان في حبس الحاكم الشرعي لم يمنع ذلك تسليمه ، للتمكن من استيفاء الحق ، بخلاف ما إذا كان في حبس الجائر ، والفرق بينهما واضح في الأغلب ، فإن الحاكم الشرعي لا يمنع من إحضاره ومطالبته بالحق ، بخلاف الجائر ، فإنه قد يمنع ، فلا بد من التقييد بمنعه ، والا فلو فرض أن المكفول له قادر على تسلمه من حبس الجائر ، لصحبة كانت بينه وبينه ، أو قوة المكفول له أو نحو ذلك ، فإنه في قوة عدم الحبس بالكلية ، والأصحاب انما أطلقوا الحكم بناء على الغالب من عدم تسلمه تاما لو كان في حبس الجائر.

ثم انه لو كان في حبس الحاكم الشرعي فطلبه الكفيل من الحاكم أمر الحاكم بإحضاره ، وحكم بينهما فان انفصلت الحكومة بينهما رده الى الحبس


بالحق الأول ، ولو توجه عليه حق يوجب الحبس حبسه أيضا بالحقين معا ، وتوقف فكه على خلاصه من الحقين معا.

الثامن ـ المشهور في كلام جملة منهم أنه إذا تكفل بتسليمه في موضع معين وجب عملا بالشرط ولا يبرء بالدفع في غيره.

وقال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل على أن يسلمه إليه في موضع ، فسلمه في موضع آخر ، فان كان عليه مؤنة في حمله الى موضع التسليم لم يلزم قبوله ، ولا يبرء الكفيل ، وان لم يكن عليه مؤنة ولا ضرر لزمه قبوله ، كما ذكرنا في الأجل سواء وتبعه ابن البراج في ذلك.

ورد الأصحاب بما ردوا به قوله في سابق هذا الموضع من أن حقه انما هو في ذلك الموضع المشترط ، فلا يجب عليه القبول في غيره ، لانه ليس حقه ، وأما إذا تكفل بتسليمه مطلقا ولم يعين موضعا فظاهرهم أن الإطلاق ينصرف الى بلد العقد ، لانه المفهوم ، وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل السلم في كتاب البيع (١) ويشكل ما ذكروه بما لو كان محل العقد مكانا لا رجوع لهما اليه كبرية أو بلد غربة ، يقصدان مفارقته ، ونحو ذلك ، الا أن تدل القرائن على استثناء مثل ذلك ، وخروجه عن الإطلاق.

ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط : أنه إذا أطلق موضع التسليم وجب التسليم في موضع الكفالة ، ثم نقل عن ابن حمزة أنه يلزمه التسليم في دار الحاكم أو موضع لا يقدر على الامتناع ، ورده قال : لنا انه إطلاق لموضع التسليم فتعين موضع العقد كالسلم ، ولعدم أولوية بعض الأمكنة.

التاسع ـ إذا كان المكفول غائبا ، والكفالة حالة أو مؤجلة ، وحل الأجل وهو غائب ، فإن كان الغائب ممن يعرف موضعه ولم ينقطع خبره انتظر بقدر ما يمكن الذهاب اليه والعود به ، وان لم يعرف له خبر ولا موضع وصار مفقود الخبر لم يكلف الكفيل بإحضاره ، لتعذره وعدم إمكانه ، ولا شي‌ء عليه ، لانه لم يقصر في الإحضار ليؤخذ بالمال ، كما ذكره جملة منهم ولم يضمن المال ، فلا يتعلق به شي‌ء.

العاشر ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا تكفل رجلان ببدن رجل لرجل ، فسلمه

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣١.


أحدهما لم يبرء الأخر ، لأنه لا دليل عليه ، ولتغاير الحقين ، وتبعه ابن حمزة وابن البراج.

والمشهور في كلام المتأخرين برأيه الأخر ، لأن المقصود تسليمه له وقد حصل ، بل لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي بري‌ء الكفيل من الكفالة ، لحصول الغرض فكيف مع تسليم أحد الكفيلين ـ فإنه أولى.

وتظهر الفائدة لو هرب بعد التسليم الأول ، فعلى المشهور لا حق للمكفول له ، وعلى قول الشيخ ومن تبعه له الرجوع على الكفيل الثاني ، لبقاء حقه عليه ، ثم انه على تقدير القول المشهور هل يشترط في تسليم أحد الكفيلين وحده قصد تسليمه عنه وعن شريكه؟ أم يكفي الإطلاق؟ بل يكفى تسليمه عن نفسه احتمالان : ويأتي مثلهما فيما لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي ، ويأتي مثله أيضا في وجوب قبول المكفول له وقبضه عمن لم يسلم ، إذ لم يجب عليه قبول الحق ممن ليس له عليه أو بدله ـ ومن حصول الغرض وهو التسليم.

وظاهر إطلاق الأصحاب القائلين بهذا القول هو الاجتزاء به مطلقا في هذه المسئلة ، وسيأتي الكلام في ذلك بالنسبة الى غير هذه الصورة.

ولو انعكس الفرض بأن تكفل رجل لرجلين برجل ، ثم سلمه الى أحدهما لم يبرء من الأخر عند الأصحاب ، قالوا : والفرق بين هذه الصورة وسابقتها ـ بناء على القول المشهور من براءة الجميع ـ هو أن عقد الكفالة في هذه الصورة وقع مع اثنين ، فهو بمنزلة عقدين ، كما لو تكفل لكل واحد منهما على انفراده ، وكما لو ضمن دينين لشخصين ، فأدى أحدهما ، فإنه لا يبرء من دين الأخر.

أقول : والأظهر في التنظير انما هو كالمال المشترك بين اثنين في ذمة آخر ، فإنه لا يبرئ بالدفع الى أحد الشريكين ، الا أن يكون وكيلا عن الأخر في القبض ، فيكون المتسلم هنا أصالة من نفسه ، ووكالة عن الأخر. بخلاف الصورة السابقة ، فإن الغرض من كفالتهما إحضاره ، وقد حصل وان كان بفعل أحدهما فتبطل الكفالة لحصول الغرض منها.

الحادي عشر ـ لو قال الكفيل : أبرأت المكفول ، فأنكر المكفول له ، فان كان للكفيل بينة تثبت دعواه فلا اشكال ، وان لم تكن بينة فاليمين من طرف المكفول له فاما أن يحلف على بقاء حقه أو يرد اليمين على الكفيل ،


فان حلف برأ من دعوى الكفيل عليه ، وتثبت الكفالة ، ثم ان جاء الكفيل بالمكفول فادعى البراءة أيضا لم تكف اليمين الأولى التي حلفها المكفول له للكفيل ، بل عليه له يمين أخرى ، لأنها دعوى ثانية لا تعلق له بالدعوى الأولى ، فإن الدعوى الاولى في ثبوت الكفالة وعدمها ، وان لزمها برأيه المكفول لو ثبتت ، والدعوى الثانية في ثبوت الحق وعدمه.

وان رد المكفول له اليمين على الكفيل فحلف برأ من الكفالة ، ولا يبرء المكفول من المال ، وان كان اللازم من يمينه ذلك ، الا أن الدعويين مختلفان ، ولأن الإنسان لا يبرء بيمين غيره.

نعم في صورة الدعوى بين المكفول والمكفول له لو حلف المكفل اليمين المردودة عليه بأنه بري‌ء الذمة من دعوى المكفول له برأ المكفول والكفيل ، لانه متى ثبت بها براءة الذمة بطلت الكفالة ، وان كان قد حلف المكفول له للكفيل أولا على عدم الإبراء ، لسقوط الحق بيمين المكفول وتصير في حكم ما لو أدى الحق فتبرئ ذمته ، وتبطل الكفالة كما ذكرناه.

الثاني عشر ـ قالوا : إذا مات المكفول برأ الكفيل ، وكذا لو جاء المكفول وسلم نفسه الى المكفول له.

أقول : أما الحكم الأول فوجهه واضح ، لان متعلق الكفالة النفس وقد فاتت بالموت ، والإحضار المذكور في الكفالة انما ينصرف الى حال الحياة ، لأنه الفرد الشائع الذي يترتب عليه الأحكام فيحمل عليه الإطلاق.

قال : بعض محققي متأخري المتأخرين ، وكأنه مجمع عليه بين الأصحاب والغرض من ذكره انما هو الرد على بعض العامة ، حيث أوجبوا المال على الكفيل ، الا أنه قال في المسالك : هذا كله إذا لم يكن الغرض الشهادة على صورته ، والا وجب إحضاره ميتا مطلقا ، حيث يمكن الشهادة عليه بأن لا تكون قد تغيرت بحيث لا تعرف ، ولا فرق في ذلك بين كونه قد دفن وعدمه ، لان ذلك مستثنى من تحريم نبشه. انتهى.

أقول : ما ذكره من الفرع المذكور قد نقله العلامة في التذكرة عن بعض الشافعية ، ورده ، ولا بأس بنقل ملخص كلامه في هذه المسئلة في الكتاب قال (قدس‌سره)


إذا مات المكفول به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل شي‌ء عند علمائنا ، ثم نقل ذلك عن جملة من علماء العامة ، ثم نقل عن جملة منهم القول بوجوب المال على الكفيل ، معللين ذلك بأن الكفيل وثيقة على الحق ، فإذا تعذر استيفاء الحق ممن عليه استوفى من الوثيقة كالرهن.

ثم رده بالفرق بين الموضعين المذكورين ، ثم قال : وقال بعض الشافعية : لا تبطل الكفالة ، ولا ينقطع طلب الإحضار عن الكفيل ، وهو أصح قولي الشافعية عندهم ، بل عليه إحضاره ما لم يدفن وقلنا بتحريم النبش لأخذ المال إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على صورته ، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت.

ثم رده بأنه ليس بجيد ، قال : لأن الكفالة على الإحضار إنما يفهم منها إحضاره حال الحياة ، وهو المتعارف بين الناس ـ والذي يخطر بالبال ، فيحمل الإطلاق عليه.

ويمكن كما احتمله بعض المحققين حمل كلامه في المسالك على ما إذا اشترط إحضاره ميتا لأجل الاشهاد في عقد الكفالة.

وأما الحكم الثاني فالظاهر أنه لا إشكال في صحته ، وبرأيه الكفيل لو سلم نفسه تسليما تاما ، لحصول الغرض به بأي نحو كان ، وقيده في التذكرة بما إذا سلم نفسه من جهة الكفيل ، فلو لم يسلم نفسه من جهته لم يبرء الكفيل ، لانه لم يسلمه ، ولا أحد من جهته ، وأطلق في موضع آخر من الكتاب البراءة كما هو ظاهر عبائر كثير من الأصحاب ، وهو الأظهر.

قال في المسالك : وهو أجود ، وبه جزم المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ولو سلمه أجنبي عن الكفيل فلا خلاف ولا اشكال ، ولو لم يكن عنه فالوجهان المتقدمان. وجزم في التذكرة هنا بالتفصيل ، بأنه ان كان عن الكفيل صح وبرئت ذمة الكفيل ، والا فلا ، قال : لانه لا يجب على المكفول له قبوله ، الا أن يكون التسليم صادرا عن اذن الكفيل ، محتجا بعدم وجوب قبض الحق الا ممن هو عليه ، لكن لو قبل برء الكفيل.

قال في المسالك ونعم ما قال : وفي كل هذه الفروع نظر ، وإطلاق المصنف وجماعة يقتضي عدم الفرق ، ولعله أوجه.


وكلام التذكرة مختلف ، وسياقه يقتضي التفريع عند الشافعية ، وأنه لا يرتضيه ، الا أن عبارته وقعت مختلفة.

الثالث عشر ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بترامي الكفالة ، كما تقدم مثله في الضمان والحوالة ، لأنه لما كان ضابط جواز الكفالة ثبوت حق على المكفول وان لم يكن مالا صح كفالة الكفيل من كفيل ثان ، لان الكفيل الأول عليه حق المكفول له ، وهو إحضار المكفول الأول ، وهكذا القول في كفالة كفيل الكفيل ، وهكذا في المرتبة الثالثة وما بعدها ، وهو المراد بالترامي ، الا أنه يختلف حكم الإحضار في هذه المراتب ، فإنه متى أحضر الكفيل الأخير في هذه المراتب المتعددة مكفولة برء من الكفالة خاصة ، وبقي على مكفولة إحضار من كفله ، وهكذا ، ولو أحضر الكفيل الأول مكفوله برء الجميع. لأنهم فروع عليه ، وهكذا لو أحضر الكفيل الثاني الكفيل الأول بري‌ء هو ومن بعده من الكفلاء للفرعية عليه كما عرفت ، ونحو ذلك لو أبرء المكفول له الأول غريمه ، وهو المكفول الأول بري‌ء جميع من تأخر عنه ، لزوال الكفالة بسقوط الحق بالإبراء ، ولو أبرء بعض أصحاب هذه المراتب غيره من حق الكفالة ، بمعنى أنه أسقط عنه حق الكفالة ، برء كل من كان بعده دون من كان قبله.

ومتى مات واحد منهم برء من كان فرعا عليه فبموت من عليه الحق يبرؤن جميعا ، وبموت الكفيل الأول يبرء من بعده ، وبموت الثاني يبرء الثالث ومن بعده دون من يكون قبله ، وهكذا بعد موت الثالث يبرء من بعده ، ولا يبرئ الأولان ، كل ذلك لما عرفت من الفرعية في المتأخر ، فيسري إليه الإبراء دون المتقدم.

وقد تقدم في الضمان والحوالة وقوع الترامي والدور فيهما ، والترامي هنا قد عرفت صحته ، وأما الدور ، فإنه لا يصح هنا ، لان حضور المكفول الأول يوجب براءة من كفله ، وان تعدد ، فلا معنى لمطالبته بإحضار من كفله كذا أفاده شيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقده) في المسالك. والله العالم.

الرابع عشر ـ لا يخفى أنه حيث أن الغرض من الكفالة إحضار ذات المكفول ، فالواجب في عقد الكفالة الإتيان بلفظ يدل على ذلك ، ولا خلاف ولا اشكال فيما


لو قال : كفلت لك فلانا أو أنا كفيل به ، أو بإحضاره ، وفي حكم لفظ ذاته ، لفظ نفسه وبدنه ، لان الجميع بمعنى واحد في العرف العام ، وان اختلفت تحقيقا في الحقيقة.

انما الكلام في مثل لفظ الرأس والوجه ، بأن يقول : كفلت لك برأسه ـ أو بوجهه ، فظاهر جملة من الأصحاب كالعلامة والمحقق وغيرهما ، بل الظاهر أنه المشهور بينهم صحة الكفالة ، لأن هذين اللفظين مما يعبر بهما عن الجملة.

والحق بهما العلامة في التذكرة الكبد والقلب ، وكل عضو لا تبقى الحياة بدونه ، والجزء المشاع كالثلث والربع ، قال : لانه لا يمكن إحضار المكفول الا بإحضاره كله ، وتنظر في ذلك بعض محققي المتأخرين ، قال : أما الأول فإن العضوين المذكورين وان كانا قد يطلقان على الجملة ، الا أن إطلاقهما على أنفسهما خاصة أيضا شائع متعارف ، ان لم يكن أشهر ، وحمل اللفظ المحتمل للمعنيين على الوجه المصحح ـ مع الشك في حصول الشرط وأصالة البراءة من لوازم العقد غير واضح.

نعم لو صرح بإرادة الجملة من الجزء اتجهت الصحة ، كإرادة أحد معنيي المشترك ، كما أنه لو قصد الجزء بعينه لم يمكن الحكم بالجملة قطعا ، بل كالجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه ، وبالجملة فالكلام عند الإطلاق وعدم قرينة تدل على أحدهما ، فعند ذلك لا يصح تعليل الصحة بأنه قد يعبر بذلك عن الجملة.

وأما الثاني وهو الاجزاء التي لا يعيش بدونها وما في حكمها ، فلان إحضاره وان كان غير ممكن بدونها ، الا أن ذلك لا يقتضي صحة العقد ، لان المطلوب من الكفالة هو المجموع ، أو ما يطلق عليه كما في السابق على تقدير ثبوته.

أما إذا تعلق ببعضه فلا دليل على صحته ، وان توقف إحضار الجزء المكفول على الباقي لأن الكلام ليس في مجرد إحضاره ، بل في إحضاره على وجه الكفالة الصحيحة ، فوجوب إحضار ما لا يتعلق به الكفالة يترتب على صحة كفالة الجزء الذي تعلقت به ، وذلك الجزء ليس هو المطلوب شرعا بل في الجملة ، فلا يتم التعليل ، ولا إثبات الأحكام الشرعية المتلقاة من الشرع بمثل هذه المناسبات ،


ولو جاز إطلاق هذه الاجزاء على الجملة مجازا لم يكن ذلك كافيا ، لكونه غير متعارف مع أن المتعارف ما قد سمعت ، وحينئذ فالقول بعدم الصحة أوضح.

وأما الجزء الذي تبقى الحياة بعد زواله ، ولا يطلق عليه اسم الجملة كاليد والرجل فعدم الصحة فيه أشد وضوحا ، كما جزم به بعضهم ، واستشكل فيه في القواعد مما ذكر ، ومن عدم إمكان إحضاره على حالته بدون الجملة ، فكان كالرأس أو القلب ، ولا يبعد القول بالصحة لمن يقول بها فيما سبق وان كان الحكم فيه أضعف. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد وجيه ،

أقول : لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، أن هذه الفروع وما وشحت به من التعليلات كلها من كلام العامة ، وقد تبعهم فيه أصحابنا ، واختلفوا باختلافهم وعللوا بتعليلاتهم ، وهكذا في جملة هذه الفروع الغريبة مما تقدم في الكتب المتقدمة ، وما يأتي كلها انما جروا فيها على نهج أولئك ، فإنه لا يخفى على من طالع مصنفات قدمائنا (رضوان الله عليهم) انهم لا يذكرون غير مجرد الاخبار ، وهذا التفريع وتكثير الفروع في الأحكام الشرعية مبدء كان من الشيخ تبعا لكتب المخالفين في مبسوطه وخلافه ، وتبعه من تأخر عنه نسأل الله عزوجل المسامحة لنا ولهم من زلات الاقدام ، ومداحض الافهام. والله العالم بحقائق الأحكام ونوابه القائمون بمعالم الحلال والحرام.


كتاب الصلح

وهو عقد شرع لقطع التجاذب ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. قال الله عزوجل (١) «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» وقال عزوجل (٢) «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما».

وروى في الكافي عن حفص ابن البختري (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الصلح جائز بين الناس».

وروى في الفقيه مرسلا (٤) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وروى في البحار (٥) نقلا عن كتاب الإمامة والتبصرة مسندا عن مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحديث.

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) سورة الحجرات الآية ٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٥.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٢١ ح ١.

(٥) البحار ج ١٠٣ ـ ص ١٧٨ ـ ح ٢ ـ والوسائل ج ١٣ ص ١٦٤ الباب ٣ من كتاب الصلح.


وروى في الكافي عن هشام بن سالم (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : لأن أصلح بين اثنين أحب الى من أن أتصدق بدينارين.

وعن المفضل (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي».

وعن أبي حنيفة سائق الحاج (٣) قال : من بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا الى المنزل ، فأتينا فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه. قال لنا : أما أنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه‌السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي‌ء أن أصلح بينهما وأفتدى بها من ماله ، فهذا من مال أبي عبد الله (عليه‌السلام). ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام ، وسيأتي شطر منها في بعض الأحكام.

وما ذكرنا هنا من الآيتين وبعض الاخبار وان لم يكن صريحا في هذا العقد المخصوص الذي هو محل البحث في هذا الكتاب ، الا أنه صالح لشموله وإدخاله في ذلك.

إذا عرفت ذلك فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطلبين :

الأول ـ في جملة من الأحكام ، وفيه مسائل الاولى ـ الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أنه لا يشترط في صحة الصلح سبق نزاع ، بل لو وقع ابتداء على عين بعوض معلوم صح ، وأفاد نقل كل من العوضين كما في البيع ، لإطلاق الأدلة الدالة على جوازه من غير تقييد بالخصومة ، كالحديث النبوي المتقدم ، وصحيحة حفص بن البختري المتقدمة. (٤)

وصحيحة محمد بن مسلم (٥) عن الباقر (عليه‌السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي فقال : لا بأس بذلك إذا

__________________

(١ و ٢ و ٣) في الكافي ج ٢ ص ٢٠٩ باب الإصلاح بين الناس ح ٢ أيضا في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٢ ح ١ و ٣ و ٤.

(٤) ص ٨٣.

(٥) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ والوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.


تراضيا ، وصحيحة منصور بن حازم (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين الحديث كما في سابقه وزاد وطابت به أنفسهما.

وصحيحة الحلبي (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) وغير واحد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح ، فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

وصحيحة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعطى أقفزة من حنطة معلومة يطحنها بدراهم ، فلما فرغ الطحان من طحنه نقد الدراهم ، وقفيزا منه وهو شي‌ء اصطلحوا عليه فيما بينهم ، قال : لا بأس به ، وان لم يكن ساعره على ذلك». الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في المراد.

هذا والأصل في العقود الصحة ، للأمر بالوفاء ، لا يقال : انهم قد عرفوه كما قدمنا ذكره بأنه عقد شرع لقطع التجاذب ، وهو مستلزم لتقدم الخصومة ، لأنا نقول : أولا أن الظاهر أن هذا التعريف انما وقع من العامة ، وتبعهم أصحابنا فيه ولهذا ان بعض العامة شرط فيه تقدم الخصومة ، فلا تقوم به حجة في الخروج عن ظواهر الأدلة المشار إليها ، وثانيا أنه مع الإغماض عن ذلك ، فإنه لا يلزم من كون أصل مشروعيته لذلك أنه لا يكون الا كذلك ، الا ترى أنه قد ورد في وجوب العدة وأصل مشروعيتها التعليل باستبراء الرحم ، مع وجوبها في جملة من المواضع المقطوع فيها ببراءة الرحم ، كمن طلق زوجته أو مات عنها بعد مفارقته لها سنين عديدة ، ونحوه ما ورد من تعليل استحباب غسل الجمعة بالتأذى من روائح الأنصار إذا حضروا الجمعة ، فتأذى الناس بريح آباطهم ، فأمروا بالغسل لدفع تأذى الناس بذلك ، مع ما استفاض من استحباب الغسل وان كانت رائحته كرائحة المسك ، الى غير ذلك.

وبالجملة فإن الخلاف في هذا المقام انما هو من العامة ، نعم اختلف أصحابنا في كونه عقدا برأسه أو فرعا على غيره ، فالمشهور الأول وان أفاد في ذلك فائدة غيره

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ و ٢.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١ وص ١٦٦ ح ٣ وص ١٦٩ ح ١.


ومجرد افادته فائدة غيره لا يستلزم فرعيته عليه.

وذهب الشيخ في المبسوط إلى أنه فرع على عقود خمسة ، فجعله فرع البيع إذا أفاد نقل الملك بعوض معلوم ، وفرع الإجارة إذا وقع منفعة مقدرة بمدة معلومة بعوض معلوم ، وفرع الهبة إذا تضمن ملك العين بغير عوض ، وفرع العارية إذا تضمن إباحة منفعة بغير عوض ، وفرع الإبراء إذا تضمن إسقاط دين أو بعضه.

والأصحاب ردوه بأن افادة عقد فائدة عقد آخر لا تقتضي كونه من أفراده ، مع دلالة الدليل على استقلاله بنفسه ، كغيره من العقود.

ويظهر الفرق بين القولين : أنه على المشهور عقد لازم لدخوله في عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وعلى قول الشيخ يلحقه حكم ما ألحق به من العقود في ذلك الفرد الذي ألحق به.

أقول : لا يخفى أن ما ذهب اليه الشيخ هنا قد تبع فيه الشافعي حسبما نقل عنه ، قال في التذكرة : الصلح عند علمائنا أجمع عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، بل أصل في نفسه ، منفرد في حكمه ، ولا يتبع غيره في الأحكام ، لعدم الدليل على تبعية الغير ، والأصل في العقود الأصالة.

وقال الشافعي : انه ليس بأصل منفرد بحكمه ، وانما هو فرع على غيره ، وقسمه على خمسة أضرب ، ضرب فرع البيع ، وهو أن يكون في يده عين أو في ذمته دين فيدعيها انسان فيقر له بها ثم يصالحه على ما يتفقان عليه ، وهو جائز فرع على البيع ، بل هو بيع عنده ، يتعلق به أحكامه.

وضرب هو فرع الإبراء والحطيطة ، وهو أن يكون له في ذمته دين فيقر له به ثم يصالحه على أن يسقط بعضه ، ويدفع اليه بعضه وهو جائز وهو فرع الإبراء.

وضرب هو فرع الإجارة ، وهو أن يكون له عنده دين أو عين فصالحه عن ذلك على خدمة عبد أو سكنى دار فيجوز ذلك ويكون فرع الإجارة.

وضرب هو فرع الهبة ، وهو أن يدعى عليه دارين أو عبدين وشبههما فيقر له بهما ويصالحه من ذلك على إحديهما ، ويكون هبة للأخرى.

وضرب هو فرع العارية ، وهو أن يكون في يده دار فيقر له بها ويصالحه


على سكناها شهرا وهو جائز ويكون ذلك عارية. انتهى.

والعجب من دعوى العلامة هنا الإجماع من أصحابنا أجمع أنه عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، مع ما عرفت من تصريح الشيخ بما نقله عن الشافعي من الفرعية من المواضع الخمسة ، واشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب ، ومنهم هو (قدس‌سره) في المختلف ، حيث نسب فيه القول بالأصالة إلى المشهور ، ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه فرع لغيره.

وكيف كان فهذا القول بمحل من الضعف والقصور ، فالاعتماد على القول المشهور ، لعدم الدليل على هذه الدعوى ، فإن الأصل في جميع العقود من صلح وغيره هو كون ذلك العقد أصلا برأسه ، وجعله في حكم غيره أو فرعيته عليه فيلحقه أحكام غيره يحتاج الى دليل واضح.

ومن هنا أنكر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) كون قول الشيخ في المبسوط بذلك مذهبا له ، وانما هو نقل لقول العامة ، واستند في ذلك الى دعوى الإجماع في التذكرة ، وهو عجيب منه (قدس‌سره) وكأنه لم يلاحظ كتاب المبسوط في هذا المقام ، فان عبارته صريحة في كونه مذهبه ، حيث قال بعد ذكر الأدلة الدالة على مشروعية الصلح من الآيات والروايات : ما صورته فإذا ثبت هذا فالصلح ليس بأصل في نفسه ، وانما هو فرع لغيره ، وهو على خمسة أضرب ، أحدها فرع البيع ، وثانيها فرع الإبراء ، ثم ساق الكلام في هذه الخمسة الى أن قال : إذا ورث رجلان من مورثهما مالا فصالح أحدهما صاحبه على نصيبه من الميراث بشي‌ء يدفعه إليه ، فإن هذا الصلح فرع البيع يعتبر فيه شرائط البيع ، فما جاز في البيع جاز فيه ، وما لم يجز فيه لم يجز فيه ، الا أنه يصلح بلفظ الصلح ، ومن شرط صحة البيع أن يكون معلوما ، ثم ذكر جملة من شروط البيع وأحكامه ، ومنها خيار المجلس الا أنه قال في آخر الكلام ، ويقوى في نفسي أن يكون هذا الصلح أصلا بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، فلا يحتاج الى شروط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيناه فيما مضى ، ثم ساق الكلام في باقي الأقسام ، وكلامه (قدس‌سره) ظاهر بل صريح في كون ذلك مذهبا له ، لا نقلا لمذهب العامة كما توهمه المحقق المذكور.


لكنه كما ترى قد صرح بالرجوع عن ذلك في صورة الفرعية على البيع ، وقال : بأن الأقوى عنده أنه أصل برأسه في هذه الصورة مع اشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب بالفرعية في البيع وغيره ، كما لا يخفى على من وقف على كلامهم ، وكأنهم لم يراجعوا الكتاب المذكور ، واعتمدوا في ذلك على نقل بعضهم عن بعض ، والافاق العبارة كما ترى صريحة في العدول عن مذهبه في هذه الصورة بخصوصها ، فينبغي المراجعة في أمثال هذه المقامات ، وعدم الاعتماد على النقول ، وان كانت من مثل هؤلاء الفحول ، والمعصوم من عصمه الله تعالى فيما يفعل ويقول. والله العالم.

المسئلة الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بصحة الصلح مع الإقرار والإنكار ، إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.

أقول : أما الحكم الأول فلا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : يصح الصلح على الإقرار والإنكار معا سواء كان المدعى به دينا أو عينا عند علمائنا أجمع ، وبه قال أبو حنيفة واحمد انتهى.

وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف يصح مع الإقرار والإنكار ـ هذا عندنا موضع وفاق.

ونبه بذلك على خلاف الشافعي حيث منعه مع الإنكار ، نظرا إلى أنه عاوض على ما لم يثبت له ، فلا تصح المعاوضة ، كما لو باع مال غيره ، ونحن نمنع بطلان المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح ، فإنه عين المتنازع ، والفرق بينه وبين البيع ظاهر ، فان ذلك تصرف في مال الغير بغير إذنه ، بخلافه هنا ، ولان معنى شرعيته عندنا وعنده على قطع التنازع وهو شامل للحالين. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن صحة الصلح مع الإقرار والاعتراف بالمدعى مما لا اشكال فيها لمعلوميته عند صاحبه : ولا فرق بين أن يصالح عنه بأقل ، أو أكثر أو ما ساواه ، للمعلومية في الجميع ، وحصول التراضي من الطرفين.

إنما الإشكال في صورة الإنكار بأن يدعى شخص على غيره دينا أو عينا فينكر المدعى عليه ، فتقع المصالحة بينهما اما بمال آخر ، أو ببعض المدعى أو غير ذلك من منفعة وغيرها ، فإنه باعتبار الإنكار ، واختلاف الخصمين في ذلك نفيا وإثباتا يحتمل أن


يكون المدعى محقا : والمدعى عليه مبطلا في إنكاره ، وأنه مشغول الذمة في الواقع ، فالصلح هنا وان أفاد قطع النزاع بحسب الظاهر ـ وعدم صحة الدعوى بعد ذلك ، لصحته بحسب الظاهر ـ الا أنه لا يفيد براءة ذمة المدعى عليه مما يزيد على مال الصلح ، فيما لو فرض أنه صالحه على أقل مما في ذمته في الواقع ، أو بعض العين أو المال الأخر ، بل يبقى مشغول الذمة بالباقي وانما تبرأ ذمته بقدر ما دفعه خاصة.

وتدل على ذلك صحيحة عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ، ثم صالح ورثته على شي‌ء ، فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وان هو لم يصالحهم على شي‌ء حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به».

حتى أنه لو كانت الدعوى على عين في يده وصالح عنها بأقل من قيمتها فالعين بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له منها مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر. ويحتمل أن يكون المدعى مبطلا والمدعى عليه محقا في إنكاره ، وأنه بري‌ء الذمة في الواقع ، فان الصلح وان صح ظاهرا ، لكنه لا يصح بحسب الواقع ، ولا يستبيح للمدعى ما دفع اليه من مال الصلح ، لأنه أكل مال بالباطل ، والمدعى عليه انما دفعه اليه افتداء من هذه الدعوى الكاذبة ، أو خوف الضرر على نفسه وماله لو لم يفعل ، ومثل هذا لا يعد عن تراض يحصل به الإباحة.

نعم لو كانت الدعوى مستندة الى شبهة وقرينة تخرج بها عن الكذب المحض ، كما لو وجد المدعى بخط مورثه أن له على فلان مالا أو شهد له من لا يثبت الحق بشهادته شرعا ولم يكن المدعى عالما بالحال ، وانما ادعى بناء على هذا الفرض ، وتوجهت له اليمين على المدعى ، فصالحه على إسقاط اليمين بمال أو قطع المنازعة ، فالظاهر هنا صحة الصلح في نفس الأمر ، واستحقاق ما يأخذه من مال الصلح ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أيضا.

وبالجملة فالحكم بالصحة في صورة الإنكار مراد بها ما هو أعم من الصحة

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١١ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٤.


بحسب ظاهر الشرع دون نفس الأمر تارة كما عرفت ، ومن الصحة ظاهرا وواقعا فيما إذا حصل الصلح على مقدار ما في الذمة ، كما في الصورة الاولى (١).

وأما الحكم الثاني وهو قولهم «الا ما أحل حراما أو حرم حلالا» فهو عين ما صرح به الحديث النبوي المتقدم ، وفسر الأصحاب تحليل الحرام بالصلح على استرقاق حر أو استباحة بضع لا سبب لإباحته إلا الصلح ، أو يشربا أو أحدهما الخمر ونحو ذلك.

وبالجملة ما يكون محرما في حد ذاته ، ويراد تحليله وإباحته بالصلح ، وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته أو لا ينتفع بماله ، أو نحو ذلك مما هو حلال له في حد ذاته ، وانما يراد تحريمه بالصلح.

وعلى هذا فالاستثناء متصل ، لان الصلح على هذا باطل ظاهرا وواقعا ، وربما فسر بصلح المنكر على بعض المدعى أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما عالما ببطلان الدعوى : كما تقدم بيانه ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، لما عرفت من الحكم بصحة الصلح هنا ظاهرا ، وانما بطلانه بحسب الواقع ونفس الأمر ، والحكم بالصحة ، والبطلان انما يتوجه الى الظاهر ، فلا يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، ويحتمل كونه متصلا بالنظر الى الواقع ، وهذا المثال يصلح للأمرين معا فإنه محل للحرام بالنسبة إلى الكاذب (٢) ومحرم للحلال بالنسبة إلى المحق. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يصح الصلح مع العلم بالمتنازع فيه وجهله ، دينا كان أو عينا ، وما ذكروه من الصلح مع العلم فلا ريب في صحته ، لارتفاع الجهالة ، وحصول التراضي ، وان كان يبقى الكلام في المبطل منهما باعتبار الاستحقاق واقعا وعدمه ، فيجري فيه ما تقدم في سابق هذه المسألة.

__________________

(١) وهي احتمال ان يكون المدعى محقا والمدعى عليه مبطلا في إنكاره. منه رحمه‌الله.

(٢) فان الكاذب أخذ ما لا يستحقه واقعا بهذا الصلح وصار حلالا له بحسب الظاهر من هذا الصلح ما لا يستحقه واقعا من المال الذي يدعيه. منه رحمه‌الله.


واما مع الجهل فيحتمل أن يكون مرادهم به كما ذكره جملة من المتأخرين ما كان ناشئا عن عدم إمكان العلم ، بحيث يتعذر عليهما استعلامه ، لا مطلقا للزوم الغرر المنهي عنه شرعا ، ولوالدي العلامة (قدس‌سره وروحه ونور ضريحه) في هذا المقام تفصيل حسن ، يحسن ذكره وان طال به زمام الكلام ، فإنه من أهم المهام ، قال (عطر الله مرقده وأعلى في جوار أئمته صلوات الله عليهم مقعده) بعد كلام في المقام : إذا عرفت هذا فنقول الصلح اما ان يقع على معلوم عند المتصالحين أو مجهول عندهما ، أو معلوم عند أحدهما ومجهول عند الأخر.

وعلى الثاني فاما أن يتعذر معرفته مطلقا ، أو في الحال فقط مع إمكان معرفته في وقت آخر. أو يمكن معرفته مطلقا.

وعلى الثالث فالعالم فيه اما أن يكون هو المستحق ، أو من عليه الحق ، فإن كان الأول فاما أن يقع الصلح بأكثر من حقه أو لا ، فان كان الثاني فاما أن يعلم الغريم المستحق بمقدار حقه أو لا ، ومع عدم إعلامه فاما أن يصالحه بأقل من حقه أو لا فهذه تسع صور :

الاولى ـ أن يكون المدعى معلوما عند كل من المتصالحين ، والحكم فيه بالصحة واضح ، لارتفاع الجهالة والغرر فيه ، ولا فرق بين كون المدعى عينا أو دينا ، وكون الصلح بمقدار مال المدعى من الحق أو أقل منه أو أكثر ، مع حصول الرضا الباطني من كل منهما لصحة المعاوضة ظاهرا وباطنا.

الثانية ـ أن يكون مجهولا عندهما وكان مما يتعذر معرفته والإحاطة به منهما مطلقا عينا كان أو دينا كوارث يتعذر العلم بحصته ، ودين غير معلوم الجنس أو الكم ، وقفيز من دقيق حنطة أو شعير ممتزج ، وكصبرة من طعام أتلفها شخص على آخر ، ولم يعلما بقدرها ، ففي هذه كلها يصح الصلح ظاهرا وفي نفس الأمر ويفيد نقل الملك وإبراء الذمة ، وان كان على المجهول كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم).

بل ظاهر عبارة الشهيد الثاني في المسالك الإجماع على جوازه ، وذلك لان إبراء الذمة أمر مطلوب ، والحاجة إليه ماسة ، ولا طريق اليه الا هذا الصلح


ويدل على صحته أيضا عموم الآية كقوله تعالى (١) «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» والاخبار كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة حفص بن البختري (٣) «الصلح جائز بين الناس».

وخصوص صحيحة محمد بن مسلم (٤) عن الباقر (عليه‌السلام) ، وصفوان عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «انهما قالا في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا».

فان الظاهر من الروايات عدم إمكان العلم والمعرفة بقدر ذلك الطعام من كل منهما كما هو واضح.

الثالثة ـ أن يكون مجهولا عندهما ولكن لا يتعذر العلم به ، بل يمكن معرفته مطلقا ، فهذا لا يصلح الصلح عليه قبل العلم به على الأظهر ، لحصول الجهل فيه والغرر الموجب للضرر بالزيادة والنقيصة مع إمكان التحرز عنه ، بل لا بد من العلم به أولا بالكيل في المكيل ، والوزن في الموزون ، والعد في المعدود والذرع في المذروع ، فلو صالحه على صبرة من طعام من غير كيل ولا وزن لم يصح كما قد سبق ، لان الاستعلام فيه ممكن.

وكذا ظرف البر والأرز ، ووعاء التمر ونحوه لا يصلح عليه الا بعد معرفة كيله أو وزنه مثلا ، ومن هذا القبيل الصلح على نصيب شخص من عين أو ميراث مع جهلهما به وإمكان العلم بقدره وتعيينه بعد الملاحظة والمراجعة ، وان كان في الحال ، فان الصلح والحال هذه غير صحيح لا ظاهرا ولا باطنا ، ولا يفيد تمليكا

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٥.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ ـ الفقيه ج ٣ ص ٢١ وذيل رواية منصور وطابت به أنفسهما ح ٢ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٤ ح ٢ و ١ وص ١٦٥ ح ١.


ولا إبراء ، وعموم الآية والاخبار الدالة على جواز الصلح بين المسلمين مخصص بما لا غرر فيه ولا جهالة ، للنهى عن ذلك في الخبر كما عرفته.

الرابعة ـ أن يكون مجهولا عندهما ، والعلم به ممكن في الجملة ، لكنه متعذر لعدم الميزان والمكيال في الحال ، ومساس الحاجة الى الانتقال ، وقد استقرب جمع من الأصحاب منهم الشهيد (قدس‌سره) في الدروس والشيخ المقداد في التنقيح والشهيد الثاني في المسالك صحة الصلح ، والحال هذه ، ووجهه تعذر العلم به في الحال مع اقتضاء الضرورة ، ومساس الحاجة لوقوعه ، والتضرر بتأخيره وانحصار الطريق في نقله فيه مع تناول عموم الآية ، والاخبار السالفة.

ومن هذا القبيل أيضا الصلح على نصيب شخص من ميراث أو عين يتعذر العلم بقدره في الحال ، مع إمكان الرجوع في وقت آخر إلى فرضي أو عالم به مع مسيس الحاجة الى نقل النصيب في الحال.

الخامسة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق ومعلوما عند الأخر ، وهو من عليه الحق ولم يعلمه بقدره ، وصالحه بأقل من حقه ، وذلك كتركة موجودة يعلمها الذي هو في يده ويجهلها الأخر ، وكذا كل من له نصيب من ميراث أو غيره لا يعلم به ، ويعلم به خصمه إذا صالحه بأقل منه من غير اعلامه ، سواء كان من عليه الحق منكرا ظاهرا أو مقرا بمقدار ما صالح به أو أقل منه ، فان الصلح حينئذ غير صحيح ، والمعاوضة في نفس الأمر باطلة ، والواجب عليه اعلام صاحب الحق ، فإن رضي بالصلح بالأقل ، والا وجب إيصال حقه اليه بتمامه ، فأما الصلح قبل الاعلام فهو حرام ، لا يثمر تمليكا ـ لو كان المدعى عينا ـ ولا إبراء من الباقي لو كان دينا حتى لو صالح على العين بمال آخر فهي بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر.

والذي يدل على عدم صحة هذا الصلح وجوازه ـ مضافا الى ما فيه من الغرر والخدع المنهي عنه وكونه من قبيل الصلح الذي أحل حراما وحرم حلالا ـ ما رواه على بن أبي حمزة (١) قال : «قلت لأبي الحسن» (عليه‌السلام) : رجل يهودي

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ٣ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٢.


أو نصراني كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات ، أيجوز لي ان أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال : لا يجوز حتى تخبرهم». ونحوها صحيحة عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ثم صالح ورثته على شي‌ء : فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة الحديث». وموثقته (٢) أيضا» وقال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه». نعم هذا الصلح مع فساده وعدم صحته في نفس الأمر ، هو صحيح بحسب ظاهر الشرع ، كما صرح به جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ على بن عبد العالي في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في شرح الشرائع ، فيحكم به على كل واحد منهما ، ولا يجوز لهما الخروج عن مقتضاه ظاهرا ، لعدم العلم بكون من عليه الحق مبطلا في صلحه خادعا فيه ، واحتمال كونه محقا فيكون حاله مشتبها ، فلا يكون صلحه باطلا في الظاهر ـ وان كان على مجهول.

نعم لو انكشف أمره ظاهرا بعد الصلح ، بحيث علم مقدار المدعى ، أو زيادته على ما صالح عليه ، أو اعترف هو بذلك اتجه بطلان الصلح حينئذ ظاهرا أيضا ، ووجب عليه تسليم المدعى ظاهرا لظهور شغل ذمته ، وبطلان المعاوضة ظاهرا وباطنا ، هذا إذا لم يكن من له الحق قد رضى باطنا بالصلح بالأقل ، أما لو رضى به باطنا كان الصلح صحيحا في نفس الأمر حينئذ كما قطع به العلامة (قدس‌سره) في التذكرة ، وحينئذ فلا يجوز له أخذ ما زاد عن مال الصلح ، وان علم الزيادة لحصول الرضا منه باطنا بذلك الأقل عوضا عن حقه ، وان كثر فيكون العبرة في إباحة الباقي بالرضا الباطن ، لا بالصلح.

ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١١ والكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٦ و ٧ و ٨.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ ح ٤ وص ١٥٣ ح ١ وص ١٦٦ ح ٣.


فهي دالة بإطلاقها الشامل لذلك كما هو ظاهر.

السادسة ـ ان يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولم يعلم قدره لكن صالحه بمقدار حقه أو أكثر ، وقد صرح جمع من الأصحاب منهم الشهيد الثاني في شرح الشرائع بصحة الصلح حينئذ ، وان كان على مجهول ، لانتفاء الغرر والخدع فيه ، مع أن العبرة بوصول حقه اليه لا بالصلح ، وأما اشتراط الاعلام في صحة الصلح كما في خبر على بن أبي حمزة السالف فالظاهر أنه مخصوص بما إذا أريد الصلح بالأقل ، لأنه مظنة الغرر والخدع ، فمع وقوع الاعلام بقدره ينتفي الغرر والخدع رأسا أما مع المصالحة بتمام الحق أو أكثر منه فلا خدع فيه قطعا ، فلا يجب فيه الاعلام مع دخوله في عموم الأدلة الدالة على جواز الصلح بين المسلمين.

السابعة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولكن أعلمه بقدره ولا شك في جواز الصلح وصحته حينئذ ، سواء صالحه بمقدار حقه أو بأقل مع الرضا به لحصول العلم وارتفاع الجهالة وحصول الرضا ، وعموم أدلة جواز الصلح. والله العالم.

الثامنة : أن يكون معلوما عند المستحق مجهولا عند الأخر فصالحه بأكثر من حقه الذي له في الواقع ، لقصد التخلص من دعواه لم يصح هذا الصلح في نفس الأمر ، ولم يستبح به ما زاد عن حقه الذي له في الواقع ، لبطلان المعاوضة في نفس الأمر ، وان كانت صحيحة بحسب ظاهر الشرع ، كما سبق نظيره ، فالظاهر أن ذلك باطل مع عدم الرضا الباطني من الغريم ، لكونه حينئذ من قبيل أكل المال بالباطل ، أما مع رضاه بالصلح كذلك باطنا فالظاهر صحة الصلح حينئذ ، واباحة ذلك للزائد عن حقه لطيب نفسه به ، والظاهر أن العبرة حينئذ في إباحة ذلك الزائد بالرضا به ، لا بالصلح كما سبق مثله.

التاسعة ـ الصورة بحالها ولكن صالحه بقدر حقه أو أنقص ، ولا شك في صحة الصلح فيها ظاهرا وباطنا. والله العالم. انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه ، ورفع فيها مقامه.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من هذه الصور التسع بالتقريبات التي ذيلها


بها ظاهر ، الا أن ما ذكره في الصورة الثالثة مما يمكن تطرق المناقشة إليه ، فإن مرجع استدلاله الى تخصيص عمومي الآية والاخبار ـ الدالة على صحة الصلح في مثل هذه الصورة ـ بالأخبار الدالة على النهى عما يشتمل على الغرر والجهالة في المعاوضة.

والتحقيق أن يقال : لا ريب أن هنا عمومين قد تعارضا ، وهما عموم أخبار الصلح الدال على دخول مثل هذه الصورة ، وعموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة الشامل للصلح وغيره من المعاوضات ، وليس تخصيص عموم أخبار الصلح ـ بعموم أخبار النهي عن الغرر ليتم ما ذكره ـ بأولى من تخصيص عموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة بأخبار الصلح ، فيقال : حينئذ بصحة الصلح في هذه الصورة وان استلزم الغرر والجهالة كما أن ذلك حاصل في الصورة الثانية والرابعة ، ولا بد لترجيح أحدهما على الأخر من دليل ، ويمكن ترجيح الثاني بظهور عموم أخبار الصلح مع تكاثرها وتعددها على وجه يشمل الصورة المذكورة ، بخلاف ما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فانا لم نقف فيه على رواية صريحة ، وان تكرر دورانه في كلامهم ، وتداول على رؤوس أقلامهم.

وقد تقدم في كتاب البيع قول جملة من الأصحاب بصحة بيع المجهول في جملة من المواضع ، ودلت جملة من الاخبار على الصحة أيضا في مواضع ، وقد حققنا البحث ثمة على وجه يظهر منه أنه ليس ذلك بقاعدة كلية ، ولا ضابطة جلية كما ادعاه جملة منهم ، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هنا هو ترجيح عموم أخبار الصلح وإبقائها على عمومها ، والتخصيص فيما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فإنه إذا ثبت صحة العقد مع الجهل والغرر في البيع الذي هو أكثر شروطا وأضيق مدخلا ثبت في الصلح بطريق أولى ، لأنه موضوع على المسامحة والمساهلة ، ولأن العمدة فيه كما هو المفهوم من أخباره هو التراضي من الطرفين ، اما ظاهرا وباطنا. فيصح حينئذ كذلك أو ظاهرا خاصة فتختص الصحة بالظاهر ، والتراضي في موضع النزاع حاصل ظاهرا وباطنا.

ويؤيد ما قلناه ما هو ظاهر من كلام جملة من متقدمي المتأخرين كالمحقق والعلامة وغيرهما من الحكم بصحة الصلح مع العلم والجهل مطلقا ، كما قدمناه


في صدر المسئلة.

قال في التذكرة : لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدرا ولا جنسا ، بل يصح سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه ، دينا كان أو عينا ، وسواء كان إرثا أو غيره عند علمائنا أجمع ، ثم استدل بالأدلة العامة من آية ورواية على صحته مع الجهل ، ولم يفصل في أثناء كلامه بين ما يمكن استعلامه وما لا يمكن ، وهو ظاهر فيما قلناه.

والأظهر منه ما صرح به المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : ولا بد أن يكون معلوما ليندفع الغرر ، ولكن الظاهر أنه يكفى العلم به في الجملة. اما بوصفه أو بمشاهدته ، ولا يحتاج الى الكيل والوزن ومعرفة أجزاء الكرباس والقماش والثياب ، وذوق المذوقات وغير ذلك مما يعتبر في البيع ونحوه ، للأصل وعدم دليل واضح على ذلك ، وعموم أدلة الصلح المتقدم ، ولان الصلح شرع للسهولة والإرفاق بالناس ليسهل إبراء ذمتهم ، فلا يناسبه الضيق ولانه مبنى على المسامحة والمساهلة ، واليه أشار بقوله ويكفي المشاهدة في الموزون وان خالف فيه البعض.

قال في الدروس : والأصح أنه يشترط العلم في الموضعين إذا أمكن ، وقال في موضع آخر : ولو تعذر العلم بما صولح عليه جاز ، الى قوله : ولو كان تعذر العلم لعدم المكيال والميزان في الحال ومساس الحاجة الى الانتقال ، فالأقرب الجواز وهو مختار شارح الشرائع أيضا ، ولا نعرف له دليلا ، وما تقدم ينفيه ، ويؤيده التجويز عند التعذر ، فان ذلك لا يجوز في البيع عندهم ، فتأمل ، انتهى. ثم أمر بالاحتياط وهو كما ترى أظهر ظاهر فيما ادعيناه مؤيد لما قدمناه.

وبالجملة فالظاهر هو الصحة في الصورة المذكورة لما عرفت ، والاحتياط لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الرابعة ـ لا يخفى أن أركان الصلح أربعة ، المتصالحان ، والمصالح عليه ، وهو مال الصلح ، والمصالح عنه ، وهو المتنازع فيه لو كان ثمة نزاع.

أما المتصالحان فإنه لا خلاف كما نقله في التذكرة في أنه يشترط فيهما


الكمال ، بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا جائز التصرف فيما وقع الصلح عليه.

وأما المصالح عليه فإنه يشترط فيه صحة التملك ، فلو كان خمرا أو خنزيرا أو استرقاق حر أو إباحة بضع محرم قبل ذلك لم يصح ، لما تقدم في الحديث النبوي وكما لا يقع هذه الأشياء مالا للصلح لا يقع مصالحا عنه ، والجميع محرم بما تقدم من النص النبوي.

ومن شرائطه العلم بما يقع الصلح عنه عند بعض كالشهيدين في الدروس والمسالك ، وقد تقدم الكلام فيه.

ومن شروطه رضا المتصالحين ، فلا يقع مع الإكراه إجماعا ، كغيره من العقود ولقوله عزوجل (١) «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» فما لم يكن عن التراضي فإنه أكل مال بالباطل ، ومن صور الإكراه ما لو كان له على غيره حق مالي فأنكره المديون ، فصالحه المالك على بعضه ، توصلا إلى أخذ بعض حقه ، فإنه وان صح الصلح ظاهرا الا أنه لا يصح واقعا ، ولا تحصل به براءة ذمة المديون من الحق الباقي في ذمته ، سواء عرف المالك قدر الحق أم لا ، وسواء ابتدء المالك بطلب الصلح أم لا ، وقد تقدم تحقيق ذلك في الصور المتقدمة في سابق هذه المسئلة.

ومتى استكملت شروطه صار لازما من الطرفين عملا بعموم أدلة الوفاء بالعقود المقتضى لذلك الا ما خرج بدليل من خارج ، ويجي‌ء على قول الشيخ الجواز في بعض موارده ، كما إذا كان فرع العارية التي هي جائزة ، والهبة على بعض الوجوه وقد عرفت ضعفه ، نعم لو اتفقا على فسخه بمعنى الإقالة من ذلك العقد كما في البيع وأوقعا صيغة التقابل انفسخ.

المسئلة الخامسة ـ إذا وقع الصلح بين شريكين على أن يكون الربح والخسران على أحدهما ، وللآخر رأس ماله صح ، والأصل في هذا الحكم ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين وعليهما دين ، فقال أحدهما لصاحبه :

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ ح ١ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٧ ـ الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٧ ـ الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.


أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله عزوجل فهو رد الى كتاب الله عزوجل ، ورواه في الفقيه والتهذيب ، الا أنه قال : «وكان من المال دين وعين» ،. ولم يقل وعليهما دين ورواه في التهذيب بسند آخر عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال دينا». ولم يذكر العين ولا عليهما دين ، ورواه في التهذيب أيضا بسند آخر عن داود الأبزاري (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال عينا ودينا» ،. قال في المسالك بعد قول المصنف (قدس الله روحهما) نحو ما قدمنا من العبارة المذكورة ما هذا لفظه : هذا إذا كان عند انتهاء الشركة وارادة فسخها لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء ، أما قبله فلا لمنافاته وضع الشركة شرعا والمستند صحيحة أبي الصباح ، ثم ساق الرواية المذكورة الى أن قال : وهذا الخبر مشعر بما شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء ، لا كما أطلقه المصنف. انتهى.

أقول : وقد تقدمه في ذلك المحقق الشيخ على في شرح القواعد ، فإنه قيد إطلاق عبارة المصنف فقال بعد ذكرها هذا إذا انتهت الشركة وأريد فسخها ، وللمناقشة في ذلك مجال ، فإنه لا يخفى أنه وان كان هذا الشرط مما ينافي الشركة الا أن هذا شأن أكثر الشروط ، فان مقتضى عقد البيع اللزوم من الطرفين ، فلا يجوز لأحدهما فسخه بغير سبب موجب ، مع أنه يصح لأحدهما اشتراط خيار الفسخ بلا خلاف ، ولا ريب أنه مناف لمقتضى العقد الذي هو اللزوم من الطرفين (٣) ودعوى أن في

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٥٣ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

(٣) قال في الدروس : لو اصطلح الشريكان عند ارادة الفسخ جاز أن يأخذ أحدهما رأس ماله ، والأخر الباقي ربح أو توى للرواية الصحيحة ولو جعل ذلك في ابتداء الشركة ، فالأقرب المنع ، لمنافاته موضوعها والرواية لم تدل عليه ، انتهى ، أقول فيه ما عرفت في الأصل من ثبوته بالأخبار الدالة على وجوب الوفاء بها وان نافى موضوع الشركة فإنه بمنزلة الاستثناء فيه كما عرفت من مثال خيار الفسخ في البيع المنافي لمقتضى البيع وهو اللزوم من الطرفين وقد تقدم في كتاب البيع ما يشير الى ما ذكرناه ايضا. منه رحمه‌الله.


الرواية إشعار بما شرطه من ان ذلك القول عند انتهاء الشركة ، وارادة فسخها ـ ممنوع فإن غاية ما تدل عليه كون هذا الشرط وقع بعد الشركة والعمل بالمال المشترك ، حتى صار بعضه أو كله دينا ، وهذا لا يلزم منه ارادة الفسخ ، وأنه آخر الشركة ، بل يمكن أن يكون هذا الكلام وقع في الأثناء بأنهم لما اشتركوا على العمل بذلك المال بمقتضى الشركة من كون الزيادة للجميع ، والنقص على الجميع ، اشترط بعضهم هذا الشرط في الأثناء واستمروا على الشركة بهذا الشرط ، ولعل في قوله (عليه‌السلام) «لا بأس إذا اشترطا» ما يشير اليه ، بمعنى أنه لا بأس بالشركة على هذا الوجه ، فيستمران على العمل بالشركة على هذا الوجه الذي اشترط ، والا فلو كان المراد انما هو ما ذكره من أن هذا القول عند انتهاء الشركة وارادة فسخها ، فإنه لا وجه للتعبير بالشرط ، بل كان ينبغي أن يقول لا بأس إذا تراضيا بذلك ، فان لفظ الشرط انما يناسب استمرار العقد ، بأن يكون العقد باقيا بهذا الشرط ، لا انقطاعه وتمامه كما لا يخفى. وبذلك يظهر صحة إطلاق من أطلق في العبارات المذكورة والله العالم.

المسئلة السادسة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الكتاب أحكاما لا أعرف لذكرها فيه وجها ، لعدم صدق العنوان فيها ، وانما ذكرتها تبعا لهم في المقام.

منها أنه لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما ، وادعى الأخر أحدهما كان لمدعيهما معا درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ،

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن عبد الله بن المغيرة (١) عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الأخر : هما بيني وبينك فقال : اما الذي قال : هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وانه لصاحبه ويقسم الأخر بينهما.

وما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن أبي حمزة (٢) عمن ذكره

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٢ ح ٨ ـ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١٢.

(٢) المصدر ص ٢٩٢ ح ١٦ وهما في الوسائل ج ١٣ ص ١٦٩ : الباب ٩.


عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله بأدنى تفاوت ، والمراد بكون الدرهمين معهما كما تضمنه الخبران هو كونهما تحت يديهما معا ، ليتساويا في الدعوى ، فلو كانا في يد مدعى الدرهمين لقدم قوله فيهما بيمينه ، ولو كانا في يد مدعى الدرهم لقدم قوله فيه بيمينه وأما إذا كانا في يديهما معا فالحكم ما ذكره (عليه‌السلام).

والوجه في أحد الدرهمين واضح ، لان مدعى الدرهم قد اعترف لصاحبه بأنه لا يستحق من الدرهم الثاني شيئا ، وانما يبقى النزاع بينهما في درهم ، وكل منهما يدعيه ، وقد حكم عليه‌السلام بالقسمة بينهما أيضا ، وحينئذ فلمدعي الدرهمين درهم ونصف ، أما الدرهم فلاعتراف صاحبه له به ، وأما النصف من الدرهم الثاني فمن حيث حكمه (عليه‌السلام) في الدعوى على هذه الكيفية بالقسمة انصافا.

ويستفاد منه كون الحكم كذلك في كل عين ادعاها اثنان مع إثبات يديهما عليهما ولا بينة ، أو يكون لكل منهما بينة ، الا أنه لا رجحان لإحديهما على الأخرى وظاهر الرواية المذكورة وكذا كلام جملة ممن ذكر المسئلة هو أن الدرهم يقسم بينهما انصافا من غير يمين.

والمفهوم من كلام جملة من المتأخرين أنه لا بد من أن يحلف أولا كل منهما للآخر على استحقاق النصف ، ومن نكل من أحدهما قضى به للآخر ، ولو نكلا معا أو حلفا قسم بينهما نصفين ، بل صرح بذلك في التذكرة فقال : لو كان في يد شخصين درهمان فادعاهما أحدهما وادعى الأخر واحدا منهما اعطى مدعيهما معا درهما وكان الأخر (١) بينهما نصفين ، لان مدعى أحدهما غير منازع في الدرهم الأخر فيحكم به لمدعيهما ، وقد تساويا في دعوى أحدهما يدا ودعوى فيحكم به لهما.

هذا إذا لم يوجد بينة ، والأقرب أنه لا بد من اليمين فيحلف كل واحد منهما على استحقاق نصف الأخر الذي تصادم دعواهما فيه ، فمن نكل منهما قضى به للآخر ، ولو نكلا معا أو حلفا معا قسم بينهما نصفين لما رواه عبد الله بن المغيرة ، ثم ساق الرواية كما قدمناه. انتهى.

__________________

(١) أى الدرهم الأخر الذي هو محل الدعوى. منه رحمه‌الله.


وظاهره حمل إطلاق الخبر على هذا التفصيل الذي ذكره حيث أنه مقتضى القواعد عندهم ، وقال في الدروس بعد فرض المسئلة وان في الرواية المشهورة للثاني نصف درهم ، والباقي للأول ما لفظه ويشكل إذا ادعى الثاني النصف مشاعا فإنه يقوى القسمة نصفين ، ويحلف الثاني للأول وكذا كل مشاع. انتهى.

قال بعض الأفاضل (١) : وكأن نظره (٢) على أن النصف في الحقيقة بيد الأول والنصف بيد الثاني ، فمدعى التمام خارج بالنسبة الى الثاني ، فيكون البينة على الأول واليمين على الثاني ، لكن العدول عن الرواية المعتبرة مشكل ، وسيأتي إنشاء الله تعالى في لاحق هذه المسئلة ما فيه مزيد إيضاح للمقام.

ومنها ما لو أودعه إنسان دينارين وآخر دينارا وامتزج الجميع ثم تلف أحد الدنانير الثلاثة ، فإن الحكم هنا كما في سابق هذه المسئلة ، لما رواه

في الفقيه والتهذيب عن السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) «في رجل استودع رجلا دينارين واستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها فقضى أن لصاحب الدينارين دينارا ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين».

وجملة من المتأخرين قيدوا الحكم المذكور بما إذا كان امتزاج الدنانير وكذا ضياع أحدهما بغير اختيار ولا تفريط من الأمين ، والا لكان ضامنا ، فيخرج

__________________

(١) هو الفاضل الخراساني في الكفاية. منه رحمه‌الله.

(٢) قوله وكأن نظره الى آخره ، أقول : توضيحه هو أنه من حيث كون الدرهمين في يديهما معا فكان الأمر يرجع في الحقيقة الى أن درهما في يد الأول وهو مدعى الدرهمين ، ودرهما في يد الثاني وهو مدعى الدرهم ، وحينئذ فمدعى الدرهمين خارج لكون ما يدعيه من الدرهمين ، ليس في يده ، وانما في يده واحد خاصة فيكون عليه البينة من حيث كونه خارجا ، واليمين على الثاني من حيث كونه منكرا لدعوى الدرهمين فيقدم قوله بيمينه ، فإذا حلف على نفى استحقاقه الدرهمين بقي الأخر بينهما انصافا أيضا ، قال : وهكذا في كل مشاع كما ذكر الشهيد ، ومنها لو كان في يديهما ثوب ادعاه أحدهما كملا وادعى الأخر نصفه ، فإنه يقدم قول الأخر بيمينه ويقسم الثوب بينهما انصافا ، والوجه في قسمة الدرهم الباقي إنصافا بعد التمثيل أنه قد سقط دعوى صاحب الدرهمين باليمين ، والأخر انما يدعى درهما خاصة ، وهو يتضمن الإقرار لصاحبه بدرهم ، فيبقى الدرهم الأخر بينهما. منه رحمه‌الله.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٣ ح ١٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨١ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٧١ ح ١.


عن محل المسئلة ، لأنها بعد تضمينه يقتسمان بغير كسر وهو حسن ، قال في التذكرة فإن كان بغير تفريط في الحفظ ولا في المزج بأن أذن له في المزج أو حصل المزج بغير فعله ولا اختياره ، فلا ضمان عليه ، لأصالة البراءة ، ولو فرط ضمن التالف.

وقال في الدروس بعد ذكر هذه المسئلة على أثر سابقتها : وهنا الإشاعة ممتنعة ، ولو كان ذلك في اجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا ، ولم يذكر الأصحاب في هاتين المسئلتين يمينا ، وذكروهما في باب الصلح فجاز أن يكون ذلك الصلح قهريا ، وجاز أن يكون اختيارا. فان امتنعا فاليمين. انتهى.

أقول : أما قوله «ولم يذكر الأصحاب في هاتين المسئلتين يمينا» فان فيه أن ما قدمنا نقله عن التذكرة ، في المسئلة السابقة صريح في اختياره اليمين ثمة ، والظاهر أنه غفل عن الوقوف عليه في الكتاب المذكور ، وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه منهم الشهيد الثاني وغيره.

نعم لم أقف على من ذكر اليمين هنا وبذلك اعترف في المسالك أيضا.

وأما ما ذكره من أن الأصحاب ذكروهما في باب الصلح فجاز أن يكون الصلح قهريا ، ففيه ما قدمنا ذكره في صدر المسئلة من أن إيرادهما في هذا الباب لا وجه له بالكلية ، لعدم انطباق العنوان عليهما ، وعدم جريان الشروط فيهما ، بل ظاهر الروايات المذكورة هو كونه صلحا قهريا كما احتمله وأنه ليس من باب الصلح الاختياري الذي هو موضوع هذا الباب.

وأما قوله «ولو كان ذلك في أجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا» فتوضيحه أنه لو كان بدل الدنانير المفروضة في هذه المسئلة ما يمتزج أجزاؤه مع تساوى الاجزاء بحيث لا يتميز كالحنطة أو الشعير أو الأرز أو نحوها ، فأودعه أحد قفيزين من حنطة مثلا واستودعه الأخر قفيزا منها أيضا ، فامتزج الجميع وتلف قفيز منها بعد الامتزاج فإنهم قالوا أنه يقسم المال التالف على نسبة المالين ، وكذا الباقي فيكون لصاحب القفيزين قفيز وثلث قفيز ، ولصاحب القفيز ثلثا قفيز ، والفرق ظاهر ، لان الذاهب هنا عليهما معا من حيث الامتزاج ، وتساوى الاجزاء بخلاف الدنانير ، فان الذاهب مختص بأحدهما ، أما صاحب الدينارين ، أو صاحب الدينار.


بقي الإشكال هنا من وجه آخر ، كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني ، قال في المسالك بعد ذكر المسئلة : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، ومستنده رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) ويشكل الحكم ـ مع ضعف المستند ـ بأن التالف لا يحتمل كونه بينهما بل هو من أحدهما خاصة ، لامتناع الإشاعة هنا والموافق للقواعد الشرعية القول هنا بالقرعة ، ومال إليه في الدروس الا أنه تحاشي عن مخالفة الأصحاب ، ومقتضى الرواية أنه يقسم كذلك وان لم يتصادم دعواهما في الدينار ، وأنه لا يمين ، وكذا لم يذكر الأصحاب هنا يمينا ، بناء على كون الحكم المذكور قهريا كما ذكروه في المسئلة السابقة ، وربما امتنعت اليمين هنا ، إذا لم يعلم كل منهما بعين حقه. انتهى. وهو جيد.

وبالجملة فالظاهر من روايات المسئلتين المذكورتين أن الحكم المذكور فيهما قهري غير مشروط بشي‌ء من القيود التي ذكروها من يمين وغيرها والله العالم.

ومنها أنه لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين درهما ثم اشتبها فان خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه وان تعاسرا بيع الثوبان وقسم الثمن بينهما ، وأعطى صاحب العشرين سهمين من الثمن ، وصاحب الثلاثين ثلاثة أسهم.

والمستند في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن إسحاق بن عمار (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» في الرجل يبعضه الرجل ثلاثين درهما في ثوب وآخر عشرين درهما في ثوب ، فبعث بالثوبين ولم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه قال : يباع الثوبان فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن ، والأخر خمسي الثمن قال : فقلت : فان صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين. اختر أيهما شئت ، قال : قد أنصفه».

وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فذهب الشيخ وجماعة منهم المحقق وغيره الى الوقوف على ما دلت عليه الرواية ، وذهب ابن إدريس إلى العمل بالقرعة ، قال بعد ذكر المسئلة : ان استعملت القرعة كان أولى للإجماع على أن كل أمر ملتبس فيه القرعة ، وهذا من ذاك ، واليه يميل كلام شيخنا الشهيد

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣ ح ١١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٠٨ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٧٠ ح ١.


الثاني في المسالك.

ورده العلامة في المختلف فقال بعد نقل ذلك عنه : وليس بجيد ، إذ لا اشكال مع ورود النقل ايضا ، وهذا المجموع بضاعة لشخصين لكل واحد منهما قدر معين ، فيباع ويبسط الثمن على نسبة المالين كغيرهما من الأموال ، وكما لو اشتراهما بالشركة مع الإذن ، فإن الشركة قد تحصل ابتداء ، وقد تحصل بالمزج الموجب للاشتباه كما هي هنا ، وإذا كانا شريكين كان لكل منهما بقدر رأس المال الذي له كما لو امتزج الطعامان.

ونقل في المسالك عن العلامة هنا القول بالتفصيل (١) فقال : ان أمكن بيعهما منفردين وجب ، ثم ان تساويا فلكل واحد منهما ثمن ثوب ولا اشكال ، وان اختلفا فالأكثر لصاحبه ، وكذا الأقل بناء على الغالب وان أمكن خلافه ، الا أنه نادر لا أثر له شرعا وان لم يمكن صارا كالمال المشترك شركة اختيارية ، كما لو امتزج الطعامان فيقسم الثمن على رأس المال ، وعليه تنزل الرواية.

واعترضه في المسالك بأن ما ذكره من البناء على الغالب ليس أولى من القرعة ، لأنها دليل شرعي على هذه الموارد ، ومن الجائز اختلاف الأثمان ، والقيم بالزيادة والنقصان لاختلاف الناس في المساهلة والمماكسة.

أقول : فيه ما قدمنا نقله عن العلامة في رده لكلام ابن إدريس من أن موضوع القرعة كل أمر مشكل ، والحال أنه لا اشكال بعد ورود النص بالحكم المذكور ، وبه يظهر ضعف قوله «لأنها دليل شرعي على هذه الموارد» ، وأن البناء على الغالب في موارد الأحكام الشرعية ، من القواعد الكلية المتفق عليها في كلامهم ، والمتداولة على رؤس أقلامهم.

__________________

(١) أقول : ما نقله عنه من التفصيل قد جعله في المختلف أحد الاحتمالين حيث أنه بعد الرد على ابن إدريس مما نقلناه في الأصول قال : إذ نقول ان كان الثوبان متساويين فلكل واحد منهما ثوب ، إذ قد اشترى بمال كل منهما ثوبا بانفراده ، وان تفاوتا أعطى صاحب الثلاثين الأجود منهما إذ الظاهر ذلك وان جاز خلافه فهو نادر لا اعتبار في نظر الشرع له ، فالقرعة لا وجه لها البتة كما توهمه ابن إدريس. انتهى وهو تقرير لما نقله عنه في المسالك بنوع آخر وان رجع في المعنى الى ما نقله. منه رحمه‌الله.


ثم انه قال في المسالك : وعلى تقدير العمل بالرواية يقصر حكمها على موردها ، ولا يتعدى الى الثياب المتعددة ، ولا الى غيرهما من الأمتعة والأثمان ، مع احتماله لتساوى الطريق.

واستقرب في الدروس القرعة في غير مورد النص. وهو حسن ، ولو قيل به فيه كما اختاره ابن إدريس كان حسنا أيضا انتهى.

أقول : ذهاب ابن إدريس إلى القرعة هنا ـ بناء على أصله الغير الأصيل من رد الأخبار بأنها أخبار آحاد لا يفيد علما ولا عملا جيد ، أما على مذهبه (قدس‌سره) فهو غير جيد ، ولهذا أنه قال أولا في صدر كلامه بعد نقل قول الشيخ وقول العلامة بالتفصيل ، ما صورته : وأنكر ابن إدريس ذلك كله ، وحكم بالقرعة ، لأنها لكل أمر ملتبس ، وهو هنا حاصل ، وهو أوجه من الجميع ، لو لا مخالفة المشهور ، وظاهر النص مع أنه قضية في واقعة يمكن قصره عليها ، والرجوع الى الأصول الشرعية انتهى.

وهو ظاهر في التوقف من حيث النص ، ولكنه هنا عدل عن ذلك ، وهو غير جيد لما عرفت ، وبالجملة فالأظهر الوقوف على النص المذكور في مورده ، والقول بالقرعة فيما خرج عن مورد الخبر كما اختاره في الدروس واستحسنه في المسالك وكيف كان فان الصلح هنا بمقتضى العمل بالخبر قهري ، كما في سابقيه.

والله العالم.

المسئلة السابعة ـ لو صالحه على عين بعين أو على منفعة بمنفعة أو على عين بمنفعة أو بالعكس صح ، والوجه فيه أن الصلح لما كان مفاده مفاد غيره من العقود المتقدمة ، وتلك العقود المشار إليها متعلق بعضها العين ومتعلق بعضها المنفعة لم يمتنع صحة الصلح كذلك ، بل لا يختص جوازه بما ذكر ، فلو صولح على إسقاط خيار ، أو على إسقاط حق أولوية تحجير في سوق أو مسجد ، صح أيضا بعين أو منفعة لعين ما ذكر.

وكيف كان فلو بان أن أحد العوضين كان مستحقا بطل الصلح ، إذا كان ذلك العوض معينا في العقد ولو كان مطلقا رجع ببدله ، قالوا : ولو ظهر فيه عيب فله الفسخ وفي تخيره بينه وبين الأرش وجه.


قال في المسالك : ولو ظهر غبن لا يتسامح بمثله ففي ثبوت الخيار وجهان : أجودهما ذلك دفعا للإضرار وان لم يحكم بالفرعية وهو خيرة الدروس ، وقد تقدم في خيار الغبن من البيع انه لا نص عليه بالخصوص فيمكن استفادته هنا كما استفيد هناك من الأدلة العامة انتهى.

المسألة الثامنة ـ لو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم فعلى المشهور من أن الصلح عقد مستقل بنفسه يصح ، وعلى قول الشيخ بالفرعية تصير الصحة مراعاة لحصول شروط الصرف والربا.

قال في المبسوط : إذا ادعى دراهم أو دنانير في ذمته ، فاعترف بها ثم صالحه بدراهم ودنانير صح الصلح ، وهو فرع الصرف ، فما صح فيه صح في الصلح ، وما بطل في الصرف بطل فيه ، ولا يجوز حتى يتقابضا ، فان كان المقر به دراهم ، فصالحه على دنانير معينة أو موصوفة فعينها وقبضها قبل التفرق جاز ، ولو قبض البعض وفارقه بطل الصرف فيما لم يقبض ، ولو ادعى عليه دراهم فأقربها ثم صالحه منها على بعضها لم يجز ، لانه ربا ، ولكن ان قبض بعضها وأبرئه من الباقي صح ، وكان هذا الصلح فرع الإبراء انتهى.

وعلى المشهور لا يتعلق به حكم الصرف من وجوب التقابض قبل التفرق ، وأما حكم الربا فإنه يبنى على الخلاف المتقدم في باب الربا من انه هل يثبت في كل معاوضة؟ أم يختص بالبيع؟ وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في بابه ، فعلى الأول ينبغي مراعاته هنا أيضا دون الثاني.

وممن جزم بالأول هنا بناء على ذلك الشهيد الثاني في المسالك ، وممن جزم بالثاني العلامة في المختلف ، ومما يتفرع على الخلاف المذكور هنا أيضا ما لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا فصالحه عنه على درهمين ، فإنه ان قلنا ان الواجب ضمان القيمي بمثله كما هو أحد القولين ليكون الثابت في الذمة ثوبا صح الصلح المذكور ، لان الصلح وقع عن الثوب ، لا عن الدراهم الذي هو قيمته ، وان قلنا أن القيمي يضمن بقيمته ، فاللازم لذمة المتلف انما هو الدراهم ، فعلى هذا إذا صالحه بدرهمين تفرع صحة الصلح هنا على الخلاف المتقدم للزوم الربا ، فيصح الصلح عند من قال بتخصيص التحريم بالبيع ، ويبطل


عند من قال بالعموم في جميع المعاوضات ، ولهذا اختار في المسالك هنا البطلان ، بناء على ما اختاره أيضا من وجوب ضمان القيمي بقيمته.

المسئلة التاسعة ـ لو ادعى اثنان عينا في يد ثالث من دار أو ثوب أو نحوهما بأنهما لهما بالمناصفة ، وصرحا معا بالسبب الموجب للملك من أنهما ورثاهما معا أو وكلا من شراها لهما معا بالمناصفة ، أو نحو ذلك فصدق المدعى عليه أحدهما فيما يدعيه من أن النصف له ، وكذب الأخر ، ثم انه صالح المدعى عليه ذلك الذي صدقه على النصف الذي أقر له به بعوض ، وحينئذ فإن كان هذا الصلح باذن شريكه سابقا على الصلح ، أو لاحقا بناء على صحة الفضولي صح الصلح على تمام النصف الذي وقع العقد عليه ، ويكون العوض بينهما نصفين ، كما أن الأصل كان كذلك ، وان لم يكن الصلح باذن شريكه صح الصلح في حقه المقر له. وهو الربع الذي هو نصف ما وقع عليه الصلح ، وبطل في ربع شريكه ، ويكون شريكا مع المدعى عليه بذلك الربع ، والوجه في ذلك انه لما اتفق المدعيان على كون سبب ملكهما مقتضيا للشركة بالمناصفة كما فرضناه سابقا ، فإقرار المدعى عليه لأحدهما يقتضي اشتراكهما فيما أقر به ، وان لم يصدق هما على السبب الموجب للاشتراك ، لان مقتضى السبب المذكور كالميراث ونحوه هو التشريك ، ويمتنع استحقاق المقر له بالنصف خاصة دون شريكه ، كما أن الفائت يكون ذاهبا عليهما بمقتضى إقرارهما بسبب الشركة ، ومن أجل ذلك تفرع عليه ما قدمناه من التفصيل بصحة الصلح على النصف مع اذن الشريك ، والاشتراك في العوض وعدم الصحة إلا في الربع مع عدم الاذن ، وكون الشريك حينئذ شريكا للمدعى عليه بالربع.

هذا كله فيما إذا صرحا بالسبب الموجب للملك بالإشاعة والمناصفة ، أما لو لم يصرحا بما يقتضي الشركة سواء صرحا بما ينافيه أم لا كما لو ادعى أحدهما ملك نصف المدعى فيه بالميراث ، وادعى الأخر ملكه بالشراء ، فإنهما لا يشتركان فيما أقر به المدعى عليه ، فان ملك أحدهما لا يستلزم ملك الأخر ، فلا يقتضي


الإقرار لأحدهما بما يدعيه مشاركة الأخر إياه. (١)

قال في المسالك بعد ذكر الحكمين المذكورين : هذا تقرير ما ذكره المنصف وجماعة في القسمين ، وفيه بحث ، لان هذا لا يتم الا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة ، كالإقرار ، وهم لا يقولون به بل يحملون إطلاقه على ملك البائع والمصالح ، حتى لو باع ابتداء مالك النصف نصف العين مطلقا انصرف الى نصيبه ، ووجهوه بأن اللفظ من حيث هو وان تساوت نسبته الى النصفين ، الا أنه من خارج قد ترجح انصرافه الى النصف المملوك للبائع ، نظرا الى ان إطلاق البيع انما يحمل على المتعارف في الاستعمال ، وهو البيع الذي يترتب عليه انتقال الملك بفعل المتعاقدين ، ولا يجرى ، ذلك إلا في المملوك بخلاف الإقرار ، فإنه اخبار عن ملك الغير بشي‌ء ، فيستوي فيه ما هو ملكه وملك غيره ، وحينئذ فاللازم هنا أن ينصرف الصلح الى نصيب المقر خاصة ، فيصح في جميع الحصة بجميع العوض ، وتبقى المنازعة بين الأخر والمتشبث.

هذا ان وقع الصلح على النصف مطلقا أو على النصف الذي هو ملك المقر له. أما لو وقع على النصف الذي أقر به المتشبث توجه قول الجماعة لأن الإقرار ينزل على الإشاعة والصلح وقع على المقر به ، فيكون تابعا له فيها ، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم ، لئلا ينافي ما ذكروه من القاعدة التي ذكرناها.

وهذا توجيه حسن لم ينبهوا عليه ، وانما ذكر الشهيد (رحمة الله عليه) في بعض تحقيقاته احتمال انصراف الصلح إلى حصة المقر له من غير مشاركة الأخر مطلقا ، وتبعه عليه الشيخ على (رحمة الله عليه) انتهى.

أقول : وينبغي أولا إيضاح ما ذكره ، ثم بيان ما فيه فنقول : قوله ان هذا لا يتم الا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة ، الى آخره بمعنى أنه لو باع

__________________

(١) قيل : ومثله ما لو ادعى كل منهما أنه اشترى النصف من غير تقييد بالمقيد نعم لو قالا اشتريناها معا أو اتهبناها وقبضنا معا ونحو ذلك ، فقد حرر في التذكرة أن الحكم فيه كالأول لاعتراف المقر بأن السبب المقتضى لتملكه قد افتقر بتملك الأخر ، ويحتمل العدم ، لان نقل الملك لاثنين بهذا الوجه بمنزلة الصفقتين. منه رحمه‌الله.


شخص حصته من مال مشترك بينه وبين غيره كالنصف مثلا فإنه بمقتضى تقريرهم لم ينصرف الى ماله ، بل الى النصف المعلوم المشاع مطلقا بينه وبين شريكه ، فيكون المبيع ربع البائع وربع الشريك ، وهم لا يقولون به في البيع ، ولا في الصلح ، بل يخصونه بنصف البائع والمصالح ، وانما ينزل على الإشاعة الإقرار ، فلو أقر بالنصف للغير يكون إقرارا بربعه وربع الشريك ، ووجه الفرق بين الأمرين أن البائع إنما يبيع مال نفسه ، ولا يصح بيع مال غيره الا فضولا على القول به ، أو وكالة ، وهما منتفيان هنا ، فينصرف الى ماله كما هو المتبادر والمتعارف ، بخلاف الإقرار فإنه كالشهادة بأنه للغير ، وهو قد يكون في ماله ، وقد يكون في مال غيره ، فهنا ينبغي أن يكون ما يصالح عليه هو نصف المقر به ، وهو الربع بالنسبة إلى المجموع ، فيكون العوض كله له ، لا أنه يكون انصافا كما ذكروه ، والنزاع يبقى للشريك الأخر مع المدعى عليه.

هذا إذا كان الصلح على النصف مطلقا ، أو على النصف الذي هو ملك المقر له ، وأما إذا صالح المقر له على النصف الذي أقر له به كان الصلح هنا منزلا على الإشاعة ، لأنه تابع للإقرار المنزل على ذلك كما عرفت ، فيكون قول الجماعة متجها على هذا الوجه ، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم ، هذا حاصل ما ذكره (قدس‌سره).

وفيه أولا أن الظاهر أن قول الجماعة ـ بأن إطلاق البيع والصلح انما ينصرف الى ملك البائع والمصالح دون الشائع ـ انما هو في المال المشترك الخالي عن النزاع ، والقاعدة المذكورة إنما هي بالنسبة الى ذلك ، وما نحن فيه ليس كذلك لوجود النزاع وعدم ثبوت نصف خالص للمصالح ، بل الثابت له بحسب الشرع انما هو الربع كما عرفت ، لان الفرض أن ما اعترف به المدعى عليه ، مشترك بينه وبين شريكه بحسب نفس الأمر ، وظاهر الشرع من حيث إقرارهما بموجب الشركة ، ولا نزاع في أن ما أقر به المدعى عليه مشترك بينه وبين شريكه ، فهو انما صالح على ربعه وربع شريكه ، إذ ليس نصف المصالح عليه الا ذلك ، وبه يظهر أن ما نحن فيه ليس من جزئيات القاعدة المذكورة ، ولا من أفرادها لتحصيل المنافاة


كما زعمه (قدس‌سره).

وثانيا ـ أنه مع الإغماض عن ذلك ـ فان الظاهر من المقام والمتبادر من سياق الكلام كما صرح به من ذكر المسئلة من علمائنا الاعلام (١) أن الصلح انما وقع على النصف الذي أقر له به المدعى عليه ، ولم يقصد المدعى عليه ، والذي أقر له الا ذلك ، لا أن الصلح وقع على نصفه الذي له في نفس الأمر والخروج عن قاعدة البيع والصلح انما يحصل على الثاني ، دون الأول وبما ذكرناه يظهر أيضا أن الاحتمال الذي ذكره الشهيد (رحمة الله عليه) وتبعه عليه الشيخ على (رحمة الله تعالى عليه) ليس بجيد ، والله العالم.

المسئلة العاشرة ـ قالوا : لو ادعى عليه شيئا فأنكر فصالحه المدعى عليه على سقى زرعه أو شجره بمائه ، قيل : لا يجوز ، لان العوض وهو الماء مجهول ، وهذا القول منقول عن الشيخ (رحمة الله عليه) والمشهور الجواز مع ضبط السقي بمدة معلومة ، ومثله ما لو كان الماء معوضا.

وبالجملة فإنه يجوز السقي بالماء عوضا للصلح ، بأن يكون مورده أمرا آخر من عين أو منفعة ، وكذا يجوز كونه موردا له ، وعوضه أمر آخر من عين أو منفعة ، كل ذلك مع ضبطه بمدة معلومة.

والشيخ قد خالف في الجميع ، محتجا بجهالة الماء مع أنه جوز بيع ماء العين والبئر وبيع جزء مشاع منه ، وجوز جعله عوضا للصلح ، كذا قالوا.

__________________

(١) ومن ذلك عبارة المحقق في الشرائع حيث قال : ولو ادعى اثنان دارا في يد ثالث بسبب موجب للشركة كالميراث فصدق المدعى عليه أحدهما ، وصالحه على ذلك النصف بعوض ، فان كان باذن صاحبه صح الصلح في النصف أجمع ، وكان العوض بينهما وان كان بغير اذنه صح في حقه ، وهو الربع. انتهى ، ولا يخفى أن قوله فصالحه على ذلك النصف مراد به النصف الذي أقر له بالذي صار بالإقرار مشتركا بينه وبين صاحبه ، فالإشارة راجعة إليه كما هو ظاهر ، والشارح قد جرى في تقرير معنى العبارة على ذلك أيضا ، فقال في أثناء الكلام : فإذا صالح المقر له المثبت على النصف المقر له فان كان الصلح باذن صاحبه الى آخره وهو ظاهر في أن الصلح انما وقع على ذلك النصف المقر به ، وعلى هذا النهج كلام غيرهما من الأصحاب (رضوان الله عليهم). منه رحمه‌الله.


أقول : ويمكن أن يكون منعه من الصلح على السقي المذكور من حيث عدم الضبط بالمدة ، فإنهم إنما جوزوا ذلك مع الضبط بها ، ويدل عليه إطلاق كلامه ، فإنه لا دلالة فيه على المنع مع الضبط ، بالمدة ليتجه نسبة الخلاف إليه في المقام.

وبالجملة فإنه يمكن تخصيصه المنع هنا بغير المضبوط ، فيكون موافقا لما ذكروه ، والاعتراض عليه ـ بأنه صرح بجواز بيع ماء العين والبئر وجزء مشاع منه وجوز جعله عوضا للصلح ـ يمكن دفعه بأن الماء في صورة محل البحث مجهول لا يدخل في أحد الأقسام المذكورة ، لأنه لم يستحق بالصلح جميع الماء ، ولا بعضا منه معينا ، وانما استحق سقيا لا يعرف قدره ، ولا مدة انتهائه ، ومن ثم شرطوا في الجواز ضبط المدة ، وهو لم يصرح بالمنع مع الضبط كما عرفت.

بقي الكلام فيما لو تعلق الصلح بسقي شي‌ء مضبوط دائما أو بالسقي بالماء أجمع دائما وان جهل السقي ، ونفى البعد عن الصحة شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، للتسامح بذلك في باب الصلح ، وهو غير بعيد لما قدمناه وذكره غير واحد من الأصحاب من أن مبنى الصلح على المساهلة والمسامحة.

قالوا : وكذا يصح الصلح على اجزاء الماء على سطحه أو ساحته بعد العلم بالموضع الذي يجري فيه الماء ، بأن يعرف مجراه طولا وعرضا ، ليرتفع الجهالة عن المحل المصالح عليه ، ولا يعتبر تعيين العمق ، لان من ملك شيئا ملك قراره الى تخوم الأرض ، ولا فرق في ذلك بين جعله عوضا بعد المنازعة وبين إيقاعه ابتداء ، وقد أطلق جملة منهم حكم الماء من غير أن يشترطوا مشاهدته ليرتفع الغرر ، وقيد آخرون بمشاهدته أو وصفه خروجا من الغرر ، لاختلاف الحال بقلته وكثرته ، فقد يتعلق الغرض بأحدهما دون الأخر ، ولو سقط السطح بعد الصلح أو احتاجت الساقية إلى إصلاح فعلى مالكهما ، لتوقف الحق عليه ، وليس على المصالح مساعدته.

المسئلة الحادية عشر ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو قال المدعى عليه : صالحني عليه فان ذلك لا يكون إقرارا بالملك ، لان الصلح يصح مع الإنكار ،


فطلبه هنا لا يستلزم الإقرار ، إذ قد يكون ذلك لأجل رفع المنازعة والمخاصمة وخالف فيه بعض العامة حيث زعم أن الصلح لا يصح الا مع الإقرار : وفرع على ذلك ان المدعى عليه لو قال قبل الإقرار صالحني على العين التي أدعيتها يكون ذلك منه إقرارا ، لأنه طلب منه التمليك ، وهو يتضمن الاعتراف بالملك ، فصار كما لو قال : ملكني وفيه أنه متجه بناء على أصله المذكور من حيث تخصيص الصلح بالإقرار وأما على ما هو المتفق علة عندنا وعند جملة منهم من صحة وقوعه على الإقرار والإنكار ، فطلبه لا يكون موجبا للإقرار.

نعم لو قال : بعني أو ملكني اقتضى ذلك الإقرار بعدم ملكه له ، لانه صريح في طلب التمليك المنافي لكونه ملكا له ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، وبالجملة فإنه لا إشكال في إقراره بعدم الملك بقوله ذلك.

بقي الكلام في أنه هل يكون بذلك ملكا لمن طلب منه البيع أو التمليك أم لا؟ الأقرب العدم ، لانه يحتمل أن يكون المطلوب منه وكيلا ، وإذا قام احتمال ذلك لم تتم الدلالة على كونه ملكا له.

وبالجملة فالمترتب على الإقرار المذكور هو كونه مالكا ليبيع ، لا مالكا للمبيع ، لأنه أخص ، والعام لا يدل على الخاص.

وقيل : نعم لو اقترن بذلك كون المطلوب بيعه تحت يد المخاطب ترجح جانب ملكه ، لدلالة اليد على الملكية ، والأصل عدم مالك آخر ، قال في المسالك : وقد تنبه لذلك العلامة في المختلف والشهيد في الدروس وهو قوى. انتهى.

أقول : لا يخفى أن ما تقدم من الكلام وبه صرحوا أيضا أن مبنى الشك في كونه ملكا لمن طلب منه البيع وعدمه ـ انما هو على إقراره من غير انضمام شي‌ء آخر له من خارج يدل على الملكية أو عدمها ، والا فمع انضمام ما يدل على أحد الأمرين لا إشكال في الحكم بما دل عليه.

وبه يظهر أن ما ذكروه من هذا الفرع لا أعرف له مزيد فائدة على أن ما ذكروه من مجرد دلالة اليد على الملكية محل توقف ، بل لا بد مع ذلك من ادعاء الملكية ، والا فإن المال في يد الوكيل أيضا لكنه معترف بالوكالة عن الغير ،


هذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

الثانية عشر ـ وفيها حكمان ـ أحدهما انه لو ضمن شخص عن شخص مالا باذنه ثم صالح الضامن المضمون له بأقل مما ضمنه لم يكن له الرجوع على المضمون عنه الا بما صالح به ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، وعليه تدل موثقة عمر بن يزيد (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه».

رواه الكليني والشيخ (رحمة الله عليهما). وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال : ليس عليه الا الذي صالح عليه».

والخبران وان كانا مطلقين بالنسبة إلى اذن المضمون عنه وعدمه الا أنه يجب تقييدهما بالاذن ، لما تقدم في كتاب الضمان أنه لا رجوع الا مع الاذن ، وبدونه لا رجوع.

وكذا لو صالح الضامن المضمون له عن المال الذي ضمنه بعروض دفعها إليه ، فإنه لا يرجع على المضمون عنه الا بأقل الأمرين من قيمة العروض وما كان في ذمة المضمون عنه ، وقد تقدم ذكر هذه المسئلة وتحقيق الكلام فيها في كتاب الضمان فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

الثاني ـ يجوز الصلح على تعجيل بعض الدين المؤجل بنقصان منه ، ولا يجوز تأجيل شي‌ء منه بزيادة ، ولا يجوز الصلح على تعجيل البعض أيضا بمد الأجل في الباقي. ويدل على ذلك ما رواه

المشايخ الثلاثة بأسانيد عديدة فيها الصحيح والحسن عن الحلبي (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته ، أو يقول :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٧ التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ ح ٦ والوسائل ج ١٣ ص ١٥٣ ح ١ و ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٨ ح ١.


انقدني بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك قال : لا أرى به بأسا ، انه لم يزد على رأس ماله ، قال الله عزوجل (١) فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ » وفي قوله (عليه‌السلام)» انه لم يزدد على رأس ماله». ثم أورد الآية إشارة الى عدم جواز التأجيل بالزيادة على الحق ، وان كان على سبيل الصلح ، فإنه رباء كما يدل عليه إيراد الآية ، فيمكن الاستدلال بالخبر المذكور على تحريم الربا في الصلح أيضا الا أن الربا لازم هنا مع النقصان أيضا ، وكأنه حينئذ مستثنى بالخبر ، ويعضده أيضا حسنة أبان (٢) عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال ، سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحل الأجل عجل لي النصف من حقي على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لو أحد منهما ، قال. نعم».

المطلب الثاني في تزاحم الحقوق والتنازع في الاملاك :

والكلام فيه يقع في مقامات المقام الأول ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز إخراج الرواشن (٣) والأجنحة إلى الطرق النافذة إذا كانت عالية لا تضر بالمارة ، وهما عبارة عن إخراج خشب من حائط المالك الى الطريق بحيث لا يصل الى الجدار المقابل له ويبنى عليها ، ولو وصل الى الجدار سمى ساباطا وعلى هذا فهما عبارة عن أمر واحد ، وربما فرق بينهما بأن الأجنحة ينضم إليها مع ما ذكر أن يوضع لها أعمدة من الطريق ، وربما قيل ذلك في الرواشن.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ المرجع في التضرر الى العرف بالنظر

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٨ ح ٢.

(٣) قال في مجمع البحرين : الرواشن جمع الروشن وهي أن يخرج اخشابا الى الدرب ويبنى عليها ويجعل عليها قوائم من أسفل. انتهى ، وفي اللغويين الروشن بأنه الكوة كذا ذكره المحقق الشيخ على على ما في شرح القواعد. وفي القاموس : الروشن الكورة ، فليتأمل فلعل الغلط في أحد الموضعين ، ولا يحضرني الان من نسخ الكتابين ما يمكن تحقيق الحال منه فان تحريف الكوة بالكورة أو بالعكس قريب فليلاحظ منه رحمه‌الله.


الى المارة في تلك الطريق وما يليق بها ، فلو كانت من الطرق التي تمر فيها الجيوش والجمال والفرسان وجب أن لا يضر بالعماريات والكنائس ، واعتبر ارتفاع ذلك بحيث يمر فيه الفارس لا يصدم رمحه مما لا على عنقه ، واعتبر العلامة في التذكرة أن يتمكن الفارس من الممر تحته ورمحه منتصب لا يبلغه ، قال : لانه قد تزاحم الفرسان فيحتاج الى أن تنصب الرماح ، ومنعه في الدروس لندرته ، وقواه في المسالك لإمكان اجتماعهم مع إمالته بحيث لا يبلغهم.

الثاني ـ المفهوم من كلامهم وتقييد الضرر بالمارة كما قدمنا ذكره أنه لو أضر بغيرهم من جار ونحوه بحيث استلزم الاشراف عليه لم يمنع منه ، كما لا يمنع لو كان وضع الجناح والروشن في ملكه فاستلزم الاشراف على جاره.

وخالف في ذلك العلامة في التذكرة فقال : بالمنع من ذلك فارقا بينه وبين الوضع في ملكه ، قال في الكتاب المذكورة : إذا أخرج جناحا أو روشنا في الشارع النافذ فقد بينا أنه ليس لأحد منعه مع عدم التضرر به ، فلو تضرر جاره بالإشراف عليه فالأقرب أن له المنع ، لانه قد حصل به الضرر ، بخلاف ما لو كان الوضع في ملكه فإنه لا يمنع وان حصل معه الاشراف ، لأن للإنسان التصرف في ملكه كيف شاء ، ويمنع في الملك من الاشراف على الجار لا من التعلية المقتضية لإمكانه ، قال : ولست أعرف في هذه المسئلة بالخصوصية نصا من الخاصة ولا من العامة ، وانما صرت الى ما قلت عن اجتهاد ، ولعل غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤديه اجتهاده الى خلاف ذلك انتهى ملخصا.

واعترضه في المسالك فقال : وفيه نظر لان المعتبر في الموضوع في الطريق عدم الإضرار بأهل الطريق ، لانه موضوع للاستطراق فيمتنع ما ينافيه ، أما اعتبار عدم الإضرار بغيرهم فلا دليل على المنع منه ، بل قد تقدم أنه لا يمنع مما يضر بغير من يعتاد سلوكه خاصة ، فضلا عن غير المار ، والجار خارج عن ذلك كله ، فلا وجه للمنع مما يقتضي إضراره ، كما لو أحدث بناء في مباح يقابله واستلزم الاشراف عليه ، وكلام العلامة وغيره حيث قيدوا الضرر بالمارة دليل عليه ؛ وانما عمم هو الضرر في فرعه ، انتهى.


أقول : ويقول العلامة (قدس‌سره) في هذه المسئلة ولست أعرف في هذه المسئلة نصا وانما صرت الى ما قلت عن اجتهاد ، تعلق المحدث الأمين الأسترآبادي ونحوه من الأخباريين في التشنيع على المجتهدين ، ويمكن الاعتذار عنه (قدس‌سره) بأن مراده بالاجتهاد انما هو الاستنباط من الأدلة العامة ، فإنه إنما نفى وجود الخبر الخاص بهذه المسئلة ، فلا ينافيه إمكان استنباط دليل لها من الأدلة العامة ، وهو هنا حديث (١) «لا ضرر ولا ضرار». لأنه إنما استند في المنع بضرر الجار بذلك.

نعم يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الضرر المنهي عنه انما هو نفس الاشراف ، لا الروشن المقتضى له ، كما لو فعله في ملكه أو أحدث بناء في مباح يقابله واستلزم الاشراف كما تقدم في كلام شيخنا المتقدم ذكره.

الثالث ـ ما قدمنا ذكره من جواز إخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة ما لم يضر بالمارة هو المشهور ، سواء عارضه فيه مسلم أو لم يعارضه أحد ، وهو قول الشيخ في الخلاف.

وقال في المبسوط : بأنه لو عارض فيه مسلم وجب قلعه ، وبه قال ابن البراج ، والأول اختيار ابن إدريس ، مستندا الى جريان العادة من غير أن ينكره أحد ، قال : وسقيفة بني ساعدة وبنى النجار مشهورتان ، ولم ينكرهما أحد من المسلمين ، ونفس الطريق غير مملوكة ، وانما يملك المسلمون منافعها دون رقبتها ، انتهى.

وبه قال العلامة وغيره ، وما ذهب اليه الشيخ في المبسوط هنا نقله في التذكرة عنه ، وعن أبي حنيفة ، قال : وقال الشيخ (رحمه‌الله) وأبو حنيفة لا عبرة بالضرر وعدمه ، بل ان عارضه فيه رجل من المسلمين نزع ووجب قلعه وان لم يكن مضرا به ولا بغيره ، والا ترك ، لانه بنى في حق غيره بغير اذنه ، فكان له مطالبته بقلعه ، كما لو بنى دكة في المسلوك ، أو وضع الجناح في ملك غيره ، ثم رده بان القياس ممنوع ، فان الضرر يحصل ببناء الدكة ، بخلاف الجناح والساباط والرواشن ، لان الأعمى يعتبر بها ، وكذا في الليل المظلم يعثر البصير بها ، ويضيق الطريق بها بخلاف الجناح ، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه الا بإذنه ، بخلاف الطريق فافترقا.

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١٤٧ ح ١٨ ، الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.


أقول : والعمدة في ذلك كله هو اباحة الهواء ، وانه غير مملوك هنا للمارة ولا لغيرهم فلا مانع من التصرف فيه الا على وجه يتضرر به المارة ، والمفروض عدمه ، فلو حصل الضرر به وجب إزالته ولا يختص الوجوب بالواضع ، وان كان آكد ، بل يجب على كل من له قدرة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

الرابع ـ المفهوم من تقييدهم الطرق بالنافذة عدم الجواز في الطرق المرفوعة ، والوجه فيه ظاهر ، لأنها ملك لأربابها ، كسائر الأملاك المشتركة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن أربابها فلا يجوز لأحد منهم احداث جناح أو باب شارع إلا بإذن الباقين ، سواء أضر بهم أم لم يضر ، للمنع من التصرف في مال الغير إلا بإذنه مطلقا ، والمراد بالمرفوعة المسدودة التي لا ينتهي إلى طريق آخر ولا مباح ، بل الى ملك الغير ، والمراد بأربابها من له باب شارع إليها ، ومما يترتب على ملكهم لها جواز سدهم لها عن السكة ، مع اتفاقهم على ذلك ، وكما يحرم التصرف فيها بما تقدم ذكره كذلك يحرم بغيره من أنواع التصرفات ، فلا يجوز المرور فيها إلا بإذنهم ولا الجلوس فيها ، ولا إدخال الدواب فيها ونحو ذلك الا مع الاذن ، ويمكن الاكتفاء في جواز المرور بشاهد الحال ، وكذا الجلوس خفيفا ، فلو اتفق في تلك الطرق المرفوعة السلوك الى مسجد أو رباط أو مطهرة أو نحوها من المشتركات بين العامة لم يكن لأصحاب الطريق المنع من السلوك إليها ، ولا احداث ساباط أو جناح يضر بالمارة وان رضى أهل السكة ، لأنها صارت مشتركة بينهم وبين عامة الناس المترددين الى تلك المواضع ، ونحوه لو جعل أحدهم داره أحد تلك المواضع ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم.

هذا والمفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف هو أن الطرق المرفوعة ملك لأربابها ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا المناقشة في ذلك مستندا الى المنع من ذلك الا أن يعلم بدليل شرعي ، ولو بدعوى الملكية بشرط أن لا يكون مستنده مجرد الاستطراق ، فإن الذي علم من الاستطراق استحقاقهم ذلك لا غير ، ولما كان أكثر الطرق والاستطراق يحصل في غير الملك لا يعلم منه الملكية التي هي منفية بالأصل ، إذ لا فرق بين المسلوك والمرفوع في الحصول ، الا أن المترددين في الأول أكثر ، هذا غاية ما استند اليه (قدس‌سره).


وفيه نظر ، إذ لا يخفى أن الظاهر أنه لا خلاف في أن التصرف امارة الملك ، فلو تصرف أحد في شي‌ء ومات وهو في تصرفه حكم به ميراثا لورثته ، ولو ادعى مدع في أن تصرفه عاد طولب بالبينة ، ولا يخفى أيضا أن التصرف غير مضبوط بحد معلوم وانما هو في كل شي‌ء بنسبته ، يعنى بالنظر الى المنافع المترتبة على ذلك الشي‌ء فكل من تصرف في شي‌ء بتحصيل المنافع المترتبة عليه ثبت له الملك ، والمنافع المترتبة على الطريق التي بها ثبت التصرف ليس الا الاستطراق ، لأنها موضوعة له وان أمكن وجود منافع آخر أيضا ، الا أن هذا هو المقصود منها والغالب عليها ،

وأما ما ذكره من أن الاستطراق يحصل في غير الملك ـ فلا يدل على الملكية كما في الاستطراق في الشوارع ـ ففيه أن ما ذكرنا من أن التصرف امارة الملك فان التصرف في كل شي‌ء انما هو بنسبة حاله ، مما يثبت به المدعى ، إذ لا خلاف في هاتين المقدمتين فيما أعلم ، وعدم ثبوت ذلك في الشوارع انما هو من حيث عدم حصر السالك فيها ، والمالك لا بد أن يكون له مالك معين ، والتصرف الموجب للملك الذي يكون في كل شي‌ء بنسبته لا بد أن يكون مستمرا كما في التصرفات في سائر الاملاك.

وحينئذ فلو مر شخص في الجادة يوما ولم يعد إليها في باقي عمره لا يعد مالكا ، وان كان قد تصرف مرة ، وهكذا في سائر السالكين وان تفاوتوا ، بخلاف ملاك السكة المرفوعة. فإنهم مستمرون على الاستطراق منها الى بيوتهم كما في جملة التصرفات في الاملاك مع كونهم معينين محصورين ، وبذلك يظهر لك الفرق بين الطريقين ، وعدم قياس إحديهما على الأخرى في البين. والله العالم.

الخامس ـ قد عرفت أن الأظهر أنه ليس لأحد من المسلمين معارضته في إخراج الجناح والروشن ، ويدخل فيه الجار ، فليس له المعارضة ، ليكون الهواء بينهما ، بل أيهما سبق استحق ذلك.

نعم للآخر إخراج روشن فيما بقي من الهواء ، وليس لصاحب الأول منعه ما لم يضع على خشبته شيئا منه ، ويجوز للآخر إخراج روشنه فوق الأول أو تحته ما لم يضر به ، ويعتبر أن يكون عاليا لا يضر بالمارة على الوجه المتقدم ، ولو أظلم


الطريق بوضع الثاني أزيل خاصة ، لأن الضرر انما حصل به ، وان كان للأول أيضا أثر في ذلك الا أن الحد الموجب للضرر انما حصل بالثاني.

السادس ـ قال في التذكرة : لو صالح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أرباب الدرب ، وأصحاب السكة على وضعه جاز على الأظهر عندنا ، لكن الاولى اشتراط زمان معين ، لانه حق مالي بتعين المالك فجاز الصلح عليه ، وأخذ العوض عنه كما في القرار ، ومنع منه الشافعية ، بناء منهم على أن الهواء تابع ، فلا يفرد بالمال صلحا كما لا يفرد به بيعا ، ونمنع مانعية التبعية من الانفراد بالصلح ، بخلاف البيع لانه يتناول الأعيان ، والصلح هنا واقع عن الوضع مدة ، وكذا الحكم في صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا ، والمنع عندهم. انتهى.

وظاهره أن الحكم إجماعي عندنا في كل من الموضعين ، وانما المخالف فيه الشافعية خاصة ، مع أن عبارة الشيخ في المبسوط ظاهرة في ما نقله عن الشافعية حيث قال : إذا أخرج جناحا الى زقاق غير نافذ لم يجز ، لأن أربابه معينون ، فان صالحوه على تركه بعوض يأخذونه منه لم يجز ، لأن في ذلك افرادا للهواء بالبيع ، وذلك لا يصح. انتهى.

والأصحاب قد نقلوا ذلك عنه أيضا ، والظاهر أنه غفل عن مراجعة ذلك ، والمحقق في الشرائع قد تردد في المسئلة من أجل خلاف الشيخ أيضا.

وكيف كان فان الظاهر أن كلام الشيخ هنا (رحمه‌الله) مبنى على ما تقدم نقله عنه من فرعية الصلح على البيع كما هو مذهب الشافعية ، وقد تقدم نقله عن الجميع وبيان ضعفه ، والمفهوم من كلامهم كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة استحقاق جميع ملاك الطريق المرفوعة لذلك ، وهو مخالف لما صرحوا به كما سيأتي ان شاء الله تعالى من اختصاص الداخل منهم بما بين البابين ، واشتراك الجميع انما يحصل فيما خرج عن الأبواب كملا ، فالمناسب للتفريع على ذلك أن يقال : أن الروشن المحدث ان كان خارجا عن جميع الأبواب فالحق للجميع ، والصلح على إخراج الروشن مع الجميع ، وان كان داخلا عن بعضها لم يتوقف على اذن الخارج ، وقيل : يتوقف على رضى الجميع كالأول ، وقواه في الدروس ، وسيأتي


الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.

السابع ـ قالوا : لو سقط الروشن فسبق جاره الى وضع روشن في ذلك الهواء لم يكن للأول منعه ، لأن الأول لم يملك الموضع بوضع الروشن فيه ، وانما اكتسب بوضعه الأولوية ، كالقعود في المسجد.

بل قال في التذكرة : لو هدمه جار قهرا وتعديا ثم وضع الجار روشنا أو جناحا في محاذاته ومده الى مكان روشن الأول جاز ، وصار أحق به ، لأن الأول كان يستحق ذلك بسبقه اليه ، فإذا أزال وسبقه الثاني إلى مكانه كان أولى ، كرجل جلس في مكان مباح كمسجد أو درب نافذ ثم قام عنه أو أقيم ، فإنه يزول حقه من الجلوس ، ويكون لغيره الجلوس في مكانه. وليس للأول إزعاجه ، وان أزعج الأول فكذا هنا ، ثم نقل المنع عن بعض الشافعية.

وملخص كلامهم أنه انما يزول حقه بالإعراض عن إعادته لا بالهدم والانهدام كالجالس في المكان للأولوية ، وبذلك صرح غيره أيضا ، وظاهره أن غاية ما يلزم الثاني بكسر روشن الأول الإثم والضمان خاصة ، والا فإن أولويته تزول بذلك.

ولا يخفى ما فيه من الاشكال ، لعدم النص في ذلك مع ظهور كون الثاني غاصبا وان لم يكن غصب ملك بل غصب أولوية ، فإطلاق أدلة الغصب وعمومها يشمل مثل ذلك.

وقد تنبه لما ذكرناه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ، حيث أنه بعد نقل كلام التذكرة وما ذكره من كلام بعض الشافعية ، قال : والذي يتخيل أولوية قول بعض الشافعية ، إذ لا شك في حصول الأولوية ، والأصل بقاؤها ، ومعلوم زوالها بالإعراض لا غير ، والظاهر أنه ليس بأقل من التحجير قهرا يمكن عدم زوال أولوية الحجر ، وبالجملة الحكم ليس بمنصوص ولا مجمعا عليه على الظاهر ، فليس ببعيد قول بعض الشافعية ، ولا شك أنه أحوط ، انتهى.

وأشار بقوله : ليس أقل من التحجير الى آخره ـ وان كانت العبارة لا يخلو من غموض ولعله لغلط في الكتاب المنتسخ منه ـ الى ما صرحوا به ثمة من أنه بالتحجير الذي هو شروع في الإحياء لا يصلح لغيره التخطي اليه وان لم يفد ملكا ، بل


انما يفيد أولوية ، وهو نظير ما نحن فيه ، فيكون مؤيدا لما ذكرناه.

ويؤيده أيضا ما تقدم في أحكام المساجد من كتاب الصلاة بالنسبة إلى السابق الى موضع منها من تصريح شيخنا الشهيد الثاني بأنه لو أزعجه مزعج فلا شبهة في إثمه ، وهل يصير أولى بعد ذلك يحتمله ، لسقوط حق الأول بالمفارقة ، وعدمه للنهى ، فلا يترتب عليه حق ، ويتفرع على ذلك صحة صلاة الثاني وعدمها ، مع أنه (قدس‌سره) ممن وافق العلامة فيما نقلناه عنه في كتاب المسالك ، والحكم في المسألتين من باب واحد ، والله العالم.

المقام الثاني ـ في الطرق وهي على قسمين ، نافذة ويقال شارعة ، ومرفوعة والكلام في هذا المقام يقع أيضا في مواضع ، الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في جواز فتح الأبواب المستحدثة في الطرق النافذة ، لأن المسلمين فيها شرع ، فيجوز احداث الأبواب فيها لمجاوزها ، سواء كان لتلك الدار باب آخر إليها أم الى غيرها من الطرق النافذة؟ أو المرفوعة.

أما الطرق المرفوعة فلا يجوز الا برضاء أهلها ، ولا حد الشركاء فيها إلا بإذن الباقين ، وكذا لا خلاف في جواز وضع الميازيب في الطرق النافذة ، واحتج عليه في التذكرة بأن الناس بأسرهم اتفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم قديما وحديثا من غير إنكار أحد منهم ، فكان إجماعا هذا إذا لم يتضرر بوضعها أحد ، فإن تضرر بوضعه وجب قلعه.

أقول : الأظهر الاستدلال على ذلك بأصالة الإباحة ، إذ لا شي‌ء هنا مما ربما يتوهم المنع منه الا الاستطراق الذي هو حق للمسلمين ، والمفروض أنه لا يضربه ، فيكون كوضعه مشرفا على الأماكن المباحة.

الثاني ـ يجوز فتح الروازن والشبابيك في الطرق النافذة بلا اشكال ، وكذا في الطرق المرفوعة وأن استلزم ذلك الاشراف على جاره ، لما تقدم من أن المحرم هو الاشراف والتطلع ، لا التصرف في الملك ، ليستفيد بذلك الاضائة في بيته.

نعم للجار وضع شي‌ء في ملكه يمنع الاشراف عليه وان استلزم سد الضوء ،


ولا فرق بين أن يكون لصاحب الحائط الذي فتح فيه الروزنة أو الشباك باب في تلك الدرب أم لا ، لان له رفع جميع الحائط ، وأن يضع عوضه شباكا فبعضه أولى.

نعم يمنع من فتح الباب لو لم يكن له باب قديم ، وان لم يستطرق فيه دفعا للشبهة ، اعنى شبهة استحقاقه التطرق ، والمرور من تلك الطريق ، وبهذا يفرق بين فتح الشباك والروزنة بل رفع جميع الحائط ، وبين فتح الباب ، فإن الشبهة المذكورة لا تترتب على الثلاثة الأول ، بل انما نترتب على الرابع ، فإنه بعد تطاول الزمان واشتباه الحال يمكن الاستناد إليه في استحقاق المرور والتطرق من تلك الطريق ، بخلاف رفع الجدار فضلا عن الشباك والروزنة ، فإنه لا يقتضي استحقاق المرور به بوجه ، هذا كله إذا لم يأذن أرباب تلك الطريق ، فلو أذنوا سقط.

الثالث ـ لو كان في السكة المرفوعة أبواب بعضها أدخل من الأخر فهل يشترك جميعهم في جميع السكة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم ، أم شركة كل واحد يختص بما بين رأس السكة وباب داره؟ لان محل تردده هو ذلك المكان خاصة ، المشهور بين الأصحاب الثاني ، والوجه فيه أن المقتضى لاستحقاق كل واحد هو الاستطراق ونهايته بابه ، فلا يشارك في الداخل ، فحكمه بالنسبة الى هذا الداخل الزائد على بابه حكم الأجنبي من غير أهل السكة.

وقيل : بالأول ، فيشترك الجميع في الجميع حتى في الفضلة الداخلة عن الأبواب وهو صدر السكة ان كان ذلك ، وعلل باحتياجهم الى ذلك عند ازدحام الأحمال ، ووضع الأثقال عند الإدخال والإخراج.

وقوى في الدروس هذا القول ، ونقل القولين في التذكرة عن الشافعية ، وقال : ان أظهر الوجهين لهم الثاني ، والمسألة غير منصوصة عندنا ، الا أن الأوفق بالقواعد الشرعية هو القول المشهور؟ ولو فضل في صدر الزقاق فضلة عن الاستطراق فظاهر الأصحاب أن أرباب الأبواب فيها سواء ولا أولوية لواحد على غيره لاستوائهم في الارتفاق بها. بخلاف ما بين البابين أو الأبواب ، فإن أدخلية الباب تقتضي الاستطراق اليه ، وهو مختص بالمستطرق ، فيتحقق الترجيح ، فالادخال ينفرد بما


بين البابين ، وهكذا لو كانت أكثر من بابين ، ويشترك الجميع في الطريقين أعنى صدر السكة الخالي عن الاستطراق ، لما تقدم ، وآخرها الزائد على الأبواب ، لاشتراك الجميع في استطراقه ،

قال في التذكرة : فعلى المشهور عندنا ان الأدخل عنده ينفرد بما بين البابين ، ويتشاركان في الطريقين ، ولكل منهما الخروج ببابه مع سد الأول وعدمه ، فان سده فله العود اليه مع الثاني ، وليس لأحدهما الدخول ببابه ويحتمله ، لانه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع ويستصحب ، وله رفع جميع الجدار فالباب أولى انتهى.

أقول : الظاهر ان هذا الاحتمال مبنى على القول الأخر الذي تقدم تقويته عن الدروس ، والا فإنه يشكل بناء على المشهور من حيث اختصاص تملكه بما يستطرفه ، وهو الى الباب الموجود يومئذ ، فادخاله للباب الى داخل السكة مع أنه ملك غيره من أصحاب الأبواب الداخلة مشكل.

وأورد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) هنا عليهم اشكالا قد أشرنا إليه في الموضع السادس من المسئلة السابقة ، قال (رحمه‌الله) ثم هيهنا اشكال وهو أنهم قد حكموا بكون المرفوعة ملكا لكل من فيها ، فالهواء والأرض كله ملك مشترك بين أربابها ، وأيضا قالوا : لا يجوز لأحد التصرف بإحداث الرواشن والأجنحة والساباط وفتح الأبواب المستحدثة حتى لغير الاستطراق أيضا ، وكذا وضع الميزاب ، سواء حصل الضرر أم لا إلا بإذن الأرباب ، فمعه يجوز مطلقا ، فهو مؤيد للاشتراك ثم حكموا هنا بالاختصاص بما بين البابين لذي الباب الأدخل والأول ، الى أن قال : فكأنهم جوزوا ما حرموه.

وقد تقدمه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فإنه أيضا أشار الى ذلك ، ويتفرع على ذلك ما أشرنا إليه آنفا من توقف وضع الجناح أو الروشن على اذن الجميع ، بناء على حكمهم بعموم الملك للجميع ، والتفصيل بما تقدم بناء على كلامهم هنا من اختصاص الداخل بما بين البابين.

الرابع ـ قال العلامة في التذكرة : يصير الموضع شارعا بأمور أن يجعل


الإنسان ملكه شارعا وسبيلا مسبلا ويسلك فيه شخص آخر ، أو يجي‌ء جماعة أرض قرية أو بلدة ويتركوا مسلكا نافذا بين الدرب والمساكن ، ويفتحوا اليه الأبواب ، أو يصير موضع من الموات جادة يسلك الناس فيها ، فلا يجوز تغييره ، وكل موات يجوز استطراقه ، لكن لا يمنع أحد من إحيائه بحصول الممر عليه ، فليس هو حكم الشوارع. انتهى.

وقال في الدروس : يجوز عمل سرداب في الطريق النافذ ، إذا أحكم أزجه ولم يحصر الطريق من وجهها ، ولو كان في المرفوع لم يجز وان أحكم إلا بإذنهم ، ومثله الساقية من الماء إذا لم يكن لها رسم قديم ، ومنع الفاضل من عمل الساقية وان أحكم الأزج عليها في النافذ ، أما لو بناها بغير أزج فإنه يمنع منها إجماعا ، ويجوز لكل أحد إزالتها انتهى.

المقام الثالث في الجدران :

والبحث فيها يقع في موارد الأول ـ الجدار بين الملكين اما أن يكون لواحد من صاحبي الملكين ، أو يكون مشتركا بينهما ، فان كان مختصا بأحدهما كان له التصرف فيه كيف شاء ، بهدم وبناء ونحو ذلك ، وليس للآخر وضع جذع ولا خشبته عليه الا بإذن صاحبه ، وهذا كله مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وان كان مشتركا لم يجز لأحدهما التصرف فيه الا بإذن الأخر ، كوضع وتد وفتح كوة ونحو ذلك ، حتى أنه عد في التذكرة من ذلك أخذ تراب ليترب به الكتاب ، فإنه لا يجوز إلا بإذن شريكه ثم استثنى من ذلك ما لا يقع المضايقة به كالاستناد اليه ، واسناد المتاع إليه إذا لم يتضرر الجدار بذلك ، وهذا الحكم عام في جدار الغير مطلقا ، لأنه بمنزلة الاستظلال بجدار الغير ، والاستضائة بسراجه ، ولو منع المالك أو الشريك من الاستناد فهل يحرم أم لا؟ جزم في التذكرة بذلك وتبعه في المسالك واستقرب في الدروس العدم لانتفاء الضرر قال في المسالك : وموضع الخلاف ما إذا كان المجلس للمستند والا لم يجز إجماعا.


الثاني : قالوا ، إذا التمس الجار وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على جاره اجابته. نعم يستحب ، واستدل في المسالك على الاستحباب بما روى عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله» من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يمنعن جاره من وضع خشبة على جداره».

أقول : لم أقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه من طريق العامة حيث انه نقل في المسالك أن بعضهم أجاز وضع الخشب بدون الاذن مستندا الى هذا الخبر.

وكيف كان فان عموم اخبار قضاء الحوائج للمؤمنين والتوصية بالجار ونحو ذلك مما يدل على الاستحباب في مثل ذلك ، فلا بأس به.

ثم انه لو أذن له في الوضع فله الرجوع في الاذن ما لم يضعه اتفاقا ، أما لو وضعه فقيل : انه ليس له الرجوع لاقتضاء الاذن في ذلك الدوام والتأبيد كالإذن في دفن الميت في الأرض ، وللإضرار الحاصل بالنقض حيث يفضى الى خراب ملك المأذون ، ذهب اليه الشيخ في المبسوط وجماعة ، والمشهور بين المتأخرين ، ومنهم المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم أن له الرجوع لأنه عارية ، والأصل جواز تصرف المالك في ملكه بأي نحو كان ، قالوا : والحاقه بالدفن قياس مع الفارق ، لتحريم نبشه ، لا من حيث تخريب البناء والإضرار يندفع بضمان الأرش.

أقول : وهذا الجواب جيد ، الا أن بعضهم احتمل جواز النقض مجانا من غير أرش ، بناء على أن الاذن إنما أفاد العارية ، ولازمها الرجوع متى أراد مع أصالة براءة ذمة المالك من ثبوت مال لغيره عليه على تخليص ملكه منه ، بل أصالة البراءة مطلقا.

والقائلون بالأول استندوا إلى أنه بناء محترم صدر بالاذن ، فلا يجوز قلعه الا بعد ضمان نقصه ، ولان فيه جمعا بين الحقين ، ولانه سبب الإتلاف لإذنه ، والمباشر ضعيف ، لأنه بالأمر الشرعي.

ثم انه على تقدير وجوب الأرش فهل هو عوض بما نقصت آلات الواضع بالهدم؟


أو هو عبارة عن تفاوت ما بين العامر والخراب؟ وجهان : اختار أولهما في المسالك ، وزاد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) وجها ثالثا قال ، ويحتمل ثالثا وهو جميع ما أخرجه المالك في الجدار بعد وضع قيمة الآلات الموجودة منه ، فتدخل فيه أجرة الأكار وغيرها وهو الأظهر انتهى.

ولو اتفقا على بقائه بالأجرة زال الإشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق المذكور في شرحه على الإرشاد الميل الى مذهب الشيخ في المبسوط في هذه المسئلة (١) قال (قدس‌سره) : وظاهر المصنف بل الأكثر جواز إخراج الخشب المعار ، وان كان مستلزما للخراب على المأذون ، فيعطى الأرش ، ويحتمل عدم الجواز ، وهو مذهب الشيخ ، لأن العارية في مثل هذا للتأبيد ، فكأنه قال : أعرني بحيث يكون دائما عندي ما دام الجدار ، ولا يكون لك الرجوع بوجه ، والتزم ذلك فصار لازما ، لان المسلمين عند شروطهم ، ولأن الأصل في العقود اللزوم ، وخرجت العارية في غير محل النزاع بالإجماع ونحوه ، وبقي الباقي ولانه مستلزم للضرر ، «ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام». ، ولا ينجبر بالأرش ، إذ قد يكون بحيث لو لم يعر الخشبة لسهل عليه تحصيل غير الخشب يبقى دائما ، وقد تخيل بقاؤه دائما ، وحينئذ يخرب ملكه ، وقد لا يوجد من يبني أو يكون الخرج زائدا بكثير على الأول ولا يعارضه ان المنع أيضا ضرر على مالك الخشب ، لانه فعله بنفسه من غير إجبار ، مع أن العادة قاضية بأن مثل هذه العارية انما تكون للدوام ، فإن أحدا لا يرتكب مثل هذه العارية مع تجويز رجوع مالكه إذا كان

__________________

(١) قال (قدس‌سره) : الثالث على تقدير ثبوت الأرش فهل هو عوض ما نقصت آلات الواضع بالهدم أو تفاوت ما بين العامر والخراب ، وجهان : مبناهما على أن البناء إذا كان محترما فهو بهيئته حق لبانيه فيكون جبره بتفاوت ما بين كونه عامرا وخرابا ، لان ذلك هو نقص المالية ، ومن أن نقص هذه المالية مستند الى ملك صاحب الجدار فلا يضمن ، انما تضمن في نقصان الغير الذي كان سبب إتلافه وفواته وهو أقوى لأن جميعه مال للواضع غايته كونه موضوعا على ملك الغير وذلك الملك انما أثر جواز النقص لا المشاركة في المالية. انتهى. منه رحمه‌الله.


مستلزما للخراب ، كما في العارية للدفن ، ولا ينفع الفرق بأن النبش حرام وأنه قياس ، لما تقدم ، ولأن الغرض التمثيل والتأييد ، على أنه قد يقال به ، لظهور العلة المشتركة ، ويدفع الفرق بأنه على تقدير جواز الرجوع لا يكون النبش حينئذ حراما ، بل يكون هذه من الصور المستثنيات الكثيرة.

ثم ان الظاهر على تقدير الجواز ما كان ينبغي وجوب الأرش ، لأنه انما هو بسبب كونه عارية ، وهي جائزة دائما ، والمالك قد أضر نفسه بقبول العارية الجائزة ، فكأنه جوز على نفسه الرجوع والتخريب لما بنى ، فكأنه المخرب والمهدم ، فلا يتوجه أنه سبب ، ومالك الخشب مباشر ، على أنه إذا كان جائزا فله أن يجبر مالك الجدار بحكم الحاكم بدفع ماله اليه ، فيكون هو المباشر فتأمل ، انتهى أقول : والمسئلة لخلوها عن النص محل توقف واشكال ، والاعتماد على هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مجازفة ظاهرة ، سيما مع تدافعها كما عرفت.

نعم يمكن تأييد مذهب الشيخ بما دل على وجوب الوفاء بالوعد من الآية والرواية ، فإن هذه المسئلة وان كانت من قبيل العارية التي حكمها جواز الرجوع فيها ، الا أن قرائن الحال تشهد بأن المطلوب منها هنا الدوام ، فان المعير انما أعار جداره على هذا الوجه ، فلا يجوز له الرجوع بعد ذلك ، لما دل على وجوب الوفاء بالوعد ، ويؤيده حديث الوفاء بالشروط ، والله العالم.

تذنيبان :

الأول ـ قال في التذكرة : ان رفع صاحب الجذوع جذوعه لم يكن له إعادتها إلا بإذن جديد ، لأن الإذن الأول زال بزواله وكذا لو أذن في وضع روشن على حائطه أو جناح أو ساباط ، وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني أن له الوضع عملا باستصحاب الاذن الأول وكذا لو سقطت الجذوع أو الروشن أو الساباط أو الجناح بنفسه ، ولو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة فكذلك ، لأن الإذن لا يتناول إلا مرة ، وللشافعية وجهان ، ولو بناه بغير تلك الآلة


لم يعد الوضع إلا بإذن جديد عندنا وعند الشافعية قولا واحدا ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الاتفاق على التوقف على الاذن الجديد إذا كان البناء بغير تلك الإله مشعر بالخلاف فيما إذا بناه بتلك الإله ، الا أن ظاهره أن الخلاف إنما هو من الشافعية ، حيث قال : وللشافعية وجهان ، مع أن الشيخ قد صرح بذلك في المبسوط أيضا ، ونقله عنه الأصحاب.

ومنهم العلامة في المختلف قال : إذا أذن له في وضع الجذوع على جداره ثم استهدم الجدار للمعير نقضه ، فإذا أعاده قال الشيخ في المبسوط : ان أعاده بتلك الآلة لم يكن له منعه من رد الخشب والسقف عليه ، وان أعاده بغير تلك الآلة كان له منعه ، وقيل : ليس له منعه ، والأول أقوى (١) ، ثم قال في المختلف : والوجه الأخير لنا أنها عارية ، وللمالك الرجوع فيها خصوصا إذا لم يتضمن ضرر المستعير ، ولا ضرر هنا ، لأن إزالة الجذوع كان سائغا ، مع ان الشيخ قال أولا : لو انهدم الحائط أو أهدمه المستعير لم يكن له الإعادة إلا بإذن مستأنف ، وأى فارق بين الموضعين سوى مباشرة الهدم في الثاني دون الأول ، وتلك لا توجب دوام الإعارة بل نقول أبلغ من ذلك ، وهو أن المالك لو هدم الحائط من غير حاجة لم يكن للمستعير الإعادة وان وجب عليه الأرش ان قلنا به ، انتهى.

أقول : ومن أجل اضطراب كلام الشيخ واختلافه هنا كما سمعت من كلام المختلف لم يذكر كثير منهم خلاف الشيخ المذكور ، كما يشير إليه عبارة التذكرة ، وكأنهم أخذوا بقوله الموافق لما عليه الأصحاب من المنع من الرجوع مطلقا ، وأطرحوا هذا التفصيل الذي ذكره ، والقولان للشافعية ، والشيخ جمع

__________________

(١) أقول ومما اقرعه الشيخ على هذا التفصيل ما لو حلف أن لا يستند الى هذا الحائط ثم هدم وبنى بتلك الإله ، فإنه يحنث ، قال في المبسوط وقال العلامة في المختلف : ويقوى في نفسي أنه لا يحنث لأن الحائط الثاني ليس هو الأول ، لأن الحائط عبارة عن آلة وتأليف مخصوص ولا خلاف في أن تأليفه بطل انتهى ، منه رحمه‌الله.


بين الحكمين المختلفين.

إذا عرفت ذلك فهنا شي‌ء لم أعثر على من تنبه له ولا نبه عليه وهو أن ما ذكره الشيخ من التفصيل المتقدم نقله محل الخلاف منه انما هو الشق الأول ، وهو ما إذا أعاد الجدار بتلك الإله فالشيخ حكم بأنه ليس له منعه من الإعادة ، والأصحاب حكموا بالمنع ، وظاهر العبارة المذكورة ان الخلاف انما هو في الثاني ، والعبارة بهذه الكيفية قد ذكرها في المبسوط ، كما في نقل المختلف ، والمعنى لا يصح الا بإسقاط لفظ ليس ، مع أنها موجودة في الكتابين ، وقول العلامة في المختلف والوجه الأخير ثم علله بما ذكره انما يتم بحذف ليس ، لانه هو الوجه الأخير الذي في مقابلة التفصيل الأول ، والمراد أن له منعه مطلقا فليتأمل. والله العالم.

الثاني : لو وقع الصلح بينهما على وضع الخشب أو الجذوع على الجدار بشي‌ء صح ، لعموم أدلة الصلح الا أنه يشترط عندهم معرفة الخشب أو الجذوع الموضوعة طولا ووزنا ، لاختلاف ضرر الجدار باختلاف ذلك ، وتكفي المشاهدة عن اعتبارها بما ذكر ، ولكن لا بد من تعيين المدة وضبطها ، هذا إذا كان الصلح قبل البناء ووضع الخشب.

وأما لو كان بعده فإنه لا يفتقر الا الى تعيين المدة خاصة ، لأن الباقي صار معلوما ، قالوا : ولو كان الجدار غير مملوك بل موقوفا كجدار المسجد لم يجز التصرف بوضع شي‌ء عليه الا بإذن الحاكم الشرعي ، وليس له الإذن إلا بعوض ، وفي الجواز مع العوض بشرط عدم الضرر نظرا إلى المصلحة بحصول العوض وعدمه نظرا إلى أنه تصرف في الوقف بغير ما وضع له ، ولانه يثمر شبهة الاستحقاق بتطاول الأزمان ـ وجهان : أجودهما الأخير ، وهو خيرة الشهيدين في الدروس والمسالك.

الثالث ـ لو تداعيا جدارا فاما أن يكون لأحدهما عليه يد في الجملة ، أم لا يد بالكلية ، فعلى الثاني ان حلف عليه أحدهما مع نكول صاحبه قضى به للحالف ،


وان حلفاهما معا أو نكلا قضى به لهما انصافا ، وعلى الأول فاما أن يكون تلك اليد التي في الجملة مثل كونه في أرض أحدهما فإنه يحكم له به ، أو يكون متصلا ببنائه اتصالا يبعد به كونه محدثا ، كتداخل اللبن والأحجار ، ومثلهما ما لو كان لأحدهما عليه قبة أو غرفة أو نحو ذلك فإنه بجميع ذلك يصير صاحب يد ، فالقول قوله بيمينه مع فقد البينة ، وكذا لو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع ، لان حكم الجذع والجذوع حكم ما تقدم من المرجحات ، فيكون القول قوله مع يمينه ، ونقل عن الشيخ هنا أنه لا يقضى له بذلك ، قال في المبسوط : إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما ، ولأحدهما عليه جذع أو جذوع له يحكم له.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الجذوع ، قال في المختلف : وهو مذهب والدي (رحمه‌الله) وهو المعتمد ، لنا أنه متصرف فيه ، وله عليه يد دون الأخر ، فيحكم مع عدم البينة له بعد اليمين ، كغيره من الأموال ، ثم قال : احتج الشيخ بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه». ولم يفرق وأيضا فإن هذا الحائط قبل طرح الجذوع كان بينهما نصفين بلا خلاف ، فمن قال بطرح الجذوع بغير الحكم عليه والدلالة ، بل يقال لصاحب الجذع ، أقم البينة على انك وضعت هذه الجذوع بحق ، فإن أقامها ، والا كان على حاله قبل وضعها فيه ، وأيضا فإن وضع الجذوع قد يكون عارية لأن في الناس من يوجب اعارة ذلك ، وهو مالك ، فإنه قال يجبر على ذلك لقوله (عليه‌السلام) «لا يمنعن أحدكم جاره أن يوضع خشبته على جداره».

والجواب عن الأول أنا نقول : بموجب الحديث ، فان اليمين هنا على المدعى عليه وهو صاحب الجذوع ، لانه متصرف وذو يد ، فالقول قوله مع اليمين ، وعلى الأخر البينة ، لأنه مدع وخارج.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ والوسائل ج ١٨ ص ١٧٠ و ١٧١.


وعن الثاني أن التنصيف ثابت مع عدم التصرف لتساوى نسبتهما اليه ، كما لو تداعيا عينا في يدهما أو يد ثالث لا يعترف لأحدهما ، فإنهما متساويان في الدعوى لعدم اليد ، أو لثبوتها لهما أما في صورة النزاع فان يد أحدهما ثابتة عليه ، فكان قوله مقدما ، والأصل وضع الجذوع بحق ، فلا يطالب صاحبها بإقامة البينة على ذلك ، الا أن يثبت الأخر دعواه ، والأصل عدم العارية ، والتخريج على المذهب الفاسد فاسد ، انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد ، ولو تفرقت هذه المرجحات بأن كان لأحدهما بعض ، وللآخر بعض ، بان كان البناء متصلا ببناء كل منهما ، أو اختص أحدهما بالجذوع والأخر بالقبة أو الغرفة ، أو نحو ذلك حكم باليد لهما ، فيرجع الكلام الى ما تقدم من اختصاص الحالف مع نكول الأخر ، أو القسمة بينهما مع حلفهما أو نكولهما.

قالوا : ولا يرجع دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان ، وهو كل ما خرج عن وجه الحائط من نقش ووتد ورف ونحو ذلك ، لإمكان احداثه من جهته من غير شعور صاحب الجدار به ، ونحوها أيضا الدواخل في الجدار كالطاقات غير النافذة ، والروازن النافذة لما ذكر ، وفيه على إطلاقه تأمل.

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحد الشريكين عمارته دون الأخر ، فإنه لا يجبر الممتنع على المشاركة في عمارته ، وعللوه بأن الإنسان لا يجب عليه عمارة ماله.

وانما يبقى الكلام في موضعين أحدهما ـ أنه لو أراد أحد الشريكين عمارته فهل يتوقف على اذن شريكه الممتنع؟ أم يجوز البناء وان نهاه؟ قولان : وعلل الأول بأنه مال مشترك ، فيمتنع التصرف فيه بدون اذن الشريك ، كما في جميع المشتركات ، وعلل الثاني بأنه نفع وإحسان في حق الشريك حيث يعمر له حائطه ولا يغرمه في نفقته ، ولا ضرر عليه بوجه ، ونقل هذا القول عن الشيخ ، وفي المسالك قوى الأول.

وفي الحكم بقوته على إطلاقه إشكال ، لأنه ربما يتضرر الشريك بترك عمارته


فيلزم من عدم الاذن له الإضرار به ، وحديث (١) «نفى الضرر والإضرار». يدفعه ، وربما قيل بالتفصيل بين إعادته بالآلة المشتركة ، فلا يشترط رضاه ، وبين إعادته بآلة من عنده فيشترط ، لانه على الأول يبقى شريكا كما كان ، بخلاف الثاني.

ثم انه قال في المسالك : وحيث يتوقف البناء على اذن الشريك ويمتنع رفع أمره الى الحاكم ليجبره على المساعدة أو الاذن ، فإن امتنع اذن له الحاكم انتهى.

أقول : مقتضى ما قدمنا نقله عنه من تقويته القول الأول هو عدم جواز البناء لو لم يأذن ، وفيه ما عرفت آنفا ، ومقتضى كلامه هنا هو أنه يجبر على الاذن ، أو يأذن الحاكم نيابة عنه ، وهو على إطلاقه أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنهم صرحوا بأنه لا يجب عليه عمارة ماله ، وظاهر كلامهم أنه أعم من أن يكون مشتركا أو مختصا به ، وسواء كان بنفقة ينفقها عليه أم لا ، فكيف يجبر على ذلك هنا ، والأظهر عندي انما هو التفصيل بما قدمنا ذكره من أنه مع ارادة الشريك التعمير وامتناع شريكه من ذلك ، فان كان في امتناعه ضرر على شريكه فإنه يجوز للشريك التعمير من غير اعتبار اذنه ، فيسقط الاذن هنا أيضا وقوفا على حديث «نفى الضرر والإضرار» والا فلا ، وقوفا على ما ذكروه من عدم وجوب تعمير الإنسان ماله ، ولا مدخل هنا للحاكم بوجه.

وثانيهما انهم قالوا : على القول باعتبار اذنه لو خالف وعمره بغير الاذن ، فهل للشريك نقضه؟ احتمال من حيث تصرفه في ملك غيره ، وتغيير هيئته ووضعه الذي كان عليه ، فصارت الكيفية الثانية كأنها مغصوبة ، فله إزالتها.

وفصل في المسالك فقال : الأقوى العدم ، ان كان بناه بالآلة المشتركة ، لان هدمه أيضا تصرف في مال الغير ، وهو الشريك الذي بنى ، فلا يصح كالأول ، وانما تظهر الفائدة في الإثم ، والجواز ان كان بناه بغير آلته ، لانه عدوان محض ، وتصرف في أرض الغير ، فيجوز تغييره. انتهى.

أقول : يمكن تطرق المناقشة الى ما ذكره (قدس‌سره) بأن البناء كما أنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ـ الفقيه ج ٣ ص ١٤٧ ح ١٨ ـ الوسائل ج ١٧ ص ٣١٩ ح ١.


مشتمل على الإله فهي أحد أجزائه فهي أيضا مشتملة على الكيفية المخصوصة وهي أحد أجزائه ، وكما يحصل العدوان والغصب بالبناء بغير آلته القديمة كما اعترف به ، يحصل أيضا بتغيير الهيئة والكيفية السابقة ، وبه يظهر أن قوله فيما لو بناه بالآلة المشتركة ـ ان هدمه أيضا تصرف في مال الغير وهو الشريك الذي بنى ـ غير تام ، لان هذا التصرف بناء على ما ذكرناه تصرف عاد غير جائز ، فيجوز إزالته ، وبما ذكرناه يظهر قوة الاحتمال الأول وضعف ما ذكره من التفصيل.

ثم ان الموافق لما قدمناه من التفصيل بالضرر وعدمه أن يقال : انه على القول باعتبار الاذن لو خالف وعمره بغير اذنه ، فان كان في نقضه ضرر على الشريك الذي بناه فليس للآخر نقضه ، عملا بالخبر المتقدم ذكره ، والا فله نقضه ، للعلة المذكورة في وجه الاحتمال من حيث التصرف في ملك الغير ، وتغيير هيئته ، ثم انه على تقدير تحريم الهدم لو هدمه الشريك لزمه الأرش ، كما لو هدمه ابتداء.

والله العالم.

الخامس ـ قالوا : لو اختلفا في خص قضى به لمن اليه معاقد القمط ، والخص بالضم البيت الذي يعمل من القصب ، والقمط بالكسر حبل يشد به الخص ، وبالضم جمع قماط ، وهي شداد الخص من ليف ، وخوص ، ويستفاد من الفقيه أن الخص هو الحائط من القصب بين الدارين ، وهو الأوفق بالأخبار الواردة في المسئلة ، وكذا يفرض المسئلة في كلامهم.

والذي وقفت عليه من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن منصور بن حازم (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن خص بين دارين فزعم أن عليا (عليه‌السلام) قضى به لصاحب الدار الذي من قبله وجه القماط. ورواه في الكافي بسند آخر في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (٢) مثله ، الا أنه قال : عن حظيرة عوض خص ، ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم مثله الا أن فيه «فذكر» عوض «فزعم» ، وروى في الفقيه بإسناده عن عمرو بن شمر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٦ ح ٩ ـ التهذيب ج ٧ ص ١٤٦ ح ٣٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٥ ح ٣ التهذيب ج ٣ ص ٥٦ ح ١.


عن جابر (١) «عن أبى جعفر عن أبيه عن جده عن على (عليهم‌السلام) أنه قضى في رجلين اختصما إليه في خص فقال : ان الخص للذي إليه القمط».

والأصحاب لم ينقلوا في هذه المسئلة إلا الرواية الأخيرة ، ولهذا قال في المسالك بعد نقله الرواية المذكورة : والطريق ضعيف ، الا أن الأصحاب تلقوها بالقبول ، وردها بعضهم ومنهم المصنف في النافع ، وقال انها قضية في واقعة ، فلا تتعدى ، وحينئذ فحكم الخص حكم الجدار بين الملكين انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعد نقل ذلك عن المسالك وكأنه أوفق بالأصول والقوانين ، الا أنه يفهم من شرح الشرائع والتذكرة الإجماع عليه ، ثم ذكر رواية منصور بن حازم المتقدمة ، وقال : انها مروية بطريق صحيح ، وبطريق آخر حسن ، الى أن قال : فالمشهور لا بأس به ، ولا اعتبار بما تقدم ، وان احتمل كونها قضية في واقعة عرفها عليه‌السلام ، فلا تتعدى ، انتهى ملخصا.

وصدر كلامه (رحمه‌الله) يميل الى ما ذكره في النافع من طرح الرواية ، وجعل الخص المتنازع فيه كالجدار المتقدم ذكره ، وحكم التنازع فيه ، ثم ذكر رواية منصور المروية بطريق صحيح ، وآخر حسن ، ووافق المشهور في العمل بالرواية ، ونفى الاعتبار بما ذكره أولا ، الا أنه احتمل الوقوف على مورد الخبرين من غير أن يتعدى الحكم الى غير الخص ، والظاهر أن السبب في ذلك هو أن ظاهر الروايات المذكورة الاعتماد في ذلك على القرائن ، فهي تدل على اعتبار القرائن في إثبات الأحكام الشرعية ، مع أن الأمر بحسب الشرع ليس كذلك ، وحيث كانت الرواية بذلك متعددة مع صحة بعضها ، وجب الوقوف فيها على موردها. والله العالم.

السادس ـ قد تقدم الكلام في أنه لو انهدم الجدار المشترك لم يجبر شريكه على المشاركة في عمارته ، قالوا : وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلو على بناء الجدار الذي يحمل العلو ، والوجه فيه أنه لا يجب على الإنسان عمارة ملكه ، لأجل

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٧٣ ح ٢.


الغير ، الا أن الشهيد في الدروس قيده بان لا يكون لازما بعقد ، بمعنى أن لا يكون حمل جدار العلو أو السقف لازما على صاحب جدار السفلى بعقد لازم فلو كان واجبا عليه ، فإنه يجبر وهو جيد ، ولو أراد صاحب الجدار الا على بناء الأسفل تبرعا فهل لصاحب الجدار الأسفل منعه أم لا؟ الكلام فيه كما تقدم في المورد الرابع ، وأطلق العلامة في التحرير أنه ليس له منعه ، هذا كله إذا انهدم الحائط بنفسه ، أو هدماه معا.

أما لو هدمه أحدهما بدون اذن الآخر أو بإذنه لكن بشرط أن يعمره ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقيل : بأنه يجب عليه إعادته ، ونقل عن الشيخ (رحمه‌الله) وبه صرح المحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد ، ونقله في المسالك عن التذكرة ، الا أن الذي وقفت عليه في التذكرة خلاف ما نقله ، كما ستسمعه ـ إنشاء الله تعالى ـ من العبارة المشار إليها.

وقيل : بأن الواجب انما هو الأرش ، صرح به العلامة في القواعد والتذكرة ، قال في التذكرة : لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير اذن صاحبه ، فان كان استهدامه في موضع وجوب الهدم لم يكن عليه شي‌ء ، فان كان مما لا يجب هدمه ، أو هدمه وهو معمور لا يخشى عليه السقوط فقد اختلف قول علمائنا ، قال بعضهم ، يجبر الهادم على عمارته الى ما كان عليه أولا ، والأقوى لزوم الأرش على الهادم ، لان الجدار ليس بمثلي. انتهى.

ومنه يظهر لك غلط ما في نقله في المسالك عن التذكرة من القول بوجوب الإعادة ، وقيل. بالتفصيل في ذلك كما ذكره في الدروس ، قال : ولو هدمه فعليه إعادته أن أمكنت المماثلة ، كما في جدران بعض البساتين والمزارع ، والا فالأرش ، والشيخ أطلق الإعادة ، والفاضل أطلق الأرش انتهى.

وقال في المسالك بعد نقل ذلك عنه. وفيه مناسبة الا أنه خارج عن القواعد الشرعية لانتفاء المثلية في الفائت ، فإنه محض صفة ، إذ الأعيان باقية ، والمماثلة في الصفة بعيدة ، والقول بالأرش مطلقا أوضح.

وظاهر المحقق الأردبيلي الميل هنا الى ما ذكره في الدروس ، فإنه بعد أن


ذكر الاعتراض على القول بالإعادة ، بأن ضمان المثل انما يكون في المثلي ، والجدار قيمي لا مثلي ، وذكر أن القائل بذلك استند الى ما في التذكرة قال : ولا يخفى أن الإعادة غير بعيد فيما أمكن المماثلة في الجملة ، وان كان الجدار قيميا باصطلاحهم.

الا أن العرف قد يقضي بالمماثلة في بعض الجدران ، وعدم دقة فيها إذا كان المطلوب الحائل والمانع ، ولا يريدون في أمثال ذلك غير تلك المماثلة في الجملة ، فليس ببعيد الاكتفاء في أمثاله بهذا المقدار ، فان العقل يجد أن لا تكليف في أمثاله الا بالمثل ، وهو المضمون ، ويؤيده أن الأرش بعيد ، فإنه لا يسوى بعد الهدم إلا بشي‌ء قليل جدا ، والجدار الصحيح تكون له قيمة كثيرة ، بل المناسب على القول بالأرش أن يراد به ما يحتاج في تعميره بمثل ذلك التعمير ، وفيه أيضا تأمل إذ قد يتفاوت العمل والأجرة كثيرا فتأمل الى أن قال ـ بعد ذكر قوله في المسالك في الاعتراض على كلام الدروس أنه خارج عن القواعد الشرعية والخروج عن القواعد لوجه إذا لم تكن مأخوذة من النص الصريح لا بأس به. انتهى.

أقول : والمسألة كنظائرها محل اشكال ، لعدم المستند الواضح لشي‌ء من هذه الأقوال ، وتدافع التعليل في كل منها والاحتمال ، وان كان كلام الدروس لا يخلو من قرب في هذا المجال. والله العالم.

السابع ـ المشهور أنه إذا كان البيت لرجل وعليه غرفة لاخر فتداعيا جدران البيت فإنه يحكم به لصاحب البيت بيمينه ، ولو تداعيا في جدران الغرفة ، فالقول قول صاحبها بيمينه ، والوجه في ذلك أن جدران البيت جزؤه ، وجدران الغرفة جزؤها ، فيجب أن يحكم بهما لصاحب الجملة.

ونقل عن ابن الجنيد أن جدران البيت بينهما معا ، لان حاجتهما إليه واحدة بخلاف جدران الغرفة ، إذ لا تعلق لصاحب البيت بها ، قال في المختلف : قال في المبسوط : لو تنازع صاحب البيت والغرفة في حيطان البيت قضى به لصاحب البيت.


وقال ابن الجنيد : لو كان على رأس الدرج روشن ليستطرقه صاحب العلو وهو على منزل صاحب السفل كان الروشن لصاحب العلو ، واجذاع السقف وبواريه وجميع آلة السقف لصاحب العلو ، والحيطان الحاملة له بينهما مع موضعها من الأرض ، وكأنه نظر الى أن لكل من صاحب العلو والسفل يدا عليه ، وتصرفا فيه ، ولا بأس بهذا القول انتهى ، وظاهره الميل الى ما ذكره ابن الجنيد.

وقال في المسالك أيضا : أنه قول جيد ، لكن الأول أجود ، ولو كان التنازع في سقف البيت الذي هو أرض الغرفة فقد اختلف فيه كلامهم ، قال في المبسوط : فان لم يكن لأحدهما بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، فان حلفا كان بينهما نصفين ، والأحوط أن يقرع بينهما فمن خرج منهما حلف وحكم له به ، وقال في المختلف يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه حلف لصاحبه ، وحكم له به ، وان قلنا أنه يقسم بينهما نصفين كان جائزا ، واستدل بإجماع الفرقة على أن كل مجهول يستعمل فيه القرعة ، وهذا من الأمر المشتبه.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الغرفة بالسقف ، وقد تلخص من ذلك أن في المسئلة أقوالا ثلاثة ، القول باستوائهما فيه ، وهو قول الشيخ في المبسوط ، وقواه في الدروس : ووجهه اشتراكهما في الانتفاع به ، لانه سقف لصاحب البيت ، وأرض لصاحب الغرفة.

والقول بالقرعة ، وهو للشيخ أيضا كما عرفت ، واستحسنه المحقق في الشرائع ، ووجهه ما تقدم في كلام الشيخ ، وربما أورد عليه بمنع الاشتباه هنا ، لان رجحان أحد الطرفين في نظر الفقيه يزيل الاشتباه بالنسبة إلى الحكم ، وعندي فيه نظر ، إذ المفروض أنه لا نص في المسئلة ، والمرجح في نظر الفقيه بمجرد هذه التخريجات لا يخرج الحكم عن الاشتباه ، ان جوزنا للفقيه الترجيح بمثل ذلك ، والا فهو محل المنع أيضا ، فإن الحكم في المسائل الشرعية موقوف على النصوص من الكتاب والسنة : فلا تثبت بمجرد هذه التقريبات العقلية سيما مع تصادمها كما عرفت في أكثر مسائل هذا الباب.


والقول الثالث الحكم به لصاحب الغرفة ، وهو مذهب ابن إدريس ، وهو الظاهر من عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، واختاره العلامة في جملة من كتبه ، واليه يميل كلامه في المسالك ، واستدل عليه في المختلف قال : لنا أن الغرفة انما يتحقق بالسقف ، إذ هو أرضها ، والبيت قد يكون بغير سقف ، وقد اتفقا على أن هنا غرفة لصاحبها ، وبدون السقف لا غرفة ، ولان تصرفه فيها دون صاحب السفلى.

أقول : ومرجعه الى أن السقف وان أمكن الانتفاع به لهما الا أنه بالنسبة الى صاحب الغرفة أغلب ، وفي حقه أضر فيكون الترجيح باعتبار أغلبية الحاجة وأضريتها ، ويرد عليه حينئذ أن ذلك يجري في جدران البيت الذي قد تقدم اختياره فيها القول بالاشتراك ، من حيث أن كلا منهما صاحب يد ، مع أن البيت لا يوجد الا بالجدران ، لأنها أجزاؤه ، ولا وجود للكل بدون الجزء ، بخلاف الغرفة ، فإنها يمكن أن تبنى على الأعمدة والأساطين ، ولا يتوقف على الجدران فيرجع الأمر هنا إلى أنهما وان اشتركا في الانتفاع بها الا أن صاحب البيت أضره بعين ما قاله في السقف : فان قيل : ان ما فرضتموه نادر ، قلنا : وجود البيت بدون السقف كذلك أيضا ، وبذلك يظهر لك ما في بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه التقريبات العقلية من المجازفة الظاهرة.

قال في المسالك : موضع الخلاف السقف الذي يمكن احداثه بعد بناء البيت ، أما ما لا يمكن كالأزج الذي لا يعقل احداثه بعد بناء الجدار الأسفل ، لاحتياجه إلى إخراج بعض الاجزاء عن سمت وجه الجدار قبل انتهائه ، ليكون حاملا للعقد فيحصل به التوصيف بين السقف والجدران ، وهو دخول آلات البناء من كل منهما في الأخر ، فإن ذلك دليل على أنه لصاحب السفل ، فيقدم قوله فيه بيمينه. انتهى. وهو كذلك والله العالم.


المقام الرابع في مسائل متفرقة من هذا الباب

الاولى ـ المشهور أنه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار وجب على مالك الشجرة عطف تلك الأغصان إن أمكن ، والا قطعها ، لانه يجب عليه تفريغ أرض الغير وهواه من ماله كيف ما أمكن ، وان امتنع المالك من ذلك فلما لك الأرض والهواء تولى ذلك ، مقدما للعطف على القطع ان أمكن ، ولا يتوقف مالك الأرض مع امتناع مالك الشجرة على اذن الحاكم ، لان سبيل هذا الحكم سبيل بهيمة دخلت في ملكه ، فان له إخراجها من غير توقف على اذن الحاكم ، قالوا : وهكذا الحكم في العروق.

وربما قيل : بجواز ازالة مالك الأرض لها من دون مراجعة مالك الشجرة لأن إزالة العدوان عليه أمر ثابت له ، وتوقفه على اذن الغير ضرر ، ويؤيده ما تقدم من جواز إخراج البهيمة الداخلة في ملكه من غير مراجعة مالكها ، والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة أنه لا يجب على مالك الشجرة إزالة الأغصان المذكورة ، وان جاز لمالك الأرض ، مستندا إلى أنه ليس من فعله ، فلا يجبر على إزالته ، وهو خلاف ما تقدم من القول المشهور : ومرجع القولين إلى أنه هل يجب على الإنسان تفريغ أرض الغير من ماله إذا لم يكن ذلك بفعله أو لا يجب عليه ولا يخاطب به؟ وانما يكون الحكم متعلقا بصاحب الأرض ، فإن شاء تفريغ أرضه من مال الغير فله ذلك ، وجهان : ولا يحضرني الان دليل على ترجيح أحد الوجهين.

ولو قطع الأغصان المذكورة مالك الأرض مع إمكان عطفها ضمن بلا اشكال لكن هل يضمن جميع ما قطعه أم تفاوت ما بينه وبين المعطوف اشكال ، من التعدي بالقطع فيضمنه ، ومن أن العطف حق له ، وما يفوت به في حكم التالف شرعا ، فلا يضمن الا التفاوت ، ولعل الثاني أقرب.

وفي حكم أغصان الشجرة التراب المنتقل من ملكه الى ملك غيره ، والحائط المائل في هواء الغير فيجب المبادرة إلى تخليص الأرض والهواء منهما ، ولو


ملكه التراب وقبله سلم من نقله ، وان امتنع من قبوله وجب نقله ، وان شق لما تقدم ، هكذا قالوا ، وفيه ما عرفت من التردد.

ولو صالحه على إبقاء الأغصان المذكورة في الهواء فالمشهور الصحة ، ومنع منه الشيخ ، بناء على أصله المتقدم ذكره من تفريع الصلح على البيع ، وأن الهواء تابع لا يصح افراده بالبيع ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في الموضع السادس من المقام الأول.

بقي الكلام هنا في أن الشيخ قد علل ذلك بعلة أخرى ، فقال : لو صالحه على إبقاء الغصن البارز الى ملك الغير في الهواء لم يصح ان كان رطبا ، لانه يزيد في كل حال ، ولا يعرف قدره ، وكذا ان كان يابسا لانه يتبع الهواء من غير قرار وذلك لا يجوز. انتهى ، ومرجع المنع إذا كان رطبا من حيث المجهولية في المصالح عليه ، فلا بد من معلوميته.

قال في المسالك بعد قول المصنف ولو صالحه على طرحه على الحائط جاز مع تقدير الزيادة أو انتهائها ما لفظه : والمراد بقوله مع تقدير الزيادة أو انتهائها ان الأغصان ان كانت قد انتهت في الزيادة ، بحسب ظن أهل الخبرة صح الصلح على إيقاعها مطلقا ، وان كانت أخذت في الزيادة فلا بد من تقدير الزيادة ليكون الصلح مضبوطا ، ولا بد مع ذلك من تقدير مدة الإقامة ، فلا يصح المؤيد على ما ذكره الجماعة. انتهى.

