
بسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
كتاب التجارة
وفيه مقدمات
وفصول
المقدمة الأولى
اعلم انه قد
استفاضت الاخبار بالحث على طلب الرزق والكسب الحلال ، ولا سيما بطريق التجارة مع
الإجمال في الطلب والاقتصار على الحلال. وعلى هذا كان جملة فضلاء أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، كزرارة بن أعين ، وهشام بن الحكم ، ومحمد ابن النعمان
مؤمن الطاق ، ومحمد بن عمير وأضرابهم ، كما لا يخفى على من لاحظ السير والاخبار.
قال الله تعالى
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا
مِنْ
رِزْقِهِ» . وقال سبحانه «فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ»
. وقال تعالى «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ»
.
وروى ثقة
الإسلام ، عن ابى خالد الكوفي ، رفعه الى ابى جعفر عليهالسلام ، قال : قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «العبادة سبعون جزء فضلها طلب الحلال» .
وعن عمر بن
يزيد ـ في الموثق ـ قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل ، قال : لأقعدن في بيتي ولأصلين ولأصومن ولأعبدن
ربي ، فأما رزقي فسيأتيني ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم» .
وعن عمر بن
يزيد قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «أرأيت لو ان رجلا دخل بيته وأغلق بابه كان يسقط عليه
شيء من السماء؟» .
وعن أيوب أخي
أديم بياع الهروي قال : كنا جلوسا عند ابى عبد الله عليهالسلام إذا قبل العلاء بن كامل فجلس قدام ابى عبد الله عليهالسلام فقال : ادع الله ان يرزقني في دعة ، فقال : لا أدعو لك
، اطلب كما أمرك الله». .
وعن سليمان بن
معلى بن خنيس عن أبيه قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل وانا عنده ، فقيل له : أصابته الحاجة ، فقال :
فما يصنع اليوم؟ قيل : في البيت يعبد ربه! قال : من اين قوته؟ قيل : من عند بعض
إخوانه! فقال أبو عبد الله : والله
__________________
الذي يقوته أشد عبادة منه» .
وعن أبي حمزة
عن ابى جعفر عليهالسلام : قال : «من طلب الرزق في الدنيا استعفافا عن الناس ،
وتوسيعا على اهله ، وتعطفا على جاره ، لقي الله عزوجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» .
وعن على بن
الغراب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ملعون من القى كله عن الناس» .
وروى المشايخ
عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «اوحى الله عزوجل الى داود عليهالسلام : انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل
بيدك شيئا ، قال : فبكى داود عليهالسلام : أربعين صباحا ، فأوحى الله عزوجل الى الحديدان لن لعبدي داود عليهالسلام فألان الله تعالى له الحديد ، وكان يعمل كل يوم درعا ،
فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألفا ،
واستغنى عن بيت المال» .
وروى الصدوق عن
المعلى بن خنيس قال : رآني أبو عبد الله عليهالسلام وقد تأخرت عن السوق ، فقال : «اغد الى عزك» .
وبإسناده عن
روح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «تسعة أعشار الرزق في التجارة» .
وروى في كتاب
الخصال عن عبد المؤمن الأنصاري عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة ، والعشر
الباقي
__________________
في الجلود» .
قال الصدوق ـ قدسسره ـ يعنى بالجلود : الغنم ، واستدل بما يأتي.
وروى فيه عن
الحسين بن زيد بن على عن أبيه زيد بن على عن آبائه عليهمالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في
السابياء ، يعنى الغنم» .
وروى في الكافي
عن محمد الزعفراني ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من طلب التجارة استغنى عن الناس ، قلت : وان كان
معيلا؟ قال : وان كان معيلا ، ان تسعة أعشار الرزق في التجارة» .
وعن هشام
الأحمر قال : كان أبو الحسن عليهالسلام يقول لمصادف : اغد الى عزك» ـ يعنى السوق ـ .
وعن على بن
عقبة قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام لمولى له : «يا عبد الله ، احفظ عزك قال : وما عزى جعلت
فداك؟ قال : غدوك الى سوقك ، وإكرامك نفسك». وقال لاخر مولى له : «مالي أراك تركت
غدوك الى عزك؟ قال : جنازة أردت ان أحضرها ، قال : فلا تدع الرواح الى عزك» .
وروى المشايخ
الثلاثة عن سدير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : اى شيء على الرجل في طلب الرزق؟ قال : إذا فتحت بابك
وبسطت بساطك ، فقد قضيت ما عليك» .
وروى في الكافي
عن الطيار ، قال : قال لي أبو جعفر عليهالسلام : اى شيء تعالج؟
__________________
ـ أي شيء تصنع؟ ـ فقلت ما انا في شيء ، فقال فخذ بيتا واكنس فنائه ، ورشه
، وابسط فيه بساطك فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما يجب عليك ، قال : فقدمت الكوفة ففعلت
فرزقت» .
وروى في الكافي
والتهذيب عن أبي عمارة الطيار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى قد ذهب مالي ، وتفرق ما كان في يدي ، وعيالي كثير!
فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : إذا قدمت الكوفة ، فافتح باب حانوتك وابسط بساطك ،
وضع ميزانك وتعرض للرزق ربك.
قال : فلما ان
قدم الكوفة ، فتح باب حانوتة وبسط بساطه ، ووضع ميزانه ، فتعجب من حوله من جيرانه
انه ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع ، ولا عنده شيء! فجاءه رجل فقال : اشتر
لي ثوبا ، قال : فاشترى له ثوبا ، وأخذ ثمنه وصار الثمن اليه ، قال ثم جاءه آخر
فقال له : يا أبا عمارة اشتر لي ثوبا ، فطلب له في السوق واشترى له ثوبا وأخذ ثمنه
، فصار في يده ، وكذلك يصنع التجار ، يأخذ بعضهم من بعض ، ثم جائه رجل آخر فقال له
يا أبا عمارة ان عندي عدلا من كتان ، فهل تشتريه منى وأؤخرك بثمنه سنة؟ قال : نعم
، أحمله وجئني به
قال : فحمله
اليه ، فاشتراه منه بتأخير سنة ، قال : فقام الرجل فذهب ثم أتاه آت من أهل السوق ،
فقال له : يا أبا عمارة ما هذا العدل؟ قال هذا عدل اشتريته ، قال يعنى نصفه واعجل
لك ثمنه ، قال : نعم ، فاشتراه منه وأعطاه نصف المتاع وأخذ نصف الثمن.
قال : فصار في
يده الباقي الى سنة ، قال : فجعل يشترى بثمنه الثوب والثوبين ، ويعرض ويشترى ويبيع
، حتى أثرى وعز وجهه وصار معروفا». .
__________________
وعن أبي حمزة
الثمالي ، عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع : الا ان الروح الأمين نفث في روعي انه لا يموت نفس حتى يستكمل رزقها ، فاتقوا الله تعالى
وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق ان تطلبوه بشيء من معصية
الله ، فان الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ، ولم يقسمها حراما فمن
اتقى الله عزوجل وصبر آتاه الله برزقه من حله. ومن هتك حجاب الستر وعجل
فأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة» .
وبهذا المضمون
أخبار عديدة ، وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن آبائه (ع) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ورواه في الفقيه مرسلا قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : نعم العون على تقوى الله الغنى» .
وروى في الكافي
عن عمرو بن جميع قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به
وجهه ويقضى به دينه ، ويصل به رحمه» .
وعن ابى عبد
الله عليهالسلام قال : «نعم العون على الآخرة الدنيا» .
وعن على
الأحمسي ، عن رجل عن ابى جعفر عليهالسلام قال : «نعم العون الدنيا ، على طلب الآخرة» .
وروى في الفقيه
مرسلا قال : قال الصادق عليهالسلام : «ليس منا من ترك دنياه لاخرته ،
__________________
ولا آخرته لدنياه» .
قال : روى عن
العالم عليهالسلام انه قال : «اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لاخرتك
كأنك تموت غدا» .
إذا عرفت ذلك
ففي هذا المقام فوائد لطيفة ، وفرائد منيفة ، تهش إليها الطباع القويمة ، وتلتذ
بها الإسماع السليمة :
الفائدة الأولى
اعلم انه كما
استفاضت الأخبار بالأمر بطلب الرزق وذم تاركه ، حتى ورد لعن من القى كله على الناس
، كما تقدم وورد الترغيب فيه كما تقدم ، حتى ورد ايضا ان العبادة
سبعون جزأ ، أفضلها طلب الحلال ، كما قد استفاضت الاخبار بطلب العلم ووجوب التفقه
في الدين وانه فريضة على كل مسلم كما في الكافي والتهذيب وغيره من الاخبار المتكاثرة بذلك.
وجملة من
عاصرناه من علمائنا الاعلام ومشايخنا الكرام ومن سمعنا به قبل هذه الأيام كلهم
كانوا على العمل بهذه الأخبار ، فإنهم كانوا مشغولين بالدرس والتدريس ونشر أحكام
الشريعة والتصنيف والتأليف من غير اشتغال بطلب المعاش وغير ذلك مع ما عرفت من تلك
الاخبار من مزيد الذم لتارك الطلب حتى ورد لعنه ، الدال على مزيد الغضب.
وحينئذ فلا بد
من الجمع بين اخبار الطرفين على وجه يندفع به التنافي من البين ، وذلك بأحد وجهين
:
__________________
الأول ـ ولعله
الأظهر ، كما هو بين علمائنا أشهر ـ تخصيص الاخبار الدالة على وجوب طلب الرزق بهذه
الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم ، بان يقال بوجوب ذلك على غير طالب العلم
المشتغل بتحصيله واستفادته أو تعليمه وافادته.
وبهذا الوجه
صرح شيخنا الشهيد الثاني في كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» حيث قال
في جملة شرائط تحصيل العلم ما لفظه :
«وان يتوكل على
الله ويفوض أمره اليه ولا يعتمد على الأسباب فيوكل إليها وتكون وبالا عليه ، ولا
على أحد من خلق الله تعالى ، بل يلقى مقاليد امره الى الله تعالى في امره ورزقه
وغيرهما يظهر له من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يقوم به أوده ، ويحصل مطلوبه ،
ويحصل به مراده. وقد ورد في الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «ان الله تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه خاصة عما ضمنه لغيره» بمعنى ان
غيره يحتاج إلى السعي على الرزق حتى يحصل غالبا ، وطالب العلم لا يكلف بذلك بل
بالطلب ، وكفاه مؤنة الرزق ان أحسن النية وأخلص العزيمة ، وعندي في ذلك من الوقائع
والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله تعالى من حسن صنيع الله بي وجميل معونته ،
منذ اشتغلت بالعلم وهو مبادي عشر الثلاثين وتسعمائة ، إلى يومي هذا ، وهو منتصف
شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وبالجملة ليس الخبر كالعيان.
وروى شيخنا
المقدم محمد بن يعقوب الكليني ـ بإسناده إلى الحسين بن علوان ، قال : كنا في مجلس
نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الاسفار ، فقال لي بعض أصحابنا : من تؤمل
لما قد نزل بك؟ فقلت : فلانا : فقال : إذا والله لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ، ولا تنجح طلبتك! قلت : وما علمك رحمك
الله؟ قال ان أبا عبد الله عليهالسلام : حدثني أنه قرأ في بعض الكتب : ان الله تبارك وتعالى
يقول وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي ، لأقطعن أمل كل مؤمل (من الناس) غيري
باليأس ، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولأنحينه من قربى ، ولأبعدنه من فضلي ، أيؤمل
__________________
غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟ وبيدي
مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة.
وبابي مفتوح لمن
دعاني فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها ، ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت
رجائه مني؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممن لا
يمل من تسبيحي وأمرتهم ان لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي! ألم
يعلم من طرقته نائبة من نوائبي انه لا يملك كشفها أحد غيري الا من بعد إذني فما لي
اراده لاهيا عني ، أعطيته بجودي ما لم يسألني ، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده ،
وسأل غيري. أفيرانى ابدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي! أبخيل أنا
فيبخلني عبدي؟! أو ليس الجود والكرام لي؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي؟! أو ليس انا
محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟!.
فلو ان أهل
سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ، ما
انتقص من ملكي مثل عضو ذرة ، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟! ،
فيا بؤسا
للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ، ولم يراقبني .
ورواه الشيخ
المبرور بسند آخر عن سعيد بن عبد الرحمن ، وفي آخره : «فقلت : يا ابن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أمل على ، فأملأه على ، فقلت : لا والله ما اسأله
حاجة بعدها.
أقول : ناهيك
بهذا الكلام الجليل الساطع نوره من مطالع النبوة على أفق الولاية من الجانب القدسي
، حاثا على التوكل على الله وتفويض الأمر اليه ، والاعتماد في جميع المهمات عليه ،
فما عليه مزيد من جوامع الكلام في هذا المقام» .
__________________
انتهى كلام
شيخنا المشار إليه ، أفاض الله شئابيب قدسه عليه.
أقول : ويدل
على ذلك أيضا بأصرح دلالة ما رواه شيخنا ثقة الإسلام في الكافي أيضا بإسناده ، الى
ابى إسحاق السبيعي عمن حدثه قال سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : «ايها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم
والعمل به ، الا وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، ان المال مقسوم مضمون
لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه ، وسيفي لكم والعلم مخزون عند أهله ، وقد أمرتم
بطلبه من اهله فاطلبوه .
ولا يخفى ما في
هذا الخبر من الصراحة في المدعى. اما الأمر بطلب العلم دون طلب المال ، لان الرزق
كما ذكره عليهالسلام مقسوم مضمون وهو إشارة إلى قوله تعالى : «نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
وقوله تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّا
عَلَى اللهِ رِزْقُها» .
ويؤكده ما رواه
شيخنا المذكور في كتابه المشار اليه ، بسنده عن ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يقول الله ـ عزوجل ـ وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع
مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت امره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها
ولم أوته منها الا ما قدرت له. وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني ،
لا يؤثر عبد هواي على هواه الا استحفظته ملائكتي وكفلت السموات والأرضين رزقه وكنت
له من وراء تجارة كل تاجر وآتته الدنيا وهي راغمة .
وقد حكى لي
والدي العلامة عن جمع من فضلاء بلادنا (البحرين) الذين بلغوا من الفضل علما وعملا
وتقوى ونبلا ما هو أشهر من ان ينقل :
__________________
منهم العلامة
الفقيه الشيخ سليمان بن على الشاخورى وهو استاد شيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني ، ومنهم العلامة المحقق المدقق الشيخ محمد بن يوسف المعابى البحراني ،
ومنهم الشيخ الفقيه الذي رجعت إليه رئاسة البلاد في زمانه امرا ونهيا وفتوى ، الشيخ
محمد بن سليمان البحراني ، فإنهم كانوا في مبدء الاشتغال على غاية من الفقر
والحاجة ، حتى ان الشيخ سليمان بن على المذكور ، كان يحضر الدرس في حلقة الشيخ
العلامة الشيخ على بن سليمان البحراني ، وهو أحد تلامذة شيخنا البهائي وهو أول من
نشر علم الحديث بالبحرين وكان الشيخ سليمان المذكور يحضر حلقة درسه حتى إذا صار
قريب الظهر ودخل الشيخ على البيت لأجل الغذاء ، وتفرق المجلس ، مضى الشيخ المزبور
للصحراء في وقت الربيع وأكل من حشائش التراب ما يسد جوعه ، ثم بعد خروج الشيخ يعود
للحضور.
ومن هذا القبيل
حكايات الباقين مما يطول بنقله الكلام. وحيث انهم رضوان الله عليهم طلقوا الدنيا
وقصروا على الرغبة في الأخرى ، ارتقوا من الدنيا أعلى مراتبها وانقادت لهم بأزمتها
وتراقيها حتى صار كل منهم نابغة زمانه ونادرة أو انه ، وهو وفق الحديث القدسي
المتقدم.
لكن ينبغي ان
يعلم ان هذه المرتبة ليست سهلة التناول لكل طالب ، ولا ميسرة الا بإخلاص النية له
في طلب العلم ، فان مدار الأعمال على النيات ، وبسببها يكون العلم تارة خزفة لا
قيمة لها ، وتارة جوهرة فأخره لا يعلم قيمتها ، لعظم قدرها ، وتارة يكون وبالا على
صاحبه مكتوبا في ديوان السيئات ، وان كان ما اتى به بصورة الواجبات.
فيجب على
الطالب ان يقصد بطلبه الإخلاص لوجه الله تعالى وامتثال امره ، وإصلاح نفسه وإرشاد
عبادة إلى معالم دينه ، ولا يقصد بذلك شيئا من الأعمال الدنيوية من تحصيل مال ،
وجاه ، ورفعة وشهرة بين الناس ، أو المباهاة والمفاخرة للاقران ، والترفع على
الاخوان ونحو ذلك مما يوجب البعد منه سبحانه وتعالى ، والخذلان ، مضافا الى
ذلك التوكل عليه سبحانه في جميع الأمور ، والقيام بأوامره ونواهيه في
الورود والصدور كما تقدم في كلام شيخنا المذكور.
الثاني :
التفصيل في ذلك ويتوقف على بيان كلام في المقام :
وهو انه ينبغي
ان يعلم أولا : ان العلم منه ما هو واجب وما هو مستحب ، والأول منه ما هو واجب
عينا ومنه ما هو واجب كفاية. فأما الواجب عينا فهو العلم بالله سبحانه وصفاته وما
يجوز عليه ويمتنع ، حسبما ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية على الصادع بها
وآله أشرف صلاة وتحية ، وما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله من أحوال المبدء والمعاد مما علم تواتره من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو تقليدا تسكن اليه النفس ويطمئن به القلب وما يحصل
به الإذعان والتصديق ، وفاقا لجمع من متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وما زاد
على ذلك من الأدلة التي قررها المتكلمون والخوض في دقائق علم الكلام فهو فرض كفاية
على المشهور صيانة للدين عن شبه المعاندين والملحدين.
ومن الواجب
العيني أيضا تحصيل العلم بواجبات الصلاة حيث يكلف بها ولو تقليدا وواجبات الصيام
كذلك ، والزكاة ممن يخاطب بها ، والحج كذلك ايضا وهكذا من كل ما يجب على المكلف
بوجود أسبابه ، وما زاد من تحصيل العلوم في هذه الحال على ما ذكرناه فهو مستحب.
ومن الواجب
العيني أيضا ما يحصل به تطهر القلب من الملكات الردية المهلكة ، كالرياء والحسد
والعجب والكبر ونحوها كما حقق في محل مفرد ، وهو من أجل العلوم قدرا وأعلاها ذكرا
بل هو الأصل الأصيل للعلوم الرسمية ، وان كان الان قد اندرست معالمه بالكلية
وانطمست مراسمه العلية ، فلا يرى له اثر ولا يسمع له خبر.
واما الواجب
كفاية فهو ما فوق هذه المرتبة فيما تقدم ذكره حتى يبلغ درجة العلم بالأحكام
الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، وهو المعبر عنه في ألسنة الفقهاء بالاجتهاد.
هذا إذا لم
يوجد من يتصف به ويقوم به في ذلك القطر ، والا كان ذلك مستحبا
لان الواجب الكفائي مع وجود من يقوم به يسقط وجوبه عن الباقين ، فيكون
مستحبا ويكون هذا من القسم الثاني في التقسيم الأول. وما يتوقف عليه الوصول إلى
مرتبة الاجتهاد من المعلوم الاتية وغيرها تابع له في الوجوب والاستحباب.
ثم اعلم ايضا
ان تحصيل الرزق منه ما يكون واجبا وهو ما يحصل به البلغة والكفاف لنفسه وعياله
الواجبي النفقة عليه بحيث يخرج عن ان يكون مضيقا. ومنه ما يكون مستحبا ، وهو طلب
ما زاد على ذلك للتوسعة على نفسه وعياله ، وهو الصرف في وجوه البر والخيرات. ومنه
ما يكون مكروها وهو ما يقصد به الزيادة في جمع المال وادخاره والمكاثرة والمباهاة
به والحرص عليه. ومنه ما يكون محرما وهي ما يقصد بتحصيله الصرف في اللهو واللعب
والمعاصي ونحو ذلك.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : ان وجه ما أشرنا إليه آنفا من التفصيل ، هو ان هيهنا صورا :
(احديها) تعارض
الواجب العيني من طلب العلم مع الواجب من طلب الرزق ، والظاهر ان الواجب هنا تقديم
طلب الرزق ان انسدت عليه وجوه التحصيل مما سواه لأن في تركه حينئذ إلقاء باليد إلى
التهلكة. والمعلوم من الشارع في جملة من الأحكام تقديم مراعاة الأبدان على الأديان
، ولهذا أوجب الإفطار على المريض المتضرر بالصوم وان أطاقه. والتيمم على المتضرر
بالماء وان لم يبلغ المشقة ، والقعود في الصلاة على المتضرر بالقيام. وأباح الميتة
لمن اضطر إليها ، ونحو ذلك مما يقف عليه المتتبع. اما لو حصل له من وجه الزكاة أو
نحوها مما يمونه وجب تقديم العلم البتة.
(وثانيها)
تعارض الواجب العيني من العلم ، مع المستحب من طلب الرزق ولا ريب في تقديم طلب
العلم.
(وثالثها)
تعارض الواجب من طلب الرزق ، مع الواجب الكفائي من طلب العلم ، ولا ريب أيضا في
تقديم طلب الرزق لما ذكر في الصورة الأولى.
هذا إذا لم
يمكن الجمع بين الأمرين ، والأوجب الجمع بقدر الإمكان في الواجبين. وباقي الصور
يعرف بالمقايسة.
ولا يخفى ان ما
ذكرناه في هذا المقام وان كان خارجا عن موضوع الكتاب ، الا ان فيه فوائد جمة ، لا
تخفى على ذوي الأفهام والألباب والله العالم.
الفائدة الثانية
قد عرفت مما
قدمناه من الاخبار ومثلها غيرها مما لم نذكره ، الدلالة على وجوب طلب الرزق ،
واستحباب جمع المال بتجارة كان أو زراعة أو صناعة ، مع انا نرى في هذه الأوقات ولا
سيما في أرض العراق زيادة جور السلاطين وظلمهم على من اشتغل بشيء من ذلك حتى آل
الأمر إلى تركهم ذلك أو الفرار من ديارهم الى بعض الأقطار ومنه يحصل الإشكال في
العمل بتلك الاخبار ، اللهم الا ان يقال : ان السبب التام في تعدى الحكام على
أولئك الأنام ، انما هو تعديهم الحدود الشرعية والأحكام ، في أعمالهم أو غيرها ،
وعدم القيام بما أوجبه الملك العلام.
ويدل عليه ما
رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : قال الله تعالى : «انا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي
، فأيما قوم أطاعوني جعلت قلوب الملوك عليهم رحمة ، وأيما قوم عصوني ، جعلت قلوب
الملوك عليهم سخطة. الا لا تشغلوا أنفسكم بسبب المملوك. توبوا الى ، أعطف قلوبهم
عليكم» .
وهو كما ترى
ظاهر الدلالة واضح المقالة ، في ان تسلط الملوك عليهم وظلمهم لهم انما نشأ من
ظلمهم أنفسهم ، وتعديهم الحدود الشرعية ، ومن ثم منعهم من سب الملوك وتظلمهم من
الحكام ، فإنه سبحانه هو الذي سلطهم عليهم ، وأمرهم بالتوبة والإنابة ، ليعطف قلوب
الحكام عليهم.
ويؤيده ما ورد
في بعض الاخبار التي لا يحضرني الان موضعها ، من قوله تعالى :
__________________
«إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني» .
وما قيل أيضا :
أعمالكم عمالكم. وبه يزول الاشكال من هذا المجال والله العالم.
الفائدة الثالثة
قد دلت جملة من
الاخبار المتقدمة على ان الواجب هو التعرض للرزق ولو بالجلوس في السوق ، متعرضا
لذلك والله سبحانه مسبب الأسباب ، يسوق اليه رزقه ، إذا كان جلوسه عن نية صادقة
وتوكل على الله سبحانه وثيق ، فإنه تعالى هو الرزاق ، واما ما يفعله بعض أبناء هذا
الزمان من شغل فكره وبدنه بالسعي في التحصيل والكدح والحيل ونحوها ليستغرق أوقاته
ويشتغل بها عن اقامة الطاعات والمحافظة على السنن والواجبات ولا يبالي بتحصيله من
وجوه الحلال كان أو من الشبهات أو المحرمات ، فهو من تسويلات الشيطان الرجيم ،
وفعله الذميم.
ويعضد ما قلناه
ما تقدم مما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في حجة الوداع : «الا ان الروح الأمين نفث في روعي انه
لا يموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله عزوجل وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق
ان تطلبوه بشيء من معصية الله ، فان الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه
حلالا ولم يقسمها حراما ، فمن اتقى الله عزوجل وصبر آتاه الله برزقه من حله ، ومن هتك حجاب الستر وعجل
فأخذه من غير حله ، قص به من رزقه الحلال ، وحوسب عليه يوم القيامة» .
وبمضمونه أخبار
عديدة وفي بعضها : «لو كان العبد في جحر لأتاه الله رزقه» .
__________________
وفي آخر عن
أمير المؤمنين عليهالسلام «كم من متعب نفسه مقتر عليه. ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير» .
وبالجملة فإن
الإنسان متى أيقن ان الرزق بيد الله سبحانه وانه قد قسمه من عالم الأزل ، وضمن
إيصاله لصاحبه وانه انما أمره بالطلب والتعرض له من مظانه ، لكي يأتيه كما وعد به
، وقد روى : «الرزق رزقان ، رزق تطلبه ورزق يطلبك» .
وحينئذ فالعاقل
العالم بذلك لا يهم بذلك ولا يشغل فكره ، ولا يتعب ليله ونهاره ، ولا يتجاوز
الحدود الشرعية في طلبه. ولكن الشيطان الرجيم والنفس الامارة ، والجهل بالأحكام
الشرعية والحدود المرعية ، هي السبب في وقوع الناس في شباك الخناس وتضييعهم الدين في طلب هذه الدنيا الدنية ،
فإنهم يرون ان ما يحصلونه انما حصل بجدهم واجتهادهم وحيلهم وافكارهم وسعيهم الليل
والنهار في ذلك ، وهذا هو الداء الذي لا دواء له.
وقد روى في
الكافي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينا ، ان الله عزوجل لم يجعل للعبد وان اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكابدته
، ان يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته ، ان
يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم.
ايها الناس انه
لن يزداد امرء نقيرا بحذقه ولم ينتقص امرء نقيرا لحمقه ، فالعالم لهذا العامل به
أعظم الناس راحة في منفعته. والعالم لهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته. ورب
منعم عليه مستدرج بالإحسان اليه ، ورب مغرور من الناس مصنوع له. فأفق أيها الساعي
من سعيك وقصر من عجلتك ، وانتبه من سنة غفلتك» الحديث. .
__________________
الفائدة الرابعة
قد تقدم في
الفائدة الأولى الإشارة الى ان الواجب العيني بالنسبة إلى العلم بالأحكام الشرعية
ما يتوقف عليه صحة العمل ، الذي يشتغل به المكلف من حج أو زراعة أو تجارة فإنه لا
بد من التفقه في ذلك العمل. ومعرفة أحكامه وما لا يجوز وما يصح به ويفسد ، فينبغي
لمريد التجارة ان يبدأ بالتفقه فيما يتولاه منها ، ليتمكن بذلك من الاحتراز عما
حرم الله تعالى عليه في ذلك ، ويعرف ما أحله وحرمه ، لا سيما الربا وبيع المجهول
وشرائه ، مما يشترط فيه الوزن والكيل ، وبيع غير البالغ العاقل وشرائه ونحو ذلك
مما سيأتي إنشاء الله تعالى في محله مما يوجب صحة البيع وفساده ، وآداب التجارة من
مستحباتها ومكروهاتها ، وان كان أهل هذا الزمان والأيام لمزيد جهلهم بأحكام الملك
العلام ، لا يبالون بما وقعوا فيه من حلال وحرام. وقد قال صلىاللهعليهوآله : التاجر فاجر ، والفاجر في النار ، الا من أخذ الحق
واعطى الحق» .
وروى الصدوق عن
الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت عليا عليهالسلام يقول على المنبر : «يا معشر التجار ، الفقه ثم المتجر ،
الفقه ثم المتجر ، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا ، شوبوا
إيمانكم بالصدق ، التاجر فاجر والفاجر في النار الا من أخذ الحق واعطى الحق».
ورواه في
الكافي عن الأصبغ بن نباتة مثله .
وعن طلحة بن
زيد عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم» .
قال : وكان
أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : «لا يقعدن في السوق الا من يعقل الشراء
__________________
والبيع» .
وقال الصادق عليهالسلام على ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة : «من أراد
التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه ، ومن لم يتفقه في
دينه ثم اتجر تورط في الشبهات» .
وروى في الكافي
بسنده عن عمرو بن ابى المقدام عن جابر عن ابى جعفر عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام عند كونه بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر ،
فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا ، ومعه الدرة على عاتقه ، وكان لها طرفان ، وكانت
تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق ، فينادي : يا معشر التجار اتقوا الله عزوجل ، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم وأرعوا إليه
بقلوبهم ، وسمعوا بآذانهم فيقول عليهالسلام : قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة واقتربوا من
المبتاعين وتزينوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم ،
وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا و (أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا
فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ...) فيطوف في أسواق الكوفة ، ثم يرجع فيقعد للناس» .
ورواه الصدوق
في الفقيه مرسلا. وفي المحاسن مسندا في الصحيح عن محمد ابن قيس عن ابى جعفر عليهالسلام نحوه. وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من باع واشترى فليحفظ خمس خصال ، والا فلا يشترين
ولا يبيعن : الربا والحلف ، وكتمان العيب ، والحمد إذا باع والذم إذا اشترى» .
وعن احمد بن
محمد بن عيسى رفع الحديث قال كان أبو أمامة صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «اربع من كن فيه طاب مكسبه :
__________________
إذا اشترى لم يعب ، وإذا باع لم يحمد ، ولا يدلس ، وفيما بين ذلك لا يحلف» .
وروى الصدوق
مرسلا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا معشر التجار ارفعوا رؤوسكم ، فقد وضح لكم الطريق
، تبعثون يوم القيامة فجارا الا من صدق حديثه ، قال : وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم التاجر فاجر ، والفاجر في النار الا من أخذ الحق واعطى
الحق».
قال : قال عليهالسلام : «يا معشر التجار صونوا أموالكم بالصدقة تكفر عنكم
ذنوبكم ، وأيمانكم التي تحلفون فيها ، وتطيب لكم تجارتكم» .
وروى السيد رضى
الدين بن طاوس في كتاب الاستخارات عن احمد بن محمد ابن يحيى قال : أراد بعض
أوليائنا الخروج للتجارة ، فقال : لا اخرج حتى اتى جعفر بن محمد عليهالسلام فأسلم عليه وأستشيره في امرى هذا واسأله الدعاء لي. قال
: فأتاه فقال له : يا ابن رسول الله ، انى عزمت على الخروج إلى التجارة ، وانى
آليت على نفسي ان لا اخرج حتى ألقاك وأستشيرك وأسألك الدعاء لي. قال : فدعا له
وقال عليهالسلام : عليك بصدق اللسان في حديثك ولا تكتم عيبا يكون في
تجارتك ولا تغبن المسترسل فان غبنه لا يحل. ولا ترض للناس الا ما ترضى لنفسك.
وأعط الحق وخذه ولا تخف ولا تخن. فان التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم
القيامة ، واجتنب الحلف فان اليمين الفاجرة تورث صاحبها النار ، والتاجر فاجر
الأمن أعطى الحق وأخذه.
وإذا عزمت على
السفر أو حاجة مهمة فأكثر الدعاء والاستخارة ، فان ابى حدثني عن أبيه عن جده ان
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يعلم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة
__________________
من القرآن» . الحديث.
أقول : قد تقدم
في كتاب الصلاة في باب صلاة الاستخارة ان أحد معانيها : طلب الخير منه سبحانه ،
وهو المراد هنا اى طلب الخير في البيع والشراء.
وما اشتمل عليه
حديث عمرو بن ابى المقدام من انه عليهالسلام كان يطوف أسواق الكوفة والدرة على عاتقه. والدرة بكسر
الدال : السوط ، والجمع : درر ، مثل سدرة وسدر.
وفي هذا الخبر
: لها طرفان. وفي خبر آخر : لها سبابتان.
وقال في كتاب
مجمع البحرين : الدرة ـ بالكسر ـ التي كان يضرب بها. وهو يرجع الى ما ذكرناه من
السوط. فإنه الذي يضرب به في الحدود الشرعية. واما لفظ السبيبة فضبطه بعض المحدثين
بالمهملة والمثناة التحتانية بين الموحدتين.
وظاهر كلام بعض
أصحابنا المحدثين من متأخري المتأخرين : انه ربما كان الموجود من هذا اللفظ في
الخبر انما هو بمركزين بعد السين أولهما باء موحدة ، والثانية تاء مثناة فوفانية.
قال : السبتة
بكسر السين وسكون الموحدة قبل المثناة الفوقانية : جلود البقر تحذى منها النعال
السبتية. فعلى هذه النسخة يمكن ان تكون درته عليهالسلام مأخوذة منها والله العالم.
__________________
المقدمة الثانية
في آداب التجارة
وأوجبها وأهمها
التفقه في الدين. وقد تقدم الكلام في ذلك وتقدمت الأخبار الدالة عليه بأوضح دلالة.
ليعرف كيفية الاكتساب ويميز بين صحيح العقود وفاسدها لان العقد الفاسد لا يوجب نقل
الملك عن مالكه. بل هو باق على ملك الأول. فيلزم من ذلك تصرفه في غير ملكه ويركب
المآثم من حيث لا يعلم ، الى غير ذلك من المفاسد والمآثم المترتبة على الجهل.
ومن ثم استفاضت
الاخبار ـ كما عرفت ـ بالحث على التفقه وتعلم أحكام التجارة.
ومنها انه
يستحب ان يساوي بين المبتاعين والبائعين ، فالصغير عنده بمنزلة الكبير ، والغنى
كالفقير ، والمجادل كغيره ، والمراد ان لا يفاوت بينهما في الإنصاف بالمماكسة
وعدمها.
والظاهر انه لو
فاوت بينهما بسبب الدين والفضل فلا بأس. قيل : ولكن يكره للأخذ قبول ذلك ، حتى نقل
ان السلف كانوا يوكلون في الشراء من لا يعرف ، هربا من ذلك.
والذي وقفت
عليه في هذا المقام من الاخبار : ما رواه في الكافي عن عامر بن جذاعة ، عن ابى عبد
الله عليهالسلام «انه قال في رجل عنده بيع فسعره سعرا معلوما فمن سكت عنه ممن يشترى منه
باعه بذلك السعر ، ومن ماكسه وابى ان يبتاع منه زاده ،
قال : لو كان
يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس فاما ان يفعله بمن ابى عليه وكايسه ويمنعه
ممن لم يفعل ذلك فلا يعجبني الا ان يبيعه بيعا واحدا» .
أقول : قوله :
عنده بيع اى متاع يبيعه ، والمراد بالزيادة يعنى من المتاع لا السعر ، كما ربما
يتوهم من ظاهر السياق : والمراد ان من لم يماكسه يبيعه بسعره المعلوم ومن ماكسه
نقص له السعر وزاده من المتاع. والظاهر ان تجويز الرجلين والثلاثة لما قدمناه من
رعاية حالهم للفقر أو العلم والصلاح.
قيل : ويحتمل
ان المعنى انه إذا كان التفاوت في السعر ، لأن المشترى منه يشترى جميع المتاع أو
أكثره بيعا واحدا فيبيعه أرخص ممن يشترى منه شيئا قليلا كما هو الشائع فلا بأس.
ولعله أظهر انتهى.
أقول : لا يخفى
حسن هذا المعنى في حد ذاته ، اما فهمه من سياق الخبر فالظاهر انه لا يخلو من بعد.
وكيف كان فظاهر
هذه الرواية ، كما ترى ، كراهة المفاوتة بسبب المماكسة وعدمها.
وما رواه في
الكافي ـ أيضا ـ عن ميسر قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام : ان عامة من يأتيني من إخواني ، فحد لي من معاملتهم ما
لا أجوزه إلى غيره ، فقال : ان وليت أخاك فحسن ، والا فبع بيع البصير المداق» .
أقول : الظاهر
ان قوله : «ان وليت أخاك» من التولية بمعنى البيع بالثمن الذي اشتريت من غير زيادة
ولا نقصان ، وهو الربح والمواضعة. واما ما قيل من ان المراد
__________________
بالتولية : الوعد بالإحسان ، أو هو بالتخفيف بمعنى المعاشرة واختبار
الايمان فلا يخفى ما فيه من البعد الظاهر.
وظاهر الخبر
انه البيع برأس المال ، وتجوز المداقة ، وهي المناقشة في الأمور ومنه الحديث «انما
يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» .
وفي القاموس :
المداقة ان تداق صاحبك في الحساب ، وظاهر الخبر : جواز كل من الأمرين ، وان كان
الأول أفضل.
وقيل : ان
المعنى : ان كان المشتري أخاك المؤمن فلا تربح عليه والا فبع بيع البصير المداق ،
والأول ألصق بسياق الخبر ، والثاني أحسن وأظهر في حد ذاته وان أمكن حمل الخبر
عليه.
(ومنها) كراهة
الربح على المؤمن ، وعلى الموعود بالإحسان. اما الثاني فلما رواه في الكافي
والتهذيب عن على بن عبد الرحيم عن رجل عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : «إذا قال الرجل للرجل : هلم أحسن
بيعك. يحرم عليه الربح» .
وهو مبالغة في
الكراهة ، كما صرح به الأصحاب.
واما الأول فقد
صرح الأصحاب بكراهة الربح على المؤمن إلا مع الضرورة ، فيربح قوت يومه له ولعياله إذا
كان شراؤه للقوت ونحوه ، اما لو كان للتجارة فلا بأس بالربح عليه مطلقا ، لكن
يستحب الرفق به.
والظاهر ان
المستند فيه هو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن سليمان بن صالح وابى شبل عن ابى
عبد الله عليهالسلام قال : «ربح المؤمن على المؤمن ربا ، الا ان يشترى بأكثر
من مأة درهم فاربح عليه قوت يومك ، أو يشتريه للتجارة. فاربحوا عليهم وارفقوا بهم»
.
__________________
وظاهر الخبر :
كراهة الربح عليه مطلقا إذا كان الشراء لغير التجارة ، الا ان يشترى بأكثر من مأة
درهم ، فيجوز ان يربح عليه قوت يومه.
ولا يخفى ما
فيه من المخالفة لكلامهم ، مع انه قد روى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن
على بن سالم عن أبيه قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الخبر الذي روى «ان ربح المؤمن على المؤمن ربا» ما
هو؟ فقال : «ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا ـ أهل البيت عليهمالسلام ـ فاما اليوم فلا بأس ان تبيع من الأخ المؤمن وتربح
عليه .
وروى الشيخان
المذكوران عن عمر بن يزيد بياع السابري قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ان الناس يزعمون ان الربح على المضطر حرام
وهو من الربا ، فقال : وهل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا الا من ضرورة ، يا عمر
قد أحل الله البيع وحرم الربا ، فاربح ولا ترب. قلت : وما الربا؟ فقال : درهم
بدراهم ، مثلين بمثل ، وحنطة بحنطة ، مثلين بمثل .
أقول : ظاهر
هذين الخبرين يؤذن بأن الخبر الأول انما خرج مخرج التقية ، لأن الأول منهما ـ وان
دل على مضمون الخبر الأول ـ لكن خصه بما بعد خروج القائم عليهالسلام دون هذه الأوقات ، الا ان الخبر الثاني دل على نسبة
الخبر المذكور للناس الذي هو كناية عن المخالفين ، وهو عليهالسلام قد كذبهم في ذلك ، ورد عليهم في ان المشترى مطلقا لا
يشترى الا من حيث الحاجة والضرورة الى ذلك الذي يشتريه.
فان قيل : انه
لا منافاة ، لجواز حمل الخبر الأول على كراهة الربح على المؤمن ،
__________________
كما تقدم ، وان بالغ في الكراهة بجعله من قبيل الربا ، والخبرين المذكورين
على الجواز.
قلنا : لو كان
المعنى كما ذكرت لكان الأنسب في جواب السائلين المذكورين في هذين الخبرين ، بان
الخبر المذكور انما أريد به الكراهة دون ما يدل عليه ظاهره من التحريم ، لا انه عليهالسلام يقر السائل على ظاهر الخبر من التحريم وبحمله في أول
الخبرين على زمان القائم عليهالسلام وفي ثانيها يكذبه ويرده ، ثم يأمر في الخبرين بالربح
على المؤمن بخصوصه كما في الأول ، ومطلقا كما في الثاني.
ومما ذكرناه
يظهر ان ما ذكره الأصحاب من الحكم المذكور لا مستند له في الباب ، ولم يحضرني كلام
لأحد منهم في المقام زيادة على ما قدمنا نقله عنهم من الكلام.
ومما يؤكد
الخبرين المذكورين ـ مما يدل على جواز الربح بل استحبابه ـ أولا ـ : وان المقصود
الذاتي من التجارة والأمر بها والحث عليها لأجل الاستغناء عن الناس وكف الوجه عن
السؤال والاستعانة بالدنيا على الدين ونحو ذلك ، كما تقدم جميع ذلك في الاخبار
المتقدمة ، ومتى كان مكروها في البيع على المؤمنين مع ان جل المشترين بل كلهم في
بلاد المؤمنين إنما هم المؤمنون ، فمن اين يحصل ما دلت عليه هذه الاخبار؟!.
وثانيا ـ الأخبار
الدالة على ذلك :
منها : ما رواه
في الكافي عن محمد بن عذافر عن أبيه ، قال : اعطى أبو عبد الله عليهالسلام أبي ألفا وسبعمائة دينار ، فقال له : اتجر بها. ثم قال
: اما انه ليس لي رغبة في ربحها ، وان كان الربح مرغوبا فيه ، ولكني أحببت أن
يراني الله جل وعز متعرضا لفوائده ، قال : فربحت له فيها مأة دينار. ثم لقيته فقلت
له : قد ربحت لك فيها مأة دينار.
قال : ففرح أبو
عبد الله عليهالسلام بذلك فرحا شديدا ، قال لي : أثبتها في رأس مالي ـ الحديث
.
__________________
وروى الصدوق في
الفقيه عن محمد بن عذافر عن أبيه قال : دفع الى أبو عبد الله عليهالسلام سبعمائة دينار ، وقال : يا عذافر اصرفها في شيء ما.
وقال : ما افعل هذا على شره منى ، ولكن أحببت أن يراني الله تبارك وتعالى متعرضا
لفوائده. قال عذافر : فربحت فيها مأة دينار ، فقلت له في الطواف : جعلت فداك قد
رزق الله عزوجل فيها مأة دينار. قال : أثبتها في رأس مالي» .
وفي تفسير
الإمام العسكري عليهالسلام عن آبائه عن موسى بن جعفر عليهالسلام «ان رجلا سأله مأتي درهم يجعلها في بضاعة يتعيش بها ـ الى ان قال ـ فقال :
أعطوه ألفي درهم. وقال : اصرفها في العفص فإنه متاع يابس ويستقبل بعد ما أدبر ، فانتظر به سنة
واختلف به الى دارنا وخذ الأجر في كل يوم ، فلما تمت له سنة ، وإذا قد زاد في ثمن
العفص للواحد خمسة عشر ، فباع ما كان اشترى بألفي درهم ، بثلاثين الف درهم».
الى غير ذلك من
الاخبار الكثيرة الدالة على جواز الربح بل استحبابه.
نعم لا بأس
بالمسامحة ولا منافاة فيها. ويحمل عليه ما رواه في الكافي عن أبي أيوب الخزاز عن
ابى عبد الله عليهالسلام قال : يأتي على الناس زمان عضوض ، يعض كل امرء على ما
في يده وينسى الفضل وقد قال الله «وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» ثم ينبري في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين ، أولئك
هم شرار الناس .
ومما يدل على
استحباب المسامحة : ما رواه في الفقيه عن إسماعيل بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام قال : «انزل الله على بعض أنبيائه عليهمالسلام للكريم فكارم. وللسمح فسامح. وعند الشكس فالتو».
قال : وقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «السماح وجه من الرباح» .
__________________
(ومنها) انه
يستحب ان يقيل من استقاله ، فروى في الكافي عن عبد الله بن القاسم الجعفري ، عن
بعض أهل المدينة قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يأذن لحكيم بن حزام بالتجارة حتى ضمن له اقالة
النادم وانظار المعسر وأخذ الحق وافيا وغير واف» .
وعن هارون بن
حمزة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : أيما عبد أقال مسلما في بيع أقال الله تعالى
عثرته يوم القيامة».
ورواه الصدوق
مرسلا الا انه قال : «أيما مسلم أقال مسلما ندامة في البيع» .
وروى الصدوق في
الخصال في الموثق عن سماعة بن مهران عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : أربعة ينظر الله إليهم يوم القيامة : من أقال
نادما أو أغاث لهفانا أو أعتق نسمة أو زوج عزبا .
ومما يؤكد ان
ذلك على جهة الاستحباب : ما رواه في الكافي عن هذيل بن صدقة الطحان ، قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يشترى المتاع أو الثوب ، فينطلق به الى منزله
، ولم ينفذ شيئا فيبدو له ، فيرده ، هل ينبغي ذلك؟ قال : «لا ، الا ان تطيب نفس
صاحبه» .
(ومنها) استحباب
الدعاء بالمأثور ، والشهادتين عند دخول السوق. فروى ثقة الإسلام والصدوق في
كتابيهما عن سدير ، قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : «يا أبا الفضل اما لك مكان تقعد فيه ، فتعامل الناس؟
قال : قلت : بلى ، قال : ما من رجل مؤمن يروح أو يغدو الى مجلسه أو سوقه ، فيقول
حين يضع رجله في السوق :
«اللهم إني
أسألك من خيرها وخير أهلها (وأعوذ بك من شرها وشر أهلها) إلا
__________________
وكل الله عزوجل به من يحفظه ويحفظ عليه حتى يرجع الى منزله ، فيقول له
: قد أجرت من شرها وشر أهلها يومك هذا باذن الله عزوجل وقد رزقت خيرها وخير أهلها في يومك هذا ، فإذا جلس
مجلسه قال حين يجلس : اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا
عبده ورسوله. اللهم إني أسألك من فضلك حلالا طيبا وأعوذ بك من ان أظلم أو أظلم
وأعوذ بك من صفقة خاسرة ويمين كاذبة. فإذا قال ذلك ، قال له الملك الموكل به :
أبشر فما في سوقك اليوم أحدا وفر منك حظا قد تعجلت الحسنات ومحيت عنك السيئات.
وسيأتيك ما قسم الله لك موفرا حلالا طيبا مباركا فيه» .
وروى في
التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : إذا دخلت سوقك فقل : «اللهم إني أسألك من خيرها
وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها اللهم إني أعوذ بك من ان أظلم أو أظلم أو
أبغي أو يبغى على أو اعتدى أو يعتدى على ، اللهم إني أعوذ بك من شر إبليس وجنوده
وشر فسقة العرب والعجم. وحسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت ، وهو رب العرش
العظيم» .
وروى في الفقيه
عن عاصم بن حميد عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «من دخل سوقا أو مسجد جماعة ، فقال مرة واحدة :
اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا.
وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وصلى الله
على محمد وآله. عدلت له حجة مبرورة» .
قال في الفقيه
: وروى انه من ذكر الله عزوجل في الأسواق غفر له بعدد ما فيها من فصيح وأعجم». والفصيح
: ما يتكلم. والأعجم : مالا يتكلم.
قال : وقال
الصادق عليهالسلام : «من ذكر الله عزوجل في الأسواق غفر له بعدد
__________________
أهلها» .
(ومنها) استحباب
الدعاء عند الشراء ، فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن حريز عن ابى
عبد الله عليهالسلام قال : إذا اشتريت شيئا من متاع أو غيره فكبر ثم قال :
اللهم انى اشتريته التمس فيه من فضلك ، فصل على محمد وآل محمد. اللهم فاجعل لي فيه
فضلا اللهم انى اشتريته التمس فيه من رزقك ، فاجعل لي فيه رزقا. ثم أعد كل واحدة
ثلاث مرات» .
أقول : قوله عليهالسلام : ثم أعد كل واحدة ثلاث مرات ، ربما يتوهم منه الترديد
اربع مرات.
والظاهر انه
ليس كذلك ، بل المراد انما هو أعد كلا من هاتين الجملتين الى ان يبلغ ثلاث مرات.
وروى الصدوق عن
العلاء عن محمد بن مسلم قال : قال أحدهما عليهمالسلام : «إذا اشتريت متاعا فكبر الله ثلاثا ، ثم قال : اللهم
انى اشتريته التمس فيه من خيرك فاجعل لي فيه خيرا. اللهم انى اشتريته. الحديث. كما تقدم.
وروى في الكافي
والتهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله الصادق ـ عليهالسلام ـ قال : «إذا أردت أن تشترى شيئا فقل : يا حي يا قيوم
يا دائم يا رؤوف يا رحيم أسألك بعزتك وقدرتك وما أحاط به علمك ان تقسم لي من
التجارة اليوم أعظمها رزقا وأوسعها فضلا وخيرها عاقبة فإنه لا خير فيما لا عاقبة
له» قال : وقال أبو عبد الله عليهالسلام : «إذا اشتريت دابة أو رأسا فقل : اللهم قدر لي أطولها
حياة وأكثرها منفعة وخيرها عاقبة» .
__________________
وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا اشتريت دابة فقل : اللهم ان كانت عظيمة
البركة فاضلة المنفعة ميمونة الناصية فيسر لي شراءها ، وان كان غير ذلك فاصرفني
عنها إلى الذي هو خير لي منها ، فإنك تعلم ولا اعلم وتقدر ولا اقدر وأنت علام
الغيوب. تقول ذلك ثلاث مرات» .
وروى في الفقيه
عن عمر بن إبراهيم عن ابى الحسن عليهالسلام قال : «من اشترى دابة فليقم من جانبها الأيسر ويأخذ من
ناصيتها بيده اليمنى ويقرأ على رأسها فاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد ، والمعوذتين
، وآخر الحشر وآخر بني إسرائيل : قل أدعو الله أو أدعو الرحمن ، وآية الكرسي. فإن
ذلك أمان تلك الدابة من الآفات» .
وروى في الكافي
عن هذيل عن ابى عبد الله عليهالسلام قال إذا اشتريت جارية فقل : اللهم إني أستشيرك وأستخيرك»
. وفي الفقيه عن ثعلبة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا اشتريت جارية فقل : اللهم إني أستشيرك
وأستخيرك ، وإذا اشتريت دابة أو رأسا فقل : اللهم قدر لي أطولهن حياة وأكثرهن
منفعة وخيرهن عاقبة» .
(ومنها) انه
إذا قال انسان للتاجر : اشتر لي متاعا ، فالمشهور انه لا يجوز له ان يعطيه من عنده
وان كان ما عنده أحسن مما في السوق.
ويدل عليه ما
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن ، عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا قال لك الرجل : اشتر لي ، فلا تعطه من عندك
، وان كان الذي عندك خيرا منه . وما رواه في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار
__________________
قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يبعث الى الرجل يقول له : ابتع لي ثوبا
فيطلب له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق ، فيعطيه من عنده ، قال : لا
يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، ان الله عزوجل يقول «إِنّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولاً» وان كان عنده خير مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده»
.
وقال في كتاب
الفقه الرضوي : إذا سألك رجل شراء ثوب فلا تعطه من عندك ، فإنه خيانة ، ولو كان
الذي عندك أجود مما عند غيرك .
ونقل عن ابن
إدريس انه علل المنع هنا ، بان التاجر صار وكيلا في الشراء ، ولا يجوز للوكيل ان
يشترى لموكله من نفسه ، لان العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، وهو لا يصلح ان يكون
موجبا قابلا ، فلأجل ذلك لم يصلح ان يشترى له من عنده.
وفيه : انه لم
يقم دليل لنا على ما ذكره من منع كونه موجبا قابلا ، كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله
تعالى. بل الظاهر ان العلة هنا : انما هي خوف التهمة ، كما يدل عليه : ما رواه في
الفقيه عن ميسر ، قال : قلت له : يجيئني الرجل فيقول : اشتر لي ، فيكون ما عندي
خيرا من متاع السوق؟ قال : ان أمنت ان لا يتهمك فأعطه من عندك ، فان خفت ان يتهمك
فاشتر له من السوق .
أقول : وهذه
المسألة ترجع إلى مسألة الوكالة ، فيما لو وكله على بيع أو شراء ، أو أطلق ولم
يفهم منه الاذن ولا عدمه بالنسبة إلى الوكيل ، فهل يكفى هذا الإطلاق في جواز بيعه
عن نفسه أو شرائه لنفسه؟ قولان.
ظاهر أكثر
المتأخرين المنع ، ويدل عليه بالنسبة إلى الشراء : ما اذكرناه من صحيحة هشام أو
حسنته ، أو موثقة إسحاق ، وعبارة كتاب الفقه الرضوي.