وحينئذ فالخلاف بينه وبين الأصحاب انما هو في صورة عدم الزيادة بأن يكون يابسا أو قد تناهت زيادته بحيث لا يزيد على ذلك بحسب نظر أهل الخبرة.

الثانية ـ قالوا : إذا كان لإنسان بيوت الخان السفلى : ولاخر بيوته العليا وتداعيا الدرجة ، فإنه يقضى بها لصاحب البيوت العليا مع يمينه ، لاختصاصه بالتصرف فيها بالسلوك الى بيوته العليا وان كانت موضوعة في الأرض التي هي لصاحب البيوت السفلى ، لان مجرد ذلك لا يوجب اليد ، وكما يحكم بها لصاحب العليا ، فكذا محلها ، هذا مع اختلافهما أيضا في الخزانة التي تحت الدرج.

أما لو اتفقا على أن الخزانة لصاحب البيوت السفلى ، وانما النزاع في الدرج


خاصة ، فإنهم قالوا : ان الدرج حينئذ كالسقف المتوسط بين الأعلى والأسفل ، فيجري فيه الخلاف السابق ، فعلى تقدير القول ثمة بأن السقف لصاحب الغرفة ، فإنه يحكم هنا بالدرجة للأعلى مطلقا ، سواء اختلفا في الخزانة أم اتفقا على أنها للأسفل ، وانما يتجه الفرق على تقدير القول بالاشتراك ، فإنه مع الاتفاق على الخزانة يجعل الدرج هنا مشتركا بينهما كالسقف ثمة ، أما مع الاختلاف فيها فالحكم في الدرج ما تقدم من كونها للأعلى مع يمينه.

ولو تداعيا في الخزانة التي تحت الدرج خاصة كانا في دعويها على السواء ، والوجه فيه أن لكل منهما شاهدا بالملك ، أما صاحب الأعلى فلأنك قد عرفت أن له الدرجة : فيكون مكانها كذلك ، وان كان مكانها الهواء : لان الهواء كالقرار وأما صاحب الأسفل فلأنها متصلة بملكه ، بل هي من جملة البيوت السفلى ، وحينئذ فيقضى بها لهما بعد التحالف أو النكول كما تقدم.

أقول : ويمكن ترجيح دعوى صاحب الأسفل بأن يقال : أنه قد ثبت أن الهواء تابع للقرار ، ولهذا منع الشيخ كما تقدم من بيعه والصلح عليه منفردا عن القرار ، فالأصل فيه حينئذ أن يكون تابعا للقرار ، ومجرد وضع الدرجة فيه لا يستلزم الملك ، وتبعيته للدرجة في ذلك ، لأنه أعم من ذلك.

ولو تداعيا الصحن قالوا : ان ما يسلك فيه الى العلو يكون بينهما ، وما خرج عن ذلك فهو لصاحب الأسفل : والوجه فيه أن صاحب العلو لما افتقر سلوكه إليه إلى التصرف في قدر الممر كان له اليد عليه بذلك ، دون باقي الصحن ، فلا يد له عليه ، ولما كان صاحب الأسفل يشاركه في الانتفاع بذلك القدر مغدا ومجيئا كان له يد عليه أيضا ، فاقتضى ذلك الشركة فيه ، دون ما زاد ، لاختصاص صاحب الأسفل به ، وعلى هذا لو كان المرقى الى العلو خارجا عن الدهليز لم يكن لصاحب العلو مشاركة في العرصة ولا في الدهليز بالكلية ، إذ لا يدله على شي‌ء منهما ولو كان المرقى في وسط الصحن فمن أول الدهليز الى المرقى بينهما لتصرفهما فيه ، وما وراء ذلك فهو لصاحب الأسفل.

الثالثة ـ لو تنازع راكب الدابة وقابض لجامها ، فقيل : انه يقضى بها


للراكب ، لقوة يده وشدة تصرفه بالنسبة إلى القابض ، وهو قول الشيخ في المبسوط فإنه قال : انه يحكم بها لأقواهما يدا وآكدهما تصرفا ، وهو الراكب ، وبه قال المحقق في الشرائع والعلامة في المختلف.

وقيل : هما سواء في الدعوى وهو قول الشيخ في الخلاف : قال : إذا تنازعا في دابة وأحدهما راكب ، والأخر أخذ بلجامها ولم يكن مع أحدهما بينة ، جعلت بينهما نصفين ، لعدم دليل على وجوب تقديم أحدهما على الأخر. انتهى وبه قال ابن إدريس.

وقال في المسالك : ووجه التسوية اشتراكهما في اليد ، وقوتها لا مدخل له في الترجيح ، ولهذا لم يؤثر في ثوب بيد أحدهما أكثره كما سيأتي. نعم مع الراكب زيادة التصرف ، الا أنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وتعريف المدعى والمنكر منطبق عليهما ، بتفسيراته ، وحينئذ فالقول بالتساوي أقوى بعد أن يحلف كل منهما لصاحبه إذا لم يكن بينة. انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكره هنا جار في التنازع في السقف الذي بين الغرفة والدار السفلى ، مع أنه قد اختار هناك القول باختصاص صاحب الغرفة به لقوة يده ، فإنه قال بعد نقل تعليل العلامة الذي قدمنا نقله ثمة : ما لفظه ولان تصرفه فيه أغلب من تصرف صاحب السفلى ، والفرق بين المسئلتين غير ظاهر.

وقال في المسالك أيضا تفريعا على ما اختاره : ولا عبرة عندنا بكون الراكب غير معتاد فنية الدواب ، والمتشبث معتادا لذلك : وما ذكر حكم الدابة ، أما اللجام فلمن في يده ، والسرج لراكبه.

أقول : مقتضى ترجيحهم بالقرائن في أمثال هذه المقامات كما تقدم في غير موضع أنه لا مانع من الترجيح هنا أيضا بما منعه من كون الراكب غير معتاد لقنية الدواب ، وقابض اللجام معتادا لذلك.

ويؤيده ما ذكره المحقق الأردبيلي هنا حيث قال : ويمكن اعتبار القرائن مثل كون الدابة بحيث يعلم عادة كونها للراكب ، دون القابض : فيحكم له


أو بالعكس.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى اللجام والسرج فإنه رده المحقق المتقدم ذكره بالبعد ، قال : أنه يبعد أن يكون اللجام لشخص ، والدابة لاخر ، وكذا الجل والرحل فالحكم غير واضح ، انتهى.

أقول : ويؤيده ما تقدم في غير مقام من أن الأحكام انما تبنى على الافراد المتكررة الغالبة ، دون الفروض النادرة.

وكيف كان فان الحكم في هذه المقامات بمجرد هذه التعليلات من غير وجود نص واضح لا يخلو من مجازفة. والله العالم.

الرابعة ـ قيل : لو تنازعا ثوبا في يديهما لكن في يد أحدهما أكثره ، فهما سواء فيه لاشتراكهما في مسمى اليد ، ولا ترجيح لقوتها : والفرق بين هذه المسئلة وسابقتها عند هذا القائل هو أن التصرف الذي كان مع الراكب بالركوب زائدا على اليد ، منتف هنا فاختلف الحكم لذلك.

وأما على ما ذكره في المسالك في ما قدمنا نقله عنه من أنه يثبت شرعا كونه مرجحا يصير حكم المسئلتين من باب واحد ، فيحكم بالتساوي فيهما بعد حلف كل منهما لصاحبه ، قال في المسالك : نعم لو كان أحدهما لابسا للثوب والأخر ممسكا له فهي كمسألة الراكب والقابض ، لزيادة تصرف اللابس على اليد ، وربما قيل هنا : بتقديم اللابس ، لان الظاهر أنه لم يتمكن من لبسه ، الا وهو غالب مستقل باليد انتهى.

أقول : الظاهر أن هذا القول هنا يجرى مجرى القول بتقديم الراكب في مسئلة تنازع الراكب والقابض ، لأنهما مشتركان في زيادة التصرف بالركوب واللبس على مطلق اليد في كل من الموضعين ، ومقتضى ما ذكره في المسالك في تلك المسئلة من عدم ثبوت الترجيح بذلك ، ينبغي ان يجرى في هذا الموضع بمقتضى حكمه بالمساواة بين المسئلتين ، الا أنه أغمض النظر هنا عن ذلك ، وربما


أشعر كلامه هنا وإعراضه عن المناقشة بأن الحكم في الراكب والقابض هو ترجيح الراكب ، مع أنه خلاف ما قدمه ، وسيأتي إنشاء الله تعالى ما يوضح ذلك أيضا.

الخامسة ـ لو تداعيا جملا كان بيديهما بان كانا قابضين لزمامه ، ونحو ذلك مما يكون به كل واحد منهما ذائد ، ولأحدهما عليه حمل ، قالوا : ان القول قول صاحب الحمل ، لان وضع الحمل يستدعي كمال الاستيلاء ، فيرجح به صاحبه ، ولو كان لأحدهما حمل ، ولا يد للآخر فإنه لا شبهة في الترجيح لصاحب الحمل ، ولو كان أحدهما قابضا لزمام الحمل ، وللآخر عليه حمل ، كان كمسئلة الراكب والقابض ، بل الحمل أقوى دليلا على كمال الاستيلاء من الركوب. فان الركوب أسهل تعلقا من الحمل ، ولم ينقلوا في هذا الحكم خلافا ، وظاهره في المسالك القول بذلك على جميع هذه الوجوه ، خصوصا انه قال بعد ذكره نحو ما ذكرناه ، وفي الدروس جعل حكم الراكب ولابس الثوب وذي الحمل سواء في الحكم ، وهو كذلك انتهى ونحوه في الروضة.

وفيه كما ترى مخالفة ظاهرة لما قدمه في مسئلة الراكب والقابض ، حيث اختار التساوي ثمة ، وطعن في زيادة التصرف بالركوب بأنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وفي هذا الموضع وافق الدروس في حكمه بترجيح الراكب واللابس وذي الحمل ، وتقديم قول كل منهم بيمينه ، فإنه قد صرح في الدروس واللمعة بذلك ، والمسئلتان في صفحة واحدة ليس بينهما إلا أسطر يسيرة ، ومثل ذلك وقع له في الروضة أيضا ، وهو عجيب من مثله (قدس‌سره).

السادسة ـ قالوا : لو تداعيا غرفة على بيت أحدهما ، وبابها إلى غرفة الأخر كان القول قول صاحب البيت ، لأنها موضوعة في ملكه ، فان هواء بيته ملكه ، لانه تابع للقرار ، ومجرد فتح الباب الى الغير لا يثبت به اليد ، ولا الملك ، فيقدم صاحب البيت بيمينه ، هذا إذا لم يكن من اليه الباب متصرفا في تلك الغرفة بالسكنى ونحوه ، والأقدم قوله ، لان يده عليها بالفعل ، فان التصرف مقتض لذلك ، ويد صاحب


الهواء انما كانت بالتبعية ليده على القرار ، واليد الفعلية أقوى من التابعة ، ويحتمل التساوي لثبوت اليد من الجانبين وعدم تأثير قوة اليد كما تقدم.

أقول : والحكم الأول لا اشكال فيه وأما الثاني فإنه لا يخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكروه أقرب. والله العالم.


كتاب الشركة

وهي بكسر الشين وإسكان الراء وبفتح الشين وكسر الراء : والبحث في هذا الكتاب يقع في فصول.

الأول ـ في حقيقة الشركة وما يتبعها ، وفيه مسائل الأولى ـ قد عرف المحقق في الشرائع الشركة بأنها اجتماع حقوق الملاك في الشي‌ء الواحد على سبيل الشياع ، ونحوه العلامة في التذكرة.

وقال في التذكرة أيضا : وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا أو حيازة بأن يقتلعا شجرة أو يغر فاماء دفعة ، وظاهر الشهيد الثاني في المسالك اعترافهم فيما ذكروه من هذا التعريف ، حيث قال : ان الشركة تطلق على معينين ، أحدهما ـ ما ذكره المصنف ، وهذا المعنى هو المتبادر من الشركة لغة وعرفا ، الا أنه لا مدخل له في الحكم الشرعي المترتب على الشركة من كونها من جملة العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول ، والحكم عليها بالصحة والبطلان ، فان هذا الاجتماع يحصل بعقد وغيره بل بغيره أكثر ، وثانيهما عقد ثمرته جواز تصرف الملاك للشي‌ء الواحد على سبيل الشياع فيه ، وهذا هو المعنى الذي به تندرج الشركة في جملة العقود ، ويلحقها الصحة والبطلان.

واليه يشير المصنف فيما بعد بقوله قيل : يبطل الشركة ، أعني الشرط والتصرف ، وقيل : يصح ، ولقد كان على المصنف أن يقدم تعريفها على ما ذكره ،


لأنها المقصود بالذات هنا ، أو ينبه عليهما معا على وجه يزيل الالتباس عن حقيقتها وأحكامها ، ولكنه اقتصر على تعريفها بالمعنى الأول إلى آخر كلامه.

أقول : لا يخفى على من تأمل الأخبار الجارية في هذا المضمار أنه لا يفهم منها معنى للشركة غير ما ذكره الفاضلان المتقدمان ونحوهما ، كالشهيد في اللمعة وغيره ، وهو المتبادر لغة وعرفا من لفظ الشركة ، وهذا المعنى الثاني الذي ذكره لا يكاد يشم له رائحة منها بالمرة.

ومن الاخبار الواردة في الباب صحيحة هشام بن سالم (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، قال : «سألته عن الرجل يشاركه في السلعة ، قال : ان ربح فله ، وان وضع فعليه».

وموثقة محمد بن مسلم (٢) «عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل يشتري الدابة وليس عنده نقدها فاتى رجلا من أصحابه فقال يا فلان انقد عنى ثمن هذه الدابة والربح بيني وبينك فنقد عنه فنفقت الدابة ، قال : ثمنها عليهما لانه لو كان ربح فيها لكان بينهما ، وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة (٣).

وصحيحة ابن رئاب (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا ينبغي للرجل المسلم ان يشارك الذمي ولا يبضعه بضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه المودة».

ورواية الحسين بن المختار (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يكون له الشريك فيظهر عليه أنه قد اختان منه شيئا ، إله أن يأخذ منه مثل الذي أخذ من غير أن يبين له؟ فقال : شوه ، لهما أنما اشتركا بأمانة الله وأنى لا حب له ان

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٣ ح ٧٢ والوسائل ج ١٣ ص ١٧٤ ح ١ و ٢.

(٣) الظاهر من رواية محمد بن مسلم وأمثالها أن منشأ الشركة هنا وسببها هو الصلح على أن ينقد عنه ثمن المبيع ويشركه فيه بالمناصفة. منه رحمه‌الله.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١ الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ١ الوسائل ج ١٣ ص ١٧٦ ح ١.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ١٩٢ ح ٣٥ الوسائل ج ١٣ ص ١٧٨ ح ١.


رأى منه شيئا من ذلك أن يستر عليه وما أحب له أن يأخذ منه شيئا بغير علمه» (١). الى غير ذلك من الاخبار الاتية في محالها إنشاء الله تعالى.

فهل تجد للشركة فيها معنى غير المعنى الأول ، وهو اجتماع حقوق الملاك في الشي‌ء الواحد على سبيل الإشاعة ، وأي قرينة فضلا عن الدلالة على العقد المذكور. نعم قد يكون سببها العقد كما تقدم بان يشترى اثنان مالا انصافا أو أثلاثا أو يشترى نصف حيوان بنصف حيوان آخر ، وقد يكون سببها الإرث ، ونحوه مما تقدم ، وعرفها بعضهم شرعا بأنها عقد جائز من الطرفين ، الى آخر ما تقدم في كلام الشهيد الثاني ، وأنت خبير بما ذكرنا بأنه لا عقد بالكلية ولا عاقد ، وانما الشركة هي اجتماع الأموال على الوجه المذكور ، فلا معنى لوصفه بالجواز.

نعم ، البقاء على حكمه أمر جائز بمعنى أنه لا يجب عليه الصبر على الشركة ، بل يجوز رفعها ، وأخذ حصته ، ثم بعد اجتماع هذه الأموال واشتراكها وامتزاجها لا يصح لأحد الشركاء التصرف فيها إلا بإذن باقي الشركاء ، وإذا أذن كل منهم لصاحبه صح التصرف في مال نفسه ومال غيره ، وهذه ثمرة العقد عندهم.

قال في التذكرة : الثاني الصيغة ، وقد بينا أن الأصل عصمة الأموال على أربابها وحفظها لهم ، فلا يصح التصرف فيها إلا بإذنهم ، وانما يعلم الرضا والاذن باللفظ الدال عليه ، فاشترط اللفظ الدال على الاذن في التصرف والتجارة ، فإذا أذن كل واحد منهما لصاحبه صريحا فلا خلاف في صحته.

__________________

(١) الظاهر أن النهى في هذه الرواية عن أخذ عوض ما خانه محمول على الكراهة ويشير اليه قوله وما أحب والأمر بالستر عليه وبذلك صرح ابن إدريس في كتابه حيث قال : ومتى عشر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه ، وذلك على طريق الكراية دون الحظر لأنه إذا تحقق أخذ ماله وعلم ذلك يقينا فله أخذ عوضه ، وانما النهى على طريق الكراهة والاولى والأفضل انتهى. وقال ابن الجنيد إذا وقف أحد الشريكين على أن شريكه قد خانه لم يجز له أن يخونه ، وهو صريح في التحريم والظاهر هو الأول وبه صرح العلامة في المختلف ايضا. والله العالم. منه رحمه‌الله.


انتهى.

وظاهره بل صريحه كما ترى أن مجرد الاذن كاف في جواز التصرف والتجارة ونحو ذلك ، وان عبر عنه بلفظ الصيغة الموهم للعقد.

ومثل هذا الكلام كلام الشهيد في اللمعة أيضا حيث قال : كتاب الشركة وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا بحيث لا يتميز ، الى أن قال : وليس لأحد الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع ، لقبح التصرف في مال الغير ويقتصر على التصرف المأذون ، فإن تعدى ضمن ، قال الشارح بعد ذكر هذه العبارة الثانية : واعلم أن الشركة كما تطلق على اجتماع حقوق الملاك في المال الواحد على أحد الوجوه السابقة ، كذلك تطلق على العقد المثمر جواز تصرف الملاك في المال المشترك ، وبهذا المعنى اندرجت الشركة في قسم العقود ، وقبلت الحكم بالصحة والفساد ، لا بالمعنى الأول ، والمصنف أشار الى المعنى الأول بما افتتح به من الأقسام ، والى الثاني بالاذن المبحوث عنه هنا. انتهى.

أقول : مرجع كلامه السابق وكلامه هنا الى أن ارتكاب هذا التكلف انما هو لأجل إدخال الشركة في قسم العقود ، حيث نظموها في هذا السلك ، وفيه أن هذا انما يتم لو ثبت ذلك شرعا أو لغة أو عرفا ، وشي‌ء من هذه الأمور غير حاصل. أما عدم ثبوت الأخيرين ، فقد اعترف به فيما مضى من كلامه.

وأما الأول فلما عرفت من الاخبار ، إذ لا يستفاد من لفظ الشركة فيها أزيد من هذا المعنى اللغوي والعرفي ، نعم يتوقف التصرف بعد حصول الشركة بالمعنى الذي ذكرناه على الاذن ، وما يقع منهما عليه التراضي في التجارة ونحوها من التصرفات ، وتبعية الربح لرأس المال ونحو ذلك ، وبذلك يتم المقصود وان لم يدخل في باب العقود ، وهذا هو المفهوم من كلام الفضلاء المذكورين.

وأما قوله ان الشهيد في اللمعة أشار الى العقد الذي ادعاه بقوله : «وليس لأحد الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع» بمعنى أن المراد بالاذن


العقد ، وحاصله أن لا يجوز التصرف الا بالعقد ، ففيه أن الاذن ليس منحصرا في اللفظ ، فضلا عن العقد المشتمل على قيود كثيرة ، وأحكام عديدة ، بل يحصل بالإشارة والكتابة والفعل.

وبالجملة فالمراد أن المدار على العلم بالرضا بأي نحو كان ، وعليه يترتب الأحكام التي جعلها منوطة بالعقد ، والظاهر أن هذا هو مراد أولئك الفضلاء حيث عرفوها بالتعريف الأول الراجع الى أن الشركة الحقيقة هي الاجتماع ، وعقبوه بذكر الاذن إشارة الى أن الأحكام يترتب على الاذن في التصرف في المال المشترك وأنه بذلك يصير عقدا جائزا ، فإطلاق العقد عليه تجوز ، وهو باب واسع في الكلام والا فإنه لا عقد ولا عاقد كما أوضحناه في المقام. والله أعلم.

المسئلة الثانية ـ قال في التذكرة : أركان الشركة ثلاثة ، الأول ـ المتعاقدان ويشترط في كل منهما البلوغ ، والرشد ، والعقد ، والاختيار ، والقصد ، وجواز التصرف ، والضابط أهلية التوكيل والتوكل ، لان كل واحد من الشريكين متصرف في جميع المال ، أما فيما يخصه فبحق الملك ، وأما في مال غيره فبحق الاذن (١) من ذلك الغير ، فهو وكيل عن صاحبه ، وموكل لصاحبه في التصرف في ماله ، فلا يصح وكالة الصبي ، لعدم اعتبار عبارته في نظر الشرع ، ولا المجنون ولا السفيه ، ولا المكره ، ولا الساهي والغافل والنائم ، ولا المفلس المحجور عليه ، لانه ممنوع من جهة الشرع من التصرف في أمواله ، ولا يفرق بين من يأذن من له الولاية عليهم في ذلك أولا إلا المفلس ، فإنه إذا أذن له الحاكم في التوكيل أو التوكل جاز ، وكذا السفيه ، الى أن قال الثاني الصيغة إلى آخر العبارة المتقدم نقله عنها آنفا.

ثم قال بعدها : ولو قال كل واحد منهما : اشتركنا واقتصرا عليه مع قصدهما

__________________

(١) قوله فبحق الاذن من ذلك الغير فيه تأييد لما قدمناه من أنه ليس المدار الا على الاذن وان سموه عقدا مجازا كما عبر به في صدر الكلام بقوله الأول المتعاقدان وكذلك قوله الثاني الصيغة ومرجع جميع ذلك الى الاذن بأي نحو كان. منه رحمه‌الله.


الشركة بذلك ، فالأقرب الاكتفاء به في تسلطهما على التصرف به من الجانبين ، لفهم المقصود عرفا وهو أظهر وجهي الشافعية ، وبه قال أبو حنيفة ، والثاني ـ أنه لا يكفى لقصور اللفظ عن الاذن ، واحتمال قصد الاخبار عن حصول الشركة في المال ، من غير الاختيار بأن يمتزج المالان بغير رضاهما.

الى أن قال الثالث : المال ، يشترط في المال المعقود عليه الشركة أن يكون متساوي الجنس ، بحيث لو مزج ارتفع الامتياز بينهما ، وحصل الاشتباه بينهما سواء كان المال من الأثمان أو العروض ، كما لو مزج ذهب بذهب مثله ، أو حنطة بمثلها ، أو دخن بمثله ، الى غير ذلك مما يرتفع فيه المائز بينهما ، ولا خلاف في أنه يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير ، لأنهما أثمان الأموال والمباعات ، ولم يزل الناس يشتركون فيها في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى وقتنا هذا من غير نكير أحد في صقع من الأصقاع أو عصر من الأعصار فكان إجماعا.

وأما العروض عندنا يجوز الشركة فيها مع الشرط المذكور ، سواء كانت من ذوات الأمثال ، أو من ذوات القيم ، الى أن قال : مسئلة : لا تصح الشركة إلا بمزج المالين ، وعدم الامتياز بينهما عند علمائنا فالخلطة شرط في صحة الشركة ، ومتى لم يختلطا لم يصح ، وبه قال الشافعي ، ثم نقل عن أبي حنيفة أنه ليس من شرط الشركة خلط المالين ، بل متى أخرجا المالين وان لم يمزجاه وقالا قد اشتركنا انعقدت الشركة ، لأن الشركة انما هي عقد على التصرف ، فلا يكون من شرطها الخلط كالوكالة. انتهى المقصود من نقل كلامه.

أقول ، أما ما ذكره في المتعاقدين من الشروط فجيد ، الا أن قوله «لان كل واحد من الشريكين متصرف» الى آخره ، فيه أن ذلك غير معتبر في الشركة ، بل يكفى جواز التصرف من أحدهما بعد إذن الأخر ، وكذا قوله «في السقية بجواز التصرف مع اذن الحاكم كالمفلس» فان فيه إشكالا ، فإنه ليس له أهلية التصرف والمعرفة بالمعاملات وكيفية حفظ مال نفسه ، فكيف يسلطه الحاكم على تصرفه في مال نفسه وغيره.


وأما قوله في الركن الثاني «وانما يعلم الرضا والاذن باللفظ الدال عليه» ، فقد عرفت ما فيه من أن الاذن لا ينحصر في اللفظ ، فضلا عن العقد المخصوص ، ثم لا يخفى أن الشركة بهذا المعنى الذي ذكره واعتبر فيه هذه الأركان الثلاثة وهي التي يبحث عنها في هذا الكتاب انما هي الشركة المسببة عن المزج ، دون غيرها مما كان سببه الميراث أو الحيازة أو العقد مع أن هذه الأفراد سيما الثالث منها مما دلت الاخبار عن جريان بعض أحكام الشركة فيه ، مثل كون الربح بينهما ، أو النقص عليهما ونحو ذلك.

ثم أنه لا يخفى أيضا أن الظاهر من كلامهم أن المراد بالشركة ـ ما امتزج من المالين واشتبه فيه التميز بين الحقوق بحسب الظاهر ، لا ما كان كذلك بحسب الواقع ونفس الأمر ، بمعنى أن يصير كل جزء جزء من ذلك المال المشترك كذلك في نفس الأمر : فإن الغالب من أسبابها المزج ، وقد صرح في التذكرة فيما قدمنا نقله عنه بان ذلك أعم من أن يكون في الأثمان ، أو العروض التي من ذوات الأمثال مثل الحنطة والدخن.

نعم قد يتحقق الاشتراك النفس الأمري في الميراث. وشراء شي‌ء بالاشتراك ونحو ذلك ، ومن هنا يظهر من المحقق الأردبيلي المناقشة في اشتراط اتحاد الجنس ، حيث قال : فإن الشركة بالمعنى المتقدم (١) تجري في غير المتجانسين أيضا ، حيث ارتفع المائز ، وحينئذ فما ذكره في التذكرة في الركن الثالث في بيان المال الذي تجري فيه الشركة حيث اشترط تساوى الجنس في المال المشترك أثمانا وعروضا ـ محل تأمل ، فإنه متى ثبت أن الشركة تحصل بمجرد المزج الموجب لعدم تميز الحقوق ، وان لم يكن كذلك في نفس الأمر ، صح أيضا حصول الشركة في غير المتجانسين أيضا عند ارتفاع المائز ، وحصول الاشتباه ، وأيده أيضا بأن المدار في حصول الشركة على الاشتباه وهو حاصل في الموضعين فإنه قد يحصل التفاوت قيمة ووصفا في المتجانسين أيضا (٢) وهو واضح.

__________________

(١) ومراده بالمعنى المتقدم هو الشركة ظاهرا دون نفس الأمر. منه رحمه‌الله.

(٢) قوله قد يحصل التفاوت في المتجانسين الى آخره جواب عن سؤال مقدر وهو أن عدم حصول الشركة فيما لو كانا مختلفين غير متجانسين لحصول التفاوت قيمة ووصفا مع الاختلاف. منه رحمه‌الله.


وأيضا لا شك في تحقق الاذن في التصرف على وجه الشركة بالشراء بالعين المماثل وغيره ، فتحصل فائدة الشركة بل يحصل ذلك مع الامتياز أيضا ، الا أنه يكون الشركة باعتبار القيمة فلا مانع منها حينئذ.

أقول : ان كان مراده بما ذكره في غير المتجانسين من حصول الاشتباه وعدم المائز الذي جعله مناطا للشركة ، باعتبار عسر التميز بينهما ولو مجازا ، فما ذكره محتمل ، والا فإنه مع اختلاف الجنسين لا اشتباه ، بل التميز حاصل ، فإنه متى خلط حنطة بشعير ، فان الامتياز حاصل ، والاشتباه مرتفع الا انه يعسر تخليص أحدهما من الأخر فدعوى حصول الاشتباه وعدم المائز لا يتم إلا إذا كان باعتبار ما ذكرناه من التجوز عن عسر تخليص أحدهما من الأخر ، وان كان الجميع مشتركا في الاشتراك الظاهري ، دون النفس الأمري ، فان كلا من المشترك في الجنس كحنطة بحنطة ، أو المختلف كحنطة بشعير ، الاشتراك فيه انما هو بحسب الظاهر ، لا نفس الأمر.

وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من إجمال ، وظاهره الميل الى ما قدمنا نقله عن أبي حنيفة من عدم اعتبار الامتزاج ، وأنه تصح الشركة مع الامتياز ، وأنت خبير بانا لم نظفر لهم بدليل على ما ذكروه من شرط التجانس ، ولا شرط الامتزاج ، بل ظاهر الاخبار العموم ، كما أنك قد عرفت أيضا أنه لا دليل على العقد الذي ادعوه ، وأن الشركة شرعا عبارة عن ذلك العقد ، والمفهوم من ظواهر الاخبار أنه إذ اشتركا في مال واتجرا به ترتبت عليه أحكام الشركة ، سواء كانت ثمة عقد أو لم يكن ، اتفق المال جنسا أو اختلف ، مزج بعضه ببعض أم لم يمزج.

ومنها رواية حسين بن المختار المتقدمة ، وحسنة الحلبي (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين اشتركا في مال فربحا ربحا وكان من المال دين ، الحديث. وقد تقدم في كتاب الدين.

وبالجملة فإن أبحاثهم وتفريعاتهم في هذه المواضع الخالية من النصوص قد جروا فيها على أبحاث مخالفيهم في ذكرها ، والبحث عنها ، ورجحوا منها ما

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.


رجحوه بأفكارهم ، وردوا ما ردوه بذلك ، حيث أن كتب متقدمي الأصحاب خالية من هذه الأبحاث ، وهذه الفروع مقصورة على الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وأول من سلك هذه الطريقة الشيخ (رحمة الله عليه) وتبعه من تأخر عنه. والله العالم.

تذنيب : قال في التذكرة : يكره مشاركة المسلم لأهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس وغير أهل الذمة من سائر أصناف الكفار عند علمائنا.

أقول : ويدل عليه صحيحة ابن رئاب (١) المتقدمة في المسئلة الاولى.

وما رواه الكافي عن السكوني (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ان أمير ـ المؤمنين (صلوات الله عليه) كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي ، الا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها المسلم ، ومورد الروايتين الذمي ، (٣) ولعل دخول سائر الكفار في الحكم المذكور من باب الأولوية ، لأنه إذا ثبت ذلك في أهل الذمة فغيرهم من سائر أصناف الكفار بالطريق الاولى.

المسئلة الثالثة ـ الشركة قد تكون في عين ، وهو ظاهر ، وقد تكون في منفعة كالإجارة والحبس والسكنى ، وقد تكون في حق كالاشتراك في الخيار ، والشفعة بالنسبة إلى الورثة ، والقصاص والرهن والحد وقد تقدم أن سببها قد يكون إرثا وهو يجري في الأقسام الثلاثة السابقة ، بأن يرثا مالا ، أو يرثا منفعة دار استأجرها مورثهم ، أو منفعة عبد موصى بخدمته ، أو يرثا حق شفعة أو خيار أو رهن ، وقد يكون سببها عقدا ، وهو يجري أيضا في الأقسام الثلاثة المذكورة ، فجريانه في العين بأن يشتريا دارا وفي المنفعة بأن يستاجراها ، وفي الحق بأن يشتريا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ١ باب مشاركة الذمي والتهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ٢ ، وهما في الوسائل ج ١٣ ص ١٧٦ ح ١ و ٢.

(٣) ومنها روايات عديدة تقدمت في كتاب الدين وهي بهذا المضمون في رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر يرد على صاحبه قال : نعم ما يذهب ماله منه رحمه‌الله.


بخيار ، وقد يكون حيازة ، وهو انما يتصور في العين خاصة.

وسببية الحيازة اما بأن يشتركا في نصب حبالة الصيد المشترك ، ورمى السهم المثبت له فيشتركان في ملكه ، أو بأن يقتلعا شجرة أو يقترفا ماء دفعة ، فإنه يتحقق الشركة بذلك في الجملة ، الا أنه يكون لكل منهما من ذلك المحاز بنسبة عمله ، ويختلف ذلك بالقوة والضعف ، ولو اشتبه مقدار كل واحد فطريق التخلص الصلح ، وما كان من الحيازة على غير الوجوه المذكورة فإنه يختص كل بما حازه على الأظهر.

هذا مع تميزه ، لأنه في معنى شركة الأبدان ، وهي جائزة على الأشهر الأظهر ، اما مع امتزاجه فإنه يكون مشتركا ، لكن لا من حيث سببية الحيازة ، بل من حيث المزج الذي هو أحد الأسباب كما عرفت ، كما لو امتزج المالان وهو خارج عن محل الفرض.

وقد يكون مزجا وهو انما يتصور في العين خاصة ، وينبغي أن يعلم أن سببية المزج في الشركة أعم من أن يكون المزج اختيارا أو وقع ذلك اتفاقا ، بأن وقع أحد المالين على الأخر وامتزجا على الوجه المعتبر في الشركة ، فإنه يثبت بذلك الشركة ، وضابط الامتزاج الذي يثبت به الشركة عدم التميز ، فلهذا اعتبر فيه الاتفاق في الجنس والصفة عندهم ، فلو لم يكونا من جنس واحد وتحقق الامتياز وان عسر التخلص كما في مزج الحنطة بالشعير فإنه لا شركة هنا ، ومثله الدخن بالسمسم ، وكذا لو لم يكونا على صفة واحدة كحبة الحنطة الحمراء بغيرها ، فإنه لا شركة أيضا.

ويأتي على ما تقدم نقله عن المحقق الأردبيلي حصول الشركة وصحتها في في الموضعين المذكورين إلا أنت قد عرفت ما فيه ولا فرق فيما ذكرنا من حصول الشركة بالامتزاج على الوجه المذكور بين الأثمان والعروض المثلية ، كالحنطة وغيرها من الحبوب ، وهو إجماعي عندنا ، ولم ينقل الخلاف هنا الا عن بعض العامة


حيث خص ذلك بالأثمان كالمضاربة (١).

بقي الكلام في العروض الغير المثلية كالثوب والخشب والعبد ونحو ذلك ، فهل يتحقق فيه الشركة بالمزج أم لا؟ وانما يتحقق بالإرث والعقد ، وبالأول منهما صرح في التذكرة ، حيث قال : تذنيب ، إذ اشتركا فيما لا مثل له كالثياب وحصل المزج الرافع للامتياز تحققت الشركة وكان المال بينهما ، فان علمت قيمة كل واحد منهما كان الرجوع الى نسبة تلك القيمة ، والا تساويا عملا بأصالة التساوي انتهى.

والثاني ظاهر المحقق في الشرائع ، حيث قال : أما ما لا مثل له كالثوب والخشب والعبد فلا يتحقق فيه المزج ، بل قد تحصل بالإرث أو أحد العقود الناقلة.

وظاهره في المسالك الميل الى ما ذكره العلامة في التذكرة ، حيث اعترض المصنف هنا ، فقال : في عدم تحققه بالمزج مطلقا منع بين ، بل قد يتحقق كالثياب المتعددة المتقاربة في الأوصاف ، والخشب كذلك ، فيتحقق الشركة فيه والضابط عدم الامتياز ، ولا خصوصية للمثلي والقيمي في ذلك. انتهى.

ثم انه على تقدير القول الأول من ثبوت الشركة هنا فان علم قيمة ما لكل واحد منهما كان الاشتراك بنسبة القيمة ، فان لم تعلم فهل يحكم بالتساوي؟ لأنه الأصل أم يرجع الى الصلح ، قولان : أولهما صريح عبارة التذكرة المتقدمة ، وثانيهما اختياره في المسالك ، وهو أيضا ظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث قال بعد الكلام في معنى عبارة التذكرة المذكورة : ما لفظه ، الا أن في الحكم ـ مع عدم العلم بالقيمة ـ بالتساوي ـ للأصل محل التأمل ، بل ينبغي هنا الصلح

__________________

(١) هذا الخلاف من بعض العامة انما هو بالنسبة إلى الشركة شرعا لا بالنسبة إلى المعنى المشهور المفهوم منها لغة وعرفا فإنه لا خلاف بين الخاصة والعامة في تحققها بمجرد الامتزاج كيف اتفق مع التماثل. منه رحمه‌الله.


والتراضي ، فإن مساواة الاعراض بحسب القيمة مع تخالف الجنس نادر ، والأصل لا يقتضي ذلك. نعم مع التشاح وعدم الرضا بالصلح ، لا وجه للخلاص سوى ما ذكره ، فيقسمان جميع المال قسمة متساوية مع عدم العلم بالتفاوت أصلا ، ومعه ومع الاشتباه يمكن القرعة انتهى.

وأنت خبير بما في قوله : «فإن مساواة الاعراض بحسب القيمة مع تخالف الجنس نادر» من الغفلة ، فإن الجنس هنا غير مختلف ، إذ محل البحث في القيمي كالثياب والخشب ونحوها ، بمعنى أن المشترك بينهما ثياب متفقة في الأوصاف ، أو خشب كذلك ، أو نحو ذلك.

وعلى تقدير القول الثاني من عدم ثبوتها بالمزج في الصورة المفروضة ، فلو أراد الشركة باع كل منهما حصته مما في يده بحصته مما في يد الأخر ، ومثله ما لو أرادا الشركة في المثلي مع اختلاف الجنس أو الوصف.

ومثل هذه الحيلة في حصول الشركة ما لو وهب أحدهما صاحبه حصة من ماله ووهب الأخر كذلك أو باعه حصته بثمن معين ثم اشترى به حصة من الأخر ، والمراد من الشركة في جميع هذه الصور الشركة المشهورة لا الشركة الخاصة التي هي عبارة عن الاذن في التصرف. والله العالم.

المسئلة الرابعة ـ قال في التذكرة : الشركة على أربعة أنواع ، شركة العنان وشركة الأبدان ، وشركة المفاوضة ، وشركة الوجوه ، فأما شركة العنان فهي أن يخرج كل مالا ويمزجاه ، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما ، الى أن قال : وأما شركة الأبدان بأن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبون بأيديهم ، كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم ، فما رزق الله فهو بينهم على التساوي ، أو التفاوت.

واما شركة المفاوضة فهو أن يشتركا ليكون بينهما ما يكتسبان ، ويربحان ويلتزمان من غرم وما يحصل لهما من غنم ، فيلزم كل واحد منهما ما يلزم الأخر من أرش جناية ، وضمان غصب ، وقيمة متلف ، وغرامة لضمان أو كفالة ، ويقاسمه فيما يحصل له من ميراث ، أو يجده من ركاز أو لقطة ، أو يكسبه


شركة المفاوضة أن يكون مالهما من كل شي‌ء يملكانه بينهما.

وأما شركة الوجوه فقد فسرت بمعان ، أشهرها أن يشترك اثنان وجيهان عند الناس لا مال لهما ، ليبتاعا في الذمة إلى أجل على أن ما يبتاعه كل واحد منهما يكون بينهما ، فيبيعاه ويؤديا الأثمان ، فما فضل فهو بينهما ، وقيل : أن يبتاع وجيه في الذمة ويفوض بيعه الى خامل ، ويشترطان أن يكون الربح بينهما ، وقيل ان يشترك وجيه لا مال له ، وخامل ذو مال ليكون العمل من الوجيه والمال من الخامل ، ويكون المال في يده لا يسلمه الى الوجيه ، والربح بينهما ، وقيل : أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ، ليكون بعض الربح له ، ولا يصح شي‌ء من أنواع الشركة سوى شركة العنان انتهى كلامه (قدس‌سره).

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ أن ما ذكره من أنه لا يصح شي‌ء من هذه الأنواع سوى شركة العنان هو المشهور بين الأصحاب ، وقال ابن الجنيد : لو اشترك رجلان بغير رأس مال على أن يشتريا ويبيعا بوجههما جاز ذلك ، ولو اشترك رجلان وكان من عند أحدهما بذر وبقر ، وعلى الأخر العمل والخراج ، كانت الشركة جائزة بينهما ، ولو اشترك رجلان على أن يعملا عملا لكل واحد منهما فيه عمل منفرد (١) أو أن يكون يداهما جميعا في العمل ، وتقسم الأجرة بينهما لم يجز ذلك ، لان الأجرة عوض عن عمل ، فإذا لم يتميز مقدار عمل كل واحد منهما لم آمن أن يلحق أحدهما غبن أو أن يأخذ ما لا يستحقه ، فان تتاركا الفضل وتحالا ، أو يضمن أحدهما بالعمل ثم قسمه على الأخر من غير شركة جاز انتهى.

وهو ظاهر في جواز شركة الوجوه ، وشركة الأبدان على التفصيل المذكور :

__________________

(١) قال في المسالك : لا خلاف عندنا في بطلان شركة الأعمال الا من ابن الجنيد حيث أجازها مع تشاركهما الفضل أو عمل أحدهما وقسمته على الأخر من غير شركة ، مع أنه راجع الى بطلانهما لان تداركهما الفضل بعد مزج الأجرتين وتحالهما أمر خارج عن صحة هذه الشركة وكذا لو تبرع أحدهما عن الأخر بمشاركته في أعماله انتهى. وهو جيد. منه رحمه‌الله.


وان شركة الوجوه عبارة عن المعنى المشهور المذكور في كلام العلامة.

قال العلامة في المختلف ـ في مقام الرد عليه : لنا إجماع الفرقة ، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به ، لانقراضه ، وحصول الاتفاق بعده ، ولأن الأصل عدم الشركة ، وبقاء حق كل واحد عليه ، ولانه ضرر عظيم ، ولأن الشركة عقد شرعي يتوقف على الاذن فيه. انتهى.

والمفهوم من كلامه وكذا غيره من الأصحاب هو بطلان الشركة في جميع الأنواع المتقدمة ما عدا شركة العنان ، وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا في بعض المواضع حيث قال : بعد نقل قول العلامة في التذكرة : وأما شركة الأبدان فعندنا باطلة ، سواء اتفق عملهما أو اختلف ، بأن يكون كل واحد منهما خياطا ، ويشتركا في فعل الخياطة ، أو يكون أحدهما خياطا والأخر نجارا ، أو يعمل كل واحد منهما في صنعة ، ويكون الحاصل بينهما ، وسواء كانت الصنعة البدنية في مال مملوك ، أو في تحصيل مال مباح ، كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب.

فقال المحقق المشار اليه ولا يظهر دليل على عدم الجواز ، سوى الإجماع ، فإن كان فهو ، والا فلا مانع ، فإنه يرجع الى الوكالة في بعض الأمور (١) وتمليك مال في البعض الأخر ، وبذل نفس وعمل في مقابله عوض ، ولا مانع منه في العقل والشرع ، ولهذا جوز بعض أقسامها بعض العامة ، ثم نقل عنه أيضا أن شركة المفاوضة عندنا باطلة ، وليس لها أصل ، وبه قال الشافعي ، ومالك ، ثم نقل عنه أيضا في شركة الوجوه أنها عندنا باطلة ، وبه قال الشافعي ومالك ، ثم قال : والبحث فيهما مثل ما تقدم فتأمل. انتهى.

__________________

(١) الظاهر ان الرجوع الى الوكالة في مثل الشركة في الاحتطاب ونحوه فان كلا منهما جعل الأخر وكيلا عنه في ذلك وتمليك المال في ما لو تبرع أحدهما في ماله وأعطى شريكه حصة من الربح فإنه يرجع الى تمليك مال وأما الثالث فلا أعرف له وجها منه رحمه‌الله.


وكلامه لا يخلو من غموض وخفاء ، وان سلم صحة ما ذكره ، الا أن دخوله تحت لفظ الشركة بأي المعنيين محل اشكال.

وأما ما ذكره ابن الجنيد من أنه لو اشترك رجلان وكان من عند أحدهما بذر وبقر ، وعلى الأخر العمل والخراج ، كانت الشركة جائزة بينهما ، فهو خلاف ما يفهم من كلام الأصحاب ، بل الظاهر أنه لا شركة هنا ، وانما الحاصل لصاحب البذر ، وللعامل الأجرة.

قال في التذكرة : لو كان لواحد البذر ، وللآخر الدواب ، ولثالث الأرض ، واشتركوا مع رابع ليعمل ، ويكون الحاصل بينهما فالشركة باطلة ، والنماء لصاحب البذر ، وعليه أجرة المثل لصاحب الأرض ، عن أرضه : ولصاحب الدواب عن عملها ، ولصاحب العمل عن عمله ، فإن أصاب الزرع آفة ولم يحصل شي‌ء من الغلة لم يسقط حقهم من أجرة المثل انتهى.

وهذا هو الموافق لمقتضى الأصول الشرعية ، وأنت خبير بأن أخبارنا خالية من ذكر هذه الأنواع ، والظاهر أنها من اصطلاحات العامة ، ولهذا اختلفوا في كل منها صحة وبطلانا ، وإطلاقا وتقييدا ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، وأصحابنا قد اقتفوا أثرهم في ذكرها ، والبحث عنها واتفقوا عدا ابن الجنيد على بطلان ما عدا شركة الأموال. والله العالم.

الثاني ـ قد عرفت أن أحد الأنواع المتقدمة شركة العنان بكسر العين ككتاب ، وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابة ، وهي المتفق على جوازها ، وهي عبارة عن الشركة في الأموال.

بقي الكلام في وجه هذه التسمية فقيل : من عنان الدابة ، أما لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف واستحقاق الربح على قدر رأس المال ، كاستواء طرفي العنان ، أو تساوى الفارسين إذا سويا بين فرسيهما ، وتساويا في السير يكونان سواء ، واما لان لكل واحد منهما أن يمنع الأخر من التصرف كما يشتهي ويريد ، كما يمنع العنان الدابة ، واما لان الأخذ بعنان الدابة حبس أحدى يديه


على العنان ، ويده الأخرى مطلقة يستعملها كيف شاء ، كذلك الشريك يمنع بالشركة نفسه عن التصرف في المشترك كما يشتهي ، وهو مطلق اليد والتصرف في سائر أمواله.

وقيل : من «عن» إذا ظهر أما لانه ظهر لكل واحد منهما مال صاحبه ، أو لأنها أظهر أنواع الشركة ، ولهذا أجمع على صحتها ، وقيل : من «العانة» وهي المعارضة ، لأن كل واحد منهما عارض بما أخرجه الأخر.

الثالث ـ ما ذكره في آخر العبارة المتقدمة من قوله «ولا يصح شي‌ء من أنواع الشركة سوى شركة العنان» محتمل لكون المراد بالشركة بالمعنى المشهور المتبادر ، وهو اجتماع حقوق الملاك كما تقدم ، وهو الذي يقتضيه السياق في عد هذه الأنواع ، ويحتمل المعنى الخاص ، لانه الغرض الذاتي منها ، ويؤيده تعريفه لها بما ذكره من أنها عبارة عن أن يخرج كل مالا ، ويمزجاه ، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما.

قال في المسالك : ولا بد لها بهذا المعنى مع اشتراكهما في المالين من صيغة تدل على الاذن في التصرف ، لأنهما ممنوعان منه ، كسائر الأموال المشتركة وهي كل لفظ يدل على الاذن فيه على وجه التجارة ، سواء كان قبل الامتزاج أو بعده ، وسواء وقع من كل منهما للآخر ، أم اختص بأحدهما ، وبهذا المعنى لحقت بقسم العقود على تكلف أيضا ، وتترتب عليها الأحكام التي يذكرها المصنف بعد هذا انتهى.

أقول : قد عرفت آنفا ما في هذا الكلام ، وأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد لكن يتجه الإيراد على الأصحاب بأنهم لما ذكروا للشركة معنى آخر ، وهو الذي تترتب عليه الأحكام الاتية كان الواجب عليهم أن يعرفوا الشركة في هذا المقام بغير التعريف المشهور كما ذكره شيخنا المذكور : لان غرضهم بيان الشركة التي هي مثل العقود تترتب عليها الأحكام من جواز التصرف واستحقاق الربح ونحو ذلك ، وأنه عقد جائز ، وله أركان ثلاثة ، ومع ذلك لم يعرفوها بشي‌ء زيادة


على التعريف المشهور ، مع أن الأحكام لا تترتب على ذلك التعريف المشهور بمجرده ولعلهم بنوا كلامهم كما قدمنا ذكره على أن المقصود واضح ، وأن الشركة الحقيقة هو اجتماع المال كما تقدم ، وأما الأحكام فتناط بالإذن في التصرف في المال المشترك ، والاذن كما تقدم يحصل بأي نحو كان ، وتجوزوا في إطلاق العقد على هذا الاذن في أثناء الكلام في المقام. والله العالم.

المسئلة الخامسة ـ لا اشكال ولا خلاف في أنه مع تساوى المالين يتساوى الشريكان في الربح والنقصان ، وكذا لو زاد رأس مال أحدهما كان له من الربح بنسبة الزيادة ، وعليه من الخسران بالنسبة أيضا ، وانما الاشكال والخلاف فيما إذا اشترط أحدهما زيادة الربح مع تساوى المالين ، أو التساوي في الربح والخسران مع تفاوت المالين.

وقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال ثلاثة الأول ـ ما ذهب اليه الشيخ وابن إدريس والمحقق وجمع منهم من بطلان الشركة ، لانتفاء ما يدل على الصحة فيكون أكل مال بالباطل ، لأن الزيادة ليس في مقابلها عوض ، لان الفرض انها ليست في مقابلة عمل ، ولا وقع اشتراطها في عقد معاوضة ، لتضم الى أحد العوضين ولا اقتضى تملكها عقد هبة ، والأسباب المثمرة للملك معدودة ، وليس هذا أحدها فيكون اشتراطها اشتراطا لتملك شخص مال غيره بغير سبب ناقل للملك ، كما لو دفع إليه دابة يحمل عليها ، والحاصل لهما ، فيبطل العقد المتضمن له إذ لم يقع التراضي بالشركة والاذن بالتصرف الا على ذلك التقدير ، وقد تبين فساده ، ولا يندرج في الأمر بالإيفاء بالعقود ، ولا في «المؤمنون عند شروطهم».

الثاني ـ ما ذهب اليه المرتضى واليه ذهب العلامة ووالده وولده من القول بالصحة ، وادعى عليه المرتضى الإجماع ، واحتجوا بالأدلة العامة مثل قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) و «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٢) وقد وقع على

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

(٢) سورة النساء الآية ٢٨.


ما اشترطاه ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم» (١). والإجماع المنقول بخبر الواحد كما يقبل نقل غيره من الأدلة به ، وأصالة الإباحة وبناء الشركة على الارتفاق بكل منهما ومن جملته موضع النزاع.

الثالث ـ ما ذهب إليه أبو الصلاح من صحة الشركة دون الشرط ، وجعل شرط الزيادة أباحه لها يجوز الرجوع فيها ما دامت العين باقية ، قال على ما نقله عنه في المختلف : إذا تكاملت الشروط انعقدت الشركة ، ووجب لكل واحد من الشريكين من الربح بمقدار ماله ، ومن الوضيعة بحسبه ، فان اصطلحوا في الربح على أكثر من ذلك ، حل تناول الزيادة بالإباحة ، دون عقد الشركة ، ويجوز لمبيحها الرجوع فيها ما دامت العين قائمة ، فإن اشترط في عقد الشركة ، تفاضل في الوضيعة صحت الشركة ، وبطل الشرط ، وكانت الوضيعة بحسب الأموال ، الا أن يتبرع أحد الشريكين على الأخر ، فإن كان أحد الشريكين عاملا فجعل له الأخر فضلا في الربح بإزاء عمله لم يمض الشرط ، وكان للعامل أجرة عمله من الربح ، وبحسب ماله انتهى.

أقول : الظاهر ان محل الخلاف هنا ما لو شرط الزيادة مع عدم زيادة عمل له يقابل تلك الزيادة ، أما لو كان له عمل زائد يقابلها ، فالظاهر أنه لا خلاف في جواز العقد : وصحة الشرط قال في التذكرة : لو اختص أحدهما بمزيد عمل وشرط مزيد ربح له صح عندنا والى ذلك ايضا يشير قولهم في حجة دليل القول الأول ، لأن الفرض أنها ليست في مقابلة عمل وبالجملة فالظاهر أنه لا إشكال في ذلك ، وعلى هذا ينبغي أن يقيد بذلك إطلاق القولين الأولين.

وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني : فقد عرفت جواب بعضه من احتجاج أصحاب القول الأول ، وبقي منه دعوى الإجماع ، وهو تشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


واما الاستناد الى الآية» الا أن تكون تجارة عن تراض «ففيه أن الشركة ليست تجارة ، فلا تناولها الآية. نعم لو كانت الزيادة في مقابلة زيادة في العمل كان ذلك معاوضة وتجارة عن تراض ، إلا أنك قد عرفت أن هذا ليس من محل البحث في شي‌ء ، ويمكن أن يقال : بصحة الشرط ، لكن لا من حيث الشركة ، بل من حيث أنه وعد ، وقد دلت الآية والرواية على وجوب الوفاء بالوعد كما تقدم في الأبحاث السابقة ، لأن صاحب الزيادة قد وعد بإعطائها ورضى بذلك ، ورد كلام أبى الصلاح بأنه مبنى على أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد والأقوى خلافه ، وفيه ما عرفت فيما تقدم في الأبحاث السابقة ، وفي مقدمات كتاب الطهارة.

وكيف كان فالمسئلة كغيرها مما تقدم من أمثالها لا يخلو من الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك ، حيث اقتصر على نقل الأقوال المذكورة ونقل حججها ولم يرجح شيئا منها ، وهو في محله هذا في ما لو عملا معا اما لو كان العامل أحدهما مع شرط الزيادة للعامل فالظاهر أنه لا إشكال في صحته ، ويكون العقد حينئذ قراضا ، وشركة ، فيشتركان في الربح من حيث كون رأس المال شركة ، ويختص العامل بالزيادة المشروطة في مقابلة عمله كما يختص عامل المضاربة بالحصة المعينة له من الربح في مقابلة عمله ، ويأتي مثل ذلك فيما قدمناه من أنهما لو عملا معا ولكن كان في عمل أحدهما زيادة ، وشرطت الزيادة له في مقابلة زيادة عمله.

اما مع تساويها في المالين وزيادة عمله ، أو مع نقصان ما له مع تساويهما في العمل ، أو زيادته بطريق أولى ، لاشتراك الجميع في كون الزيادة في الربح في مقابلة عمل ، فكان العقد عقد معاوضة من الجانبين ، بالنظر الى أن العمل متقوم بالمال.

ولكن الشيخ ومن تبعه أطلقوا المنع ، والمرتضى ومن تبعه أطلقوا الجواز ، والتفصيل بما ذكرناه كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني وغيره أجود ، وينبغي تقييد الإطلاقين المذكورين بذلك ، لما قدمناه سابقا من تصريح العلامة في التذكرة بذلك ، بل ظاهره دعوى الإجماع في ذلك ، حيث قال : عندنا ، مع كونه من القائلين بقول المرتضى ، وما ذكر في حجة القول الأول : مع أن الدعوى


مطلقة ، فذكر ذلك في دليلها ، دليل على أنه ليس المراد بتلك الدعوى على إطلاقها. والله العالم.

المسئلة السادسة ـ متى حصلت الشركة بالمعنى المشهور فإنه لا يجوز لكل من الشريكين التصرف إلا بإذن الأخر ، لما ثبت عقلا ونقلا من عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، فإن اذن أحدهما للآخر اختص المأذون بالتصرف ولا يجوز للاذن التصرف إلا بإذن المأذون : والاذن توكيل في التصرف ، فلا يجوز له أن يتعدى ما أذن له من العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، فإن أطلق في التصرف تصرف كذلك ، وان خصص اختص بما خصصه ، ويراعى فيه المصلحة ، فإن أطلق له في التجارة تصرف كيف شاء من أنواع التجارة ، من البيع والشراء مرابحة ، ومساومة ، وتولية ، ومواضعة ، حيث تقتضيها المصلحة وقبض الثمن واقباض المثمن ، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.

وهل يتناول الإطلاق السفر حيث شاء؟ احتمالان : من حيث دخوله تحت الإطلاق ، ومن حيث كونه مظنة الخطر ، ولا يجوز له إقراض شي‌ء من المال الا مع المصلحة ، ولا المضاربة عليه لانه ليس من توابع التجارة.

وقد صرح في التذكرة في غير موضع بأن اذن الشريك توكيل ، فيجب حينئذ أن يراعى فيه ما يجب مراعاته في الوكالة فلا بد أن يقتصر على ما اذن له فيه ، كما يجب على الوكيل ان يقتصر على ما وكل عليه ، فلو تعدى في بعض المواضع عن محل الإذن أثم وضمن ، وحيث كانت الشركة من العقود الجائزة دون اللازمة بالإجماع فلكل من الشركاء الرجوع في الاذن والمطالبة بالقسمة.

أما الأول فإن مبناها على الاذن في التصرف ، وهو في معنى الوكالة ، فتكون جائزة ، وأما الثاني فلانه لا يجب على الإنسان مخالطة غيره في ماله ومقتضى الأصل أن يتصرف كل منهما في ماله كيف شاء.

قال في التذكرة : الشركة عقد جائز من الطرفين ، وليست من العقود اللازمة إجماعا فإذا اشتركا بمزج المالين ، فأذن كل واحد منهما لصاحبه في


التصرف (١) فلكل واحد من الشريكين فسخها لأن الشركة في الحقيقة توكيل وتوكل ، فلو قال أحدهما للآخر : عزلتك عن التصرف ، أو لا تتصرف في نصيبي انعزل المخاطب عن التصرف في نصيب العازل ، ويبقى التصرف في نصيبه ، ولا ينعزل العازل عن التصرف في نصيب المعزول الا بقول متجدد منه ، ولو فسخاها معا فان الاشتراك باق وان لم يكن لأحدهما التصرف في نصيب الأخر ، ولو قال أحدهما : فسخت الشركة ارتفع العقد ، وانفسخ من تلك الحال ، وانعزلا عن التصرف ، لارتفاع العقد. انتهى.

قيل : وفي قوله «ولو قال أحدهما الى آخره» تأمل ، لأن أحدهما تكلم فقط بقوله «فسخت الشركة» وهو يؤل الى عدم اذنه للآخر في التصرف ، وعزله وإبطال وكالته ، لما قد مر مرارا ان هذا العقد والاذن توكيل ، وغاية ما يكون عزلا لنفسه أيضا فإذا بدا له يجوز التصرف إذا قلنا ان الوكيل لا ينعزل بمجرد عزله ، ولا يحتاج إلى إذن جديد ، الا أن يعلم الأخر الموكل بل يرضى بعزله أو يعزله فتأمل. انتهى.

وملخص كلامه المناقشة في ارتفاع العقد بالكلية ، فإن هذا القول انما وقع من أحدهما ، والذي يدل عليه عزله الأخر عن التصرف ، وإبطال وكالته ، وغاية ما يمكن التزامه أنه عزل لنفسه أيضا ، الا أنه بمجرد ذلك لا يلزم بطلان العقد وارتفاعه ، بناء على أن الوكيل لا ينعزل بمجرد عزل نفسه ، بل يجوز له الرجوع بغير توكيل آخر ، فكذا هنا يجوز له الرجوع بدون إذن أخر ، فلا يتم حينئذ الحكم بارتفاع العقد.

وكما ينفسخ الشركة بالفسخ تنفسخ ايضا بالجنون والموت ، لبطلان الوكالة بهما ، وهي في معناها كما عرفت ، بل هي وكالة في التحقيق ، ونحوهما أيضا الإغماء والحجر

__________________

(١) إشارة إلى الشركة بمعنى المشهور وقوله فأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف إشارة إلى المعنى الخاص المصطلح عليه بين الأصحاب المعبر عنه بالعقد وهو دائما إنما يعبر عنه بالاذن وهو مؤيد لما قدمناه من التحقيق من أنه ليس هنا عقد كما يدعونه وليس إلا الاذن وان سموه عقدا تجوزا ، منه رحمه‌الله.


لسفه أو فلس.

قال في التذكرة : وكذا ينفسخ بموت أحدهما وجنونه ، وإغمائه والحجر عليه للسفه ، كالوكالة ، ثم في صورة الموت ان لم يكن على الميت دين ، ولا هناك وصية تخير الوارث بين القسمة مع الشريك وفسخها ، وبين تقرير الشركة ان كان بالغا رشيدا ، وان كان صغيرا أو مجنونا فعلى الولي ما فيه الحظ من فسخ الشركة أو إبقائه ، ولا بد في تقرير الشركة من عقد مستأنف ، وان كان على الميت دين لم يكن للوارث التقرير على الشركة الا أن يقضى الدين من غير مال الشركة ، ولو كان هناك وصية ، فان كانت لمعين فهو كأحد الورثة ، يتخير بين التقرير والفسخ ان تعلقت الوصية بذلك المال ، وان كانت لغير معين كالفقراء لم يجز تقرير الشركة إلا بعد خروج الوصية ، فإذا خرجت الوصية بقي المال كما لو لم تكن وصية ، يتخير الوارث بين التقرير والفسخ ، انتهى.

المسألة السابعة ـ لو شرط التأجيل في الشركة بمعنى ترتب أثرها عليها من التصرف للتجارة ونحوها إلى أجل مخصوص لم يلزم الشرط المذكور ، بل لكل منهما فسخها قبل الأجل ، لأنها عقد جائز ، فلا يؤثر شرط التأجيل فيه.

نعم يترتب على الشرط المذكور عدم جواز تصرفهما بعد الأجل إلا بإذن جديد ، لعدم تناول الاذن السابق له ، فهذا الشرط وان لم يؤثر في وجوب المضي على الشركة الا أنه يؤثر فيما ما ذكرناه ، فله أثر في الجملة.

ونقل في المختلف عن الشيخين أنهما قالا : الشركة بالتأجيل باطلة ، قال : والظاهر أن مرادهما ليس البطلان من رأس ، بل عدم اللزوم ، ولهذا قال المفيد عقيب ذلك : ولكل واحد من الشريكين فراق صاحبه أى وقت شاء ، ثم نقل عن أبى الصلاح أنه قال : ولا تأثير للتأجيل في عقد الشركة ، ولكل شريك مفارقة شريكه أى وقت شاء وان كانت مؤجلة.

ثم قال : والعبارتان رديتان ، والتحقيق أن للتأجيل أثرا وهو منع كل


منهما من التصرف بعده إلا بإذن مستأنف ، وان لم يكن له مدخل في الامتناع من الشركة ، إذ لكل منهما الفسخ قبل الأجل. انتهى.

المسئلة الثامنة ـ ينبغي أن يعلم أن الشريك أمين لا يضمن تلف ما في يده إلا بالتعدي أو التفريط ، لانه وكيل كما عرفت فيما سبق ، ويقبل قوله مع يمينه في دعوى التلف ، سواء ادعى سببا ظاهرا كالغرق ، أو خفيا كالسرق. قال في التذكرة : كل واحد من الشريكين أمين يده يد أمانة على ما تحت يده ، كالمستودع والوكيل ، يقبل قوله في الخسران والتلف مع اليمين ، كالمستودع إذا ادعى التلف ، سواء أسند التلف الى سبب ظاهر أو خفي ، فلا يضمن الا مع التفريط ، ويقبل قوله في عدم ما يوجب الضمان من التعدي ، وكذلك في عدم الخيانة ، ويقبل قوله في عدم الشراء بمال الشركة إذا ادعى الشراء بما يخصه ، وكذا إذا ادعى الشراء بالمشترك.

الفصل الثاني في القسمة :

وهي تمييز حق أحد الشركاء عن حق الأخر ، والبحث فيها يقع في مسائل : الأولى ـ الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا في أنها برأسه أمر موجب لتمليك الشريك حصة الشريك الأخر بحصته ، فإذا حصلت بشرائطها حصل بها الملك ، وليست بيعا ولا صلحا ولا غيرهما ، لعدم وجود خواص الغير فيها كصيغة البيع إيجابا وقبولا ، أو غيره من العقود ، ويدخلها الإجبار في غير أفراد البيع التي يدخلها الإجبار ، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الأخر مع تساويهما ، والبيع ليس كذلك ، بل يجوز فيه الزيادة والنقصان بينهما ، واختلاف اللوازم تدل على اختلاف الملزومات.

خلافا لبعض العامة حيث جعلها بيعا مع أنه لا خلاف عندهم في أنه إذا طلب أحد الشركاء القسمة ، يجب على الأخر إجابته ، وعدم منعه إذا لم يحصل له ضرر بالقسمة ، سواء كان في تركها ضرر أم لا ، وسواء كان أحدهما مضطرا إلى القسمة أم لا ، لانه يجب إيصال حق الغير اليه ، ولا يجوز منعه عنه ، وهو هنا بالقسمة ،


ولا تصح إلا بإذن الشركاء الا ما سيأتي التنبيه عليه.

الثانية ـ لا خلاف في أنه مع الضرر على الكل وعدم ضرورة لا تجوز القسمة ، لأنه تضييع مال ، وهو سفه وإسراف منهي عنه ، وأما ما لا ضرر في قسمته فإنه يجبر الممتنع مع التماس الشريك القسمة ، وهو مما لا خلاف فيه أيضا.

وانما الخلاف في معنى الضرر المانع في الصورتين ، فقيل : بأنه عبارة عن نقصان العين أو القيمة نقصانا لا يتسامح به عادة ، لأن فوات المالية مناط الضرر في الأموال. ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «لا ضرر ولا ضرار» (١). وهو عام ، وقيل : بأنها عبارة عن عدم الانتفاع بالنصيب منفردا لتضمنه الضرر والحرج ، وإضاعة المال المنهي عنه مثل كسر الجوهرة الكبيرة التي لها ثمن كثير ، وبعد الكسر لا تسوى شيئا أو تسوى شيئا قليلا.

وقيل : بأنها عبارة عن عدم الانتفاع به منفردا ، فيما كان ينتفع به مع الشركة ، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضع ضيق لا ينتفع به في السكنى مثل الأول ، وان أمكن الانتفاع به في غير ذلك.

قال في المسالك بعد نقل ذلك كما ذكرناه والأقوى اعتبار الأول ، واليه أيضا مال المحقق الأردبيلي ، قال : واعتبار الثاني بعيد ، والثالث أبعد ، وأشار بهما الى ما ذكرناه هنا ثانيا وثالثا ، ثم انه على تقدير اعتبار المعنى الأول متى انتفى مثل هذا الضرر عن الشريك ، وطلب الأخر القسمة مع انتفاءه عنه أيضا ، فإنه يجب الإجابة إلى القسمة ، ويجبر الممتنع ، وهو ظاهر لما تقدم من أنه يجب إيصال حقه اليه متى طلبه ، ولا يجوز منعه ، إذ الفرض أنه لا مانع من ذلك ، وأما عدم وجوبها مع ضرر الشريك فهو أيضا ظاهر ، لخبر (٢) «لا ضرر ولا ضرار». الا مع تضرر الطالب للقسمة بالشركة ، فيتعارض الضرران ، فينبغي أن

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ الفقيه ج ٣ ص ١٤٧ ح ١٨ والوسائل ج ١٧ ص ٣١٩ ح ١ باب الشفعة. وباب احياء الموات ص ٣٤١ ح ١ و ٢ و ٣.


يرجح الأقل ضررا ، ومع التساوي يشكل الأمر ، فيحتمل الرجوع الى القرعة.

وأما لو تضرر الطالب بالقسمة دون الممتنع ، فالظاهر أنه لا يجب إجابته ، لأن ارتكاب ذلك سفه وتضييع لماله ، الا أن يترتب على ذلك غرض صحيح.

قال في الدروس ، ولو تضرر أحد الشريكين دون الأخر بالقسمة أجبر غير المتضرر بطلب الأجر دون العكس ، وفي المبسوط لا يجبر أحدهما لتضرر الطالب ، وهو أحسن ، ان فسر التضرر بعدم الانتفاع ، وان فسر بنقص القيمة فالأول أحسن ، وبذلك يظهر أن في المسألة أقوالا ثلاثة.

ثالثها التفصيل الذي استحسنه شيخنا المذكور وهو جيد ، ولو اتفقا على القسمة مع تضمنها الضرر كالجوهر والسيف والعضائد الضيقة (١) فقد صرح المحقق في هذا الكتاب بأنه لا يجوز قسمتها ، والمفهوم من كلام غيره أن القسمة المشتملة على ضرر لا يجبر الممتنع عليها لكنها تصح بالتراضي والاتفاق عليها ، مع أنه في كتاب القضاء من الشرائع فسر الضرر بنقص القيمة ، فحكمه هنا بعدم الجواز مع تفسير الضرر بما ذكره مشكل ، فان مجرد نقص القيمة لا يبلغ حد المنع.

نعم لو فسر الضرر بعدم الانتفاع أمكن من حيث استلزامها تضييع المال بغير عوض ، فإنه إذا لم ينتفع بالاجزاء فلا فائدة في القسمة ، بل هو محض إتلاف وهو منهي عنه.

ثم انه في كل موضع يتوقف القسمة على الجبر ، فالظاهر أن المجبر هو الحاكم الشرعي أو أمينه ، والظاهر أن مع تعذرهما فعدول المؤمنين كما هو في سائر الحسبيات التي يتعذر إرجاعها إلى الحاكم : والأحوط العدلان ، وفي

__________________

(١) قال في القاموس : وأعضاد الحوض وغيره ما يشد حواليه من البناء ، ولم أقف في كلام أهل اللغة على معنى يناسب ما ذكروه بعد فان دخول القسمة فيما كان هكذا لا يخلو من تعسف وظاهر كلامهم أن العضائد عبارة عن أماكن ضيقة تتضرر بالقسمة والله العالم منه رحمه‌الله.


وفي الاكتفاء بالواحد احتمال قوى.

الثالثة ـ لا يخفى أن متساوي الاجزاء وهو المثلي الذي يصدق على قليله وكثيره اسم الكل ، وأجزاؤه متساوية في ذلك ، ولا تفاوت بينها غالبا كالحبوب والادهان تقسم قسمة إجبار على جميع الأقوال الثلاثة المتقدمة ، إذ لا ضرر بالقسمة فيتحقق فيها قسمة الإجبار مطلقا ، فان تراضيا بالقسمة والا أجبر الممتنع ، كذا صرحوا به من غير خلاف يعرف.

قال في المسالك : ومثله الثياب المتعددة المتحدة في الجنس التي يمكن تعديلها بالقيمة ، وكذا الحيوان والعبد على الأقوى ، وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا قال بعد ذكر ذلك ، وفيه تأمل ، إذ قد يكون المقسوم يسيرا بحيث لو قسم لم يبق لكل قسم أو لبعضه قيمة أصلا ، أو ينقص نقصانا فاحشا بخلاف ما لو بيع جميعا يجعل لكل واحد من الشركاء من القيمة ما ينتفع به ، وهو غير بعيد.

أقول : بل الظاهر بعده : لأن الأحكام الشرعية انما تبنى على الافراد الكثيرة المتعارفة بين الناس دون الفروض الشاذة النادرة التي لا تكاد توجد الا فرضا ، وأما غير متساوي الاجزاء وهو القيمي كالثياب والحيوان والعبيد ، فإنه لا بد فيه من تقويم وتعديل ، فان حصل التساوي على وجه يقتضيه النظر من غير رد فإنه يقسم كذلك ، ولكنه في هذه الصورة يجري فيه الإجبار كما أشار إليه شيخنا في المسالك في العبارة المتقدمة ـ بقوله «على الأقوى».

وان لم يحصل التساوي فلا بد أن يضم اليه بعض الدراهم أو العروض مما يقابل به السهم الأخر ، فيقسم قسمة تراض ، والقسمة في هذه الصورة يعبر عنها بقسمة الرد لا يدخلها الإجبار ، فلا يجبر الممتنع ، بل انما تصح مع التراضي ، لأنها مشتملة على معاوضة وبمنزلة البيع جزء من المال بذلك المضاف الى المال الأول ، فلا بد من الرضا حينئذ.

الرابعة ـ متى حصلت القسمة والتمييز بين السهام سواء كانت القسمة إجبارية ،


أو قسمة رد بحيث عدلت السهام على ما يقتضيه القسمة ، فلا بد للتعيين بحيث يصير كل سهم ملكا لمالك من أولئك الشركاء من القرعة ، وبها يصير ملكا له ، لا يجوز التصرف فيه الا بإذنه ، كسائر أملاكه.

والظاهر كما صرح به المحقق الأردبيلي ـ انه بعد خروج القرعة لا يحتاج الى رضاء الشريك مرة أخرى ، زيادة على الرضاء بأصل القسمة ان كانت قسمة رد ، لأن القرعة قد أخرجت للتعيين ، وقد تعين بها مال كل واحد منهما ، وقيل انه ان كانت القسمة إجبارية ، فإنه لا يحتاج الى الرضا بعد القرعة ، وان كانت قسمة رد ، فان كان القاسم منصوبا من الامام فكذلك أيضا ، (١) وان كانت القسمة والقرعة إنما حصلت من المتقاسمين توقفت على تراضيهما بعدها ، لاشتمالها على المعاوضة ، فلا بد من لفظ يدل عليها ، وأقله ما يدل على الرضا ، ونقل ذلك عن الشيخ على في شرح القواعد ، وبه صرح في المسالك أيضا ، وهو ظاهر العلامة أيضا ، بل الظاهر أنه المشهور.

ورده المحقق المتقدم ذكره ، بأن الرضى الأول كاف ، والقرعة والتعديل بأنفسهما قد يكفيان ، على أن منصوب الامام ليس بوكيل للشريك حتى يقبل له ، فإنه منصوب للقسمة والقرعة فقط ، على أن القسمة مطلقا معاوضة كما صرح به الشهيد الثاني في شرح الشرائع ، ثم قال : كأن هذا القائل نظر الى ما ذكرناه من أصل بقاء الملك على ملك مالكه ، وبقائه على الاشتراك وعدم خروج شي‌ء عن ملك أحدهم ، والدخول في ملك آخر حتى يتحقق الدليل ، ومع الرضا بعدها أو القرعة من قاسم الامام ناقل بالإجماع ، والباقي غير ظاهر كونه ناقلا حتى يتحقق ، ويمكن أن يقال : القرعة مع الرضى الأول ناقل فتأمل.

واعلم أن الظاهر أن القرعة والرضا ثانيا انما هو محتاج اليه للتملك ، بحيث لا يجوز لأحد العدول عنه ، والا الظاهر أنه يكفى الرضا بأخذ كل واحد قسما بعد التعديل

__________________

(١) قال في الشرائع في كتاب القضاء والمنصوب من قبل الامام بمعنى قسمته بنفس القرعة ولا يشترط رضاهما بعدها وفي غيره يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة وفي هذا اشكال من حيث ان القرعة وسيلة إلى تعيين الحق وقد قارنها الرضا. انتهى منه رحمه‌الله.


بالرضا ، فإنه إذا رضي أن يأخذ عوض ماله من حصة الأخر من ماله ، الظاهر أن له ذلك ، وهو مسلط ، على ماله ، فله أن يفعل ما يريد الا الممنوع ، ولا منع هنا ، لان الظاهر أنه تجارة عن تراض أيضا ، وأكل مال الغير بطيب نفس منه.

والظاهر أنه وان لم يكن مملكا فلا كلام في جواز التصرف فيه تصرف الملاك ، مثل ما قيل في العطايا والهدايا والتحف ، ويحتمل أن يكون تصرفا بعقد باطل ، فيكون حراما وهو بعيد جدا ، وعمل المسلمين على غير ذلك ، بل على الملك فتأمل انتهى كلامه ، وهو جيد وجيه.

وأنت خبير بأن أحدا من الأصحاب لم ينقل في هذا المقام خبرا ولا دليلا على شي‌ء من هذه الأحكام ، بل غاية ما يستدلون به أمور اعتبارية ، مع أن هنا جملة من الاخبار يمكن الاستناد إليها في بعض هذه الأحكام.

والذي وقفت عليه مما يتعلق بما نحن فيه رواية غياث (١) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام في رجلين بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، وأحال كل واحد منهما بنصيبه ، فقبض أحدهما ولم يقبض الأخر فقال : ما قبض أحدهما فهو بينهما ، وما ذهب فهو بينهما».

وبهذا المضمون رواية أبي حمزة الثمالي (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ورواية محمد بن مسلم (٣) عن «أحدهما عليهما‌السلام» وصحيحة معاوية بن عمار (٤) وصحيحة عبد الله بن سنان (٥) ورواية سليمان بن خالد (٦) والمتبادر من هذه الروايات ان الاقتسام انما وقع من الشركاء بمجرد تميز سهام كل واحد

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٥ الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ١ الوسائل ج ١٣ ص ١٥٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ج ١٣ باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص ١٧٩ ح ١ و ٢.

(٦) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ١١٦ ح ١.


من ذلك المال المشترك الموجود بأيديهم ، مثليا كان ذلك المال أو قيميا بعد تعديله كما تقدم ، من غير توقف على قاسم من جهة الامام ، ولا قرعة في البين بأن رضى كل منهم بعد تساوى السهام بنقل حصته ، مما في يد شريكه بحصة شريكه مما في يده ، وكذلك قسمة ما في الذمم مما لم يكن في أيديهما ، الا أنه (ع) أبطل قسمة الغائب.

وبالجملة فإني لم أقف في الاخبار على ما ذكروه من القرعة ، والقاسم من جهة الإمام ، بل ظاهرها كما ترى هو الصحة مع تراضيهما بما يقتسمانه ، وهو مؤيد لما تقدم نقله عن شيخنا الشهيد الثاني من أن القسمة مطلقا معاوضة ، وما ذكره المحقق المذكور من قوله ، والا الظاهر أنه يكفى الرضا بأخذ كل واحد قسما بعد التعديل ، الى آخره فان هذا هو ظاهر هذه الاخبار ، فإن قيل : ان غاية ما يدل عليه هذه الاخبار أنهما اقتسما فيمكن حمله على القسمة التي ذكرها الأصحاب ، كما تقدم من حضور القاسم من جهة الامام والقرعة ، وحكم المثلي والقيمي ـ قلنا : هذا فرع ثبوت هذه المذكورات في الاخبار ، والا فالمتبادر انما هو ما قلناه من تمييز الحصص والسهام بعضها عن بعض من أولئك الشركاء ، لا من شخص آخر ، وهو ظاهر الاخبار ، حيث نسب الاقتسام الى الشريكين ، والأصحاب قد ذكروا القسمة في هذا الكتاب ، وفي كتاب القضاء ، وذكروا لها أحكاما عديدة لم نقف لها على أثر في الاخبار في كل من الموضعين المذكورين ، والقرعة قد وردت بها الاخبار في جملة من الموارد ، ولم يذكر فيها هذا الموضع الذي ذكروه هنا ، وغاية ما يدل عليه عمومات بعض أخبارها التوقف عليها في موضع النزاع ، مثل قول الصادق (عليه‌السلام) فيما رواه الصدوق (١) : وما تقارع قوم ففوضوا أمرهم الى الله تعالى الإخراج سهم المحق ، وأما مع التراضي فلا أثر في الاخبار لاعتبارها والتوقف عليها ، وكأنه بسبب التراضي يكون من

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٥٢ ح ٣ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٨٨ ح ٦.


قبيل الصلح في هذه المعاوضة ، كما ورد في صحيحة محمد بن مسلم (١) عن أحدهما (عليهما‌السلام) انه قال : في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا ، وطابت أنفسهما».

نعم لو لم يحصل التراضي بعد تعديل القسمة أمكن القول بالقرعة ، لهذا الخبر ونحوه ، وبالجملة فإن القسمة وما ذكر فيها من الأحكام غير موجود في كلام متقدمي علمائنا الاعلام ، ولا أخبار أهل الذكر ، عليهم‌السلام.

والذي يغلب على الظن القاصر أن الشيخ ومن تبعه من الأصحاب قد تبعوا في هذه المقامات العامة حيث أطالوا البحث عن ذلك في كتبهم بهذه الفروع التي ذكرها الأصحاب اختلافا واتفاقا ، ولا يخفى على الخائض في الفن والناظر في كتب المتقدمين المقصورة على الاخبار ، وأنه لم يقع التفريع في الأحكام ، وكثرة الفروع في المسألة الواحدة ، سيما في هذا الباب الا من الشيخ وتبعه من تأخر عنه ، وكلها من كتب العامة ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك أيضا والله العالم.

الخامسة ـ قد صرح الأصحاب بأنه لا يصح قسمة الوقف بأن يأخذ كل واحد من الشركاء فيه بعضا ويتصرف فيه على حدة وتفصيل هذا الإجمال أنه يقال : انه متى كان الواقف واحدا أو متعددا والموقوف عليه متعددا كأن يقف زيد داره على ذريته من الموجودين وما تناسل منهم وقفا مؤيدا مشتملا على شرائط الصحة واللزوم ، أو يكون نصف الدار لزيد ، ونصفها لعمرو ، فيقف كل منهما حصته على تلك الذرية مثلا ، فإنه في هذه الصورة لا يجوز للموقوف عليهم قسمة الوقف ، لأنه أولا على خلاف وضع الواقف والموقوف على ما وقفت عليه ، كما ورد

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ ، الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.


به النص. (١)

وثانيا أن الوقف ليس ملكا لأولئك الموجودين الان ، لمشاركة البطون الأخر لهم في ذلك.

وثالثا ان الحق يتغير بزيادة البطون ونقصانها ، فربما استحق بعض بطون المتقاسمين أكثر مما ظهر بالقسمة ، لمورثهم وبالعكس ، وأما لو تعدد الواقف والموقوف عليه بأن كانت الدار مشتركة بين زيد وعمرو أنصافا ، فوقف زيد نصفه على ذريته ووقف عمرو نصفه على ذريته ، فإنه يجوز للموقوف عليهم من الطرفين قسمة هذا الوقف ، بأن يميزوا أحد الوقفين عن الأخر ، ومتى كان جزء من المال وقفا ، وجزء منه ملكا ، كبيت مثلا نصفه وقف ، ونصفه ملك ، فإنه يجوز قسمته ، وتميز الملك من الوقف ، ويكون ناظر الوقف بمنزلة الشريك يتولى المقاسمة مع المالك.

قال في المسالك : هذا إذا لم تشتمل على رد ، أو اشتملت وكان الرد من الموقوف عليه ، لأنه زيادة في الوقف ، فلو انعكس لم يصح ، لانه كبيع جزء من الوقف ، ثم على تقدير الرد من الموقوف عليه ، هل يصير جميع حصته وقفا؟ أم يكون ما قابل الرد من الحصة ملكا له ، لانه معاوض عليها ، احتمالان ، والثاني أوجه.

__________________

(١) أقول : وتوضيحه أنه إذا وقف على ذريته على السوية ما تناسلوا بطنا بعد بطن فاتفق أن البطن الأول كان اثنين فإنهم يقتسمون الحاصل أنصافا ، ولو كان البطن الثاني ثلاثة ، فإنهم يقتسمونه أثلاثا وهكذا ، فلو أن أصحاب البطن الأول اقتسموا الوقف أنصافا ثم اتفق أن ورثة أحدهما كان اثنين وورثة الأخر واحدا فان هذين الاثنين يستحقان ثلثا الوقف بالنظر الى وقف الواقف ، وان كان مورثهم انما يستحق النصف وذلك الواحد بالنظر الى ما ذكرنا انما يستحق الثلث وان كان مورثه يستحق النصف وعلى هذه الصورة فقس. منه رحمه‌الله.


نعم لو كان في مقابلة الرد وصف محض كالجودة كان الجميع وقفا ، لعدم قبوله الانفصال ، ولا فرق في جواز قسمة الوقف من الطلق بين كون الجميع لواحد ، أو مختلف. انتهى.

السادسة ـ قد صرح غير واحد منهم بأنه يستحب للإمام (عليه‌السلام) نصب قاسم ويشترط عدالته ومعرفته بالحساب ، وقيل : بل ينبغي ذلك للحاكم مطلقا ، وقال في الدروس : يستحب للقاضي نصب قاسم كامل مؤمن عاقل عارف بالحساب ولو كان عبدا ، ولا يراعى فيمن تراض به الخصمان ذلك. انتهى ، وعلله بعضهم باحتياج الناس إليه ، إذ قد يحصل الرضا في التعديل بقول بعضهم بعضا ولا يعرفون ذلك خصوصا في قسمة الرد ودليل اشتراط عدالته الوثوق بقوله ، وأما معرفته للحساب ، فلا بد منها بمقدار ما يحتاج إليه في القسمة ، وانه لا يكفى الواحد في قسمة الرد الا مع الرضا ، لانه يحتاج فيها الى التعديل في القسمة حتى يتساوى الأقسام ، بأن يقوم تلك العروض المراد قسمتها ، وهل المراد بقسمة الرد هي ما اشتملت على رد من أحد الطرفين دراهم أو عروضا في مقابلة الزيادة من الطرف الأخر أو ما هو أعم من ذلك ومن التعديل والتسوية بين الأقسام! وان لم يحتج الى رد.

وبالجملة المراد بقسمة الرد التعديل ، لا الرد الحقيقي ، قولان. والأول منقول عن الدروس ، وبالثاني صرح المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه).

أقول : ويؤيد الأول قولهم أنه يقسم ما اشتمل على الرد قسمة تراض ، وكيف كان فالاحتياج الى العدلين ، وعدم الاكتفاء بالواحد لأن القسمة يتوقف على التقويم ، فلا بد من مقومين عدلين ، ليكونا حجة شرعية ، ولانه لا يحصل الوثوق بحيث يلزم الا بقولهما ، هذا إذا لم يتراضيا بينهما بالقسمة بأنفسهما أو بشخص يتفقان عليه ، عدل أو غير عدل ، لان الرضا سيد الأحكام كما قيل.

قالوا : وأجرة القسام من بيت المال ، لانه موضوع لمصالح العامة ، ولو لم


يكن فيه شي‌ء أو لم يكن ثمة بيت مال فمن مال الشركاء ، لانه لمصالحهم فهو كالكيال والوزان لهما ، وينبغي أن يكون ذلك بالحصص بينهم ، بأن يقسم أجرة المثل على الحصص ، فيعطى كل بنسبة ماله.

أقول : لا يخفى أنه لا وجود لهذه الأحكام في الاخبار كما أشرنا إليه آنفا ، وان كان بعضها يمكن استنباطه ، وعمومات الاخبار في غير هذا المقام يأتي ان شاء الله في كتاب القضاء ، وفق الله تعالى للوصول اليه.

الفصل الثالث في لواحق هذا الباب :

وفيه أيضا مسائل الأولى ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا باع الشريكان المتاع صفقة بثمن معلوم ثم استوفى أحدهما من المشترى شيئا من الثمن ، فإنه يشاركه فيه الأخر ، واحترزوا بقولهم صفقة عما إذا باع كل منهما نصيبه بعقد على حدة ، فإنهما لا يشتركان فيما يقتضيه أحدهما إجماعا.

والأصحاب فرضوا هذا الحكم في بيع الشريكين المتاع صفقة ، لمناسبة باب الشركة ، والا فهو يجري أيضا فيما لو كان سبب الشركة ميراثا ونحوه ، ولم ينقل الخلاف في هذه المسئلة الا عن ابن إدريس ، فإنه منع من الشركة فيما يقتضيه أحدهما لنفسه من ذلك المال المشترك ، وحكم به لقابضه.

قال : وإذا كان بينهما شي‌ء فباعاه بثمن معلوم ، كان لكل منهما ان يطالب المشترى بحقه ، فإذا أخذ حقه شاركه فيه صاحبه على ما قدمناه ، لان المال الذي في ذمة المشترى غير متميز ، فكل جزء يحصل من جهته ، فهو شركة بعد بينهما على ما ذكره شيخنا في نهايته ، «والذي يقتضيه أصول مذهبنا أن كل واحد من الشريكين يستحق على المدين قدرا مخصوصا وحقا غير حق شريكه ، وله هبة الغريم ، وإبراءه منه ، فمتى أبرءه أحدهما من حقه برء منه فقط ، وبقي حق الأخر الذي لم يبرءه منه فقط بلا خلاف ، فإذا استوفاه وتقاضاه منه لم يشاركه شريكه الذي وهب ، أو


أبرأ أو صالح منه على شي‌ء بلا خلاف.

فان كان شريكه بعد في المال الذي في ذمة الغريم ، لكان في هذه الصور كلها يشارك من لم يهب ولم يبرء فيما ، يستوفيه منه ويقبضه ، ثم ان عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ولم يستحقا في ذمة الغريم الذي هو المدين عينا لهما معينة ، بل دينا في ذمته لكل واحد منهما مطالبة نصيبه ، وإبراء ذمته وهبته ، وإذا أخذه وتقاضاه فما أخذ عينا من أعيان الشركة حتى يقاسمه شريكه فيها» ولم يذهب الى ذلك سوى شيخنا أبى جعفر الطوسي في نهايته ، ومن قلده وتابعه ، بل شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان لم يذكر ذلك في كتاب له ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ، ولا تعرضا للمسألة ، ولا وصفها أحد من أصحابنا المتقدمين في تصنيف له جملة ، ولا ذكرها أحد من القميين ، وانما ذكر ذلك شيخنا في نهايته من طريق أخبار الآحاد أورد ثلاثة أخبار أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد لا يلتفت اليه ، ولو سلم الخبران الآخران تسليم جدل ، لكان لهما وجه صحيح يستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال الذي هو الدين كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضا جميع ما على أحد الرجلين فالواجب عليه هنا أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنه أخذ ما يستحقه عليه وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لان جميع ما على أحد المدينين لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده ، دون شريكه الأخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك إذا أحسنا الظن براويهما ، فليتأمل ذلك ، وينظر بعين الفكر الصافي ففيه غموض ، انتهى.

وملخص استدلاله يرجع الى دليلين ، أحدهما أن لكل واحد من الشريكين أن يبرء الغريم من حقه ، ويهبه له ويصالح على شي‌ء منه دون الأخر ، ومتى أبرأه برء من حقه ، وان بقي حق الأخر ، وكذا إذا وهب أو صالح ، فكما لا يشارك من وهب أو صالح لشريك الأخر إذ استوفى حقه ، فكذلك لا يشاركه هو لو استوفى حقه.

وثانيهما أن متعلق الشركة بينهما كان هو العين وقد ذهبت ، ولم يبق عوضها


الا دين في ذمته ، فإذا أخذ أحدهما حقه منه لم يكن قد أخذ عينا من أعيان الشركة ، بل من أمر كلي في ذمته لا يتعين الا بقبض المالك أو وكيله ، وهنا ليس كذلك ، لأنه إنما قبض لنفسه.

أقول : فيه أولا أن ما ذكره من الدليل الأول ظاهر البطلان ، إذ لا ملازمة بين الأمرين ، بل الفرق بين الحالين ظاهر ، فإنه في صورة الإبراء أو الهبة أو الصلح قد برئت ذمة الغريم من مال الشريك الذي أبرأه ، أو وهبه أو صالحه ، ولم يبق في ذمته إلا حصة الشريك الأخر ، فكيف يشاركه فيما استوفاه ، وهو لم يستحق شيئا بالكلية بل صار كالأجنبي ، بخلاف ما لو لم يقع شي‌ء من هذه الثلاثة ، وبقي المال المشترك في ذمة الغريم ، كما هو محل البحث ، فإذا دفع شيئا والحال هذه فإنما دفع عما في ذمته من المال المشترك ، والمدفوع انما هو من المال المشترك ، فلا يختص به القابض.

وثانيا أن ما ذكره في الدليل الثاني فهو وجه عقلي لا يسمع في مقابلة النصوص الصريحة الصحيحة ، فإنها اجتهاد بحت في مقابلة النصوص ، وهو على قاعدته المنهدمة وطريقته المنخرمة من عدم العمل باخبار الآحاد جيد أما عند من لا يقول بقوله ، بل يعمل بها فلا وجه لهذا التعليل في مقابلتها ، وأما ما يفهم من المسالك من الميل الى ما ذهب اليه ابن إدريس ، تمسكا بما ذكره في الدليل الثاني حيث أيده وشيده بوجوه أطال بذكرها ، وطعن في أخبار المسئلة حيث قال : انها قاصرة عن الاستدلال بها لإرسال بعضها ، وضعف الأخر وعدم صراحة المطلوب في بعضها ،

ففيه أن الكلام معه في هذا المقام يرجع الى الاستدلال بالأخبار المذكورة ، وبيان صحتها وصراحتها في المدعى ، فالواجب ذكرها هنا وبيان ما يدل عليه ، وان كنا قد قدمناها في كتاب الدين من المجلد المتقدم.

فنقول من الاخبار المذكورة ، ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن


سليمان بن خالد (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين كان لهما مال منه بأيديهما ومنه متفرق عنهما ، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما وما كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما كان عنه غائبا ، واستوفى الأخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب ماله».

وما رواه الشيخ في الموثق عن عبد الله بن سنان (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجلين بينهما مال ، منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه ، وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله».

وعن أبي حمزة (٣) قال : «سئل أبو جعفر (عليه‌السلام) عن رجلين بينهما مال ، منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، وأحال كل واحد منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتضي الأخر قال : ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، ما يذهب بماله؟» ،.

ومثل ذلك رواية غياث (٤) عن جعفر عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) ، وموثقة محمد بن مسلم (٥) عن أحدهما ، وموثقة معاوية بن عمار (٦) عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، ولا يخفى على المتأمل المنصف أنه لا مجال للطعن في هذه الاخبار ، وبعد ضم بعضها الى بعض ، فإنهم في كثير من الأحكام يعتمدون على خبر واحد ضعيف باصطلاحهم مع جبره بالشهرة فكيف بهذه الاخبار على تعددها وشهرة القبول بها ، إذ لا مخالف في ذلك سوى ابن إدريس ، ووجود الصحيح

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣ ح ٩ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ١١٦ ب ١.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٧ وص ١٨٥ ح ٤ ..

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٥.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٥ ، وهذه الرواية في الوسائل ج ١٣ ص ١٧٩ و ١٨٠.


باصطلاحهم فيها وبه يظهر أن المناقشة فيها من حيث السند واهية لا يلتفت إليها هذا مع تسليم العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، والا فالأمر أهون من ذلك ، كما تقدم تحقيقه في جلد كتاب الطهارة من الكتاب.

وأما من حيث الدلالة فهي دالة بعمومها على جريان الحكم المذكور في الدين مطلقا ، اتحد المديون أو تعدد ، وتخصيصها كما ادعاه ابن إدريس فيما قدمنا نقله عنه بما إذا كان الدين على رجلين الى آخر ما ذكره يحتاج الى مخصص من الاخبار فليس ، وبه يظهر ما في المناقشة في الدلالة بأنها غير صريحة في المطلوب ، كما ذكره شيخنا المتقدم ذكره ، ولو تم ما ذكره لبطل الاستدلال بالعمومات ، وهو خلاف ما عليه جميع العلماء الاعلام ، وأرباب النقض والإبرام ، وغاية ما تعلق به في دليله الثاني أن متعلق الشركة انما هو العين وقد فاتت فإذا أخذ أحد حقه لم يكن قد أخذ عينا من الأعيان المشتركة ، بل من أمر كلي إلى آخر ما ذكره.

وفيه أنه ما المانع من جعل الثمن مشتركا كالعين ، إذا اقتضته الأدلة الشرعية ، بحيث يترتب عليه ما يترتب عليها ، وأى وجه قبح في ذلك ، فكل جزء يحصل من ذلك ، فهو بينهما كما أن الأمر في العين كذلك.

وبالجملة فإن الخروج عن ظواهر الاخبار بمجرد هذا الاعتبار مقابلة للنص بالاجتهاد ، وفيه خروج عن جادة السداد. وأما قوله ان هذه المسألة لم يتعرض لها أحد من المتقدمين ، ففيه أولا أن عدم التعرض لها والغفلة عنها لا يوجب عدم القول بها ، مع قيام الدليل عليها ، وكم قد غفل المتقدمون عن جملة من الأحكام ، ونبه عليه المتأخرون ، بل المتأخرون ونبه عليها متأخر والمتأخرين.

وثانيا أن جل المتقدمين لم يصنفوا في فروع الأحكام ويبسطوا القول فيها ، والتفريع والبحث عنها ، وانما كانوا يذكرون الأخبار المتعلقة بالأحكام ، وهذه الطريقة كما أشرنا إليه آنفا ، انما كان مبدؤها من الشيخ ، على أن الصدوق قد نقل في الفقيه صحيحة سليمان بن خالد المذكورة ، وهو يؤذن بقوله بمضمونها ، بناء


على قاعدته المذكورة في كتابه ، والأصحاب انما ينسبون اليه الأقوال باعتبار ذلك ، فهو حينئذ من جملة القائلين بالقول المشهور.

وابن الجنيد قد صرح أيضا بذلك ، وهو من المتقدمين على الشيخ فإنه قال : لو اقتسم الشريكان وكان بعض المال في أيديهما وبعضه غائبا عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، واختار كل واحد منهما بنصيبه من الغائب فقبض أحدهما ، ولم يقبض الأخر فما قبض من المال بينهما. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن في المقام اشكالا وذلك أن مقتضى كلام الأصحاب في هذه المسألة أن الدين لا يقبل القسمة ، وأن كل ما خرج منه فهو مشترك سواء كان في ذمة واحدة أو ذمم متعددة ، وقضية الحكم بالاشتراك برأيه الغريم من حصة الشريك الأخر الذي لم يقبض من ذلك المدفوع لاستحالة بقاء الدين في الذمة مع صحة قبض عوضه ، وأنه لو تلف في يد القابض يكون التالف بينهما كلا أو بعضا ، لأن الحق الكلي المشترك الذي كان في الذمة تعين بالقبض في المأخوذ ، فهو لهما فلا يجوز لأحدهما التصرف فيه ، الا بإذن الأخر.

وهذا هو ظاهر الاخبار المتقدمة ، والأصحاب لا يقولون بذلك في الموضعين المذكورين ، فإنهم صرحوا بالنسبة إلى الأول بأنه مخير في الرجوع على الشريك أو الغريم ، وبالنسبة الى الثاني أن التالف يكون من القابض خاصة لا يرجع على الشريك بشي‌ء منه.

قال في التذكرة : لا يصح قسمة ما في الذمم الى أن قال : فلو تقاسما ثم توى بعض المال رجع من توى ماله على من لم يتو ، وقال في موضع آخر : لو كان لرجلين دين بسبب واحد ، اما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره فقبض أحدهما منه شيئا فللاخر مشاركته فيه ، وهو ظاهر مذهب احمد بن حنبل ، لما تقدم في المسألة السابقة في رواية معاوية بن عمار ، ولان تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدين في الذمة من غير رضاء الشريك ، وهو باطل ، فوجب أن يكون المأخوذ


لهما ، والباقي بينهما ، ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه ، سواء كان باقيا في يده أو أخرجه عنها ، وله أن يرجع على الغريم ، لأن الحق ثابت في ذمته لهما على وجه سواء ، فليس له تسليم حق أحدهما إلى الأخر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشي‌ء ، لأن حقه ثابت في أحد المحلين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الأخر ، وليس للقابض منعه من الغريم ، بأن يقول : إنما أعطيك نصف ما قبضت ، بل الخيرة له من أيهما شاء قبض ، وان هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ، ولم يضمنه الشريك ، لانه قدر حقه فيما تعدى بالقبض ، وانما كان لشريكه مشاركته ، لثبوته في الأصل مشتركا ، ولو أبرأ أحد الشريكين الغريم من حقه برء ، لأنه بمنزلة قبضه ، وليس للشريك الرجوع عليه بشي‌ء ، لأنه لم يقبض شيئا من حق الشريك انتهى.

وهو ظاهر فيما قدمنا نقله عنهم مع ورود ما ذكرناه عليه.

ويزيده بيانا أنه لا يخلو الأمر في هذا المقبوض ، اما أن يتعين كونه من الدين المشترك الذي في الذمة ، وحينئذ فيترتب عليه ما يترتب على المشترك ، من أنه لو تلف كان من الجميع ، وعدم الرجوع على الغريم بحصته من ذلك لان الحق المشترك قد تعين ، وانحصر في المأخوذ ، وأنه لا يجوز للشريك التصرف فيه الا بإذن الأخر.

واما أن لا يتعين كونه منه ، فإنه يكون باقيا على ملك الغريم ، ولا يتعين حق القابض فيه ، فضلا عن الشريك الأخر وهم لا يقولون بذلك ، أو يتعين كون الكل حقه ، كما يدل عليه قولهم أنه لو تلف في يده تعين حقه فيه ، ولم يضمنه الشريك ، فلا وجه لرجوع الشريك عليه ، وكونه شريكا له فيه ، ولا معنى لقولهم : «أن الدين غير قابل للقسمة».

وبالجملة : فإن كلامه هنا لا يخلو من تدافع وتناقض ، وتوضيحه زيادة على ما عرفت أن قوله : «يقتضي قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك وهو باطل» يعطي أنه مع الرضاء صحيح ، وهم لا يقولون بذلك ، وقوله : «فوجب أن يكون المأخوذ لهما ،


والباقي بينهما» صريح في الشركة ، وكذا قوله : «رجع من توى ماله على من لم يتو» وحينئذ فيجب أن يترتب عليه ما ذكرناه من عدم الرجوع على الغريم وكان التالف منهما ، وقوله : «فليس له تسليم حق أحدهما إلى الأخر» ظاهر في عدم تعين حق للشريك الأخر في ذلك المقبوض ، وكذا قوله : «تعدى بالقبض» مع أنه لا خلاف في التشريك.

ويمكن الجواب عن الاشكال المذكور وما يترتب عليه من هذه الأمور ، بأن يقال : ان الحكم بأن ما خرج فهو مشترك بينهما ـ يجرى فيه ما يجري في المشتركات ـ ليس على إطلاقه ، اللازم منه تعين حق الشريك في ذلك المقبوض من حيث الشركة.

وكذا قولهم : «ان الدين المشترك لا يقبل القسمة» ليس على إطلاقه ، بل المراد أنه إذا طالب أحد الشريكين بحقه فلا شبهة في استحقاقه ذلك ، ومن ثم أجمعوا على أن له المطالبة منفردا ، فإذا دفع له المديون شيئا من المال المشترك على أن يكون حقه وحصته ، فللشريك الأخر إجازة ذلك والرضاء به ، فيكون شريكا له فيه ، وأن لا يرضى به ولا يجيزه ، فيكون حقه باقيا في ذمة المديون ، ومن هنا قالوا : بالتخيير بين الرجوع على الشريك ، أو الرجوع على المديون ، وأنه مع التلف يكون على القابض خاصة ، دون الشريك ، يعنى من حيث عدم الإجازة والرضاء بذلك ، وأن حقه رجع الى ذمة المديون ، وأما قولهم : «أن الدين المشترك لا يقبل القسمة ،» فالمراد أنه لا يقبل القسمة مع استلزامها فوات حق أحد الشريكين ، والا فالقسمة فيه جائزة مفيدة للملك في الجملة ، الا أن لزومها متوقف على حصول حصة كل من الشريكين بيده أو يد وكيله ، فلو تراضيا بالقسمة صحت بشرط وصول كل حق الى مستحقه أو بمعنى أن ما حصل فلهما وما توى فعليهما.

ألا ترى أن الاخبار المتقدمة كلها متفقة في أنه بعد القسمة ان توى مال أحدهما وخرج مال الأخر رجع من لم يقبض على من قبض وأن رجوع من لم يقبض


على من قبض ، انما هو من حيث ذلك ، ولا دلالة فيها على المنع من القسمة ، مع وصول كل حق الى مستحقه ، بل ظاهرها أنه مع ذلك فالقسمة صحيحة ، فإن قوله (عليه‌السلام) من جملتها «ما يذهب بماله» ظاهر ، في أنه لو لم يذهب شي‌ء من المال ، كانت صحيحة ، وحينئذ فلو فرضنا وقوع القسمة بغير رضاها ، بأن أخذ أحد الشريكين حصة من الغريم ، على أنها حصته فقط ، فليس للشريك الأخر مزاحمته والأخذ منه لان حقه في ذمة الغريم ، وقد أعطاه حقه ، فيكون المال له الا أن لزوم ذلك وصيرورته بحيث لا يزاحمه الشريك الأخر موقوف على وصول حق الشريك اليه وعدم تلفه ، وهذا الوجه أنسب بالنظر الى الاخبار كما عرفت ، والأول أنسب بالنسبة إلى كلام الأصحاب والله العالم.

المسألة الثانية ـ قال في المختلف : إذا شارك نفسان في سقاء ، على أن يكون من أحدهما جمل ، ومن الأخر رواية ، واستقى فيها على أن ما يرتفع يكون بينهم لم يصح هذه الشركة ، لان من شرطها اختلاط الأموال ، وهذا لم يختلط ، ولا يمكن أن يكون إجارة ، لأن الأجرة فيها غير معلومة ، فالحاصل للسقاء ، ويرجع الآخران عليه بأجرة المثل في مالهما من جمل ورواية.

قاله ابن إدريس والشيخ أيضا ، قال ذلك في المبسوط ، قال فيه : وقيل : يقتسمون بينهم أثلاثا ، ويكون لكل واحد منهما ثلثها ، ويكون لكل واحد منهم على صاحبه أجرة ماله على كل واحد منهما ثلثها ، ويسقط الثلث ، لان ثلث النفع حصل له ، قال الشيخ : والوجهان قريبان ، ويكون الأول على وجه الصلح ، والثاني من الحكم ، وما قربه الشيخ قريب انتهى.

أقول : لا ريب في بطلان الشركة المذكورة لأنها مركبة من شركة الأبدان وشركة الأموال مع عدم المزج ، وكل منها باطل كما تقدم ، ومقتضى القواعد في مثل هذا هو ما ذكر أولا من أن الحاصل للسقاء ويرجع عليه الآخران بأجرة المثل.


وأما الثاني فلا وجه له ، الا ، أن يرجع الى أجرة المثل ، فقول الشيخ أن الأول على وجه الصلح ، والثاني من الحكم لا أعرف له وجها وجيها ، وتوضيح الثاني من الوجهين المذكورين أنه يقسم الحاصل بينهم أثلاثا ، فإن كانت أجرة مثلهم متساوية فلا بحث ، وان كانت متفاضلة رجع كل واحد منهم بثلث أجرة مثله على الآخرين ، مضافا الى الثلث الذي حصل له ، فلو فرض أن الحاصل كان ستة دراهم ، فإنهم يقتسمونها أثلاثا لكل واحد درهمان ، وكان أجرة المثل للسقاء ثلاثة دراهم ، ولصاحب الرواية درهمان ، ولصاحب الدابة درهم ، فإنه يرجع السقاء بثلث أجرته ، وهو درهم على صاحب الدابة ، وبثلثهما وهو درهم على صاحب الرواية فيحصل عنده أربعة دراهم ، ويرجع صاحب الرواية على كل من السقاء وصاحب الدابة بثلثي درهم ، فصار معه درهمان وثلث درهم ، ويرجع صاحب الدابة على كل من الآخرين بثلث درهم فصار معه درهم ، وحينئذ فيصير لكل واحد أجرة مثله ، وهي ثلاثة للسقاء واثنان لصاحب الرواية ، وواحد لصاحب الدابة.

قال في المسالك بعد ذكر الوجه الأول. وهذا يتم مع كون الماء ملكا للسقاء أو مباحا ونوى الملك لنفسه أو لم ينو شيئا ، أما لو نواه لهم جميعا كان كالوكيل ، والأقوى أنهم يشتركون فيه ، حينئذ ويكون أجرته وأجرة الرواية والدابة عليهم أثلاثا فيسقط عن كل واحد ثلث الأجرة المنوية اليه ، ويرجع على كل واحد بثلث انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر عبارة الشيخ المتقدمة هو كون محل الوجهين أمرا واحدا ، وعليه جمد العلامة في نقله له ، وظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين مبنى على أمر غير ما بنى عليه الأخر ، على انه سيأتي في المسئلة الاتية ما يدل


على أن المراد مجرد هذه النية التي فرع عليها هذا الوجه لا يؤثر في الاشتراك ، كما هو صريح عبارة المحقق الاتية في تلك المسألة ، وكذا صريح عبارة الشيخ الاتية ، وظاهره الجمود على عبارة المحقق الاتية ، وانما نازع في الوكيل خاصة ، ودعواه هنا أنه كالوكيل يجري في عبارة المحقق الاتية ، مع أنه لم يقل بذلك. والله العالم.

الثالثة : لو هاش صيدا واحتطب أو حش بنية أنه له ولغيره لم تؤثر تلك النية ، وكان بأجمعه له خاصة ، صرح به المحقق في الشرائع ، وبنحو ذلك صرح الشيخ في المبسوط ، فقال : إذا أذن الرجل أن يصطاد له صيدا فاصطاد الصيد بنية أن يكون للأمر دونه ، فلمن يكون هذا الصيد؟ قيل فيه : ان ذلك بمنزلة الماء المباح إذ استسقاه السقاء بنية أن يكون بينهم ، وأن الثمن يكون له دون شريكه ، فهيهنا يكون الصيد للصياد دون الأمر ، لأنه تفرد بالحيازة ، وقيل : أنه يكون للأمر لانه اصطاده بنيته ، فاعتبرت النية والأول أصح انتهى.

ومقتضى القول الثاني فيما نقله هنا أن يكون كذلك في المسألة التي نقلناها عن المحقق ، مع أنه لم ينقل ثمة خلافا ، وبناء ما حكموا به على أن المملك هو الحيازة ، والنية لا أثر لها هنا وهو مشكل ، وقد نقل في المختلف عن الشيخ في باب احياء الموات من الكتاب المذكور أنه إذا نزل قوم موضعا من الموات فحفروا فيه بئرا ليشربوا منها ، ويسقوا بها غنمهم ومواشيهم منها مدة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ؛ فإنهم لا يملكونها لأن المحيي إنما يملك بالإحياء إذا قصد تملكه به ، فإنه اعتبر هنا النية والقصد الى الملك ، والا لم يملك ، وهو ظاهر في عدم الاكتفاء بمجرد الأحياء والحيازة ، وقال في باب الشركة من المبسوط أيضا : يجوز أن يستأجره ليحتطب له أو يحش له مدة معلومة.

أقول : وهذا الكلام أيضا ظاهر في أنه لا بد في صحة الحيازة ، من


نية التملك والا لما صح الاستيجار لأن المستأجر يملكه بمجرد الحيازة فلا يتصور ملك المستأجر له ، وأما إذا قلنا بتوقفه على النية ، فإنه يصح الاستيجار ، وكذا يصح التوكيل في ذلك ، لان الملك يكون تابعا للنية ، فإذا نوى ملك غيره مع كونه نائبا عنه صح.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال عن الشيخ : وعندي في ذلك تردد.

وقال في المسالك ـ بعد نقل عبارة الشرائع المتقدمة الدالة على جزمه بعدم تأثير النية وأن الجميع لمن حازه خاصة : ما صورته هذا الجزم انما يعم لو لم يكن وكيلا للغير في ذلك ، والا أتى الإشكال الذي ذكروه من توقف ملك المباح على النية ، فإنا لو قلنا بتوقفه وكان وكيلا ثبت الملك لهما ؛ ولو قلنا بعدم توقفه ففي ثبوت الملك للمحيز نظر ، من حصول علة الملك وهي الحيازة ، فيثبت المعلول ، ومن وجود المانع للملك وهو نية عدمه ، بل إثباته للغير انتهى.

وأنت خبير بأن مقتضى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذه المسئلة من أن السقاء لو نوى كون الماء المباح لهم جميعا كان كالوكيل ، ينافي ما جمد عليه من جزم المصنف هنا بأنه بأجمعه للمحيز خاصة ، وأن النية لم تؤثر شيئا حيث أنه لم يناقش الا فيما لو كان وكيلا بالفعل.

وبالجملة فإن كلامه في هذين المقامين لا يخلو من نوع مدافعة ، وكيف كان فان الكلام في هذا المقام مبنى على الكلام في حيازة المباح ، وأنه هل يكفى مجرد الحيازة ، أو يحتاج إلى النية ، أو تكفى الحيازة مع عدم نية عدم الملك فلو نوى عدمه أثرت ولم يتم الملك؟ أقوال ثلاثة.

وظاهر جملة من المحققين كالمحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه ومنها ما تقدم في عبارة المختلف ونقل عن الشيخ أيضا التوقف في ذلك ، وهو في محله ، لعدم الدليل الواضح على شي‌ء من هذه الأقوال. ولا يخفى أن هذه


المسئلة لا تعلق لها بكتاب الشركة الا من حيث هذين الفرعين المذكورين ، والا فمحلها انما هو كتاب احياء الموات وسنحقق البحث فيها بعد الوصول إليه إنشاء الله تعالى. والله العالم.

الرابعة : قال المحقق : لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما وهو وكيل في القبض ، وادعى المشترى تسليم الثمن إلى البائع ، وصدقه الشريك برء المشترى من حقه ، وقبلت شهادته على القابض في النصف الأخر ، وهو حصة البائع لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر ، ولو ادعى تسليمه الى الشريك فصدقه البائع ، لم يبرء المشترى من شي‌ء من الثمن ، لأن حصة البائع لم تسلم اليه ولا الى وكيله ، والشريك منكر ، فالقول قوله مع يمينه ، وقيل : يقبل شهادة البائع ، والمنع في المسئلتين أشبه. انتهى.

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام يقع في موضعين : أحدهما ـ ما لو كانت الدعوى بين البائع من الشريكين والمشترى ، وهي تنجر بالأخرة أيضا الى الدعوى بين الشريكين كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى ، فهيهنا صورتان : الاولى ـ وقوع الدعوى بين البائع من الشريكين والمشترى ، والمفروض فيها أن البائع من الشريكين وكيل من جهة الشريك الأخر في قبض الثمن ، كما أنه وكيل في البيع ، ففي هذه الحالة ادعى المشترى أنه دفع الثمن إلى البائع ، وصدقه الشريك الأخر ، وأنكر البائع ذلك ، فإن أقام المشتري البينة برئت ذمته من الحقين ، أما من حق البائع فبالبينة واما من حق الشريك الأخر فبها وبتصديقه للبائع في دعواه.

ولو كان عدلا قبلت شهادته على شريكه ؛ لأن الشهادة على الشريك مقبولة ، لا مانع منها ، لعدم التهمة ، لكنها انما تقبل في حصة الشريك البائع لا في الجميع المتضمن لحصة نفسه ، لتطرق التهمة فيها (١) كما يشير اليه قوله : «وقبلت شهادته

__________________

(١) ووجهه على ما ذكروه أنه لو ثبت ذلك بشهادته لطالب الشهود عليه بحقه ، وذلك جر نفع ظاهر ، فلا تقبل حينئذ للتهمة. منه رحمه‌الله.


على القابض في النصف الأخر» وهو حصة البائع ، لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر.

وان لم يقم المشترى بينة بأداء الثمن كان القول قول البائع بيمينه ، لانه منكر ، وحينئذ فإن حلف استحق أخذ نصيبه خاصة ، لاعتراف شريكه ببراءة ذمة المشترى ، حيث أنه وافقه على دفع الثمن ، وأنه صار بري‌ء الذمة ، وأن شريكه قد قبض ذلك أصالة لنفسه ، ووكالة عنه ، والوكالة قد بطلت بفعل متعلق الوكالة وهو القبض ، فليس له مشاركة الشريك فيما قبضه باليمين وان كان المال في الأصل مشتركا ، لاعترافه بأن ما قبضه شريكه ظلم ، وأن حقه انما هو في ذمة شريكه البائع بالقبض الأول ، وان نكل البائع عن اليمين ردت على المشترى. فان حلف أنه اقبض الثمن جميعه انقطعت عنه المطالبة ، وان نكل (١) الزم بنصيب البائع خاصة.

قالوا : وحيث يثبت الأداء الى البائع بالبينة ، فللشريك المطالبة بحصته ، دون ما إذا ثبت ذلك بشاهد ويمين أو باليمين المردودة على المشترى ، أو بنكول البائع على القول بالقضاء به ، لان ذلك انما يؤثر في حق المتخاصمين ، لا في حق غيرهما.

أقول : والظاهر أن السبب في ذلك من حيث اليمين ، لأنها لا يثبت مالا لغير الحالف كالبينة ، وعليه يتفرع النكول كما لا يخفى.

الصورة الثانية : الدعوى بين الشريكين ، وقد عرفت أن الشريك البائع وكيل من جهة شريكه المدعى هنا في قبض الثمن ، وهو قد صدق المشترى في

__________________

(١) قال في المسالك : فان نكل يعني المشتري الزم نصيب البائع ان لم نقض بالنكول ، لأصالة بقاء الثمن في ذمته ، حيث لم يثبت الأداء بحصة البائع. انتهى.

أقول : والظاهر ان رد اليمين على المشترى بعد نكول البائع مبنى على ما هو المشهور بين المتأخرين والا فإنه على القول الأخر ، وهو انه متى نكل المنكر عن اليمين يقضى عليه بمجرد نكوله لا يتجه الرد على المشترى. منه رحمه‌الله.


قبض شريكه له ، وحينئذ فالشريك هنا يدعى على شريكه البائع حصته من الثمن ، وشريكه يدعى بقاءها في ذمة المشترى لإنكاره القبض منه وعلى هذا فإن أقام الشريك بينة بأن شريكه البائع قد قبض الثمن من المشترى كما يدعيه رجع عليه بحقه منه ، والا فالقول قول شريكه ، لانه منكر القبض ، فيقبل قوله مع يمينه ، فان حلف انقطعت الدعوى ، وان نكل أورد اليمين حلف الشريك المقر ، وأخذ منه حصته ، ولا يرجع البائع بذلك على المشترى ، لاعترافه بظلم شريكه له في فعله ، وأنه لا يستحق في ذمته شيئا ، وانما حقه باق في ذمة المشترى ، ولأن ذمة المشترى بريئة من حصته ، لاعترافه بدفع ذلك الى البائع ، فلا يمكن أن يقال ان رجوعه عليه لكونه قد أدى عنه دينا في ذمته ، فيرجع به عليه.

هذا كله فيما إذا تقدمت الخصومة الأولى على الثانية كما رتبناه.

اما إذا تقدمت الثانية فإن الحكم كما ذكر أيضا ، الا أن الشريك المقر لا تقبل شهادته على البائع ، لسبق خصومته فيتطرق إليه التهمة.

وثانيهما : ما لو كانت الدعوى بين المشترى والشريك الاذن بأن ادعى المشترى أنه بعد الشراء من الشريك البائع سلم الثمن الى شريكه الأخر ، وصدقه الشريك البائع على ذلك ، والشريك المدعى عليه منكر ، فالقول قوله بيمينه ، كما هي القاعدة المتفق عليها.

وتفصيل الكلام هنا أن يقال ان البائع هنا اما أن يكون قد أذن للشريك المدعى عليه في قبض حصته من الثمن أولا وعلى التقديرين فاما أن قد أذن أيضا لشريكه البائع في القبض أم لا ، وحينئذ فإن كان الشريك المدعى عليه مأذونا في القبض بري‌ء المشترى من حصة البائع ، لاعترافه بقبض وكيله حيث


أنه صدق المشترى في دعواه الدفع لشريكه ، والحال أنه مأذون منه وان لم يكن مأذونا في القبض لم يبرئ المشترى من حصة البائع ، لأنه لم يدفع حصته اليه ، ولا الى وكيله ، أما عدم الدفع اليه فظاهر ، لأن المشتري انما يدعى الدفع على شريكه ، وأما عدم الدفع الى وكيله فلان المدعى عليه غير وكيل ، ولا مأذون كما هو المفروض ، وكذا لا تبرئ ذمته من حصة الشريك المدعى عليه ، لإنكاره القبض. وحينئذ فيقدم قول الشريك المدعى عليه بيمينه مع عدم البينة.

ثم ان طالب البائع المشتري بحصته ، فلشريكه مشاركته في ذلك كما في كل مال مشترك لأنه منكر للقبض ، والمال الذي في ذمة المشترى مشترك بينهما ، وله أن لا يشاركه ، بل يرجع على المشترى بحصته ويطالبها ، وعلى تقدير مشاركته للبائع في حصته التي قبضها من المشترى ، إنما يبقى للبائع ربع الثمن وليس للبائع مطالبة المشتري بعوض ما أخذه شريكه ، لانه يعترف بظلم الشريك له في المشاركة ، وأخذه نصف ما قبضه.

ثم انه متى شارك فيما قبضه (١) رجع ببقية حصته على المشترى ، لأن حقه منحصر فيهما ، وأما قوله في آخر العبارة «وقيل : تقبل شهادة البائع والمنع في المسألتين أشبه» ، وأشار بالمسألتين الى هذه المسئلة وسابقتها باعتبار اشتمالها على شهادة الشريك للمشتري على البائع ففيه تفصيل.

أما في المسئلة السابقة فقد تقدم بيانه ، وأما في هذه فإنه لا يخلو اما أن يكون الشريك المدعى عليه القبض مأذونا من جهة شريكه البائع في القبض أم لا ، فعلى

__________________

(١) أقول : مشاركته له فيما قبضه بناء على ظاهر كلام الأصحاب في مسألة المال المشترك كما تقدم ، واما على ما يظهر من الاخبار كما تقدمت الإشارة إليه من أن رجوع الشريك على شريكه مقاسمة له مخصوصة بما إذا توى بقية المال ، والا فالقسمة صحيحة ، وحصة الغير القابض يرجع بها على من عليه المال في ذمته لا على شريكه ، الا ان يتعذر حصولها فيرجع على الشريك حينئذ ولا يرجع هنا على الشريك. منه رحمه‌الله.


الأول لا تقبل لحصول التهمة ، لأنه بالنسبة إلى حصته يشهد لنفسه على الذي لم يبع لان المفروض أن القابض مأذون من جهته في القبض ، ووكيل عنه ، فهو في الحقيقة ليشهد لنفسه على شريكه.

وحينئذ يلزم تبعيض الشهادة ، والشهادة إذا ردت في بعض المشهود به هل تسمع في الباقي أم لا؟ وجهان : عندهم.

وأما على الثاني فإنها تقبل لعدم التهمة ، حيث إن الشريك ليس وكيلا للبائع في القبض ، وانما حق البائع باق على المشترى كما تقدم ، فليست الشهادة متبعضة كالأولى ، هذا ما يفهم من تقرير الأصحاب في المسئلة.

وأما كلام المحقق هنا واختياره المنع من قبول شهادة البائع ، مع أن المفروض في كلامه انما هو الثاني من هذا الترديد ، فقيل : ان الوجه فيه أن البائع وهو الشاهد ، وان لم يكن شريكا للقابض فيما قبضه ، لعدم الاذن له ، الا أن الشهادة تجر نفعا ، من حيث أنه إذا حصل الثبوت بهذه الشهادة بانضمام شاهد آخر أو يمين مثلا ، وقبض هذا الشاهد نصيبه من المشترى مسلم له ، ولا يشاركه فيه شريكه ، بناء على استحقاق المشاركة إذا لم يثبت القبض ، هذا ملخص كلامهم في هذا المقام.

ولا يخفى على من راجع كتاب التذكرة أن أصل هذه المسئلة وطرحها في محل البحث انما هو من العامة ، كسائر المسائل المذكورة ، ولهم فيها أقوال منتشرة ، واختلافات متكثرة ، وقد جرى فيها أصحابنا على بعض ما جروا عليه ، واختاروا فيها ما جنحوا اليه ، وجملة من شقوقها موافقة للأصول الشرعية ، وجملة منها مداركها غامضة خفية ، والله العالم.

الخامسة : قال الشيخ في الخلاف : إذا كان لرجلين عبدان لكل واحد منهما


عبد بانفراده ، فباعاهما من رجل واحد بثمن واحد لا يصح البيع ، لأنه بمنزلة عقدين ، لانه لعاقدين ، وثمن كل واحد منهما مجهول ، لان ثمنهما يتقسط على قدر قيمتهما ، وذلك مجهول والثمن إذا كان مجهولا بطل العقد ، بخلاف ما لو كانا لواحد ، لانه عقد واحد ، وانما بطل الأول من حيث كانا عقدين.

وقال في المبسوط : إذا كانا مختلفي القيمة بطل ، وان تساويا صح انتهى. وظاهر كلام جملة من المتأخرين الصحة مطلقا.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشيخ : والقولان ضعيفان عندي ، والحق صحة البيع فيهما ، سواء كان متفاوتي القيمة أو متساوي القيمة ، لأن الثمن في مقابلة المجموع ، والتقسيط الحكمي لا يقتضي التقسيط لفظا ، والجهالة إنما تتطرق بالاعتبار الثاني ، دون الأول ، ولهذا لو كان عبدا واحدا ولأحدهما فيه حصة والباقي للآخر ولم يعلم حصة كل واحد منهما فباعاه صفقة واحدة صح البيع ، وان اختلف عوض كل واحد من الحصتين ، باعتبار اختلافهما وكونهما في حكم العقدين لا يقتضي كونهما عقدين ، ولهذا لو فسخ في أحدهما لم يكن له الا رد الأخر ، وذلك يدل على اتحاد الصفقة ، انتهى.

وبهذا الكلام بأدنى تفاوت عبر في المسالك ، وربما أشعر ظاهر كلام المحقق في الشرائع بالتوقف ، حيث اقتصر على نقل القولين في المسألة مع حجة القول بالبطلان ، ولم يتعرض لأزيد من ذلك ، والظاهر هو القول بالصحة لما عرفت ، وقد مر نظير ذلك في كتاب البيع في مسئلة بيع ما يملك وما لا يملك.

أما لو كان العبدان لهما معا أو كانا لواحد فلا اشكال ولا خلاف في الجواز ، لزوال ما توهم منه المنع في تلك المسئلة وهو تقسيط الثمن عليهما ، بل يقسمانه على نسبة الحصص ، وكذا لو كانا لواحد مع أن ذلك التقسيط لو أثر لأمكن


تطرقه هنا لو عرض لأحد هما ما يبطل البيع كما لو خرج مستحقا للغير ، أو ظهر كونه حرا ، فان البيع في نفس الأمر انما وقع على المملوك ، ولا يعلم قسطه من الثمن ، ووجه الصحة في الجميع أن ثمن المبيع وقت العقد معلوم ، والتوزيع لاحق ، فلا يقدح في الصحة.

السادسة :قد تقدم أن شركة الأبدان باطلة ، وحينئذ فلو اشتركا كذلك فان تميز أجرة كل واحد عن صاحبه اختص كل واحد بحصته ، ولو تميز بعضها اختص أيضا به ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وانما الإشكال مع اشتباه الحال فقيل : أنه يقسم الحاصل على قدر أجرة مثل عملهم ، نظرا الى أن الغالب العمل بأجرة المثل ، وأن الأجرة تابعة للعمل.

ومثله قسمة ثمن ما باعاه مشتركا بينهما على ثمن مثل ما لكل منهما ، وعلى هذا لو تميز بعض حق كل منهما أو أحدهما ضم إلى الباقي في اعتبار النسبة ، وان اختص به مالكه ، وهذا القول اختيار المحقق في الشرائع.

وقيل : بتساويهما في الحاصل من غير نظر الى العمل ، لأصالة عدم زيادة أحدهما على الأخر ، ولأن الأصل مع الاشتراك التساوي ، ولصدق العمل على كل واحد منهما ، والأصل عدم زيادة أحد العملين على الأخر ، والحاصل تابع للعمل ، ونقل هذا عن العلامة في أحد وجهيه ، ورد بمنع كون الأصل في المال والعمل التساوي ، بل الأصل هنا يرجع إليه ، لأن زيادة مال شخص أو عمله على آخر ونقصانه ومساواته ليس أصلا لا بحسب العادة ، ولا في نفس الأمر.

وبالجملة فضعف هذا الوجه أظهر من أن يحتاج الى مزيد تطويل.

وقيل : بالرجوع الى الصلح ، لانه طريق الى تيقن البراءة كما في كل مال مشتبه ، ونقل أيضا عن العلامة في الوجه الأخر.


قال في المسالك : ولا شبهة في أنه أولى مع اتفاقهما عليه ، والا فما اختاره المصنف أعدل من التسوية.

أقول : ولا يخفى أن المسئلة غير منصوصة ، والاحتياط فيها واجب ، وهو يحصل بالقول الثالث ، وأما الأول فإنه وان كان أقل بعدا من الثاني الا أنه لا يخلو أيضا من شي‌ء فان مجرد كون الغالب العمل بأجرة المثل لا يصلح لان يكون سببا مملكا شرعيا لما زاد بحسب الواقع ، فإنه يجوز أن يكون أجرة عمل أحدهما بالنظر الى أجرة المثل درهمين ، وأجرة الأخرى بالنظر الى ذلك ثلاثة دراهم ، فلو اقتسما كذلك وكان الأمر بحسب الواقع الذي قبضه كل منهما هو بالعكس ، لأحد الأسباب المقتضية لذلك من تراض ، ومسامحة أو مناقشة ، فإنه لا يكون مبيحا للزيادة التي في أحد الطرفين ، ولا حاسما لمادة الإشكال واقعا في البين بل الواجب عليهما لتحصيل براءة الذمة بيقين هو الرضاء بالصلح ليخرجوا بذلك من غصب رب العالمين. والله العالم.


كتاب المضاربة :

قال في التذكرة : وهي عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره بحصة من الربح. انتهى.

وهذه التسمية لغة أهل العراق ، وأما أهل الحجاز فيسمون هذه المعاملة قراضا ، قيل : ووجه المناسبة بالنسبة إلى التسمية الأولى أنها من الضرب في الأرض ، قال الله تعالى «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ» (١) لان العامل يضرب فيها للسعي على التجارة وابتغاء طلب الربح بطلب صاحب المال ، فكان الضرب مسببا عنها طردا لباب المفاعلة في طرفي الفاعل ، أو من ضرب كل منهما في الربح بسهم ، أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه.

وأما وجه المناسبة في التسمية الثانية ، فهو اما من القرض ، وهو القطع كما يقال : قرض الفار الثوب أى : قطعه ، ومنه المقراض ، لانه يقطع به ، فكان صاحب المال اقتطع من ماله قطعة ، وسلمها الى العامل ، واقتطع له قطعة من الربح ، أو من المقارضة ، وهي المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران إذا وازن كل منهما الأخر بشعره.

__________________

(١) سورة المزمل الآية ١٩.


وحكى عن أبى الدرداء أنه قال : قارض الناس ما قارضوك ، فان تركتهم لم يتركوك يريد ساوهم فيما يقولون ، وهذا المعنى تحقق هنا ، لان المال من جهة رب المال ، ومن جهة العامل العمل ، فقد تساويا في قيام العقد بهما ، فمن هذا المال ومن هذا العمل ، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح ، وتساويهما في أصل استحقاقه ، وان اختلفا في كميته ، ويقال منه للمالك مقارض بكسر الراء ، وللعامل مقارض بالفتح ، ومن اللفظة الأولى يقال للعامل : مضارب بكسر الراء ، لأنه الذي يضرب في الأرض بالمال ويقلبه ، ولم يشتق أهل اللغة لرب المال من المضاربة أسماء ، بخلاف القراض ، كذا في التذكرة ، ونحوه في المسالك.

وقال في المسالك : واعلم أن من دفع الى غيره مالا ليتجر به فلا يخلو اما أن يشترطا كون الربح بينهما ، أو لأحدهما أو لا يشترطا شيئا ، فإن اشترطاه بينهما فهو قراض ، وان اشترطاه للعامل فهو قرض ، وان اشترطاه للمالك فهو بضاعة ، وان لم يشترطا شيئا فكذلك ، الا أن للعامل أجرة المثل ، ونحوه قال في التذكرة.

واعترضهما المحقق الأردبيلي هنا في موضعين : أحدهما ـ في البضاعة ، حيث حكما بأن للعامل أجرة المثل ، قال بعد نقل عبارة التذكرة قوله : «وعليه أجرة المثل للعامل» محل التأمل ، لأن الأصل عدم لزوم الأجرة ، وما ذكر من أنه إذا استعمل شخص بعمل له أجرة عادة لمثل هذا الشخص ، يستحق به أجرة المثل ان ثبت ذلك ، وكان ما نحن فيه من ذلك القبيل يكون له أجرة المثل ، والا فهو متبرع لما مر. انتهى.

وحاصله يرجع الى قيام احتمال التبرع ، فالحكم بالأجرة مع الإطلاق يحتاج الى دليل ، وليس فليس ، وهو جيد.


وثانيهما ـ قولهما في صورة ما إذا اشترطا الربح للعامل أنه قرض ، فان ظاهره المنع من الحكم بكونه قرضا بمجرد هذا الشرط ، قال (رحمة الله عليه) : وكذا قوله : «كان المال قرضا ودينا» فان القرض يحتاج إلى صيغة خاصة ، وله أحكام خاصة ، والمفروض عدم وجودها من المالك ، فكيف يحكم بوجوده ، وترتب أحكامه عليه ، ولان خروج المال عن ملك مالكه ودخوله في ملك آخر يحتاج الى ناقل ، وما وجد الا نحو قوله : «اتجر فيه فيكون الربح لك» وغير معلوم كون هذا المقدار مملكا ، باعتبار أن كون الربح له فرع كون المال له ، فكأنه قال : المال لك بالعوض ، فربحه لك ، لان الاكتفاء في خروج مال عن ملكه ودخوله في ملك آخر بمثله من غير دلالة شرع به مشكل ، على أنه قد يكون العامل أو القائل جاهلا لا يعلم أنه لا يمكن كون المال باقيا على ملكه ، وكون الربح للعامل ، إذ يكون مقصوده إعطاء الربح للعامل ، بعد ان كان له ، وبالجملة ان وجد دليل مفيد لنقل الملك مع العوض يكون قرضا ، والا فلا. انتهى.

وهو جيد أيضا ، الا أنه يمكن الجواب هنا بأنه ليس المراد ثبوت القرض وحصوله بمجرد هذا الاشتراك بل مع حصول القرض أولا بصيغته الدالة عليه ، والا لورد ما قاله أيضا بالنسبة إلى القراض الذي هو محل البحث ، فإنه لا بد فيه من صيغة خاصة عندهم ، مع أن ظاهر هذا الكلام الاكتفاء بمجرد هذا الاشتراط ، وهم لا يقولون به.

وبالجملة فالمراد انما هو أن اشتراط الربح لهما معا انما يكون في القراض ، واشتراطه للعامل خاصة انما يكون في القرض ، وللمالك خاصة انما يكون في البضاعة ، وهذا لا يدل على حصول القراض بمجرد هذا الاشتراط كما يوهمه ظاهر الكلام المتقدم ، ولا على حصول القرض كذلك (١).

__________________

(١) قال في المسالك : وعقد القراض مركب من عقود كثيرة لأن العامل مع صحة


على أنه يمكن الاستدلال هنا بما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن قيس (١) في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : قال : قال أمير المؤمنين (ع): من اتجر مالا واشترط نصف الربح فليس عليه ضمان ، وقال : من ضمن تاجرا فليس له الا رأس ماله ، وليس له من الربح شي‌ء».

ومثله موثقة محمد بن قيس (٢) عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : قضى على (عليه‌السلام) في تاجر اتجر بمال واشترط نصف الربح فليس على المضارب ضمان. وقال ايضا : «من ضمن مضاربة فليس له الا رأس المال ، وليس له من الربح شي‌ء».

والتقريب فيهما أنه بمجرد تضمين المالك للمضارب يصير المال قرضا ، ويخرج عن المضاربة ، وان لم يتقدم هناك عقد القرض أولا ، وهو في معنى اشتراط الربح للعامل ، فإن الأمرين من لوازم القرض.

قال في الوافي بعد نقل الخبرين المذكورين : أريد بالحديثين أن في المضاربة لا ضمان على العامل ، فان اشترط عليه الضمان يصير قرضا انتهى. ومرجعه إلى أنه باشتراطه الضمان كأنه قصد أن المال يكون قرضا حينئذ ، كما أنه باشتراط الربح للعامل خاصة كأنه قصد ذلك ، وبه يندفع الإيراد الثاني ، وأما الأول فهو لازم.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد أربعة :

الأول : في العقد وما يلحق به ، وفيه مسائل الأولى ـ قال العلامة في

__________________

التعدد وعدم ظهور ربح ودعى أمين ، ومع ظهوره شريك ومع التعدي غاصب وفي تصرفه وكيل ومع فساد العقد أجير. انتهى. أقول : الظاهر أن المراد أنه يترتب على هذا العقد من اللوازم باعتبار وجود بعض الأمور وعدم بعض ما يترتب على تلك العقود ، لان تلك العقود حاصلة في ضمن العقد كما يشعر به ظاهر الكلام. منه رحمه‌الله.

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٥ ح ٢ و ٤.


التذكرة : لا بد في هذه المعاملة من لفظ دال على الرضا من المتعاقدين ، إذ الرضاء من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها الا الله تعالى ، وهذه المعاملة كغيرها من المعاملات يشترط فيها الرضا للاية ، واللفظ الدال على الإيجاب أن يقول رب المال : ضاربتك أو قارضتك أو عاملتك على أن يكون الربح بيننا نصفين ، أو أثلاثا ، أو غير ذلك من الوجوه ، بشرط تعيين الأكثر لمن هو منهما ، والأقل كذلك ، والقبول أن يقول العامل قبلت أو رضيت أو غيرهما من الألفاظ الدالة على الرضاء بالإيجاب ، وكذا الإيجاب لا يختص لفظا فلو قال : خذه واتجر به على أن ما سهل الله في ذلك من ربح وفائدة يكون بيننا على السوية ، أو متفاوتا جاز ، ولا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود ، وهل يعتبر اللفظ؟ الأقرب العدم ، فلو قال : خذ هذه الدراهم واتجر بها على أن الربح بيننا على كذا ، فأخذها واتجر بها فالأقرب الاكتفاء به في صحة العقد ، كالوكالة ويكون قراضا.

ثم نقل عن جملة من العامة أنه لا بد من القبول ، بخلاف الوكالة ، فإن القراض عقد معاوضة ، فلا يشبه الوكالة التي هي اذن ، ثم قال : والوجه الأول.

أقول : قد عرفت في غير موضع مما تقدم سهولة الأمر في العقد ، وأنه ليس الا ما دل على التراضي بتلك المعاملة ، وظاهر كلامه هنا وكذا كلام غيره الاكتفاء بما دل على الرضا ، وان كان فعلا في جانب القبول.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : وفي اشتراط وقوع قبوله لفظا أو جوازه بالفعل ، قولان : لا يخلو ثانيهما من قوة ، وبذلك يظهر لك ما في قوله : «فلا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود» من التأمل ، فإنه متى صح القبول بالفعل دون القول فلا معنى لاشتراط التواصل الذي هو عبارة عندهم


عن تعقيب الإيجاب بالقبول ، وعدم الفصل بينهما ، فان هذا انما يتجه فيما لو كان القبول لفظا ، الا أن يراد أنه لا بد من التواصل وان كان القبول فعلا ، بأن يكون الأخذ بعد الإيجاب بلا فصل ، وهو بعيد.

وبالجملة فإنه لا دليل على اعتبار هذه المقارنة ، بل ربما دلت ظواهر جملة من الاخبار المشتملة على العقود على خلاف ذلك ، والأصل إناطة صحة العقد بالرضا ، والألفاظ الدالة عليه من الطرفين ، فان ذلك غاية ما تدل عليه الآية والروايات ، وما عداه من المقارنة المذكورة خال من الدليل ، ولا خلاف بينهم في أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ويؤيده أنه وكالة في الابتداء ، ثم قد يصير شركة بعد العمل ، وكل من الوكالة والشركة من العقود الجائزة ، ولا فرق في ذلك بين انضاض المال بمعنى صيرورته دراهم بعد أن كان عروضا ، أو كان عروضا لم ينض ، فلكل منهما فسخه وان كان عروضا ، وليس لصاحب المال أن يكلف المضارب بإنضاض العروض بان يصيرها دراهم كالأول وليس للمضارب أيضا أن يقول للمالك اصبر حتى ينض المال.

الثانية : في جملة من الشروط الواقعة في العقد ، قال في التذكرة : يجب التنجيز في العقد ، فلا يجوز تعليقه على شرط أو صفة مثل إذا دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك ، وكذا لا يجوز تعليق البيع ونحوه لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.

أقول : لا يخفى ما في دليله من تطرق النظر إليه ، فإن عموم الأدلة الدالة على جواز هذا العقد من آية ورواية شامل لما ذكره ، فإنه تجارة عن تراض ، وعقد المضاربة التي قدمنا نقله عنه في صدر الكتاب شامل له.

وبالجملة فإنه لا دليل يعتمد عليه في ما ذكره من البطلان بهذا الشرط ، والأصل عدمه ولو قال ضاربتك سنة بمعنى انه جعل أجلا للمضاربة لم تلزم


المضاربة في هذه المدة ، بل لكل منهما فسخها قبل الأجل ، والشرط والعقد صحيحان ، أما الشرط ففائدته المنع من التصرف بعد السنة ، لأن جواز التصرف تابع للاذن عن المالك ، ولا اذن بعد المدة المذكورة ، وأما العقد فإنه لا مانع من صحته الا ما ربما يتوهم من هذا الشرط ، وهو غير مناف لمقتضى العقد ، إذ غايته أن التصرف ليس مطلقا بل محدود بوقت معين ، وهو صحيح لما عرفت ، وكذا لو قال له : ان مرت بك سنة فلا تشتر وبع ، أو قال : فلا تبع واشتر ، فان العقد صحيح ، وكذا الشرط لعين ما عرفت ، من أن أمر البيع والشراء منوط بنظر المالك وأمره ، فله المنع منهما بعد السنة ، أو من أحدهما بطريق اولى ، وهذا بخلاف ما لو شرط اللزوم ، بأن قال : على أنى لا أملك منعك ، فان هذا الشرط مناف لمقتضى العقد ، إذ مقتضاه كما عرفت الجواز ، فيكون الشرط المذكور باطلا ، وبه يبطل العقد على المشهور من أن العقد المشتمل على شرط فاسد باطل ، وشرط الأجل مرجعه الى تقييد التصرف بوقت خاص ، وهو غير مناف لمقتضى العقد كما عرفت.

ولو شرط عليه أن لا يشترى الا من زيد ، ولا يبيع الا على عمرو أولا يشتري إلا المتاع الفلاني ، أو لا يسافر الا الى البلد الفلانية ، أو لا يسافر بالكلية صح ووجب عليه العمل بالشرط فان خالف ضمن ، لكن لو ربح كان الربح بينهما.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار منها ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة ، وينهى أن يخرج به فخرج قال : يضمن المال ، والربح بينهما».

وروى الحلبي (٢) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه قال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٩ ح ٨٣٦.

(٢) المصدر ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨١ ح ١ و ٢.


في الرجل يعطى الرجل المال فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها ، واشتر منها قال : فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن ، وان اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وان ربح فهو بينهما».

وما رواه من الكافي عن ابى الصباح الكناني (١) في الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعمل المال مضاربة قال : له الربح وليس عليه من الوضيعة شي‌ء ، الا أن يخالف عن شي‌ء مما أمره صاحب المال».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير (٢) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعطى الرجل مالا مضاربة ونهاه أن يخرج به الى أرض أخرى ، فعصاه فقال : هو له ضامن ، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه». وعن الحلبي (٣) في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) «قال المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شي‌ء ، الا أن يخالف أمر صاحب المال».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبى الصباح (٤) «قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به الى الأرض ، ونهى أن يخرج به الى أرض غيرها ، فعصى فخرج به الى أرض أخرى فعطب المال ، فقال : هو ضامن ، وان سلم فربح فالربح بينهما».

وما رواه الشيخ عن جميل (٥) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجل دفع الى رجل ما لا يشترى به ضربا من المتاع مضاربة ، فذهب فاشترى به غير الذي أمره به ، قال : هو ضامن ، والربح بينهما على ما شرط».

وهذه الرواية في طريقها معاوية بن حكيم ، وهو وان قال النجاشي :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٧.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٧ ح ١٣.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ١٨٩ ح ٢٣ ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٣ ح ١ وهذه الرواية في الوسائل ج ١٣ ص ١٨١.


انه ثقة جليل ، الا أن الكشي قال : انه فطحي ، وهو عدل عالم ، وبذلك يظهر لك ما في قول المحقق الأردبيلي ان هذه الرواية أصح الروايات التي في هذا الباب.

وما رواه الشيخ عن الشحام (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في المضاربة إذا أعطى الرجل المال ونهى أن يخرج المال إلى أرض أخرى ، فعصاه فخرج به ، فقال : هو ضامن والربح بينهما».

وهذه الاخبار على كثرتها وتعددها فقد اشتركت في الدلالة على أن الربح بينهما مع المخالفة ، وضمان العامل لو عطب المال أو حصلت فيه نقيصة ، وهو لا يوافق قواعدهم.

ولهذا قال في المسالك : ولو لا النص لكان مقتضى لزوم الشرط فساد ما وقع مخالفا أو موقوفا على الإجازة ، انتهى.

وتوضيحه ما عرفت من أن القراض في معنى الوكالة ، بل هو وكالة ، وحينئذ فان لم يكن وكيلا في شراء عين فكيف يصح الشراء ، ويترتب عليه حل الربح بينهما ، وكذا فيما لو نهى عن السفر إلى جهة أو البيع أو الشراء على شخص بعينه ، مع أنه في الوكالة لا تصح ذلك ، فإنه متى وكل على أمر مخصوص وتجاوزه إلى أمر آخر غير ما وكل عليه فإنه يكون بيعه وشرائه باطلا ، وكيف يستحق ربح عمل لم يكن مأذونا فيه ، ولا مقارضا عليه ، بل يكون آثما ضامنا مع أن الاخبار كما عرفت قد اتفقت على حل الربح ، وأنه بينهما.

وهو مؤيد لما قدمناه في غير مقام من أن الواجب هو الوقوف على مقتضى الاخبار ، وان خالفت مقتضى قواعدهم ، ومن الجائز تخصيص قواعدهم بهذه

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩١ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٣ ح ١١.


الاخبار ، فيكون ما دلت عليه مستثنى من مقتضى تلك القواعد ، كما قدمنا مثله مرارا.

وأما ما ارتكبه المحقق الأردبيلي هنا من الاحتمالات البعيدة ، والتمحلات غير السديدة ، فلا يخفى ما فيه على من تأمله ، وتدبر ما في باطنه وخافية.

ولو اشترط أن يشترى أصلا يشتركان في نمائه كالشجر والغنم ونحوهما ، قيل : يفسد العقد ، لان مقتضى عقد المضاربة التصرف في رأس المال بالبيع والشراء ، وتحصيل الربح بالتجارة ، ومن هنا استحق العامل حصته من الربح في مقابلة هذا العمل ، وما ذكر هنا ليس كذلك ، لأن فوائده تحصل من غير تصرف بل من عين المال ، وتردد بعضهم في الصورة المذكورة نظرا ـ الى ما ذكر مما يدل على البطلان ـ والى أن حصول هذه الأشياء انما وقع بسبب سعى العامل ، إذ لو لا شرائه لم يحصل النماء ، وذلك من جملة الاسترباح بالتجارة ، فيكون صحيحا.

وضعف الثاني بأن الحاصل بالتجارة هو زيادة القيمة لما وقع عليه العقد لا نماؤه الحاصل مع بقاء عين المال ، وبأن المضاربة تقتضي معاوضتين ، أحدهما بالشراء ، والأخرى بالبيع ، وأقل ما يتحققان بمرة ، وبها يظهر الربح.

والتحقيق أن الفرع المذكور لما كان غير منصوص ، فالحكم فيه بأحد الوجهين مشكل ، والبناء على هذه العلل الاعتبارية مجازفة في الأحكام الشرعية المطلوب فيها العلم واليقين بالاستناد إلى السنة النبوية ، أو الكتاب المبين ، ولا سيما مع تعارضها وتدافعها كما عرفت.

ثم انه على تقدير القول بفساد المضاربة ، الظاهر أنه لا مانع من صحة الشراء المذكور ، لدخوله تحت إطلاق الإذن للعامل بالبيع والشراء ، فيكون


النماء الحاصل بأجمعه للمالك ، وعليه أجرة المثل للعامل ، ويحتمل البطلان بالنظر الى أنه مأذون في البيع والشراء الذي يقع في المضاربة بأن يترتب عليه الربح لا مطلقا ، بحيث يشمل ما وقع هنا هذا.

وينبغي أن يعلم ان الممتنع على القول به انما هو مع انحصار الربح في النماء المذكور ، كما يقتضيه هذه المعاملة ، والا فلا مانع من كون النماء بينهما مع عدم انحصار الربح فيه على بعض الوجوه ، بأن يشترى شيئا له غلة ، فظهرت غلته قبل أن يبيعه ، فإن الغلة تكون من جملة الربح الذي يحصل بعد البيع ويكون الجميع بينهما على ما شرطاه والله العالم.

الثالثة : متى صحت المضاربة فللعامل تولى ما يتولاه المالك من عرض القماش ونشره وطيه وإحرازه ، وبيعه وقبض ثمنه ، والاستيجار على نقله أن احتيج اليه ، ودفع الأجرة في ما جرت العادة بدفعها فيه ، كالدلال والحمال ، واجرة الكيل والوزن ، ونحو ذلك ، والوجه فيه أنه لما كانت المضاربة معاملة على المال لتحصيل الربح كان إطلاق العقد مقتضيا لفعل ما يتولاه المالك لو باشر ذلك بنفسه من هذه الأشياء ، وكلما لم تجر العادة بالاستيجار عليه لو استأجر عليه ، فالأجرة من ماله لا يلحق المالك منها شي‌ء ، حملا للإطلاق على المتعارف وما جرت العادة بالاستيجار عليه لو عمله بنفسه فهو متبرع ، لا يستحق عليه أجرة.

ولو قصد بالعمل الأجرة بأن يأخذ الأجرة كما يأخذ غيره ففي استحقاقه لها احتمال قوى ، خصوصا على القول بأن للوكيل في البيع أن يبيع على نفسه ، وفي الشراء أن يشترى لنفسه ، فيكون له أن يستأجر نفسه أيضا ، ولكن إطلاق الأصحاب يقتضي العدم ، وهو الأحوط وأما لو أذن له المالك في ذلك زال الاشكال. والله العالم.


الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن جميع ما ينفقه في السفر للتجارة من رأس المال سواء كانت النفقة زيادة على نفقة الحضر أو ناقصة أو مساوية ، وكل ما يحتاج إليه للأكل والشرب لنفسه ودوابه وخدامه حتى القرب والجواليق ونحوهما ، الا أنها بعد انتهاء السفر والاستغناء عنها يكون كل ذلك من أصل المال ، سواء حصل له ربح أم لا.

وقيل : انه لا يخرج من أصل المال ، الا ما زاد على نفقة الحضر ، للإجماع على أن نفقة الحضر على نفسه ، فما ساواه في السفر يحتسب أيضا عليه ، والزائد على ذلك من مال القراض ، وأيد ذلك بعضهم بأنه انما حصل بالسفر الزيادة لا غير ، اما غيرها فسواء كان مسافرا أم حاضرا لا بد منها ، فلا يكون من مال القراض.

وقيل : ان نفقة السفر كلها على العامل كنفقة الحضر ، وعلل بأن الربح مال المالك ، والأصل أن لا يتصرف فيه الا بما دل عليه الاذن ، ولم يدل الا على الحصة التي عينها للعامل ، وهو لم يدخل في العمل الا على هذا الوجه ، فلا يستحق سواه.

ويدل على القول الأول ما رواه الكليني في الصحيح «عن على بن جعفر (١) عن أخيه أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : في المضارب ما أنفق في سفره فهو من جميع المال ، فإذا قدم بلده فما أنفق من نصيبه».

وعن السكوني (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : في المضاربة» الحديث.

ورواه في الفقيه (٣) مرسلا «قال : قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : مثله» وبه يظهر قوة القول المشهور ، وأنه المؤيد المنصور ، فلا يلتفت الى هذه التخريجات الضعيفة ، والتعليلات السخيفة كما عرفت في غير مقام.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٥.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ الحديث ٥ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٨٧ باب ٦.


تنبيهات :

الأول : المراد بالسفر هنا هو السفر العرفي لا الشرعي ، وهو ما يجب فيه القصر ، فلو كان السفر قصيرا أو أقام في الطريق وأتم الصلاة فنفقة تلك المدة من أصل المال ، الا أنه يجب الاقتصار في ذلك على ما يحتاج إليه التجارة ، فلو أقام زيادة على ما يحتاج اليه كان الزائد عليه.

الثاني : قد عرفت أن المراد بالنفقة ما يحتاج اليه من مأكول وملبوس ومشروب له ، ولمن في صحبته ممن يتوقف عليه سفره وآلات السفر وأجرة المسكن ، ونحو ذلك ، ويراعى فيها ما يليق بحاله شرفا وضعة ووسطا على وجه الاقتصاد ، فلو أسرف حسب عليه ، وان قتر على نفسه لم يحتسب له ، لأن الذي له ما أنفق على الوجه المتقدم ، وبعد العود من السفر ، فما بقي من أعيان النفقة ، ولو من الزاد يجب رده الى مال التجارة أو تركه وديعة عنده الى أن يسافر ان كان ممن يتكرر سفره ، ولم يكن بيعه أعود على التجارة من تركه.

الثالث : لو شرط المالك على العامل عدم النفقة لم يجز له الإنفاق من المال اتفاقا ، ولو أذن له في الإنفاق بعد ذلك فهو تبرع محض ، وقد عرفت أنه مع الإطلاق فالأشهر الأظهر ثبوتها ، فلو شرطها والحال هذه كان ذلك تأكيدا ومخرجا من الخلاف المتقدم ، وان كان ضعيفا كما عرفت ، وعلى هذا فهل يشترط تعيينها حينئذ حذرا من الجهالة في الشرط الذي هو جزء من العقد ، فتسرى الجهالة إلى العقد ويؤيده اشتراط نفقة الأجير حيث لا يثبت على المستأجر ، فإنه لا بد من تعيينها كما ذكروه أم لا؟ نظرا الى أن الأشهر الأظهر كما عرفت ثبوتها بمجرد العقد مع عدم اعتبار وجوب ضبطها فلا يجب ضبطها بالشرط إذ لا يزيد الثبوت بالاشتراط على الثبوت بالأصل إشكال ، ولعل الثاني أقوى ورجح في المسالك الأول.


الرابع : قد عرفت أنه لا يشترط بالنفقة وجود ربح بل ينفق من أصل المال ، وان قصر المال ولم يكن ربح لكن لو حصل الربح فإنه تخرج النفقة منه مقدمة على حق العامل.

الخامس : ما ذكرنا من وجوب النفقة مخصوص بالسفر المأذون فيه ، فلو سافر الى غيره اما بتجاوز السفر المأذون فيه الى مكان غير مأذون فيه أو الى جهة غير جهة السفر المأذون فيه فلا نفقة له ، وان كانت المضاربة صحيحة والربح بينهما كما عرفت آنفا.

السادس : لو تعدد أرباب المال الذي في يده بأن كان بعضه له مثلا ، وبعضه لزيد ، وبعضه لثالث ، وهكذا. قسطت النفقة على حسب المال ، فلو كان نصف المال للعامل ، ونصفه للمالك كانت النفقة انصافا ، وهكذا. هذا هو الأظهر الأشهر.

وقيل : بأن التقسيط بنسبة العملين اى ما يعمله لكل واحد من أصحاب المال ، ورد بأن استحقاق النفقة في مال المضاربة منوط بالمال ، ولا ينظر الى العمل ، قالوا : ولا فرق في التقسيط بين أن يكون قد شرطها على كل واحد منهما أو أطلق ، بل له نفقة واحدة عليهما على التقديرين ، لان ذلك منزل على اختصاص المشروط عليه بالعمل.

هذا مع جهل كل واحد منهما بالاخر ، أما لو علم صاحب القراض الأول بالثاني ، وشرط على ماله كمال النفقة جاز ، واختصت به ، ولا شي‌ء على الثاني.

السابع : لو اتفق موته أو مرضه في السفر كان ما ينفق في ذلك من ماله ، إذ لا تعلق لذلك بالتجارة ، واستثنى بعضهم ما لو كان معلوما أنه لو كان في بلده لم يمرض ، أو أن مؤنة مرضه يكون في الحضر ، وفي بلده أرخص منها في تلك البلد ، قال فيمكن حينئذ احتساب الزيادة من مال المضاربة.