__________________
ويدل عليه
بالنسبة إلى البيع : ما رواه في التهذيب عن على بن أبي حمزة قال : سمعت معمر
الزيات يسأل أبا عبد الله عليهالسلام فقال : جعلت فداك انى رجل أبيع الزيت يأتيني من الشام
فآخذ لنفسي شيئا مما أبيع؟ قال : ما أحب لك ذلك! فقال : انى لست انقص لنفسي شيئا
مما أبيع ، قال : بعه من غيرك ، ولا تأخذ منه شيئا ، أرأيت لو أن الرجل قال لك : لا
أنقصك رطلا من دينار ، كيف كنت تصنع؟ لا تقربه» .
أقول : ظاهر
قوله «أرأيت لو ان الرجل. إلخ» : ان شراء الوكيل لنفسه أو بيعه من نفسه لا يدخل
تحت ذلك الإطلاق ، الذي اقتضته الوكالة ، والا فإن مقتضى الوكالة صحة البيع
والشراء بما رآه الوكيل وفعله ، فلا معنى لقوله ـ بالنسبة إليه ـ : «لا أنقصك رطلا
من دينار» لو كان داخلا في إطلاق الوكالة. ويؤكد ذلك : ما قدمناه من كلام الرضا عليهالسلام في الفقه الرضوي وموثقة إسحاق.
ومما يدل على
ما دل عليه خبر على بن حمزة بالنسبة إلى البيع ايضا : ما رواه في التهذيب عن خالد
القلانسي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يجيئني بالثوب فأعرضه ، فإذا أعطيت به الشيء
زدت فيه وأخذته. قال : لا تزده. فقلت : فلم؟ قال : أليس أنت إذا عرضته أحببت ان
تعطى به أوكس من ثمنه؟ قلت : نعم ، قال : لا تزده» .
أقول : ومعنى
الخبر المذكور ـ على ما يظهر لي ـ : هو ان الرجل يجيئه بالثوب ليبيعه له فيعرضه
على المشترى ، مع كونه مضمرا إرادة شرائه ، فإذا أعطاه المشتري قيمة في ذلك الثوب
زاد هو على تلك القيمة شيئا ، وأخذ الثوب لنفسه ، فنهاه الامام عليهالسلام عن ذلك ، وبين له ان العلة في النهي : هو انه لما كان
قصده أخذ الثوب لنفسه ، وانما يعرضه على المشترى لأجل أن يبرئ نفسه عن التهمة
بأخذه بأقل من قيمته. ولكن الظاهر ان العادة المطردة فيمن أراد ان يشتري شيئا :
انه ينقص عن ثمنه الواقعي لأجل
__________________
ان يأخذه رخيصا ، وهذا الوكيل يحب ان يكون الأمر كذلك ، مع علمه بما هنا لك
، فهو في الواقع لا يخرج عن الخيانة ، وان زاد شيئا على ما ذكره المشترى ، فمن أجل
ذلك منعه عليهالسلام.
واما ما ذكره
في الوافي ـ في معنى الخبر المذكور ـ حيث قال : ولعل المراد ان الرجل يجيئني
بالثوب فيقومه على فأعرضه على المشترى ، فإذا اشتراه مني بزيادة بعته منه ، وأخذت
ثمنه ، فقال عليهالسلام : الست إذا أنت عرضته على المشترى أحببت ان تعطى صاحبه
انقص مما أخذت منه؟ قلت : نعم. قال : لا ترده ، وذلك لأنه خيانة بالنسبة إلى
المشتري بل البائع أيضا انتهى. فظني : بعده ، لما فيه من التكلف والبعد من سياق
الخبر ، بل الظاهر هو ما ذكرناه. وبالجملة فإن ظاهر الاخبار المذكورة التحريم ،
نعم لو أمن التهمة أو أخبره بذلك فرضي ، فالظاهر انه لا اشكال.
(القول الثاني)
في المسألة ، الجواز على كراهة ، ذهب اليه جمع من الأصحاب ، منهم أبو الصلاح ،
والعلامة في التذكرة والمختلف ، والشهيد في الدروس .
قال في المختلف
: للوكيل ان يبيع مال الموكل على نفسه ، وكذا كل من له الولاية ، كالأب والجد
والوصي والحاكم وأمينه.
وقال في الخلاف
: لا يجوز لغير الأب والجد. نعم لو وكل في ذلك صح.
وقال أبو
الصلاح بما اخترناه ، قال : ويكره لمن سأله غيره ان يبتاع متاعا ان يبيعه من عنده
أو يبتاع منه ما سأله ان يبيعه له ، وليس بمحرم ، مع انه يحتمل ان يكون قصد مع
الاعلام. لنا : انه بيع مأذون فيه فكان سائغا ، اما المقدمة الأولى فلأنه مأمور
ببيعه على المالك الدافع للثمن والوكيل كذلك ، ويدخل تحت الاذن ، واما الثانية
فظاهرة ، كما لو نص له على البيع من نفسه.
احتج الشيخ
بأنه لا دليل على الصحة. والجواب : الدليل على ما تقدم. وعموم
__________________
قوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا» قال الشيخ : وكذلك لا يجوز له ان يشترى مال الموكل
لابنه الصغير ، لانه يكون في ذلك البيع قابلا موجبا ، فتلحقه التهمة ويتضاد
الفرضان ، وكذلك لا يجوز ان يبيعه من عبده المأذون له في التجارة لأنه وان كان
القابل غيره ، فالملك يقع له ، وتلحقه التهمة فيه ، ويبطل الفرضان. والحق عندي :
الجواز في ذلك كله ، فكونه موجبا قابلا لا استحالة فيه ، لانه موجب باعتبار كونه
بايعا ، وقابل باعتبار كونه مشتريا ، وإذا اختلف الاعتبار ان لم يلزم المحال ،
وينتقض ببيع الأب والجد مال الصبي من نفسه ، ولحوق التهمة متطرق في حقهما» انتهى
كلامه.
وليت شعري كأنه
لم يقف على شيء مما قدمناه من الاخبار الواردة عنهم عليهمالسلام والظاهر انه كذلك ، والا لذكرها في المقام ، فإنها
واضحة الدلالة في المنع وبه يظهر ما في قوله «انه مأذون فيه» كيف يكون مأذونا فيه
، والاخبار المتقدمة كلها متفقة على النهى ، على أبلغ وجه؟! وان ذلك خيانة كما صرح
به حديث كتاب الفقه الرضوي ، وأشار إليه موثقة إسحاق بن عمار ، من الاستدلال
بالآية المذكورة المؤذن بكون الشراء من نفسه خيانة ، وكذا خبر على بن أبي حمزة
بالتقريب الذي ذكرناه في ذيله.
وبالجملة فإن
الناظر فيما قدمناه من الاخبار وما ذيلناها به من التحقيق الواضح لذوي الأفكار لا
يخفى عليه ما في كلامه من الضعف الظاهر لكل ناظر من ذوي الاعتبار والله العالم.
(ومنها) انه
يكره مدح البائع لما يبيعه وذم المشترى لما يشتريه ، واليمين على البيع. ويدل عليه
: ما تقدم من الاخبار في الفائدة الرابعة ، من المقدمة الاولى. ومنها زيادة على ما
تقدم : ما رواه في الكافي عن أبي حمزة رفعه ، قال : قام أمير المؤمنين عليهالسلام على دار ابن معيط «وكان مقام فيها الإبل ، فقال : يا
معشر السماسرة ،
__________________
أقلوا الأيمان ، فإنها منفقة للسلعة ممحقة للبركة» .
قال في الوافي
: المنفقة بكسر الميم ـ : آلة النفاق وهو الرواج.
أقول : الظاهر
بعد ما ذكره ، وان المراد بالمنفقة ـ في الخبر ـ : انما هو من «نفق» بمعنى نفد ،
وفنى.
قال في القاموس
: نفق ـ كفرح ونصر ـ : نفد وفنى ـ وقال : «أنفق : افتقر. وماله أنفده».
وقال في الصحاح
: أنفق الرجل : افتقر ، وذهب ماله. ومنه قوله عزوجل «إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» اى الفقر والفاقة.
ويعضده : ما
رواه في الكافي ـ أيضا ـ عن أبي إسماعيل رفعه عن أمير المؤمنين عليهالسلام : انه كان يقول : «إياكم والحلف فإنه ينفق السلعة ويمحق
البركة» . فإنه ظاهر في ان المراد انما هو ان الحلف موجب لبيع
السلعة ورغبة المشتري فيها لمكان الحلف ، الا انه مذهب لبركة الثمن وممحق له.
وروى في الكافي
والتهذيب ، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن ابى الحسن موسى ـ عليهالسلام ـ قال : «ثلاثة لا ينظر الله عزوجل إليهم يوم القيامة ، أحدهم : رجل اتخذ الله بضاعة لا
يشترى إلا بيمين ولا يبيع الا بيمين». .
(ومنها) كراهة
السوم ؛ ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، قال في المسالك اى الاشتغال بالتجارة
في ذلك الوقت.
أقول : ويدل
عليه ما رواه في الكافي بسنده عن على بن أسباط رفعه قال : «نهى
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن السوم ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس» . ورواه الصدوق مرسلا. ويعضده ايضا ما ورد في جملة من
الاخبار ان هذا الوقت موظف للتعقيب ، والدعاء ، وان الدعاء فيه
أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض.
(ومنها) كراهة
مبايعة الأدنين ، وذوي العاهات والمحارف ، ومن لم ينشأ في الخير ، والأكراد.
قال في المسالك
: وفسر الأدنون بمن لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه. وبالذي لا يسره الإحسان ولا
تسؤه الإساءة. وبالذي يحاسب على الدون. وذوو العاهات اى ذوو النقص في أبدانهم
انتهى.
أقول : والذي
يدل على الأول : ما رواه في الكافي والتهذيب مسندا عن ابى عبد الله عليهالسلام والصدوق مرسلا ، قال عليهالسلام : «لا تستعن بمجوسي ولو على أخذ قوائم شاتك وأنت تريد
ان تذبحها. وقال : إياك ومخالطة السفلة ، فإن السفلة لا يؤل الى خير» .
قال الصدوق ـ رحمهالله ـ جائت الاخبار في معنى السفلة على وجوه :
منها : ان
السفلة : الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.
ومنها : ان
السفلة : من يضرب بالطنبور.
ومنها : ان
السفلة : من لم يسره الإحسان ولم تسؤه الإساءة.
والسفلة : من
ادعى الإمامة وليس لها بأهل. وهذه كلها أوصاف السفلة. من اجتمع فيه بعضها أو
جميعها وجب اجتناب مخالطته.
أقول : وكان
الاولى في العبارة هو التعبير بهذا اللفظ ، إلا أنا جرينا على ما جرى
__________________
عليه تعبير الأصحاب.
واما ما يدل
على الثاني ، فهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن ميسر بن عبد العزيز قال : قال لي
أبو عبد الله عليهالسلام : «لا تعامل ذا عاهة فإنهم أظلم شيء» . وما رواه في الكافي والفقيه ، مسندا في الأول ، عن
احمد بن محمد رفعه قال : قال أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ ومرسلا في الثاني ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «احذروا معاملة أصحاب العاهات ، فإنهم أظلم شيء» .
قال بعض متأخري
المتأخرين : لعل نسبة الظلم إليهم ، لسراية امراضهم ، أو لأنهم مع علمهم بالسراية
لا يجتنبون من المخالطة انتهى.
ولا يخفى بعده
، بل الظاهر انما هو كون الظلم امرا ذاتيا فيمن كان كذلك.
واما ما يدل
على الثالث ، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة في أصولهم ، مسندا في الكافي والتهذيب
عن العباس بن الوليد بن صبيح عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام ، ومرسلا في الثالث ، قال : قال الصادق عليهالسلام : «يا وليد لا تشتر من محارف ، فأن صفقته لا بركة فيها»
وفي الفقيه : لا تشتر لي ـ الى ان قال ـ فان خلطته. وفي التهذيب : فان
حرفته.
أقول : المحارف
هو المحروم الذي أدبرت عنه الدنيا فلا بخت له ، ويقابله من أقبلت عليه الدنيا
واتسع له مجالها ، وانفتحت عليه أبواب أرزاقها.
واما ما يدل
على الرابع ، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة مسندا في الكافي والتهذيب ، في الموثق
عن ظريف بن ناصح ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام ، ومرسلا في الثالث ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «لا تخالطوا ولا تعاملوا الا من نشأ في
__________________
الخير» . وفي نهج البلاغة : قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «شاركوا الذي قد اقبل عليه الرزق ، فإنه أخلق للغنى
وأجدر بإقبال الحظ» .
ويعضده : ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري ، قال : استقرض قهرمان لأبي
عبد الله عليهالسلام من رجل طعاما لأبي عبد الله عليهالسلام ، فألح في التقاضي ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ألم أنهك أن تستقرض لي ممن لم يكن فكان . وما رواه في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال
أبو جعفر عليهالسلام : انما مثل الحاجة الى من أصاب ماله حديثا كمثل الدرهم
في فم الأفعى ، أنت إليه محوج ، وأنت منها على خطر . وعن داود الرقى ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال لي : يا داود ، تدخل يدك في فم التنين الى
المرافق ، خير لك من طلب الحوائج الى من لم يكن فكان .
أقول التنين
كسكين : الحية العظيمة.
واما ما يدل
على الخامس ، فهو ما رواه في الكافي عن ابى الربيع الشامي ، قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام فقلت : ان عندنا قوما من الأكراد ، وانهم لا يزالون
يجيئون بالبيع ، فنخالطهم ونبايعهم؟ قال : يا أبا الربيع لا تخالطوهم ، فإن
الأكراد حي من أحياء الجن ، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم . وروى الصدوق عن
__________________
أبي الربيع عنه عليهالسلام انه قال لا تخالط الأكراد فإن الأكراد حي من الجن كشف
الله عنهم الغطاء .
قال بعض
مشايخنا من متأخري المتأخرين : ربما يؤول بأنهم لسوء أخلاقهم وجبلتهم أشباه الجن ،
فكأنهم منهم كشف الغطاء عنهم انتهى.
(ومنها) كراهة
الاستحطاط من الثمن بعد العقد
. والذي وقفت
عليه من الاخبار في ذلك ، ما رواه المشايخ الثلاثة رحمهمالله عن إبراهيم بن ابى زياد قال : اشتريت لأبي عبد الله عليهالسلام جارية ، فلما ذهبت أنقدهم الدراهم ، قلت أستحطهم؟ قال :
لا ، ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة .
وفي التهذيب
بأحد أسانيده «الضمنة» بالنون اى لزوم البيع وضمان كل منهما ما صار اليه.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن زيد الشحام قال : أتيت أبا عبد الله عليهالسلام بجارية أعرضها ، فجعل يساومني وأساومه ثم بعتها إياه
فضم على يدي. قلت : جعلت فداك ، انما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي ،
وقلت : قد حططت عنك عشرة دنانير. فقال : هيهات الا كان هذا قبل الضمة ، أما بلغك
قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : الوضيعة
__________________
بعد الضمة حرام. .
ورواه في
الفقيه عن زيد الشحام ، قال : أتيت أبا جعفر عليهالسلام مثله . وفي الفقيه والتهذيب «ضمن على يدي» عوض «وقبض» وفيها «الضمنة»
عوض «الصفقة» وقد تقدم معناه.
وروى في الفقيه
عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يشترى من الرجل البيع ، فيستوهبه بعد الشراء من
غير ان يحمله على الكره؟ قال : لا بأس به . وروى في التهذيب عن معلى بن خنيس عن أبيه عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يشترى المتاع ثم يستوضع؟ قال : لا
بأس. وأمرني فكلمت له رجلا في ذلك . وعن يونس بن يعقوب عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشيء بعد ما
يشترى ، فيهب له أيصلح له؟ قال : نعم . وروى في الكافي والتهذيب عن ابى العطارد ، قال : قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : اشترى الطعام ، فأضع في اوله ، وأربح في آخره ، فأسأل
صاحبي أن يحط عنى في كل كر كذا وكذا؟ فقال : هذا لا خير فيه ، ولكن يحط عنك جملة.
قلت : فان حط عني أكثر مما وضعت؟ قال : لا بأس .
أقول : وهذه
الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في جواز الاستحطاط وعدم حرمته والشيخ ـ رحمهالله ـ قد جمع بينها بحمل الخبرين الأولين على الكراهة ،
وتبعه الجماعة كما هي عادتهم غالبا. وأنت خبير بان صريح الخبر الثاني التحريم ،
وقد فسر فيه نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي تضمنه الخبر الأول بالتحريم. وهو ظاهر الخبر
__________________
الأول ومن ثم جمع في الوافي بين الاخبار المذكورة ، بحمل اخبار الجواز على
ما إذا كان الاستحطاط على جهة الهبة ، كما تضمنه بعضها ، حملا لمطلقها على مقيدها
، وإبقاء الخبرين الأولين على ظاهرهما ، من التحريم ، وهو جيد.
(ومنها) كراهة
الزيادة في السلعة وقت النداء ، بل يصبر عليه حتى يسكت ، ثم يزيد إذا أراد.
والدخول في سوم
المسلم.
والنجش ـ بالنون
ثم الجيم ثم الشين المعجمة ـ وهو زيادة الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ،
ليسمعه غيره فيزيد بزيادته.
والذي يدل على
الأول ، ما رواه في الكافي عن أمية بن عمرو الشعيري عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : إذا نادى المنادي فليس لك ان تزيد ، وانما يحرم
الزيادة النداء ، ويحلها السكوت . ورواه الشيخ بإسناده عن أمية بن عمرو مثله ورواه
الصدوق ايضا عن أمية بن عمرو ، وزاد بعد قوله «تزيد» «وإذا سكت ان تزيد».
واما ما يدل
على الثاني فهو ما رواه الصدوق في حديث المناهي المذكور في آخر الفقيه بإسناده عن
شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن النبي صلىاللهعليهوآله. قال : ونهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ان يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم .
أقول : والمراد
بدخول الرجل في سوم أخيه : هو ان يزيد في الثمن الذي يريد ان يشتريه الأول ليقدمه
البائع ، لأجل الزيادة. هذا بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة الشراء.
واما بالنسبة
إلى الدخول في السوم في صورة البيع ، فهو ان يبذل الداخل للمشتري متاعا من عنده ،
غير ما اتفق عليه البائع الأول مع المشترى ، وقد اختلف الأصحاب
__________________
في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ وجماعة إلى التحريم والمشهور بين
المتأخرين : الكراهة. قال في المسالك ـ بعد ان نقل عن النبي صلىاللهعليهوآله ، انه قال : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ـ : وهو خبر
معناه النهى ، والأصل في النهي التحريم. فمن ثم ذهب الشيخ وجماعة إلى تحريمه ،
واستظهر المصنف الكراهة ، للأصل ، والجهل بسند الحديث. ولو صح تعين القول بالتحريم
انتهى.
أقول : والظاهر
ان الخبر المنقول في كلامه ـ عليه الرحمة ـ انما هو من الاخبار المتناقلة في كتب
الفروع ، غير مسند إلى أصل من الأصول ، ولا الى أحد من الأئمة ـ عليهمالسلام ـ بخلاف الخبر الذي نقلناه عن الفقيه ، فإنه مسند في
الكتاب المذكور بجميع ما اشتمل عليه من المناهي. وان ضعف سنده باصطلاحهم ، الا انه
من مرويات الفقيه ، التي لها مزية وزيادة على غيرها ، بما ضمنه في صدر كتابه. وكيف
كان فإنهم قد صرحوا ـ رضى الله عنهم ـ بأن النهي تحريما أو كراهة ، انما يثبت بعد
تراضى الأولين ، صريحا أو ظاهرا ، فلو ظهر ما يدل على عدم الرضا ، وطلب الزيادة ،
أو جهل حاله ، لم يتعلق به الحكم المذكور. وهو كذلك ، لأصالة الصحة ، وقوفا في
النهى على القدر المتيقن.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : ان ابن إدريس قال في سرائره ـ ما صورته ـ : قال شيخنا أبو جعفر في نهايته
: وإذا نادى المنادي على المتاع فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي زاد حينئذ
ان شاء ، وقال في مبسوطه : واما السوم على سوم أخيه فهو حرام ، لقوله عليهالسلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه. هذا إذا لم يكن المبيع
في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة. وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في
نهايته. لان ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأن الزيادة في حال النداء غير محرمة ،
ولا مكروهة. فاما الزيادة المنهي عنها فهي عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من
البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ والشروع في الإيجاب والقبول ،
وقطع المزايدة فعند هذه الحال لا يجوز السوم على سوم أخيه انتهى.
والعلامة في
المنتهى ـ بعد ان نقل كلام ابن إدريس المذكور ـ ذكر ان الشيخ عول هنا على رواية
الشعيري ثم قال ـ بعد نقلها ـ : وهذه الرواية ان صح سندها حملت على ما إذا وقع
السكوت عن الزيادة لا للشراء.
ثم قال :
والتحقيق هنا ان نقول : لا تخلو الحال عن أربعة أقسام.
أحدها : ان
يوجد من البائع التصريح بالرضا بالبيع. فهنا يحرم السوم.
الثاني : ان
يظهر منه ما يدل على عدم الرضا. فهذا لا تحرم فيه الزيادة.
الثالث : ان لا
يوجد ما يدل على الرضا ولا على عدمه. فهنا ايضا يجوز السوم.
الرابع : ان
يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح ، والوجه هنا التحريم ايضا. انتهى ملخصا.
أقول : والذي
يقرب في فكري الكليل ، وذهني العليل : ان ما ذكره هذان العمدتان في المقام لا يخلو
من النظر الظاهر لذوي الأفهام. فإنه لا يخفى ان كلا من الحكمين المذكورين ، لا
تعلق له بالاخر ولا ارتباط بينهما ، ليتوهم حصول المنافاة بينهما ، ويحتاج الى
الجمع كما ذكره في المنتهى ، أو إطراح أحدهما ، كما توهمه ابن إدريس ، فإنه لا
يخفى ان النداء على السلعة التي تضمنه خبر الشعيري انما هو ان يعطى بعض المشترين
ثمنا ، فينادي به الدلال قبل ان يقع بينهما تراض عليه ، فان حصل من اعطى أزيد من
الأول فربما باعه وتراضي مع ذلك المعطى عليه ، وربما نادى به ايضا طلبا للزيادة.
والامام عليهالسلام قد نهى من الزيادة في حال النداء ، وجوزها في حال
السكوت ، والوجه فيما قاله عليهالسلام هنا غير ظاهر لدينا ، ولا معلوم عندنا ، وينبغي ان يحمل
ذلك على مجرد التعبد الشرعي ، تحريما أو كراهة.
واما السوم على
السوم فهو شيء آخر ، وهو ان يقع بين البائع والمشترى المساومة ، التي هي عبارة عن
المجاذبة بينهما في فصل الثمن ، وتعيينه ، وليس هنا نداء بالكلية» لأنه مع حصول
التراضي المانع من الدخول في السوم ، لا معنى للنداء على السلعة وطلب الزيادة ،
كما لا يخفى. ومع عدم حصول التراضي فلا معنى للنداء
بالكلية. فالداخل في السوم يفصل فيه بما ذكره في المنتهى من الصور الأربع
المذكورة كما قدمنا إليه الإشارة أيضا.
ورد ابن إدريس
على الشيخ في النهاية انما نشأ من عدم وقوفه على الخبر المذكور ، وتوهم منافاة ذلك
لما ذكره في المبسوط ، وهو في غير محله. لان ما ذكره في كل من الكتابين حكم على
حده غير الأخر كما لا يخفى
واما ما يدل
على الثالث فهو ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله : النواشمة والمتوشمة ، والناجش
والمنجوش ملعونون على لسان محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم . وروى في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده عن القاسم بن
سلام ، بإسناد متصل بالنبي صلىاللهعليهوآله قال : لا تناجشوا ولا تدابروا . قال : ومعناه : ان يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا
يريد شرائها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. والناجش خائن. والتدابر الهجران.
أقول : وما
اشتمل عليه الخبر الأول ، من ذكر الناجش والمنجوش ، وانهما ملعونان ، فالظاهر ان
المراد به : هو ان يواطىء البائع رجلا ، إذا أراد بيعا ، ان يساومه بثمن كثير ،
ليقع فيه غيره.
والمشهور في
كلام الأصحاب : تحريمه. بل قال في المنتهى : انه محرم إجماعا ، لأنه خديعة. وقد
صرحوا بأنه لا يبطل البيع به ، بل العقد صحيح.
ونقل في الدروس
عن ابن الجنيد : انه إذا كان من البائع أبطل ، وعن القاضي : انه يتخير المشتري ،
لأنه تدليس.
وقطع في
المبسوط بأنه لا خيار إذا لم يكن بمواطاة البائع. وقوى عدم الخيار ايضا بمواطاته.
وقيد الفاضلان
الخيار بالغبن كغيره من العقود.
__________________
أقول : ولا ريب
ان ظاهر النهى هو التحريم ، ولا يبعد القول بذلك في الفردين الآخرين ايضا ، لظاهر
الخبرين المتقدمين ، مع عدم المعارض.
(ومنها) استحباب
المماكسة ، إلا في مواضع مخصوصة.
ويدل على ذلك
ما رواه في الكافي عن الحسن بن على عن رجل يسمى سوادة ، قال : كنا جماعة بمنى فعزت
علينا الأضاحي ، فنظرنا فإذا أبو عبد الله عليهالسلام واقف على قطيع ، يساوم بغنم ويماكسهم مكاسا شديدا ،
فوقفنا ننظر ، فلما فرغ اقبل علينا ، فقال : أظنكم قد تعجبتم من مكاسي! فقلنا :
نعم. فقال : ان المغبون لا محمود ولا مأجور. الحديث .
وعن الحسين بن
يزيد قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول ـ وقد قال له أبو حنيفة : عجب الناس منك أمس ،
وأنت بعرفة تماكس ببدنك أشد مكاس يكون ـ فقال أبو عبد الله عليهالسلام : فما لله من الرضا ان أغبن في مالي قال : فقال أبو
حنيفة : لا والله ما لله في هذا من الرضا ، قليل ولا كثير ، ما نجيئك بشيء إلا
جئتنا بما لا مخرج لنا منه .
وروى الصدوق ،
قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : ماكس المشتري ، فإنه أطيب للنفس ، وان اعطى الجزيل ،
فان المغبون في بيعه وشرائه غير محمود ولا مأجور .
وفي عيون
الاخبار بسنده عن الرضا عليهالسلام عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ قال : المغبون لا محمود ولا مأجور .
اما ما استثنى
من ذلك فيدل عليه ما رواه في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان على بن الحسين يقول لقهرمانة : إذا أردت أن
تشترى لي من
__________________
حوائج الحج شيئا فاشتر ولا تماكس .
وبإسناده عن حماد
بن عمرو ، وانس بن محمد ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ في وصية النبي لعلي عليهالسلام قال : يا على ، لا تماكس في أربعة أشياء : شراء الأضحية
، والكفن ، والنسمة ، والكراء إلى مكة .
وفي الخصال
بسند مرفوع ، عن ابى جعفر عليهالسلام قال : لا تماكس في أربعة أشياء : في الأضحية ، والكفن ،
وثمن النسمة ، والكراء إلى مكة .
قال في الوافي
: ينبغي تخصيص هذه الاخبار ببعض المواضع ، كما إذا كان البائع مؤمنا. وحمل الأولين
على مواضع أخر ، كما إذا كان البائع مخالفا أو غير ذلك انتهى. وهو جيد.
(ومنها) ان
يكون سهل البيع والشراء ، والقضاء والاقتضاء ، لما رواه الشيخ في الموثق عن حنان ،
عن أبيه عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : بارك الله تعالى على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل
القضاء ، سهل الاقتضاء . وروى الصدوق مرسلا ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان الله تبارك وتعالى يحب العبد في ان يكون سهل البيع
، سهل الشراء ، سهل القضاء سهل الاقتضاء .
وروى في الخصال
بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : غفر الله تعالى لرجل كان قبلكم ، كان سهلا إذا باع ،
سهلا إذا قضى ، سهلا إذا اقتضى .
__________________
وروى في الكافي
عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على ابى عبد الله عليهالسلام فشكى اليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث ان جاء المشكو ،
فقال له أبو عبد الله عليهالسلام مغضبا : ما لفلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت
منه حقي! قال : فجلس أبو عبد الله عليهالسلام مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت
ما حكى الله عزوجل في كتابه فقال «يَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ» أترى انهم خافوا الله ان يجور عليهم! لا والله ، ما
خافوا الا الاستقضاء. فسماه الله ـ عزوجل ـ سوء الحساب. فمن استقضى فقد أساء .
(ومنها) استحباب
البيع عند حصول الربح ، وكراهة تركه.
ويدل عليه : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سعيد الدغشي ، قال : كنت على باب شهاب بن
عبد ربه ، فخرج غلام شاب ، فقال : انى أريد أن أسأل هاشم الصيدناني عن حديث السلعة
والبضاعة. قال : فأتيت هاشما ، فسألته عن الحديث ، فقال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن البضاعة والسلعة ، فقال : نعم ، ما من أحد يكون عنده
سلعة أو بضاعة. إلا قيض الله ـ عزوجل ـ له من يربحه ، فان قبل والا صرفه الله تعالى الى
غيره. وذلك لانه رد بذلك على الله ـ عزوجل ـ وروى في الفقيه مرسلا ، قال : قال على عليهالسلام : مر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على رجل معه سلعة يريد بيعها. فقال : عليك بأول السوق .
أقول : يعنى
أول من يربحك في سلعتك في السوق ، كما يدل عليه الخبر الأول.
أقول : وهذا من
المشهورات ، بل المجربات. ومن الأمثال المتعارفة بين الناس ، قولهم : عليك بثاني
زينة! قال : والاولى؟ قال : لست من رجالها. والمعنى : انك لا توفق للأولى لمزيد
الطمع ، مع أنها أوفر مما تعطى بعدها ، فان فاتتك
__________________
فلا تفوتك الثانية.
ويؤيد الأخبار
المذكورة : ما ورد من كراهة استقلال قليل الرزق ، وانه يؤدى الى حرمان الكثير.
روى في الكافي
عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : من طلب قليل الرزق كان ذلك داعية الى اجتلاب
كثير من الرزق .
وعن الحسن بن
بسام الجمال ، قال : كنت عند إسحاق بن عمار الصيرفي ، فجاءه رجل يطلب غلة بدينار ،
وقد كان أغلق باب الحانوت وختم الكيس ، فأعطاه غلة بدينار ، فقلت : ويحك يا إسحاق
، ربما حملت لك من السفينة ألف ألف درهم! فقال : ترى كان بي هذا ، لكني سمعت أبا
عبد الله عليهالسلام يقول : من استقل قليل الرزق حرم كثيره ، ثم التفت الى ،
فقال : يا إسحاق لا تستقل قليل الرزق فتحرم كثيره .
«ومنها» استحباب
المبادرة إلى الصلاة وترك ما بيده من التجارة والاشتغال بها.
ويدل عليه : ما
رواه في الكافي عن الحسين بن يسار ، عن رجل رفعه ، في قول الله تعالى «رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» قال : هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر
الله تعالى ، إذا دخل مواقيت الصلاة ، أدوا الى الله تعالى حقه منها .
وعن أسباط بن
سالم قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام وساق الخبر عنه عليهالسلام الى ان قال : يقول الله عزوجل «رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» يقول
__________________
القصاص : ان القوم لم يكونوا يتجرون ، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة
في ميقاتها ، وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم يتجر .
وعن ابى بصير
في الصحيح أو الموثق ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة وكان لازما لرسول
الله صلىاللهعليهوآله عند مواقيت الصلاة كلها ، لا يفقده في شيء منها ، وكان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يرق له وينظر الى حاجته وغربته. ثم يقول : يا سعد ، لو
قد جائني شيء لأغنيتك ، قال فأبطأ ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاشتد غم رسول الله ، فعلم الله ـ عزوجل ـ ما دخل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من غمه بسعد ، فأهبط جبرئيل عليهالسلام ومعه درهمان. فقال له : يا محمد ، ان الله ـ عزوجل ـ قد علم ما دخل عليك من الغم بسعد ، أفتحب ان تغنيه؟
قال : نعم. فقال له : فهاك هذين الدرهمين ، فأعطه إياهما ، ومره ان يتجر بهما ،
فأخذهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من جبرئيل عليهالسلام.
ثم خرج الى
صلاة الظهر ، وسعد قائم على باب حجرات رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ينتظره. فلما رآه رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ قال : يا سعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد : والله ما أصبحت
أملك مالا اتجر به ، فأعطاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الدرهمين ، فقال له : اتجر بهما ، وتصرف لرزق الله عزوجل ، فأخذهما سعد ومضى مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى صلى معه الظهر والعصر ، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : قم واطلب الرزق ، فقد كنت بحالك مغتما يا سعد.
قال : فاقبل
سعد لا يشترى بدرهم شيئا إلا باعه بدرهمين ، ولا يشترى بدرهمين الا باعه بأربعة
دراهم ، وأقبلت الدنيا عليه ، حتى كثر متاعه وماله ، وعظمت تجارته واتخذ على باب
المسجد موضعا وجلس فيه ، وجمع تجاراته اليه ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا أقام بلال للصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا ، لا
يتطهر ولا يتهيأ كما كان يفعل قبل ان يتشاغل بالدنيا ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : يا سعد ، شغلتك الدنيا
__________________
عن الصلاة! وكان يقول : ما أصنع ، أضيع مالي؟ هذا رجل قد بعته وأريد ان
استوفى منه ، وهذا رجل قد اشتريت منه وأريد ان أو فيه ، فدخل رسول الله من أمر سعد
غم شديد أشد من غمه بفقره فهبط جبرئيل عليهالسلام فقال : يا محمد ، ان الله تعالى قد علم غمك بسعد ،
فأيما أحب إليك : حاله الأولى أو حاله هذه؟ فقال : يا جبرئيل ، بل حاله الاولى ،
فقد ذهبت دنياه بدينه وآخرته. فقال له جبرئيل عليهالسلام : ان حب الأموال والدنيا فتنة ومشغلة عن الآخرة ، قل
لسعد ، يرد عليك الدرهمين الذين دفعتهما إليه ، فإن أمره يصير الى الحال التي كان
عليها أولا ، قال : فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فمر بسعد ، فقال له : اما تريد ان ترد علينا الدرهمين
الذين أعطيتكهما؟ فقال له سعد : ومأتين. فقال له : لست أريد منك الا الدرهمين ،
فأعطاه سعد درهمين. قال : فأدبرت الدنيا عن سعد ، حتى ذهب ما كان معه وما جمع ،
وعاد الى حالته التي كان عليها .
«ومنها» ان لا يتوكل
حاضر لباد. والمراد بالبادي : الغريب الجالب للبلد ، أعم من ان يكون من البادية أو
قرويا. ومعناه : ان يحمل البدوي أو القروي متاعه الى بلد فيأتيه البلدي ، ويقول له
: انا أبيعه لك بأعلى ما تبيعه ، قبل ان يعرفه السعر ، ويقول : انا أبيع لك. وأكون
سمسارا. كذا ذكره في المسالك.
وقد اختلف
الأصحاب في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ في النهاية الى الثاني. وهو قول
العلامة في المختلف ، واختيار المحقق في الشرائع ، والشهيد في الدروس.
وفي المبسوط
والخلاف إلى الأول ، الا انه قيده في المبسوط بما يضطر اليه الناس ، بان يكون في
فقده إضرار بهم.
وقال ابن
البراج في المهذب كقول الشيخ في المبسوط. وبه قال ابن إدريس ، والعلامة في
المنتهى.
__________________
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ، ما رواه
في الكافي عن
عروة بن عبد الله ، عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يتلقى أحدكم تجارة ، خارجا من المصر ، ولا يبيع
حاضر لباد ، والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض . وروى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده عن جابر ، قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يبيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من
بعض .
ولا يبعد ان
يكون الخبر المذكور من طريق العامة ، لأن أكثر رجاله منهم.
وعن يونس بن
يعقوب قال : تفسير قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا يبيعن حاضر لباد» : أن الفاكهة وجميع أصناف الغلات ، إذا حملت من القرى
الى السوق ، فلا يجوز ان يبيع أهل السوق لهم من الناس ، بل ينبغي ان يبيعه حاملوه
من القرى والسواد. فاما من يحمل من مدينة إلى مدينة فإنه يجوز ، ويجرى مجرى
التجارة.
وأنت خبير بان
ظاهر هذا الخبر تخصيص ما ذكره صلىاللهعليهوآله في الحديثين الأولين بالفاكهة وجميع أصناف الغلات. إذا
حملت من القرى ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب من العموم في هذا الحكم ، الا ان ظاهر
الخبر المذكور انما هو من كلام يونس ، فيهون الاشكال.
ومن ذهب من
أصحابنا إلى التحريم أخذ بظاهر النهي في الحديثين الأولين.
ومن ذهب الى
الكراهة ، اعتمد على الأصل ، ورد الخبرين بضعف السند ، وحملهما على الكراهة تفاديا
من طرحهما.
وقد ذكر
الأصحاب في تحريمه أو كراهته شروطا :
أحدها : ان
يكون الحاضر عالما بورود النهى. وهذا شرط يعم جميع المناهي. الثاني : ان يظهر من
ذلك المتاع سعر في البلد ، فلو لم يظهر ، اما لكبر البلاد ، أو لعموم وجوده ، ورخص
السعر ، فلا تحريم ولا كراهة. لأن المقتضي للنهي تفويت الربح
__________________
وفقد الرفق على الناس ، ولم يوجد هنا.
الثالث : ان
يكون المتاع المجلوب بما تعم الحاجة إليه ، فما لا يحتاج اليه الا نادرا ، لا يدخل
تحت النهى.
الرابع : ان
يعرض الحضري ذلك على البدوي ويدعوه اليه ، فلو التمس الغريب ذلك لم يكن به بأس.
الخامس : ان
يكون الغريب جاهلا بسعر البلد ، فلو كان عالما به لم يكره ، بل يكون مساعدته محض
الخير.
أقول : أنت
خبير بان الظاهر ، ان ما عدا الأول والأخير من هذه الشروط ، تقييد للنص من غير
دليل ، الا مجرد هذه التخرصات.
والظاهر : ان
أكثر هذه الشروط مأخوذة من كلام العامة.
اما استثناء
الأول والأخير فظاهر ، لان الخطاب تحريما أو كراهة انما يتوجه الى العالم.
والتعليل بقوله صلىاللهعليهوآله : يرزق الله تعالى الناس بعضهم من بعض ، انما يترتب على
الجهل بسعر البلد لا مع العلم. فلا بأس باشتراطهما.
ثم انه على
القول بالتحريم فالظاهر هو صحة البيع. وان أثم ، لأصالة الصحة ، وبه صرح جملة من
الأصحاب.
واما شراء
البلدي للبادي ، فلا إشكال في جوازه ، لعدم دخوله تحت النص المذكور وللعامة فيه
قولان.
«ومنها» تلقى
الركبان.
وهل التلقي
مكروه أو محرم؟ قولان للشيخ ـ عليه الرحمة.
وقد صرح في
النهاية بالكراهة ، ونقله في الخلاف عن المفيد ايضا ، وقال في المبسوط والخلاف :
لا يجوز.
وحمل العلامة
في المختلف كلامه في المبسوط والخلاف على الكراهة المؤكدة ، قال : لانه كثيرا ما
يستعمل لفظ «لا يجوز» في المكروه وهو غير بعيد.
وبالتحريم صرح
ابن البراج ، وتبعه ابن إدريس ، وهو قول ابى الصلاح ايضا ، واختاره في المنتهى.
واما الاخبار
الواردة في هذا المقام فمنها : ما تقدم في سابق هذه المسألة ، من حديث عروة بن عبد
الله.
ومنها : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا تلق ، ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل منه .
وما رواه في
الفقيه عن منهال القصاب قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن تلقى الغنم ، فقال : لا تلق ولا تشتر ما تلقى ولا
تأكل من لحم ما تلقى .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن منهال القصاب. قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام لا تلق ، فان رسول الله صلىاللهعليهوآله نهى عن التلقي. قلت : وما حد التلقي؟ قال : ما دون غدوة
أو روحة. قلت وكم الغدوة والروحة؟ قال : أربعة فراسخ قال ابن ابى عمير : وما فوق ذلك فليس بتلق.
وأنت خبير بأن
الأخبار المذكورة متفقة على النهى عن ذلك ، وهو حقيقة في التحريم عندهم ، والخروج
عنه من غير دليل صارف غير معقول.
وغاية ما أجاب
به العلامة في المختلف ـ بعد اختياره القول بالكراهة ونقله خبر منهال الأول ، وكذا
خبر عروة ، الى ان قال ـ : والجواب : ان النهى كما يدل على التحريم ، فكذا يدل على
الكراهة.
ولا يخفى ما في
هذا الجواب من النظر الظاهر لكل ناظر! وكيف لا وهو وغيره قد صرحوا بأن الأصل في
النهي التحريم ، وهو المعنى الحقيقي له ، والحمل على الكراهة مجاز لا يصار اليه
الا مع القرينة ، ولو تم ما ذكره هنا من هذا الكلام لزم ان
__________________
لا يقوم النهى دليلا على التحريم ، في حكم من الأحكام بالكلية.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : ان الوجه في الكراهة هو التمسك بالأصل. وضعف الأخبار
المذكورة. فلا تنهض حجة في الخروج عن مقتضى الأصل. فتحمل على الكراهة ، تفاديا من
طرحها.
وفيه ما قد أوضحناه
في غير موضع مما تقدم.
وتحقيق الكلام
في المقام يتوقف على بيان أمور :
«الأول» :
الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في ان حد التلقي
المنهي عنه أربعة فراسخ.
قال في المنتهى
: حد علماؤنا التلقي بأربعة فراسخ ، فكرهوا التلقي الى ذلك الحد ، فان زاد على ذلك
كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا. وهو ظاهر ، لانه بمضيه ، ورجوعه يكون مسافرا ،
ويجب عليه التقصير ، فيكون سفرا حقيقيا. الى ان قال : ولا نعرف بين علمائنا خلافا
فيه. انتهى.
أقول : ويدل
على التحديد بالأربعة كما ذكروه ما تقدم في رواية منهال القصاب وظاهره ان التلقي
المنهي عنه ، هو ما يكون فيما دون مسافة الأربعة ، بمعنى انه إذا بلغ الأربعة خرج
عن محل النهى ، فيحمل اسم الإشارة في كلام ابن ابى عمير على الرجوع الى ما دون
الأربعة.
وأظهر منه في
هذا المعنى ما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : وروى ان حد التلقي روحة ، فإذا صار
الى أربعة فراسخ فهو جلب. بمعنى انه متى قطع الأربعة ووصل على رأسها فهو جلب ،
لأنه حينئذ يصير سفرا برجوعه كما تقدم في كتاب الصلاة ، وبذلك يظهر ما في كلام
الأصحاب من المسامحة ، كما في عبارة العلامة المتقدمة ، حيث انه جعل كراهة التلقي
إلى حد تمام الأربعة ، وخص التجارة والجلب بما زاد عن الأربعة ، وعلله بأنه يكون
حينئذ مسافرا. وأنت خبير بأنه يكون مسافرا بالحصول على رأس الأربعة ، وان لم يزد
عليها.
والظاهر ان
منشأ التسامح هو ان الحصول على رأس الأربعة بلا زيادة ولا نقصان نادر.
ومن الاخبار في
ذلك : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب ، قال : قلت له : ما حد التلقي؟
قال : روحة .
وإجماله يعرف
من خبره المتقدم. وتفسير الروحة والغدوة بأربعة فراسخ ، لأن الغدوة من أول النهار
الى الزوال ، والروحة من الزوال الى الغروب وبياض اليوم ـ كما تقدم في كتاب الصلاة
ـ عبارة من ثمانية فراسخ فيكون كل نصف من النهار أربعة فراسخ.
«الثاني» : قد
صرح بعض الأصحاب بتقييد التحريم أو الكراهة هنا بقيود :
(منها) : ما
تقدم من تحديد التلقي ، وان ما زاد عليه ليس بتلق.
(ومنها) : كون
الخروج بقصد ذلك فلو خرج لا لذلك فاتفق الركب لم يحرم ولم يكره.
(ومنها) : تحقق
مسمى الخروج من البلد ، فلو تلقى الركب في أول وصوله البلد ، لم يثبت الحكم.
(ومنها) : جهل
الركب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه ، فلو علم بهما أو بأحدهما لم يثبت الحكم
فيه.
أقول : واليه
يشير التعليل في رواية عروة بن عبد الله المتقدمة ، بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : والمسلمون يرزق الله تعالى بعضهم من بعض.
(ومنها) : ان
يكون التلقي للبيع عليه أو الشراء منه ، فلو خرج لغيرهما من المقاصد ، ولو في بعض
المعاملات كالإجارة ، لم يثبت الحكم. وفي إلحاق الصلح ونحوه من عقود المغابنات
اشكال ، فيحتمل ذلك للعلة المذكورة ، والعدم اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر
المتيقن.
__________________
أقول : والظاهر
ان الأقرب الأول.
«الثالث» : لو
خالف وتلقى ، ثم اشترى منهم أو باع عليهم ، انعقد البيع ، وان قلنا بالتحريم. اما
لان النهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، وانما ذلك في العبادات على الوجه
المقرر فيها ، أو ان النهى وان اقتضى ذلك في المعاملات ، الا انه مخصوص بما إذا
تعلق بحقيقة البيع ، ويرجع الى البيع من حيث هو ، لا إلى أمر خارج كالبيع وقت
النداء يوم الجمعة. وقد تقدم منا تحقيق نفيس في ذلك.
وظاهر المنتهى
: اتفاق العلماء على الصحة. ونقل في ذلك من ابن الجنيد الخلاف في ذلك.
ثم انه مع
الحكم بصحة البيع ، فالمشهور انه لا خيار الا مع الغبن الفاحش. ونقل في المختلف عن
ابن إدريس انه قال : التلقي محرم ، والبيع صحيح ، ويتخير البائع.
والأقرب هو
القول المشهور ، لأن الأصل لزوم البيع ، قام الدليل على الخيار في الغبن الفاحش ،
وبقي ما عداه على الأصل.
ولعل ابن إدريس
استند هنا الى ما روى من طريق العامة ، عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال : لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا
اتى سيده السوق فهو بالخيار .
وأجاب عنه في
المنتهى بان المفهوم من جعل الخيار إذا اتى السوق ، انما هو لأجل معرفة الغبن
بالسوق ، ولولا ذلك لكان له الخيار من حين البيع.
(ومنها) الاحتكار
وهو افتعال من الحكرة ـ بالضم ـ وهو جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء.
وقد اختلف
الأصحاب أيضا في كراهته وتحريمه ، فنقل في المختلف عن
__________________
الصدوق في الهداية القول بالتحريم. قال : وبه قال ابن البراج. والظاهر من
كلام ابن إدريس. واختاره في المسالك.
وقال العلامة
في المنتهى ، والشيخ في المبسوط ، والمفيد في المقنعة : انه مكروه. وبه قال أبو
الصلاح في المكاسب من كتاب التلقي. وقال في فصل البيع : انه حرام. ثم استقرب في
المختلف الكراهة ، وهو اختيار المحقق في الشرائع أيضا.
واما الاخبار
الواردة في المقام ، فمنها : ما رواه في التهذيب عن السكوني عن ابى عبد الله عن
أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ورواه في الفقيه مرسلا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يحتكر الطعام الا خاطئ .
وما رواه في
الكافي عن حذيفة بن منصور عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : نفد الطعام على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله فأتاه المسلمون. فقالوا : يا رسول الله ، قد نفد الطعام
ولم يبق الشيء إلا عند فلان ، فمره ببيعه ، قال فحمد الله واثنى عليه ثم قال : يا
فلان ، ان المسلمين ذكروا ان الطعام قد نفد ، إلا شيئا عندك فأخرجه فبعه كيف شئت
ولا تحبسه .
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن ، عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يحتكر الطعام ، يتربص به هل يجوز
ذلك؟ فقال : ان كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس ، وان كان الطعام قليلا لا يسع
الناس فإنه يكره ان يحتكر الطعام ، ويترك الناس ليس لهم طعام! .
وعن ابن القداح
عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الجالب مرزوق والمحتكر ملعون. ورواه الصدوق مرسلا .
__________________
وعن السكوني عن
ابى عبد الله عليهالسلام قال : الحكرة في الخصب أربعون يوما ، وفي البلاء والشدة
ثلاثة أيام ، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون ، وما زاد في
العسرة على ثلاثة أيام فصاحبه ملعون . ورواه في الفقيه بإسناده عن السكوني وايضا روى في
الفقيه مرسلا ، قال : نهى أمير المؤمنين عليهالسلام عن الحكرة في الأمصار . وما رواه في التهذيب عن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة
عن جده عن على بن أبي طالب عليهالسلام انه قال : رفع الحديث الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، انه مر بالمحتكرين ، فأمر بحكرتهم الى ان تخرج الى
بطون الأسواق ، وحيث ينظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو قومت عليهم؟ فغضب حتى عرف الغضب في وجهه ، فقال :
انا أقوم عليهم! انما السعر الى الله تعالى يرفعه إذا شاء ، ويضعه إذا شاء .
وما رواه الشيخ
في كتاب المجالس بسنده فيه عن ابى مريم ، عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به
غلاء المسلمين ، ثم باعه فتصدق بثمنه ، لم يكن كفارة لما صنع .
وما رواه في
كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد (ع) عن أبيه عليهالسلام ان عليا عليهالسلام ، كان ينهى عن الحكرة في الأمصار. وقال : ليس الحكرة
إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن . وما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليهالسلام في كتابه إلى مالك الأشتر ، قال فيه : فامنع من
الاحتكار ، فان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا ، بموازين عدل ، واسعا
لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه ، فنكل وعاقب
في غير
__________________
إسراف .
وفي كتاب ورام
ابن أبي فراس ـ وهو جد السيد رضى الدين بن طاوس لامه ، وكان يثنى عليه ثناء زائدا
، ويعتمد كتابه ـ عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن جبرئيل ، قال : اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم
يغلى ، فقلت : يا مالك ، لمن هذا؟ فقال : لثلاثة : المحتكرين ، والمدمنين الخمر ،
والقوادين .
أقول : هذا ما
وقفت عليه من الاخبار في ذلك ، وكلها كما ترى ما بين صريح أو ظاهر في التحريم.
وليس فيها ما يمكن التعلق به للقول الأخر. إلا لفظ الكراهة في صحيحة الحلبي أو
حسنته. واستعماله في التحريم في الاخبار أكثر كثير ، كما تقدم في غير موضع من كتاب
الطهارة والصلاة. فالواجب : حمله على ذلك ، بقرينة جملة أخبار المسألة. ومنه يظهر
قوة القول بالتحريم.
ولا يخفى ان من
ذهب الى هذا القول ، فإنه لم يمعن نظره في الاخبار ، ولم يتتبعها حق التتبع الرافع
عن وجه الحكم المذكور غبار الاستتار ، كما هي عادتهم غالبا في سائر الأحكام ، كما
لا يخفى على من جاس خلال الديار.
فروع
: الأول : المفهوم من الاخبار ان الاحتكار انما هو في
الحنطة والشعير والتمر والزبيب والزيت والسمن ومنها : ما تقدم في حديث أبي البختري
المنقول عن قرب الاسناد ، وقد اشتمل على ما عدا الزيت. وما رواه في الخصال بسنده
عن السكوني عن جعفر بن محمد عليهماالسلام عن آبائه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الحكرة في ستة أشياء : في الحنطة والشعير والتمر
والزبيب والسمن والزيت. .
وروى المشايخ
الثلاثة عن غياث بن إبراهيم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال
__________________
ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وزاد في الفقيه ، والزيت.
ومما يدل على
دخول الزيت ايضا : ما في صحيحة الحلبي أو حسنته عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، وفيها : قال : وسألته عن الزيت؟ فقال : ان كان عند
غيرك فلا بأس بإمساكه.
والمشهور بين
الأصحاب : تخصيص الاحتكار بما عدا الزيت من الأشياء المذكورة في هذه الاخبار ، حتى
قال الشيخ في النهاية ـ بعد عدها ـ : ولا يكون الاحتكار في سوى هذه الأجناس. وتبعه
ابن إدريس وابن البراج والفاضلان وغيرهم.
وقال المفيد :
الحكرة احتباس الأطعمة. وأبو الصلاح : الغلات ، والصدوق في المقنع : الأشياء الستة
المذكورة في الخصال. وفي المبسوط : زاد على الخمسة المشهورة الملح. وتبعه ابن حمزة.
قال في المختلف
: بعد نقل هذه الأقوال : وأجود ما وصل إلينا في هذا الباب ما رواه غياث بن إبراهيم
في الموثق ، وساق الرواية المتقدمة. ثم قال : وحينئذ يبقى ما عداه على الأصل.
وأنت خبير بما
فيه ، حيث انه ناش عن قصور التتبع في الاخبار كما عرفت.