الثامن : لو سافر بالمال للمضاربة فاتفق عزله في السفر ، وانتزع المال منه كانت نفقة الرجوع عليه ، لأنه إنما استحق النفقة في السفر للمضاربة ، وقد ارتفعت بالفسخ وعزله عنها.

وما توهمه بعض العامة من حصول الضرر عليه مردود ، بأن دخوله في عقد يجوز فسخه كل وقت قدوم منه على ذلك ، وهذا القائل أثبت له نفقة الرجوع لما ذكره وفيه ما عرفت. والله العالم.

الخامسة : قد صرح جملة من الأصحاب بأن مقتضى إطلاق الاذن في المضاربة هو البيع نقدا بثمن المثل من نقد البلد ، فلو خالف لم يمض الا مع اجازة المالك ، وكذا مقتضى الإطلاق هو ان يشترى بعين المال ، فلو اشترى في الذمة لم يصح الا مع الإجازة.

وتفصيل الكلام في هذه الجملة أن يقال انه لما كان عقد المضاربة محمولا على ما هو المتعارف في التجارة والموجب لتحصيل الربح وجب قصر تصرف العامل على ما يوجب حصول الغاية المذكورة.

قال في التذكرة : لما كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل الربح ، والفائدة وجب أن يكون تصرف العامل مقصورا على ما يحصل هذه الغاية الذاتية وان يمنع من التصرف المؤدي الى ما يضادها فينفذ تصرفه بما فيه الغبطة والفائدة ، كتصرف الوكيل للموكل لأنها في الحقيقة نوع وكالة ، وان كان له أن يتصرف في نوع مما ليس للوكيل التصرف به تحصيلا للفائدة ، فإن له أن يبيع بالعروض ، كما له أن يبيع بالنقد بخلاف الوكيل ، فان تصرفه في البيع انما هو بالنقد خاصة ، لأن المقصود من القراض الاسترباح ، والبيع بالعروض قد يكون وصلة اليه وطريقا فيه ، وأيضا له أن يشترى المعيب إذا رأى فيه ربحا بخلاف


الوكيل. انتهى.

وحينئذ فليس له البيع الا نقدا لما في النسية من التغرير بمال المالك وجعله في معرض التلف ، كما في الوكالة ، مع أنه يمكن أن يكون في بعض الأحوال حصول الربح في جانب النسية مع المصلحة وأمن التلف ، الا أنهم منعوا من ذلك مطلقا ، وكأنهم بنوا على أن الأغلب في مثل ذلك التلف ، والتعرض له محل خطر وتغرير ، وكذا ليس له البيع الا بثمن المثل ، وهو ظاهر ، لان البيع بدونه تضييع على المالك ، مع أنه يمكن حصول الزائد ، وأما البيع بنقد البلد فلان الإطلاق في الوكالة انما ينصرف اليه ، والقراض في معناه ، فلذا أطلقوا الحكم هنا.

وفيه أن القراض قد يفارق الوكالة في بعض الموارد ، لان القرض المطلوب به تحصيل الربح قد يتفق في غير نقد البلد كالعروض ، واليه يميل كلام الشهيد الثاني في المسالك ، فيجوز البيع بغير نقد البلد مع ظهور الغبطة ، وحصول المصلحة لأنها هي المدار في القراض وهو الظاهر من كلام التذكرة المذكور ، وتردد في القواعد.

وبالجملة فإنه لما كان المدار في القراض انما هو تحصيل الربح والفائدة فينبغي أن يترتب الجواز عليه ، سواء كان في البيع بالعروض التي هي غير نقد البلد ، أو في البيع بالنسية التي ليست نقدا ، بل يمكن أيضا في البيع بأقل من ثمن المثل إذا اقتضته المصلحة ، وترتبت عليه الغبطة ، بأن يبيع بأقل من ثمن المثل ، ويشترى مالا فيه ربح كثير ، فإطلاق الجماعة المذكورة أن إطلاق الاذن في المضاربة يقتضي الأمور المذكورة محل تأمل كما ظهر لك ، والحمل على الوكالة غير مطرد كما عرفت من كلامه في التذكرة.

والعجب انهم اعترفوا بذلك في شراء المعيب ، فجوزوا للعامل شراء


المعيب إذا رأى الغبطة في شراءه بحصول الربح فيه ، حيث أنه المدار في القراض مع أن ذلك لا يجوز للوكيل ، وحينئذ فالواجب بمقتضى ذلك هو دوران الحكم جوازا ومنعا مدار الغرض المذكور وجودا وعدما ، هذا كله مع إطلاق الاذن.

أما لو أذن له في شي‌ء من هذه الأمور خصوصا أو عموما كتصرف حيث شئت ، وبع بما أردت ، واعمل بحسب رأيك ونظرك ، فالظاهر حينئذ هو الجواز في جميع ما ذكرناه (١).

أما قوله في المسالك أنه يجوز له البيع بالعروض قطعا وأما النقد وثمن المثل فلا يخالفهما الا بالتصريح ، فانى لا أعرف له وجها وجيها مع دخوله في الإطلاق المذكور ، سيما مع ظهور الغبطة ، كما شرحناه آنفا.

وكيف كان فإنه يستثني من ثمن المثل نقصان ما يتسامح الناس به عادة فلا يدخل تحت المنع.

ثم انه لو خالف العامل ما دل عليه اللفظ بخصوصه أو إطلاقه ، فهل يقع العقد باطلا أم صحيحا موقوفا على اجازة المالك ، المشهور الثاني ، بناء على ما هو المشهور بينهم من صحة البيع الفضولي ، وان لزومه موقوف على اجازة المالك ، وحينئذ فإن أجاز نفذ البيع ولزم فعلى تقدير كون البيع نسية فان حصل الثمن فلا اشكال والا ضمن العامل الثمن للمالك لثبوته بالبيع الصحيح

__________________

(١) أقول : ويؤيد ما ذكرناه ، ما صرح به العلامة في المختلف حيث قال : قال الشيخ في المبسوط : إذا دفع اليه مالا قراضا وقال له اتجر به أو قال : اصنع ما ترى أو تصرف كيف شئت فإنه يقتضي أن يشترى بثمن مثله ، نقدا بنقد البلد ، والوجه عندي أن له البيع كيف شاء سواء كان بثمن المثل أم لا ، وبنقد البلد أو لا ، وحالا أو لا ، لانه جعل المشية إليه. نعم انه منوط بالمصلحة انتهى ، وهو ظاهر فيما قلناه وقد وفقني الله سبحانه للوقوف عليه بعد ذكرنا ما ذكرناه في الأصل فنقلنا كلامه في الحاشية وهو من نوادر الخاطر ، منه رحمه‌الله.


لا القيمة ، وان لم يجز المالك ذلك وجب استرداد المبيع مع إمكانه فلو تعذر ضمن قيمة المبيع ان كان قيميا أو مثله ان كان مثليا ، لا الثمن المؤجل وان كان أزيد من القيمة ، ولا التفاوت في صورة النقيصة ، لأنه مع عدم اجازة المالك البيع يكون البيع باطلا ، فيضمن للمالك عين ماله الذي تعدى فيه وسلمه من غير إذن شرعي ، هكذا قالوا (رضى الله عنهم).

وفيه ما حققناه سابقا في كتاب البيع في مسئلة البيع الفضولي (١) من الإشكالات التي أوردناها عليهم في هذا المقام ، هذا كله مع القول بصحة العقد الفضولي.

وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه كما قدمنا تحقيقه ثمة فالأمر واضح ، وأما اقتضاء الإطلاق الاشتراء بعين المال فلان المضاربة إنما وقعت على ذلك المال والوكالة التي اقتضتها المضاربة انما تعلقت بذلك المال ، والربح الذي اشترطه العامل انما تعلق بذلك المال.

وأيضا فإنه ربما يتطرق التلف الى رأس المال ، فتبقى عهدة الثمن متعلقة بالمالك ، وقد لا يمكنه الخروج منها ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة من غير اذن المالك وقف على اجازة المالك بناء على ما تقدم من الحكم بصحة البيع الفضولي ولو اشترى في الذمة ولم يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه وقع الشراء له ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له أيضا وان عينه للمالك فإنه مع الاذن لازم ، وبدونه فهو كما عرفت أولا يكون موقوفا على اجازة المالك ، بناء على صحة البيع الفضولي ، وأن عين المالك بنية وقع للعامل ظاهرا وتمام تحقيق الكلام في المقام يأتي إنشاء الله في كتاب الوكالة والله العالم.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٧٦.


السادسة : لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه مع موت كل منهما تبطل المضاربة ، لان بالموت يخرج المال عن ملك المالك ويصير للورثة ، فلا يجوز التصرف بالإذن الذي كان من المورث ، بل لا بد من اذن الوارث ، هذا مع موت المالك.

وأما مع موت العامل فلان المأذون له في المضاربة كان هو العامل لا وارثه فلا يجوز لوارثه التصرف إلا بإذن جديد ، وهو المراد من بطلان المضاربة هنا ، ولأنها أيضا من العقود الجائزة فتبطل بما تبطل به من موت كل منهما أو جنونه أو إغمائه أو الحجر عليه للسفه.

ثم ان كان الميت هو المالك ، فان كان المال ناضا لا ربح فيه أخذه الوارث ، وان كان فيه ربح اقتسمه العامل مع الورثة ، وتقدم حصة العامل على الغرماء ، لو كان على الميت ديون مستوعبة لملكه لحصته من الربح ، بظهوره ، فكان شريكا للمالك ، ولان حقه متعلق بعين المال لا بذمة المالك ، وان كان المال عروضا فللعامل بيعه رجاء الربح ، والا فلا ، وللوارث إلزامه بالإنضاض ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى في مسئلة الفسخ.

وان كان الميت هو العامل ، فان كان المال ناضا ولا ربح أخذه المالك ، وان كان فيه ربح دفع الى الورثة حصة مورثهم منه ، ولو كان عروضا واحتيج الى البيع والتنضيض فان أذن المالك للوارث في ذلك جاز ، والا عين له الحاكم أمينا يبيعه ، فان ظهر فيه ربح أوصل حصة الوارث اليه ، والا سلم الجميع الى المالك والله العالم.

المقصد الثاني في مال القراض :

والبحث يقع فيه في مواضع الأول لا خلاف بين الأصحاب في أنه يشترط في مال القراض أن يكون عينا لا دينا وان يكون دراهم أو دنانير ، ونقل في


التذكرة الإجماع على ذلك.

أقول : ويدل على كونه عينا لا دينا ما رواه المشايخ الثلاثة عن السكوني (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : في رجل له على رجل مال فتقاضاه ولا يكون عنده ما يقتضيه ، فيقول : هو عندك مضاربة ، قال : لا يصلح حتى يقبضه منه». وهو صريح في المطلوب ولا يضر ضعف السند خصوصا مع تلقى الأصحاب له بالقبول وإجماعهم على ذلك.

ومثله ما لو أذن للعامل في قبضه من الغريم ، فإنه لا يخرج بذلك عن كون المضاربة قد وقعت بالدين ، الا أن يجدد العقد بعد القبض.

وأما اشتراط كونه دراهم أو دنانير فقد اعترف جملة من الأصحاب بأنهم لم يقفوا له على دليل غير الإجماع المدعى في المقام ، والظاهر أنه كذلك ، حيث انا لم نقف بعد الفحص والتتبع على دليل من النصوص على ذلك ، وتردد المحقق في الشرائع في الجواز بالنقرة ، وهي بضم النون القطعة المذابة من الذهب والفضة.

قال في المسالك : ومنشأ التردد فيها من عدم كونها دراهم ودنانير الذي هو موضع الوفاق ، ومن مساواتها لهما في المعنى ، حيث أنها من النقدين ، وانما فاتها النقش ونحوه ، وانضباط قيمتها بها وأصالة الجواز ، ثم قال : وهذا كله يندفع لما ذكرناه من اتفاقهم على اشتراط إحديهما ، ومع ذلك لا نعلم قائلا بجوازه بها ، وانما ذكرها المصنف مترددا في حكمها ، ولم ينقل غيره فيها خلافا ، وإذا كانت المضاربة حكما شرعيا فلا بد من الوقوف على ما ثبت الاذن فيه شرعا ، وربما أطلقت النقرة على الدراهم المضروبة من غير سكة ، فإن صح هذا الاسم كان التردد من حيث أنها قد صارت دراهم ودنانير : وانما تخلفت السكة وهي وصف في النقدين ، وربما لا يقدح خصوصا إذا تعومل بهما على ذلك الوجه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٢ ح ٣٤ الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٤ الوسائل ج ١٣ ص ١٨٧ باب ٥.


ومما تقدم من وجوه المنع ، انتهى وهو جيد.

أقول : لا يخفى أن من لا يلتفت الى دعوى مثل هذه الإجماعات ، لعدم ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين نظرا الى عموم الأدلة الدالة على جوازه ، وتخصيصها يحتاج الى دليل شرعي ، وليس فليس.

قالوا تفريعا على ما تقدم : فلا يصح المضاربة بالفلوس ، ولا بالدراهم المغشوشة ، سواء كان الغش أقل أو أكثر ، ولا بالعروض (١) وأنت خبير بما فيه بعد ما عرفت ، حيث أنه لا مستند لهم هنا أيضا سوى دعوى الإجماع.

ولكن ينبغي تقييد المنع من الدراهم المغشوشة بما لو كان التعامل بها ساقطا ، والا فلو جرت في المعاملة فإنه لا مانع من المضاربة بها.

قال في المسالك : هذا إذا لم يكن متعاملا بالمغشوش ، فلو كان معلوم الصرف بين الناس جازت به المعاملة ، وصح جعله مالا للقراض ، سواء كان الغش أقل أو أكثر ، انتهى.

الثاني : قالوا : لو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصة من الصيد كان الصيد للصائد وعليه أجرة الإله ، وذلك لان هذه المعاملة ليست بمضاربة إذ المضاربة كما هو المجمع عليه عندهم انما يكون بالدراهم والدنانير ، ولان مقتضى المضاربة التصرف في عين المال المدفوع ، وإتلافه بالبيع أو الشراء ، وهنا ليس كذلك ، لا بالنسبة إلى الأول ولا الثاني. وليس أيضا بشركة ، لأنها هنا مركبة من شركة

__________________

(١) العروض بضم العين جمع عرض بفتحها وسكون الراء وفتحها أيضا هو المتاع وكل شي‌ء غير النقدين كما ذكره في القاموس ، وحكى الجوهري عن أبى عبيد أن العروض هي التي لا يدخلها كيل ولا وزن ، ولا تكون حيوانا ولا عقارا ، وظاهر ، إطلاقات الفقهاء في هذه الأبواب على المعنى الأول فإنهم يقابلون بها النقدين كما لا يخفى على المتتبع منه رحمه‌الله.


الأبدان وغيرها ، وقد تقدم بطلانها مع تميز مال صاحب الشبكة ، وعدم حصول الشركة فيه ، وليست أيضا بإجارة ، وهو ظاهر.

ثم ان الحكم هنا بكون الصيد للصائد خاصة يبنى على عدم تصور التوكيل في تملك المباح ، كما هو أحد القولين ، والا فإنه يصير الصيد مشتركا بينهما حسبما يراه الصائد ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسئلة الثالثة من الفصل الثالث في اللواحق من الكتاب المتقدم (١) واحتمال أنه انما قصد الصيد لنفسه ، ولم ينو مشاركة الأخر بعيد ، فان الظاهر أن دخوله انما كان على جهة الشركة.

قال في المسالك : وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما من أجرة مثل الصائد والشبكة بحسب ما أصابه من الملك.

أقول : قد مر توضيح ذلك في المسئلة الثانية من الفصل المتقدم ذكره من الكتاب المتقدم (٢) ، ومرجعه الى أن لكل منهما أجرة المثل فيرجع كل منهما على الأخر بما يخصه من ذلك.

الثالث : لا اشكال ولا خلاف فيما إذا كان مال القراض معلوم المقدار معينا وان كان مشاعا ، لان المشارع معين في نفسه مع كونه جامعا لباقي الشرائط ، ولا فرق بين أن يكون العقد مع الشريك أو غيره ، ولو كان مشاهدا مع كونه مجهولا قيل : لا يصح للجهالة ، وقيل : بالصحة لزوال معظم الضرر بالمشاهدة ، بل حكى في المختلف عن المشهور القول بجواز المضاربة بالجزاف وان لم يكن مشاهدا محتجا بالأصل ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم» (٣).

__________________

(١) ص ١٨٩.

(٢) ص ١٨٧.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


أقول : قال الشيخ في الخلاف : لا يصح القراض إذا كان رأس المال جزافا (١) لان القراض عقد شرعي يحتاج الى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على صحة هذا القراض ، فوجب بطلانه ، والظاهر أنه هو المشهور.

وقال في المبسوط : يبطل ، وقال قوم يصح ، ويكون القول قول العامل في قدره ، فإن أقاما بينتين كان الحكم لبينة المالك ، لأنها بينة الخارج ، قال : وهذا هو الأقوى عندي.

قال في المختلف : وما قواه الشيخ هو الأجود ، لنا الأصل الصحة ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم». وقد وجد شرط سائغ فيحكم به ، انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح الأول من حيث الجهالة ، وظاهر المحقق الأردبيلي الميل الى الثاني ، لعموم الأدلة ، وعدم الدليل الواضح على المنع ، والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح على الجواز ، والتعلق بإطلاق الأدلة مردود بما عرفت في غير مقام مما تقدم ، من أن الإطلاق يجب حمله على الافراد المتعارفة المتكررة الشائعة ، وذلك انما هو مع التعين ، ومعلومية المقدار ، وعدم تطرق الجهالة بوجه من الوجوه.

وكيف كان فإنه لا إشكال في كون القول قول العامل بيمينه لو اختلفا في قدره ، صحت المضاربة أم بطلت ، لانه منكر ، ومقتضى القاعدة تقديم قوله بيمينه ، ومع وجود البينتين وتعارضهما فان الحكم لبينة المالك ، لانه المدعى

__________________

(١) قال في التذكرة : لا يصح القراض على الجزاف وان كان مشاهدا له مثل قبضة من ذهب أو فضة مجهولة القدر أو كيس من الدراهم مجهول القدر سواء شاهده العامل والمالك أو لا ، وبه قال الشافعي ، لعدم إمكان الرجوع اليه عند المناضلة فلا بد من الرجوع الى رأس المال عندها ، وأن جهالة رأس المال يستلزم جهالة الربح ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن يكون رأس المال مجهولا ويكون القول قول العامل بيمينه الا أن يكون لرب المال بينة فبينة رب المال أولى انتهى ، منه رحمه‌الله.


ومقتضى القاعدة تقديم قوله ببينته ، وكذا لا ينعقد القراض بناء على ما قدمنا لو أحضر مالين معدودين ، فقال : قارضتك بأيهما شئت ، لانتفاء التعيين الذي هو شرط في صحة العقد ، كما عرفت ، ولا فرق بين أن يكون المالان متساويين جنسا وقدرا أو مختلفين ، خلافا لبعض العامة ، حيث جوزه مع التساوي ، وظاهر المحقق المتقدم ذكره الميل الى الجواز هنا أيضا استنادا الى عموم الأدلة ، وفيه ما عرفت.

الرابع : لو أخذ مالا للمضاربة مع عجزه عنه بمعنى أنه يعجز عن تقليبه في التجارة والبيع والشراء به لكثرته ، قالوا : لا يخلو اما أن يكون المالك عالما بعجزه ، أو جاهلا بذلك ، فان كان الثاني فإنه يضمن ، لانه مع علمه بنفسه وأنه يعجز عن ذلك يكون واضعا يده على المال على غير الوجه المأذون له فيه ، فإنه إنما دفع اليه ليعمل به في التجارة.

لكن هل يكون ضامنا للجميع أو القدر الزائد على مقدوره قولان : اختار أولهما في المسالك ، ووجه الأول من عدم التميز والنهى عن أخذه على هذا الوجه ووجه الثاني من أن التقصير انما حصل بسبب الزائد ، فيختص به ، وربما قيل : انه ان أخذ الجميع دفعة ، فالحكم الأول ، وان أخذ المقدور ثم أخذ الزائد ولم يمزجه به ضمن الزائد خاصة ، وأورد عليه بأنه بعد وضع يده على الجميع عاجز عن المجموع من حيث هو مجموع ، ولا ترجيح الان لأحد أجزائه ، إذ لو ترك الأول وأخذ الزيادة لم يعجز.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من عدم الصلوح لابتناء الأحكام الشرعية عليها ، والحكم غير منصوص ، وبه يظهر ما في الاستناد في عموم الضمان إلى النهى ، وأى نهى هنا مع عدم نص في المسئلة ، وكأنه أشار بهذا النهي الى ما ذكر من قوله يكون واضعا يده على المال غير الوجه المأذون فيه.

وفيه أنه يمكن تخصيصها بالزائد لأنه هو الذي حصل فيه العجز ، فيكون


هو الغير المأذون فيه ، وأما ما كان يمكن العمل به فإنه يكون مأذونا فيه.

وبالجملة فالحكم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت لعدم الدليل الواضح.

قالوا : ولو كان المالك عالما بعجزه لم يضمن ، اما لقدومه على الخطر ، أو أن علمه بذلك يقتضي الإذن له في التوكيل.

أقول : وفيه بالنسبة إلى التعليل الأول ما في سابقه من الإشكال ، إذ من الممكن أن يكون عالما بعجزه ، لكن يجوز حصول القدرة له بعد ذلك بوجود من يساعده ، أو بتجدد بعض الأسباب الموجبة للقدرة ، ومع عدم إمكان ذلك فانا لا نسلم أنه بمجرد علمه بعدم القدرة مع أنه انما دفعه إليه لأجل المعاملة به ، وتحصيل الربح والنفع ينتفي عنه الضمان ، إذ لا أقل أن يكون في يده كالأمانة ، ومجرد دفعه له على هذا الوجه لا يستلزم جواز فواته على مالكه ، لان المدفوع اليه عاقل مكلف أمين ليس بمجنون ولا سفيه ، حتى يكون المالك قد فرط بدفعه اليه ، ولكن قد تقدم لهم مثل هذا الكلام في مسئلة بيع الفضولي ، وقد أوضحنا ما فيه (١).

قالوا : وحيث يثبت الضمان لا يبطل العقد ، إذ لا منافاة بين الضمان وصحة العقد.

أقول : ويدل عليه ما تقدم في تلك الاخبار وعليه اتفاق الأصحاب من أنه مع المخالفة لما شرطه المالك فإنه يضمن ، والربح بينهما.

الخامس : لو كان له مال مغصوب في يد شخص وذلك المال موجود معين معلوم القدر ، فإنه يجوز عندهم أن يقارض عليه الغاصب مع استكمال باقي

__________________

(١) وأما بالنسبة إلى التعليل الثاني فعدم الضمان عليه انما هو من حيث أنه مأذون في دفعه الى الغير ليعمل به ، فلو حصل من ذلك الغير تفريط يوجب ذهاب المال مثلا فإن الأول لا يضمن من حيث الاذن في الدفع ، وانما الكلام في الثاني فيراعى فيه حكم عامل المضاربة منه رحمه‌الله.


الشروط ، والظاهر أن الحكم اتفاقي عند الأصحاب ، إذ لم أقف على نقل خلاف في المسئلة والظاهر أنه لا إشكال في ذلك المضاربة ، وكذا لا اشكال ولا خلاف في أنه متى وقعت المضاربة واشترى العامل وهو الغاصب بذلك المال المغصوب عروضا ودفعه عن قيمتها ، فإنه تبرئ ذمته من الضمان الثابت عليه بالغصب ، لانه قضى دين المالك بإذنه.

إنما الخلاف في انه هل تبرئ ذمته بمجرد عقد المضاربة أم لا؟ الظاهر أن المشهور الثاني ، وبالأول صرح العلامة وولده في الشرح ، قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : ووجه بقاء الضمان أنه كان حاصلا قبل ولم يحصل ما يزيله ، لان عقد القراض لا يلزمه عدم الضمان ، فإنه قد يجامعه بأن يتعدى فلا ينافيه ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وحتى لانتهاء الغاية ، فيبقى الضمان إلى الأداء اما الى المالك ، أو من أذن له ، والدفع إلى البائع مأذون فيه ، فيكون من جملة الغاية. ثم نقل عن العلامة أنه استقرب زوال الضمان هنا ، وتبعه ولده في الشرح ، مستندا الى أن القراض أمانة ، فصحة عقده يوجب كون المال أمانة ، لأن معنى الصحة ترتب الأثر ، ولانتفاء علة الضمان لزوال الغصب ، ولانه أذن في بقائه في يده.

ثم اعترض عليه بأن معنى كون القراض أمانة من حيث أنه قراض ، وذلك لا ينافي الضمان من حيثية أخرى ، كما لو كان غصبا لعدم المنافاة ، فإن الضمان قد يجامعه كما إذا تعدى العامل ، الى أن قال : اما اقتضاء العقد الاذن في القبض فضعفه ظاهر ، لان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل الإذن بأمر آخر ولو حصل سلمنا زوال الضمان انتهى.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.


أقول : قال العلامة في التذكرة (١) وهل يزول عن الغاصب ضمان الغصب بعقد المضاربة عليه أو بدفعة إلى بائع السلعة للقراض؟ أبو حنيفة ومالك على الأول ، لأنه ماسك له باذن صاحبه ، والشافعي على الثاني لعدم التنافي بين القراض وضمان الغصب كما لو تعدى فيه ، والوجه عندي الأول ، لأن ضمان الغصب يتبع الغصب والغصب قد زال بعقد القراض ، فيزول تابعه انتهى.

والظاهر أن الحق في المسئلة هو ما ذكره العلامة ، وبيانه أنه لا ريب أن ترتب الضمان على الغصب ـ ووجوب الضمان على الغاصب ـ انما هو من حيث كون المقبوض كذلك بغير رضا المالك ولا أجازته ، وحينئذ فلو فرض ان المالك رضى بالغصب وأجاز قبض الغاصب ، لا يتعقبه ضمان ولا اثم ، وبذلك يعلم أن الضمان وعدمه دائر مدار الرضا بالقبض وعدمه ، ولا أظن أن شيخنا المذكور ولا غيره يخالف في شي‌ء مما ذكرناه.

وحينئذ فإذا حصلت المضاربة بذلك المال المغصوب قد حصل الرضا بالقبض ، فيزول موجب الضمان كما عرفت.

وأما قول شيخنا المذكور أنه لا مانع من اجتماع صحة القراض مع الضمان ، وهو صحيح ، الا أن ذكر ذلك هنا نوع مغالطة ، فإنا لا نمنع ذلك ، ولكنا نقول أن ثبوت الضمان متوقف على وجود سبب يقتضيه ، وفي ما ذكره السبب موجود ، وهو المخالفة ، وأما فيما نحن فيه فلا سبب له الا استصحاب الضمان وقت الغصب ، والاستصحاب هنا غير تام ، لعروض حالة أخرى غير الحالة التي كان عليها وقت الغصب ، وشرط العمل بالاستصحاب على تقدير تسليم حجيته أن لا يعرض ما يخالف العلة الاولى ويرفعها ، والأمر هنا على خلاف ذلك ، لما عرفت من عدم الرضا

__________________

(١) أقول : صورة كلام التذكرة إذا ثبت هذا فإذا اشترى شيئا للقراض وسلم المال المغصوب إلى البائع صح وبرء من الضمان حيث سلمه باذن صاحبه ، فإن المضاربة تضمنت تسليم المال إلى البائع في التجارة وهل يزول عن الغاصب الى آخر ما هو مذكور في الأصل منه رحمه‌الله.


أولا وحصول الرضا ثانيا وقد عرفت أن ثبوت الغصب وعدمه دائر مدار الرضا وعدمه.

وأما قوله : ان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل الإذن بأمر آخر فلا يخفى ما فيه ، اما أولا فلأنه قد تقدم في صدر الكتاب تعريف المضاربة بأنها عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره بحصة من الربح.

ومن الظاهر أن ثبوت شرعية هذا العقد على الوجه المذكور لا تجامع الغصب ، بل لا يكون الا مع الاذن والرضا ، فكيف لا يكون مجرد العقد متعينا للرضا بالقبض ، وأيضا فإنه قال في المسالك في شرح قول المصنف وهو جائز من الطرفين : إذ لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ولأنه وكالة في الابتداء ثم قد يصير شركة وهما جائزان الى آخره ، وحينئذ كيف يتم كون هذا العقد وكالة في الابتداء مع البقاء على الغصب كما يدعيه ، بل اللازم من الحكم بكونه وكالة هو حصول الاذن والرضا بالقبض ، والا فإنه لا يتم الحكم بكونه وكالة وهو ظاهر.

واما ثانيا فانا لم نقف في كلام أحد منهم على اشتراط الإذن زيادة على العقد المذكور كما لا يخفى على من تتبع كلامهم ، بل ظاهر كلامهم أن مجرد العقد مستلزم للإذن في التصرف ، وترتب سائر الأحكام.

وبالجملة فإن كلامه (رحمة الله عليه) هنا لا أعرف له وجها وجيها ، وأما ثالثا فإنه لا يخفى أنه لما كان ثمرة هذا العقد ، والغرض منه انما هو التصرف في المال والعمل به ، فكيف يتم وقوع هذا العقد من المالك مع عدم الرضا ، والاذن ما هذه الا سفسطة ظاهرة ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في كتاب الرهن أيضا ، والعجب من العلامة أنه في هذه المسئلة صرح بما نقلناه عنه من زوال الغصب بمجرد عقد المضاربة ، وفي الرهن اشترط الاذن في القبض زائدا على عقد الرهن ، كما قدمنا نقله عنه ثمة ، والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.


والله العالم.

السادس : وهو يشتمل على فروع في المقام الأول ـ قالوا : لو قال : بع هذه السلعة فإذا نض ثمنها فهو قراض كان باطلا ، لان شرط صحة القراض أن يكون مال القراض عينا معينة مملوكة للمالك ، وما هنا ليس كذلك ، فان ثمن السلعة حال العقد مجهول ، ولأنه أمر كلي بعد البيع في ذمة المالك ، وهو أيضا غير مملوك للمالك حال العقد ، وأيضا فإن العقد معلق على شرط ، وقد تقدم أنه لا يصح عندهم.

الثاني ـ لو مات رب المال والمال عروض في يد العامل ، وأقرّه الوارث على العقد الأول ، فإنهم صرحوا بأنه لا يصح ، لان العقد الأول بطل بالموت ، كما تقدم من أنه من العقود الجائزة التي تبطل بالموت ، فلا يصح الا بتجديد العقد من المالك الثاني ، والتجديد أيضا غير جائز ، لأنه لا بد في مال المضاربة أن يكون من النقدين ، والموجود الان عروض ، فلا يصح المضاربة بها.

ولو مات رب المال والمال في يد العامل كان نقدا صح تجديد الوارث عقد القراض معه بلا اشكال ، وهل يصح بلفظ التقرير؟ قيل : لا ، لأنه يؤذن باستصحاب الأول وإمضائه ، فإنه انما يقول له : قد تركتك على ما أنت عليه ، أو أقررتك على ما كنت عليه ، والحال أن ما هو عليه قد بطل كما عرفت.

قال في المسالك : والأقوى الصحة ان استفاد من اللفظ معنى الإذن ، لأن عقد القراض لا ينحصر في لفظ كغيره من العقود الجائزة ، والتقرير قد يدل عليه ، انتهى.

وهو جيد. وفي كلامه هنا كما ترى رد لما زعمه سابقا من أن عقد القراض لا يقتضي الإذن ، بل انما يحصل الإذن بأمر آخر فإنه جعل مناط الصحة هنا في الاكتفاء بالتقرير عن تجديد العقد كونه يفيد ما يفيده العقد من الاذن ، وهو ظاهر في بطلان كلامه الأول.


الثالث ـ لو اختلف العامل والمالك في قدر رأس المال فمقتضى القاعدة أن القول قول العامل بيمينه ، لانه ينكر قبض الزيادة ، والمالك يدعي إقباضها ولا فرق في ذلك بين كون المال باقيا ، أو تالفا بتفريط العامل ، بل الحكم في الثاني بطريق أولى ، فإن العامل حينئذ غارم ، فالقول قوله في القدر.

قال في المسالك : هذا كله إذا لم يكن ظهر ربح ، والا ففي قبول قوله اشكال من جريان التعليل المذكور ، وهو الظاهر من إطلاق المصنف ، ومن اقتضاء إنكاره لزيادة رأس المال توفير الربح ، فيزيد حصته منه ، فيكون ذلك في قوة اختلافهما في قدر حصته منه مع أن القول قول المالك فيه بيمينه ، ولانه مع بقاء المال الأصل يقتضي كون جميعه للمالك ، الى أن يدل دليل على استحقاقه الزائد ، ومع تلفه بتفريط فالمضمون قدر مال المالك ، وإذا كان الأصل استحقاق المالك لجميعه قبل التلف الا ما أقر به للعامل ، فالضمان تابع للاستحقاق وهذا هو الأقوى ، وربما قيل : ان القول قول المالك الا مع التلف بتفريط مطلقا ، وهو ضعيف جدا انتهى.

ثم انه كتب في الحاشية في بيان صاحب هذا القول : قال القائل به الامام فخر الدين في شرح القواعد.

المقصد الثالث في الربح :

وفيه مسائل ـ الأولى : المشهور بين الأصحاب أن المضارب يستحق من الربح ما وقع عليه الشرط من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف والمبسوط والاستبصار ، وقال في النهاية ان له أجرة المثل ، والربح بتمامه للمالك ، قال : وقد روى أنه يكون للمضارب من الربح بمقدار ما وقع الشرط عليه من نصف أو ربع ، أو أقل أو أكثر ، ونقل هذا القول أيضا عن الشيخ المفيد ، وسلار وابن البراج.


ومرجع هذا الخلاف الى أن عقد المضاربة هل هو عقد شرعي صحيح أو باطل؟ والقول المشهور مبنى على الأول ، والثاني على الثاني.

والأول هو المستفاد من الاخبار المتظافرة من طرق الخاصة والعامة ، وبه قال كافة العلماء من الطرفين الا ما ذكرناه ، وقد تقدمت جملة من الاخبار الدالة على ذلك في المسئلة الاولى من المقصد الأول ، ومنها صحيحة محمد بن قيس (١) وموثقته المتقدمتان في صدر هذا الكتاب ، ومنها أيضا زيادة على ذلك موثقة إسحاق بن عمار (٢) عن أبى الحسن (عليه‌السلام) قال : «سألته عن مال المضاربة؟ قال : الربح بينهما ، والوضيعة على المال».

وحسنة الكاهلي (٣) عن أبى الحسن موسى (عليه‌السلام) «في رجل دفع الى رجل مالا مضاربة فجعل له شيئا من الربح مسمى. فابتاع المضارب متاعا فوضع فيه؟ قال : على المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح (٤)».

احتج القائلون بالقول الثاني بأن النماء تابع للأصل بالأصالة ، فيكون الربح للمالك ، ولان هذه المعاملة معاملة فاسدة لجهالة العوض فتبطل ، فيكون الربح لصاحب المال ، وعليه أجرة المثل للعامل.

والجواب أن جميع ما ذكروا ان كان هو مقتضى قواعدهم كما صرحوا به في غير موضع ، الا أنه بعد استفاضة النصوص وتكاثرها كما عرفت بصحة هذه المعاملة ، وفيها الصحيحة وغيرها مع عدم مخالف ولا مناقض فيها ، فإنه يجب القول بصحة العقد ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٥ ح ٢ و ٤.

(٢) المصدر ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٦ ح ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٦ ح ٦.

(٤) أقول : هذا الخبر بحسب ظاهره لا يخلو من الاشكال ونقل عن الشيخ أنه حمله على ما إذا كان المال بينهما شركة ، وانما أطلق عليها المضاربة مجازا والأقرب كما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخر المتأخرين هو أن يكون المراد أنه حصل ربح ثم بعد ذلك وضيعة فإنه ينقص من ربح كل منهما بنسبة نصيبه من الربح ، منه رحمه‌الله.


وعدم الضرر بجهالة العوض كما قيل مثله في المزارعة والمساقاة ، ومنع تبعية النماء للأصل.

أقول : وهذا الموضع أيضا مؤيد لما قدمنا ذكره في غير موضع من عدم وجوب الالتزام بقواعدهم ، والوقوف عليها في مقابلة النصوص ، فان ما ذكروه هنا من القواعد المذكورة قد بنوا عليه الأحكام في جملة من المواضع ، واحتجوا به في غير مقام ، الا أنه لما وردت النصوص هنا كما ترى على خلافها ، وجب الخروج عنها بذلك ، وحينئذ فالواجب هو الوقوف على النصوص حيثما وجدت.

الثانية : الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه يشترط في الربح الشياع ، بمعنى أن يكون كل جزء جزء منه مشتركا ، لانه مقتضى المضاربة كما تنادي به الاخبار المتقدمة من حكمها ، بأن الربح بينهما ، يعنى كل جزء جزء منه ، وما لم يكن مشتركا فإنه خارج عن مقتضاها ، فهذا الشرط داخل في مفهوم المضاربة.

ويتفرع عليه صور ، منها ـ أن يجعل لأحدهما شيئا معينا كعشرة دراهم مثلا ، فإنه باطل اتفاقا ، وكذا لو ضم الى ذلك أن الباقي بينهما ، ولانه ربما لا يربح الا ذلك القدر ، فيلزم أن يختص به من شرط له ، ويبقى الأخر بغير شي‌ء مع أن الروايات المتقدمة قد اتفقت على أن الربح بينهما.

وبالجملة فإن عقد المضاربة يقتضي الاشتراك بينهما في كل ما يحصل من الربح بمقتضى الأخبار المذكورة ، وهيهنا الربح ليس بينهما ، سواء ضم الى ذلك ان الباقي بينهما أم لا ، بل الذي بينهما انما هو بعضه على تقدير الزيادة ، وجميعه على تقدير عدم الزيادة انما هو لمن شرط له ، فيبطل العقد البتة على كل من الصورتين.

ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح لي ، ووجه الفساد فيه أيضا ظاهر ، لان مقتضى القراض كما عرفت من النصوص واتفاق كلمة الأصحاب الاشتراك في


الربح ، وقوله : والربح لي ينافي ذلك ، وحينئذ فلا يصح أن يكون قراضا البتة ، وهل يكون في هذه الصورة بضاعة؟ بمعنى أن العامل لا يستحق على عمله أجرة كما هو المقرر في البضاعة ، أم يكون قراضا باطلا؟ للإخلال بشرط القراض مع التصريح بكونه قراضا ـ وجهان : والمشهور الثاني لما ذكر ، وعلى تقديره حينئذ قراضا يكون الربح للمالك خاصة ، لأنه نماء ماله ، وعليه أجرة المثل للعامل ، هذا مقتضى قواعدهم ، وبه صرحوا هنا.

قيل : ووجه الأول النظر الى المعنى ، فإنه دال على البضاعة ، وان كان بلفظ القراض ولأن البضاعة توكيل في التجارة تبرعا ، وهو لا يختص بلفظ ، وما ذكر دال عليها ، ولانه لا يحكم بإلغاء اللفظ ما أمكن حمله على الصحة ، وذكر القراض وان كان منافيا بحسب الظاهر ، الا أنه يمكن أن يكون مأخوذا من معنى المساواة التي هي أن يكون من أحدهما المال ، ومن الأخر العمل ، من غير التفاوت إلى أمر آخر ، وهو أخذ ما اشتق منه المعنى الشرعي.

ولو قيل : ان ذلك بحسب اللغة ، والحقيقة الشرعية تأباه ، أمكن أن يتجوز فيه ، فان الحقائق اللغوية تصير مجازاة شرعية ، وهو أولى من الفساد انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، والتمحل الغير السديد ، ولو انفتح هذا الباب في مفاهيم الألفاظ ، لانفتح الباب في الجدال ، واتسعت دائرة القيل والقال.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها من الدليل الواضع لا يخلو من الاشكال ، كغيرها مما جرى في هذا المجال.

بقي الكلام في أن ظاهر الأصحاب أنه ـ مع الحكم بكونه قراضا فاسدا ـ يكون الربح للمالك ، وللعامل أجرة المثل كما عرفت.

وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط أنه لو قال : خذه قراضا على أن الربح كله لي ، كان قراضا فاسدا ولا يكون بضاعة ـ


ما لفظه : والوجه عندي أنه لا أجرة للعامل ، لانه دخل على ذلك فكان متبرعا بالعمل ، فلا أجرة له حينئذ ، وظاهره أنه وان كان قراضا فاسدا فإنه لا أجرة له لدخوله مع عدم تعيين أجرة ، فكان عمله تبرعا ، وقواه في المسالك ، الا أنه احتمل بناء كلام العلامة على البضاعة أيضا ، ولا يخلو من قوة ، اما بالنسبة إلى البضاعة فظاهر ، وأما بالنسبة إلى القراض ، فلما عرفت من فساده ، ودخول العامل فيه على هذا الوجه.

هذا إذا لم ينضم الى الكلام المذكور ما يفهم منه إرادة أحد الأمرين المذكورين من القراض ، أو البضاعة من القرائن الحالية أو المقالية ، والا كان العمل على ذلك ، وما يقتضيه من صحة أو بطلان.

ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح كله لك ، وقد عرفت آنفا وجه الفساد فيه ، وأنه لا يصح قراضا ، وهل يكون ذلك قرضا بالتقريب المتقدم في البضاعة بالنظر الى تلك العبارة ، أو قراضا فاسدا كما تقدم أيضا ، فعلى الأول يكون الربح كله للعامل ، والمال مضمون عليه ، كما هو شأن القرض ولا شي‌ء للمالك وعلى الثاني فالربح كله للمالك ، وعليه أجرة المثل للعامل.

هذا إذا لم يتحقق قصد شي‌ء من الأمرين ، بأن لم يقصد شيئا بالكلية ، أو لم يعلم ما قصده ، والا كان قرضا في الأول ، وقراضا فاسدا في الثاني.

نعم لو قال في الصورة الثانية : خذه فاتجر به والربح لي ، فإنه يكون بضاعة بغير اشكال ، وكذا لو قال في الصورة الثالثة : خذه واتجر به والربح لك فإنه قرض بغير اشكال ، والوجه في ذلك أنه لم يذكر في هاتين الصيغتين ما ينافي البضاعة في الاولى ، والقرض في الثانية ، بخلاف ما تقدم ، حيث قال : خذه قراضا وأضاف اليه والربح لي ، أو لك فصرح بأن الأخذ قراضا وهو حقيقة شرعية في العقد المخصوص الذي يترتب عليه الشركة في الربح ، مع أنه قد ضم اليه ما ينافي ذلك من قوله «والربح لي أو لك» ولو قال : خذه على النصف فالظاهر الصحة


لأن المتبادر من ذلك أن الربح بينهما نصفين ، وهو متضمن لتعيين حصة العامل وكذا لو قال : على أن الربح بيننا ، فإنه يقتضي التوزيع بينهما انصافا ، قيل : ان الوجه في ذلك استوائهما في السبب المقتضى للاستحقاق ، والأصل عدم التفاضل كما لو أقر لهما بمال ، وكما لو قال المقر : الشي‌ء الفلاني بيني وبين زيد.

ونقل عن بعض الشافعية الحكم ببطلان العقد ، لأن البينة تصدق مع التفاوت فحيث لم يبينها يتحمل استحقاق الربح ، ورد بمنع صدقها على غير المتساوي مع الإطلاق.

نعم لو انضم إليه قرينة صح حمله على غيره بواسطتها ، وعلل بعضهم الحكم بالمناصفة في هذه العبارة ، بأن قوله : الربح بيننا ظاهر في ان جميع ما يربح يكون بيننا وهو يرجع الى أن كل جزء جزء مما يصدق عليه الربح فإنه بينهما وهو يقتضي المناصفة بلا اشكال ، وبه يظهر ضعف ما تعلق به ذلك القائل بالبطلان من أن البينة تصدق مع التفاوت ، فان دعوى صدقها ممنوع لما عرفت.

أقول : في دعوى ثبوت الحكم بالمناصفة من هذه العبارة إشكال ، وذلك لان هذه العبارة قد تكررت في الاخبار المتقدمة من قولهم (عليهم‌السلام) : «والربح بينهما» ولو اقتضت المناصفة كما يدعونه لكان الحكم في المضاربة هو أن يكون للعامل النصف مطلقا ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، وانما فهموا منها مجرد الاشتراك ، كما هو قول هذا البعض من الشافعية هنا ، وبه يظهر قوة القول بالبطلان ، كما ذهب اليه هذا القائل.

ولو قيل : ان بعض روايات المسئلة قد اشتمل على أنه بينهما على ما شرط فيقيد به إطلاق تلك الاخبار ، قلنا : هذا مما يؤيد ما ذكرناه ، بإشعاره بأنه لو لا التقييد لكان مدلول العبارة هو الاشتراك مطلقا كيف اتفق فكيف يحكم هنا باقتضائها المناصفة.

قيل : ولو قال : على أن لك النصف صح ، ولو قال : ان لي النصف واقتصر


بطل ، وعلل وجه الفرق بين الصيغتين بصحة الاولى ، وبطلان الثانية ، بأن الربح لما كان تابعا للمال والأصل كونه للمالك لم يفتقر الى تعيين حصته ، فان عينها كان ذلك تأكيدا ، وأما تعيين حصة العامل فلا بد منه ، لعدم استحقاقها بدونه ، فإذا قال : النصف لك ، كان تعيينا لحصة العامل ، وبقي الباقي على حكم الأصل وأما إذا قال : النصف لي لم يقتض ذلك كون النصف الأخر لغيره ، بل هو باق على حكم الأصل أيضا ، فيبطل العقد.

وربما قيل : بأنه يحتمل الصحة أيضا ، وحمل النصف الأخر على حصة العامل نظرا الى عدم الفرق بين الصيغتين عرفا وعملا بمفهوم التخصيص ، إذ لو كان النصف الأخر له أيضا لم يكن لهذا التخصيص وجه ، ورد بعدم استقرار العرف على ذلك وضعف دلالة المفهوم.

أقول : والحكم لا يخلو من شوب الاشكال ، وان كان للحكم بالبطلان نوع قرب لما ذكر ، والله العالم.

الثالثة : قالوا : لو شرط أحدهما لغلامه حصة من الربح ، صح ، عمل الغلام أم لم يعمل ، أما لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا.

وقيل : يصح وان لم يكن عاملا ، أقول : وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أنه متى شرط أحدهما لغلامه حصة ، فإنه يصح ، والحكم فيه مبنى على عدم ملك العبد كما هو المشهور ، فإنه يرجع حينئذ إلى سيده ، فهو في معنى ما لو شرط أحدهما حصة زائدة على حصته ، ولا نزاع في الصحة.

أما لو قلنا بملك العبد كان الحكم فيه كاجنبى الاتى حكمه ، وثانيها ـ لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا ، والوجه فيه أنه حيث أن الأصل في الربح أن يكون بين المالك والعامل خاصة ، أما المالك ففي مقابلة ماله ، وأما العامل ففي مقابلة عمله ، فلا يصح إدخال الأجنبي في ذلك ، ولا جعل شي‌ء من الربح له.


نعم إذا كان عاملا كان بمنزلة العامل المتعدد ، فلا يكون أجنبيا ، ومن هنا ربما ينقدح إشكال في المقام ، وهو أنه متى شرط العمل كان من قبيل العامل المتعدد كما ذكرتم ، مع أن المفروض كونه أجنبيا ، وحينئذ فلا معنى لكونه أجنبيا عاملا ، لأن الأجنبي من لا مدخل له في العمل.

والجواب أن العامل في هذا الباب حيثما يطلق انما يراد به المفوض إليه أمر التجارة كما تقدم ، وأنه وكيل عن المالك ، والمراد بالعامل هنا بالنسبة الى هذا الأجنبي ليس كذلك ، بل المراد به من له دخل في العمل في الجملة ، كأن شرط عليه حمل المتاع الى السوق ، ومن السوق الى البيت مثلا ، ونحو ذلك من الأعمال الجزئية المخصوصة ، ولهذا انهم اشترطوا هنا ضبط العمل بما يرفع الجهالة ، وأن يكون من أعمال التجارة ، لئلا يخرج عن مقتضاها.

وثالثها انه قيل : بصحة الشرط للأجنبي وان لم يكن عاملا ولا مدخل له في العمل بالكلية ، وكأنه لعموم (١) «المؤمنون عند شروطهم». و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) وعموم أدلة وجوب الوفاء بالوعد ، وقد تقدم نظيره في مواضع عديدة.

وقيل : ان هذا المشروط ان كان مع العمل فهو للعامل كما تقدم ، وان لم يجامعه عمل فهو للمالك ، رجوعا إلى أصله ، لئلا يخالف مقتضى العقد ، ولقدوم العامل على أن له ما عين له خاصة.

أقول : قد تقدم في غير مقام ما في هذا التعليل أعنى قوله لئلا يخالف مقتضى العقد ، فإنه جار في جميع الشروط ، فان الشرط في الحقيقة بمنزلة الاستثناء مما دل عليه العقد ، والأدلة على وجوب الوفاء بالشروط هي دليل الاستثناء المذكور ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

الرابعة : قالوا : لو قال : لاثنين لكما نصف الربح صح ، وكانا فيه سواء

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٢) سورة المائدة الآية ١.


ولو فضل أحدهما صح أيضا وان كان عملهما سواء ، وعلل الحكم الأول وهو تساويهما مع الإطلاق باقتضاء الاشتراك وأن الأصل عدم التفصيل ، ولانه المتبادر منه عرفا كما سبق في قوله بيننا.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فان اقتضاء الاشتراك التساوي ممنوع ، بل هو أعم ، وهو أول المسئلة أيضا ، ودعوى أنه المتبادر منه عرفا كذلك ، وقد تقدم ما في الاستناد الى قوله «بيننا» من أن ظاهره انما هو الاشتراك مطلقا كما هو ظاهر الاخبار ، لا التنصيف كما ادعوه ، وعلل الثاني وهو تفصيل أحدهما مع استوائهما في العمل بأن غايته اشتراط حصة قليلة لصاحب العمل الكثير ، وهو مما لا منافاة فيه لأن الأمر في الحصة راجع الى ما يشترطانه ، ويتفقان عليه قل أو كثر ، ولان العقد الواحد مع اثنين في قوة عقدين فيصح ، كما لو قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح ، والأخر في النصف الأخر بربع الربح ، فإنه جائز اتفاقا مع تساويهما في العمل ، والخلاف هنا انما هو من بعض العامة ، حيث اشترط التسوية بينهما في الربح مع التساوي في العمل ، قياسا على اقتضاء شركة الأبدان ذلك ، والأصل والفرع عندنا باطلان.

الخامسة : لو اختلفا في نصيب العامل فان مقتضى القواعد الشرعية أن القول قول المالك بيمينه ، لانه منكر لما يدعيه العامل من الزيادة ، ولان الاختلاف في فعل المالك الذي هو تعيين الحصة وهو أبصر به ، ولأن الأصل تبعية الربح لرأس المال ، فلا يخرج عنه الا ما أقر المالك بخروجه ، والمعتمد من هذه الوجوه هو الوجه الأول ، فإنه المعتضد بالنصوص الصحيحة الصريحة ، وما عداه من المؤيدات الواضحة.

وقيل : ان هذا مع عدم ظهور الربح ، أما معه فالحكم هو التحالف ، لان كلا منهما مدع ، ومدعى عليه ، فان المالك يدعى استحقاق العمل الصادر بالحصة الدنيا ، والعامل ينكر ذلك ، فيجي‌ء القول بالتحالف ، لان ضابطه كما


سلف في البيع أن ينكر كل واحد منهما ما يدعيه الأخر ، بحيث لا يجتمعان على أمر ويختلفان فيما زاد عليه ، ورد بأنه ضعيف ، لان نفس العمل لا يتناوله الدعوى ، لانه بعد انقضائه لا معنى لدعوى المالك استحقاقه ، وكذا قبله ، لان العقد الجائز ، لا يستحق به العمل ، وانما المستحق المال الذي أصله للمالك ، وحقيقة النزاع فيه فيجي‌ء فيه ما تقدم من الأصول وهو جيد.

السادسة : الظاهر أنه لا اشكال فيما لو دفع المالك مال القراض في مرض الموت على الوجه المعتبر من تعيين الحصة من الربح للعامل ونحوه ، لوجود المقتضى وهو دخوله تحت الأدلة الدالة على مشروعية القراض وصحته ، وعدم المانع ، إذ ليس الا ما ربما يتوهم من التفويت على الوارث بالنسبة إلى الحصة المعينة للعامل من الربح ، وإدخال النقص عليه بذلك ، فيتعلق به الخلاف بين كونه من الأصل أو الثلث ، والحال أنه ليس كذلك إذ لا تفويت على الوارث في الصورة المذكورة.

ومحل الخلاف في تلك المسئلة انما هو ما يتبرع به المريض من المال الموجود حال التبرع وهنا ليس كذلك ، لان الربح غير موجود يومئذ ، بل هو متوقع الحصول ، وقد لا يحصل فلا يتصف بكونه مالا للمريض ، ليترتب عليه الخلاف المذكور ، ثم انه بعد حصوله فهو متجدد بسعي العامل بعد العقد ، فليس للوارث فيه اعتراض ، ولا نزاع بوجه من الوجوه ، وهو ظاهر ، ولا فرق في تلك الحصة المعينة للعامل بين كونها قدر أجرة المثل أو أكثر أو أقل حسبما مر في غير هذه الصورة من صور القراض.

وبالجملة فإن مقتضى الأدلة كما عرفت صحة المعاملة المذكورة حتى يقوم دليل على البطلان ، وليس فليس ، والله العالم.

السابعة : يملك العامل من الربح بظهوره من غير توقف على انضاض العروض ولا قسمة المال بينهما ، قال في المسالك : هذا هو المشهور بين الأصحاب بل لا يكاد


يتحقق فيه مخالف ، ولا نقل في كتب الخلاف عن أحد من أصحابنا ما يخالفه ووجهه مع ذلك إطلاق النصوص بأن العامل يملك ما شرط له من الربح وهو متحقق قبل الانضاض ، وقبل القسمة ، ولان سبب الاستحقاق هو الشرط الواقع في العقد ، فيجب أن يثبت مقتضاه متى وجد ، لان الربح بعد ظهوره مملوك ، فلا بد له من مالك ، ورب المال لا يملكه اتفاقا ، ولا يثبت أحكام الملك في حقه ، فيلزم أن يكون للعامل ، إذ لا مالك غيرهما اتفاقا.

أقول : ومن أظهر الأدلة على ذلك ما رواه الشيخ والصدوق عن محمد بن قيس (١) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل دفع الى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى إياه ، وهو لا يعلم ، قال : يقوم فان زاد درهما واحدا أعتق ، واستسعى في مال الرجل» ، والتقريب فيها انه لو لم يكن مالكا لحصته بمجرد الظهور لم ينعتق عليه أبوه في الصورة المفروضة في الخبر ، مع أنه قد حكم بأنه بعد تقويم العبد فان حصل في الثمن زيادة على رأس المال ولو درهم ، فإنه ينعتق الأب على ابنه بنصيبه من ذلك الدرهم ، فالمقتضي للانعتاق انما هو دخوله في ملكه بتلك الحصة فيسري العتق في الباقي كما هو القاعدة في العتق.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد نقل فخر المحققين عن والده العلامة.

ان في هذه المسئلة أقوال أربعة :

أحدها ـ أنه يملك بمجرد الظهور كما عرفت.

وثانيها ـ أنه يملك بالإنضاض لأنه قبل الانضاض غير موجود خارجا بل مقدر موهوم ، والمملوك لا بد أن يكون محقق الوجود ، فيكون الظهور موجبا لاستحقاق الملك بعد التحقيق ، ولهذا يورث عنه ويضمن حصة من أتلفها سوى المالك والأجنبي.

وثالثها ـ أنه يملك بالقسمة ، لأنه لو ملك قبلها لكان النقصان الحادث بعد

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٠ ح ٢٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٨ ح ١.


ذلك شائعا في المال كسائر الأموال المشتركة ، والتالي باطل ، لانحصاره في الربح ، ولانه لو ملك لاختص بربحه ، ولان القراض معاملة جائزة والعمل فيها غير مضبوط ، فلا يستحق العوض فيها الا بتمامه ، كمال الجعالة.

ورابعها ـ أن القسمة كاشفة عن ملك العامل ، لأن القسمة ليست من الأسباب المملكة ، والمقتضى للملك انما هو العمل ، وهي دالة على تمام العمل الموجب للملك قال في المسالك بعد نقل هذه الأقوال : وفي التذكرة لم يذكر في المسئلة عن سائر الفقهاء من العامة والخاصة سوى القولين الأولين ، وجعل الثاني للشافعي في أحد قوليه ، ولأحمد في إحدى الروايتين ، ووافقا في الباقي على الأول ، ولا ندري لمن ثبتت هذه الأقوال ، وهي مع ذلك ضعيفة المأخذ فإنا لا نسلم ان الربح قبل الانضاض غير موجود ، لان المال غير منحصر في النقد ، فإذا ارتفعت قيمة العرض فرأس المال منه ما قابل قيمة رأس المال والزائد ربح وهو محقق الوجود ، ولو سلم انه غير محقق الوجود لا يقدح في كونه مملوكا فان الدين مملوك وهو غير موجود في الخارج بل هو في الذمة أمر كلي هذا ما على الثاني.

وعلى الثالث انه لا ملازمة بين الملك وضمان الحادث على الشياع ويجوز ان يكون مالكا ويكون ما يملكه وقاية رأس المال فيكون الملك متزلزلا فاستقراره مشروط بالسلامة ، وكذا لا منافاة بين ملك الحصة وعدم ملك ربحها بسبب تزلزل الملك ولانه لو اختص بربح نصيبه لاستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ولأن القسمة ليست من العمل في شي‌ء فلا معنى لجعلها تمام السبب في الملك فلا وجه لإلحاقها بالجعالة وقد نبه عليه ولو سلم انه غير محقق الوجود في الوجه الرابع ومن ضعف ما سبق يستفاد ضعف الرابع لانه مترتب عليها انتهى كلامه زيد مقامه وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

ثم انه ينبغي ان يعلم انه وان كان العامل يملك حصته بمجرد ظهور الربح الا انه يكون ملكا متزلزلا مراعى بإنضاض جميع المال أو قدر رأس المال مع


الفسخ أو القسمة حيث ان الربح وقاية لرأس المال فيجبر به ما وقع في التجارة من تلف وخسران ، سواء كان الربح والخسران في مرة واحدة أو مرتين ، وفي صفقة أو صفقتين ، وفي سفر أو سفرين ، لان معنى الربح هو الزائد على رأس المال مدة العقد ، فلو لم يفضل منه شي‌ء بعد أن حصل وجبرت بالتجارة فلا ربح ، وهو موضوع وفاق كما ذكره في المسالك ، وسيأتي الكلام ـ إنشاء الله تعالى ـ في بعض ما يدخل في هذا المقام من الأحكام ، والله العالم.

المقصد الرابع في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان العامل أمين فيقبل قوله في التلف بغير تفريط بيمينه ، سواء كان التلف ظاهرا كالحرق أو خفيا كالسرق ، وسواء أمكن إقامة البينة عليه أم لم يكن ، وكذا يقبل قوله في الخسارة ولا يضمن الا مع التفريط ، وقد تقدم الكلام في الاختلاف في قدر رأس المال ، وأن الأظهر قبول قول العامل بيمينه في الموضع السادس من المقصد الثاني (١) وكذا الاختلاف في حصة العامل وان الأظهر فيها أن القول قول المالك بيمينه في المسئلة الخامسة من المقصد الثالث (٢).

وبقي الكلام هنا في الاختلاف في الرد ، فهل يقبل قول العامل في رد المال الى المالك أم لا؟ قولان : أولهما للشيخ في المبسوط قال : إذا ادعى العامل رد المال الى المالك فهل يقبل قوله؟ فيه قولان : أحدهما وهو الصحيح أنه يقبل قوله.

أقول : وقد علل ذلك بأنه أمين كالمستودع ، ولما في عدم تقديم قوله من الضرر لجواز أن يكون صادقا فتكليفه بالرد ثانيا تكليف ما لا يطاق ، والمشهور بين الأصحاب الثاني ، لأصالة العدم ، ولان المالك منكر فيكون القول قوله بيمينه ، كما هو القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، كما أن العامل في ذلك مدع فعليه

__________________

(١) ص ٢٢٨.

(٢) ص ٢٣٦.


البينة بمقتضى القاعدة المذكورة وثبوت قول العامل في دعوى التلف لدليل خارج لا يقتضي ثبوت قوله مطلقا.

وأما ما علل به من أنه أمين كالمستودع وكل أمين يجب قبول قوله ، ففيه منع كلية الكبرى ، والفرق بين العامل هنا وبين المستودع ظاهر ، فان العامل هنا قبض لنفع نفسه والمستودع قبض لنفع المالك ، وهو محسن محض ، فلا يناسب إثبات السبيل عليه بعدم قبول قوله ، لما فيه من الضرر.

وأما ما علل به هنا من الضرر لو لم يقدم قوله ، فإنه مدفوع بأن الحكم بذلك لما ثبت شرعا كما عرفت من أنه مقتضى القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، فلا يلتفت الى هذا الاستبعاد ، وهذا الضرر ، فإنه لو تم ذلك لجرى في كل مدعى عليه ، وهو خلاف الإجماع نصا وفتوى.

قال في المسالك بعد ذكر نحو مما ذكرناه : لكن يبقى في المسئلة بحث ، وهو أنه إذا لم يقبل قوله في الرد يلزم تخليده في الحبس لو أصر على إنكاره ، خصوصا مع إمكان صدقه ، وهم قد تحرجوا من ذلك في الغاصب حيث يدعى التلف ، فكيف بثبوته في الأمين ، الا أن يحمل على مؤاخذته ومطالبته به ، وان أدت إلى الحبس للاستظهار به ، الى أن يحصل اليأس من ظهور العين ، ثم يؤخذ منه البدل للحيلولة ، الا أن مثل هذا يأتي في دعوى التلف ، خصوصا من الغاصب ، وليس في كلامهم تنقيح لهذا المحل ، فينبغي النظر فيه انتهى.

أقول : ما ذكره من أنه إذا لم يقبل قوله ـ في الرد يلزم تخليده في الحبس الى آخره ـ لا أعرف له وجها وجيها بحسب نظري القاصر ، وفكرى الفاتر ، وأى موجب للحبس هنا ، وذلك فان المسئلة هنا أحد أفراد مسئلة المدعى والمنكر ، ولا ريب أن الحكم الشرعي فيها هو البينة على المدعى ، والا فاليمين على المنكر ، فإن أقام المدعى البينة على الرد انقطعت الدعوى والا حلف المالك ووجب على مدعى الرد دفع الحق اليه. والنظر الى كونه أمينا غير ملتفت اليه


هنا ، لما عرفت آنفا ، وكذا احتمال صدقه ، فإنه جار في كل دعوى ، وكونه كذلك بحسب الواقع لا يوجب الخروج عن مقتضى الحكم الشرعي ظاهرا ، فان الشارع حكم بثبوت الحق مع قيام البينة مطلقا ، أعم من أن تطابق الواقع أم لا وحكم بسقوطه مع حلف المنكر مطلقا ، والحق المدعى هنا هو الرد ، فبالبينة يثبت ، فينبغي المطالبة ، وباليمين يسقط ، وتتوجه المطالبة بالمال ، وان احتمل بحسب الواقع براءة ذمته لصحة دعواه.

وبالجملة فهذا الحبس الذي ذكره في المقام لا أعرف له وجها ولا ذكره غيره من الاعلام ، ومقتضى الحكم الشرعي في المسئلة انما هو ما ذكرناه ، هذا بالنسبة إلى كلام الأصحاب في المسئلة.

وأما بالنسبة الى الاخبار فالذي وقفت عليه مما يتضمن الحبس ، الروايات المتقدمة في كتاب الدين (١) ، وموردها كلها أن الامام (عليه‌السلام) يحبس في الدين إذ التوى الغريم حتى تبين له حاله من ملائه أو إفلاس ، فإذا تبين إفلاسه خلا عنه ، وفي رواية يدفعه إلى غرمائه ، وان تبين ملائته استوفى الحق منه ، وما نحن فيه لا تعلق له بما دلت عليه هذه الاخبار.

نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (٢) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : كان على (عليه‌السلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة : الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلما ، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وان وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا» ،.

وهذا الخبر على ظاهره غير معمول عليه بين الأصحاب فيما أعلم ، ولذا حمله الشيخ على الحبس على سبيل العقوبة أو الحبس الطويل ، قال (قدس‌سره) : هذا الخبر يحتمل وجهين : أحدهما ـ انه ما كان يحبس على وجه العقوبة ، إلا الثلاثة الذين ذكرهم ، والثاني ـ انه ما كان يحبس طويلا إلا الثلاثة الذين

__________________

(١) ج ٢٠ ص ١٩٩.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ ح ٤٣ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٨١ ح ٢.


استثناهم ، لان الحبس في الدين انما يكون مقدار ما يتبين حاله ، انتهى ، وهو جيد.

وبالجملة فإن مقتضى النظر فيما نحن فيه هو إدراجه في قاعدة الدعوى الواقعة بين كل مدع ومنكر ، والعمل فيه بما تقتضيه القاعدة المذكورة شرعا والله العالم.

الثانية : إذا اشترى العامل من ينعتق بالشراء على المالك ، فهنا مقامان : الأول ـ أن يكون ذلك باذن المالك وعلم العامل أنه أبو المالك مثلا ولا ريب في صحة الشراء لوجود شرائطها ، ولا ريب أيضا في انعتاقه على ابنه ، كما لو اشتراه الابن بنفسه ، أو وكيل له غير العامل.

وحينئذ فإن بقي من مال المضاربة شي‌ء بعد الثمن كان الباقي مضاربة ، والا بطلت المضاربة في الثمن ، والوجه في ذلك عندهم هو أن مبنى المضاربة على طلب الربح وتحصيل الانتفاع بتقليب المال في الشراء والبيع ، وحينئذ فكل تصرف ينافي ذلك يكون باطلا ، ومن جملته شراء من ينعتق على المالك ، لانه موجب للخسارة ، فضلا عن الاشتمال على الغرض الذاتي من القراض ، فتبطل المضاربة في ثمنه ، لأنه بمنزلة التالف ، فإن بقي هناك مال بعد الثمن استمرت المضاربة فيه ، والا بطلت كما لو تلف جميع مال المضاربة.

وهل للعامل هنا أجرة المثل أم لا شي‌ء له؟ قولان : الثاني منهما للشيخ في المبسوط ، وبالأول صرح العلامة في المختلف ، والشهيد الثاني في المسالك (١) وهذا في ما لو لم يكن في العبد المشترى ربح واما لو حصل فيه ربح فهل يكون العامل شريكا في العبد بما استحقه من حصته من الربح أو أنه لا يترتب على هذا

__________________

(١) هذا الخلاف انما يتجه على تقدير القول المشهور بأن حصة العامل يتملك بالظهور كما هو المؤيد المنصور ، وأما على القول بأنها تملك بالإنضاض أو القسمة فلا ريب في عدم استحقاق الربح حينئذ لانتفائهما ، منه رحمه‌الله.


الربح أثر ، وانما للعامل أجرة المثل؟ قولان : الأول منهما للشيخ في المبسوط وبالثاني صرح العلامة في المختلف.

قال في المبسوط : إذا اشترى من ينعتق على رب المال باذنه ، وكان فيه ربح انعتق ، وضمن للعامل حصته من الربح ، وان لم يكن ربح انصرف العامل ولا شي‌ء له.

قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه ، الأجرة على التقديرين ، لبطلان القراض بالشراء المأذون فيه ، والوجه في القول الأول من هذين القولين هو ثبوت حصة العامل في العبد ، لتحقق الملك بالظهور كما هو الصحيح المشهور وان وجب ضمانها على المالك ، من حيث سريان العتق في العبد كما أشار إليه الشيخ في عبارته بقوله : وضمن للعامل حصته من الربح ، ولا يقدح في استحقاقه الحصة المذكورة ، عتقه القهري لصدوره باذن المالك.

والوجه في القول الثاني وهو اختيار العلامة كما عرفت ، ومثله الشهيد الثاني في المسالك (١) أيضا والظاهر أن المشهور ما أشار إليه العلامة فيما تقدم من كلامه بقوله ، لبطلان القراض وتوضيحه ما قدمنا ذكره من أن هذا الشراء خارج عن مقتضى المضاربة ، فإن متعلق الاذن فيها اشتمل على تقليب المال بالأخذ والعطاء مرة بعد أخرى لتحصيل الربح ، وهذا انما تضمن الخسارة لتعقب العتق له ، وحينئذ فإذا بطلت المضاربة فيه لم يترتب على ذلك الربح أثر ، وانما للعامل أجرة المثل عوض عمله خاصة.

فإن قيل : انه إذا كان هذا الشراء ليس من مقتضيات عقد القراض ، فإنه كما لا يستحق شيئا من الربح فكذا لا يستحق أجرة ، لأنه خلاف مقتضى العقد ،

__________________

(١) قالوا : فكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح وأتلفها حينئذ فيسري على العامل مع يسار المالك ان قلنا بالسراية في مثله من العتق القهري أو مع اختيار الشريك السبب ، ويقوم له نصيبه مع يساره والا استسعى العبد فيه ، منه رحمه‌الله.


فالجواب أن استحقاق الأجرة ليس باعتبار هذا الأمر بخصوصه بل بالنظر اليه والى غيره من المقدمات ، كالسفر للتجارة ، ونحو ذلك من الحركات والسكنات التي انما أتى بها لذلك ، ومع تسليم الانحصار في ما ذكر ، فإنه ان كان من الأمور التي تثبت في مثلها أجرة المثل يثبت الأجرة ، والا فكيف كان فالمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح الذي ينقطع به مادة القيل والقال.

الثاني : أن يكون الشراء بغير اذن المالك ، وحينئذ فإن وقع الشراء بعين المال ، فالظاهر أن المشهور بطلانه ، بناء على ما تقدم من منافاته للغرض الذاتي المطلوب من عقد القراض ، بل اشتماله على الإتلاف المحض.

ورد ذلك بأن غايته التصرف في مال الغير بغير اذنه ، ومقتضى ذلك هو كونه فضوليا فان قلنا بصحة الفضولي فهو صحيح هنا ، وان وقف في اللزوم على اجازة المالك ، هذا مع علمه بالنسب ، وعلمه بالحكم ، وأنه ينعتق عليه قهرا.

وأما مع جهله فإنه يحتمل كونه أيضا كذلك ، لأن الاذن في هذا الباب انما ينصرف الى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة للاسترباح ، ولا يتناول غير ذلك ، فلا يكون ما سواه مأذونا فيه : غاية ما في الباب أنه قد التبس الأمر على العامل هنا ظاهرا من حيث الجهل ، وهو لا يقتضي الاذن ، وانما يقتضي عدم الإثم.

وبالجملة فالذي يترتب على الجهل انما هو عدم الإثم والمؤاخذة ، لا الصحة ويحتمل صحة البيع ويحكم بعتقه على المالك قهرا ، ولا ضمان على العامل ، لان مقتضى عقد القراض شراء ما يترتب عليه الربح بحسب الظاهر ، لا بحسب نفس الأمر ، وهذا من حيث الجهل كذلك ، وظهور كونه في نفس الأمر ليس كذلك لا يمنع من الصحة التي وقع عليها عقد الشراء ، ويترتب عليها العتق لاستحالة توجه الخطاب الى الغافل والا لزم التكليف بما لا يطاق.

وبالجملة فإن الأحكام الشرعية انما تترتب على الظاهر لا على نفس الأمر والخطابات والتكليفات انما تناط بما هو الظاهر في نظر المكلف من حل وتحريم


وطهارة ونجاسة ونحوها ، لا ما كان كذلك في الواقع ، ولعل هذا الاحتمال أقرب من الأول.

وان وقع الشراء في الذمة لم تقع المضاربة ، لما تقدم في المسئلة الخامسة من المقصد الأول (١) من ان مقتضى إطلاق الإذن هو الشراء بعين المال ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة فلا يخلو اما أن لا يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه ، وحينئذ يكون الشراء له ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له كذلك ، وان عينه للمالك لفظا فهو فضولي على القول بصحة الفضولي ، وان عينه له نية وقع للعامل بحسب الظاهر ، وبطل باطنا ، فلا ينعتق ، ويجب التخلص منه على وجه شرعي ، إذ ليس مملكا له في الواقع ونفس الأمر للنية المذكورة الصارفة عنه والله العالم.

الثالثة : ـ إذا كان مال القراض لامرأة فاشترى العامل زوجها فلا يخلو اما أن يكون الشراء بإذنها ، وحينئذ يكون الشراء صحيحا ، وينفسخ نكاحها لما قرر في محله من امتناع اجتماع الملك والنكاح.

أولا يكون الشراء بإذنها ، وفيه قولان : فقيل : بالصحة ، الا أنه ذكر في المسالك أن القائل به غير معلوم ، وانما ذكره المصنف بلفظ قيل : ولم يعلم قائله.

أقول : وهذا القول قد نقله العلامة أيضا في القواعد في المسئلة ، وعلل وجه الصحة هنا بأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه ، ولا يتلف به رأس المال ، فيجوز حينئذ كما لو اشترى ما ليس بزوج.

وقيل : ببطلان الشراء المذكور لحصول الضرر على المالك به ، ويكون ذلك دليلا على عدم الرضا ، وتقييدا لما أطلقت من الاذن بدليل منفصل عقلي.

أقول : وهذان القولان حكاهما المحقق في الشرائع ، واختار منهما القول بالبطلان ، معللا له بأن عليها في ذلك ضررا ، وبينه في المسالك بما قدمنا ذكره ،

__________________

(١) ص ٢١٣.


والعلامة في الإرشاد اقتصر مع عدم الاذن على القول بالبطلان جازما به من غير نقل قول آخر غيره.

وفي القواعد قال : قيل : يبطل الشراء لتضررها به ، وقيل : يصح موقوفا ، وقيل : مطلقا ، وأنت خبير بأن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وكذا ظاهر الأردبيلي في شرح الإرشاد أن مقتضى التعليل الذي ذكر في وجه البطلان هو الرجوع الى العقد الفضولي ، لما عرفت من تعليل ذلك بحصول الضرر على المالك وموجب ذلك أنه لو رضى المالك زال المانع ، فيكون التعبير بالعقد الفضولي أنسب من الحكم بالبطلان مطلقا ، وظاهر العلامة في القواعد أن المشابهة بالعقد الفضولي والحمل عليه انما هو في جانب القول بالصحة ، حيث عبر عنه بأنه يصح موقوفا ، يعنى على الإجازة ، وفيه إشارة الى أن المراد بالقول بالبطلان انما هو مطلقا ، لا باعتبار عدم الإجازة كما فهمه في المسالك ، ثم انه ذكر القول بالصحة مطلقا.

وبالجملة فإنه قد تلخص أن أقوالهم في المسئلة ثلاثة ، صحة القول بالشراء مطلقا ، وبطلانه مطلقا ، والقول بكونه كالعقد الفضولي ، ونسب في المسالك نقل الأقوال الثلاثة إلى العلامة ، وهو كذلك كما سمعته من كلامه في القواعد ، الا أنه اقتصر على مجرد نقلها ، ولم يرجح شيئا منها ، وفي الإرشاد ظاهره الجزم بالبطلان مطلقا.

والظاهر أن المراد بالضرر الذي جعلوه حجة للإبطال هو انفساخ النكاح ، مع صحة الشراء ، والافاق العبد بعد الحكم بصحة الشراء يكون من جملة أموال القراض ، يترتب عليه ما يترتب عليها من جواز البيع ، وتحصيل الربح.

وفي ثبوت الضرر بذلك على إطلاقه إشكال ، فإن ثبت دليل على أن هذا ضرر يوجب بطلان الشراء ترتب عليه ما قالوه ، والا فالظاهر أن الشراء صحيح وان فسد النكاح ، وجرى العبد في مال المضاربة كغيره من أموالها.


ثم انه على تقدير كون ذلك ضررا يوجب البطلان ، فالظاهر انه يرجع الى العقد الفضولي ، لا كما هو ظاهر القائل بذلك من البطلان مطلقا ، نظرا الى تلك القرينة المدعاة آنفا ، وحينئذ فإن قلنا ببطلان العقد الفضولي كما هو الأظهر وان كان خلاف الأشهر ، فالأمر واضح ، وان قلنا بصحته مع وقوفه في اللزوم على اجازة المالك ، رجع الأمر إلى الإجازة ، فان أجازته المرأة كان حكمه ما تقدم في صورة ما إذا كان الشراء بإذنها ، والا وقع باطلا.

إذا تقرر ذلك فاعلم أنه على تقدير القول بالبطلان مطلقا أو مع عدم الإجازة فالحكم واضح ، وأما على تقدير القول بالصحة ، فإن كان مستند الصحة انما هو اذن المرأة في الشراء ، أو إجازتها ذلك ، بناء على كون العقد فضوليا لم يضمن العامل ما فاتها من المهر والنفقة ، لأن فواته مستند إلى اذنها ورضاها.

وأما على القول بالصحة مطلقا وان لم يستند إلى اذنها أو رضاها كما هو أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة ، فإن العامل يضمن المهر مع علمه بالزوجية ، وهو الذي صرح به في القواعد ، وغيره في غيره ، وربما قيل ، بضمانه في هذه الصورة ما فات مطلقا من مهر ونفقة ، وهو في المهر كما ذكرنا ظاهر ، فإنه جاء التفويت من قبله لعلمه بالزوجية ، وأن ملكها له موجب لبطلان النكاح وذهاب المهر ، ومع هذا شراه.

أما في النفقة فمشكل كما ذكره في المسالك ، قال : لأنها غير مقدرة بالنسبة إلى الزمان ، ولا موثوق باجتماع شرائطها ، بل ليست حاصلة لان من جملتها التمكين في الزمان المستقبل ، وهو غير واقع الآن ، الى أن قال : والظاهر اختصاصه بالمهر على هذا القول ، وهو الذي ذكره جماعة ، انتهى وهو جيد ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : لو اشترى العامل أباه أو من ينعتق عليه ، فان ظهر فيه ربح حال الشراء ، فالأشهر الأظهر انه ينعتق نصيب العامل من العبد بقدر ماله من


الربح فيه ، ويستسعى العبد في الباقي ، وهو حصة المالك سواء كان العامل مؤسرا أو معسرا.

وعلى هذا يدل صحيحة محمد بن قيس (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل دفع الى رجل ألف درهم مضاربة ، فاشترى أباه وهو لا يعلم؟ قال : يقوم فان زاد درهما واحدا أعتق واستسعى في مال الرجل». والحكم المذكور مبنى على تملكه الربح بمجرد الظهور ، كما هو مدلول الصحيحة المذكورة ، وهو الأشهر الأظهر.

وأما على القول بأن الملك انما يحصل بالقسمة أو الانضاض فإن البيع صحيح ، الا أنه لا ينعتق لعدم الملك حينئذ ، وإطلاق الحكم بالاستسعاء شامل لما لو كان العامل مؤسرا أو معسرا ، فان عدم الاستفصال دليل على العموم في المقال ، حيث حكم (عليه‌السلام) بالاستسعاء ، ولم يفصل فيه بين كون العامل مؤسرا أو معسرا وهو ظاهر.

وقيل : بأنه مع اليسار يقوم على العامل ، لاختياره السبب ، وهو موجب للسراية ، لأن اختيار السبب اختيار المسبب ، وحملت الرواية على إعسار العامل جمعا بين الأدلة ، أو على تجدد الربح بعد الشراء.

وفيه أن الرواية المذكورة دلت على أنه اشترى أباه وهو لا يعلم أى لا يعلم بكونه أباه ، فكيف يتم اختياره للسبب ، وهو لا يعلم حال الشراء.

نعم يحتمل صحة ما ذكروه على تقدير العلم ، الا أنه خارج عن مورد الخبر ، فلا يحتاج الى الجمع بما ذكروه ، وقيل : ببطلان البيع لانه مناف لمقصود القراض ، إذ الغرض هو السعي للتجارة التي تقبل التقليب للاسترباح وهذا الشراء بتعقب العتق له ينافي ذلك ، فيكون مخالفا للتجارة ، فيكون باطلا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٨ وفيه عن محمد بن ميسر ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٣ الوسائل ج ١٣ ص ١٨٨ ح ١.


لعدم الاذن فيه ، أو موقوفا على الإجازة.

وفيه أنه اجتهاد في مقابلة النص الصحيح ، فإنه دل على الصحة ، لكن مورده كما عرفت جهله بكونه ممن ينعتق عليه ، والعجب أنه لم يتنبه أحد من الأصحاب لهذا القيد في الخبر ، بل جعلوا الحكم فيه مطلقا كما سمعت من كلامهم ، وكأنهم بنوا على أنه إذا كان كذلك مع الجهل ، فمع العلم بطريق أولى.

وفيه أنه يمكن مع العلم أنه لا يجوز له الشراء ، لما فيه من المخالفة للغرض المقصود من القراض ، كما علل به القول بالبطلان في المسئلة كما سيأتي ذكره ، ويؤيده ما تقدم في المقام الثاني من المسئلة الثانية (١) ، فيما إذا اشترى من ينعتق على المالك بغير إذنه.

أما مع الجهل فيصح ويترتب عليه ما ذكر في الخبر ، وعلى هذا ينبغي إجراء الخلاف المذكور في غير مورد الخبر ، وهو العلم بكونه أباه ، فإنه لخلوه من النص حينئذ قابل لهذه الاحتمالات والأقوال المتعددة ، والحكم في هذه الصورة محل اشكال لما عرفت من خروجها عن مورد النص ، مع عدم دليل واضح على شي‌ء مما ذكروه ، سيما مع تدافع هذه التعليلات التي عللوا بها كلا من هذه الوجوه المذكورة ، هذا كله إذا كان ظهور الربح حال الشراء.

أما لو كان بعد ذلك كتجدده بارتفاع السوق ، ونحوه فإشكال ، لعدم النص الدال على حكم يكون المعول عليه في هذا المجال ، الا أنه يمكن أن يقال : انه بعد ظهور الربح بناء على التملك بمجرد الظهور كما هو الظاهر المشهور فإنه يجري فيه الحكم المذكور في الخبر المتقدم ، من أنه ينعتق نصيب العامل منه ، ويستسعى في الباقي ، لأن الظاهر من الخبر ترتب الحكم على ظهور الربح أعم من أن يكون وقت الشراء أو بعد ذلك ، فإنه هو السبب في العتق ، لكن

__________________

(١) ص ٢٤٥.


ينبغي التقييد بصورة الجهل كما أشرنا إليه آنفا إذ مع العلم لا يبعد القول بالبطلان كما عرفت أيضا ، والله العالم.

الخامسة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لما كان القراض من العقود الجائزة ، فلكل من المالك والعامل فسخه بقوله فسخت القراض ، أو أبطلته أو رفعته أو نحو ذلك مما يؤدى هذا المعنى أو بقول المالك للعامل لا تتصرف بعد هذا ، أو يقول رفعت يدك ، وكذا يحصل ببيع المالك المال لا بقصد اعانة العامل وحينئذ فإن كان هناك ربح يقسم بعد إخراج رأس المال ، وان لم يكن ثمة ربح فللعامل أجرة المثل الى ذلك الوقت الذي حصل فيه الفسخ.

ولو كان في المال عروض فهل للعامل أن يبيعها بغير اذن المالك؟ قولان : ولو طلب منه المالك الانضاض هل يجب عليه أم لا؟ قولان : أيضا ، وان كان سلفا كان عليه جبايته.

قال في التذكرة : قد بينا أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين كالوكالة والشركة ، بل هو عينهما ، فإنه وكالة في الابتداء ، ثم يصير شركة في الأثناء ، فلكل واحد من المالك والعامل فسخه ، والخروج منه متى شاء ، ولا يحتاج فيه الى حضور الأخر ورضاه ، لان العامل يشترى ويبيع لرب المال باذنه فكان له فسخه كالوكالة ، الى أن قال : إذا ثبت هذا فان فسخا العقد أو أحدهما فإن كان قبل العمل عاد المالك في رأس المال ، ولم يكن للعامل أن يشترى بعده وان كان قد عمل فان كان المال ناضا ولا ربح فيه أخذه المالك أيضا ، وكان للعامل أجرة عمله الى ذلك الوقت ، وان كان فيه ربح أخذ رأس ماله وحصته من الربح ، وأخذ العامل حصته منه ، وان لم يكن المال ناضا فان كان دينا بأن باع نسية باذن المالك ، فان كان في المال ربح كان على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وان لم يكن هناك ربح ، قال الشيخ (رحمة الله عليه) يجب على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي إلى آخر كلامه.


أقول : والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ قولهم أنه متى فسخ المالك وكان المال ناضا ولا ربح فيه فللعامل أجرة المثل ، قيل ووجهه من حيث أن عمله محترم باذن المالك ، وليس على وجه التبرع بل في مقابلة الحصة ، وحيث أنه فاتت بفسخ المالك قبل ظهور الربح فإنه يستحق أجرة عمله الى حين الفسخ.

وفيه نظر ، لانه لم يدخل الا على تقدير الحصة من الربح على تقدير وجودها ، ومن الجائز أن لا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل مع فواته بجبر نقص رأس المال ، فلا يحصل له شي‌ء بالكلية ، والحصة فيما نحن فيه غير موجودة ، وإثبات أجرة المثل يتوقف على الدليل ، فان قيل : أنه انما جعل له الحصة على تقدير استمراره الى أن يحصل ، وهو يقتضي عدم عزله قبل حصولها ، فان خالف فقد فوتها عليه ، فيجب عليه أجرته ، قلنا : لا يخفى أن مقتضى عقد القراض حيث كان من العقود الجائزة هو جواز فسخه في كل وقت منهما ، أو من أحدهما ، فدخول العامل في هذا العقد مع علمه بما يقتضيه ويترتب عليه رضا منه بذلك فقول هذا القائل : أن العقد يقتضي عدم عزله قبل حصول الحصة ، ليس في محله على أنك قد عرفت أنه يجوز أن يستمر العقد ، ولا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل ولكن يفوت بجبر نقصان رأس المال.

وبالجملة فإن إثبات هذه الأجرة المذكورة يحتاج الى دليل واضح ، وليس فليس ، والتعليل المذكور عليل بما عرفت.

وهذا البحث يأتي أيضا فيما لو لم يكن المال ناضا لا ربح فيه ، فان الكلام المذكور جار فيه أيضا ، هذا كله فيما إذا كان الفسخ من المالك.

أما لو كان الفسخ في هذه الحال من العامل ، فإنه لا شي‌ء له كما هو ظاهر بعضهم ، والوجه فيه ظاهر ، لقدومه على ذلك ، وعدم صبره الى أن يحصل الربح وأجرة المثل انما أوجبوها على المالك في الصورة الأولى حيث أنه كان سببا في تفويت الأجرة ، وحينئذ فلا شي‌ء له.


وفي التذكرة أطلق الحكم بثبوت الأجرة لو فسخا العقد أو أحدهما ، وكان ناضا لا ربح ، والظاهر بعده.

الثاني ـ ما ذكروه فيما إذا كان الفسخ قبل الانضاض ، وكلامهم هنا مجمل يحتاج الى توضيح وتنقيح ، فإنه لا يخلو في هذه الصورة اما أن يكون في المال ربح ، أو لا ، فعلى الأول متى قلنا بأن الربح يملك بمجرد الظهور كما هو الصحيح المشهور ، والمؤيد المنصور ، فان اتفقا على أن العامل يأخذ حصته من تلك العروض فلا بحث ، وكذا ان اتفقا على الانضاض ، وأخذ العامل حصته بعد الانضاض.

أما لو طلب المالك من العامل الانضاض من غير إرادته ذلك ، فظاهرهم وجوب ذلك على العامل ، قالوا : لان استحقاقه الربح وان ثبت بالظهور الا أن استقراره مشروط بالإنضاض ، لاحتمال ما يقتضي سقوطه.

وعندي فيه إشكال ، لأن ذلك انما يتم قبل الفسخ ، حيث أنه مقتضى عقد القراض ، وأما بعده وصيرورة العامل كالأجنبي الشريك في ذلك المال ، فإلزامه بما قالوه يتوقف على دليل واضح ، سيما مع إمكان أخذ الحصة من العروض ، فان غايته أنه يكون شريكا في تلك العروض ، والشريك لا يجب عليه الانضاض بطلب شريكه.

وهكذا باقي الكلام فيما لو طلب العامل الانضاض ، فهل يجب على المالك إجابته أم لا؟ قولان : والظاهر العدم لما عرفت أيضا.

وبالجملة فإن إثبات الوجوب على أحدهما بعد فسخ المعاملة يحتاج الى دليل واضح ، والتمسك في دفعه بالأصل أقوى مستمسك.

وعلى الثاني فإن للمالك أن يأخذه ان شاء ، وهل عليه أجرة المثل للعامل هنا أم لا؟ قولان : والكلام هنا كما تقدم فيما إذا كان المال ناضا ولا ربح ، كما أشرنا إليه آنفا.


وهل للعامل أن يبيعه ان أراد بغير رضا المالك أم لا؟ قولان : أظهرهما الثاني ، لأن هذه العروض ملك للمالك ، ولا تعلق للعامل فيها بوجه إذ المفروض عدم الربح والتصرف فيها بغير اذن المالك محرم بلا ريب.

وأما ما تعلق به القائل بالجواز من تعلق حق العامل به ، واحتمال وجود زبون يزيد في الثمن ، فيحصل الربح مردود. بأن تعلق حق العامل به انما يتم مع وجود شي‌ء من الربح ، إذ لا حق له في رأس المال ، والمفروض هنا عدم وجود ربح بالكلية ، واحتمال وجود زبون أضعف.

نعم لو كان الزبون موجودا بالفعل اتجه ما ذكره ، وكان من قبيل ما لو ظهر فيه ربح كما قدمنا ذكره.

وهل للمالك في هذه الصورة إلزام العامل بالإنضاض أم لا؟ قولان : أيضا ، واستدل على الأول بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وقد أخذه نقدا فيجب رده اليه ، ولحدوث التغيير في المال بفعله ، فيجب رده.

ولا يخفى ما فيه ، فان الأخذ والتصرف بالشراء انما حصل باذن المالك ، والتغيير انما نشأ عن اذنه ، فلا يستعقب ضررا على العامل ، والأصل عدم الوجوب ، والخبر المذكور لا عموم فيه على وجه يشمل محل البحث ، ومع تسليمه فإن الأداء أعم من أن يكون بالمثل أو العوض.

وبالجملة فالأصل العدم ، وهو أقوى دليل في المقام ، فلا يخرج عنه الا بنص واضح ، وكذلك أيضا الأصل بعد ارتفاع العقد ، البراءة من عمل لا عوض عليه.

الثالث ـ ما ذكروه فيما إذا كان المال سلفا وتفصيل القول في ذلك أنه لا ريب كما عرفت فيما تقدم أن العامل ليس له البيع بالدين الا مع الإذن ، لأنه خلاف مقتضى عقد المضاربة ، وكذا ليس له الشراء نسية الا مع ذلك لما ذكر ، فلو فعل بغير اذن كان الثمن مضمونا عليه ، ولا إشكال في ذلك.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.


وانما الكلام فيما إذا أذن له المالك ، وقد أطلق جمع منهم المحقق في الشرائع وجوب جبايته بعد الفسخ على العامل ، وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة تقييد ذلك بما إذا كان في ذلك المال ربح ، وعن الشيخ القول بالإطلاق كما هو ظاهر الجماعة المذكورين ، وبه صرح في القواعد أيضا فقال : إذا فسخ والمال دين وجب على العامل تقاضيه ، وان لم يظهر ربح.

وبالجملة فظاهرهم الاتفاق على وجوب الانضاض في الجملة ، وانما الخلاف في تخصيص ذلك بصورة وجود الربح كما هو ظاهر التذكرة أو مطلقا ، كما هو ظاهر الأكثر ، وعللوا ذلك باقتضاء المضاربة رد رأس المال عن صفته ، والزبون لا يجرى مجرى المال ، ولان الدين ملك ناقص ، والذي أخذه كان ملكا تاما فليؤد كما أخذ لظاهر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى».

وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلوح ، لابتناء الأحكام الشرعية عليها ، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم ، فان الوجوب والتحريم ونحوهما أحكام شرعية يتوقف على الدليل الواضح ، والأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة ، وعندهم بضم الإجماع ، ولا إجماع مدعى في المسئلة ، على أن ما ذكروه من التعليل المذكور معارض بأن الإدانة إنما حصلت باذن المالك كما هو المفروض.

وقولهم ان المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته مسلم مع الاستمرار على العقد ، وأما مع فسخه سيما ان كان الفاسخ هو المالك ، فهو ممنوع والأصل عدم الوجوب ، وبراءة الذمة منه ، وهو أقوى دليل حتى يقوم الدليل الواضح على خلافه.

وأما قوله في المسالك في رد ذلك : أنه يضعف بأن اذن المالك فيه انما كان على طريق الاستيفاء لا مطلقا ، بدلالة القرائن ، ولاقتضاء الخبر ذلك.

ففيه ان ذلك انما يتم مع الاستمرار على العقد المذكور لا مع فسخه ، سيما إذا كان الفاسخ له هو المالك.


وبالجملة فإن مقتضى عقد القراض والاذن فيه هو جميع ما ذكره ، وأما بعد فسخه فدعوى كون ذلك الإذن يقتضي ما ذكروه مع الحكم ببطلان العقد بالفسخ محل المنع ، لاختلاف الحالين ، وتغاير الحكمين من جميع الجهات ، ومن جملتها هذا الموضع ، والمانع مستظهر وأما دعواه اقتضاء الخبر ذلك فهو أضعف ، لما عرفت ، ولو تم الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكروه للزم منه أيضا جريان ذلك في الوكيل ، إذا اشترى باذن موكله عروضا ثم عزله الموكل عن الوكالة ، فإنه يجب عليه بيع تلك العروض ، وتنقيد الثمن ، والرد على المالك كما قبضه منه ولا قائل بذلك فيما أعلم ، وهم قد صرحوا كما تقدم بأن عقد القراض يتضمن الوكالة ، بل هو وكالة في الأول كما تقدم في كلام العلامة وغيره مع أنه لم يصرح أحد منهم في الوكالة بذلك بل الظاهر أنه متى عزله الموكل امتنع تصرفه سواء كان المال نقدا أو عروضا.

فرع :

لو مات صاحب المال انفسخ العقد لان موت أحدهما من جملة أسباب الفسخ ، فلو كان ذلك والمال عروض فالظاهر أنه لا إشكال في جواز بيع العامل له مع الاتفاق على ذلك بينه وبين الوارث.

وأما مع عدم الاتفاق على ذلك فظاهر الأصحاب أن الكلام هنا حسب ما تقدم من الخلاف في صورة الفسخ مع حيوة المالك ، من أنه هل لكل واحد منها مطالبة الأخر بالإنضاض أم لا؟ وظاهر جملة منهم أن للعامل هنا البيع بالاذن السابق الا أن يمنعه الوارث ، وقيل : انه ليس للعامل البيع ، وان لم يمنعه الوارث ، لان المال الان حق لغير من أذن فيه أو لا ، فلا يجوز التصرف فيه الا بإذنه لبطلان العقد ، وهو جيد.

وفي التذكرة نسب الأول إلى المشهور بين الشافعية والثاني إلى وجه


آخر لهم أيضا ، ونفى عنه البأس ، ووجهه ظاهر كما عرفت ، والله العالم.

السادسة : قد تقرر ان مقتضى المضاربة هو عمل العامل بنفسه ، فلا يجوز أن يضارب غيره الا بإذن المالك لما فيه من التغرير بمال المالك ، والتصرف فيه بغير اذنه ، وهو محرم ، فان اذن له المالك صح وكان وكيلا من قبل المالك في ذلك ، فان كان بعد عمل العامل الأول وقد ظهر فيه ربح فله حصته من الربح ، بناء على الأشهر الأظهر من أنه يملك الربح بمجرد الظهور.

وأما على القول بتوقفه على الانضاض أو القسمة فلا ، ولكن له أجرة المثل بمقتضى كلام الأصحاب وبه صرح في التذكرة هنا أيضا ، وأيما كان فإنه ليس للعامل الأول على هذا التقدير أن يشترط لنفسه شيئا من الربح ، إذ ليس له مال ولا عمل هنا ، والربح تابع لهما ، ولا فرق في هذه الصورة بين جعل الحصة للعامل الثاني بقدر حصة الأول التي وقع عليها الاتفاق بين المالك والعامل الأول ، أو أقل ، وعلى تقدير كونها أقل فإن هذه الزيادة لا يستحقها العامل الأول ، إذ ليس هذا عملا من أعمال التجارة التي يستحق به حصة ، بل هي للمالك ، ولو كان أذن المالك للعامل الأول في المضاربة ، لا بهذا المعنى المذكور ، بل بمعنى إدخال من أراد معه ، وجعلهما اثنين مثلا ، وحاصله جعل الثاني شريكا له في العمل والحصة ، فلا مانع من ذلك ، بل يكون صحيحا لزوال المانع المذكور آنفا ، وهو عدم العمل ، هذا كله مع الاذن له في المضاربة.

أما لو لم يأذن له فإنه لا يصح القراض الثاني ، لما عرفت آنفا من أنه تصرف بغير اذن المالك ، وتغرير به.

وحينئذ فلو عمل به العامل الثاني والحال هذه وظهر فيه ربح فلا خلاف في أن نصفه للمالك ، وانما الخلاف في النصف الأخر ، وفيه أقوال ثلاثة : أحدها ـ أنه للعامل الأول ، واختاره في الشرائع والعلامة في الإرشاد وعلل


بوقوع العقد الصحيح بينه وبين المالك ، على أن يكون ذلك له ، فيستحقه لاشتراطه له ، وعقده مع الثاني باطل لما عرفت.

قالوا : وعلى هذا فللعامل الثاني على الأول أجرة مثل عمله ، لانه غره.

وفيه انه انما يتم مع جهل العامل الثاني أما مع علمه بكون العامل الذي ضاربه غير مالك ، ولا مأذون من المالك ، فإنه لا يستحق شيئا ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه مع علمه بأنه ممنوع منه ، وفي هذا القول أيضا زيادة على ما عرفت أنه لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني قد شرى بعين المال ، أو في الذمة ، وعلى الأول فإن العقد يكون فضوليا ، لانه غير مأذون من المالك فينبغي بمقتضى صحة العقد الفضولي عندهم أن يكون موقوفا على الإجازة ، فان اجازه المالك فالواجب أن يكون الربح كله له ، لان العامل الأول لم يعمل شيئا ، والثاني غير مأذون.

وعلى الثاني فإن نوى وصرح بالمالك فكذلك أيضا ، والا وقع لمن نواه ولنفسه ان أطلق ، وبه يظهر أن ما أطلق في هذا القول من كون الحصة للعامل الأول ليس في محله.

وثانيها ـ أن النصف الأخر للمالك ، وهو ظاهر العلامة في التذكرة قال بعد ذكر المسئلة : فان حصل ربح فالأقرب أنه للمالك ، ثم لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني عالما بالحال أو لا ، فان كان عالما لم يكن له شي‌ء ، وان لم يكن عالما رجع على الأول بأجرة المثل ، انتهى.

وكلامه ظاهر في منع العامل الثاني من الربح وعدم استحقاقه شيئا منه ، وأما الأول فلم يتعرض له ، وينبغي أن يعلم أن الوجه في عدم استحقاقه ، هو انه لم يعمل شيئا يوجب استحقاقه بشي‌ء من الربح ، وعلل منع الثاني أيضا ، بأن عقده فاسد ، فلا يترتب عليه أثر ، والحق هو التفصيل بما تقدم في القول الأول من أن الشراء وقع بعين المال أو في الذمة حسب ما عرفت ، وبه يظهر أنه


لا يتم القول بأن عقده فاسد.

وثالثها ـ ان النصف بين العاملين بالسوية ، اتباعا للشرط ، خرج منه النصف الذي أخذه المالك ، فكأنه تالف ، وانحصر الربح في الثاني ، قالوا : وعلى هذا فيرجع العامل الثاني على الأول بنصف أجرته ، لأنه دخل على نصف الربح بتمامه ، ولم يسلم اليه الا نصفه.

قيل : ويحتمل هنا عدم الرجوع ، لان الشرط محمول على اشتراكهما فيما يحصل ، ولم يحصل الا النصف.

وكيف كان فينبغي أن يعلم أن هذا كله مع الجهل ليتم التوجيه المذكور والا فمع العلم فالعمل على ما تقدم من التفصيل بكون الشراء بالعين ، أو في الذمة ، فلا يتم ما ذكر هنا.

أقول : وهذه الأقوال الثلاثة نقلها المحقق في الشرائع في المسئلة ، واختار الأول منها ، وقال في المسالك : وهذه الأقوال ليست لأصحابنا ، ولا نقلها عنهم أحد ممن نقل الخلاف ، وانما هي وجوه للشافعية ، موجهة ذكرها المصنف والعلامة في كتبه.

وفيه انك قد عرفت اختيار المحقق القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة ، وهو أيضا اختيار العلامة في الإرشاد والثاني منها اختيار العلامة في التذكرة ، ومثله في القواعد.

واما الثالث فلم أقف على قائل به ، وبه يظهر أن قوله في المسالك ان هذه الأقوال ليست لأصحابنا ، وانما هي وجوه للشافعية ليس في محله ، فان ذكر الشافعية لها وجوها في المسئلة لا ينافي اختيار أصحابنا لما يترجح عندهم منها ، بل أنت إذا تأملت بعين التحقيق عرفت أن جميع الفروع الغير المنصوصة في أخبارنا في جل أبواب الفقه انما هي للعامة ، وأصحابنا قد جروا على ما جروا عليه فيما يختارونه منها ، كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع ، ومنها هذه المسئلة.


والقول الثالث في هذه الأقوال قد نقله العلامة في التذكرة بعد اختياره القول الثاني عن المزني من الشافعية ، وقال : انه قول الشافعي في القديم ، ثم انه قال في المسالك بعد البحث وذكر الأقوال فيها : والتحقيق في هذه المسئلة المترتب على أصولنا أن المالك ان أجاز العقد فالربح بينه وبين الثاني على الشرط ، وان لم يجزه بطل ، ثم الشراء ان كان بالعين وقف على اجازة المالك ، فان أجازه فالملك له خاصة ، ولا شي‌ء لهما في الربح ، أما الأول فلعدم العمل ، وأما الثاني فلعدم الاذن له ، وعدم وقوع العقد معه ، والثاني أجرة مثل عمله على الأول مع جهله ، لا مع علمه ، وان كان الشراء في الذمة ونوى صاحب المال فكذلك ، وان نوى ممن عامله وقع الشراء له ، لانه وكيله وان لم ينو شيئا أو نوى نفسه فالعقد له ، وضمان المال عليه لتعديته بمخالفة مقتضى المضاربة ، وحيث لا يقع العقد للعامل الثاني فله الأجرة على الأول مع جهله ان لم يتعد مقتضى المضاربة عمدا ، انتهى.

وهو جيد الا انه في جل المواضع مبتن على القول بصحة العقد الفضولي وتوقفه على الإجازة ، وأما على القول ببطلانه كما هو الظاهر عندي وعند جملة من المحققين كما تقدم في محله فالأمر واضح في جملة هذه المواضع والله العالم.

السابعة : لو أنكر العامل مال القراض فأثبته المالك بالبينة ، فادعى العامل بعد ذلك التلف ، فقد صرح الأصحاب بأن هذه الدعوى الأخيرة غير مقبولة ، وكذا الحكم فيما لو ادعى عليه وديعة أو غيرها من الأمانات فأنكرها ، ثم بعد الإثبات ادعى التلف قالوا : والوجه فيه أن دعواه التلف مكذبة لإنكاره الأول وموجبة للإقرار به ، وإنكاره الأول نوع تعد في المال ، والواجب عليه في جميع هذه المواضع البدل أو القيمة.

أما لو كان جوابه لا يستحق عندي شيئا وما أشبهه لم يضمن ، إذ ليس في


ذلك تكذيب للبينة ، ولا للدعوى الثانية فإن المال إذا تلف بغير تفريط لا يستحق عليه بسببه شيئا ، وحينئذ فيقبل قوله في التلف من غير تفريط بيمينه ، وثبوت القراض بالبينة لا ينافي جواز تلفه بعد ذلك بغير تفريط ، وقد تقدم أن العامل أمين يقبل قوله بيمينه ، وهو ظاهر.

ولو ادعى الغلط في الربح أو قدره بأن قال أولا ربحت ، أو ربحت كذا ، ثم ادعى الغلط في ذلك ، وانه ما ربح شيئا أو ربح شيئا أقل مما ذكره أولا ، فإنه يؤخذ بإقراره الأول ، ولا يسمع دعوى الغلط كما هو شأن جميع الأقارير.

نعم لو قال : خسرت بعد ذلك أو تلف ، فإنه يقبل قوله بيمينه كما تقدم.

ولو ذكر لما ادعاه من الغلط وجها يمكن استناده اليه وابتناءه عليه فلا يبعد قبول قوله ، كما مر مثله ، بأن ظن هنا أن متاعه يشترى بكذا وكذا زيادة على القيمة التي ابتاع بها ، فظهر كذب ظنه ، ونحو ذلك فليس فيه الا ارتكاب التجوز في اخباره بالبناء على الظن ، ومثله في باب المجاز غير عزيز والله العالم.

الثامنة : ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه ليس لأحد من العامل والمالك استحقاق شي‌ء من الربح استحقاقا تاما حتى يستوفى المالك جميع رأس ماله ، فلو كان في المال خسران وربح جيرت الوضيعة من الربح ، سواء كان الخسران والربح في مرة واحدة ، أو الخسران في صفقة ، والربح في أخرى أو الربح في سفر ، والخسران في سفر آخر لان معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال ، وإذا لم يفضل شي‌ء فلا ربح.

قال في التذكرة بعد ذكر الحكم المذكور : ولا نعلم في هذا خلافا ، إذا تقرر ما ذكرناه فاعلم : أنهم قد صرحوا بأنه ليس لأحدهما قسمة الربح قبل فسخ العقد قسمة إجبار ، بل يتوقف على رضاهما معا ، فلا يجبر أحدهما لو امتنع.

أما العامل فإنه لا يجبر لو طلب المالك القسمة ، لأنه لا يأمن أن يخسر المال بعد ذلك ، ويكون قد خرج ما أخذه من الربح ، وفات من يده ، فيحتاج


الى غرم ما حصل له بالقسمة ، وفي ذلك ضرر عليه ، فلا يلزم الإجابة الى ما فيه ضرر عليه.

وأما المالك فإنه لا يجبر أيضا على القسمة لو طلبها العامل ، لان الربح وقاية لرأس ماله ، فله أن يقول : لا ادفع إليك شيئا من الربح حتى يسلم لي رأس مالي ، ثم انه لو تراضيا بالقسمة قبل الفسخ ، فقد عرفت أنه لم يحصل استقرار الملك للربح ، وعلى هذا فلو حصل الخسران بعد ذلك صبر المالك الى أن ينجبر هذا النقص بتجارة أخرى ، والا فإنه يجب على العامل جبره بما أخذ من الربح ، لانه لم يملك ما أخذه ملكا مستقرا ، بل مراعى بعدم الحاجة إليه لجبر الخسران ، وحينئذ فإذا اتفق الخسران بعد قسمتهما الربح رد العامل أقل الأمرين مما وصل اليه من الربح ، ومما يصيبه من الخسران ، لأن الأقل ان كان هو الخسران ، فلا يلزمه سوى جبر المال ، والفاضل له ، وان كان هو الربح ، فلا يلزمه الجبر الا به ، وكذا يحتسب المالك برجوع أقل الأمرين اليه.

وتوضيح ذلك بأن نفرض أن أصل المال مأة درهم ، والربح عشرون درهما ، والشرط أن يكون الربح بينهما نصفين ، وبموجبه يكون النقصان كذلك ، فاقتسما الربح وصار حصة العامل عشرة دراهم ثم انه اتفق نقصان المال من التجارة عشرين درهما ، فعلى العامل عشرة دراهم ، وهي تمام حصته ، لان له نصف الربح فعليه نصف النقصان ، وباقي النقصان على حصة المالك ، ولو كان الخسران ثلاثين درهما والربح كما تقدم ، فان حصته من النقصان بموجب ما عرفت خمسة عشر درهما ، وحصته من الربح انما هي عشرة ، فيأخذ هنا بالأقل الذي هو حصته من الربح ، فإنه لا يلزم بأزيد مما يأخذه ، ولا يكلف بالجبر من غير الربح ، ولو كان الخسران عشرة دراهم فان حصته من الخسران خمسة دراهم بموجب ما عرفت ، وهي أقل من حصته من الربح التي هي عشرة كما عرفت فيؤخذ بالأول الذي هو الأقل والخمسة الأخرى على المالك ، وعلى هذا يكون الزائد له ، لأن الأمر هنا بالحصة ،


والرصد والذي يتعلق بالعامل من ذلك هو النصف ، والنصف الأخر بالمالك ، ومنه يعلم ما يتعلق بالمالك.

التاسعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن التالف من مال التجارة كلا أو بعضا بعد دورانه في التجارة يجبر بالربح ، والمراد بدورانه في التجارة التصرف فيه بالبيع والشراء ، لا مجرد السفر به ، قبل وقوع شي‌ء من ذلك ، ويمكن أن يستدل على هذا الحكم أعنى جبر الفائت كلا أو بعضا بالربح بالأخبار الكثيرة المتقدمة ، الدالة على أنه مع المخالفة يضمن المال ، والربح بينهما.

ومنها صحيحة محمد بن مسلم (١) «عن أحدهما (عليهما‌السلام) «قال : سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة وينهى أن يخرج به ، فيخرج قال : يضمن المال والربح بينهما».

والتقريب فيها ما تقدم من أن الربح هو الفاضل عن رأس المال فيما لم يفضل عن رأس المال شي‌ء فلا ربح ، وقد ادعى عليه في التذكرة الإجماع ، كما تقدمت الإشارة اليه ، وحينئذ فلا بد من جبر التالف ليحصل بقاء المال ، فما زاد على ذلك يتصف بكونه ربحا يتعلق به القسمة بينهما ، وظاهر الأصحاب أنه لا فرق في الفوائت التي يترتب عليها الخسران بين أن يكون بآفة سماوية أو بغصب غاصب أو سرقة أو نحو ذلك.

ووجه الإطلاق في ذلك ما عرفت من أن الربح وقاية لرأس المال فما دام المال لا يكون موجودا بكماله ، فلا ربح ، وربما قيل : باختصاص الحكم بما لا يتعلق فيه الضمان بذمة المتلف ، لأنه حينئذ بمنزلة الموجود فلا حاجة الى جبره ، ولانه نقصان لا يتعلق بتصرف العامل وتجارته بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق ونحوه : والمشهور عدم الفرق.

قال في التذكرة : لو حصل في المال نقص بانخفاض السوق ، فهو خسران

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٢ الوسائل ج ١٣ ص ١٨١ ح ١.


مجبور بالربح ، وكذا ان نقص المال بمرض حادث أو بعيب متجدد ، وأما ان حصل نقص في العين بأن يتلف بعضها فان حصل بعد التصرف في المال بالبيع والشراء ، فالأقرب انه كذلك ، وأكثر الشافعية على أن الاحتراق وغيره من الآفات السماوية خسران مجبور بالربح أيضا.

وأما التلف بالسرقة والغصب ففيه لهم وجهان ، وفرقوا بينهما بأن في الغصب والسرقة يحصل الضمان على الغاصب والسارق ، وهو يجبر النقص فلا حاجة الى جبره بمال القراض ، وأكثرهم لم يفرقوا بينهما ، وسووا بين التلف بالآفة السماوية وغيرها ، فجعلوا الوجهين في النوعين : أحدهما المنع ، لانه نقصان لا تعلق له بتصرف العامل وتجارته ، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق ، وليس هو بناش من نفس المال الذي اشتراه العامل ، بخلاف المرض والعيب فلا يجب على العامل جبره.

وكيف كان فالأصح عندهم أنه مجبور بالربح انتهى كلامه.

وبه يظهر لك أن ما ذكره الأصحاب في المقام مأخوذ من كلام الشافعية هنا ، كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وهذا كله فيما إذا حصل التلف في المال بعد دورانه في التجارة.

أما لو كان قبل ذلك فلا يخلو اما أن يكون التالف الجميع أو البعض ، وعلى الثاني فالأقرب عندهم جبره بالربح ، كما لو دفع له مأة فتلف منها قبل الاستعمال خمسون ، فإنه يجبر التالف بالربح ، لانه تعين للقراض بالعقد والدفع الى العامل وقبض العامل له ، وحينئذ يكون رأس المال مأة كذا صرح به في التذكرة.

وعلى الأول فالذي صرح به في التذكرة ، هو أنه ان كان التلف بآفة سماوية أو من جهة المالك انفسخ العقد ، لزوال المال الذي تعلق به العقد ، فان اشترى بعد ذلك للمضاربة كان لازما له ، والثمن عليه ، سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك ، الا أن يجيز المالك الشراء ، فإن أجاز احتمل أن يكون


قراضا ـ كما لو لم يتلف المال ـ وعدمه كما لو لم يأخذ شيئا من المال ، أما لو أتلفه أجنبي قبل دورانه في التجارة ، وقبل تصرف العامل فيه ، فان العامل يأخذه بماله ، ويكون القراض باقيا فيه ، لان القراض كما يتناول عين المال فكذا يتناول بدله كاثمان السلعة التي يبيعها العامل ، والمأخوذ من الأجنبي عوضا بدل.

وقال في المسالك : أنه أى تلف المال كلا قبل الدوران موجب لبطلان العقد ، فلا يمكن جبره ، الا أن يحمل على ما لو أذن له في الشراء في الذمة فاشترى ، ثم تلف المال ونقد عنه الثمن ، فان القراض يستمر ويمكن جبره حينئذ بالربح المتجدد ، كلامهما متفق على البطلان في الصورة المذكورة إلا مع التأويل بما ذكره كل منهما ، وان تغاير التأويلان.

وقال في الشرائع : إذا تلف مال القراض أو بعضه بعد دورانه في التجارة احتسب التالف من الربح ، وكذا لو تلف قبل ذلك ، وفي هذا تردد.

قال في المسالك : وجه التردد فيما لو كان تلفه قبل الدوران من أن وضع المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال ، فلا يستحق العامل ربحا الا بعد أن يبقى رأس المال بكماله ، لدخوله على ذلك ، وعدم دورانه لا دخل له في الحكم بخلافه ، ومن أن التلف قبل الشروع في التجارة يخرج التالف عن كونه مال قراض ، والأقوى عدم الفرق ، لأن المقتضي لكونه مال قراض هو العقد ، لا دورانه في التجارة ، فمتى تصور بقاء العقد وثبوت الربح جبر ما تلف مطلقا انتهى.

أقول : قد عرفت أن مقتضى تلف المال قبل الدوران هو بطلان المضاربة كما اعترف به فيما قدمنا نقله عنه ، وكذا في ما قدمناه من كلام التذكرة ، ومقتضى ذلك أنه لا ربح هنا بالكلية ليحصل به الجبران ، ولم يبق الا الحمل على ما ذكره من التأويل ، وهو مع بعده عن ظاهر عبارة المصنف غاية البعد ، مدخول بأن الظاهر انما هو عدم الجبران.

قوله : ان وضع المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال الى آخره مسلم


الا أنه فرع وجود رأس المال فإن رأس المال انما يصدق كما هو المتبادر على المبلغ الذي دفعه المالك ، وهو قد تلف كما هو المفروض ، والربح الذي يجب الجبر به انما هو ما حصل من ذلك المال بعد المعاملة به ، وهذا الربح الذي حصل بالشراء في الذمة لم يترتب على ذلك المال المقروض ، لانه قد ذهب قبل دورانه ، ويؤيده أن الأصل بقاء ملك العامل لهذا الربح وخروجه عنه الى أن يجبر به الفائت يحتاج الى الدليل.

نعم قام الإجماع. وظاهر ما تقدم من الاخبار على الجبر بعد الدوران ، فيبقى ما عداه على حكم الأصل ، وبذلك يظهر أن قوله وعدم دورانه لا دخل له في الحكم بخلافه ليس في محله.

وبالجملة فإنا لا نمنع بقاء العقد في صورة التأويل الذي فرضه ـ وبنى عليه الكلام ، لعدم فسخه وارتفاعه مع الاذن في الشراء في الذمة ، وظهور ربح هناك ـ وانما نمنع من جبر التالف بهذا الربح ، إذ المتبادر من الاخبار وكلام الأصحاب أن الربح الذي يجبر التالف انما هو ربح ذلك المال الذي وقعت المعاملة به ، ورأس المال الذي يخرج أولا انما هو المستعمل في التجارة وكونه مال التجارة ، إنما يصدق حقيقة بعد الدوران لا قبله ، بمعنى جبر التالف بالربح أي الذي عرض له التلف بعد حصول الربح فيه ، لا ما لم يكن كذلك.

وكيف كان فالمانع مستظهر ، والله العالم.

العاشرة : يجوز تعدد كل من العامل والمالك فيضارب المالك اثنين ، وبالعكس ، فإذا تعدد العامل بأن قارض الواحد اثنين ، اشترط تعين الحصة لهما ولا يجب عندهم تفصيلها ، بل يجوز أن يجعل النصف لهما ، فيحكم بالنصف لهما بالسوية ، لاقتضاء الإطلاق ذلك ، وأصالة عدم التفصيل ،

وفيه نظر قد تقدم ذكره في المسئلة الرابعة من المقصد الثالث في


الربح ولو شرط التفاوت بينهما بأن جعل لأحدهما ثلث الربح ، وللآخر ربعه فأبهم ولم يعين بطل ، ولو عين الثلث لواحد بعينه ، والربح للآخر صح ، لان عقد الواحد مع اثنين في حكم عقدين قد قارض في أحدهما بثلث الربح ، وفي الأخر بالربع ، وقد تقدم إيضاح ذلك في المسئلة المذكورة ، وإذا اتحد العامل وتعدد المالك فلو بينا نصيب العامل من الربح بأن جعلا له نصف الربح ، ولهما الباقي يكون بينهما على ما يشترطانه من التفاضل والتساوي ، سواء كان على نسبة المالين أم لا ، وبه أفتى في التذكرة ونقل عن الشافعي المنع من التفاضل مع تساوى المالين ، والتساوي مع تفاضلهما ، لان الربح يكون تابعا للمال ، فإذا شرطا له النصف كان النصف الأخر بينهما بالسوية ، فشرط التفاوت فيه يكون شرطا لاستحقاق ربح بغير عمل ولا مال.

ولو شرط أحدهما للعامل النصف من حصته من الربح ، وشرط الأخر له الثلث على أن يكون الباقي بينهما نصفين صح على القول الأول ، وبطل على قول الشافعي ، قال : انه لا يجوز ، لأن أحدهما يستحق مما بقي بعد شرطه النصف والأخر يستحق الثلثين ، ولا يجوز أن يشترط التساوي ، فيكون قد شرط أحدهما على الأخر من ربح ماله بغير عمل عمله ، ولا مال يملكه.

أجاب القائلون بالقول الأول بأن الفاضل الذي أخذه الشريك من حصة العامل ، لا من حصة شريكه ، وتوضيحه أن الأصل لما اقتضى التساوي في الربح للشريكين مع التساوي في المال كان شرط التفاوت المذكور منصرفا إلى حصة العامل ، بمعنى أن شارط الزيادة يكون قد جعل للعامل أقل مما جعل له أخذ النقيصة ، وهو جائز ، ومنه علم حجة القول الأول.

أقول : ومن تعارض هذين الوجهين في المسئلة تردد المحقق في المسئلة المذكورة وهو في محله ، لعدم النص الواضح في المقام ، وان كان القول الأول لا يخلو من قوة.


هذا فيما لو اشترطا التفاضل في القسمة مع إطلاق النصف الذي عيناه للعامل بمعنى أنه لم يعين نصيب كل منهما من ذلك النصف الذي جعلاه له ، أما لو عيناه بأن قالا لك نصف الربح على أن يكون بالمناصفة بيننا ، فيرجع الى أنه قد جعل له كل واحد منهما ربع الربح ، فإنه بهذا التعيين يخرج المسئلة عما قلناه هنا من الخلاف ، ويرجع الكلام في ذلك الى ما تقدم في كتاب الشركة من اشتراط التفاوت في الربح مع تساوى المالين ، وبالعكس وقد تقدم البحث في ذلك في المسئلة الخامسة (١) من الفصل الأول من الكتاب والله العالم.

الحادية عشر ـ اختلف الأصحاب في ما لو اشترى العامل شيئا للقراض فتلف الثمن قبل دفعه البائع ، قال الشيخ في الخلاف : إذا دفع إليه ألفا للقراض فاشترى به عبدا للقراض ، فهلك الالف قبل أن يدفعه في ثمنه ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، قال أبو حنيفة ومحمد : يكون المبيع لرب المال ، وعليه أن يدفع إليه ألفا غير الأول ، ليقضي به دينه ، ويكون الأول والثاني قراضا وهما معا رأس المال ، وقال مالك : رب المال بالخيار بأن يعطيه ألفا غير الأول ليقضي به الدين ويكون الألف الثاني رأس المال دون الأول ، أو لا يدفع إليه شيئا ، فيكون المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ونقل البزنطي عن الشافعي أن المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ولا شي‌ء على رب المال ، وهو اختيار أبى العباس ، قال الشيخ : وهو الذي يقوى في نفسي لأنه لا يخلو اما أن يكون الالف تلف قبل الشراء ، أو بعده ، فان كان تلف قبل الشراء وقع الشراء للعامل ، لانه اشتراه بعد زوال القراض ، وان كان التلف بعد الشراء فالبيع وقع لرب المال ، وعليه أن يدفع الثمن من ماله الذي سلمه اليه ، فإذا هلك المال فحول الملك الى العامل ، وكان الثمن عليه ، لان رب المال انما فسخ للعامل في التصرف في ألف اما أن يشترى به بعينه ، أو في الذمة ، وينقد عنه ، ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه.

__________________

(١) ص ١٦٣.


وقال في المبسوط : إذا دفع ألفا قراضا فاشترى به عبدا للقراض فهلك الالف قبل أن يدفعه ، قال قوم : ان المبيع للعامل والثمن عليه ولا شي‌ء على رب المال وقال قوم : المبيع لرب المال ، وعليه أن يدفع إليه ألفا غير الأول ، فيقضي به دينه ، ويكون الألف الأول والثاني قراضا وهما معا رأس المال وهو الأقوى ، وبه قال ابن البراج ، ثم نقل مذهب مالك الذي قدمنا نقله عنه في الخلاف ، ثم قال : وإذا سرق المال قبل أن يدفعه في ثمن المبيع قال قوم : يكون للعامل والثمن عليه ، ولا شي‌ء على رب المال ، وفي الناس من قال : إذا تلف المال قبل الشراء ، فالمبيع للمشتري ، لأنه اشتراه بعد زوال عقد القراض ، وان كان بعد الشراء كان الشراء للقراض ووقع الملك لرب المال ، لانه اشتراه والقراض بحاله ، لأن الإذن قائم ، وإذا كان الشراء له كان الثمن عليه ، وإذا دفع إليه ألفا آخر ليدفعه في الثمن ، نظرت فان سلم فلا كلام ، وان هلك فعليه غيره كذلك أبدا ، فعلى هذا إذا هلك الالف الأول ، ودفع إليه ألفا آخر فدفعه في الثمن ، فإن الألفين يكون رأس المال ، وهو الصحيح ، لأن الألف تلف بعد أن قبضه العامل ، فلم يكن من أصل المال ، كما لو كان في التجارة ، انتهى.

وقال الشيخ المفيد : إذا ابتاع المضارب متاعا لصاحب المال ، وأراد نقد الثمن ، فوجد المال قد هلك ، فنقد من عنده في المتاع كان المتاع له دون صاحب المال ، وكان الربح له والخسران عليه ، ولم يكن لصاحب المال فيه نصيب على حال.

وقال ابن إدريس : ان كان المضارب اشترى العبد بثمن في الذمة لا بعين المال فالعبد للمضارب دون رب المال ، ويجب على العامل الذي هو المضارب أن يدفع من ماله ألفا ثمن العبد ، والبيع لا ينفسخ ، لأن الأثمان إذا كانت في الذمة لا ينفسخ البيع بهلاكها ، لأنها غير معينة ، وان اشترى بعين مال المضاربة انفسخ البيع ، وكان العبد ملكا لبائعه ، على ما كان دون العامل ، ودون رب مال المضاربة لان


هلاك الثمن المعين يوجب الفسخ ، قال : وهذا الذي اخترناه مذهب شيخنا في مواضع كثيرة من كتب مسائل الخلاف والمبسوط ، انتهى.

أقول : والمسئلة المذكورة وان كانت خالية من النصوص على العموم والخصوص ، الا أن مقتضى قواعدهم في هذا الباب هو التفصيل ، بأن يقال : ان كان تلف المال بعد الشراء بتفريط من العامل اما بعدم الحفظ أو بالتأخير عن الدفع فإنه يكون ضامنا ، ويكون القراض باقيا ويجب عليه الدفع إلى البائع ، وان لم يكن بتفريط ، فلا يخلو اما أن يكون الشراء بالعين أو في الذمة ، فإن كان الشراء بالعين بطل البيع ، ووجب دفع المبيع إلى بائعه كما ذكره ابن إدريس ، وان كان في الذمة فإن كان مأذونا من المالك وقع الشراء للقراض ، ووجب على المالك دفع الثمن عوض التالف ، ويكون الجميع رأس المال فيجبر بالربح عندهم ، كما تقدم.

وان لم يكن مأذونا من المالك بطل الشراء ان أضاف ذلك الى المالك والقراض ، وترد المبيع على بائعه ، الا أن يجيز المالك ذلك بناء على صحة العقد الفضولي ، فإن أجاز المالك وجب عليه دفع الثمن ثانيا وثالثا وهكذا ، ويكون الجميع رأس المال كما تقدم ، وان لم يضف ذلك الى المالك ولا القراض ، بل أضافه الى نفسه أو أطلق وقع الشراء للعامل ، وعليه دفع الثمن ، وعليه يحمل إطلاق كلام ابن إدريس هذا مقتضى قواعدهم في الباب والله العالم بحقيقة الحق والصواب.

الثانية عشر ـ إذا دفع اليه مالا قراضا وشرط عليه أن يأخذ له بضاعة ، فهل يصح القراض والشرط ، أولا يصح شي‌ء منهما ، أو يصح القراض ويبطل الشرط؟ أقوال : أولها ـ للعلامة في المختلف والمحقق في الشرائع ، وثانيهما ـ أحد قولي الشيخ وبه جزم ابن البراج ، وثالثهما ـ للشيخ أيضا.


قال في المبسوط : إذا دفع إليه ألفا قراضا بالنصف على أن يأخذ منه ألفا بضاعة بطل الشرط ، لان العامل في القراض لا يعمل عملا بغير جعل ، ولا قسط من الربح ، وإذا بطل الشرط بطل القراض ، لان قسط العامل يكون مجهولا ، لان المالك انما يحصل له النصف حتى اشترط العامل له عملا بغير جعل ، فيذهب من نصيب العامل قدر ما زيد فيه لأجل البضاعة ، وهو مجهول.

ثم قال : وان قلنا أن القراض صحيح ، والشرط جائز ـ لكنه لا يلزم الوفاء به ، لأن البضاعة لا يلزم القيام بها ـ كان قويا ، وجزم ابن البراج بالأول.

وقال في المختلف بعد نقل ذلك : والحق صحة الشرط والعقد ، وأي منافاة بين أن يعمل العامل عملا في مال بعوض ، وفي غيره بغير عوض ، لنا وجود المقتضى وهو العقد ، وقوله (عليه‌السلام) (١) : «المؤمنون عند شروطهم». والمانع منتف لما بيناه ، فيثبت القراض والشرط ، ويجب عليه القيام به ، لقوله (عليه‌السلام) «المؤمنون عند شروطهم» ، وقال في المسالك : وهو الأقوى.

أقول ، وملخص حجة القول ببطلان الجميع أن وضع القراض على أن يكون للعامل في مقابلة عمله جزء من الربح ، وهذا العمل ليس في مقابلة شي‌ء فيفسد الشرط ، ويتبعه العقد ، لان قسط العامل يكون مجهولا ، لاقتضاء الشرط قسطا من الربح ، وقد بطل ، فيبطل ما يقابله فيجهل الحصر في النصف.

ورد بمنع منافاة هذا الشرط لمقتضى العقد ، فان مقتضاه أن يكون عمله في مال القراض بجزء من الربح ، أما غيره فلا ، فإذا تناوله دليل مجوز لزم القول بجوازه.

وأنت خبير بأن المسئلة غير خالية من الاشكال على كل من هذه الأقوال ، وتوضيح ذلك أن البضاعة لا يجب القيام بها ، لان مبناها على الجواز ، والقراض

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


أيضا من العقود الجائزة كما عرفت لا يلزم الوفاء به ، فلا يلزم الوفاء بما شرط في عقده ، لأن الشرط كالجزء من العقد تابع له ، فلا يزيد عليه ، والحال أن المالك لم يعين للعامل هذه الحصة الا من حيث هذا الشرط ، فإن وفى به فلا بحث ، والا أشكل الأمر.

ومقتضى القواعد كما عرفت أنه لا يلزم للعامل الوفاء به ، فمتى أخل به تسلط المالك على الفسخ ، ولو كان ذلك له بدون الشرط الا أن هذا سبب زائد ، فلو فسخ والحال هذه فان كان قبل ظهور ربح ، فمقتضى قواعدهم أن للعامل عليه الأجرة كما تقدم ، وان كان بعد ظهوره فهل يكون جميع الربح للمالك نظرا إلى أنه لم يبذله للعامل الا بالشرط ، وقد فات ، أو للعامل حصته المعينة ، نظرا الى ملكه لها بالظهور قبل الفسخ ، والأصل بمعنى الاستصحاب يقتضي بقائه ، ويؤيده أن المالك قد قدم على ذلك حيث اقتصر على شرط ذلك في عقد لا يلزم الوفاء فيه بالشرط اشكال ، وقيل : هنا بالأول ، وفيه ما عرفت ، والله العالم.

الثالثة عشر ـ لا خلاف ولا إشكال في أنه لو اشترى جارية للقراض لم يجز له وطئها ، لأنها ملك لرب المال ، ظهر فيها ربح أم لا ، غاية الأمر بظهور الربح أن تكون مشتركة بين المالك والعامل ، والجارية المشتركة لا يجوز لأحد الشريكين وطئها بدون إذن الأخر ، فإن وطأها والحال كذلك فقد تقدم الكلام في تحقيق القول في ذلك بالنسبة إلى الحد والمهر والولد في كتاب البيع في المسئلة الرابعة عشر من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان (١).

وقد صرح العلامة في التذكرة هنا بأن المهر المأخوذ منه هنا يجعل في مال القراض ، قال : لانه ربما وقع خسران فيحتاج الى الجبر.

وقال في التذكرة أيضا : أنه لا يجوز للمالك أن يطأها أيضا سواء كان هناك ربح أم لا ، لان حق العامل قد تعلق بها ، والوطي ينقصها ان كانت بكرا ، أو

__________________

(١) ج ١٩ ص ٤٧٤.


يؤدى الى خروجها من المضاربة ، لأنه ربما يؤدى الى إحبالها ، الى أن قال : ولو لم يكن فيها ربح لم يكن للمالك أيضا ، لأن انتفاء الربح في المتقومات غير معلوم ، وانما يتيقن الحال بالتنضيض للمال ، اما لو تيقن عدم الربح فالأقرب أنه يجوز له الوطي ، انتهى.

أقول : وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله أولا لا يجوز للمالك أن يطأها سواء كان هنا ربح أم لا ، على الربح الذي من أصل المال ، لا من الجارية جمعا بين كلاميه ، وانما الخلاف والاشكال فيما إذا أذن له في شراء الجارية ووطأها ، فالمشهور أنه كالأول ، لأن الإذن قبل الشراء لا أثر لها في التحليل ، سواء قلنا أن التحليل تمليك أو عقد ، فإنه على تقدير كل منهما لا يحصل شي‌ء منهما قبل الشراء ، فلا يدخل تحت الحصر في قوله تعالى «إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» (١) الا انه قد روى الشيخ في التهذيب عن الحسن بن محمد بن سماعة عن محمد بن زياد عن عبد الله بن يحيى الكاهلي (٢) عن أبى الحسن (عليه‌السلام) قال : «قلت : رجل سألني أن أسألك أن رجلا أعطاه مالا مضاربة يشترى له ما يرى من شي‌ء ، فقال : اشتر جارية تكون معك ، والجارية انما هي لصاحب المال ان كان فيها وضيعة فعليه ، وان كان فيها ربح فله ، للمضارب أن يطأها؟ قال : نعم».

وبهذا الرواية أفتى الشيخ في النهاية ، وظاهر المحدث الكاشاني في الوافي الميل الى ذلك ، حيث قال : وانما أجاز له وطأها لأن قوله تكون معك تحليل لها إياه ، انتهى.

والأصحاب قد ردوها بما عرفت ، قال في المسالك : والقول بالجواز للشيخ في النهاية استنادا إلى رواية ضعيفة السند ، مضطربة المفهوم ، قاصرة الدلالة.

__________________

(١) سورة المؤمنون ـ الاية ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩١ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٣ ١٩٠ باب ١١.


أقول : أما ضعف السند فهو غير وارد على الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، بل الاخبار كلها صحيح باصطلاحهم ، الا ما نصوا عليه ، وقد تقدم تحقيق ذلك في المجلد الأول من الكتاب (١).

وأما قصور الدلالة فهو مردود بأنه لا أصرح في الجواز من قوله (عليه‌السلام) «نعم» بعد قول السائل «إله أن يطأها» وأما اضطراب المفهوم فهو غير مفهوم ولا معلوم ، وأما ما استندوا اليه من أن الاذن قبل الشراء لا أثر له في التحليل فهو أول المسئلة ومحل البحث ، وأى مانع منع منه «قولهم : سواء قلنا أن التحليل تمليك أو عقد» مدخول بعدم الانحصار في القسمين المذكورين ، فان التحليل قسم ثالث ، ليس بتمليك ولا عقد ، وقد دلت الاخبار على جواز النكاح به ، وان كان ظاهر كلامهم إرجاعه الى أحد القسمين المتقدمين ، الا أن ظاهر الاخبار كونه قسما برأسه.

وبالجملة فإن رد الخبر من غير معارض مشكل ، والركون الى هذه التعليلات العليلة ورد الخبر بها مجازفة ظاهرة ، هذا كله فيما إذا كان الاذن قبل الشراء.

أما لو كان بعد الشراء فان الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في جواز الوطي الا أن يكون الشراء للقراض ويكون قد ظهر فيها ربح ، فإنه تصير المسئلة هنا راجعة إلى مسئلة تحليل أحد الشريكين لصاحبه ، وفيها خلاف وإشكال سيأتي التنبيه عليه في محله ان شاء الله ، ومنشؤه من حيث لزوم حل النكاح بسببين مختلفين ، الا أن هذا خارج عن مورد الخبر المذكور ، فان ظاهره أن الجارية للمالك خاصة ، وليست من القراض في شي‌ء.

وكيف كان فالمسئلة لما عرفت محل توقف واشكال ، والاحتياط فيما ذكره الأصحاب والله العالم.

الرابعة عشر ـ إذا مات وفي يده أموال مضاربة فان علم مال أحدهم بعينه

__________________

(١) ج ١ ص ٢٥.


حكم له به ، وان جهل كانوا فيه سواء ، فان جهل كونه مضاربة حكم به للورثة ، ويدل على الأولين ما رواه الشيخ في التهذيب عن السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على (عليهم‌السلام) انه كان يقول : من يموت وعنده مال مضاربة قال : ان سماه بعينه قبل موته فقال : هذا لفلان فهو له ، وان مات ولم يذكر فهو أسوة الغرماء». ورواه الصدوق مرسلا ، ويدل على الثالث أصالة العدم ، والحكم باليد ، ثم انه على تقدير الثاني فالمراد باستوائهم في المال كما ذكره الأصحاب هو أن يقسم بينهم على نسبة أموالهم لا بمعنى أن يقسم بالسوية كما في اقتسام غيرهم من الشركاء.

هذا إذا كانت أموالهم مجتمعة في يده على حده ، وأما ان كان المال ممتزجا مع جملة ماله مع العلم بكونه موجودا فالغرماء بالنسبة الى جميع التركة كالشريك ان وسعت التركة أموالهم أخذوها ، وان قصرت تحاصوا وعلى تقدير الثالث فالمراد به أن العامل كان في يده مضاربة في الجملة ، ولكن لم يعلم بقاؤها ولا تلفها ومن أجل ذلك حصل الجهل بكون المال الذي في يده مضاربة ، إذ كما يحتمل أن يكون من مال المضاربة ، يحتمل أن يكون من ماله ، فيحكم بكونه ميراثا ، عملا بظاهر اليد ، ولكن يبقى الإشكال في أنه هل يحكم بضمانه لمال المضاربة من حيث أصالة بقائها الى أن يعلم التلف بغير تفريط ولعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (٢). أم لا؟ لأصالة براءة الذمة ، وكون مال المضاربة أمانة غير مضمونة ، وأصالة بقائه لا يقتضي ثبوته في ذمته مع كونه أمانة إشكال ، ولعل الثاني أقوى والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٢ ح ٣٧ الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٦ الوسائل ج ١٣ ص ١٩١ باب ١٣.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ كتاب الوديعة.



كتاب المزارعة والمساقاة

والكلام في هذا الكتاب يقع في مطلبين الأول ـ في المزارعة ، وهي مفاعلة من الزرع ، ومقتضى الصيغة الوقوع منهما معا كما هو قضية باب المفاعلة ولعله هنا باعتبار أن أحدهما زارع ، والأخر آمر به ، فكأنه لذلك فاعل من حيث السببية ، كما قيل : مثله في باب المضاربة ، وهنا فوائد يحسن التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود.

الاولى ـ وقد ذكر جملة من الأصحاب أن المزارعة قد يعبر عنها بالمخابرة اما من الخبير ، وهو الأكار ، أو من الخبارة وهي الأرض الرخوة ، أو مأخوذ من معاملة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أهل خيبر حيث جعلها في أيديهم على النصف من حاصلها ، فقيل : خابرهم أى عاملهم في خيبر.

قال الصدوق في كتاب معاني الأخبار (١) بعد أن روى مرفوعا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه نهى عن المخابرة وهي المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل من ذلك وأكثر. وهو الخبر وكان أبو عبيد يقول : لهذا سمى الأكار

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٧٨ ط طهران ١٣٧٩.


الخبير ، لانه يخبر الأرض والمخابرة المؤاكره ، والخبرة بالفعل والخبير الرجل ، ولهذا سمى الأكار لانه يواكر الأرض أي يشقها ، انتهى.

قال بعض أصحابنا : وما روى أنه (عليه‌السلام) نهى عن المخابرة ، كان ذلك حين تنازعوا فنهاهم عنها.

أقول : الظاهر أنه أشار الى هذا الخبر فانى لم أقف في أخبارنا على ما يدل على النهى عنها ، بل الاخبار كما سيأتيك إنشاء الله تعالى ظاهرة في مشروعيتها وصحتها ، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من أصحابنا ، ولا من العامة إلا عن أبي حنيفة والشافعي في بعض المواضع ، وأيضا فإن الظاهر ان هذا الخبر الذي نقله الصدوق هنا انما هو من طريق العامة ، حيث أنه رواه عن محمد بن هارون عن على بن عبد العزيز عن أبى عبيد (١) رفعه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه نهى الخبر والله العالم.

الثانية ـ قد عرفوا المزارعة بأنها معاملة على الأرض بحصة من حاصلها ، والصيغة فيها زارعتك أو ازرع هذه الأرض أو سلمتها إليك ونحو ذلك مما يفيد هذا المعنى مدة كذا بحصة معلومة من حاصلها ، والظاهر أنه لا خلاف بينهم في كونها من العقود اللازمة التي لا تنفسخ الا بالتقايل فلا بد فيها من الإيجاب والقبول الدالين على الرضا بالتسليم وفي المسالك «أنه لا بد من كونهما بالعربية والماضوية ، فلا تصح بلفظ الأمر وأن الأقوى اعتبار القبول اللفظي كغيره من العقود اللازمة ، وفي الجميع نظر قد تقدم في كتاب البيع ، وتقدم من هذا القائل ثمة ما يوهن ما ذكره في هذا المقام وأمثاله ، ويدل على وقوعها ، وكذا وقوع المساقاة بلفظ الأمر الذي منع منه هنا جملة من الاخبار.

ومنها ما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٧٨ ط طهران سنة ١٣٧٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٦ ح ١٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.


(عليه‌السلام) في حديث قال : «سألته عن رجل يعطى الرجل أرضه وفيها رمان أو نخل أو فاكهة ، ويقول : اسق هذا من الماء ، وأعمره ولك نصف ما خرج قال ، لا بأس».

وبذلك يظهر لك ما في قوله في المسالك ، وأما قوله ازرع هذه الأرض بصيغة الأمر فإن مثل ذلك لا يجيزونه في نظائره من العقود ، ولكن المصنف (رحمة الله عليه) اجازه هنا استنادا إلى روايتي أبي الربيع الشامي والنضر بن سويد عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) وهما قاصرتان عن الدلالة ، فالاقتصار على لفظ الماضي أقوى.

أقول : أما رواية أبي الربيع (١) التي أشار إليها وهي ما رواه الشيخ عنه عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) «انه سئل عن رجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط عليه ثلثا للبذر وثلثا للبقر فقال : لا ينبغي أن يسمى بذرا ولا بقرا ، ولكن يقول لصاحب الأرض ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من شرط» ولا يسمى بذرا ولا بقرا الحديث.

وأما رواية النضر فالظاهر أن نسبتها الى النضر سهو من قلمه (رحمة الله عليه) وانما هي رواية عبد الله بن سنان (٢) وان كان الراوي عنه النضر كما هو في التهذيب فانا لم نقف على روايتي النضر بما قاله ، فان سندها في التهذيب الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن عبد الله بن سنان «انه قال : في الرجل يزارع أرض غيره فيقول : ثلث للبقر ، وثلث للبذر ، وثلث للأرض قال : لا يسمى شيئا من الحب والبقر ، ولكن يقول : ازرع ولي فيها كذا وكذا ان شئت نصفا ، وان شئت ثلثا».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠١ ح ١٠ وص ٢٠٠ ح ٥.


وأشار بقصورهما عن الدلالة إلى احتمال كون أزرع بلفظ المستقبل ، بل هو الظاهر من الرواية الاولى.

وفيه أولا انه وان كان بلفظ المستقبل الا أن فيه ردا عليه فيما ادعاه من الانحصار في لفظ الماضي ، وثانيا ما عرفت من الصحيحة المتقدمة الصريحة في وقوع المساقاة والمزارعة بلفظ الأمر ، ثم انه قال : أيضا وفي عبارة المصنف تجوز ، لانه قال : وعبارتها كذا ولم يذكر القبول ، مع أنه أحد ركني العبارة عنها ، فلا بد من ذكره ، ولعله أشار بما ذكر الى الاكتفاء بالقبول الفعلي كما اختاره العلامة في القواعد ، فتنحصر العبارة في الإيجاب ، والأقوى اعتبار القبول اللفظي كغيره من العقود اللازمة.

أقول : فيه ان المفهوم من الاخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة ، وجملة من الاخبار التي قدمناها في كتاب البيع أن المدار في القبول على حصول الرضا بما دل عليه الإيجاب ، وان لم يكن بلفظ ، وكذا في جانب الإيجاب الا ان الأظهر اشتراط اللفظ في جانب الإيجاب ، وان كان بعض متأخري المحدثين ، قد اكتفى أيضا بمجرد الرضا ، وما ذكره في الصحيحة المذكورة هو صورة عقد المساقاة ، وهو خال من ذكر لفظ القبول ، كما ادعاه.

وكذلك جملة من العقود التي وردت بها الاخبار كما لا يخفى على من راجع الروايات التي قدمناها في كتاب البيع ، وبه يظهر ضعف ما ادعاه من أن الأقوى اعتبار القبول اللفظي ، فإنه ـ مع كونه لا دليل عليه ـ مردود بظهور الدليل على خلافه كما عرفت.

الثالثة ـ المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أنه لا بد من كون الأرض ملكا لأحدهما عينا أو منفعة ، لأنه المستفاد من حقيقة المزارعة وصيغتها ، فلا تشرع المزارعة في الأرض الخراجية إلا باستعمال حيلة من الحيل الشرعية.


ثم ذكر جملة من الحيل في ذلك ، ومنها جعل البذر منهما قال (رحمة الله عليه) فلو اتفق اثنان على المعاملة في مثل ذلك في الأرض الخراجية فطريق الصحة الاشتراك في البذر ، بحيث يمتزج على الوجه المقرر في باب الشركة ، ويجعلان باقي الأعمال بينهما على نسبة المال ، ولو اتفقا على زيادة عمل من أحدهما نوى به التبرع ، فلا رجوع له بالزائد ، ولو أرادا جعل الحاصل مختلفا مع التساوي في البذر أو بالعكس ، بنى على ما تقرر في الشركة من جواز ذلك ، وقد عرفت أن المختار جواز الزيادة في القدر للعامل ، أو من له زيادة في العمل ، فليلحظ ذلك أو غيره من الحيل الشرعية على توسيع هذه المعاملة ، لأنها متداولة في كثير من البلاد التي أرضها غير مملوكة ، فيحتاج فيها الى وجه مجوز ويمكن فرضه بأمور ، ثم عد جملة من الحيل في ذلك.

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من حقيقة المزارعة وصيغتها وتعريفها هو أولوية أحدهما بمنفعة تلك الأرض ، أعم من أن يكون بالملك الطلق لرقبة الأرض ، ومنفعتها بالإجارة ، أو الأولوية الحاصلة في الأرض الخراجية أو المباحة بالتحجير أو الإحياء ، وان لم نقل بحصول الملك به.

وبالجملة فما يدل على كون المنفعة له بأي نحو كان ، ويدل على ذلك الأخبار الواردة في مزارعة أرض الخراج من غير اشتراط شي‌ء مما ذكره.

ومنها صحيحة يعقوب ابن شعيب (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى رجل على أن يعمرها ، ويصلحها ويؤدى خراجها وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس».

وصحيحة الحلبي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث «أنه سئل عن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال : لا بأس به» الحديث.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢ وص ٢٠٠ ح ٨.


على أنه قد صرح هو وغيره بل الظاهر انه لا خلاف فيه ، الا من بعض متأخري المتأخرين كما تقدم ذكره بأنه يجوز بيع الأرض الخراجية تبعا للآثار ، ومتى جاز البيع جازت المزارعة بطريق أولى ، وبذلك يظهر أن إطلاقه المنع من المزارعة في الأرض الخراجية بناء على أنها ملك للمسلمين قاطبة ، وان هذا الزارع لا يملكها ، ومن شرط المزارعة الملك لأحدهما كما ذكره غير جيد.

فان قيل : ـ انه بعد حصول الآثار فيها كما يجوز بيعها يجوز المزارعة أيضا ، والمدعى أنما هو قبل حصول الآثار فيها ـ قلنا : هذه الآثار التي يترتب عليها جواز البيع انما حصلت بعد الفتح ، وثبوت كونها خراجية ، فالمجوز لهذه الآثار مجوز للمزارعة عليها ، وهو ظاهر.

الرابعة ـ قد عرفت أن عقد المزارعة عندهم من العقود اللازمة التي لا تبطل الا بالتقايل ، أما كونه من العقود اللازمة فلأنه مقتضى الأصل ، إذ الأصل لزوم العقد الا ما خرج بدليل ، وللخبر المشهور «المؤمنون عند شروطهم» (١). وآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) ونحو ذلك من الأدلة العامة.

وأما كونه لا يبطل الا بالتقايل ، فالمراد به بالنظر الى اختيار المتعاقدين يعنى ليس كالعقود الجائزة التي لكل من المتعاقدين فسخها ، والا فإنه يبطل أيضا بغير التقائل كانقطاع الماء عن الأرض ، وفساد منفعة الأرض ، فالحصر في التقائل ليس حصرا حقيقيا ، وانما هو بالإضافة إلى المتعاقدين.

والظاهر أن المستند في بطلانه بالتقايل هو الإجماع ، ولا يبطل بالبيع ولا بموت أحد المتعاقدين : لعدم المنافاة بين البيع أو الموت وبين بقاء المزارعة كما سيأتي مثله في الإجارة على الأظهر ، وان كان فيه ثمة قول بالبطلان بالموت.

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.


أما هنا فالظاهر أنه لا خلاف في عدم البطلان بالموت ، عملا بلزومه وأصالة بقائه ودوامه ، وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المختلف في حجيته ، لان مرجع هذا الاستصحاب الى عموم الدليل حتى يقوم وجود الرافع كما في البيع ونحوه ، ثم انه ان كان الميت العامل قام مقامه ورثته ، في العمل ، والا رفع الأمر إلى الحاكم فيستأجر الحاكم من يقوم بالعمل من مال الميت أو من حصته من الغلة ، وان كان الميت المالك بقي العامل على عمله ، وعليه القيام بتمام العمل ، وربما استثنى من الأول ما لو شرط عليه المالك العمل بنفسه ، فإنها تبطل بموته ، كما قيل مثله في الإجارة ، وهو متجه لو كان الموت قبل ظهور الحاصل ، أما بعد ظهوره فيشكل ذلك ، فإنه قد ملك الحصة ، وان وجب عليه بقية العمل ، والحكم بخروجها عن ملكه بالموت ـ بعد دخولها كما عرفت ـ الظاهر بعده.

الخامسة ـ قال الشيخ في النهاية : لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع أو أقل أو أكثر ، ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وليس ذلك بمحظور ، فان زارع بشي‌ء من ذلك فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض مما يزرعه في المستقبل ، بل يجعل ذلك في ذمة الزارع.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : قوله ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير : ان قصد بذلك المزارعة فهو ممنوع وان قصد الإجارة فهو حق ، ثم نقل عن الشيخ المفيد أنه قال : المزارعة بالربع والثلث والنصف جائزة ، كما يجوز بالذهب والفضة ، ثم اعترضه فقال : وهذه العبارة أشكل من الأولى ، لأنه ان قصد بالمزارعة الإجارة لم تصح بالحصة ، وان قصد المزارعة لم تصح بالذهب والفضة ، والظاهر أن قصده بالأول المزارعة ، وبالثاني الإجارة انتهى.

أقول : والوجه في ذلك ظاهر مما تقدم في تعريف المزارعة من أنها بحصة من الحاصل من ثلث أو نصف أو نحوهما ، فلا يجوز بالدراهم والدنانير ، ولا غيرهما من العروض الخارجة عن الحاصل ، والإجارة انما تكون بالدراهم والدنانير


والعروض المعينة ، لا بالحصة من الحاصل من ربع أو ثلث أو نحو ذلك ، وهاتان العبارتان مضطربتان في ذلك كما عرفت ، الا أنه قد وقع مثل ذلك في بعض الاخبار أيضا كما في رواية أبي بصير (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تستأجر الأرض بالتمر ولا بالحنطة ولا بالشعير ولا بالأربعاء ولا بالنطاف ، قلت : وما الأربعاء قال الشرب والنطاف فضل الماء ، ولكن تقبلها بالذهب والفضة ، والنصف والثلث والربع».

فان هذه القبالة ان حملت على المزارعة لم تجز بالذهب ولا بالفضة ، وان حملت على الإجارة لم تجز بالنصف والثلث والربع ، واحتمال ما ذكره العلامة (رحمه‌الله عليه) في عبارة الشيخ المفيد بعيد في العبارة المذكورة ، وفي الخبر المذكورة ، ولا يحضرني الان وجه في المخرج عن ذلك ، الا أنه يمكن أن يقال : ان القبالة أعم من المزارعة والإجارة ، فيطلق على كل منهما ، وحينئذ فيكون المعنى في الخبر ولكن تقبلها بالذهب والفضة يعنى استأجرها ، وبالنصف والثلث والربع يعنى زارع عليها ، هذا أقصى ما يمكن أن يقال والله العالم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث في هذا المطلب يقع في مقامين : أحدهما في الشروط وهي ثلاثة :

الأول ـ أن يكون النماء مشاعا بينهما تساويا فيه أو تفاضلا ، والظاهر أن دليله الإجماع ، وهو ظاهر الاخبار أيضا مثل قوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (٢) «لا تقبل الأرض بحنطة مسماة ، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به». وقال : لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (٣) أيضا أو حسنة «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس» ،.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٨ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٧ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ٣.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٤ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٠ ح ٧.


وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، ولكن تقول ازرع فيها كذا وكذا ان شئت نصفا وان شئت ثلثا». ونحوها رواية أبي الربيع المتقدمة أيضا إلى غير ذلك من الاخبار.

وبالجملة فالذي دلت عليه الاخبار في المقام هو الإشاعة في الحصة فتقف الصحة في ما عداه على الدليل ، وليس فليس وعلى هذا فلو شرطه أحدهما لم يصح ، وكذا لو اختص أحدهما بنوع من الزرع دون صاحبه ، كما لو شرط أحد هما ما حصل أولا فهو له ، ويسمى ذلك الهرف ، والأخر ما يحصل أخيرا ويسمى الأفل.

قال في المسالك (الهرف) : ساكن الوسط ، المتقدم من الزرع والثمر يقال : أهرفت النخلة : أى عجلت إتاءها قاله الجوهري (١) : والأفل بالتسكين أيضا خلاف الهرف ، وهو المتأخر عنه انتهى.

أقول : قد تتبعت ما حضرني من كتب اللغة كالقاموس والمصباح المنير فلم أظفر في شي‌ء منهما بهذا المعنى لهذين اللفظين ، واحتمل التحريف في اللفظين المذكورين بأن يكونا على غير ما كتبناه ممكن ، إلا أنا تتبعنا أيضا جملة من الألفاظ التي ربما وقع التحريف عنها فلم أظفر بذلك.

وكيف كان فالنقل المذكور لا شك فيه ، وانما الشك في تعيين المادة في كل من اللفظين وضبطها ، فليراجع ذلك ، ووجه البطلان في الاشتراط المذكور في الصورتين المذكورتين هو ما عرفت من خروج ذلك عن وضع المزارعة الذي دلت عليه الاخبار ، ومثلها أيضا ما لو شرط أحدهما ما يزرع على الجداول ، والأخر ما زرع على غيرها ، لمنافات جميع ذلك الإشاعة التي دلت عليه الاخبار وقام عليها الإجماع.

__________________

(١) الصحاح ج ٤ ص ١٤٤٢ وفي أقرب الموارد هرفت النخلة : تهريفا عجلت اتاءها أى : ثمرتها وأهرفت النخلة : عجلت اتاءها مثل هرفت.


نعم وقع الخلاف هنا في موضعين ، أحدهما لو شرط أحدهما قدرا من الحاصل والزائد عليه يكون مشتركا بينهما ، فالظاهر ـ وبه صرح جملة من الأصحاب أيضا ـ أنه لا يصح ، لجواز أن لا يزيد شي‌ء ، ولان ظاهر الاخبار المتقدمة هو الاشتراك في جميع ما يحصل من النماء الا ما خرج بالشرط ، ولا فرق بين ذلك من كون القدر المشروط هو البذر وغيره ، ولا بين كون الغالب على تلك الأرض أن يخرج منها ما يزيد على الشروط عادة أم لا ، لاشتراك الجميع في الخروج عن قاعدة المزارعة ، مضافا الى حصول الجهل في العوض الموجب لكون العقد على خلاف الأصل فيبطل حينئذ ، ونقل عن الشيخ في النهاية وجماعة جواز استثناء البذر من جملة الحاصل ، وفي المختلف جواز استثناء شي‌ء من الحاصل مطلقا ، والأشهر الأظهر الأول.

وثانيهما ـ لو شرط أحدهما شيئا يضمنه كعمل يعمله مضافا إلى الحصة ، فقيل : أيضا بالصحة ، وهو المشهور لعموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، مع عدم منافاته لمقتضى العقد ، لخروجه عن النماء الذي اقتضى العقد ، إشاعته كما عرفت ، وقيل : بالبطلان وهذا القول نقله المحقق في الشرائع ، إلا أنه في المسالك قال : لا نعلم القائل به ، واستدل في الكفاية للقول المشهور زيادة على ما ذكر من العمومات برواية محمد بن سهل عن أبيه عن أبى الحسن موسى (عليه‌السلام).