واما الملح فنقله
في النهاية والشرائع قولا في المسألة. وقد عرفت انه قول الشيخ في المبسوط. قال في
المسالك : هذا القول قوي.
أقول : والظاهر
ان وجه قوته عنده من حيث شدة الاحتياج اليه ، وتوقف أغلب المآكل عليه ، مع انه لم
يذكر في الاخبار الواردة في المسألة. ولعل السر في عدم ذكره ، ان الله تعالى لعلمه
بما فيه من مزيد الحاجة والاضطرار اليه جعله في كثرة الوجود والرخص قريبا من الماء
الذي لا قوام للأبدان والأديان إلا به ، فمن ثم لم يتعرضوا له في الاخبار.
الثاني
: حد الشيخ الحكرة في الرخص بأربعين يوما ، وفي الغلاء
والشدة
__________________
بثلاثة أيام ، عملا برواية السكوني المتقدمة . ويؤيدها ظاهر رواية كتاب المجالس .
والأشهر العدم
، لإطلاق الأخبار المتقدمة ، ومنها : صحيحة الحلبي أو حسنته. ورواية الحسين بن عبد الله بن ضمرة . وتقييد هذه الاخبار بالخبر المذكور ، كما هو القاعدة ،
وان أمكن ، الا ان الظاهر بعده من ظواهرها ، كما لا يخفى على المتأمل.
الثالث
: هل يشترط في
الاحتكار شراء الغلة؟ بمعنى ان يشتريها ويحسبها لذلك ، أو يشمل ما كان من غلته؟
نقل في ذلك عن العلامة الأول. قال : وفي حسنة الحلبي دلالة عليه.
أقول : الظاهر
انه أشار بها الى ما رواه المشايخ الثلاثة ، عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابى
عبد الله عليهالسلام ، قال : الحكرة ان يشترى طعاما ليس في المصر غيره
فيحتكره ، فان كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس ان يلتمس بسلعته الفضل ،. قال
: وسألته عن الزيت؟ فقال : إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه .
ويؤيده أيضا
رواية مجالس الشيخ المتقدمة .
ثم انه قال في
ذلك : والأقوى عموم التحريم مع استغنائه وحاجة الناس. أقول : أنت خبير بان القول
بالعموم ، مع اعترافه بدلالة الحسنة المذكورة على التخصيص بالمشتري لأجل ذلك ، لا
يخلو من الإشكال ، لأن القاعدة تقتضي تقييد
__________________
إطلاق ما عدا هذه الحسنة بها ، فيبقى القول بالعموم خاليا من الدليل ،
والقول بالعموم لا مستند له ، الا إطلاق سائر الاخبار ، ومتى قيد بهذه الرواية ،
عملا بالقاعدة المذكورة ، لم يبق للقول بالعموم مستند كما لا يخفى.
(الرابع) : لا
خلاف بين الأصحاب في ان الامام يجبر المحتكرين على البيع. وعليه تدل جملة من
الاخبار المتقدمة. واما انه هل يسعر عليهم أم لا؟ الظاهر : ان المشهور : هو
الثاني.
ونقل في
المنتهى عن المفيد وسلار. ان للإمام عليهالسلام ان يسعر عليهم. قال المفيد ـ على ما نقله في المختلف ـ :
وللسلطان ان يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر به أربابها
فيها.
وقال الشيخ :
لا يجوز للسلطان ان يجبر على سعر بعينه ، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى. وبه قال
ابن البراج وابن إدريس. والظاهر انه هو المشهور بين المتأخرين.
وقال ابن حمزة
: لا يسعر إلا إذا شدد. وان خالف وأخذ في السعر بزيادة أو نقصان لم يتعرض عليه.
واختار هذا القول في المختلف. واليه يميل كلام المسالك. وهو جيد.
لنا على عدم
التسعير عليه. ما تقدم في حديث الحسين بن عبد الله بن ضمرة. وما رواه في الفقيه
مرسلا ، قال : قيل للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو سعرت لنا سعرا. فإن الأسعار تزيد وتنقص! فقال : ما
كنت لا لقي الله تعالى ببدعة لم يحدث الى فيها شيئا. فدعوا عباد الله تعالى يأكل
بعضهم من بعض ، فإذا استنصحتم فانصحوا .
ويؤيده ما ورد
في جملة من الاخبار : ان الله عزوجل وكل بالأسعار ملكا يدبرها . وفي بعضها : فلن يغلو من قلة ولن يرخص من كثرة . وفي آخر : علامة
__________________
رضا الله تعالى في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم ، وعلامة غضب الله تعالى
على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم .
ولنا على
التسعير عليه إذا شدد حديث «لا ضرر ولا ضرار» .
قال في المسالك
ـ بعد اختيار القول المشهور ، وهو انه لا يسعر عليه ـ : وهو أظهر إلا مع الإجحاف ،
فيؤمر بالنزول عنه الى حد ينتفي الإجحاف. والا لانتفت فائدة الإجبار ، إذ لا يجوز
ان يطلب في ماله مالا يقدر على بذله ، أو يضر بحال الناس ، والغرض دفع الضرر
انتهى. وهو جيد ، ومرجعه الى ما ذكرنا من الخبر ، وبه يخصص إطلاق الاخبار
المتقدمة.
ويحتمل العمل
بإطلاق تلك الأخبار ، مؤيدا ب خبر «الناس مسلطون على أموالهم» . وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح عن عبد الله بن
سنان عن ابى عبد الله عليهالسلام ، انه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا في البيع ، على
ان لا يبيعوا بيعهم الا بما أحبوا. قال : لا بأس بذلك .
وأظهر من ذلك تأييدا
: قوله عليهالسلام في حديث حذيفة بن منصور المتقدم : وبعه كيف شئت .
(الخامس)
: لا يخفى ان جملة من الاخبار المتقدمة ، وان كانت مطلقة
في النهي عن الاحتكار ، الا ان جملة منها قد قيدت ذلك بما إذا لم يكن في البلد
طعام غيره ، فلو كان كذلك لم يدخل تحت النهى ، وان سمى احتكارا ، كما تقدم.
__________________
ومن الاخبار
المقيدة ما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنة الاولى. وكذا ما في الثانية المذكورة في الفرع الثالث.
ونحوهما ما
رواه المشايخ الثلاثة عن ابى الفضل سالم الحناط في الصحيح ، قال : قال أبو عبد
الله عليهالسلام : ما عملك؟ قلت : حناط ، وربما قدمت على نفاق ، وربما قدمت
على كساد ، فحبست. قال : فما يقول من قبلك فيه؟ قلت : يقولون : محتكر! قال : يبيعه
أحد غيرك؟ قلت ما أبيع انا من ألف ألف جزء جزء. قال : لا بأس ، انما كان ذلك رجل
من قريش ، يقال له : حكيم بن حزام ، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله ، فمر
عليه النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فقال : يا حكيم بن حزام ، إياك ان تحتكر .
__________________
المقدمة الثالثة
فيما يكتسب به
ويحسن هنا
تقديم خبر في المقام ، قد اشتمل على قواعد كلية في هذه الأحكام ، قل من تعرض اليه
من علمائنا الاعلام ، وان طال به زمام الكلام ، فإنه من أهم المهام.
روى الحسن بن
على بن شعبة في تحف العقول عن مولانا الصادق عليهالسلام ، انه سئل من معايش العباد ، فقال : جميع المعايش كلها
من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب ، اربع جهات.
ويكون منها
حلال من جهة وحرام من جهة ، فأول هذه الجهات الأربع الولاية ، ثم التجارة ، ثم
الصناعات ، تكون حلالا من جهة حراما من جهة ، ثم الإجارات.
والفرض من الله
تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال ، والعمل بذلك الحلال
منها ، واجتناب جهات الحرام منها.
فإحدى الجهتين
من الولاية : ولاية ولاة العدل الذين أمر الله تعالى بولايتهم على الناس. والجهة
الأخرى ولاية ولاة الجور.
فوجه الحلال من
الولاية : ولاية الوالي العدل ، وولاية ولاته بجهة ما أمر به
الوالي العادل ، بلا زيادة ولا نقصان ، فالولاية له ، والعمل معه ، ومعونته
، وتقويته حلال محلل.
واما وجه
الحرام من الولاية ، فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، والعمل لهم ، والكسب
معهم ، لجهة الولاية لهم ، حرام محرم معذب فاعل ذلك ، على قليل من فعله أو كثير ،
لان كل شيء من جهة المعونة له ، معصية كبيرة من الكبائر ، وذلك انه في ولاية
الوالي الجائر وهن الحق كله ، فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم ،
إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة.
واما تفسير
التجارات في جميع البيوع ، ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع ان يبيع
مما لا يجوز له ، وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز له ، فكل مأمور به
مما هو غذاء للعباد وقوامهم به ، في أمورهم في وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم غيره
، مما يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون في جميع المنافع ، التي
لا يقيمهم غيرها ، وكل شيء يكون فيه الصلاح ، من جهة من الجهات ، فهذا كله حلال
بيعه وشراؤه ، وإمساكه واستعماله ، وهبته وعاريته.
واما وجوه
الحرام من البيع والشراء ، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة اكله
وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته ، أو شيء يكون فيه
وجه من وجوه الفساد ، نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير ،
أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير أو الخمر ، أو شيء من وجوه النجس ،
فهذا كله حرام ومحرم ، لان ذلك منهي عن اكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب
فيه ، فجميع تقلبه في ذلك حرام.
وكذلك كل بيع
ملهو به ، وكل منهي عنه ، ما يتقرب به لغير الله تعالى ، أو يقوى به الكفر والشرك
، من جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به الحق ، فهو حرام محرم بيعه وشراؤه
وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه الا في حال
تدعو الضرورة فيه الى ذلك.
واما تفسير
الإجارات ، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره ، من قرابته أو دابته أو
ثوبه لوجه الحلال من جهات الإجارات ، أو يوجر نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه
فيما ينتفع به ، من وجوه المنافع ، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه أو أجيره ، من
غير ان يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي ، فلا بأس ان يكون أجيرا يوجر نفسه أو
ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته ، لأنهم وكلاء الأجير من عنده ، ليس هم
بولاة الوالي ، نظير الحمال يحمل شيئا بشيء معلوم ، فيجعل ذلك الشيء الذي يجوز
له حمله ، بنفسه أو بملكه أو دابته ، أو يوجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه ،
حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة ، كافرا أو مؤمنا ، فحلال إجارته ، وحلال كسبه
، من هذه الوجوه.
فاما وجوه
الحرام من وجوه الإجارة ، نظير ان يوجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه ، أو لبسه
، أو يواجر نفسه في هدم المساجد ضرارا ، وقتل النفس بغير حل ، أو عمل التصاوير ،
والأصنام ، والمزامير ، والبرابط ، والخمر ، والخنازير ، والميتة ، والدم ، أو شيء
من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه ، من غير جهة الإجارة فيه ، وكل أمر نهى عنه
من جهة من الجهات ، فمحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه ، أوله ، أو شيء فيه ، أوله
، إلا لمنفعة من استأجره ، كالذي يستأجر له الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه
أو أذى غيره ، وما أشبه ذلك ـ الى ان قال ـ : وكل من آجر نفسه أو آجر ما يملكه أو
يلي أمره ، من كافر أو مؤمن ، ملك أو سوقة ، على ما قررناه ، مما تجوز الإجارة فيه
، فحلال محلل فعله وكسبه.
واما تفسير
الصناعات ، فكلما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم ، من أصناف الصناعات ، مثل الكتابة
والحساب والنجارة والصياغة والسراجة والبناء والحياكة والقصارة والخياطة وصنعة
صنوف التصاوير ، مما لم يكن مثل الروحاني ، وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها
العباد ، منها منافعهم ، وبها قوامهم ، وفيها بلغة جميع حوائجهم ،
فحلال تعلمه وتعليمه والعمل به لنفسه ولغيره ، وان كانت تلك الصناعة وتلك
الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد ووجوه المعاصي ، وتكون معونة على الحق
والباطل ، فلا بأس بصناعته وتعليمه ، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد
، وتقوية ومعونة لولاة الجور ، وكذلك السكين والسيف والرمح والجوشن وغير ذلك من
وجوه الإله التي تصرف الى وجوه الصلاح والفساد ، وتكون آلة ومعونة عليهما ، فلا بأس
بتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه والعمل به وفيه ، لمن كان له فيه جهات الصلاح من
جميع الخلائق ، ومحرم عليهم فيه تصريفه الى جهات الفساد والمضار ، فليس على العالم
والمتعلم اثم ولا وزر ، لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم وقوامهم وبقائهم
، وانما الإثم والوزر على المتصرف بها في وجوه الفساد والحرام.
وذلك انما حرم
الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيء منها الفساد محضا ، نظير البرابط
والمزامير والشطرنج ، وكل ملهو به ، والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك ، من صناعات
الأشربة الحرام ، وما يكون منه وفيه الفساد محضا ، ولا يكون منه ولا فيه شيء من
وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلمه ، والعمل به وأخذ الأجرة عليه ، وجميع التقلب
فيه ، من جميع وجوه الحركات ، الا ان تكون صناعة قد تصرف الى جهات المنافع ، وان
كان قد يتصرف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصي ، فلعلة ما فيه من الصلاح حل
تعلمه والعمل به ، ويحرم على من صرفه الى غير وجه الحق والصلاح.
فهذا بيان وجه
اكتساب معايش العباد وتعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث .
ورواه المرتضى
عليه الرحمة في رسالة «المحكم والمتشابه».
وانما نقلناه
بطوله لجودة مدلوله ومحصوله ، ومنه يستنبط جملة من الأحكام التي وقع فيها الاشكال
بين جملة من علمائنا الاعلام ، مثل الاستيجار على
__________________
الصلاة ، كما توقف فيه بعض محدثي متأخري المتأخرين ، ومثل التتن والقهوة
ونحو ذلك ، فإنه ظاهر في جواز الأول وحل الثاني ، وسيأتي الإشارة أيضا إنشاء الله
تعالى إلى جملة من الفوائد التي اشتمل عليها في مواضعها اللائق بها.
ويؤيد الخبر
المذكور ما ذكره الرضا عليهالسلام في كتاب «الفقه» حيث قال : اعلم يرحمك الله تعالى ان كل
مأمور به على العباد ، وقوام لهم في أمورهم ، من وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم
غيره ، مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويملكون ويستعملون فهذا كله حلال بيعه وشراؤه
وهبته وعاريته ، وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهى عنه ، من جهة أكله وشربه
ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد ، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع
الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك ، فحرام ضار للجسم وفساد للنفس . انتهى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : ان ما يكتسب به ينقسم الى محرم ، ومكروه ، ومباح. فهاهنا بحوث ثلاثة.
الأول ، في
المحرم. وهو أنواع. فمنه : الأعيان النجسة. ومنه : ما لا ينتفع به ، كالمسوخ برية
أو بحرية. والسباع. ومنه : ما هو محرم في نفسه ، كعمل الصور المجسمة ، والغناء ،
ومعونة الظالمين ونحوه. مما سيأتي إنشاء الله تعالى. ومنه : ما يحرم لتحريم ما
يقصد به ، كآلات اللهو. ونحوها مما سيأتي ، إنشاء الله. ومنه الأجرة على ما يجب
فعله على الإنسان مما سيأتي إنشاء الله فهاهنا مقامات :
الأول في
الأعيان النجسة ، وفيه مسئلتان.
الأولى : يحرم
بيع الأعيان ، كالعذرة من غير مأكول اللحم والبول منه ايضا ، والدم ، والميتة ،
والخنزير ، والكلب ، على تفصيل فيه يأتي إنشاء الله تعالى ، والخمر بجميع أنواعه
حتى الفقاع ، ونحو ذلك.
ومن الاخبار
الواردة في المقام ما رواه في التهذيب عن سماعة قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وانا حاضر ، فقال : انى رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال
: حرام بيعها
__________________
وثمنها. وقال : لا بأس ببيع العذرة .
وعن يعقوب بن
شعيب عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : ثمن العذرة من السحت .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن محمد بن مضارب عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : لا بأس ببيع العذرة .
وما رواه في
الفقيه عن ابى بصير قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن كلب الصيد ، فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا
يحل ثمنه. وقال أجر الزانية سحت ، وثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت ، وأجر
الكاهن سحت ، وثمن الخمر سحت ، وثمن الميتة سحت ، فاما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله
العظيم .
وما رواه في
الكافي عن السكوني عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ،
ومهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وأجر الكاهن .
وعن عمار بن
مروان ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الغلول ، فقال : كل شيء غل من الامام فهو سحت ، الى
ان قال : والسحت أنواع كثيرة ، منها : أجر الفواجر ، وثمن الخمر ، والنبيذ المسكر
، والربا بعد البينة ، واما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه
وبرسوله . الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام.
__________________
والكلام يقع
فيها في مواضع.
(الأول) : انه
لا يخفى ان ما ذكرناه من الاخبار ، وان كان انما اشتمل على بعض جزئيات ما ذكرناه
من الأمر الكلي ، الا ان الخبر الذي قدمناه في صدر المقدمة ، قد دل على ذلك حسبما
عنونا به الكلام في هذا المقام.
ونقل في
المنتهى إجماع المسلمين كافة على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير. قال : قال
الله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد : تحريم الأعيان ووجوه الاستمتاع.
وأنت خبير بأنه
قد روى في التهذيب عن ابى القاسم الصيقل ، وولده ، قال : كتبوا الى الرجل عليهالسلام : جعلنا الله تعالى فداك ، انا قوم نعمل السيوف ، وليست
لنا معيشة ولا تجارة غيرها ، ونحن مضطرون إليها ، وانما علاجنا من جلود الميتة من
البغال والحمير الأهلية ، لا يجوز في أعمالنا غيرها ، فيحل لنا عملها وشراؤها
وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ، ونحن نصلي في ثيابنا ، ونحن محتاجون الى جوابك في
المسألة يا سيدنا ، لضرورتنا. فكتب عليهالسلام : اجعلوا ثوبا للصلاة . ونحوه حديث آخر ـ ايضا ـ بهذا المعنى ، قد تقدم في
كتاب الطهارة .
والخبر ان
المذكوران ظاهران في خلاف ما دلت عليه الاخبار المتقدمة ، من عدم جواز بيع الميتة
، وان ثمنها من السحت ، وانه لا يجوز العمل بها.
ويؤيد هذين
الخبرين ـ ايضا ـ ما ورد في حسنتي الحلبي أو صحيحته ، من جواز بيع اللحم المختلط
ذكية بميتة ممن يستحل الميتة . وسيأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ، والمسألة محل
الإشكال.
(الثاني) : ظاهر
الروايات المتقدمة في العذرة ، الاختلاف في حكم بيعها ،
__________________
حلا وحرمة.
والشيخ رضى
الله عنه قد جمع بينها ، بحمل ما دل على التحريم ، على عذرة الإنسان ، وما دل على
الجواز ، على عذرة البهائم.
واحتمل في
الذخيرة حمل الأول على الكراهة ، والثاني على الجواز ، قال : لكني لا اعلم به
قائلا.
وقد عرفت ما في
هذا الحمل ، في غير موضع مما تقدم ، لا سيما في كتابي الطهارة والصلاة ، فإن
الخبرين الدالين على التحريم ، صريحان في ذلك ، وإخراجهما عن صريحهما يحتاج إلى
قرينة واضحة ، ووجود ما ظاهره المعارضة ليس من قرائن المجاز ، مع ان الكراهة حكم
شرعي ، يتوقف على الدليل الواضح ، واختلاف الاخبار لا يصلح ان يكون دليلا على ذلك
، لا سيما مع وجود محمل صحيح آخر تجتمع عليه الاخبار.
وقال شيخنا
المجلسي ـ رحمهالله عليه ـ في حواشيه على كتب الاخبار : يمكن حمل عدم
الجواز على بلاد ينتفع بها والجواز على غيرها ، أو الكراهة الشديدة والجواز ، أو
التقية في الحرمة ، فإن أكثرهم على الحرمة ، بأن يكون قد أجاب المسائل علانية ، ثم
رأى غفلة منهم ، فأفتى بعدم البأس ، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه انتهى.
أقول : لا يخفى
ما فيه من التكلف البعيد ، والعمل على ما ذكره الشيخ والأصحاب ، فإنه الحمل
السديد.
نعم يبقى
الكلام في عذرة غير الإنسان مما لا يؤكل لحمه. والظاهر : أنه لا مستند لهم في
تحريم بيعها ، إلا الإجماع المدعى في المقام ، ويشكل بأن الشيخ في الاستبصار احتمل
حمل العذرة في خبر الجواز على ما عدا عذرة الإنسان مطلقا ، وهو يؤذن بجواز بيع
عذرة ما لا يؤكل لحمه.
قال في الذخيرة
: وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ في الاستبصار ، يقتضي جواز
بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه من غير الإنسان ، وادعاء الاتفاق على خلافه كما
اتفق لصاحب المسالك ، محل اشكال. وبالجملة ان ثبت إجماع في تحريم بيع شيء من
العذرات ، فذلك ، والا كان الجواز متجها فيما ينتفع به انتهى.
أقول : لا يخفى
ان ما ذكره الشيخ في كتابي الاخبار في مقام الجمع من الاحتمالات ، لا يوجب ان يكون
ذلك مذهبا له ، لينا في دعوى الإجماع في المقام ، ولو جعلت تلك الاحتمالات مذاهب
له لم تنحصر مذاهبه في عد ، ولم تنته الى حد ، فالتحقيق : ان المستند في تحريم بيع
عذرة ما عدا الإنسان من غير مأكول اللحم ، انما هو ما قدمناه من خبر تحف العقول
صريحا ، وخبر الفقه الرضوي ظاهرا ، لعده في الأول ما كان من افراد النجس في
المحرمات ، ودلالة الثاني عليه بقوله «وما أشبه ذلك» كما لا يخفى على المتأمل في
سياق الخبر. وبذلك يظهر ما في قوله : وبالجملة ان ثبت إجماع. إلخ.
(الثالث) : قد
اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أرواث وأبوال ما يؤكل لحمه ، فذهب جماعة
إلى جوازه مطلقا ، نظرا إلى أنها عين طاهرة ينتفع بها ، وهو المنقول عن المرتضى ـ رضياللهعنه ـ ومن تبعه. وادعى عليه الإجماع. وبه قال ابن إدريس
والعلامة في المنتهى وغيره. والظاهر انه المشهور.
وآخرون الى
المنع من بيع العذرات والأبوال كلها ، لاستخباثها إلا أبوال الإبل ، للاستشفاء بها
، وللنص عليها .
ونقله في
المختلف عن المفيد ، حيث قال : قال المفيد : وبيع العذرة والأبوال كلها حرام ، الا
بول الإبل خاصة. ثم قال : وكذا قال سلار.
وقال في
المسالك ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : والأول أقوى ، خصوصا في العذرات ،
للانتفاع بها في الزرع وغيره نفعا بينا مع طهارتها ، واما الأبوال فكذلك ، ان فرض
لها نفع مقصود ، والا فلا. انتهى.
__________________
ونقل جملة من
المتأخرين عن الشيخ في النهاية تحريم جميع الأبوال وان كانت مما يؤكل لحمه ، الا
بول الإبل للاستشفاء. وعبارته هنا لا تخلو من الإشكال ، فإنه قال : جميع النجاسات
يحرم التصرف فيها ، والتكسب بها ، على اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة
والأبوال وغيرهما ، الا بول الإبل للاستشفاء به عند الضرورة. انتهى.
وهذا الكلام
بالنظر الى صدره يقتضي صرف الأبوال التي عدها ، الى أبوال ما لا يؤكل لحمه كالعذرة
، فان غيرها ليس بنجس ، وبالنظر الى استثناء بول الإبل ، صرف الأبوال الى الأبوال
مطلقا وان كانت مما لا يؤكل لحمه ، وبالجملة فكلامه هنا مشتبه كما ترى.
وقال سلار :
يحرم بيع الأبوال إلا بيع أبوال الإبل خاصة ، وهو قول المفيد ، كذا نقله في
المختلف. وهو مؤذن بالمنع من بيع ما يؤكله لحمه الا ما استثنى. والظاهر عندي هو ما
ذكره في المسالك من الجواز متى كان لها منافع تترتب عليها ، لعموم خبري تحف العقول
والفقه الرضوي .
أقول :
والأصحاب في هذا المقام لم يذكروا من الأبوال التي دلت النصوص على جواز شربها ، من
مأكول اللحم إلا أبوال الإبل خاصة ، مع انه قد وردت الرخصة أيضا في بول البقر
والغنم ، كما رواه الشيخ في الموثق ، عن عمار الساباطي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، انه سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال : ان كان محتاجا
اليه يتداوى به يشربه ، وكذلك بول الإبل والغنم .
وما رواه سماعة
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر
__________________
والغنم ، ينعت له من الوجع ، هل يجوز له ان يشرب؟ قال : نعم لا بأس به .
ومما يدل على
بول الإبل زيادة على الخبرين المذكورين ، ما رواه في الكافي بسنده عن موسى بن عبد
الله بن الحسن ، قال : سمعت أشياخنا يقولون : البان اللقاح شفاء من كل داء وعاهة
ولصاحب الربو أبوالها .
ونقل في
الوسائل في هذا الباب ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن السندي بن محمد
عن أبي البختري ، عن جعفر عن أبيه ، ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا بأس ببول ما أكل لحمه .
وأنت خبير بما
فيه من الإجمال ، لاحتمال كون نفى البأس باعتبار الطهارة ، لا باعتبار حل الشرب.
(الرابع) : ما
اشتملت عليه الاخبار المتقدمة من تحريم الميتة ، وان ثمنها سحت ، المراد به ما
ينجس بالموت مما له نفس سائلة ، فيشمل ما قطع من جسده ، حيا كان أو ميتا. واما تخصيص
صاحب المسالك ومثله صاحب المعالم ذلك بجسد الميت دون الاجزاء ، فهو ضعيف ، وقد
تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة ، في بحث النجاسات وقد أوردنا جملة من
الاخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه.
وظاهر الاخبار
وكلام الأصحاب ، ان الطهارة والنجاسة دائرتان مدار حلول الحياة وعدمه ، فكل ما
تحله الحياة يكون نجسا ، ويكون الانتفاع به محرما وثمنه سحتا ، بمقتضى الأخبار
المتقدمة ، الا انه قد وقع الإشكال في ذلك في جلد الميتة ، باعتبار دلالة ما تقدم
من الاخبار ، في الموضع الأول على جواز الانتفاع به ، وظاهر الصدوق في الفقيه
طهارته ، لما رآه فيه من جواز جعل اللبن والسمن فيه ، وكذا
__________________
الماء. واليه يميل كلام صاحبي المدارك والمعالم ، وهو أشد إشكالا. وقد تقدم
لبحث معهم في ذلك في كتاب الطهارة وبينا حمل ما دل على ذلك على التقية.