والظاهر أنه أراد بها ما رواه المشايخ الثلاثة عن الراوي (١) المذكور قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن رجل يزرع له الحراث الزعفران ، ويضمن له أن يعطيه في كل جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهما ، فربما نقص وغرم ، وربما زاد واستفضل قال : لا بأس به إذا تراضيا». أقول :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٦ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٦ ح ١.


وما ذكره وان احتمل باعتبار أحد الاحتمالين في الرواية الا انه غير متعين.

وتوضيح ذلك أن قوله (عليه‌السلام) «وزن كذا» الظاهر أنه مفعول «يعطيه» ويكون المعنى أنه يعطيه من الزعفران وزن كذا وكذا درهما ، ويحتمل أن يكون «وكذا» الثانية معطوفا على الوزن ، لا على كذا ، ويكون المعنى ويعطيه وزن كذا من الزعفران ، ويعطيه كذا درهما ، فيكون الدراهم ضميمة إلى الزعفران ، وعلى هذا المعنى الثاني مبنى الاستدلال بالخبر المذكور.

وأنت خبير بأن الظاهر انما هو المعنى الأول فإنه هو المتبادر من هذه العبارة حيثما تذكر.

قال في المسالك : وعلى القول بالجواز يكون قراره مشروطا بالسلامة كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في البيع ، ولو تلف البعض سقط منه بحسابه لانه كالشريك ، وان كانت حصته معينة ، مع احتمال أن لا يسقط منه شي‌ء بتلف البعض متى بقي قدر نصيبه ، عملا بإطلاق الشرط ، انتهى.

إلحاق :

قد اختلف الأصحاب في إجارة الأرض للزراعة بالحنطة والشعير ، إذا كان الزرع حنطة أو شعيرا ، وأن يؤاجرها بأكثر مما استأجرها ، وحق هذه المسئلة انما هو كتاب الإجارة ، الا أن الأصحاب حيث ذكروها في هذا المقام جرينا على حذوهم.

وكيف كان فمحل الخلاف والبحث هنا في مواضع ثلاثة :

الأول ـ هل يجوز أن يستأجر الأرض بالحنطة ، ويزرعها حنطة أم لا؟ المشهور الأول على كراهة ، وقال ابن البراج : لا يجوز على كيل معين من جنس ما زرع الأرض ، مثل أن يستأجر بحنطة ويزرع فيها حنطة ، احتج الأصحاب بالأصل ، وعموم الأدلة الواردة في الإجارة بنقد كان أو عرض وافق ما زرع فيها أم لم يوافق.


احتج ابن البراج بصحيحة الحلبي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تستأجر الأرض بالحنطة ، ثم تزرعها حنطة.

أجاب الأصحاب عنها بالحمل على ما إذا اشترط ذلك من حاصل تلك الأرض أما لو أطلق أو اشترط من غيره فلا بأس ، واستندوا في ذلك الى رواية الفضيل بن يسار (٢) «قال سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن إجارة الأرض بالطعام قال : ان كان من طعامها فلا خير فيه». وفي رواية أبي بردة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن إجارة الأرض المحدودة بالدراهم المعلومة؟ قال : لا بأس ، قال : وسألته عن إجارتها بالطعام؟ فقال : ان كان من طعامها ، فلا خير فيه». وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك المناقشة في ذلك ، والميل الى ما ذكره ابن البراج هنا ، قال بعد إيراد صحيحة الحلبي حجة لابن البراج ، والنهى حقيقة في التحريم ، وأجيب بحمله على اشتراطه مما يخرج منها ، لدلالة رواية الفضيل عليه ، وبحمل النهى على الكراهة ، وفيه نظر لأن النهي مطلق ، ولا منافاة بينه وبين تحريم شرطه من طعامها ، حتى يجمع بينهما بحمله عليه ، والتحقيق أن المطلق والمقيد متى كانا منفيين لا يلزم الجمع بينهما ، بل يحمل المطلق في إطلاقه ، بخلاف المثبتين ، وبملاحظته يتخرج فساد كثير مما قرروه في هذا الباب ، وقد مضى مثله في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، مع ورود نص آخر بتحريم بيع المكيل والموزون كذلك ، حيث جمع الأكثر بينهما بحمل المطلق على المقيد ، وليس بشي‌ء الى أن قال : وقول ابن البراج بالمنع لا يخلو من قوة ، نظرا إلى الرواية الصحيحة ، الا أن المشهور خلاف قوله ، انتهى.

أقول : لا ريب أن مفهوم روايتي الفضيل وأبى بردة أنه إذا كان إجارة الأرض

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ١٠ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٦٣ وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٥ و ٩.


بغير طعامها ، ففيه خير ، يعنى جائز وصحيح ، وهو ظاهر في جواز إجارة الأرض بالحنطة ، وان زرعت حنطة إذا لم يشترطه منها ، وهذا المفهوم مفهوم شرط ، وهو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الاخبار أيضا كما حققناه في مقدمات الكتاب من مجلد كتاب الطهارة (١) ومخالفته لظاهر ما دلت عليه صحيحة الحلبي واضحة ، وحينئذ فلا بد من الجمع ، وليس الا ما ذكره الأصحاب أولا أو حمل النهى على الكراهة ، والثاني منهما قد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم ، فلم يبق إلا الأول.

ويعضد الروايتين المذكورتين حسنة الوشاء (٢) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن الرجل اشترى من رجل أرضا جربانا معلومة بمأة كر على أن يعطيه من الأرض ، قال : حرام ، فقلت له : فما تقول جعلني الله فداك أن اشترى منه الأرض بكيل معلوم وحنطة من غيرها؟ قال : لا بأس» ، على أنه يمكن حمل حسنة الحلبي التي استند إليها ابن البراج على المزارعة ، حسب ما دلت حسنة المتقدمة في صدر الكلام في الشرط المتقدم ، ويكون حاصل المعنى فيهما معا واحد ، وهو أنه لا يزارع بالحنطة المسماة بينهما ، وانما يزارع بالحصة الشائعة من النصف أو الثلث أو نحوهما ، وان عبر في هذه بلفظ الإجارة كما عبر في الأولى بلفظ القبالة وباب التجوز أوسع من ذلك.

ومما يعضد ما ذكرناه من حمل الإجارة على المزارعة وأن المراد بها ذلك تجوزا ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبى المغراء (٣) قال : «سأل يعقوب الأحمر أبا عبد الله (عليه‌السلام) وأنا حاضر فقال : أصلحك الله انه كان لي أخ فهلك فترك في حجري يتيما ولى أخ يلي ضيعة لنا وهو يبيع العصير ممن يصنعه خمرا ، ويؤاجر الأرض بالطعام : وأما ما يصيبني فقد تنزهت ، فكيف أصنع

__________________

(١) ج ١ ص ٥٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ١١ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٨.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٧ ، ص ٢٣ ح ٢.


بنصيب اليتيم فقال : أما إجارة الأرض بالطعام فلا تأخذ نصيب اليتيم منه الا أن يؤاجرها بالربع والثلث والنصف ، وأما بيع العصير مما يجعله خمرا فليس به بأس خذ نصيب اليتيم منه».

فإن الإجارة في الخبر لا يصح حملها على المعنى المعهود من هذا اللفظ فإنها لا تصح بالحصة من الحاصل ، وانما تصح بأجرة معلومة ، وبهذا عرفوا المزارعة كما تقدم بأنها معاملة على الأرض بحصة من الحاصل ، قالوا : والمعاملة تشمل الإجارة والمساقات ولكن خرجت الإجارة بقيد الحصة من الحاصل ، لأنها انما تصح بأجرة معلومة ، وخرجت المساقات بالأرض ، فإنها معاملة على الأصول بحصة من حاصلها ، وحينئذ فلا إشكال في حمل حسنة الحلبي على المزارعة ، كما ذكرنا بقرينة الروايتين المذكورتين كما عرفت.

بقي في المقام ما رواه لصدوق (رحمة الله عليه) في العلل عن إسماعيل بن مرار (١) «عن أبى جعفر وأبى عبد الله (عليهما‌السلام) أنهما سئلا ما العلة التي من أجلها لا يجوز أن تؤاجر الأرض بالطعام ، وتؤاجرها بالذهب والفضة؟ قال : العلة في ذلك ان الذي يخرج منها حنطة وشعير ، ولا يجوز إجارة حنطة بحنطة ، ولا شعير بشعير».

وهذا الخبر وان كان ظاهره مما يؤيد ما ذكره ابن البراج لإطلاقه الا أنه يجب تقييده بما عرفت من خبري الفضيل وأبى بردة ، لدلالتهما كما تقدم على الجواز ، بما إذا لم يكن من الأرض.

ويؤيد ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بصير (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تؤاجر الأرض بالحنطة ولا بالشعير ولا بالتمر ولا بالأربعاء

__________________

(١) العلل ص ٥١٨ باب ٢٩١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٦.


ولا بالنطاف ولكن بالذهب والفضة ، لأن الذهب والفضة مضمون ، وهذا ليس بمضمون».

والتقريب فيهما أن عدم المضمونية في الحنطة والشعير هنا انما يتجه فيما إذا كان مال الإجارة من حاصل تلك الأرض ، فإنه يجوز أن لا يخرج منها شي‌ء ، بخلاف الذهب والفضة الثابتين في الذمة بمجرد العقد ، والحنطة والشعير الخارجان عن الحاصل في حكم الذهب والفضة في صحة المضمونية أيضا ، فلا وجه لإدخالهما فيما لا يكون مضمونا والله العالم ، وبالجملة فالأقرب هو القول المشهور ، لما عرفت والله العالم.

الثاني ـ هل يجوز أن يستأجر الأرض بحنطة منها أم لا؟ ظاهر المشهور التحريم ، استنادا إلى روايتي الفضيل وأبى بردة المتقدمتين ، بل لا أعلم قائلا بخلافه صريحا.

وقال في الشرائع : ويكره إجارة أرض للزراعة بالحنطة والشعير مما يخرج منها والمنع أشبه ، ووجه القول بالجواز وان كان على كراهة عدم صراحة الروايتين في التحريم ، لأن غاية ما يدلان عليه ، انه لا خير فيه ، وهو انما يشعر بالكراهة ، وعلل القول بالمنع أيضا بأن خروج ذلك القدر منها غير معلوم ، فربما لا يخرج منها شي‌ء أو يخرج بغير ذلك الوصف ، ومن ثم لم يجز السلم في حنطة من قراح معين لذلك. وأجيب بأنه على إطلاقه ممنوع ، إذ ربما كانت الأرض واسعة لا تحبس بذلك القدر عادة فلا يتم إطلاق المنع.

أقول : الظاهر هو القول المشهور ، أما على القول بالتحريم في المسئلة المتقدمة كما نقل عن ابن البراج فظاهر ، وأما على القول بالجواز ثمة فلظاهر الخبرين المذكورين المؤيد بحسنة الوشاء المتقدمة الصريحة في التحريم إذا كان من حاصلها وموردها ، وان كان البيع وما نحن فيه انما هو الإجارة ، الا أن الظاهر أن الوجه الجامع الذي أوجب البطلان في الكل من حيث عدم صحة المعاوضة بما كان من الحاصل في بيع كان أو


إجارة لخروج ذلك عن الشروط المعتبرة في ثمن المبيع ومال الإجارة من معلومية حصوله وكميته عددا أو كيلا أو وزنا وقد عرفت ان ما كان من الأرض غير مضمون ، ولا ثابت في الذمة ولا هو معلوم الحصول كما عرفت وحينئذ فلا يجوز الإجارة به ولا البيع.

الثالث : لا خلاف بين الأصحاب في جواز إجارة الأرض وغيرها من الأعيان المستأجرة بأقل مما استأجرها به وبالمساوي وان لم يحدث فيها شيئا ، وكذا بأكثر مما استأجرها به إذا كان قد أحدث فيها عملا.

وانما الخلاف فيما لو استأجرها بالأكثر ولم يحدث فيها شيئا ، فقيل : بالتحريم ، وقيل : بالجواز على كراهة ، وبالأول قال الشيخان ، وهو ظاهر المرتضى واختيار سلار وابن الجنيد ، وبه قال الصدوق في المقنع وأبو الصلاح وابن البراج في المهذب ، وهو ظاهر العلامة في الإرشاد ، والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين ، وبالثاني قال : ابن إدريس والعلامة في المختلف والمحقق ، ونقله العلامة في المختلف عن والده واليه ذهب سلار في موضع آخر وابن البراج في الكامل ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف اختلاف الاخبار في المسئلة المذكورة ، ولا بأس بنقلها أولا ثم الكلام فيها بما وفق الله عزوجل لفهمه منها.

فمنها ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمهم‌الله) عن أبى الربيع الشامي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين فيؤاجرها بأكثر مما يتقبلها ، ويقوم فيها بحظ السلطان؟ قال : لا بأس به ، أن الأرض ليست مثل الأجير ، ولا مثل البيت ان فضل الأجير والبيت حرام».

ومنها ما رواه في التهذيب والكافي في الصحيح أو الحسن عن أبى المغراء (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يستأجر الأرض ثم يؤاجرها بأكثر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤٠ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٩ ح ٢ و ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤١ وص ٢٠٢ ح ٣٩ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٣ و ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ٤ و ٥.


مما استأجرها ، قال : لا بأس ان هذا ليس كالحانوت ، ولا كالأجير ، فإن فضل الحانوت والأجير حرام».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إبراهيم بن ميمون (١) «ان إبراهيم بن المثنى سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وهو يسمع عن الأرض يستأجرها الرجل ثم يؤاجرها بأكثر من ذلك ، قال : ليس به بأس ان الأرض ليست بمنزلة البيت والأجير ، ان فضل البيت حرام وان فضل الأجير حرام».

وهذه الروايات الثلاثة هي حجة المتأخرين على القول بالجواز ، الا أن ذلك انما هو في الأرض خاصة ، لأنها صريحة في التحريم بالنسبة إلى الأجير ، والبيت ، والحانوت ، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت في فرض المسئلة ، فلا تكون وافية بتمام المطلوب.

وينبغي أن يعلم أن تحريم الفضل بالنسبة الى هذه الثلاثة ليس على الإطلاق بل مخصوص بما إذا لم يعمل في ذلك عملا قبل أن يؤجره ، لما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : لو أن رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم ، فسكن «ثلثيها» وآجر ثلثها بعشرة لم تكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به الا أن يحدث فيها شيئا».

ورواه في الفقيه عن ابى الربيع (٣) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) لو أن رجلا» الحديث.

وعن الحلبي (٤) أيضا في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤١ وص ٢٠٢ ح ٣٩ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٣ و ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ٤ و ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ١ ولكن بدل «ثلثيها وثلثها» «بيتا منها» ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ذيل حديث ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٩ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٤.


في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها قال : لا يصلح ذلك الا أن يحدث فيها شيئا».

أقول : وعلى هذا فيكون الفرق في الروايات الثلاثة المتقدمة بين الأرض والثلاثة المعدودة فيها هو أنه يجوز إجارة الأرض بالأكثر ، أحدث فيها شيئا أم لم يحدث ، وفي الثلاثة المذكورة لا تجوز الا مع إحداث شي‌ء فيها.

وبه يظهر ما في الجمع بين هذه الاخبار وبين ما سيأتي مما يدل على التحريم مع إحداث شي‌ء فيها ، بتقييد إطلاق هذه الاخبار بتلك من الاشكال ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى ، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصلح له ذلك؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك ، فله ذلك قال : وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم ، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشي‌ء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ، ولا ينفق شيئا أو يؤاجر تلك الأرض قطعا قطعا على أن يعطيهم البذر والنفقة ، فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال : إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت».

ورواه في الفقيه مرسلا (٢) «قال سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣ و ٤.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦١ ح ٣ و ٤.


وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل الأرض بالثلث أو الربع فأقبلها بالنصف؟ قال : لا بأس ، قلت : فأتقبلها بألف درهم فأقبلها بألفين؟ قال : لا يجوز ، قلت : كيف جاز الأول ولم يجز الثاني ، قال : لان هذا مضمون وذاك غير مضمون».

قال الفاضل المحدث الأمين الأسترآبادي قوله «لان هذا مضمون» الى آخره أقول : يعنى في الصورة الأولى لم يضمن شيئا ، بل قال : ان حصل شي‌ء يكون ثلثه أو نصفه لك ، وفي الثانية ضمن شيئا معينا ، فعليه أن يعطيه ولو لم يحصل شي‌ء ، انتهى.

وهو جيد فان الغرض بيان علة الفرق واقعا وان لم يعلم سبب عليتها ، ولا يخفى على هذا أن ذكر الدراهم انما خرج مخرج التمثيل ، ويكون الغرض الفرق بين المزارعة والإجارة فإن المزارعة لا تصح إلا بالحصة الشائعة من نصف أو ثلث أو نحوهما ، بخلاف الإجارة ، فإنها لا تصح كذلك ، بل لا بد من كون مال الإجارة دنانير أو دراهم ، أو عروضا مضمونة أو منقودة.

وقال الفاضل المشهور بخليفة سلطان في حواشيه على الفقيه : المراد أن ما أحدث شيئا زائدا مما دفعت من الذهب والفضة فهو مضمون وأنت ضامن له يجب دفعه الى صاحبه ، فهو نقل للحكم ، لا بيان للحكمة ، ولا يخفى بعده ، وهذه الاخبار ونحوها ـ مما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ ظاهرة في عدم الجواز مطلقا الا مع القيود المذكورة فيها.

ولهذا ان الشيخ في الاستبصار بعد أن نقل الأخبار الثلاثة الأول قال : قال محمد بن الحسن : هذه الاخبار مطلق في جواز إجارة الأرض بأكثر مما استأجرها ، وينبغي أن يقيدها بأحد أشياء ، اما أن نقول يجوز له إجارتها إذا كان

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٤ ح ٤٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ١.


استأجرها بدراهم ودنانير معلومة أن يواجرها بالنصف أو الثلث أو الربع ، وان علم بأن ذلك أكثر يدل على ذلك ما رواه محمد بن يحيى ، ثم ساق رواية الهاشمي المتقدمة إلى آخر السؤال الأول خاصة ، وهو قوله فله ذلك ، ثم قال : والثاني أنه يجوز مثلا إذا استأجرها بالثلث والربع أن يوجرها بالنصف ، لان الفضل انما يحرم إذا كان استأجرها بدراهم ، وآجرها بأكثر منها ، وأما على هذا الوجه فلا بأس ، يدل على ذلك ما رواه أحمد بن محمد ، ثم ساق رواية الحلبي المتقدمة التي بعد رواية الهاشمي ، ثم أردفها بما رواه عن إسحاق بن عمار (١) في الموثق عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا تقبلت أرضا بذهب أو فضة فلا تقبلها بأكثر مما تقبلتها به ، وان تقبلتها بالنصف أو الثلث فلك أن تقبلها بأكثر مما تقبلتها به ، لان الذهب والفضة مضمونان». ومنها أنه انما جاز ذلك إذا أحدث فيها حدثا ، وأما قبل ذلك فلا ينبغي ذلك وهو الأحوط ، يدل على ذلك ما رواه محمد بن يحيى ، ثم ساق تتمة رواية الهاشمي من قوله : «وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة». الى آخرها ثم قال : ومنها أنه يجوز له أن يؤاجرها بعضا منها بأكثر من مال إجارة الأرض ويتصرف هو في الباقي من ذلك بجزء من ذلك وان قل.

يدل على ذلك ما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار فيكري نصفها بخمسة وتسعين دينارا ويعمر هو بقيتها قال : لا بأس». انتهى.

ونقل في التذكرة عن الشيخ أنه قال : لا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان ولا الجير بأكثر مما استأجره ، الا أن يؤجره بغير جنس الأجرة ، أو يحدث ما يقابل التفاوت ، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي بزيادة عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٢ ح ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٥ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٢ ح ١.


الأجرة والجنس واحد ، ويجوز بأكثرها لرواية الحلبي (١) عن الصادق (عليه‌السلام) «استأجر دارا بعشرة دراهم» الحديث كما قدمناه ، والظاهر أنه من أجل هذا النقل خص بعض مشايخنا المتأخرين خلاف الشيخ بهذه الثلاثة ، والذي يظهر من العلامة في المختلف أنه أعم ، حيث قال : قال الشيخان : إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به الا أن يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس الى آخره.

وكيف كان فالذي يظهر من تتبع الاخبار هو العموم ، وانما الإشكال في كون ذلك على جهة التحريم أو الكراهة ، أما العموم فقد عرفت من الروايات الثلاث المتقدمة أولا الدلالة على البيت والأجير والحانوت ، ومنها الدار كما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنته ، ومنها الأرض كما تقدم في رواية الهاشمي ورواية الحلبي التي بعدها وموثقة إسحاق بن عمار المذكورة في كلام الشيخ.

ومنها الرحا لما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (٢) قال : «قال : أبو عبد الله (عليه‌السلام) : انى لأكره أن استأجر رحا وحدها ثم أؤاجرها بأكثر مما استأجرتها به ، الا أن يحدث فيها حدثا أو يغرم فيها غرامة».

ومنها السفينة مع بعض ما تقدم لما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) ان أباه كان يقول : لا بأس بأن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إذا أصلح فيها شيئا».

ومنها العمل لما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (٤) في الصحيح عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٤ ح ٤٦ ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٩ ح ٤ وفيه عن سليمان بن خالد ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٣ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.


أحدهما (عليهما‌السلام) أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه ، قال : لا ، الا أن يكون قد عمل فيه شيئا».

وما رواه في التهذيب (١) عن أبي حمزة في الصحيح عن أبى جعفر (عليه‌السلام) الحديث المتقدم الى قوله «لا» ، ولم يذكر الاستثناء.

وما رواه المشايخ الثلاثة عن حكم الخياط (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه «بأقل» من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال : لا بأس بذلك ، ثم قال : لا بأس فيما تقبلته من عمل استفضلت فيه».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال : أليس تعمل فيها؟ قلت : أقطعها وأشترى لها الخيوط قال : لا بأس».

وما رواه في الكتابين المذكورين عن على الصائغ (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل العمل ثم أقبله من الغلمان يعملون معى بالثلثين؟ فقال لا يصلح ذلك الا أن تعالج معهم فيه ، قلت : فإني أذيبه لهم» «قال : فقال : ذلك عمل فلا بأس».

وما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (٥) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل؟ قال : لا بأس قد عمل فيه».

هذه جملة ما وقفت عليه من أخبار المسئلة ، وهذه الاخبار كلها متفقة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ٢.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٨ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٩ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٧.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٦ ، ٨ الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٥.


الدلالة واضحة المقالة على النهى عن الإجارة بأكثر مما يستأجره في كل شي‌ء الا أن يعمل فيه شيئا ، وإذا ضممت بعضها الى بعض ظهر لك العموم في الحكم فان ذكر هذه الأشياء المخصوصة في الاخبار انما هو من قبيل التمثيل. بمعنى أن كل فرد فرد من هذه الأفراد المذكورة ، سئل عن حكمه في الإجارة بأكثر مما استوجر عليه أجيب فيه بذلك ، والعموم كما يحصل بالأداة الموضوعة له ، كذا بتتبع الافراد والجزئيات على نحو القواعد النحوية المبتنية على تتبع أقوال العرب ، وظاهرها الاكتفاء بعمل ما ، وان قل ، فلا يشترط فيه المقاومة لما يأخذه زائدا ، ونظيره ما تقدم في الضمائم.

وأما وجه الاشكال فمن حيث دلالة الأخبار الثلاثة المتقدمة في صدر البحث على الجواز في الأرض ، وما ذكره المتأخرون في الجمع بينها وبين هذه الاخبار من حمل هذه الاخبار على الكراهة ، قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير مقام من البحث معهم في هذه القاعدة التي بنوا عليها في جميع أبواب الفقه من الجمع بين الاخبار بحمل الأمر على الاستحباب ، والنهى على الكراهة.

على أن بعض هذه الاخبار المذكورة قد اشتمل على ما هو صريح في التحريم ، مثل قوله (عليه‌السلام) في رواية الحلبي فيمن تقبل الأرض بألف وقبلها بألفين «لا يجوز» ، وقوله (عليه‌السلام) في الروايات الثلاثة المتقدمة في صدر البحث وفيها «ان فضل الأجير والبيت والحانوت حرام» :

وبذلك يظهر ضعف ما استند اليه بعض محققي متأخري المتأخرين في تأييد الكراهة بقوله (عليه‌السلام) في رواية أبي بصير الواردة في الرحى «أنه لأكره أن استأجرها» فإن فيه ان استعمال الكراهة في الاخبار بمعنى التحريم أكثر كثير ، واستعمالها في هذا المعنى العرفي انما هو اصطلاح متأخر.

وبالجملة فإن المتأمل في ما ذكرناه سيما مع تصريح الاخبار بالتحريم لا يخفى عليه ضعف الحمل المذكور.


وأما الجمع بتقييد إطلاق الاخبار الثلاثة ـ بما دلت عليه هذه الاخبار من عمل شي‌ء قبل الإجارة كما ذهب اليه الشيخ وجمع من الأصحاب فمعنى نفى البأس عن إجارة الأرض بأكثر مما استأجرها التقييد بما إذا عمل فيها شيئا.

ففيه ما أشرنا إليه آنفا من أن التحريم في البيت والأجير والحانوت انما هو مع عدم احداث عمل ، وأما مع احداث العمل فالفضل ليس بحرام ، بل هو جائز ، واى فرق على هذا بين الأرض وهذه الثلاثة ، حتى أنه يقول : في تلك الاخبار ان الأرض ليست كالأجير والبيت ، والعجب من أصحابنا حيث لم يتنبه منهم أحد لذلك ، والإجماع قائم منهم على أنه مع احداث عمل فإنه يجوز.

وبالجملة فإنه متى قيد التحريم في الثلاثة المذكورة بعدم إحداث شي‌ء كما أوضحناه سابقا ، وقيد الجواز في الأرض بما إذا أحدث فيها شيئا كما ذكروه رجع الجميع إلى أمر واحد ، ولم يبق فرق مع أن ظاهر الاخبار المذكورة أنها ليست سواء ، وهذا انما يتجه على تقدير جواز إجارة الأرض مع الفضل وان لم يحدث فيها شيئا ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، وان لم يتنبه أحد من الأصحاب اليه.

وأما باقي محامل الشيخ التي تكلفها في كتاب الاستبصار كما قدمنا نقله عنه فإنها لا تخلو من اشكال ، وان لم أقف على من تنبه له من علمائنا الأبدال.

أما الأول وهو أن يستأجرها بدراهم ودنانير ويجوز له مؤاجرتها بالنصف والثلث والربع وان علم أن ذلك أكثر ، فهو وان دل عليه الخبر الذي ذكره الا أنه لا يخلو من الاشكال ، لدلالته على جواز الإجارة بالحصة من نصف أو ثلث ونحوهما ، وهو مما لا قائل به ، وقد تقدم في الفائدة الخامسة من الفوائد المتقدمة التنبيه على ذلك ، على أن الخبر المذكور قد دل مع ذلك على التقييد بما إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم ، وبذلك ترجع الرواية إلى غيرها من الروايات الدالة على التقييد بعمل شي‌ء ، وترجع الى ما ذكرناه من التأويل المتقدم ،


وبه يظهر أن هذا الحمل ليس بشي‌ء ، لرجوعه من حيث التقييد الى الحمل الأخر.

وأما الحمل الثاني وهو أن يستأجرها بالثلث والربع ويؤجرها بالنصف ، فهو أيضا وان دل عليه الخبران المذكوران ، الا أن ما ذكرنا من الاشكال المتقدم جار فيهما ، فإن الإجارة لا تصح بالحصة كما عرفت ، وان حمل الخبران على المزارعة فإنها هي التي يصح فيها ذلك ، خرجا عن موضع البحث ، فلا يصح الاستدلال بهما كما لا يخفى.

وأما الحمل الثالث ـ فقد عرفت الكلام فيه ، وأما الحمل الرابع ففيه انه لا يظهر بهذا فرق بين الأرض وبين تلك الثلاثة المعدودة في تلك الأخبار ، فان كلا منهما متى عمل به كذلك صح ، أرضا كان أو بيتا أو غيرهما ، وأنت قد عرفت دلالة الأخبار الثلاثة على أنه ليست الأرض مثل تلك الثلاثة في حد الزائد ، وجواز المؤاجرة به ، بمعنى أنه يحل في الأرض دون تلك الثلاثة.

وما ذكره في هذا الحمل مشترك في الجميع ، فأي معنى في الجمع به بين تلك الاخبار ، وبما أوضحناه من بطلان هذه المحامل من كل من الطرفين تبقى المسئلة في قالب الإشكال ، فإن الروايات الثلاثة المتقدمة ظاهرة في جواز الزيادة في مؤاجرة الأرض وان لم يحدث شيئا ، وما عداها من الاخبار الكثيرة ظاهر في المنع ، وبعضها كما عرفت صريح في التحريم ، ولا يحضرني الان مذهب العامة في هذه المسئلة ، فلعل أخبار أحد الطرفين انما خرج مخرج التقية والله العالم.

الثاني من الشروط الثلاثة المتقدم ذكرها تعيين المدة ، وهو المشهور في كلام الأصحاب ، وفيه وجه بالعدم ، قال المحقق في الشرائع : ولو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدة فوجهان : أحدهما يصح ، لان لكل زرع أمدا فيبني على العادة كالقراض ، والأخر يبطل كالإجارة وهو أشبه.

قال في المسالك : الأقوى اشتراط تعيين المدة على الوجه السابق ، لان مقتضى العقد اللازم ضبط أجله ، والفرق بينها وبين القراض واضح ، لانه عقد


جائز لا فائدة في ضبط أجل له لو شرط ، لجواز الرجوع قبله ، بخلاف المزارعة فكان إلحاقها بالإجارة أشبه.

أقول : لم أظفر في الاخبار بما يدل صريحا على اشتراط المدة في هذه المعاملة ، واليه يشير هنا الاستناد في الاشتراط إلى الإلحاق بالإجارة ، وفي العدم إلى الإلحاق بالقراض ، ولو كان هنا دليل من الاخبار لم يحتج إلى الإلحاق بالإجارة ، ومجرد كونه عقدا لازما كما ذكره في المسالك مع تسليمه لا يستلزم المدة ، لما علم من أن الغرض المترتب عليه حصول الحصة المشترطة ، فيناط حينئذ بالأمد المتعارف لذلك الزرع ، وحصول الحصة المشترطة ، وأى مانع من ذلك فاشتراط ما زاد على ذلك يحتاج الى دليل واضح.

وربما استدل على اعتبار الأجل فيها بما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «وسألته عن الرجل يعطى الرجل الأرض فيقول : اعمرها وهي لك ثلاث سنين أو خمس سنين أو ما شاء الله؟ قال لا بأس».

ورواه الصدوق والشيخ نحوه وعن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا بأس بقبالة الأرض من أهلها عشرين سنة ، وأقل من ذلك أو أكثر ، فيعمرها ويؤدى ما خرج عليها ، ولا يدخل العلوج في شي‌ء من القبالة ، فإنه لا يحل».

وبهذا الاسناد (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام)؟ قال : ان القبالة أن يأتي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ج ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٩ ح ٢٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٩ ح ٣ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢١٩ ح ٣.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٧ ح ٢٠ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ ح ٢.


الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقل من ذلك ، أو أكثر فيعمرها ويؤدى ما خرج عليها فلا بأس به».

وما رواه الشيخ عن الحلبي (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «أنه قال : في القبالة أن يأتي الرجل الأرض الخربة فيتقبلها من أهلها عشرين سنة ، فان كانت عامرة فيها علوج فلا يحل له قبالتها ، الا أن يتقبل أرضها فيستأجرها من أهلها ولا يدخل العلوج في شي‌ء من القبالة فإنه لا يحل».

وعن أبى الربيع الشامي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبلها فأي وجوه القبالة أحل؟ قال : يتقبل الأرض من أربابها بشي‌ء معلوم الى سنين مسماة فيعمر ويؤدى الخراج ، قال : فان كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالة الأرض ، فإن ذلك لا يحل».

وأنت خبير بما فيه ، فان غاية ما يدل عليه ما عدا الخبر الأخير هو أن مالك الأرض يعطى أرضه شخصا آخر ليعمرها ، ويأكل حاصلها ويؤدى خراجها كما هو صريح الخبر الأول ، وان عبر عن ذلك في غيره بلفظ القبالة ، ولهذا قال المحدث الأمين الأسترآبادي في حاشية له على صحيحة الحلبي الثانية : وقوله فيها «ان القبالة أن يأتي الأرض» الى آخره كأنه إشارة إلى قبالة متعارفة في بلد الراوي أو بلده وليس المقصود حصر القبالة في ذلك انتهى.

وقال شيخنا المجلسي في حواشيه على صحيحة الحلبي الأولى : كأنه استأجره لإعمال معلومة ، من تنقية القنوات وكرى الأنهار ، والعمل في الأرض وغيرها ، وجعل وجه الإجارة منفعة الأرض أو أجرة مثلها ، ولما كان بعقد القبالة لا تضر الجهالة ، ويمكن حمله على الجعالة.

وقال والده في حاشية له على صحيحة يعقوب بن شعيب : يمكن حمله على الجعالة في العمل بحاصل الملك ، فلا تضر الجهالة أو على أن يؤجره الأرض

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠١ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠١ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٤ ح ٥.


بشي‌ء ثم يستأجره للعمل بذلك الشي‌ء والأول أظهر انتهى.

وأنت خبير بأنه حيث كان ظاهر الاخبار المذكورة ما قدمناه من إعطاء الأرض تلك المدة ليعمرها ، ويأكل حاصلها وهذا بحسب ظاهره غير منطبق على شي‌ء من المعاملات الموجبة لحل أكل حاصل الأرض المذكورة ، فتارة حملوه على الجعالة من حيث عدم صحة حمله على الإجارة ، لجهالة الأجرة وعدم معلوميتها ، ومنهم من جعلها معاملة متعارفة كانت في ذلك الزمان ونحو ذلك من هذه التكلفات التي ذكروها ، وكيف كان فهي من الدلالة على ما ادعاه هذا القائل بمعزل.

وأما الأخير من الاخبار المذكورة فإنه ظاهر في الإجارة فلا اشكال فيه ، وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا في هذه المسئلة على اشتراط الأجل في المزارعة ، ولا موجبا لفسادها بدونه ، الا مجرد ظاهر اتفاقهم على الحكم المذكور ، وما علل به في المسالك قد عرفت ما فيه ، على أن في دعوى كونها عقدا على الوجه الذي تقدم نقله عنه في صدر الكتاب مناقشة ظاهرة قد تقدمت الإشارة إليها.

وغاية ما يفهم من الاخبار وقوع التراضي من الطرفين على المزارعة بالنصف أو الثلث أو نحوهما على حسب ما يتفقان عليه من البذر والعوامل والخراج عليهما معا ، أو على أحدهما ، أو بالتفريق ، والأرض من أيهما كان.

فمن الاخبار في هذا المقام رواية إبراهيم الكرخي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أشارك العلج ، فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ، ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا ويكون القسمة فيأخذ السلطان حقه ، ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ، ولي الباقي ، قال : لا بأس بذلك ، قلت : فلي عليه أن يرد على مما أخرجت الأرض البذر ويقسم الباقي قال : انما شاركته على ان البذر من عندك ، وعليه السقي والقيام.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ١.


وعن يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض» الخبر.

وقد تقدم في الفائدة الثالثة من الفوائد المذكورة في صدر الكتاب وعن يعقوب بن شعيب (٢) في خبر قال : وسألته عن المزارعة؟ قال : النفقة منك والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله تعالى منها قسم على الشرط ، وكذلك أعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أهل خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إياها على أن يعمروها ، ولهم النصف.

وعن سماعة (٣) في الموثق «قال سألته عن مزارعة المسلم المشرك فيكون من عند المسلم البذر والبقر ، وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج؟ قال : لا بأس». الى غير ذلك من الاخبار التي من هذا القبيل ، وليست المزارعة فيها إلا عبارة عن تراضيهما على هذه الوجوه بأي نحو اتفق ، ولا عقد كما يدعونه ولا صيغة خاصة بالكلية ، وليس في شي‌ء منها على كثرتها إشارة إلى أجل ولا مدة ، بل المناط فيها ادراك الحاصل كما يشير اليه قوله في رواية الكرخي (٤) «حتى يصير حنطة وشعيرا». بقي الكلام في أنه لو ذكرت المدة في العقد مع كونها كما عرفت لا دليل عليها ، فهل يترتب عليها أثر أم تكون لغوا من القول؟ ووجوده كعدمه ، الظاهر الثاني والله العالم.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور :

الأول ـ هل يعتبر في المدة المذكورة امتدادها إلى إدراك الزراعة علما أو ظنا غالبا ، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد أم لا؟ ظاهر إطلاق جملة من عبارات الأصحاب الثاني ، ومنهم المحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد وصريح جملة منهم الأول ، واستشكل في القواعد.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ١.


قال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشار إليها : مقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق مع ضبط المدة بين كونها وافية بإدراك الزرع فيها وقاصرة ومحتملة وهو أحد الوجهين في المسئلة ، والأقوى اعتبار مدة يدرك فيها الزرع علما أو ظنا غالبا ، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد ، لان الغرض في المزارعة هو الحصة من النماء ، فإذا لم يتحقق في المدة غالبا بقي العقد بلا عوض ، وانه خلاف وضع المزارعة ، والاعتذار بإمكان التراضي بعد ذلك على بقائه لا ينفع لأن التراضي غير لازم ، فلا يعلق عليه شرط لازم ، انتهى.

أقول : وقد عرفت أنه لا دليل على اشتراط المدة في المزارعة ، وانما الظاهر من الاخبار التي قدمناها ونحوها هو اناطة ذلك بإدراك الحاصل ، بمعنى أن يتراضيا على المعاملة المذكورة بالشروط المقررة بينهما ، والعمل فيها حتى يدرك الحاصل ويقتسماه ، فان الغرض من المزارعة انما هو تحصيل الحاصل منها لكل من المالك والمزارع ، فيأخذ المزارع حصته ويأخذ المالك حصته الباقي ، وحينئذ فلو فرضنا قيام دليل على اشتراط الأجل فيها ، فإنه لا معنى لجعله أقل من وقت ادراك الحاصل ، فالقول به أو الاستشكال من أجله لا أعرف له وجها بالكلية.

الثاني ـ انهم قالوا : بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط المدة في العقد المذكور لو مضت المدة والزرع باق بأن ذكر مدة يظن الإدراك فيها فلم يحصل ، فهل لمالك الأرض إزالته أو ليس له ذلك ، أو له الإزالة مع ضمان الأرش أقوال ثلاثة ، قالوا : وجه الأول انقضاء المدة التي يستحق عليه فيها التبقية ، والأصل تسلط المالك على ملكه كيف شاء ، ولان الزارع بعد المدة لا حق له ، فيكون إبقاءه بدون اذن المالك ظلما.

ووجه الثاني أنه قد حصل في الأرض بحق فلم يكن للمالك قلعه : ولان للزرع أمدا معينا غير دائم الثبات ، فإذا اتفق الخلل لا يسقط حق الزارع كما لو استأجر مدة للزرع فانقضت قبل إدراكه.


ووجه الثالث الجمع بين الحقين ، وأورد عليه بأنه يشكل فيما لو كان التأخير بتقصير الزارع.

وبالأول صرح المحقق في الشرائع ، واختاره في المسالك ، قال : وما اختاره المصنف أقوى ، لزوال حق الزارع بانقضاء المدة ، فلا أرش له ولا استحقاق وهو جيد لو ثبت دليل على اعتبار المدة.

ويا لله والعجب أنه إذا كان الغرض من المزارعة انما هو الحاصل من الزرع والانتفاع به ، فلو فرضنا أن مالك الأرض هو صاحب القسط الأعظم من الحاصل وصاحب الحصة انما هو العلج مثلا وانقضت المدة قبل الإدراك كما فرضوه فكيف يقدم المالك على ضرر نفسه بقلع الزرع ، ويتصور النزاع بينه وبين العلج في ذلك ، ويترتب عليه هذا الخلاف ، واين هذا من ذلك الغرض الباعث على المزارعة وخسران ما صرفوه من بذر وعوامل وعمل ونحو ذلك ، وهل يتصور في عقل عاقل القدوم على مثل ذلك والحال كما عرفت.

وكيف كان فان البناء على هذه التعليلات التي ذكروها لكل من هذه الأقوال بمحل من الاشكال ، لما عرفت في غير مقام مما تقدم ، والمسئلة غير خالية من الاشكال والالتباس ، خصوصا لما عرفت من عدم البناء فيها على أساس.

نعم لو جعل هذا الخلاف بعد إدراك الغلة لكان أقرب الى الصواب وعلى تقديره فالأظهر هو القول الأول من الأقوال المتقدمة ، قيل : وعلى تقدير القول الأول فينبغي أولا تكليف المزارع بالإزالة ، والا فرفع الأمر إلى الحاكم ثم بعد تعذره مباشرة المالك بنفسه.

واختار في القواعد أن للمالك الإزالة مع الأرش ، أو التبقية بأجرة للمالك ، وحينئذ يصير هذا قولا رابعا في المسئلة وأورد عليه بأنه يلزم منه إيجاب عوض في ذمة المزارع بدون رضاه ، وذلك غير معقول.

ثم انه على تقدير جواز القلع بأرش أولا به ، فالمقلوع مشترك بينهما بناء


على أن الزارع يملك الحصة ، وان لم ينعقد الحب ، خلافا لابن زهرة.

ثم انه على تقدير ثبوت الأرش بقلعه قال في المسالك : طريق تحصيله أن يقوم الزرع قائما بالأجرة إلى أو ان حصاده ومقلوعا ، ثم انه على تقدير القول الأول لو اتفقا معا على التبقية ، جاز بعوض كان أم لا ، الا أنه متى كان بعوض افتقر في لزومه الى تعيين مدة زائدة.

وعلى تقدير القول الثاني وهو القول بوجوب إبقائه فهل تجب الأجرة أم لا؟ قولان : أولهما للعلامة في التذكرة ، وثانيهما له أيضا في القواعد ، قالوا : وعلى تقدير اتفاقهما على البقاء بأجرة تكون إجارة الأرض حقيقة ، لانقضاء مدة المزارعة ، فلا بد من ضبط المدة كالإجارة ، فإن جاز الإطلاق في المزارعة فلو لم يضبطاها أو اتفقا على الإبقاء بالأجرة ، وأطلقا وجب أجرة المثل.

الثالث ـ قالوا : إذا عقد المزارعة إلى مدة معينة فشرط في متن العقد تأخير الزرع الى أن يدرك أو الى مدة أخرى أن بقي الزرع بعد المدة المشترطة غير مدرك بطل العقد ، لانه يعود إلى الجهالة في المدة ، لأن المدة في الحقيقة تصير هي المجموع مما وقع عليه الشرط ، ومما عين أولا في متن العقد ، والذي عين في متن العقد ، وان كان مدة مضبوطة الا أن المذكورة في الشرط مجهولة وشرطها في متن العقد من جملة العوض ، فإذا تضمن جهالة بطل العقد ، كما لو كان جميع المدة مجهولا.

ويحتمل على هذا القول صحة الشرط المذكورة ، وان تضمن الجهالة ، لأن المدة المذكورة في العقد مضبوطة ، وما تضمنه الشرط انما هو من قبيل التابع ، ذكر احتياطا ، لاحتمال الحاجة ، وجهالة التابع غير مضر ، كما تقدم نظيره في الضمائم الا أن المشهور بينهم هناك هو البطلان متى كان المقصود بالبيع الجميع ، وانما يصح عندهم فيما إذا كان المقصود المعلوم ، وجعل المجهول تابعا وقد بينا ضعفه ثمة ومن هنا رجح في المسالك القول الأول بناء على ما اختاره هناك من القول المشهور.


الرابع ـ من فروع اعتبار المدة في هذا العقد ما لو ترك العامل المزارعة حتى انقضت المدة ، فإنه تلزمه أجرة المثل ، كما لو استأجرها مدة معلومة ، فإنه تلزمه الأجرة ، لأن منفعتها قد صارت مستحقة له ، حيث لا يتمكن المالك من استيفاءها ، وقد فوتها عليه فتلزمه الأجرة لذلك.

والأكثر على أنه لا فرق في لزوم أجرة المثل للمزارع بين تركه العمل والانتفاع بالأرض اختيارا أو غيره ، وقيل : بالفرق بين الأمرين ، لعدم التقصير على تقدير الثاني ، ومقتضى العقد لزوم الحصة خاصة ، ولم يحصل منه تقصير في عدم حصولها يوجب الانتقال الى ما لا يقتضيه العقد ، وهو أجرة المثل الذي ذكروه.

أقول : ويأتي على ما ذكرناه : من عدم دليل على اعتبار التأجيل في هذه المعاملة وعدم اعتبار المدة فيها وان ذكرها في حكم العدم هو عدم لزوم شي‌ء للعامل ، لأصالة براءة الذمة ، والفرق بينهما وبين الإجارة ظاهر ، لأنه بالإجارة ينتقل المنفعة إلى المستأجر ، وترتفع يد المالك عن الأرض بالكلية تلك المدة ، فتلزمه الأجرة بلا اشكال بالتقريب المتقدم.

وعلى ذلك دلت جملة من الاخبار الاتية ـ إنشاء الله تعالى ـ في كتاب الإجارة بخلاف ما نحن فيه ، فان للمالك متى لم يزرع فيها العامل فسخ العقد ودفعها الى غيره ، ومنفعة الأرض لم تنتقل له بالعقد ، وانما هي مشتركة مع العمل فيها ، وللعامل الحصة المقررة ، فإذا أخل بالعمل فيها كما لو شرط عليه فللمالك فسخه ، بل الظاهر انفساخ العقد بنفسه والله العالم.

الثالث ـ من الشروط الثلاثة المشار إليها آنفا أن يكون الأرض مما يمكن الانتفاع بها في الزرع ، بأن تكون من أرض الزراعة ، وأن يكون لها ماء معتاد تسقى به من نهر أو بئر أو عين أو نحوها ، ومن ذلك الأرض في بلد تسقيها الغيوث والأمطار عادة ، وكثير منهم حصر والماء في الافراد السابقة. وذكروا الغيوث في مسئلة على حدة ، والحق أن الجميع من باب واحد ، لان المراد أن يكون


الماء ماء يعتاد سقيها به ، أعم من أن يكون من الله تعالى أو من جهة العمال فيها ، بحفر السواقي والأنهار ، والضابط إمكان الانتفاع بها في الزراعة ، فلو لم يكن كذلك بطلت المزارعة.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ قال العلامة في القواعد بعد ذكر الشرط المذكور : ولو زارعها أو آجرها له ولا ماء لها تخير العامل مع الجهالة لا مع العلم ، لكن في الأجرة يثبت المسمى ، وهو ظاهر في صحة المزارعة مع علمه بعدم الماء ، وأما مع الجهل فيتخير بين الرضا بالعقد وفسخه ، ومرجعه الى اللزوم مع العلم وعدم اللزوم مع الجهل ، دون البطلان في شي‌ء من الموضعين ، ففي صورة العلم لا خيار له حيث أقدم على ذلك ، بخلاف صورة الجهل ، فيكون له الخيار ، ويأتي بناء على ما قدمناه من البطلان في الموضعين لفوات الشرط الذي هو إمكان الانتفاع ، وهو الأقوى بالنظر الى قواعدهم.

وربما حمل كلام العلامة هنا على أنه متى أمكن الانتفاع بتلك الأرض في غير المزارعة التي تحتاج الى الماء ، فإنه يجوز أن يزرع ما لا يحتاج الى الماء فعدم الماء لا يستلزم عدم إمكان الانتفاع ، مع القول باشتراط إمكان الانتفاع بغير الزرع إذا تعذر ، ولا يخفى تعسفه ، فان الظاهر من الاخبار وكلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن المزارعة المبحوث عنه في هذا المقام انما هي عبارة عن زرع ما يتوقف على الماء من حنطة وشعير وأرز ونحوها من الحبوب ، على انا لا نعرف هنا زرعا يقوم بغير الماء بالكلية.

وربما حمل كلامه أيضا على أن المراد لا ماء لها غالبا ، لا أنه لا ماء لها أصلا ويؤيده تصريحه بذلك في التذكرة حيث نقل عنه فيها التردد فيما لو كان لها ماء نادرا هل يصح المزارعة عليها أم لا ، ومنشأ التردد من عدم التمكن من إيقاع ما وقع عليه العقد بالنظر الى الغالب ، ومن إمكان الزرع ولو نادرا ، وهو وان كان أقل تعسفا من الأول ، الا أن الظاهر ضعف المبنى عليه ، وان تردد


فيه في التذكرة ، لما عرفت في غير مقام مما تقدم أن الأحكام المودعة في الاخبار انما تحمل على الافراد الشائعة الغالبة المتكثرة ، دون الشاذة النادرة.

وما ذكره العلامة في القواعد من هذا الحكم المتقدم نقله عنه قد سبقه اليه المحقق في الشرائع أيضا مع أنهما معا قد ذكرا قبل هذا الكلام الشرط المشار اليه ، وقد عرفت أن قضية الشرط المذكور بطلان المزارعة مع عدمه.

وبالجملة فإن كلامهما هنا مع ما عرفت لا يخلو من الإشكال.

الثاني ـ حيث قد عرفت أن إمكان الانتفاع شرط في صحة المزارعة ، وأنها بدونه تكون باطلة ، فلو وجد الشرط المذكور ثم تجدد انقطاع الماء فمقتضى القواعد بطلان العقد ، لفوات الشرط في المدة الباقية ، فإن الظاهر شرطيته ابتداء واستدامة ليترتب عليه الغرض المطلوب من المزارعة ، الا أن ظاهر المحقق والعلامة الصحة ، وان للزارع الخيار ، حيث أطلقا القول بعدم البطلان ، وانما حكما بتسلطه على الفسخ.

قيل : وكأنهما نظرا إلى صحة العقد ابتداء ، فتستصحب والضرر اللاحق للمزارع بانقطاع الماء ينجبر بتسلطه على الفسخ ، والظاهر ضعفه ، لعدم حجية الاستصحاب على هذا الوجه كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب في صدر جلد كتاب الطهارة (١).

الثالث ـ ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث والخلاف مخصوص بالمزارعة ، وكذا الإجارة بشرط الزراعة ، لاشتراكهما في المعنى ، أما لو استأجرها مطلقا ولم يشترط الزراعة فإنهم قد صرحوا هنا بصحة الإجارة ، لإمكان الانتفاع بها بغير الزراعة ، فليس له الفسخ حينئذ ، والظاهر أن هذا الحكم مخصوص بالجاهل بكون الأرض لا ماء لها ، والا فإنه متى علم أنه لا ماء لها ، واستأجرها مع علمه بذلك فإنه لا معنى لتخييره ، بل اما أن يكون العقد باطلا ، أو صحيحا ، والوجه حينئذ

__________________

(١) ج ١ ص ٥٢.


في صحة الإجارة مع الجهل ، وعدم جواز الفسخ متى علم أنه استأجرها مطلقا لا بشرط الزراعة ، ووجوه الانتفاعات لا تختص بالزراعة بخصوصها ، لأنها نوع من أنواع الانتفاعات ، فإنه يمكن الانتفاع بها في وضع المتاع ، وكونها مراحا ومسرحا وغير ذلك ، كذا ذكروه.

ويشكل بأنه متى كانت الأرض إنما أعدت للزراعة ، وأن الغالب عليها انما هو الاستعمال والانتفاع بها في الزرع لا في غيره ، وقد عرفت في غير موضع مما تقدم أن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الغالبة المتكررة ، فالحكم بالصحة واللزوم والحال هذه مشكل ، فيحتمل تسلطه على الفسخ حملا على المعتاد والغالب.

الرابع ـ قد عرفت من مذهبي المحقق والعلامة أن للمزارع والمستأجر الفسخ في المسألتين المتقدمتين ، قالوا : فلو فسخ فعليه في المزارعة أجرة ما سلف ، وعليه المسمى في الإجارة ، والوجه فيه أن كلا من المزارع والمستأجر فسخ العقد باختياره ، فبطل العقد بفعله ، ولم تحصل الحصة المعينة في المزارعة ، والأرض لا بد لها من أجرة ، فعليه في المزارعة أجرة ما مضى من الزمان قبل الفسخ ، والمسمى بالنسبة إلى الإجارة ، ويشكل بأن الفسخ انما وقع بسبب انقطاع الماء الذي هو شرط لوجود الحصة ، وصحة الإجارة.

وبالجملة فإن إثبات ما ذكروه يحتاج الى دليل ، والا فالأصل عدمه ، هذا ان فسخ ، وان لم يفسخ فان حصل شي‌ء فهو لهما ، والا لم يكن لأحدهما على الأخر شي‌ء ، وهو ظاهر والله العالم.

المقام الثاني في الأحكام

وفيه مسائل المسألة الأولى ـ قالوا : لا يخلو الحال في المزارعة من أمرين أحدهما ـ أن يطلق المزارعة على المشهور فله أن يزرع ما شاء ، والظاهر ان


المراد بالإطلاق هنا ما قابل التعيين ، سواء كان ما يدل على العموم وضعا من الألفاظ الموضوعة له ، أو ما يدل على الفرد المنتشر وضعا ، وعلى التقديرين فإنه ظاهر في جواز أن تزرع ما شاء سواء أضر بالأرض أم لا.

أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلان تجويز فرد منتشر تجويز لكل واحد بدلا من الأخر ، ولهذا أن الأمر بالكلي أمر بواحد أى واحد كان من أفراد الماهية ، بمعنى براءة الذمة والإتيان بالمأمور به بأي فرد فعل ، والا لزم الإجمال والتكليف بالمحال.

واستشكل بعض محققي متأخري المتأخرين في صحة هذا العقد ، قال : لاشتماله على الغرر ، كما يمنع بعتك هذا بما تريد ، أو بأي شي‌ء تعطى ، ثم قال : وقد يفرق بالنص والإجماع ، وبأنه لا شك في جواز زراعة ما هو الأضر للمالك ، فله أن يعطيه غيره أن يفعل ذلك له بأجرة وغيرها انتهى.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قوى وجوب التعيين لتفاوت ضرر الأرض ، باختلاف جنس المزروعات فيلزم بتركه الغرر ، وهو الذي أشار إليه المحقق المذكور في صدر كلامه.

لكنه قد أورد عليه أيضا بأنه منظور فيه بدخول المالك وقدومه على أضر الأنواع من حيث دخوله في الإطلاق المستلزم لذلك ، فلا غرر حينئذ ، وكيف كان فالأقرب القول المشهور.

ثم ان ما ذكروه من العبارة التي صدرنا بها الكلام لا يخلو من حزازة ، فإن الظاهر أن ضمير يزرع في قوله فله أن يزرع ، ما شاء راجع الى العامل الزارع وهو انما يتم لو كان البذر من عنده ، أما لو كان من عند المالك فالتخيير يرجع اليه ، لا الى الزارع.

وثانيهما أن تعين العين المراد زرعها تعينا نوعيا كالحنطة ، أو شخصيا كهذه الحنطة ، أو صنفيا كالحنطة الفلانية ، سواء كان ما عدل إليه أضر مما عين


في العقد ، أو أقل ضررا ، أو مساويا ، فإن قضية التعيين والاشتراط هو عدم جواز التعدي لما عين مطلقا ، ولو خالف فمقتضى كلام جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الأردبيلي هو أن للمالك أجرة المثل.

قال المحقق المذكور : لا شك في انه يلزمه أجرة المثل على تقدير التعدي ، وينفسخ العقد ، الا أن تكون مدة الانتفاع باقية ، لانه قد ضيع منفعة الأرض بغير اذنه ، فيلزمه عوضها ، وهو أجرة المثل كما في غيرهما انتهى.

ومقتضى كلام المحقق والعلامة التخيير بمعنى أنه يتخير مالك الأرض في فسخ العقد وأخذ أجرة المثل وعدمه ، فيأخذ المسمى والأرش أيضا ان نقصت الأرض وحصل لها ضرر بذلك.

قال العلامة في القواعد ويتعين بالتعيين ، فان زرع الأضر فللمالك الخيار بين المسمى مع الأرش ، وبين أجرة المثل ، ولو زرع الأخف تخير المالك بين الحصة مجانا ، وأجرة المثل.

وقال المحقق في الشرائع : فإن عين الزرع لم يجز التعدي ، ولو زرع الأضر والحال هذه كان لمالكها أجرة المثل ان شاء ، والنماء مع الأرش ، ولو كان أقل ضررا جاز انتهى.

وفيه نظر من وجهين الأول ان مقتضى التعيين والعمل بالشرط عدم جواز العدول عنه ، وأنه ينفسخ العقد بالتعدي كما تقدم في كلام المحقق الأردبيلي ، فكيف يتم ما ذكره في الشرائع من أنه لو كان أقل ضررا جاز ، وما ربما يقال في الجواب ـ والاعتذار عن المنافاة في كلامه ـ بأن الرضا بزرع الأضر على الأرض يقتضي الرضا بالأقل ضررا بطريق أولى ـ مردود بأن غرض المالك ربما كان الانتفاع بالزرع ، لا مصلحة الأرض ، فإنه المقصود الذاتي ، ومصلحة الأرض انما هي تابعة ولا شك أن الأغراض تختلف في أنواع المزروع ، فربما كان غرضه في الأشد ضررا من حيث يزيد نفعه ، أو الحاجة اليه ، وان تضررت الأرض به.


ثم انه على تقدير ما ذكره من الجواز يلزم من ذلك أخذ المالك الحصة من ذلك المزروع مجانا ، وهو باطل ، لانه غير داخل في العقد ، فكيف يستحق فيه المالك شيئا ، وعين البذر مال العامل وملكه ، ولا دليل على انتقال شي‌ء منه عن ملكه إلا بالمزارعة عليه ودخوله في عقد المزارعة ، والمفروض أنه ليس كذلك.

وبه يظهر أيضا ما في عبارة القواعد هنا من التخيير بين أخذ الحصة مجانا وبين أجرة المثل ، فإنه لا وجه لأخذ الحصة مجانا كما عرفت ، بل الحق انما هو أجرة المثل وانفساخ العقد.

الثاني ـ أن ما ذكراه من التخيير في صورة زرع الأضر بين المسمى مع الأرش ، وبين أجرة المثل ، منظور فيه بأن الحصة المسماة إنما وقعت في عقد المزارعة بالنسبة الى ذلك المعين في العقد ، والذي زرعه العامل لم يتناوله العقد ، ولا الاذن ، فكيف يستحق منه المالك حصته ، فإذا زارعه على حنطة بأن يكون للمالك نصف حاصلها ، وبذر العامل شعيرا فبأي وجه يستحق المالك حصته من ذلك الشعير ، وهو غير داخل في العقد ، ومقتضى ملك العامل له أن يكون نماؤه وما يخرج منه لمالكه خاصة ، وبه يظهر أن الأقوى انما هو أجرة المثل في الموضعين المذكورين ، هذا بالنسبة إلى المزارعة.

أما في الإجارة فإنه لو استأجر منه الأرض لزراعة نوع معين ، مثلا فان زرع الأضر فالكلام عندهم كما تقدم في المزارعة ، وان زرع الأخف ضررا فإنهم صرحوا هنا بالفرق بين العقدين في ذلك ، وأنه يصح في الأول ، دون الثاني.

قال في المسالك في تعليل ذلك : فان عدول المستأجر إلى زرع ما هو أخف ضررا منه متجه ، لان الغرض من الإجارة للمالك تحصيل الأجرة ، وهي حاصلة على التقديرين ، وتبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه ، وأولى منه لو ترك


الزرع طول المدة ، فإنه لا اعتراض للمالك عليه ، حيث لا يتوجه ضرر على الأرض ، لحصول مطلوبه ، وهو الأجرة ، بخلاف المزارعة ، فإن مطلوبه الحصة من الزرع ، فلا يدل على الرضا بغيره ، ولا يتناوله بوجه ، انتهى.

وأما المساوي فاحتمالان.

الثانية : قيل : لو استأجر للزراعة أرضا لا ينكشف عنها الماء لم يجز ، لعدم الانتفاع ، ولو رضى بذلك المستأجر جاز ، ولو قيل : بالمنع لجهالة الأرض كان حسنا ، وان كان قليلا يمكن معه بعض الزرع جاز ، ولو كان الماء ينكشف عنها تدريجا لم يصح لجهالة وقت الانتفاع.

أقول : وتفصيل هذا الإجمال ـ بما يتضح به المراد من هذا المقال ـ هو أن يقال : إذا كانت الأرض مغمورة بالماء بالكلية في جميع الأوقات ، فإنه لا ريب في بطلان إجارتها ، لعدم إمكان الانتفاع بها فيما استوجرت له ، وهو ظاهر ، وأما لو كان الماء ينكشف عنها وقت الانتفاع عادة ، فإن كانت مغمورة به حال العقد ، فإنهم صرحوا بالصحة إذا كان قد رأى الأرض أولا قبل استيلاء الماء عليها ، وأن الماء المجلل لها صافيا لا يمنع من رؤيتها ، هذا إذا كان الاستيجار للزراعة.

أما لو كان الاستيجار مطلقا أو لغير الزراعة مما يمكن استيفاؤه منها ، فإن الإجارة صحيحة ، وينتفع بها فيما شاء ، ولو باصطياد السمك ان كان ، ومع تعذر الانتفاع بها بوجه من الوجوه ، فالظاهر هو البطلان ، لان شرط الصحة إمكان الانتفاع ، ولو رضى المستأجر بالإجارة مع فرض الانغمار بالماء جاز ، وهو مما لا اشكال فيه ، الا أنه لا بد من تقدم رؤية الأرض قبل الانغمار بالماء ، أو إمكان الرؤية حال وجود الماء لصفائه ، كما تقدم ذكره.

وبه يظهر أن تعليل المنع من الصحة في هذه الصورة بجهالة الأرض لا يصح على إطلاقه.


نعم لو فرض الجهل بها على كل حال اتجه المنع ، وبالجملة فإنه إذا رضي المستأجر بذلك مع العلم بالأرض بأحد الوجوه جاز ، وأما مع الجهل مطلقا وعدم العلم بوجه فلا ، ولو كان الماء قليلا يمكن معه بعض الزروع جاز ، لإمكان الانتفاع في الجملة ، سواء أمكن الزرع في جميع الأرض على النقصان ، أو أمكن في بعض دون بعض ، مع إلحاق ما لا يمكن فيه من الأرض بالجميع.

وكيف كان فلا بد من علم المستأجر بذلك والا تسلط على الفسخ للعيب ، وأما لو كان الماء ينكشف عن الأرض تدريجا فإن الإجارة لا تصح ، لجهالة وقت الانتفاع ، والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين رضاء المستأجر بذلك وعدمه ، لان رضاه بعقد غير صحيح لا يوجب صحته ، لما عرفت من أن العقد باطل من حيث جهالة وقت الزرع.

وفي القواعد قيد المنع بعدم رضا المستأجر ، فلو رضى بذلك صح ، ورد بأن هذا انما يتم في العيب ، فإنه يتخير بالرضاء والخيار ، لا في الجهالة التي هو موجبة لبطلان العقد ، ولو قيل : ـ بإلحاق هذا الفرد بما ذكر نظرا إلى إمكان الانتفاع في الجملة ـ قلنا : لا ريب ان ما يوجبه انقطاع الماء تدريجا نقصان المنفعة ، واللازم من ذلك تخير المستأجر مع الجهل ، لا الحكم بعدم الصحة ، مع أنه قد حكم بعدم الصحة مع عدم الرضا.

وبالجملة فما نقلناه أولا أوفق بالقواعد المقررة بينهم.

قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك : وهذه الأحكام آتية في المزارعة على الأرض المذكورة ، فكان ذكرها في بابها أولى من استطراد الحكم الأجنبي ، أو التعميم ، وربما قيل : في هاتين المسألتين أن المنع مخصوص بالإجارة ، أما المزارعة عليها فجائزة ، والفرق ابتناء الإجارة على المعلومية ، لانضباط الأجرة ، فلا بد من انضباط المنفعة في مقابلتها ، بخلاف المزارعة ، فإن النفقة التي هي الحصة لما كانت مجهولة ، تسومح في مقابلتها من العوض بما لا يتسامح في غيرها ، ولا بأس به ، انتهى.


الثالثة ـ قالوا : إذا اشترط في استيجار الأرض الغرس فيها والزرع معا فلا بد من تعيين مقدار كل واحد منهما.

أقول : والوجه في لزوم الشرط المذكور عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء به ، والوجه في وجوب التعيين في الزرع والغرس هو اشتراط العلم ، وعدم الجهل الموجب للغرر لما علم من تفاوت ضرريهما ، فان الغرس أضر على الأرض وافراد المغروسات ، وكذا افراد المزروعات متفاوتة في الضرر شدة وضعفا ، وحينئذ فلا بد من تعيين أفرادها ، وكذا لو استأجر لغرسين أو لزرعين ، فإن الحنطة أضر من الشعير ، والمغروسات تختلف باعتبار سريان العروق في الأرض ، ونحو ذلك فلا بد من التعيين لما عرفت ، قيل : واشتراطه في الإجارة ظاهر ، كما إذا آجره الأرض للزراعة والغرس.

وأما في المزارعة فبان يكون شرط في المزارعة غرس أشجار له ، كما نقل عن المحقق الثاني ، وربما قيل : بأنه كما يجب التعيين في المتفاوتين في الضرر ، يحتمل أيضا في غير المتفاوتين ، خصوصا في المزارعة لما تقدم ، من أن الغرض المطلوب منها الحصة ، ومعلوم تفاوتها بتفاوت أفراد المزروعات.

قال في المسالك : ويمكن حمل الإطلاق على جعل كل واحد منهما في نصف الأرض ، لأن المتبادر من لفظ الشريك التسوية كما في نظائره ، ولان مقتضى الإجارة لهما أن يكون المنفعة المطلوبة من كل واحد منهما نصف فضل الجميع بحسب التنصيف لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح ، وهذا هو الأقوى وحينئذ فلا يجب التعيين ، انتهى.

وما ادعاه من أن المتبادر من لفظ الشريك التسوية ، وأن اشتهر ذلك في كلام غيره أيضا ، الا أنه قد تقدم ضعفه ، بل هو أعم مما ذكروه ، وقوله أيضا فلا يجب التعيين ، بناء على الفرض الذي ذكره محل اشكال ، مع تفاوت أفراد المغروسات والمزروعات ، فإنه مع فرض نصف تلك الأرض للغرس ، والنصف الأخر للزرع


متى كانت أفراد كل منهما متفاوتة في الضرر ، جرى في هذا النصف ما جرى في أصل الأرض المفروضة في الكلام السابق مما اقتضى وجوب التعيين ، ثم انه قال : هذا كله إذا استأجرها مطلقا ، أما لو استأجرها لينتفع بها بما شاء منها ـ صح وتخير ، لان ذلك تعميم في الافراد ، وقدوم على الرضا بالأضر ، ويبقى الكلام في تعيين النوع الواحد من الزرع والغرس وإطلاقه ما تقدم ، انتهى.

الرابعة ـ اختلف الأصحاب فيما إذا استأجر أرضا مدة معينة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدة غالبا ، فقيل : انه يجب على المالك إبقاؤه ، يعنى بالأجرة ، أو إزالته مع الأرش.

وقيل : انه له إزالته كما لو غرس بعد المدة ، وبالأول صرح المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد ، ونقل عن فخر المحققين ، وبالثاني صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

وعلل الأول من القولين المذكورين بأن المستأجر غير معتد بالزرع ، لانه مالك المنفعة تلك المدة ، فله الزرع ، وذلك يوجب على المالك إبقاءه ، لمفهوم قوله (١) (عليه‌السلام) «ليس لعرق ظالم حق». قال فخر المحققين : أجمع الأصوليون على دلالة المفهوم من هذا الحديث ، وان اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في غيره ، لكن لما لم يكن له في الأرض حق بعد المدة ، لانقضاء الإجارة ، جمع بين الحقين بإبقائه ، بالأجرة أو قلعه بالأرش.

وعلل القول الثاني بأن المستأجر دخل على أن لا حق بعد المدة ، لأن منفعة المدة هي المبذولة في مقابلة العوض ، فلا يستحق بالإجارة شيئا آخر ، فللموجر قلعه مجانا كما لو غرس المستأجر بعد المدة.

قال في المسالك : هذا هو الأقوى ، ثم قال في الجواب عما تقدم : وعدم تعدى المستأجر بزعمه في المدة لا يوجب له حقا بعدها مع اسناد التقصير اليه ، والمفهوم ضعيف ، والإجماع على العمل هنا لم يثبت ، وعلى تقدير صحته نمنع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.


من كونه بعد المدة غير ظالم ، لانه واضع عرقه في أرض لا حق له فيها ، وإلزام المالك بأخذ الأجرة على الإبقاء ، أو تكليفه بالأرش على خلاف الأصل ، فلا يصار اليه بمثل ذلك انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي بعد نقل القول الأول عن المحقق ، والثاني عن الشهيد الثاني «وهو غير بعيد» يعنى القول الثاني ثم نقل كلام فخر المحققين ودعواه الإجماع على العمل بمفهوم الوصف في الخبر المذكور ما لفظه ، وكان هذا الحديث ثابت عند الكل ، وهو موجود في التهذيب بسند غير صحيح في باب المزارعة فهو دليل على الأول ، لعل منشأ اعتبار المفهوم هنا هو ما ثبت بالعقل والنقل «أن لعرق المحق وغير ظالم حق» وهو كاف ، ولا يحتاج الى هذا المفهوم ، وان ذلك ظاهر ولا شك أن العامل غير ظالم ، فلعرقه حق ، أما بأن يخلى بالأجرة أو يقلع بالأرش ، وهو جميع بين المصلحتين أيضا فإن لكل منهما دخلا في الإبقاء ، ونقضه بمنع الإجماع غير جيد ، وكذا منع كونه بحق بأنه بعد المدة ظالم ، كما فعله في شرح الشرائع ، لأنه ثبت بحق ، وان كان المنع الثاني أولا ، ووجه الثاني لا يخلو من قوة لما تقدم ، الا أن الأول أحوط وبالنصف أقرب فتأمل انتهى.

أقول : الخبر المشار إليه في كلامهم هنا هو ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : من أخذ أرضا بغير حقها أو بنى فيها قال : يرفع بناؤه ، ويسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق ثم قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها الى المحشر.

وأنت خبير بأن مورد الخبر وسياقه من أوله الى آخره انما هو من اغتصب أرضا فتصرف فيها ببناء أو غرس مع كونها مملوكة لغيره ، فإنه لا يملكها بذلك ، بل هي ملك لمن سبق إليها أولا ، وانه يجب عليه أن يدفع بناءه ويزيل غرسه ،

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.


للتعليل المذكور فيهما.

ومفهوم هذا التعليل بناء على ما ذكرنا أنه لو لم يكن مملوكة ولا مستحقة لأحد قبله ، فإنه يملكها ويستحقها ، لكون عرقه عرق غير ظالم ، ومرجعه الى كون تصرفه شرعيا ، وبه يظهر الإشكال في انطباق الاستدلال بمفهوم الخبر على المدعى في هذا المقام ، لان التصرف هنا وان كان شرعيا بالنظر الى مدة الإجارة ، فيدخل تحت مفهوم الخبر الا أنه بعد انقضاء المدة وزوال الموجب لصحة التصرف ، لا يمكن دخوله تحت المفهوم المذكور ، ومحل البحث والنزاع انما هو هنا ، لا فيما تقدم من التصرف في المدة.

فقول المحقق المتقدم ذكره أنه ثبت بالعقل والنقل أن لعرق المحق وغير ظالم حق ، والعامل غير ظالم ، فلعرقه حق ، ان أراد بالنسبة إلى مدة الإجارة فمسلم ، ولكن لا يجدى نفعا وان أراد بعد انقضائها فهو عين البحث ومحل النزاع ، فلا يخرج كلامه عن المصادرة ، فان شمول المفهوم المذكور له غير متجه ، إذ لا ريب انه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، ولهذا اضطروا الى القول بالأجرة فرارا مما ذكرناه ، فكيف يدخل تحت المفهوم المذكور ، وانه محق وغير ظالم ، فيكون لعرقه حق.

ولو قيل : ببطلان هذا العقد من أصله لم يكن بعيدا من الصواب : لعدم الدليل عليه بالخصوص ، وخروجه عن مقتضى قواعد الإجارة ، فلا يتناوله عموم أدلتها ، فإن من قواعد الإجارة قصر جواز التصرف على مدة الإجارة ، وهذا العقد على هذا الوجه المذكور خارج عن ذلك ، فلا يدخل تحت عموم أدلتها.

واللازم منه على تقدير الحكم بصحته أحد المحذورين ، اما تضرر المستأجر بقلع الغرس مجانا كما هو مقتضى القول الثاني ، أو جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه كما هو مقتضى القول الأول وهو أشد إشكالا.

والالتجاء في المخرج عن ذلك ـ الى ما ذكروه من وجوب تبقيته بالأجرة


أو جواز قلعه بالأرش جمعا بين الحقين ـ انما يصح إذا دل دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع ، بناء على قواعدهم ، ولا شي‌ء من هذه الثلاثة في المقام ، فاللازم منه إثبات حكم بلا دليل ، وهو مما منعت منه الآيات المتكاثرة ، والروايات المتظافرة ، ولو صح الرجوع في ذلك الى العقل لأمكن ما ذكروه ، لاندفاع الضرر من الجانبين والجمع بذلك بين الحقين ، ولكن قد علم من الآيات القرآنية والسنة النبوية أنه لا يجوز بناء الأحكام الشرعية الا على ما ظهر منهما من الأدلة الواضحة الجلية ، والله العالم.

إلحاق

أقول : ما ورد في الخبر المتقدم من «أنه ليس لعرق ظالم حق» (١). قد ورد مثله من طريق العامة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو محتمل لتنوين عرق ، فيكون ظالم صفة له ، واضافة عرق فيكون ظالم مضافا اليه.

قال في النهاية الأثيرية (٢) وفي حديث احياء الموات «ليس لعرق ظالم حق» هو أن يجي‌ء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله ، فيغرس فيها غرسا غصبا ليستوجب به الأرض والرواية لعرق بالتنوين وهو على حذف مضاف : أي لذي عرق ظالم ، فجعل عرق نفسه ظالما والحق لصاحبه ، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق ، وان روى عرق ظالم بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق ، والحق للعرق ، وهو أحد عروق الشجرة انتهى.

الخامسة ـ قد صرحوا بأنه تصح المزارعة إذا كان من أحدهما الأرض حسب ، ومن الأخر البذر ، والعمل والعوامل ، وكذا لو كان من أحدهما الأرض والبذر ومن الأخر العمل ، أو كان من أحدهما الأرض والعمل ، ومن الأخر البذر خاصة.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.

(٢) النهاية ج ٣ ص ٢١٩ ط القاهرة سنة ١٣٨٥.


وبالجملة فإن هنا أمورا أربعة ، الأرض ، والبذر ، والعمل ، والعوامل ، والضابط أن الصور الممكنة في اشتراك هذه الأربعة بينهما كلا أو بعضا جائزة ، لإطلاق الاذن في المزارعة من غير تقييد بكون بعض ذلك بخصوصه من أحدهما.

أقول : ومن الاخبار التي تتعلق بذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن أبى زياد الكرخي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أشارك العلج «المشرك» فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ، ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقه ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ، ولي الباقي قال : لا بأس بذلك الحديث.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدى خراجها وما كان من فضل وهو بينهما ، قال : لا بأس ـ الى أن قال ـ : وسألته عن المزارعة فقال : النفقة منك والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله من شي‌ء قسم على الشطر ، وكذلك أعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت».

وما رواه في الكافي عن سماعة (٣) في الموثق قال : سألته (عليه‌السلام) عن مزارعة المسلم المشرك فيكون من عند المسلم البذر والبقر ، وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج؟ قال : لا بأس». ونحوها موثقة (٤) أخرى له

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢١ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٦ ح ٩ ، لفظ المشرك ليس في الكافي والتهذيب.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ باب ١٠ ح ١ و ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ باب ١٢ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٩٤ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ باب ١٢ ح ٢.


أيضا ، والظاهر من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو ما قدمناه من الضابط المتقدم ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، فيما إذا كان عقد المزارعة بين اثنين خاصة فإنه لا خلاف في الصحة.

وانما الخلاف فيما إذا زاد عليهما ، قال في القواعد بعد ذكر نحو هما ذكرناه في مزارعة الاثنين : وفي صحة البذر من ثالث نظر ، وكذا إذا كان البذر من ثالث ، والعوامل من رابع.

وقال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك أيضا : هذا إذا كانا اثنين خاصة ، فلو جعلا معهما ثالثا وشرطا عليه بعض الأربعة ، أو رابعا كذلك ففي الصحة وجهان : من عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، والكون مع الشرط ، ومن توقف المعاملة سيما التي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع ، ولم يثبت عنه مثل ذلك ، والأصل في المزارعة قصة خيبر ، ومزارعة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اليهود عليها على أن يزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ، وله (عليه‌السلام) شطره الأخر ، وليس فيها أن المعاملة مع أكثر من واحد ، وكذلك باقي النصوص التي وردت من طرقنا ، ولان العقد يتم باثنين موجب وهو صاحب الأرض ، وقابل ، فدخول ما زاد يخرج العقد عن وضعه ، ويحتاج إثباته إلى دليل ، والأجود عدم الصحة انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامه (رحمة الله عليه) من تطرق البحث اليه ، والإيراد عليه ، أما أولا فإن ما استند اليه في منع أكثر من اثنين ـ من توقف هذه المعاملة على التوقيف من الشارع بمعنى دليل خاص ـ فهو خلاف ما يستندون إليه في أكثر الأحكام من التمسك بعموم الأدلة وإطلاقاتها ، كما لا يخفى على من له أنس بالاطلاع على أقوالهم ، وخاض في بحور استدلالهم.

وأما ثانيا فان ما ادعاه من أن معاملة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع أهل خيبر لا تدل على أن المعاملة مع أكثر من واحد من أعجب العجاب عند ذوي


الألباب ، لاستفاضة الأخبار بأنه بعد فتح خيبر أقر الأرض في أيدي الذين فيها وقاطعهم بالنصف يعنى جميع من كان فيها من اليهود لا شخصا بعينه منهم ، أو اثنين أو ثلاثة مثلا ، ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (١) المذكورة هيهنا ، وقوله فيها «أعطاهم إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت». وفي حديث الكناني (٢) قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما فتح خيبر تركها في أيديهم على النصف ، فلما بلغت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم ، فخرص عليهم فجاؤا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا : انه قد زاد علينا فأرسل الى عبد الله وقال : ما يقول هؤلاء؟ قال : قد خرصت عليهم بشي‌ء ، فإن شاؤا يأخذون بما خرصنا وان شاؤا أخذنا ، فقال رجل من اليهود : بهذا قامت السماوات والأرض».

وفي معناه غيره من الاخبار الكثيرة ، فهل ترى هنا بعد ذكرهم بطريق الجمع في هذه الموارد مجالا للحمل على واحد منهم ، بل الظاهر لكل ناظر انما هو دفع الأرض إليهم كملا بعد فتحها وأخذها عنوة ، على أن يزرعوها بالمناصفة ، وهذا هو الذي عليه العمل الان في جميع الأصقاع والبقاع وذكر الاثنين في أكثر الاخبار انما خرج مخرج التمثيل ، لا الحصر.

وأما ثالثا فان كون العقد يتم باثنين موجب وقابل لا ينافي التعدد في جانب كل منهما كما في سائر العقود من بيع وغيره ، بأن يوجب عنه وعن غيره ، ويقبل كذلك فان قيل : انه قد ثبت ذلك بدليل من خارج ـ قلنا : وهذا قد ثبت بعموم أدلة المزارعة ، ولا سيما قضية خيبر كما عرفت ، على أنك قد عرفت في كتاب البيع أن ما ذكروه من العقد المشتمل على الإيجاب والقبول بالنحو الذي تقدم ذكره عنهم لا دليل عليه ، وانما الذي دلت عليه الاخبار هو مجرد التراضي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ ح ٢ ، مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ١.


بالألفاظ الجارية بينهم ، وكلامه انما يتم على الأول كما هو المشهور بينهم ، مع أنك قد عرفت أنه لا دليل عليه.

قال المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) في هذا المقام : ونعم ما قال وأيضا لا خصوصية بالاثنين فيجوز بين الثلاثة وما زاد لما تقدم ، وليست المعاملة مطلقا ، ولا هذه موقوفة على النص الخاص شرعا ، بل يكفى العموم ، ولهذا ليس في شي‌ء من المعاملات بخصوصه دليل شرعي ، كيف ولو احتاج الى ذلك لا شكل الأمر ، فإنه معلوم عدم ورود نص في كل صنف صنف من كل معاملة ، مع العلم بالمغايرة بمثل هذه ، أى كون المعاملين أكثر من الاثنين ، وهو الظاهر ولهذا يجوزون النكاح من الزوج فقط ، بأن يكون موجبا وقابلا معا مع عدم نص بخصوصه فيه مع وجوب الاحتياط في الفروج ، وكذا يجوزون في الطلاق كون المطلق زوجته بالوكالة ، مع عدم دليل بخصوصه ، ومنع البعض الوكالة في الطلاق مع الحضور ، ومنع البعض وكالة النساء خصوصا المطلقة وغيرها مع عدم نص ، بل ورد نص بعدم جواز الاتحاد في النكاح ، وليس لهم دليل الا عموم العقود وصدق النكاح مع عدم ثبوت المنع.

وبالجملة أمثاله كثيرة جدا ولا يشترطون فيه النقل بخصوصه ، وأنه لو شرط لبطل أكثر ما ذكروه ، فقول الشارح في شرح الشرائع بعدم الصحة ـ إذا زاد على الاثنين محتجا بأن القابل والموجب اثنان فيتم بهما ، ولا يتعدى الى الغير ، وأن دليل المزارعة خبر حكاية خيبر ، وليس فيه غير الاثنين ، وكذا غيره من الاخبار عندنا لما تقدم ـ غير ظاهر ، على أنه ما يظهر من حكاية خيبر وغيرها كونهما اثنين فقط ، بل هو أعم ، بل الظاهر أن أهل خيبر كانوا كثيرين ، فوقع بينه (عليه‌السلام) وبينهم.

وبالجملة ما ذكره نجده بعيدا جدا وهو أعرف انتهى.

السادسة ـ قال المحقق (رحمة الله عليه) في الشرائع ولو كان بلفظ الإجارة


لم تصح لجهالة العوض ، أما لو آجرها بمال مضمون أو معين من غيرها جاز.

أقول : ما ذكره من قوله «ولو كان بلفظ الإجارة لم تصح لجهالة العوض» محتمل لمعنيين أحدهما ـ ما ذكره في المسالك قال (قدس‌سره) : لا إشكال في عدم وقوعها بلفظ الإجارة لاختلاف أحكامهما ، فإن الإجارة يقتضي عوضا معلوما والمزارعة تكفى فيها الحصة المجهولة ، انتهى.

وحاصله أنه يقصد بالعقد المزارعة ، ولكن يأتي بلفظ الإجارة ، وثانيهما ـ أن يقصد الإجارة لا المزارعة ، لكن جعل الأجرة الحصة ، فإنه لا يصح هذه الإجارة ، لوجوب العلم بالعوض في الإجارة ، والعوض هنا انما هو الحصة ، وهي مجهولة ، والظاهر أن هذا هو الأقرب في العبارة بقرينة قوله «أما لو آجرها» الى آخره ، فإنه ظاهر في أن المقصود انما هو الإجارة في كل من الموضعين ، لكنه في الأول جعل العوض الحصة ، وهي مجهولة فتبطل الإجارة لزوال شرطها وهو معلومية العوض ، وفي الثاني تصح ، وأيضا فإنه على تقدير أن يكون العقد مقصودا به المزارعة ، لكن أتى فيه بلفظ الإجارة كما ذكره ليس فيه أزيد من ارتكاب التجوز في التعبير عن المزارعة بلفظ الإجارة ، وهو جائز مع القصد اليه والقرائن الدالة عليه ، وإطلاق لفظ الإجارة وارادة المزارعة منه في الاخبار غير عزيز ، ومنه ما في صحيحة أبي المعزا (١) المتقدمة من قوله (عليه‌السلام): «أما إجارة الأرض بالطعام». فلا تأخذ نصيب اليتيم منه ، الا أن تؤاجرها بالربع والثلث والنصف كما تقدم تحقيق ذلك في إلحاق المذكور بعد الشرط الأول من المقام الأول من هذا المطلب.

السابعة ـ في جملة من أحكام التنازع ، منها ـ أن يتنازعا في المدة لما عرفت آنفا من أن المدة من جملة شروط هذه المعاملة ، وقد عرفت ما فيه ، قالوا : فلو تنازعا فيها فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه ، ولا ريب أن هذا مقتضى

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٧.


القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، لأن الأصل عدم الزيادة.

وقيده بعض محققي متأخري المتأخرين بأن لا يكذبه العرف ، ولعله أراد بأن يدعى نقصان المدة عن وقت يدرك فيها الزرع يقينا ، حيث أن المعلوم عادة وعرفا أن القصد من المزارعة وبذل المال فيها هو الحاصل فلا بد أن يكون المدة تبلغ ذلك ولو ظنا ، فإذا ادعى ما يوجب نقصانها عن ذلك يقينا فإنه يكذبه العرف ولا بأس به ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم من بناء الإطلاق على المعروف المتكرر عادة.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الحصة ، فإنهم صرحوا بأن القول قول صاحب البذر ، وعلل بأن الحصة نماء ملكه ، والأصل بقائه على مالكه حتى يتحقق الانتقال شرعا ، فكان الحاصل في يد صاحب البذر حيث ثبت أنه له ، والمنازع خارج يدعيه فعليه البينة ، وحينئذ فالقول قول صاحب البذر بيمينه ، حيث عدمت البينة كما في المدة ، ولو أقام كل واحد منهما بينة بنى على الخلاف في تقديم بينة الداخل أو الخارج ، والمشهور الثاني.

وعلى هذا فالقول قول مالك الأرض في تقليل المدة ، والبينة بينة العامل في دعوى الزيادة ، وكذا القول قول صاحب البذر في قدر الحصة ، والبينة بينة الأخر ، وهو من لا بذر له في ذلك.

وقيل : هنا بالقرعة ، لأنها لكل أمر مشكل ، وفيه أنه لا اشكال هنا ، فان من كان القول قوله فالبينة بينة صاحبه ، كما هو مقتضى النصوص المتفق عليها.

ومنها ما لو اختلفا فقال الزارع : انها في يدي عارية ، فأنكر المالك وادعى الحصة أو الأجرة ، ولا بينة فالمشهور أن القول قول صاحب الأرض في نفى العارية بيمينه ، لانه منكر ، فيقدم قوله في ذلك ، والقول قول الزارع بيمينه في نفى الإجارة أو المزارعة ، لأنه منكر لهما ، وحينئذ فيحلف كل واحد منهما على نفى ما يدعيه الأخر ، وحيث انتفت الدعويان والحال أن الزارع قد تصرف في أرض غيره وانتفع بها ، فاللازم له أجرة المثل لذلك الزرع الى أو ان


نزعه ، الا أنهم قيدوا أجرة المثل هنا بما إذا لم تزد على ما يدعيه المالك من الأجرة والحصة ، والا وجب له ما يدعيه خاصة ، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه ، ومرجعه إلى أقل الأمرين من أجرة المثل والمسمى في العقد.

وقيل : هنا بالقرعة وهو مجهول القائل ، ونسبه في التذكرة الى بعض علمائنا وفي المختلف حكاه بلفظ قيل ، والشراح أبهموه.

وكيف كان فهو ضعيف كما ذكره غير واحد من أصحابنا ، لأن القرعة انما هي مع اشكال الحكم ، وأما مع بيان وجهه ومعرفة طريقه فلا اشكال ، وطريقه هو ما ذكروه مما قدمنا نقله عنهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في هذا المقام اشكالا من وجهين : الأول ـ ما ذكروه من وجوب أقل الأمرين من أجرة المثل وما يدعيه المالك من الحصة أو الأجرة ، لما ذكروه من التعليل ، فان فيه أولا أن أجرة المثل التي أوجبوها هنا الراجعة إلى أقل الأمرين كما عرفت انما صاروا إليها بعد الحكم ببطلان الدعويين الأوليين من كل من الطرفين بالتحالف ، وبطلان ما يترتب عليهما ، وحينئذ فالحكم بأجرة المثل هنا لا تعلق له باعتراف المالك ، لأنه لا يستحق أزيد من ذلك ، أو يستحق مثلا ، وانما فرض المسئلة ـ بعد بطلان الدعويين الأوليين ـ فرض ما لو لم يكن شي‌ء من هذين الدعويين ، وحينئذ فالواجب انما هو أجرة المثل زادت أم نقصت أم ساوت.

وثانيا ما أورده في المسالك حيث قال : واعلم أنه إذا كان الواجب للمالك بعد يمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل ، وكان الأقل هو ما يدعيه ، فلا وجه ليمين الزارع ، لانه لو اعترف له بما يدعيه لم يكن له أزيد منه ، وكذا لو حلف أورد اليمين ، وما هذا شأنه لا فائدة فيه. نعم لو كان ما يدعيه أزيد من أجرة المثل اتجهت فائدة يمين الزارع ، لأنها تنفي الزائد مما يدعيه المالك عن الأجرة ، ولو ردها أو اعترف للزم الزائد انتهى.


ولا يخفى ظهور ورود ما أورده عليهم ، وأما على ما ذكرناه فلا اشكال بحمد الله المتعال.

الثاني : انهم قد صرحوا في هذا الكتاب بهذه المسئلة أعنى مسئلة اختلاف الزارع والمالك في العارية والمزارعة والإجارة ، ونقلوا فيها القولين المتقدمين ، ولم يذكروا لهما ثالثا ، وفي كتاب العارية ذكروا المسئلة وهي اختلاف المالك والمستعير بأن المالك ادعى الإجارة والمستعير العارية ، وذكروا فيها قولين : أحدهما أن القول قول المستعير بيمينه ، لان المالك يدعي الأجرة ، والأصل عدمها.

والثاني أن القول قول المالك في عدم العارية ، فإذا حلف سقط دعوى المستعير ، وثبت عليه أجرة المثل ، ولم ينقلوا القول بالقرعة هناك ، وظاهر الأكثر منهم ترجيح القول الثاني ، وظاهر العلامة في القواعد التوقف ، حيث ذكر القولين المذكورين بطريق الاحتمال في المسئلة ، ولم يرجح شيئا منهما.

وأنت خبير بأن المسئلة واحدة في الكتابين ، والقولان المذكوران في كتاب العارية يجريان فيما هو مذكور في هذا الكتاب ، واستدل للقول الأول كما ذكره جملة منهم بأنهما قد اتفقا على أن تلف المنافع وقع على ملك المستعير ، وأن تصرفه فيها كان مباحا ، وانما يختلفان في أن ذلك بأجرة أم لا والأصل عدم الأجرة ، فإذا حلف الراكب على نفى الأجرة ثبت ذلك له.

وعلل القول الثاني بأن المنافع أموال كالأعيان فهي بالأصالة لمالك العين ، وادعاء المستعير ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل ، وأصالة براءة الذمة انما تصح من خصوص ما ادعاه المالك ، لا من مطلق الحق ، بعد استيفاء منفعة ملك غيره وحينئذ فيحلف على نفى العارية ، ويثبت له أجرة المثل بالتقريب المتقدم ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، في شرح الإرشاد تقوية القول الأول من هذين القولين ، حيث قال بعد ذكر التحالف من الطرفين كما صرحوا به في المسئلة المذكورة في هذا الكتاب : على نحو ما قدمناه ، وإن للمالك بعد


ذلك أجرة المثل ، أو أقل الأمرين منها ومن المسمى : ما لفظه ، ويمكن أن يقال : لا يجوز له يعنى المالك أخذ شي‌ء ، لانه ادعى الحصة ، وقد سقطت باليمين ، فان الحق وعوضه لا يمكن الأخذ في الدنيا بعد الحلف ، كما هو المقرر عندهم ، ولانه لا يدعى عليه الا الحصة ، وقد ثبت شرعا نفيها ، ولا يدعى غيرها ، ويأخذه هو ، فكيف يكلف الشارع العامل بشي‌ء آخر ، بل قائل بعدمه ، فلا يحتاج الى التحالف ، بأن يحلف المالك بنفي العارية ، إذ ليس للعامل غرض في تلك الدعوى ، بل غرضه نفى الحصة ، وقد نفاها بيمينه.

وبالجملة لا شك أن المدعى هنا هو المالك للحصة فقط ، والعامل منكر ، وإذا حلف سقطت ، وليس للمالك دعوى أخرى ، فإن كانت مسموعة عمل بمقتضاها ، وليس للعامل غرض يتعلق بدعوى العارية ، بل غرضه نفى دعوى الحصة وقد حصل ، فلا تحالف فتأمل ، وسيجي‌ء مثله في دعوى الإجارة والعارية ، انتهى.

أقول : لقائل أن يقول : أن الغرض من دعوى العارية هو أنه لما ثبت من الشارع تحريم التصرف في مال الغير الا بوجه شرعي ، والا لكان ذلك موجبا للمؤاخذة دينار ودنيا ، أما في الدين فباستحقاق العقاب ، وأما في الدنيا فباستحقاق العوض ، احتاج العامل الى التعلق بشي‌ء يدفع عنه الأمرين ، فتعلق بدعوى العارية لذلك ، ومجرد كون دعوى العامل متضمنا لدفع الحصة وان غرضه من هذه الدعوى ذلك لا يخرجه عن كونه مدعيا يترتب عليه ما يترتب على المدعى ، حتى أنه يحصر المدعى في المالك ، وأن العامل منكر خاصة ، وحيث أن المالك ادعى الإجارة وطلب الأجرة المسماة في العقد بزعمه ، وحصل التحالف من الطرفين على نفى الدعويين بطل ما تقدم من الدعويين ، وما يترتب عليهما من الحكمين ، ورجعنا الى أن الأصل حرمة مال المسلم وعصمته عن تصرف غيره الا بوجه شرعي ، وحيث أن العامل قد تصرف بغير وجه شرعي


أوجبنا عليه أجرة المثل لذلك ، سواء زادت عما يدعيه سابقا أو نقصت كما قدمنا ذكره ، وان كان على خلاف ما صرحوا به كما عرفت.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها عن النص الواضح محل اشكال ، وللنظر فيها مجال كما عرفت من اختلاف هذه الأقوال.

هذا كله فيما إذا وقع النزاع والاختلاف بعد تصرف العامل ، واستيفاء المنفعة كلا أو بعضا ، أما لو كان قبل ذلك فإنه متى تحالفا انتفت العارية والمزارعة والإجارة ، وحرم على العامل التصرف بلا خلاف ولا اشكال ، وحيث قد ثبت بناء على ما هو المشهور أن اللازم بعد التحالف انما هو أجرة المثل ، وحينئذ فيكون الاختيار في الزرع ببقائه الى أو ان الحصاد أو قصله قبل ذلك للزارع ، لما علم من أن أصل الزراعة وقع بوجه شرعي واذن من المالك باتفاق الخصمين ، وانما الخلاف في الأجرة وجودا وعدما ، فهو زرع بحق ، فلا يجوز للمالك قلعه بغير اذن مالكه ، مع أن إبقائه انما هو بأجرة لا مجانا ، والأجرة ثابتة من وقت الزرع الى وقت إزالته ، سواء كان وقت الحصاد أو قبله ، كذا ذكروه ، وعندي فيه إشكال ، لأنه وان كان أصل الزرع بالاذن أعم من أن يكون عارية أو إجارة مثلا ، الا أنه بعد التحالف قد بطل كل من دعوى العارية ودعوى الإجارة ، فكيف ترتب عليهما حكم جواز البقاء ، والحال أنه بعد التحالف قد زال الأمر الأول ، وهو الاذن المتفق عليه بل اللازم بمقتضى ذلك جواز قلع الزرع وإزالته ، وأجرة المثل انما هي لما مضى من المدة ، الا أن يتفقا على بقائه بأجرة وهو خارج عن محل البحث ، وحينئذ فينبغي أن يجوز للمالك إزالته ان لم يرض ببقائه بالأجرة.

وبالجملة فإن الحالين باعتبار التحالف وبطلان الدعويين قد اختلفا ، والاذن انما ثبت سابقا باعتبار عدم خلو الحال من صحة إحدى الدعويين ، ولما ثبت بالتحالف بطلانهما معا تغير الحكم والله العالم.


ومنها ما لو اختلفا فقال العامل : أنها اعارة ، وقال المالك : انها غصب ، ولم يدع عقدا محللا كما تقدم ، فالقول هنا قول المالك بيمينه ، لأصالة عدم الإعارة ، وبقاء منافع أرضه على ملكه ، وعدم خروجها عنه بعارية ولا غيرها ، ومتى حلف على نفى دعوى العارية وثبت كون وضع الزرع فيها بغير وجه شرعي تخير المالك بين قلعه وبين مطالبته بأجرة المثل ، لما مضى من المدة ، وأرش الأرض ان نقصت ، وطم الحفر ونحو ذلك مما يلزم الغاصب كما يأتي إنشاء الله تعالى ـ في كتاب الغصب ، وان اتفقا على بقائه بأجرة جاز.

ونقل في المسالك عن التذكرة أنه يحلف العامل على نفى الغصب ، ولم يذكر يمين المالك ، ورتب باقي الأحكام ، ثم قال : والحق ما ذكر هنا من أن الحالف المالك على نفى العارية لا غير ، انتهى.

الثامنة ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للعامل أن يشارك غيره في العمل بالحصة المعلومة ، وأن يزارع غيره من غير توقف على اذن المالك ، إذا لم يكن شرط عليه العمل بنفسه ، لما سيأتي في الإجارة ان شاء الله.

ولكن لا يسلم الأرض الا بإذن المالك ، والا كان ضامنا ، كما يأتي في الإجارة أيضا ، والأصل في ذلك عندهم انه لما كانت المزارعة من العقود اللازمة الموجبة لنقل منفعة الأرض إلى العامل بالحصة المخصوصة ، كان للعامل نقلها الى غيره ، والمشاركة فيها لعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (١). فلا يتوقف ذلك على اذن المالك ، إذ لا حق له في المنفعة.

نعم تسليم الأرض يتوقف على اذنه كما عرفت ، واشترط بعضهم في جواز مزارعة غيره كون البذر من العامل ، ليكون تمليك الحصة منوطا به ، وبه يفرق بينه وبين عامل المساقات ، حيث لا يصح له أن تساقى غيره كما سيأتي ان شاء الله تحقيقه في المطلب الثاني ، ولان البذر ان كان من صاحب الأرض ، فالأصل أن

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.


لا يتسلط عليه الا مالكه ، أو من أذن له وهو الزارع.

قال في المسالك : وهو حسن في مزارعة غيره ، أما المشاركة فلا ، لان المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع مشاعا بعوض معلوم ، وهذا لا مانع منه لملكه لها فيتسلط على بيعها كيف شاء ، بخلاف ابتداء المزارعة ، إذ لا حق له حينئذ إلا العمل ، وبه يستحق الحصة مع احتمال الجواز مطلقا ، لان لزوم عقدها اقتضى تسلطه على العمل بنفسه وغيره ، وملكه للمنفعة ، والتصرف في البذر بالزرع ، وان لم يكن بنفسه ، حيث لا يشترط عليه الاختصاص ، فيجوز نقله الى الغير ، كما يجوز الاستنابة.

ويضعف بأن البذر حينئذ ليس ملكا له ، وانما هو مأذون في التصرف فيه بالزرع ، وبه يملك الحصة.

وقد يقال : ان هذا كاف في جواز مزارعة الغير ، لأنها عبارة عن نقل حقه في ذلك اليه ، وتسليطه على العمل ، فيجوز كما يجوز له التوكيل فيه والاستنابة وغيرها من الوجوه.

هذا كله إذا لم يشترط المالك العمل عليه بنفسه ، والا لم يجز المشاركة ولا المزارعة بحيث يصير العمل أو بعضه متعلقا بغيره.

ولا يرد أن ذلك يقتضي منع المالك من التصرف في ماله ، فيكون منافيا للشرع ، «لان الناس مسلطون على أموالهم» لأن ذلك حيث لا يعارضه حق غيره ، والا لم تتم الكلية ، ضرورة تخلفه في كثير كالراهن والمفلس ، انتهى.

وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا في موضعين : أحدهما ـ في الشرط المنقول عن بعضهم في جواز مزارعة غيره من أنه لا بد من كون البذر من العامل فلو كان من المالك لم تصح.

وثانيهما في ما ذكره في المسالك في بيان معنى المشاركة من أن المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع الى آخره قال : واشترط بعض في هذا كون


البذر من العامل ، وبه يفرق بين المزارعة والمساقاة ، حيث لا تجوز المساقاة من المساقى ، وتجوز المزارعة من العامل ، وعموم الأدلة ـ «وتسلط الناس على أموالهم» ، وتملك المنفعة والحصة مع العمل ، وعدم ظهور مانع ـ يفيد الجواز ولو كان في المساقاة ما يمنع من إجماع ونحوه فهو ، والا فينبغي القول به فيها أيضا ثم انه قيل : في شرح الشرائع : المراد بالمشاركة هو بيع العامل بعض حصته المعلوم من الحصة التي له من الأرض بعوض معين ، وهو انما يكون ببلوغ الزرع أو ان البيع ، ويكون الثمن غير العمل على الظاهر ، وظاهر العبارات أعم من ذلك ، بل غير ذلك ، فانا نفهم أن المراد أن يشارك غيره بأن يعمل معه العمل المشترط بعوض وغيره ، وكون العوض جزء من حصته ، فكأنه يرجع الى المزارعة في البعض ، أو إجارة شخص لعمل بعوض ، أو استعماله بغير عوض فتأمل ، انتهى.

أقول : وهو يرجع في التحقيق الى ما ذكره أخيرا في المسالك بقوله ، وقد يقال : «ان هذا كاف» الى آخره ، ولا بأس به والذي وصل الى من الاخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) عن سماعة (١) في الموثق قال : «سألته عن المزارعة قلت : الرجل يبذر في الأرض مائة جريب أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره فيأتيه رجل فيقول : خذ منى نصف ثمن هذا البذر الذي زرعته في الأرض ، ونصف نفقتك على وأشركني فيه ، قال : لا بأس» وزاد في غير الفقيه «قلت : وان كان الذي يبذر فيه لم يشتره بثمن ، وانما هو شي‌ء كان عنده ، قال : فليقومه قيمة كما يباع يومئذ فليأخذ نصف الثمن ونصف النفقة ويشاركه». وما اشتملت عليه الرواية المذكورة أحد أنواع المشاركة وأفرادها ، وظاهرها أن البذر والعوامل والعمل كله من الزارع ، وأنه أعطاه نصف جميع ذلك ، فصار شريكه ، يعمل فيما بقي معه ، ويأخذ نصف ما شرط له من الحصة ، وهو ظاهر والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٣ «وفيه من الطعام» بدل طعاما ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٩ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٥ ح ١.


التاسعة ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن خراج الأرض ومؤنتها على المالك الا مع شرطها أو بعضها على المزارع ، أما الخراج فلانه موضوع على الأرض ، كالأجرة لها بل هو أجرة ، حتى أنه روى أنه لو زاد السلطان في الخراج وأخذ من الزارع فالزيادة على المالك ، يجب عليه دفعها إليهم ، لأنها انما زيدت على أرضه.

روى ذلك الشيخ في التهذيب عن سعيد الكندي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى آجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لا أظلمهم ولم أزد عليهم ، قال : انهم انما زادوا على أرضك».

وأما المؤنة فذكرها المحقق والعلامة في بعض كتبه إجمالا ، ولم يتنبهوا على ما هو المراد منها ، مع أنهم أطلقوا أن العمل على الزارع أو من شرط عليه.

قال في المسالك : والظاهر أن المراد بمؤنة الأرض هنا ما يتوقف عليه الزرع ، ولا يتعلق بنفس عمله وتنميته ، كإصلاح النهر والحائط ونصب الأبواب إذا احتاج إليها ، واقامة الدولاب ، وما لا يتكرر في كل سنة كما فصلوه في المساقاة ، والمراد بالعمل الذي على الزارع ما فيه صلاح الزرع وبقاؤه مما يتكرر كل سنة ، كالحرث والسقي وآلاتهما ، وتنقية النهر من الحمأة ، وحفظ الزرع وحصاده ونحو ذلك ، انتهى.

هذا مع عدم اشتراطها على الزارع ، أما لو اشترطها المالك على الزارع كلا أو بعضا تعلقت بالزارع ، الا أن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك معلومية القدر المشروط وضبطه كلا أو بعضا ، حيث قال : فان شرط عليه لزم إذا كان القدر معلوما ، وكذا لو شرط بعضه معينا أو مشاعا مع ضبطه ، ولو شرط عليه الخراج فزاد السلطان فيه زيادة فهي على صاحب الأرض ، لأن الشرط لم يتناولها ، ولم يكن معلومة ، فلا يمكن اشتراطها ، انتهى.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١٠.


أقول : المفهوم مما حضرني من الاخبار المتعلقة بهذه المسئلة خلاف ما ذكره (رحمه‌الله) وهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود بن سرحان (١) في الصحيح «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يكون له الأرض عليها خراج معلوم ، وربما زاد وربما نقص فيدفعها الى رجل أن يكفيه خراجها ويعطيه مأتي درهم في السنة ، قال : لا بأس». ورواه الصدوق في الفقيه عن يعقوب بن شعيب (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) مثله.

وما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (٣) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ، ويؤدى خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس».

وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في عدم ضرر جهالة الشرط المذكور هنا ، سيما الخبرين الأولين ، بل ورد ما هو أظهر اشكالا من ذلك مما يدل على جواز قبالة الأرض وإجارتها بما عليها من الخراج قل أو كثر.

كما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قرية لا ناس من أهل الذمة لا أدرى أصلها لهم أم لا غير أنها في أيديهم ، وعليهم خراج ، فاعتدى عليهم السلطان ، فطلبوا إلي فأعطوني أرضهم وقريتهم أن أكفيهم السلطان بما قل أو كثر ففضل لي بعد ذلك فضل ، بعد ما قبض السلطان ما قبض قال : لا بأس بذلك لك ما كان من فضل».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٢.


وما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن سرحان (١) قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القوم يدفعون أرضهم الى رجل فيقولون له كلها وأد خراجها ، قال : لا بأس به ، إذا شاءوا أن يأخذوها أخذوها».

وما رواه في الفقيه عن أبى الربيع (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في رجل يأتي أهل قرية وقد اعتدى عليهم السلطان وضعفوا عن القيام بخراجها ، والقرية في أيديهم ولا يدرى هي لهم أم لغير هم فيها شي‌ء ، فيدفعونها اليه على أن يؤدى خراجها فيأخذها منهم ويؤدى خراجها ، ويفضل بعد ذلك شي‌ء كثير ، فقال : لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك».

وهي ظاهرة في جهالة مال الإجارة ، إذ ليس لهذه الاخبار محمل على غير الإجارة ، وهذه الاخبار مما يؤيد القول بالاكتفاء بمعلوميتها في الجملة ، خلافا لظاهر المشهور من اشتراط معلوميتها تفصيلا بالكيل لو كانت مكيلة ، والوزن كذلك ونحو ذلك ، وسيأتي تحقيق المسئلة ـ ان شاء الله تعالى ـ في محلها والله العالم.

العاشرة ـ قد صرحوا بأنه في كل موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة ، فإنه يجب لصاحب الأرض أجرة المثل ، وهو مبنى على ما إذا كان البذر من الزارع ، لان الحاصل حينئذ يكون له ، حيث أنه نماء بذره ، ويجب لصاحب الأرض عليه أجرة مثله ، لتصرفه فيها وأخذه منفعتها من غير أن يكون ذلك تبرعا ولا بتعيين أجرة ، فيلزم العوض وهو أجرة المثل.

وأما لو كان البذر لصاحب الأرض فإن النماء يكون له لما عرفت ، وعليه للعامل أجرة المثل بالنسبة إلى العمل ، والعوامل والآلات.

ولو كان البذر منهما معا أنصافا مثلا ، فالحاصل بينهما كذلك ، ولكل منهما

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٦٤ لكن عن أبى بردة بن رجا ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٣.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٢ ح ٤.


على الأخر أجرة ما يخصه على نسبة ما للآخر من الحصة ، فلو كان البذر بينهما أنصافا كما فرضناه رجع المالك بنصف أجرة أرضه على العامل ، ورجع العامل على المالك بنصف أجرة عمله وعوامله وآلاته.

وعلى هذا القياس لو كان البذر من ثالث بناء على جواز المزارعة مع الزيادة على اثنين ، فان الحاصل له ، وعليه أجرة المثل بالنسبة إلى الأرض لصاحبها ، وأجرة المثل لعاملها بالنسبة إلى عمله وعوامله وآلاته والله العالم.

الحادية عشر ـ قد صرحوا بأنه يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع ، والزارع بالخيار في القبول والرد فان قبل كان استقراره مشروطا بالسلامة ، فلو تلف الزرع بآفة سماوية أو أرضيته لم يكن عليه شي‌ء.

أقول : اما جواز الخرص وتخيير الزارع بين القبول وعدمه فيدل عليه جملة من الاخبار ، مضافا الى ظاهر اتفاق الأصحاب ، ومنها أخبار خيبر ، وقد تقدم في المسئلة الخامسة خبر الكناني ، الدال على خرص عبد الله بن رواحة عليهم ، وتخييرهم.

ومثلها صحيحة يعقوب بن شعيب (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) وفيها فلما بلغت الثمرة أمر عبد الله فخرص عليهم النخل ، فلما فرغ منه خيرهم فقال : قد خرصنا هذا النخل بكذا صاعا فإن شئتم فخذوه وردوا علينا نصف ذلك ، وان شئتم أخذناه وأعطينا كم نصف ذلك ، فقال اليهود بهذا قامت السموات والأرض.

وأما ان ذلك يكون لازما له بعد القبول ، وبموجب ذلك يكون الزيادة له والنقص عليه فيدل عليه ما رواه في الكافي والفقيه (٢) عن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه ، قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان لنا أكرة فنزارعهم فيجيؤن ويقولون لنا : قد حزرنا هذا الزرع بكذا وكذا فأعطوناه ، ونحن نضمن لكم أن نعطيكم حصتكم على هذا الحزر فقال : وقد بلغ؟ قلت : نعم قال :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩ ح ٤.


لا بأس بهذا ، قلت : فإنه يجي‌ء بعد ذلك فيقول لنا : ان الحرز لم يجي‌ء كما حزرت وقد نقص ، قال : فإذا زاد يرد عليكم؟ قلت : لا قال : فلكم أن تأخذوه بتمام الحرز كما أنه إذا زاد كان له كذلك إذا نقص كان عليه.

وما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن مسلم (١) عن أبى جعفر وأبى عبد الله (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يمضى ما خرص عليه في النخل؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت ان كان أفضل مما خرص عليه الخارص أيجزيه ذلك؟ قال : نعم».

وقد صرح الأصحاب بأن محل الخرص بعد بلوغ الغلة ، وهو عبارة عن انعقاد الحب ، واليه يشير قوله في صحيحة يعقوب المذكورة «فلما بلغت الثمرة» وقوله في مرسلة محمد بن عيسى قال «وقد بلغ قلت : نعم قال : لا بأس».

وأما ان استقراره مشروط بالسلامة بمعنى أنه لو تلفت الغلة بآفة من جهة الله تعالى فلا شي‌ء عليه ، ولو تلف البعض فبالنسبة ، فالأخبار خالية منه ، مع ظهور منافاة ذلك الحكم باللزوم بعد القبول كما عرفت ، الا أن ظاهر الأصحاب عدا ابن إدريس الاتفاق على الحكمين المذكورين.

قال في المسالك ـ بعد أن ذكر أن المشهور ان لزوم العوض فيه مشروط بالسلامة ـ ما لفظه والحكم بذلك هو المشهور بين الأصحاب ، ومستنده غير واضح وحكمه لا يخلو من اشكال ان لم يكن انعقد عليه الإجماع ، وانى لهم به ، وانما هو شي‌ء ذكره الشيخ في بعض كتبه ، وتبعه عليه الباقون معترفين بعدم النص ظاهرا على هذه اللوازم ، انتهى.

وهو كما ترى ظاهر في توقفه في الحكم بذلك ، وظاهر المحقق الأردبيلي (قده) الميل الى ذلك بتكلف بالوجوه المصححة له حيث قال : ووجه توقفه على السلامة من الآفات السماوية والأرضية أنه بمنزلة معاملة مشترطة بقبض العوض ، ووصوله

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٥ ح ٥١. الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٦ ح ٣.


الى يد صاحبه ، فلو لم يسلم لم يحصل ذلك كالمبيع إذا تلف قبل القبض ، الى أن قال : فالحكم غير خال من وجه مع شهرته ، بل كاد أن يكون إجماعا ، إذ المخالف غير ظاهر مع التتبع ، غير ما نقل عن ابن إدريس رحمه‌الله ، من منع هذه المعاملة.

وهو غير جيد للنصوص المتقدمة وعموم أدلة العقود والشروط نعم قد يحصل التردد في بعض اللوازم ، مثل توقفه على السلامة ، مع كونه لازما ، على ذلك غير بعيد لما قدمناه مع عدم الخلاف من القائلين به فتأمل ، انتهى.

وبالجملة فإن الحكم المذكور محل الاشكال لما عرفت من ظهور الاخبار في لزوم هذه المعاملة وصحتها ، وقضية ذلك ان ذهابه بالآفة من مال المتقبل خاصة ، مع ظهور اتفاقهم على خلافه كما عرفت.

وقال في المسالك بعد ذكر تخير الزارع في القبول وعدمه : ما لفظه وعلى تقدير قبوله يتوقف نقله اليه على عقد ـ كغيره من الأموال ـ بلفظ الصلح أو التقبيل على ما ذكره الأصحاب.

أقول : لا يخفى أن غاية ما يفهم من الاخبار المتقدمة التي هي المستند في هذه الأحكام هو حصول التراضي بينهما كيف اتفق ، كما هو القدر المحقق من الاخبار في سائر العقود التي اشترطوا فيها ما اشترطوه من القيود الكثيرة ، نعم يمكن القول بكون ذلك من قبيل الصلح ، فإنه كما تقدم تحقيقه ، لا شرط فيه زيادة على ما يدل على التراضي بينهما بالألفاظ الجارية في المحاورة في ذلك المقام.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد قال الشيخ في النهاية : ومن زارع أرضا على ثلث أو ربع وبلغت الغلة جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلة ، ثمرة كانت أو غيرها ، فإن رضي المزارع بما خرص أخذها وكان عليه حصة صاحب الأرض ، سواء نقص الخرص أو زاد ، وكان له الباقي ، فإن هلكت الغلة بعد الخرص بآفة سماوية لم يكن عليه للمزارع شي‌ء انتهى ، وعلى هذه المقالة وما تضمنته من


جميع الأحكام جرى الأصحاب ممن تأخر عنه.

وقال ابن إدريس : الذي ينبغي تحصيله انه لا يخلو أن يكون قد باعه حصته من الغلة والثمرة بمقدار ما في ذمته من الغلة والثمرة ، أو باعه الحصة بغلة من هذه الأرض ، فعلى الوجهين معا البيع باطل ، لانه داخل في المزابنة والمحاقلة ، وكلاهما باطلان وان كان ذلك صلحا لا بيعا فان ذلك بغلة وثمرة في ذمة الأكار الذي هو الزارع فإنه لازم له ، سواء هلكت الغلات بالآفة السماوية أو الأرضية ، وان كان ذلك الصلح بغلة من تلك الأرض ، فهو صلح باطل لدخوله في باب الغرر ، لانه غير مضمون فان كان ذلك فالغلة بينهما سواء ، زاد الخرص أو نقص ، تلفت منهما أو سلمت لهما ، فليلحظ ذلك ، فهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وتشهد به الأدلة فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى ان هذه الأصول التي يستند في غير مقام إليها والأدلة التي نبذه بالاعتماد عليها ان كانت من الاخبار المعلومة من الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) فهي لا تخرج عما رده هنا من هذه الاخبار ، لان الجميع مشترك في نسبته إليهم ، وثبوته عنهم (عليهم‌السلام) فان سماها أخبار آحاد ، لم ينقل عنهم في حكم من الأحكام الفقهية أخبار بطريق التواتر ، ليكون مقابلة لهذه الاخبار ، بل ليس الا هذه الاخبار المروية في الكتب الأربعة المشهورة ونحوها ، وان سماها بما ذكره ، وان كانت من القرآن فمن المعلوم بطلانه ، لان القرآن لم يتضمن أمثال هذه الجزئيات والخصوصيات ، وان كان الإجماع فهو غير حقيق بالاستماع ، ولا جدير بالاتباع ، وليس فيه الا تضييع المداد ، وتكثير السواد كما لا يخفى على أدنى ذي مسكة من العباد ، فضلا عن ذي الفهم النقاد.

ومن الاخبار الزائدة على ما قدمناه صحيحة الحلبي (١) عن أبى عبد الله

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٦ ح ١ ، التهذيب ح ٧ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨ ح ٢.


(عليه‌السلام) أن أباه حدثه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعطى خيبر بالنصف أرضها ونخلها فلما أدركت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة وقوم عليهم قيمة فقال لهم : اما أن تأخذونه وتعطوني نصف الثمن ، واما أن أعطيكم نصف الثمن وآخذه ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض».

على أن لقائل أن يقول أنه لا دليل على انحصار النقل في هذه العقود المشهور بينهم من البيع والصلح ونحوهما ، لوجود جملة من المواضع قد دلت الاخبار على حصول النقل فيها مع خروجها عن هذه المواضع ، كالأخبار الدالة على جواز قبالة الأرض بما عليها من الخراج ، وقد تقدمت في المسألة التاسعة والاخبار الدالة على جواز قبالة الأرض لمن يعمرها ويؤدى خراجها ويأكل حاصلها ، وقدمت في الشرط الثاني من شروط المزارعة ، فلتكن هذه الاخبار هنا من قبل ذلك ، وان أمكن إدراج الجميع في الصلح ، إذ لا دليل على تخصيصه بما اصطلحوا عليه وخصصوا به من الشروط.

وبالجملة فإنه حيث تكاثرت الأخبار بصحة هذه المعاملة واستحقاق ذلك بعد التخيير والقبول ووجوب دفع الحصة المشترطة على المتقبل ، فإنه لا يلتفت الى كلامه ، وانما يبقى الاشكال فيما ذكروه من اشتراط السلامة كما عرفت والله العالم.

الثانية عشر ـ نقل في المختلف عن ابن الجنيد أنه قال : لو استحقت الأرض كان للمالك أن يطالب الزارع بقلع الزرع ، الا أن يكون في ذلك ضرر على أهل الزكاة وغيرهم ، بتلف حقوقهم منه ، فان ضمنه رب الأرض لهم وقلع الزرع كان مخيرا بين أن يأخذ الجزء منه على تلك الحال ، وبين أن يضمن الذي غر الزارع قيمة نصف الزرع ثابتا وسلم الزرع كله اليه.

ثم اعترضه فقال : والوجه أن للمالك قلع الزرع مطلقا وان تضرر أرباب الزكاة ، ويأخذ أرباب الزكاة نصيبهم من العين ، إذا تعلقت بها الزكاة ، وله الرجوع


في الزرع بالأجرة ويرجع الزارع على الغار ، انتهى وهو جيد.

الثالثة عشر ـ روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن عبد الله بن سنان (١) في الصحيح ، انه قال : في الرجل يزارع فيزرع أرض غيره ، فيقول ثلث للبقر ، وثلث للأرض ، وثلث للبذر ، قال : لا يسم شيئا من الحب والبقر ، ولكن يقول : ازرع فيها كذا وكذا ان شئت نصفا وان شئت ثلثا».

وعن سليمان بن خالد (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يزرع أرض آخر فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا؟ قال : لا ينبغي أن يسمى بذرا ولا بقرا فإنما يحرم الكلام».

وروى الشيخ في التهذيب عن أبى الربيع الشامي (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) مثل الخبر الثاني : وزاد قبل قوله «وانما يحرم الكلام» «ولكن يقول لصاحب الأرض : ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من شرط ولا يسمى بذرا ولا بقرا».

وروى في الفقيه عن أبى الربيع (٤) «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يزرع أرض رجل على أن يشترط للبقر الثلث ، ولصاحب الأرض الثلث ، فقال : لا ينبغي أن يسمى بقرا ولا بذرا ، ولكن يقول لصاحب الأرض : ازرع في أرضك ولك كذا وكذا مما أخرج الله تعالى».

وروى في الكافي في الصحيح عن الحلبي (٥) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا؟ قال : لا ينبغي أن يسمى شيئا فإنما يحرم الكلام».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٧ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٠ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٠ ح ٦.

(٣) التهذيب ح ٧ ص ١٩٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠١ ح ١٠.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ١٥٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠١ ح ١٠.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ٤.


أقول : وهذه الاخبار قد اشتركت في الدلالة على تحريم اشتراط شي‌ء للبقر والبذر كما عرفت ، ولم أقف على قائل بذلك إلا في كلام ابن الجنيد وابن البراج.

قال ابن الجنيد : ولا بأس باشتراك العمال بأموالهم وأبدانهم في مزارعة الأرض وإجارتها ، إذا كان على كل واحد قسط من المؤنة والعمل ، وله جزء من الغلة ، ولا يقول أحدهم : ثلث للبذر ، وثلث للبقر ، وثلث للعمل ، لان صاحب البذر يرجع اليه بذره ، وثلث الغلة من الجنس ، وهذا ربا ، فان جعلت البذر دينا جاز ذلك ، وقال ابن البراج : لا يجوز أن يجعل للبذر ثلثا وللبقر ثلثا.

والعلامة في المختلف بعد أن نقل عنهما ذلك واستدل لهما برواية أبي الربيع المروية في التهذيب قال : والوجه الكراهة ، ولا ربا هنا ، إذ الربا انما يثبت في البيع خاصة.

أقول : أنت خبير بان الدليل غير منحصر في رواية أبي الربيع المذكور ، لما عرفت من الروايات الصحيحة الصريحة في التحريم غيرها ، وعدم ظهور الوجه لنا في التحريم لا يدل على نفيه فلعل هنا علة لا يدركها فهمنا ، على أن ما ذكره من اختصاص الربا بالبيع خاصة قد تقدم ما فيه ، وأنه ثابت في غيره أيضا.

قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين في حواشيه على التهذيب : وقوله للبذر ثلثا وللبقر ثلثا يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون اللام للتمليك ، فالنهي لكونهما غير قابلين للملك ، وثانيهما أن يكون المعنى ثلث بإزاء البذر ، وثلث بإزاء البقر ، فالنهي لشائبة الربا في البذر ، وقال العلامة في المختلف : بالكراهة ، وابن البراج وابن الجنيد ذهبا إلى الحرمة ، ولا يخلو من قوة ، انتهى.

تتميم نفعه عميم في استحباب المزارعة والغرس ، وما يقال ويفعل وقت الحرث والزرع ونحو ذلك قد استفاضت الاخبار باستحباب الزرع ، فروى


المشايخ الثلاثة عن سيابة (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سأله رجل فقال له : جعلت فداك أسمع قوما يقولون : ان الزراعة مكروهة ، فقال : ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملا أحل ولا أطيب منه ، والله ليزر عن الزرع وليغرسن النخل بعد خروج الدجال».

وروى في الكافي والفقيه عن محمد بن عطية (٢) قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ان الله تعالى اختار لأنبيائه الحرث والزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء». وزاد في الفقيه (٣) «وسئل عن قول الله تعالى «وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» قال : الزارعون.

وروى في الكافي عن سهل (٤) رفعه قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام): ان الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء».

وعن مسمع (٥) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لما هبط آدم (عليه‌السلام) الى الأرض احتاج الى الطعام والشراب فشكى ذلك الى جبرئيل (عليه‌السلام) فقال له جبرئيل : يا آدم كن حراثا قال : فعلمني دعاء قال : قل : اللهمّ اكفني مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة ، وألبسني العافية حتى تهنئني المعيشة».

وروى في الكافي مرسلا (٦) قال : «روى أن أبا عبد الله (عليه‌السلام) قال : الكيمياء الأكبر الزراعة».

وعن يزيد بن هارون الواسطي (٧) قال : سألت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٣٦ ح ٥٣ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٨ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٣ ح ٣.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٦٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٣ ح ٤.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٦٠ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٣ ح ٢.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٦٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٤ ح ٥.

(٦) الكافي ج ٥ ص ٢٦١ ذيل ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٤ ح ٨.

(٧) التهذيب ج ٦ ص ٣٨٤ ح ٢٥٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٥ ح ٣.


عن الفلاحين فقال هم الزارعون كنوز الله في أرضه ، وما في الأعمال شي‌ء أحب الى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيا الا زراعا إلا إدريس فإنه كان خياطا.

وعن يزيد بن هارون (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله عزوجل ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة يدعون المباركين.

وروى في الكافي عن السكوني (٢) «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أى المال خير؟ قال : الزرع زرعه صاحبه ، وأصلحه وأدى حقه يوم حصاده ، قال : فأي المال بعد الزرع خير؟ قال : رجل في غنم له قد تبع بها مواضع القطر يقيم الصلاة ، ويؤتى الزكاة ، قال : فأي المال بعد الغنم خير؟ قال : البقر تغدو بخير وتروح بخير ، قال : فأي المال بعد البقر خير؟ قال : الراسيات في الوحل والمطعمات في المحل. نعم الشي‌ء النخل من باعه فإنما ثمنه بمنزلة رماد على رأس شاهق اشتدت به الريح في يوم عاصف إلا أن يخلف مكانها ، قيل : يا رسول الله فأي المال بعد النخل خير؟ قال : فسكت قال : فقام اليه رجل فقال له : يا رسول الله فأين الإبل؟ قال : فيها الشقاء والجفاء والعناء وبعد الدار ، تغدو مدبرة وتروح مدبرة ، لا يأتي خيرها إلا من جانبها الأشأم ، أما أنها لا تعدم الأشقياء الفجرة».

ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا (٣) قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحديث ،. ثم قال : معنى قوله لا يأتي خيرها الا من جانبها الأشأم هو أنها لا تحلب ولا تركب الا من الجانب الأيسر.

وفي معاني الأخبار (٤) يقال لليد الشمال : الشؤم ، منها قال الله تعالى

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٤ ح ٧.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ١٩٠ ح ٦.

(٤) معاني الأخبار ص ٣٢٢ ط طهران ١٣٧٩.


«وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» (١) يريد أصحاب الشمال.

وقال في الوافي : ومعنى قوله «لا تعدم الأشقياء الفجرة» أن الإبل لا تزال تجد أشقياء يتخذونها ، انتهى.

ونحوه نقل عن بعض المشايخ أيضا حيث قال : أريد أنه من جملة مفاسد الإبل أنه يكون معها غالبا الأشقياء الفجرة ، وهم الجمالون الذين هم شرار الناس ، انتهى.

أقول : قد روى الصدوق في كتابي الخصال ومعاني الاخبار (٢) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): الغنم إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت ، والبقر إذا أقبلت أقبلت ، وإذا أدبرت أدبرت ، والإبل أعنان الشياطين إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت أدبرت ولا يجي‌ء خيرها الا من جانبها الأشأم ، قيل يا رسول الله : فمن يتخذوها بعد ذا قال : فأين الأشقياء الفجرة».

وحينئذ فالظاهر حمل إجمال الخبر الأول على هذا الخبر ، ويكون حاصل المعنى في الخبر الأول أن هذا الكلام منى لا يصير سببا للناس في ترك اتخاذها ، فإنه يتخذها الأشقياء الفجرة.

وروى في الكافي عن شعيب العقرقوفي (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا بذرت فقل اللهم قد بذرنا وأنت الزارع واجعله حبا متراكما».

وعن بكير في الحسن (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا أردت أن تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر واستقبل القبلة ، وقل «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ» (٥) ثلاث مرات ثم تقول بل الله الزارع ثلاث

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٩.

(٢) معاني الأخبار ص ٣٢١ ، الوسائل ج ٨ ص ٣٩٣ ح ٤ ط طهران ١٣٧٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٧ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٦٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٧ ح ٣.

(٥) سورة الواقعة الآية ٦٢ و ٦٣.


مرات ثم قل : اللهم اجعله حبا مباركا وارزقنا فيه السلامة ، ثم انثر القبضة التي في يدك في القراح».

وعن على بن محمد (١) رفعه قال : «قال على (عليه‌السلام) إذا غرست غرسا أو نبتا فاقرأ على كل عود أو حبة سبحان الباعث الوارث ، فإنه لا يكاد يخطئ إنشاء الله تعالى».

وعن محمد بن يحيى رفعه (٢) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «تقول إذا غرست أو زرعت ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها».

وروى الصدوق في كتاب العلل بسنده فيه عن عيسى بن جعفر العلوي (٣) عن آبائه أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : مر أخي عيسى بمدينة فإذا في ثمارها الدود. فسألوا إليه ما بهم ، فقال : دواء هذا معكم وليس تعلمون ، أنتم قوم إذا غرستم الأشجار صببتم التراب ، وليس هكذا يجب ، بل ينبغي أن تصبوا الماء في أصول الشجر ثم تصبوا التراب لكيلا يقع فيه الدود ، فاستأنفوا كما وصف فذهب عنهم ذلك».

وروى في الكافي عن ابن عرفه (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام): من أراد أن يلقح النخيل إذا كان لا يجود حملها ولا يتبعل النخل فليأخذ حيتانا صغارا يابسة فيدقها بين الدقتين ثم يذر في كل طلعة منها قليلا ويصر الباقي في صرة نظيفة ثم يجعله في قلب النخلة ينفع باذن الله تعالى».

وعن صالح بن عقبة (٥) قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) قد رأيت حائطك فغرست فيه شيئا بعد قال : قلت : قد أردت أن آخذ من حيطانك وديا

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٣ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٧ ح ٤ و ٥.

(٣) علل الشرائع ص ٥٧٤ ح ١ باب ٣٧٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٢ ح ١.

(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٢٦٣ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٧ ح ١ من باب ٦.


قال : أفلا أخبرك بما هو خير لك منه ، وأسرع ، قلت : بلى قال : إذا أينعت البسرة وهمت أن ترطب فاغرسها ، فإنها تؤدي إليك مثل الذي غرستها سواء ففعلت ذلك فنبتت مثله سواء».


المطلب الثاني في المساقاة

وهي معاملة على أصول ثابتة بحصة من ثمرها ، فالمعاملة بمنزلة الجنس ، لتناولها لجميع عقود المعاوضات ، وقولنا على الأصول بمنزلة الفصل ، ويخرج به المزارعة ، وقولنا ثابتة لإخراج مالا ثبوت لأصله ، وعرقه في الأرض مثل الخضروات ، والورد الذي لم يغرس ، والمغروس قبل ثبوت عروقه واستقرارها ، ونقل في المختلف عن الشيخ أنه يجوز المساقات على البقل جرة بعد جرة للأصل ، ثم رده فقال : والأقرب المنع ، لأنها معاملة على مجهول ، فتصح في موضع الإجماع ، انتهى.

وقولنا : بحصة من ثمرها يخرج به الإجارة ، فإنها وان صحت على الأصول الثابتة لكن لا بحصة من الثمرة ، بل بأجرة معينة معلومة أو مضمونة ، وهل المراد بالثمرة هنا المعنى المتبادر ، أو ما يدخل فيه النماء للشجرة ، فتصح المساقاة على ما يقصد ورده ، وورقه ، كشجرة الحناء والتوت اشكال ، ولعل الأرجح الأول ، حملا للفظ على المعنى المعهود المتبادر من اللفظ ، فلا تصح المساقاة الا على أصول لها ثمرة متعارفة ، ويؤيده عدم وجود نص في المساقاة على ما كان كذلك ، والأصل العدم ، وأما دليل صحة هذه المعاملة فالإجماع والنصوص.


ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) وفيها قال : سألته عن الرجل يعطى الرجل أرضه وفيها الرمان والنخل والفاكهة ويقول اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف مما خرج ، قال : لا بأس».

وصحيحة الحلبي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «أن أباه حدثه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعطى خيبر بالنصف أرضها ونخلها» الحديث.

والمراد أنه ، أعطى أرضها بالمزارعة ونخلها بالمساقاة ، ونحوه غيره من أخبار خيبر ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في فصلين.

الفصل الأول في الأركان :

وهي خمسة ، العقد ، والمحل الذي تقع المساقاة عليه ، والمدة ، والعمل ، والفائدة ، وحينئذ فالبحث يقع في مقامات خمسة :

الأول ـ العقد ، وحيث كانت المساقاة عندهم من العقود اللازمة ، صرحوا فيها بما يشترط في غيرها من العقود اللازمة ، كالبيع وأمثاله ، فأوجبوا فيها الإيجاب والقبول ، بأن يقول : ساقيتك وعاملتك أو سلمت إليك ، وعقدت معك عقد المساقاة ، وقبلتك عملها ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإنشاء بلفظ الماضي.

قالوا : واللفظ الصريح من ذلك لفظ ساقيتك ، وزاد في التذكرة على ما تقدم من الألفاظ أتعهد نخلي بكذا وكذا ، وأعمل فيه كذا وكذا.

قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : ويشكل بما مر في نظيره من عدم صراحة الأمر في الإنشاء ، ولا وجه لإخراج هذا العقد اللازم من نظائره ، وقد نوقش في الاكتفاء به في المزارعة بلفظ الأمر مع الاستناد فيها الى النص ، وهو

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٦ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ٢.


منتف هنا ، وجريان المعاطاة هنا بعيد ، لاشتمال هذا العقد على الغرر وجهالة العوض ، بخلاف البيع والإجارة ، فينبغي الاقتصار فيه على موضع اليقين ، انتهى.

وأنت خبير بما فيه مما أسلفنا بيانه في غير مقام مما تقدم ، ولا سيما في كتاب البيع (١) وبالجملة فالمستفاد من الاخبار على وجه لا يعتريه شائبة الإنكار ، هو الاكتفاء بالألفاظ الدالة على التراضي بذلك على أى نحو اتفق.

ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة ، فإن ما اشتملت عليه من قول المالك «اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف ما خرج» هو عقد المساقاة الذي أوجبوا ترتب أحكام المساقاة عليه ، وهو ظاهر أيضا في أنه يكفى في القبول الرضا الفعلي ، دون القولي كما تقدم نظيره في المزارعة ، والمفهوم أيضا من أخبار خيبر ودفع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أرضها ونخلها لهم بالنصف ، هو مجرد التراضي على ذلك بقول أو فعل بأي نحو كان ذلك.

على أن ما ادعوه من لفظ المساقاة في هذه المعاملة ـ وتسميتها بهذا الاسم فضلا عن كونه أصرح ألفاظها ـ لم يرد في خبر من الاخبار بالكلية ، وانما هو شي‌ء اصطلحوا عليه ، وتبعوا العامة في التسمية بهذا الاسم ، ولفظ المزارعة وان وجد في الاخبار الا أن هذا اللفظ لم نقف عليه في خبر منها بالكلية ، والذي وجدناه من أخبارها هو ما قدمناه وربما أطلق عليها في بعض الاخبار لفظ القبالة.

وبالجملة فإن ما ذكروه في المقام كما ذكروه في غير نفخ في غير ضرام لعدم ثبوته في شي‌ء من أخبارهم (عليهم‌السلام) التي هي المعتمد ، وعليها المعول في النقض والإبرام.

تنبيهات :

الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه يكون عقد المساقاة من العقود اللازمة ، واستندوا في ذلك الى الأدلة العامة ، مثل قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢)

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٤٨.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.


«والمسلمون عند شروطهم» (١). فلا يجوز لأحدهما فسخه الا مع التراضي والتقايل من الطرفين.

نعم ربما يعرض له البطلان بأسباب آخر من خارج ، مثل عدم حصول شرط ، والبطلان لعدم الانتفاع ، مثل انقطاع الماء ونحوه مما تقدم في المزارعة.

الثاني ـ لا خلاف في صحة المساقاة قبل ظهور الثمرة بالكلية ، لظهور تأثير العمل في استحقاق الحصة ، مضافا إلى عموم الأدلة المشار إليها آنفا ، وكذا لا خلاف في عدم الصحة بعدم الظهور على وجه لا يفيد العمل فيها زيادة.

وانما الخلاف فيها لو كان بعد الظهور ، وقد بقي عمل يحصل به الزيادة والنماء في الثمرة ، فقيل : بالصحة وهو اختيار المحقق بعد التردد في المسئلة واستجوده في المسالك ، وبه صرح العلامة في التذكرة ، قال (رحمه‌الله) في الكتاب المذكور : لا تصح المساقاة على ثمرة قد وجدت وبد إصلاحها ، واستغنت عن السقي ، ولم يبق لعمل العامل فيها مستزاد إجماعا ، لأنها والحال هذه قد ملكها رب البستان ، ولم يحصل بالمساقاة زيادة الثمار ، والغرض بها تحصيل الثمار أو جودة أنواعها ، وإذا لم يحصل الغرض ، خلا العقد من الفائدة ، فيكون باطلا ، وأما إذا كانت الثمار قد ظهرت ولم يبدو صلاحها ، فإن بقي للعامل ما فيه مستزاد الثمرة كالتأبير والسقي وإصلاح الثمرة جازت المساقاة ، تحصيلا لتلك الفائدة ، انتهى.

وأيد القول بالصحة في المسالك أيضا ، قال ولان العقد حينئذ أبعد عن الغرر للوثوق بالثمرة فيكون أولى مما لو كانت معدومة انتهى واليه يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا ، والظاهر أنه المشهور وقيل : بعدم الجواز نظرا الى أن الثمرة إذا ظهرت فقد حصل المقصود فصار بمنزلة القراض بعد ظهور الربح ، ولان المقصود من المساقاة ظهور الثمرة بعمله ، قال : في المسالك بعد نقل ذلك : وفيها منع

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٢٧ ج ٥ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٥٣ ح ١.


ظاهر ، والمسئلة لا تخلو من نوع توقف ، لعدم النص وان كان القول الأول لا يخلو من قوة ورجحان ، والله العالم.

الثالث ـ المشهور بين الأصحاب أنه لا تبطل المساقاة بموت المساقى ولا بموت العامل ، ولا بموتهما معا.

وقال الشيخ في المبسوط : إذا مات أحدهما أو ماتا انفسخت المساقاة ، كالإجارة عندنا ، ومن خالف في الإجارة خالف هنا.

والظاهر هو القول المشهور ، لان ذلك هو مقتضى لزوم العقد حتى يقوم دليل على البطلان ، الا أن يكون المالك قد شرط على العامل العمل بنفسه ، فإنها تبطل بموت العامل قبل ظهور الثمرة ، بلا اشكال.

وأما بعد ظهورها فإشكال ينشأ من حصول ملكه ، لما ظهر منها بالعمل السابق ، فلا يزول بموته ، ومن أن الظاهر من إطلاق المساقاة هو أن الملك مشروط بإكمال العمل ولم يحصل ، فيكون الملك قبل ذلك بمنزلة المتزلزل ، وأطلق جمع من الأصحاب البطلان إذا شرط عليه العمل بنفسه.

وفيه ما عرفت ، ولعله بناء منهم على ما أشرنا إليه من أن ملك الحصة انما يستقر بإتمام العمل ، والا نسب بما تقدم ـ من جواز المساقاة بعد ظهور الثمرة مع بقاء عمل يحصل به الزيادة فيها كما هو ظاهر المشهور ـ هو الأول من وجهي الإشكال هنا ، لاشتراكهما في التبعض ، وعدم الإكمال.

ثم انه ان كان الميت المالك استمر العامل على عمله ، وقاسم الوارث ، لما عرفت من عدم بطلانها بموت أحد منهما ، وان كان الميت هو العامل ، رجع الأمر إلى التفصيل المتقدم من أنه مع شرط العمل عليه بنفسه ، هل موته قبل ظهور الثمرة ، أو بعدها ، وقد عرفت الكلام في ذلك.

وانما بقي الكلام فيما لم يشترط عليه العمل بنفسه ، بل هو في ذمته ، فإنه يقوم وارثه مقامه في العمل ، الا أنه صرح في المسالك بأنه ليس للمالك منعه


في هذه الحال ، ولا إجباره لو امتنع من العمل ، قال : لان الوارث لا يلزمه حق لزم المورث الا ما أمكنه دفعه من ماله ، والعمل ليس بمال المورث ، فلا يجب على الوارث ، كما لا يؤدى الحقوق من مال نفسه ، ثم ان خلف العامل تركة تخير الوارث بين العمل ، وبين الاستيجار عليه من التركة ، فإن امتنع منهما استأجر الحاكم عليه من التركة ، فان لم يتفق ذلك تخير المالك بين الفسخ والإنفاق من ماله ، بنية الرجوع كما سيأتي تحقيقه فيما لو هرب العامل ، انتهى.

المقام الثاني ـ في المحل الذي يرد عليه عقد المساقاة وهو كل أصل ثابت له ثمرة ينتفع بها مع بقائه ، والمراد بالأصل الثابت كالنخل ، والشجر الذي له ساق ، فلا تصح المساقاة على نحو البطيخ والباذنجان والقطن وقصب السكر والبقول قال في التذكرة : لا يثبت المساقاة عليها إجماعا ، لأن أصول هذه لا بقاء لها غالبا واضمحلالها معلوم عادة ، ولا عبرة بالنادر إذا ثبت في بعضها.

بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما ـ ما لا ثمرة له ، انما له ورق ينتفع به ، أو ورد ، أو نحو ذلك كالحناء وشجر الورد والتوت ونحوها وقد تردد المحقق في صحة المساقاة على ذلك ، ولم يرجح شيئا ووجه الشارح في المسالك التردد المذكور بان منشأه من أن هذه المعاملة باشتمالها على ضرب من الغرر ، بجهالة العوض على خلاف الأصل ، فيقتصر بها على محل الوفاق ، وهو شجر الثمر ، ومن أن الورق المقصود كالثمرة في المعنى فيكون مقصود المساقاة حاصلا به ، قال : وفي بعض الاخبار ما يقتضي دخوله ، ثم قال : والقول بالجواز لا يخلو من قوة ، ومثله ما يقصد زهره كالورد ، انتهى ، والعلامة في القواعد بعد أن استشكل في الحكم المذكور مال الى الجواز.

أقول : ما ذكره في المسالك من أن في بعض الاخبار ما يقتضي دخوله لم أقف عليه ، فان ثبت ذلك فلا معدل عنه ، والا فالحكم مشكل ، وترجيح العدم كما قدمنا ذكره في صدر البحث أقرب ، ولم أقف في الاخبار على ما يتضمن


جواز هذا العقد ، الا على الخبرين المتقدمين ، ونحوهما أخبار خيبر ، ومورد الجميع الشجر والنخل.

وبمثل ما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا ، فقال بعد أن نقل عن المسالك ذلك : ما رأيت شيئا خاصا الا ما يدل على عموم الفواكه في الجملة ، ولعله يريد العمومات كما أشرنا إليه ، لكنها موجودة في الكتاب أيضا ، انتهى.

ثم انه لا يخفى أن التوت المذكور مع الحناء في كلامهم وأنه محل الاشكال والتردد ، مراد به الذكر منه ، وهو الذي لا يقصد ثمرته ، أما الأنثى المقصود منه الثمرة فإنه لا اشكال ولا خلاف في جواز المساقاة عليه.

قال في التذكرة : أما التوت الأنثى فإنه يجوز المساقاة عليه عندنا ، لانه مثمر ، وأما التوت الذكر وما أشبهه مما يقصد ورقه كالحناء وشبهه ففي جواز المساقاة عليه خلاف ، والأقرب جوازها ، لان الورق في معنى الثمرة ، ولكونه مما يتكرر في كل عام ، ويمكن أخذه ، والمساقاة عليه بجزء منه ، فيثبت له مثل حكم غيره ، وكذا شجر الخلاف لاغصانها التي تقصد كل سنة أو سنتين ، والأقرب الجواز في التوت بنوعيه ، وكلما يقصد ورقه أو ورده كالنيلوفر والياسمين والأس وأشباه ذلك ، وكذا في فحول النخل ، لان لها طلع يصلح كشا للتلقيح ، فأشبهه الثمرة.

قال المحقق الأردبيلي بعد نقل ذلك عنه : ولا يبعد قرب ما قربه ، لعموم «أَوْفُوا» (١) و «المسلمون عند شروطهم» (٢). و «لان الناس مسلطون على أموالهم» (٣). فلهم ما يفعلون الا ما منع ، ثم أطال بنحو ذلك من التقريبات الى أن قال : ولو لا نقل الإجماع المذكور ـ في شرح الشرائع في عدمها في غير

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٦٩ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ١٢٧ ح ٥ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٥٣ ح ١.

(٣) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.


المغروس ونحوه ـ لكان القول بالجواز فيه متجها لما تقدم ، انتهى.

وبالجملة فالمسئلة لما عرفت غير خالية من شوب الاشكال ، قال في المسالك : والتوت بالتائين المثناتين من فوق وفي لغة نادرة بالثاء المثلثة أخيرا وردها الجوهري.

أقول : قال في القاموس في باب الثاء المثلثة التوت الفرصاد لغة في المثناة ، حكاه ابن فارس.

الثاني : أنهم قالوا لو ساقاه على ودى أو شجر غير ثابت لم يصح ، اقتصارا على موضع الوفاق ، أما لو ساقاه على ودى مغروس إلى مدة يحمل مثله فيها غالبا صح ولو لم يحمل فيها ، وان قصرت المدة المشترطة عن ذلك غالبا أو كان الاحتمال على السواء لم يصح.

أقول : الودي بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد الياء كغني : فسيل النخل ، قبل أن يغرس ، كذا ذكره في المسالك ، والذي في القاموس وكذا في المصباح المنير للفيومى أنه صغار الفسيل ، وقال في كتاب مجمع البحرين : والودي بالياء المشددة : هو صغار النخل قبل أن يحمل ، الواحدة ودية ، ومنه لو ساقاه على ودى غير مغروس ففاسد ، انتهى.

والفسيل على ما ذكره في كتاب المصباح هو ما ينبت مع النخل ويقطع منها ، قال : الفسيل صغار النخل ، وهي الودي والجمع فسلان ، مثل رغيف ورغفان ، الواحدة فسيلة ، وهي التي تقطع من الأم أو تقلع من الأرض ، فتغرس ، وهو ظاهر في أن إطلاق الفسيلة عليها انما هو بعد القلع أو القطع ، وبه يظهر أن إطلاقه في المجمع تفسير الودي بصغار النخل قبل أن يحمل لا يخلو من تسامح.

ثم ان ما أشار إليه من الحديث الدال على فساد المساقاة على الودي لم نقف عليه في أخبارنا ، ولا نقله غيره في ما أعلم من الأصحاب ، إذا عرفت هذا فاعلم أنه لو ساقاه على ودى أو شجر غير ثابت لم يصح بلا خلاف نصا وفتوى.


أما لو كان مغروسا ثابتا فإنه قد اشتمل على شرط الصحة من جهة المحل ، ولكن بقي الاشكال وتطرق الاختلال من جهة المدة التي توجد فيها الثمرة ، فإن ساقاه إلى مدة معينة لا يثمر ، مثل هذا الودي فيها علما أو ظنا متاخما له بالنظر الى العرف والعادة ، أو يكون الاحتمالان متساويين في وجود الثمر تلك المدة وعدمه ، فإنها تكون باطلة لجهالة المدة ، وعدم الجزم بحصول الثمرة.

ولو فرض تخلف الظن بأن حصلت الثمرة في المدة ، فلا يبعد صحة العقد لحصول الاحتمال وقت العقد ، مع مطابقته الواقع فيأخذ العامل الحصة وحينئذ ينبغي تقييد ما ذكروه بعدم الحصول فإنه كما عرفت لو حصلت لا يبعد الحكم بالصحة ، وعلى تقدير البطلان فان كان العامل عالما بذلك فليس له أجرة المثل ، لانه متبرع كمن زارع على أن لا يكون له شي‌ء أو استأجر على أن لا يكون له أجرة.

وان كان جاهلا فله أجرة المثل ، خصوصا مع علم صاحب الأرض ، فإن ذلك مقتضى قاعدتهم المصرح بها في كلامهم من أنه متى بطل العقد فللعامل أجرة المثل ، لان الحاصل لصاحب الأرض خاصة لبطلان العقد ، فلا بد للعامل في مقابلة عمله من عوض ، وهو المراد بأجرة المثل وان ساقاه إلى مدة يحمل مثله غالبا صح وان لم يحصل الحمل على خلاف العادة. لأن مناط الصحة تجويز ظهور الثمرة ، وظنه بحسب العادة فإذا حصل المقتضى صح ، وان تخلف الغرض منها كما لو ساقاه على شجر كثير فاتفق أنه لم يحمل تلك المدة ، وظاهرهم أنه ليس له أجرة المثل هنا على جميع العمل ، لقدومه على ذلك ، وأنه يجب عليه إتمام العمل وان علم الانقطاع قبله ، فان عدم الثمرة غير قادح في صحة المساقاة إذا كان حصولها مظنونا عادة وقت العقد ، إذ هو المناط في الصحة كما عرفت ونظيره ما لو تلفت الثمرة كلها أو أكلها الجراد أو غصبها غاصب ، فإنه في جميع ذلك يجب على العامل إتمام العمل ؛ ولا أجرة له وان تضرر كما يجب على عامل المضاربة انضاض المال وان ظهر الخسران ، بل هنا أقوى ، للزوم العقد ووجوب العمل.


واستشكل الحكم المذكور في التذكرة ، واحتمل انفساخ العقد لو تلف الثمار بأسرها ، وأيده المحقق الأردبيلي بعد نقل ملخص كلامه المذكور.

وفيه اشكال كما نقل عن التذكرة ، والظاهر العدم ، فان الظاهر أنه كالمعاوضة ، فمع عدم العوض لا ينبغي التكليف ، فإنه مثل تلف المبيع قبل القبض ولو سلم في القراض ما ذكر لدليل ، فلا يقاس والا يجي‌ء المنع فيه أيضا مع إمكان الفرق فتأمل ، انتهى.

وبالجملة فالمسئلة لعدم الدليل الواضح فيها لا يخلو من شوب الاشكال ، كما في أمثالها من هذا المجال ، والله العالم.

المقام الثالث في المدة ـ المشهور بين الأصحاب اشتراط مدة معينة وأجل مضبوط في عقد المساقاة بما لا يحتمل الزيادة والنقصان ، كقدوم الحاج وإدراك الغلة وان كانت الغلة المعامل عليها وقوفا فيما خالف الأصل ، واحتمل الغرر والجهالة على موضع اليقين ، وقال ابن الجنيد : ولا بأس بمساقاة النخل وما شاكله سنة وأكثر من ذلك إذا حضرت المدة أو لم تحصر كذا نقل عنه في المختلف.

ونقل عنه في المسالك أنه اكتفى بتقديرها بالثمرة المساقى عليها نظرا إلى أنه بالنسبة إلى ثبوته عادة ، كالمفهوم ، ولان المقصود منها هو العمل الى كمالها ولان العقد مبنى على الغرر والجهالة ، فلا يقدحان فيه ، ثم قال : والأجود الأول وان كان كلامه لا يخلو من وجه.

أقول : لا يخفى أن العبارة المنقولة عنه أعم مما نقله عنه في المسالك ، الا أن يحمل إطلاق عبارته على ذلك.

ومن ثم أنه احتج له في المختلف بعد نقل عبارته المذكورة فقال : احتج بأن ضبط الثمار يكفى عن الأجل ، إذ القصد ذلك.

وما رواه يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ٢.


سألته عن الرجل يعطى الرجل أرضه فيها الرمان والنخل والفاكهة ، فيقول : اسق هذا من الماء وأعمره ولك نصف ما خرج قال : لا بأس».

ثم أجاب عن ذلك قال : والجواب المنع ، وعن الحديث أن نفى البأس لا يستلزم اللزوم ، انتهى.

وقال في المسالك : واعلم أن الاتفاق على اشتراط تقديرها في الجملة كما قررناه ، وأما تركها رأسا فيبطل العقد قولا واحدا ، ولان عقد المساقاة لازم كما تقدم ، ولا معنى لوجوب الوفاء به دائما ، ولا إلى مدة غير معلومة ، ولا بسنة واحدة ، لاستحالة الترجيح بلا مرجح.

أقول : ان ثبت كون عقد المساقاة من العقود اللازمة كما ادعوه ، فما ذكره جيد لا حيود عنه الا أنى لا أعرف لهم دليلا على هذه الدعوى زيادة على ما يظهر من اتفاقهم على ذلك.

وربما كان الظاهر من عبارة ابن الجنيد المنقولة عن المختلف انما هو الجواز كما قال به جملة من العامة ، ثم أنه مع تسليم ذلك فإنه لا يخفى أن المقصود من المساقاة هو أخذ العامل الحصة من الحاصل ، بعد القيام بالعمل.

وحينئذ فلو اتفقا على المساقاة على ثمرة عام واحد فالظاهر أنه لا يحتاج في التحديد إلى أزيد من التحديد بالثمرة المساقى عليها كما تقدم نقله عن ابن الجنيد ، وعليه يحمل صحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة ، فكأنه قيل : فيها اسق هذا النخل والرمان والفاكهة الى أن تأخذ حصتك من الثمرة وهو النصف.

فإنك قد عرفت مما أسلفناه أن ما اشتملت عليه من هذا اللفظ هو صورة عقد المساقاة ، إذ ليس في الخبر ما يدل على زيادة على ذلك ، وهو بحسب ظاهره غير مشتمل على المدة التي أوجبوها في العقد ، فاللازم أما كونه جائزا كما قدمنا ذكره ، فلا ينافيه الإخلال بالمدة ، لجواز الفسخ متى شاء أحدهما ، أو انه لازم كما صرحوا به ، فلا بد من اعتبار ما ذكرناه ، وتقدير ما قدرناه ليتم ما ذكروه.


وأما قول العلامة في المختلف في الجواب عن الرواية بعد استدلاله بها لابن الجنيد أن نفى البأس لا يستلزم اللزوم فليس بموجه ، لأنه ان سلم كون هذا عقدا كما هو ظاهر الرواية ، فلا بد له من الحكم بلزومه ، ونفى البأس إنما أريد به ذلك : بمعنى أنه عقد صحيح ، وان منع كونه عقدا فلا معنى لنفي البأس عنه ، حيث أنه لغو من القول ، لا معنى له ولا ثمرة يترتب عليه.

ثم انه لو لم يقع التحديد على الوجه المشهور ولا الوجه المنقول في المسالك عن ابن الجنيد فظاهر كلامه الاتفاق على بطلان العقد ، الا أن ظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدم نقلها عن المختلف هو الصحة في الصورة المذكورة ، والظاهر بعده ، الا أن يحمل كلامه على حكمه بجواز عقد المساقاة دون لزومه ، كما تقدمت الإشارة اليه.

ولو اتفقا على المساقاة على أزيد من ذلك العام فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب تعيين المدة بسنتين أو ثلاث أو أزيد أو أقل على حسب ما يتفقان عليه ووجهه ما تقدم في عبارته في المسالك ، والله العالم.

المقام الرابع في العمل ـ اعلم أن الظاهر من كلامهم في هذا المقام أن بعض الأعمال مع الإطلاق يختص بالعامل وبعضها يختص بالمالك ، وجعلوا لكل منهما قاعدة فالذي يختص بالعامل هو كل عمل يتكرر كل سنة مما يحصل به نفس الثمرة وجودتها وزيادتها ، ومنها إصلاح الأرض بالحرث والحفر حيث يحتاج اليه وما يتوقف عليه من الآلات وتنقية الأجاجين ، جمع الاجاجه بالكسر والتشديد والمراد بها هنا الحفر التي يقف فيها الماء في أصول الشجر التي تحتاج إلى السقي.

وكذا تنقية الأنهار ، وازالة الحشيش المضر وتهذيب جرائد النخل بقطع ما يحتاج الى قطعه منه كالأجزاء النابتة من كرم العنب والأغصان اليابسة المضمرة من الأشجار ، بل ولو كانت رطبة مع حصول الضرر بها ، كما في شجر الكرم مما يجرى به العادة.


ومنها السقي ومقدماته المتكررة ، كالدلو والرشاء وإصلاح طريق الماء ، وتنقيتها من الحمأة ونحوها ، واستقاء الماء وأداة الدولاب إذا كان السقي من بئر ونحوه وتلقيح الأنثى من الذكر ، على الوجه المعتاد والمعتبر ، وتعديل الثمرة أى إصلاحها بإزالة ما يضرها من الأغصان والورق ، ليصل إليها الهواء أو الشمس أو لتيسر قطعها عند ارادة ذلك ، ووضع الحشيش ونحوه فوق العناقيد صونا لها عن الشمس المضمرة بها ، ورفعها من الأرض حيث تضربها ونحو ذلك ومنها اللقاط بفتح اللام وكسرها وهو لقاط الثمرة أى أخذها في أوانها عن محلها بحسب العادة وحسب نوعها ووقتها فما يؤخذ عنبا ، أو رطبا ففي وقتهما ، وما يؤخذ للزبيب يجب قطعه عند حلاوته في الوقت الصالح له ، وما يعمل دبسا فكذلك في الوقت الصالح ، ويحتمل أن يراد باللقاط ارادة ما سقط من الشجر على الأرض ، بمعنى التقاطه ، الا أن الأشهر في كلامهم هو الأول ، ومنها أيضا إصلاح موضع التشميس وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمرة للشمس لأجل يبسها ان كانت العادة فيها ذلك ، كما في بعض البلدان خصوصا البحرين ، ونقل الثمرة الى ذلك الموضع ، وحفظها الى وقت القسمة ، وهل نقلها الى منزل المالك ان لم يتول المالك ذلك على العامل؟ يحتمل ، ـ لانه من تمام العمل ، ولعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١) ـ وعدمه ، لانه ليس من أعمال الثمرة ، والأظهر الرجوع في ذلك الى عرف البلد وعادة أهلها في ذلك.

قالوا : والضابط أنه يجب العمل الى وقت القسمة ، هذا كله مع الإطلاق ، أما لو شرط بعضها على المالك فلا إشكال في لزومه إذا لم يكن منافيا لمقتضى العقد ، عملا بما دل على وجوب الوفاء بالشروط.

قالوا : لو أخل العامل بشي‌ء مما يجب عليه فان كان وجوبه بطريق الشرط تخير المالك بين فسخ العقد وإلزامه ، بمثل أجرة العمل ، فان فسخ قبل عمل شي‌ء

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.


فلا شي‌ء له ، وان كان بعده فله الأجرة ، سواء كان قبل ظهور الثمرة أم بعده ، قضية للشرط ، وان كان وجوبه من حيث الإطلاق ، فالظاهر أنه يكون كذلك قبل ظهور الثمرة ، أما بعده ففيه نظر ، ولا يبعد الجواز ، ولو حصل على الأصل نقص بسبب التقصير لزمه الأرش ، والظاهر أن الثمرة كذلك ، انتهى هذا بالنسبة إلى العامل.

وأما المالك فالضابط في ما يجب عليه عندهم هو ما لا يتكرر في كل سنة ، وان عرض له في بعض الأحوال التكرر مما يتعلق نفعه بالأصول بالذات وان حصل النفع منه للثمرة عرضا فإنه على المالك دون العامل.

ومن ذلك حفر الابار والأنهار التي منها وبها تسقى الأصول ، وبناء الحائط ، قال في المسالك : ولا فرق في بناء الحائط بين جميعه وبعضه ، وفي حكمه وضع الشوك ونحوه على رأسه ، قاله في التذكرة ، ويشكل لو كان مما يتكرر كل سنة عادة طردا لضابطين ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن بناء هذه الأفراد المعدودة في كل من الموضعين وجعلها ضابطين انما هو على العرف والعادة ، والا فإنه ليس هنا تحديد شرعي في كل من الموضعين ، فينبغي أن يكون مناط الحكم في كل من الموضعين هو ذلك.

ومنها عمل ما يستقى به من دولاب وأدواته ونحو ذلك من آلات السقي مما لا يتكرر غالبا ، دون ما يتكرر غالبا كالدلو والرشاء ، فإنه قد تقدم أن ذلك على العامل ، خلافا لابن إدريس (رحمه‌الله) حيث أوجب الجميع على العامل ، والمشهور وبه صرح الشيخ ان الكش على المالك ، والعامل انما عليه التلقيح ، واستندوا في ذلك الى أن الكش ليس بعمل ، وانما هو من الأعيان والعامل انما عليه العمل ، وأن الأصل البراءة من وجوبه على العامل.

ونقل عن ابن إدريس أنه على العامل ، واستحسنه في الشرائع ، ونقل عن ابن إدريس التعليل بأنه مما يتم به نماء الثمرة وصلاحها الواجبين على العامل.

قال في المسالك : والاولى الرجوع الى العادة ومع عدم اطرادها في شي‌ء فالأولى التعيين ، انتهى.


قال في التذكرة : ان شراء الزبل وأجرة نقله على رب المال ، لانه ليس من العمل ، فجرى مجرى ما يلقح به ، وتفريق ذلك على الأرض على العامل ، كالتلقيح انتهى.

وبالجملة فالظاهر أن الكش مثل الخيوط بالنسبة إلى الخياط ، والمداد والقرطاس للكاتب في كون الجميع على المالك ، وانما على العامل العمل بذلك ، الا أن تجري العادة بخلاف ذلك لما أشرنا إليه آنفا من بناء الضابطتين المتقدمتين على العرف والعادة.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ قد تقدمت الإشارة الى أن جميع ما ذكر سابقا مما يجب على المالك والعامل انما هو من حيث اقتضاء الإطلاق ذلك ، فلو وقع الشرط منهما على خلاف ذلك بأن شرط ما على المالك من تلك الأعمال على العامل ، فالمشهور الصحة بعد أن يكون ذلك معلوما بينهما على وجه لا يحتمل الضرر ، وكذا لو شرط بعضه بطريق أولى.

قال الشيخ في المبسوط : وعلى المالك ما فيه حفظ الأصل ، وهو سد الحيطان ، وإنشاء الأنهار ، فإن شرط على العامل ذلك أو بعضه قال قوم : تبطل المساقاة ، لأنه شرط ليس من مصلحة العقد ، وينافي مقتضاه ، والذي يقوى في نفسي أنه لا يمنع من صحة هذا الشرط مانع ، انتهى.

وقال ابن الجنيد : ليس لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي إحداث أصل جديد من حفر بئر وغرس يأتي به لا يكون للمساقي في ثمرته حق ، ولو جعل له على ذلك عوضا في قسطه ، لان ذلك بيع المثمرة قبل خروجها فان جعله بعد ما يحل بيع الثمرة جاز.

قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما قواه الشيخ ، لقوله (عليه‌السلام) (١) «المؤمنون عند شروطهم». سواء جعل له زيادة قسط أم لا وليس ذلك بيعا ، انتهى وهو جيد.

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


ولو شرط ما يجب على العامل على المالك ، فان كان المشروط جميع العمل ، فالظاهر أنه لا خلاف في بطلان المساقاة ، لأن الحصة انما يستحقها العامل في مقابلة العمل فإذا لم يعمل شيئا لم يستحق شيئا ، وأيضا فإنها تصير كالبيع بغير ثمن ، والإجارة بغير مال في مقابلتها ، وبالجملة فإنها من عقود المعاوضات يترتب صحتها على وصول العوض لكل من الطرفين.

نعم لو كان المشروط بعض العمل وأبقى لنفسه منه شيئا ، وكان مما يحصل به الزيادة في الثمرة ، فإنه لا مانع منه ، ولعموم أدلة لزوم الشرط ، وتكون الحصة حينئذ في مقابلة ذلك.

وظاهر الشيخ في المبسوط الخلاف هنا ، حيث قال : إذا ساقاه بالنصف على أن يعمل رب المال معه ، فالمساقاة باطلة ، لأن موضوع المساقاة أن من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، كالقراض ، فإذا شرط على رب المال العمل بطل كالقراض.

ورده العلامة في المختلف بأنه قد سوغ أن يشترط العامل على المالك أن يعمل معه غلامه ، وأن يكون على المالك بعض العمل ، وقواه لانه لا مانع منه ، وهذا نفس ذاك ، انتهى وهو جيد.

ونقل أيضا أنه قال في المبسوط : إذا ساقاه على أن أجرة الأجراء الذين يعملون ويستعان بهم من الثمرة ، فالعقد فاسد ، لأن المساقاة موضوعة على أن من رب المال المال ، ومن العامل العمل ، فإذا شرط أن يكون أجرة الاجراء من الثمرة كان على رب المال المال ، والعمل معا ، وهذا لا يجوز ، ثم رده بأن الأقوى الجواز إذا بقي للعامل عمل لما بيناه ، انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر إطلاق كلام العلامة هو ترتب الصحة على بقاء شي‌ء من العمل ـ اللازم للعامل ـ أعم من أن يكون مما يترتب عليه الزيادة في الثمرة أو لا بأن يكون كمجرد الحفظ لها ، والذي صرح به في المسالك هو ما


قدمناه من أنه لا بد من أن يكون مما يحصل به الزيادة في الثمرة ، ولا يكفى ما فيه مجرد الحفظ ، قال : ولو بقي للعامل ما لا يحصل به مستزاد الثمرة كالحفظ لم تصح ، أيضا ، لمنافاة وضع المساقاة ، كما لو ساقاه وقد بقي من العمل ذلك. نعم لو جعلا ذلك بلفظ الإجارة مع ضبط المدة صح ، انتهى.

وظاهر ابن فهد في المهذب الاكتفاء بمجرد العمل ، كالحفظ والتشميس والكيس في الظروف ونحو ذلك ، وظاهره جواز المساقاة بمجرد بقاء هذه الأعمال ، والأظهر الأول ، فإنه هو المستفاد من الأدلة ، وغيره لا دليل عليه والله العالم.

الثاني : قالوا : لو شرط العامل أن يعمل غلام المالك معه جاز ، أما لو شرط أن يعمل الغلام لخاص مال العامل ففيه تردد ، والأشبه الجواز.

أقول : هنا مقامان : أحدهما ـ أن يشترط العامل على المالك عمل غلامه معه في مال المساقات ، وظاهر الأصحاب هو الجواز من غير ظهور مخالف ، وانما المخالف فيه بعض العامة ، مستندا الى أن يد العبد كيد مالكه ، وعمله كعمله ، فكما لا يصح اشتراط عمل المالك فكذلك غلامه المملوك له ، ولانه مخالف لوضع المساقاة ، وهو أن يكون من المالك المال ، ومن العامل العمل.

وأجيب عن ذلك أولا بأن عمل غلام المالك مال له ، فهو ضم مال الى مال ، كما أنه يجوز في القراض أن يدفع الى العامل بهيمة يحمل عليها ، والفرق بين الغلام وسيده ظاهر ، فان عمل العبد يجوز أن يكون تابعا لعمل العامل ، ولا يجوز أن يكون عمل المالك تابعا له ، لانه هو الأصل ويجوز في التابع مالا يجوز في المنفرد.

وثانيا منع حكم الأصل لما عرفت آنفا من جواز أن يشترط العامل على المالك أكثر العمل ، فإذا جاز ذلك بالنسبة إلى المالك فمملوكه أولى بالجواز.

وثانيهما ـ أن يكون الشرط في عمل الغلام العمل في ملك العامل خاصة ،


بأن يكون الأرض للعامل بخصوصه لا في مال المساقاة ، كما هو المفروض أولا ، وظاهر المحقق والعلامة وقوع الخلاف هنا من أصحابنا ، لتردد المحقق في الشرائع في ذلك ، وان رجح الجواز ، وكذا العلامة ، الا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك نبه هنا على أن الخلاف في هذا المقام انما هو من الشافعي ، وظاهره أنه لا خلاف بين أصحابنا في الجواز ، حيث قال : والمعروف أن المانع من ذلك الشافعي ، لكن المصنف (رحمه‌الله) والعلامة ذكرا المسئلة على وجه يشعر بالخلاف عندنا ، وقد تكرر هذا منهما في مواضع كثيرة.

أقول : وفيه تأييد لما قدمناه من أن أصل هذه التفريعات كلها أو جلها انما هي من العامة ، حيث أنه ليس لقدماء أصحابنا أثر في ذلك ، ثم ان الشيخ تبعهم في ذلك ، واقتفى أثره من تأخر عنه ، ووجه الجواز عند أصحابنا أنه وجه سائغ لا مانع من اشتراطه ، ولأنه إذا جاز أن يعمل في المشترك بينه وبين مولاه كما في الفرض الأول ، فلان يجوز في المختص بطريق أولى.

ووجه المنع أنه شرط عملا في مقابلة عمله ، فصار في قوة اشتراط جميع العمل على المالك ، وأجابوا عنه بأن فساده ظاهر.

أقول : ويمكن أن يقال : بناء على تعليلاتهم في أمثال هذا المجال بأنه لا يصح ذلك لو فرض أن عمل الغلام أكثر أو مساو لعمل العامل في مال المساقاة لأنه يلزم كون الحصة التي يأخذها العامل بغير عوض ، لان عمل العامل قد وقع في مقابلة عمل الغلام في أرضه ، فلم يبق له عمل يستحق به الحصة ، ويصير عقد المساقاة بلا عوض من جانب العامل ، فيلزم بطلانه ، وربما أمكن الجواب بأنه لا مانع من جعل عمل الغلام وان كثر في مقابلة بعض عمل العامل وان قل ، وتصير الحصة في مقابلة البعض الباقي ، ويؤيده الأدلة العامة من وجوب الإيفاء بالعقود والشروط.

وكيف كان فالركون في أمثال هذه الفروع الى هذه التعليلات لا يخفى ما فيه كما أسلفنا التنبيه عليه في غير مقام مما تقدم ، والله العالم.


الثالث ـ المشهور بينهم أنه لو شرط العامل على المالك أجرة الأجراء بأن يستأجر للعمل أجراء لإعانته ، ويدفع الأجرة من الثمرة على وجه يبقى له من العمل ما يحصل به الزيادة في الثمرة ، كما تقدم فلا بأس ، وقد تقدم في الموضع الأول نقل خلاف الشيخ في هذه المسئلة ، وقد عرفت ضعفه.

ولو شرط العامل على المالك بأن يستأجر على جميع العمل بحيث لا يبقى له الا استعمال الاجراء والقيام عليهم ، والسمسرة ، قال في المسالك : في صحة هذا الشرط وجهان : أحدهما الجواز ، لان ذلك عمل تدعو الحاجة إليه ، فإن المالك قد لا يهتدى إلى الدهقنة واستعمال الاجراء ، ولا يجد من يباشر الأعمال ويأتمنه فتدعوه الحاجة أن يساقى من العرق ذلك لينوب عنه في الاستعمال.

وثانيهما المنع للشك في أن مثل ذلك يسمى عملا من أعمال المساقاة الذي هو شرط في صحتها ، فان المتبادر من أعمالها خلاف ذلك ، والعقود انما تكون بتوقيف الشارع ، خصوصا في هذا العقد الذي هو على خلاف الأصل ، انتهى.

أقول : لا يخفى ضعف الوجه الأول من الوجهين المذكورين ، فالعمل على الثاني. والله العالم.

المقام الخامس في الفائدة ـ والكلام في هذا المقام يقع في موارد :

الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه يشترط أن يكون للعامل جزء مشاع من الحاصل ليكون مساقاة كما مر في تعريفها ، فهنا شيئان : أحدهما ـ الحصة ، والثاني ـ كونها شائعة في مجموع الحاصل ، فلو لم تكن شايعة بل كانت معينة كان ذلك اجارة ، وان وقع العقد بلفظ المساقاة لصحة ارتكاب التجوز في هذا الإطلاق ولو لم تكن حصة بالكلية كان العقد باطلا وكذا يبطل لو شرط أحدهما الانفراد بالفائدة وفساد هذا الشرط متفرع على اشتراط التشريك ، بمعنى أنه لما كان من شرط المساقاة أن تكون الفائدة شائعة في الحاصل فلو شرطها أحدهما


وانفرد بها وميزها عن الحاصل في نخيل مفردة أو أشجار معينة ، خرج ذلك عن وضع المساقاة ، وما بنيت عليه ، فيبطل العقد حينئذ ، لكن يختلف الحكم في ذلك بين العامل والمالك ، فإنه ان كان شرط الفائدة على الوجه المذكور وقع للعامل بطل العقد كما عرفت ، ومتى بطل لزم أن يكون الثمرة كلها للمالك ، وللعامل أجرة المثل حينئذ ، كما يأتي بيانه ـ ان شاء الله ـ من أن كل موضع حكم بالبطلان فللعامل أجرة المثل ، والوجه فيه أن العامل انما دخل في العمل للحصة المعينة له ، وحيث لم تسلم له هنا لظهور بطلان العقد ، وجب الرجوع الى أجرة المثل.

وان كان الشرط المذكور للمالك فالأقوى عندهم أنه لا أجرة له لدخوله في العمل على وجه التبرع ، والمتبرع لا أجرة له ولا حصة ، كما تقدم نظيره في القراض.

وربما احتمل ضعيفا استحقاق الأجرة لأن المساقاة يقتضي العوض في الجملة ، فلا يسقط بالرضا بدونه ، وكذا يبطل لو شرط لنفسه شيئا معينا ، وما زاد بينهما ، وكذا لو قدر لنفسه أرطالا أو ثمرة ، نخلات معينة.

أقول : وهذا كله مما يتفرع على اشتراط الشيوع في الحصة ، والاشتراك المتفق عليه نصا وفتوى في عقد المساقاة ، فإن جميع هذه الصور خارجة عن ذلك ، ويؤكد البطلان زيادة على ما عرفت أنه إذا اتفق عدم حصول شي‌ء من الحاصل الا ذلك المقدار المعين فلا يكون للآخر شي‌ء بالكلية.

الثاني ـ قالوا : يجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع الأخر إذا كان العامل عالما بمقدار كل نوع ، لان الغرض ثبوت حصة معلومة كيف كان ولو لم يعلم مقدار أحد الأنواع لم يصح ، لجهالة الحصة ، فإن المشروط فيه أقل الجزئين ، قد يكون أكثر الجزئين ، فيحصل الغرر ، وكذا صرح به في المسالك.

أقول : ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) المناقشة في هذا المقام ،


حيث قال بعد ذكر عبارة المصنف في هذا المقام : إذا كان في البستان الذي ساقاه عليه أنواع مختلفة من الثمرة واشترط الثلث من أحدهما ، والنصف من الأخر مثلا صح المساقاة ، بشرط علم العامل بمقدار كل نوع من تلك الأنواع ، ومفهوم الكلام يدل على عدم الصحة لو لم يعلم وجهه للجهالة ، وكذا مفهومه الصحة لو لم يكن الحصة مختلفة ، بل إذا ساقاه على ذلك البستان بالنصف مثلا صح مطلقا ، سواء علم مقدار الأنواع أم لا ، وهو مشكل فإن الجهالة واقعة ، فلو كانت مانعة من الصحة لمنعت هنا أيضا ، وكونه مفهوما من الكلام غير واضح ، فلا يبعد عدم الصحة بناء على اعتبار العلم وعدم الجهالة ، فتأمل ، انتهى وهو جيد.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها عن النص لا يخلو الحكم فيها من الاشكال ، كغيرها من الفروع التي أكثروا فيها المقال والأقوال ، فإن غاية ما يستفاد من نصوص المساقاة هو الحصة من حاصل ما اشتمل عليه البستان ، نوعا واحدا كان أو أنواعا عديدة ، علم كل منها على تقدير التعدد أم لم يعلم.

وأما صحة المساقاة مع تعدد الحصة بتعدد الأنواع سواء كانت الأنواع معلومة أو مجهولة فلا دليل عليه ، ورجوعه بنوع من الاعتبار في بعض الموارد إلى الأول لا يكفي في الحكم بالصحة ، إذ لعل ثمة مانعا لم نهتد اليه ، سيما مع عدم الدليل عليه.

وملخص ذلك الرجوع في صحة العقود وبطلانها الى التوقيف ، والله العالم.

الثالث ـ قالوا : لو شرط مع الحصة من النماء حصة من الأصل الثابت احتمل الصحة ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، والمؤمنون عند شروطهم (١) ، وان ذلك يجرى مجرى اشتراط شي‌ء غيره من ذهب أو فضة ، وهو جائز ، وان ذكروا البطلان نظرا الى أن مقتضى المساقاة جعل الحصة من الفائدة وأن الحصة من الأصول تدخل في ملكه بالشرط المذكور ، فلا يكون

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعا في ملك المالك ، ولا واجبا بالعقد ، إذ لا يعقل أن يشترط عليه العمل في ملك نفسه.

والى هذا الوجه مال في المسالك فقال : والقول بالمنع أوجه ، وتردد المحقق في الشرائع بعد أن حكم بعدم الصحة ، واستشكل في القواعد مع جزمه بالمنع في الإرشاد.

أقول : والظاهر هو المنع لما ذكر ، وزيادة ما قدمناه في سابق هذا المورد.

الرابع ـ قالوا : يجوز أن يشترط رب الأرض على العامل شيئا من ذهب أو فضة ، ويجب الوفاء به ، الا أن ذلك مكروه ، وعللوا الحكم الأول بعموم ما دل على الوفاء بالعقود والشروط وأنه مع ذلك غير مناف لمقتضى العقد ، لأن الثمرة مشتركة بينهما ، وهذا شرط زائد ، وأما الحكم الثاني فلم أقف لهم فيه على مستند سوى ظهور اتفاقهم عليه.

قال في المسالك : وأما كراهته فهو المشهور بين الأصحاب لا نعلم خلافا في ذلك ، ثم نقل عن العامة أنهم أطبقوا على منع هذا الشرط ، وأبطلوا به المساقاة ، هذا مع سلامة الثمرة وعدم تلفها ، فلو تلفت أجمع أو لم تخرج ذلك العام بالكلية ، فإن ظاهرهم الحكم بسقوط الشرط المذكور ، إذ لو لا الحكم بسقوطه لكان اللازم أكل مال بالباطل ، فان العامل قد عمل ولم يحصل له عوض في مقابلة عمله ، فكيف يحكم عليه بوجوب الوفاء بالشرط المذكور ، فإنه ضرر منفي بالآية والرواية (١) ، وإيجاب استحقاقه بالشرط انما وقع بناء على سلامة الحاصل وأخذه الحصة ، على أن ما حكموا به من الصحة في أصل المسئلة غير خال من الاشكال سيما في صورة زيادة ما شرط من الذهب أو الفضة على مقدار الحصة ، أو المساواة لاستلزام ذلك لذهاب عمله بغير عوض ، وهو خارج عن أفعال العقلاء ومعاملاتهم

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.


بل ربما أدى ذلك الى الحكم بعدم الرشد ، ولعله الى هذا نظر العامة فحرموا ذلك ، وأبطلوا به العقد كما تقدم ذكره.

نعم لو كان هناك غرض صحيح يمكن ترتب هذا العمل عليه يتم ما ذكر ، وبالجملة فإن عندي في أصل الحكم المذكور أعني صحة هذا الشرط اشكالا لعدم النص الواضح عليه ، وان احتمل ذلك بناء على ما ذكروه من العمومات ، الا أنه لخروجه عما هو المعلوم من طريقة أرباب العقول ومعاملاتهم المحتمل للسفاهة محل إشكال ، أما لو كان هذا الشرط من العامل على المالك مضافا الى الحصة المعينة ، فالظاهر أنه لا اشكال فيه ، وبه صرح الأصحاب أيضا.

والظاهر أنه لا كراهة فيه أيضا ، وبطريق الاولى في ارتفاع الاشكال لو ذهبت الثمرة أو لم تخرج ، فإنه بعد العمل والتعب وذهاب حصته المقررة له لا وجه لسقوط هذا الشرط في حقه ، بل الاولى والأظهر في المعقول والمنقول هو دفعه اليه جبرا لما فاته من ذهاب حصته ، وعوضا عن خدمته.

وربما قيل : بمساواته للأول وهو خيال ضعيف وتوهم سخيف لما عرفت من الفرق بين الحالين ، والبون بين الصورتين ، ثم انه بالنسبة إلى الصورة الاولى لو كان التالف البعض خاصة ، فالمختار عندهم عدم سقوط شي‌ء من الشروط ، لأصالة العدم ، ولان المعتبر حصول عوض العمل ، ولا اعتبار بكثرته وقلته ، ومن ثم لا يسقط من شروط العمل شي‌ء ، بتلف بعض الثمرة أو أكثرها.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قال : يكره أن يشترط أحدهما لنفسه شيئا من ذهب أو فضة ، وان شرط ذلك وجب الوفاء به مع السلامة ، وفيه على إطلاقه بحث يعلم مما قدمناه ، ثم الظاهر أن ما ذكروه من الذهب والفضة إنما خرج مخرج التمثيل في المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام والله العالم.

الخامس ـ قال المحقق في الشرائع : ولو ساقاه بالنصف ان سقى بالنواضح وبالثلث ان سقى بالسيح بطلت المساقاة ، لأن الحصة لم تتعين وفيه تردد.


قال في المسالك : وجه البطلان واضح ، لان العمل مجهول ، والنصيب مجهول ، فهو مثل بعتك بدينار مؤجلا وبنصفه حالا ، ويحتمل صحة ذلك لتعيين الحصة على التقديرين ، كما تصح الإجارة إذا قال : ان خطته روميا فلك كذا ، وان خطته فارسيا فلك كذا ، ومن ذلك يظهر منشأ التردد ، والأقوى البطلان ، ومسئلة الإجارة ان ثبتت فهي خارجة بدليل خارج ، انتهى.

أقول : ما فرضه المحقق (رحمه‌الله) هنا في المسئلة أظهر مما فرضه العلامة في الإرشاد ، حيث قال : «ولو شرط فيما سقت السماء النصف ، وفيما سقى بالناضح الثلث ، أو شرط مع الحصة جزء من الأصل بطل» انتهى.

فان وجه البطلان على هذا الفرض غير ظاهر ، الا من حيث الجهل بكل من النوعين ، كما تقدم في المورد الثاني ، فمع العلم بكل منهما في الجملة يصح.

وبالجملة فإن هذا الفرض من أفراد تلك المسئلة فلا يكون الحكم كليا ، كما هو ظاهر الأصحاب ، وبه يظهر أن ما فرضه في الشرائع ونحوه فرض المسئلة في القواعد أيضا أظهر.

بقي الكلام في التردد المذكور في الفرض الأول ، فإنه لا يبعد أن يقال بالصحة ، قوله ـ ان العمل مجهول ، والنصيب مجهول ـ قلنا : ان أريد الجهل من كل وجه فهو ممنوع ، لانه على كل من التقديرين معلوم ، والاختيار إليه في قبول أى العملين أراد ، وان أريد في الجملة أمكن أن يقال : انه غير مانع ، لان بناء هذه المعاملة انما وقع أيضا مع المجهولية في الحصة كما صرحوا به ، فالجهل في الجملة غير ضائر ، وقد تقدم نظيره في مسئلة البيع بثمن مال معجلا بأزيد منه مؤجلا وان كان المشهور بينهم البطلان ثمة ، الا أن الرواية الصحيحة دلت على الصحة ، وان كان فيها اشكال من وجه آخر كما تقدم تحقيقه في المسئلة المذكورة.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها من النص الواضح غير خالية من التردد ، والاشكال


وان كان الأقرب هو الصحة ، لما ذكرناه ، ويؤيده أيضا ما ذكره من صحة الإجارة في أمثال الخياطة ، والله العالم.

الفصل الثاني في الأحكام :

وفيه مسائل الأولى ـ المشهور في كلامهم أن كل موضع يحكم بفساد المساقاة فيه فللعامل أجرة المثل ، وللمالك جميع الثمرة ، أما الثاني فلأنها نماء ملكه ، ولم يحصل ما يوجب نقلها أو نقل شي‌ء منها ، لظهور فساد العقد الموجب لانتقال الحصة إلى العامل ، وأما الأول فلأنه لم يتبرع بعمله ، وانما دخل فيه بناء على الحصة المشترطة له ، والحصة لم تسلم له لفساد العقد ، فلا بد لعمله من عوض وأجرة ، فوجب الرجوع الى أجرة المثل ، الا أنه ينبغي تقييده بأمرين : أحد هما ـ أن يكون جاهلا بالفساد ، إذ لو كان عالما به ومع هذا أقدم على العمل كان متبرعا بعمله ، والمتبرع لا شي‌ء له شرعا ، وثانيهما أن لا يكون الفساد باشتراط المالك جميع الثمرة له ، لانه مع فرض ذلك قد دخل على أن لا شي‌ء له من الثمرة ، وان كان جاهلا يكون ذلك مفسدا للعقد.

وبالجملة فإنه على الفرضين المذكورين قد أقدم على العمل عالما بأنه لا يستحق أجرة ولا حصة ، ثم ان ما ذكرناه من وجوب أجرة المثل في صورة الجهل بالفساد وعدم الفساد باشتراط المالك الثمرة لنفسه ، هو الظاهر من كلام جل الأصحاب كما أشرنا إليه آنفا.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني أن الواجب أقل الأمرين من الحصة المشترطة وأجرة المثل ، قال بعد الكلام في المسئلة : ينبغي على ما قررناه أن يثبت للعامل أقل الأمرين من الحصة المشترطة ، وأجرة المثل ، لأن الأقل ان كان هو الأجرة فظاهر ، لان فساد العقد أسقط الحصة ، فيرجع الى الأجرة ، وان كان الأقل هو الحصة فالعامل أقدم على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله ، حتى لو كانت في مقابلة عشر العمل ، لكان مسقطا للزائد ، فيكون متبرعا بالزائد على هذا التقدير ،


كما يتبرع على تقدير اشتراط جميع الثمرة للمالك ، وعلى تقدير علمه بالفساد.

ثم قال : ويمكن أن يجاب بالفرق بين الموضعين فإنه على هذا التقدير لم يقدم على التبرع بعمله أصلا ، بل كما يحتمل أن يكون الحصة قاصرة عن مقابلة العمل ، يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافا مضاعفة ، فهو قادم على عمل محتمل للزيادة والنقصان ، فليس متبرعا به مطلقا وان احتمل قصوره في بعض الأحوال ، بخلاف العالم وشرط جميع الحصة للمالك ، فإنه قادم في ابتداء الأمر على التبرع المحض على كل تقدير.

وهذا الفرق لا بأس به ، وان كان ما اقتضاه البحث متوجها أيضا ، وأكثر الأصحاب أطلقوا وجوب أجرة المثل مع الفساد ، وفيه تردد ، انتهى.

أقول : لقائل أن يقول في تأييد القول المشهور وبيان أنه صحيح عار عن القصور : أن الحصة انما وجبت وتعينت بحيث لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان من حيث اشتراطها في العقد ، ولما بطل العقد بطل التعلق بها والرجوع إليها ، وان كان المالك قد رضى بها في العقد على تقدير صحته ، وصار الحكم مبنيا على قاعدة أخرى من كونه عملا موجبا للأجرة ، وأن الداخل فيه انما دخل بذلك ، ولكن لم تسلم له لظهور استحقاقها أو فسادها فلا بد لعمله من أجرة ، ورضى العامل بتلك الحصة على تقدير صحة العقد لا مدخل له هنا ، لان تلك المعاملة قد بطلت ، ورجعنا الى مسئلة أخرى كما ذكرناه ، وهذا حق أوجبه له الشارع ، بناء على الغرض المذكور ، ورضاه بأقل منه لو كان في تلك المال لا يوجب الحكم عليه به هنا ، الا أن يتجدد منه رضا آخر بذلك.

وقد تقدم نظير ذلك في المزارعة في مسئلة ما لو اختلفا في المزارعة أو العارية ، بأن ادعى المالك المزارعة وادعى العامل العارية ، والله العالم.

الثانية ـ قالوا : إذا استأجر المالك أجيرا للعمل بجزء من الثمرة ، فإن كان قبل ظهورها بطلت الإجارة من غير خلاف ، لما قرر عند هم من أن عوض


الإجارة يجب أن يكون موجودا معلوما كعوض المبيع ، والحال أنه هنا ليس كذلك كما هو المفروض ، وجواز ذلك في المساقاة ، حيث أنهم قد اتفقوا على جواز العوض فيها مع الجهالة ، وعدم الوجود خرج بالنص والإجماع ، مؤيدا بمساس الحاجة الى ذلك ، وان كان بعد ظهورها ، فان كان بعد بدو صلاحها جاز بلا اشكال ولا خلاف ، وان كان قبل بدو الصلاح فإنهم بنوا الحكم هنا فيها على جواز نقلها بالبيع في هذه الحال ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الفصل الثامن في بيع الثمار من كتاب البيع (١) وذكر الخلاف في جواز البيع مطلقا أو عدم الجواز إلا بأحد أمور ثلاثة ضم ضميمة إليها ، أو شرط القطع ، أو عامين فصاعدا ، ومن ثم ان المحقق هنا اختار القول بالجواز بعد ظهورها ، وقبل بدو صلاحها ، بشرط القطع ، حيث ان مذهبه في البيع ذلك ، الا أن الواجب عليه كان أن يذكر الضميمة ، مضافة الى القطع ، والتخيير بينهما كما هو مذهبه ثمة.

ولهذا اعترضه في المسالك بذلك ثم اعتذر عنه بما هو مذكور هناك ، والعلامة في القواعد صرح بالجواز مطلقا ، فقال : ولو استأجره على العمل بحصة منها أو بجميعها بعد ظهورها ، والعلم بقدر العمل جاز ، والا فلا.

وأنت خبير بما في الحكم المذكور من الاشكال لعدم الدليل الواضح في هذا المجال ، والحمل على البيع كما ذكروه محض قياس لا يوافق أصول الشريعة ، سيما مع ما قدمنا من الإشكال ، في اشتراط القطع في مسئلة البيع.

بقي هنا اشكال آخر أيضا في هذه الصورة على تقدير كون الأجرة جزء من الحاصل ، فإنه متى قيل بصحة الإجارة هنا بشرط القطع ، والحال أن الثمرة مشتركة بين العامل والمالك ، فإن الشركة تمنع من التسلط على القطع ، فيتعذر التسليم لتوقف جواز القطع على اذن الشريك ، ومن ثم قيل : في هذه الصورة بعدم الصحة ، وقيل : بالصحة وهو اختيار المحقق في الشرائع نظرا إلى إمكان

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٢٥.


القطع والتسليم بالاذن ، كما في كل مشترك ولو فرض امتناع الشريك من الاذن يمكن اذن الحاكم الشرعي ، والى هذا القول مال الشارح أيضا فحكم بأنه الأصح ، أما لو كان الأجرة مجموع الحاصل فإنه لا اشكال لاندفاع المحذور المذكور ، وكذا لو اكتفى بالضميمة عن اشتراط القطع كما أشرنا إليه ، فإنه يندفع ذلك أيضا ، إلا أنك قد عرفت ما فيه من الاشكال.

وكيف كان فإنه يشترط تعيين العمل المستأجر عليه كما هو مقتضى قاعدة الإجارة ، واليه يشير قوله في القواعد «والعلم بقدر العمل» والله العالم.

الثالثة ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا قال : ساقيتك على هذا الحائط بالنصف على أن أساقيك على هذا الأخر بالثلث بطلت ، لأنهما بيعان في بيعة ، فإنه ما رضي أن يعطيه من هذا النصف الا أن يرضى منه بالثلث من الأخر ، وهكذا في البيع إذا قال : بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، فالكل باطل ، لان قوله : على أن تبيعني عبدك بخمس مأة ، انما هو وعد من صاحب العبد بذلك ، وهو بالخيار بين الوفاء به وبين الترك ، فإذا لم يف به سقط ، وهذا ما رضي أن يبيعه بألف الا أن يشترى منه العبد بخمس مأة ، فقد نقصه من الثمن لأجله ، فإذا بطل ذلك رددنا الى الثمن ما نقصناه لأجله ، وذلك المردود مجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم كان الكل مجهولا ، فلهذا بطل ويفارق هذا إذا قال : ساقيتك على هذين الحائطين بالنصف من هذا ، والثلث من هذا ، حيث يصح ، لأنه صفقة واحدة وعقد واحد ، وليس كذلك هيهنا ، لأنهما صفقتان في صفقة ، ألا ترى أنه لو قال : بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني عبدك بمأة بطل الكل ، ولو قال : بعتك داري هذه وعبدي هذا معا بألف ، الدار بستمأة والعبد بأربعمائة صح ، وكان الفصل بينهما ما مضى ، انتهى.

ورده جملة ممن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما ممن تأخر عنهما بما سيأتي ذكره.


وابن الجنيد عكس الحكم الذي ذكره الشيخ فجوز ما منعه الشيخ ، ومنع ما جوزه ، حيث قال : ولا اختار إيقاع المساقاة صفقة واحدة على قطع متفرقة ، بعضها أشق عملا من بعض ، الا أن يعقد ذلك على واحدة ، ويشترط في العقد على العقد الأخرى.

قال في المختلف بعد نقل كلامي الشيخ وابن الجنيد : والوجه عندي جواز جميع هذه العقود في البيع والمساقاة ، وقد مضى البيع وبينا صحته ، والشيخ أيضا جوزه في موضع من المبسوط ، وهو الحق ولا جهالة هنا.

وقال في المسالك بعد ذكر ملخص كلام الشيخ وكلام ابن الجنيد : والأقوى صحة الجميع ، ونمنع الجهالة التي ادعاها الشيخ ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وما يتضمنه من الشرط كالجزء منه ، ووجوب الوفاء بالشرط ، ولو فرض عدم الوفاء لا يقتضي ذلك رد الناقص من الثمن كما ادعاه ، بل يسلط المشروط له على الفسخ ، كما في الإخلال بغيره من الشروط.

وأما ابن الجنيد (رحمه‌الله) فلم يذكر على ما ادعاه دليلا ، ومقتضى الأصل جواز الأمرين ، معا ، انتهى وهو جيد.

وبالجملة فإن مقتضى الأصول والقواعد الشرعية صحة العقد المذكور ، مع ما شرط فيه كغيره من العقود المشروطة بشروط سائغة فيصح العقد ويجب الوفاء بالشرط بمعنى أنه يلزم ذلك لوقوعه في عقد لازم ، فلو لم يف بالشرط تسلط الأخر على الفسخ على أحد القولين ، أو مع عدم إمكان جبره على القيام بالعقد وما اشتمل عليه من الشرط كما هو القول الأول فيأثم على هذا القول بالإخلال بذلك كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وأولى منه بالجواز ما منعه ابن الجنيد والله العالم.

الرابعة ـ لو كانت الأصول لمالكين فساقيا واحدا إما بإيقاع العقد منهما معا أو من أحد هما أصالة ووكالة ، فلا يخلو إما أن يكون الحصة المشترطة للعامل منهما سواء كالنصف أو الثلث كان يقول أحدهما : ساقيتك على هذه الأصول أصالة ووكالة


بنصف حاصلها ولا إشكال في الصحة ، سواء علم العامل بقدر حصة كل منهما أم لم يعلم ، لان حصته معلومة من الجميع ، والجميع معلوم له أيضا ، فلا يضره الجهل بحصة كل منهما أو تكون متفاوتة ، بأن شرط له أحدهما النصف ، والأخر الثلث فقال :

ساقيتك من نفسي وعن شريكي على هذه الأصول على أن لك من حصتي النصف ومن حصة شريكي الثلث ، فلا بد في صحة العقد من علم العامل بحصة كل واحد ، لئلا يتجهل حصته لأنه بمنزلة عقدين فلو ساقاه والحال هذه بطلت المساقاة ، ورجعت الثمرة إلى المالكين ، وكان للعامل أجرة المثل كما تقدم ذكره.

قال في المسالك بعد البحث في المقام : ولا فرق على تقدير العلم بحق كل واحد بين الاثنين والزائد عليهما ، فلو كان بستانا واحدا بين ثلاثة بالسوية فساقوا عليه واحدا يعلم بقدر النصيب على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن نصيب الثاني الربع ، ومن نصيب الثالث الثمن ، صح ، وتصح مسألتهم من أربعة وعشرين مخرج السهام في عدد الشركاء ، لكل واحد منهم ثمانية ، فللعامل من حصة الأول أربع ، ومن الثاني اثنان ، ومن الثالث واحد ، والباقي لهم على التفاوت المقرر ، ولو كانت البستان لستة ملاك بالسوية وساقوا عليه على أن له من نصيب واحد النصف ، ومن نصيب الثاني الربع ، ومن الثالث الثمن ، ومن الرابع الثلثين ومن الخامس الثلث ، ومن السادس السدس ، صح وتصح مسألتهم من مائة وأربعة وأربعين لكل واحد منهم أربعة وعشرون فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثنتي عشر ، ومن الثاني ستة ، ومن الثالث ثلاثة ، ومن الرابع ستة عشر ، ومن الخامس ثمانية ، ومن السادس أربعة ، فيجتمع له تسعة وأربعون ، وللمالك خمس وسبعون يتفاوتون فيها على ما تقرر ، وطريق بلوغها ذلك أن مخارج الثلاثة الأولى متداخلة يكفي فيها مخرج الثمن ومخارج الثلاثة الأخيرة متداخلة يكفي فيها مخرج السدس ، فتبقى ستة وثمانون ، وبينهما موافقة بالنصف تضرب نصف أحدهما في الأخر ثم تضرب المرتفع ، وهو أربعة وعشرون في عدد الشركاء ، وقس على


هذا ما شئت من فروض المسئلة ذكرنا منها هذا القدر للتدرب ، انتهى.

الخامسة ـ إذا هرب العامل بعد العمل ، وقبل إتمامه قالوا : انه لا يصح للمالك الفسخ بمجرد ذلك ، لان المساقاة من العقود اللازمة لا تنفسخ بمجرد هرب العامل ولا يتسلط المالك على فسخها فيستصحب اللزوم حتى يثبت الفسخ كما لو امتنع عن العمل مع حضوره ، بل للمالك أن يطلبه ويجبره على العمل فان أبى مع حضوره أو تعذر طلبه مع هربه فان حصل من يقوم بالعمل تبرعا ولو كان المالك بنفسه ، والا رفع الأمر إلى الحاكم فيطلبه ويجبره ، فان تعذر أخذ من ماله واستأجر عنه ، لإتمام العمل ، لانه مستحق عليه ، فان لم يكن له مال يستأجر بالدين عليه الى وقت الحاصل أو يستأجر من بيت المال قرضا عليه ، ولو تعذر جميع ذلك اما لعدم الحاكم ، أو لعدم من يعمل له أو لعدم بسط يده ، أو لعدم إمكان إثبات الحق عنده ، تخير المالك بين فسخ المساقاة دفعا للضرر ، وبين إبقائها.

أقول : حيث كان الحكم المذكور غير منصوص لا بالعموم ولا الخصوص فللمناقشة فيما ذكروه مجال ، وللقائل فيه مقال ، فإنه يمكن أن يتطرق اليه الاحتمال بأن يقال : لو كان العقد يقتضي كون العمل من العامل خاصة أو أنه لا يوجب العمل المشترط من غيره ، فينبغي جواز الفسخ للمالك ، للزوم الحرج والضرر لو لم يجز له ذلك ، وان وجد باذل متبرع أو حاكم يعين من يقوم بالعمل فهو ظاهر بل يمكن القول بجواز الفسخ له مع الإطلاق أيضا ، خصوصا مع عدم الباذل ، وما ذكروه من التكلفات بالرجوع الى الحاكم وما أوجبوه على الحاكم كله منفي بالأصل ويؤيده أن حقه ثابت في ذمة العامل ، فله أن لا يقبل من غيره ، ولا يجب عليه تحصيله من غيره وان أمكنه ، ولأن الحصة انما جعلت له بشرط العمل فإذا امتنع عنه سقط حقه كما قالوا في البيع من أن لأحد المتبايعين الامتناع من حق الأخر على تقدير امتناع ذلك الأخر ، وكذا الإجارة.

ويعضده أيضا أن شرط العمل هنا ليس بأقل من الشروط المذكورة في


العقود ، وهم قد صرحوا بأن فائدة الشرط على تقدير عدم الإتيان به ممن شرط عليه تسلط الأخر على الفسخ.

وبالجملة فإن ما ذكروه من الحكم الذي قدمنا نقله عنهم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت ، ثم انهم قالوا في صورة تخير المالك بين الفسخ وإبقاء العقد مع تعذر العمل ـ على الوجه المتقدم تفصيله في كلامهم ـ : انه ان فسخ المالك صارت الثمرة له ، وعليه أجرة المثل لذلك العمل الذي عمله العامل قبل هربه ، لانه عمل محترم صدر باذن المالك في مقابلة عوض ، وقد فات العوض بالفسخ ، فيجب قيمته وهو المراد من أجرة المثل.

لكن انما يفسخ إذا كان ذلك قبل ظهور الثمرة ، أو بعده إذا لم يمكن بيعها أو بعضها للإنفاق على العمل ان لم يف به ، والا باعها أو بعضها ان أمكن الاجتزاء به ، والا فسخ لزوال الضرر ، ولو لم يوجد راغب في البعض مع الاكتفاء به في العمل باع الجميع ، وحفظ الباقي للعامل ، وان لم يفسخ ـ واختار البقاء على العقد والحال على ما عرفت فقد اختلف كلامهم هنا ، فقيل : ان له أن يستأجر على بقية العمل ، ويشهد على ذلك ، ويرجع به على العامل ، ولو لم يشهد لم يرجع سواء أمكنه الاشهاد أم لم يمكن ، لأن الإشهاد شرط في جواز الرجوع ، كإذن الحاكم فينتفى بدونه.

وظاهر المحقق الأردبيلي أنه يرجع أيضا في صورة تعذر الاشهاد دفعا للضرر ، وللزوم العقد ، وحمل الإطلاق في كلام من قال بهذا القول على التقييد بالإمكان ، والمحقق في الشرائع قد جزم هنا بأنه لو لم يشهد لم يرجع ، وتردد في الرجوع مع الاشهاد ، فقال : ولو لم يفسخ وتعذر الوصول الى الحاكم كان له أن يشهد انه استأجر عنه ، ويرجع عليه على تردد ، ولو لم يشهد لم يرجع.

قال في المسالك : في توجيه التردد : من لزوم الضرر بدون ذلك ، وهو منفي بالآية والرواية ، ومن أصالة عدم التسلط على مال الغير ، وثبوت شي‌ء في ذمته بغير أمره أو من يقوم مقامه.


أقول : يمكن الجواب بأن الضرر انما نشأ من اختياره عدم الفسخ ، والا فإنه يمكنه إسقاطه بالفسخ ، لتسلطه على ذلك.

وقيل : انه يرجع مع تعذر الاشهاد لا مع إمكانه ، كما في اذن الحاكم دفعا للحرج والضرر ، وهذا القول لا أعرف له وجها ظاهرا وقيل : انه يرجع مع الإنفاق بنية الرجوع مطلقا أشهد له أم لم يشهد ، واليه مال في المسالك ، قال : وهو الأقوى إذ لا مدخل لشهادة الشاهدين في التسلط على مال الغير وإثبات شي‌ء في ذمته ، ولا ولاية لهما على العامل ، وانما فائدتهما التمكن من إثبات الحق ، وهو أمر آخر والمقتضى لعدم الرجوع هو نية التبرع أو عدم نية الرجوع ، ولأصالة عدم الاشتراط ، فعلى هذا يثبت حقه في ذمته في ما بينه وبين الله تعالى ، ويحتمل قويا قبول قوله بيمينه ، لأن الأصل أن الإنسان لا يتبرع بعمل يحصل به غرامة عن الغير ، انتهى.

وهو جيد بالنسبة إلى تعليلات باقي الأقوال المذكورة هنا ، لكن قد عرفت ما في المسئلة من الاشكال لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، مع ما قدمنا ذكره من الاحتمال ، ثم انه على أى من هذه الأقوال متى تحقق الرجوع على العامل فإنه إن أمكن الأخذ منه ، والا أخذ من الحصة التي له ، فان زادت على ذلك رد عليه ، وان نقصت كان الباقي دينا عليه يتبع به ، والله العالم.

السادسة :قيل : إذا ادعى المالك أن العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرط فتلف وأنكر فالقول قوله مع يمينه ، وبتقدير ثبوت الخيانة هل يرفع يده أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة ، الوجه أن يده لا ترفع عن حصته من الربح ، وللمالك رفع يده عما عداه ، ولو ضم المالك إليه أمينا كانت أجرته على المالك خاصة.

أقول : الكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أن ما ذكره من أن القول


قول العامل بيمينه هو مقتضى القواعد الشرعية ، لأنه في الحقيقة بالنسبة إلى حصة المالك أمين ، كعامل القراض ، والأصل عدم ما ادعاه المالك ، فيكون القول قول المنكر بيمينه.

قال العلامة في التذكرة انما تسمع دعوى المالك في ذلك كله إذا حرر الدعوى وبين قدر ما خان فحينئذ يقبل قول العامل بيمينه ان لم يكن بينة ، واعترضه في المسالك بأن هذا الكلام منه بناء على أن الدعوى المجهولة لا تسمع ، مع أن مذهبه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة.

ثم قال : فلو قلنا بسماعها كما هو الأقوى كفى في توجه الدعوى مجرد دعوى أحد هذه الأمور من غير احتياج الى بيان القدر ، وهذه قاعدة ببابها أليق ، فلا وجه لتخصيص البحث فيها بهذه الدعوى ، انتهى.

وثانيها ما ذكره من الوجه الجامع بين عدم رفع يده بالكلية ، وبين تصرفه في الجميع ، كالحال الأولى فإنه جيد ، ومرجعه الى تصرفه في حصته خاصة ، ولكن لما كانت الحصة شائعة ومشتركة والتصرف فيها مستلزم للتصرف في مال المالك ، فإنه يضم إليها المالك أمينا من جهته ، وكان الوجه في رفع يده بالكلية ، هو ما ذكرنا من أن إثبات يده على حصة يستدعي إثباتها على حصة المالك من حيث الاشتراك ، وعدم التمييز ، وإثبات يده على حصة المالك غير جائز ، بل الواجب رفع يده عنها ، ولا يتم ذلك الا برفع يده عن حصته ، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ، فيجب عليه رفع يده عن حصته من باب مقدمة الواجب.

ورد مع ـ ظهور مخالفته للقواعد الشرعية و «أن الناس مسلطون على أموالهم» (١) ـ بأن اللازم منه ترجيح أحد الحقين بلا مرجح ، وأنه يمكن دفع ذلك بضم المالك للعامل أمينا من جهته.

وثالثها ما ذكره من أن أجرة النائب على المالك خاصة ، والوجه فيه ظاهر ،

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.


لأنه قائم مقامه في حفظ ماله ، وعمله لمصلحته.

وخالف فيه بعض العامة فجعلها على العامل ، لأن مؤنة الحفظ عليه ، وفيه أن العامل انما يجب عليه العمل ، وهو باذل له ، وخيانته لا ترفع ذلك ، ولا يجوز أن يجعل الأجرة من الأصل ، لأن في ذلك حق العامل ، فلا يصح بدون اذنه ، والله العالم.

السابعة ـ لا خلاف في أنه لو ظهرت الأصول المساقى عليها مستحقة للغير ، بطلت المساقاة كما صرحوا به ، الا أنه يجب تقييده بناء على قولهم بصحة العقد الفضولي بعدم اجازة المالك ، لان الغاصب عندهم ـ داخل في الفضولي كما قدمنا نقله عنهم في كتاب البيع ، (١) بل صرح به في المسالك هنا أيضا (فقال : ان المساقى الغاصب ـ لا يقصر عن كونه فضوليا ، فينبغي تقييده بما إذا لم يجز المالك المساقاة ، ثم اعترض على نفسه ، فقال : لا يقال : ان مثل ذلك لا يتصور فيه إجازة المساقاة مع وقوع العمل له بغير عوض ، فكيف ترضى بدفع العوض ، وهو الحصة مع ثبوتها له مجانا ، ثم أجاب بأن هذا الاستبعاد انما يتم لو كان الظهور بعد تمام العمل ، والمسئلة مفروضة في ما هو أعم ، فيمكن أن يبقى من العمل ما يؤثر المستحق منه دفع الحصة في مقابلة الباقي ، لأن الأغراض لا تنضبط ، انتهى وهو جيد لو قلنا بصحة الفضولي.

ثم انه مع الحكم ببطلان المساقاة فإن الثمرة تكون لمستحق الأصل ، لأنها نماء ملكه ، ولم يحصل الانتقال منه لا في الكل ولا في البعض ، وللعامل الأجرة على من ساقاه ، لانه استعمله بعوض لم يسلم له ، فيجب عليه دفع أجرة المثل ، كما تقدم ذكره من أن كل موضع تبطل المساقاة فالواجب أجرة المثل ، ويجي‌ء على القول الأخر أقل الأمرين كما تقدم أيضا.

هذا كله مع جهل العامل كما هو مقتضى عنوان المسئلة وسياق الكلام ،

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٨١.


والا فلو كان عالما بالغصب لم يرجع على المساقي بشي‌ء ، ولو هلكت الثمرة كملا أو سرقت فلا شي‌ء للعامل والفرق بين هلاكها وسرقها وبين استحقاق الغير لها الموجب لاجرة المثل أن ظهور استحقاقها موجب لبطلان العقد وبطلان العقد موجب لاجرة المثل كما عرفت ، وأما في صورة هلاكها وسرقها فان العقد صحيح ، والعامل شريك المالك بالحصة المقررة له ، فإذا تلف ذلك كان على الجميع.

ولو كان ظهور استحقاق الأصول بعد ظهور الثمرة فهيهنا صورتان : الاولى ـ أن يكون الثمرة باقية ، ولا إشكال في وجوب ردها على المالك كما تقدم ، الثانية : ـ أن يتلف الثمرة بعد اقتسامها بين المساقى والعامل ، فقيل : بأنه يرجع المالك على كل منهما بما قبضه وأتلفه ، وهو المنقول عن الشيخ في المبسوط ، وقيل : بأن له مع ذلك الرجوع بالجميع على الغاصب ، فيتخير بين الأمرين ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، وقيل : له مع ذلك الرجوع على العامل بالجميع ، فيتخير بين الأمور الثلاثة ، وهو اختياره في المسالك ، وهذا هو الموافق لقواعدهم في الغصب ، من أن كل من وقع يده على المغصوب وتصرف فيه فللمالك الرجوع عليه.

قال في الشرائع : ولو اقتسما الثمرة ، وتلف كان للمالك الرجوع على الغاصب بدرك الجميع ، ويرجع الغاصب على العامل بما حصل له ، وللعامل على الغاصب أجرة عمله ، أو يرجع على كل واحد منهما بما حصل له ، وقيل : له الرجوع على العامل بالجميع ان شاء ، لان يده عارية والأول أشبه ، الا أن يكون العامل عالما به.

وقال في المختلف : إذا ظهر النخل مستحقا بعد أن اقتسما الثمرة وأتلفاها رجع المالك على العامل بنصف الثمرة ، لا جميعها ، قاله الشيخ في المبسوط ، لانه ما قبض الثمرة كلها ، وانما كان مراعيا لها حافظا نائبا عن الغاصب ، فعلى هذا لو تلفت كلها بغير تفريط فلا ضمان عليه ، والأقرب أن عليه الضمان في الموضعين للجميع ويرجع على الغاصب ، لانه غار ، انتهى وهو ظاهر في اختياره جواز الرجوع على


العامل بالجميع كما اختاره في المسالك.

إذا عرفت ذلك فحجة القول الأول اشتغال ذمة كل منهما بمال المالك ، فيرجع على كل منهما بما أتلفه ، وعدم رجوعه بالجميع على العامل لما علله به في المختلف ، وأما حجة القول الثاني فبالنسبة إلى الرجوع عليهما ما عرفت ، وأما الرجوع على الغاصب بالجميع ، فلانه الأصل في تلف الجميع من حيث تصرفه بالأخذ منه ، وإعطاء العامل منه ، وأما عدم رجوعه بالجميع على العامل فلما عرفت من التعليل المذكور في المختلف.

وحجة القول الثالث ما تقدمت الإشارة اليه ، وسيأتي بيانه ـ ان شاء الله تعالى ـ في كتاب الغصب وملخصه تخير المالك في الرجوع على كل منهما بالجميع وبالبعض ، لان كلا منهما ضامن لجميع الثمرة ، بوضع يده عليها ، وقوله في تعليل نفى ضمان الجميع عن العامل أنه انما كان راعيا حافظا نائبا عن الغاصب لا يمنع كون يده على الثمرة ، وان كان بطريق النيابة ، والسبب الموجب للضمان هو ذلك.

وعلى هذا فان رجع المالك على الغاصب بالجميع رجع الغاصب على العامل بالحصة التي قبضها وأتلفها ، لعدم استحقاقه لها بعد ظهور فساد العقد ، ورجع العامل على الغاصب بأجرة المثل مع جهله ، وان رجع بالجميع على العامل رجع العامل على الغاصب بما استهلكه من الثمرة ، وبأجرة مثله مع جهله ، ومع علمه لا يرجع بالأجرة ، وانما يرجع بحصة الغاصب خاصة ، ولو رجع على كل منهما بما قبضه ، فليس لأحدهما الرجوع على الأخر بشي‌ء من الثمرة ، نعم يرجع العامل على الغاصب بأجرة المثل مع الجهل كما عرفت.

بقي هنا صورتان آخران أيضا : وهو أن يتلف الجميع في يد العامل ، أو يتلف الجميع في يد الغاصب ، قالوا في الاولى : انه لا ريب في رجوعه على العامل بحصة ، وكذا يرجع عليه بحصة الغاصب ، لانه وان كان يده عليها يد أمانة بالنظر الى ظاهر الأمر أو لا حيث أنه أمين من جهة المساقى ، الا أنه بعد ظهور


الغصب فإنه يرجع على الغاصب بما أخذه من المالك ، لانه غيره ، فيرجع عليه ، لغروره له ، وفي الثانية يترتب على كون يد الغاصب يد أمانة أو يد ضمان؟ فيترتب على كل منهما مقتضاه كما سيأتي ـ إنشاء الله ـ تحقيقه في كتاب الغصب.

الثامنة ـ الخراج في الأرض الخراجية ، وهي المفتوحة عنوة على المالك لأنه بمنزلة الأجرة ، بل هو أجرة الأرض مع خلوها عن الشجر ، وقد يوضع على الشجر المغروس فيها بواسطة الأرض ، لأن حق المسلمين انما هو في الأرض لا في الشجر ، حيث انه مال المالك الذي غرسه ، الا أن يكون فيها وقت الفتح ، فإنه للمسلمين أيضا ، وبالجملة فإن الأرض والأشجار لما كانت ملكا للمالك فجميع ما عليها وما يحتاجان اليه يلحق بالمالك ، ومنه الخراج ، الا أن يشترط على العامل ، أو يشترط كونه بينهما معا ، وحينئذ فلا بد من علمهما بقدره ، ليصح اشتراطه في العقد اللازم ، ولا يتجهل لجهل العوض ، ولو زاد السلطان بعد ذلك فهو على المالك ، ولا يدخل في الشرط كما تقدم نظيره في المزارعة.

التاسعة ـ قالوا : ليس للعامل أن يساقى غيره ، أما إذا شرط في متن العقد العمل على العامل بنفسه فظاهر ، لوجوب الوفاء بالشرط ، وبطلان المشروط بالإخلال بالشرط ، وأما مع الإطلاق بأن يكون العمل في الذمة فإنهم عللوا المنع بأن المساقاة انما تصح على أصل مملوك للمساقي والعامل لا يملك الأصول وانما يملك الحصة من الثمرة بعد ظهورها ، كما تقدم في تعريفها ، وظهر من أحكامها.

وتوضيحه أن في المساقاة تسليطا على أصول الغير ، وعملها والناس يختلفون في ذلك اختلافا زائدا ، فليس لمن رضى المالك بعمله وأمانته أن يولى من لم يرضه المالك لذلك ، وهذا بخلاف المزارعة كما تقدم ذكره في المطلب الأول من أنها لما كانت من العقود اللازمة الموجبة لنقل المنفعة إلى العامل بالحصة المعينة كان للعامل نقلها الى غيره ، لعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (١). ولا يتوقف ذلك

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.


على اذن المالك ، إذ لا حق له في المنفعة.

نعم تسليم الأرض يتوقف على اذنه الا أن هذا انما يتم فيما إذا كان البذر من العامل ، أما لو كان من صاحب الأرض فالأصل أن لا يتسلط عليه الا مالكه ، أو من أذن له وهو الزارع.

وظاهر المحقق الأردبيلي جواز مساقاة الغير هنا ، لعموم الأدلة ، وعدم المانع إذا فهم الاذن من المالك ، فإنه لا فرق بينها وبين المزارعة.

ويظهر من المسالك الجواز فيما لو ظهرت الثمرة ، وبقي بسببها عمل يحصل بسببه الزيادة فيها ، فان المساقات حينئذ جائزة ، والعامل يصير شريكا ، الى آخر كلامه.

وكيف كان فالمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لخلوها من النص القاطع لمادة القيل والقال ، وقد تقدم في مسئلة جواز مزارعة الزارع لغيره ما هو من هذا القبيل والله الهادي إلى سواء السبيل.

العاشرة ـ لا خلاف بينهم في أن الفائدة تملك بالظهور ، وأسنده في التذكرة إلى علمائنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وفي المسالك لا نعلم فيه خلافا ، والخلاف فيه من بعض العامة ، حيث جعل ملك العامل موقوفا على القسمة.

والوجه في القول المشهور ـ زيادة على الإجماع المذكور ـ أن العقد قد اقتضى كون الثمرة بينهما ، لاشتراط ذلك فيه ، وصحة العقد والشرط تقتضي ثبوت مقتضاهما ، كغيره من الشروط الصحيحة ، فمتى تحققت وظهرت دخلت في ملكها ، ويتفرع على ذلك وجوب الزكاة على من بلغ نصيبه منها نصاب الزكاة ، لتحقق شرط وجوب الزكاة ، وهو ملك الثمرة قبل تحقق الوجوب ونموها في ملكه.

ونقل الخلاف هنا عن السيد بن زهرة ، فإنه أوجب الزكاة على من كان منه البذر ، مستندا الى أن الحصة كالأجرة ، قال ـ على ما نقله عنه في المختلف ـ : لا زكاة على العامل ، لأنه أخذ حصته أجرة.


أقول : وبذلك قال أيضا في المزارعة ، حيث قال : كل من كان البذر منه وجبت الزكاة عليه دون الأخر ، لأن ما يأخذه كالأجرة.

وقال ابن إدريس في كتاب المزارعة من كتاب السرائر : فأما الزكاة فإن بلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه الزكاة وجب عليه ، لانه شريك مالك ، سواء كان البذر منه أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر أجرة ، ولا كالأجرة.

وقال بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له : كل من كان البذر منه وجب عليه الزكاة ، ولا تجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لان ما يأخذه كالأجرة ، والقائل بهذا القول العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذره بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنه ثقل الرد عليه ، ولعمري ان الحق ثقيل كله ، ومن جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه أن المزارع مثل الغاصب للحب ، إذا زرعه ، فإن الزكاة تجب على رب الحب ، دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات وأعجب الشبهات ، وانما كانت مشورتي عليه أن يطالع تصنيفه وينظر في المسئلة ويغيرها قبل موته ، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك في علم الله شفقة وسترة عليه ونصيحة له ، لان هذا خلاف مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وشيخنا (رحمة الله عليه) قد حقق المسئلة في مواضع عدة (عديدة) من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع نماء على ملكهما ، فيجب على كل واحد منهما الزكاة إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك ، وانما السيد أبو المكارم نظر الى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة في مبسوطه ، فظن أنه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أن ذلك مذهب أبي حنيفة ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطه ، لما شرح أحكام المزارعة ، ثم عقب بمذهبنا


وأومأت إلى المواضع التي حققها شيخنا في كتاب القراض وغيره فما رجع وما غيرها في كتبه ، ومات (رحمه‌الله) وهو على ما قاله نسئل الله له بالغفران وحشره مع آبائه في الجنان ، انتهى. كلامه.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل ملخص هذا الكلام عن ابن إدريس : وقول ابن إدريس وان كان جيدا مستفادا من الشيخ أبى جعفر الا أن قول ابن زهرة ليس بذلك البعد من الصواب.

أقول : الظاهر أن الحامل لشيخنا العلامة (رحمه‌الله عليه) لنفى البعد عن هذا القول انما هو التحامل على ابن إدريس ، والا فهو في البعد من الصواب أظهر من أن يخفى على سائر ذوي الألباب.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ بعد نقل القول المذكور ونعم ما قال ـ : وضعفه ظاهر ، لأن الحصة قد ملكت هنا بعقد المعاوضة ، في وقت يصلح لتعلق الزكاة بها ، لا بطريق الأجرة ، ثم لو سلم كونها كالأجرة فمطلق الأجرة لا تمنع من وجوب الزكاة ، بل إذا تعلق الملك بها بعد الوجوب ، إذ لو استأجره بزرع قبل بدو صلاحه ، أو آجره المالك الأرض بالزرع كذلك ، لوجبت الزكاة على مالك الأجرة ، كما لو اشترى الزرع كذلك.

نعم لو كان يذهب الى أن الحصة لا يملكها من لا بذر له بالظهور ، بل بعد بدو صلاحها ونحوه أمكن ترتب الحكم عليه ، لكنه خلاف إجماع الأصحاب ، ومع ذلك لا يتم تعليله بالأجرة ، بل بتأخر ملكه عن الوجوب ، ثم نقل كلام ابن إدريس ، وأنه كاتبه الى حلب ، ونبهه على فساد قوله ولم يقبل ، وأنه مات على ما قاله ، ثم نقل كلام العلامة في المختلف ، وأن هذا القول ليس بذلك البعد من الصواب ، ثم قال : وهو خلاف الظاهر ، والظاهر أن الحامل له على ذلك كثرة تشنيع ابن إدريس عليه ، انتهى.


تذنيب :

أجمع أصحابنا على بطلان المغارسة ، وبه قال أكثر العامة أيضا وهي عبارة عن أن يدفع أحد أرضا إلى غيره ليغرسها على أن يكون الغرس بينهما معا ، ومستند الأصحاب في البطلان هو عدم ورود نص بجوازها ، لان المعاوضات موقوفة على اذن الشارع ، وحيث لم يرد فيها كغيرها من العقود المشهورة اذن ، لا جرم وجب الحكم ببطلانها.

وتنظر فيه المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) وتبعه الفاضل الخراساني في الكفاية ، بأنه يمكن استفادة ذلك من بعض العمومات ، فإنه لو لا الإجماع المدعى لأمكن القول بصحة ذلك ، قالوا : ولا فرق بين أن يكون المغروس من مالك الأرض ، أو من العامل ، ولا بين أن يشترط العامل جزء من الأرض مع حصة من الغرس ، وعدمه ، وحيث ثبت بطلان المعاملة المذكورة ، فالغرس لصاحبه ، الا أنه ان كان صاحبه هو صاحب الأرض ، فعليه للعامل أجرة مثل عمله ، لانه لم يعمل مجانا بل بحصة لم تسلم له ، وان كان صاحبه هو العامل ، فعليه لصاحب الأرض أجرة المثل ، عوضا عن مدة شغله لها ، ولصاحب الأرض قلعه ، لبطلان المعاملة ، وأنه غير مستحق للبقاء فيها ، لكن بالأرش حيث أنه صدر عن اذنه ، فليس بعرق ظالم ، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين العالم بالبطلان ، والجاهل به.

وأنت خبير بأنه لا يبعد الفرق بين الحالين وتخصيص الحكم المذكور بحال الجهل ، وأما مع العلم فإنه لا أجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب الأرض ، ولا لصاحب الأرض فيما إذا كان الغرس للعامل ، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه ، لأن الأول مع علمه ببطلان العقد وأنه لا يستحق الحصة في مقابلة عمله يكون متبرعا بالعمل حينئذ ، ومقتضى تعليل وجوب الأجرة بأنه انما عمل لأجل الحصة ولم


تسلم له فوجب له الأجرة لا يجري إلا في صورة الجهل ، كما هو ظاهر.

والثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه بعدم استحقاقها ، فيكون في معنى الاذن بغير عوض ، فكيف يستحق عليه أجرة والحال هذه.

والثالث فمن حيث ظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه ، وفي هذا نظر ، فإنه إنما غرس بالاذن كما هو المفروض أولا فعرقه ليس بظالم ، فيكون مستحقا للأرش.

بقي الكلام في المعنى المراد من الأرش هنا ، قال في المسالك : والمراد بالأرش هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه ، على الوضع الذي هو عليه ، وهو كونه حال غرسه باقيا بأجرة ، أو مستحقا للقلع بالأرش ، وكونه مقلوعا لان ذلك هو المعقول من أرش النقصان ، لا تفاوت ما بين قيمته قائما مطلقا ، أو مقلوعا ، إذ لا حق له في القيام كذلك ليقوم بتلك الحالة ، ولا تفاوت ما بين كونه قائما بأجرة ومقلوعا لما ذكرنا ، فان استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه ، ولا تفاوت ما بين كونه قائما مستحقا للقلع ، ومقلوعا لتخلف بعض أوصافه أيضا كما بيناه ، ولا بين كونه قائما مستحقا للقلع بالأرش ومقلوعا لتخلف وصف القيام بأجرة.

وهذه الوجوه المنفية ذهب الى كل منها بعض ، واختار الثاني منها الشيخ على (رحمة الله عليه) والأخير فخر الدين فيما ينسب اليه ، والآخران ذكر هما من لا يعتد بقوله ، ثم قال : ويجب على العامل مع ذلك أرش الأرض لو نقصت به ، وطم الحفر ، خصوصا لو قلعه بغير أمر المالك ، وقلع العروق المتخلفة عن المقلوع.

تنبيهان :

الأول : قال في المسالك : لو كان الغرس من مالك الأرض لكن الغارس ركب فيه نوعا آخر كما في شجر التوت ونحوه ، فالمركب للغارس ان كان أصله


ملكه ، وكذا نماؤه مدة بقائه ، وعليه مع أجرة الأرش أجرة أصول الغرس أيضا ، وللمالك ازالة المركب مع الأرش كما مر ، انتهى.

الثاني : قالوا : لو بذل صاحب الأرض للغارس قيمة الغرس ليكون الغرس له ، بأن يبيعه إياه لم يجب عليه القبول ، وكذا لو دفع الغارس أجرة الأرض ليبقي غرسه فيها لم يجب عليه القبول ، والوجه في الموضعين واضح ، لأنها معاوضة وصحتها موقوفة على التراضي من الطرفين ، والله العالم.


كتاب الوديعة

وتحقيق الكلام في هذا الكتاب يقتضي بسطه في بحوث ثلاثة :

البحث الأول ـ الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (١) ، وقال تعالى «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ» (٢).

وأما السنة فالأخبار بذلك مستفيضة تكاد تبلغ حد التواتر المعنوي ، فروى في الكافي والتهذيب عن الحسين الشيباني (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : ان رجلا من مواليك يستحل مال بنى أمية ودمائهم وانه وقع لهم عنده وديعة ، فقال : أدوا الأمانات إلى أهلها وان كانوا مجوسيا ، فان ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا (عليه‌السلام) فيحل ويحرم.

أقول : الظاهر أنه لا منافاة بين استحلال أموالهم ودمائهم وبين وجوب أداء الأمانة لهم لما سيظهر لك من تكاثر الاخبار بوجوب أدائها ، وان كان من يحل ماله ، كما يشير اليه التمثيل بالمجوس.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٨٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٣٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ح ١١٤ الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٢ ح ٥.


ويحتمل حمل الخبر على عمومه من تحريم أموالهم ودمائهم ، ويكون حينئذ خارجا مخرج التقية كما يشير اليه آخر الخبر ، ويمكن حمل آخر الخبر بناء على المعنى الأول على أنه يجب أداء الأمانة لهم في ذلك الوقت ، وأنه يتغير هذا الحكم بعد ظهوره (عليه‌السلام) ولا يخلو عن شي‌ء.

وروى في الكافي عن محمد بن مسلم (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أدوا الأمانات ولو الى قاتل ولد الأنبياء (عليهم‌السلام)». وروى في الكافي والتهذيب عن عمر بن أبى حفص (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة ، الى من ائتمنكم فلو أن قاتل على بن أبى طالب (عليه‌السلام) ائتمنني على أمانة لا ديتها اليه.

وعن عمار بن مروان (٣) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وصية له : اعلم أن ضارب على (عليه‌السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستنصحني أو استشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الامانة».

وعن محمد بن القاسم بن الفضيل (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا من مواليك مالا له قيمة ، والرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئا ، ولا يقدر له على شي‌ء والرجل الذي استودعه رجل خبيث خارجي فلم ادع شيئا ، فقال لي : قل له : رده عليه ، فإنه ائتمنه عليه بأمانة الله عزوجل».

وروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سيابة (٥) قال : لما أن هلك أبى سيابة جاء رجل من إخوانه إلى فضرب الباب على فخرجت اليه فعزانى وقال لي : هل ترك أبوك شيئا ، فقلت له : لا فدفع الى كيسا فيه ألف درهم وقال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٣٣ ح ٣ الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٣ ح ٦.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ١٣٣ ح ٤ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ح ١١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢١ ح ٢ وص ٢٢٣ ح ٨ و ٩.

(٥) الكافي ج ٥ ص ١٣٤ ح ٩. الوسائل ج ١٣ ص ٢١٩ ح ٦.


أحسن حفظها وكل فضلها ، فدخلت إلى أمي وأنا فرح فأخبرتها فلما كان بالعشي أتيت صديقا كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري وجلست في حانوت فرزق الله فيها خيرا كثيرا ، فحضر الحج فوقع في قلبي فجئت إلى أمي وقلت لها : قد وقع في قلبي أن أخرج الى مكة؟ فقالت لي : فرد دراهم فلان عليه ، فهيأتها وجئت بها اليه فدفعتها اليه فكأني وهبتها اليه ، فقال ، لعلك استقللتها فأزيدك ، قلت : لا ولكن وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك ، ثم خرجت فقضيت نسكي ثم رجعت الى المدينة ، فدخلت مع الناس على أبى عبد الله (عليه‌السلام) وكان يأذن إذنا عاما فجلست في مواخير الناس ، وكنت حدثا فأخذ الناس يسئلونه ويجيبهم فلما خف الناس عنه أشار الى فدنوت اليه فقال لي : ألك حاجة؟ فقلت له : جعلت فداك أنا عبد الرحمن بن السيابة فقال لي : ما فعل أبوك قلت : هلك ، فتوجع وترحم ، قال : ثم قال لي : فترك شيئا؟ قلت : لا قال : فمن أين حججت؟ قال : فابتدأت فحدثته بقصة الرجل ، قال : فما تركني أفرغ منها حتى قال لي : فما فعلت في الألف قال : قلت : رددتها على صاحبها ، قال لي : قد أحسنت وقال لي : إلا أوصيك؟ قلت : بلى جعلت فداك ، فقال : عليك بصدق الحديث وأداء الأمانة ، تشرك الناس في أموالهم هكذا ، وجمع بين أصابعه قال : فحفظت ذلك عنه فزكيت ثلاثمأة ألف درهم». الى غير ذلك من الاخبار الجارية في هذا المضمار.

وأما الإجماع فقد نقله جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة قال : وقد أجمع المسلمون كافة على جوازها ، وتواترت الاخبار بذلك.

أقول : ويؤكد ذلك دلالة العقل والنقل على قضاء حاجة المؤمن وإدخال السرور عليه مع عدم المانع ، كما لو لم يثق من نفسه بالحفظ لبعض الأسباب المتوقف عليها ذلك ، قال في التذكرة ـ بعد أن صرح بالاستحباب كما ذكرنا ـ : ولو لم يكن هناك غيره فالأقوى أنه يجب عليه القبول ، لانه من المصالح العامة.

وبالجملة فإن القبول واجب على الكفاية ، ثم استثنى ما إذا تضمن بالقبول


ضررا في نفسه أو ماله أو على أحد من إخوانه المؤمنين ولا بأس به ، وقال في التذكرة أيضا : الوديعة مشتقة من ودع يدع : إذا استقر وسكن ، أو من قولهم يدع كذا أى يتركه ، والوديعة متروكة مستقرة عند المستودع ، وقيل : إنها مشتقة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل : فهو وديع وو ادع ، لأنها في دعة عند المودع ، لا تتبدل ولا تتبذل ولا تستعمل ، والوديعة يطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع الودائع ، واستودعته الوديعة أي استحفظته إياها ، وعن الكسائي أو دعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة فقبلها ، وأو دعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد والمشهور في الاستعمال المعنى الأول ، انتهى.

أقول : قال في كتاب المصباح المنير : والوديعة : هو فعلية بمعنى مفعولة ، وأودعت زيدا مالا ، دفعته اليه ليكون عنده وديعة ، وجمعها ودائع ، واشتقاقها من الدعة وهي الراحة ، أو أخذته منه وديعة ، فيكون الفعل من الأضداد ، لكن الفعل في الدفع أشهر ، واستودعته مالا ، دفعته له وديعة يحفظه ، وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح ، والاسم الدعة وهي الراحة ، وخفض العيش والهاء عوض من الواو ، انتهى.

وقد عرفها بعض الفقهاء بأنها الاستنابة في الحفظ ، وعرفها في التذكرة بأنها عقد يفيد الاستنابة في الحفظ ، وهو أظهر قال : وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، ولكل منها فسخه ، ولا بد فيها من إيجاب وقبول ، فالإيجاب كل لفظ دل على الاستنابة بأي عبارة كان ، ولا ينحصر في لغة دون أخرى ، ولا في عبارة دون أخرى ، ولا يفتقر الى التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة ، والقبول قد يكون بالقول ، وهو كل لفظ يدل على الرضا بالنيابة في الحفظ ، بأي عبارة كان ، وقد يكون بالفعل ، وهل الوديعة عقد برأسه؟ أو اذن مجرد ، الأقرب الأول ، انتهى.


وبنحو ذلك صرح جملة ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : مقتضى كونه عقدا تركيبه من الإيجاب والقبول بالقولين ، ومقتضى جوازه عدم انحصاره في عبارة ، بل يكفى كل لفظ دل عليه ، ولا يعتبر فيه التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختيارا ، ثم قال بعد قول المصنف (رحمة الله عليه) : ويكفى الفعل الدال على القبول ، أطلق المصنف وجماعة أنه يكفى القبول الفعلي مع اعترافهم بكونه عقدا نظرا الى أن الغاية منه انما هو الرضا بالاستنابة ، وربما كان الفعل فيه أقوى من القبول ، باعتبار التزامه ودخوله في ضمانه لو قصر ، بخلاف القبول القولي ، فإنه وان لزمه ذلك شرعا الا أنه ليس صريحا في الالتزام من حيث أنه عقد جائز ، فإذا فسخه ولم يكن قبضه لم يظهر أثره واليد توجب الحفظ الى أن يرده الى مالكه ، لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١). وهذا حسن ، الا أن فيه بعض الخروج عن حقيقة العقد ، ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى أنها اذن مجرد ، لا عقد ، وفرع عليه عدم اعتبار القبول القولي ، وآخرون الى أن الإيجاب ان كان بلفظ أو دعتك وشبهه مما هو على صيغ العقود وجب القبول لفظا ، وان قال احفظه ونحوه لم يفتقر الى القبول اللفظي ، كالوكالة ، وهو كلام موجه.

أقول : لا يخفى أن ما طولوا به الكلام في هذا المقام من أنه لا بد من عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والخلاف في القبول بكونه قوليا أو فعليا ، وكذا الخلاف بكونه عقدا أو إذنا كله تطويل بغير طائل ، إذ لا يظهر له عند التأمل والتحقيق ثمرة ولا حاصل ، والأمر في ذلك معروف بين جملة الناس من عالم وجاهل ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في أن من قصد غيره بمال ليودعه عنده ، وجرى بينهما من الكلام ما يدل على الرضا بذلك ، من الطرفين بحيث لا يتوهم كونه هدية ولا عطية ولا بيعا ، ولا نحو ذلك ترتب عليه أحكام الوديعة شرعا ، سواء

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


سمى ذلك عقدا أو إذنا أو غير ذلك ، ولا فرق أيضا في ذلك بين أن يكون الدال على المراد من ذلك لفظا أو فعلا إذا اقترن بما يدل على المراد.

وبالجملة فالظاهر أنه يكفى ما يدل على الاستنابة وقبولها مطلقا ، وأنها مجرد الاذن في النيابة ، وأنه ما لم يقبض أو يقبل بما يفيد القبول لم يدخل في الضمان والا فإنه يلزم الضمان ، وليس في النصوص زيادة على ما ذكرنا عين ولا أثر

وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع الأول ـ إذا طرح الوديعة عنده فهيهنا صور :

الاولى ـ أن يطرحها عنده ولا يحصل منه ما يدل على الاستنابة في الحفظ ، ولم يحصل من الأخر ما يدل على القبول ، ولا إشكال في عدم ثبوت الوديعة ، ولا في عدم وجوب الحفظ.

الثانية ـ الصورة بحالها ولكن حصل القبول القولي من الأخر ، وحكمها كسابقها ، فإنه بمجرد الطرح ما لم يضم الى ذلك كونه وديعة ، لا يستلزم وجوب الحفظ ، ولا الضمان.

الثالثة ـ الصورة الأولى بحالها ، ولكن قبضه الأخر ولا ريب أنه لا يصير وديعة ، ولكن يجب حفظه ، ويضمنه لخبر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١).

الرابعة ـ أن يطرحه ويضم الى ذلك ما يدل على قصد الإيداع ، ويحصل القبول من الأخر قولا أو فعلا ، ولا ريب في ثبوت كونه وديعة ، فيجب الحفظ ، ويضمن مع التفريط.

الخامسة ـ الصورة بحالها ولكن لم يحصل من الأخر ما يدل على القبول لا قولا ولا فعلا ، ولا ريب في أنها لا تصير وديعة ، ولا يجب عليه حفظها حتى لو ذهب وتركها لم يضمن ، الا أنهم صرحوا بأنه لو كان ذهابه بعد أن غاب المالك فإنه يأثم لوجوب الحفظ عليه من باب المعاونة على البر ، واعانة المحتاج ، فيكون

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


من باب الواجبات الكفائية ، وفيه ما فيه.

ثم انه بالنسبة إلى الصورة الرابعة المشتملة على تحقق الوديعة لو ذهب المستودع بعد طرح الوديعة والمالك حاضر ، فإنه جزم في التذكرة بأن ذلك رد الوديعة ، ولو كان المالك غائبا ضمن.

قال في المسالك : ويشكل تحقق الرد بمجرد الذهاب عنها ، مع حضور المالك ، لأصالة بقاء العقد ، وكون الذهاب أعم منه ما لم ينضم إليه قرائن تدل عليه ، وهو جيد من حيث التعليل الثاني.

أما الأول أعني الاستناد إلى أصالة العقد فهو ضعيف ، لما أشرنا إليه آنفا من أنه لا عقد هنا.

وأما الثاني فإنه جيد ، لانه لما ثبت كونه وديعة كما هو المفروض فالأصل البقاء على حكمها حتى يثبت ما يوجب فسخها ، وذهاب المستودع لا يدل عليه ، لأنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ،

إذا عرفت فاعلم أن ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية المناقشة في الصورة الثانية والثالثة مدعيا حصول الوديعة بمجرد الطرح ، فان ظاهر وضع المال عنده أن غرض المالك الاستنابة في الحفظ وان لم يقل لفظا يدل عليه ، والظاهر أنه لا يعتبر في إيجاب الوديعة لفظ ، بل يكفى ما يدل على الرضا مطلقا ، فلا حاجة الى انضمام أمر آخر يدل على الاستنابة في حفظه.

أقول : لا ريب أن مجرد الطرح أعم مما ذكره ، والعام لا دلالة له على الخاص نعم ان انضم الى ذلك قرينة حالية أو مقالية تفهم قصد الوديعة فالأمر كذلك ونحن لا نوجب لفظا مخصوصا ولا فعلا مخصوصا ، ولكن لا بد من شي‌ء يفهم منه قصد الوديعة ، ومجرد الطرح لا يفيده كما عرفت.

الثاني ـ لو أكره على قبض الوديعة لم تصر وديعة ، ولا يجب عليه حفظها ولا ضمانها ، مع احتمال حفظها ، كل ذلك لمكان الإكراه.


واستثنى شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله عليه) في الروضة أن يكون المكره مضطرا إلى الإيداع ، قال : فيجب عليه إعانته عليه كالسابق ، وأشار به الى ما قدمنا ذكره في الصورة الخامسة.

نعم لو وضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختارا ، فإنه يجب عليه حفظها ، باليد الجديدة ، لخبر «على اليد ما أخذت» (١).

لا من حيث الإكراه ، وهل تصير بذلك وديعة أم أمانة شرعية؟ قال في المسالك : يحتمل الأول ، لأن المالك كان قد أذن له ، واستثنا به في الحفظ ، غايته أنه لم يتحقق معه الوديعة ، لعدم القبول الاختياري ، وقد حصل الان ، والمقاربة بين الإيجاب والقبول غير لازمة ، ومن إلغاء الشارع ما وقع سابقا فلا يترتب عليه أثر ، ويشكل بأن إلغائه بالنظر الى القابض لا بالنظر الى المالك.

ثم قال : ويمكن الفرق بين وضع اليد اختيارا بنية الاستيداع ، وعدمه ، ويضمن على الثاني ، دون الأول ، إعطاء لكل واحد حكمه الأصلي ، انتهى.

أقول : والمسئلة لخلوها من النص لا تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكره أخيرا من التفصيل لا يخلو من وجه ، والله العالم.

الثالث ـ قال بعض المحققين : إذا استودع وجب عليه الحفظ ، ولا يلزمه دركها لو تلفت من غير تفريط ، أو أخذت منه قهرا نعم لو تمكن من الدفع وجب ولو لم يفعل ضمن ، ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع ، كالجرح وأخذ المال ، ولو أنكرها فطولب باليمين ظلما جاز الحلف صوريا ما يخرج به عن الكذب ، انتهى.

أقول : وتفصيل هذا الإجمال وبيان ما اشتمل عليه هذا المقال يقع في موارد أحدها أن ما ذكره من وجوب الحفظ عليه متى استودع أى قبل الوديعة مما لا ريب فيه ، ويدل عليه الاخبار المتقدمة الدالة على وجوب أداء الأمانة ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


فإنه لو لا وجوب حفظها لم يجب أداؤها ، وذلك أنه متى رخص له في إهمالها وعدم حفظها كيف يترتب عليه وجوب الأداء

ويدل عليه أيضا ما يأتي ـ ان شاء الله ـ من الاخبار الدالة على وجوب الضمان مع مخالفة أمر المالك في الحفظ أو الرد ، ووجوب الحفظ عليه ما دام مستودعا لا مطلقا ، لأن الوديعة من العقود الجائزة التي لهما فسخها متى أرادا ، والواجب حينئذ هو ردها أو حفظها ، فيصدق وجوب الحفظ في الجملة من حيث أنه أحد فردي الواجب المخير.

واعلم أنه قد قسموا القبول الذي يتفرع عليه حكم الحفظ إلى أقسام ، ـ فمنه ما يكون واجبا كما إذا كان المودع مضطرا الى الاستيداع ، فإنه يجب على كل قادر على ذلك واثق من نفسه بالحفظ قبول ذلك منه كفاية ، ولو انحصر في واحد كان واجبا عليه عينا ، ووجوب الحفظ على هذا واضح كفاية أو عينا ، وقد يكون مستحبا كما في الصورة المذكورة ، الا أن المودع غير مضطر لما فيه من المعاونة على البر ، وقضاء حوائج المؤمنين.

وقد يكون محرما كما إذا كان عاجزا عن الحفظ ، أو غير واثق من نفسه بالأمانة لما فيه من تعريض مال الغير الى الذهاب ، والتعرض للتفريط المحرم ، ومثله ما لو تضمن القبول ضررا على المستودع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين ، وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه ، وأما كيفية الحفظ فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

وثانيها ـ ما ذكره من أنه لا درك عليه مع عدم التفريط ، فالظاهر أنه إجماعي نصا وفتوى ، فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح أو الحسن (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «صاحب

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٩ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٧ ح ٢.


الوديعة والبضاعة مؤتمنان».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة (١) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن وديعة الذهب والفضة فقال : كل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم».

والمراد بقوله لم يكن مضمونة أى لم يشترط المستودع فيها الضمان لمن أودعه إياها ، فإنه لا يلزمه ، غرمها.

وعن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الأخر أنها كانت عليك قرضا ، فقال : المال لازم له الا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة».

وما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح وغيره عن محمد بن مسلم (٣) «عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : سألت عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق ، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا».

وما رواه (٤) في التهذيب والفقيه في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال : هو مؤتمن». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ، وقد تقدمت جملة منها في الكتب المتقدمة.

وثالثها ـ ما ذكره من عدم الضمان عليه لو أخذت منه قهرا ، والظاهر

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٩ ح ٢ و ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٥ ، الفقيه ح ٤٠٩٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٢. وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٤ وص ٢٣٢ ب ٧ وص ٢٣٧ ح ٨ وص ٢٢٧ ح ٢.


أنه لا اشكال فيه ، سواء كان قد تولى الظالم أخذها من يده أو من مكانها التي كانت فيه ، أو قهره على الإتيان بها فدفعها اليه ، لانتفاء التفريط في كل من الحالين وحينئذ فيرجع المالك على الظالم بالعين أو العوض : ونقل في المختلف عن أبى الصلاح أنه يضمن إذا سلمها بيده وان خاف التلف ، ولا ريب في ضعفه.

وهل للمالك الرجوع على المؤتمن في الصورة الثانية ، من حيث أنه باشر تسليم مال الغير الى غير مالكه ، بمعنى أنه يتخير في الرجوع على أيهما شاء؟ استقرب العلامة في التذكرة ذلك على ما نقله عنه في المسالك ، قال : وعلى هذا فمعنى عدم ضمانه أنه لا يستقر عليه ، بل يرجع بما غرم على الظالم ، واحتمله في المسالك أيضا الا أنه قال : والأقوى عدم جواز مطالبته ، لعدم تفريطه ولأن الإكراه صير فعله منسوبا الى المكره ، ولانه محسن فلا سبيل عليه ، والتسليم باذن الشارع ، فلا يستعقب الضمان ، انتهى.

أقول : وهذا الاحتمال الذي استقربه في التذكرة يرجع الى ما قدمنا نقله عن أبى الصلاح ، وما ذكره في المسالك في رده جيد ، يمكن تأييده بما تقدم في كتاب المزارعة عن حديث سعيد الكندي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انى أجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم ، قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم ، قال : انهم انما زادوا على أرضك».

فإنه ظاهر في أنه وان كان الظالم انما ظلم أولئك وأخذ من مالهم لكن لما كان منشأه الأرض المذكورة حكم (عليه‌السلام) بذلك على المالك ، ومثله ما لو طلب الظالم ما لا في ذمته لزيد بقصد الظلم لزيد ، فان مقتضى الخبر أنه لا يرجع زيد بما أخذه الظالم على من كان المال في ذمته ، فبطريق الاولى لا يرجع فيما نحن فيه من حيث قبضه عين الامانة.

وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما نقل عن العلامة من قرب القول المذكور

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١٠.


نعم لو كان الأمين هو الساعي بها الى الظالم ، ولم يقدر بعد ذلك على دفعه ، فإنه لا يبعد ضمانه من حيث تفريطه في الحفظ بالسعاية اليه ، وبذلك صرحوا جازمين بالحكم المذكور ، بخلاف ما لو كان السعاية من غيره ، أو علم بها الظالم من غير سعاية أحد.

قالوا : ومثله ما لو أخبر اللص بها فسرقها وهو ظاهر فيما لو أخبره بمكانها ، أما لو أخبره بها في الجملة فإن ظاهر العلامة في التذكرة : أنه لا يضمن.

قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : ويشكل مع كونه سببا في السرقة لانه تفريط نعم لو لم يقصدها اللص فاتفقت مصادفته لها توجه ذلك ، وهذا بخلاف الظالم ، فإنه بعمله يضمن مطلقا ، والفرق أن الظالم إذا علم بها أخذها قهرا والسارق لا يمكنه أخذها إلا إذا علم موضعها ، انتهى.

أقول : وما ذكره في الفرق يرجع الى ما قدمناه من أنه لا يضمن في صورة إخبار السارق الا مع اخباره لمكانها فلا وجه لما ذكره من الاستشكال ودعوى الضمان بكونه سببا في السرقة وأنه تفريط ، فان ذلك لا يتم الا مع الاعلام بالمكان كما لا يخفى ، وبما ذكرناه في المقام يعلم ما في كلام بعض مشايخنا الاعلام من متأخري المتأخرين الكرام في بعض أجوبة مسائله من الغفلة في المقام ، حيث سأله السائل بما صورته إذا سأل الجائر هل عندك وديعة لفلان أم لا؟ فقال : نعم فأنفذ إلى داره وأخذها ، فهل يضمن الودعي أم لا؟ فان اعتذر بأن خاف الكذب فهل يعذر أم لا؟

فأجاب بما صورته أقول : هنا مسألتان : أما الاولى فلا يضمن الودعي بمجرد اخباره ـ إذا لم ينقلها اليه وان كان السبب في إتلافه إخباره بها ـ لكنه فعل محرما لإعانته على المعصية ، لأن الدال على الشر كفاعله ، وأما الثانية فالكذب هنا غير حرام بل واجب ، لحفظ مال المسلمين من التلف ، وقد ورد في الحديث أن الله يبغض الصدق في الإفساد كما يحب الكذب في الإصلاح ، انتهى.

فان فيه كما عرفت من كلامهم أنه متى كان هو الساعي بها الى الظالم والسبب


في أخذها فإنه يكون ضامنا ، ولا ريب أنه في اخباره الظالم بذلك بعد سؤاله له يكون قد سعى بها اليه.

ويؤكده أيضا ما ذكروه وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى من أنه لو يتمكن من الدفع وجب ، ولو لم يفعل ضمن ، فإنه إذا كان يضمن بعدم الدفع عنها لكونه مستلزما للتفريط في حفظها ، فلان يضمن مع اخباره بها بطريق أولى ، الا أنى لم أقف في الحكم المذكور على نص بالخصوص يوجب الضمان في الصورة المذكورة ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك ، ولعل المستند فيه صدق التفريط بذلك والنصوص قد دلت على الضمان معه ، وظاهر كلامه تخصيص الضمان بصورة نقلها اليه ودفعها بيده دون السعى بها.

وبالجملة فالظاهر أن كلامه هنا ناش عن الغفلة عن مراجعة كلام الأصحاب وإعطاء التأمل حقه في الباب ، والله العالم.

ورابعها ـ ما ذكره من أنه لو تمكن من الدفع وجب ، أى تمكن من دفع الظالم عن الوديعة ، ولا إشكال في وجوبه ، لوجوب الحفظ عليه كما تقدم ، فيجب كلما توقف عليه ، فلو أهمل مع قدرته على ذلك ضمن بالتقريب المتقدم ، سواء كان الدفع بالاختفاء والتواري عن الظالم ، أو التوسل الى ذلك بالوسائل ، ولو توقف ذلك على دفع المال منها أو من غيرها بحيث لا يندفع بدونه عادة ، قال في المسالك : الأقرب جوازه ، ويرجع به على المالك ان لم يمكن استيذانه قبل الدفع ، أو استيذان وليه ، وعدم نية التبرع ولو ترك الدفع عنها ببعضها مع إمكانه ضمن ، ما يزيد عما يدفعه به لا الجميع لان مقدار المدفوع ذاهب على التقديرين انتهى.

وأشار بقوله : ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع كالجرح وأخذ المال إلى أنه لو كان الضرر قليلا وجب تحمله في دفع الظالم الا أن فيه ان ذلك مما يختلف باختلاف إقدار الناس ومراتبهم ، فرب رجل لمزيد شرفه ورفعة قدره


يكون الكلمة اليسيرة من الأذى ضررا كثيرا في حقه ، ورب رجل لا يكون الضرر في حقه لمهانته وضعته ضررا كثيرا ، الا أن يقيد بذلك فيكون المعتبر ما كان ضررا كثيرا بالنسبة إلى المؤتمن لا مطلقا ، والأظهر حمل الضرر على ما كان كذلك في حد ذاته عرفا لا بالنسبة إلى المؤتمن ، فلا يجوز له وان كان شريفا على المرتبة دفع الوديعة بمجرد كلمة تؤذيه وان كانت ضررا كثيرا بالنسبة إليه كما تقدم ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط لبراءة الذمة.

وخامسها ـ ما ذكره من أنه لو أنكرها وطولب باليمين الى آخره ، فإنه جيد إذ لا ريب في أن حفظ الامانة واجب عليه وهو موقوف هنا على هذه اليمين الكاذبة ، والاخبار قد دلت على جوازها في أمثال هذا المقام فإذا أبيحت في أمثال ذلك كانت هنا واجبة ، لتوقف الواجب ، وهو الحفظ عليها من باب مقدمة الواجب ، الا أنهم ذكروا أنه يوري في يمينه للتحرز عن الكذب ان أمكن وعرفها ، والا حلف من غير تورية ، وعلله في المسالك قال : لانه وان كان قبيحا الا أن ذهاب حق الأدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في اليمين الكاذبة فيجب ارتكاب أخف الضررين.

وفيه نظر لأنا نمنع ما ذكره من قبح اليمين في هذه الحال ، بعد اذن الشارع بها ، وهو قد اعترف أيضا بذلك بعد هذا الكلام ، فقال : لان اليمين الكاذبة عند الضرورة مأذون فيها شرعا كمطلق الكذب النافع ، وحينئذ فأي وجه للقبح بعد الإذن الشرعي فيها.

وكيف يكون قبيحا مع كونه واجبا كما صرح به هو وغيره في المقام ، والا لزم اجتماع القبح والحسن والضرر والنفع في شي‌ء واحد ، فيلزم الذم والمدح والثواب والعقاب في شي‌ء واحد ، وهو محال. وكون الكذب قبيحا في حد ذاته لا يستلزم كونه هنا قبيحا بعد ما عرفت.

ومن الاخبار التي تدل على ما ذكرنا هنا من أرجحية اليمين الكاذبة


ومشروعيتها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن عن أبى الصباح الكناني (١) قال : «والله لقد قال لي جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) : الى أن قال : ثم قال : ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» ،. وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين نزل به».

وروى في الفقيه والتهذيب عن السكوني (٣) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : احلف بالله كاذبا ونج أخاك من القتل».

وروى في الفقيه بسنده الى ابن بكير عن زرارة (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا الا بذلك : قال فاحلف لهم فهو أحلى من التمر والزبد».

وروى فيه أيضا بسنده عن الحلبي (٥) قال : «سألته عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي عن محمد بن مسعود الطائي (٦) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان أمي تصدقت على بدار لها أو قال : بنصيب لها في دار ، فقالت لي : استوثق لنفسك فكتبت انى اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن فلما ماتت قال الورثة : احلف أنك اشتريت ونقدت الثمن ، فان حلفت لهم أخذته ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٤٢ ح ١٥ ، التهذيب ج ٨ ح ١٠٥٢ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٢ ح ٢.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٠ ح ١٥ الوسائل ج ١٦ ص ١٦٣ ح ٧.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٥ ح ٤١ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٠٠ ح ١٠٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٢ ح ٤.

(٤ و ٥) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٦٣ ح ٦.

(٦) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٧. الوسائل ج ١٣ ص ٣٠١ ح ٥.


وان لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : فاحلف وخذ ما جعلت لك» ، ونحو هذا الخبر ما رواه في التهذيب والفقيه عن محمد بن أبى الصباح (١) عن أبى الحسن.

وأما ما يدل على جواز التورية في اليمين فهو ما رواه في الكافي عن صفوان (٢) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه؟ قال : اليمين على الضمير».

رواه في الفقيه عن إسماعيل بن سعد الأشعري (٣) عن أبى الحسن الرضا مثله ، ثم قال : يعنى على ضمير المظلوم ، كأنه بنى على ما يظهر من الخبر الاتى الا أن الظاهر عندي أنه أريد بذلك جواز التورية ، وان كان في غير مقام الظلم.

وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وسئل عما يجوز وعما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين ، فقال : قد يجوز في موضع ، ولا يجوز في موضع آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم».

والظاهر أن المراد منه أن التورية انما تصح في حال كونه مظلوما ، وأراد الحلف للنجاة من الظالم كما هو محل البحث في المقام ، وأما لو كان ظالما وأراد الحلف لإثبات ما يدعيه ظلما فان التورية لا ينفع هنا ، ولا تدفع عنه ضرر اليمين دنيا وآخرة ، بل تصير يمينا كاذبة بالنظر الى نية المظلوم.

وكيف كان فإنه متى ترك الحلف عند توقف حفظ المال عليه فأخذه الظالم فإنه يضمنه لما عرفت من حصول التفريط بذلك ، وبه صرح الأصحاب أيضا والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٨ ح ٢٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٣ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ٢١١ ح ١.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٤٤٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٧٩ ح ٢ من باب ٢٠.


الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن الوديعة كما تبطل بالفسخ تبطل بالموت والجنون والإغماء من أحد الطرفين ، أما على القول بكونها إذنا فواضح ، وأما على القول بكونها عقدا كما هو المشهور فلانه لا خلاف بينهم في كونه من العقود الجائزة ومن شأن العقود الجائزة البطلان بذلك كالوكالة ونحوها ، لخروج كل منهما عن أهلية التكليف بحصول أحد هذه الأسباب الثلاثة ، ولان المال انتقل الى الغير بالموت فلا يصح التصرف فيه الا بإذن المالك ، وهو الوارث ، وفي الجنون ونحوه قد خرج عن أهلية التكليف ، وصلاحية الاذن ، والتصرف فهو في معنى الميت ، ومتى ثبت البطلان كانت أمانة شرعية يجب ردها الى المالك فورا ، فان اتفق أحد هذه الأسباب للمودع وجب على المستودع المبادرة إلى ردها الى المالك في صورة الفسخ ، والى الوارث في صورة الموت والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء ، وان اتفق ذلك للمستودع وجب ردها الى المالك في صورة الفسخ والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء وعلى الوارث في صورة الموت قالوا : ومعنى كونها أمانة شرعية بعد ذلك لحصولها في يده بغير اذن المالك ، لكنها غير مضمونة عليه لإذن الشارع في وضع اليد عليها الى أن يردها على وجهه ، ومن حكم الأمانة الشرعية وجوب المبادرة بردها على الفور الى المالك ، أو من يقوم مقامه ، فإن أخر عن ذلك مع قدرته ضمن ، ولو تعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو وليه الخاص سلمها الى الحاكم لأنه ولي الغائب ، بقي الكلام هنا في أنه متى مات المودع وطلب الوارث الوديعة من المستودع مع شك المستودع في كونه وارثا أو في انحصار الإرث فيه وأراد البحث عن ذلك ، وتحقيق الحال ، والحال أنه ليس ثمة حاكم يرجع اليه ، فهل يكون ضامنا؟ والحال هذه ، قال في المسالك : الأقوى عدم الضمان ، خصوصا مع الشك في كون الموجود وارثا ، لأصالة عدمه.

وأما مع العلم بكونه وارثا فالأصل أيضا عدم استحقاقه ، لجميع المال والقدر المعلوم انما هو كونه مستحقا في الجملة ، وهو لا يقتضي انحصار الحق


فيه ، وأصالة عدم وارث آخر معارضة بهذا الأصل ، فيبقى الحكم في القابض ، وجوب البحث عن المستحق ، كنظائره من الحقوق ، انتهى.

أقول : لا إشكال في قوة ما رجحه (رحمة الله عليه) وقواه في صورة الشك في كونه وارثا ، وانما يبقى الإشكال في صورة العلم بكونه وارثا مع عدم العلم بالانحصار فيه ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا خلاف ما ذكره ، حيث قال ـ في شرح الإرشاد بعد أن ذكر أنه متى كان الميت أو الخارج عن صلاحية الإيداع هو المالك ، فيمكن وجوب الرد الى الوارث ما لفظه : ـ الظاهر وجوبه أو جوازه وان لم يعلم الانحصار فيه ، ولا يجوز مع الشك في أنه وارث ، ودليل الأول الأصل عدم وارث آخر مع العلم باستحقاق الموجود ، ولا يعارض بأصل عدم استحقاق الكل ، لان الاستحقاق واضح ، ووجود آخر مانع ، وظاهر كلام البعض عدم الوجوب ، بل عدم الجواز مع عدم العلم بالحصر ، وهو محل التأمل ، انتهى.

والظاهر أنه أشار بالبعض الى ما قدمنا نقله عن المسالك ، وبالجملة فالمسئلة محل توقف واشكال ، لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، ويمكن ترجيح ما ذكره المحقق المشار إليه بأنه متى علم كونه وارثا ولم يعلم وارث سواه الا بمجرد احتمال وجوده ، فان ظاهر آيات الإرث وأخباره يقتضي الحكم بإرثه لجميع التركة ، فقول شيخنا ـ المتقدم ذكره ـ الأصل عدم استحقاقه لجميع المال ممنوع ، فان مقتضى الأدلة الاستحقاق ، للجميع لمعلومية كونه وارثا ، وانما يعارضه احتمال وجود آخر ، والظاهر أنه لا دليل شرعا على تأثير هذا الاحتمال في دفع ما علم بظاهر الأدلة المذكورة ، فإنه إذا قام الدليل على أن الولد يرث أباه مثلا ، ومات الأب وله ولد معلوم ، واحتمل أن يكون له ابن آخر ، فان مقتضى الأدلة وجوب دفع التركة إلى الولد المذكور المعلوم كونه وارثا ، واحتمال وجود غيره لا يؤثر شرعا في دفعه عن الجميع ، والله العالم.


ثم انهم قالوا : ان من جملة أحكام الأمانة الشرعية ـ مع ما تقدم من وجوب المبادرة إلى ردها وان لم يطالب المالك ـ أنه لا يقبل قول من هي في يده في ردها الى المالك مع يمينه ، بخلاف الوديعة ، والفرق أن المالك لم يستأمنه عليها ، فلا يقبل قوله في حقه مع أصالة عدمه ، بخلاف الوديعة ، مع ما انضم اليه من الإحسان الموجب لمنع السبيل.

ولها صور كثيرة : أحدها ـ ما ذكر من الوديعة التي يعرض لها البطلان ، وكذا غيرها من الأمانات كالمضاربة ، والشركة ، والعارية.

ومنها ما لو أطارت الريح ثوبا ونحوه الى داره.

ومنها ما لو انتزع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

ومنها ما لو أخذ الوديعة من صبي أو مجنون عند خوف تلفها.

ومنها ما يصير بأيدي الصبيان من الأموال التي يكتسبونها بالقمار كالجوز والبيض ، وعلم بها الولي ، فإنه يجب عليه رده الى مالكه ، أو وليه.

ومنها ما لو استعار صندوقا ونحوه أو اشتراه أو غيره من الأمتعة فوجد فيه شيئا فإنه يكون أمانة شرعية ، وان كان المستعار مضمونا.

ومنها اللقطة في يد الملتقط مع ظهور المالك ، وضابطه ما كان وضع اليد عليه من غير اذن المالك مع الاذن فيه شرعا والله العالم.

الخامس ـ يجب حفظ الوديعة بما يناسب حالها ، والوجه فيه أنه حيث علم من الشارع وجوب الحفظ ، ولم يعلم منه كيفية معينة لذلك ، وجب الرجوع في ذلك الى العادة والعرف الذي عليه الناس ، كالدنانير والدراهم ، فان محل حفظها الصندوق المقفل ، والثياب منها ما يكون محل حفظه الصندوق أيضا ، ومنها ما يكون البيت ، والدابة في الإصطبل ، والشاة في المراح ونحو ذلك ، ولو جعل أحد هذه الأشياء في مكان أوثق في الحفظ كالشاة والدابة في الدار المغلقة ، فالظاهر أنه مزيد إحسان لا يتعقبه الضمان ، وربما قيل : بالضمان من حيث مخالفة


المعهود والمعتاد ، والظاهر ضعفه ، والظاهر أنه لا فرق بين علم المودع بأن المستودع متمكن من تحصيل الحرز وعدمه ، فلو أودعه مالا مع علمه أنه لا صندوق عنده ، أو دابة مع علمه أنه لا إصطبل عنده أو نحو ذلك ، فإنه لا يكون ذلك عذرا بل يجب الحفظ عليه في المكان المعتاد له متى قبل الوديعة.

قال في المسالك : واعلم أنه ليس مطلق الصندوق كافيا في الحفظ ، بل لا بد معه من كونه محرزا عن غيره ، أما بأن لا يشاركه في البيت الذي فيه الصندوق يد أخرى مع كون البيت محرزا بالقفل ونحوه ، وكون الصندوق محرزا بالقفل كذلك ، وكونه كبيرا لا ينقل عادة ، بحيث يمكن سرقته كذلك مقفلا ، وهكذا القول في الإصطبل والمراح وغيرها انتهى.

ولا يخلو من اشكال سيما مع علم المودع ورضاه بما هو دون هذا القدر من الضبط ، والظاهر أنه لا يعتبر في وجوب ضبط الوديعة وحفظها أزيد مما يعتبر من ضبط المالك لما له وحفظه له ، وزيادة حرسه على حفظه ، وهو لا يبلغ الى هذا المقدار ، سيما ما ذكره من أن لا يشاركه في ذلك البيت الذي فيه الصندوق يد فإن الإنسان لا يخلو من العيال والأزواج والأولاد والخدم الذين يترددون في البيت دخولا وخروجا ، والإنسان لا يمكنه الاحتباس في البيت لأجل المحافظة ، بل يحتاج الى التردد في حوائجه من الأسواق وغيرها ، وبما صرح به في المسالك من الكلام في هذا المقام صرح به العلامة في التذكرة أيضا : فقال : لو كانت له خزانة مشتركة بينه وبين ابنه ، فدفع الوديعة الى ابنه ليضعها في الخزانة المشتركة فالأقرب الضمان ، إلا إذا علم المالك بالحال ، ثم قال : لا يجوز أن يضع الوديعة في مكان مشترك بينه وبين غيره ، كدكان أو دار مشتركة الى آخره وهو مشكل كما عرفت ، وقد تنبه لما ذكرناه من الإشكال أيضا المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) في شرح الإرشاد.

السادس ـ لو أودعه دابة ، والمراد بها مطلق الحيوان المحترم حتى العبد


فاما أن يأمره بالإنفاق عليه أو ينهاه عن الإنفاق ، أو يطلق فهيهنا صور ثلاث :

الاولى ـ أن يأمره وحينئذ فيجب عليه كما صرحوا به ، ويرجع بذلك على المالك ، ولو أخل به كان مفرطا ضامنا ، ويحصل التفريط والضمان ، ولو بمرة واحدة ، وفي كل موضع يحصل به التفريط يكون ضامنا ، ويخرج عن كونه أمينا بمقتضى القاعدة المقررة عندهم ، من أنه لو خالف وتعدى ، فإنه يخرج عن كونه ودعيا أمينا ، ولا يرجع الى ذلك إلا بإذن جديد من المالك ، ولو امتنع المستودع من الإنفاق في هذه الصورة ، فقد صرح في التذكرة بأنه متى مضت مدة تموت مثل الدابة في مثل تلك المدة نظر ، فان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، قال : وتختلف المدة باختلاف الحيوان قوة وضعفا.

الثانية ـ ان ينهاه عن الإنفاق فإن ترك الإنفاق امتثالا لأمره ، قالوا : كان عاصيا لله تعالى لما فيه من تضيع المال المنهي عنه ، لأنها من الأموال المحترمة التي لا يجوز إتلافها بغير وجه شرعي ، ومرجعه الى أن الإنفاق (حق الله تعالى) كما هو حق للمالك ، فلا يسقط حق الله تعالى بإسقاط المالك حقه ، وهل يضمن في هذه الحال استشكل ذلك في التذكرة ، ثم قرب العدم ، قال : وهو قول الشافعية كما قال : اقتل دابتي فقتلها أو أمره برمي قماشه في البحر فرماه ، أو أمره بقتل عبده فقتله ، فإنه يأثم ولا ضمان عليه ، فكذا هنا انتهى.

والواجب في هذه الصورة رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك ويجبره عليه ، لما عرفت من عدم جواز إتلاف المال بغير وجه شرعي ، وترك الإنفاق موجب لذلك ، قالوا : وللحاكم أن يستدين عليه أو يبيع بعض الوديعة للنفقة ، أو بعض أمواله لذلك ، وأن ينصب أمينا من قبله ، فان تعذر جميع ذلك أنفق المستودع وأشهد ويرجع بما أنفقه مع قصد الرجوع ، ولو تعذر الاشهاد فظاهرهم الاقتصار على نية الرجوع ، فينفق بنية الرجوع كما تقدم في أمثاله.


الثالثة : أن يطلق وقد صرح في المسالك بأنه يجب التوصل الى اذنه أو اذن وكيله ، فان تعذر رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك الى آخر ما تقدم في سابق هذه الصورة ، وقال العلامة في التذكرة : وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولم ينهه عنهما يجب على المستودع العلف والسقي ، لأنه التزم بحفظها ، ولانه ممنوع من إتلافها جوعا ، فإذا التزم حفظها تضمن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ، لأنه أستحفظه إياها ولم يأمره بعلفها ، وقد بينا الأمر الضمني ، انتهى.

وظاهر هذا الكلام أنه يجب على المستودع القيام بذلك كما في الصورة الاولى ، ولا فرق بينهما الا باعتبار كون الأمر في الأولى صريحا وفي هذه الصورة ضمنيا ، والا فهو مأمور في الصورتين ، وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن المسالك في هذه الصورة.

وأصرح منه في ذلك كلام المحقق الأردبيلي حيث قال : ثم ان الظاهر أن حكم الإطلاق هو حكم الأمر بالعلف والسقي ، لوجوبهما عليه ، فكأنه قال : وديعة عندك وأعلفها واسقها ، فالأمر الضمني فيها هنا موجود ، وحكمه حكم الصريح ، أشار إليه في التذكرة ، انتهى ، الا أنه قال في التذكرة أيضا بعد هذه المسئلة بلا فصل : مسئلة لا خلاف في أنه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابة والأدمي من ماله ، لأصالة البراءة والتضرر المنفي شرعا ، لكن ان دفع المالك إليه النفقة فذاك ، وان لم يدفع إليه فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ، لأنه أمره بالإنفاق على ماله فيما عاد نفعه عليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالا يأمره وأداه عنه ، وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولانهاه فان كان المالك حاضرا أو وكيله ، طالبه بالإنفاق عليه ، أو أذن له بالمالك في الإنفاق ، فينفق ويرجع به ان لم يتطوع بذلك ، وان لم يكن المالك حاضرا ولا وكيله رفع الأمر إلى الحاكم ، الى آخر ما قدمنا ذكره


في الصورة الثانية ، بما يرجع إليه في المعنى.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من المدافعة لما قدمنا نقله عنه أولا ، فإن مقتضى الأول هو حصول الأمر بالإنفاق ، وان كان أمرا ضمنيا ، فيجب الإنفاق حينئذ على المستودع بعد قبوله الوديعة ، وهو صريح كلام المحقق الأردبيلي كما عرفت مسندا له إلى التذكرة ، كما قدمنا نقله عنه ، فأين هذا من كلامه الثاني.

ثم انه قال في التذكرة ـ أيضا في هذه المسئلة الأخيرة : ـ ولو ترك المستودع الإنفاق مع إطلاق الاستيداع ولم يرفع الى الحاكم ولم ينفق عليها حتى تلفت ضمن ان كانت تلفت من ترك ذلك ، لانه تعدى بتركه ، وان تلفت في زمان لا يتلف في مثله لعدم العلف ، لم يضمن ، لأنها لم تتلف بذلك.

قالوا : وفي حكم النفقة ما يحتاج اليه المريض من دواء ، وفي حكم الحيوان الشجر الذي يحتاج إلى السقي ونحوه من الخدمة ، وحيث ينفق مع عدم الإشهاد اما لتعذره ، أو لعدم اشتراطه ، فلو اختلفا في قدره فالقول قول المستودع مع يمينه ، ولو اختلفا في مدة الإيداع ، فالقول قول المودع عملا بالأصل في الموضعين.

تنبيهان :

الأول ـ إطلاق كثير من عبائر الأصحاب يدل على جواز أن يتولى المستودع علف الدابة وسقيها بنفسه ، أو غلامه أمينا كان ذلك الغلام أم غير أمين غائبا كان المستودع أو حاضرا ، والوجه في ذلك الجري على ما هو مقتضى العادة من تولى الغلام والخادم لذلك ، الا أنه قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك : ـ وليس كل ذلك جائزا هنا بل انما يجوز تولى الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده ، ليطلع على قيامه بما يجب ، أو مع كونه أمينا ، والا لم يجز ، ونحو ذلك صرح في التذكرة ، والوجه في ذلك أما في جواز الاستنابة مع الحضور فظاهر.


وأما مع كونه أمينا فلقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، ولو لا ذلك لما جاز لما يتضمنه من إيداع الودعي ، وهو غير جائز عندهم مع الإمكان كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى ، وربما قيل : بأن ذلك فيمن يمكن مباشرته لهذا الأمر ونحوه ، أما من لا يكون كذلك فإنه يجوز له الاستنابة كيف كان.

ورده في المسالك بالضعف ، ولا يخلو من اشكال ، فإن الظاهر أن الودعي مع علمه بان المستودع يترفع عن هذا الأمر ، ولا يباشره بنفسه ، وانما يباشره خدمه مثلا ومع ذلك أودعه ، فإنه إنما أودعه لقبوله لذلك ، ورضاه بما هو عادة الرجل المذكور وطريقته الجارية في أمواله ودوابه.

والظاهر أن المراد بالأمين هنا هو من تسكن النفس الى فعله ، وأنه لا يخالف ما يؤمر به ، لا العدل ، والا أشكل غاية الاشكال وصار الأمر عضالا بذلك وأى عضال.

الثاني ـ قد صرح جملة منهم المحقق والعلامة : بأنه لا يجوز إخراج الدابة من المنزل الا مع الضرورة ، كعدم إمكان السقي أو العلف في المنزل ، ولا ضمان عليه ، والوجه في الأول أن النقل تصرف فيها ، وهو غير جائز مع إمكان تركه ، والثاني في أن الحفظ يتوقف على ذلك ، فإنه من ضروريات الحيوان ، ولا فرق في المنع من إخراجها لذلك بين كون الطريق أمنا أو مخوفا ، لما عرفت من أن النقل تصرف وهو غير جائز مع إمكان تركه ، ولا بين كون العادة مطردة بالإخراج وعدمه لما ذكر ، ولا بين كون المتولي لذلك المستودع بنفسه أو غلامه ، مع صحبته له وعدمها ، لاتحاد العلة في الجميع.

وقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها مع أمن الطريق ، وان أمكن سقيها في موضعها ، مستندا الى اطراد العادة بذلك ، قال في الكتاب المذكور : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابة لعلفها أو سقيها جاز له ذلك ، لان الحفظ يتوقف عليه ولا ضمان ، ولا فرق بين أن يكون الطريق أمنا أو مخوفا إذا خاف


التلف بترك السقي ، واضطر إلى إخراجها من غير ضرورة العلف والسقي ، فإن كان الطريق أمنا لا خوف فيه وامكنه سقيها في موضعها فالأقرب عدم الضمان ، لاطراد العادة بذلك وهو أظهر قولي الشافعي.

السابع ـ لا خلاف في أنه متى عين له موضعا لحفظ الوديعة ، فإنه لا يجوز له نقلها الى ما هو دونه ، أما لو نقلها الى ما هو أحرز فقد ذهب جمع من الأصحاب إلى الجواز ، محتجين بالإجماع ودلالة مفهوم الموافقة عليه ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك ، نظرا الى مقتضى التعيين ، ومنع دلالة مفهوم الموافقة هنا ، قال : فإن الأغراض تختلف في مواضع الحفظ اختلافا كثيرا من غير التفات الى كون بعضها أحفظ من بعض ، والإجماع على جوازه ممنوع ، بل ظاهر جماعة من الأصحاب منع التخطي مطلقا ، انتهى.

ونقل في المسالك عن الشهيد في حواشيه على كتاب القواعد القول بعدم الجواز هنا أيضا ، واختاره المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) أيضا في شرح الإرشاد ، ونقله عن ابن إدريس والمحقق الشيخ على.

ولو نقلها إلى المساوي فقولان : الجواز نظرا الى أن التعيين أفاد الاذن في حفظها فيما كان في تلك المرتبة ، كما في تعيين نوع الزرع والمراكب في الإجارة ، فإنهم جوزوا التخطي إلى المساوي ، لتوافق المتساويين في الضرر والنفع المأذون فيه.

وقيل : بالمنع وهو اختياره في المسالك ، قال : لعدم الدليل على جواز تخطى ما عينه ، وإلحاق مساويه به قياس.

أقول : والمسئلة لخلوها من النصوص في الموضعين محل توقف ، وان كان ما اختاره في المسالك في الموضعين المذكورين لا يخلو من قوة ، سيما مع أوفقيته بالاحتياط المطلوب ، بل الواجب في أمثال هذه الفروع الخالية من النصوص ، وعلى هذا فلو نقلها إلى الأحرز أو المساوي ضمن ، وعلى القول بالجواز


لا ضمان عليه ، الا أنه نقل عن العلامة هنا أيضا القول بالضمان ، فإنه قال : بجواز النقل إليهما والضمان مع تلفها فيهما ، وهو مشكل ، فإن قضية الجواز تنفى الضمان كما لا يخفى.

نعم لو علم الخوف عليها في المكان المعين أو ظن ظنا قويا فالظاهر أنه لا إشكال في جواز النقل ، وينبغي أن يتحرى في ذلك الأحرز ، ثم المساوي مع الإمكان ، ثم الأدون ، لسقوط حكم المعين في الحال المذكورة.

والظاهر أنه لا ضمان عليه في الصورة المذكورة ، حيث أنه مأذون فيه ، وهو محسن في ذلك ، فلا سبيل عليه ، ولو نهاه المالك عن النقل عن ذلك المكان المعين ، فقد صرحوا بأنه يضمن بالنقل كيف كان ولو الى الأحرز إجماعا ، الا أن يخاف تلفها فيه ، فإنه يجوز النقل وان نهاه المالك والحال كذلك ، وقال له : لا تنقلها وان تلفت ، وعللوا ذلك بأن الحفظ عليه واجب ، ولا يتم الا بالنقل ، وللنهى عن إضاعة المال ، فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وان صرح بقوله وان تلفت ، وعندي فيه نظر ، لان مرجع ما ذكروه الى وجوب الحفظ على الغير ، مع قصد المالك إضاعة ماله وإعراضه عنه ، ولا أعرف عليه دليلا ، والأصل براءة الذمة من هذا التكليف ، قولهم للنهى عن إضاعة المال مسلم بالنسبة إلى مالكه خاصة ، وكذا وجوب الحفظ ، فإنه بالنسبة إلى المالك ونحوه ، ووجوب الحفظ على المستودع انما يعلم مع عدم قصد المالك إضاعته وإتلافه ، وأما إذا قصد ذلك فأي دليل يدل على وجوب حفظ الغير عليه ، مع أنه ليس بطفل ولا مجنون يجب حفظ ماله على غيره.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها ، ثم انهم قالوا : لو ترك نقلها والحال كما ذكرنا أثم ولا ضمان ، لإسقاط المالك ذلك عنه ، وقد عرفت ما في الإثم من الإشكال أيضا.

ولو توقف النقل على أجرة قال في التذكرة : انه لا يرجع بها على المالك ،


فإنه متبرع ، واستحسنه في المسالك الا أنه احتمل أيضا الرجوع مع نيته ، قال : لإذن الشارع له في ذلك فيقدم على اذن المالك ، ولان فيه جمعا بين الحقين مع مراعاة حق الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذا الاحتمال ، بناء على ما قدمنا ذكره من النظر.

الثامن ـ الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في عدم صحة وديعة الطفل والمجنون ولا إيداعهما ، بمعنى أنه لا يترتب على ذلك أحكام الوديعة ، أما الحكم الأول ـ فلانه لا شبهة في عدم أهليتهما للإذن ، واللازم منه كون يد المستودع على المال يدا عارية بغير حق ، فيضمن البتة سواء كان المال لهما أو لغيرهما وان ادعيا الاذن في إيداعه.

بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر جملة من الأصحاب إطلاق الضمان هنا كما ذكرناه ، والأقرب كما قواه في المسالك أيضا أنه لو كان قبضه للوديعة بعنوان استنقاذها من يديهما ، وخوف هلاكها عندهما بنية الحسبة في الحفظ ، فإنه لا ضمان عليه ، لانه محسن ، وما على المحسنين من سبيل.

لكن يجب مراجعة الولي أو الحاكم الشرعي إن أمكن ، والا كان في يده وترتب عليه أحكام الوديعة ، الا أنه لا يبرء بالرد إليهما ، لا في هذه الصورة ولا في الصورة المتقدمة ، للحجر عليهما المانع من ذلك ، ولا يبرء الا بالرد إلى الولي أو الحاكم أو هما بعد زوال المانع.

وأما الحكم الثاني فلأنه لو استودعهما لم يضمنا بالإهمال ، فإن المودع لهما مع علمه بعدم تكليفهما قد أهمل ماله ، وأتلفه ، ولان الضمان بالإهمال انما يثبت حيث يجب الحفظ ، والوجوب غير متعلق بهما ، لانه من خطاب الشرع المختص بالمكلف ، فإذا لم يجب الحفظ عليهما لم يترتب على الإهمال ضمان ، وهو ظاهر.

نعم لو كان التلف بغير الإهمال بأن تصرفا في الامانة وتعديا فيها فتلفت


فهل يضمنان مطلقا أم لا مطلقا أم للمميز خاصة وجوه ثلاثة.

والمختار عند جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو الضمان مطلقا ، قال : لأن الإتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير اذنه ، والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير ، ومثله القول في ما يتلقانه من مال الغير ، ويأكلانه منه ، فإنهما يضمنان.

ثم نقل الوجه الثاني وهو عدم الضمان مطلقا لعدم التكليف ، وتسليط مالكها لهما عليها فكان سببا قويا ، والمباشر ضعيف ، قاله في المسالك بعد نقل ذلك ثم قال : وجوابه يظهر مما سبق ، ثم نقل الوجه الثالث وهو الفرق بين المميز وغيره ، فيضمن المميز خاصة ، لعدم قصد غيره إلى الإتلاف ، فكان كالدابة ثم تنظر فيه بأن المقتضي للضمان وهو الإتلاف موجود ، والمانع غير صالح للمانعية.

أما القصد فإنه لا مدخل له في الضمان وعدمه ، كما يعلم من نظائره ، وأما تسليط المالك فإنه انما وقع على الحفظ لا على الإتلاف ، غاية ما في الباب أنه عرض ماله له بسبب عدم صلاحيتهما للحفظ ، وهو غير كاف في سقوط الضمان عنهما لو باشراه ، بخلاف ما إذا تركا الحفظ.

أقول : والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح والركون الى هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية سيما مع تقابلها وتدافعها لا يخلو من الاشكال كما نبهت عليه في غير مقام مما تقدم ، ثم انه على تقدير وجوب الضمان عليهما فإنه صرح بأن المخاطب بالدفع هو الولي ان كان لهما مال ، والا كان دينا عليهما قضائه بعد التكليف ، ولا يسقط بعدم المال وقت الإتلاف ، لأن تعلق الحق بالذمة لا يتوقف عليه ، نعم إيجاب التخلص من الحق عليهما يتوقف على التكليف.

أقول : وفيه من الاشكال ما في سابقه وقد تقدم في كتاب الحجر في المسئلة الثالثة : من المطلب الثاني من الكتاب المذكور من التحقيق (١) ما فيه دلالة

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٢٦٩.


على عدم وجوب الضمان الذي ادعاه هنا ، وقد تقدم في الموضع المذكور أنه من باع للسفيه مالا ودفعه اليه مع علمه بذلك ، فتلف ، فان تلفه من مال صاحبه ، لانه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه ، وان فرض فك الحجر عنه بعد ذلك وتقدم أيضا النقل عن العلامة في التذكرة أن حكم المجنون والصبي حكم السفيه في ذلك ، فإنهما إذا أتلفا الوديعة والعارية فالأقرب أنه لا ضمان عليهما ، وهكذا الحكم فيما أتلفاه من مال الغير مطلقا.

وبالجملة فمن أراد تحقيق المسئلة ليظهر له صحة ما ذكرناه هنا فليرجع الى الموضع المذكور ، والله العالم.

التاسع ـ لو ظهر للمستودع أمارات الموت بأن حصل له مرض من الأمراض القاتلة أو حبس للقتل ونحو ذلك.

فأقوال ثلاثة : أحدها ـ وجوب الرد على المالك أو وكيله ، أو الحاكم عند تعذرهما أو إيداعها الثقة عند تعذره ، فان تعذر ذلك أشهد عليها اختاره العلامة في التذكرة ، الا أنه رجع عنه بعد ذلك الى الإيصاء بها.

وثانيها ـ الاشهاد على ذلك اختاره جمع منهم المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد.

وثالثها ـ الوصية بها وقد عرفت أنه مذهب العلامة في التذكرة ، والوجه في ذلك أن حفظ الوديعة لما كان واجبا على المستودع وجب كلما يتوقف عليه الحفظ من أحد هذه الأمور الثلاثة ، الا أنى لم أقف على نص في المقام يتضمن وجوب شي‌ء مما أوجبوه ، والاحتياط في المسئلة مطلوب بل واجب ، لخلوها عن النص وهو أحد مواضع وجوب الاحتياط عندنا ، حيث أن المسئلة صارت بذلك من الشبهات ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك. والاحتياط هنا في العمل بالقول الأول ، ثم انه على تقدير القول بالإشهاد ، فالظاهر أن المراد به إشهاد عدلين ، بحيث يحصل الإثبات بها لو أنكر الورثة ، أو كانوا جميعا أو بعضهم


صغارا ، وربما قيل : بالاكتفاء بواحد ، واليه يشير كلام العلامة في جملة من كتبه ، حيث جعل الواجب هو الإيصاء بها ، وهو متحقق بدون الاشهاد كذا ذكره في المسالك.

والتحقيق أن القول بالإيصاء غير القول بالإشهاد ، كما قدمنا ذكره ، وكيف كان فلو أخل بالإشهاد والوصية ضمن ، وكذا لو أخل بالرد على الوجه المتقدم ، ولكن لا يستقر الضمان الا بالموت ، ولو فرض موته فجأة فلا ضمان ، وان لزم التلف إذ لا يعد مقصرا والحال هذه ، والا لوجب الاشهاد على كل ودعي ، لإمكان ذلك في حقه ، ولا قائل به ، ولا دليل على ما قالوا.

ويعتبر في الوصي على القول بوجوب الوصية العدالة ، والظاهر أن المراد به الأمين الثقة الذي تسكن النفس إلى إيصاله لها الى المالك ، ولا فرق بين الأجنبي والوارث في التعيين للوصاية ، والمراد بالوصية إليه بذلك أن يعلمه بها ويأمره بردها بعد الموت ، لا أن يسلمها إليه ، لأنه إيداع لا يصح ابتداء كما سيأتي ذكره إنشاء الله.

قال في التذكرة : توهم بعض الناس أن المراد من الوصية بها تسليمها إلى الوصي ليدفعها الى المالك ، وهو الإيداع بعينه ، وليس كذلك ، بل المراد الأمر بالرد من غير أن يخرجها من يده ، فإنه والحال هذه مخير بين أن يودع للحاجة ، وبين أن يقتصر على الاعلام والأمر بالرد لان وقت الموت غير معلوم ، ويده مستمرة على الوديعة ما دام حيا ، انتهى.

ولو لم يوص ولم يشهد وأنكر الورثة فالقول قولهم ، كما لو أنكرها المورث ، لأن الأصل عدمها ، وكذا كل من يدعى عليه ، ولا يمين على الورثة ، الا أن يدعى عليهم العلم بالوديعة ، لأن دعوى العين انما يتعلق بالمورث ، كما لو ادعى عليه بدين ، الا أنه إذا ادعى عليهم العلم بذلك لزمهم الحلف على نفى العلم لا على البت ، لان ذلك ضابط الحلف على نفى فعل الغير.


قال في المسالك : ومثله ما لو أقر الورثة بالوديعة ، ولكن لم توجد في التركة فادعى المستودع أنه قصر في الاشهاد ، وقال الورثة : لعلها تلفت قبل أن ينسب الى التقصير فالقول قولهم ، عملا بظاهر براءة الذمة ، ولا يمين أيضا إلا مع دعواه عليهم التقصير ، انتهى.

وعندي في هذا الكلام إشكال ، لأن مرجعه ـ كما يفهم من تتمة عبارته في المقام ـ الى أن المالك يدعى بقاءها ، وتقصير الودعي في الاشهاد ، والورثة مقرون بها ، ولكن يدعون عدم وجودها في التركة ، وأنه لعلها تلفت قبل أن ينسب المالك الى التقصير ، وظاهر هذا الكلام أن كلام المالك يتضمن دعويين إحديهما ـ أنها كانت باقية في التركة ، وظاهر هذه الدعوى يرجع الى الورثة بأنها عندهم ، وأن إنكارهم لكونها في التركة بعد الإقرار بها غير مسموع ، وثانيهما تقصير المورث بعدم الاشهاد ليتحقق الضمان ، وسقوط اليمين عن الورثة إنما يتجه على الدعوى الثانية ، دون الاولى ، اللهم الا أن يحمل على أن المالك موافق على عدم وجودها في التركة ، وانما يدعى بقاءها الى وقت عروض المرض الذي هو السبب الموجب للوصية ، أو الإشهاد ، فيلزم الضمان بالتفريط في ذلك ، والورثة ينكرون الوجود الى ذلك الوقت ، وحينئذ فلا يتعلق الدعوى بالورثة على الوجه المذكور أولا ، والله العالم.

العاشر ـ لا خلاف في وجوب رد الوديعة إلى المالك متى طلبها ، وهي باقية في أول أوقات الإمكان مسلما كان أو كافرا ، للاية وهي قوله تعالى (١) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والروايات المتقدمة في صدر الكتاب (٢) فإن جملة منها قد صرحت بوجوب الرد ولو إلى غير مسلم فلو أخل والحال كذلك كان ضامنا ، ونقل عن أبى الصلاح أنه إذا كان المودع حربيا وجب على المودع أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام ، وهو ضعيف مردود بالاخبار المشار إليها

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) ص ٣٩٥.


من أن كونه حلال المال مقيد بغير الامانة ، فيجب استثناؤها للاخبار الصريحة المذكورة.

وبالجملة فالحكم مما لا يخالف فيه سواه وظاهرهم القول بالفورية كما أشرنا إليه ، لأنه حق مضيق للادمى ، قالوا : والمراد بالإمكان ما يعم الشرعي والعقلي والعادي ، فلو كان في صلاة واجبة أتمها ، أو بينه وبينه مانع من مطر ونحوه صبر حتى يزول ، أو في قضاء حاجة ضرورية فإلى أن ينقضي ، وهل يعد أكل الطعام والحمام ، وصلاة النافلة وانقطاع المطر الغير المانع عذرا؟ وجهان : واستقرب في التذكرة العدم مع حكمه في باب الوكالة بأنها أعذار في رد العين إذا طلبها الموكل ، وينبغي أن يكون هنا أولى ، وحيث كان وجوب الرد فوريا فإنه يأتي بناء على ذلك ، وعلى أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص بطلان الصلاة الواجبة مع سعة الوقت لو حصل الطلب قبل الدخول فيها ، وكذا بطلان النافلة مطلقا ، وكذا بطلان جميع العبادات المنافية لذلك ، الا أن الظاهر عندي كما تقدم تحقيقه في كتب العبادات عدم ثبوت ما ادعوه ، من أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، بل قام الدليل على خلاف ذلك ، ولما فيه من لزوم الحرج والضيق المنفي بالآية والرواية.

قالوا : والمراد بوجوب الرد لا بمعنى مباشرته للرد وتحمل مؤنته ، كما ربما يظهر من بعض العبارات ، بل بمعنى رفع اليد عنها والتخلية بين المالك وبينها ، فلو كانت في صندوق مقفل فتحه ، وان كانت في البيت المغلق فكذلك ، وهكذا.

ولو أخر الدفع لأجل الإشهاد عليه فهل يكون ذلك عذرا مرتفعا به الضمان؟ أقوال : الأول نعم ، ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر المالك.

والثاني لا ، لان قوله في الرد مقبول ، فلا حاجة الى البينة ، ولأن الوديعة مبنية على الإخفاء غالبا.

الثالث التفصيل بأنه ان كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالإيداع


فله الاشهاد ليدفع عن نفسه التهمة ، والا لم يكن له ذلك ، وهذا القول من حيث الاعتبار أقوى الثلاثة ، الا أن ما ادعوه من الفورية عندي محل توقف ، إذ لا أعرف عليه دليلا واضحا أزيد من الأمر بالرد متى طلبها المالك ، والأمر من حيث هو لا يقتضي الفورية ، فإيجابها يحتاج الى دليل واضح ، زيادة على الأمر بالرد ، كما لا يخفى ، وكونه حقا لادمى لا يقتضي تضييقه بهذا النحو الذي ذكروه.

نعم لو فهم منه التضييق فالأمر كما ذكروه ، ولو كان المودع غاصبا فإنه لا يجوز ردها عليه ، ولا على وارثه لو طلبها ، بل يجب إعادتها على مالكها ان عرف ، ولو لم يعرف فأقوال : أحدها ما ذهب اليه الشيخ في النهاية ، قال : انه يعرفها حولا كما يعرف اللقطة ، فإن جاء صاحبها ، والا تصدق بها عنه ، وتبعه ابن البراج وهو المنقول عن ابن الجنيد أيضا ، وبه صرح العلامة في التذكرة والإرشاد ، وفي المسالك : انه هو المشهور بين الأصحاب.

وثانيها ـ ما ذهب ، اليه الشيخ المفيد قال : ان لم يعرف أربابها أخرج منها الخمس الى فقراء آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأتباعهم ، وأبناء سبيلهم وصرف منها الباقي الى فقراء المؤمنين.

وقال سلار : وان لم يعرف أربابها جعل خمسها لفقراء أهل البيت (عليهم‌السلام) والباقي لفقراء المؤمنين وهو يرجع الى قول الشيخ المفيد.

ثالثها ـ ما ذهب إليه أبو الصلاح قال : إذا لم يعرف صاحبها ولا من ينوب منابه حملها الى الامام العادل ، فان تعذر ذلك في المسلمين فعلى المودع حفظ الوديعة إلى حين التمكن من إيصالها إلى مستحق ذلك ، والوصية بها الى من يقوم مقامه ، ولا يجوز ردها على المودع مع الاختيار.

وقال ابن إدريس : ان لم يتعين له حملها الى الامام العادل ، وان لم يتمكن لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك بعد وفاته الى حين التمكن من المستحق ، قال في المختلف : وهو الأقوى ، لنا أنه أحوط.


وقال في المسالك بعد نقل ذلك عن ابن إدريس وقواه في المختلف : وهو حسن.

أقول : وهو يرجع الى قول أبى الصلاح المتقدم ، والذي وقفت عليه من الاخبار هنا ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا واللص مسلم هل يرده عليه؟ قال : لا يرده ، فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، والا كان في يده بمنزلة اللقطة ، يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها عليه والا تصدق بها ، فان جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم ، فان اختار الأجر فله ، وان اختار الغرم غرم له ، وكان الأجر له». وهذه الرواية ظاهر في ما ذهب اليه الشيخ ، وليس غيرها في المسئلة ، ولم أقف على دليل يدل على شي‌ء من القولين الأخيرين.

قال في المختلف ـ بعد نقل الرواية ـ : والجواب الطعن في السند ، ولا نسلم مساواته للقطة ، ثم قال : على أن قول الشيخ لا يخلو من قوة ، وفيه أن الطعن بالسند لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، ومنع المساواة للقطة بعد تصريح الخبر بذلك ممنوع ، وهو انما تمسك في قوة ما اختاره بالاحتياط ، والاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي ، ورد الخبر بلا معارض غير معقول ولا منقول.

وقال في المسالك ـ بعد الإشارة الى الخبر المذكور ـ : والطريق ضعيف ، لكنه مجبور بالشهرة ، وبه يعلم قوة ما ذهب اليه الشيخ وأتباعه.

وفي المسالك ـ بعد أن استحسن مذهب ابن إدريس كما قدمنا نقله عنه ـ قال : وان كان القول بجواز التصرف بها بعد اليأس والتعريف متوجها أيضا كما في كل مال ييأس من معرفة صاحبه ، لان فيه جمعا بين مصلحتي الدنيا والآخرة بالنسبة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٦٨.


الى مالكها ، فإنه لو ظهر غرم له ان لم يرض بالصدقة ، فلا ضرر عليه ، ثم قال ـ بعد نقل مذهب الشيخ المفيد ـ : والأجود التخيير بين الصدقة بها وإبقائها أمانة ، وليس له التملك بعد التعريف هنا ، وان جاز في اللقطة ، وربما احتمل جوازه بناء على الرواية ، فإنه جعلها فيه كاللقطة ، وهو ضعيف ، ويمكن أن يريد بها منزلته منزلة اللقطة في وجوب التعريف مطلقا ، ولم يذكر من عمل بالرواية جواز التملك ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من المدافعة للكلام الأول لدلالته على التملك ، وجواز التصرف مع الضمان ، وبيان الوجه في قوة ذلك ، ودلالة هذا الكلام على عدم جواز التملك هنا وان جاز في اللقطة ، والمراد بجواز التملك حيث كان انما هو مع الضمان ، واحتمال العدول عما ذكر أولا ، ولا سيما مع بيان الوجه في القول الأول والتصريح بالعلة وعدم التعرض لذلك في الثاني بعيد ، ومقتضى هذا الكلام الأخير حدوث قول رابع في المسئلة كما لا يخفى ، وظاهره أن ذلك هو الحكم هنا وان لم يعرفها بالكلية.

وقال في المسالك أيضا : وانما يجب منع الغاصب منها مع إمكانه ، فلو لم يقدر على ذلك سلمها اليه ، وفي الضمان حينئذ نظر ، والذي يقتضيه قواعد الغصب أن للمالك الرجوع على أيهما شاء ، وان كان قرار الضمان على الغاصب انتهى.

ولو مزج الغاصب الامانة بماله وأودع الجميع فقد أطلق جمع منهم المحقق في الشرائع أنه إن أمكن الودعي تمييز المالين ميزهما ورد عليه ماله ، ومنعه الأخر وان لم يمكنه وجب رد الجميع على الغاصب ، وعلل الوجوب هنا بأن منعه منهما يقتضي منعه من ماله ، لان الفرض عدم إمكان التمييز ، ومنعه من ماله غير جائز.

واستشكله في المسالك بأن في الرد تسليطا للغاصب على مال غيره بغير حق ، وهو غير جائز ، ثم قوى الرد الى الحاكم ليقسمه إن أمكن إلى آخر كلامه.

أقول : وهذا الفرع أيضا كغيره من الفروع المشكلة لعدم الدليل الواضح


في صورة ما إذا أودع الجميع مع تعذر التمييز أو تعسره ، فهل يرد عليه الجميع لو طلبه أم لا ، أم يرجع فيه الى الحاكم ، ولعل الأقرب الى القواعد الشرعية رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فيلزم الغاصب بالإقرار بالقدر المغصوب ، ويلزمه المقاسمة إن أمكن ولو بالصلح نيابة عن المالك ، والله العالم.

البحث الثاني في موجبات الضمان :

وهو دائر بين أمرين التفريط والتعدي فهنا مقامان الأول : التفريط ـ ويرجع الى ترك ما يجب عليه من الحفظ ونحوه ، وهو أمر عدمي بخلاف التعدي فإنه عبارة عما لا يجوز فعله كلبس الثوب وركوب الدابة ونحو ذلك ، وهو أمر وجودي والتفريط كان يطرحها في غير حرز أو يترك نشر الثوب الذي يتوقف حفظه على النشر أو يودعها غيره من غير ضرورة ، ولا اذن ، أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق وأمنه ، وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها وترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه في العادة فتموت ونحو ذلك.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ ما ذكر من أن من جملة أسباب الضمان أن يطرحها في غير حرز.

قالوا : ويجب تقييده بما إذا طرحها وذهب عنها ، أما لو بقي مراعيا لها بنظره لم يعد تفريطا لان العين حرز ، الا أن يكون المكان غير صالح لوضعها فيه بحسب حالها ، وهو نوع آخر من التفريط.

أقول : ما ذكر من التقييد المذكور لما كان شاذا نادرا صح الإطلاق ، لأن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكررة المتعارفة الشائعة كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع ، وكذا عد من أسباب الضمان تأخير الإحراز مع المكنة ، وقيده بعض المحققين بالتأخير الزائد على المتعارف ، قال : وأما إذا كان تأخيرا قليلا وفي الجملة على الوجه المتعارف فليس بموجب للضمان وهو جيد.


الثاني ـ ما ذكر من أنه يضمن بترك نشر الثوب الذي يتوقف على النشر ، والوجه في ذلك أنه يجب عليه الحفظ ومن جملة ما يتوقف عليه نشر الثوب الذي يحتاج الى النشر وتعريضه للهواء في كل وقت يفتقر إليه عادة ، قالوا : حتى لبسه لو لم يندفع ضرره الا به.

وبالجملة فكل ما يتوقف عليه الحفظ كما يجب عند الإطلاق سقي الدابة وعلفها ، ونحو ذلك مما يتوقف عليه بقاؤها ، وحفظها ، الا أن ينهاه المالك عن ذلك فإنه لا يلزمه الضمان ، وان جاز له الحفظ كما تقدم مثل ذلك ، في نفقة الدابة ، ولم أقف في المقام على خبر ، ولكن ظاهرهم الاتفاق على ذلك ، ومقتضى قواعدهم يقتضيه ، الا أنه قد تقدم في كتاب الرهن من الاخبار ما هو ظاهر ، بل صريح في المنافاة فإن جملة منها يدل على أنه لو كان الرهن ثيابا وتركه المرتهن ولم يتعهده ولم ينشره حتى هلك وتأكل فإنه من مال الراهن ، مع أنه لا خلاف في أن الرهن في يد المرتهن أمانة ، يضمنها مع التفريط ، وبمضمون هذه الاخبار المذكورة أفتى الصدوق في المقنع أيضا ، فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ولم يخرجه ولم يتعهده وفسد فان ذلك لا ينقص من ماله شيئا ، انتهى.

وهو كما ترى صريح في أنه لا ضمان عليه حسب ما دلت عليه الاخبار المشار إليها ، ومنها صحيحة الفضل بن عبد الملك (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الأخر قال : نعم ، قلت أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت إحديهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ، أو متاعا فهلك من طول ما تركه أو طعاما ففسد ، أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا فتركها مطوية لم يتعاهدها ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا يجوز أخذه يكون حقه عليه». ونحوها غيرها وهي كما ترى صريحة في خلاف ما ذكروه من وجوب التعاهد والضمان مع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٥ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٢٨ ح ١.


عدمه ، لو تضرر بذلك ، ولا معارض لها في البين الا ما يظهر من ظاهر اتفاقهم ، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق في ذلك ، ولم أقف على من تنبه لذلك منهم ، (رحمهم‌الله) والعلامة في كتاب الرهن من المختلف نقل عبارة الصدوق المذكورة ، ثم قال : والأقرب ان على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا والمفرط ضامن ، انتهى.

وهو مؤذن بغفلته عن الاخبار المذكورة ، وعدم اطلاعه عليها ، والا كان الواجب ذكرها ، لأنها مستندة في هذه المسئلة ، والجواب عنها ، وبالجملة فالمسئلة عندي لما عرفت محل توقف واشكال ، والله العالم.

الثالث ـ ما ذكر من أنه يضمن مع إيداعها الغير من غير ضرورة ولا اذن ، وهو مما لا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : إذا أودع المستودع الوديعة غيره فان كان باذن المالك فلا ضمان عليه إجماعا ، لانتفاء العدوان ، وان لم يكن باذن المالك فلا يخلو اما أن يودع من غير ضرورة ، أو بعذر ، فان أودع بغير عذر ضمن إجماعا لأن المالك لم يرض بيد غيره وأمانته ، ولا فرق في ذلك الغير بين عبده أو زوجته أو ولده أو أجنبي عند علمائنا أجمع ، انتهى.

ومقتضى كلامهم انه يسقط الضمان بأحد شيئين : أحدهما الاذن ، فإنه يجوز الإيداع على النحو المأذون به ولا ضمان ، وثانيهما العذر كخوف سرقة أو نهب أو حرق أو أراد سفرا الا أن ظاهرهم هنا هو أن الواجب أولا ردها الى المالك أو وكيله إن أمكن ، والا فإلى الحاكم ، لأنه قائم مقام المالك شرعا مع تعذره ولا يسمى هذا ايداعا ، ومع عدم إمكان الحاكم فإنه يودعها الثقة ، وهذا هو الخارج بالقيد المذكور ، فلو دفعها الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن كما أنه لو دفعها الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن ، ولا فرق في المنع من إيداع الغير بدون أحد الوجهين المذكورين ، بين أن يكون الغير مستقلا بها ، أو شريكا في الحفظ بحيث تغيب عن نظره.


قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، ولانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، قال :

وفي حكم مشاركته في الوديعة وضعها في محل مشترك في التصرف ، بحيث لا يلاحظه في سائر الأوقات نعم لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به ويلاحظ الحرز في عوداته ، رجح في التذكرة اغتفاره لقضاء العادة به ولأنه إيداع عند الحاجة ، ثم قال : ولو فوض الحفظ الى الغير لا لضرورة أو أشركه أو لم يحرز عنه ضمن ، انتهى.

ولو أودعها من غير اذن ولا ضرورة ضمن ، وكان لصاحبها أن يرجع على من يشاء منها لو تلفت ، فان رجع على المستودع الأول فلا رجوع له على الثاني ، وان رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأول ، لأنه دخل معه على أن لا يضمن كذا ذكره في التذكرة.

والوجه فيه أن الحكم هنا كما في الغاصب ، وقد ذكروا ثمة أنه مع رجوع المالك على أيهما شاء ، فان الجاهل منهم بالغصب يرجع على من غره ، فسلطه على مال الغير ، ولم يعلمه بالحال ، وأما العالم فلا رجوع له فهيهنا أيضا كذلك فمتى رجع المالك على المستودع الأول ، فإنه لا رجوع للمستودع الأول على الثاني ، لعلمه بعدم جواز ما فعله ، فقد سلطه على إتلافه ، بخلاف رجوع المالك على المستودع الثاني لأنه مغرور ، فلا ضمان عليه ، بل يرجع على الأول.

الرابع ـ ما ذكر من أنه يضمن مع السفر بها على الوجه المذكور ، والظاهر أنه مما لا خلاف فيه ، قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر كان له ذلك ، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة ، لأنه متبرع بإمساكها ، ويلزمه ردها الى صاحبها أو وكيله ، والا فالحاكم ، ويجب عليه قبولها ، لانه موضوع للمصالح فان لم يجد دفعها الى أمين ، ولا يكلف تأخير السفر ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت عنده ودائع ، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن ، وأمر عليا (عليه‌السلام)


أن يردها ، فان ترك هذا الترتيب فدفعها الى الحاكم أو الأمين مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن ، ولا يجوز أن يسافر بها ، فان سافر بها مع القدرة على الرد على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفا أو غير مخوف ، انتهى.

قيل : والمراد بتعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو الحاكم المشقة الكثيرة الراجعة إلى التعسر ، لان ذلك معنى هذا اللفظ عرفا ولغة ، لما في التزامه بتحمل ما يزيد على ذلك من الحرج والضرر المنفيين ، وهو جيد.

بقي الكلام في ما لو اضطر الى السفر بالوديعة بأن يضطر الى السفر ، وليس في البلد حاكم ولا أمين ولم يجد المالك ولا وكيله أو اتفق في البلد ما يوجب الخروج من حريق أو غارة أو نهب ، ولم يجد أحدا من هؤلاء المذكورين. فان ظاهرهم جواز السفر بها ، ولا ضمان وادعى عليه في التذكرة الإجماع ، قال : لان حفظها حينئذ في السفر بها والحفظ واجب ، وإذ لم يتم الا بالسفر بها كان السفر بها واجبا ، ولا نعلم فيه خلافا أما لو عزم السفر من غير ضرورة في وقت السلامة وأمن البلد وعجزه عن واحد هؤلاء المذكورين وسافر بها فالأقرب الضمان لانه التزم الحفظ في الحضر ، فليؤخر السفر أو يلزم خطر الضمان ، انتهى.

وظاهر آخر كلامه جواز السفر من غير ضرورة مع العجز عن أحد هؤلاء واستصحاب الامانة مع التزام الضمان ، ومنعه في المسالك في الصورة المذكورة فقال بعد نقل ذلك عنه : والأجود المنع ، وهو الأقرب الى جادة الاحتياط المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص.

وكيف كان فالضمان مما لا اشكال فيه ، فان ظاهر إطلاق الإيداع والحفظ انما ينصرف الى الحضر ، ولان السفر لا يخلو من خطر في الجملة ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط.


تنبيهات :

أحدها ـ قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثم سافر ضمنها ان كان دفن في غير حرز ، فان دفنها في منزله في حرز ولم يعلم بها أحدا ضمنها أيضا ، لأنه غرر بها ، ولانه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها ، لأنه ربما خرب المكان أو غرق فلا يعلم أحد مكانها ، فإن أعلم بها غيره وكان غير أمين ضمن ، لانه قد زادها تضييعا ، وان كان أمينا ولم يكن ساكنا في الموضع ضمنها ، لأنها لم يودعها عنده ، وان كان ساكنا في الموضع فان كان مع عدم صاحبها والحاكم جاز ، لان الموضع وما فيه في يد الأمين ، والاعلام كالإيداع ، انتهى.

وثانيها ـ هل المراد بالسفر هنا هو السفر الشرعي أعني قصد المسافة أو ما هو أعم منه ومن العرفي كالتردد فيما دون ذلك ، قال في شرح القواعد : لم أقف على تحديد ، والمتبادر منه شرعا قصد المسافة ، فعلى هذا لا يجب الرد الا بالخروج إلى مسافة ، وهو مشكل لانه متى خرج المستودع من بلد الوديعة على وجه لا يعد في يده عرفا يجب أن يقال أنه ضامن ، لأنه أخرج الوديعة من يده ، فقصر في حفظها فيضمن ، وينبغي الجزم بأن تردده في البلد وما حوله في المواضع التي لا يعد الخروج إليها في العادة خروجا عن البلد وانقطاعا عنه كالبساتين ونحوها لا يجب معها رد الوديعة ، ومن تعذر الحاكم والثقة كذا ذكره المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهل الجميع من كلام الشرح أو ممزوجا بكلامه احتمالان ، حيث أنه لا يحضرني الان الشرح المشار اليه.

وقال في المسالك : وأما السفر فالأولى حمله على العرفي أيضا لا الشرعي ، فعلى هذا لا يجوز استصحابها في تردداته في حوائجه إلى حدود البلد ، وما قاربه من القرى التي لا يعد الانتقال إليها سفرا مع أمن الطريق ، ولا يجوز إيداعها في مثل ذلك مع إمكان استصحابها ، كما لا يجب ردها على المالك ، انتهى.


وقال المحقق الأردبيلي ـ بعد ذكر ما قدمنا ذكره نقلا عنه من كلام شرح القواعد وكلام في البين ونعم ما قال : فإنه الحق الحقيق بالامتثال ـ : واعلم أنه ليس في الآيات والاخبار ما يمنع السفر بالوديعة ، ولا عدم السفر للودعي الا بأن يسلمها الى المالك أو الى الحاكم أو يودعه عند ثقة ، حتى يجب علينا تحقيق السفر ، بل هو كلام الفقهاء ، بل فقهاء العامة.

ثم قاله الأصحاب أيضا ، والذي علم أنه يجب حفظها على ما يقتضيه العرف والعادة في ذلك الشي‌ء ومن مثل ذلك الشخص كما أشرنا إليه ، فيجوز له فعل كل شي‌ء ما لم يكن تركا للحفظ عرفا ، ولا يجب الكون عندها بعد وضعها في الحرز ، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة ـ بالنظر الى سياق البحث ـ أن المراد بالسفر الشرعي ، فإنه الذي يدور عليه كلامه وتمثيلاته ، وان لم يصرح بشي‌ء من الفردين المذكورين.