والمشهور في
كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من أليات الغنم ، بناء على ما ذكرناه من
انها ميتة ، والميتة لا ينتفع بشيء منها مما تحله الحياة.
ونقل الشهيد عن
العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ، ثم قال : وهو ضعيف ، الا انه روى ابن
إدريس في السرائر عن جامع البزنطي ، عن الرضا عليهالسلام قال : سألته عن رجل يكون له الغنم ، يقطع من ألياتها
وهي أحياء ، أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟ قال : نعم ، يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها
ولا يبيعها .
وروى هذه
الرواية أيضا الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن
أخيه موسى عليهالسلام مثله . والرواية المذكورة كما ترى ظاهرة الدلالة في القول
المذكور.
وظاهر شيخنا
المجلسي ـ رحمهالله عليه ـ في البحار : الميل الى العمل بهذه الرواية ، حيث
قال ـ بعد نقل الخلاف في هذه المسألة ـ : والجواز عندي أقوى ، لدلالة الخبر الصحيح
المؤيد بالأصل على الجواز ، وضعف حجة المانع ، إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم
أكلها ، كما حقق في موضعه ، والإجماع ممنوع انتهى.
وفيه : انه ـ وان
كان المتبادر من الآية ، وهي قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ» انما هو تحريم الأكل كما ذكره ـ الا ان الدليل ليس
منحصرا فيها بل الدليل على ذلك : انما هو الاخبار الصريحة في ان الميتة لا ينتفع بشيء
منها.
ومن تلك
الاخبار ما هو في خصوص موضع البحث ، وها أنا أورد لك ما حضرني الان منها ، فمنها :
ما رواه في الكافي عن الحسن بن على الوشاء ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام فقلت : جعلت فداك ، ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات
الغنم ، فيقطعونها. فقال : حرام هي. فقلت : جعلت فداك ، فنصطبح بها؟ فقال : أما
عملت انه يصيب اليد والثوب ،
__________________
وهو حرام . وقوله : وهو حرام اى نجس.
وعن الكاهلي
قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام ، وانا عنده عن قطع أليات الغنم ، فقال : لا بأس بقطعها
إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال : ان في كتاب على عليهالسلام : ان ما قطع منها ميت لا ينتفع به .
ومنها : ما في صحيح
على بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال لا. الحديث . ومن المحتمل قريبا في الحديث المذكور خروجه مخرج
التقية ، كما انهم ذهبوا الى طهارة جلد الميتة بالدباغ ، حسبما قدمنا تحقيقه في
كتاب الطهارة.
وابن إدريس ـ في
السرائر ـ لما أورد خبر البزنطي المذكور ، قال : لا يلتفت الى هذا الحديث ، فإنه
من نوادر الاخبار ، والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا
أكلها للمضطر. انتهى.
واما ما لا
تحله الحياة منها فهو طاهر يجوز الانتفاع به ويحل بيعه وشراؤه اتفاقا ، نصا وفتوى
، الا اللبن في ضرع الشاة الميتة ، فقد اختلف الأصحاب فيه طهارة ونجاسة ، فالمشهور
: انه كغيره مما لا تحله الحياة ، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في كتاب الطهارة.
(الخامس) : لا
خلاف بين الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في جواز بيع كلب الصيد وعدم جواز بيع ما عداه
، وعدا كلب الماشية والزرع والحائط ، وانما الخلاف في هذه الثلاثة ، فقال الشيخ في
النهاية : ثمن الكلب سحت إلا إذا كان سلوقيا للصيد ، فإنه يجوز بيعه وشراؤه وأكل
ثمنه والتكسب به ، وكذا قال المفيد.
وقال في
المبسوط : الكلاب ضربان ، أحدهما لا يجوز بيعه بحال ، والأخر
__________________
يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه : ما كان معلما للصيد ، وروى ان كلب الماشية
والحائط مثل ذلك ، وما عدا ذلك كله لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به.
وقال في الخلاف
: يجوز بيع كلاب الصيد ، ويجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلمة ، ولا يجوز بيع
غير الكلب المعلم على حال.
قال في المنتهى
ـ بعد نقل عبارة الشيخ في النهاية وكذا الشيخ المفيد ـ عطر الله مرقديهما ـ : وعنى
بالسلوقي كلب الصيد ، لان سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلمة فنسب الكلب إليها
انتهى. ومنه يظهر مراد الشيخ بهذه العبارة ، وانها خرجت مخرج التجوز والكناية عن
كلب الصيد ، لا تخصيص الحكم بما كان من كلاب تلك القرية ، وبنحو ما عبر به الشيخ
وقع التعبير في الاخبار ايضا ، كما في جملة منها «دية الكلب السلوقي أربعون درهما».
والمراد كلب الصيد ، سواء كان من هذه القرية أو من غيرها.
وقال ابن
الجنيد : ولا بأس بشراء الكلب الصائد والحارس للماشية والزرع.
وقال ابن
البراج : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب.
وقال ابن إدريس
: يجوز بيع كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا وهو المنسوب الى «سلوق» قرية باليمن ، أو
غير سلوقى. وكلب الزرع والماشية. وكلب الحائط وبه قال ابن حمزة.
قال في المختلف
: وهو الأقرب عندي. ونحو ذلك في المنتهى ايضا. واختاره في المسالك ايضا.
وألحق بكلب
الحائط كلب الدار ايضا. وتردد المحقق في الشرائع ، ثم قال : والأشبه المنع.
ونقل في
المنتهى عن الشيخ في باب الإجارة من المبسوط : انه سوغ بيعها ، وحينئذ فيكون كلامه
في الكتاب المذكور مختلفا.
أقول : والذي
وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بالكلب في هذا الباب ، متفق
الدلالة ، متعاضد المقالة : على تخصيص الجواز بكلب الصيد خاصة ، وان ما
عداه ثمنه سحت. ومنها رواية أبي بصير المتقدمة.
ومنها ما رواه في
الكافي عن عبد الله العامري ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد ، فقال : سحت. قال : واما
الصيود فلا بأس .
ومنها : ما
رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد
الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت ، وقال : لا بأس
بثمن الهر .
وعن ابى بصير ،
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن كلب الصيد؟ فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا يحل
ثمنه .
وهذه الاخبار
كلها ـ كما ترى ـ متفقة على ما ذكرناه من ان ما عدا كلب الصيد ، فإنه لا يجوز بيعه
ولا شراؤه ، ولم أقف على خبر يتضمن استثناء غيره ، سوى ما في عبارة المبسوط من
قوله «وروى ان كلب الماشية والحائط مثل ذلك». وفي الاعتماد على مثل هذه الرواية في
تخصيص هذه الاخبار إشكال.
وأصحابنا
القائلون باستثناء الثلاثة المذكورة ، انما استندوا إلى مشاركة هذه الثلاثة لكلب
الصيد في المنفعة التي يترتب عليها استثناؤه ، وهو من حيث العقل قريب. الا ان
ظواهر النصوص المذكورة ـ كما ترى ـ تدفعه.
قال في المسالك
: والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها كلب الصيد في المعنى المسوغ لبيعه ،
ودليل المنع ضعيف السند وقاصر الدلالة.
وفيه : انه
يجوز ان يكون المسوغ ـ شرعا ـ انما هو هذه المنفعة الخاصة بكلب الصيد ، فمن ثم
اقتصروا ـ عليهمالسلام ـ في هذه الاخبار عليها ، لا كل منفعة.
__________________
واما الطعن في الاخبار بضعف السند ، فقد عرفت ان فيها الصحيح باصطلاحهم ،
وهي صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن المذكورة. واما الطعن بقصور الدلالة ، فهو
ضعيف إذ لا أصرح في الدلالة على التحريم من هذه الألفاظ الواردة في هذه الاخبار ،
من قولهم في جملة منها : «ان ثمنه سحت». وقوله في رواية أبي بصير : «والأخر لا يحل
ثمنه».
واستدل العلامة
في المنتهى على إباحة الثلاثة الباقية ـ زيادة على ما تقدم ـ بان لها دية وقيمة لو
أتلفت ـ على ما يأتي إنشاء الله ـ والدية تستلزم التملك المستلزم لجواز التصرف.
وفيه : ما ذكره
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : وربما فهم بعضهم من ثبوت دياتها جواز
بيعها ، نظرا إلى أنها أموال محترمة كما في الحيوانات. وفيه : منع ظاهر ، فان ثبوت
الديات لها ربما دل على عدم جواز بيعها ، التفاتا الى أن ذلك في مقابلة القيمة ،
فإنك تجد كل ماله دية لا قيمة له ، كما في الحر. وماله قيمة لا دية له ، كما في
الحيوان المملوك غير الأدمي انتهى ، وهو جيد.
وبالجملة
فالظاهر هو الاقتصار على ما دلت عليه الاخبار المذكورة والله العالم.
(السادس) : ظاهر
المشهور بين الأصحاب : انه لا بأس ببيع الهرة وحل ثمنها ، وعليه تدل صحيحة محمد بن
مسلم وعبد الرحمن المتقدمة .
قال في المسالك
: واما الهرة فنسب جواز بيعها في التذكرة إلى علمائنا وهو يعطى الاتفاق عليها
انتهى.
ونقل في
المختلف عن ابن البراج : انه قال : من باع هرة فليتصدق بثمنها ، ولا يتصرف فيه في
غير ذلك ، ثم قال : والوجه عدم وجوب ذلك. لنا انها مملوكة فكان الثمن ملكه كغيرها.
انتهى وهو جيد ، للصحيح المذكور.
__________________
المسألة الثانية
لا يحل بيع
المائع النجس نجاسة عارضة ، لنجاسته المانعة من جواز الانتفاع به.
على المشهور
بين الأصحاب ، عدا الدهن للاستصباح ، لورود الاخبار به.
وهو مبنى على
عدم قبول تلك المائعات للتطهير ، كما هو الأشهر الأظهر ، واما على القول بقبولها
للطهارة فإنه يجوز بيعها مع الاعلام.
قال : في
المسالك ـ بعد قول المصنف بتحريم كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها
تحت السماء ـ ما لفظه : بناء على ان المائعات النجسة لا تقبل التطهير بالماء ،
فإنه أصح القولين. ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الاعلام بحالها ، ولا
فرق في عدم جواز بيعها ـ على القول بعدم قبولها للطهارة ـ بين صلاحيتها للانتفاع
على بعض الوجوه وعدمها ، ولا بين الاعلام وعدمه ، على ما نص عليه الأصحاب وغيرهم
انتهى.
أقول : وقد
تقدم البحث في قبولها الطهارة وعدمه في كتاب الطهارة ، وبينا : ان الظاهر هو العدم
بالنسبة إلى الدهن ، واما غيره فإنه لا يقبل الطهارة إلا باضمحلاله
في الماء ، على وجه يخرج عن حقيقته وماهيته ، وهذا لا يسمى في الحقيقة تطهيرا.
وظاهر الكفاية
: المناقشة في الحكم المذكور ، حيث قال : والمعروف ان المائعات التي لا تقبل
التطهير لا يجوز بيعها سوى الأدهان لفائدة الاستصباح. ونقل في المنتهى الإجماع
عليه ، ولا حجة لذلك سواه ـ ان تم ـ وعموم الأدلة مع حصول الانتفاع بها يقتضي
الجواز ، انتهى وهو جيد.
واما بيع
الأدهان لفائدة الاستصباح فظاهر الأصحاب : الاتفاق عليه ، وعليه تدل الاخبار
الاتية ، وظاهره ايضا الاتفاق على تخصيص ذلك بالدهن المتنجس ، دون ما كان نجسا من
أصله كالاليات المقطوعة من الغنم.
قال في المسالك
ـ بعد نقل الخلاف في تخصيص الاستصباح بكونه تحت السماء أو عمومه ـ ما لفظه : وموضع
الخلاف ما إذا كان الدهن متنجسا بالعرض ، فلو كان نفسه نجسا كالاليات الميتة
والمبانة من حي ، لا يصح الانتفاع به مطلقا ، لإطلاق النهي عن استعمال الميتة.
ونقل عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء وهو ضعيف ، انتهى.
أقول : وقد
تقدم من الاخبار ما يدل على كلام العلامة المذكور هنا ، واختيار شيخنا المجلسي.
وهو ايضا ظاهر صاحب الكفاية ، حيث نقل الروايتين المتقدمتين الدالتين على ذلك ،
بعد ان تنظر فيما ذكره في المسالك ، وأيدهما بحسنتي الحلبي الواردتين في قطع اللحم المختلط ذكية بميتة ، وصحيحة
حفص بن البختري في العجين بالماء النجس.
أقول ويؤيده
أيضا روايتا الصيقل المتقدمتان في الموضع الأول.
__________________
والمسألة لذلك قوية الإشكال ، لتعارض هذه الاخبار الواردة في هذا المجال.
بقي الكلام في
انه هل يجب كون الاستصباح به تحت السماء ، فلا يجوز تحت الظلال أم لا؟ ظاهر كلامهم
: الأول. فنقل في المختلف عن الشيخين وابن البراج : ان الدهن إذا وقعت فيه نجاسة ،
جاز الاستصباح به ، فان دخانه يكون طاهرا ولا يكون نجسا ، لأن الأصل الطهارة
وبراءة الذمة ، والحكم بالنجاسة وشغل الذمة يحتاج الى دليل.
وقال في
المبسوط : الادهان إذا ماتت فيها فارة تنجس ، ويجوز عندنا وجماعة الاستصباح به في
السراج ، ولا يؤكل ولا ينتفع به في غير الاستصباح ، وفيه خلاف. وروى أصحابنا : انه
يستصبح به تحت السماء دون السقف ، وهذا يدل على ان دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا
مكروه ، فاما دخانه ودخان كل نجس من العذرة وجلود الميتة والسرجين والبعر وعظام
الموتى عندنا ليس بنجس. واما ما يقطع بنجاسته قال قوم : دخانه نجس. وهو الذي قدمناه
من رواية أصحابنا. وقال آخرون ـ وهو الأقوى ـ انه ليس بنجس.
وقال ابن إدريس
: يجوز الاستصباح به تحت السماء ، ولا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، لا لان
دخانه نجس ، بل تعبدا ، لان دخان الأعيان النجسة ورمادها طاهر عندنا بغير خلاف
بيننا. ثم نقل كلام المبسوط ، ثم قال : قوله : روى أصحابنا انه يستصبح به تحت
السماء دون السقف ، هذا يدل على ان دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا مكروه. ويريد
به الاستصباح تحت السقف.
قال محمد بن
إدريس : ما ذهب أحد من أصحابنا الى ان الاستصباح به تحت الظلال مكروه ، بل محظور
بلا خلاف منهم ، وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه ، الا ما ذكره ها هنا ،
والأخذ بقوله وقول أصحابنا أولى من الأخذ بقوله المنفرد عن قول أصحابنا انتهى.
واعترضه
العلامة في المختلف ، فقال ـ بعد نقل كلامه ـ : وهذا الرد على شيخنا جهل منه وسخف
، فان الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ اعرف بأقوال علمائنا ، والمسائل الإجماعية
والخلافية ، والروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة غير مقيدة بالسماء ، ثم ساق
صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة زرارة الآتيتين إنشاء الله تعالى ، ثم قال : وكذا باقي
الأحاديث ، ثم قال : إذا عرفت هذا فنقول : لا استبعاد فيما ذكره شيخنا في المبسوط
من نجاسة دخان الدهن النجس ، لبعد استحالة كله ، بل لا بد ان يتصاعد من اجزائه قبل
احالة النار لها ، فتثبت السخونة المكتسبة من النار الى ان يلقى الظلال فتتأثر
بنجاسته ولهذا منعوا عن الاستصباح به تحت الظلال ، فان هذا القيد مع طهارته لا
يجتمعان ، لكن الاولى : الجواز مطلقا ، للأحاديث ، ما لم يعلم أو يظن بقاء شيء من
اجزاء أعيان الدهن ، فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال انتهى.
أقول : والواجب
أولا نقل الاخبار ، ثم الكلام فيها.
فمنها ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه ، فان كان
جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت
مثل ذلك .
ومنها ما رواه
أيضا الكليني والشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت له. جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل ، فقال :
اما السمن فيؤخذ الجرذ وما حوله ، والزيت يستصبح به ،. وزاد في رواية التهذيب ،
وقال في بيع ذلك الزيت : بعه وبينه لمن يشتريه ليستصبح به .
__________________
ومنها ما رواه
أيضا في الصحيح عن سعيد الأعرج ـ وساق الخبر ـ الى ان قال : وعن الفارة تموت في
الزيت ، فقال : لا تأكله ولكن أسرج به .
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه ،
فقال : ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنه ربما يكون بعض هذا ، فان كان الشتاء
فانزع ما حوله وكله ، وان كان الصيف فارفعه حتى تسرج به. الحديث .
وعن سماعة في
الموثق قال سألته عن السمن تقع فيه الميتة ، فقال : إذا كان جامدا فألق ما حوله
وكل الباقي. وقلت : الزيت؟ فقال : أسرج به .
وعن ابى بصير
في الموثق ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه ، فقال :
ان كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وان كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم
إذا بعته .
ومنها : ما رواه
عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن إسماعيل
بن عبد الخالق ، قال : سأله سعيد الأعرج السمان وانا حاضر ، عن السمن والزيت
والعسل ، تقع فيه الفارة فتموت ، كيف يصنع به؟ فقال : اما الزيت فلا تبعه ، الا
لمن تبين له ، فيبتاع للسراج ، واما الأكل فلا. واما السمن فان كان ذائبا فهو كذلك
، وان كان جامدا والفأرة في أعلاه ، فيؤخذ ما تحتها وما حولها ، ثم لا بأس به ،
والعسل كذلك ان كان جامدا .
__________________
ومنها : ما
رواه الراوندي في كتاب النوادر ، بسنده فيه عن موسى بن جعفر عليهالسلام ، في حديث قال : وسئل عن الزيت يقع فيه شيء له دم
فيموت ، فقال : يبيعه لمن يعمله صابونا .
__________________
فوائد
(الاولى) : هذه الروايات ـ على كثرتها ـ لا إشعار في شيء منها ، فضلا عن التصريح ،
بما ذكروه من تقييد الجواز بالاستصباح تحت السماء ، والمنع من كونه تحت الظلال ،
حتى ذهب من ذهب الى نجاسة دخانه لذلك كما عرفته من كلام الشيخ في المبسوط ، أو ان
ذلك محض تعبد كما ذكره في المختلف عن ابن إدريس. فإن الكل نفخ في غير ضرام ، ونزاع
لا أصل له في أخبارهم عليهمالسلام. وقد صرح بمثل ما ذكرنا في المسالك .
(الثانية) : المفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة الاستصباح خاصة فلا
يتعدى الى غيرها ، بناء على تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا ،
خرج منه ما
وردت به اخبار الاستصباح المذكورة ، فيبقى ما عداه.
قال في المسالك
: واما الادهان النجسة نجاسة عارضية ، كالزيت تموت فيه
__________________
الفارة ، فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها. وانما خرج هذا الفرد بالنص ،
والا لكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات النجسة ، التي يمكن الانتفاع بها في
بعض الوجوه ، وقد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح بيعها ليعمل صابونا ، أو
ليدهن بها الأجرب ونحو ذلك ، ويشكل بأنه خروج عن موضع النص المخالف للأصل ، فان
جاز ، لتحقق المنفعة ، فينبغي مثله في المائعات النجسة التي ينتفع بها ، كالدبس
يطعم النحل ونحوه انتهى.
أقول : يمكن ان
يقال : ان ذكر الاستصباح في هذه الاخبار انما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، حيث انه
أظهر وجوه الاستعمالات وأعم فوائدها ، كما ان تخصيص المنع بالأكل فيها غير دال على
الحصر فيه. ويؤيد ذلك خبر الراوندي الدال على عمله صابونا ، كما ذهب اليه البعض
الذي نقل عنه ذلك. ولعله استند الى الخبر المذكور ، على انه لم يقم هنا ـ أعني
بالنسبة الى ما نجاسته عارضية في المائعات ـ ما يدل على عموم المنع من الانتفاع به
، والأصل وعموم الأدلة يؤيد ما ذكرناه. واليه مال ـ ايضا ـ شيخنا المجلسي في
البحار ، وقبله الفاضل في الذخيرة والله العالم.
(الثالثة) : لا يخفى انه على تقدير القول بوجوب الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء ،
فان الظاهر كون ذلك تعبدا شرعيا ، كما ذكره ابن إدريس ، لا لنجاسة دخانه ، كما دل
عليه كلام الشيخ المتقدم ، والعلامة في المختلف ، لما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة
، من طهارة الدخان والرماد ، وان كانا من النجاسات العينية.
وما ذكره
العلامة هنا من التعليل ، ضعيف عليل ومحض تخرص لا يروى الغليل. وأصالة العدم أظهر
ظاهر في رده.
(الرابعة) قد دل صحيح معاوية بن وهب ، وموثق ابى بصير ، وخبر قرب
الاسناد على الأمر بالإعلام إذا أراد بيعه ، وحينئذ فلو باعه من
غير اعلام فالظاهر
__________________
ـ على قواعد الأصحاب ـ هو صحة البيع ، وان أثم بمخالفة الأمر بالإعلام
ويتخير المشترى بعد العلم.
واستشكل الجواز
في المسالك ، بناء على تعليله بالاستصباح. قال : فان مقتضاه الاعلام بالحال ،
والبيع لتلك الغاية.
أقول : وتوضيحه
: ان الشارع إذا كان انما جوز البيع لفائدة الاستصباح خاصة فإذا لم يعلمه يكون قد
اشتراه لغير تلك الفائدة ، وهي محرمة ، والبيع للفائدة المحرمة حرام ، فيكون
باطلا.
وفيه : ما لا
يخفى ، فإن الشيء إذا كان له في حد ذاته منافع عديدة ، منها ما هو محرم ، ومنها
ما هو محلل ، لا يجب في البيع قصد منفعة من المنافع المحللة ، والا لبطل البيع في
أكثر المبيعات وهي لا تخلو من المنافع المحرمة ، كما لا يخفى.
وكيف كان ، فهو
على تقدير تسليمه لا يجرى فيما اخترناه مما قدمنا ذكره ، من جواز البيع ، لأي
منفعة تترتب على ذلك.
وظاهر هذه
الاخبار وجوب الإخبار بالنجاسة متى أريد بيعه ، مع انه قد تقدم تحقيقه في كتاب
الطهارة من الاخبار ، ما ظاهره كراهة الاخبار ، لا سيما موثقة ابن بكير ، الدالة
على جواز اعارة الثوب الذي لا يصلى فيه ، لمن يصلى فيه وصحيحة محمد ابن مسلم ، الدالة على ان من رأى في ثوب
أخيه دما وهو يصلى لا يعلمه ، حتى ينصرف من صلاته .
ويؤيده ما تقدم
تحقيقه في كتاب الطهارة ، من ان الطهارة والنجاسة والحل والحرمة ليست من الأحكام
النفس الأمرية ، وانما هي بالنظر الى علم المكلف بنجاسته ، لا ما كان كذلك في
الواقع.
وحينئذ فهذا
الدهن ، وان كان نجسا ، باعتبار علم البائع ، الا انه بالنظر
__________________
إلى المشتري غير العالم طاهر ، والجمع بين الاخبار في هذا المقام لا يخلو
عن اشكال.
نعم لو قلنا
بأن النجاسة من الأحكام النفس الأمرية ، كما هو ظاهر الأصحاب ، اتجه القول بهذه
الاخبار على ظاهرها.
لكن قد تقدم
التحقيق في كتاب الطهارة ، بان الأمر ليس كذلك ، بل هي انما بالنظر الى علم المكلف
، كما يدل عليه جملة من الاخبار المذكورة ثمة ، ومنها الموثقة والصحيحة المذكورتان
والله العالم.
المقام الثاني
فيما لا ينتفع به كالسباع والمسوخ
والمشهور في
كلام المتقدمين تحريم التجارة في السباع والمسوخ.
قال المفيد ـ عليه
الرحمة ـ : التجارة في القردة والسباع والفيلة والذئبة وسائر المسوخ حرام ، وأكل
أثمانها حرام ، والتجارة في الفهود والبزاة وسباع الطير ، التي بها يصاد حلال.
وكذا حرم الشيخ في النهاية : بيع سائر المسوخ وشراءها والتجارة فيها والتكسب بها ،
مثل القردة والفيلة والذئبة وغيرها من أنواع المسوخ ، وبيع جميع السباع ، والتصرف
فيها ، والتكسب بها محظور ، الا الفهود خاصة منها تصلح للصيد.
وقال سلار :
يحرم بيع القردة والسباع والفيلة والذئاب.
وقال في
المبسوط : الحيوان الذي هو نجس العين كالكلب والخنزير وما تولد منهما وجميع المسوخ
، وما تولد من ذلك أو من أحدهما ، فلا يجوز بيعه ولا إجارته ولا الانتفاع به ، ولا
اقتناؤه بحال ، إجماعا ، إلا الكلب. ثم قال : والظاهر ان غير مأكول اللحم مثل
الفهد والنصر والفيل وجوارح الطير مثل الصقور والبزاة والشواهين
والعقبان والأرانب والثعالب وما أشبه ذلك ، فهذا كله يجوز بيعه ، وان كان
مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ، مثل الأسد والذئب.
وقال ابن ابى
عقيل : جميع ما يحرم بيعه وشراؤه ولبسه عند آل الرسول ـ عليهمالسلام ـ بجميع ما ذكرنا من الأصناف التي يحرم أكلها ، من
السباع والطير والسمك والثمار والنبات والبيض.
وقال ابن
الجنيد : لا خير فيما عدا الصيود والحارس من الكلاب ، وفي سائر المسوخ ، واختار في
أثمان ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ ان لا يصرف بائعه ثمنه في مطعم أو مشرب
له ولغيره من المسلمين.
وقال ابن
البراج : لا يجوز بيع ما كان مسخا من الوحوش. ويجوز بيع جوارح الطير والسباع من
الوحوش.
وقال ابن إدريس
في سرائره ـ بعد نقل عبارة النهاية ـ : قال محمد بن إدريس : قوله ـ عليه الرحمة ـ :
والفيلة والذئبة. فيه كلام. وذلك ان ما جعل الشارع وسوغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه
وابتياعه لتلك المنفعة ، والا يكون قد حلل وأباح وسوغ شيئا غير مقدور عليه ، وعظام
الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن وأمشاطا وغير ذلك ، والذئب ليس بنجس السؤر
بل هو من جملة السباع ، فعلى هذا جلده بعد ذكاته ودباغه طاهر انتهى.