وثالثها ـ ما تقدم في عبارة التذكرة من وجوب القبول على الحاكم لو عزم على السفر ، ولم يتمكن من الدفع الى المالك أو وكيله ، قد صرح به في القواعد أيضا ، فقال : والأقرب وجوب القبض على الحاكم ، وكذا المدين والغاصب إذا حملا الدين والغصب اليه ، وعلل الشارح وجه القرب قال : لانه منصوب للمصالح ولو لم يجب القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، وهو الأصح ، ويحتمل ضعيفا العدم ، تمسكا بأصالة البراءة ، وهو يرجع الى ما ذكره في التذكرة.

وفيه أنه لا دليل على ما ذكروه ، من أن الغرض من نصبه هو ذلك ، بل غاية ما يفهم من الاخبار أنه منصوب للحكم والقضاء والفتوى خاصة ، وهي الأخبار الدالة على نيابته عن الامام (عليه‌السلام) وكما لم يقم دليل على وجوب ذلك على الامام (عليه‌السلام) الذي هو المنوب عنه في الأحكام ، كذلك لم يقم بالنسبة إليه ، بل غاية أخبار النيابة انما هو ما ذكرناه ، على أنه إذا كان الغرض من


الدفع اليه انما هو الحفظ للمالك ، فهو غير منحصر فيه ، بل يحصل ذلك بالثقة.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه من الوجوب هنا دليلا واضحا.

ورابعها ـ أنه ينبغي أن يعلم أن جواز السفر لضرورته أو ضرورتها مشروط بأمن الطريق ، فلو كان مخوفا علما أو ظنا بظهور بعض الأمارات فظاهرهم أنه لا يجوز السفر بها والحال كذلك ، فلو سافر ضمن ، لانه تعزير بها ، قالوا : حتى لو فرض الخوف أيضا في الحضر ، وتعارض الخطران رجح الإقامة ، لأن السفر في حد ذاته خطر ، فإذا انضم إليه أمارة الخوف زاد خطره على الخطر ، والله العالم.

الخامس ـ ما ذكر من أنه يضمن بطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها والمراد طرحها كذلك مدة يمكن حصول التعفن فيها ، فلو لم يكن كذلك بأن طرحها مدة لا يحصل ذلك بل يقطع بعدم التضرر فلا ضمان ، فإنه لا يعد تفريطا يوجبه ، ومثله وضع الكتب التي يخاف عليها من النداوة المفسدة بها ، ونحو ذلك والمرجع في الجميع في ذلك الى اشتراط كون الموضع صالحا للوديعة بحسب حالها وما يناسبها مكانا وزمانا ، إلا أنك قد عرفت في الموضع الثاني ما ينجر به المناقشة الى هذا الحكم في هذا الموضع أيضا ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكر من الضمان مع ترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه فتموت ، فإنه لا خلاف فيه الا أن تخصيص الضمان بذلك محل اشكال كما سيظهر لك ان شاء الله.

وكيف كان فإنها لو ماتت بغيره ، فإنه لا يضمن ، وكذا لو ماتت في زمان لا تتلف في مثله لم يضمن أيضا ، لأنها لم تتلف بذلك ، صرح به في التذكرة ، وقد تقدم نقله عنه آنفا ، وكذا لا يضمن لو كان بها جوع وعطش سابق لا يعلم بهما فماتت بهما ، بحيث لو لا التقصير لما ماتت ، أما لو كان عالما بهما فإنه يضمن ، ولو لم تمت بذلك بل نقصت ضمن النقصان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عبارات الأصحاب في هذا المقام لا يخلو من اختلاف


واضطراب ، فان المفهوم من بعضها أن مجرد الترك ولو مرة واحدة تفريط موجب للضمان ، وكذا مجرد المخالفة لما أمر به المالك وان لم يترتب عليه الفوات ، ومتى تحقق الضمان زال حكم الوديعة كما تقدم ذكره ما لم يحصل إيداع جديد ، والمفهوم من بعضها تخصيص الضمان بترك العلف والسقي مدة لا تصبر عليه فماتت ، كما عرفت من العبارة المتقدمة ، وهو مؤذن بتخصيص الضمان بصورة الموت ، ونحوها الصور الملحقة بها ، وكذا مجرد التقصير في الحفظ لا يوجب ضمانا الا مع التلف ، ولهذا قال في المسالك ـ ونعم ما قال بعد ذكر عبارة المصنف بنحو ما قدمنا ذكره ما صورته ـ : واعلم أن الواجب علفها وسقيها بحسب المعتاد لأمثالها ، فالنقصان عنه يعد تفريطا سواء صبرت عليه أم لا ، ومتى عد تفريطا صار ضامنا لها ، وان ماتت بغيره ، هذا الذي يقتضيه قواعد الوديعة.

وحينئذ فتعليق المصنف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدة لا تصبر عليه عادة ان أريد به هذا المعنى ، فلا اشكال من هذه الحيثية ، لكن يشكل اختصاص حكم الضمان بموتها به ، مع كونها قد صارت مضمونة بالتفريط ، ومن شأن المضمون به أن لا تفترق الحال بين تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره ، وسيأتي له نظائر كثيرة في كلام المصنف وغيره.

وان أراد به معنى آخر أخص مما ذكرناه كما هو الظاهر أشكل الحكم بما سبق ، ومن توقف الضمان على ترك هذه المدة مع أن الواجب القيام بالمعتاد منه ، وبتركه يتحقق التفريط ، وفي عبارة العلامة ما هو أبلغ مما هنا ، قال في التذكرة : لو امتنع المستودع من ذلك ، وعنى به العلف والسقي حتى مضت مدة يموت مثل الدابة في مثل تلك المدة ، نظر ان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، وان ماتت قبل مضى تلك المدة لم يضمنها ، هذه عبارته ، وقد علق الضمان فيها كما ترى على ترك ذلك مدة تموت فيها عادة ، لا تأخيره زيادة عن العادة ، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادة ، انتهى.


وبالجملة فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، لعدم الدليل الواضح في هذا المجال ولم أقف في المقام الا على ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن محمد بن الحسن (١) في الصحيح قال : «كتبت الى أبى محمد (عليه‌السلام) رجل دفع الى رجل وديعة فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه ، فوقع (عليه‌السلام) هو ضامن لها ان شاء الله».

ورواه في الفقيه (٢) هكذا «رجل دفع الى رجل وديعة وأمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره فوضعها في منزل جاره». الى آخر ما تقدم ومورد الخبر وقوع التلف بالمخالفة ، وهو مما لا اشكال فيه ، انما الإشكال في الضمان بمجرد المخالفة وان لم يترتب عليه التلف ، كما هو ظاهر شيخنا المتقدم ذكره وغيره.

المقام الثاني في التعدي : وقد عرفت أنه عبارة عن فعل ما لا يجوز فعله ، قالوا : مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها ، وكذا لو طلبت منه فامتنع من ردها مع الإمكان ، فإنه يضمن أيضا ، ونحوه لو جهدها ثم قامت عليه البينة ، أو اعترف بها ويضمن بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، ويضمن أيضا بفتح الكيس المختوم ، وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما ويضمن لو حمل الدابة أثقل مما أذن له فيه ، أو أشق ولو أودعه المالك في حرز مقفل ففتح القفل وأخذ بعضها ضمن الجميع ، ولو لم يكن في حرز أو كان الحرز من الودعي وأخذ بعضها ضمن ما أخذ خاصة.

والكلام في تحقيق هذه المواضع يقتضي بسطه في موارد الأول ـ ما ذكر من الضمان بلبس الثوب وركوب الدابة ويجب تقييده بما إذا لم يتوقف الحفظ عليهما ، والا كان واجبا فضلا عن أن يكون جائزا كما لو كان الثوب من الصوف يتوقف حفظه من الدود على لبسه ، بحيث أنه لا يندفع ذلك بمجرد النشر في

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٩.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٨٨٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ١.


الهواء وكذا الدابة لو توقف نقلها الى الحرز أو سقيها على ركوبها ، وفي حكم الثوب الكتب المودعة ، فلو توقف حفظها على المطالعة فيها ، أو النسخ منها لم يكن ذلك تعديا.

قال في التذكرة : ولو استودع ثياب صوف وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، لئلا يفسدها الدود ، ولو لم يندفع الفساد الا بأن يلبس ويفتق به رائحة الأدمي وجب على المستودع لبسها ، وان لم يفعل ففسدت بترك اللبس أو تعريض الثوب للريح كان ضامنا ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أقول قد عرفت في الموضع الثاني من المقام الأول (١) ما في هذا الكلام من الاشكال والداء العضال لدلالة الاخبار على عدم الضمان في صورة عدم التعريض للهواء ، وعدم وجوب ذلك وان هلك بطول المكث ، كما هو ظاهر الصحيحة المتقدمة ، ونحوها غيرها مما تقدم في كتاب الرهن (٢) وكما يضمن في الصورة المذكورة ، كذا يضمن عندهم لو أخرج الثوب من محله ليلبسه والدابة ليركبها ، فإنه يضمن أيضا ، وان لم يلبس ولم يركب كذا ذكره في التذكرة ، قال : لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، فوضع يده على مال الغير خيانة وعدوانا من غير أمانة فيكون ضامنا انتهى.

ولو نوى ذلك ولم يخرج شيئا منهما عن محله ولم يستعمله ، وكذا لو نوى أخذ الدراهم من الكيس ولم يأخذ ، قال في التذكرة في الضمان إشكال ، ينشأ من أنه لم يحدث في الوديعة فعلا ولا قولا ، فلا يضمن ، ومن أنه قصد الخيانة فصار خائنا ولا أمانة للخائن فيكون خائنا ضامنا ، ثم انه صرح أيضا بأنه لو أخذ الوديعة من المالك بقصد الخيانة ، فالأقوى الضمان ، لانه لم يقبضها على سبيل الامانة ، فيده يد خيانة لا يد أمانة ، فلا يكون أمينا بل خائنا ضامنا.

__________________

(١) ص ٤٣٠.

(٢) ج ٢٠ ص ٢٣٤.


وفيه أن الظاهر أن صدق الخائن عليه شرعا وعرفا لا يحصل الا بفعل ما يوجب الخيانة ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على من نوى الزنا ولم يزن أنه زان ، ونحو ذلك ، ولا ريب في بطلانه.

الثاني ـ ما ذكر من الضمان لو طلبها المالك أو من يقوم مقامه فامتنع من ردها مع الإمكان.

أقول : أما وجوب الرد مع الطلب فلا ريب فيه للاية والرواية قال الله تعالى (١) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والاخبار بذلك قد تقدمت في صدر الكتاب (٢) والأمر بالرد فوري عندهم ، وأما وجوب الضمان في الصورة المذكورة فالظاهر أن دليله الإجماع على أن التقصير موجب للضمان ، ولم أقف على نص في ذلك ، وقد تقدم في الموضع العاشر من البحث الأول (٣) تحقيق معنى الرد وتفصيل الكلام في هذا المقام.

فروع :

الأول ـ قال في التذكرة : لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى الوكيل فطلبها الوكيل لم يكن له الامتناع ، ولا التأخير مع المكنة ، فإن فعل أحدهما كان ضامنا ، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يرد عليه ، الا أنهما يفترقان في أن المستودع له التأخير الى أن يشهد المدفوع اليه على القبض لان المدفوع اليه وهو الوكيل لو أنكر الدفع صدق بيمينه ، وذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم انتهى.

أقول : مرجع الفرق بينهما إلى أنه في صورة إنكار الوكيل الدفع يحتاج المستودع إلى البينة ، ومع عدمها يمين المنكر ، لان هذا الفرد أحد أفراد الكلية

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٥٨.

(٢) ص ٣٩٥.

(٣) ص ٤٢٦.


القائلة «١» «بأن البينة على المدعى ، واليمين على المنكر». وأما في صورة إنكار المالك لو ادعى الودعي الدفع إليه فإنه وان كان أيضا أحدهما مدعيا والأخر منكرا الا أنه من حيث كونه أمينا ومحسنا وقابضا لمصلحة المالك فالقول قوله بيمينه ، ولا يكلف البينة كما هي قاعدة الأمين في أي موضع كان ، فهي مستثناة من القاعدة المذكورة بالنصوص الكثيرة هذا هو المشهور.

وقيل : ان عليه البينة في دعوى الرد على المالك أيضا ، عملا بالقاعدة المذكورة ، والأظهر ضعفه عملا بالأخبار الدالة على حكم الامانة ، وأنه يقبل قول الأمين بيمينه ، والوديعة من جملتها كما تقدم ذكره.

الثاني : لو قال المالك له : رد الوديعة على فلان وكيلي ، فلم يطلب الوكيل الرد ، قال في التذكرة : ان لم يتمكن المستودع من الرد فلا ضمان عليه قطعا ، لعدم تقصيره ، وان تمكن من الرد احتمل الضمان ، لانه لما أمره بالدفع الى وكيله فكأنه عزله ، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعية.

الثالث ـ قال في التذكرة أيضا : لو أمره المالك بالدفع الى وكيله أو أمره بالإيداع لما دفع اليه ابتداء ، فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة.

وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الودائع حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين ، وهو أظهر وجهي الشافعية.

أقول : فيه أنه قد صرح في الفرع الأول بأن للودعي التأخير عن الدفع الى الوكيل الى أن يشهد له على القبض ، لما يلزم بعدم الاشهاد من الضرر عليه لو أنكر الوكيل القبض ، وقد بينا الوجه فيه ، وهنا نفى الوجوب عنه ، وهذا لا يجامع الحكم الأول ، لان مقتضى ما ذكره أولا أنه لا يجب على الودعي الدفع الا مع الاشهاد له بالقبض ، ومقتضى هذا الكلام أنه لا يجب على الوكيل الاشهاد ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٧١ ح ٥.


واللازم من ذلك أنه لا يجب على الودعي الدفع في صورة أمر المالك بالدفع ، كما هو المفروض في كل من الموضعين ، ولا ريب في بطلانه ، وقوله في الكلام الأخير لأن قول المستودع مقبول في الرد انما هو مسلم بالنسبة إلى دعواه الرد على المالك لما عرفت ، بناء على القول المشهور.

وبالجملة فإن الظاهر عندي هو التدافع فيما ذكره في هذين الكلامين

الثالث ـ ما ذكر من الضمان لو جحدها ثم قامت عليه البينة أو اعترف بها وعلل بأنه انما كان الجحود موجبا للضمان ، لأنه خيانة ، حيث انه بإنكاره يزعم أن يده عليها ليست نيابة عن المالك ، فلا يكون أمينه ، فيصير يده عليها يد ضمان لا يد وديعة وأمانة.

قالوا : ويعتبر في تحقيق الضمان بالجحود أمور الأول ـ أن يكون بعد طلب المالك لها ، فلو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره لم يضمن ، لأن الوديعة مبنية على الإخفاء فإنكاره بغير طلب يوجب الرد أقرب الى الحفظ ، ولو لم يطلبها المالك لكن سأله عنها فقال : لي عندك وديعة فجحد فلهم في الضمان قولان : أحدهما ما اختاره في التذكرة ، وهو العدم ، لانه لم يمسكها لنفسه ولم يقر يده عليها بغير رضى المالك ، حيث لم يطلبها ، ومجرد السؤال لا يبطل الوديعة ، ولا يرفع الامانة.

وثانيها ـ ما اختاره الشيخ على (رحمه‌الله) واستوجهه في المسالك من ثبوت الضمان ، قال المحقق المذكور : لان جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك لان نفى الملزوم يقتضي نفى لازمه من حيث هو لازمه ، فلا يكون أمينا عنه فيضمن.

الثاني ـ أن لا يظهر بجحوده عذرا بنسيان أو غلط أو نحوهما فإنه لا يضمن ان صدقه المالك على العذر والا ففي الضمان وجهان : واستقرب في التذكرة الضمان ، ووجهه يعلم مما سبق.

وفي المسالك أن عدم الضمان لا يخلو من وجه.

الثالث ـ أن لا يكون الجحود لمصلحة الوديعة بأن يقصد به دفع ظالم أو


متغلب على المالك أو نحو ذلك ، لانه محسن في ذلك ، وما على المحسنين من سبيل.

الرابع ـ ما ذكر من الضمان بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، قال في التذكرة : إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجا لا يتميز أحدهما عن صاحبه كدراهم مزجها بمثلها أو دنانير بمثلها ، بحيث لا يتميز بين الوديعة وبين مال المستودع أو مزج الحنطة بمثلها ، صار ضامنا ، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها ، أو أزيد منها ، انتهى.

ومرجع ذلك الى اشتراك الجميع في التعدي الناشي عن التصرف في الوديعة تصرفا غير مشروع ، وتعيبها بالمزج المفضي إلى الشركة الموجب إلى المعاوضة على بعض ماله بغير رضاه عند القسمة ، ولا ريب أن الشركة عيب ، وربما يفهم من قوله بماله أنه لو كان الخلط بمال المالك لم يضمن ، وليس كذلك بل يضمن أيضا كما صرح به في التذكرة في تتمة كلامه ، حيث قال : ولو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعة ، يمزج أحدها بالاخر بحيث لا يتميز ضمن أيضا ، لأنه تصرف غير مشروع في الوديعة ، وربما ميز بينهما لغرض دعى اليه والخلط خيانة ، انتهى.

وسيأتي الكلام في ذلك أيضا ان شاء الله تعالى ، وكما يضمن في الصورتين المذكورتين ، فكذا فيما لو خلطه بمال مغصوب ، بل هو أشد الجميع أو بمال يكون عنده أمانة بغير الوديعة ، لصدق التصرف المنهي عنه في الجميع.

وفي التقييد بعدم التمييز بين المالين إشارة إلى أنه لو تميز المالان فلا ضمان وهو كذلك عندهم ان لم يستلزم المزج أمرا آخر موجبا للضمان ، كما لو كان المال في كيس مختوم ، فإنه وان لم يضمن بالمزج من حيث التميز الا أنه يضمن من حيث فكه الختم الذي على الكيس كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى.

الخامس ـ ما ذكر من الضمان بفتح الكيس المختوم ، قال في التذكرة : لو أودعه عشر دراهم مثلا في كيس ، فان كان مشدودا أو مختوما فكسر الختم وحل


الشداد أو فعل واحدا منهما ضمن ، لانه هتك الحرز على ما تقدم ، وظاهرهم أنه لا فرق في الضمان بكسر الختم وحل الشداد وبين أن يأخذ من الكيس شيئا وعدمه ولا في الختم بين أن يكون مشتملا على علامة للمالك وعدمه ، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للضمان ، وهي هتك الحرز والتصرف المنهي عنه ، ومثله الصندوق المقفل لو فتح قفله ، هذا كله إذا كان الختم والشد من المالك ، فلو كان ذلك من الودعي فلا ضمان ، إذ لا هتك ولا تصرف فيما فعله المالك ، الا أن يكون ذلك بأمر المالك ، فإنه عندهم في حكم فعل المالك ذلك.

بقي الكلام في أنه ربما كان القصد من الختم أو الشد انما هو الحفظ والمنع من الانتشار دون الإخفاء ، وعدم الاطلاع على ذلك ، والفارق بين الأمرين القرائن فإنه لا يبعد عدم الضمان في الصورة الاولى ، وبه جزم في المسالك وحيث يضمن للمظروف بفتح الظرف على الوجه المتقدم ، فهل يضمن الظرف أيضا أم لا؟ وجهان بل قولان : أولهما ـ اختاره في المسالك قال : للتصرف فيه المنهي عنه ، وثانيهما ـ استقر به في التذكرة ، لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف وضعفه في المسالك بأن قصد الخيانة لا دخل له في الضمان ، بل التصرف ، قال : وقد استشكل في حكم ما لو عد الدراهم غير المختوم أو وزنها أو ذرع الثوب ، مع أن مقتضى تعليله عدم الضمان ، ولو خرق الكيس المختوم فان كان الخرق تحت الختم ، فهو كفض (١) الختم ويزيد ضمان الظرف أيضا وان كان فوق الختم فليس الا ضمان الظرف.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) المناقشة في هذا الحكم ، فإنه قال : بعد أن نقل عن التذكرة الضمان بمجرد فض الختم ، وخرق الكيس على الوجه المذكور.

والظاهر عدم الضمان في الموضعين لما فيه من عدم التصرف بخيانة ، وكأنه يخص التصرف هنا بغير الدراهم التي في الكيس ، حيث أنه لم يدخل يده فيها ،

__________________

(١) الفض بمعنى الكسر ـ فضه اى كسره.


وأن التصرف الموجب لضمانها انما هو وضع اليد فيها والأخذ منها ، والا فإنما ذلك تصرف في الكيس خاصا ، والمسئلة كغيرها بمحل من الإشكال ، فإن كلامه لا يخلو من قرب ، وان كان ظاهرهم الاتفاق على أنه يضمن بمجرد فض الختم ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكره من الضمان لو أودعه كيسين فمزجها ، ظاهر هذا الكلام يعطى وجوب الضمان بمجرد المزج ولو أمكن التميز بينهما ، ولعله مبنى على استلزامه ذلك التصرف في المالين بغير اذن المالك ، الا أنه قد تقدم في المورد الرابع عدم الضمان مع إمكان التمييز ، ويمكن أن يكون المراد بالمزج هنا هو ما كان على وجه لا يتميز أحدهما من الأخر ولعل هو الظاهر من لفظ المزج ، وحينئذ فباخراجه ما في أحد الكيسين وصبه على الأخر يضمن ذلك المخرج خاصة ، لتصرفه فيه ، ولا يضمن ما في الكيس المصبوب عليه مع تميزه ، لانه لم يتصرف فيه ان لم يكن مختوما ، وفك ختمه ، فإنه يضمن من حيث فك الختم ، وربما نقل عن بعض الأصحاب الضمان مطلقا ، وان لم يكن مختوما هذا كله إذا كان الكيسان للمودع ، كما هو المفروض أولا ، أما لو كان أحدهما للمستودع فإنه لا ضمان مع بقاء التمييز كما تقدم ، لان له نقل الوديعة من محل الى آخر ، وله تفريغ ملكه ، ولا يتعين عليه الحفظ فيما وضع فيه.

السابع ـ ما ذكر من الضمان لو حمل الدابة أثقل أو أشق مما أذن له فيه ، ولا ريب في الضمان مع المخالفة واستعمالها في الأشق والأثقل ، لانه تعد محض وتفريط موجب لذلك.

قال في المسالك : بعد قول المصنف وكذا لو أمره بإجارتها لحمل أخف فآجرها لا ثقل ، ولا سهل فآجرها لا شق كالقطن والحديد ـ ما لفظه : لا اشكال هنا في الضمان مع استعمال المستأجر لها في الأثقل ، وهل يتحقق بمجرد العقد؟ يحتمل ذلك ، لتسليطه على الانتفاع والعدوان ، فيخرج عن كونه أمينا ، كما


يضمن بجحوده ، بل مجرد نيته على قول مع عدم فعل ما يوجب الضمان وعدمه كما لو نوى الخيانة أو التفريط ، أو قال : أنه يفعل ذلك ولم يفعل ، ولم أقف في ذلك على شي‌ء يعتد به ، انتهى.

أقول لا ريب أن عقد الإجارة على هذا الوجه باطل ، لان المالك انما أذن له في الإجارة بحمل الأخف وهو قد آجرها لحمل الأثقل والأشق وهو خلاف ما أذن له فيه ، فيكون باطلا ، ولا يبعد تحقق الضمان بذلك من حيث التصرف بهذا العقد الموجب لتسليط المستأجر على خلاف ما أمر به المالك.

على أن التمثيل لعدم الضمان بما لو نوى الخيانة أو التفريط مع عدم الفعل محل إشكال أيضا ، فإن العلامة في التذكرة قد صرح هنا بالضمان كما تقدم نقله عنه في المورد الأول ، وان كان فيه ما فيه كما أشرنا إليه ثمة.

وبالجملة فالظاهر أن الأقرب بمقتضى قواعدهم هو القول بالضمان في الصورة المذكورة ، ثم انه على تقدير المخالفة ووجوب الضمان فهل يضمن الجميع أو بالنسبة؟ ظاهره في المسالك الأول ، مع احتمال الثاني.

وجزم المحقق الأردبيلي بالأول من غير احتمال ، قال : لانه تعد ، فلو تلف يأخذ منه تمام القيمة ، لا أن يقسط على المأذون وغيره ، ووجه الاحتمال الذي ذكره في المسالك هو في صورة حمل الأثقل ، أن القدر المأذون فيه غير مضمون ، وانما تعدى بالزائد فيقسط التالف عليهما.

أقول : ما ذكره جيد بالنسبة إلى الأثقل ، كما لو أذن له في حمل وزن مخصوص أو كيل مخصوص لا ثقل فيه ، فزاد على ذلك الوزن أو الكيل ما حصل به الثقل ، فإنه لا يبعد ما ذكره من التقسيط ، أما لو كان ما استأجر عليه أضر وأشق على الدابة فمجموع الحمل مغاير لما أذن به المالك ، فيتوجه النهي إلى المجموع ، بخلاف الأول ، فإنه انما يتوجه الى ما حصل به الثقل من الزيادة ، وهذا التفصيل بحسب الظاهر لا بأس به على مقتضى قواعدهم.

وقال في المسالك ـ بالنسبة إلى تمثيل المصنف بالقطن والحديد ـ والمراد


من الأشق في المثالين : أن الحديد أشق عند سكون الهوى ، والقطن أشق عند الهواء ، ومن ثم جمع بين المثالين.

الثامن ـ ما ذكر من الضمان لو جعلها المالك في حرز مقفل ، ففتح القفل وأخذ بعضها ، الى آخر ما تقدم.

أقول قد تقدم أنه إذا دفع اليه كيسا مختوما ففضه فإنه يضمن الجميع بفض الختم ، وان لم يأخذ منه شيئا ، فكذا هنا يضمن هنا بفك القفل. وان لم يأخذ شيئا ، ففيما إذا أخذ بعضها بطريق أولى.

أما لو لم يكن في حرز أو كانت ولكن الحرز للودعي ، فإنه يضمن ما أخذه خاصة ، لأنه لم يحصل منه تعد الا فيما أخذه.

وأما لو كان الكيس للودعي وشده بأمر المالك فهو بمنزلة شد المالك فيضمن بفتحه كما ذكروه.

قال في المسالك : ولا فرق في ضمان المأخوذ بين أن يصرفه في حاجته وعدمه عندنا ، لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، وعلى هذا فلو نوى التصرف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقا ، لانه لم يقبضها على وجه الامانة ، بل على سبيل الخيانة.

وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما تؤثر ابتداء وجهان : من ثبوت اليد في الموضعين ـ مقترنا بالنية الموجبة للضمان ـ ومن أنه لم يحدث فعلا مع قصد الخيانة ، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان ، وتردد في التذكرة.

ويتحقق ذلك في صور : منها ـ أن ينوي الأخذ ولم يأخذ : والاستعمال ولم يستعمل ، وأن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك ، ولم يتلفظ بالجحود وغير ذلك ، وقد جزم المصنف (رحمه‌الله) في ما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لا يضمن بمجرد النية ، انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكروه من الضمان بمجرد النية في المواضع المذكورة


مبنى على وجوب نية قصد الايتمان في قبض الوديعة ، والا كان خائنا يترتب على قبضه الضمان ، وهو مشكل لعدم الدليل عليه ، وصدق الخائن عليه بمجرد هذه النية ممنوع ، إذ الظاهر أن الاتصاف بالخيانة لغة وشرعا وعرفا انما يتحقق بالتعدي والتصرف ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على الإنسان كونه زانيا بمجرد نية الزنا ، وسارقا بمجرد نية السرقة ، وهكذا ولا يقوله أحد ، ولهذا ان الله تعالى لا يأخذ بمجرد النية والقصد ، وانما يؤاخذ بالفعل والتصرف في جميع أفراد المعاصي من خيانة وغيرها.

وبالجملة فإني لا أعرف لكلامهم هنا وجها وجيها ، بل الظاهر خلافه كما عرفت وما نقله عن التذكرة من التردد قد تقدم ذكره في المورد الأول ، وقد أشرنا في رده الى ما ذكرناه هنا على أن ما ذكروه أيضا من الضمان للجميع بمجرد فتح القفل وفض الختم لا يخلو من المناقشة ، لعدم الدليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، والتصرف هنا حقيقة أنما وقع في القفل والختم ، والى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضا.

قال في التذكرة : وان كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما ، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه فالأقوى الضمان لما فيه من الثياب والدراهم ، وهو أصح وجهي الشافعية ، لأنه هتك الحرز ، والثاني للشافعية أنه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرف فيه ، وبه قال أبو حنيفة ، انتهى.

قال المحقق الأردبيلي ـ بعد نقل هذا الكلام بحذافيره ـ : هذا أولى لما مر غير مرة من الأصل وعدم تصرف وتقصير في الحفظ وغير ثابت كون هتك الحرز موجبا للضمان ، ولا بد له من دليل فتأمل ، انتهى وهو جيد.

تذنيب :

قد تقدم في صدر هذا الكلام أنه لو أخذ البعض ضمن ما أخذ خاصة في صورة ما إذا كان الحرز من المستودع أو لم يكن في حرز ، بقي الكلام في أنه


لو أعاد ما أخذه إلى موضعه أو أعاد بدله ، فأما على الأول فإن ظاهرهم بقاء الضمان ، وأنه لا يزول بإعادته لأن يده عليه صارت يد خيانة ، لا يخرج عنها الا بما تقدم من إيداع المالك له مرة ثانية ، كما في كل تفريط وتعد ، وسيأتي تحقيقه ان شاء الله.

ولا فرق في ذلك بين أن يمزجه بغير المضمون مزجا لا يتميز عنه ، أم لا ، لان الجميع مال المالك ، غايته أنه قد صار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون ، وأن هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ.

قال في التذكرة ـ بعد فرض المسئلة في إيداع كيس فيه عشرة دراهم ـ وان لم يكن الكيس مشدودا ولا مختوما فأخرج منه درهما لنفسه ضمنه خاصة ، لأنه لم يتعد في غيره ، فان رده لم يزل عنه الضمان ، فان لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي ، لأنه لم يتصرف فيه ، وكذا ان اختلط وكان متميزا لم يلتبس بغيره وان امتزج بالباقي مزجا يرتفع معه الامتياز فالوجه أنه كذلك لا يضمن الباقي ، بل الدرهم خاصة ، لأن هذا المزج كان حاصلا قبل الأخذ وهو أصح قولي الشافعية والثاني عليه ضمان الباقي لخلطه المضمون بغير المضمون ، فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه الا درهم واحد ولو تلف منها خمسة لم يلزمه الا نصف درهم ، انتهى.

وأما على الثاني فإنه لا يبرئ أيضا بإعادة البدل ، فإنه إذا كان الضمان باقيا بإعادة ما أخذه ففي بدله بطريق أولى ، لأنه لم يتعين ملكا للمالك ، إذ لا يحصل الملك الا بقبضه أو قبض وكيله والمستودع ليس وكيلا في تعيين العوض ، وانما هو وكيل في الحفظ ، وحينئذ فلا يخلو اما أن يكون المردود متميزا عن الباقي بحيث لم يخلط به ، أو كان فيه علامة من سكة أو غيرها توجب الامتياز ، فإنه لا يضمن سواء ذلك ، ولا يضمن الباقي ، أو لا يكون متميزا بل مزجه بتلك الدراهم مزجا لا يتميز منها ، فان ظاهرهم وجوب ضمان الجميع ، لما تقدم من أن مزج الوديعة بماله من موجبات الضمان للجميع والله العالم.


البحث الثالث في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى ـ حيث أن الوديعة من العقود الجائزة بناء على أنه عقد ، فإنه يجوز فسخها أى وقت شاء المستودع ، وبطريق الاولى لو كانت إذنا خاصة ، الا أنه لا يجوز تسليمها الا الى المالك أو وكيله ، ومع تعذرهما فالى الحاكم الشرعي ، ومع تعذره فيدفعها إلى ثقة ، ولا ضمان مع عمله بهذا الترتيب فلو خالف ودفع الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله أو دفع الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن عند الأصحاب من غير خلاف يعرف.

بقي الكلام في أن الظاهر أن جواز الرد في أي وقت شاء انما يتم بالنسبة إلى الرد على المالك أو وكيله ، أما الرد على الحاكم أو الثقة فإنما يجوز مع العذر المانع من الايتمان ، كخوف تلف الأمانة في يده بحرق أو سرق أو اضطراره الى السفر ونحو ذلك من الأسباب المانعة من بقاءها أمانة في يده ، وان لم يكن له عذر لم يجز الدفع الى الحاكم ولا الثقة ، مع عدمه لانه وان جاز له فسخ عقد الوديعة متى شاء ، لانه عقد جائز الا أنه بقبول الوديعة قد التزم حفظها الى أن يردها على مالكها ، فلا يبرئ الا بالدفع الى المالك ، ولا عذر هنا يجوز له الخروج به عن ذلك من ضرورة تعرض له أو للوديعة كما تقدم.

وربما نقل عن بعضهم أنه أجاز دفعها الى الحاكم عند تعذر المالك مطلقا ، لأنه بمنزلة وكيله ، قال في المسالك : وليس بذلك البعيد.

وقال في المسالك أيضا : ثم انه على تقدير جواز دفعها الى الحاكم هل يجب عليه القبول؟ كما إذا كان له عذر ولم يجد المالك ولا وكيله وجهان : من أنه نائب عن الغائب حينئذ ، وأنه منصوب للمصالح ولو لم يجب عليه القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، ومن أصالة البراءة ، والأقوى الأول ، والوجهان آتيان في ما لو حمل اليه المديون الدين مع غيبة المدين ، والغاصب المغصوب أو بدله مع تلفه ، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم ، انتهى.


أقول : وقد تقدمه العلامة في ذلك ، والمحقق الشيخ على كما تقدم ذكره ، وقد بينا ما فيه في التنبيه الثالث (١) من التنبيهات الملحقة بالموضوع الرابع من المقام الأول من سابق هذا البحث.

الثانية ـ الظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه متى صارت يد المستودع يد ضمان بالتعدي أو التفريط على الأنحاء المتقدمة ، فإنه لا يخرج عن ذلك ، ولا يعود الى حكم الوديعة برد الوديعة الى ما كانت عليه ، لانه صار بمنزلة الغاصب بتعديه ، فيستصحب الحكم بالضمان الى أن يحصل من المالك ما يوجب زواله ، والعود الى الحال الاولى.

قال في التذكرة : إذا صارت الوديعة مضمونة على المستودع اما بنقل الوديعة وإخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابة ولبس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ، ثم انه ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب لم يبرء بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ولم تعد أمانة ، وبه قال الشافعي ، لأنه ضمن الوديعة بعد وان ، فوجب أن يبطل الاستيمان كما لو جحد الوديعة ، ثم أقر بها ، وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ، لأنه إذا ردها فهو ما سك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن ضمانها.

أقول : لم أقف لهم (رضوان الله تعالى عليهم) على دليل في المقام ، سوى ما يظهر من كلامهم من الأخذ بالاستصحاب ، مضافا الى دعوى الإجماع كما سمعت من كلام العلامة ، وقد عرفت ما في الاستصحاب في مقدمات الكتاب المذكور في صدر كتاب الطهارة (٢) وما في أمثال هذه الإجماعات من المناقشة التي تقدمت في غير باب والقول بما ذكروه على إطلاقه مشكل ، لما عرفت من عدم الدليل ، وان أمكن القول بذلك في بعض الموارد بنوع من التقريب الموجب لما ذكروه ، كلبس الثوب وركوب الدابة.

__________________

(١) ص ٤٣٥.

(٢) ج ١ ص ٥٢.


ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (١) «قال سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل فاحتاج إليها هل يصلح له أن يأخذ منها وهو مجمع على ان يردها بغير اذن صاحبها؟ قال : إذا كان عنده وفاء فلا بأس أن يأخذ ويرده». ورواه الحميري في قرب الاسناد عن على بن جعفر (٢) عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته» الخبر. وبمضمون ذلك أخبار أخر قد تقدمت في المسئلة السابعة من المقدمة الرابعة من كتاب التجارة (٣) والتقريب فيها أنها ظاهرة في أنه لا يخرج بهذا التصرف عن كونه أمينا لكون تصرفه جائزا.

وقال ابن إدريس ـ بعد إيراد خبر البزنطي المذكور ـ قال محمد بن إدريس لا يلتفت الى هذا الحديث ، لانه ورد في نوادر الاخبار ، والدليل بخلافه وهو الإجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير اذن ملاكها ، فلا يرجع عما يقتضيه العلم الى ما يقتضيه الظن ، انتهى ، وهو جيد على أصله الغير الأصل ، وكيف لا؟ والاخبار بما قلناه متظافرة كما أشرنا إليه من ذكرها في الموضع المشار اليه ، والحكم ليس منحصرا في هذا الخبر ، وقد تقدم الكلام أيضا في المناقشة في بعض الموارد المذكورة.

ثم انه على تقدير ما ذكروه من لزوم الضمان والخروج عن الوديعة فإنهم ذكروا أنه لا يعود الى الحكم الأول الا بأن يرده على المالك ، ثم يجدد له المالك وهذا الفرد مما لا خلاف ولا اشكال فيه عندهم ، لأنه وديعة مستأنف يترتب عليها أحكام الوديعة التي من جملتها كون الودعي أمينا.

قال في التذكرة : لورد الوديعة ـ بعد أن تعلق ضمانها به اما بالإخراج من الحرز أو بالتصرف أو بغيرهما من الأسباب ـ إلى المالك ثم ان المالك أودعه

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٣ ح ٢ الباب ٨ من أبواب أحكام الوديعة الرقم ٢.

(٢) قرب الاسناد ص ١١٩.

(٣) ج ١٨ ص ٣٢٥.


إياها ثانيا فإنه يعود أمينا إجماعا ، وبرء من الضمان ، انتهى.

وأما لو لم يردها ولكن جدد له المالك الإيداع بأن أذن له في الحفظ فقال : أذنت لك في حفظها أو قال : أودعتكها أو استأمنتك عليها فظاهر الأكثر أنه كالأول.

وعلل بأن الضمان انما كان بحق المالك ، وقد رضى بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الامانة ، وهو اختياره في التذكرة ، حيث قال : لو لم يسلمها الى المالك لكن أحدث المالك له استئمانا فقال : أذنت لك في حفظها أو أودعتكها أو استأمنتك أو برءتك من الضمان فالأقرب سقوط الضمان عنه ، وعوده أمينا لأن التضمين حق المالك ، وقد رضى بسقوطه ، وهو أصح قولي الشافعي.

والثاني أنه لا يزول الضمان ولا يعود أمينا لظاهر قوله (عليه‌السلام) (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». انتهى ، وظاهره في المسالك التوقف في هذا المقام ، قال : ويمكن بناء ذلك على أن الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان عنه أم لا؟ فان المستودع هنا قد صار بتعديه بمنزلته ، والمسئلة موضع إشكال ـ إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان كما في الفرض المذكور ، فلا يزول الضمان السابق بتجدد ما لا ينافيه ، مع عموم قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (٢). ـ ومن أنه قد أقام يده مقام يده ، وجعله وكيلا في حفظها ، وذلك يقتضي رفع الضمان ، وقد سلف البحث في نظائرها في مواضع ، كالرهن والقراض والأقوى هنا زوال الضمان ، لان المستودع نائب عن المالك في الحفظ ، فكانت يده كيده ، وقبضه لمصلحته ، فكان المال في يده بمنزلة ما كان في يد المالك ، بخلاف الرهن ، انتهى.

ومرجع الوجه الثاني إلى ثبوت المنافاة بين الوديعة والضمان الذي معه أولا وهو الأظهر ولهذا رجع به في آخر كلامه عن الاستشكال الذي ذكره أولا.

وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة أن الإبراء من الضمان في حكم الألفاظ

__________________

(١ و ٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


المذكورة في تجدد الوديعة ، لما علله به من أن التضمين حق للمالك ، وقد رضى بسقوطه ، وربما أشكل بأن معنى الضمان أن العين لو تلفت وجب عليه بدلها ، والحال أنها الان لم تتلف ، فتكون البراءة من الضمان إبراء مما لم يجب.

ورد بأن الضمان المسبب عن التعدي معناه جعل ذمة الودعي متعلقة بالمال على وجه يلزمه بدل المال على تقدير تلفه ، ولزوم البدل ثمرة الضمان وفائدته ، لا نفسه ، والساقط بالإبراء هو الأول لا الثاني.

ويدل على أن المراد من الضمان هو المعنى الأول أنهم يحكمون عليه بمجرد العدوان ، فيقولون صار ضامنا ، ولو فعل كذا ضمن ونحو ذلك ، مع أن لزوم البدل لم يحصل بذلك ، وانما حصل قبول ذمته له ، وهذا معنى زواله بالبراءة ، بل هو متعلق البراءة.

الثالثة ـ إذا أنكر الوديعة أو أقر بها ولكن ادعى التلف أو ادعى الرد ولا بينة فهيهنا مقامات ثلاثة.

الأول ـ الإنكار ، والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في قبول قوله فيه ، لانه منكر ، والأصل عدمها من غير معارض.

الثاني : دعوى التلف ، والمشهور قبول قوله فيه بيمينه وان كان مدعيا ومخالفا للأصل ، لأنه أمين فيقبل قوله على من ائتمنه ، بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع على ذلك ، قال : إذا طلب المالك من المستودع الرد فادعى التلف ، فالقول قوله مع اليمين عند علمائنا ، سواء ادعى التلف بسبب ظاهر ، أو خفي. لأنه أمين في كل حال ، فكان القول قوله في كل حال هو أمين فيها ، انتهى.

وظاهر الأصحاب أنه لا فرق في الحكم المذكور بين دعواه التلف بسبب ظاهر كالحرق والغرق ، أو خفي كالسرق ، لاشتراكهما في المعنى وقد عرفت من ظاهر العلامة دعوى الإجماع على ذلك.

وظاهر الشيخ في المبسوط الفرق بين ذلك ، فقال : بقبول قوله في الثاني ،


دون الأول ، حيث قال بعد كلام في المقام ـ : وجملته أن كل موضع يدعى الحرق والنهب والغرق فإنه لا يقبل قوله الا بالبينة ، وكل موضع يدعى السرقة والغصب أو يقول : تلف في يده ، فان القول قوله مع يمينه بلا بينة ، والفرق أن الحرق والغرق لا يخفى ، ويمكن إقامة البينة عليه ، بخلاف السرقة ، انتهى.

وظاهر العلامة في التذكرة القبول مع الإطلاق ، وعدم تعيين السبب الموجب للتلف ، كما يشير اليه كلام الشيخ المذكور أيضا ، حيث خص عدم القبول بدعوى السبب الظاهر ، وعد دعوى التلف مطلقا فيما يقبل قوله.

ثم ان ظاهر الأكثر قبول قوله مع اليمين لا بدونها ، وقد سمعت من عبارة التذكرة دعوى الإجماع عليه ، مع أن الصدوق في المقنع قال : يقبل دعوى التلف والضياع بلا يمين.

قال : «وسئل الصادق (عليه‌السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه» (١). قال : وروى في حديث آخر (٢) أنه قال : «لم يخنك الأمين ولكنك ائتمنت الخائن».

وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه (٣) مضى مشايخنا (رضي‌الله‌عنهم) على أن قول المودع مقبول ، فإنه مؤتمن ولا يمين عليه وقال الشيخ في النهاية ولا يمين على المودع ، بل قوله مقبول ، فان ادعى المستودع أن المودع قد فرط أو ضيع كان عليه البينة ، فان لم يكن معه بينة كان على المودع اليمين.

وقال ابن الجنيد وإذا قال : قد ضاعت أو تلفت فالقول قوله ، فان اتهم أحلف ، وكذا قال : أبو الصلاح.

أقول : كلامهما يرجع الى ما ذكره في النهاية ، والمشهور بين المتأخرين اليمين مطلقا ، قال في المختلف : والأشهر التسوية بين الحكمين في وجوب

__________________

(١ و ٢ و ٣) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٨.


اليمين ، لان قول المودع أنها سرقت أو ضاعت دعوى ، فلا بد فيها من اليمين ولم يوجب البينة ، لأنه أمين ، انتهى.

وحينئذ فالأقوال في المسئلة أربعة ، ولم أقف على حديث ظاهر في اليمين في هذا المقام ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك حسنة الحلبي (١) عن الصادق (عليه‌السلام) «قال صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان». وأنت خبير بما فيه ، بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعاه أنسب ، فان مقتضى كونه أمينا أن يقبل قوله من غير يمين ، كما هو ظاهر جملة من الاخبار ، منها الخبر المتقدم نقله عن المقنع ، مع فرض كون الودعي غير ثقة ، وهو أبلغ في الدلالة.

ومنها ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

وما رواه في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تأتمن من خانك لا تتهم من ائتمنت».

وعن مسعدة بن زياد (٤) «عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

والتقريب في هذه الاخبار أن منشأ اليمين انما هو الاتهام له ، وعدم تصديقه ، وقد نهوا عن اتهامه ، فلا وجه لليمين حينئذ بل يجب تصديقه وقبول قوله من غير يمين ففي هذه الاخبار رد أيضا على الشيخ ومن قال بقوله من أن له إحلافه مع تهمته فان هذه الاخبار نهت عن اتهامه ويؤيد هذه الاخبار أيضا الأخبار الدالة على أنه لم يخنك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن ، فإنها ظاهرة في أنه لا يجوز له أن يخونه ، وينسبه إلى الخيانة بعد اعتقاد كونه أمينا ، وإيداعه لذلك.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٧ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٨ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ٩.

(٣ و ٤) الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٩ ح ٩ الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة الرقم ٩ قرب الاسناد ص ٣٥ و ١٠ قرب الاسناد ص ٣٥.


ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا (١) قال : «وروى أن رجلا قال للصادق (عليه‌السلام) انى ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده فخانني وأنكر مالي ، فقال : لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت أنت الخائن». ورواه الشيخ أيضا (٢) مرسلا.

وهو ظاهر فيما قلناه ، وبه يظهر لك قوة قول الصدوق في المسئلة ، ويمكن حمل كلام الشيخ وابن الجنيد وأبى الصلاح على ائتمان من يتهمه ، بمعنى أنه لا يعتقد أمانته وقت الإيداع ، بل يجوز الخيانة عليه كما يدل عليه بعض الاخبار الواردة في تضمين القصار ونحوه.

أقول : ويؤيد ما قلناه هنا ما سيأتي إنشاء الله من الاخبار في كتاب العارية ، وما ذكرناه غير خاص بالوديعة ، بل كل موضع ثبت كونه أمانة من عارية ، أو مضاربة ، أو وكالة أو نحوها ، كما سيأتي تحقيقه ـ إنشاء الله تعالى ـ في كتاب العارية.

الثالث ـ ما لو ادعى الرد على المالك ، وفيه اشكال من حيث أن الأصل عدم الرد وعدم البينة على المدعى ، ومن حيث أنه أمين ومحسن وقابض لمصلحة المالك ، والمشهور قبول قوله بيمينه.

قال في التذكرة ، فإن ادعى ردها على من ائتمنه وهو المالك قدم قوله باليمين ، على اشكال ينشأ ـ (عليه‌السلام) من أنه أمين يقبل قوله مع اليمين كالمتلف ومن كونه مدعيا فافتقر إلى البينة ، وظاهره التوقف في الحكم ، وبقائه على الاستشكال لعدم الترجيح بشي‌ء من الدليلين على الأخر.

وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث جرى على ما جرى عليه في التذكرة ، ونحوه الشهيد في شرح نكت الإرشاد حيث اقتصر على مجرد نقل وجهي الإشكال المذكور وهو في محله.

ولو ادعى الرد الى وكيل المالك فظاهرهم أنه كدعوى الرد على المالك ،

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٦.


لان يده كيده ، ولو ادعى الرد على الوارث فعليه البينة ، لخروج هذا الفرد عما نحن فيه ، لان الوارث لم يأتمنه ، فلا يكلف تصديقه ، والأصل عدم الرد.

الرابعة ـ قد عرفت الحكم فيما لو ادعى الودعي رد الوديعة على المالك أو وكيله أو وارثه بقي الكلام هنا في ما لو ادعى الرد على غير من ذكر لكن باذن المالك ، ولا يخلو الحال هنا ، اما أن يوافق المالك على دعوى الاذن ، أو ينكر ذلك ، فهنا مقامان الأول ـ أن يوافق المالك على ذلك ، ولكن المدفوع اليه ينكر ذلك ، والدافع لم يشهد عليه ، وقد اختلف كلامهم في هذا المقام ، ومثله ما لو أمره بقضاء دينه فقضاه عنه ، ولم يشهد على الدفع ، مع إنكار المدفوع اليه ، والأقوال هنا ثلاثة : فقيل : يضمن الدافع في الموضعين ، وقيل : لا يضمن فيهما وقيل : بالتفصيل ، فيضمن في القرض ، ولا يضمن في الوديعة.

قال في المختلف : إذا أمره بالإيداع فلم يشهد عليه قوى الشيخ عدم الضمان ، ولو أمره بقضاء الدين قال : يضمن بترك الاشهاد وان صدقه عليه ، فإنه فرط حيث دفع دفعا غير مبرئ ، ولو قيل بالتسوية في الموضعين في عدم الضمان كان وجها ، لانه امتثل ما أمره به ، وجهود القابض لا يوجب الضمان على الدافع ، والبراءة في نفس الأمر قد وقعت ، انتهى.

مع أنه في التذكرة قوى مذهب الشيخ ، ومنع ما اختاره هنا ، فقال : لو أمره بالإيداع لما دفعه اليه ابتداء فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة ، وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الوديعة حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين وهو أظهر وجهي الشافعية.

والثاني أنه يلزمه الاشهاد كقضاء الدين ، وقد بينا الفرق ، انتهى.

ثم قال ـ في المسئلة التي هي محل البحث ـ : ولو اعترف المالك بالاذن والدفع معا لكنه قال : انك لم تشهد عليه ، والمدفوع اليه ، ينكر ، كان مبنيا


على الخلاف السابق ، في وجوب الاشهاد على الإيداع ، فإن أوجبناه ضمن ، والا فلا ، ومن هذا الكلام علم القول الثاني ، والثالث ، وحجة كل منهما.

وأما القول الأول فنقله في المسالك قولا في المسئلة ، ولم يسنده ، وعلله بأنه يضمن فيهما ، لأن إطلاق الإذن يقتضي دفعا ثابتا يمكن الرجوع اليه عند الحاجة ، فإذا ترك الاشهاد فقد قصر ، خصوصا الدين ، فان الغرض منه برأيه الذمة ، ولا يظهر إلا بالإشهاد ، لأن الغريم إذا أنكر فالقول قوله.

والمحقق في الشرائع اختار في كتاب الوديعة عدم وجوب الاشهاد على أداء الوديعة ، وفي كتاب الوكالة قال بالتفصيل على تردد ، وظاهره في المسالك اختيار القول بالتفصيل ، حيث أنه استحسنه من بين الأقوال المذكورة ، والمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لعدم الدليل من النصوص ، وتدافع هذه التعليلات ، مع ما عرفت في غير موضع من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية والله العالم.

الثاني ـ أن ينكر المالك الاذن وحينئذ فالقول قوله بيمينه ، إذا لم يكن بينة ، لانه منكر ، ويكون الحكم فيه كدعوى الرد على الوارث ، لان المدفوع اليه لم يأتمنه ليقبل قوله عليه ، وليس بوكيل لتكون يده كيد الموكل.

وبالجملة فالظاهر أن المسئلة المذكورة من جزئيات مسئلة المدعى والمنكر يوجب البينة على المدعى ، واليمين على المنكر.

واحتمل بعض المحققين كون القول قول المستودع بيمينه ، نظرا الى ما تقدم من أنه أمين ، والظاهر ضعفه ، لان القدر المقطوع به من الاخبار وكلام الأصحاب اختصاص ذلك بغير ما ذكرناه من دعوى التلف بأي أنواعه ، أو الرد على المالك أو وكيله.

بقي الكلام في أنه متى حلف المالك فلا يخلو اما أن يكون من ادعى عليه القبض مقرا بذلك ، أو منكرا ، وعلى تقدير الأول اما أن يكون موجودة أو تلفت ، فهيهنا صور ثلاثة أحدها ـ أن يقر بالقبض والعين موجودة ، ولا


إشكال في وجوب ردها الى المالك ، قال في التذكرة : فإن غاب المدفوع إليه في هذه الصورة كان للمالك أن يغرم المستودع ، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع وردها على المالك ، واسترد البدل الذي دفعه ، وهو ظاهر في التخيير بين الرجوع على الودعي والصبر الى قدوم الغائب ، الا أنه مع الرجوع على الودعي فالحكم ما ذكره. الثانية ـ الصورة المذكورة مع تلف العين ، والحكم عندهم أنه يتخير المالك في الرجوع على من شاء منهما ، وليس للغارم منهما أن يرجع على صاحبه ، لزعمه أن المالك ظالم له في أخذ البدل منه ، فلا يرجع به على غير من ظلمه.

الثالثة ـ أن ينكر القبض الذي ادعاه المستودع ، وحينئذ فالقول قوله بيمينه مع عدم البينة ، فيختص الغرم بالمستودع.

الخامسة ـ اختلف الأصحاب فيما لو أنكر الوديعة فأقام المالك البينة عليها فصدقها بعد الإنكار الا أنه ادعى التلف قبل إنكاره ، فقيل : لا يسمع دعواه التلف ، لأنه بإنكاره السابق مكذب لدعواه الأخيرة فلا تسمع لتناقض كلاميه ، ولا يتوجه بها يمين عليه ولا على المدعى عليه ، ولو أقام بينة أيضا فإنها لا تسمع بينته ، لانه مكذب لها ونقل هذا القول في المختلف عن الشيخ ، وأيده بعضهم بأنه بإنكاره الوديعة يصير خائنا ، فخرج عن الامانة وصار ضامنا.

وقيل : أنه إذا قال المودع : ما أودعتني شيئا ثم اعترف بالوديعة وادعى هلاكها لم يضمن إذا حلف ، لأن إنكاره يجوز أن يكون عن سهو ونسيان لها ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد ، وهو ظاهر في قبول قوله مع عدم البينة.

وذهب العلامة في المختلف الى ما قدمنا نقله عن الشيخ من أنه لا تسمع دعواه وان أقام بينة ، لانه مكذب لدعواه الهلاك بإنكاره الوديعة ، الا أنه قال : لو طلب إحلاف الغريم فله ذلك ، وفيه كما ترى دلالة على نوع من سماع دعواه ، فان ظاهر مذهب الشيخ أنه يجب عليه الضمان مطلقا.


وقيل : أنه تسمع دعواه ، وتقبل بينته ، لجواز استناد جحوده الى النسيان فيعذر وهو اختيار المحقق في الشرائع ، والعلامة في التذكرة ، على ما نقله عنه في المسالك ، وهذا القول يرجع الى ما قدمنا نقله عن ابن الجنيد.

وفي القواعد اختار القول الأول وقد تبين من ذلك أن في المسئلة أقوالا ثلاثة ، وكلها للعلامة في كتبه المذكورة ، وفي المسئلة أيضا قول رابع نقله في المسالك عن الشهيد (رحمه‌الله) واستحسنه ، وهو أنه ان أظهر لإنكاره تأويلا كقوله ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها أو ضمانها أو نحو ذلك ، قبلت دعواه ، وسمعت بينته ، وان لم يظهر له تأويلا لم يقبل.

أقول : ويؤيد هذا القول ما يظهر من المسالك من أن محل الخلاف في المسئلة ما إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع ، أما لو كانت صورته لا يلزمني شي‌ء إليك أو نحو ذلك من الألفاظ المذكورة في هذا القول فقامت البينة بها ، فادعى التلف أو الرد سمعت دعواه ببينته ، لعدم التناقض بين كلاميه.

قال في القواعد : وان أقيمت عليه البينة فادعى الرد أو التلف من قبل ، فان كان صيغة جحوده إنكار أصل الوديعة لم يقبل قوله بغير بينة ولا معها على الأقوى لتناقض كلاميه ، وان كان صيغة الجحود لا يلزمه شي‌ء قبل قوله في الرد والتلف مع البينة بدونها في الأخير ، وفي الأول على رأى.

أقول : قوله على الأقوى إشارة الى ما قدمنا نقله عنه من اختياره القول الأول ، وقوله وفي الأول على رأى ، يعنى الرد ، إشارة إلى الإشكال المتقدم ذكره فيما لو ادعى الرد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في عده في المسالك ما نقله عن الشهيد من التفصيل قولا رابعا نظرا ، بل الظاهر أنه يرجع الى القول الأول وذلك فان الظاهر من كلامه كما قدمنا الإشارة اليه أن محل الخلاف انما هو فيما إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة : هذا كله إذا كان الجحود بإنكار


أصل الإيداع ، أما لو كان صورته ما يلزمني شي‌ء أو لا يلزمني تسليم شي‌ء إليك أو مالك عندي وديعة أو ليس لك عندي شي‌ء فقامت البينة بها فادعى التلف أو الرد سمعت دعواه وبينته ، لعدم التناقض بين كلاميه ، انتهى.

ومرجع هذا الكلام الى ما ذكرناه من أن محل الخلاف والأقوال الأربعة التي قدمناها قبل هذا الكلام انما هو في صورة الجحود بإنكار أصل الإيداع ، والقول الذي نقله رابعا ظاهر في أنه مع الجحود بهذه الكيفية ، حيث لا يقبل قوله التأويل لا يقبل قوله ، وأما إذا كان جحوده لا بهذه الكيفية بل بهذه الألفاظ التي يقبل التأويل فإنه وان كان يقبل ، الا أنه خارج عن محل البحث ، والخلاف في المسئلة كما ذكره في كلامه الأخير وبالجملة فبالتأمل في كلامه يظهر صحة ما قلناه.

قال في المسالك : وحيث قلنا بقبول بينته ان شهدت بتلفها قبل الجحود برء من الضمان وان شهدت بتلفها بعده ضمن لخيانته بالجحود ، ومنع المالك منها وهو جيد ، والله العالم.

السادسة ـ المشهور بين الأصحاب على ما نقله في المسالك أنه إذا اعترف بالوديعة ثم مات وجهلت عينها فإنها تخرج من أصل تركته ، ولو كان له غرماء وضاقت التركة حاصهم المستودع ، وعلل بأن اعترافه بالوديعة في حياته أوجب ثبوت يده عليها ، والتزامه بها الى أن يردها الى مالكها ، فإذا لم تعلم كان ضامنا لها ، لعموم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». ولانه بترك تعيينها مفرط فيها ، فيضمن ، ولأن الأصل بقاءها في يده الى الموت وبعده يكون في جملة التركة ، فإذا تعذر الوصول الى عينها ، وجب البدل فيكون بمنزلة الدين ، فيحاص الغرماء وتردد في هذه المسئلة المحقق في الشرائع ، واستشكل فيها العلامة في القواعد والإرشاد ، ومنشأ التردد والاستشكال مما ذكر ، ومن أن اعترافه بها في حياته انما يقتضي وجوب الحفظ ، والا فذمته بريئة من ضمانها فإذا مات ولم تعلم ، احتمل

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


تلفها قبل الموت بغير تفريط ، أو ردها الى المالك ، والأصل براءة ذمته من الضمان ، وكون التلف على خلاف الأصل معارض بهذا الأصل ، وليسا متنافيين حتى يقال : أنهما تعارضا فتساقطا ، إذ لا يلزم من بقاءها وعدم تلفها تعلقها بالذمة ليلزم الضمان كما ادعوه.

قال ـ شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) في شرح نكت الإرشاد بعد قول المصنف (ولو مات ولم يوجد أخذت من التركة على اشكال) ـ : ما لفظه منشأ النظر إلى أصالة براءة الذمة من الضمان ، فينزل على تلفها بغير تفريط ، إذ الأصل عدمه ، والالتفات الى قوله (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «على اليد ما أخذت». ولأصالة عدم التلف بها ، انتهى.

وأنت خبير بأنه بالنظر الى الجحود على أمثال هذه التعليلات هو عدم الضمان ، لأن الوديعة من حيث هي لا تعلق لها بالذمة الا من حيث أسباب التعدي أو التفريط المتقدمة ، والمفروض أنه لا شي‌ء منها ، وغاية ما يجب على الودعي الحفظ لها خاصة ، ومجرد عدم وجودها بينها بعد الموت لا يستلزم تفريطا ولا تعديا ليحصل به الضمان ، فأصالة عدم الضمان ظاهرة ، وان فرض احتمال بقاءها واحتمال الرد الى المالك ، والتلف بغير تفريط قائم في العين ، وحديث (٢) «على اليد ما أخذت». يمكن تخصيصه بالأمانات ، بمعنى خروج الأمانات من عمومه ، وليس هنا ما يوجب الخروج عن كونها أمانة من تفريط أو تعد يوجب الضمان والتعلق بالذمة ، حتى يقال : ان عليها ما أخذت.

وبه يظهر وجه ما استظهرناه ، ومن ثم قال في المسالك ـ بعد الكلام في المسئلة ـ والأقوى انه ان علم بقاء عينها الى ما بعد الموت ولم تتميز قدم مالكها على الغرماء ، وكان بمنزلة الشريك ، وان علم تلفها بتفريط فهو أسوة الغرماء ، والا فلا ضمان أصلا ، لأصالة براءة الذمة ، وأصالة بقائها إلى الان لو سلمت لا تقتضي

__________________

(١ و ٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


تعلقها بالذمة ، انتهى وهو جيد.

ثم ان ما ذكرناه من عدم الضمان هنا هو ظاهر اختيار العلامة في التذكرة حيث قال : قد بينا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ، ولم توجد في تركته ، وان الذي يقتضيه النظر عدم الضمان ، والذي عليه فتوى أكثر العلماء منا ومن الشافعية أن عليه الضمان ، ثم نقل عن الشافعي أنها إذا لم توجد بعينها خاص المالك الغرماء ، ونقل اختلاف أصحابه في هذه المسئلة.

وكيف كان فالمسئلة المذكورة لخلوها عن النص الواضح غير خالية من الاشكال ، وان كان ما ذكرناه لا يخلو من قرب بالنظر الى هذه التعليلات والله العالم.

السابعة ـ لو كان في يده وديعة فادعاها اثنان ، يأن ادعى كل واحد أنها له بخصوصه ، فاما أن يقربها الودعي لأحدهما ، أو يقر لهما ، أو يكذبهما ، أو يقول :

لا أدرى لايكما هي مع قطعه بانحصارها فيهما ، أو يقول ، لا أدرى لمن هي لكما أو لغيركما فهنا صور الاولى أن يقر بها لواحد منهما خاصة وقد صرح الأصحاب بأنها يحكم بها لمن أقر له بها ، ويجب دفعها اليه ، ويجب على الودعي أن يحلف للآخر. فان حلف سقطت دعوى الأخر عنه ، وبقي النزاع بين المدعيين ، ولمن لم يقر له الودعي إحلاف صاحبه الذي أقر له الودعي ، ودفع إليه الوديعة ، فإن حلف استقر الملك له. وان نكل الودعي عن اليمين للآخر أحلف ذلك للآخر على استحقاقها ان لم نقل بأنه يقضى عليه بالنكول ، وعلى كل من الوجهين فإنه يغرم الودعي حينئذ لذلك الأخر المثل أو القيمة لحيلولته بينه وبين الوديعة بإقراره للأول ، أما في صورة القضاء بالنكول فظاهر ، وأما في صورة حلف الأخر فلان اليمين المردودة عندهم بمنزلة إقرار المنكر ، فإنه لو أقر بها ثانيا للآخر بعد أن أقر بها أولا للأول ، لزمه الغرم مثلا أو قيمة ، وكذا ما هو بمنزلة الإقرار.

وربما قيل : بأن اليمين المردودة كالبينة من المدعى ، وحينئذ فكما


يحتمل ـ أن يكون الحكم فيها ما تقدم في تنزيل اليمين بمنزلة الإقرار من تغريم الودعي مع بقاء العين في يد الأول ـ يحتمل أن تنزع العين من يد الأول ، لان مقتضى العمل بالبينة كون العين لمن شهدت له.

ورد بأنها انما تكون كالبينة بالنسبة إلى المتداعيين خاصة ، لا في حق غير هما وهذه العين قد صارت حقا للأول ، والنزاع هنا انما هو بين الودعي وبين الأخر وكونها كالبينة في حق المدعى عليه ، يقتضي غرمه له للحيلولة بينه وبينها بإقراره للأول ، قالوا : واليمين منهما هنا على البت ، لأنها ترجع الى الاستحقاق ونفيه.

الثانية ـ أن يقر لهما معا على سبيل الاشتراك ، وفيه تكذيب لدعوى كل الاستقلال بالاستحقاق ، فقد كذب كل واحد منهما في دعواه الجميع وصدقه في البعض ، وحينئذ فيقسم بينهما ، ويبقى النزاع بينهما في النصف ، فان حلفا معا أو نكلا قسم بينهما أيضا ، وان حلف أحدهما خاصة قضى له به ، ولا خصومة للناكل مع الودعي.

وبالجملة فإنه يكون بمنزلة مال في يد شخصين يدعيانه هذا بالنسبة إليهما وأما بالنسبة إلى الودعي فإن حكم التصديق والتكذيب في النصف كما في الجميع بالنسبة اليه ، وحينئذ فلكل منهما عليه يمين ، فان حلف سقطت دعوى كل واحد منهما عنه وان نكل فكما تقدم من الحكم بالنكول ، أو إرجاع اليمين وما يترتب على ذلك.

الثالثة ـ أن يكذبهما معا قالوا فإنه ينتفي دعواهما ، لان اليد له ، ولكل منهما إحلافه على البت ، فان نكل عن اليمين ردت عليهما بناء على عدم القضاء بالنكول ، وصارا في الدعوى سواء ، لان يدهما خارجة ، فان حلفا أو نكلا قسمت بينهما أنصافا ، وان حلف أحدهما اختص بها.

الرابعة ـ أن يقول هي لأحدكما ، ولا أدرى من هو على التعيين فان وافقاه على عدم علمه بالتعيين ، فلا خصومة لهما معه ، وان كذباه في دعواه عدم العلم


وادعى كل واحد منهما عليه أنه يعلم أنه المالك ، فالقول قوله مع يمينه ، الا أن الحلف هنا على عدم العلم ، وهل يكفى يمين واحد أو لا بد من يمينين؟ المشهور الأول ، وهو قول الشيخ في الخلاف وظاهر ابن الجنيد ، اختاره في المختلف ، وجعله الأقوى في المسالك ، والقول الثاني للشيخ في المبسوط.

ووجه الأول أن المدعى شي‌ء واحد وهو علمه بكون المال لمعين ، بخلاف سابق هذه الصورة ، فإنه يبقى استحقاق كل واحد منهما ، فيحلف له.

ووجه الثاني أن كلا منهما مدع ، فيدخل في عموم الخبر المشهور ، والقول الأول نقله في التذكرة عن الشافعي ، والثاني عن أبي حنيفة ، وحينئذ فإذا حلف سقطت الدعوى عنه ، وبقيت المنازعة بينهما ، وان نكل عن اليمين وحلفا على علمه بناء على عدم القضاء بالنكول أغرم القيمة ، وتجعل مع اليمين في أيديهما.

بقي الكلام في أنه متى حلف لهما ، وبقيت المنازعة بينهما فقيل : بأنه يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه وحلف سلمت اليه ، وقيل : يقف حتى يصطلحا.

قال الشيخ في الخلاف : لو كان عنده وديعة فادعاها اثنان ، فقال المودع : هي لأحدهما ولا أعلم صاحبها بعينه ، وادعى كل منهما علمه بذلك احلف يمينا واحدة ، فإذا حلف وأخرجت الوديعة من عنده ، وبذل كل من المتداعيين اليمين أنها له استخرج واحد منهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه وحلف سلمت اليه ، أو يقسم بينهما نصفين.

وقال ابن الجنيد : توقف حتى يصطلحا أو يقوم بينة بها لأحدهما ، ونقله الشيخ عن الشافعي ، وتردد في المبسوط ، فتارة حكم بالإيقاف حتى يصطلحا ، وتارة قوى القرعة ، وادعى في الخلاف الإجماع على أن لكل أمر مشكل فيه القرعة.

أقول : والأقرب بمقتضى قواعدهم هنا هو ما اختاره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : والأقوى أنهما يحلفان


ويقسم بينهما لتكافؤ الدعويين ، وتساويهما في الحجة ، وهو يقتضي القسمة كذلك ولا يكون الأمر مشكلا ، والإيقاف حتى يصطلحا ضرر ، والاصطلاح غير لازم ، انتهى.

الخامسة ـ أن يقول لا أدرى لمن هي لكما أو لغيركما والذي صرح به في التذكرة هنا أنه إذا ادعيا عليه العلم كان القول قوله مع اليمين ، فإذا حلف على نفى العلم تركت في يده الى أن يقوم بينة ، وليس لأحدهما تحليف الأخر لأنه لم يثبت لواحد منهما يد ، ولا استحقاق بخلاف الصورة الأولى ، انتهى.

ولم يتعرض لبيان الحكم فيما لو نكل عن اليمين ، وقال في المسالك : ولو نكل عن اليمين ففي تسليمها إليهما مع حلفهما على الاستحقاق وغرامته لهما القيمة لو حلفا على علمه احتمالا ، لانحصار الحق فيهما ظاهرا ولا منازع لهما الان ، ويحتمل العدم لعدم حصر ذي اليد الحق فيهما ، ولم أقف في هذا القسم على شي‌ء يعتد به ، انتهى.

تنبيه :

ظاهر كلام المحقق في الشرائع أنه في صورة قوله لا أدرى الشامل للصورة الرابعة والخامسة أنها تقر في يده ، حتى يثبت لها مالك ، وهو في ثاني الصورتين المذكورتين مما لا يظهر فيه خلاف.

ويؤيده أن يده يد أمانة ، ولم يتعين لها مالك يجب الدفع اليه ، والحق في هذه الصورة غير منحصر فيهما ، ليتوهم سقوط أمانته بمطالبتهما.

وأما أولى الصورتين المذكورتين فقيل : ان الحكم كما ذكر من كونها أمانة ولم يتعين المالك ، وقيل : بأنها تنزع من يده ، لانحصار الحق فيهما ومطالبتهما إياه ، والقولان للشيخ (رحمه‌الله) ، ففي المبسوط قوى بقائها في يده ، وظاهره في الخلاف كما تقدم في عبارته انها تنزع من يده ، واستوجه في المختلف رد الأمر إلى الحاكم ، واستحسنه في المسالك ، والله العالم.


الثامنة ـ لو اختلفا في القيمة بعد ثبوت التفريط فهل القول قول المالك بيمينه ، أو القول قول الغارم؟ قولان : وبالأول قال الشيخان على ما نقله في المختلف ، ونقل عنهما أنهما احتجا ببطلان الأمانة بالخيانة ، فلا يكون قوله مسموعا.

ونقل في المختلف عن أبى الصلاح أنه قال : وروى أن اليمين في القيمة على المودع فتكون هذه الرواية دليلا للشيخين فيما ذهبا اليه هنا.

ورد الأول بأنه على تقدير قبول قول الودعي فإنا لم نقبله من حيث كونه أمينا ليلزم ما ذكروه ، وانما قبلنا قوله من حيث كونه منكرا للزيادة التي يدعيها المالك ، فالقول قوله بيمينه لذلك ، كما أن البينة هنا على المالك ، لكونه مدعيا ، وأما الخبر المذكور فلم يثبت على وجه تقوم به الحجة.

وبالقول الثاني صرح المحقق ، والعلامة ، وابن حمزة ، وابن إدريس ، وهو المشهور ، ولا ريب أنه الا وفق بالقواعد الشرعية ، قال في المسالك : وهذا الحكم لا يختص الأمين ، بل الحق تعديه الى كل من شاركه في هذا المعنى ، وان كان غاصبا ، انتهى وهو جيد نظرا الى الاندراج تحت القاعدة المنصوصة ، والله العالم.

التاسعة ـ لا ريب أنه إذا مات المودع سلمت الوديعة إلى ورثته ، فان كانوا جماعة بلغاء سلمت الوديعة إلى الجميع أو وكيلهم أو وليهم أو وصيهم لو كانوا أطفالا ، أو الحاكم مع غيبة الوارث ، أو عدم وجود ولى خاص للأطفال ، قالوا : وتجب المبادرة بالتسليم ، لأنها بموت المودع تصير أمانة شرعية ، وقد تقدم أن الحكم فيها وجوب المبادرة بالرد الى المالك فورا.

والمشهور أنه لا فرق في وجوب المبادرة بالرد بين علم الورثة بذلك وعدمه ، ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أن مع علمهم لا يجب الدفع الا بالطلب ، ونفى عنه البأس.

وقال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهو وجيه ، الا أنه لم يتحقق


به قائل منا ، وان كان القول به ممكنا ، لعدم تحقق الإجماع.

أقول : لا أعرف لما رجحاه في هذا المقام وجها بعد الاتفاق على كونها أمانة شرعية ، لحصولها في يده بغير اذن المالك ، ومن شأن الأمانة الشرعية وجوب ردها فورا ، وخروج هذا الفرد يحتاج الى دليل يوجب التخصيص ، الا أن يخرجوا عن أصل القاعدة المذكورة في الأمانة الشرعية ، والله العالم.

العاشرة ـ لو كان في يده سلعة فادعى أنها رهن وادعى صاحبها انها وديعة فهل القول قول من هي في يده ، أو قول المالك؟ قولان ، وقد تقدم تحقيق المسئلة مستوفى منقحا في كتاب الرهن.

الحادية عشر ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا اتجر الودعي بالوديعة بغير اذن المالك كان ضامنا ، والربح بأجمعه للمالك ، ذهب اليه الشيخان وسلار وأبو الصلاح وابن البراج وغيرهم.

وكذا قال ابن الجنيد الا أن الجماعة أطلقوا وابن الجنيد ، قال : ولو تعدى فيها بالتجارة كان الربح لصاحب المال ، الا أن يكون صاحبها خيره على أن ضمنه إياها ، ولو خيره على ذلك ولم يتجر فيها ، ولا انتفع بها ولا تعدى لم يلزمه ضمانه إياها.

قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : ولا بأس بهذا القول ، لان التضمين وان لم يكن لازما ، الا أنه يفيد الاذن في التصرف ، وحينئذ يكون الربح للودعي ، لأنه في الحقيقة استدانة.

ثم نقل رواية مسمع ، وهي ما رواه في التهذيب والفقيه عن مسمع (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي عليه ثم أنه جائني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ ح ٦ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٥ ح ١.


مالك ، واجعلني في حل فأخذت المال منه ، وأبيت أن آخذ الربح منه ، وأوقفته المال الذي كنت استودعته وأتيت حتى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلله ان هذا رجل تائب والله يحب التوابين».

ثم قال ـ بعد نقل الخبر ـ والظاهر أن ذلك على وجه الاستحباب ، والشيخ (رحمه‌الله) أفتى بما تضمنته الرواية في الدين.

أقول : لا يخفى ما في كلامهم على إطلاقه هنا من الإشكال ، لأن هذا المتجر في هذه الصورة غاصب بلا اشكال ، ولا ريب في ضمانه ، الا أن الشراء متى وقع في الذمة فإنه يكون صحيحا شرعا بلا اشكال ، وان كان دفع الثمن من الوديعة محرما لانه تصرف في مال الغير بغير اذن منه ، والربح يكون للمشتري ، لصحة الشراء المذكور ، ولا أعرف للحكم بكونه للمالك وجها والحال كما ذكرنا.

وأما لو وقع الشراء بالعين ، فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه استحقاق ربح لا للمالك ، ولا للبائع ، لأن حل الربح فرع صحة العقد ، بل الواجب هو رد كل ملك على مالكه من مبيع وثمن وربح ، هذا مقتضى القواعد الشرعية ، والضوابط المرعية في البيع والرواية أيضا لا تخلو من الإشكال ، الا أن تحمل على كون الشراء وقع في الذمة ، والربح حينئذ للمتجر دون المالك ، الا أنه لأجل رضى المالك وطلب التحليل منه بذل له هذا المبلغ ، ليرضيه بذلك فيحلله مما فعل فكأنه بمنزلة الصلح بينهما ، والامام (عليه‌السلام) أمره بقبول ذلك ، ورد النصف عليه في مقابلة توبته ، وقد تقدم الكلام في هذا المقام في المسئلة التاسعة من المقصد الثاني من كتاب الدين (١) والله العالم.

الثانية عشر ـ لو اختلف المالك ومن عنده الوديعة في أنه وديعة أو دين ، فادعى الذي عنده المال أنه وديعة ، وادعى المالك أنه دين ، قال الشيخ في النهاية أن القول قول صاحب المال ، وعلى الذي عنده المال البينة على أنه وديعة ، فإن

__________________

(١) ج ٢٠ ص ١٨٣.


لم يكن له بينة وجب عليه رد المال ، فان هلك كان ضامنا وان طالب صاحب المال باليمين أنه لم يودعه ذلك المال كان له.

وقال ابن الجنيد وإذا أقر الرجل لرجل بمال وادعى فيه عليه ما يزيل به حقا وجب لصاحب المال من أنه كان وديعة فهلك ، أو مضاربة فخسر لم يصدق إلا ببينة ، وكان القول قول صاحب المال مع يمينه انتهى ، وهو يرجع الى قول الشيخ المذكور.

وفصل ابن إدريس هنا فقال : الوجه عندي أن يكون المدعى عليه قد وافق المدعى على صيرورة المال اليه ، وكونه في يده ثم بعد ذلك ادعى أنه وديعة لك عندي فلا يقبل قوله ، ويكون القول قول من ادعى أنه دين ، لانه قد أقر بأن الشي‌ء في يده أولا وادعى كونه وديعة ، والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) قال : «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض وادعى الوديعة ، وهي تسقط الحق الذي أقر به لصاحب المال ، فلا يقبل قوله في ذلك ، فأما لو لم يقر بقبض المال أولا ، بل ما صدق المدعى على دعواه بأن له عنده مالا دينا ، بل قال : لك عندي وديعة ، كذا وكذا فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه ، لانه ما صدق على دعواه ، ولا أقر أولا بصيرورة المال اليه ، بل قال : لك عندي وديعة فليس الإقرار بالوديعة إقرارا بالتزام الشي‌ء في الذمة ، ثم أمر بأن يلحظ ذلك وزعم أن فيه غموضا ، انتهى.

وبموجب تفصيله يوافق الشيخ في الشق الأول خاصة ، والعلامة في المختلف وافق الشيخ وابن الجنيد ، ورد تفصيل ابن إدريس بأنه ضعيف جدا ، قال : إذا البحث وقع في مال في يد المقر ادعى أنه وديعة ، وادعى صاحبه أنه دين ، لنا أنه اعترف بثبوت يده على مال الغير ، وهو يقتضي ظاهرا الضمان ، فيكون القول قول من يدعى الدين ، قضاء بالظاهر ، انتهى.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسئلة ما رواه الكليني والشيخ والصدوق في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الأخر : انما كانت عليك قرضا؟ قال : المال لازم له الا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة». وما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (٢) أيضا عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في رجل قال لرجل : عليك ألف درهم فقال الرجل : لا ولكنها وديعة ، فقال (عليه‌السلام) : القول قول صاحب المال مع يمينه». ولا يخفى ما في هذين الخبرين من الظهور في ما ذهب اليه الشيخ ، والرد لما فصله ابن إدريس ، واستشكل بعض الأفاضل في هذه الاخبار بأن الامانة والقرض متعارضان ، ثم رجح الحمل على ما إذا كان صاحب المال ثقة ، والذي يدعى الوديعة متهما.

وفيه أن الأمانة التي عارض بها دعوى القرض بناء على ما ورد «من أن صاحب الوديعة مؤتمن» انما يتم البناء عليها مع الاتفاق على كون ذلك وديعة ، وأما مع الاختلاف كما في الصورة المفروضة فلم تثبت الوديعة ، حتى يفرع عليه كونها أمانة ، وأن قول الأمين مقبول ، وبالجملة فدعوى القرض لا معارض له الا دعوى الوديعة ، وهذه الدعوى غير مسموعة بظاهر هذه الاخبار الا بالبينة ، وكان الوجه فيه أنه باعترافه بقبضه المال يلزم منه اشتغال ذمته به حتى يؤديه الى صاحبه ، نظرا الى الحديث النبوي المتقدم ذكره ، ودعواه الوديعة لدفع الضمان عنه يحتاج إلى البينة ، وحينئذ فالحكم بما دلت عليه الاخبار المذكورة.

نعم يجب تقييد الاولى من أن المال لازم لمن ادعى الوديعة مطلقا بما دلت عليه الثانية من اليمين على صاحب المال وأن القول قوله بيمينه ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٩ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٤ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٧٦ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٣٨ ح ١.



كتاب العارية

والكلام في هذا الكتاب يقع في فصول :

الفصل الأول ـ في جملة من الفوائد ينبغي تقديمها في المقام الاولى ـ قال في التذكرة : العارية بتشديد الياء عقد شرع لإباحة الانتفاع بعين من الأعيان على وجه التبرع ، وشددت الياء كأنها منسوبة إلى العار ، لان طلبها عار ، قاله صاحب الصحاح.

وقال غيره : منسوبة إلى العارة : وهي مصدر يقال : أعار ويعير اعارة وعارة كما يقال : أجاب يجيب اجابة وجابة ، وأطاق يطيق أطاقه وطاقة.

وقيل انها مأخوذة من عار يعير إذا جاء وذهب ، ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته ، فسميت عارية لترددها من يد الى يد.


وقيل : انها مأخوذة من التعاور والاعتوار ، وهو أن يتداول القوم الشي‌ء بينهم ، وقال الخطائي في غريبه : أن اللغة الغالبة العارية وقد تخفف ، انتهى.

أقول : وما نقله عن الصحاح قد صرح به ابن الأثير في نهايته أيضا ، فقال : والعارية مشددة الياء كأنها منسوبة إلى العار ، لان طلبها عار وعيب ، وتجمع على العواري مشددا انتهى ، الا أن المفهوم من كلام أحمد بن محمد الفيومي في كتاب المصباح المنير تغليط ما ذكره في الصحاح والنهاية من الاشتقاق من المعنى الذي ذكراه ، لأن العارية المبحوث عنها من الواو والعار بمعنى العيب من الياء.

ويؤيده كلام القاموس أيضا ، حيث أنه ذكر العارية في مادة عور ، والعار بمعنى العيب في مادة عير ، ثم انه نقل في المصباح أيضا معنى زائدا على ما قدمنا ذكره ، وهو الاشتقاق من عار الفرس إذا ذهب عن صاحبه ، لخروجها من يد صاحبها ، وغلطه أيضا بأنه من الياء وفي القاموس أيضا عده من الياء ، وفي القاموس أيضا. عد عار بمعنى جاء وذهب ، والعيار المأخوذ من ذلك في مادة عير ، دون عور التي قد عرفت أن العارية مأخوذة منها.

وحينئذ فقد بطل هذا المعنى ، فلم يبق الا الاشتقاق من التعاور بمعنى التداول ، أو من العارة التي هي مصدر أعار يعير اعارة ، وهذا هو الذي جمد عليه صاحب المصباح ، والعجب من شيخنا العلامة ونحوه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث نقل كلام التذكرة ، وجمد عليه حيث لم يتنبها لذلك ، مع اختلاف أهل اللغة كما عرفت.

الثانية : لا يخفى أن العارية مما ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الأول : فقوله تعالى (١) «تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» ولا ريب أن العارية من جملة البر ، وقال تعالى (٢) «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» قال في كتاب مجمع البحرين :

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ٢.

(٢) سورة الماعون ـ الاية ٧.


الماعون اسم جامع لمنافع البيت ، كالقدر والدلو والملح والماء والسراج والخمرة ونحو ذلك مما جرت العادة بعاريته.

وروى في كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلا (١) قال : «نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن يمنع أحد الماعون جاره». وقال : «من منع الماعون جاره ، منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكله الى نفسه ، ومن وكله الى نفسه فما أسوء حاله».

وروى في الكافي عن أبى بصير (٢) قال : «كنا عند أبى عبد الله عليه‌السلام ومعنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة وساق الخبر الى أن قال : وقوله عزوجل «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» قال : هو القرض يقرضه ، والمعروف يصنعه ، ومتاع البيت يعيره ، ومنه الزكاة فقلت له : ان لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه ، فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال : لا ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك». وفي خبر آخر عن سماعة (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : والماعون أيضا وهو القرض يقرضه ، والمتاع يعيره ، والمعروف يصنعه ، الحديث.

وأما الثاني فالأخبار الكثيرة ، منها ما ذكر ، وما رواه في التهذيب في الصحيح عن أبى بصير (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعت يقول : بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى صفوان ابن أمية فاستعار منه سبعين درعا بأطراقها قال : فقال : أغصبا يا محمد؟ فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : بل عارية مضمونة».

وقال في الفقيه (٥) : استعار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من صفوان بن أمية الجمحي سبعين درعا حطمية ، وذلك قبل إسلامه فقال : أغصب أم عارية يا

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٨ ، الوسائل ج ٦ ص ٣١ ح ١٢.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٤٩٩ ح ٩ ، الوسائل ج ٦ ص ٢٨ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٣ ص ٤٩٨ ح ٨ ، الوسائل ج ٦ ص ٣١ ح ١١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ٤.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٨ ح ١.


أبا القاسم؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : بل عارية مؤداة فجرت السنة في العارية إذا اشترط فيها أن تكون مؤداة».

أقول : قوله في الخبر الأول بأطراقها اختلف النسخ في هذه اللفظة بكونها بالفاء أو بالقاف ، وعلى تقدير الثاني الظاهر أن يكون المراد بها البيضة الحديد ، قال في القاموس : الطراق ككتاب الحديد الذي يعرض ثم يدار فيجعل بيضة ، وعلى تقدير الأول فلعل المراد بها المغفر وما يلبس على الساعدين وغيرهما ، فإنها تجعل في أطراف الدرع.

وقال بعض المحدثين : يحتمل أن يكون بالقاف ونسب النسخ التي بالفاء الى التصحيف وهو جيد ، وأما الحطمية في الخبر الثاني بالمهملتين منسوبة إلى الحطمة بن المحارب الذي كان يعمل الدرع ، كذا ذكره بعض المحدثين.

وفي كتاب مجمع البحرين وفي الحديث زوج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فاطمة على درع حطمية تسوى ثلاثين درهما ، قيل سميت بذلك لأنها تحطم السيوف أى تكسرها ، وقيل : هي العريضة الثقيلة ، وهي منسوبة إلى بطن من عبد قيس يقال : حطمة بن الحارث كانوا يعملون الدروع ، انتهى.

وأما الثالث : فإنه قال في التذكرة : لا خلاف بين علماء الأمصار في جميع الأعصار في جوازها والترغيب فيها ولانه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ولذلك صحت الوصية بالمنافع والأعيان جميعا ، انتهى.

والمفهوم من الآية والاخبار تأكد استحبابها أما الآية فلان الله تعالى قد قرن تاركها بالساهي في صلاته ، فنسبهما معا الى الويل ، وهي كلمة يقال عند الهلكة ، وقيل : ويل واد في جهنم ، وليس المراد بالسهو هنا هو النسيان كما ربما يتوهم ، بل المراد المضيع لصلاته التارك لها عن أول وقتها كما وردت به الاخبار في تفسير الآية المذكورة.

أما الاخبار فما تقدم في مرسلة الفقيه حتى أن بعض العامة ذهب الى


وجوبها ، لما رووه من مزيد التأكيد والترغيب فيها ، والجميع عندنا محمول على مزيد التأكيد في استحبابها ، فإنهم عليهم‌السلام كثيرا ما يؤكدون على المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، ويؤكدون في النهي عن المكروهات بما يكاد يدخلها في المحرمات.

الثالثة :مقتضى ما عرف به العارية في التذكرة كما تقدم نقله عنه من أنها عقد شرع لإباحة الانتفاع ، هو أنه لا بد من الإيجاب والقبول اللفظيين ، كما في سائر العقود ، ولهذا ان المحقق في الشرائع لما عرفها بأنها عقد ثمرته التبرع ، قال في المسالك : العقد اسم للإيجاب والقبول ، وتعليق الثمرة عليه يقتضي أن للقبول مدخلا فيها مع أن التبرع بالمنفعة يتحقق بالإيجاب خاصة ، لأن المتبرع انما هو باذل العين ، لا المنتفع بها.

ثم قال : ويمكن الجواب بأن القبول لما كان شرطا في صحة العارية لم يتحقق الثمرة بدونه وان بذلها المعير ، فإنه لو تبرع المعير بالعين وأوقع الإيجاب فرده الأخر لم تحصل الثمرة ، وان حصل التبرع بالمنفعة فالمترتب على العقد هو التبرع على وجه يثمر ذلك ، ولا يتم بدون القبول ، انتهى.

وهو كما ترى نص صريح في إيجاب الإيجاب والقبول ، وأنه لا بد من عقد يشتمل عليها ، وأصرح منه ما صرح به أيضا أخيرا حيث قال : واعلم أن جعلها عقدا يقتضي اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيين ، لان ذلك هو المفهوم من العقد ، وان لم ينحصر في لفظ كما هو شأن العقود الجائزة ، وقد يتجوز في القبول فيطلق على ما يكفى فيه القبول الفعلي ، كما ذكروه في الوديعة والوكالة ونحوهما ، لكن يبقى الإيجاب لا يتحقق العقد بدون التلفظ به ، وهذا هو الظاهر من عبارات كثير من الأصحاب انتهى ، هذا وقد صرح العلامة في التذكرة في الركن الرابع بما هو ظاهر بل هو صريح في خلاف ما ذكره في المسالك ، وما يفهم من ظاهر عبارته المشار إليها آنفا ، حيث صرح بأنه لا يشترط فيه اللفظ في الإيجاب والقبول ،


بل يكفى ما يقوم مقام ذلك من الأمور الدالة على الظن بالرضا ، قال : لانه عقد ضعيف ، لانه يثمر اباحة الانتفاع ، وهي تحصل بغير عقد كما لو حسن ظنه بصديقه كفى في الانتفاع به عن العقد ، وكما في الضيف بخلاف العقود اللازمة ، فإنها موقوفة على ألفاظ خاصة اعتبرها الشرع.

ثم قال في مسئلة أخرى : والأقرب عندي أنه لا يفتقر العارية إلى لفظ ، بل يكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظ دال على الإعارة والاستعارة ، لا من طرف المعير ولا من طرف المستعير ، كما لو رآه عاريا فدفع اليه قميصا فلبسه تثبت العارية ، وكذا لو فرش لضيفه فراشا أو بساطا أو مصلى أو حصيرا أو ألقى اليه وسادة ، فجلس عليها أو مخدة فاتكى عليها كان ذلك اعارة ، بخلاف ما لو دخل فجلس على الفرش المبسوطة ، ولانه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه ، وهو قول بعض الشافعية قضاء بالظاهر ، وقد قال عليه‌السلام : «نحن نقضي بالظاهر» (١) ،. ثم نقل عن بعض الشافعية الافتقار الى اللفظ ، وقال : والأقرب ما تقدم ، وقد جرت العادة بالانتفاع بظرف الهدية المبعوث اليه واستعماله ، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها ، فإنه يكون عارية ، لأنه منتفع بملك الغير باذنه ، وان لم يوجد لفظ يدل عليها بل بشاهد الحال ، انتهى.

وهو جيد وجيه الا أن فيه عدولا عن مقتضى ما قدمنا نقله عنه أولا ، وهو الذي يقتضيه كلام غيره أيضا.

وبالجملة فالظاهر هو ترتب ذلك على الرضا كيف اتفق من المعير والمستعير ولا دليل على ما زاد على ذلك.

الرابعة : انهم قالوا ـ بناء على كونه عقدا كما تقدم نقله عنهم ـ : انه من العقود الجائزة التي لكل من المتعاقدين فسخه متى شاء.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٩ ح ١١ ما نقله في الفقيه في هذا الباب ليس بهذه العبارة فراجع ، الوسائل ج ١٨ باب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم ، وأحكام الدعوى من كتاب القضاء حديث ١ وما نقله في الوسائل أيضا ليس بهذه العبارة ، فراجع.


قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، إلا أنهم استثنوا من ذلك مواضع بعضها اتفاقي ، وبعضها خلافي ، أحدها الإعارة للرهن بعد وقوع الرهن عليه ، فإنه لا رجوع للمعير ، وتوضيح ذلك ـ حيث أنه لم يسبق لهذه المسئلة تحقيق في كتاب الرهن ـ أنه لو استعار مال غيره ورهنه باذن المالك ، فالظاهر أنه لا إشكال في صحة الرهن ، بل نقل عليه في المسالك إجماع العلماء ، قال : وسموه استعارة الرهن وجعلوها مضمونة على الراهن ، وان تلفت بغير تفريط.

وبالجملة فإنه يترتب عليه أحكام الرهن ، فيلزم العارية ، وتباع عند الحلول ويؤخذ الدين من ثمنها كما في غيرها من أفراد الرهن ، وليس للمعير الرجوع فيها بحيث يتسلط على فسخ عقد الرهانة نعم له مطالبة الراهن بالفك عند الحلول.

بقي الكلام فيما يجب لمالكه في صورة بيع المرتهن الرهن ، وأخذ ماله من قيمته بأن يكون وكيلا أو بإذن الحاكم أو البائع الحاكم ، فقيل : انه يرجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة وما يبيع به ، وهو المشهور في كلام الأصحاب.

قال في التذكرة : فإذا بيع في الدين رجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة ومن الثمن الذي بيعت به ، لأن القيمة ان كانت أكثر فهو المستحق للمالك ، لأنها عوض عنه ، وان كان الثمن أكثر فهو عوض العين ، انتهى.

وفيه انه موهم لجواز بيعه بأقل من القيمة ، وهو ممتنع ، إذ لا يجوز البيع بأقل من ثمن المثل فصاعدا كما هو الحكم في كل وكيل ، وهذا أحدهم والتحقيق أنه ان باعه بثمن المثل فلا إشكال في أن للمالك ذلك ، وان باعه بأكثر من ذلك فلا ريب أيضا في أنه للمالك ، لأنه ثمن ملكه ، إذ العين باقية على ملكه الى وقت البيع ، ولا يتصور البيع بدون ثمن المثل كما عرفت.

هذا كله إذا كان مع اذن المالك كما تقدمت الإشارة اليه ، أما لو لم يكن بإذنه فإن للمالك انتزاعه بغير خلاف ، ويدل عليه أيضا ما رواه في الفقيه عن أبان عن حريز (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في رجل استعار ثوبا ثم عمد اليه فرهنه ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٣ ح ٣ ، الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٦ الوسائل ج ١٣ ص ٢٤١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٢.


فجاء أهل المتاع الى متاعهم؟ فقال : يأخذون متاعهم». ورواه الكليني عن أبان بن عثمان عمن حدثه (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وثانيها : لو أعار أرضا لدفن ميت مسلم ومن بحكمه ، فإنهم صرحوا بأنه لا يجوز الرجوع فيها بعد الدفن ، لتحريم النبش وتهتك حرمته الى أن تفنى عظامه. ونقل في التذكرة أنه موضع وفاق قال : أما لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع الميت فإنه يصح رجوعه ، ويحرم دفنه فيه ولو رجع بعد وضع الميت في القبر ، وقبل أن يواريه بالتراب ، فالأقرب أن له الرجوع أيضا ، ومؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر ، وقبل الدفن لازمة لولي الميت ، ولا يلزم لولي الميت الطم ، لان الحفر مأذون فيه ، انتهى.

واستشكل في المسالك والروضة في لزوم مؤنة الحفر لولي الميت فيما لو لم يمكنه الدفن الا كذلك ، قال : إذ لا تقصير منه حينئذ ، فينبغي كونه من مال الميت ، ومراده أنه لو تعذر على الولي الدفن إلا في أرض بهذه الصورة فإنه لا تقصير منه في الدفن فيها ، حتى أنه يغرم مؤنة الحفر لو أمكنه الدفن في أرض غيرها فإنه يمكن مؤاخذته بقدومه على هذه الأرض التي لصاحبها الرجوع فيها قبل الدفن فلا يكون أجرة الحفر فيها على الميت ، ويكون أجرة حفر الأرض الأخرى عليه أيضا ، بل يكون أجرة هذا الحفر عليه خاصة لتقصيره ، وأنت خبير بأن هذا الحكم هنا مبنى على تحريم النبش ، وقد تقدم في كتاب الطهارة في بحث غسل الميت (٢) أنه لم يقم لنا دليل واضح على التحريم الا ما يدعونه من الإجماع. وثالثها : ما لو أعاره جدارا ليضع عليه أطراف خشبته ، والأطراف الأخر حائط المستعير.

قال الشيخ : لم يكن له بعد الوضع الإزالة وان ضمن الأرش ، لانه يؤدى الى قلع جذوعه من ملكه مجيرا وهو غير جائز ، وتبعه ابن إدريس.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٩ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤١ ح ١.

(٢) ج ٤ ص ١٤٣.


وذهب العلامة في المختلف الى الجواز قال : لأنه عارية فللمالك الرجوع فيها وان أدى الى تخريب مال الغير ، لانجباره بالأرش ، واليه ذهب في المسالك أيضا ، وتردد المحقق في الشرائع في ذلك.

ورابعها : لو أعاره لوحا يرقع به السفينة ثم لج في البحر ، فإنه لا يجوز للمعير هنا الرجوع ما دامت في البحر ، لما فيه من الضرر بالغرق الموجب لذهاب المال ، أو تلف النفس ، قالوا : وهكذا في ما إذا حصل بالرجوع ضرر بالمستعير لا يمكن استدراكه ، ولو لم يدخل السفينة في البحر أو خرجت جاز الرجوع قطعا ، ولو كانت في البحر لكن يمكن إخراجها إلى الشاطئ وجب إذا لم يحصل به ضرر على صاحبها ، قيل : ويحتمل الجواز ، ولو كانت في البحر وثبتت له القيمة مع تعذر المثل لما فيه من الجميع بين الحقين ، أو يقال : بجواز الرجوع وان لم يجب تعجيل التسليم ، وتظهر الفائدة في وجوب المبادرة بالرد بعد زوال المانع ، وهو الضرر من غير مطالبة جديدة.

وخامسها : أن يعيره أرضا للزرع فيزرع فيها ، قال الشيخ : ليس له المطالبة بقلعه قبل إدراكه ، وان دفع الأرش لأن له وقتا ينتهى اليه ، وتبعه ابن إدريس.

وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنهما : ولو قيل له ذلك كان وجها ، لأنها عارية ، فلا تجب والظاهر أن مراده الجواز مع الأرش ، والا فهو مشكل ، وبذلك صرح في المسالك فجوز ذلك مع الأرش.

وسادسها : أن يعيره أرضا ليبنى فيها أو يغرس مدة معلومة ، قال ابن الجنيد : لو أعاره براحا ليبنى فيه أو يغرس مدة معلومة ، لم يكن لصاحب الأرض أن يخرجه من بناءه أو غرسه كرها قبل انقضاء المدة ، فإن فعل ذلك كان كالغاصب وعليه أعلى قيمة بناءه وغرسه قائما ومنفردا ، ولو كانت الإعارة غير موقتة كان لصاحب الأرض إخراجه ، إذا أعطاه قيمة بناءه وغرسه ، ثم يخرجه وهو بحاله.

وقال في المبسوط : إذا أذن له في الغرس ولم يعين مدة فغرس كان للمالك


مطالبته بالقلع ، إذا دفع الأرش أن يغرم له ما ينقص فتقوم قائمة ومقلوعة ، ويغرم ما بين القيمتين ، وان قال المعير : أنا أغرم لك قيمتها أجبر المستعير على قلعها ، لانه لا ضرر عليه فيه ، ولو قال المستعير : أنا أضمن قيمة الأرض لم يكن له ذلك.

قال في المختلف ـ بعد نقل كلام الشيخ المذكور ـ : والوجه عندي أنه لا يجبر المستعير على أخذ قيمة غرسه ، بل له المطالبة بعينه والأرش ، وقال بعد نقل كلام ابن الجنيد : أما الحكم الثاني فقد وافق الشيخ فيه ، فيما تقدم وبينا ما عندنا فيه.

وأما الحكم الأول فالوجه أن للمالك المطالبة بالقلع مع دفع الأرش ، كما قلنا في المطلق ، ولا يجب الشراء ولو طلبه الغارس ، ونمنع مساواته للغاصب واختار ذلك في المسالك أيضا.

الخامسة : قال في التذكرة : لا تخلو العين التي تعلقت بها العارية أما أن يكون جهة الانتفاع فيها واحدة أو أكثر فإن كانت واحدة كالدراهم والدنانير التي لا ينتفع بها الا بالتزين والبساط الذي لا ينتفع بها إلا في فرشه ، والدار التي لا ينتفع بها الا بالسكنى ، فمثل هذا لا يجب التعرض للمنفعة ، ولا ذكر وجه الانتفاع ، لعدم الاحتياج إليه إذ المقتضي للتعيين في اللفظ حصر أسباب الانتفاع وهو في نفسه محصور فلا حاجة الى مائز لفظي.

وان تعددت الجهات التي يحصل بها الانتفاع كالأرض التي تصلح للزراعة والغرس والبناء ، والدابة التي تصلح للحمل والركوب فلا يخلو اما أن يعمم أو يخصه بوجه واحد أو أزيد ، أو يطلق فان عمم جاز له الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات المباحة المتعلقة بتلك العين ، كما لو أعاره الأرض لينتفع بها في الزرع والغرس والبناء وغير ذلك بلا خلاف ، وان خصص الوجه كان يعيره الأرض للزرع أو البناء أو الغرس اختص التحليل بما خصصه المعير ، وبما ساواه وقصر عنه في الضرر ما لم


ينص على التخصيص ، ويمنع من التخطي إلى غيره ، فلا يجوز له التجاوز قطعا.

أقول : في جواز التعدي مع التخصيص وان لم يمنع من التخطي إلى غيره الى ما ساواه أو قصر عنه اشكال ، للخروج عن موضع الاذن والرخصة ، فإن الظاهر أن التخصيص في قوة المنع عن غيره ، ولا خلاف بينهم في عدم جواز الغير مع المنع عن غير ما خصصه.

ثم قال : وان أطلق فالأقوى أن حكمه حكم التعميم ، لأن إطلاق الاذن في الانتفاع يشعر بعموم الرضا بجميع وجوهه ، إذ لا وجه من الوجوه أولى بالضرر من الأخر. ثم قال : إذا أذن له في الزرع فاما أن يطلق أو يعمم أو يخصص ، ولا بحث في الأخيرين.

وأما الأول فإنه يصح عندنا ويستبيح المستعير جميع الزرع ، اختلف ضررها أو اتفق وهو أصح وجهي الشافعية عملا بإطلاق اللفظ.

وقال بعضهم : تصح العارية ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضررا لأصالة عصمة مال الغير ، ولا بأس به.

أقول : ظاهره الرجوع عما أفتى به أولا في هذه المسئلة من العمل بالإطلاق وان اختلف الضرر ، وهو وارد عليه أيضا فيما ذكره من اختيار العمل بالإطلاق في المسئلة الاولى ، مع أنه قوى أن حكمه حكم التعميم ، ثم قال : ولو قال : أعرتكها لزرع الحنطة ولم ينه عن غيرها كان له زرع ما هو أقل ضررا من الحنطة عملا بشاهد الحال كالشعير والباقلاء ، وكذا زرع ما يساوى ضرره ضرر الحنطة ، وليس له زرع ما ضرره أكثر.

أقول : قد تقدم ما فيه من الاشكال ، ثم قال : ينقسم العارية باعتبار الزمان إلى ثلاثة كما انقسمت باعتبار النفع إليها ، لأن المعير قد يطلق العارية من غير تقييد بزمان ، وقد يوقت بمدة ، وقد يعمم الزمان كقوله أعرتك هذه الأرض ولا يقرن لفظه بوقت أو زمان ، أو أعرتك هذه الأرض سنة أو شهر أو أعرتك هذه


الأرض دائما ، وانما جاز الإطلاق فيها بخلاف الإجارة ، لأن العارية جائزة وله الرجوع فيها متى شاء ، فتقديرها لا يفيد شيئا.

أقول : الظاهر ان الغرض من التقييد بالمدة دواما أو تعيينا انما هو صحة التصرف في هذه المدة المضروبة ، بمعنى أنه لا يكون عاصيا في تصرفه ، وكذا مع الإطلاق ، لا أنه يقيد العارية بذلك ، إذ لا اشكال من حيث كونها عقدا جائزا ، أن له الرجوع متى أراد إلا فيما تقدم من المواضع المستثناة ، ومتى رجع فإنه ليس للمستعير التصرف ، فان تصرف ضمن.

الفصل الثاني في المعير والمستعير :

وفيه مسائل الاولى :لا إشكال في أنه يشترط في المعير أن يكون مالكا مكلفا جائز التصرف ، والمراد بالمالك ما هو أعم من ملك العين أو المنفعة ، كما صرح به في التذكرة ، فلا تصح اعارة الغاصب للنهى عن التصرف بدون اذن المالك والإعارة تصرف ، ولا فرق بين غاصب العين أو المنفعة ، ولا يجوز للمستعير التصرف والحال هذه مع العلم بالغصب وان تصرف كان ضامنا للعين والمنفعة بلا خلاف ، والمراد بملك المنفعة كما لو استأجر عينا ، فإنه يملك منفعتها فله أن يعيرها الا أن يشترط عليه المؤجر مباشرة الانتفاع بنفسه ، فيحرم عليه حينئذ الإعارة ، وكذا الموصى له بخدمة العبد وسكنى الدار ، فإنه يجوز له إعارتهما.

ولا يصح اعارة الصبي والمجنون ، الا أن في الشرائع صرح بأنه لو أذن الولي للصبي جازت إعارته مع المصلحة ، مع أنه قد تقدم في كتاب البيع أن عقد الصبي لا عبرة به ، وان أجاز له الولي ، وفرق بينهما في المسالك بأنه انما جاز له هنا دون البيع ، لأن العارية لما كانت جائزة ولا تختص بلفظ بل كل ما دل على رضاء المعير ، ـ وهو هنا الولي ـ كان إذنه للصبي بمنزلة الإيجاب ، فالعبرة حينئذ بإذنه ، لا بعبارة الصبي.

ولا يخفى ما فيه سيما على ما تقدم تحقيقه في البيع من عدم قيام دليل على


ما ادعوه من الاختصاص بلفظ مخصوص في عقد البيع ونحوه ، وأن المناط انما هو ما دل على الرضاء.

وبالجملة فإن مظهر الجواز وعدمه هو صحة تصرف المستعير والمشتري ، سواء كان العقد لازما أو جائزا ، فإن جوزنا له ذلك بعقد الصبي المأذون له من الولي ، فلا فرق في ذلك بين اللازم والجائز ، والا فلا ، إذ لا مدخل لذلك في الجواز وعدمه ، كما لا يخفى ، والمراد بالمعار هنا ما كان ملكا للصبي.

والظاهر من كلامهم أن توليه اعارة مال غيره يبنى على ما تقدم في إعارة مال نفسه ، من اذن الولي وعدمه ، وربما قيل بإطلاق المنع هنا ، كما هو ظاهر اختيار المسالك.

وكما أنه لا يجوز للصبي والمجنون الإعارة استقلالا لعدم جواز تصرفهما ، كذلك المحجور عليه لسفه أو فلس ، لاشتراك الجميع في المنع من التصرف ، والله سبحانه العالم.

الثانية : قد صرحوا بأن للمستعير الانتفاع بالعين المعارة بما جرت به العادة في الانتفاع بها نوعا وقدرا وصفة ، وهذا يرجع الى ما تقدم في الفائدة الخامسة من اتحاد جهة الانتفاع ، وعدم تعددها كالبساط الذي جرت العادة بفرشه ، واللحاف الذي اقتضت العادة جعله غطاء ونحو ذلك ، وظاهرهم أنه لو خالف فالتحف بالبساط وفرش اللحاف فإنه لا يجوز له ذلك ، لمخالفة العادة التي هي المتبادرة من العارية هنا.

أما لو كانت وجوه الانتفاعات متعددة فإنه يبنى على ما تقدم من التفصيل ، ولو نقص من العين شي‌ء بالاستعمال أو تلفت من غير تفريط لم يضمن الا أن يشترط الضمان في العارية ، لأن إطلاق الاذن أو تعميمه يقتضي الانتفاع بالعين من غير تقييد بالكثير والقليل ، فما يحصل من النقص والتلف انما استند إلى إذن المعير ، وربما قيل : بضمان المتلف ، لأن الظاهر عدم تناول الاذن للاستعمال المتلف ،


وان كان داخلا في الإطلاق ، ولا يخلو عن قوة.

نعم لو لم يكن الاستعمال متلفا عادة ، وانما حصل التلف اتفاقا ، فما ذكروه جيد والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : لا يحل للمحرم استعارة الصيد من المحرم ، ولا من المحل ، لأنه يحرم عليه إمساكه ، فلو استعاره وجب عليه إرساله ، وضمن للمالك قيمته ، ولو تلف في يده ضمنه أيضا بالقيمة لصاحبه المحل ، وبالجزاء لله تعالى ، بل يضمنه بمجرد الإمساك عليه وان لم يشترط صاحبه الضمان عليه ، فلو دفعه الى صاحبه بري‌ء منه ، وضمن لله تعالى.

أقول : لا ريب فيما ذكره من عدم جواز الاستعارة في الصورة المفروضة لما ذكر من تحريم الإمساك عليه.

بقي الكلام هنا في مواضع : أحدها : انهم قالوا : إذا استعاره بعقد العارية فهل يقع العقد فاسدا أم صحيحا؟ وجه الأول النهي عنه ووجه الثاني أن النهي انما يكون مبطلا في العبادات ، دون المعاملات ، فالبطلان يحتاج الى دليل من خارج ، وكلامهم في هذا المقام حيث عبروا بأنه «لا يحل» كما هنا أو «لا يجوز» كما عبر به غيره ، لا يدل على شي‌ء من الأمرين صريحا لان عدم الحل ، وعدم الجواز أعم من الفساد ، إلا أنك قد عرفت آنفا أنه لا دليل على هذا العقد الذي ذكروه ، فلا أثر لهذا الخلاف.

وثانيها : قوله : فلو استعاره وجب عليه إرساله ، فإنه على إطلاقه مشكل ، بل ينبغي تخصيص ذلك بما إذا كان استعاره من محرم ، أما لو استعاره من محل فإنه يجب رده على المالك ، ويلزم عليه الفداء لله سبحانه خاصة ، وبرء من حق المالك ، وبذلك صرح في آخر العبارة المذكورة.

والظاهر أن مراده هو أن الواجب شرعا هو الإرسال ، وأن قبضه من محل ، وحينئذ يضمن قيمته للمحل ، فلو خالف الواجب ورده الى المالك برئت ذمته من


القيمة للمالك ، وبقي حق الله سبحانه ، ويشكل حينئذ بأنه متى كان الصيد مملوكا كما هو المفروض من قبضه من المحل ، فقد تعارض حق الله سبحانه بوجوب الإرسال ، وحق المالك ، ومن القواعد المقررة عندهم مع التعارض تقديم حق الآدمي على حق الله تعالى ، فالواجب حينئذ بناء على ما قلنا هو رده على المالك ، وضمان حق الله سبحانه ، وأما لو كان المقبوض منه محرما فإنه غير مالك فيتعين الإرسال مع عدم الضمان لمن قبضه منه.

وثالثها : ما ذكره من أنه يضمن بالتلف لصاحبه المحل قيمته ، وان ذكره غيره أيضا ، حيث انهم عدوا ذلك من العواري المضمونة ، وان لم يشترط فيها الضمان ، الا أن فيه اشكالا ، لعدم الوقوف على دليل عليه في المقام ، ولم يصرحوا له هنا بدليل ، ومجرد تحريم الاستعارة لا يدل على الضمان ، سواء قيل : بفساد العقد الذي ادعوه هنا ، أم بصحته ، أما على تقدير الحكم بصحته فلما ذكرناه من عدم الدليل ، والأصل في العارية أن يكون غير مضمونة الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، لما عرفت.

وأما على تقدير الحكم بفساده فلما تقرر من القاعدة المشهورة «ان كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ومالا فلا».

ولو قيل : بأنه يمكن الاستدلال على الضمان بإطلاق النصوص الدالة على أن المحرم إذا أتلف صيدا مملوكا فعليه القيمة لمالكه ، وما نحن فيه كذلك ، قلنا : هذا معارض بالنصوص الصحيحة الدالة على أن العارية غير مضمونة ، الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، وليس تخصيص الثاني بالأول أولى من العكس ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج الى دليل ، هذا كله إذا كان المستعير محرما كما عرفت ، فلو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل فظاهر كلامهم الجواز.

قال في التذكرة : ولو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل ، فان قلنا المحرم يزول ملكه عن الصيد ، فلا قيمة له على المحل ، لأنه أعاره ما ليس ملكا له ،


وعلى المحرم الجزاء لو تلف في يد المحل ، لتعديه بالإعارة فإنه كان يجب عليه الإرسال».

وان قلنا لا يزول صحت الإعارة ، وعلى المحل قيمته لو تلف الصيد عنده ، انتهى.

أقول : لا إشكال في الحكم الثاني ، ولا كلام فيه ، وإنما الكلام في الأول فإنه ان حكم بصحة الإعارة وجوازها كما هو ظاهر العبارة ، وهو صريحة في القواعد والإرشاد ، وبه صرح في الشرائع أيضا ، فإن الإشكال يتطرق اليه من وجوه : أحدها انهم صرحوا بأن من شروط صحة الإعارة كون المعار ملكا للمعير ، وهو هنا منتف لما اعترفوا به من زوال ملكية المحرم عن الصيد ، فكيف تصح الإعارة ويحكم بجوازها.

وثانيها : أن تسليمه للمحل اعانة على الصيد ، وإثبات سلطنة عليه للغير ، وهو محرم على المحرم ، فلا يناسب إثبات الجواز ، ويمكن خدش هذا الوجه بأنه لا منافاة بين تحريمه على المحرم ، والجواز للمحل ، فيحرم الإعارة على المعير من حيث الإحرام ، ويجوز للمستعير من حيث كونه محلا ، ونظائره في الأحكام غير عزيز.

وثالثها : أن تسليمه إذا كان محرما على المحرم حرم قبوله من المحل ، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان المنهي عنه في صريح القرآن ، ولما ذكرنا قوى في المسالك الحكم بتحريم الإعارة في الصورة المذكورة ، وهو جيد لما عرفت.

ويحتمل ضعيفا عدم الحكم بصحة الإعارة في الصورة المذكورة ، واليه يشير قوله في الثانية صحت الإعارة ، فإن ظاهره أنه في صورة الحكم بعدم الملك لا تصح وحينئذ فلا إشكال ، الا أنه خلاف ما صرح به في كتبه ، وصرح به غيره ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : لو استعار مغصوبا فلا يخلو اما أن يكون جاهلا بالغصب ، أو


عالما به ، فعلى الأول : فهل يتخير المالك في الرجوع بالأجرة وأرش النقص ، والقيمة مع التلف على الغاصب ، أو المستعير أو أنه انما يرجع على الغاصب خاصة؟ المشهور الأول ، والوجه فيه ما تقرر في كلامهم من أن كل من ترتب يده على المغصوب ، فان يده يد ضمان عالما كان أو جاهلا ، فيد المستعير هنا يد ضمان ، وقيل : بالثاني ، وبه صرح في الشرائع والقواعد ، ووجه بأن المستعير مغرور يضعف مباشرته ، والسبب الغار أقوى.

وأنت خبير بما في الوجهين المذكورين ، وقد روى في الفقيه (١) قال : «قال على عليه‌السلام : إذا استعيرت عارية بغير اذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن».

ورواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام وأبى إبراهيم عليه‌السلام مثله وظاهر إطلاقه اختصاص الضمان بالمستعير عالما كان أو جاهلا.

ثم انه على تقدير القول المشهور من تخيير المالك لو رجع على المستعير مع جهله كما هو المفروض ، رجع المستعير على الغاصب بما أغرمه المالك لدخوله ، على أن يكون العين والمنفعة غير مضمونة ، هذا كله في العارية الغير المضمونة.

أما لو كانت مضمونة كالذهب والفضة ، فإنه لا يرجع المستعير على الغاصب بالقيمة لو تلفت العارية في يده ، لأن ضمانه إنما هو من حيث العارية ، لا من حيث التعدي.

نعم يرجع بأجرة المنفعة إذا أخذها منه المالك ، وكذلك يرجع بعوض النقصان قبل التلف ، لأن الجميع غير مضمون عليه ، وإنما دخل على ذلك ، ولو رجع المالك على الغاصب لم يرجع الغاصب على المستعير إن لم تكن مضمونة ، والا رجع عليه بما كان يضمنه ، هذا في صورة الجهل.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ وما أورده في الفقيه ليس منسوبا الى على (عليه‌السلام) بل الظاهر انه ذيل رواية إسحاق بن عمار عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) الذي هو ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ح ١.


وأما لو كان عالما بالغصب فإنه يكون ضامنا ، ولا رجوع له على الغاصب ، وللغاصب الرجوع عليه إذا أغرمها المالك.

وبالجملة فإن المستعير هنا غاصب كالذي أعاره ، ومن حكم ترتب الأيدي على المغصوب تخير المالك في الرجوع على أيهما شاء ، ويستقر الضمان على من تلفت العين في يده ، والله سبحانه العالم.

الفصل الثالث في العين المعارة.

وفيه أيضا مسائل الأولى : الضابط في المستعار عند الأصحاب هو أن يكون مما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، وهو يتضمن شيئين بقاء العين مع الانتفاع ، وجواز ذلك الانتفاع ، فكلما يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه ، يصح إعارته ، كالعقارات والدواب ، والثياب ، والأقمشة ، والأمتعة ، والصفر والحلي ، وكلب الصيد والماشية ، والفحل ، وجميع أصناف الحيوانات المنتفع بها كالآدمي والبهائم ، ونحو ذلك.

وفي الصحيح عن محمد بن قيس (١) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى : أن لا يغرمها المعار» الحديث.

وفي رواية وهب (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام قال : من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن ، ومن استعار حرا صغيرا فعيب فهو ضامن».

وحمل الضمان هنا على الاستعارة من غير المالك أو التفريط والتعدي أو اشتراط الضمان. لما علم من عدم ضمان العارية إلا مع الوجوه المذكورة.

فأما ما لا يتم الانتفاع به الا بإتلاف عينه كالأطعمة والأشربة ، فإنه لا يجوز

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٩ وص ٢٣٨ ح ١١.


إعارتها ، لأن المنفعة المطلوبة منها انما تحصل بإتلافها وذهاب عينها والإباحة لم تقع على الإتلاف.

وكذا ما لا يجوز الانتفاع به ، فإنه لا تصح إعارته كأواني الذهب والفضة للأكل والشرب فيها ، ولو استعار كلب الصيد للهو والطرب حرم ، ولو استعاره للصيد المشروع جاز ، والجواري يجوز استعارتها للخدمة ولا يجوز للاستمتاع ، لأن العارية ليست من الأسباب المبيحة للبضع ، والمحللات محصورة في أشياء ليس هذا منها.

وهكذا كل ما له منفعة محللة ومحرمة ، فإنه يجوز الإعارة للأولى دون الثانية ، ولو استعاره للمحرمة قالوا : لم يجز الانتفاع به في المحللة ، والوجه فيه بطلان الإعارة من أصلها.

والظاهر أن التخصيص بالمنافع غالبي ، لما سيأتي ان شاء الله تعالى من اعارة الغنم وهي المنحة والمنافع المأخوذة منها إنما هي أعيان كالصوف والشعر واللبن.

الثانية : قد تقدم في كلام العلامة في التذكرة وبه صرح في غيرها من كتبه ما يدل على جواز التخطي مع الاذن في شي‌ء مخصوص الى ما هو أدون منه ضررا أو مساو له ، وظاهره أنه لا خلاف فيه ، وقد قدمنا ما في ذلك ، وبما ذكرناه أيضا صرح المحقق فقال : ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه ، وقيل : يجوز أن يستبيح ما هو أدون في الضرر ، كما يستعير أرضا للغرس فيزرع ، والأول أشبه واختاره في المسالك أيضا ، قال : وما اختاره المصنف أوجه ، وقوفا مع الإذن ، لأن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه ، خرج منه ما يأذن فيبقى الباقي وكون الأدون أولى بالاذن منه ـ ، فيدخل من باب مفهوم الموافقة ـ ممنوع ، لجواز تعليق غرض المالك بالنوع الخاص ، فالأولوية ممنوعة نعم لو علم انتفاء الغرض في التخصيص توجه جواز التخطي إلى الأقل ، انتهى وهو جيد.

بقي الكلام في أنه لو عدل إلى الأضر مع النهي أو الإطلاق كما هو محل


الاتفاق أو عدل إلى المساوي والأدون مع النهي ، أو الإطلاق بناء على ما اخترناه ، فهل يلزمه الأجرة بمجموع الزرع أو يسقط منها مقدار أجرة المأذون فيه وتثبت الزيادة خاصة إشكال ، ينشأ من أنه قد تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، فان هذا التصرف الذي فعله غير مأذون فيه ، وبموجب ذلك يلزم ثبوت الأجرة كملا ، ومن أنه قد إباحة المنفعة المخصوصة بذلك الفرد الذي أذن فيه ، فلا عوض لها ، فإذا تخطي الى غيرها كان مقدار منفعة ما أبيح له حلالا ، لا عوض فيها ، وإنما العوض للزائد ، وعلى هذا لا يحصل في المساوي والأقل ضررا إلا الإثم خاصة.

والظاهر أن الأول أقوى ، لأن ما أذن فيه المالك لم يستوفه ، وما استوفاه غير مأذون فيه بالكلية ، فتصرفه حينئذ عدوان محض ، وكون المالك أحل له التصرف في ذلك الفرد لا يستلزم اجزاء قدر ما فيه من المنفعة في هذا الفرد الذي تصرف فيه من غير اذن ، فيجعل الضمان في ما زاد عن ذلك ، لأن تلك المنفعة مخصوصة بذلك الفرد المجاز ، لا تعلق لها بهذا الفرد الأخر.

نعم لو كان المأذون فيه داخلا في ضمن الفرد المنهي عنه كما لو أذن له في تحميل الدابة قدرا معينا ، فزاد عليه ، أو أذن له في ركوبها بنفسه فأردف غيره معه ، أمكن إسقاط قدر المأذون فيه ، فلا أجرة عليه من حيث كونه مأذونا ، وانما الأجرة في مقابلة ما زاده ، ومثل ذلك ما لو أذن له في زرع حنطة فزرع حنطة وغيرها.

ونقل عن العلامة أنه فرق بين النهي عن التخطي ، وبين الإطلاق ، فأوجب الأجرة كملا مع النهي ، وأسقط التفاوت مع الإطلاق ، بمعنى أنه لو أمره بزرع الحنطة مثلا ونهى عن غيرها ، فإنه بالمخالفة يضمن الأجرة كملا ، ولو لم ينهه بل أمره بها من غير نهي عن غيرها ، فإنه مع المخالفة إلى غير الحنطة مما هو أضر يعتبر قدر منفعة الحنطة فيسقط من الأجرة ويؤخذ الأجرة على ما زاد.

وهو مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله عنه من جواز المساوي والأقل ضررا


وانما المحرم ما كان أضر.

وأورد عليه في هذا التفصيل بأن الفرق غير واضح لأن التخطي غير مأذون فيه في كل من الفردين المذكورين ، غاية الأمر أنه في صورة النهي جاء المنع من حيث النهي الذي نص عليه المالك ، وفي صورة الإطلاق وعدم النهي جاء المنع من حيث عدم الإذن ، إذ قد علم من الشرع المنع من التصرف في مال الغير بغير اذن المالك ، وهذا لا يوجب اختلاف الحكم والله سبحانه العالم.

الثالثة : المشهور في كلام الأصحاب على وجه لا يظهر فيه خلاف أنه يجوز إعارة الشاة للحلب وهي المسماة عندهم بالمنحة بالكسر قال في المسالك : «وجواز إعارة الشاة لذلك ثابت بالنص على خلاف الأصل ، لأن اللبن المقصود من الإعارة عين لا منفعة ، وعدوا الحكم إلى غير الشاة مما يعد للحلب من الانعام وغيرها.

وفي التذكرة : «يجوز اعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وفي تعدى الحكم عن موضع الوفاق ان كان هو اعارة غير الغنم نظر للبن لعدم الدليل مع وجود المانع ، وهو أن الإعارة مختصة في الأصل بالأعيان ، ليستوفي منها المنافع ، والنص من طرقنا غير واضح ، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة» انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامه من التدافع بين صدره وعجزه ، فان صدره ظاهر في وجود نص من طرقنا بهذا الحكم ، فإنه حكم بثبوته بالنص على خلاف الأصل ومقتضاه كون ذلك النص من طرقنا كما لا يخفى ، ومقتضى كلامه أخيرا وقوله «والنص من طرقنا غير واضح ، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة» كون مستند هذا الحكم إنما هو النص الذي من طرق العامة ، وأنه لا نص من طرقنا ، وهذا هو الحق الواضح ، فإنه لا مستند لهذا الحكم في أخبارنا على الوجه الذي ذكروه.

نعم هنا أخبار قد استند إليها في التذكرة حيث ذهب في الكتاب المذكور الى جواز إعارتها للانتفاع باللبن والصوف ، قال يجوز اعارة الغنم للانتفاع


بلبنها وصوفها وهي المنحة ، وذلك لاقتضاء الحكمة إباحته ، لأن الحاجة تدعو الى ذلك ، والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان كما في استيجار الظئر.

وقد روى العامة عن النبي (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : «المنحة مردودة». والمنحة هي الشاة.

ومن طرق الخاصة ما رواه الحلبي (٢) في الحسن عن مولانا الصادق عليه‌السلام : «في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا في كل شهر ، قال : لا بأس بالدراهم ولست أحب أن يكون بالسمن».

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (٣) «أنه سأل الصادق عليه‌السلام عن رجل دفع الى رجل غنمه للسمن ودراهم معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر ، قال : لا بأس بالدراهم ، فأما السمن فلا أحب ذلك ، الا أن يكون حوالب فلا بأس» ، وإذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى ، انتهى.

أقول : قد قدمنا الكلام على هذه الأخبار ، وبيان ما اشتملت عليه من الحكم المذكور في المسئلة الرابعة من الفصل الحادي عشر من كتاب التجارة (٤).

وظاهر العلامة هنا حملها على العارية ، مع أنه في المختلف بعد أن رد على ابن إدريس في إنكاره هذه المعاملة ، ومنعها حيث أنها ليست بيعا ولا اجارة ، قال : والتحقيق أن هذا ليس ببيع ، وإنما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة ، بل سائغة ولا منع في ذلك ، انتهى.

على أن بعض الأخبار المشار إليها قد اشتمل على البقر أيضا كما قدمنا ثمة وهو لا يقول به ، والظاهر منها أيضا بعد ضم بعضها الى بعض أن المنافع التي يستوفيها الراعي فيها إنما هو في مقابلة رعيها وحفظها وحراستها.

__________________

(١) النهاية : لابن الأثير ج ٤ ص ٣٦٤.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٢٧ ح ٢٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٢٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٠ ح ١ و ٤.

(٤) ج ٢٠ ص ٦٠.


ومما هو ظاهر في ذلك رواية إبراهيم بن ميمون (١) أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام قال : نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها ، وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما؟ فقال : ليس بذلك بأس» الحديث.

وبالجملة فإن حملها على العارية كما ذكره بعيد غاية البعد ، ويؤيد ذلك اتفاق الأخبار المذكورة على الاشتمال على أخذ العوض ، مع أن العارية لا عوض فيها ، ويزيده تأييدا أيضا أن المستفاد من أخبار العارية أن المستعير انما له الانتفاع بالعين فيما يترتب عليها من وجوه الانتفاعات إن كان الاذن عاما ، وأما استيفاء الأعيان منها كاللبن والسمن ونحو ذلك فلم يقم عليه دليل ، وهذه المسئلة إنما أخذها الأصحاب من العامة ، وهذه التسمية بالمنحة إنما هي في حديثهم المروي من طريقهم ، والا فأحاديثنا خالية عن ذلك بالكلية.

وبالجملة فإنه لا مستند لهذا الحكم ظاهرا الا ما يتراءى من دعوى الاتفاق إن تم ، والا فالحجة غير واضحة ، وأما تعليل العلامة لذلك بقوله فيما قدمنا من كلامه باقتضاء الحكمة إباحته فعليل ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قد تقدم أن العارية من العقود الجائزة ، وللمالك الرجوع فيها ، سواء كانت مطلقة أو مقيدة بمدة إلا في بعض المواضع التي تقدم استثنائها وتقدم نقل خلاف ابن الجنيد في الأرض البراح يعيرها للبناء والغرس إذا قيد الإعارة بمدة ، في أنه ليس له الرجوع حتى تنقضي المدة ، فحكم بلزومها من طرف المعير حتى تنقضي المدة ، والمشهور خلافه.

بقي الكلام في أنه لو أذن له في البناء أو الغرس أو الزرع ثم طلب إزالته بعد ذلك ، فظاهر الأصحاب أن له ذلك من حيث جواز الرجوع متى شاء ، ولكن عليه الأرش من حيث الاذن ، وخالف الشيخ في الزرع ، فقال : ليس له المطالبة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٢٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٢٧ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٠ ح ٢.


قبل إدراكه وان دفع الأرش ، لأن له وقتا ينتهي اليه ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك.

والأقرب بناء على قواعدهم في الباب من حيث ان الإعارة من العقود الجائزة هو جواز الرجوع مطلقا ، الا ما قام الدليل على خروجه ، ولا دليل هنا وحديث (١) «الضرر والضرار». لازم من الطرفين ، فلا يمكن الترجيح به ، فيجب الرجوع الى الأصل من تسلط الناس على أموالهم ، مع أنه يمكن الجمع بين الحقين ، واندفاع الضرر من الجانبين ببذل الأرش من المعير.

والمراد بالأرش على ما قالوا : تفاوت ما بين كونه منزوعا من الأرض وثابتا فيها ، قال في التذكرة : ولكنه مخير بين أن يقلعه ويضمن الأرش ، وهو قدر التفاوت بين قيمته مثبتا ومقلوعا الى آخر كلامه ، وهل المراد بكونه ثابتا في تلك الأرض في صورة تقويمه كذلك هو ثبوته مجانا أو بأجرة.

قال في المسالك : كلام الشيخ في المبسوط صريح في الأول ، وهو الظاهر من كلام المصنف والجماعة ، مع احتمال اعتبار الثاني ، والى هذا الاحتمال مال (رحمه‌الله) ، ونقله عن التذكرة في غير هذا الموضع كما يأتي في كلامه.

وعلل الأول بأن وضعه في الأرض لما كان صادرا عن إذن المالك تبرعا اقتضى ذلك بقاؤه تبرعا كذلك ، وإنما صير الى حواز القلع بالأرش جمعا بين الحقين ، فيقوم ثابتا بغير أجرة مراعاة لحق المستعير ، ويقلع مراعاة لحق المعير.

وعلل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا معنى له الا أن تكون منفعة الأرض ملكا لصاحبها ، لا حق لغيره فيها ، وحينئذ فلا يستحق الا بقاء فيها الا برضاه بالأجرة ، وحق المستعير يجبر بالأرش ، كما أن حق المعير يجبر بالقلع ، وبأخذ الأجرة لو اتفقا على إبقائه بها ، قال : وهذا هو الأقوى ، واختاره في التذكرة في غير محله استطرادا.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣ و ٤.


أقول : ومن هذا التعليل يظهر وجه ضعف التعليل الأول ، لأن مبنى التعليل الأول على أن اذن المالك في وضع هذه الأشياء في أرضه اقتضى بقاؤها فيها تبرعا ، وقد رده في التعليل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا يتوجه الا بأن يكون منفعة الأرض لصاحبها لا حق لغيره فيها ، إذ لو كان لغيره حق فيها لم يتوجه جواز الرجوع فيها ، وإذا لم يكن لغيره حق فيها فكيف يتجه ما ذكره في ذلك التعليل من بقائه تبرعا بسبب الأذن في الوضع ، وحينئذ فلا بد في تقويمه باقيا من اعتبار الأجرة ، إذ البقاء إنما يتوجه بها.

وبالجملة : فإن الأذن في الوضع إنما اقتضى صحة التصرف ، وأن لا يكون غصبا ولا موجبا للمؤاخذة والإثم ، وبرجوع المالك في ذلك بعد ذلك لا يستحق البقاء فيها إلا بالأجرة ان تراضيا بها وحينئذ فإذا أريد التقويم بعد الرجوع لأخذ الأرش إنما تقوم باقية بالأجرة حيث أنه لا يستحق البقاء بعد الرجوع بدونها ، وتقوم مقلوعة ، فيؤخذ بالتفاوت بين القيمتين هذا مقتضى كلامه ، وهو جيد بالنظر الى هذه الاعتبارات ، والبناء على هذه التعليلات ، وينبغي أن يعلم أن ثبوت الأرش إنما يكون في صورة اختلاف حالتي القلع والبقاء ، وحيث ينتفي الاختلاف كما في صورة إدراك الزرع وبلوغه ، فإنه متى رجع المالك في تلك الحال فإنه لا أرش.

ولو بذل المعير قيمة البناء أو الغرس أو الزرع لم يجب على المستعير اجابته ، بل له قلعه وإزالته مع أخذ الأرش من المعير ، وكذا لو بذل المستعير قيمة الأرش أو الأجرة لم يجب على المعير إجابته ، لأن كلا منهما مسلط على ملكه ، لا يجوز التصرف فيه الا برضاه.

وخالف الشيخ في الأول فأوجب على المستعير الإجابة إذا بذل المعير قيمة الأشياء المذكورة معللا ذلك بعدم الضرر على المعير ، وقد تقدم نقل كلامه في الفائدة الرابعة من الفصل الأول (١) وضعفه ظاهر ، فان مجرد انتفاء الضرر على

__________________

(١) ص ٤٨١.


المالك غير كاف في جواز تملك ماله بغير رضاه.

والمشهور : أن للمستعير بيع أبنيته وغرسه ولو على غير المالك ، حيث أن الجميع ملك له يتصرف فيه كيف شاء.

وقيل لا يجوز له بيعه على غير المعير لعدم استقرار ملكه برجوع المعير ، وفيه أن عدم استقرار ملكه غير مانع من البيع ، كما يباع المشرف على التلف ، ومستحق القتل قصاصا وحينئذ فإن كان المشترى جاهلا تخير بعد العلم بين الفسخ وعدمه ، وان كان عالما كان حكمه حكم المستعير فيما يترتب على ذلك ، ولو اتفقا جميعا على بيع ملكيهما بثمن واحد صح ، ووزع الثمن عليهما ، فيقسط على أرض مشغولة به على وجه الإجارة ، مستحق القلع بالأرش أو الإبقاء بالأجرة أو التملك بالقيمة مع التراضي ، وعلى ما فيها مستحق القلع على أحد الوجوه فلكل قسط ما يملكه ، هذا.

وقد صرح جملة منهم بأنه ليس للمالك المطالبة بالإزالة إلا بعد دفعه الأرش أولا ، والا فلا يجب اجابته الى ما طلب ، وعلل باحتمال تعذر الرجوع اليه بإفلاس أو غيبة أو نحوهما فيضيع حق المستعير ، ويلزم الضرر عليه بخلاف ما إذا دفع أولا.

ولو قيل : بأنه مع الدفع أولا يمكن أيضا أن يهرب المستعير أيضا ، ويتعذر مباشرته للقلع ، فيرجع الضرر على المعير أيضا.

قلنا : هذا الضرر يمكن دفعه ، بجواز مباشرة الغير لذلك باذن الحاكم الشرعي مع إمكانه ، أولا معه مع تعذره ، فلا ضرر حينئذ والله سبحانه العالم.

الخامسة : قال في التذكرة : يجوز للمعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر ، لأنه جالس على ملكه ، وليس له الانتفاع بشي‌ء من الشجر بثمر ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك ، ولا يضرب وتد في الحائط ، ولا التسقيف عليه وليس للمستعير دخول الأرض للتفرج إلا بإذن المعير ، لأنه تصرف غير مأذون


فيه ، نعم يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمة الجدار وحراسة لملكه عن التلف والضياع ، انتهى.

وعلى هذا المنوال عباراته في سائر كتبه وعبائر غيره في هذا المجال ، والوجه فيه أنه إذا أعاره أرضا للغرس فيها فإنه يجوز لكل منهما دخولها.

أما المعير فإنه المالك لعينها ، فله الدخول في كل وقت شاء وله الاستظلال بالشجر وإن لم يكن ملكه ، لانه جالس في ملكه كما لو جلس في أرض مباحة واتفق له التظليل بشجر غيره ، وانما يمنع من التصرف في الغرس خاصة.

وأما المستعير فلانه يملك الغرس الذي فيها ، فله الدخول لأجل إصلاحه ، والقيام به بسقي ونحوه مما يتوقف عليه حفظه وحراسته وليس له الدخول لغرض آخر غير ما يتعلق بالغرس من التفرج ونحوه ، حيث أن الاستعارة وقعت مخصوصة بالغرس دون غيره.

وظاهرهم أنه لا يجوز له الجلوس والاستظلال حيث أنهم خصوا ذلك بالمعير ، ووجهه ظاهر كما عرفت ، ولم يذكروا ذلك في المستعير ، الا أن الشهيد في اللمعة صرح بجواز ذلك لهما.

وعلله الشارح بالنسبة إلى المستعير بقضاء العادة بذلك ، ومقتضى منعهم المستعير هنا من الدخول للتفرج ، أنه لا يجوز للغير دخول أرض غيره لذلك بطريق الأولى إلا بإذن المالك ، وينبغي أن يستثني من ذلك ما إذا كان المالك صديقا يعلم منه أو يظن الرضاء بذلك ، والله سبحانه العالم.

السادسة : لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا يجوز للمستعير اعارة العين بدون إذن المالك ، والوجه فيه ظاهر لما تقدم ان من شروط الإعارة أن يكون المعير مالكا للمنفعة ، والمستعير ليس كذلك ، ولهذا لا يجوز له أن يؤجر وان كان له استيفاءها من حيث الاذن المترتب على الإعارة.

ويؤيده أن الأصل عصمة مال الغير عن التصرف فيه الا بإذن مالكه ، والإعارة


انما اقتضت تصرف المستعير خاصة ، فيبقى غيره داخلا تحت المنع ، وأيضا فإن الإعارة انما تفيد اباحة الانتفاع ، والمستبيح لا يملك نقل الإباحة إلى غيره ، كالضيف الذي أبيح له الطعام ، فإنه ليس له أن يبيحه الى غيره.

نعم يجوز للمستعير استيفاء المنفعة بنفسه أو وكيله ، وهذا لا يعد إعارة ، لأن النفع المستوفي عائد إلى المستعير لا الى الوكيل ، ولم ينقل الخلاف هنا الا عن بعض العامة.

قال في التذكرة : وقال أبو حنيفة : يجوز للمستعير أن يعيره وهو الوجه الآخر للشافعية ، لأنه يجوز إجارة المستأجر للعين ، فكذا يجوز للمستعير أن يعير لأنه ، تمليك على حسب ما ملك.

والفرق أن المستأجر يملك بعقد الإجارة الانتفاع على كل وجه ، فلهذا ملك أن يملكها ، وأما في العارية فإنه ملك المنفعة على وجه ما أذن له ، فلا يستوفيه غيره فافترقا ، انتهى.

والأظهر في التعبير عن بيان الفرق أن مقتضى الإجارة تمليك المنفعة ، ورفع يد المالك عنها ومقتضى العارية إباحتها خاصة ، مع تسلط المالك عليها بالرجوع وان كان كلامه يرجع الى ذلك ، وبذلك يظهر أن ما ذكره أبو حنيفة ومن تبعه قياس مع الفارق.

بقي الكلام في أنه لو خالف المستعير فأعار غيره فالظاهر أنه لا خلاف في أن للمالك الرجوع في العارية الثانية بأجرة المثل ، وبدل العين لو تلفت على من شاء منهما ، لكن لو رجع على المعير لم يرجع على المستعير إذا كان جاهلا بالحال ، فإنه مغرور ، وقد سلطه عليه بغير عوض ، الا أن يكون العارية مضمونة فيرجع عليه من هذه الحيثية ببدل العين خاصة لو تلفت كما هو حكم العواري المضمونة ، ولو كان عالما استقر الضمان عليه كالغاصب.

وقال في التذكرة : وان رجع على المعير بأجرة المثل كان له الرجوع على المستعير العالم ، وفي الجاهل اشكال ، وكذا العين ، ونحوه في القواعد ،


والظاهر أن وجه الاشكال ـ كما ذكره بعض شراح القواعد ـ ينشأ مما تقدم مما يدل على عدم الرجوع ومن أنه قد استوفى المنافع ، فيرجع عليه.

وأنت خبير بأن الموافق لقواعدهم انما هو عدم الرجوع لما عرفت من الوجه المتقدم ، ومجرد استيفاء المنافع مع تسليطه عليها مجانا لا يوجب الرجوع عليه ولو رجع على المستعير قال في المسالك : رجع على المعير بما لا يرجع عليه به ، لو رجع عليه ، لغروره.

وهو ظاهر في رجوعه عليه بأجرة المثل وبدل العين مع فقدها ، وهي التي لا يرجع بها المعير على المستعير مع الجهل ، فإنه يرجع بها المستعير هنا على المعير ، لأنه قد غره بإعارته له وهو جاهل ، وتصرف فيه بناء على أن ذلك مجانا ، فلما رجع عليه المالك وأغرمه استحق الرجوع على من أعاره وغره.

وقال في التذكرة : فإن رجع على المستعير لم يرجع المستعير على المعير وان كان جاهلا على اشكال.

وأنت خبير بأن الموافق لقواعدهم انما هو ما ذكره في المسالك ، فان هذه المسئلة من جزئيات مسئلة من استعار من الغاصب ، والمعير هنا بإعارته بدون اذن المالك غاصب ، فيترتب على إعارته ما يترتب على اعارة الغاصب.

وما ذكره في المسالك هو مقتضى ما فصلوه في اعارة الغاصب كما تقدم ذكره في المسئلة الرابعة من الفصل الثاني (١).

السابعة : لو أذن له في غرس شجرة فانقلعت ، فهل يجوز له أن يغرس غيرها استصحابا للإذن الأول؟ قيل : نعم لما ذكر ، فإن الإذن قائم ما لم يرجع المعير.

وقيل : بعدم الجواز لأن الاذن انما وقع في ذلك الأول لا في غيره ، فقوله ان الاذن قائم مطلقا ممنوع ، ومثله الزرع والبناء ووضع الجذع ، الا أنه قال في التذكرة : لو انقلع الفصيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد ، أو سقط الجذع كذلك ، وقصر الزمان جدا فالأولى أن يعيده بغير تجديد الاذن ، انتهى.

__________________

(١) ص ٤٨٨.


الفصل الرابع فيما يلحق ذلك من الأحكام في المقام.

وفيه أيضا مسائل الاولى : لا خلاف بين الأصحاب في أن العارية أمانة في يد المستعير ، لا تستعقب الضمان إلا في مواضع مخصوصة يأتي التنبيه عليها إنشاء الله تعالى ، فلو تلفت في يد المستعير بغير تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه ، سواء كان التلف بآفة سماوية أو أرضية.

وبذلك تكاثرت الأخبار فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها الا أن يكون قد اشترط عليه». وزاد في الكافي قال : وفي حديث آخر «إذا كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان».

وعن عبد الله بن سنان (٢) في الصحيح قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تضمن العارية الا أن يكون قد اشترط فيها ضمانا الا الدنانير فإنها مضمونة وان لم يشترط فيها ضمان».

وعن زرارة (٣) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام العارية مضمونة؟ قال : فقال : جميع ما استعرته فتوى ، فلا يلزمك تواه ، الا الذهب والفضة ، فإنهما يلزمان الا أن يشترط عليه أنه متى توى لم يلزمك تواه ، وكذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك يلزمك ، والذهب والفضة لازم لك وان لم يشترط عليك».

وروى المشايخ الثلاثة بأسانيدهم وفيها الصحيح عن محمد بن مسلم (٤) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق قال : فقال : إذا كان أمينا فلا عزم عليه».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ١ و ٢.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٩ ح ١ التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ٧ و ٩.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ ح ٢ التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٧.


وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العارية؟ فقال : لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا».

وروى الشيخ عن الحلبي (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وقال : ليس على المستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن».

وعن عبد الملك بن عمرو (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس على صاحب العارية ضمان الا أن يشترط صاحبها الا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط».

وعن إسحاق بن عمار (٤) في الموثق عن أبي عبد الله وأبي إبراهيم عليهما‌السلام «قالا : العارية ليس على مستعيرها ضمان ، الا ما كان من ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترط أو لم يشترط».

ورواه في الفقيه بإسناده عن إسحاق بن عمار أيضا وعن محمد بن قيس (٥) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى عليه‌السلام أن لا يغرمها المعار ، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة».

وعن مسعدة بن زياد (٦) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : «سمعته يقول لا عزم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا».

وأما ما رواه الشيخ عن وهب (٧) عن جعفر عن أبيه أن عليا عليه‌السلام كان يقول :

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ٣ وص٢٣٧ ح ٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ح ٣ و ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٩٢ ح ١ ..

(٥) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ٩.

(٦ و ٧) التهذيب ج ٧ ص ١٨٤ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٧ ح ١٠ وص ٢٣٨ ح ١١.


من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن». فلا يخفى ما في حال رواية من الضعف ، فلا يبلغ قوة في معارضة ما ذكرناه من الأخبار ، وحملها الشيخ على من استعار بغير إذن المالك ، وجوز حمله على من فرط ، وعلى من شرط عليه الضمان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق الكلام في المقام يقع في موارد ، الأول : المفهوم من كلام الأصحاب ان العارية تضمن في مواضع ، فهي عندهم مستثناة من القاعدة المتقدمة ، الأول اشتراط الضمان ، وهو متفق عليه نصا وفتوى ، وقد تقدم في صحيح الحلبي أو حسنته الدلالة على ذلك ، ومثله صحيح عبد الله بن سنان ، وصحيح زرارة.

الثاني : الذهب والفضة وعليه تدل جملة من الأخبار المذكورة ، وسيأتي في الموضع الثاني تحقيق الكلام في ذلك.

الثالث : التعدي والتفريط ، وعليه قوله في صحيح محمد بن قيس المتقدم ، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة ، وأيضا فإن معنى عدم ضمان الأمانة في كل موضع ذكروه ليس إلا من حيث التلف مع عدم التعدي والتفريط ، فاستثنائه في الحقيقة مستغنى عنه.

الرابع : العارية من غير المالك ، ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام وأبى إبراهيم عليه‌السلام قال إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها ، فهلكت فالمستعير ضامن».

وهذا الموضع في الحقيقة كسابقه ، لأن هذه كما تقدم تحقيقه ليست بعارية ، وان عبر عنها بذلك ، فان اعارة الثاني لها غصب ، فهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى صورة التعدي والتفريط ، لتعدي المعير الثاني في إعارته بغير إذن المالك ،

الخامس : ما تقدم من عارية الصيد للمحرم ، وقد تقدم ما فيه من الإشكال بالنسبة إلى حق المالك في المسئلة الثالثة ، من الفصل الثاني وأما بالنسبة إلى حق

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٣ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٠ ذيل حديث ١.


الله تعالى فلا اشكال فيه.

السادس : ما نقل عن ابن الجنيد من حكمه بضمان الحيوان قال على ما نقله عنه في المختلف ، وليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كان السلعة متاعا الا أن يتعدى ، وما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك ، إلا أن يشترط المالك سقوط الضمان عنه.

ونقل في المختلف عنه الاستدلال بقوله (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وبرواية وهب (٢) ولا يخفى ما في دليله المذكور من الوهن والقصور مع تظافر الأخبار كما عرفت بالعدم ، مضافا الى الأصل ومما ذكرنا علم أن الاستثناء في التحقيق انما يتجه في المواضع الثلاثة الأول ، بل في الموضعين الأولين خاصة ، لما عرفت في الثالث من عدم الحاجة الى استثنائه ، وأن ذلك ظاهر من حكمهم بعدم ضمان الأمانة.

وقسم في المسالك العارية بالنسبة إلى الضمان وعدمه مع الشرط وعدمه إلى أقسام أربعة : أحدها : ما يضمن ، وان اشترط عدم الضمان ، وعد من ذلك صورة التعدي والتفريط ، والصورتين التاليتين لها ، ثم قال : ويحتمل قويا سقوطه في الأول ، لأنه في قوة اذن المالك له في الإتلاف مجانا ، فلا يستعقب الضمان.

وأما الأخيرتان فالأمر فيهما واضح ، لأن إسقاط غير المالك الضمان لمال المعير لا عبرة به ، وكذلك إسقاط الضمان عن المحرم ، لانه ثابت عليه من عند الله سبحانه ، باعتبار كونه صيدا لا باعتبار كونه مملوكا.

أقول : ما احتمله في الصورة الأولى من هذه الثلاث وقواه جيد ، بل الظاهر أنه متعين.

وأما الأخيرتان فقد عرفت أنهما ليستا من باب العارية التي هي موضوع

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١٧ الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٨ ح ١١.


الكتاب ، ومحل البحث فيه ، وان تجوزوا فيهما بإطلاق هذا اللفظ فاطلاقهما وإدخالهما في التقسيم لا يخلو من اشكال.

وثانيها : ما لا يكون مضمونا وان اشترط الضمان ، وهو استعارة المحل للصيد من المحرم ، قال : وقد تقدم تسمية المصنف له استعارة.

أقول : هذا أيضا مبني على القول بصحة الإعارة في الصورة المذكورة ، كما هو ظاهر جمع ممن قدمنا ذكره ، والتحقيق هو البطلان كما تقدم بيان وجهه فلا ثمرة لعده هنا ، بناء على ما هو التحقيق في المسئلة.

وثالثها : ما يكون مضمونا إلا أن يشترط عدم الضمان وهو استعارة الذهب والفضة أقول : ويضاف إليهما الحيوان بناء على مذهب ابن الجنيد ، وإن كان قد عرفت ضعفه.

ورابعها : ما لا يكون مضمونا الا أن يشترط الضمان ، وهو باقي أقسامها.

أقول : وبما ذكرنا خلال كلامه ظهر أنه لا شي‌ء من العارية يكون مضمونا الا أن يفرط ويتعدي فيه ، أو يشترط فيه الضمان ، الا الذهب والفضة ، فإنهما مضمونان اشترط أو لم يشترط ، وهذا هو مقتضى الأخبار التي قدمناها ، والله سبحانه العالم.

المورد الثاني لا خلاف ولا اشكال بين الأصحاب في ضمان عارية الدراهم والدنانير من غير شرط ، لما تقدم من الأخبار المشتملة جملة منها على الذهب والفضة وبعض على الدنانير والدراهم.

وانما الخلاف والاشكال في غيرهما من الذهب والفضة ، كالحلي المصوغ والسبائك ونحوهما ، ومنشأ الخلاف من حيث اشتمال بعض الاخبار على الذهب والفضة بقول مطلق ، واشتمال بعض على خصوص الدراهم والدنانير ، فمن ذهب الى العموم نظر الى الاخبار الدالة على استثناءهما من عموم عدم الضمان في العارية ، وان تخصيص الدراهم والدنانير بالذكر في بعض آخر ، انما هو من


حيث كونهما أحد أفراد الذهب والفضة ، ولا منافاة بينهما ، ومن ذهب الى التخصيص بالدراهم والدنانير نظر الى أن ما دل على الذهب والفضة مطلق ، وما دل على الدراهم والدنانير مقيد ، ومقتضى القاعدة العمل بالمقيد ، وتقييد المطلق به.

وأيده بعضهم بأن منفعة الدراهم والدنانير منحصرة في الإتلاف ، فكانت مضمونة بالإعارة ، وأما غيرهما من المصوغ فان له منفعة مع بقاء عينه ، وهي التجمل ونحوه ، ومن أجل ذلك توقف في المسئلة جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة ، وهو في محله لما عرفت من تعارض احتمال الجمع بين روايات المسئلة ، الا أنه يمكن أن يقال أن نصوص هذه المسئلة على أقسام ثلاثة :

منها ما هو مطلق في عدم الضمان من غير تقييد ، كحسنة الحلبي (١) وصحيحة محمد بن مسلم (٢) وصحيحة عبد الله بن سنان (٣) وصحيحة الحلبي (٤) ورواية مسعدة بن صدقة (٥) فان الجمع مشترك الدلالة في عدم الضمان في العارية من غير فرق بين كونها ذهبا أو فضة أو غيرهما.

ومنها ما دل على استثناء الذهب والفضة من هذا الحكم ، وأنه يضمن الا مع اشتراط العدم ، وهو صحيح زرارة (٦) وموثق إسحاق بن عمار (٧).

ومنها ما دل على استثناء الدراهم والدنانير وهو خبر عبد الملك بن عمرو (٨) ، حيث ورد باستثناء الأول ، وصحيح عبد الله بن سنان (٩) حيث ورد باستثناء الثاني ، والاستثناء في جميع هذه الاخبار انما وقع من العموم الذي دلت عليه أخبار القسم الأول.

وحينئذ فيجب إخراج الدراهم والدنانير واستثناءهما على كل حال من ذلك العموم ، لتصريح بعض الأخبار بهما بخصوصها ودخولهما في الذهب والفضة اللذين اشتمل عليهما البعض الآخر ، بقي العموم فيما عداهما مع معارضته بمطلق

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٦ ح ١ و ٣ وص ٢٣٧ ح ٧ و ٦ و ١٠ والراوي هو مسعدة بن زياد كما تقدم.

(٦ و ٧ و ٨ و ٩) الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٩ ح ٢ وص ٢٤٠ ح ٤ و ٣ ص ٢٣٩ ح ١.


الذهب والفضة ، ومقتضى القاعدة تخصيص العموم بهما ، فيجب استثناءهما من العموم المذكور ، والقول بالضمان فيهما اشترط أو لم يشترط الا مع اشتراط العدم.

وأما ما ذكره القائل بالتخصيص من أن الذهب والفضة مطلق ، والدراهم والدنانير مقيد ، فيجب تقييدهما بذلك ، ففيه أنه لا تعارض بين أخبار الذهب والفضة ، وبين أخبار الدراهم والدنانير ليجب ارتكاب الجمع بينهما بتقييد المطلق منهما بالمقيد ، وانما كل من هذين الفردين قد وقع مستثنى من العموم الأول ، ومخصصا له ، فأخرجنا الدراهم والدنانير من ذلك العموم ، لاتفاق الأخبار على استثناء هما كما عرفت وبقي الكلام فيما عدا أخبار الدراهم والدنانير وقد عرفت وجه الجمع فيه.

وبالجملة فإن العموم الذي دلت عليه أخبار القسم الأول قد خصص بمخصصين ، أحدهما أعم من الآخر ، فيجب أن يخص ذلك العام بكل منهما ، أو يقيد مطلقه بكل منهما ، ولا منافاة بين ذينك المخصصين ، على أن أحدهما يخصص الآخر أو يقيده ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر.

وأما التعليل بأن الدراهم والدنانير تنحصر منفعتهما في الإتلاف ، فكانت مضمونة بخلاف غيرهما : ففيه أولا أن هذه العلة لا أثر لها في النصوص ، فهي مستنبطة ، وثانيا الانتقاض بالنقاد والسبائك ونحوهما مما لا يترتب عليه أثر بالتجمل والتزين الذي ذكروه في المصوغ ، على أن ظاهر كلام المبسوط والخلاف أن للدراهم والدنانير منفعة غير الإتلاف كما سيأتي إنشاء الله في كتاب الإجارة.

وأما ما تكلفه صاحب الكفاية في هذا المقام ، وزعم به عدم ثبوت الضمان في الذهب والفضة ، فلا يخفى ما فيه ، وحاصل كلامه أنه قد وقع التعارض بين المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير ، وحاصله أنه لا ضمان في غير الدراهم والدنانير ، فهو يدل على عدم الضمان في الذهب والفضة ، وبين المستثنى في خبر الذهب والفضة ، وحاصله أنه لا ضمان في غير الذهب والفضة ، فهو يدل على الضمان


فيهما ، والنسبة بين الموضعين العموم من وجه الى آخر كلامه.