والظاهر : انه
على هذه المقالة نسج المتأخرون كالفاضلين ومن تأخر عنهما ، فإنهم جعلوا مناط
الجواز طهارة العين وحصول المنفعة بجلد أو شعر أو ريش أو عظم أو نحو ذلك.
قال في المختلف
ـ بعد نقل الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ : والأقرب الجواز لنا : أنه عين طاهرة ينتفع
بها ، فجاز بيعها. اما انها عين طاهرة فلانا قد بينا فيما سلف طهارة المسوخ ، واما
الانتفاع بها فلأنها ينتفع بجلودها وعظامها ، واما جواز بيعها حينئذ فللمقتضى ،
وهو عموم قوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وزوال المانع ، وهو
النجاسة ، إلى آخر كلامه زيد مقامه.
وهو المختار
الذي تعضده الاخبار الجارية في هذا المضار ، وهي التي عليها الاعتماد في الإيراد
والإصدار.
ومنها : ما
رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفهود وسباع الطير ، هل يلتمس التجار فيها؟ قال :
نعم . ورواه الشيخ في الصحيح مثله.
وما رواه الشيخان
المذكوران عن عبد الحميد بن سعيد ، قال : سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن عظام الفيل ، يحل بيعه أو شراؤه ، الذي يجعل منه
الأمشاط؟ فقال : لا بأس ، قد كان لي منها مشط أو أمشاط .
وما رواه في
الكافي عن موسى بن يزيد قال : رأيت أبا الحسن عليهالسلام يمتشط بمشط عاج ، واشتريته له .
وما رواه على
بن جعفر في كتابه عن أخيه ، قال : سألته عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك؟
قال : لا بأس ، ما لم يسجد عليها .
وما رواه الشيخ
عن ابى مخلد ، قال : كنت عند ابى عبد الله عليهالسلام إذ دخل عليه معتب ، فقال له : بالباب رجلان ، فقال :
أدخلهما فدخلا ، فقال أحدهما : انى رجل سراج ، أبيع جلود النمر ، فقال : مدبوغة هي؟
قال : نعم. قال : ليس به بأس .
__________________
وما رواه الشيخ
في الموثق عن سماعة عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال ، سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : اما لحوم
السباع ، والسباع من الطير فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا
منها تصلون فيه .
وعن سماعة ـ أيضا
ـ عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : أما لحوم
السباع فمن الطير والدواب فانا نكرهه ، واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها
شيئا تصلون فيه .
وما رواه على
بن أسباط عن على بن جعفر عن أخيه عليهالسلام ، قال : سألته عن ركوب جلود السباع؟ قال : لا بأس ما لم
يسجد عليها .
وما رواه البرقي
(في المحاسن) عن سماعة قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن جلود السباع؟ فقال : اركبوا ولا تلبسوا شيئا تصلون
فيه .
وهذه الاخبار ـ
كما ترى ـ ظاهرة الدلالة في كون السباع قابلة للتذكية ، لإفادتها جواز الانتفاع
بجلودها ، لطهارتها ، فيجوز بيعها وشراؤها.
نعم ورد النهى
عن القرد ، كما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن مسمع عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن القرد ان يباع أو يشترى . فيمكن استثناء القرد بهذه الرواية من عموم الجواز
المدلول عليه بالأصل والآية والرواية ، مع احتمال حملها على الكراهة.
ولم نقف
للقائلين بالتحريم ، على دليل يعتد به ، الا ان يكون ما ذهب اليه الشيخ ، من نجاسة
المسوخ ، وهو الذي نقله العلامة في المختلف.
__________________
قال : احتج
المانعون بأنها نجسة فيحرم بيعها ، وبما رواه مسمع ، ثم ساق الخبر المذكور ، ثم
قال : والجواب : المنع من النجاسة. وقد تقدم. وعن الحديث بالمنع من صحة السند ،
والحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة.
ومن هذا الباب
في المنع : الحشرات ، والجري ، والطافي من السمك ، وهو ما مات في الماء ثم طفي على
وجهه ، والضفادع ، والسلاحف. كذا صرح به جملة من الأصحاب.
المقام الثالث
فيما هو محرم في نفسه
كعمل الصور ،
والغناء ، ومعونة الظالمين بما يحرم ، ونوح النائحة بالباطل ، وحفظ كتب الضلال
ونسخها لغير النقض ، وهجاء المؤمنين ، وتعلم السحر والكهانة ، والقيافة ، والشعبدة
، والقمار ، والغش بما يخفى ، وتدليس الماشطة ، وتزين الرجل بما يحرم عليه. فها
هنا مسائل :
الاولى : في عمل الصور.
لا خلاف بين
الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في تحريم التماثيل في الجملة ، فظاهر جملة منهم :
التصريح بتحريم التماثيل المجسمة وغيرها ، من المنقوش على جدار أو بساط أو نحو
ذلك. وظاهر بعض : التخصيص بالمجسمة من ذوات الأرواح. وآخرين بالمجسمة من ذوات
الأرواح وغيرها. وظاهر بعض : التخصيص بذوات الأرواح مطلقا ، مجسمة أو غير مجسمة.
والأول ، نقله
في المختلف عن ابن البراج ، وظاهر ابى الصلاح. ونقل الثالث ، عن الشيخين وسلار ،
والرابع عن ابن إدريس. والثاني ، نقله في المسالك ،
ولم يذكر قائله.
والذي وقفت
عليه من الاخبار ، في هذا المقام ، ما رواه في الكافي في الصحيح عن ابى العباس عن
ابى عبد الله عليهالسلام ، في قوله تعالى «يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها
الشجر وشبهه .
وعن ابى العباس
قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ،) قال : ما هي تماثيل الرجال والنساء ، لكنها تماثيل الشجر
وشبهه .
وعن جعفر بن
بشير عمن ذكره عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : كانت لعلى بن الحسين وسائد وأنماط فيها تماثيل
يجلس عليها .
وعن زرارة في
الصحيح عن ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ ، قال : لا بأس بتماثيل الشجر .
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم
يكن شيئا من الحيوان .
وما رواه الشيخ
عن ابى بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : انا نبسط عندنا الوسائد ، فيها التماثيل ونفترشها؟
فقال : لا بأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ ، وانما يكره منها ما نصب على الحائط
وعلى السرير .
__________________
وما رواه الصدوق
في حديث المناهي عن الحسين بن زيد ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن التصاوير ، وقال : من صور صورة كلفه الله تعالى يوم
القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ ، ونهى ان يحرق شيء من الحيوان ، ونهى عن التختم
بخاتم صفر أو حديد ، ونهى ان ينقش شيء من الحيوان على الخاتم .
وما رواه في
الخصال عن محمد بن مروان عن الصادق عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : ثلاثة يعذبون يوم القيمة : من صور
صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها ـ الحديث .
وعن ابن عباس ،
قال قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من صور صورة عذب وكلف ان ينفخ فيها وليس بنافخ .
أقول : ظاهر
هذه الاخبار ـ بعد حمل مطلقها على مقيدها ـ : هو تخصيص التحريم بتصوير صورة ذوي
الروح ، أعم من ان يكون مجسمة أو منقوشة على جدار وشبهه. وهذا هو القول الرابع من
الأقوال المتقدمة ، وهو قول ابن إدريس.
__________________
المسألة الثانية
(في الغناء ـ بالمد ككساء ـ)
قيل : هو مد
الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، فلا يحرم بدون الوصفين ، اعنى الترجيع
والاطراب ، كذا عرفه جماعة من الأصحاب ، والطرب : خفة تعتريه تسره أو تحزنه.
ورده بعضهم الى
العرف ، فما سمى فيه غناء يحرم وان لم يطرب. واختاره في المسالك وغيره ، وهو
المختار ولا خلاف في تحريمه فيما اعلم.
ولا فرق في
ظاهر كلام الأصحاب ، بل صريح جملة منهم ، في كون ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو
غيرها ، الى ان انتهت النوبة إلى المحدث الكاشاني فنسج في هذا
__________________
المقام على منوال الغزالي ونحوه من علماء العامة ، فخص الحرام منه بما
اشتمل على محرم من خارج ، مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان ، ودخول الرجال ،
والكلام بالباطل ، والا فهو في نفسه غير محرم.
وما ذكره وان
أوهمه بعض الاخبار ، الا ان الحق فيه ليس ما ذهب اليه واعتمد في هذا الباب عليه ،
وان كان قد تبعه في ذلك ايضا صاحب الكفاية ، وهو ـ كما ستعرف ـ في الضعف والوهن
الى أظهر غاية.
والواجب هنا ـ أولا
ـ نقل جملة الأخبار :
فمنها : ما
رواه في الكافي ـ في الصحيح ـ عن زيد الشحام قال : قال أبو عبد الله ـ عليهالسلام : بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب فيه الدعوة
ولا يدخله الملك .
وعن زيد الشحام
، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» قال : الزور الغناء . وعن ابى الصباح ـ في الصحيح ـ عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل «لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ» . قال : الغناء . وعن ابى الصباح الكناني ـ في الصحيح ـ عن ابى عبد الله
عليهالسلام في قول الله عزوجل «وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : هو الغناء .
وعن محمد بن
مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام قال : سمعته يقول : الغناء مما وعد الله تعالى عليه
النار. وتلا هذه الآية
«وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
__________________
بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
وعن عمران بن
محمد عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : الغناء مما قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
وعن ابن ابى
عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» قال : الزور الغناء .
وعن ابى بصير ،
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قوله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء .
وعن أبي أسامة
عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : الغناء غش النفاق . وعن الوشاء قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليهالسلام يسأل عن الغناء ، فقال : هو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
وعن إبراهيم بن
محمد المدني عمن ذكره عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سئل عن الغناء ، وانا حاضر ، فقال : لا تدخلوا
بيوتا الله معرض عن أهلها .
وعن يونس ، قال
: سألت الخراساني ـ صلوات الله عليه ـ عن الغناء ، وقلت : ان العباسي ذكر عنك انك
ترحض في الغناء ، فقال : كذب الزنديق ، ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء ، فقلت له
: ان رجلا أتى أبا جعفر عليهالسلام فسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان ، إذا ميز الله بين
الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل. فقال :
__________________
قد حكمت .
ورواه في عيون
الاخبار عن الريان بن الصلت ، قال سألت الرضا يوما بخراسان وذكر نحوه . ورواه الحميري في قرب الاسناد عن الريان بن الصلت. وعن
عبد الأعلى قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الغناء ، وقلت : انهم يزعمون ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رخص في ان يقال : حيونا حيونا نحييكم! فقال : ان الله
تعالى يقول «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ
مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ» ثم قال : ويل لفلان مما يصف. رجل لم يحضر المجلس .
وعن الحسن بن
هارون ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : الغناء مجلس لا ينظر الله الى اهله ، وهو مما
قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
وروى في العيون
بأسانيده عن الرضا عليهالسلام عن آبائه عن على ـ عليهمالسلام ـ ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم وقطيعة
الرحم ، وان تتخذوا القرآن من أمير ، وتقدمون أحدكم وليس بأفضلكم في الدين .
وعن محمد بن
ابى عباد ، وكان مستهترا بالسماع ، ويشرب النبيذ ، قال : سألت الرضا عن السماع ،
فقال : لأهل الحجاز فيه رأى وهو في حيز الباطل واللهو ، اما سمعت الله يقول «وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» .
__________________
وروى في كتاب
معاني الأخبار بسنده عن عبد الأعلى ، قال : سألت جعفر بن محمد عليهالسلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان ، الشطرنج. وقول الزور : الغناء.
قلت : قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال : منه الغناء .
وعن حماد بن
عثمان عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل ، للذي
يغني : أحسنت .
وروى في المقنع
مرسلا قال : قال الصادق عليهالسلام : شر الأصوات : الغناء .
وروى في كتاب
الخصال بسنده المعتبر عن الحسن بن هارون ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول : الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر .
وروى في
المجالس عن عبد الله بن ابى بكر عن محمد بن عمرو بن حزم ، في حديث ، قال : دخلت
على ابى عبد الله عليهالسلام ، فقال : اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا
قول الزور. فما زال يقول : اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا ، فضاق بي المجلس وعلمت أنه
يعنيني .
وفي رواية عبد
الله بن سنان المروية في الكافي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقروا القرآن بألحان العرب وأصواتها : وإياكم ولحون
أهل الفسق وأهل الكبائر ، فإنه سيجيء بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء
والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم .
__________________
وروى في مجمع
البيان ، قال : روى عن ابى جعفر وابى عبد الله وابى الحسن الرضا ـ عليهمالسلام ـ ، في قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» انهم قالوا : منه الغناء .
وروى على بن
إبراهيم في تفسيره ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن هشام عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ
مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال الرجس من الأوثان : الشطرنج ، وقول الزور : الغناء .
وروى فيه عن
أبيه بسنده الى عبد الله بن العباس عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في حديث ـ قال : ان من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ،
واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء. الى ان قال : فعندها يكون أقوام يتعلمون
القرآن لغير الله ، ويتخذونه مزامير ـ الى ان قال : ويتغنون بالقرآن. الى ان قال :
فأولئك يدعون في ملكوت السماوات : الأرجاس الأنجاس .
أقول : فهذه
جملة من الاخبار الصريحة الدالة ، في تحريم الغناء مطلقا ، من غير تقييد بما قدمنا
ذكره عن المجوز له في حد ذاته.
ويعضدها :
الأخبار الدالة على تحريم الاستماع له والاخبار الدالة على تحريم ثمن المغنية
فروى في الكافي
عن مسعدة بن زياد ، قال : كنت عند ابى عبد الله عليهالسلام ، فقال له رجل : بأبي أنت وأمي ، انى ادخل كنيفا ، ولي
جيران وعندهم جواز يتغنين ويضربن
__________________
بالعود ، فربما أطلت الجلوس استماعا منى لهن! فقال : لا تفعل. فقال الرجل :
والله ما اتيتهن وانما هو سماع أسمعه بأذني. فقال : بالله أنت ، أما سمعت الله
تعالى يقول «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً»؟ فقال : بلى والله كأني لم اسمع بهذه الآية من كتاب الله
تعالى من عجمي ولا عربي. لا جرم انى لا أعود إنشاء الله تعالى ، وانى استغفر الله.
فقال له : فاغتسل فصل ما بدا لك ، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك
لو متّ على ذلك. احمد الله وسله التوبة من كل ما يكره ، فإنه لا يكره الأكل قبيح ،
والقبيح دعه لأهله ، فإن لكل أهلا .
وعن عنبسة عن
ابى عبد الله عليهالسلام قال : استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب كما
ينبت الماء الزرع .
وعن الحسين بن
على بن يقطين عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق
يؤدى عن الله عزوجل فقد عبد الله وان كان الناطق يؤدى عن الشيطان فقد عبد
الشيطان .
وروى في الكافي
والتهذيب عن الحسن بن على الوشاء قال سئل أبو الحسن الرضا عليهالسلام عن شراء المغنية. فقال : قد تكون للرجل الجارية تلهيه
وما ثمنها الا ثمن الكلب ، وثمن الكلب سحت ، والسحت في النار .
وما رواه في
الكافي عن سعيد بن محمد الطاطري عن أبيه عن ابى عبد الله عليهالسلام. قال : سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات. فقال :
شراؤهن وبيعهن حرام ، وتعليمهن
__________________
واستماعهن نفاق .
وعن نصر بن
قابوس قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : المغنية ملعونة. ملعون من أكل كسبها .
وروى في الفقيه
مرسلا ، قال : روى «ان أجر المغني والمغنية سحت» .
وعن إبراهيم بن
ابى البلاد قال اوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنيات ان نبيعهن ونحمل
ثمنهن الى ابى الحسن عليهالسلام قال إبراهيم : فبعت الجواري بثلاثمائة الف درهم وحملت
الثمن اليه. فقلت له. ان مولى لك يقال له : إسحاق بن عمر ، قد اوصى عند موته ببيع
جوار له مغنيات ، وحمل الثمن إليك ، وقد فعلت وبعتهن وهذا الثمن ثلاثمأة الف درهم.
فقال : لا حاجة لي فيه ، ان هذا سحت ، تعليمهن كفر ، والاستماع منهن نفاق ، وثمنهن
سحت .
والتقريب في
هذه الاخبار ، انه لو كان الغناء جائزا وحلالا ، بل مستحبا ـ كما هو ظاهر كلامهم
في نحو القرآن والأدعية والمناجاة ، وانما يحرم بسبب ما يعرض له من المحرمات
الخارجة ، كما ادعوه ـ فكيف يتم الحكم بتحريم سماعه وتحريم ثمن المغنية ، وان
تعليمه كفر. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ذي عقل وروية ، لا ينكره الأمن قابل
بالصدود أو الاستكبار عن الحق بالكلية.
هذا واما
الاخبار التي استند إليها الخصم في المقام ، فمنها : ما رواه في الكافي عن ابى
بصير ـ وهو يحيى بن القاسم ، بقرينة رواية على عنه ـ قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جائني الشيطان ، فقال
: إنما ترائي بهذا
__________________
أهلك والناس ، فقال : يا أبا محمد ، اقرأ قراءة بين القرائتين ، تسمع أهلك
، ورجع بالقرآن صوتك ، فان الله تعالى يحب الصوت الحسن ، يرجع به ترجيعا .
وعن ابى بصير ـ
وهو المرادي بقرينة عبد الله بن مسكان ـ عن الصادق ـ عليهالسلام ـ قال : قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان من أجمل الجمال الشعر الحسن ، ونغمة الصوت الحسن .
وعن عبد الله
بن سنان عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال النبي صلىاللهعليهوآله : لكل شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن .
وبهذا الاسناد
عن الصادق عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لم يعط أمتي أقل من ثلاث : الجمال ، والصوت الحسن ،
والحفظ .
وبهذا الاسناد
عن الصادق عليهالسلام ، قال : ان الله تعالى اوحى الى موسى بن عمران «إذا
وقفت بين يدي ، فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين» .
وعن على الميثمي
عن رجل عن الصادق عليهالسلام ، قال : ما بعث الله عزوجل نبيا الأحسن الصوت .
وعن على بن
عقبة عن رجل عن الصادق عليهالسلام ، قال : كان على بن الحسين عليهالسلام أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان السقاؤون يمرون فيقفون
ببابه يستمعون
__________________
قراءته ، وكان أبو جعفر عليهالسلام أحسن الناس صوتا .
وعن على بن
محمد النوفلي ، عن ابى الحسن عليهالسلام ، قال : ذكرت الصوت عنده ، فقال : ان على بن الحسين عليهالسلام كان يقرأ القرآن ، فربما مر به المار فصعق من حسن صوته
، وان الامام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه. قلت : ولم يكن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلى بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون .
وما رواه في
قرب الاسناد عن على بن جعفر عن أخيه ، قال : سألته عن الغناء ، هل يصلح في الفطر
والأضحى والفرح؟ قال لا بأس ما لم يعص به .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابى بصير ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن كسب المغنيات ، فقال : التي يدخل عليها الرجال حرام
، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
وعن ابى بصير
عن الصادق عليهالسلام ، قال : المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها .
وعن ابى بصير ،
قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس ، وليست
التي يدخل عليها الرجال .
وروى في الفقيه
، قال : سأل رجل على بن الحسين عليهالسلام عن شراء جارية لها
__________________
صوت؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة ، يعني بقراءة القرآن والزهد
والفضائل ، التي ليست بغناء ، واما الغناء فمحظور .
قال في الوافي
ـ بعد نقل الخبر ـ : الظاهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق ـ عليه الرحمة ـ ويستفاد
منه ان من مد الصوت وترجيعه بأمثال ذلك ليس بغناء ، أو بمحظور ، وفي الأحاديث التي
مضت في أبواب قراءة القرآن ، من كتاب الصلاة دلالة على ذلك ، والذي يظهر من مجموع
الأخبار الواردة فيه ، اختصاص حرمة الغناء وما يتعلق به من الأجر والتعليم
والاستماع والبيع والشراء كلها ، بما كان على النحو المتعارف في زمن بنى أمية وبنى
العباس ، من دخول الرجال عليهن وتكلمهن بالأباطيل ، ولعبهن الملاهي ، من العيدان
والقصب وغيرها ، دون ما سوى ذلك من أنواعه ، كما يشعر به قوله «ليست بالتي يدخل
عليها الرجال» ـ الى ان قال :
وعلى هذا فلا
بأس بسماع التغني بالاشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار ، والتشويق الى دار القرار
، ووصف نعم الملك الجبار ، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات والزهد في الفانيات
ونحو ذلك ، كما أشير إليه في حديث الفقيه بقوله «فذكرتك الجنة» وذلك لان هذا كله
ذكر الله تعالى ، وربما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم
الى ذكر الله تعالى.
وبالجملة لا
يخفى على ذوي الحجى ، بعد سماع هذه الاخبار تمييز حق الغناء من باطله وان أكثر ما
يتغنى به المتصوفة في محافلهم من قبيل الباطل انتهى.
وعلى هذا النحو
حذى الخراساني في الكفاية.
وفيه : ـ أولا
ـ أنهم وان زعموا الجمع بين أخبار المسألة بما ذكروه ، الا ان جل اخبار التحريم ،
التي قدمناها ، لا يقبل ذلك ، فإنها ظاهرة ، بل بعضها صريح في تحريم الغناء ، من
حيث هو ، لا باعتبار انضمام بعض المحرمات ، من خارج اليه. ولا سيما اخبار استماع
الغناء وبيع المغنية وشرائها ، بالتقريب الذي قدمناه في ذيل تلك
__________________
الاخبار.
وقوله ـ في
رواية المقنع ـ : شر الأصوات الغناء. وقوله ـ في رواية عبد الله ابن سنان ـ يرجعون
القرآن ترجيع الغناء. وحديث يونس المروي بعدة طرق كما تقدم ، وأمثال ذلك مما تقدم.
فإنها ما بين صريح وظاهر ، في قصر الحكم على الغناء من حيث هو ، وكذلك الآيات ،
فان قوله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» المفسر في تلك الاخبار بالغناء ، صريح في المنع من القول
المفسر بالغناء ، من حيث هو.
وثانيا ـ انه
من القواعد المقررة عن أصحاب العصمة ـ عليهمالسلام ـ في مقام اختلاف الاخبار ، هو العرض على كتاب الله
تعالى ، والأخذ بما وافقه ، وأن ما خالفه يضرب به عرض الحائط ، والعرض على مذهب
العامة ، والأخذ بخلافه.
ولا ريب في ان
مقتضى الترجيح بهاتين القاعدتين ، المتفق عليهما نصا وفتوى ، هو القول بالتحريم
مطلقا ، وان ما دل على الجواز يرمى به ، لمخالفته لظاهر القرآن ، وموافقته للعامة.
هذا فيما كان
صريحا في الجواز ، وهو أقل قليل في أخبارهم ، لا يبلغ قوة المعارضة لما قدمناه من
اخبار التحريم.
فاما تمسكهم
باخبار قراءة القرآن بالصوت الحسن والتحزن ، فهو لا يستلزم الغناء ، إذ ليس كل صوت
حسن أو حزين يسمى غناء ، وهذا ـ بحمد الله سبحانه ـ ظاهر.
واما ما يوهمه
بعض تلك الاخبار ، من التغني بالقرآن ، مثل ما نقله في مجمع البيان عن عبد الرحمن
بن السائب ، قال : قدم علينا سعد بن ابى وقاص ، فأتيته مسلما عليه ، فقال : مرحبا
بابن أخي. بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن؟ قلت : نعم والحمد لله. قال : فانى سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : ان القرآن نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا ،
فان لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به ، فان من لم يتغن بالقرآن فليس منا.
قال في مجمع
البيان : تأوله بعضهم بمعنى استغنوا به ، وأكثر العلماء على انه تزيين الصوت
وتحزينه. انتهى .
قال في الكفاية
ـ بعد نقل ذلك ـ : وهذا يدل على ان تحسين الصوت بالقرآن والتغني به مستحب عنده ،
وان خلاف ذلك لم يكن معروفا بين القدماء انتهى.
أقول : ـ أولا
ـ ان الخبر المذكور عامي ، فلا ينهض حجة. وثانيا : انه معارض بجملة من الاخبار
المتقدمة ، الدالة على المنع من قراءة القرآن بالغناء ، وانما يقرؤه بالصوت الحسن
على جهة الحزن ، ما لم يبلغ حد الغناء ، فإنه محرم في قرآن أو غيره.
ومنها : خبر
الفقيه الأخير من الاخبار المتقدمة ، بناء على كون التفسير الذي في آخره من الخبر
، كما فهمه صاحب الوافي.
ورواية العيون
المتقدمة ، ورواية تفسير على بن إبراهيم الثانية.
ومنها : رواية
عبد الله بن سنان ، وهي أصرح صريح في ذلك.
واما ما ذكره
في الكفاية ، من حمل الأخبار الدالة على المنع من التغني بالقرآن على قراءة تكون
على سبيل اللهو ، كما يصنعه الفساق في غنائهم ، قال : وتؤيده رواية عبد الله بن
سنان المذكورة ، فان في صدر الخبر الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب ، واللحن هو
الغناء ، ثم بعد ذلك المنع من القراءة بلحن أهل الفسق ، ثم قوله : سيجيء من بعدي
أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء. انتهى. فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج
في مقام التحقيق عليه.
اما أولا ، فإن
الغناء الممنوع منه في القرآن ، على ما يكون على سبيل اللهو ، كما يصنعه الفساق في
غنائهم ، لا محصل له. فإنه ان أراد به القراءة مع مصاحبة آلات اللهو كالعود ونحوه
، فإن أحدا لا يصنع ذلك.
وان أراد قراءة
القرآن التي تقع على سبيل اللهو ، فإنه لا يعقل له معنى ، لأنها إن
__________________
وقعت بطريق الغناء الذي هو محل البحث ، فهذا هو الذي ندعي تحريمه ، سواء
كان من الفساق أو الزهاد ، وان كان كذلك فإنه لم يعهد هنا نوع ممنوع منه ، غير ما
ذكرناه ، حتى انه يخصه بالفساق ، لان مجرد الترجيع وتحسين الصوت والتحزن به لا
يستلزم الغناء ، كما أشرنا إليه آنفا فهو ان بلغ الى حد الغناء وصدق عليه عرفا انه
غناء ، كان ممنوعا ومحرما ، والا فلا.