وفيه أنه إن سمى هذا تعارضا يحتاج الى الجمع فإنه وارد عليه في الدراهم والدنانير ، فإنه لم يقع استثناءهما في محل واحد بل دل صحيح عبد الله بن سنان على استثناء الدنانير خاصة. وحاصله أنه لا ضمان في العارية الا أن يكون دنانير ، وبموجبه أنه لا ضمان في الدراهم ، ودل خبر عبد الملك بن عمرو على استثناء الدراهم خاصة ، وحاصله أنه لا ضمان في العارية الا أن يكون دراهم وهو ظاهر في عدم الضمان في الدنانير ، فيجري فيه ما أورده ثمة ، والتعارض بين المستثنى منه في كل من الخبرين ظاهر ، ولا نراه تكلفا للجمع بينهما هنا ، مع ظهور التعارض كما عرفت ، بل عمل بالخبرين ، وخصص بهما عموم الأخبار الدالة على أنه لا ضمان في العارية ، وما نحن فيه من أخبار الذهب والفضة مع أخبار الدراهم والدنانير كذلك ، حيثما شرحناه.

وبما أوضحناه يظهر قوة القول باستثناء الذهب والفضة ، ووجوب ضمانهما ، والله سبحانه العالم.

المورد الثالث : ظاهر جملة من الاخبار المتقدمة أنه يقبل قول المستعير لو ادعى التلف بغير يمين ، وفتوى الأصحاب على خلاف ذلك ، حيث انهم صرحوا بأنه إنما يقبل قوله بيمينه ، ونقل في التهذيب عن ابن بابويه (١) أنه قال : مضى مشايخنا (رحمة الله عليهم) على أن قول المودع مقبول ، وأنه مؤتمن ولا يمين عليه.

وقد روى (٢) أن رجلا قال للصادق عليه‌السلام : بأني ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده ، فخانني وأنكر مالي فقال : لم يخنك الأمين ، وإنما ائتمنت الخائن. انتهى.

وظاهر هذا الكلام يدل على أنه في كل موضع يحكم بكون المال أمانة فلا يمين على من هو بيده لو ادعى تلفه أو أنكره ، ويدخل فيه العارية والوديعة

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٨١ في ذيل ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٦.


والقراض ونحوها مما حكم بكون المال فيه أمانة ، مع أن صريح كلام الأصحاب في هذه الأبواب كما صرحوا به في غير كتاب ـ هو أنه لا يقبل قول أحد من هؤلاء إلا مع اليمين ، ولم أقف في الأخبار الواردة في هذه الأبواب على ما يدل على ما ادعوه ، بل ظاهرها إنما هو قبول قولهم بغير يمين.

وقد تقدم في كتاب الوديعة جملة من الأخبار الدالة على ما قلناه ، ومثلها الأخبار الواردة هنا في العارية ، فإن ظاهرها أنه متى كان المستودع أو المستعير مأمونا فلا ضمان عليه ، بمعنى أنه يقبل قوله بمجرد دعواه التلف ، أو الإنكار ، فإن قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : «إذا كان أمينا فلا غرم عليه» ، ظاهر فيما ذكرناه.

لا يقال أن العارية إنما تضمن باشتراط لضمان ، وبدونه لا ضمان ، فلا غرم فيها لأنا نقول : نعم إذا علم المالك بالتلف ووافق عليه فلا ضمان هنا الا مع الشرط وأما مع عدم ذلك بل ادعائه بقاء العين أو التفريط فيها فالذي صرحوا به أنه لا يقبل قوله إلا باليمين ، وهذا محل البحث في المسئلة ، فان ظاهر هذا الخبر كما ترى أنه متى كان المستعير أمينا فلا عزم عليه وهو ظاهر في قبول قوله من غير يمين.

قال شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في حواشيه على هذا الخبر : يمكن أن يكون المراد بالأمين من لم يفرط في حفظها أو المعنى أنه لما كان أمينا فلا غرم عليه ، وبالجملة لو لا الإجماع لكان القول بالتفصيل قويا ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن ارتكاب التأويل في الخبر فرع المعارض ، وليس إلا الإجماع الذي أشار اليه ، وهو لا تصلح للمعارضة لما ذكره هو وغيره من المحققين في هذه الإجماعات ، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق (رحمه‌الله) في المسئلة ، مع جماعة من مشايخه الذين نقل عنهم ذلك.

ومثله الشيخ في النهاية كما قدمنا نقله عنه في كتاب الوديعة وغيرهم ممن


تقدم ذكره ، فالإجماع غير ثابت لو سلم حجيته.

على أن ما ذكره من التأويل بحمل الأمين على من لم يفرط في حفظها بعيد جدا ، لعدم جريانه في ما إذا ادعى المالك عليه التفريط مع عدم العلم بعدم التفريط ، الا من قبل المستعير ، ولأنه تخصيص لمعنى الأمين ، والعدل ، من غير مخصص ، بل استعمالهما في غير معناهما المتبادر لغة وشرعا ، بل المستفاد من الخبر انما هو المعنى الثاني الذي ذكره ، ونحو الخبر المذكور قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة «لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا» ، والمرسلة (١) التي نقلها في الكافي عقيب حسنة الحلبي ، وكتب شيخنا المتقدم ذكره في حاشيته ، على هذه المرسلة أيضا ما صورته ، ربما يحمل الخبر على أنه إذا كان مسلما عدلا ينبغي أن لا يكلفه المعير اليمين ، فيلزمه بنكوله الضمان. أو يحمل العدل على من لم يقصر ولم يفرط ، وهما بعيدان ، والمسئلة في غاية الإشكال ، انتهى.

أقول : ما استبعده من الاحتمالين في محله ، فان ظاهر الخبر المذكور هو قبول قول المستعير متى كان كذلك من غير يمين ، لأنه مع التكليف باليمين والنكول عنها يلزمه الضمان كما هو مقتضى القواعد ، مع أن الحديث مصرح بنفي الضمان مطلقا ، وتفسير نفي الضمان بمعنى أن الأولى للمعير أن لا يكلفه باليمين تعسف صرف ، وكذا حمل العدل على المعنى الذي اعترف ببعده.

وأما قوله أن المسئلة في غاية الإشكال ، ففيه ما عرفت مما شرحناه بحمد الله تعالى الملك المستعان من أنه لا اشكال بعد دلالة الأخبار على ما ذكرناه من أخبار هذا الباب وغيره كما تقدم ، وسيأتي إنشاء الله تعالى.

وعدم وجود خبر يدل على ما ادعوه وليس إلا مجرد الشهرة التي سموها إجماعا لما عرفت من وجود المخالف ، ومن ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في رواية مسعدة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٨ في ذيل ح ١.


بن زياد المتقدمة لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا.

وسيأتي إنشاء الله تعالى في كتاب الإجارة جملة من الأخبار الدالة على صحة ما ادعيناه زيادة على ما ذكرناه هنا وما تقدم في كتاب الوديعة.

المسئلة الثانية : قالوا : إذا رد العارية إلى المالك أو وكيله برء ، وإذا ردها الى الحرز لم يبرء ، ولو استغار الدابة إلى مسافة فجاوز بها ضمن ، ولو أعادها إلى الأولى لم يبرء.

أقول : قد اشتمل هذا الكلام على ثلاثة من الأحكام ، أما الأول منها وهو برأيه المستعير من العارية متى ردها على المالك أو وكيله ، فظاهر لا ريب فيه.

وأما الثاني وهو عدم البراءة بالرد الى الحرز كالدابة إلى الإصطبل مثلا ، فالوجه فيه الخبر الدال (١) «على أن على اليد ما أخذت حتى تؤدي». فإن المراد من الأداء في الخبر هو الدفع الى المالك أو وكيله ، لا مجرد ردها في داره أو اصطبله ، بل مقتضى القاعدة أن تكون مضمونة عليه بعد ذلك ، وان لم تكن مضمونة أولا لتفريطه في وضعها في موضع لم يأذن له المالك فيه ، إذ لو تلفت بعد وضعها في الموضع المذكور وقبل أن يتسلمها المالك لزمه ضمانها ، لما قلناه ، وهذا لا خلاف فيه عندنا.

وانما نقل فيه الخلاف عن أبي حنيفة قال : في التذكرة إذا رد المستعير العارية إلى مالكها أو وكيله برء من ضمانها ، وان ردها الى ملك مالكها بأن حمل الدابة إلى إصطبل المالك فأرسلها فيه ، أو ردها الى الدار لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي ، بل عندنا أن لم تكن العارية مضمونة فإنها تصير بهذا الرد مضمونة لأنه لم يدفعها الى مالكها ، بل فرط بوضعها في موضع لم يأذن له المالك بالرد اليه ، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها ، فتلفت قبل أن يتسلمها المالك ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


لأنه لم يردها الى صاحبها ، ولا من ينوب منابه ، فلم يحصل الرد ، كما لو ردها إلى أجنبي.

وقال أبو حنيفة ، إذا ردها الى ملك المالك صارت كأنها مقبوضة لأن رد العواري في العادة إلى أملاك أصحابها ، فيكون مأذونا فيه من طريق العادة وهو غلط ، لأنه يبطل بالسارق إذا رد المسروق الى الحرز ولا تعرف العادة التي ذكرها فيبطل ما قاله ، انتهى وهو جيد.

وأما الثالث وهو ما لو استعار الدابة إلى مسافة مخصوصة فتجاوزها ، فان الوجه في الضمان هنا أنه قد تعدى في العارية من وقت المجاوزة ، فكان ضامنا لها الى أن يردها الى المالك هذا بالنسبة إلى ضمان العين لو تلفت فأما ضمان المنفعة وهو أجرة الدابة فعندهم أنه يثبت في المسافة المتجاوز بها عن موضع الاذن ذهابا وإيابا الى أن يرجع الى الموضع المأذون فيه ، لأنه في هذه المدة غاصب. ولا تبطل الإعارة بذلك ، فيكون تصرفه فيها بعد رجوعه الى المكان المأذون فيه الى أن يردها على المالك ، جائزا لدخوله في الإعارة ، فإنه مأذون فيه ، وانما حصل التعدي الموجب للأجرة في تلك المدة المتوسطة ، وان كان أصل العين مضمونة بذلك التعدي الى أن ترد على المالك.

ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أنه يضمن الأجرة أيضا كالعين الى أن يردها على المالك ، محتجا بأن ذلك الاذن قد انقطع بالمجاوزة ، ثم رده بأنه ممنوع.

أقول : حيث انه سابقا قبل هذا الكلام قال : وهل يلزمه الأجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان الى أن يرجع الى البلد الذي استعار منه الأقرب العدم لأنه مأذون فيه من جهة المالك ، وهو أحد وجهي الشافعية.

والثاني اللزوم ثم نقل القول الذي ذكرناه ورده هنا بالمنع من انقطاع الاذن بالمجاوزة.

وأنت خبير بأن المعير انما أذن في تلك المسافة المعينة ذهابا وإيابا


وهو بتجاوزه عن المسافة الى ما زاد عليها قد حكموا عليه بضمان العين من حيث التعدي والتفريط ، الى أن ترد سالمة على المالك ، وظاهر ذلك هو زوال العارية بهذا التعدي ، حيث أن المفروض أنها غير مضمونة وانما حصل الضمان بهذا التعدي الموجب للخروج عن كونها عارية ، وحينئذ فكما أثر هذا التعدي في زوال العارية بالنسبة إلى ضمان العين ، فلم لا يكون كذلك بالنسبة إلى ضمان المنفعة ، لأن مقتضى العارية العدم ، فلا وجه لحكمهم هنا بضمان المنفعة في خصوص موضع التعدي إذ التعدي إن كان موجبا للخروج عن العارية ، فينبغي أن يكون بالنسبة إلى ضمان العين ، وضمان المنفعة ، والا فلا وجه للفرق بأن يكون ضمان العين مستمرا الى الرجوع الى المالك.

وضمان المنفعة ينقطع بالرجوع الى محل التجاوز عن موضع الاذن ، سيما أنهم صرحوا كما قدمنا ذكره بأنه في صورة ضمان المنفعة بأنه لا تبطل الإعارة ، وان كان عاصيا في تلك المدة المتوسطة ، فلم لا يقال بذلك أيضا في صورة ضمان العين بأن الإعارة باقية ، ومقتضيها عدم ضمان العين إلا في المدة التي تجاوز عنها حتى يرجع إليها ، لا أنه يستمر الضمان الى الرد على المالك.

وكما أن الرجوع من محل التجاوز الى بلد الإعارة مأذون فيه ، كما ذكروه بالنسبة إلى ضمان الأجرة ، فلا أجرة عليه في ذلك كذلك ، من حيث أنه مأذون فيه ، لا ضمان للعين أيضا ، والغصب إن أثر الضمان الى الرجوع الى المالك ففي الحالين ، وإلا فلا.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه واضح في ما ذكروه من الفرق ، والمسئلة خالية من النص ، وتعليلاتهم كما ترى ، هذا كله إذا كانت العارية غير مضمونة.

أما لو كانت مضمونة كان شرط الضمان في العارية أو قلنا بضمان العواري ، فان الدابة المذكورة تكون مضمونة إلى نهاية موضع الاذن ضمان عارية ، ولا أجرة عليه ، لأنه مأذون له في التصرف فيها ، فإذا تجاوز موضع الاذن ضمنها ضمان الغصب ، ووجب عليه أجرة منافعها إلى أن يعود إلى المكان المأذون فيه ،


ومنه إلى الرجوع إلى المالك وردها عليه يضمن ضمان العارية هذا مقتضى تقريرهم في المقام ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : إذا حمل السيل حبا لرجل أو نوى أو جوزة أو نحو ذلك فثبت في أرض غيره بغير علمه قال في المبسوط : من الناس من يقول لا يجبر على قلعه ، لأنه غير متعد فيه فهو كالمستعير ، ومنهم من قال : يجبر على قلعه من غير أرش ، لأنه لم يأذن له في ذلك وهذا أقرب إلى للصواب.

وقال ابن البراج : لا يجوز لصاحب الأرض مطالبته بقلعه ، لأنه لم يتعد في ذلك ، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما قاله الشيخ ، لأن الأرض لمالكها فله الانتفاع بها على أي وجه ، وتفريغها من مال الغير الحاصل فيها بغير إذن ، ولأن الناس مسلطون على أموالهم وعدم الإثم والتعدي لا يقتضي منع المالك عن التسلط على ملكه ، انتهى.

وبنحو ذلك صرح في التذكرة : فقال : إن لصاحب الأرض قلعه ، وإن امتنع صاحب الزرع أجبر عليه ، وبذلك صرح في الشرائع ، والظاهر أنه هو المشهور بين المتأخرين وهو الأوفق بالأصول والقواعد الشرعية ، وما ذهب اليه ابن البراج ضعيف لا يعول عليه.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول : لو أعرض المالك عنه وإن كان كثيرا فإنه يتخير صاحب الأرض بين قلعه وبين تملكه ، ويكون من قبيل السنبل والثمار التي يعرض عنها ملاكها الا أن للمالك الرجوع فيها ما دامت العين باقية.

وظاهر التذكرة هنا أنه لا يجبر المالك على نقله ، ولا على أجرة الأرض ولا غير ذلك لأنه حصل بغير تفريط ولا عدوان ، فكان الخيار لصاحب الأرض المشغول به ، إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه.

الثاني : لو لم يعرض عنه المالك وبقي حتى ظهر له ثمر فان ثمره ونمائه لمالكه ، وعليه أجرة الأرض للمدة التي كان باقيا فيها ، إن طالبه صاحب الأرض


بقلعه ، لأنه في هذه الحال غاصب ، وإن لم يطالبه فلا أجرة على الأقرب ، لأنه لم يقصر في القلع حيث لم يطلب منه ، ولا حصل في الأرض بفعله ليكون متعديا.

الثالث : إذا قلعه المالك وجب عليه تسوية الأرض وطم الحفر لأنها حدثت بفعله لتخليص ماله من ملك صاحب الأرض ولصاحب الأرض إجباره لو امتنع من ذلك.

الرابع : لو امتنع المالك من القلع جاز لصاحب الأرض إجباره ، وإلا نزعه منها ، كما لو سرت أغصان شجرة جاره الى ملكه وداره.

الخامس : قال في المسالك : لو اشتبه المالك في قوم منحصرين وجب عليهم أجمع التخلص بالصلح أو التمليك ونحوه ، ويجب على مالك الأرض أيضا مراجعتهم في ما يراجع فيه المالك المعين ولو لم ينحصر المالك كان بمنزلة اللقطة يجوز تملكه إن كان دون الدرهم حين التملك ، ولو تركه من غير نية التملك حتى بلغ وجب تعريفه كاللقطة ، ويحتمل كونه كمال مجهول المالك ، في جواز التصدق به عنه من غير تعريف ، انتهى.

السادس : قالوا : لو حمل السيل أرضا بشجرها فثبتت في ملك الغير فتلك الأرض وما فيها لمالكها ويجبر على إزالتها كما تقدم.

الرابعة : لا إشكال في الضمان مع اشتراطه كما تقدم في الأخبار فإن اختص الضمان بالتلف ضمن العين خاصة ، وإن اختص بالنقصان ضمنه خاصة ، وإن كانا معا ضمنهما معا.

وانما الكلام والاشكال في ما لو أطلق ، فعلى هذا لو أطلق ولم يعين شيئا من الأفراد الثلاثة المتقدمة ونقصت العين المستعارة بالاستعمال حتى تلفت فهل يضمن القيمة يوم التلف خاصة؟ لأن النقصان غير مضمون من حيث انه حصل بفعل مأذون فيه فلا يكون مضمونا ولأنه لو لم يتلف فردها على المالك في تلك الحال لم يجب عليه شي‌ء ، فإذا تلفت وجب قيمتها في تلك الحال وهو اختيار المحقق ، ونقل عن المبسوط والتذكرة.


أو أنه يضمن النقص أيضا نظرا إلى اشتراط الضمان فيكون ذلك النقص مضمونا وهو المنقول عن ابن الجنيد وأبى الصلاح واستشكل في القواعد في المسئلة.

قال في المسالك : ويمكن الفرق بين تلف الاجزاء الموجب للنقص بالاستعمال ، وبين تلفها بغيره فيضمن على الثاني دون الأول ، لأن تلفها بأمر مأذون فيه فلا يستعقب ضمانا ويمكن تأييد القول الثاني بمنع أصل التوجيه المذكور في القول الأول.

قوله : انه حصل النقصان بفعل مأذون فيه فلا يكون مضمونا يمكن خدشه بأن الاذن في أصل الاستعمال لا ينافي الضمان ، والحال إنه مشروط إذ ليس من لوازم أصل الاستعمال النقص ، فيجوز أن يكون الاستعمال مأذونا والنقص مضمونا وكذا استناده إلى أنه لو لم تتلف وردها في تلك الحال لا يجب عليه شي‌ء ، فإنه ممنوع أيضا إذ هو من موضع البحث ، فانا لا نسلم ذلك مع الشرط ، وإنما يتم بدونه ، فان للمانع أن يمنع من كون النقص غير مضمون في المضمونة ، سواء تلفت أو ردها قبل التلف ، والوجه فيه أن مقتضى تضمين العين تضمين أجزاءها ، لأنها مركبة منها ، ثم انه على تقدير هذا القول فإنه يضمن أعلى القيم من حين القبض الى يوم التلف ، إن كان الاختلاف والتفاوت في القيم بسبب الاجزاء كالثوب ينسحق باللبس ، وأما لو كان الاختلاف من حيث القيمة السوقية لم يضمن الزائد بسببه لأن ذلك ليس من مدلول الضمان سيما مع عدم إيجاب ذلك على الغاصب هذا كله مع اشتراط الضمان.

أما لو استعملها حتى تلفت من غير شرط الضمان في العارية فإن ظاهر الأكثر عدم الضمان مطلقا ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثانية من الفصل الثاني ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : اختلف الأصحاب في ما لو ادعى المستعير الإعارة ، وادعى المالك الإجارة ، وقد مضت لذلك مدة في يد المستعير ، فذهب في الخلاف الى أن القول


قول المستعير ، قال في الكتاب المذكور : إذا اختلف صاحب الدابة والراكب ، فقال الراكب : أعرتنيها ، وقال صاحبها : أكريتكها بكذا ، كان القول قول الراكب بيمينه ، وعلى صاحبها البينة ، وكذا إذا اختلف الزارع وصاحب الأرض فادعى الزارع العارية. وادعى صاحب الأرض الكرى ، فالقول قول الزارع قيل في توجيهه : انهما متفقان على أن تلف المنافع وقع في ملك المستعير ، لأن مقتضى كلام المالك أنه ملكها بالإجارة ، ومقتضى كلام المستعير أنه ملكها بالاستيفاء المستند إلى الإعارة ، فيده شرعية على كل من القولين ، والمالك يدعى عليه العوض عما استوفاه عن ملكه ، وهو ينكر استحقاقه ، والأصل براءة ذمته منه ، فيكون القول قوله بيمينه ، عملا بالقاعدة المنصوصة.

وذهب ابن إدريس وتبعه المحقق الى أن القول قول المالك في عدم العارية وان لم يقبل قوله في الإجارة ، قال ابن إدريس : لا يقبل قول المالك في قدر ما ادعاه من الأجرة ، ولا قول الراكب في العارية ، فالواجب أجرة المثل عوضا عن منافع الدابة ، وكذا البحث في الأرض إذا اختلف المالك والزارع.

وقيل في توجيه هذا القول : انه لا شك في أن المنافع أموال كالأعيان ، فهي بالأصالة لمالك العين ، فادعاء الراكب ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل وأصالة براءة ذمته كما تمسك به القائل الأول إنما يتم بالنسبة إلى خصوص ما ادعاه المالك من قدر الأجرة ، لا من مطلق الحق بعد العلم باستيفاء المنفعة التي هي من جملة أموال المالك وحقوقه ، والأصل يقتضي عدم خروجها عن ملكه إلا بعوض ، ومن أجل ذلك يكون القول قول المالك في عدم العارية ، لأن الراكب يدعي العارية والمالك ينكرها ، فيكون القول قوله بيمينه ، ولا يقبل قول المالك في ما يدعيه من الإجارة ، لأنه مدع أيضا يحتاج إلى البينة ، وحينئذ فإذا حلف المالك على نفي العارية كما هي وظيفته الشرعية لم تثبت الإجارة ، لما عرفت من أن ثبوتها يتوقف على البينة ، ولكن تثبت أجرة المثل ، لأن الراكب


قد تصرف في ملكه بغير تبرع منه ، لأن دعوى التبرع قد سقطت باليمين ، فالواجب حينئذ أجرة المثل.

واعترض بعض أفاضل متأخري المتأخرين وهو الخراساني في الكفاية على هذا الكلام بمنع الأصل المدعي هنا أعني قوله والأصل يقتضي عدم خروج المنافع عن ملك المالك الا بعوض ، قال : إذ لا حجة عليه عقلا ونصا.

أقول : مرجع هذا الأصل إلى الاستصحاب ، فإنه أحد المعاني التي يطلق عليها ، ولا شك أن العين من حيث هي ملك للمالك ، فكذا منافعها ، فبعد خروجها عن يد المالك على هذا الذي وقع فيه الاختلاف ، لو تمسك المانع باستصحاب بقاء المنافع على ما ثبت لها أولا من ملكية المالك حتى يقوم الدليل على خلافه فهو صحيح ، والظاهر أنه ليس من الاستصحاب الذي هو محل الخلاف بين الأصحاب ، بل الاستصحاب المتفق عليه ، وهو استصحاب الإطلاق أو العموم حتى يقوم دليل التقييد أو التخصيص.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه ما ذكره ، نعم استشكل هذا القول في المسالك بما لو كان ما يدعيه من الأجرة أقل من أجرة المثل ، لاعترافه بنفي الزائد ، قال : فينبغي أن يثبت له بيمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل ، لأن الأقل إن كان ما يدعيه فهو معترف بعدم استحقاقه سواه ، وإن كان الأقل أجرة المثل فلم يثبت بيمينه سواها ، إذ لم تثبت الإجارة ، وإنما لزم تصرف الراكب في ماله بغير إذن المالك على وجه التبرع.

أقول : من أجل ما ذكره من هذا الاشكال صار في المسئلة قولا ثالثا فذهب في القواعد الى هذا القول ، وهو أنه بعد حلف المالك فالثابت له أقل الأمرين من أجرة المثل ومن المسمى ، الا أنه قد أورد عليه أيضا أن المالك على تقدير كون المسمى أكثر من أجرة المثل ، فالمالك يدعي الزائد من الأجرة عن أجرة المثل ، والراكب ينفيه ، فلا بد من وجه شرعي يقتضي نفيه ، وليس الا بيمين الراكب على نفي الإجارة.


وتوضيحه أن حلف المالك على نفي الإعارة ، لم يدل على نفى الإجارة ولا إثباتها ، فيبقي دعوى الإجارة على حالها ، ولما لم يثبتها المالك بالبينة رجعنا الى الأصل المتقدم من أصالة بقاء ملكه للعين وللمنافع ، فلا بد من الحكم على الراكب بعوض في مقابلتها ، حيث تصرف فيها من غير أن يتبرع بها المالك ، ووجب الحكم له بأقل الأمرين لما تقدم ، لكن يبقي النزاع في الزائد على تقدير كون المسمى في الإجارة زائدا على أجرة المثل ، فان المالك يدعيه ، وراكب الدابة ينفيه ، ولا يندفع ذلك إلا بيمين الراكب على نفي الإجارة : أو نكوله فيحلف المالك على الإجارة ، ويأخذ الزائد.

ومن هنا انقدح في المسئلة قول رابع ، فذهب في المختلف وجماعة منهم الشهيدان ، الأول منهما في بعض تحقيقاته ، على ما نقل عنه ، والثاني في المسالك إلى أنهما يتحالفان ، فان كلا منهما مدع ومدعى عليه ، لما عرفت من التوضيح المتقدم.

أقول : وبهذا ترجع المسئلة هنا الى ما نقلناه عنهم في كتاب المزارعة ، حيث أنهم لم يذكروا ثمة خلافا في المسئلة على نحو ما ذكروه هنا ، وإنما نقلوا فيها قولين ، أحدهما وهو المشهور التحالف ، بأن يحلف صاحب الأرض على نفي العارية ، ويحلف الزارع على نفي الإجارة ، فيتساقط الدعويان ، ويرجع إلى أجرة المثل ، أو أقل الأمرين ، والقول الثاني القرعة كما تقدم ذكره ثمة ، وهنا قد أكثروا الخلاف كما عرفت ، والمسئلة واحدة في الكتابين كما هو ظاهر نصب العين.

وكيف كان فإن لقائل أن يقول أيضا : إن المالك هنا يدعي بالإجارة حقا معينا ، ولا يدعى شيئا آخر سواه ، فإذا حلف الراكب على عدم الإجارة ، سقط بيمنه هذا الحق الذي يدعيه المالك ، لأن اليمين من المنكر مسقطة الحق ، وقد اعترف بأنه لا حق له سواه ، فإذا سقط باليمين ، فبأي شي‌ء يثبت أقل الأمرين ،


وإثبات حق المالك من غير الوجه الذي يدعيه ، بناء على ما ذكروه من تصرف الراكب بغير إذنه ، فيقضي له بأجرة المثل ، أو أقل الأمرين مشكل ، لأنه باليمينين الواقعتين منهما معا صار هذا التصرف محتملا لكونه تصرفا صحيحا شرعيا بلا أجرة ، وكونه تصرفا شرعيا بالأجرة ، والأجرة انما تثبت على تقدير الثاني ، وهو غير معلوم ، لاحتمال كونه شرعيا مجانا كما يدعيه المستعير ، ومن المعلوم كذب احدي اليمينين في هذا المقام ، وأصالة عدم اشتغال الذمة مؤيد ، والحكم له بشي‌ء لا يدعيه ـ ولا يطلبه ، وإنما يطلب غيره مما قد انتفى باليمين ـ غير متجه.

وبالجملة فإن الرجوع إلى التعليلات العقلية لا ينتهي إلى ساحل ، والمسئلة لما كانت عارية من النصوص كثر فيها الكلام ، وتقابل النقض فيها والإبرام.

وفي المسئلة أيضا قول خامس بالقرعة ، ذهب اليه الشيخ في كتاب المزارعة من الخلاف ، قال : لأن القرعة لكل أمر مشكل ، ورده جملة من المتأخرين بالضعف ، قالوا : لأنه لا اشتباه مع القاعدة المتفق عليها من حكم المدعي والمنكر.

أقول : لا يخفى ما فيه بعد ما عرفت مما وقع لهم من الخلاف في المقام ، وتصادم هذه التعليلات منهم في النقض والإبرام ، فكيف لا يحصل الاشتباه ، والحال كما عرفت ، هذا كله فيما إذا مضت لذلك المتنازع فيه مدة في يد المتصرف قد استوفي فيه منافعه.

أما لو لم يمض لذلك مدة ، ولم يحصل الانتفاع بشي‌ء من المنافع المترتبة عليه ، فالقول في ذلك قول المتصرف ، لأن المالك هنا لا يدعى التصرف في شي‌ء من المنافع ، وانما يدعى عليه الإجارة ، وتحقق الأجرة في ذمته ، واشتغالها بها والمتصرف ينكر ذلك ، فالقول قوله بيمينه ، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط دعوى الأجرة ، واسترد المالك العين ، وان نكل حلف المالك اليمين المردودة ، واستحق الأجرة ، والله سبحانه العالم.


إلحاق في المقام :

وهو يشتمل على جملة من الأحكام ، أحدها ـ أنه إذا استعار شيئا للانتفاع به في شي‌ء مخصوص ، فانتفع بها في غيره فظاهر الأصحاب الحكم عليه بالضمان لتعديه في العين بالتصرف فيها على غير الوجه المأذون له فيه وتلزمه الأجرة لمثل ذلك العمل وهو ظاهر.

وثانيها ـ أنه إذا جحد العارية فالقول قوله بيمينه ، لأن الأصل العدم ، فإن أثبتت المالك عليه صحة الدعوى المذكورة زال استيمانه ، ولزمه الضمان ، والظاهر أن الكلام هنا كالكلام في الوديعة لو جحدها ، وأثبتها المالك عليه ، وقد تقدم تفصيل البحث في ذلك في كتاب الوديعة.

وثالثها ـ ما إذا ادعى التلف ، فان القول قوله بيمينه عندهم ، وقد عرفت ما فيه في المسئلة الأولى من مسائل هذا الفصل في كتاب الوديعة (١).

ورابعها ـ ما إذا ادعى الرد على المالك ، فان القول قول المالك بيمينه ، لأنه منكر ، والأصل عدمه ، وقد تقدم في كتاب الوديعة أن المشهور فيما إذا ادعى الودعي الرد على المالك أن القول قول الودعي بيمينه ، مع أن الأصل عدم الرد ، وعموم البينة على المدعى ، الا أنهم فرقوا بينه وبين العارية ، بأن الودعي إنما قبض لمصلحة المالك فهو محسن محض ، و « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (٢) ،» وأنت خبير بما فيه ، حيث أن هذه العلة غير منصوصة ، مع مخالفة ما ذكروه في الوديعة للقواعد الشرعية ، ولهذا توقف جملة من الأصحاب في حكم الوديعة كما تقدم ذكره ثمة ، واستشكلوا القول المشهور وهو في محله لما عرفت.

قال في المسالك : واعلم أن هذه العلة تجري في كثير من أبواب تنازع المستأمنين ، الا أنها تقتضي قبول قول الوكيل في الرد لو كان بغير جعل ،

__________________

(١) ص ٤٥٥.

(٢) سورة التوبة ـ الاية ٩١.


وهو مشكل لمخالفة الأصل وكون هذه العلة ليست منصوصة وانما هي مناسبة ، انتهى وهو جيد.

والتحقيق أن يقال : ان مقتضى الأخبار المتقدمة في كتاب الوديعة هو قبول قول الأمين ، وعدم اتهامه فيما يقوله ، وان خالف الأصل ، وحينئذ يكون هذه الأخبار مخصصة لهذه القاعدة ، أعني قاعدة البينة على المدعي ، واليمين على المنكر والحكم متعلق بالأمين ودعيا كان أو مستعيرا ، أو وكيلا أو نحوهم ، ودعوى الفرق ـ بين الودعي وغيره ممن قبض لمصلحته ، كالمستعير والوكيل بجعل والمرتهن ـ فيه أولا ما ذكر من عدم الدليل على هذا التعليل ، وثانيا أن قبضه على أحد هذه الوجوه لا ينافي الايتمان الذي رتب عليه قبول قوله لأن الايتمان إنما هو عبارة عن الوثوق به في عدم الخيانة ، والمخالفة لأمر المالك ، وإدخال الضرر عليه ، فكل من دفع اليه المالك بهذا الوجه ودعيا كان أو مستعيرا أو وكيلا بجعل أو بغير جعل ، فإنه يقبل قوله ، بمقتضى تلك الأخبار ، ويؤيده أخبار «ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». كما تقدم في كتاب الوديعة.

وخامسها ـ ما إذا فرط في العارية ثم تلفت ، فإنه ان كانت من ذوات الأمثال ضمن المثل بغير إشكال ، وان كانت من ذوات القيم فقد اختلف الأصحاب ـ في ذلك.

فقيل : ان الواجب عليه قيمتها يوم التلف ، وهو مختار الشرائع والمسالك وعلل بأن الواجب على المستعير مع بقاء العين ردها دون القيمة ، وانما ينتقل إلى القيمة مع التلف ، وحينئذ فالمعتبر القيمة وقت التلف.

وقيل : أن الواجب أعلى القيم من وقت التفريط الى وقت التلف ، وعلل بأن العين لما كانت مضمونة ، فكل واحدة من القيم المتعددة في وقت كونها مضمونة ، إذ معنى ضمان العين كانت لو تلفت ضمن قيمتها ، وهو حاصل في جميع الوقت ، فيضمن أعلى القيم لدخول الباقي فيها.

وقيل : المعتبر قيمتها وقت الضمان ، قال في المسالك. وموضع الخلاف ما


لو كان الاختلاف بسبب السوق ، أما لو كان بسبب نقص في العين فلا إشكال في ضمانه ، لأن ضمان العين يقتضي ضمان أجزائها ، انتهى.

أقول : وقد تقدم الكلام في ذلك ، وهذا القول الأخير نقله في الكفاية قولا ثالثا في المسئلة ، ولعله أشار به إلى ما نقله في المختلف عن ابن حمزة ، حيث قال ابن حمزة : إن هلك مضمونا لزم قيمته يوم القبض ، وإن هلك غير مضمون بالتفريط لزم قيمته يوم التلف ، بأن يكون المراد بقيمته وقت الضمان ، كما ذكره يعنى يوم القبض الذي ثبت فيه الضمان واستقر ، الا أن الظاهر أن ما ذكره في المختلف مسئلة أخرى على حيالها غير ما نحن فيه ، فان فرض المسئلة التي ذكرناها في كلام الأصحاب إنما هو بالنسبة إلى العارية الغير المضمونة لو فرط فيها ثم تلفت في يده.

وظاهر كلام المختلف مسئلة أخرى وهو أنه إذا هلكت العارية عند المستعير فقد قال ابن حمزة : بأنها إن كانت العارية مضمونة باشتراط الضمان فيها ونحوه فاللازم قيمتها يوم القبض ، وإن لم يكن مضمونة وهلكت بالتفريط لزمته قيمته يوم التلف ، وهذا يرجع الى القول الأول الذي قدمناه ، فان هذا الفرد الثاني من الترديد يرجع الى ما تقدم.

وفي المختلف بعد أن نقل عن ابن حمزة قال : والمعتمد أن نقول : إن كان من ذوات الأمثال ضمنه بالمثل ، وإن كان من ذوات القيم ضمنه بقيمته يوم التلف إن كان مضمونا ، وبأعلى القيم من حين التفريط الى حين التلف إن هلك بالتفريط ، إن قلنا أن الغاصب يضمن بأعلى القيم ، وإلا فالقيمة يوم التلف ، وظاهره في اختياره أعلى القيم ـ فيما لو لم تكن مضمونة ، وإنما هلكت بالتفريط ـ موافقة القول الثاني المتقدم.

وقد تلخص مما ذكرناه أن العارية إذا تلفت عند المستعير وكانت قيمية فإن كانت مضمونة ففيها قولان : أحدهما مذهب ابن حمزة ، وهو قيمته يوم القبض ،


وثانيهما مذهب العلامة وهو قيمته يوم التلف وإن لم تكن مضمونة ، وهلكت بالتفريط ، فالأقوال الثلاثة المتقدمة : وابن حمزة قد وافق الأول ، والعلامة وافق الثاني ، وهذا الخلاف هنا متفرع على الخلاف في ضمان المغصوب ، حيث انه هنا بالتفريط لحقه حكم الغاصب ، واليه يشير كلام العلامة المذكور والله سبحانه العالم.

وسادسها ـ ما لو اختلفا في القيمة بعد التفريط على تقدير تلفه ، وكذا لو كان مضمونا بأمر آخر ثم تلف ، فقيل : إن القول قول المالك مع يمينه ، وبه قال الشيخان ، وسلار وابن حمزة ، وابن البراج.

وقال أبو الصلاح : وإن اختلفا في مبلغها أو قيمتها أخذ ما أقر به المستعير ووقف ما زاد عليه على بينة أو يمين المعير ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه فان قصد يمين المعير برد المستعير صار قوله مخالفا لما تقدم ، وإلا فلا.

وقيل : القول قول المستعير لأنه منكر ، فيدخل في عموم الخبر ، وبه قال ابن إدريس ومن تأخر عنه ، قال ابن إدريس : الذي تقتضيه أصول الأدلة والمذهب أن القول قول المدعي عليه ، واليمين على المنكر ، وهو المستعير مع يمينه.

قال في المختلف : وهو الوجه عندي ، لنا أنه منكر ، فالقول قوله مع اليمين ، لقوله عليه‌السلام (١) «البينة على المدعى ، واليمين على من أنكر». ثم نقل عن الأولين الاحتجاج على ما ذهبوا اليه ببطلان الأمانة بالخيانة ، فلم يكن قوله مقبولا في القيمة.

ثم رده بأنه لا يلزم من بطلان الأمانة خروجه عن حكم المنكر ، وهو جيد ، وحاصله أن قبول قوله بيمينه إنما هو من حيث كونه منكرا وهذا حكم المنكر شرعا لا من حيث كونه أمينا حتى يتجه منعه بالخيانة والله سبحانه العالم.

وسابعها ـ ما لو اختلفا في التفريط فالمشهور أن القول قول المستعير بيمينه

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١٧٠ ح ١ باختلاف ما والمستدرك ج ٣ ص ١٩٩.


مع عدم البينة ، وهو قول الشيخ وابن البراج ، وابن حمزة وأبى الصلاح ، وابن إدريس ، وعليه المتأخرون.

وظاهر كلام المفيد وسلار على ما نقل عنهما في المختلف أن القول قول صاحب العارية بيمينه ، ولا ريب في ضعفه ، لأن المستعير منكر ، فالقول قوله بيمينه ، وعلى المدعي البينة ، وهو ظاهر ، وثامنها : ما لو اختلفا فقال المالك : غصبتنيها ، وقال المتصرف : أعرتنيها ، فالمشهور أن القول قول المالك مع يمينه ، وهو مذهب ابن إدريس ، والعلامة في جملة من كتبه ، والشيخ في كتاب المزارعة من المبسوط ، وقال في الخلاف وكتاب العارية من المبسوط : إن القول قول الآخر ، قال : إذا اختلفا فقال المالك : غصبتنيها وقال الراكب : أعرتنيها قدم قول الراكب ، لأصالة براءة الذمة ، والمالك يدعي الضمان للدابة ولزوم الأجرة إن كان ركبها ، والوجه في القول الأول على ما ذكره في التذكرة ما تقدم من أصالة تبعية المنافع للأعيان في التملك ، فالقول قول من يدعيها مع اليمين وعدم البينة ، لأن المتصرف يدعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبراءة ذمته من التصرف في مال الغير ، فعليه البينة وعلى هذا فبعد حلف المالك يستحق لما مضي من المدة ، فيرجع الدابة مع الأجرة هذا إذا مضت مدة لمثلها أجرة ، ولو لم تمض مدة والعين باقية ، فان هذه الدعوى لا ثمرة لها ، بل يرد المتصرف العين الى مالكها ، ولو تلفت العين في تلك المدة التي مضت ، فالكلام في الأجرة يبني على الخلاف المتقدم ، وأما القيمة ، فإن كانت العارية التي يدعيها المتصرف مضمونة ، فهو يعترف في القيمة فيلزمه أداءها.

قال في التذكرة : ويحكم فيها بقول المتصرف ، لأصالة براءة ذمته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القيم» وإن كانت العارية غير مضمونة ، قال في التذكرة : فإن القول قول المالك في عدم الإعارة» وقول المتصرف في عدم الغصب ، لئلا يضمن ضمان الغصب ، ثم يثبت على المتصرف


بعد حلف الراكب على نفي الإعارة قيمتها وقت التلف انتهى ، والله سبحانه العالم.

وتاسعها ـ ما لو ادعي الراكب الإجارة ، والمالك العارية المضمونة بعد تلف العين ، وقبل مضي مدة لها أجرة ، قال في المبسوط : القول قول الراكب مع يمينه ، لأن صاحبها يدعي ضمانا في العارية ، فعليه البينة والأصل برأيه الراكب.

وقال في المختلف : الأقرب أن القول قول المالك ، لأن الأصل تضمين مال الغير ، لقوله عليه‌السلام (١) «على اليد ما أخذت». وأنت خبير بما في هذه الفروع من الاشكال لخلوها من النص الذي هو العمدة في الاستدلال ، وعدم صحة بناء الأحكام على هذه التعليلات التي يتداولونها في هذا المجال ، سيما مع تصادمها وتضادها كما عرفت ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤ ح ١٢.


كتاب الإجارة

والبحث فيه في مطالب أربعة الأول : في الإجارة والعقد ، وما يترتب عليه والكلام في ذلك يقع في مواضع الأول الإجارة ثابتة بالنص كتابا وسنة ، وإجماع علماء الخاصة والعامة ، قال الله عزوجل (١) «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وقال (٢) «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» وقال تعالى (٣) «قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» ـ «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ» الآية.

وأما السنة فمستفيضة كما ستأتيك بذلك الأخبار.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (٤) عن محمد بن سنان عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الإجارة فقال : صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، وقد آجر موسى بن عمران عليه‌السلام نفسه واشترط فقال : إن شئت ثمانيا وإن شئت عشرا فأنزل الله فيه «أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (٥)». وروي

__________________

(١) سورة الطلاق ـ الاية ٦.

(٢) سورة الكهف ـ الاية ٧٧.

(٣) سورة القصص ـ الاية ٢٦.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ١٠٦ ، ح ٩٠ التهذيب ج ٦ ص ٣٥٣ ح ١٢٤ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٢.

(٥) سورة القصص ـ الاية ٢٨.


الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول (١) عن الصادق عليه‌السلام «أنه سأل عن معايش العباد وساق الخبر إلى أن قال : وتفصيل الإجارات فإجارة الإنسان نفسه إلى أجرة الى آخره ، وقد تقدم الخبر بتمامه في المقدمة الثالثة فيما يكتسب به من المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (٢) والمفهوم من جملة من الأخبار كراهة إجارة الإنسان نفسه لأنه يحظر على نفسه الرزق ، فروى في الكافي عن المفضل بن عمر (٣) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق». قال في الكافي (٤) وفي رواية أخرى وكيف لا يحظره وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره».

وروى في الفقيه عن عبد الله بن محمد الجعفي (٥) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : من آجر نفسه فقد حظر عليها الرزق وكيف لا يحظره». الحديث كما تقدم.

وروى المشايخ الثلاثة عن عمار الساباطي (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه أعطى ما يصيب في تجارته ، فقال : لا يؤاجر نفسه ، ولكن يسترزق الله عزوجل ويتجر ، فإنه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق» وفي الفقيه «أعطى أكثر مما يصيب من تجارته».

والشيخ جمع بين هذه الأخبار ، وخبر إجارة موسى عليه‌السلام نفسه بحمل المنع على الكراهة ، واستبعده في الوافي بالنسبة إلى النبيين المذكورين (صلوات الله على نبينا وآله وعليهما) قال : والأولى أن يحمل المنع على ما إذا استغرقت أوقات الموجر كلها بحيث لم يبق لنفسه منها شي‌ء كما دلت عليه الرواية الأخيرة من الحديث الأول.

__________________

(١) تحف العقول ص ٢٤٨ ط نجف ، الوسائل ج ١٢ ص ٥٦ في أواسط ح ١ وج ١٣ ص ٢٤٢ ح ١.

(٢) ج ١٨ ص ٧٠.

(٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٣ ح ١ و ٢.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٠٧ ح ٩٢ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٤.

(٦) الفقيه ج ٣ ص ١٠٧ ح ٩١ ، الكافي ج ٥ ص ٩٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥٣ ح ١٢٣ ، الوسائل ج ١٢ ص ١٧٦ ح ٣.


وأما إذا كانت بتعيين العمل دون الوقت كله فلا كراهة فيها كيف؟ وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يواجر نفسه للعمل ليهودي وغيره في معرض طلب الرزق ، كما ورد في عدة أخبار ، انتهى وهو جيد.

الثاني : قد عرف بعض الأصحاب الإجارة بأنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم ، وعرفها آخر بأنها عبارة عن تمليك المنفعة الخاصة بعوض معلوم ، ومرجعه إلى أنها عبارة عن نفس العقد الذي ثمرته ذلك أو عبارة من التمليك الذي هو الثمرة ، والبحث في ذلك لا ثمرة له بعد ظهور المراد ، بقي الكلام في أن المشهور بين الأصحاب هو أنه لما كانت من العقود اللازمة وجب انحصار ألفاظها في الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة ، مثل آجرتك في الإيجاب ، وأكريتك وفي معناه استكريت وتكاريت ، ومنه أخذ المكاري ، لأنه يكري دابته ، أو نفسه ، وكذا يشترط فيه ما يشترط في غيره من العقود اللازمة من العربية حتى في الأعراب والبناء ووقوع القبول على الفور ، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.

وقد تقدم ثمة ما في ذلك من البحث ، وأنه لا دليل شرعا على أزيد من الألفاظ الدالة على الرضا من الجانبين بتلك المعاملة كيف اتفق في هذا الموضع وغيره ، وبذلك صرح جملة من محققي متأخري المتأخرين.

وأما لزوم العقد فلا اشكال فيه للأدلة العامة في الوفاء بالعقود والشروط وخصوص ما رواه في الكافي عن علي بن يقطين (١) في الصحيح قال : «سألته يعني أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يكتري السفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه والخيار في أخذ الكرى الى ربها ان شاء أخذ وان شاء ترك». وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن محمد بن سهل قال : «سألت

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٣ ، الوسائل المصدر.


أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل يتكارى من الرجل البيت والسفينة سنة أو أقل أو أكثر قال : كراه لازم الى الوقت الذي تكاراه اليه» الحديث. كما تقدم.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتكاري عن الرجل البيت والسفينة». مثل الحديثين المتقدمين ، ثم انهم بناء علي ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط ألفاظ مخصوصة جوزوا ذلك أيضا بلفظ ملكتك إذا أضيف إلى المنفعة ، وذلك لأن التمليك يفيد نقل ما تعلق به ، فلو قال : ملكتك هذه الدار أفاد نقل عينها ،

مع أن المقصود من الإجارة هو تمليك المنفعة مع بقاء العين علي ملك صاحبها ، وحينئذ فإذا أريد بهذا اللفظ الإجارة تعين إضافته إلى المنفعة ، قالوا : وكذا تصح الإجارة بلفظ أعرتك حيث ان الإجارة مخصوصة بالمنفعة ، فتصح لو قال : أعرتك هذه الدار سنة بكذا وكذا.

وبالجملة فإنه لما كانت الإعارة لا تقتضي ملك العين ، وانما تفيد التسلط على المنفعة كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة ، فتصح إقامتها مقام لفظ الإجارة بغير إضافته إلى المنافع ، ويشكل بأن الإعارة وان تعلقت بالمنافع لا بالعين الا أنها انما تفيد الإباحة ، والمطلوب في الإجارة تمليك المنفعة ، والعوض لا مدخل له في ماهيتها بخلاف التمليك ، فإنه يجامع العوض ، وارتكاب التجوز في مثل ذلك خروج عما قرروه من قواعدهم في العقود اللازمة ، كذا أورده في المسالك.

واختلفوا فيما لو قال : بعتك هذه الدار وقصد الإجارة ، أو قال : بعتك سكناها سنة بكذا ، فالمشهور بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه حيث نسبه الى علمائنا هو البطلان ، وعلل ذلك باختصاص البيع بنقل الأعيان والمنافع تابعة لها فلا يثمر الملك لو تجوز به في نقل المنافع مفردة وان نوى الإجارة.

وفي التحرير جعل المنع أقرب وهو يؤذن بالخلاف ، وتردد في الشرائع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.


ومنشأ التردد مما تقدم ، ومن أنه بالتصريح بإرادة نقل المنفعة مع أن البيع يفيد نقلها أيضا مع الأعيان وان كان بالتبع ناسب أن يقوم مقام الإجارة إذا قصدها.

وظاهر المحقق الأردبيلي هنا بناء على القول بالاكتفاء بكل ما دل على المراد من الألفاظ والتراضي به ، كما قدمنا ذكره ، حيث أنه ممن اختار ذلك القول بالجواز في العارية ، وفي البيع على الوجه المذكور ، حيث قال في العارية ـ بعد الإشارة الى ما قدمنا نقله عن المسالك من الاشكال ـ ما لفظه : ولا يبعد إخراجها عن ظاهرها بما يخرجها عنه صريحا مثل أن يقول : أعرتك هذه الدار سنة بكذا ، غايته أن يكون مجازا بقرينة ظاهرة بل صريحة ، بحيث لا يحتمل غير المجاز ولا مانع منه لغة ولا عرفا ولا شرعا كما في لفظة ملكتك.

نعم لو ثبت كون صيغة الإجارة متلقاة من الشرع وليس هذه منها لصح عدم الانعقاد بها ، ولا يكفي مجرد كونه عقدا لازما ، ودعوى أن التجوز بمثل هذا يخرجه عن كونه لازما كما قاله في شرح الشرائع ، وقال : بالنسبة إلى البيع ، وقد مر ما يفهم البحث منه في عدم انعقادها بنحو البيع ، مثل بعتك هذه الدار أو منفعتها سنة بكذا ، وأنه فهم الإجماع من التذكرة ، فإن كان إجماعا فلا كلام والا فالظاهر أن لا مانع من الانعقاد إذا علم القصد ، فان الظاهر أنه يكفى مع صلاحية اللفظ في الجملة ، وان كان موضوعا متعارفا في الأصل لنقل الأعيان ، وهو وجه التردد في الشرائع ، انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار الواردة في هذا المقام زيادة على ما قدمناه في كتاب البيع مما يدل على سعة الدائرة في العقود وأنها ليست على ما ذكروه من الشروط والقيود ما رواه في الكافي عن زرارة (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يأتي الرجل فيقول : اكتب لي بدراهم فيقول له : آخذ منك وأكتب لك بين يديك قال : فقال : لا بأس» الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥١ ح ١.


وما رواه في الفقيه عن محمد بن الحسن الصفار (١) في الصحيح «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن على عليه‌السلام يقول : رجل يبدرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ويشارطونه على شي‌ء مسمى ، إله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقع عليه‌السلام إذا واجر نفسه بشي‌ء معروف أخذ حقه إنشاء الله».

وما رواه عن محمد بن عيسى اليقطيني (٢) «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام في رجل دفع ابنه الى رجل وسلمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل آخر فقال له. سلم ابنك مني سنة بزيادة ، هل له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن ينفسخ ما وافق عليه الأول أم لا؟ فكتب عليه‌السلام يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف.

وفي هذا الخبر دلالة على لزوم الإجارة كما تقدم ذكره ، وظاهر هذه الأخبار كما ترى وقوع الإجارة فيما تضمنته من غير عقد ، ولا إيجاب ولا قبول غير مجرد التراضي الواقع بينهما بهذه الألفاظ.

وما رواه في الفقيه عن أبان عن إسماعيل (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل استأجر من رجل أرضا فقال آجرنيها بكذا وكذا إن زرعتها أو لم أزرعها أعطيك ذلك فلم يزرع الرجل قال : له أن يأخذه بماله ، إن شاء ترك وان شاء لم يترك».

وما رواه في الكافي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل (٤) مثله ، وما رواه في الكافي عن أبي حمزة (٥) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكتري الدابة فيقول أكثريتها منك الى مكان كذا وكذا ، فان جاوزته فلك كذا وكذا زيادة ويسمى ذلك؟ قال : لا بأس به كله».

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ١٠٦ ح ٨٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٤ باب ١٤ وباب ١٥.

(٣ و ٤) الفقيه ج ٣ ص ١٥٥ ح ٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٨ ح ١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.


وهذان الخبران وان اشتملا على العقد الا أنه في عكس القاعدة المقررة عندهم حيث ان الإيجاب فيهما انما وقع ممن وظيفته القبول ، والقبول ممن وظيفته الإيجاب مع عدم ذكر لفظة تدل على القبول ، وانما ظاهرهما كون القبول وقع بمجرد الرضا من غير لفظة ، وهو أبلغ في الرد لما قالوه ، ومن ذلك يعلم ما ذكرناه من اتساع الدائرة في العقود ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أن الإجارة من العقود اللازمة وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ، وحينئذ فلا تبطل الا بالتقايل أو أحد الأسباب الموجبة للفسخ ، مثل أن يتعذر الانتفاع بالعين المستأجرة لغصبها ، أو انهدامها ، أو مرض الأجير كما تقدم في مكاتبة اليقطيني ونحو ذلك مما سيأتي إنشاء الله تعالى.

ولا تبطل بالبيع إذ لا منافاة بينهما لأن الإجارة انما تتعلق بالمنافع والبيع إنما يتعلق بالأعيان والمنافع وان كانت تابعة للأعيان ، الا أن المشتري متى كان عالما بالإجارة فإنه يتعين عليه الصبر الى انقضاء مدة الإجارة ، لأنه قدم على شراء مال مسلوب المنفعة هذه المدة وان كان جاهلا تخير بين فسخ البيع وإمضائه مسلوب المنفعة إلى تمام المدة المعينة.

والأقرب أنه لا فرق في صحة العقد بين كون المشتري هو المستأجر أو غيره فيجتمع عليه لو كان هو المشتري الثمن من جهة البيع ، والأجرة من جهة الإجارة وربما قيل ببطلان الإجارة وانفساخها في الصورة المذكورة ، لأن تملك العين يستلزم ملك المنافع ، لأنها نماء الملك ، وفيه ان ذلك مسلم فيما لو لم يسبق سبب آخر لتملكها وهيهنا قد تقدم عقد الإجارة الموجب لملك المنفعة ، والبيع إنما ورد على ملك مسلوب المنفعة في تلك المدة بعين ما ذكرناه في صورة ما ، إذا كان المشتري شخصا آخر غير المستأجر.

وكيف كان فإن العقدين صحيحان لا منافاة بينهما ، ولو ثبتت المنافاة بين البيع والإجارة لكان الباطل هو البيع ، دون الإجارة.

والذي وقفت عليه من الأخبار الدالة علي صحة البيع هنا ما رواه في الفقيه


عن أبي همام (١) «أنه كتب الى أبي الحسن عليه‌السلام في رجل استأجر ضيعة من رجل فباع المؤاجر تلك الضيعة بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع وكان حاضرا له شاهدا عليه فمات المشتري وله ورثة هل يرجع ذلك الشي‌ء في ميراث الميت؟ أو يثبت في يد المستأجر الى أن تنقضي إجارته؟ فكتب عليه‌السلام يثبت في يد المستأجر الى أن تنقضي إجارته».

ورواه في الكافي عن أحمد بن إسحاق الرازي قال : كتب رجل إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : «رجل استأجر» الحديث. بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود.

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف (٢) عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل جعل دارا سكنى لرجل أيام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده؟ قال : هي له ولعقبه من بعده كما شرط؟ قلت : فإن احتاج الى بيعها يبيعها؟ قال : نعم ، قلت : فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي يقول : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه علي أن الذي يشتريه لا يملك ما اشتري حتى ينقضي السكنى ـ علي ما شرط ـ والإجارة ، قلت : فإن رد علي المستأجر ماله وجميع ما لزمه من المنفعة والعمارة فيما استأجره ، قال : علي طيبة النفس ورضا المستأجر بذلك لا بأس».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (٣) قال : «كتبت الى الرضا عليه‌السلام أسأله عن رجل تقبل من رجل أرضا أو غير ذلك سنين مسماة ثم ان المقبل أراد

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦٠ ح ١٢ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٤١ ح ٤٠ ، الاستبصار ج ٤ ص ١٠٤ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٥ ح ١ ، الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٧ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٦٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٧ ح ٤.


بيع أرضه التي قبلها قبل انقضاء السنين المسماة هل للمتقبل أن يمنعه من البيع قبل انقضاء أجله الذي تقبلها منه اليه وما يلزم المتقبل له؟ قال : فكتب : له أن يبيع إذا اشترط علي المشتري أن للمتقبل من السنين ماله».

أقول قد اشتركت هذه الأخبار في الدلالة على صحة الإجارة ، وأن البيع لا يبطلها ، وأما ما اشتمل عليه الخبر الثالث من أنه يبيع بشرط أن يشترط على المشتري منافع الأرض للمستأجر ، فهو محتمل للحمل علي وجوب الاخبار أو استحبابه ، بناء علي الخلاف في وجوب الاخبار بالعيب في المبيع وقت البيع ، وعدمه ، فإن قلنا بالوجوب كان الشرط هنا محمولا علي الوجوب ، والا فهو محمول علي الاستحباب ، وكيف كان فالبيع صحيح.

والخبر الثاني قد دل على أن حكم السكنى كالإجارة في صحة الجميع ، وعدم المنافاة بين الأمرين ، والأصحاب قد اتفقوا علي ذلك في الإجارة ، واختلفوا في السكنى ، والمشهور أنه لا تبطل السكنى والعمري والرقبى بالبيع ، ويجب الوفاء بذلك إلى انقضاء الأجل أو العمر ، ثم يرجع للمشتري واضطرب كلام العلامة في ذلك ففي الإرشاد قطع بجواز البيع ، وفي التحرير استقرب العدم ، لجهالة وقت انتفاع المشتري ، وفي القواعد والمختلف والتذكرة استشكل الحكم.

وأنت خبير بما فيه بعد ورود الخبر الصحيح المذكور ، وتأيده باتفاقهم علي ذلك في الإجارة ، والجميع من باب واحد ، قالوا : ولو فسخ المستأجر بعد البيع بحدوث عيب ونحوه رجعت المنفعة إلى البائع لا إلى المشتري ، ووجهه ظاهر ، لأن المشتري إنما اشتري مالا مسلوب المنفعة في تلك المدة ولا يتسلط عليها الا بعد انقضاء تلك المدة ، وإنما هي للمستأجر مع بقاء الإجارة أو ترجع للمالك بعد فسخها.

قالوا : ولا تبطل الإجارة بالعذر مهما كان الانتفاع الذي تضمنه عقد الإجارة


من إطلاق أو تعيين ممكنا ، ومرجعه إلى إمكان حصول الانتفاع الذي تضمنه العقد في الجملة ، كان تخرب الدار مع بقاء الانتفاع بها في الجملة ، لكن متي كان الأمر كذلك فإنه وان لم تبطل الإجارة الا أنه يتخير المستأجر دفعا للضرر عليه بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة.

قال في المسالك : ولا عبرة بإمكان الانتفاع بغير العين كما لو استأجر الأرض للزراعة ففرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها ، فإن ذلك كتلف العين ، وعدم منع العذر ـ الانتفاع أعم من بقاء جميع المنفعة المشروطة وبعضها وعدم البطلان ـ حاصل علي التقديرين ، لكن مع حصول الانتفاع ناقصا يتخير المستأجر بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة ، انتهى.

واختلفوا في بطلانها بالموت علي أقوال ثلاثة فقيل : بأنها تبطل بموت كل من الموجر والمستأجر ونسبه في الشرائع إلى المشهور وقيل : بأنها لا تبطل بموت أحد منهما ، وهو المشهور بين المتأخرين بل قال في المسالك أن عليه المتأخرين أجمع.

وقيل : أنها تبطل بموت المستأجر ولا تبطل بموت الموجر ، وهذا القول مع القول الأول للشيخ ، ونقل في المختلف عن ابن البراج أنه قال : ان عمل أكثر أصحابنا علي أن موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت الموجر ، وفيه إشارة إلى شهرة هذا القول أيضا في ذلك الوقت.

قال في الخلاف : الموت تبطل الإجارة سواء كان موت المؤجر أو المستأجر ، وفي أصحابنا من قال موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ، وقال في المبسوط : الموت يفسخ الإجارة سواء كان الميت المؤجر أو المستأجر عند أصحابنا والأظهر أن موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها ، ونقل القول الأول عن المفيد والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وغيرهم.

احتج القائلون بالأول علي ما نقله في المختلف بأن استيفاء المنفعة يتعذر


بالموت ، لأنه استحق بالعقد استيفائها علي ملك المؤجر ، فإذا مات زال ملكه عن العين ، وانتقلت إلى الورثة فالمنافع تحدث على ملك الوارث ، فلا يستحق المستأجر استيفائها ، لأنه ما عقد علي ملك الوارث ، وإذا مات المستأجر لم يكن إيجاب الأجرة في تركته.

ثم أجاب عن ذلك بأن المستأجر قد ملك المنافع ، وملكت عليه الأجرة كاملة وقت العقد ، قال : وينتقض ما ذكره بما لو زوج أمته ثم مات.

أقول : الأظهر في النقض عليهم هو ما صرحوا به في البيع بعد الإجارة من أن المنتقل إلى المشتري بالبيع كذلك ، إنما هو العين مسلوبة المنافع في تلك المدة وأن المنفعة بالإجارة قد خرجت عن ملك صاحب العين ، وبه يظهر أنه لا معني لقولهم أن المنافع بعد موت الموجر تحدث علي ملك الوارث ، فإنها وإن حدثت في ملك الوارث إلا أنها قد صارت مملوكة قبل الانتقال إلى الوارث ، فالوارث هنا كالمشتري إنما انتقلت اليه العين خالية عن المنافع تلك المدة ، وهكذا القول في موت المستأجر فإن الأجرة قد صارت دينا في ذمته بعقد الإجارة مستحقة عليها للموجر ، فلا تبرأ إلا بأدائها حيا كان أو ميتا.

واستدل القائلون بالقول الثاني بأن الإجارة من العقود اللازمة ، ومن شأنها أن لا تبطل بالموت ، ولعموم (١) «الأمر بالوفاء بالعقود» ، وللاستصحاب واحتج في المختلف للقول المذكور حيث انه المختار عنده قال : لنا انه حق مالي ومنفعة مقصودة يصح المعاوضة عليها وانتقالها بالميراث وشبهه ، فلا يبطل بموت صاحبها كغيرها من الحقوق ، ولأن العقد وقع صحيحا ويستصحب حكمه ، ولأن العقد ناقل فيملك المستأجر المنافع به ، والموجر مال الإجارة ، فينتقل حق كل واحد منهما إلي ورثته انتهى ، وهو جيد.

ومرجع هذا الاستصحاب الذي ذكروه هنا الى استصحاب عموم الدليل

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.


أو إطلاقه وهو مما لا شك في صحة الاستدلال به ، لا الاستصحاب المتنازع فيه بأن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط ـ يقتضي البقاء على حكمها حتى يحصل المخرج عن ذلك والرافع له ، وليس فليس ـ بل خصوص ما قدمناه من الأخبار الدالة على لزوم الإجارة إلى الوقت المحدود.

مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة على بن يقطين المتقدمة في الموضع الأول «الكري لازم الى الوقت الذي اكتراه اليه» ونحوها رواية محمد بن سهل المتقدمة أيضا ، فإن للقائل بالصحة أن يستصحب اللزوم حتى يقوم دليل على البطلان وليس ألا ما ذكروه من تلك التعليلات العليلة مما قدمنا بيانه.

ويزيد ذلك تأييدا وان كان أخص من المدعى ما رواه في التهذيب عن إبراهيم الهمداني (١) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شي‌ء من الإجارة ما لم ينقض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة لموت المرأة فكتب عليه‌السلام ان كان لها وقت مسمى لم تبلغه فماتت فلورثتها تلك الإجارة وان لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إنشاء الله تعالى.

وبهذا المضمون أيضا رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام وحاصل الجواب بقرينة ما اشتمل عليه السؤال من الشرط المذكور فيه أن حكم الورثة في الإجارة المذكورة حكم المرأة من أن لورثتها تلك الإجارة إلى الوقت المسمى فيها ، الا أنهم انما يعطون الأجرة بقدر ما مضى من تلك المدة عملا بالشرط المذكور على المرأة.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٧ ح ٥٨ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٠ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٨ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٨ ح ٥٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٩ ح ٥.


وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المذكور كما عرفت مضافا الى ما عرفت في أدلة خلافه من القصور ، وقد استثنى الأصحاب من هذا الحكم بناء على القول المذكور مواضع منها ان يشترط الموجر على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه ، فإنها تبطل بموته ، وهو الظاهر عملا بالشرط المذكور.

ومنها أن يكون الموجر موقوفا عليه فيؤجر الوقف ثم يموت قبل انقضاء المدة ، فإنها تبطل بموته عندهم ، فهو بمنزلة انقضاء المدة ، لأنه إنما يملك المنفعة إلى حين موته ، الا أن يكون ناظرا على الوقف ، فيوجره لمصلحة العين أو لمصلحة البطون ، فإنها لا تبطل حينئذ بموت الناظر ، والصحة هنا ليست من حيث كونه موقوفا عليه ، بل من حيث كونه ناظرا.

ومنها الموصى إليه بالمنفعة مدة حياته لو آجرها مدة ، ومات في أثناء المدة ، فإنها تبطل بموته للعلة المذكورة في سابقه ، وهو انتهاء استحقاقه ، حيث أن ملكه مقصور على مدة حياته ، والله سبحانه العالم.

الرابع : من الكليات المتفق عليها بينهم أن كلما صح إعارته صح إجارته ، وقيدها بعضهم بما صح إعارته بحسب الأصل لا مطلقا ، فإن المنحة وهي الشاة المعارة للانتفاع بلبنها مما يصح إعارتها مع أنه لا يصح إجارتها ، الا أن هذا الحكم انما ثبت فيها على خلاف الأصل والقاعدة في العارية ، كما تقدم ذكره ، فان مقتضى قاعدة العارية أن المستفاد ما صح الانتفاع به مع بقاء عينه ، والمنحة ليست كذلك ، فحكمها مخالف لقاعدة العارية فلا بد من القيد في الكلية المذكورة.

وبعضهم حمل الكلية المذكورة على ما هو الغالب ، فلا يحتاج الى القيد المذكور ، وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ويصح اجارة كل ما يصح إعارته ـ ما صورته : أي كل ما يصح إعارته من الأعيان للانتفاع بالمنفعة التي لا تكون عينا يصح إجارته أيضا ، لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض ، والعارية بدون العوض ، ولا فرق بينهما فكل ما يصح فيه أحدهما يصح


فيه الآخر ، ووجه قيد التي لا تكون عينا ظاهر ، فإنه قد نقل الإجماع في التذكرة وغيرها على عدم صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة مثل لبن شاة ، وثمر بستان ونحوهما ، ولهذا ترك القيد فلا يرد عليه أنه يجوز إعارة الشاة ونحوها ، ولا يجوز إجارتها ، ولا يحتاج الى الجواب بأن المراد غالبا كما قاله المحقق الثاني فتأمل ، انتهى.

أقول : لا أعرف لما ذكره في هذا المقام من الكلام وجها واضحا لما تقدم في العارية من الاتفاق على إعارة الشاة للبن وهي المنحة ، وان كان الدليل عليها لا يخلو من القصور ، وما نقله عن التذكرة وغيرها من الإجماع على عدم صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة عينا مثل لبن شاة أو ثمرة بستان ـ لم أقف عليه في التذكرة وانما الذي فيها ما قدمنا نقله في كتاب العارية حيث قال يجوز اعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وهي المنحة لاقتضاء الحكمة إباحته ، لأن الحاجة تدعو الى ذلك والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان إلى آخر ما قدمنا نقله عنه ثمة ، وحينئذ فإذا ثبت صحة عارية الغنم خاصة كما هو أحد القولين أو مع غيرها مما ألحق بها كما هو القول الأخر للبن خاصة أو غيره من المنافع أيضا على الخلاف ، فكيف لا يجب التقييد في الكلية المتقدمة بأحد القيدين المتقدمين.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه لصحة كلامه هنا ، ولعله أراد وجها لم يهتد إليه فهمي القاصر ، والا فإنه على ظاهره في غاية الغرابة من مثله والله سبحانه العالم.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في أن العين المستأجرة كالدابة ونحوها أمانة في يد المستأجر في ضمن المدة المستأجرة لا يضمنها الا بالتفريط أو التعدي ، والوجه فيه أنها مقبوضة بإذن المالك ، فلا يتعقبها ضمان الا على أحد الوجهين المذكورين.

وانما الخلاف فيما بعد المدة إذا لم يطالب المالك بردها أو طالب ولكن وقع التلف في أثناء الرد بحيث لم يؤخر الدفع بعد الطلب ، والمشهور بين المتأخرين العدم ، لأنه لا يجب على المستأجر رد العين على الموجر ، ولا مؤنة ذلك ،


وانما يجب عليه التخلية بين المالك وبينها كالوديعة ، لأصالة براءة ذمته من وجوب الرد ، لأنها أمانة قبل انقضاء المدة ، فيستصحب ولا يجب ردها الا بعد المطالبة ، والواجب بعدها تمكينه منها ، كغيرها من الأمانات.

وخالف في ذلك جماعة منهم الشيخ وابن الجنيد ، قال في المبسوط : إذا استأجر دابة واستوفي حقه أو لم يستوف وأمسك البهيمة بعد مضي المدة فهل يصير ضامنا لها؟ وهل يجب عليه مؤنتها ومؤنة الرد بعد الاستيفاء أم لا؟ فإنه يجب عليه الرد بعد مضي المدة ، ومؤنة الرد إذا أمسكها وقد أمكنه الرد على حسب العادة صار ضامنا ، وانما قلنا ذلك لأن ما بعد المدة غير مأذون له في إمساكها ومن أمسك شيئا بغير اذن صاحبه وأمكنه الرد فلم يرد ضمن ، وفي الناس من قال : لا يصير ضامنا ، ولا يجب عليه الرد ولا مؤنة الرد وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنها أمانة في يده ، فلم يجب ردها مثل الوديعة.

وقال ابن إدريس : الذي يقوى في نفسي أنه لا يصير ضامنا ولا يجب عليه الرد الا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأن هذه أمانة فلا يجب ردها الا بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، لأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي‌ء يحتاج الى دليل ، وما ذكره شيخنا في نصرة مذهبه فبعيد ، ويعارض بالرهن إذا قضى الراهن الدين ، ولم يطالب برد الرهن ، وهلك فلا خلاف أن المرتهن لا يكون ضامنا له ، وإن كان قال : للمرتهن أمسك هذا الرهن الى أن أسلم إليك حقك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة ، ولم يأذن فيما بعدها مطلقا ، بل بقي على أمانته ، وعلى ما كان أولا ، وكذلك في مسئلتنا ، انتهى.

وعلى هذا القول جرى أكثر من تأخر عنه منهم الفاضلان في غير المختلف وأما فيه فإنه بعد نقل كلام الشيخ وكلام ابن إدريس قال : وفي ذلك عندي تردد. أقول : والأظهر هو القول المشهور تمسكا بأصالة براءة الذمة حتى يقوم على


خلافها دليل ، مؤيدا ذلك بالنظائر المذكورة في كلامهم.

بقي الكلام فيما لو اشترط عليه الضمان من غير تعد ولا تفريط ، وظاهرهم هنا هو القول ببطلان الشرط المذكور ، وتردد المحقق ثم استظهر المنع ، ومنشأ التردد من عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، ومن مخالفة هذا الشرط لمقتضى العقد ، وذلك فإنه قد ثبت شرعا أن المستأجر أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط فلا يصح هذا الشرط.

وعندي فيه نظر ، قد تقدم ذكره في غير موضع ، فإن أكثر الشروط الواردة على العقود إنما هي بمنزلة الاستثناء مما دل عليه أصل العقد ، بمعنى أنه لو لا ذكرها لكان مقتضى العقد دخولها كما أن مقتضى البيع اللزوم ، مع أنه يدخله شرط الفسخ بلا خلاف ولا إشكال.

وإلى ما ذكرناه من صحة الشرط المذكور مال في الكفاية ، وعلله بما يقرب مما ذكرناه ، قال : ويمكن أن يقال : أدلة صحة العقود والشروط يقتضي صحة هذا العقد والشرط ، وكونه مخالفا لما ثبت شرعا ممنوع ، لأن الثابت عدم الضمان عند عدم الشرط ، لا مطلقا.

وقد روى موسى بن بكر (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل استأجر سفينة من ملاح فحملها طعاما واشترط عليه ان نقص الطعام فعليه ، قال : جائز ، قلت : له أنه ربما زاد الطعام؟ قال : فقال : يدعي الملاح أنه زاد فيه شيئا؟ قلت : لا ، قال : هو لصاحب الطعام الزيادة ، وعليه النقصان إذا كان قد شرط عليه ذلك» ، انتهى وهو جيد.

ثم انه علي تقدير بطلان الشرط ، هل يبطل العقد ببطلانه ، أم الشرط ، خاصة؟ قولان : قد تقدم ذكرهما في غير موضع ، والمشهور الأول ، وقد تقدم

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٠ باب ٢٧.


تحقيق القول في ذلك مقدمات كتاب الطهارة (١) ثم إنه علي تقدير القول الثاني فالثابت عدم الضمان ، وهو الظاهر ، وعلي تقدير الأول فالظاهر أنه كذلك أيضا لأصالة العدم ، ولما تقرر في كلامهم «من أن كل ما لا يضمن بصحيحه ، لا يضمن بفاسده» ، ويأتي علي ما قدمناه من صحة العقد والشرط المذكورين الضمان ، وهو ظاهر.

قالوا : ويجوز إجارة المشترك بينه وبين غيره ، لعموم الأدلة ولعدم ثبوت مانعية الشركة ، لإمكان تسليمه واستيفاء المنفعة بموافقة الشريك ، ولو امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ، ويكون كما لو تنازع الشريكان ، والحكم اتفاقي عندهم ، كما نقله في المسالك ، ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة ، حيث منع الإجارة لغير الشريك والله سبحانه العالم.

السادس : المشهور بين الأصحاب بل لا يظهر فيه مخالف صحة خيار الشرط في الإجارة ، لعموم أدلة الإجارة ، وعموم أدلة صحة الشروط الا ما استثنى ، وليس هذا منه ، وعدم ظهور مانع ، ولا فرق بين شرطه لهما معا ، أو لأحدهما ، أو لأجنبي كما تقدم في البيع ، ولا فرق بين أن تكون الإجارة لعين معينة كهذه العين ، أو يكون موردها الذمة كان يستأجره لعمل مطلق غير مقيد بشخص كبناء حائط.

وقد اتفقوا أيضا على أنه لا يدخلها خيار المجلس ، لأنه مختص عندنا بالبيع ، فلا يثبت فيها مع الإطلاق ، أما لو شرط فالمشهور عدم صحته ، لأنه شرط مجهول ، لأن المجلس يختلف بالزيادة والنقصان ، وعدم قدحه في البيع من حيث أنه ثابت فيه بالنص.

وعن المبسوط صحة الشرط المذكور (٢) لعموم «المؤمنون عند شروطهم». ورد بما عرفت من أنه شرط مجهول ، فيجهل ، به العقد ، وثبوته في البيع مستثنى بما ذكرناه ، والله سبحانه العالم.

__________________

(١) ج ١ ص ١٦٤.

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.


المطلب الثاني في الشروط

وهي ستة الأول : كمال المتعاقدين فلا ينعقد بالصبي والمجنون ، وفي الصبي المميز بإذن الولي وجهان ، بل قولان : وقد تقدم تحقيق ، الكلام في المقام في البيع (١) بما لا مزيد عليه.

الثاني : معلومية الأجرة لا خلاف ولا إشكال في اشتراط كون الأجرة معلومة في الجملة ، لكن هل يكفي في المكيل والموزون الاكتفاء بمعلوميتها بالمشاهدة ، لانتفاء معظم الغرر بذلك ، وأصالة الصحة أم لا بد من الكيل والوزن في كل منهما؟ قولان : المشهور الثاني ، ونقل الأول عن جماعة منهم الشيخ والمرتضى ، واستحسنه في الشرائع ، واستشكل في الإرشاد في ذلك.

قال في المبسوط : مال الإجارة يصح أن يكون معلوما بالمشاهدة ، وان لم يعلم قدره ، لأصالة الصحة ، ولأن الغرر منفي لحصول العلم بالمشاهدة.

ومنع ابن إدريس من ذلك ، وأجيب عنه بأن الإجارة معاملة لازمة مبنية على المغالبة والمماكسة ، فلا بد فيها من نفي الغرر عن العوضين ، وقد ثبت من الشارع اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون في البيع ، وعدم الاكتفاء بالمشاهدة ، فكذا في الإجارة ، لاتحاد طريق المسئلتين ، ولنهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) عن الغرر مطلقا ، وهو شامل لموضع النزاع ومثله المعدود ، وكذا أجاب به في المسالك ، ونحوه كلام العلامة في المختلف.

وظاهر المحقق الأردبيلي هنا الميل إلى القول الأول ، حيث قال بعد نقل الخلاف في المسئلة : والأصل وعموم أدلة الإجارة وعدم دليل صالح للاشتراط دليل الأول ، إذ ليس الا الغرر المنفي في البيع على ما نقل عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلو صح كان دليلا في البيع فقط ، الا أن يعلم أن السبب هو الغرر فقط من حيث

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٦٧.

(٢) الدعائم ج ٢ ص ١٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٠ ح ٣.


هو ، وأنه الموجب للفساد ، وأنه موجود فيما نحن فيه فكان دليلا للثاني أيضا ولكن أنى بإثبات ذلك كله ، فإن المراد بالغرر المنفي غير واضح ، وكذا عليته فقط ، ووجوده فيما نحن فيه ، إذ نعلم انتفاعه في مشاهدة غير المكيل والموزون بالاتفاق ، والظاهر أنه يكفي العلم بالمشاهدة في المكيل والموزون ، وفي المعدود والمزروع بالطريق الأولى ، ويؤيده بطلان القياس ، وكون الإجارة غير بيع عندنا.

وقال في الشرح قلت : الحديث ورد في البيع ، والإجارة محمولة عليه عند بعض العامة ، لأنها بيع ، وأما عندنا فلا يأتي الا من طريق اتحاد المسئلتين إلى آخره ، وقد عرفت عدم إمكان إثبات الاتحاد بحيث لا يكون قياسا باطلا ، انتهى كلامه وهو جيد.

أقول : وقد تقدم في كتاب البيع الكلام في هذه المسئلة (١) والنقل عن جملة من الأصحاب جواز البيع مع المشاهدة في الصورة المذكورة ، وأنه هو الظاهر من أكثر من الأخبار ، وإذا ثبت ذلك في البيع بطل ما اعتمدوه من حمل الإجارة عليه ، وما استندوا اليه من الخبر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في النهي عن بيع الغرر لم يثبت من طرقنا ، وإن كثر تناقله في كلامهم وعلى تقدير ثبوته فحمل الإجارة على البيع في ذلك لا يخرج عن القياس ، كما ذكره المحقق المذكور.

وما ذكره في المسالك من نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الغرر مطلقا ، (٢) وهو شامل لموضع النزاع مردود ، بعدم ثبوت ما ادعاه ، والمنقول من كلام غيره إنما هو دعوى ورود الخبر في البيع لا مطلقا ، مع عدم ثبوته من طرقنا كما عرفت ، وبذلك يظهر لك قوة القول الأول وإن كان الأحوط هو المشهور والله سبحانه العالم.

الثالث : أن تكون المنفعة مملوكة ، اما تبعا لملك العين بأن يكون مالكا

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٨١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٠ ح ٣.


للأصل ، فتبعه المنفعة وهو ظاهر ، أو منفردة بأن يكون قد استأجره وملك منفعته بالاستيجار من غير أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه ، أو عدم الإجارة لغيره ، فلو شرط عليه أحد الأمرين لم يجز عملا بالشرط ، والظاهر أن المراد بالملكية هنا هو صحة التصرف والسلطنة على المنفعة بوجه شرعي ، لتدخل فيه ما إذا كان وقفا بناء على القول بعدم ملك الموقوف عليه.

أقول : وقد تقدم الكلام في أن للمستأجر أن يوجر غيره في المسئلة الرابعة من مسائل المطلب الثالث (١) وكذا في كتاب المزارعة ، فإنه هو الموضع الذي بسطنا فيه الأخبار ، ونقحنا المسئلة فيه كما هو حقها ، واختلفوا فيما لو آجر غير المالك شيئا مما يصح للمالك إيجاره فضولا ، هل يقع باطلا أو يقف على الإجازة؟ قولان.

قال في المسالك : ولا خصوصية لهما بالإجارة ، بل الخلاف وارد في جميع عقود الفضولي ، ولكن قد يختص الإجارة عن البيع بقوة جانب البطلان ، من حيث أنه قضية عروة البارقي (٢) مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شراء الشاة دلت على جواز بيع الفضولي وشرائه ، وقد يقال : باختصاص الجواز بمورد النص ، والأقوى توقفه على الإجازة مطلقا ، انتهى.

أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسئلة في البيع بما لا مزيد عليه (٣) ومن العجب العجاب أنهم يردون الأخبار المروية في أصولهم المشهورة المعول عليها بين متقدميهم بلا خلاف ، من جهة ضعف السند بهذا الاصطلاح الجديد ، ويتلقون هذا الخبر العامي بالقبول ، ويفرعون عليه ما لا يخفى من الفروع ، وأعجب من ذلك أن مورد خبرهم إنما هو البيع ، وهم يعدون ذلك إلى جميع المعاوضات كما سمعت من كلامه هنا ، ونحوه غيره ، فأسأل الله عزوجل المسامحة

__________________

(١) ص ٥٦٣.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٢. ب ١٨ ح ١.

(٣) ج ١٨ ص ٣٧٦.


لناولهم فيما زالت فيه الأقدام.

الرابع : أن يكون المنفعة معلومة بين المتعاقدين ، ليزول الغرر ، اما بتقدير العمل كخياطة هذا الثوب ، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني ، أو بتقدير المدة كخياطة شهر ، وركوب شهر ، وسكنى الدار سنة ونحو ذلك.

ولو قدره بالمدة والعمل معا ، قيل : يبطل وقيل : يصح ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامين : الأول : ينبغي أن يعلم أن التخيير هنا بين التقدير بكل من هذين الأمرين ليس كليا ، وإنما المراد أن كل منفعة يمكن تقديرها بهما معا فإنه يتخير بين تقديرها بأحدهما ، وذلك كاستئجار الآدمي والدابة ، فإنه يمكن ضبطه بالعمل والمدة كالمثالين المتقدمين من خياطة هذا الثوب ، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني ، ويمكن ضبطه بالزمان كخياطة شهر وركوب شهر ، فبأيهما ضبطها كان صحيحا ، وما لا يمكن ضبطه وتقديره الا بالزمان كالعقارات مثل سكنى الدار والإرضاع ، فإنه لا بد من تقديره بالزمان وضبطه به ، والضابط هو العلم بالمنفعة على أحد الوجهين المذكورين.

وعن التحرير أنه جعل الضابط بالنسبة إلى ما يجوز بهما معا ما كان له عمل بالعمل كالحيوان ، وما يختص بالزمان ما ليس له عمل كالدار والأرض ، وأورد عليه بأنه ينتقض الأول باستئجار الآدمي للإرضاع ، فإنه عمل ولا ينضبط الا بالزمان.

الثاني : فيما لو قدر بهما معا بأن جمع بين تعيين العمل وضبط المدة بحيث يتطابق بتمام العمل والمدة ، ولا يزيد أحدهما على الآخر مثل أن يخيط هذا الثوب في هذا اليوم ، فإنه قيل : بالبطلان ، لأنه غرور ، ولأن استيفاء العمل في تلك المدة قد لا يتفق ، وان اتفق فهو نادر ، فكأنه استأجره على ما لا يقدر عليه عادة ، فإنه يمكن انتهاء العمل قبل انتهاء الزمان ، وبالعكس فإن أمر بالعمل على تقدير الأول إلى أن ينتهي المدة لزم الزيادة على ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى شرط


العمل لانتهائه ، كما هو المفروض ، وإن لم يأمر بالعمل لزم ترك العمل في المدة المشروطة بالنظر إلى التحديد بالزمان ، وعلى تقدير الثاني وهو العكس ان أمر بالإكمال مع انتهاء الزمان كما هو المفروض لزم العمل في غير المدة المشروطة ، وان لم يأمر كان تاركا للعمل الذي وقع عليه العقد.

وقيل : بالصحة ونقله في المسالك عن المختلف ، ولم أقف عليه في كتاب الإجارة بعد التتبع له وكونه في غير الكتاب المذكور بعيد ، قال : واختار في المختلف الصحة محتجا بأن الغرض إنما يتعلق في ذلك غالبا بفراغ العمل ، ولا ثمرة مهمة في تطبيقه على الزمان ، والفراغ أمر ممكن لا غرر فيه ، فعلى هذا ان فرغ قبل آخر الزمان ملك الأجرة ، لحصول الغرض ، فإن خرجت المدة قبله فلمستأجر فسخه ، فإن فسخ قبل عمل شي‌ء فلا شي‌ء ، أو بعد شي‌ء فأجرة مثل ما عمل ، وان اختار الإمضاء لزم الإكمال خارج المدة ، وليس له الفسخ.

ثم قال في المسالك : والحق أن ما ذكره إنما يتم لو لم يقصد المطابقة ، وهو خلاف موضع النزاع ، فلو قصداها بطل ، كما قالوه ، ومع ذلك يشكل لزوم أجرة المثل مع زيادتها على المسمى ، فإن الأجير ربما يجعل التواني في العمل وسيلة إلى الزائد ، فينبغي أن يكون له أقل الأمرين من المسمى ان كان أتم العمل وما يخصه منه على تقدير التقسيط ان لم يتم ، ومن أجرة مثل ذلك العمل ، والأقوى البطلان الا مع إرادة الظرفية المطلقة ، وإمكان الوقوع فيها انتهى.

وفي الشرائع قد تردد في المسئلة ، وهو في محله ، لخلو المسئلة عن النصوص ، وتصادم ما ذكر هنا من التعليلين بالخصوص ، وان كان كلام العلامة لا يخلو من قرب ، حملا للمطابقة على المبالغة ، فإن الظاهر أن الغرض الكلى من الإجارة إنما هو تحصيل المنفعة ، فيكون دائرا مدار الفراغ من العمل ، والزمان لا دخل له في ذلك الا من حيث الظرفية ، فبوقوعه فيه قبل تمامه تثبت استحقاق الأجرة ، وقبل تمامه يتسلط المستأجر على الفسخ كما ذكره ، هذه


ثمرة اشتراطه في المقام ، وارادة المطابقة حقيقة ـ لو فرض قصدهما كذلك ، مع كونه لا يترتب عليه أثر ولا ثمرة مهمة ـ نادر ، والأحكام إنما تبنى على الأفراد الغالبة المتكررة ، وكيف كان فالمسئلة في محل من الأشكال والله سبحانه العالم.

الخامس : أن تكون المنفعة مباحة ، والكلام هنا في موضعين الأول : الظاهر أنه لا خلاف في تحريم اجارة البيت ليحرز فيه الخمر ، والدكان ليبيع فيه الآلة المحرمة ، والأجير ليعمل له مسكرا ، بمعنى أن الإجارة وقعت لهذه الغايات أعم من أن يكون قد وقع شرطها في متن العقد أو حصل الاتفاق عليها.

ويدل عليه رواية جابر (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر ، قال : حرام أجرته».

إنما الخلاف هنا في موظعين أحدهما أنه هل تكون الإجارة باطلة ، وكذلك البيع ، أو أنه يصح ذلك وان أثم ، فالمشهور الأول وقيل : بالثاني ، ولعل وجهه أن النهى إنما يفيد البطلان في العبادات ، لا في المعاملات ، وفيه أن مقتضى ما قدمنا تحقيقه في هذه المسئلة من التفصيل بأنه ان كان النهى راجعا إلى شي‌ء من العوضين بمعنى عدم صلاحيته للعوضية ، فإن النهي يدل على البطلان ، وان كان راجعا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ، فإن غاية النهى الإثم خاصة من غير أن يبطل العقد ، وما نحن فيه إنما هو من قبيل الأول بمعنى عدم صلاحية المبيع للانتفاع والانتقال ، كما في بيع الغرر ونحوه ، وبه يظهر قوة قول المشهور.

وثانيهما أنه لم يقع الإجارة لهذه الغايات ولكن يعلم أن المستأجر والمشترى يعمل ذلك ، وذهب جمع منهم الشهيد في المسالك وتبعه المحقق الأردبيلي إلى أن حكمه كالأول في التحريم والبطلان ، لأنه معاونة على الإثم ، للنهي عنه في الآية الشريفة (٢) ، والخبر المتقدم وذهب جمع إلى الجواز ، ويدل عليه جملة من الأخبار

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٢٧ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ١٣٤ ح ٦٤ وفيه عن صابر الوسائل ج ١٢ ص ١٢٥ ح ١.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ٢.


التي قدمت في المقدمة الثالثة من مقدمات كتاب التجارة (١) وقد استوفينا تحقيق الكلام فيه ثمة فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

الثاني : اختلف الأصحاب في جواز إجارة الحائط المزوق للتنزه فجوزه ابن إدريس ، ومنعه الشيخ ، وتردد في الشرائع ، قال في الخلاف والمبسوط : لا يجوز إجارة حائط مزوق أو محكم للنظر اليه والتفرج فيه والتعلم منه ، لأنه عبث ، والنفع منه قبيح ، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة.

وقال ابن إدريس : يجوز ذلك إذا كان فيه غرض وهو التعلم من البناء المحكم ، كما يجوز اجارة كتاب فيه خط جيد للتعلم منه ، لأن فيه غرضا صحيحا ولأنه لا مانع منه.

قال في المختلف ـ بعد نقل القولين وقول الشيخ ـ : جيد لأنها منفعة ليس للمالك منع المنتفع بها ، فلا يصح إجارتها كالاستظلال بالحائط ، وفرق بين المزوق ، والكتاب ، لأن في الكتاب يتصرف المستأجر بالتسليم والتقليب بخلاف صورة النزاع ، ولو فرض عدمها لم تقع الإجارة ، كالحائط.

أقول : لا يخفى أن الظاهر من كلام الشيخ أن العلة في المنع إنما هي من حيث عدم اباحة هذه المنفعة ، كما هو عنوان أصل هذه المسئلة فكأنه جعل التنزه هنا من قبيل اللهو ، كما يشير اليه قوله «ولأنه عبث ، والنفع منه قبيح ، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة» ، لا أن العلة في عدم جواز الإجارة ما ادعاه العلامة ، وعلل به قول الشيخ من أنه يمكن استيفاء هذه المنفعة بدون إذن المالك ، كالاستظلال بحائط الغير ، وليس للمالك المنع من ذلك ، فلا تصح إجارته ، لأنه غير مملوك للمالك.

وأنت خبير بأنه أين هذا من عبارة الشيخ المتقدمة ، والعجب من المسالك حيث تبع العلامة في ذلك فقال بعد نقل قول ابن إدريس بالجواز : ومنعه الشيخ وجماعة ، لأن ذلك يمكن استيفائه بدون اذن المالك ، كما يجوز الاستظلال بحائطه بدونه انتهى.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٦٧.


وبالجملة فإن الظاهر من كلامي الشيخ وابن إدريس يرجع إلى الاختلاف في كون المنفعة هنا مباحة أو غير مباحة ، وابن إدريس يدعي الأول ، والشيخ الثاني ، نعم هذا الاختلاف إنما يتفرع على ما إذا كان التزويق داخل البيت ، كما هو الغالب لا في جدرانه الخارجة في الطرق التي تراها جميع الناس ، فينبغي تقييد محل النزاع بذلك ، بناء على الغالب المتعارف ، وتقييد إطلاق كلامهم بذلك ، وكيف كان فالظاهر بناء على ما قلناه ترجيح كلام ابن إدريس فإن ما ذكره غرض صحيح لأرباب تلك الصناعة ، والله سبحانه العالم.

السادس : أن يكون مقدورا على تسليمها ، والكلام هنا يقع في مواضع : الأول : لا ريب أن من شرط صحة الإجارة عندهم قدرة الموجر على تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، ولا ريب أيضا في اشتراط كون العين المستأجرة مقدورة الانتفاع في الجملة ، ليمكن الانتفاع المطلوب إذ استيجار الغير المقدورة التي لا يمكن الانتفاع بالمطلوب منها سفه محض وغرر ، ويدل عليه العقل والنقل ، فلو استأجر الأخرس للتعليم أو الأعمى لحفظ متاع بالبصر بطل ، لما ذكرنا.

والظاهر كما تقدم ذكره في كتاب البيع عدم اشتراط كون تسليم المنفعة مقدورا للموجر ، بل يكفي إمكان التسلم ، فلو كان المستأجر قادرا على استيفاء المنفعة بأخذ العين من الغاصب بنفسه. أو معاون أو قادرا على تحصيل الآبق ، فالظاهر جواز الاستيجار ، ونحوه أيضا استيجار الغاصب للمغصوب الذي في يده ، لحصول التسلم ، والظاهر أنه يخرج عن الضمان والغاصبية بمجرد العقد ، وأن الأظهر في الجميع صحة الإجارة ، لعموم الأدلة والأصل عدم ثبوت مانع ، ثم انه فيما عدا صورة الغصب ان بذل الجهد في تسليمه ولم يمكن التسليم بطل الإجارة ، لأن لزوم الأجرة موقوف على إمكان التسليم والتسلم ، الا أن يقصر المستأجر مع القدرة ، فيلزم العقد.

بقي الكلام في إجارة الآبق مع الضميمة ، وقد تردد في ذلك جملة من


الأصحاب ، منهم الشرائع والتحرير والتذكرة ، وأطلق المنع في الإرشاد وقيده في القواعد بعدم الضميمة ، ومفهومه جوازها مع الضميمة ، وهو اختيار الشهيد قيل : وجه التردد في ذلك من حيث عدم القدرة على تسليم المنفعة ، ومن جواز بيعه من الضميمة للنص الدال على ذلك ، فكذا إجارته بطريق أولى ، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله البيع ، ومن ذلك يعلم وجه المنع ، كما اختاره في المسالك والروضة ووجه الجواز كما اختاره الشهيد ، قال في اللمعة : فلا يصح اجارة الآبق وان ضم إليه أمكن الجواز ، قال الشارح : كما يجوز البيع لا بالقياس بل لدخولها في الحكم بطريق اولى ، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله ، وبهذا الإمكان أفتى المصنف في بعض فوائده ، ووجه المنع فقد النص المجوز هنا ، فيقتصر هنا على مورده ، وهو البيع ومنع الأولوية ، انتهى.

أقول : والظاهر هو ما اختاره شيخنا المذكور من المنع لما ذكره ، فإنه وجيه ، ومع تسليم الأولوية فإنه لا يخرج عن القياس المنهي عنه في الأخبار ، كما قدمنا تحقيقه في مقدمات الكتاب في كتاب الطهارة (١).

ثم إنه على تقدير الجواز مع الضميمة فإنهم قد صرحوا بأنه يشترط كونها متمولة يمكن إفرادها بالمعاوضة ، قالوا : وفي اعتبار أفرادها بجنس ما يضم إليه ففي البيع تفرد بالبيع ، وفي الإجارة تفرد بالإجارة ، أو يكفي كل واحد منهما في كل واحد منهما ، وجهان : من حصول المعنى ، ومن أن الظاهر ضميمة كل شي‌ء إلى جنسه ، وقوى الشهيد الثاني.

الثاني : لو منعه المؤجر ولم يسلمه العين المستأجرة سقطت الأجرة ، وليس للمؤجر المطالبة بها ، والحال ذلك ، والظاهر على هذا بطلان العقد وانفساخه بنفسه ، ويكون كتلف العين ، والمبيع قبل التسليم ، وهو مختار التذكرة الا أنه قيده بمنع الموجر المستأجر من العين قبل أن يستوفي المنافع ، وقرب ثبوت الخيار

__________________

(١) ج ١ ص ٦٠.


لو استوفاها وقيل : انه لا ينفسخ الا بالفسخ ، فيتخير بين الفسخ لتعذر حصول العين المستأجرة ، فإذا فسخ سقط المسمى ان لم يكن دفعه ، والا استرجعه وبين الالتزام بالعقد ، ومطالبة المؤجر بعوض المنفعة ، وهو أجرة مثلها ، لأن المنفعة مملوكة له ، وقد منعه الموجر منها وهي مضمونة بالأعيان ، وحينئذ فيرجع بالتفاوت ، وهو زيادة أجرة المثل عن المسمى ان كان ، لأن المؤجر يستحق المسمى في العقد ، والمستأجر أجرة المثل ، ويرجع عليه بالزيادة عما يستحقه ان كان هناك زيادة ، وهذا القول اختيار الشرائع ، والمسالك ، والقواعد.

الثالث : لو منع المستأجر ظالم غير الموجر عن الانتفاع بالعين المستأجرة ، فلا يخلو اما ان يكون قبل قبضها من المؤجر أو بعده ، فهيهنا مقامان الأول أن يمنعه قبل القبض ، والظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن المستأجر يتخير بين الفسخ فيرجع كل ملك الى مالكه ، ويرجع المستأجر بالأجرة على الموجر ان كان قد دفعها له ، والا فلا ، ويرجع المالك على الغاصب بأجرة المثل كلا أو بعضا من حيث الغصب ، ومنع تحصيل المنفعة من العين ، وبين التزام العقد والرضاء به فيرجع على الغاصب بالعين المنتفع بها ، وبأجرة المثل في مدة المنع ، لأنه المباشر للإتلاف ظلما وعدوانا.

قيل : ولا يسقط هذا التخيير بعود العين إلى المستأجر في أثناء المدة ، بل له الفسخ في الجميع ، وأخذ المسمى لفوات المجموع من حيث هو مجموع ، ولأصالة بقاء الخيار السابق ، وله الإمضاء واستيفاء باقي المنفعة ، ومطالبة الغاصب بأجرة مثل ما فات في يده من المنافع ، وليس له الفسخ في الماضي خاصة ، والرجوع بقسطه من المسمى على الموجر ، واستيفاء الباقي من المنفعة ، لاقتضائه تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو خلاف مقتضى العقد ، بل اما أن يفسخ في الجميع ، أو يمضيه ، مع احتماله ، لأن فوات المنفعة في هذه الحال يقتضي الرجوع الى المسمى وقد حصل في البعض خاصة ، فاستحق الفسخ فيه ، انتهى.


أقول : هذا الاحتمال لا يخلو عن قرب ، لأن مبني المنع في الكلام الأول على لزوم تبعيض الصفقة على الموجر ، وهو غير جائز عندهم في جميع العقود ، وفيه ما تقدمت إليه الإشارة في غير موضع مما تقدم أنه وان اشتهر ذلك بينهم ـ حتى صار قاعدة كلية بنوا عليها في جملة من الأحكام ـ الا أنا لم نقف على دليل من الأخبار ، لا في باب البيع ولا غيره ولعل ذلك من جملة ما اتفقوا فيه العامة ، وان اتفقوا عليه وكم من مثله في قواعدهم الأصولية ، كما لا يخفى على المتتبع.

الثاني أن يمنعه بعد القبض ، والظاهر أنه لا خلاف في صحة العقد ، وعدم فسخه ، لأن وجه التخيير في الأول ، وجواز الفسخ انما كان من حيث أن العين قبل القبض مضمونة على المؤجر ، فللمستأجر الفسخ عند تعذرها ، والعلة هنا منتفية ، لأنه قد قبضها ولزمت الإجارة باجتماع شروطها ، وانما عرض بعد ذلك حيلولة الغاصب له بمنعه عن التصرف ، وعلى هذا فيرجع المستأجر على الغاصب بأجرة مثل المنفعة الفائتة في يده لا غير ، ويرجع الموجر على المستأجر بالمسمى لو لم يقبضه سابقا والعين مضمونة في يد الغاصب لصاحبها ، قالوا : ولو كان الغاصب هو الموجر فلا فرق.

الرابع : قالوا : إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة الا أن يعيده صاحبه ، ويمكنه منه ، وتردد في الشرائع في ذلك.

أقول : ظاهر هذا الكلام أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، ولو أدى الانهدام الي عدم الانتفاع بالمسكن بالكلية ، وبه صرح المحقق الأردبيلي أيضا فقال بعد ذكر عبارة المصنف المشتملة على مثل هذا الإجمال أيضا ما لفظه : أي لو انهدم المسكن المستأجر بحيث لا يمكن الانتفاع به أو انقض ونقص نقصانا لو كان قبل العقد لم يرغب في الإجارة عرفا بالأجرة المقررة لم ينفسخ ، بل للمستأجر فسخ العقد ، والرجوع الى المالك بعد الفسخ بمقدار حصة الباقي من أجرة المدة ، الا أن يعيد المالك المسكن إلى أصله الى آخره ، وصريح كلام شيخنا في المسالك تقييد هذا الإطلاق بما لو لم يؤد الانهدام الى فوات الانتفاع بالكلية ، أو أنه يمكن زوال المانع


والا انفسخ العقد بنفسه ، قال بعد ذكر المصنف الحكم كما نقلناه عنهم : ومقتضى جواز الفسخ أن العقد لا ينفسخ بنفسه ، فلا بد من تقييده بإمكان إزالة المانع ، أو بقاء أصل الانتفاع فلو انتفيا معا انفسخت الإجارة ، لتعذر المستأجر عليه انتهى.

الا أن يحمل إطلاق كلام المحقق المتقدم ذكره على إمكان إزالة المانع فلا تنافي حينئذ ، وله البقاء على العقد وعدم الفسخ لو لم ينفسخ العقد بنفسه ، وتلزمه الأجرة ووجه الفسخ ـ على تقدير خروج السكنى عن الانتفاع المراد منه عرفا ظاهر ، الا أن يكون سبب ذلك من المستأجر ، وحصول الضرر من جهته ، لأن الأجرة انما بذلت واستحقت في مقابلة الانتفاع ، فإذا فات في الزمان المقرر فلا أجرة الا أن يكون ذلك من المستأجر كما عرفت ، والمراد بإعادته المستثناة من الخيار يعني الإعادة بسرعة على وجه لا يفوت به شي‌ء من المنافع ، ووجه التردد هنا على تقدير إعادته سريعا من زوال المانع بإعادته سريعا مع عدم ذهاب شي‌ء من المنافع ، ومن ثبوت الخيار بالانهدام ، فيستصحب حيث لم يدل دليل على سقوطه بالإعادة ، وهو ظاهر اختياره في المسالك ، أقول : لم أقف في هذا المقام على نص والله سبحانه العالم.

المطلب الثالث في الأحكام

وفيه مسائل الاولى : قد صرحوا بأن الأجير الخاص وهو الذي يستأجر مدة معينة للعمل بنفسه أو يستأجر عملا معينا مع تعيين أول زمانه ، بحيث لا يتوانى في فعله ، حتى يفرغ منه لا يجوز له العمل لغير من استأجره إلا باذنه ، والأجير المشترك وهو الذي يستأجر لعمل مجرد عن المباشرة ـ مع تعيين المدة ـ ، أو عن المدة مع تعيين المباشرة ، ـ أو مجردا عنهما يجوز له ذلك.

أقول : والأولى في التعبير عن الأول بالمقيد ، عوض الخاص ، وعن الثاني بالمطلق عوض المشترك ، كما لا يخفى.


وكيف كان فتفصيل هذا الإجمال يقع في مقامين الأول : في الأجير الخاص وقد عرفت تفسيره ، والوجه في عدم جواز عمله ـ لغير من استأجره إلا بالإذن ـ أنه متى وقعت الإجارة على أحد الوجهين المذكورين ، فان منفعته المطلوبة قد صارت ملكا للمستأجر ، فلا يجوز له صرف عمله الذي استأجر عليه ، ولا صرف زمانه المستأجر فيه في عمل ينافي ما استوجر عليه ، وأما لو لم يناف ما استوجر عليه كالتعليم والتعلم والعقد ونحو ذلك حال الاشتغال بالخياطة المستأجر عليها مثلا : فالأقرب الجواز ، كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين.

قال في المسالك : وهل يجوز عمله في الوقت المعين عملا لا ينافي حق المستأجر كإيقاع عقد ونحوه في حال اشتغاله ، أو تردده في الطريق بحيث لا ينافيه وجهان : من شهادة الحال بالإذن في مثل ذلك ، والنهي عن التصرف في ملك الغير بغير اذنه.

أقول : لا يخفى أنه وان كان لا خلاف ولا إشكال في النهي عن التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، إلا أن اجراء ذلك فيما نحن فيه ممنوع ، لأن مقتضى الإجارة اشتغال الذمة بأداء العمل المستأجر عليه ، والحال أنه لا خلاف ولا إشكال في براءة الذمة بأدائه على هذا الوجه ، حيث أن المفروض عدم المنافاة ، وإذا ثبت براءة الذمة من العمل المذكور ، فلا يضر هذا التصرف بوجه من الوجوه ، واللازم مما ذكروه ـ لو تم ـ المنع من كلامه مع الغير مطلقا ، وكذا نظره لغيره ، وبطلانه أوضح من أن يخفى والظاهر أن له في الصورة المذكورة العمل فيما لم تجر العادة بوجوب العمل فيه للمستأجر كالليل ، لكن يشترط أن لا يؤدي الى ضعف العمل نهارا ، وكما أنه لا يجوز له العمل بما ينافي العمل للمستأجر عليه ، كذلك لا يجوز للغير استعماله في المنافي. والذي حضرني من الأخبار في المقام ما رواه

في الكافي في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجرة معلومة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.


فيبعثه في ضيعة فيعطيه رجل آخر دراهم ويقول : اشتر بها كذا وكذا وما ربحت بيني وبينك ، فقال إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس».

وهي دالة بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الاذن ، والظاهر أن المراد به التحريم ، ويحمل الخبر على الأجير الخاص كما هو ظاهر الكلام ، وبه استدل في المفاتيح على الحكم المذكور.

الثاني : في الأجير المشترك وقد عرفت تعريفه ورجوعه إلى ثلاثة أقسام : الأول : الاستيجار على عمل مجرد عن المباشرة مع تعيين المدة ، كأن يستأجره على تحصيل الخياطة بنفسه أو غيره يوما.

الثاني : أن يستأجره على عمل مجرد عن المدة مع تعيين المباشرة ، كأن يستأجره ليخيط له ثوبا بنفسه ، من غير أن يقيده بمدة.

والثالث : أن يكون مجردا عنهما كان يستأجره على تحصيل خياطة ثوب بنفسه أو غيره من غير تقييد بزمان ، وهذا يجوز له العمل لغير من استأجره ، لأن مقتضى الاستيجار هنا بجميع أقسامه الثلاثة أنه يجب عليه أن يعمل ذلك العمل بنفسه أو غيره أي زمان أراد ، ولم يملك المستأجر عمله ومنفعته على وجه لا يجوز له العمل لغيره ، كما في الأول ، بل له عليه ذلك العمل مطلقا ، الا أن يكون ثمة قرينة تدل على كونه في زمان خاص كالحج ، فإنه يصير من قبيل الأجير الخاص ، أو قلنا بوجوب العمل بعد الفراغ من العقد ، كما نقل عن شيخنا الشهيد ، فإنه نقل عنه في بعض تحقيقاته أن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل والمبادرة إلى الفعل ، وعلى هذا يقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة اعتبار المباشرة ، وفرع عليه منع صحة إجارة الثانية في الصورة المذكورة.

والظاهر ضعف القول المذكور ، ولعدم وضوح الدليل عليه لا من الأخبار ولا من الاعتبار قال في المسالك : ونعم ما قال : واعلم أن الشهيد حكم في بعض تحقيقاته بأن الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل ، وأنه يجب المبادرة الى


ذلك الفعل ، فإن كان مجردا عن المدة خاصة فبنفسه ، والا تخير بينه وبين غيره ، فيقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة المباشرة ، وفرع عليه منع صحة الإجارة الثانية في صورة التجرد عن المدة مع المباشرة ، كما منع في الأجير الخاص ، وما تقدم في الإجارة للحج مؤيد لذلك ، فإنهم حكموا بعدم صحة الإجارة الثانية مع اتحاد زمان الإيقاع نصا أو حكما كما لو أطلق فيهما أو عين في أحدهما بالنسبة الأولى ، وأطلق في الأخرى ، ولا ريب أن ما ذكره أحوط ، وان كان وجهه غير ظاهر ، لعدم دليل يدل على الفورية ، وعموم الأمر بالإيفاء بالعقود ونحوه لا يدل بمطلقه على الفور عندهم ، وعند غيرهم من المحققين ، سلمنا لكن الأمر بالشي‌ء إنما يقتضي النهي عن ضده العام ، وهو الأمر الكلي لا الأفراد الخاصة ، سلمنا لكن النهي في غير العبادات لا يدل على الفساد عندهم ، والإسناد الى ما ذكر من الحج ليس بحجة بمجرده ، ويتفرع على ذلك وجوب مبادرة أجير الصلاة الى القضاء بحسب الإمكان وعدم جواز اجارة نفسه ثانيا قبل الإتمام ، وأما تخصيص الوجوب بصلوات مخصوصة وأيام معينة فهو من الهذيانات الباردة والتحكمات الفاسدة ، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى والله سبحانه العالم.

الثانية : لا خلاف ولا إشكال في أنه تملك الأجرة بنفس العقد ، لاقتضاء صحة المعاوضة نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الأخر ، كما في البيع وسائر عقود المعاوضات اللازمة ، والإجارة منها ، لكن لا يجب تسليم الأجرة إلا بتسليم العين المستأجرة ان كانت الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت الإجارة على عمل ، ولا يجوز تأخيرها مع الطلب ، والحال كذلك ، ومما يدل عليه بالنسبة إلى تمام العمل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الجمال والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته».

وعن شعيب (٢) قال تكارينا لأبي عبد الله عليه‌السلام قوما يعملون في بستان له ،

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٦ ح ١ و ٢.


وكان أجلهم إلى العصر فلما فرغوا قال لمعتب : أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم».

والظاهر أن ذكر جفاف العرق كناية عن السرعة في الإعطاء وبالجملة فإن الأجرة تتعلق بذمة المستأجر بمجرد العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا يعد أحد الأمرين المذكورين ، وأما قولهم يجب تسليم الإجارة مع الإطلاق ، فالظاهر أن المراد به أول وقت وجوب الدفع ، الذي هو عبارة عن تسليم العين ، أو الفراغ من العمل.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف ويجب تعجيلها مع الإطلاق ومع شرط التعجيل ما صورته ـ : المراد بتعجيلها مع الإطلاق في أول أوقات وجوب دفعها ، وهو تمام العمل ، وتسليم العين المؤجرة ، لأن بتسليم أحد العوضين تسلط على المطالبة بالأجرة بمقتضى المعاوضة الموجبة للملك ، ثم انه على تقدير ما ذكرنا من أنه لا يجب التسليم الا بعد أحد الأمرين المذكورين ، قالوا : لو كان المستأجر وصيا لم يجز له التسليم قبل ذلك الا مع الأذن صريحا أو بشاهد الحال ، ولو فرض توقف العمل على الأجرة كالحج مثلا وامتنع المستأجر من التسليم والظاهر كما استظهره في المسالك أيضا جواز الفسخ ، ولو شرط التعجيل في الأجرة لم يزد على ما اقتضاه الإطلاق كما عرفت من أنه يجب التعجيل مع الإطلاق.

نعم يفيد ذلك تأكيدا ويتفرع عليه تسلط الموجر على الفسخ لو شرط ذلك في مدة مضبوطة ، فأخل به ، ونحوه لو شرط القبض قبل العمل ، أو تسليم العين المؤجرة ، فإنه يصح عملا لعموم أدلة لزوم الشروط في العقود اللازمة ، ويتسلط على الفسخ مع الإطلاق به كما في غيره ، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب البيع ، وتقدم القول بعدم تسلطه على الفسخ ، بل الواجب رفع الأمر إلى الحاكم ، وجبره على القيام بالشرط ، فليرجع في تحقيق ذلك من أحب الوقوف على الخلاف في المسئلة الى ما قدمناه ثمة (١).

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٤.


ولو شرط التأجيل في الأجرة صح أيضا بشرط ضبط المدة وكذا لو شرطها نجوما بأن يدفع العين أو يعمل العمل ولا يطالب بالأجرة إلى الأجل المعين ، أو يقسطها فيجعل لكل أجل قسطا معلوما منها ، فإنه لا مانع من ذلك عملا بعموم الأدلة ، وعدم ظهور المانع ، وكذا لا فرق بين الإجارة الواردة على عين معينة ، أو الإجارة المطلقة الواردة على ما في الذمة ، ولا خلاف عندنا في شي‌ء من هذه الأحكام ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : قالوا : لو وجد بالأجرة عيبا سابقا على وقت القبض ، فإن كان الأجرة مطلقة وهي المضمونة تخير بين الفسخ وأخذ العوض وان كانت معينة تخير بين الفسخ والأرش ، وعلل الأول بأن المطلق يتعين بتعيين المالك ، وقبض المستحق كالزكاة فحينئذ له الفسخ ، لكون المعينة معيبة ، وله الأبدال بالصحيح الذي هو مقتضى العقد ، وهو المشار اليه بالعوض.

والتحقيق ما ذكره جملة من محققي المتأخرين أن مقتضى الإطلاق الحمل على الصحيح ، وهو أمر كلي لا ينحصر في المدفوع ، ودعوى تعينه بما ذكر ممنوع ، وقضية ذلك حينئذ أنه لا فسخ هنا ، وإنما له العوض ، نعم لو تعذر العوض توجه الفسخ ، وتخير بينه وبين الرضا بالمعيب مع الأرش عوض ما فات بالعيب لتعين المدفوع اليه ، من حيث تعذر عوضه ، كما هو الحكم في الثاني وهو ما إذا كانت معينة ، فإنه يتخير كما قدمنا نقله عنهم بين الفسخ والرضا به مع الأرش ، من حيث أن تعينه مانع من البدل ، كما تقدم في كتاب البيع ، ودليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب (١) الا أن لقائل أن يقول : باختصاص هذا الحكم بالبيع ، كما هو مورد الدليل.

وظاهرهم أنه لا دليل هنا على ما ذكروه الا الحمل على البيع ، وفيه ما لا يخفى ، فمن الجائز هنا انحصار الحكم في الفسخ خاصة ، والى هذا يميل كلام

__________________

(١) ج ١٩ ص ٧٩.


المحقق الأردبيلي حيث قال ـ بعد قول المصنف وإذا كانت معينة له الفسخ أو الأرش ـ : كان دليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب ، أو يمكن اختصاص البيع بالحكم لدليله ، ويكون هنا الفسخ فقط ، بل ويمكن الانفساخ أيضا ، لعدم وقوع الرضاء به ، انتهى وهو جيد والله سبحانه العالم.

الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو استأجر دارا أو دابة أو غيرهما من الأعيان فإن له أن يؤجرها على غيره إذا لم يشترط عليه المالك استيفاء المنفعة بنفسه ، ونقل الإجماع في التذكرة عليه ، وقيده جملة من الأصحاب منهم العلامة والمحقق الشيخ علي وغيرهم ، بأنه لا يسلم العين إلى المستأجر الثاني الا بإذن المالك ، والا لكان ضامنا لها ، واعترضه المحقق الأردبيلي فقال : ما عرفت دليله ، والظاهر عدم الاشتراط ، وعدم الضمان بدونه ، للأصل وللاذن بالاستيجار.

وقد سبقه الى ذلك شيخنا الشهيد على ما نقل عنه في المسالك ، فإنه قوى الجواز من غير ضمان ، قال : لأن القبض من ضروريات الإجارة للعين ، وقد حكم بجوازها والأذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، ورد بمنع كون القبض من لوازمها لإمكان استيفاء المنفعة بدونه ، أقول : الأظهر في الاستدلال على ذلك هو الاستناد الى الأخبار الدالة على جواز الإجارة ممن استأجر وقد تقدمت في كتاب المزارعة ، فإن إطلاقها ظاهر في عدم هذا الاشتراط ، وتقييدها بما ذكروه يحتاج الى دليل واضح ، وليس فليس.

ويدل على ذلك خصوص ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر (١) عن أخيه قال : «سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شي‌ء». والى هذا القول مال أيضا في المسالك استنادا إلى الصحيحة المذكورة ، وحينئذ فله أن يؤجرها بأقل مما استأجر أو ما ساواه بلا خلاف.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٨ ح ٦.


وانما الخلاف في جواز الإجارة بالأكثر فالمشهور ذلك ، قال بعض محققي متأخري المتأخرين والأصل والقاعدة وأدلة جوازها تقتضي جوازها بأكثر من الأجرة ولو كان بجنسها أيضا وان لم يحدث حدثا من عمارة وشبهها ، انتهى.

ونقل جملة من المتأخرين الخلاف هنا عن الشيخ في المسكن والأجير والخان قال في التذكرة : قال الشيخ : لا يجوز أن يوجر المسكن ولا الخان ولا الأجير بأكثر مما استأجره إلا أن يوجر بغير جنس الأجرة أو يحدث ما يقابل التفاوت ، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي وعلى هذا النهج كلام المحقق وغيره ، والمفهوم من كلام المختلف أن موضع الخلاف أعم من هذه المذكورات ، قال في الكتاب المذكور : قال الشيخان : إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به الا أن يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس ، وبه قال المرتضى ظاهرا ، انتهى.

وقد تقدم تحقيق الكلام في المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في كتاب المزارعة ، (١) وان كان محله انما هو هذا الكتاب ، الا أنه جرى القلم به ثمة استطرادا فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

الخامسة : المشهور بين الأصحاب أنه لو استأجره ليحمل عليه متاعا الى موضع معين بأجرة في وقت معين فان قصر عنه نقص من أجرته شيئا جاز ، ولو شرط سقوط الأجرة ان لم يوصله فيه لم يجز وكان له أجرة المثل ، قال الشيخ في النهاية : من اكترى من غيره دابة على أن يحمل له متاعا الى موضع بعينه في مدة من الزمان ، فان لم يفعل ذلك نقص من أجرته كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع الأجرة ، وان أحاط الشرط بجميع الأجرة كان الشرط باطلا ، ولزمه أجرة المثل ونحوه كلام ابن الجنيد ، وكلام ابن البراج وغيرهما الا أن ظاهر كلام ابن الجنيد أنه متى أحاط الشرط بالأجرة كملا وجب القضاء بالصلح فلا تسقط الأجرة كلها ولا بأخذها جميعا ، وظاهر العلامة في المختلف ـ ونقل عن ابنه فخر المحققين أيضا ـ

__________________

(١) ج ٢١ ص.


بطلان العقد ، لبطلان الشرط ، فتجب أجرة المثل سواء أو صلة في المعين أم غيره ، وسواء أحاط بالأجرة أم لا ، ولا يخفى ما فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النص ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.

وقال ابن إدريس : والأولى عندي أن العقد صحيح ، والشرط باطل ، لأن الله تعالى قال (١) «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وهذا عقد فيحتاج في فسخه الى دليل ، والشرط إذا انضم إلي عقد شرعي صح العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي وأيضا لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا هذه المسئلة إلا شيخنا في النهاية ، لا أنها تضمنت التواتر وغيره.

أقول : ما ذكره ابن إدريس جيد على أصله الغير الأصيل ، والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : انى كنت عند قاض من قضاة المدينة فأتاه رجلان فقال أحدهما : اني اكتريت من هذا دابة ليبلغني عليها من كذا وكذا الى كذا وكذا فلم يبلغني الموضع فقال القاضي لصاحب الدابة : بلغته الى الموضع؟ قال : لا قد أعيت دابتي فلم تبلغ فقال له القاضي : فليس لك كراء إذا لم تبلغه الى الموضع الذي اكترى دابتك اليه ، قال عليه‌السلام فدعوتهما الي فقلت للذي اكترى ليس لك يا عبد الله أن تذهب بكراء دابة الرجل كله ، وقلت للآخر : يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابتك كله ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما ركبته فاصطلحا عليه ففعلا».

هذا صورة الخبر في الفقيه ، وفيه برواية الكتابين الأخيرين حذف ونقصان وإخلال بالمعنى المذكور في هذا المنقول.

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ٧٢ و ٣٢ ، الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٣ ح ١.


وما رواه المشايخ المذكورون أيضا في الموثق عن محمد الحلبي (١) «قال كنت قاعدا عند قاض من القضاة ، وعنده أبو جعفر عليه‌السلام جالس ، فأتاه رجلان فقال أحدهما : اني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا الى بعض المعادن فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا ، لأنها سوق أتخوف أن يفوتني ، فإن احتسبت عن ذلك حططت من الكرى عن كل يوم احتبسه كذا وكذا ، وانه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوما فقال القاضي : هذا شرط فاسد وفه كراه ، فلما قام الرجل أقبل الي أبو جعفر عليه‌السلام فقال : شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه».

وأنت خبير بأن الرواية الأولى من هاتين الروايتين وان استدل بها الأصحاب للشيخ كما ذكرناه ، الا أن الظاهر أنه لا دلالة فيها عند التأمل ، إذ غاية ما تدل عليه أنه إذا شرط عليه أن يوافي به الى موضع معين في يوم معين صح ذلك ، فلو لم يفعل وجب الصلح بإسقاط بعض الأجرة بنسبة ما تركه من الموضع ولم يبلغه فيه ، ولا دلالة فيها على أجرة المثل أيضا نعم الرواية الثانية ظاهرة الدلالة على المطلوب.

وأما ما يظهر من المسالك ـ وقبله الشيخ المحقق الشيخ علي من الحكم ببطلان الإجارة هنا ، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الحكم المذكور كما قدمنا ذكره عن الأصحاب : هذا قول الأكثر ، ومستنده روايتان صحيحة وموثقة عن محمد بن مسلم والحلبي عن الباقر عليه‌السلام ويشكل بعدم تعيين الأجرة لاختلافهما على التقديرين كما لو باعه بثمنين على تقديرين ، ومن ثم ذهب جماعة إلى البطلان ويمكن حمل الأخبار على الجعالة إلى آخر كلامه ـ ففيه أن عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالشروط كتابا وسنة مما تقضي بالصحة في هذا العقد ، وما ادعاه من البطلان بهذه الجهالة لا دليل عليه ، بل الدليل واضح في خلافه كالخبر المذكور ، ومثله صحيحة أبي حمزة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكتري

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٢ ح ٣٢٧٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٤ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٩ ح ١.


الدابة فيقول : اكتريتها منك الى مكان كذا وكذا فان جاوزته فلك كذا وكذا زيادة وسمى ذلك قال : لا بأس به كله». وهي مع صحتها صريحة في عدم اشتراط ما ادعاه من العلم ، وعدم الضرر بمثل هذه الجهالة ، وتمسكه في البطلان بما لو باعه بثمنين على تقديرين مردود ، بأنه وإن قيل : بالبطلان في ذلك إلا أن مقتضى الأخبار الصحة كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع ، وهو مؤيد لما ذكرناه هنا وبه يظهر أن ما ذكراه من التنزيل على الجعالة لا موجب له ، ولا ضرورة تدعو اليه ، على أنه لا معنى لقوله عليه‌السلام في الرواية «ما لم يحط بجميع كراه» إذ الظاهر كما ذكره بعض المحققين هو صحة هذا الشرط في الجعالة ، ولو كانت جعالة لم يتجه هذا الاستثناء ، ويؤيد ما ذكرناه أيضا ما صرح به جملة منهم من الصحة في قولهم إن خطته روميا فلك كذا ، وإن خطته فارسيا فلك كذا وقولهم إن عملت هذا العمل اليوم فلك درهمان ، وإن عملته في غد فلك درهم ، كما سيأتي تحقيق ذلك إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فان كلا من الفعلين المردد بينهما في هذه المواضع المعدودة ، معلوم ، وأجرته معلومة ، والواقع لا يخلو منهما ، فلا مانع من الصحة ، والمعلومية على هذا الوجه كافية ، بمقتضى ما ذكرناه من الاخبار في البيع ، والإجارة ، ودعوى الزيادة على ذلك بحيث يحكم بالبطلان مع عدمها يتوقف على الدليل ، وليس فليس والله سبحانه العالم.

السادسة : اختلف الأصحاب فيما لو قال : آجرتك كل شهر بكذا فقيل : بالبطلان مطلقا لجهالة العوضين المقتضية للغرر إذ لا يلزم من مقابلة جزء معلوم من المدة بجزء معلوم من العوض كون مجموع العوضين معلومين ، فان العوض هنا المجموع ، وهو مجهول وانما عليه اجرة المثل فيما سكن ، لعدم صحة الإجارة والى هذا القول ذهب ابن إدريس والمختلف والمسالك وغيرهم ، وقيل : ان الإجارة تصح في شهر وتبطل في الباقي وله أجرة المثل ان سكن وهو المنقول عن الشيخين في المقنعة والنهاية ، وبه صرح في اللمعة والشرائع وغيرهم ، والوجه فيه أن الشهر


معلوم وكذا أجرته فلا مانع من الصحة فيه ، نعم يبطل الزائد لعدم انحصاره في وجه معين ، وأن الأجرة تابعة له ، ورجح المحقق الأردبيلي الصحة مطلقا في المسئلة ، حيث قال بعد ذكر القولين المذكورين ، وهيهنا احتمال ثالث ، وهو الصحة في كل ما جلس ، واشتراط العلم بحيث يمنع من هذا غير معلوم ، ولا ضرر ولا غرر ، إذ كلما جلس شهرا يعطى ذلك ، ونصفه في نصفه ، وعلى هذا انتهى وهو جيد ، ووجهه معلوم مما قدمناه في سابق هذه المسئلة من الأخبار المذكورة ، والعلل المأثورة.

أقول : ويظهر من كلام ابن الجنيد هنا القول بذلك ، حيث قال على ما نقله في المختلف : وقال ابن الجنيد : ولا بأس أن يستأجر الدار كل شهر بكذا وكل يوم بكذا ، ولا يذكر نهاية الأجل ، ولو ذكرها عشرين سنة أو أقل أو أكثر جاز ذلك ، انتهى ، وهو ظاهر كما ترى في القول بالصحة ، ولم أقف على من نقله عنه في كتب الاستدلال كالمسالك وغيره ولا أشار اليه ، وإنما المشهور في كتبهم نقل القولين المذكورين.

وكيف كان فإنك قد عرفت في مواضع مما قدمناه في المباحث السابقة أن الحق الحقيق بالاتباع وان كان قليل الاتباع هو الوقوف في موارد الأحكام على النصوص ، وعدم الالتفات إلى ما اشتهر بينهم من القواعد التي زعموها أصولا حتى ردوا لأجلها الأخبار ، وارتكبوا فيها التأويلات البعيدة والى القول بالصحة هنا أيضا يميل صاحب الكفاية ، وقد عرفت قوته.

وقد اختلفوا أيضا في ما لو قال : ان عملته اليوم فلك درهمان ، وان عملته في غد فلك درهم ، فقيل : بالصحة وهو اختيار الشرائع واللمعة تبعا للخلاف ، حيث قال في الكتاب المذكور : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : ان خطت اليوم فلك درهم ، وان خطت في الغد فلك نصف درهم ، صح العقد فيهما ، لأن


الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج الى دليل ، وقوله عليه‌السلام (١) «المؤمنون عند شروطهم». وفي أخبارهم ما يجرى مثل هذه المسئلة بعينها منصوصة (٢) وهي أن يستأجر منه دابة على أن يوافي به يوما بعينه على أجرة معينة ، فان لم يواف به ذلك اليوم كان أجرتها أقل من ذلك ، وان هذا جائز» ، وهذا مثلها بعينها سواء ، وقال في المبسوط : صح العقد فيهما ، فان خاطه في اليوم الأول كان له الدرهم ، وان خاطه في الغد كان له أجرة المثل ، وهو ما بين الدرهم والنصف ، ولا ينقص من النصف الذي سمى ، ولا يبلغ الدرهم ، قال في المختلف : وهذا القول الذي اختاره في المبسوط قول أبي حنيفة.

وقال ابن إدريس : يبطل العقد وتبعه عليه أكثر المتأخرين كالمحقق الثاني والشهيد الثاني في المسالك ، والعلامة في المختلف ، وغيرهم اعترض في المختلف على كلام الشيخ في الخلاف ، فقال : وقول الشيخ بالأصل ممنوع ، إذ يترك لقيام معارض ، وفرق بين صورة النزاع وصورة النقل ، لأن صورة النقل أوجب عليه أن يوافي به في يوم بعينه ، وشرط ان لم يفعل أن ينقص من أجرته شيئا ، وصورة النزاع لم توجب شيئا معينا فتطرقت الجهالة إليه ، بخلاف الأول انتهى.

وفيه أن الأصل الذي تمسك به الشيخ أصل رزين ، وهو العمومات الدالة على صحة العقود والشروط كتابا وسنة ، وما عارضه به ليس الا مجرد دعواهم الجهالة في الصورة المذكورة ، ونحوها مما تقدم ، والدليل على الأبطال بنحو هذه الجهالة غير ثابت ، بل المعلوم من الأدلة كما عرفت إنما هو خلافه ، وما ادعاه من الفرق أيضا بين صورة النزاع والنقل ضعيف أيضا ، لأن المنازع في تلك المسئلة إنما تمسك بما تمسك به هنا من الجهالة ، ورد الرواية بذلك كما عرفت ، ومرجع الرواية إلى أنه إن أدخله في ذلك الوقت المعين فله كذا ، وان تخلف عنه فله

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤ وج ١٣ ص ٢٥٣ ح ١.


أنقص ، وهذا عين ما نحن فيه.

نعم ما ذكره في المبسوط ضعيف بما أورده عليه في المختلف ، حيث قال : وتفصيل الشيخ في المبسوط ضعيف ، لأن العقد ان صح فله المسمى ، وان بطل فله أجرة المثل ، ويكون وجوده كعدمه ، كسائر العقود الباطلة ، انتهى.

ولو قال : ان خطته فارسيا فلك درهم ، وان خطته روميا فلك درهمان ، وفسر الرومي بدرزين ، والفارسي بدرز واحد ، فالخلاف المتقدم ، الا ان ابن إدريس قال هنا بعد الحكم بالبطلان : وان قلنا هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل المجعول عليه استحق الجعل ، واعترضه في المختلف بأنه ليس بجيد ، لتطرق الجهالة إلى الجعل ، فيجب أجرة المثل وأجاب في المسالك بأن مبنى الجعالة على الجهالة في العمل والفعل كمن رد عبدي فله نصفه ، ومن رد عبدي فله كذا ، ومحله غير معلوم ، وكذا من رد عبدي من موضع كذا ، فله كذا أو من موضع كذا فله كذا مع الجهالة فيهما انتهى ، والكل نفخ في غير ضرام ، لما عرفت من التحقيق في المقام والله سبحانه العالم.

السابعة : قد تقدم أنه لا خلاف ولا إشكال في أن الأجير يملك الأجرة بنفس العقد ، ولكن لا يجب التسليم الا بتسليم العين المستأجرة ان كانت الإجارة على عين ، أو تمام العمل ان كانت على عمل ، وإنما الكلام هنا في أنه هل يتوقف استحقاق المطالبة بالأجرة بعد العمل على تسليم العين المعمول فيها كثوب يخيطه ، وشي‌ء يصلحه ، ونحو ذلك؟ وفيه أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم التوقف وهو اختيار الشرائع والإرشاد وغيرهما ، وقيل : بالتوقف على التسليم ، وهو مختار المسالك وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد ، وقيل : بالفرق بين ما إذا كان العمل في ملك الأجير ، فيتوقف على التسليم أو ملك المستأجر ، فلا يتوقف لأنه بيده تبعا للملك ، وهذا القول نقله في الشرائع وعلل القول الأول بأن العمل إنما هو في ملك المستأجر أو ما يجرى مجراه ، بمعنى أنه وإن وقع في ملك الأجير الا أنه لما


كانت يد الأجير كيد المستأجر لأنه مأذون عنه ، ووكيل عنه أو وديعة عنده فكأنه عمل وهو في يد المستأجر ، فيكون ذلك كافيا عن التسليم ، ولهذا لو عمل وهو في يد وكيله أو ودعيه فالظاهر أنه لا يحتاج الى التسليم.

والأظهر عندي الاستناد الى عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ، والشروط وخصوص ما تقدم من الأخبار الدالة على أنه لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته.

وبالجملة فإن العمل هو الذي استحق به الأجير الأجرة عقلا ونقلا ، والمعاوضة إنما وقعت عليه خاصة ، والعين في يد الأجير أمانة لا يضمنها إلا مع التعدي والتفريط ، فلا اعتبار بتسليمها وعدمه ، سواء كان العمل في ملك أحدهما أولا ، ولا يسقط بعدم تسليمها مع عدم ضمانها شي‌ء من الأجرة المستحقة بالعمل ، والروايات شاهدة بذلك.

وعلل الثاني كما ذكره في المسالك حيث اختاره بأن المعاوضة ، لا يجب على أحد المعاوضين فيها التسليم الا مع تسليم الآخر ، قال : فالأجود توقف المطالبة بها على تسليم العين ، وان كان العمل في ملك المستأجر ، وعلى هذا النهج كلام المحقق المتقدم ذكره.

وفيه أولا أن ما ذكره من هذه القاعدة في المعاوضة وان اشتهر في كلامهم ، الا أنه لا دليل عليه ، بل الظاهر إنما هو خلافه ، كما تقدم تحقيقه في المطلب الثالث في التسليم من الفصل الرابع في أحكام العقود من كتاب التجارة.

وثانيا ما عرفت من دليل القول الأول.

وأما القول الثالث فوجهه ظاهر مما ذكر ، ولكنه مردود بما ذكرناه في دليل القول الأول ، قال في المسالك : وما نقله من الفرق قول ثالث بأنه ان كان في ملك المستأجر لم يتوقف على تسليمه ، لأنه بيده تبعا للملك ، ولأنه غير مسلم للأجير حقيقة ، وإنما استعان به في شغله كما يستعين بالوكيل ، وان كان في ملك الأجير توقف ، وهو وسط أوجه ، من إطلاق المصنف والأوسط الذي اخترناه أوجه ، انتهى.


وفيه ما عرفت وإلى ما رجحناه من القول الأول يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال بعد قول المصنف ويستحق الأجير الأجرة بالعمل وان كان في ملكه ما لفظه : دليل مختاره ومختار الشرائع وغيره هو استحقاق الأجير طلب أجرته بعد إتمام العمل ، وان لم يكن سلم العين إلى المستأجر وكان العمل في ملك المستأجر بل في بيت الأجير ، ولا يتوقف على تسليم العين ، نعم يجب عليه تسليم العين عند الطلب مع عدم المانع الشرعي فلو منع كان غاصبا ضامنا والظاهر أنه لا يستحق المستأجر المنع منه حتى يتسلم فلو منع كان غاصبا ظالما ، وهو خلاف ما مضى من أنه يملك الأجرة بمجرد العقد ، إذ قد قام الدليل العقلي والنقلي على عدم جواز منع المالك عن ملكه ، واستحقاقه الطلب ، وقد خرج قبل العمل بالإجماع ونحوه ، وبقي الباقي ويؤيده وجوب أجرة العقارات قبل الاستيفاء ، وعموم وخصوص أدلة لزوم الوفاء بالعقود والشروط.

والأخبار مثل حسنة هشام بن الحكم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الجمال والأجير قال : لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته». وقد مرت واختار البعض مثل المحقق الثاني والشهيد الثاني عدم استحقاقه الا بعد تسليم العين وان كانت في ملك المستأجر ، الا أن يكون في يد المستأجر لأنه لا يلزم العوض ولم يستحق طلبه في المعاوضات إلا بالتسليم ، وتسليم المنفعة إنما هو بتسليم العين كما هو في البيع.

وفيه تأمل يعلم مما تقدم ، ولا نسلم الكلية ، ولا نعرف له دليلا خصوصا إذا كان العوض منفعة بعد ثبوت الملك ، وفي البيع أيضا ان كان دليل فهو متبع لذلك ، والا نمنع هناك أيضا ، كما فيما نحن فيه ، على أنه قد يقال : أنه لما كانت بيد الأجير فهي بمنزلة كونه بيد المستأجر لأنه وكيل ومأذون في وضع اليد أو وديعة ، فكأنه فعل العمل والعين في يد المستأجر انتهى ، كلامه وهو كلام شاف وإنما نقلناه بطوله لتقف على جودة محصوله ، والله سبحانه العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٦ ح ١.


الثامنة : قد صرحوا بأن كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل ، مع استيفاء المنفعة أو بعضها ، سواء زادت عن المسمى أو نقصت ، وعلل ذلك بأن مقتضى البطلان رجوع كل عوض الى مالكه ، كما إذا بطل البيع يرجع البائع إلى مبيعه ، والمشتري الى ثمنه ، ولا يملك أحد منهما مال الآخر ولا منافعه إلا أنه في الإجارة لما كان أحد العوضين المنفعة ومع استيفائها من العين المستأجرة يمتنع ردها وجب الرجوع إلى عوضها ، وهو أجرة المثل ، كما إذا تلفت احدى العينين في المعاوضة الباطلة ، وإلا للزم الظلم على المؤجر بأخذ منفعة ماله بغير عوض ، لأنه لم يعطها مجانا وإنما أعطاها بأجرة ، لكنها من حيث بطلان العقد لم تسلم له ، فلا بد من العوض ، والمرجع فيه الى العرف المعبر عنه بأجرة المثل ، سواء زادت عن المسمى أم نقصت ، أم ساوت.

وهذا ظاهر مع الجهل ببطلان العقد ، أما مع العلم بالبطلان وأن الأجير لا يستحق بذلك أجرة ، ولا يجب على المستأجر دفعها ، فان عمل الأجير والحال هذه يرجع الى التبرع بعمله ، فلا يستحق شيئا بالكلية ، كمن خاط ثوبا لشخص بغير إذنه بالأجرة ، فإنه لا حق له شرعا ، ولو دفع المالك له شيئا ، والحال هذه فإنه يكون من قبيل سائر العطايا التي يستحق صاحبها الرجوع فيها مع بقاء العين ، وعدم الرجوع مع الإتلاف ، لأنه سلطه عليه باختياره كما صرحوا به في أمثاله.

والظاهر أن الأجير العالم كالغاصب في تصرفه ، فيترتب عليه الضمان ، بل قيل : ان المفهوم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا ، وهو مشكل من حيث الجهل ، واعتقاد صحة العقد ، وأنه إنما قبض بعقد صحيح ، ظاهرا ـ في اعتقاده وظهور فساده لا يكون موجبا لذلك ، فإنه غير مكلف بما في الواقع ونفس الأمر ، من صحة أو بطلان أو تحليل أو تحريم أو طهارة أو نجاسة أو نحو ذلك.

ونقل في المسالك عن الشهيد : أنه استثنى عن أصل الحكم المذكور ما لو


كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد أو متضمنا له كما لو لم يذكره أجرة فإنه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة لدخول العامل على ذلك قال : وهو حسن ، أقول : لقائل أن يقول بالنسبة إلى الصورة الأولى وهو اشتراط عدم الأجرة كأن يقول آجرتك نفسي لأعمل لك كذا وكذا بغير أجرة ، ان مرجع هذا الكلام الى التبرع بالعمل ، فلا أثر لقبول المستأجر ولا إذنه الذي هو شرط في صحة العقد ، وأيضا فإن هذا الشرط مناف لمقتضى معنى آجرتك كما تقدم في تعريف الإجارة من أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة الخاصة بعوض ، أو عبارة عن نفس الثمرة ، فالأظهر أنه ليس بعقد فاسد ، بل اذن في العمل بغير أجرة ، والا فلا معنى لهذا اللفظ بل لا يمكن أن يتلفظ به عالم ، عاقل الا أن يقصد التجوز بلفظ آجرتك ، وإخراجه عن معناه ، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر.

وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية وهي ترك ذكر الأجرة ، فإنه يمكن أن يقال : ان ترك ذكرها لا يدل على الرضا بعدمها ، بل هو أعم إذ قد يكون لنسيان أو جهل أو اعتقاد أنه معلوم مقرر أو أنه ينصرف إلى العادة والعرف ، ويؤيده أن الأصل عدم التبرع ، ولهذا حكموا مع عدم صحة العقد بأجرة المثل ، بناء على ذلك حتى يعلم المخرج عنه بدليل.

وبالجملة فإن الترك أعم والعام لا دلالة على الخاص ، وفي المسالك بعد أن نقل عن الشهيد ما قدمنا ذكره قال : وربما استشكل الحكم فيما لو كانت الإجارة متعلقة بمنفعة عين كدار مثلا ، فاستوفاها المستأجر بنفسه ، فان اشتراط عدم العوض إنما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمنه من التراضي فحقه وجوب أجرة المثل ، كما لو باعه على أن لا ثمن عليه.

ثم أجاب بأنه مع اشتراط عدم الأجرة في الصورة المذكورة يكون ذلك من قبيل العارية دون عقد الإجارة ، قال : فإن الإعارة لا يختص بلفظ مخصوص ، بل ولا يتوقف على لفظ مطلقا ، ولا شك أن اشتراط عدم الأجرة صريح في الأذن


في الانتفاع بغير عوض ، فلا يترتب عليه ثبوت عوض أجرة.

أقول : وهذا إيراد آخر على القول المذكور من غير الجهة التي قدمنا ذكرها ، ثم انه قال : أما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير فعمل بنفسه مع فسادها ، توجه عدم استحقاقه بشي‌ء ظاهر ، لأنه متبرع بالعمل ، وهو المباشر لإتلاف المنفعة ، ثم أنه أورد على ذلك ما لو كان عمله بأمر المستأجر فإنه يستحق أجرة المثل من حيث الأمر ، كما في كل أمر يعمل ، نعم لو كان عمله بغير سؤال المستأجر وأمره فإنه لا يستحق شيئا بالكلية ، لتحقق التبرع حينئذ.

أقول : الظاهر أن هذا الإيراد وما اشتمل عليه من التفصيل بين أمر المستأجر وعدمه انما يتم في الصورة الثانية ، وهو عدم ذكر الأجرة في العقد نفيا ولا إثباتا ، والا ففي صورة اشتراط عدم الأجرة فإنه وان أمره المستأجر وأذن له الا أنه لا أثر له مع اشتراطه على نفسه عدم الأجرة الراجع الى كونه متبرعا بالعمل كما عرفت.

ثم انه قال في المسالك بعد ذلك : فان قلت : أي فائدة في تسميته عقدا فاسدا مع ثبوت هذه الأحكام وإقامته مقام العارية ، قلت : فساده بالنسبة إلى الإجارة بمعنى عدم ترتب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها ، كوجوب العمل على الأجير ونحوه ، لا مطلق الأثر ، انتهى.

التاسعة : قد صرح الأصحاب بأنه يكره استعمال الأجير قبل أن يقاطعه ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، ويدل عليه من الأخبار ما رواه في الكافي والتهذيب عن مسعدة بن صدقة في الموثق (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يستعملن أجيرا حتى يعلمه ما أجره» الحديث.

وعن سليمان بن جعفر الجعفري في الصحيح (٢) قال : «كنت مع الرضا عليه‌السلام في بعض الحاجة وأردت أن أنصرف الى منزلي ، فقال لي : انطلق معي فبت عندي

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ١١ وص ٢١٢ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٤٥ ح ١ و ٢.


الليلة ، فانطلقت معه فدخل الى داره مع المعتب فنظر الى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب وغير ذلك ، إذا معهم أسود ليس منهم ، فقال : ما هذا الرجل معكم؟ قالوا : يعاوننا ونعطيه شيئا قال : قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا : لا ، هو يرضى منا بما نعطيه ، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط ، وغضب لذلك غضبا شديدا فقلت : جعلت فداك لم تدخل على نفسك ، فقال : انى نهيتهم عن مثل هذا غير مرة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه على أجرته : واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشي‌ء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك نقصت أجرته فإذا قاطعته ثم أعطيته حمدك على الوفاء ، فان زدته حبة عرف ذلك لك ورأى أنك قد زدته».

وأنت خبير بأن ظاهر هذين الخبرين إنما هو التحريم ، إلا أنهم عليهم‌السلام كثيرا ما يؤكدون في النهي عن المكروهات بما يوهم إلحاقها بالمحرمات ، وفي المستحبات بما يكاد يدخلها في حيز الواجبات ، وعلى هذا فربما يستفاد من الخبر الثاني جواز الضرب على فعل المكروه ، ويحتمل أن يقال : ان ذلك وإن كان مكروها إلا أنه من حيث مخالفة أمر المولى حيث أنه عليه‌السلام نهاهم عن ذلك مرارا كان ما فعلوه محرما ، فيجوز التأديب عليه بلا إشكال.

بقي الكلام في أنه في الشرائع عد من جملة ما يكره هنا تضمينه ، إلا مع التهمة ، حيث قال : ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة ، وأن يضمن إلا مع التهمة ، والأول من هذين الفردين قد عرفت الكلام فيه.

وأما الثاني فهو لا يخلو من الإجمال الموجب لتعدد الاحتمال ، ولهذا قال في المسالك : فيه تفسيرات : الأول : أن يشهد شاهدان على تفريطه ، فإنه يكره تضمينه للعين إذا لم يكن متهما.

الثاني : لو لم يقسم عليه بينة ، وتوجه عليه اليمين يكره تحليفه ليضمنه كذلك.


الثالث : لو نكل عن اليمين المذكورة وقضيناه بالنكول حينئذ كره تضمينه كذلك.

الرابع : على تقدير ضمانه وان لم يفرط كما إذا كان صائغا على ما سيأتي يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير.

الخامس : أنه يكره له أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط على القول بجواز الشرط.

السادس : لو أقام المستأجر شاهدا عليه بالتفريط كره أن يحلف معه ليضمنه مع عدم التهمة.

السابع : لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلف ليضمنه كذلك.

والأربعة الأول سديدة ، والخامس مبني على صحة الشرط ، وقد بينا فساده وفساد العقد به ، والأخيران فيهما أن المستأجر لا يمكنه الحلف إلا مع العلم بالسبب الذي يوجب الضمان ، ومع فرضه لا يكره تضمينه ، لاختصاص الكراهة بعدم تهمته فكيف مع تبين ضمانه ، انتهى.

أقول : لا يخفى ان الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل كالوجوب والتحريم والاستحباب ، ومتى ثبت للإنسان حق شرعي بالبينة أو اليمين أو النكول أو نحو ذلك لا وجه لكونه يكره له أخذه من غير دليل ، يدل على ذلك وبه يظهر ما في أكثر هذه المواضع المعدودة.

والأظهر عندي هو حمل ذلك على الصائغ والقصار ونحوهما ممن يعطى الأجرة ليصلح فيفسد أو يتلف ، فان الروايات قد اختلف في تضمينهم مع دعوى التلف ، وعدم التفريط في الإفساد فأكثر الأخبار على تضمينهم مع التفريط.

وجملة من الأخبار قد فصلت بين كونه مأمونا فلا ضمان عليه ، ومتهما فضمنه ، وبعض الأخبار يدل على عدم التضمين مطلقا ، وطريق الجمع بين الجميع كراهة التضمين إلا مع التهمة ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ،


وبسط الأخبار والأقوال في المطلب الثالث في الأحكام.

وأما قوله : ان الخامس مبني على صحة الشرط ، وقد بينا فساده ، ففيه إنا قد بينا صحته بما هو ظاهر للناظر ، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب الأول ، إلا أن فيه ما عرفت من أن مجرد صحته وجوازه لا يستلزم الكراهة ، بل الأصل صحته وجوازه من غير كراهة كغيره من الأمور الجائزة المباحة حتى يقوم دليل على الكراهة ، والله سبحانه العالم.

العاشرة : قد صرحوا بأن المنفعة تملك بنفس العقد ، كما تملك الأجرة ، ووجهه ظاهر مما تقدم في المسئلة الثانية من مسائل هذا المطلب ، من اقتضاء صحة المعاوضة ولزومها نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الآخر كالبيع ، وسائر عقود المعاوضات اللازمة والإجارة من جملتها ، فالمنفعة هنا منتقل إلى المستأجر بنفس العقد ، وان كان انما يستوفيها تدريجا وشيئا فشيئا وهو غير مناف للملك ، إذ لا يشترط في التمليك وجود المملوك ، وملك المستأجر لها هنا على حسب ملك الموجر لها ، فإنه لا إشكال في أنه مالك لمنفعة نفسه ، وليس ذلك إلا باعتبار صحة تصرفه فيها كتصرفه في العين بالنقل الى غيره ، فكذا المستأجر باعتبار صحة استيفائها ونقلها الى غيره ، ونحو ذلك من لوازم الحقوق المالية.

وبالجملة فإن ملك المستأجر لها على حسب ملك الموجر لها ، ولم يخالف في ذلك الا بعض العامة ، حيث زعم أن المستأجر لا يملك المنفعة بالعقد ، لأنها معدومة ، بل يملكها على التدريج شيئا فشيئا بعد وجودها ، وحدوثها على ملك الموجر ، وجعل ملك الأجرة تابعا لملك المنفعة ، فلا يملكها المؤجر إلا تدريجا كذلك ، وضعفه أظهر من أن يخفى ، وكما يملك الموجر الأجرة بمجرد العقد كذلك يملك المستأجر المنفعة بمجرده ، ولا فرق بينهما إلا بأن تسليم الأجرة موقوف على دفع العين المستأجرة إن وقع الاستيجار على منفعة تلك العين ، أو إتمام العمل إن وقع على العمل كما تقدم ، والمنفعة يجب تسليمها مع الطلب


بتسليم العين التي يراد الانتفاع بها إن كان كذلك ، أو عمل الأجير إن كان الاستيجار على عمله.

قيل : ويمكن جواز منع كل واحد منها عما في يد صاحبه الذي انتقل اليه حتى يتسلم حقه ، كما قيل في البيع والشراء ، وهذا في غير العمل ، كالعين المستأجرة للانتفاع من دار ودابة ونحوهما ، أما العمل كالخياطة فإنه يجب عليه العمل ، ولا يجب تسليم الأجرة اليه إلا بعد كماله ، والفرق بينهما أن العمل مقدور للعامل ، فيعمل ثم يأخذ حقه ، بخلاف المنفعة فإنها إنما تستوفي باستعمال المستأجر مع مضي الزمان ، وليس على المؤجر إلا تسليم العين وقد فعل ، فيترتب عليه وجوب دفع الأجرة ، وحينئذ فيمكن ما ذكره ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في كتاب البيع ، وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا في المسئلة السابقة من مسائل هذا المطلب.

الحادية عشر : قيل : يشترط اتصال مدة الإجارة بالعقد ، فلو أطلق أو عين شهرا متأخرا عن العقد بطل العقد ، وهو منقول عن المبسوط والخلاف ، وعن أبى الصلاح متابعة الشيخ في الفرد الثاني ، ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ما ذكره في كل من الفردين بأن عقد الإجارة حكم شرعي ، ولا يثبت إلا بدلالة شرعية ، وليس على ثبوت الإجارة في الموضعين المذكورين دليل ، فوجب أن لا يكون صحيحا.

واحتج أبو الصلاح ـ على الموضع الذي تبع فيه الشيخ ـ بأن صحة الإجارة تتوقف على التسليم.

وأجيب عن حجة الشيخ بأن الدليل موجود ، وهو الأدلة العامة كتابا وسنة على وجوب الوفاء بالعقود ، والأصل ، وعن حجة أبي الصلاح بالمنع من توقف الصحة في مطلق الإجارة على التسليم ، بل هو عين المتنازع ، ومحل البحث سيما مع ما عرفت من أصالة الصحة ، وعموم الأدلة الدالة على الصحة حتى يقوم دليل


على خلاف ذلك.

وأورد على هذا القول في المسالك أيضا بأن شرط الاتصال يقتضي عدمه ، لأن كل واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدة الإجارة معقود عليه ، وليس متصلا منها بالعقد ، سوى الجزء الأول ومتى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط ، فكذا اتصال الجميع ، انتهى ،

وظني ضعفه ، فان الزمان المشترط في العقود المحدد عندهم بتعيين زمان الابتداء والانتهاء أمر واحد لا تعدد فيه ، واتصاله وانقطاعه إنما هو بالنظر الى طرفيه لا إلى أجزائه المركب منها ، والا لم يتم وصفه بالاتصال أو الانقطاع كما لا يخفى ، وبالجملة فإني لا يظهر لي وجه صحة ما أورده ، والمشهور هو الجواز مع عدم الاتصال ، وهو الأظهر لما عرفت.

أما مع الإطلاق فيبتني على ما سيأتي في القول الثاني وقيل : ان الإطلاق يقتضي الاتصال ، فلو لم يعين مبدأ اقتضى العقد كون ابتدائها متصلا بالعقد ، فيكون أولها من آخر العقد ، لأنه مقتضى العرف ، حتى ادعى بعضهم بأنه صار وضعا عرفيا ، فكأنه قال آجرتك شهرا يكون أوله حين الفراغ من العقد ، وهو جيد ان ثبت ما ادعوه من دلالة العرف على ما ذكروه ، وإلا بطل للجهالة ، وظاهر جملة من الأصحاب كالمختلف والمسالك ذلك ، وهو يؤذن بالشك في دلالة العرف على ما ادعوه ، قال في المسالك : والأقوى الجواز مع الإطلاق ، إن دل العرف على اقتضائه الاتصال ، ونحوه في المختلف.

وأما القول بأن الإطلاق يقتضي الاتصال مطلقا كما يظهر من عبارتي الشرائع والإرشاد ، ففيه أنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ، الا أن يكون هناك قرينة على إرادته فلا نزاع.

وبالجملة فالقول بذلك على إطلاقه ضعيف ، وأضعف منه دعوى الجواز مع الإطلاق مطلقا ، كما يظهر من ابن إدريس ، وابن البراج ، قال في المختلف :


قال الشيخ : إذا استأجر الدار شهرا ولم يقل من هذا الوقت وأطلق بطلت ، وقال ابن البراج وابن إدريس : بجوازه ، والتحقيق أن نقول ان كان العرف في الإطلاق يقتضي الاتصال ، فالحق ما قاله ابن البراج ، وان كان لا يقتضيه فالحق ما قاله الشيخ ، لحصول الجهالة على التقدير الثاني دون الأول ، انتهى وهو جيد.

واحتمل المحقق الأردبيلي في صورة الإطلاق مع عدم اقتضاء العرف الاتصال الصحة أيضا وقال : يحتمل الصحة والاختيار الى العامل ما لم يؤد الى التأخير المخل عرفا مثل أن يستأجر العمل من دون تعيين ، والأصل وعموم الأدلة دليله ، ثم قال : وكذا لا يبعد البطلان مع الإطلاق ، ومع اقتضائه الاتصال أو القيد إذا كان المنفعة بعد العقد مستحقة للغير ، لأنه كإجارة المستأجرة ، ويحتمل في الإطلاق كون الابتداء بعد خروج تلك المدة خصوصا مع جهل الموجر ، فينصرف كون أولها إلى المدة التي تجوز إجارته ، عملا بمقتضى عموم أدلة صحة الإجارة ، وأصل عدم اشتراط كون أولها من حين العقد ، وخرج ما لم تكن تلك المدة مستحقة ، باقتضاء العرف مع الإمكان ، وبقي الباقي فتأمل انتهى.

أقول : هذا ملخص كلامهم في هذه المسئلة وأنت خبير بأني لم أقف على نص في هذا المقام ، لا في أصل المسئلة ، ولا في شي‌ء من فروعها ، الا أن الظاهر من جملة من الروايات الواردة في نكاح المتعة ، هو أن الإطلاق يقتضي الاتصال.

ففي رواية أبان بن تغلب (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام كيف أقول إذا خلوت بها ، قال تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا وارثة ، ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا وكذا درهما ، وتسمى من الأجر ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا فإذا قالت : نعم فهي امرأتك ، وأنت أولى الناس بها». الحديث.

وفي رواية هشام بن سالم (٢) قال : قلت : كيف نتزوج المتعة قال : تقول :

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٤٥٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٥ ح ٧٠ الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٦ ح ١ و ٣.


يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها».

وفي معناها رواية أخرى له أيضا ونحوها روايات آخر أيضا والتقريب فيها أنها على تعددها قد اشتركت في إطلاق العقد ، وعدم ذكر الاتصال مع حكمهم عليهم‌السلام بصحة العقد ، وترتب الأحكام عليه ، فلو لا أن الإطلاق يقتضي الاتصال لما حكموا عليهم‌السلام بالصحة في ذلك ، سيما رواية أبان وقوله فيها فإذا قالت : نعم فهي امرأتك فإنها صريحة في أنه بعد تمام العقد تترتب المنفعة ، وحل النكاح ، ومن المعلوم أن دائرة النكاح أضيق من الإجارة ، لما تكاثر في الأخبار من الحث على الاحتياط في الفروج لما يترتب عليه من النسل الى يوم القيمة ، وهم قد اعترفوا بأن دائرة الإجارة أوسع من البيع ، فكيف النكاح ، والمتعة في التحقيق من قبيل المستأجرة كما يشير إليه جملة من أحكامها ، وبه يظهر قوة ما قدمنا نقله عن الفاضلين ، ويمكن حمل كلام ابن البراج وابن إدريس عليه بأنهما إنما جوزا العقد مع الإطلاق لذلك ، وان لم يصرحا كما صرح المحقق ، وما ادعوه من الجهالة على تقدير الإطلاق ليس في محله ، وكذا ما قيل : من أنه عام والعام لا يدل على الخاص ، فان الجميع لا تعويل عليه ، بعد ما عرفت من دلالة النصوص على ما ذكرنا ، ومما يؤيد القول المشهور من الصحة لو عين شهرا متأخرا عن العقد ما ورد مثله في المتعة أيضا في رواية بكار بن كردم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يلقى المرأة فيقول لها : زوجيني نفسك شهرا ولا يسمى الشهر بعينه ، ثم يمضي فيلقاها بعد سنين ، قال ، فقال له شهره ان كان سماه ، وان لم يكن سماه فلا سبيل له عليها ، وهي صريحة في المراد ، والله سبحانه العالم.

الثانية عشر : إذا أسلم المؤجر العين المستأجرة للانتفاع بها ومضت مدة يمكن الانتفاع فيها ، واستيفاء المنفعة ولم ينتفع المستأجر بها لزمت الأجرة ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٦٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٧ ح ٧٥.


للزوم العقد ، وتسليم الموجر ، وإنما التقصير في ترك الانتفاع من المستأجر ، ويؤيد ذلك ما رواه في الفقيه والكافي عن إسماعيل بن الفضل (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل استأجر من رجل أرضا فقال آجرتها كذا وكذا على أن أزرعها فان لم أزرعها أعطيك ذلك ، فلم يزرع الرجل فقال : له أن يأخذه بماله ، ان شاء ترك ، وإن شاء لم يترك».

قالوا : ولا فرق في ثبوت الأجرة عليه بالتسليم ، ومضى المدة المذكورة بين كون الإجارة صحيحة أو فاسدة ، بناء على القاعدة المشهورة عندهم من أن كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ولكن مع الفساد يلزم أجرة المثل عما فات من المنافع في يده.

قالوا : وفي حكم التسليم ما لو بذل العين فلم يأخذها المستأجر حتى مضت المدة التي يمكن الاستيفاء فيها ، فإنها تستقر الأجرة ، الا أنه لا بد من تقييده بالصحيحة ، والوجه فيه من حيث عدم القبض وظهور بطلان الإجارة ، واستقرار الأجرة في الصحيح أو المثل إنما يثبت من حيث صحة العقد الموجب لذلك ، وهو هنا غير حاصل قالوا وإذا استأجره لقلع ضرسه فمضت المدة التي يمكن إيقاع ذلك فيها ، فلم يقلعه المستأجر استقرت الأجرة ، أما لو زال الألم عقيب العقد سقطت الأجرة ، والوجه في الأول ظاهر ، لأن الأجير سلم نفسه للعمل ، وامتنع المستأجر من غير عذر ، فإن الأجرة تستقر بالعقد والتمكين ، والوجه في الثاني بطلان الإجارة بالبرء وزوال الألم ، لأن متعلق الإجارة الموجب للصحة هو تحصيل المنفعة واللازم هنا إنما هو الضرر بإدخال الألم المنهي عنه شرعا وعرفا ، فلا يصح الاستيجار هنا كما لا يصح الاستيجار على قطع يده من غير سبب موجب لذلك ، نعم لو كان ثمة سبب كما إذا كانت مستأكل يخاف من سريان الضرر الى الصحيح منها ، فإنه يجوز والله سبحانه العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٧ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٥ ح ٥ مع اختلاف يسير الوسائل ج ١٤ ص ٤٩٠ ح ١ وج ١٣ ص ٢٥٨ ح ١.


الثالثة عشر : لو استأجر شيئا فعرض له التلف فاما أن يكون للجميع أو البعض قبل القبض أو بعده أو لم يعرض له التلف ، ولكن عرض له نقصان في المنفعة أو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كلها.

فههنا صور : الأولى : أن تتلف العين المستأجرة لاستيفاء المنافع منها قبل القبض ، ولا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن استيفاء المنفعة أحد العوضين ، فإذا فات قبل قبضه بطل كما في البيع ، فاستيفاء المنفعة هنا كالقبض في البيع ، كما أن استيفاء البعض كقبض بعض المبيع.

الثانية : ان تتلف العين بعد القبض وقبل استيفاء شي‌ء عن المنافع ، والحكم كما تقدم من بطلان الإجارة ، لفوات أحد العوضين.

الثالثة : أن يكون التلف بعد القبض واستيفاء بعض المنفعة والحكم فيها أنه يصح فيما قبضه ، ويبطل فيما بقي ومثله ما لو تجدد فسخ الإجارة والحال كذلك ، ويرجع من الأجرة ما قابل المتخلف ، ويقسط المسمى على جميع المدة.

قال في المسالك : وحيث يبطل البعض يقسط المسمى على جميع المدة ، ويثبت للماضي ما قابله منها ، ثم أن كانت متساوية الأجزاء فظاهر ، والا فطريق التقسيط أن يقوم أجرة مثل جميع المدة ثم تقوم الأجزاء السابقة على التلف وينسب الى المجموع فيؤخذ من المسمى بتلك النسبة.

الرابعة : أن يتلف بعض العين خاصة فالحكم في التالف كما تقدم ويتخير عندهم في الباقي بين الفسخ لتبعيض الصفقة وبين إمساك الحصة بقسطها من الأجرة.

الخامسة : لو لم يتلف شي‌ء منها ولكن نقصت المنفعة بحدوث عيب كان ينقص ماء الأرض وماء الرحى أو عرجت الدابة أو مرض الأجير أو نحو ذلك ، والحكم أنه يثبت الفسخ للمستأجر كما هو المشهور.

قال ابن البراج : إذا استأجر رحى وآلتها وقل الماء الى ان أضر ذلك بالطحن ، وهو يطحن على ذلك نظرت في الضرر ، فان كان ضررا فاحشا كان له


ترك الإجارة ، وان كان غير فاحش ، كانت الإجارة لازمة له ، قال في المختلف : بعد نقل ذلك عنه ، والأجود ان له الفسخ ، سواء كان الضرر فاحشا أو غير فاحش ، لأنه يتضرر ، وقد قال عليه‌السلام (١) «لا ضرر ولا ضرار».

ثم أنه قال : فإن استأجر رحى بآلتها فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة كان له فسخ الإجارة ، فإن عمل صاحب الرحى ما انكسر من ذلك وفسد قبل الفسخ لم يكن له بعد ذلك الفسخ ، ولكن يرفع عنه من الأجير بحساب ذلك ، فان اختلفا في مبلغ العطلة كان القول قول المستأجر الا أن ينكر الموجر ذلك ، والأجود أن له الفسخ بتبعض الصفقة ، انتهى.

السادسة : ما لو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كما لو استأجر أرضا للزراعة الا أنه قد استولى عليها الماء بحيث لا ينحسر عنها مدة يمكن فيها الزراعة ، والظاهر أنه لا إشكال في بطلان الإجارة ، لأن من شروط الإجارة ان يكون للعين نفع يترتب عليها ، فكأنه استأجر ما لا نفع فيه ، فهو تضييع للمال ولو كانت مما ينقطع عنها الماء أحيانا ، فإن علم مقدار ما ينقطع عنها الماء ، وتصلح للزراعة ، فالظاهر أنه لا إشكال في الصحة ، وإلا فلا للجهالة الموجبة للغرر ، والله سبحانه العالم.

الرابعة عشر : قالوا : يشترط تعيين المحمول بالمشاهدة أو الكيل أو الوزن والمراكب والمحمل وقدر الزاد ، وليس له البدل مع الفناء الا بالشرط ، ومشاهدة الدابة المركوبة أو وصفها وتعين وقت المسير ليلا أو نهارا.

أقول : تفصيل البحث في هذه الجملة هو أن يقال ، لا ريب في معرفة هذه المذكورات وتعيينها لترتفع بذلك الجهالة الموجبة للغرر الموجب للبطلان في العقود ، فأما بالنسبة إلى المحمول على الدابة ، فلا بد في اعتباره بأحد الثلاثة المذكورة في كل ما يناسبه ، الا أن بعض محققي المتأخرين صرح بأنه لا يكفي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٦٤ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٤٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.


ذلك على الإطلاق كما هو ظاهر كلامهم ، فأوجب في المشاهد امتحانه باليد تخمينا لوزنه ان كان في ظرف ، لما في الأعيان من الاختلاف في الثقل والخفة مع التفاوت في الحجم ، وأوجب في المعتبر بأحد الأمرين الآخرين أنه لا بد من ذكر جنسه ، للاختلاف الفاحش باختلاف الأجناس ، وان اشتركت في كونها مكيلة أو موزونة قال : فان القطن معتبر من جهة انتفاخه ودخول الريح فيه فيزداد ثقله في الهواء والحديد يجتمع على موضع من الحيوان ، فربما عقره ، وتحميل بعض الأجناس أصعب من بعض ، والحفظ في بعضها كالزجاج أصعب ، وملخص الكلام في ذلك هو أنه لما كان الضابط التوصل في معرفة المجهول إلى ما يرفع الجهالة ، فلا بد من ذكر الجنس مع التقدير بأحد الأمرين المذكورين ، ليرتفع الجهالة بحذافيرها وهو حسن.

وأما بالنسبة إلى المراكب والمحمل فللاختلاف بالثقل والخفة فلا بد في الراكب من الاعتبار بالمشاهدة أو الوزن مع عدمها ، قالوا : وفي الاكتفاء فيه بالوصف من فخامة وضحامة وطول وقصر ونحو ذلك وجهان أجودهما ذلك مع افادته للوصف التام الرافع للجهالة ، ولا بد في المحمل بكسر الميم الثانية كمجلس ، واحد المحامل ، وهو شقان يوضعان على البعير ، يجلس فيهما المتعادلان ، من الاعتبار بالمشاهدة ، أو الوزن مع ذكر الطول والعرض ، لاختلافها في السهولة والصعوبة ، الا أن يكون متعارفا معلوما لا جهالة فيه فيصرف إليه الإطلاق ، وكذا الحكم أيضا في الآلات التي يصحبها المسافر ، كالقربة والسفرة ، والإداوة ونحو ذلك ، فإنه لا يكفي مجرد ذكرها ، بل لا بد من معرفة قدرها وجنسها الا مع جريان العادة بالحمل من غير مضايقة في ذلك.

وأما بالنسبة إلى الزاد فلما عرفت أيضا فلا بد من تعيين قدره ، لترتفع الجهالة وأما أنه ليس له بدله بعد الفناء الا مع الشرط ، فان المتبادر من الزاد هو ما يستغنى به المسافر في طريقه ويكفيه وهو قد اشترطه ، والمراد بفنائه يعنى بالأكل


المعتاد ، وحينئذ لو فنى والحال هذه فإنه ليس له إبداله ، لأن مرجع تقصيره الى فعله بنفسه ، أما لو كان فناه بنحو آخر كضيافة غير معتادة أو أكل غير معتاد أو سرقة أو سقط منه في الطريق فإنهم صرحوا بان له إبداله تنزيلا للإطلاق على المعتاد المتعارف ، ويكون حكم البدل حكم المبدل في ذلك ، هذا كله مع عدم شرط الأبدال ، وإلا فلا إشكال في الأبدال عملا بالشرط المذكور.

وأما بالنسبة الى مشاهدة الدابة أو وصفها مع عدم المشاهدة فلما في عدم ذلك من الجهالة لما علم من اختلاف الدواب في القوة والضعف والحزونة والسهولة وزاد بعضهم أيضا اشتراط الذكورة والأنوثة إذا كانت للركوب ، فان الأنثى أسهل والذكر أقوى ، قال : ويحتمل العدم ، لان التفاوت بينهما يسير فلم يكن معتبرا في نظر الشارع ، هذا فيما لو كانت الإجارة معينة.

أما لو كانت في الذمة بمعنى أنه استأجر للحمل على دابة إلى الموضع الفلاني فإنه لا يحتاج إلى وصف ، ولا مشاهدة ، بل الواجب عليه حمله ، وإيصاله إلى الموضع المذكور كيف اتفق على وجه لا يتضرر به ، فيضمن مع الضرر.

وأما بالنسبة إلى تعيين وقت السير ، فلاختلاف الناس في ذلك الوقت الموجب للجهالة ، فإن كانت هناك عادة يبنى عليها في سلوك تلك الطريق وجب الرجوع إليها واكتفى بها لانصراف الإطلاق إليها ، وإلا وجب تعيين الوقت لما ذكرناه.

نعم يشكل التعيين إذا اختلف السير ولم يمكن التعيين إليهما كطريق الحج فان مقتضى تحقيق بيان السير عدم صحة الاستيجار فيها ، الا أن يستقر العادة بسير مخصوص في تلك السنة ، بحسب ما يناسبها عادة ، من السير ، ولهذا أنه منع في التذكرة من الاستيجار في الطريق التي ليس لها منازل مضبوطة ، إذا كانت مخوفة لا يمكن ضبطها باختيارها ، والله سبحانه العالم.

الخامسة عشر : قد صرح جملة من الأصحاب بأن كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فهو على الموجر كالقتب والزمام والحزام والسرج أو البردعة في الدابة ،


ورفع المحمل ، وشد الأحمال وحطها ، والقائد والسائق إن شرطه مصاحبته ، والمداد في الكتابة والخيوط في الخياطة ونحو ذلك ، وعلل بتوقف المنفعة الواجبة عليه بالعقد على ذلك فيجب من باب المقدمة ، وقيل : ان الواجب على المؤجر انما هو العمل ، لأن ذلك هو المقصود من اجارة العين ، أما الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه يجب أداءها لأجلها إلا في مواضع نادرة ، ثبتت على خلاف الأصل ، كالرضاع ، والاستحمام ، والخيوط للخياطة ، والصبغ للصباغة ، والكش للتلقيح ، وحينئذ فالأقوى الرجوع الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر لما عرفت.

أقول : الظاهر هو التفصيل في المقام بأن يقال : ان بعض هذه الأشياء على الموجر بلا اشكال ولا خلاف فيما أعلم ، مثل عمارة الحيطان والسقوف والأبواب ونحو ذلك ، في إجارة المساكن ، ومجرى المياه ونحو ذلك في إجارة الأرضين ، والرحل والقتب ونحو ذلك مما تقدم في إجارة الدابة ، وضابطه كلما جرت العادة للتوطئة به للركوب وبعضها على المستأجر بغير خلاف يعرف ، ولا اشكال يوصف كالحبل لاستقاء الماء ، والدلو والبكرة ، وبعض قد وقع الخلاف فيه كالخيوط للخياطة ، والمداد للكتابة ، والصبغ للصباغة ، والكش للتلقيح ، وقد جزم في الشرائع بأنها على الموجر ، ومثله في اللمعة بالتقريب المتقدم ، حيث قالا كلما يتوقف عليه توفية المنفعة فعلى الموجر ، ومثل له في النهاية من ما قدمنا ذكره في صدر المسئلة ، ومثل له في الشرائع بالخيوط في الخياطة والمداد في الكتابة ، وظاهر المسالك والروضة الرجوع في ذلك الى العرف ، فان انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر بالتقريب المتقدم ، وجزم في الشرائع بدخول المفتاح في إجارة الدار معللا له بأن الانتفاع يتم به ، وهذا منه ، بناء على ما قدمنا نقله عنه من الكلية.

وفيه أن التعليل بتمامية الانتفاع لا يتم كليا لأنه قد صرح سابقا على هذا الكلام في الشرط الرابع بأنه يلزم مؤجر الدابة كلما يحتاج إليه في إمكان الركوب من الرحل والقتب وآلته والحزام والزمام ، قال : وفي رفع المحمل وشده تردد ،


أظهره اللزوم ، وحينئذ فكيف يتم ما ذكره هنا كليا.

ويؤيده ما صرحوا به من أن المنقول لا يدخل في إجارة الثابت الا مع العادة أو التبعية ، ولهذا قال في المسالك بناء على ما قدمنا نقله عنه : عن عدم العمل بالكلية المذكورة ، والأولى التعليل بأنه تابع للغلق المثبت ، بل هو كالجزء منه ، وهذا بخلاف مفتاح القفل ، فلا يجب تسليمه ولا القفل لانتفاء التبعية ، انتهى.

ثم انه قد صرح في المسالك بأنه يعتبر القائد والسائق مع العادة لهما ، أو لأحدهما ، وكذا يجب إعانته على الركوب والنزول ، اما برفعه ان كان يمكنه ذلك وهو من أهله ، أو ببرك الجمل ان كان عاجزا أو قادرا ، ولكن لا تقتضي له العادة بذلك ، كالمرأة والشيخ الكبير والمريض ، ولو كان المستأجر قويا يتمكن من فعل ذلك بنفسه لم يجب إعانته ، كل ذلك مع اشتراط المستأجر على الأجير المصاحبة أو قضاء العادة بها ، أو كانت الإجارة للركوب في الذمة.

أما لو كانت مخصوصة بدابة معينة ليذهب بها حيث شاء ولم يقض العادة بذلك ، فجميع الأفعال على الراكب ، انتهى ولا بأس به والله سبحانه العالم.

السادسة عشر : لو أجر الدابة لدوران الدولاب افتقر الى مشاهدته ، أو وصفه بما يرفع الجهالة ، وكذا يشترط معرفة البئر بالمشاهدة أو الوصف ان أمكن ، وكذا لا بد من تقدير العمل بالزمان كيوم ونحوه ، الا أن يستأجر على أن يملأ بركة معينة معلومة بالمشاهدة أو المساحة.

قالوا : ولا يكفي المشاهدة في سقي البستان عن تعيين الزمان ، لحصول الاختلاف بقرب عهده بالماء ، وعدمه ، وبرودة الهواء وحرراته ، ولو آجر الدابة لحرث جريب معلوم ، فان كانت الإجارة لحرث مدة كفى تعيين المدة وتقديرها ، ولا يعتبر معرفة الأرض ، ولكن لا بد من تعيين الدابة المستعملة في الحرث إما بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة ، والا فلا بد من مشاهدة الأرض أو وصفها.


وعن التذكرة : الاعتبار بالمشاهدة ، ولم يكتف بالوصف محتجا بأنها تختلف فبعضها صلب ، فيصعب حرثه على البقر ومستعملها وبعضها رخو يسهل ، وبعضها فيه حجارة يتعلق بها السكة ، ومثل هذا الاختلاف انما يعرف بالمشاهدة ، دون الوصف ، وأنت خبير بما فيه ، فان ما ذكره من هذه الأشياء إنما تعرف بالوصف لا المشاهدة ، لأن المشاهدة انما تقع على ظاهر الأرض ، وهذه الأشياء انما هي في باطنها والوصف آية عليها ، لأن المالك قد يطلع من باطنها على ما لا يظهر بالمشاهدة لظاهرها ، فيصفها بذلك.

وبالجملة فإن ما ذكره من الاطلاع على هذه الأشياء لا يظهر بالمشاهدة ، وإنما يظهر بالعمل والحرث في الأرض ، وهو فرع صحة الإجارة ، ويمكن التوصل الى ذلك باختيارها بالحفر في مواضع من الأرض على وجه يرفع الغرر.

السابعة عشر : إذا استأجر دابة للسير عليها فهنا أحكام ، منها : أنه لو أسرع في السير عليها زيادة على عادة أمثالها بحسب نوعها ووصفها في تلك الطريق ، أو ضربها زيادة على العادة ، أو كبحها باللجام من غير ضرورة ، ضمن ، لأن ذلك تعد باعتبار حمل الإطلاق على المعتاد ، وظاهر التذكرة على ما نقل عنها المنع من الضرب مطلقا ، حيث حكم بالضمان بالضرب مطلقا محتجا بأن الإذن مشروط بالسلامة ، وفيه أن مقتضى الإجارة الوقوف على العادة ، وعدم حصول التعدي إلا بتعديها ، والضرب المعتاد لا يستلزم ضمانا.

والمراد بكبح الدابة باللجام جذبها به ، لتقف عن السير ، قال في الصحاح : كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام ، لكي تقف ، ولا تجري.

ومنها أنه لو مات الدابة انفسخ العقد ، ان وقع على دابة معينة ، بخلاف ما لو كان المستأجر عليه في الذمة ، بمعنى كون الإجارة مطلقة كالاستيجار على الركوب ، فإنه يجب عليه ركابه على دابة غيرها الى تمام المقصد ، ولا تتعين المطلقة بالتعيين والتسليم بحيث يكون الركوب منحصرا فيها ، ولهذا يجوز


للمالك تبديلها.

والظاهر ان تعذر استيفاء المنفعة المشروطة على الوجه المتعارف لمرض أو ضعف أو نحو ذلك في معنى الموت أيضا ، فينفسخ الإجارة في صورة التعيين ، ويحتمل الأبدال خصوصا مع التراضي ، والظاهر أيضا أنه لا خصوصية للدابة في الصورة المذكورة ، بل يجرى الحكم في الراكب والحمل المعين ، فينفسخ العقد بتلفهما ، ومنه تلف الصبي المرتضع في صورة الاستيجار لارضاعه.

ومنها أن ظاهر كلام جملة من الأصحاب أنه لا بد من تعيين الراكب إذا كان الاستيجار للركوب بمشاهدته أو وصفه ، وعلل باختلاف الأغراض في الراكب.

قال في التذكرة بعد ان اشترط المعرفة بالمشاهدة ونقل عن بعض الشافعية الاكتفاء بالأوصاف الرافعة للجهالة ما صورته : والأصل في ذلك أن نقول : إذا أمكن الوصف التام القائم مقام المشاهدة كفى ذكره عنها ، والا فلا ، ثم أنه يجوز للمستأجر أن يركب غيره إذا كان الاستيجار للركوب من غير تخصيص أحد بكونه هو الراكب ، الا أنهم صرحوا بأنه يشترط في الغير الذي له أن يركبه أن يكون مساويا أو أخف ، ولو كان أثقل لم يجز إلا بالاذن ، والا كان ضامنا فيأثم ويضمن ، وكذا في صورة التخصيص بأحد ، لو خالف أثم وضمن.

أقول : الحكم بما ذكروه في صورة التخصيص ظاهر للمخالفة ، وأما في صورة الإطلاق فاشتراط ما ذكروه مشكل ، لصحيحة علي بن جعفر (١) عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال : ان كان اشترط أن لا يركبها غيره ، فهو ضامن لها ، وان لم يسم فليس عليه شي‌ء». فإنه كما ترى ظاهرة في أنه مع الإطلاق يجوز له إركاب غيره مساويا أو أخف أو أثقل ، فإن ترك الاستفصال دليل العموم في المقام ، كما

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.


هو متفق عليه بينهم ، وهي أيضا ظاهرة في عدم ما ذكروه من اشتراط المشاهدة أو الوصف في الراكب كما قدمنا نقله عنهم بالتقريب المذكور ، والظاهر جريان هذه الأحكام المذكورة في استيجار البيت للسكنى من إطلاق وتقييد ، وما يتفرع عليهما بتقريب ما تقدم.

ومنها أن الظاهر من كلام جملة من الأصحاب أنه يجب على المستأجر سقي الدابة وعلفها فلو أهمل ضمن ، بمعنى أن ذلك لازم له من ماله بدون الشرط من غير ان يرجع به على المالك.

وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الثاني في شرح القواعد وجوب ذلك على المالك الا مع الشرط ، لأن الأصل عدم الوجوب على غيره ، ثم ان كان حاضرا معه والا استأذنه في الإنفاق ورجع عليه أو الحاكم مع تعذره ، حسب ما تقدم في الرهن والوديعة.

وظاهرهم الاتفاق مع عدم حضور المالك على وجوب قيام المستأجر بذلك ، لوجوب حفظ الدابة من حيث كونها نفسا محترمة ، ووجوب حفظ مال الغير إذا كان تحت يده ، وإنما الخلاف في الرجوع على المالك بالتفصيل المتقدم وعدمه ، والمسئلة لا يخلو من اشكال ، لعدم دليل واضح من النصوص في هذه المجال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من رجحان لتأيده بالأصل ، ويمكن أن يستفاد ذلك من صحيحة أبي ولاد الآتية في المقام إنشاء الله تعالى لقوله (١) عليه‌السلام لما قال السائل إني قد علفته بدراهم فلي عليه علفه ، فقال : عليه‌السلام لا انك غاصب». ومفهومه أنه لو لم يكن غاصبا فان له طلبه من المالك في الصورة المفروضة ، لأنه إنما نفي استحقاقه للمطالبة من حيث الغصب ، الا أنه لا يخلو من خدش أيضا أقول : والظاهر أن الكلام في نفقة الأجير كذلك ، وسيأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.


ومنها ما إذا استأجر دابة واستوفي حقه منها وأمسكها بعد مضي المدة فهل الواجب عليه ردها وأنه مع إمساكها وعدم ردها يكون ضامنا لها ولنفقتها ، أو أنه لا يجب عليه الرد وانما يجب عليه رفع اليد عنها إذا أراد صاحبها استرجاعها؟ قولان : وقد مضى تحقيق الكلام في ذلك في الموضع الخامس من المطلب الأول من هذا الكتاب.

ومنها أنه إذا استأجر دابة إلى موضع معين فتجاوز الى ما زاد عليه فعليه أجرة المثل في الزيادة ، وضمان العين ان تلفت ، والأرش ان نقصت ، لأنه غاصب وليس له الرجوع بما أنفق عليها مدة الغصب ، ولو اختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه ، أو بينته ، والأصل في هذه الأحكام ما رواه في الكافي في الصحيح عن أبى ولاد (١) قال : «اكتريت بغلا الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه الى النيل فتوجهت نحو النيل ، فلما أتيت النيل خبرت أنه قد توجه الى بغداد ، فأتبعته فلما ظفرت به وفرغت مما بيني وبينه رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجي‌ء خمسة عشر يوما فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه ما صنعت ، وأرضيه فبذلت له خمسة عشر درهما فأبى أن يقبل فتراضينا بأبي حنيفة ، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل ، فقال لي : وما صنعت بالبغل؟ قلت : قد دفعته اليه سليما ، قال : نعم بعد خمسة عشرة يوما ، قال : فما تريد من الرجل قال : أريد كرى بغلي فقد حبسها خمسة عشر يوما ، فقال : لا أرى لك حقا لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه الى النيل ، والى بغداد ، فضمن قيمة البغل ، وسقط الكرى ، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى ، قال : فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته بما أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئا وتحللت منه ، وحججت في تلك

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٥ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ح ١.


السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة فقال : لي في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها ، وتمنع الأرض بركتها ، قال : فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت قال : أرى أن له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه ، قال : فقلت جعلت فداك : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب ، فقلت : أرأيت لو عتب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، قال : نعم قيمة البغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز فقال : عليك قيمة ما بين الصحيح والمعيب يوم ترده عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك قال : أنت وهو ، إما أن يحلف هو على القيمة فتلزمك ، وان رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين كرى كذا وكذا فيلزمك ، قلت : اني كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحللني فقال : إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع اليه وأخبره بما أفتيك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته ، فلا شي‌ء عليك بعد ذلك ، قال : أبو ولاد فلما انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري وأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله عليه‌السلام وقلت له : قل ما شئت أعطيكه فقال : قد حببت الي جعفر بن محمد عليه‌السلام ووقع في قلبي له التفضيل. وأنت في حل وان أحببت أن أرد عليك الذي أخذته منك فعلت».

أقول : ما دل عليه الخبر من أن القول في القيمة مع التلف قول المالك بيمينه ، خارج عن مقتضى القواعد الشرعية ، لأنه مدع ، ووظيفته البينة ، ومع عدمها فالقول قول المستأجر بيمينه ، لأنه منكر ، ومن ثم اختلف الأصحاب هنا في ذلك ، فذهب في النهاية إلى العمل بالخبر ، وجعل مقصورا على مورده ، وهو الدابة ، وذهب ابن إدريس الى أن القول قول المستأجر لأنه منكر ، ولم يفرق بين الدابة وغيرها ، وتبعه المتأخرون كالفاضلين ونحوهما غيرهما ،


وأطرحوا الخبر من البين ، والمسئلة لا تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذهب اليه الشيخ لا يخلو عن قوة لصحة الخبر ، وصراحته ، فيخصص به عموم القاعدة المذكورة ، كما خصصوها في مواضع عديدة.

وما تضمنه الخبر من أنه مع التلف يضمن قيمة البغل يوم خالفه يؤيد القول المشهور في المسئلة ، وهي ما إذا تعدى في العين المستأجرة فإنه يضمن قيمتها وقت العدوان ، تنزيلا له منزلة الغاصب ، فإنه يضمن ، قيمة المغصوب يوم الغصب.

وقيل ، انه يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين التلف.

وقيل : قيمتها يوم التلف ، وما أفتى به أبو حنيفة في هذه المسئلة مبني على مذهبه من أنه يملكها بالضمان ، فيذهب الضمان بالأجر ، وخالفه الشافعي ووافق الإمامية ، وانما حكم عليه‌السلام في الخبر بأجرة المثل من الكوفة ، لأنه لم يقطع من الطريق المستأجر عليها شيئا ، لأنه عدل عنها من قنطرة الكوفة إلى النيل ، فلا يستحق من المسمى شيئا ، ولو كان قد قطع منها شيئا أخذ من الأجرة بالنسبة.

وفي الخبر أيضا دلالة على بطلان الصلح مع عدم تمكنه من أخذ حقه ، لأن حقه هنا ثابت شرعا ولكن فتوى أبي حنيفة قد حال بينه وبين أخذه ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال كما تقدم في كتاب الصلح ، والله سبحانه العالم.

الثامنة عشر : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم في جواز إجارة الآدمي وان كان على كراهة بالنسبة إلى إجارته نفسه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب ، ولا فرق بين الحر والمملوك ، ولا بين الذكر والأنثى ، وأنه متى كانت أنثى فالظاهر أنه يحرم على المستأجر منها جميع ما يحرم عليه قبل الإجارة ، الا أن العلامة في القواعد والمحقق الثاني في شرحه قد صرحا باستثناء النظر إلى المملوكة بإذن المولى ، واستشكل فيه بعض محققي متأخري المتأخرين ، لعموم الدليل ، فإنه ليس بعقد ولا تملك ، الا أن يجعل الاذن تحليلا وهو جيد.


وبالجملة فإن عقد الإجارة انما حلل الخدمة والعمل وأباحهما ، وأما غيرهما مما هو محرم قبل الإجارة فإنه يبقى على تحريمه واختلفوا في نفقة الأجير المستأجر للسعي في حوائج المستأجر فقيل : بأنها على الأجير وهو اختيار العلامة في التذكرة والقواعد وشيخنا في المسالك ، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي أيضا ، وهو مذهب ابن إدريس ، وعلل بأن العقد انما وقع على العمل بأجرة معينة ولم يقتضي العقد سواها ، فإدخال غيرها في مقتضى العقد المذكور يحتاج الى دليل ، ولا دليل.

نعم لو كان ثمة عادة مستمرة أو قرينة صريحة أو شرط ذلك على المستأجر فلا إشكال في ذلك ، وقيل : بأنها على المستأجر الا أن يشترطها على الأجير ، وبه صرح في الشرائع والإرشاد وجماعة من الأصحاب أو لهم النهاية وعلل باستحقاق المستأجر جميع منافعه المانع من النفقة ، لأنه متى كان زمانه مستوعبا بالعمل للمستأجر لم يبق له زمان يحصل فيه ما يحتاج اليه من النفقة ، ورد بأن استحقاق منافعه لا يمنع من وجوب النفقة في ماله الذي من جملته الأجرة.

واستدل ايضا على ذلك بما رواه الكليني والشيخ عن سليمان بن سالم (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل استأجر رجلا بنفقة ودراهم مسماة على أن يبعثه إلى أرض ، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر ، فنظر الأجير الى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه الذي يدعوه ، فمن مال من تلك المكافاة؟ أمن مال الأجير أم من مال المستأجر؟ فقال : ان كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، والا فهو على الأجير ، وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماة ، ولم يفسر شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب أو الحمام فعلى من؟ قال على المستأجر».

ورده بعض محققي متأخري المتأخرين بضعف السند ، بالراوي المذكور ، فإنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٢ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.


مهمل في كتاب الرجال ، وعدم الصراحة في المدعى ، قال : بل ربما حملت على الشرط ، قال في المسالك بعد ذكر القول بالوجوب على المستأجر والأقوى أنه كغيره لا يجب نفقته إلا مع الشرط ويمكن حمل الرواية مع سلامتها عليه.

أقول : ولعل وجهه أن الاستيجار بالنفقة في قوة شرطها على المستأجر وكيف كان فالرواية المذكورة لما فيه من الإجمال والتدافع فما اشتملت عليه من المقال لا يخلو الاعتماد عليها من الاشكال.

وبيان ذلك أن مقتضى قوله في السؤال الأول ، وكذا في الثاني استأجره بنفقته أن ما ينفقه في تلك المدة انما هو من ذلك المبلغ الذي وقع الاستيجار به وجعله المستأجر نفقة له ، فلا يستحق الرجوع به لأنه في معنى المشروط على المستأجر ، فيكون من مال المستأجر ، ومقتضى قوله في السؤال الأول ان كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله ، هو أن النفقة على المستأجر بمعنى أنه يرجع بها الأجير على المستأجر ، لأن حاصل معنى الكلام المذكور أن الأجير بعد أن اضافه ذلك الرجل الذي من أصحابه أراد أن يكافيه ، فنظر الى ما ينفقه على نفسه في تلك المدة لو لم يضفه ، فدفعه إلى ذلك الرجل مكافأة له ، والامام عليه‌السلام حكم بأنه ان كان جلوسه في الضيافة لمصلحة المستأجر فما دفعه مكافأة على المستأجر يرجع به عليه ، والا فهو على الأجير ، بمعنى أنه لا يرجع به ، وهو وان كان ظاهرا فيما ادعاه المستدل بالرواية ، إلا انه ينافيه ما تقدم في صدر الخبر من أنه استأجره بنفقة ودراهم ، فان الظاهر أن المعنى فيه أنه استأجره بشي‌ء ينفقه على نفسه ، ودراهم في مقابلة السعي في عمله ، وتحصيل غرضه ، ومقتضاه أنه لا يرجع بما أنفقه سواء أكله أو أعطاه مكافأة أو غيرها ، على أن تلك المكافاة انما كانت تبرعا من الأجير فهو من ماله ، وهذه منافاة أخرى ، وظاهر الخبر أيضا اشتمل على ما لا يقوله الأصحاب من الإجمال في النفقة المستأجر بها ، فإنهم يوجبون التعيين لرفع الجهالة ، ودفع الغرر.


قال في التذكرة والقواعد لا يجوز الاستيجار بنفقته وطعامه ما لم يعين.

وقال في التذكرة : ولا يجوز أرطال من الخبز لعدم جواز السلم عندنا فيه ، فلا تجوز بالإجارة ، وقال في موضع آخر : إذا استأجر في موضع أجيرا بطعامه وكسوته فان قدرا ذلك وعلماه صح العقد وان لم يقدراه بطل العقد الى أن قال ولا فرق بين أن يستأجره بالنفقة والكسوة وبين أن يجعلهما جزء من الأجرة وإذا استأجره بهما صح إجماعا ووصفهما كما يوصف في السلم وان لم يشترط طعاما ولا كسوة فنفقته وكسوته على نفسه ، انتهى.

وبالجملة فالموافق لقواعدهم هو وجوب التعيين لدفع الجهالة والغرر اللذين يوجبون الاحتراز عنهما في العقود.

بقي الكلام في السؤال الثاني «فإن حملت النفقة» وان كان خلاف ظاهر الخبر على ما يدخل فيه أجرة غسل الثياب والحمام ونحو ذلك مما يحتاج إليه الإنسان غالبا ، فينبغي حمل قوله على المستأجر على معنى أنها من النفقة التي استوجر بها ، والا فلا معنى لكونها على المستأجر يرجع بها الأجير عليه ، مع كونه استأجره بها ، وان حملت على أن المراد بها ما عدا ذلك من المأكل والملبس ونحوهما ، وهو الظاهر من سياق الخبر ، فظاهر كون تلك الأشياء على المستأجر هو أن الأجير يرجع بها على المستأجر ، لعدم دخولها فيما استوجر به وهو النفقة.

وفيه دلالة على أنه لو لم يستأجره بالنفقة بل بأجرة في الجملة ولم يشترط النفقة عليه ، فإنه يرجع بالنفقة كما ادعاه المستدل بالخبر ، لأنه إذا كان له الرجوع بمثل أجرة غسل الثياب والحمام فله الرجوع بما يحتاج إليه في الأكل واللبس بطريق أولى لأنها أضر البتة ، وهنا إنما امتنع الرجوع بها من حيث أنه استوجر بها فمع عدم الاستيجار بها وعدم شرطها على المؤجر يرجع بها على المستأجر ، وحينئذ يمكن أن يجعل ذلك لموضع الاستدلال بالخبر المذكور ، والله سبحانه العالم.


التاسعة عشر : صرح بعض الأصحاب بأنه لو استأجره لعمل من الأعمال كالكتابة والخياطة ونحوهما من الأعمال التي يختلف فيهما العمال بالجودة والحسن وعدمهما والسرعة والبطؤ ونحوهما ، فإنه لا يصح جعل الإجارة مطلقة بأن يكون في الذمة ، بمعنى تحصيل العمل بمن شاء لما يعلم من الاختلاف الكثير بين العمال فيما ذكرناه ، فيتجهل العمل ويحصل الغرر ، بل يجب تعيين العامل سواء كان هو المؤجر أو غيره ، إذا أمكن حصول النفقة منه ، للانضباط بذلك وارتفاع الغرر ، وكذا يجب تعيين الضائع إذا استأجره مدة ، بمعنى أن يعمل له هذا العمل في مدة محدودة بلا زيادة ولا نقيصة ، لأنه مع الإطلاق وتفاوت العمال في السرعة والبطؤ واختلافهم في ذلك كثيرا يحصل الغرر أيضا ، وبتعيين العامل ومعرفة ما هو عليه من السرع والبطؤ في عمله يزول ذلك.

ولو استأجره على عمل معين كنسخ هذا الكتاب المعين وخياطة هذا الثوب المخصوص ، فإنه من حيث كون المانع ما ذكرنا أولا هو اختلاف الصناع في السرعة والبطؤ الموجب للزيادة في العمل والنقيصة ، فإن الظاهر أنه تصح الإجارة في هذه الصورة المفروضة ، لأن هذا الاختلاف غير قادح هنا ، فان الغرض حصول هذا العمل المعين ، أما من حيث كون المانع هو تفاوتهم في الصنعة وبالجودة ، والرداءة ، فإنه لا يصح هنا بل لا بد من تعيين الصانع ليرتفع هذا الغرر.

قال في المسالك بعد ذكر المصنف أصل المسئلة : وهذه المسئلة قل من تعرض لها غير المصنف ، نعم ذكرها الشافعي في كتبهم.

أقول : قد عرفت آنفا أن أكثر هذه التعريفات في الكتب المتقدمة والآتية وان وقعت من الشيخ والمرتضى والعلامة وغيرهم ، الا أنها كلها مأخوذة من كتب العامة أخذوا منها ما استحسنوه ، وكتب متقدمي أصحابنا إنما اشتملت على مجرد نقل الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ، والله سبحانه العالم.


العشرون : قالوا إذا استأجره على حفر بئر فلا بد من تعيين الأرض وقدر نزول البئر وسعتها وهل المراد بالتعيين المشاهدة أو ما هو أعم ، فيشمل الوصف الرافع للجهالة ، احتمالان : وقد ذكروا في استيجار الأرض للحرث نحو ذلك ، وبعضهم ذكر هنا المشاهدة بخصوصها مع ذكره التعيين بقول مطلق في الأرض ، وبعضهم عكس.

وكيف كان فإنه لا يخفى أن المشاهدة إنما تأتي على ظاهر الأرض دون الباطن وارتفاع الجهالة باعتبار معرفة صلابة ظاهر الأرض ورخاوتها لا يغني عما يتجدد بعد الحفر من الزيادة على ذلك ، والنقيصة مما لا يمكن معرفته ، الا بالعمل.

وبه يظهر أن الوصف أضبط من المشاهدة إذا أمكن اطلاع المستأجر على الباطن بكثرة الممارسة ، قالوا : ولو انهارت أو بعضها لم يلزم الأجير إزالة ذلك ، بل ذلك على المالك ، لأن الأجير قد أتى بما استوجر عليه ، وامتثل ما تضمنه العقد ، ولا يكلف بما زاد عليه ولو حفر بعض البئر ثم تعذر حفر الباقي لصلابة الأرض أو مرض الأجير أو نحو ذلك ، فالمشهور أن له من الأجرة المسماة في العقد بنسبة ما عمل الى المجموع ، فيستحق من الأجرة المسماة بتلك النسبة ، وطريق معرفة ذلك أن يقوم جميع العمل المستأجر عليه ، ويقوم ما عمله منفردا ، وينسب الى المجموع فينسب أجرة مثل ما عمل إلى أجرة مثل المجموع ، ويستحق الأجير من المسمى بتلك النسبة.

الا أنه روى في الكافي والتهذيب عن أبى شعيب المحاملي عن الرفاعي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ثم عجز ، قال : يقسم عشرة على خمسة وخمسين جزء فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولى ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٣٣ ح ٢٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٨٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٤ ح ٢.


الحساب إلى العشرة ، ورواه في الكافي بطريق آخر عن أبي شعيب عن الرفاعي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قبل رجلا يحفر بئرا عشر قامات بعشرة دراهم فحفر قامة ، ثم عجز فقال : جزء من خمسة وخمسين جزء من العشرة دراهم».

والظاهر أن مبنى هذه الرواية على تزايد الصعوبة في الأرض ، فكل قامة نزلت أصعب عما فوقها فلهذا جعل عليه‌السلام لكل واحدة زيادة على ما فوقها بجزء ، فأمر بقسمة العشرة دراهم على خمسة وخمسين جزء ، فللقامة الأولى جزء ، وللثانية جزان ، وللثالثة ثلاثة ، وللرابعة أربعة ، وللخامسة خمسة ، وللسادسة ستة ، وللسابعة سبعة ، وللثامنة ثمانية ، وللتاسعة تسعة ، وللعاشرة عشرة ، وإذا ضممت هذه الأجزاء الموزع عليها بعضها إلى بعض وجدتها خمسة وخمسين ، بلا زيادة ولا نقصان.

والظاهر أن الأصحاب إنما أعرضوا عن هذه الرواية من حيث ابتنائها على هذا الأمر الخاص مع أنها حكم في واقعة معينة ، فلا يتعدى ، ولهذا أن الشيخ في النهاية اقتصر على نقل الرواية ولم يذكرها بطريق الفتوى ، كما هي قاعدته في الكتاب المذكور ، فلا يتعين كون ذلك قولا في المسئلة كما يفهم من عبارة الشرائع ، حيث قال : وفي المسئلة قول آخر مستند إلى رواية مهجورة.

وفي المبسوط قد وافق الأصحاب فيما أفتوا به هنا ، فقال : فان لم يمكن حفره ، انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما حفر على الصحيح من الأقوال ، ويقسط المسمى على أجرة المثل ، لأن الحفر يختلف ، فحفر ما أقرب من الأرض أسهل ، لأنه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد أصعب ، فإن كان أجرة المثل على ما بقي عشرة وفيما حفر خمسة أخذ ثلث المسمى ، وقد روى أصحابنا في مثل هذا مقدار ما ذكرناه في النهاية.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٢٢ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٤ ح ١.


وقال ابن إدريس : الأولى ما ذكره الشيخ في المبسوط وهو المعتمد ، وتحمل الرواية على ما إذا كانت الإجارة في ذلك الوقت فتقسط كذلك ، والله سبحانه العالم.

الحادية والعشرون : في الاستيجار للإرضاع والكلام فيها يقع في مواضع : الأول : الظاهر أنه لا خلاف في جواز استيجار المرأة للرضاع مدة معينة بإذن الزوج ، وإنما الخلاف فيما لو كان بغير اذنه ، فقيل : بالجواز ، والظاهر أنه هو المشهور وذهب في المبسوط والخلاف الى العدم ، قال : لأنه لا دليل على صحتها ولأن المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها ان تعقد لغيره فيخل ذلك بحقوق زوجها ، وتبعه ابن إدريس وجماعة.

والظاهر أن القول الأول أقوى ، لأنها عاقلة مالكة لمنافعها من رضاع وغيره ، وعموم أدلة الوفاء بالعقود كتابا وسنة شامل لها ، نعم متى نافى ذلك شيئا من حقوق الزوج المواجبة عليها امتنع ذلك بلا إشكال ، للمنافاة وسبق حقه ، وبه يظهر ما في تعليله الثاني من قوله لأن المرأة معقود على منافعها ، فإنه على إطلاقه ممنوع ، إذ الزوج لا يملك سوى منافع الاستمتاع ، كذا ما في تعليله الأول من عدم الدليل ، فان الدليل كما سمعت ظاهر في المدعى ، وتخصيصه يحتاج الى دليل ، وغاية ما ثبت من الدليل الدال على التخصيص ما إذا أوجب ذلك الإخلال بحقوق الزوج الواجبة عليها.

ثم انه لو وقعت الإجارة على الوجه المذكور ، ومنع ذلك شيئا من حقوقه ، فهل يحكم ببطلان العقد أن الزوج يتسلط على الفسخ؟ قولان : وبالأول صرح العلامة في القواعد ، والثاني اختياره في المسالك ، وهو الأوفق بقواعد الأصحاب ، ولو سبق الاستيجار للرضاع على النكاح ، فلا اعتراض للزوج ، لاستحقاق منفعة الرضاع ، وملكها قبل عقده بها ، وله الاستمتاع بما فضل عن ذلك ، فلو تضرر الصبي بترك الرضاع باستمتاع الزوج كان للولي منع الزوج لما عرفت من تقدم حقه ، أما مع عدم التضرر فلا.


وهكذا الكلام فيما لو استأجر السيد أمته للإرضاع ، ثم زوجها قالوا : وكل موضع يمنع فيه الزوج من الاستمتاع لأجل الرضاع ، فإنه تسقط النفقة عنه في تلك المدة ، لعدم التمكين التام.

الثاني : هل يشترط ذكر الموضع الذي يقع فيه الإرضاع؟ قيل : نعم ، وتردد فيه في الشرائع ، وعللوا الاشتراط بأن مواضع الإرضاع تختلف بالسهولة والصعوبة ، والنفع ، فان بيت المرضعة أسهل عليها ، وبيت الولي أوثق له ، وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم صلاحيتها لتأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت فيما تقدم ، ووجه التردد من حيث ما ذكروا من أن الأصل عدم الاشتراط ، قال في المسالك : والأقوى الاشتراط ، ولا يخفى ما فيه ، والتمسك بالأصل أقوى مستمسك حتى يقوم دليل على الخروج عنه ، والخروج عنه بهذه التعليلات مجازفة ظاهرة ، سيما مع ما عهد من ارتضاع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإطلاق الأخبار الواردة باستئجار الظئير.

الثالث : قد صرح الأصحاب بأنه لا بد في صحة عقد الإجارة على الإرضاع من مشاهدة الصبي المرتضع ، قيل : ويكفى الوصف أيضا وزاد اخرون اشتراط مشاهدة المرضعة.

والظاهر أن الجميع تقييد للنصوص من غير دليل ، وكأنهم بنوا في ذلك بالنسبة إلى الصبي على اختلاف كثرة ما يشرب وقلته بالنسبة إلى صغره وكبره ، وبالنسبة إلى المرضعة إلى اختلاف النساء في الصفات المأمور بها ، والمنهي عنها في الأخبار من الوضائة ، والحسن ، والرعونة ، والحماقة ، والقبح ، ونحو ذلك ، مما قيل بتأثيره في الولد ، وهو وان كان كذلك ، الا أن إطلاق أخبار الاسترضاع يدفعه.

الرابع : منع في المبسوط من جواز أن يستأجر الرجل زوجته لإرضاع ولده وجوز ذلك بعد البينونة لأنها أخذت عوضا منه في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، وسوغه المرتضى وابن إدريس


قال في المختلف : وهو المعتمد ، لنا الأصل الجواز ، وقوله تعالى (١) «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» الاية وهو عام والعوض المأخوذ ليس في مقابلة التمكين ، بل في مقابلة الإرضاع ، وسواء منع شيئا من حقوقه أم لا ، لأنه رضي بذلك ، وقد تقدم جوازه مع الرضا ، انتهى.

أقول : ويؤيده أن الرضاع غير واجب على الأم ، كما صرحوا به ودل عليه النصوص أيضا ، والزوج لا يملك منها ، سوى منافع الاستمتاع ، فتكون فيما سوى ذلك كالأجنبية فارضاعها له مع عدم التبرع به موجب للأجرة ، كالأجنبية ، ويدل عليه قوله عزوجل (٢) « فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وما رواه في الكافي والفقيه (٣) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام «عن الرضاع؟ قال : لا تجبر الحرة على رضاع الولد وتجبر أم الولد». وتحقيق الكلام في ذلك يأتي في محله اللائق به إنشاء الله تعالى.

الخامس : قال في المبسوط : لو استأجر ظئرا للإرضاع لم يلزمها غيره ، وان شرط في العقد الحضانة مع الرضاع لزمها الأمران ، فترضع المولود وتراعى أحواله في تربيته وخدمته ، وغسل ثيابه وخرقه وغيرها من أحواله.

وقال ابن الجنيد ، وإذا شورطت على الرضاع فقط لم يكن عليها غير ذلك إلا أن يكون قد اشترط دفع الصبي إليها أي إلى منزلها ، فيكون عليها تخريجه وغسل ثيابه وما لا بد للصبي منه ، إلا أن تشترط هي لذلك أجرة على وليه.

قال في المختلف بعد نقل ذلك : وتفصيل ابن الجنيد جيد ، إذ الظاهر والعرف يقضى أن الصبي إذا كان في منزلها اضطر إلى الحضانة ، وكانت لازمة لها انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٣٣.

(٢) سورة الطلاق ـ الاية ٦.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٨ ح ٢٤ ، التهذيب ج ٦ ص ٤٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٧٥ ح ١.


السادس : لا إشكال في بطلان الإجارة بموت الصبي المرتضع لفوات ما تعلق العقد باستيفاء المنفعة له ، وأما موت المرضعة فيبني على الاستيجار لها من التعيين والإطلاق فإن كان الاستيجار بعينها وخصوصها فلا إشكال في البطلان ، وعليه يحمل إطلاق من أطلق البطلان بموتها ، والحكم في موتها والحال كذلك كالدابة المستأجرة للركوب ، وان كان الاستيجار في الذمة بمعنى أن عليها تحصيل هذا العمل بنفسها أو غيرها ، فالظاهر بقاء الإجارة كما في نظائر هذا القسم من الإجارات المتعلقة بالذمة ، وحينئذ فيؤخذ ما يقوم به من تركتها لأنها صارت مشغولة الذمة بذلك ، كسائر الديون المتعلقة بالذمة ، فإنها بعد فوات الذمة ينتقل الى المال ، ويتعلق به كما صرحوا به فيؤخذ أجرة المثل لما بقي من المدة من أصل مالها ، ويدفع الى ولي الطفل.

واحتمل بعض الأصحاب وجوب استيجار وليها على الإرضاع من مالها ، قال : لأن الواجب في ذمتها هو الإرضاع ولم يتعذر ، وإلا لانفسخت الإجارة ، وأما موت الأب فيبني على الخلاف المتقدم في بطلان الإجارة بموت المستأجر وعدمه ، وقد تقدم أن الأظهر العدم.

والعجب من ابن إدريس حيث أنه ممن اختار القول بعدم بطلان الإجارة بموت المستأجر ، وحكم هنا ببطلان الإجارة بموت أب المرتضع محتجا بالإجماع على أن موت المستأجر يبطلها ، والمسئلة في الموضعين واحدة ، وانما هذه من جزئيات تلك المسئلة فما ذكره تحكم محض ، وتناقض صرف ، نعم ذكر بعض محققي الأصحاب أنه لو كان الولد معسرا واستأجر الأب عليه بمال في ذمته أو في ذمة الأب ولم يخلف الأب تركة ، توجه جواز فسخها ، لا أنها تبطل بذلك وهو جيد.

السابع : قال الشيخ : إذا استأجر الظئر للإرضاع بالنفقة والكسوة صح مع علم المقدار بالنفقة والكسوة ، وكذا قال ابن إدريس ، وقال في المختلف بعد


نقل ذلك : وهو جيد ، لأن الجهالة في أحد العوضين مبطلة ، وكذا لو استأجر أجيرا بطعامه ، ثم نقل عن ابن الجنيد أنه قال لا بأس باستئجار الإنسان بطعامه وكسوته ، كالظئر والغلام وان لم يسم قدر اللبن من الظئر ، ولا قدر الطعام للأجير ، ثم قال العلامة : أما قدر اللبن فجيد ، لأن ذلك مجهول لا يمكن ضبطه وأما طعام الأجير فممنوع ، انتهى.

أقول : ويمكن الاستدلال لابن الجنيد برواية سليمان بن سالم (١) المتقدمة في المسئلة الثامنة عشرة لدلالتها على جواز الاستيجار بالنفقة من غير تعيين كما تضمنه السؤال الأول والثاني منها ، ويكون حكم النفقة مستثنى من قاعدتهم المذكورة ان ثبتت ، سيما مع ما عرفت مما قدمناه في غير موضع من انخرام هذه القواعد المشهورة بينهم بالأخبار ، وان كانوا تارة يردون الأخبار في مقابلتها ، وتارة يرتكبون تخصيصها بها ، والله سبحانه العالم.

الثامن : قد عرفت من تعريف الإجارة كما قدمنا ذكره في صدر الكتاب ـ أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم ، أو تمليك المنفعة بعوض ، ـ أن الإجارة واستحقاق الأجرة إنما تقع على المنافع ، لا الأعيان ، وحينئذ فيكون إجارة المرأة للإرضاع خارجة عن قاعدة الإجارة ومستثناة بالنص ، آية ورواية ، لقوله عزوجل (٢) «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» والنصوص الواردة بذلك ، وهي كثيرة تأتي إنشاء الله تعالى في محلها اللائق بها من كتاب النكاح ، فان متعلق الإجارة والذي استحقت المرأة به الأجرة هنا هو اللبن ، وهو عين تالفة بالإرضاع ، فيكون المعاوضة عليه خارجة عن قانون الإجارة ، قالوا : ومثل ذلك الاستيجار للصبغ ، واستيجار البئر للاستسقاء منها ، فان المستوفي في الجميع إنما هو من الأعيان ، وبعضهم تكلف للتفصي عن ذلك بالنسبة إلى الإرضاع أن المنفعة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٠ ح ١.

(٢) سورة الطلاق ـ الاية ٦.


التي تعلقت بها الإجارة هي حملها للولد ووضعه في حجرها ووضع الثدي في فمه ونحو ذلك ، لا نفس اللبن.

ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف السخيف ، فإنه لا يخفى أن الغرض الذاتي والمطلب الأصلي من الاستيجار إنما هو اللبن ، وهذه الأشياء إنما هي تابعة ، أو مقدمات لذلك ، فالأظهر أن يقال : ان هذه المواضع المذكورة مستثناة بالنصوص من قانون الإجارة ، وكم مثل ذلك في الأحكام ، هذا ان ثبت كون ما ادعوه قانونا كليا وقاعدة مطردة ، مع أنا لم نقف له على دليل أزيد من ورود النصوص في أفراد الإجارات بذلك ، وهو لا يستلزم الحصر فيما ورد ، الا مع عدم وجود نص بخلافه ، فإنه يمكن ادعاء ذلك قاعدة كلية ، على نحو القواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب ، وهذه القاعدة ان ثبتت هنا ، فهي من هذا القبيل ، وإلا فإني لم أقف على خبر يدل على أن القاعدة في الإجارة ما ادعوه ، والله سبحانه العالم.

الثانية والعشرون :اختلف الأصحاب في جواز اجارة الدراهم والدنانير ، فقال في المختلف والقواعد والمبسوط : بالجواز ، قال للانتفاع بها مع بقاء عينها ، مثل أن ينثرها ويسترجعها أو يضعها بين يديه فيتجمل بها وغير ذلك ، وقال ابن إدريس : يصح لأنه لا مانع منه ، ثم قال : والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه أنه لا يجوز ، إجارتها ، لأنه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، ولأنه لا يصح وقفها ، فلو صح إجارتها صح وقفها ، نعم تصح اجارة المصاغ منهما ، وقال في موضع آخر : لا خلاف في أنه لا يجوز وقفها ، لأن الوقف لا يصح الا في الأعيان التي يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها ، فإذا جاز إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوز ، ولأن من غصب مائة دينار وبقيت في يده سنة لم يلزمه الحاكم بأجرة ، واعترضه في المختلف بالمنع عن الملازمة بين الوقف والإجارة ، فإن الوقف يصح إجارته ، ولا يصح وقفه ، نعم كلما يصح إعارته يصح إجارته ، والمنع من عدم إلزام الغاصب بالأجرة ، ثم قال والتحقيق أن نقول ان كان لها منفعة مقصودة


حكمية صحت إجارتها ، وإلا فلا ، انتهى.

وفيه أن ظاهر منعه من عدم إلزام الغاصب بالأجرة هو أن لها منفعة فيجب عليه الأجرة في مقابلة المنفعة التي فوتها على المالك ، مع أن ظاهر كلامه التوقف ، حيث رتب الجواز على وجود المنفعة وعدمه ، ولم يحكم بشي‌ء من الأمرين وقد صرح بالاستشكال في بعض كتبه ، وجزم بالجواز في بعض ، وظاهر الشرائع أيضا التردد في ذلك ، حيث عبر بما عبر به في المختلف ، وشيخنا في المسالك حيث اختار جواز إجارتها ، وعدلها منافع تترتب على ذلك ، كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى وحمل تردده على الشك في الاعتداد بتلك المنافع وعدمه ، قال (رحمة الله عليه) : لما كان شرط العين المؤجرة إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها ، وكان الغرض الذاتي من هذين النقدين لا يتم إلا بذهابهما وربما فرض لهما منافع مع بقاء عينهما ، بان يتزين بهما ، ويتجمل ويدفع عن نفسه ظاهر الفقر والفاقة ، فإن دفع ذلك غرض مطلوب شرعا ، حتى كان الأئمة عليهم‌السلام يقترضون أموالا ويظهرونها للناس ، أو يدفعونها إلى عمال الصدقة مظهرين أنها زكاة أموالهم ، ليظهر بذلك غناهم ، ومن جملة الأغراض المقصودة بها أيضا نثرها في الأعراس ثم تجمع ، والضرب على سكتها ونحو ذلك فكان القول بجواز إجارتها قويا ، وربما أشعر كلام المصنف بالتردد في ان هذه المنافع ، هل يعتد بها وتقوم بالمال على وجه تجوز الإجارة أم لا ، لتعليقه الجواز على شرط تحقق المنفعة مع أنها مشهورة ، وما ذاك إلا للشك في الاكتفاء فيه بها ، انتهى.

أقول : ويدل على ما ذكره من إظهار التجمل بذلك ، والقرض لذلك وفعلهم عليهم‌السلام ذلك جملة من الإجبار ، ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الا على مولا آل سام (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان الناس يروون أن لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسؤنى ، ذلك ، ان أمير المؤمنين عليه‌السلام مر ذات يوم على ناس شتى من

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٣٩ ح ٨ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٣.


قريش ، وعليه قميص مخرق ، فقالوا : أصبح علي عليه‌السلام لا مال له فسمعها أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره ، ولا يبعث الى انسان شيئا وأن يؤفره ثم قال له : بعه الأول فالأول واجعلها دراهم ، ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث لا يرى ، وقال للذي يقوم عليه : إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ثم بعث الى رجل منهم يدعوهم ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم ، فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال : هذا مال من لا مال له ، ثم أمر بذلك المال فقال : انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله ، وابعثوا اليه ،». فروى في حديث آخر (١) مثله وفيه أن القائل كان طلحة والزبير ، وروى في الكتاب المذكور أيضا عن أبي بصير (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أناسا بالمدينة قالوا : ليس للحسن عليه‌السلام مال ، فبعث الحسن عليه‌السلام الى رجل بالمدينة فاستقرض منه ألف درهم فأرسل بها الى المصدق ، فقال : هذه صدقة مالنا : فقالوا : ما بعث الحسن بهذه من تلقاء نفسه إلا وله مال.

وروى فيه عن عبد الأعلى (٣) مولى آل سام قال : «ان علي بن الحسين عليه‌السلام اشتدت حاله حتى تحدث بذلك أهل المدينة ، فبلغه ذلك فتعين ألف درهم ثم بعث بها الى صاحب المدينة ، وقال ، هذه صدقة مالي».

وبذلك يظهر قوة ما قواه ، لانه متى كان إظهار الغنى بين الناس مستحبا كما دلت عليه هذه الأخبار حتى أنهم عليهم‌السلام كانوا يقترضون لذلك فاستيجار الدراهم والدنانير لذلك مستحب ، والمنفعة ظاهرة ، بل مندوب إليها ، والظاهر أن تردد من تردد ممن قدمنا ذكره ، إنما هو لعدم حضور ما ذكر ببالهم ، لا لعلمهم بذلك ، وإنما حصل لهم الشك في أنه هل يعتد بهذه المنافع أم لا؟

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٤٤٠ ح ١١ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٢ وص ٣٤٢ ح ١.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٤٤٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ٣ ص ٣٤٣ ح ٤.


ثم انه على تقدير القول بجواز إجارتها ، فهل يشترط تعيين جهة الانتفاع بها أم لا؟ قولان : وبالأول قال في الخلاف والمبسوط ، وبالثاني قال : ابن إدريس ، وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه.

قال في الخلاف والمبسوط : إذا استأجر دراهم أو دنانير وعين وجه الانتفاع بها كان على ما شرط ، وصحت الإجارة ، وان لم يعين بطلت الإجارة ، وكانت قرضا لأن العادة في دنانير الغير ودراهمه أن لا ينتفع بها إلا على وجه القرض ، وإذا أطلق الانتفاع رجع الإطلاق على ما يقتضيه العرف.

وقال ابن إدريس : لو قلنا أنه تصح الإجارة سواء عين جهة الانتفاع أو لم يعين كان قويا ، ولا يكون قرضا لأنه استأجرها منه ، ومن المعلوم أن العين المستأجرة لا يجوز التصرف بإذهاب عينها ، بل في منافعها فيحمل الإطلاق على المعهود الشرعي ، ثم قال ، والذي يقوى في نفسي بعد هذا كله بطلان إجارتها.

وأجاب في المختلف عن كلام ابن إدريس انتصارا للشيخ بأن الشيخ عول على العرف وقد ثبت في العرف الشرعي انصراف الإجارة إلى الأعيان فيما الغالب فيه تناولها دون المنافع ، كاستيجار المرضعة ، والشاة للحلب ، وأجرة الحمام ، وكذا هنا ، لما كانت المنفعة المقصودة الانتفاع بأعيانها كانت الإجارة قاضية ، بجواز إتلافها وحينئذ تصير قرضا بالإتلاف ، وبعد هذا فالوجه على تقدير صحة الإجارة ، عدم جواز الإتلاف كغيرها من الأعيان.

أقول : لا يخفى ما في جواب العلامة من تطرق النظر اليه ، وأن الحق انما هو ما ذكره ابن إدريس ، وذلك لأن الإجارة نصا وفتوى انما تنصرف الى المنافع ، والدراهم والدنانير لها منافع كما عرفت ، فلا يحتاج الى تعيينها كغيرها من سائر الأعيان المستأجرة ، وإطلاق الإجارة انما ينصرف الى المنافع التي هي المعهود الشرعي ، كما ذكره ابن إدريس ، وأما صحة الإجارة في استيجار المرضعة ونحوها فإنما جرى على خلاف قاعدة الإجارة ، بنص خاص ، فصار مستثنى من حيث


النص ، لا أن ذلك عرف شرعي ، وما نحن فيه لا نص فيه ، فلا وجه لجعله في عدادها ، وجعله من جملة أفرادها ، ودعواه كون ذلك عرفا شرعيا ليس في محله ، إذ المتبادر وهو اطراده في جميع الأفراد ، وشيوعه في جميع المواد ، وما نحن فيه مما حكمت بصحة الإجارة مع استيفاء الأعيان منها ، ليس كذلك بلى هو مقصور على ما ورد النص به من فردين أو ثلاثة ، ولهذا قدمنا في المنحة حيث لا نص عليها من طريقنا وانما هو من طريق العامة أن عدها فيما ذكروه ليس في محله.

وبالجملة فإنه لما كان مقتضى الإجارة نصا وفتوى انما هو التسلط على المنفعة خاصة ، فجواز التسلط على العين يحتاج الى دليل آخر ، نعم قام الدليل عليه في تلك المواضع المذكورة ، فصارت مستثناة بذلك ، وما لم يقم عليه دليل فلا يجوز الخروج به عن قاعدة الإجارة ، وهذا هو الذي اختاره في آخر كلامه ، وبذلك يظهر أن جوابه عن كلام ابن إدريس انما هو مجرد تعصب عليه ، كما هي عادته غالبا في الكتاب المذكور ، والله سبحانه العالم.

الثالثة والعشرون : لو وجد المستأجر بالعين المستأجر عيبا يوجب الرد ، وكان جاهلا به وقت العقد تخير بين الفسخ والرضا بالأجرة المسماة من غير أرش على المشهور ، ووجه التخيير أن العيب المذكور في العين موجب للنقص في المنفعة ، فيجوز له الفسخ دفعا للضرر عن نفسه ، وللتدليس عليه ، ولأن مقتضى العقد صحة العوضين ، فلا يلزم بدونها ، فمن ثم جاز له الفسخ ، وحينئذ وله الالتزام بالعيب لأنه تصرف في ماله باختياره.

وفي المسالك أن له الفسخ وان استوفى بعض المنفعة ، قال ولا يرد أنه مع استيفاء البعض يكون قد تصرف ، وهو يسقط خيار العيب ، لأن المراد بالتصرف حقيقة في العوض الذي صار للمتصرف وهو هنا المنفعة ، وما لم يستوفه منها لم يتصرف فيه وانما حصل التصرف في المستوفي ، ولأن الصبر على العيب ضرر منفي ، انتهى.

والظاهر أنه غير خال من شوب الإشكال ، فإن الظاهر من كلامهم في كتاب


البيع أن التصرف انما هو عبارة عن وضع اليد على المبيع ، أو الثمن باستيفاء بعض منافعه ، أو استعلامها كركوب الدابة ، ولمس الجارية وتقبيلها وحلب الشاة ولبس الثوب ونحو ذلك ، فاستيفاء بعض من منفعة المستأجر تصرف في أصل المنفعة قياسا على ما ذكرناه ، لا أنه يختص التصرف بما استوفاه كما ذكره ، وان كان هو الفرد الحقيقي ، إلا أن مقتضى ما ذكرناه مما عدوه تصرفا أعم منه كما لا يخفى.

وأما ما ذكره من أن الصبر على العيب ضرر منفي ، ففيه أن ما ذكروه من الحكم المذكور غير منصوص ، ويمكن أن يقال : بان له الأرش حينئذ كما في خيار العيب متى تصرف في المبيع ، على أن هذا الإيراد يختص بالقول المشهور وأما على القول الآخر الآتي من الأرش مع الرضا فلا ورود له كما لا يخفى.

ثم ان ظاهر كلام الأكثر هو ما ذكرناه آنفا من التخيير بعد ظهور العيب بين الفسخ والرضا بالأجرة ، وذهب جماعة منهم المحقق الثاني والشهيد الثاني الى أن له مع الرضا الأرش فهو مخير عندهم بين الفسخ والرضا بالأرش.

قال في الروضة بعد قول المصنف وفي الأرش نظر ما لفظه : من وقوع العقد على هذا المجموع وهو باق ، فاما أن يفسخ أو يرضى بالجميع ، ومن كون الجزء الفائت أو الوصف مقصودا للمستأجر ولم يحصل وهو يستلزم نقص المنفعة التي هي أحد العوضين ، فيجبر بالأرش وهو حسن.

أقول : فيه ما عرفت من أن أصل المسئلة غير منصوص ، والظاهر انهم ذكروا هذا الحكم هنا قياسا على البيع من انه متى ظهر عيب بالمبيع تخير المشترى بين الفسخ وبين الالتزام مع الأرش ، مع أن الأخبار ثمة لا تدل على ما ذكروه كما حققناه في البيع ، وانما هو موردها مع ظهور العيب الخيار خاصة ، وأما الأرش فإنما هو مع التصرف ، وأما تعليله هنا فعليل ، فان ما ذكره من ضرره هنا بنقص المنفعة يجبر بالفسخ الذي هو أحد فردي التخيير ، ولا ينحصر في الأرش.

نعم لو لم يكن له الفسخ فان ما ذكره متجه ، لكن الأمر ليس كذلك ،


وكيف كان فان ثبوت الأحكام الشرعية بمثل هذه التقريبات العقلية لا يخلو من المجازفة في أحكامه عزوجل التي قد استفاضت النصوص بالنهي عن القول فيها بغير علم منه عزوجل أو من نوابه (صلوات الله وسلامه عليهم).

ثم انه قال في المسالك تفريعا على ما اختاره من وجوب الأرش : وطريق معرفته أن ينظر إلى أجرة مثلها سليمة ومعيبة ، وينظر الى التفاوت بينهما ، ويرجع من المسمى بتلك النسبة ، ولا يخفى أنه متى اختار الفسخ فان لم يمض من المدة ماله أجرة فلا اشكال ، وان مضت مدة كذلك ، فعليه من المسمى بنسبة ذلك من المدة.

هذا كله فيما إذا كانت الإجارة واردة على عين ، أما لو كانت في الذمة ودفع له عينا معيبة فالواجب إبدالها ولا فسخ هنا ، الا أن يتعذر البدل لعدم وجوده أو لتغلب الموجر وعدم إمكان جبره فيفسخ المستأجر ، ويرجع الى ماله ، والله سبحانه العالم.

الرابعة والعشرون : الظاهر أنه لا خلاف في تضمين الصناع من المكارين والملاحين والقصارين وسائر الصناع لما جنته أيديهم ، سواء كان نقصا في العين أو تلفا ، وان كان حاذقا واحتاط واجتهد ، وانما الخلاف فيما لو تلفت بغير فعله. وغير تفريطه وظاهر جماعة منهم الشيخ المفيد والمرتضى القول بالضمان ، والمشهور وهو قول الشيخ وأتباعه وابن إدريس ومن تأخر عنه العدم.

قال الشيخ المفيد : القصار والخياط والصباغ وأشباههم من الصناع ضامنون لما جنته أيديهم على السلع ، ويضمنون ما تسلموه من المتاع الا أن يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه أو تقوم لهم بينة بذلك ، والملاح والمكاري والجمال ضامنون للأمتعة الا أن تقوم لهم بينة بأن الذي هلك منه بغير تفريط منهم ولا تعد فيه ، وقال المرتضى : مما انفردت به الإمامية القول بأن الصناع كله كالقصارين والخياط ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم ، الا أن يظهر هلاكه ويشتهر


بما لا يمكن دفعه. أو تقوم به بينة بذلك ، وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد ، وسواء كان الصانع مشتركا أو غير مشترك ، ثم فسر معناهما.

وقال في المختلف والمبسوط والنهاية : لا ضمان عليهم الا فيما يهلك مما أفسدوه أو يكون بشي‌ء من جهتهم أو بتفريط منهم وما أشبه ذلك ، فان هلك من غير ذلك لم يكن عليهم شي‌ء من ذلك ، وبه قال أبو الصلاح وسلار.

وقال ابن إدريس : اختلف أصحابنا في تضمين الصناع والمكارين والملاحين فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة وعليهم البينة ، الا أن يظهر هلاكه ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام والغرق والنهب كذلك ، فأما ما جنته أيديهم على السلع فلا خلاف بين أصحابنا أنهم ضامنون له ، وقال الفريق الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصلون : أن الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم على الأمتعة أو فرطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة وهو الأظهر والعمل عليه ، لأنهم أمناء سواء كان الصانع منفردا أو مشتركا.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه اختيار الشيخ ، لنا الأصل براءة الذمة وعدم الضمان ، فإن أيديهم ليست عادية ، وهم أمناء فلا يتعلق بهم ضمان ، إلا مع تعد أو تفريط ، كالمستودع وغيره.

أقول : وعلى هذا القول جرى المتأخرون ، والواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة بهذا المقام ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه ببركتهم عليهم‌السلام فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (١) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال سألته عن القصار يفسد قال : كل أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد فهو ضامن». وما رواه في التهذيب عن أبى الصباح الكناني (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٥ ، وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ١ وص ٢٧٤ ح ١٣.


عن القصار هل عليه ضمان؟ قال : نعم كل من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن».

وما رواه في الفقيه عن حماد عن الحلبي (١) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده ، فقال : كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى الصباح (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الثوب أدفعه الى القصار فيخرقه؟ قال : أغرمه فإنك إنما دفعته اليه ليصلحه ، ولم تدفعه ليفسده».

وعن إسماعيل بن الصباح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القصار يسلم اليه المتاع فخرقه أو غرقه أيغرمه؟ قال : نعم غرمه ما جنت يداه فإنك إنما أعطيته ليصلح ، لم تعط ليفسده».

هكذا اسناد الخبر في نسخ التهذيب وربما وجد في بعضها عن إسماعيل عن أبي الصباح وهو الظاهر ، كما هو في سند سابق هذا الخبر ، ويحتمل في إسماعيل أنه ابن عبد الخالق ، أو ابن الفضل الهاشمي.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (٤) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام رفع اليه رجل استأجر رجلا ليصلح له بابه فضرب المسمار فانصدع الباب فضمنه أمير المؤمنين عليه‌السلام».

أقول : وهذه الأخبار كلها موافقة لما اتفق عليه الأصحاب من ضمان ما جنته يد الصانع ، وان كان لا عن تعمد ، وان ذلك قاعدة كلية في كل من أعطى الأجر ليصلح فأفسد فإنه ضامن.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١ من باب ٧٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٢١ ح ٥٠.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٤١ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٥ ح ١٩ وص ٢٧٣ ح ٨ وص ٢٧٤ ح ١٠.


ومنها ما رواه في الكافي عن الحلبي (١) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال في الغسال والصباغ : ما سرق منهما من شي‌ء فلم يخرج (منه) على أمر بين أنه قد سرق ، وكل قليل له أو كثير «فهو ضامن» ، فان فعل فليس عليه شي‌ء «وان لم يفعل» ولم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى عليه فقد ضمنه ان لم يكن له على قوله بينة». ورواه في الفقيه مثله ، وكذا الشيخ في التهذيب ، وزاد فيه وعن رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق قال : هو مؤتمن».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال في الغسال والصباغ : ما سرق منهم من شي‌ء فهو ضامن». أقول : يعنى إذا ادعى السرقة كما هو ظاهر الخبر الأول.

وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قصار دفعت اليه ثوبا فزعم أنه سرق من بين متاعه ، فقال : عليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه ، وليس عليه شي‌ء ، وان سرق متاعه كله فليس عليه شي‌ء.

وعن السكوني (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمن القصار والصائغ والصباغ احتياطا على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشي‌ء الغالب».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن مرار عن يونس (٥) قال : «سألت الرضا عليه عليه‌السلام عن القصار والصائغ أيضمنون؟ قال : لا يصلح الناس الا أن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٢ ليس في الكافي كلمة «فهو ضامن» وكذا كلمة «وان لم يفعل» التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦١ الباب ٧٦ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٢.

(٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٥.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٤٠ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٢ وص ٢٧٤ ح ٥ و ٦ وص ٢٧٣ ح ٩.


يضمنوا ، قال : وكان يونس يعمل به ويأخذ».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن مسمع (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الأجير المشارك هو ضامن الا من سبع أو غرق أو حرق أو لص مكابر».

وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي (٢) عن آبائه عليه‌السلام أنه أتى بحمال كان عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمنها إياه ، وكان يقول كل عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن ، فسألته ما المشترك؟ فقال الذي يعمل لي ولك».

وكذا ما رواه في الكافي والفقيه عن الحلبي (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأل رجل جمال استكري منه إبل وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فإهراق ما فيه ، فقال انه ان شاء أخذ الزيت ، وقال : انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة».

وما رواه في التهذيب عن الشحام (٤) قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل جمال اكترى منه إبل و «بعثت» معه بزيت الى نصيبين فزعم أن بعض «زقاق» الزيت انخرق فإهراق فقال له : ان شاء أخذ الزيت وان زعم أنه انخرق فلا يقبل إلا ببينة عادلة».

وما رواه في الفقيه عن حماد (٥) عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جمال يحمل معه الزيت فيقول قد ذهب أو أهرق أو قطع عليه الطريق ، فان جاء ببينة عادلة أنه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شي‌ء ، والا ضمن».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٦ ح ٢٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٢ ح ٥٨.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٢٩ ح ٣٥ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٢ ح ٤ مع اختلاف يسير.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١ ب ٧٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٧ ح ٤ وص ٢٧٩ ح ١٣ وص ٢٧٦ ح ١ وص ٢٨٠ ح ١٦.


وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل حمل مع رجل في سفينة طعاما فنقص قال هو ضامن ، قلت : انه ربما زاد قال : تعلم أنه زاد فله شيئا؟ قلت : لا قال : هو لك.

أقول : وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة ، ساطعة المقالة ، فيما ذهب اليه المفيد والمرتضى.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) «قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمن القصار والصائغ احتياطا على أموال الناس ، وكان أبى عليه‌السلام يتطول عليه إذا كان مأمونا». وروى في الفقيه مرسلا قال : وقال عليه‌السلام : كان أبي يضمن القصار والصواغ ما أفسد ، وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يتفضل عليهم». (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (٤) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء وإن كان غير مأمون فهو ضامن».

وما رواه في التهذيب والفقيه عن أبي بصير (٥) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، (فيجيئون) بالبينة ، ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا وفي رجل استأجر حمالا فكسر الذي يحمل أو يهريقه فقال على نحو من العامل : إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٣٠ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٢٠ ح ٤٤ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٢ ح ٨.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٦١ ح ٣.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٦ ح ٢٦ ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ١٢.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٣ وفيه «فيخوف» بدل «فيجيئون» ، الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٧ ح ٢ وص ٢٧٢ ح ٤ وص ٢٧٨ ح ٧ وص ٢٧٤ ح ١١.


وإن كان غير مأمون فهو ضامن.».

وما رواه في التهذيب (١) عن بكر بن حبيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه ، وان اتهمته أحلفته».

أقول : يعني بالنسبة إلى دعوى التلف كما هو سياق الأخبار الآتية ، ومنها بالإسناد المتقدم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبة الى القصار فذهبت بزعمه ، قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شي‌ء».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن الصفار (٣) «قال كتبت الى الفقيه عليه‌السلام في رجل دفع ثوبا الى القصار ليقصره ، فدفعه الى قصار غيره ليقصره ، فضاع الثوب هل يجب على القصار أن يرده إذا دفعه الى غيره ، وان كان القصار مأمونا؟ فوقع عليه‌السلام : هو ضامن له ، إلا أن يكون ثقة مأمونا».

وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع فتطلب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال : فقال لي : أمين هو؟ قلت : نعم ، قال : فلا يأخذون منه شيئا» ، وعن حذيفة بن منصور (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أن معاذ بن كثير وقيسا أمرانى أن أسألك عن جمال حمل لهم متاعا بأجر ، وأنه ضاع منه حمل قيمته ست مائة درهم وهو طيب النفس لغرمه لأنه ضياعته ، قال : يتهمونه؟ قلت : لا قال : لا يغرمونه».

وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار (٦) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الصباغ والقصار؟ قال : ليس يضمنان».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢١ ح ٤٩.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٢ ح ٥٦ و ٥٧.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٦ ص٢٢٠ ح ٤٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٥ ح ١٦ و ١٧ و ١٨ وص ٢٧٩ ح ١٢ وص ٢٧٤ ح ١٤.


وما رواه في التهذيب والفقيه عن جعفر بن عثمان (١) قال : «حمل أبي متاعا الى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع. فذكرت ذالك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أتتهمه؟ قلت : لا قال : لا تضمنه».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن خالد بن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الملاح أحمل معه الطعام ثم أقبضه منه فينقص ، قال إن كان مأمونا فلا تضمنه».

أقول : هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وليس فيها ما يدل على القول المشهور إلا ظاهر الرواية الأخيرة ، والشيخ قد حملها على ما إذا كانا مأمونين ، وهو جيد.

وأما ما يدل على قول المفيد والسيد فجملة من الأخبار التي عرفت ، وأنت إذا رددت هذه الأخبار التي تلوناها عليك بعضها إلى بعض وحملت مطلقها الى مقيدها ، ظهر لك أن الحكم بالنسبة إلى دعوى التلف أنه ان كان أمينا غير متهم فلا ضمان عليه ، والا فهو ضامن ، الا أن يقيم البينة ، أو يكون لأمر ظاهرا في دعواه.

وبه يظهر أن إطلاق كل من القولين المتقدمين ليس في محله ، والعلامة في المختلف حيث اختار قول المشهور كما قدمنا نقله عنه حمل ما نقله من الاخبار الدالة على قول المفيد والمرتضى على التفريط والتعدي ، جمعا بين الأدلة ، أو على تأخير المتاع عن الوقت المشترط ، وان كان نوع تفريط ، لما رواه الكاهلي (٣) في الحسن عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن القصار يدفع اليه الثوب واشترط عليه أن يعطيه في وقت ، قال : إذا خالف وضاع الثوب بعد الوقت فهو ضامن».

وأنت خبير بما فيه من التعسف المستغنى عنه ، فإنه لا إشعار في شي‌ء

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢١٧ ح ٢٨ و ٢٩.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١٩ ح ٣٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٨ ح ٦ وص ٢٧٧ ح ٣ وص ٢٧٣ ح ٧.


من تلك الأخبار بما ادعاه من التعدي والتفريط ، بل هي ظاهرة الدلالة في المدعى وما ادعاه من الحمل على تأخير المتاع أبعد ، إذ لا إشعار في شي‌ء منها بذلك ، بل هي ظاهرة في أن الضمان إنما هو من حيث التلف ، وان كان لا عن تعد ولا تفريط والوجه في الجمع إنما هو ما قلناه ، لتكاثر الأخبار به كما عرفت.

واستند في المسالك حيث اختار القول المشهور إلى أصالة البراءة ولأنهم أمناء فلا يضمنون بدون التفريط ، قال : وفي كثير من الأخبار دلالة عليه ، وفيه أن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل ، وقد عرفته مما ذكرناه من الأخبار الساطعة في ذلك على وجه لا تقبل الإنكار الا من حيث قصور التتبع لها ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وأما ما ذكره من أنهم أمناء فلا يضمنون الا مع التفريط ، فهو وان كان كذلك في جملة من المواضع ، الا أنه من الجائز خروج هذا الحكم من تلك المواضع ، لأن الإجارة على هذا الوجه نوع معاوضة ، فيجب إيصال كل عوض الى مستحقه أو بدله ، الا أن يعلم بأحد الوجهين المتقدمين تلفه بغير تفريط ولا تعد ، ولهذا ان أخبار هذه المسئلة على كثرتها وتعددها كما عرفت خالية عن ذلك ، فإنها على تعددها واستفاضتها وصحتها وضم بعضها الى بعض صريحة في الضمان إلا مع كون الأجير ثقة مأمونا غير متهم كما عرفت ، ولا إشعار في شي‌ء منها ، فضلا عن الظهور بكون الضمان مستندا الى التفريط أو التعدي ، وإنما رتب فيها على مجرد التلف ، ولكنهم لعدم التتبع التام للأخبار يقعون فيما يقعون فيه ، والحكم كما ذكرنا واضح بحمد الله سبحانه.

ثم ان الظاهر أن ما دل عليه صحيح الحلبي ومرسل الفقيه من التفضل والتطوع بعدم الضمان ، ينبغي حمله على ذينك الإمامين عليهما‌السلام بمعنى أنه إذا وقع ذلك في مالهما لا يضمنون العامل جمعا بين الأخبار ، لما عرفت من قول أمير المؤمنين والرضا عليهما‌السلام «لا يصلح الناس الا أن يضمنوا احتياطا على أموال الناس» بمعنى أن الحكم الشرعي تضمينهم ، فإنهم متى عرفوا ذلك احتاطوا في


حفظ أموال الناس خوف الغرم ، ولو حمل الخبران الأولان على أن المراد بهما أنهما عليهما‌السلام يحكمان بالتفضل والتطوع بالنسبة إلى الناس ، لحصلت المنافاة والمعارضة بين الأخبار ، على أن صحيح الحلبي صريح في أن تطوله عليه‌السلام بعدم الضمان إنما هو في صورة ما إذا كان مأمونا ، وحينئذ فيرجع الى الأخبار الأخيرة الدالة على قيد المأمونية ، ويحمل إطلاق تفضل على بن الحسين عليه‌السلام على ذلك ، وبه يزول الاشكال وان حمل على غيرهما من الناس ، والله سبحانه العالم.

الخامسة والعشرون : في إجارة المملوك ، والكلام فيها يقع في مواضع : الأول : فيما إذا آجر المولى عبده أو آجر العبد نفسه باذن مولاه فأفسد ، فلا خلاف ولا إشكال في لزوم ذلك للمولى ، لمكان إذنه ، لأن الإذن في الإجارة يقتضي الالتزام بلوازمها التي من جملتها الضمان هنا ، لكن الخلاف إنما هو في أنه هل يختص الضمان بكسب العبد ، لأن الصانع لما كان ضامنا لما يفسده في ماله ، والعبد لا مال له ، تعلق الضمان بكسبه ، وعلى هذا لو زادت الجناية على الكسب لم يلزم المولى شي‌ء أو يكون الضمان علي المولى؟ مطلقا قولان : وبالثاني قال في النهاية وأبو الصلاح.

قال في النهاية : من استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد المملوك شيئا أو أبق قبل أن يفرغ من عمله كان مولاه ضامنا لذلك ، وقال ابن إدريس : يكون ضامنا لبقية الأجرة دون أرش ما أفسده.

أقول : وكلام ابن إدريس لا يخلو من إجمال ، فإنه يحتمل أن يراد به أن أرش الجناية لا يضمنه السيد من ماله ، ولا من كسب العبد ، وحينئذ فيكون هذا قولا ثالثا في المسألة ، ولم أقف على من نقله عنه ، ويحتمل أن يراد به أنه لا يضمنه المولى من ماله ، وان ضمنه من كسب العبد ، كما هو القول الأخر في المسئلة ، الا أنه لا يخلو من بعد ، وكلام أبى الصلاح على نحو كلام الشيخ.

والذي يدل على ما ذهب اليه الشيخ ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة


وأبي بصير (١) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل كان له غلام استأجره منه صائغ أو غيره قال : ان كان ضيع شيئا أو أبق فمواليه ضامنون». وظاهر المختلف حمل الرواية على أن الضمان المراد ضمان الموالي من كسب العبد لا من أموالهم ، ولا يخفى بعده ، وفصل في المسالك وقال : والأصح أن الإفساد ان كان في المال الذي يعمل فيه من غير تفريط تعلق بكسبه ، كما ذكروه ، وان كان بتفريط تعلق بذمته يتبع به إذا أعتق ، لأن الاذن في العمل لا يقتضي الاذن في الإفساد.

نعم لو كان باذن المولى تعلق به ، وعليه تحمل الرواية ، وان كان بجناية على نفس أو طرف تعلق برقبة العبد ، وللمولى فدائه بأقل الأمرين من القيمة أو الأرش ، سواء كان باذن المولى أم لا ، انتهى.

وفيه أولا أن ظاهر قوله «نعم لو كان باذن المولى تعلق بالمولى ، يعطي أن حكمه بتعلقه بكسب العبد في صورة عدم التفريط والتعدي ، والتعلق بذمته في صورة التفريط مبنى على أن الاستيجار بدون اذن المولى ، وهو خلاف فرض أصل المسئلة وذلك فإن البحث هنا في المسئلة إنما بنى على ما قدمنا ذكره من اجارة المولى عبده أو إجارة العبد نفسه باذن المولى ، وثانيا أنه مع عدم الإذن فإنه لا ريب في بطلان الإجارة ، فلا يترتب عليها شي‌ء مما ذكر من الضمان ، لأن تصرف المستأجر في العبد بدون اذن مولاه غصب محض ، لا يستحق ضمانا ، ويحتمل أن المراد أنه لو أذن المولى للعبد في الإفساد فيكون الضمير في كان راجعا إلى الإفساد ، وهو وان كان معنى صحيحا في حد ذاته ، الا أن حمل الرواية على ذلك في غاية البعد.

وبالجملة فإن فهمي القاصر ـ عن ادراك معنى صحيح لهذا الكلام ـ خاسر ، وكيف كان فإنه لا يخفى ما في الحكم بتعلق حكم الضمان بذمته ، وأنه يتبع به إذا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٠٢ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٣ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٩ ص ١٨٣ ح ١.


أعتق من الاشكال ، لما فيه من الضرر على المالك ، فإنه قد يتعمد العبد الجناية على مال المالك ، ويفرط فيه فيسرق لعلمه بأنه لا يؤاخذ به الا بعد العتق ، مع أنه قد لا يعتق بعد موت المالك ، أو يكون فقيرا بعد العتق ، وكيف يصح ارتكاب هذا الضرر ، مع عدم وجود دليل عليه ، والرواية ظاهرة الدلالة بإطلاقها على ضمان المولى مطلقا ، ويؤيدها أن المولى بوصفه عبده وإجارته لمثل هذه الأمور التي لا يحسنها في قوة المدلس ، فيجب عليه الضمان.

وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النص المذكور ، كما ذكره الشيخ ومن تبعه ، والخروج عنه بغير دليل شرعي سوى هذه التخريجات مشكل ، والله سبحانه العالم.

الثاني : لو آجر السيد عبده ثم أعتقه فلا خلاف في صحة الإجارة والعتق ، أما الإجارة فظاهر ، لأن منافع العبد لمولاه حال ملكه ، فيجوز له نقلها بالإجارة كمنفعة نفسه ، فإنه يوجر نفسه غيره ، وأما العتق فكذلك أيضا ، فإنه مالك لرقبته ، والعتق مورده رقبة المملوك ، والمنافع وان كانت تابعة للرقبة الا أنه قد سبق ملكها ، أو ملك بعضها بعقد الإجارة ، غاية الأمر أن العتق إنما صادف الرقبة دون منافع مدة الإجارة ، فتزول السلطنة عن الرقبة ، والمنافع التي لم تدخل تحت الإجارة ، وهو مما لا خلاف ولا اشكال فيه.

وإنما الخلاف في أنه هل يرجع المملوك على مولاه بأجرة المثل عن تلك المدة التي آجره فيها أم لا؟ قال ابن إدريس ومثله الشيخ في المبسوط : إذا آجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح ، وهل يرجع على السيد يأجره المثل لما يلزمه من الخدمة بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان : أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك المدة ، والآخر لا يلزمه ، وهو الصحيح لأنه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة ، وربما علل الرجوع بأن إزالة الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته ، فإذا سبق نقل المولى لها فاتت العين ، فيرجع العبد على المولى بعوضها ، وهو أجرة المثل ، وضعفه ظاهر


مما تقدم ، فان تصرف المولى بالإجارة في تلك المنافع لا ريب في صحته ، وعدم ترتب ضمان عليه في ذلك واستحقاق المستأجر لتلك المنافع مما لا ريب فيه أيضا ، والعتق إنما صادف ازالة الرق عن الرقبة مسلوبة المنافع تلك المدة ، فقول القائل المذكور أن الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته إنما يتم ، فيما إذا صادف العتق ازالة الرق من الرقبة ومنافعها ، لا فيما نحن فيه ، ولهذا لو أعتقه وشرط عليه خدمته مدة معينة صح ذلك ، كما أن المنفعة هنا لا يقتضي العتق ملك العبد لها لمكان الشرط ، كذلك فيما نحن فيه للسبق ، فان المالك قد آجرها سابقا وهذه الصورة أولى بعدم مطالبة العبد من صورة الشرط.

وبالجملة فإن ضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى ، ومن المحتمل قريبا أن هذا القول إنما هو للعامة كما هو مؤمى عبارة المبسوط ، فإنه لم ينسب الى أحد من أصحابنا صريحا ، والظاهر أن الأصحاب إنما نقلوا الخلاف من هذه العبارة ، بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر أيضا وهو نفقة العبد في مدة الإجارة.

قال في المسالك بعد البحث في الحكم المتقدم : إذا تقرر ذلك فنفقة تلك المدة إذا لم تكن مشروطة على المستأجر ، هل يجب على مولاه ، أو في كسبه ، أو في بيت المال ان كان؟ أوجه : من انتفائها من العبد ، لاستغراق وقته في الخدمة ، وعن المستأجر لانتفاء الشرط ، فلم يبق لها محل الا السيد ، ولأنه ملك عوض المنفعة تلك المدة ، ومن انتفاء المقتضي ، للإنفاق ، وهو الملك ، وقد زال ومن أن النفقة مقدمة على حق كل أحد كما في المديون والمعسر ، فيخرج من الكسب مقدمة على حق المستأجر ، والأقوى الأخير لزوال ملك السيد وعجزه عن نفسه ، ولبطلان الحصر وعدم استلزام تملك عوض منفعة تلك المدة النفقة ، وإنما تقدم النفقة على حق الغير من مال المكتسب ، وبيت المال معد للمصالح ، وهو من جملتها ، ومع تعذره فهو من الواجبات الكفائية على سائر المكلفين ، انتهى.

أقول : قد تقدم نقل الخلاف في نفقة الدابة إذا آجرها المالك هل هي على


المستأجر أو المالك؟ والإنسان إذا آجر نفسه هل نفقته على نفسه ، أو المستأجر ، ومحل الاشكال هنا إنما يتوجه على القول بكون النفقة على المالك في الأول ، وعلى الموجر نفسه في الثاني ، وأما على تقدير كونها على المستأجر أصالة كما هو أحد القولين أو بالشرط على القول الثاني فلا اشكال ، ولهذا انه لما كان مذهب شيخنا الشهيد الثاني هو أن النفقة على المالك ، والموجر نفسه ، جعل محل الاشكال فيما لو لم يكن مشروطة على المستأجر ، وقد استشكل في ذلك أيضا جمع من الأصحاب منهم العلامة في الإرشاد ، ووجه الاشكال كما ذكره هنا من أنه ملك عوض المنفعة تلك المدة واستوفاه ، فيلزمه النفقة ، ومن أنه بالعتق خرج عن ملكه ، المقتضى لوجوب الإنفاق ، فيزول وجوب الإنفاق.

وبالجملة فالمسئلة محل اشكال ، لخلوها من النص ، وان كان ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني لا يخلو عن قرب ، بناء على الأخذ بهذه التقريبات المتداولة في كلامهم ، لأنه نفاها عن المستأجر من حيث عدم الشرط ، بناء على مذهبه في المسئلة كما أشرنا اليه ، وعن السيد لتبعية وجوب النفقة للملك ، وعدم ثبوت الاستلزام المدعى ، وعن العبد ، لاستغراق وقته في الخدمة ، وتقديمها من الكسب ـ على حق المستأجر ، قياسا على المديون ، والمعسر ـ إنما يتم لو كان له مال مكتسب ، وقد عرفت أنه لانتقال منافعه إلى المستأجر واستغراق وقته في الخدمة لا مال له ، فلا وجه لإيجابها في كسبه ، إذ لا كسب له ، فلم يبق الا الرجوع الى بيت المال ان كان ، أو المؤمنين وجوبا كفائيا ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قال في المختلف : إذا استأجر العبد سنة ، ثم مات بعد مضي نصفها ، قال الشيخ وتبعه ابن إدريس : يصح فيما مضى ، ويبطل فيما بقي ، وله المطالبة بأجرة المثل ، فان تساويا أخذه ، وان كان أجرة الباقي أكثر استحق الزيادة ، مثل أن يكون أجرة الماضي مائة ، والباقي مأتين ، فإنه يستحق عليه مأتين ، وبالعكس ، وهذا القول فيه نظر ، بل الحق أن ينسب المسمى إلى أجرة المثل ،


ويقسط ما قابل المتخلف ، وكأن مراد الشيخ ذلك ، انتهى.

السادسة والعشرون : قد صرح الأصحاب بأنه لا يضمن صاحب الحمام الا ما أودع وتعدى أو فرط فيه ، وهو كذلك ، اما أنه لا يضمن بغير الإيداع فظاهر ، لأن الأصل براءة الذمة من وجوب حفظ مال الغير مع عدم الالتزام به حتى لو نزع المغتسل ثيابه ، وقال احفظها ولم يقبل لم يجب عليه الحفظ ، وأما أنه مع الإيداع لا يضمن الا بالتفريط أو التعدي ، فلأنه أمين محض ، وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الوديعة ، ويدل على ذلك أيضا ما رواه

المشايخ الثلاثة مرسلا (١) في بعض عن الباقر عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، ومسندا في بعض عن غياث بن إبراهيم (٢) «عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام ان أمير المؤمنين عليه‌السلام أتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه ، وقال : إنما هو أمين».

قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين لعل المعنى أنه يحفظها بمحض الأمانة ، وليس ممن يعمل فيها أو يأخذ أجرة على حفظها ، فهو محسن لا سبيل عليه ، ويمكن أن يقال : خصوص هذا الشخص كان أمينا غير متهم ، فلذا لم يضمنه ، والأول أظهر انتهى.

أقول : بل الظاهر أن الثاني أظهر إذ مجرد وضع الثياب عنده من غير أن يظهر منه ما يدل على قبول أيتمانها لا يدل على كونه أمينا يترتب عليه ما يترتب على سائر الأمناء من عدم الضمان الا مع التفريط ، وقد تقدم ذلك في كتاب الوديعة.

وما رواه في التهذيب عن السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب ، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٦٣ ح ١٠.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٨ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٠ ح ١.

(٣) الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٣ الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة التهذيب ج ٦ ص ٣١٤ ح ٨٦٩ ، الرواية بهذا المتن بعينها هي رواية إسحاق بن عمار ولم نقف على هذا المتن عن طريق السكوني.


وما رواه في قرب الاسناد عن أبي البختري (١) عن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام «عن علي عليه‌السلام أنه كان لا يضمن صاحب الحمام ، وقال : إنما يأخذ أجرا على الدخول الى الحمام».

وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب».

السابعة والعشرون : قال في الخلاف : إذا آجر الأب أو الوصي الصبي أو شيئا من ماله صحت الإجارة إجماعا ، فإن بلغ الصبي قبل انقضاء المدة كان له ما بقي ولم يكن للصبي فسخه ، لان العقد على غير البالغ وعلى ماله وقع صحيحا بلا خلاف فمن ادعى أن له الفسخ بعد البلوغ فعليه الدلالة ، وتبعه ابن إدريس في ذلك.

وقال في المبسوط : ان له فسخها فيما بقي وقيل : انه ليس له ذلك ، وهو الأقوى ، قال في المختلف : والحق أن له الفسخ ، لنا أن الولاية تابعة للصغر ، وقد زال فتزول الولاية ، والعقد تابع لها ، فيزول بزوالها ، ولأنه لو عقد عليه مدة يعلم بلوغه في بعضها بطلت في الزائد ، فكذا في المجهول مع وقوعه ، لأن العلم والجهل لا مدخل لهما في ثبوت الولاية وعدمها ، انتهى.

أقول : وينبغي أن يعلم أن هنا صورتين : إحديهما أن يأجره مدة يعلم بلوغه ورشده قبل انقضائها ، كأن يأجره وهو ابن عشر سنين ، مدة سبع سنين ، ولا خلاف هنا فيما أعلم أن الإجارة لازمة فيما قبل البلوغ والرشد ، وأما بعدهما فإنه يكون موقوفا على إجازة الصبي ، لأن زمان الولاية عليه وعلى ماله ما قبل الأمرين المذكورين ، فلا إشكال في لزوم الإجارة في تلك المدة ، وأما بعد حصول الأمرين المذكورين فلا اشكال ولا خلاف في زوال الولاية عنه وحينئذ فلا إشكال في توقف

__________________

(١) قرب الاسناد ص ٧١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٧١ ح ٢ الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣١٤ ح ٨٦٩.


صحة الإجارة والحال هذه على إجازته ، لأن العقد في هذه المدة الزائدة يصير بمنزلة الفضولي.

الثانية : ان يأجره في مدة لا يعلم ذلك ، الا أنه اتفق حصوله في أثناء المدة وهذه الصورة هي محل الخلاف ، فظاهر كلام الشيخ المذكور هو صحة الإجارة في جميع المدة صحة لازمة لوقوع الإجارة من أهلها في محلها في وقت لا يعلم لها مناف ، فتستصحب. وظاهر العلامة هو الصحة كذلك إلى حين اجتماع الشرطين المذكورين ، لانتفاء المانع ، وأما بعد حصولهما فإنه يكون الحكم كما في سابق هذه الصورة ، لأن زمان الولاية ما قبل الكمال ، فيكون نفوذ التصرف مقصورا عليه ، وفي الشرائع تردد في هذه الصورة لما عرفت من تدافع التعليلين المذكورين ، وفي المسالك قوى قول العلامة أقول : والمسئلة بالنسبة الى هذه الصورة كغيرها من المسائل الغير المنصوصة محل اشكال ، وأما بالنسبة إلى الصورة الأولى فإنه لا ريب في صحة الإجارة ولزومها قبل حصول الشرطين المذكورين ، وأما بعدهما فان قلنا بصحة العقد الفضولي كما هو المشهور ، وأجاز الصبي فكذلك ، وان قلنا بالبطلان كما هو المختار فالحكم ظاهر ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى مذهب العلامة ومن تبعه في الصورة الثانية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن أكثر الأصحاب الذين تعرضوا لهذه المسئلة ومنهم الشيخ والفاضلان انما ذكروا بالنسبة إلى زوال الولاية بالبلوغ خاصة ، مع أنه لا خلاف في ضم الرشد اليه ، فلو بلغ ولم يكن رشيدا فالولاية باقية ، ففي الصورة الأولى لو آجره مدة يعلم بلوغه فيها ولا يعلم رشده ، بل كان مجهولا فان الحكم فيها كما في الثانية ، أما إذا كان معلوما كأن يكون متميزا قبل البلوغ ، فإنه يكون الحكم كما ذكروه ، ومنه يعلم أن الصورة الثانية أعم من أن لا يعلم بلوغه ولا رشده أو يعلم بلوغه ولا يعلم رشده ، ثم اتفق حصولهما ، ولو تلف الصبي بعد تسليم المستأجر له وكذا غيره ممن تستأجره للعمل عنده لم يضمنه ، ولا فرق هنا بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، فان كل من يسلم أجيرا ليعمل له فتلف لم يضمنه ،


لأنه قبضه لاستيفاء منفعة مستحقة لا يمكن تحصيلها إلا بإثبات اليد عليه فكان أمانة في يده ، قالوا : ولا فرق بين تلفه مدة الإجارة وبعدها.

أقول : أما تلفه مدة الإجارة فلا ريب فيه ، وأما بعدها لو كان صبيا أو مملوكا فهو مبني على ما هو المشهور ، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب الأول من هذا الكتاب (١) من أن العين المستأجرة من دابة أو صبي أو مملوك بعد تمام المدة هل يجب على المستأجر ردها الى المالك ، فلو أخرها ضمن ، ووجب عليه نفقتها أولا يجب عليه ذلك الا بعد طلب المالك ، والا فقبل ذلك انما يجب عليه رفع اليد عنها ، والتخلية بين المالك وبينها ، قولان : أشهرهما الثاني ، والكلام هنا مبني على هذا القول والله سبحانه العالم.

الثامنة والعشرون : المشهور في كلام المتقدمين أن من تقبل عملا لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة ، الا أن يحدث فيه حدثا يستبيح به الفضل ، وقيل ، بالكراهة واختاره في المسالك ، والظاهر أنه قول أكثر المتأخرين.

ومن الأخبار الدالة على المشهور ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) «عن أحدهما عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه؟ قال : لا إلا أن يكون قد عمل فيه شيئا».

وما رواه التهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (٣) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر يربح فيه؟ قال لا» : وما رواه المشايخ الثلاثة عن الحكم الخياط (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أني أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه بأقل من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال : لا بأس بذلك ، ثم قال : لا بأس فيما تقبلت من عمل ثم استفضلت فيه».

__________________

(١) ص ٥٤٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٥ ، هما في الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ١ و ٤.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ٢.


وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال : أليس تعمل فيها قلت : أقطعها واشتري لها الخيوط قال : لا بأس».

وعن علي الصائغ (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أتقبل العمل ثم أقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين فقال : لا يصلح ذلك الا أن تعالج معهم فيه قلت : فإني أذيبه لهم ، قال : فقال ذاك عمل فلا بأس».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل الخياط يتقبل بالعمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل قال : لا بأس قد عمل فيه».

هذا ما حضرني من أخبار المسئلة ، وكلها كما ترى ظاهرة الدلالة في القول الأول ، وهو الذي عليه المعول ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن جواز دفعه الى غيره مشروط بما إذا كان العمل في الذمة بأن يحصل له هذا العمل بنفسه أو غيره ، أما لو كان الاستيجار على فعله بنفسه فإنه لا يجوز له الدفع الى غيره ، ثم انه على تقدير الأول هل يكون ضامنا بدفعه الى الغير بدون اذن المالك صرح ابن إدريس بذلك ، والمشهور خلافه ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسئلة الرابعة من مسائل هذا المطلب (٤).

التاسعة والعشرون : اختلف الأصحاب في جواز الإجارة بأكثر مما استأجر إذا لم يحدث فيه حدثا فقيل بالتحريم ، وهو المشهور بين المتقدمين ، وقيل بالجواز على كراهة وهو المشهور بين المتأخرين ، وتقدم تحقيق القول في ذلك في صدر كتاب المزارعة (٥).

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٥٩ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٨ ـ الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٦.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٩ وص ٢١٠ ح ٦ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٦ و ٧ و ٥.

(٤) ص ٥٦٣.

(٥) ص ٢٩٢.


الثلاثون : اختلف الأصحاب في جواز إجارة الأرض بالحنطة والشعير مما يخرج منها ، فقيل : بالتحريم ، وقيل : بالكراهة ، وقد تقدم أيضا تحقيق الكلام في ذلك في الموضع المشار إليه.

الحادية والثلاثون : إذا دفع الى غيره سلعة ليعمل له فيها عملا كالقصار والغسال ونحوهما فقد صرح المحقق بأن له أجرة المثل بشرط أحد الأمرين ، إما كون العامل من عادته أن يأخذ الأجرة على مثل ذلك العمل ، أو كون ذلك العمل مما له أجرة في العرف والعادة المستمرة ، وعن العلامة أنه اعتبر كون العمل له أجرة عادة خاصة.

ويتخرج على ذلك صور أربع : الأولى : ما إذا حصل الشرطان المذكوران في كلام المحقق ، والأجرة ثابتة على كلا القولين.

الثانية : انتفاؤهما معا ولا أجرة على القولين ، ولا فرق حينئذ بين كون العمل متقوما بأجرة وعدمه ، إذا لم يكن له في العادة أجرة ، ولا أعد العامل نفسه لها.

الثالثة : أن يكون العمل مما له أجرة بحسب العادة ، ولكن ليس من عادة العامل الاستيجار له ، والأجرة ثابتة على القولين أيضا لأن هذا أحد شرطي المحقق وهو الذي اقتصر عليه العلامة.

الرابعة : عكس هذه الصورة بأن يكون من عادته الاستيجار له الا أن العمل ليس مما له أجرة بحسب العادة ، والأجرة ثابتة على مذهب المحقق ، دون العلامة ، ورجح مذهب المحقق في هذه المسئلة بأن الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة مملوكة ، للمأمور ، متقومة بالمال ، فوجب ثبوتها على الآمر كالاستيجار معاطاة ، واللازم استيفاء عمل محترم بالأمر ، فلا يحل بدون العوض إلا بإباحة مالكه ، ولم يتحقق وهو جيد.


المطلب الرابع في جملة من أحكام التنازع

منها التنازع في أصل الإجارة ، والقول في ذلك قول المنكر منهما بيمينه ، سواء كان المالك أو الأجير ، لأن الأصل العدم ، والحكم اتفاقي نصا وفتوى ، بقي الكلام في أنه لا يخلو اما أن يكون هذا التنازع قبل التصرف واستيفاء المنافع كلا أو بعضا ، أو بعده ، وعلى الأول لا إشكال في رجوع كل مال الى صاحبه ، وعلى الثاني فلا يخلو اما أن يكون مدعى الإجارة المالك أو المتصرف ، فان كان المدعى المالك ، والحال أن المتصرف حلف على إنكار الإجارة ، انتفت الإجارة ، وعلى المتصرف أجرة المثل ، عوض ما تصرف فيه ، فان كان أجرة المثل زائدة على ما يدعيه المالك من المسمى في العقد بزعمه ، فإنه لا يجوز له أخذ الزيادة ، لاعترافه بأن المسمى في العقد أقل من ذلك ، فلا يستحق أزيد منه ، وان وجب على المتصرف دفعها لو لم يدفعها سابقا ، وحرمت المطالبة بها ان دفعها سابقا ، وان كان المسمى بزعم المالك زائدا على أجرة المثل ، فان هذه الزيادة تنتفي بانتفاء الإجارة بعد اليمين ، فليس للمالك طلبها ، ولا يجب على المنكر دفعها ، وان دفعها سابقا استرجعها ، وان كان مدعى الإجارة هو المتصرف ، والمالك ينكرها ، وينكر الاذن في التصرف مطلقا ، فقد عرفت أن القول قوله بيمينه ، وحينئذ إذا حلف انتفت الإجارة ، واستحق أجرة المثل لما تصرف فيه المستأجر بزعمه ، فله المطالبة بها ان لم يكن قبض قدرها سابقا ، وان زادت عن المسمى بزعم المستأجر ، لأن المسمى قد بطل بانتفاء الإجارة ، وصار الحكم هو أجرة المثل ، وأما لو زاد المسمى فإنه لا يجوز له أخذه لإنكاره الإجارة وبطلانها باليمين ، وان كان يجب على المستأجر دفعه لاعترافه به ، ولو قبض المسمى سابقا لم يكن للمستأجر المطالبة بالزائد لاعترافه به ، وان كان المالك يعترف أيضا بأنه لا يستحقه ، ويضمن المستأجر العين في هذه الصورة ، لثبوت كون التصرف غصبا ، بخلاف الأولى التي يدعي المالك فيها


الإجارة ، فإن العين باعترافه أمانة في يد المستأجر ، نعم لو أنكر الإجارة واعترف بالإذن في التصرف ، فلا ضمان أيضا للخروج عن الغصب بالاذن ، والله سبحانه العالم.

ومنها التنازع في قدر العين المستأجرة بان ادعى المستأجر انك آجرتني الدار بأجمعها بمأة درهم ، فقال المالك بل أجرتك بيتا خاصا منها بمأة درهم ، والمشهور أن القول قول المنكر لأصالة عدم وقوع الإجارة على الزائد عما يعترف به المالك ، وقيل بالتحالف هنا ، لأن كلا منها مدع ومنكر فالمستأجر يدعى استيجار الدار كملا ، والمالك ينكر ذلك ، والمالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكر ذلك.

وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل الى هذا القول ، قال رحمة الله عليه : وأما المستأجر فالظاهر فيه التحالف ، لأنه بإنكار أحدهما وحلفه لم ينقطع الدعوى والنزاع ، إذ قد ينقلب الحالف ويدعى الاستيجار في العين الأخرى ، فلا بد من سماع دعواه ، ورده على وجه شرعي وليس الا بأن يكون القول قول منكره مع اليمين ، وكذا هو الظاهر في دعوى قطعه قباء وقميصا ، ولعل المصنف لم يذكر التحالف بناء على عدم دعوى الآخر ، وأما مع دعواه فالظاهر التحالف فتأمل ، انتهى.

وحاصله ان ما ذكروه هنا من أن القول قول منكر الزيادة بيمينه لا يحسم مادة النزاع ، لأنه متى حلف المالك الذي هو منكر لاجارة الدار كملا انتفت الإجارة المدعاة ، لكن لو رجع على المستأجر وادعى عليه اجارة البيت بتلك الأجرة التي اتفقا عليها ، والمستأجر ينكر ذلك ، لأنه إنما يدعي الدار كملا لا بيتا منها خاصة ، فلا بد من المخرج من هذه الدعوى ، وليس الا بحلف المستأجر لإنكاره تلك الدعوى ، فيكون القول قوله بيمينه ، وهو كلام وجيه.

وفي المسالك بعد أن نقل هذا القول إجمالا قال ، والأقوى ما اختاره المصنف لاتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق الأجرة المعينة ، وان كان


توزيعها يختلف بحسب الدعوى ، إنما الاختلاف في الزائد فيقدم قول منكره ، وضابط التحالف أن لا يتفقا على شي‌ء كما لو قال : آجرتك الشي‌ء الفلاني ، فقال : بل الفلاني ، أو آجرتك البيت فقال : بل الحمام ، ومثله ما تقدم في البيع إذا اختلفا في قدر المبيع ، وفي تعينه ، فالقول بالتحالف هنا دون البيع غير جيد ، انتهى.

وفيه ما عرفت آنفا من أن هذا إنما يتم لو لم يرجع المالك ، ويدعي على المستأجر ما ذكره من اجارة ذلك البيت المخصوص وإلا فإنه بعد دعواه هذه لا مخرج منها إلا أن يحلف المستأجر ، فمادة الاشكال ودفع القيل والقال لا يتم الا بالتحالف ، على أن ما ذكره من اتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت ، وعلى استحقاق الأجرة المعينة مما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وان كان الأمر كما ذكره بالنسبة إلى ظاهر الدعويين ، الا أنه متى حلف المالك على نفي اجارة الدار وانتفت الإجارة ، والمستأجر لا يدعى البيت ، بل ينكره فأي ثمرة لهذا الاتفاق ، بل لا وجود له ، وهكذا الكلام في الأجرة ، وما ذكره من الاستناد الى ما تقدم في البيع وأنه كيف يقال بالتحالف هنا دون البيع ، ففيه أن القول بالتحالف ثمة أيضا موجود ، وان كان خلاف ما يختاره كما هنا (قدس‌سره) وقد قدمنا نقله في جملة من صور الاختلاف بين المتبايعين في المطلب الرابع في اختلاف المتبايعين من الفصل الرابع في أحكام العقود (١).

وأما ما ذكره من القاعدة في التحالف فانى لم أقف عليها إلا في كلامه في هذا الموضع ، وفي كتاب البيع ، ولا يحضرني الآن شي‌ء من الأخبار الواردة بالتحالف ، ولعل هؤلاء القائلين بالتحالف لا يثبتون هذه القاعدة ، على أنه بناء على ما ذكرناه من وجه التحالف في الصورة المذكورة ، فإنها ترجع الى هذه القاعدة أيضا لأنهما لم يتفقا على شي‌ء ، وان أوهم تصوير المسئلة ذلك في بادى الرأي ، لأنه متى كان المالك يدعي إجارة البيت خاصة ، والمستأجر ينكره ، والمستأجر يدعي إجارة

__________________

(١) ج ١٩ ص ١٩٠.


الدار كملا ، والمالك ينكره ، فهو من قبيل الأمثلة التي ذكرها ، ولا مخرج من هاتين الدعويين الا بالتحالف ، كما لا يخفى ، والله سبحانه العالم.

ومنها ما لو اختلفا في رد العين المستأجرة فإنه لا إشكال في أن القول هنا قول المالك بيمينه ، لأنه منكر ، والأصل عدم الرد ، والمستأجر قبض لمصلحة نفسه ، فلا يقبل قوله في الرد مع مخالفة الأصل ، وبهذا فرقوا بينه وبين الودعي حيث أن المشهور في الودعي أن القول قوله في الرد ، وعللوه بأنه قبضه لمصلحة المالك فهو محسن محض ، «و ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » والتحقيق في الفرق بين الودعي والأجير إنما هو ما قدمناه في كتاب العارية من أن قبول قول الودعي إنما هو من حيث كونه أمينا ، وقد دلت الأخبار التي قدمناها في كتاب الوديعة على أن الأمين ودعيا كان أو غيره من الأمناء يقبل قوله فيما يدعيه بغير اليمين ، وان كان المشهور بينهم ضم اليمين.

وأما الأجير فإنهم وان ادعوا أنه أمين فهو غير مسلم ، كما تقدمت الإشارة إليه في المسئلة الرابعة والعشرين ، لأنه عامل بأجرة ، فهو من قبيل المعاوضات ، وبالجملة فإنه غير داخل في إطلاق تلك الأخبار ، وحينئذ فيرجع في حكمه الى القاعدة المتفق عليها ، وهي أن البينة على المدعي ، واليمين على المنكر ، بخلاف الودعي وغيره ممن يكون أمينا ، فإنه يعمل فيه بمقتضى تلك الأخبار ، وبها تخصص أخبار تلك القاعدة المتفق عليها ، الا أنهم لعدم وقوفهم على الأخبار التي قدمناها في الوديعة ، إنما عللوا قبول قول الودعي بما ذكروه هنا ، من أنه محسن ، «وليس على المحسنين من سبيل» بخلاف من قبض لنفع نفسه ، وهو تعليل عقلي اصطلحوا عليه ، ولا دليل عليه في الأخبار.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الأجرة فقال الشيخ في المزارعة من الخلاف : الذي يليق مذهبنا أن تستعمل فيه القرعة فمن أخرج اسمه حلف ، وحكم له به ، لإجماع الفرقة على «أن كل مشتبه يرد إلى القرعة» وقال في المبسوط : إذا


اختلفا في قدر المنفعة بأن يقول : أكريتها شهرا ، أو يقول : إلى الكوفة ، فيقول : بل الى شهرين أو الى بغداد ، وفي الأجرة قال قوم : يتحالفان ، وقال قوم : ان كان قبل مضي المدة تحالفا ، وان كان بعدها في يد المكترى لم يتحالفا وكان القول قول المكترى ، كما في البيع القول قول المشتري إذا كانت السلعة تالفة ، وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا ، وان قلنا يرجعان إلى القرعة ، فمن خرج اسمه حلف وحكم له به كان قويا ، وقال ابن الجنيد : إذا اتفقا في المدة والمكان واختلفا في الأجرة فكل منهما يدعي ما يجوز بمثله في الإجارة في العرف ، كان الأجير مدعيا فضل أجرة في مال المستأجر ، وعليه البينة ، وكذلك ان اختلفا في الجنس ، فيقول الأجير قفيز حنطة ، ويقول المستأجر خمسة دراهم ، هذا إذا انقضت المدة أو ركبت الدابة ، وان كان قبل العمل أو الركوب ، ولم تقم بينة ولم يسأل أحدهما يمين الآخر تحالفا وانفسخت الإجارة.

وقال ابن البراج : ان لم تكن بينة تحالفا ، فان نكل أحدهما عن اليمين كان القول قول الآخر مع يمينه ، فان حلفا جميعا أو نكلا معا عن اليمين انفسخ العقد في المستقبل ، وكان القول قول مالك الدار مع يمينه في الماضي ، فان لم يحلف كان له أجرة مثلها عما سكنه المستأجر.

وقال ابن إدريس : القول قول المستأجر وعلى المالك البينة ، وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال ، ثم قول ابن إدريس أخيرا : وهو الوجه ، لنا أنه منكر ، ولو أقام كل منهما بينة قدمت بينة المدعي ، لأن القول قول المنكر وللتحالف وجه ، لأن كل واحد منهما مدع باعتبار ، وكذا القرعة ، وقد تقدما في البيع.

أقول : والمشهور بين المتأخرين هو ما ذكره ابن إدريس ، وهو الأنسب بمقتضى قواعدهم ، لأنهما قد اتفقا على العقد ، وعلى انتقال العين المستأجرة والمدة ، وثبوت الأجرة التي يدعيها المستأجر ، وانما الخلاف فيما زاد عنها ، فأحدهما


يدعيه ، والآخر ينكره ، والأصل عدمه ، فالقول قول المنكر بيمينه ، إلا أن المسئلة لما كانت خالية من النص فللاشكال فيها مجال.

وبالجملة فإن المسئلة هنا جارية عندهم على ما تقدم في البيع من الاختلاف في قدر الثمن ، وقد تقدم نقل الأقوال فيها كما هنا ، إلا أن ثمة نص ، لكنه مخالف لمقتضى قواعدهم ، فأخذ به بعض ، وأطرحه آخر ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيه ثمة.

وأنت خبير بأن قول جملة هؤلاء الفضلاء بالتحالف في المسئلة فتوى أو احتمالا مما يوهن الضابطة التي ادعاه الشهيد الثاني في التحالف ، وأنها ليست ضابطة كلية ، للاتفاق على وقوع العقد والمدة والعين المستأجرة مع أن هؤلاء قالوا : بالتحالف فيها ، والضابطة المذكورة تضمنت أن لا يتفقا على شي‌ء ، فلو كان الأمر كذلك لما خرج عنها جملة هؤلاء الفضلاء من العلامة ومن قبله ، فان العلامة هنا وان رجح ما ذهب اليه ابن إدريس إلا أن ظاهره احتمال التحالف ، والقرعة كما هو أحد الأقوال المذكورة.

ومنها ما لو اختلفا في التلف فظاهر جملة من المتأخرين وهو قول الخلاف وجملة من أتباعه : أنه لا ضمان على المستأجر ، بل القول قوله بيمينه ، لأنه أمين وقيل : بالضمان ، وأن القول قول المالك ، إلا أن يقيم المستأجر على ما ادعاه البينة ، أو يكون المدعى مشهورا ظاهرا : وقد تقدم الكلام في هذه المسئلة ، ونقل الأقوال والأخبار المتعلقة بها كملا ، والكلام فيها بما رزق الله سبحانه فهمه منها في المسئلة الرابعة والعشرين.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة لاختيار القول الثاني ما صورته : وقيل : القول قولهم مع اليمين ، لأنهم أمناء وهو أشهر الروايتين ، وكذا لو ادعى المالك التفريط فأنكروا القول بضمانهم


مع عدم البينة هو المشهور ، بل ادعى عليه الإجماع ، والروايات مختلفة ، والأقوى أن القول قولهم مطلقا ، لأنهم أمناء ، وللأخبار الدالة عليه ، ويمكن الجمع بينها وبين ما دل على الضمان بحمل تلك على ما لو فرطوا أو أخروا المتاع عن الوقت المشترط ، كما دل عليه بعضها ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه بعد الإحاطة بما قدمنا تحقيقه في المسئلة المذكورة ، وذلك فان روايات المسئلة بعد حمل مجملها على مفصلها ومطلقها على مقيدها ، لا تخرج عن ثلاثة أقسام ، فقسم منها تضمن أن كل ما جنته يد الصانع والعامل سواء كان عن تفريط أم لا فهو ضامن ، وأن ذلك قاعدة كلية في كل من أعطى الأجر ليصلح ، فأفسد.

وقسم منها تضمن أن مع دعوى التلف فإنه يضمن ، إلا أن يقيم البينة أو يكون التلف ظاهرا مشهورا كالغرق والحرق والغارة ، ونحو ذلك.

وقسم منها تضمن أنه مع دعوى التلف فان كان ثقة مأمونا غير متهم ، فلا ضمان عليه ، وإلا فهو ضامن ، وكل من الأقسام الثلاثة اشتمل على روايات عديدة ، وليس فيها ما يدل على ما ادعاه وغيره ممن قال بهذا القول ، سوى رواية واحدة وهي صحيحة معاوية بن عمار (١) ، وقضية الجمع بين الأخبار تقييدها بما دلت عليه اخبار المسئلة ، كما ذكره الشيخ ، وبذلك يظهر لك ما في قوله أن القول قولهم بيمينهم وهو أشهر الروايتين ، فإنه ليس في أخبار المسئلة على كثرتها وتعددها سوى رواية معاوية بن عمار المذكورة ، فمن اين هذه الشهرة ، فإن أراد الروايات الواردة في غير هذه المسئلة كالواردة في الوديعة ونحوها مما يدل على ان الأمين لا يضمن ، وأن القول قوله ، فهو مسلم ولكن روايات هذه المسئلة خاصة ، وكلها على كثرتها متفقة على الضمان الا مع البينة ، أو ظهور الأمر ، أو كونه ثقة مأمونا ، وتلك الروايات مطلقة ، ومقتضى القاعدة تقديم العمل بهذه الروايات وتخصيص تلك

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٧٤ ح ١٤.


وكذا يظهر لك ما في قوله أن الروايات مختلفة فيما لو ادعى المالك التفريط فأنكروا ، فإن فيه أن روايات المسئلة منحصرة في الأقسام الثلاثة التي ذكرناها ، وليس في شي‌ء منها ما يتضمن هذا الفرد الذي ذكره ، وحينئذ فإن أراد بما ذكره روايات القسم الأول ، وهو ما دل على وجوب الضمان على كل من أعطى الأجر ليصلح فأفسد ، فقد تقدم أنها متفقة على هذا الحكم ، وأنهم عليهم‌السلام جعلوه قاعدة كلية ، ولا مخالف لها في شي‌ء من الأخبار ، وان أراد أخبار القسم الثاني فهو قد أشار إليه في صدر كلامه ، وذكر أن كون القول قولهم هو أشهر الروايتين.

وبالجملة فإن روايات القسم الثاني الدالة على أنه يضمن مع دعوى التلف دالة على الضمان ، أعم من أن يكون بتفريط أولا بتفريط ، وأنه يجب الضمان الا مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة ، ثم أنه على تقدير القول بما اختاره من أن القول قول المستأجر بيمينه ، لأنه أمين ، فالكلام في اليمين هنا كما تقدم في الوديعة والعارية ، من عدم وجود دليل على اليمين ، بل ظاهر الأخبار وبه قال جملة من الأصحاب كما تقدم في الوديعة ، أنه لا يمين ، وإنما يقبل قوله من غير يمين ، بل القول بذلك هنا أضعف لعدم وجود دليل دال على قبول قول المستأجر بالكلية ، فضلا عن أن يضم اليه اليمين ، بل الأخبار كلها بعد ضم بعضها الى بعض متفقة على وجوب الضمان عليه ، الا مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة ، وما ادعاه هو وغيره من أنه أمين فيترتب عليه قبول قوله في التلف ممنوع ، إذ لا دليل عليه بل الدليل كما عرفت واضح في خلافه ، لاتفاق الأخبار على تضمينه في التلف الا مع قيام البينة ، أو شهرة الأمر به ، أو كونه مأمونا من دعوى الكذب ، على أنه لو كان أمينا لقبلوا قوله في الرد ، مع أنهم منعوا من قبوله كما عرفت ، والله سبحانه العالم.

ومنها ما لو دفع إلى الخياط ثوبا فقطعه قباء مدعيا اذن المالك ، فقال المالك إنما أمرتك بقطعه قميصا ، وقد اختلف كلام الشيخ في ذلك ، فقال في كتاب الوكالة من الخلاف : القول قول الخياط ، وفي كتاب الإجارة منه : القول


قول صاحب الثوب ، وبه قال ابن إدريس ، وقال في المبسوط : القول قول الخياط ، وقال قوم : القول قول رب الثوب ، وهو الصحيح ، واحتج بأن الثوب له ، والخياط مدع للإذن في قطع القباء فعليه البينة ، وإذا فقدها فعلى المالك اليمين ، ولأنهما لو اختلفا في أصل القطع كان القول قول رب الثوب ، فكذا في صفة القطع.

وقال في الخلاف : وكنا قلنا في ما تقدم في هذه المسئلة أن القول قول الخياط ، لأنه غارم ، وأن رب الثوب يدعى عليه قطعا لم يأمره به ، فيلزمه بذلك ضمان الثوب ، فكان عليه بذلك البينة ، فإذا فقدها وجب على الخياط اليمين.

وقال في المختلف بعد ذكر هذا الكلام من أوله الى آخره : وهذا أيضا قوي ، وهذا يدل على تردده ، والحق ما ذكره في الخلاف أولا وقواه في المبسوط ، انتهى.

أقول : وكلامه مؤذن بنوع تردد في ذلك ، فإنه قوى ما ذكره من تعليل الشيخ للقول بأن القول قول الخياط بيمينه ، ثم قال : والحق ما ذكره في الخلاف الى آخره ، وهو يعطى اختياره القول بتقديم قول صاحب الثوب ، الا أن عبارته لا يخلو من ردائه ، فإن اختياره لما ذكره في الخلاف أولا ان أراد بهذه الأولية باعتبار ما قدم نقله عنه والذي قدمه إنما هو أن القول قول الخياط ، وان أراد الأولية باعتبار ذكره المسئلة في الخلاف فهو يتوقف على مراجعته ، وأن المقدم فيه هو كتاب الإجارة على كتاب الوكالة.

وكيف كان فإنك قد عرفت العلة في كل من القولين ، وأن العلة في تقديم قول المالك أن الخياط يدعي عليه الاذن في هذا القطع المخصوص ، والأصل عدمه ، وانه كما يقدم قول المالك لو تنازعا في أصل الاذن وعدمه فكذا في صفته ، لأن مرجعه إلى إذن مخصوص.

والعلة في تقديم قول الخياط أن المالك يدعي عليه الأرش ، فيكون غارما ، والأصل عدمه فيقدم قوله في نفي ذلك من نفسه ، وان لم يثبت له الأجرة.


والمسئلة كما ترى عارية عن النصوص ، والتعليلان متدافعان ، ولو قيل : بالتحالف جمعا بين هذين التعليلين لأمكن ، فان الخياط من حيث دعوى المالك الأرش عليه ، والأصل عدمه ، يقدم قوله في ذلك بيمينه ، ومن حيث دعواه الاذن على المالك وأنه يستحق الأجرة بناء على ذلك ، والمالك منكر ، فيقدم قول المالك في هذه الدعوى ، لأصالة عدمها كما تقدم ، فيتحالفان لقطع هاتين الدعويين ، والإيراد بأن ذلك مخالف لمقتضى قاعدة التحالف المتقدمة مردود ، بما تقدم ، من عدم ثبوت القاعدة المذكورة ، وتصريح جمع من الأصحاب بالخروج عنه في كتاب البيع وفي هذا الكتاب.

ثم انه على تقدير القول بتقديم قول المالك بيمينه واستحقاقه الأرش فهل هو عبارة عن تفاوت ما بين قيمته مقطوعا قميصا وقباء فعلى هذا لو صلح لهما فلا أرش ، أو عبارة عن تفاوت ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا ، لأن القطع على هذا الوجه الذي يدعيه الخياط عدوان ، احتمالان : ذكرهما في المسالك ، والله سبحانه العالم.


والى هنا تم الجزء الحادي والعشرون حسب تجزئتنا بحمد الله ومنه ، وقد

بذلنا الجهد غايته في تصحيحه ومقابلته للنسخة بقلم المصنف (طاب ثراه)

ويتلوه الجزء الثاني والعشرون في كتاب الوكالة ان شاء الله تعالى

ونرجو من الله التوفيق على طبع بقية الأجزاء

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله

على محمد وآله الطاهرين.


فهرس الجزء الحادى العشرين

من كتاب الحدائق الناضرة

عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

كتاب الضمان

٣

يصح ضمان النفقة الماضية المزوجة دون المستقبلة

٢٩

يشترط في الضامن جواز التصرف المالي

٥

المشهور صحة ضمان المجهول واختلفوا فيما يرجع إليه ...

٣١

ضعف أدلة القائلين باعتبار علم الضامن بالمضمون له والمضمون عنه

٧

جواز ضمان الأعيان المضمونة

٣٣

اشتراط رضى المضمون له في صحة الضمان وعدمه

١١

جواز ضمان العهدة

٣٧

هل المعتبر مجرد رضى المضمون له كيف اتفق أم لا؟

١٣

تسمية هذا الضمان بضمان العهدة

٣٩

لم نجد دليلا شافياً على عدم اشتراط رضى المضمون عنه

١٥

إذا خرج المبيع مستحقاً رجع على الضامن

٤١

يشترط في الضامن الملاءة أو العلم باعساره

١٧

إذا اختلف الضامن والمضمون له في قبض مال الضمانة

٤٣

صور الضمان وحكمها

١٩

إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال أو ...

٤٥

رجوع الضمان له على المضمون عنه بما دفعه إلى المضمون له ان ضمن باذنه

٢١

كتاب الحوالة

٤٦

رجوع الضامن على المضمون عنه بأقل الامرين فيما دفع عروضاً

٢٣

أركان الحوالة ثلاثة

٤٧

عدم جواز ضمان المضمون عنه عن الضامن ما مضنه عنه

٢٥

ان رضى المحيل والمحتال ركن دون رضى المحال عليه

٤٩

اختلف الأصحاب في مال الكتابة المشروطة

٢٧

براءة المحيل من حق المحتال بمجرد الحوالة

٥١

شرائط صحة الحوالة

٥٣

يشترط تساوى المالين جنساً ووصفاً

٥٥


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

إذا أحال المشترى البايع بالثمن ثم رد المبيع بعيب سابق فهل تبطل الحوالة أم لا؟

٥٧

يصح الصلح من الاقرار والانكار

٨٩

متى قلنا ببطلان الحوالة بأي سبب كان فقد برئت ذمة المحال عليه

٥٩

يصح الصلح مع العلم بالمتنازع فيه وجهله

٩١

لو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة

٦١

في صور الجهل بالمتنازع فيه

٩٣

كتاب الكفالة

٦١

أركان الصلح أربعة

٩٧

اعتبار رضى الكفيل والمكفول له والمكفول

٦٣

إذا وقع الصلح بين شريكين على أن يكون الربح والخسران على أحدهما

٩٩

للمكفول له مطالبة والكفيل باحضار المكفول عاجلا

٦٥

لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما وادعى الآخر أحدهما

١٠١

حكم من ضمن غيره إلى أجل وقال إن لم آت به كان علي كذا

٦٧

لو أودع رجل دينارين وآخر ديناراً فضاع دينار منها

١٠٣

حكم اطلاق الغريم من يد الصاحب الحق

٧٣

لو كان لواحد ثوب بعشرين دهما وللآخر ثوب بثلاثين درهما ثم اشتبها

١٠٥

احضار المكفول قبل الأجل

٧٥

لو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم

١٠٧

إذا تكفل رجلان ببدن رجل لرجل ...

٧٧

لو ادعى اثنان عيناً في يد ثالث بالمناصفة فصدق المدعى عليه أحد هما فيما يدعيه

١٠٨

إذا مات المكفول برء الكفيل وكذا لو جاء ...

٧٩

جواز مصالحة المدعى عليه المنكر على سقي زرعه بمائه وعدمه

١١١

الواجب في عقد الكفالة الاتيان بلفظ يدل على ذلك

٨١

لو قال المدعى عليه صالحنى عليه لا يكون ذلك اقراراً بالملك

١١٣

كفالة الجزاء الذي تبقى الحياة بعد زواله

٨٢

يجوز اخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة

١١٥

كتاب الصلح

٨٣

يجوز اخراج الرواشن ... سواء عارضه فيه مسلم أم لم يعارضه أحد

١١٧

لا يشترط في صحة الصلح سبق نزاع

٨٥

الاختلاف في كونه عقداً برأسه أو فرعاً

٨٧


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

عدم جواز اخراج الرواشن والأجنحة في الطرق المرفوعة

١١٩

كتاب الشركة

١٤٧

بقاء حق الأولوية بعد سقوط الروشن و...

١٢١

الشركة اجتماع حقوق الملاك في الشئ الواحد على سبيل الشياع

١٤٩

لو كان في السكة المرفوعة أبواب بعضها أدخل من الآخر

١٢٣

أركان الشركة ثلاثة

١٥١

الجدار بين الملكين

١٢٥

ان المراد بالشركة ما امتزج من المالين واشتبه فيه التمييز بين الحقوق بحسب الظاهر

١٥٣

الاختلاف في الرجوع بعد وضع الخشب المعار

١٢٧

يكره مشاركة المسلم لأهل الذمة ... والشركة قد تكون في عين ...

١٥٥

إذا رفع صاحب الجذوع جذوعه فهل يحتاج اعادتها بإذن جديد أولا؟

١٢٩

الشركة في العروض الغير المثلية

١٥٧

لو تداعيا جداراً

١٣١

أنواع الشركة

١٥٩

لو أراد أحد الشريكين عمارة الجدار المشترك ...

١٣٣

وجه تسمية شركة العنان

١٦١

لو اختلفا في خص قضى به لمن إليه معاقد القمط

١٣٥

إذا اشترط أحد هما زيادة الربح مع تساوى المالين

١٦٣

إذا كان البيت لرجل وعليه غرفة لآخر فتداعيا جدران البيت

١٣٧

صحة اشتراط الزيادة إذا كان العمل من أحدهما

١٦٥

التنازع في سقف البيت الذي هو أرض الغرفة

١٣٩

صحة اشتراط الزيادة إذا كان العمل من أحدهما

١٦٧

إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار

١٤١

صحة اشتراط الزيادة إذا كان العمل من أحدهما

١٦٩

لو تنازع راكب الدابة وقابض لجامها

١٤٢

انه مع الضرر على الكل وعدم ضرورة لا تجوز القسمة

١٧١

لو تداعيا جملا كان بيديهما

١٤٥

متى حصلت القسمة بين السهام ... فلا بد للتعيين ... من القرعة

١٧٣

ظاهر الأخبار صحة الأقسام مع تراضيهما من غير توقف على قاسم ...

١٧٥


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

لا تسح قسمة الوقف

١٧٧

متى صحت المضاربة فللعامل تولى ما يتولاه المالك

٢٠٩

إذا استوفى أحد هما من المشتري شيئاً من الثمن يشاركه فيه الآخر

١٧٩

المراد بالسفر هنا هو العرفي وبالنفقة ما يحتاج إليه ...

٢١١

إذا استوفى أحدهما من المال المشترك شيئاً كان بينهما

١٨٢

مقتضى اطلاق الاذن هو البيع عقداً بثمن المثل من نقد البلد

٢١٣

ان في المقام اشكالا

١٨٥

لو خالف العامل ما دل عليه اللفظ بخصوصه أو اطلاقه

٢١٥

عدم صحة الشركة في سقاء على أن يكون الجمل من أحدهما والروية عن الآخر

١٨٧

تبطل المضاربة بموت كل منهما

٢١٧

عدم حصول الشركة لو احتطب بنية انه له ولغيره

١٨٩

يشترط في مال القراض أن يكون عيناً لا دينا و...

٢١٧

لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما ...

١٩١

يعتبر معلومية مقدار مال القراض ولو مشاعاً

٢٢٠

الدعوى بين الشريكين وبين المشتري والشريك

١٩٣

لو أخذ مالا للمضاربة مع عجزه عنه

٢٢٢

اختلاف المشتري والشريك غير البايع في القبض

١٩٥

إذا قارض المالك الغاصب على مال المغصوب

٢٢٥

ما يترتب على بطلان شركة الأبدان

١٩٧

لو مات رب المال والمال عروض في يد العامل

٢٢٧

كتاب المضاربة

١٩٩

ان المضارب يستحق من الربح ما وقع عليه الشرط

٢٢٩

اعتراض المحقق (قده)

٢٠١

يشترط في الربح الشياع

٢٣٠

في العقد وما يلحق به

٢٠٣

الفروع المترتبة على اعتبار الإشاعة في الربح

٢٣٣

يلزم العمل بما شرط فلو خالف ضمن ويكون الربح بينهما

٢٠٥

لو شرط أحد هما لغلامه حصة من الربح صح

٢٣٤

دلالة الأخبار بكون الربح بينهما من المخالفة

٢٠٧

لو دفع المالك مال القراض في مرض الموت

٢٣٧


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

الأقوال الأربعة في تحقق ملك العامل

٢٣٩

يجوز تعدد كل من العامل والمالك

٢٦٦

ان العامل أمين

٢٤٠

لو اشترى العامل شيئاً للقراض فتلف الثمن قبل دفعه إلى البايع

٢٦٨

إذا اشترى العامل من ينعتق على المالك باذنه

٢٤٣

إذا دفع إليه مالا قراضاً وشرط عليه أن يأخذ له بضاعة

٢٧٠

إذا اشترى العامل من ينعتق على المالك بغير اذنه

٢٤٥

عدم جواز وطئ جارية اشتراها للقراض

٢٧٢

إذا كان مال القراض لامرأة فاشترى العامل زوجها

٢٤٦

إذا مات وفي يده أموال مضاربة

٢٧٤

لو اشترى العامل أباه أو من ينعتق عليه

٢٤٨

كتاب المزارعة

٢٧٧

لما كان القراض من العقود الجائزة فلكل من المالك والعامل فسخه

٢٥١

وقوع المزارعة بلفظ الأمر

٢٧٩

قالوا متى فسخ المالك وكان المال ناضا لأربح فيه فللعامل اجرة المثل

٢٥٣

عدم اعتبار كون الأرض ملكا لأحدهما

٢٨٠

إذا كان المال سلفاً بعد فسخ عقد المضاربة

٢٥٤

لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع

٢٨٣

لا يجوز أن يضارب غيره إلا بإذن المالك

٢٥٧

اشتراط أن يكون النماء مشاعاً بينهما تساويا فيه أو تفاضلا

٢٨٤

لو لم يأذن له فلا يصح القراض الثاني ويكون النصف الآخر لمن؟

٢٥٩

هل يجوز أن يستأجر الأرض بالحنطة ويزرعها حنطة أم لا؟

٢٨٧

لو أنكر العامل مال القراض ... وأن ليس لا حد استحقاق شئ من الربح حتى يستوفى المالك جميع رأس ماله

٢٦١

هل يجوز أن يستأجر الأرض بحنطة منها أم لا؟

٢٩١

ان التالف من مال التجارة بعد دورانه فيها يجبر بالربح

٢٦٣

فيما لو استأجر الأرض بالأكثر ولم يحدث فيها شيئاً

٢٩٢

تبطل المضاربة إذا تلف مال التجارة قبل دورانه

٢٦٥

في الجمع بين الاخبار

٢٩٥

المناقشة في باقي أنحاء الجمع

٣٠١

في اشتراط تعيين المدة وعدمه

٣٠٣


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

هل يعتبر في المدة امتدادها إلى ادراك الزراعة علماً أو ظنا غالبا

٣٠٥

في مناقشة المحقق الأردبيلي (قده)

٣٣٥

لو مضت المدة والزرع باق

٣٠٦

في كفاية المعلومية في الجملة في المؤنة والخراج

٣٣٦

لو ترك العامل المزارعة حتى انقضت المدة

٣٠٩

يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع

٣٣٩

لو أمكن الانتفاع ثم تجدد انقطاع الماء

٣١١

استقرار ما يخرص مشروط بالسلامة

٣٤٠

اطلاق المزارعة يقتضى زراعة ما شاء

٣١٢

عدم جواز جعل شئ من الحصة للبقر والأرض والبذر

٣٤٤

حكم زراعة العامل ما هو أضر

٣١٤

استحباب ما يقال ويفعل وقت الغرس والزرع

٣٤٨

اجارة الأرض للزراعة مع عدم انكشاف الماء عنها

٣١٦

كتاب المساقاة

٣٥١

إذا استأجر أرضاً مدة معينة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدة غالباً

٣١٨

كفاية مطلق الألفاظ الدالة على التراضي بالمساقاة

٣٥٣

في بطلان استيجار الأرض مدة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدة غالباً

٣٢١

لا تبطل بموت المساقى ولا بموت العامل ولا بموتهما معاً

٣٥٥

صحة المزارعة أذا كان من أحد هما الأرض والباقي من الآخر

٣٢٢

صحة المساقاة في كل ما يقصد ورقه أو ورده

٣٥٧

صحة عقد المزارعة بين الثلاث والأربع

٣٢٦

عدم صحة المساقاة على ودى أو شجر غير ثابت وفي الثابت اشكال

٣٥٩

صحة وقوع المزارعة بلفظ الإجارة وعدمها

٣٢٧

الكلام في الركن الرابع وهو العمل

٣٦١

لو ادعى الزارع العارية وانكر المالك وادعى الحصة والأجرة

٣٢٨

في الأعمال المختصة مع الاطلاق بالعامل

٣٦٣

اختلاف الزارع والمالك في العارية والمزارعة والإجارة

٣٣٠

في الأعمال المختصة مع الاطلاق بالمالك

٣٦٥

يجوز للعامل ان يشارك غيره في العمل بالحصة المعلومة

٣٣٣


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

صحة اشتراط العامل أن يعمل غلام المالك معه

٣٦٧

كتاب الوديعة

٣٩٥

يشترط أن يكون للعامل جزء مشاع من الحاصل

٣٦٩

مشروعية الوديعة بالأدلة الأربعة

٣٩٧

قالوا يجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع الآخر

٣٧١

انه يكفى ما يدل على الاستنابة وقبولها مطلقا

٣٩٩

قالوا يجوز أن يشترط رب الأرض على العامل شيئاً من ذهب أو فضة

٣٧٣

الصور الخمسة المتصورة في طرح الوديعة عنده

٤٠١

كل موضع يحكم بفساد المساقاة فيه فللعامل اجرة المثل

٣٧٥

وجوب حفظ الوديعة وعدم الدرك عليه مع عدم التفريط

٤٠٣

إذا استأجر المالك أجيراً للعمل بجزء من الثمرة

٣٧٧

عدم الضمان لو أخذت منه قهراً

٤٠٥

في قوله ساقيتك على هذا الحائط بالنصف على أن أساقيك على هذا الآخر بالثلث

٣٧٨

انه لو تمكن من دفع الظالم عن الوديعة لوجب

٤٠٧

إذا هرب العامل بعد العمل وقبل اتمامه

٣٨١

وجوب اليمين إذا توقف الحفظ عليها

٤٠٨

إذا ادعى المالك ان العامل خان أو سرق أو أتلف

٣٨٣

بطلانها بالموت والجنون والاغماء من أحد الطرفين

٤١١

إذا ظهر المساقى عليه مستحقاً للغير

٣٨٥

في صور الأمانة الشرعية وفي كيفية حفظ الوديعة

٤١٣

ظهور الأصول مستحقاً للغير بعد ظهور الثمرة

٣٨٦

حكم الانفاق على الدابة المودعة

٤١٤

ان الفائدة تملك بالظهور

٣٨٩

جواز تولى المستودع علف الدابة وسقيها بنفسه أو غلامه

٤١٧

قيل كل من كان البذر منه وجب عليه الزكاة

٣٩٠

عدم جواز نقل الوديعة متى ما عين له موضع إلى ما هو دونه لا إلى ما هو أحرز

٤١٩

بطلان المغارسة والحكم المترتب عليه

٣٩٣

عدم صحة وديعة الطفل والمجنون ولا ايداعهما

٤٢١

وظيفة المستودع إذا ظهر له امارات الموت

٤٢٣


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

وجوب رد الوديعة إلى المالك متى طلبها

٤٢٥

دعوى رد الوديعة إلى المأذون من المالك

٤٥٩

حكم الوديعة إذا لم يعرف صاحبها

٤٢٧

إذا أنكر الوديعة ثم اعترف بها وادعى التلف

٤٦١

لو مزج الغاصب الأمانة بماله وأودع الجميع

٤٢٩

إذا اعترف بالوديعة ثم مات

٤٦٣

انه يضمن بترك كل ما يتوقف عليه الحفظ

٤٣١

إذا ادعى الوديعة اثنان

٤٦٥

انه يضمن مع ايداعها الغير من غير ضرورة ولا اذن

٤٣٣

صور ادعاء الاثنين الوديعة

٤٦٧

تنبيهات

٤٣٥

لو اختلفا في القيمة بعد ثبوت التفريط

٤٦٩

بماذا يتحقق التفريط في الوديعة

٤٣٧

إذا أتجر الودعي بالوديعة بغير اذن المالك

٤٧١

بماذا يتحقق التعدي في الوديعة

٤٣٩

لو اختلف المالك ومن عنده الوديعة في أنه وديعة أو دين

٤٧٣

جواز الامتناع والتأخير في دفع الوديعة إلى أن يشهد

٤٤١

كتاب العارية

٤٧٥

الأمور المعتبرة في تحقق الضمان بالجحود

٤٤٣

ان العارية مما ثبتت بالكتاب والسنة والاجماع

٤٧٦

حكم هتك الحرز

٤٤٥

اعتبار الايجاب والقبول اللفظيين

٤٧٩

في التعدي عما اذن له في الإجارة

٤٤٦

في المواضع المستثناة عن جواز الرجوع فيها

٤٨١

حكم فتح القفل وأخذ بعض الوديعة

٤٤٩

عدم جواز الانتفاع بالعارية في غير الجهة المعينة

٤٨٥

يجوز فسخ الوديعة أي وقت شاء المستودع

٤٥١

شروط المعير والمستعير

٤٨٧

في عود حكم الوديعة بعد رفع اليد عن التعدي والتفريط

٤٥٣

عدم جواز استعارة الصيد للمحرم

٤٨٩

إذا أنكر الوديعة أو أقر بها ولكن ادعى التلف

٤٥٥

استعارة المغصوب

٤٩١

في قبول قول الودعي في دعوى التلف بلا يمين

٤٥٧

عدم جواز التخطي عن القدر المأذون فيه

٤٩٣


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

جواز إعارة المنحة

٤٩٥

لو ادعى الراكب الإجارة والمالك العارية المضمونة بعد تلف العين وقبل مضي مدة لها اجرة

٥٢٩

العارية من العقود الجائزة وللمالك الرجوع فيها

٤٩٧

كتاب الإجارة

٥٣٠

عدم وجوب إجابة بذل المعير قيمة البناء وكذا المستعير قيمة الأرش

٤٩٩

الإجارة ثابتة بالنص كتاباً وسنة واجماع علماء الخاصة والعامة

٥٣٠

الانتفاعات الجائزة للمعير والمستعير

٥٠١

الإجارة من العقود اللازمة

٥٣٢

عدم جواز إعارة المستعير العين بدون اذن المالك

٥٠٣

الإخبار الدالة على اتساع الدائرة في العقود

٥٣٤

الروايات الدالة بعدم ضمان المستعير إلا في موارد

٥٠٥

الإخبار الدالة بعدم بطلان الإجارة بالبيع

٥٣٧

موارد ضمان العارية

٥٠٧

اختلاف الفقهاء في بطلان الإجارة بالموت

٥٣٩

في مدلول الروايات

٥٠٩

عدم بطلان الإجارة بموت أحد منهما

٥٤٠

علاج تعارض الروايات

٥١١

كل ما يصح اعارته ... يصح اجارته ... وان العين ... أمانة

٥٤٢

حمل الأمين على من لم يفرط في حفظها بعيد جداً

٥١٣

اشتراط الضمان عليه من غير تعد ولا تفريط

٥٤٥

لو استعار الدابة إلى مسافة مخصوصة فتجاوزها

٥١٥

اعتبار كمال المتعاقدين ومعلومية الأجرة في الجملة

٥٤٧

إذا حمل السيل حباً لرجل أو نوى فثبت في أرض غيره بغير علمه

٥١٧

اعتبار كون المؤجر مالكاً للمنفعة

٥٤٩

لا اشكال في الضمان مع اشتراطه

٥١٩

اعتبار معلومية المنفعة في الجملة

٥٥٠

لو ادعى المستعير الإعارة وادعى المالك الإجارة

٥٢١

جواز اجارة الحائط المزوق للتنزه

٥٥٣

إذا فرط في العارية ثم تلفت

٥٢٥

اجارة الآبق مع الضميمة

٥٥٤

اختلافهما في القيمة بعد التفريط على تقدير تلفه

٥٢٧

قالوا : إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة

٥٥٧


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

عدم جواز عمل الأجير الخاص لغير من استأجره

٥٥٩

ما يتوقف عليه توفية المنفعة هل هو على المؤجر أو المستأجر؟

٥٨٩

تملك الأجرة بنفس العقد

٥٦١

ما يشترط في اجارة الدابة للسير عليها

٥٩١

لو وجد في الأجرة عيباً سابقاً على وقت القبض

٥٦٣

وجوب قيام المستأجر بعلف الدابة وسقيها

٥٩٣

في اشتراط نقص الأجرة على تقدير عدم الحمل في الوقت المعين

٥٦٥

في ضمان المستأجر بالتعدي وعليه اجره المثل في الزيادة

٥٩٤

قول المؤجر : آجرتك كل شهر بكذا

٥٦٩

في بيان من عليه نفقة الأجير

٥٩٧

عدم وجوب تسليم الأجرة إلا بتسليم العين المستأجرة

٥٧١

في المراد من الرواية المستدل بها

٥٩٩

عدم توقف استحقاق الأجير مطالبة الأجرة بعد اتمام العمل على تسليم العين المعمول فيها

٥٧٣

فيما يشترط في الإجارة على حفر البئر

٦٠١

حكم اشتراط عدم الأجرة في العقد وحكم ترك الأجرة فيه

٥٧٥

جواز استيجار المرأة للرضاع مدة معينة ولو بدون الزوج

٦٠٣

كراهة استعمال الأجير قبل مقاطعته

٥٧٧

لو استأجر ظئراً للارضاع لم يلزمها غيره

٦٠٥

المنفعة تملك بنفس العقد كما تملك الأجرة

٥٧٩

اجارة المرأة للارضاع خارجة عن قاعدة الإجارة

٦٠٧

في أنه هل يشترط اتصال مدة الإجارة بالعقد أم لا؟

٥٨١

جواز اجارة الدارهم والدنانير

٦٠٨

فيما دل على اقتضاء اطلاق العقد اتصال زمان الإجارة به

٥٨٣

اطلاق اجارة الدراهم والدنانير انما ينصرف إلى المنافع التي هي المعهود الشرعي

٦١١

في عروض تلف العين أو نقصان المنفعة

٥٨٥

لو وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً يوجب الرد

٦١٣

في اشتراط تعيين المحمول بالمشاهدة أو الكيل أو الوزن

٥٨٧

تلف العين في يد الصناع هل يوجب الضمان أم لا؟

٦١٥

الأخبار الدالة على ضمان الصناع

٦١٧


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

الأخبار الدالة على عدم ضمان الصناع إذا كانوا مأمونين

٦١٩

فيمن أمر شخصاً بعمل فعمله فعليه اجرته

٦٣٣

الجمع بين الأخبار الواردة في الصناع ونحوها

٦٢١

فيما تنازع المؤجر والمستأجر في قدر العين

٦٣٥

في ضمان المولى ما أفسده عبده الذي آجره

٦٢٣

اختلافهما في رد العين المستأجرة

٦٣٧

في صحة اجارة العبد فيما أعتق بعدها

٦٢٥

اختلافهما في قدر الأجرة والتلف

٦٣٩

نفقة العبد في تلك المدة المستأجر عليها على بيت المال ...

٦٢٧

دلالة الروايات الواردة في صورة التنازع

٦٤١

إذا آجر الأب أو الوصي الصبي أو شيئاً من ماله

٦٢٩

حكم ما لو دفع إلى الخياط ثوباً فقطعه قباء ...

٦٤٣

من تقبل عملا لم يجز أن يقبله غيره نقيصة

٦٣١

ختام الكتاب

٦٤٤

الفهرس

٦٥٥

الحدائق الناضرة - ٢١

المؤلف:
الصفحات: 655