واما ثانيا ،
فان قوله : «فان اللحن في أول الخبر هو الغناء» ممنوع ، فإنه وان كان لفظ اللحن
مما ورد بمعنى الغناء ، لكنه ورد أيضا في اللغة لمعان أخر ، منها : اللغة ، وترجيع
الصوت ، وتحسين القراءة ، والشعر ، الا ان الأنسب به هنا : هو الحمل على اللغة ،
بمعنى لغات العرب وأصواتها ، وهو الذي حمل عليه الخبر في مجمع البحرين فقال :
اللحن واحد الالحان. واللحون : اللغات ، ومنه الخبر «أقروا القرآن بلحون العرب».
أقول : وحاصل
معنى الخبر : أقروا القرآن بلغات العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر
، والمراد به هنا : الغناء كما يفسره قوله «فإنه سيجيء بعدي أقوام. إلخ» هذا هو
المعنى الظاهر من الخبر ، وما تكلفه في معنى الخبر فإنه بعيد عن سياقه.
واما خبر على
بن الحسين عليهالسلام. فحاشا ان يكون ذلك من حيث كونه غناء ، كما توهموه ،
وانما هذه حالات مختصة بهم ، بالنسبة إلى الأصوات والألوان والحلي ونحوها ، كما
يدل عليه حديث دخول الجواد عليهالسلام على زوجته بنت المأمون ، لما التمست أمها دخوله لتسر
برؤيته مع ابنتها ، مع انه عليهالسلام معها في سائر الأوقات والأيام والليالي ولم تستنكر منه . وحديث السراج في أصابع الرضا عليهالسلام .
__________________
وحديث الشيخين في حق أمير المؤمنين عليهالسلام ونحو ذلك. ويشير الى ما ذكرناه قوله في الحديث المذكور
: «وان الامام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس» .
وقال في
الكفاية ـ أيضا ـ : وكثير من الاخبار المعتمدة وغيرها تدل على تحريم بيع الجواري
المغنيات وشرائهن وتعليمهن الغناء ، وبإزائها الرواية السابقة المنقولة عن على بن
الحسين عليهالسلام ورواية عبد الله بن الحسن الدينوري عن ابى الحسن عليهالسلام ، في جملة حديث ، قال : قلت : جعلت فداك ، فاشترى
المغنية والجارية تحسن أن تغني ، أريد به الرزق ، لا سوى ذلك؟ قال : اشتر وبع . انتهى.
وفيه : ان
الرواية الأولى قد نقلها كما قدمناه بالتفسير الذي في آخرها ، وهي على تقديره غير
منافية لتلك الاخبار ، بل صريحة في الانطباق عليها ولهذا ان المحدث الكاشاني
استظهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق كما قدمنا نقله عنه ، ليتم له التعلق
بالرواية.
واما الرواية
الثانية فهي ظاهرة في ان شراء المغنية انما هو لأجل التجارة وطلب الربح والفائدة ،
وهو مما لا اشكال فيه ، كما صرح به الأصحاب ، والمحرم إنما شراؤها وبيعها لأجل
الغناء.
قال في المنتهى
ـ بعد نقل خبر من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في النهي عن بيع المغنيات وتحريم أثمانهن وكسبهن ـ :
وهذا يحمل على بيعهن للغناء ، كما ان العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصاحب الخمر.
* * *
ثم ان المشهور
بين الأصحاب استثناء مواضع من تحريم الغناء.
ونقل في
المسالك عن جماعة من الأصحاب ، منهم العلامة في التذكرة ، تحريم
__________________
الغناء مطلقا ، ونقله في المختلف عن ابى الصلاح ، وهو المنقول عن ابن إدريس
أيضا استنادا الى الاخبار المطلقة في تحريمه.
ومن تلك
المواضع المستثنيات ـ على تقدير القول المشهور ـ : غناء المرأة التي تزف العرائس ،
بشرط ان لا يدخل عليها الرجال ، ولا يسمع صوتها الأجانب من الرجال ولا تتكلم
بالباطل ، ولا تعمل بالملاهي.
ومرجعه الى ان
لا يكون مستلزما لمحرم آخر ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك.
وما توهمه من
استدل بهذه الاخبار على جواز الغناء ـ وانما تحريمه من حيث أمر آخر ، كدخول الرجال
لقوله عليهالسلام في بعض تلك الأخبار : لأنها ليست بالتي يدخل عليها
الرجال ، وان فيه إشارة الى ان التحريم انما هو من هذه الجهة ـ فليس بشيء ، لقصر
التعليل على مورد النص ، بمعنى ان التي تزف العرائس يباح لها الغناء ، لعدم دخول
الرجال عليها المستلزم لتحريمه.
نعم قوله في
رواية أبي بصير الاولى ، لما سأله عن كسب المغنيات التي يدخل عليها الرجال : حرام
، ظاهر فيما ذكره ، الا انه يجب حمله على التقية وهكذا كل خبر ظاهر في ذلك.
وبالجملة فإن
الأخبار المذكورة ظاهرة في جوازه في هذه الصورة ، فيجب تخصيص الاخبار المطلقة بها.
وبه يظهر ضعف قول من ذهب الى عموم التحريم.
ومنها : الحداء
، وهو سوق الإبل بالغناء لها.
ولم أقف في
الاخبار له على دليل. قال المحقق الأردبيلي ـ رحمهالله ـ قد استثنى الحداء بالمد ، وهو سوق الإبل بالغناء لها
، وعلى تقدير صحة استثنائه ، يمكن اختصاصه بكونه للإبل فقط ، كما هو مقتضى الدليل
، ويمكن التعدي ايضا الى البغال والحمير انتهى.
ولا أدرى أي
دليل أراد ، فإن المسألة خالية عن النص ، وكأنه ظن ان ذكر
الأصحاب له ، لا يكون الا عن دليل ، والا فالدليل لم نقف عليه ، ولم يذكره
هو ولا أحد غيره.
وبعضهم استثنى
مراثي الحسين عليهالسلام ـ ايضا ـ قال في الكفاية : وهو غير بعيد.
أقول : بل هو
بعيد غاية البعد ، لما عرفت مما قدمناه من الاخبار المتكاثرة ، الا ان ما ذكره جيد
على مذهبه في المسألة مما قدمنا نقله عنه.
وبالجملة فإنه
لم يقم دليل على استثناء شيء من إطلاق الاخبار المتقدمة ، سوى التي تزف العرائس.
وعليها اقتصر في المنتهى في الاستثناء ولم يستثن سواها. والله العالم.
المسألة الثالثة
في معونة الظالمين
والدخول في
ولاية الظلمة والمشهور في كلام الأصحاب ، تقييدها بما يحرم ، واما مالا يحرم
كالخياطة لهم والبناء ونحو ذلك فإنه لا بأس به.
قال في الكفاية
: ومن ذلك معونة الظالمين بما يحرم ، اما مالا يحرم كالخياطة وغيرها فالظاهر
جوازه.
لكن الأحوط
الاحتراز عنه لبعض الأخبار الدالة على المنع ، وقوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» قال في مجمع البيان : فقيل معناه : ولا تميلوا الى
المشركين في شيء من دينكم ، عن ابن عباس. وقيل : لا تداهنوا الظلمة ، عن السدي
وابن زيد. قيل : ان الركون الى الظالمين المنهي عنه ، هو الدخول معهم في ظلمهم ،
وإظهار موالاتهم ، واما الدخول عليهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز. عن القاضي.
وقريب منه ما روى عنهم ـ عليهمالسلام ـ : ان الركون هو المودة والنصيحة والطاعة لهم. انتهى.
__________________
أقول : الظاهر
من الاخبار الواردة في هذا المقام ، هو عموم تحريم معونتهم. بما لا يحرم وما لا
يحرم.
منها : ما رواه
في الكافي في الصحيح عن هشام بن سالم ، عن ابى بصير قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام ، عن أعمالهم ، فقال لي : يا أبا محمد ، لا ولا مدة قلم
، ان أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله أو قال : حتى تصيبوا من دينه مثله ، الوهم من ابن ابي
عمير .
وعن ابن ابى
يعفور قال : كنت عند الصادق عليهالسلام ، فدخل عليه رجل من أصحابنا ، فقال له : أصلحك الله
تعالى ، انه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة ، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر
يكريه أو المسناة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ما أحب أني عقدت لهم عقدة ، أو وكيت لهم وكاء ، وان
لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدة بقلم. إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من
النار حتى يحكم الله عزوجل بين العباد .
وما رواه في
التهذيب عن يونس بن يعقوب في الموثق ، قال : قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : لا تعنهم على بناء مسجد .
وعن صفوان بن
مهران الجمال قال : دخلت على ابى الحسن الأول عليهالسلام ، فقال لي : يا صفوان ، كل شيء منك حسن جميل ، ما خلا
شيئا واحدا ، فقلت : جعلت فداك ، أي شيء؟ قال : إكراؤك جمالك هذا الرجل ـ يعنى
هارون ـ قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا لصيد ولا للهو ، ولكني أكريته
لهذا الطريق ، يعنى طريق مكة ، ولا أتولاه بنفسي ، ولكني ابعث معه غلماني. فقال لي
: يا صفوان ، أيقع
__________________
كراؤك عليهم؟ قلت : نعم ، جعلت فداك. فقال لي : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟
قلت : نعم. قال : فمن أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان وروده في النار. قال
صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها. فبلغ ذلك الى هارون ، فدعاني فقال لي : يا
صفوان ، بلغني أنك بعت جمالك ، قلت : نعم. قال : ولم؟ قلت : انا شيخ كبير وان
الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال : هيهات هيهات ، انى لا علم من أشار عليك بهذا ،
أشار عليك بهذا موسى بن جعفر عليهالسلام. فقلت : مالي ولموسى بن جعفر عليهالسلام! فقال : دع هذا عنك ، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك .
وما رواه في
عقاب الأعمال ، بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليهالسلام ، عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ،
ومن لاق لهم دواة ، أو ربط كيسا ، أو مد لهم مدة قلم ، فاحشروه معهم . وروى الثقة الجليل ، ورام بن أبي فراس ، في كتابه ،
قال : قال عليهالسلام : من مشى الى ظالم ليعينه وهو يعلم انه ظالم فقد خرج عن
الإسلام. قال : وقال عليهالسلام : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان
الظلمة ، وأشباه الظلمة حتى من بري لهم قلما ولاق لهم دواة! قال : فيجتمعون في
تابوت من حديد ، ثم يرمى به في جهنم .
ويعضد ذلك ما
رواه في الكافي ، عن سهل بن زياد ، رفعه عن الصادق عليهالسلام ، في قول الله عزوجل «وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» قال : هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه الى ان يدخل يده
في كيسه فيعطيه .
وعن فضيل بن
عياض ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : ومن أحب بقاء الظالمين
__________________
فقد أحب ان يعصى الله تعالى ، ان الله تبارك وتعالى حمد نفسه عند هلاك
الظالمين ، فقال (فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .
وعن أبي حمزة
عن على بن الحسين عليهالسلام في حديث ، قال : إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين .
وعن محمد بن
عذافر ، عن أبيه ، قال : قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع ، فما حالك إذا نودي
بك في أعوان الظلمة؟! قال فوجم ابى ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام لما رأى ما أصابه : أي عذافر ، إني إنما خوفتك بما
خوفني الله عزوجل. قال محمد : فقدم ابى ، فما زال مغموما مكروبا حتى مات .
الى غير ذلك من
الاخبار التي يقف عليها المتتبع ، وهي صريحة في تحريم معونة الظالمين بالأمور
المحللة ، على أبلغ وجه وآكده. وبذلك يظهر لك ما في كلام الفاضل المذكور تبعا
للمشهور ـ والكل ناش عن الغفلة عن تتبع الاخبار والوقوف عليها من مظانها.
نعم يجب ان
يستثني من ذلك ما إذا ألجأته ضرورة التقية والخوف ، فان الضرورات تبيح المحظورات.
* * *
واما معونة
الظالمين بما كان ظلما ومحرما فيدل على تحريمه : العقل والنقل ، كتابا وسنة.
ومنه : قوله عزوجل «وَلا
تَرْكَنُوا ... الاية.
قيل : والركون
هو الميل القليل. وقال في مجمع البحرين في تفسير الآية : اى لا تطمئنوا إليهم ،
ولا تسكنوا الى قولهم ، والرضا بأفعالهم ، ومصاحبتهم ومصادقتهم
__________________
ومداهنتهم انتهى.
وحينئذ فإذا
كان هذا القدر من الميل إليهم موجبا لدخول النار ، فبالطريق الأولى إعانتهم على
الظلم ومشاركتهم فيه.
وقد تقدم في
مرسلة سهل : ان الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه الى ان يدخل يده في كيسه فيعطيه . وفي باب جمل من مناهي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المذكور في الفقيه ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من مدح سلطانا جائرا أو تخفف وتضعضع له طمعا فيه ،
كان قرينه في النار ، قال الله عزوجل (وَلا تَرْكَنُوا). الاية .
وظاهر الخبرين
المذكورين : الدلالة على ان الميل اليه لتحصيل شيء من دنياه وحب بقائه ووجوده
لذلك ، داخل تحت الآية.
ثم ان الظاهر
ان المراد من هذا التشديد والتأكيد في هذه الاخبار الواردة في هذا المقام ، مما
تقدم ويأتي ، انما هو سلاطين الجور المدعين للإمامة ، من الأموية والعباسية ومن
حذا حذوهم ، كما هو ظاهر من سياقها ، ومصرح به في بعضها لا مطلق الظالم والفاسق
وان كان الظلم والفسق محرما مطلقا.
وعلى هذا فلو
أحب أحد بقاء حاكم جور من المؤمنين والشيعة ، لحبه المؤمنين وحفظه بيضة الدين من
الأعداء والمخالفين ، فالظاهر انه غير داخل في الآية ، ولا الاخبار المذكورة.
ويعضد ذلك ما
رواه في الكافي عن الوليد بن صبيح في الصحيح ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ، فاستقلنى زرارة ، خارجا من عنده. فقال لي أبو عبد
الله عليهالسلام : يا وليد ، اما تعجب من زرارة ، سألني عن اعمال هؤلاء
، أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له : لا ، فيروى ذلك على؟! ثم قال يا وليد ،
متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم ، انما كانت الشيعة تقول : يؤكل من طعامهم؟ ويشرب
من شرابهم؟ ويستظل
__________________
بظلهم؟ متى كانت الشيعة تسأل عن هذا؟!.
وفي الخبر
المذكور ذم لزرارة ، ولكن جلالة قدره تقتضي صرفه عن ظاهره والحمل على ما
يقتضيه مقامات الحال يومئذ.
* * *
إذا عرفت ذلك
فاعلم : ان الاخبار قد اختلفت في جواز الدخول في أعمالهم ، والولاية من قبلهم.
فمنها : ما دل
على المنع من ذلك. ومنها : ما ظاهره الجواز ، لكن بشرط إمكان الخروج مما يجب عليه
ويحرم. وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
فاما ما يدل
على الأول من الاخبار ، فمنها : ما رواه في الكافي عن إبراهيم بن مهاجر ، قال :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فلان يقرؤك السلام ، وفلان وفلان. فقال : وعليهمالسلام. فقلت : يسألونك الدعاء ، قال : وما لهم؟ قلت : حبسهم
أبو جعفر ، فقال : ماله ومالهم؟ قلت : استعملهم فحبسهم ، فقال : مالهم ولهذا؟ ألم
أنههم ألم أنههم ألم أنههم؟ هم النار هم النار هم النار. ثم قال : اللهم أجدع عنهم
سلطانهم. قال فانصرفت من مكة ، فسألت عنهم ، فإذا هم قد خرجوا بعد هذا الكلام
بثلاثة أيام .
وعن داود بن
زربي في الصحيح ، قال : أخبرني مولى لعلى بن الحسين عليهالسلام ، قال : كنت بالكوفة ، فقدم أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ الحيرة فأتيته ، فقلت له : جعلت فداك ، لو كلمت داود
بن على أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات ، فقال : ما كنت لأفعل ، فانصرفت
إلى منزلي ، فتفكرت فقلت ما أحسبه منعني إلا مخافة أن أظلم أو أجور. والله لاتينه
واعطينه الطلاق والعتاق والايمان المغلظة. ان لا اظلمن أحدا ولا أجور ، ولأعدلن.
قال : فأتيته فقلت جعلت فداك ، انى فكرت في ابائك على ، فظننت أنك إنما منعتني
وكرهت ذلك ، مخافة ان أجور
__________________
أو أظلم ، وان كل امرأة لي طالق ، وكل مملوك لي حر ، وعلى وعلى ان ظلمت
أحدا أو جرت على أحد أو ان لم اعدل ، قال : فكيف قلت؟ فأعدت عليه الايمان ، فرفع
رأسه الى السماء فقال : تنال السماء أيسر عليك من ذلك .
وعن جهم بن
حميد ، قال : قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : اما تغشى سلطان هؤلاء؟ قال : قلت : لا. قال : ولم؟
قلت : فرارا بديني ، قال : وعزمت على ذلك؟ قلت : نعم. قال لي : الان سلم لك دينك .
وعن حميد ، قال
: قلت لأبي عبد الله عليهالسلام انى وليت عملا ، فهل لي من ذلك مخرج؟ فقال : ما أكثر من
طلب المخرج من ذلك فعسر عليه! قلت : فما ترى؟ قال : ان تتقي الله تعالى ولا تعود .
وما رواه في
التهذيب عن ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي ، عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : من سود اسمه في ديوان ولد سابع ، حشره الله
تعالى يوم القيامة خنزيرا .
أقول : «سابع»
مقلوب «عباس» كنى به تقية ، كما يقال : رمع مقلوب عمر.
وما رواه على
بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة ابن صدقة ، قال : سأل
رجل أبا عبد الله عليهالسلام عن قوم من الشيعة ، يدخلون في اعمال السلطان ، يعملون
لهم ويجبون لهم ، ويوالونهم؟ قال ليس هم من الشيعة ، ولكنهم من أولئك. ثم قرأ أبو
عبد الله عليهالسلام هذه الآية «لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى
__________________
لِسانِ
داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ـ الى قوله ـ
وَلكِنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» قال : الخنازير على لسان داود ، والقردة على لسان عيسى
، «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور ، ويأتون
النساء أيام حيضهن ، ثم احتج الله تعالى على المؤمنين الموالين للكفار فقال «تَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» فنهى الله عزوجل ان يوالي المؤمن الكافر الا عند التقية .
وما رواه العياشي
في تفسيره عن سليمان الجعفري ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليهالسلام : ما تقول في عمال السلطان؟ فقال : يا سليمان ، الدخول
في أعمالهم ، والعون لهم والسعى في حوائجهم ، عديل الكفر ، والنظر إليهم على العمد
، من الكبائر التي يستحق بها النار . الى غير ذلك من الاخبار التي تجري هذا المجرى.
ثم ان الواجب
على الداخل في أعمالهم رد ما اكتسبه في عملهم على أصحابه ، ومع عدم معرفتهم
فالواجب الصدقة به عنهم ، كما صرح به الأصحاب. والتوبة النصوح في هذا الباب.
ويدل على ذلك
خبر على بن أبي حمزة ، قال : كان لي صديق من كتاب بنى أمية ، فقال لي : استأذن لي
على ابى عبد الله عليهالسلام ، فاستأذنت له ، فلما ان دخل سلم وجلس ، ثم قال : جعلت
فداك ، انى كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا ، وأغمضت في
مطالبه ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لولا ان بنى أمية وجدوا من يكتب لهم ، ويجبى لهم الفيء
، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، ما سلبونا حقنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم
، ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم.
قال : فقال
الفتى : جعلت فداك ، فهل لي مخرج منه؟ قال : ان قلت لك تفعل؟ قال : افعل. قال له :
فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ، ومن لم تعرف
تصدقت له ، وانا أضمن لك على الله تعالى الجنة. فأطرق الفتى
__________________
طويلا ، ثم قال : قد فعلت ، جعلت فداك.
قال ابن أبي
حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة ، فما ترك شيئا على وجه الأرض الا خرج منه ،
حتى ثيابه التي كانت على بدنه. قال : فقسمت له قسمة ، واشتريت له ثيابا ، وبعثت
إليه نفقة ، قال : فما اتى عليه الا أشهر قلائل حتى مرض ، فكنا نعوده قال : فدخلت
يوما وهو في السوق ، قال : ففتح عينيه ، ثم قال : يا على ، وفي لي والله صاحبك ثم
مات فتولينا أمره ، فخرجت حتى دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ، فلما نظر الى ، قال : يا على وفينا والله لصاحبك.
قال : فقلت :
صدقت ، جعلت فداك ، هكذا والله قال لي عند موته .
واما ما يدل من
الاخبار على الجواز بالقيد المتقدم ذكره ، فجملة من الاخبار ، الا ان جملة من
الأصحاب عبروا هنا ـ مع الأمن من الدخول بالحرام ، والتمكن من الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر ـ بالجواز. وعبر بعضهم بالاستحباب. وقال بعضهم : ان مقتضى الشرط
المذكور هو الوجوب ، لان القادر على الأمر بالمعروف يجب عليه وان لم يوله الجائر.
وهو جيد.
قال في المسالك
: ومقتضى هذا الشرط وجوب التولية ، لأن القادر على الأمر بالمعروف يجب عليه ، وان
لم يوله الظالم.
ولعل الوجه في
عدم الوجوب ، كونه بصورة النائب عن الظالم ، وعموم النهى عن الدخول معهم وتسويد
الاسم في ديوانهم ، فإذا لم يبلغ حد المنع ، فلا أقل من الحكم بعدم الوجوب ، ولا
يخفى ما في هذا الوجه. انتهى.
وما ذكره من ان
مقتضى الشرط المذكور الوجوب جيد ، لكن على تفصيل سنذكره إنشاء الله تعالى ، بعد
نقل الاخبار.
فنقول : من
الاخبار في المقام ما رواه في الكافي عن زياد بن أبي سلمة ، قال : دخلت على ابى
الحسن موسى عليهالسلام ، فقال لي : يا زياد انك لتعمل عمل السلطان؟ قال :
__________________
قلت : أجل. قال لي : ولم؟ قلت : انى رجل لي مروة ، وعلى عيال ، وليس وراء
ظهري شيء ، قال : فقال لي : يا زياد ، لأن أسقط من حالق فانقطع قطعة قطعة أحب الى
من ان أتولى لأحد منهم عملا ، أو أطأ بساط رجل منهم ، الا ، لما ذا؟ قلت : لا أدرى
جعلت فداك ، فقال : الا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه. يا زياد إن
أهون ما يصنع الله تعالى بمن تولى لهم عملا ان يضرب عليه سرادق من النار ، الى ان
يفرغ الله سبحانه من حساب الخلائق. يا زياد ، فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى
إخوانك ، فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك. يا زياد ، أيما رجل منكم تولى لأحد
منهم عملا ثم ساوى بينكم وبينهم ، فقولوا له : أنت منتحل كذاب. يا زياد ، إذا ذكرت
مقدرتك على الناس ، فاذكر مقدرة الله عليك غدا ، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم ، وبقاء
ما أبقيت إليهم عليك .
وعن ابى بصير
عن الصادق عليهالسلام ، قال : ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي ولاية ،
فقال : كيف صنيعه إلى إخوانه؟ قال : قلت : ليس عنده خير. قال : أف ، يدخلون فيما
لا ينبغي لهم ، ولا يصنعون إلى إخوانهم خيرا .
ومنها : ما
رواه على بن يقطين ، قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام : ما تقول في اعمال هؤلاء؟ قال : ان كنت لا بد فاعلا
فاتق أموال الشيعة ، قال : فأخبرني على ، انه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردها
عليهم في السر .
وعن الحسن بن
الحسين الأنباري ، عن ابى الحسن الرضا عليهالسلام ، قال : كتبت إليه : أربع عشرة سنة أستأذنه في اعمال
السلطان ، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه ، أذكره انى أخاف على خيط عنقي ، وان
السلطان يقول لي : انك رافضي ، ولسنا نشك في أنك تركت عمل السلطان للرفض ، فكتب
الى أبو الحسن عليهالسلام : قد فهمت كتابك
__________________
وما ذكرت من الخوف على نفسك ، فان كنت تعلم انك إذا وليت ، عملت في عملك
بما أمرك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك ، وإذا صار إليك شيء وواسيت به فقراء المؤمنين ، حتى
تكون واحدا منهم ، كان ذا بذا ، وو الا فلا .
وعن ابى بصير
عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : ما من جبار الا ومعه مؤمن يدفع
الله تعالى به عن المؤمنين ، وهو أقلهم حظا في الآخرة ، يعني أقل المؤمنين حظا
لصحبة الجبار .
وما في التهذيب
عن عمار في الموثق عن ابى عبد الله عليهالسلام ، سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل ، قال : لا الا ان
لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ، ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شيء ،
فليبعث بخمسه الى أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ .
وما رواه في
الكافي عن يونس بن عمار ، قال : وصفت لأبي عبد الله عليهالسلام من يقول بهذا الأمر ممن يعمل عمل السلطان ، وقال : إذا
ولوكم يدخلون عليكم الرفق وينفعونكم في حوائجكم؟ قال : قلت : منهم من يفعل ذلك
ومنهم من لا يفعل. قال : من لا يفعل ذلك منهم فابرؤا منه ، براء الله منه .
وما رواه في
الكافي والفقيه عن على بن يقطين ، قال : قال لي أبو الحسن عليهالسلام : ان لله عزوجل مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه .
__________________
قال في الفقيه
: وفي خبر آخر : أولئك عتقاء الله من النار. قال : وقال الصادق ـ عليهالسلام ـ : كفارة عمل السلطان ، قضاء حوائج الاخوان .
وروى الكشي في
الرجال في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : كان محمد بن إسماعيل من رجال ابى
الحسن موسى عليهالسلام ، وأدرك أبا جعفر الثاني عليهالسلام ، وقال حمدويه عن أشياخه : انه واحمد بن حمزة كانا في
عداد الوزراء. قال : وفي رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع «قال الرضا عليهالسلام : ان لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله تعالى له
البرهان ، ومكن له في البلاد ، ليدفع بهم عن أوليائه ، ويصلح الله تعالى به أمور
المسلمين ، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر ، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا ، وبهم
يؤمن الله تعالى روعة المؤمن في دار الظلم ، أولئك المؤمنون حقا ، أولئك أمناء
الله في أرضه ، أولئك نور الله في رعيته يوم القيامة ، ويزهر نورهم لأهل السماوات
كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض ، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء منه
القيامة ، خلقوا والله للجنة ، وخلقت الجنة لهم ، فهنيئا لهم ، ما على أحدكم ان لو
شاء لنال هذا كله. قال : قلت : بماذا ـ جعلني الله فداك ـ؟. قال : يكون معهم
فيسرنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد .
وروى الكشي في
الكتاب المذكور قال : لما قدم أبو إبراهيم موسى عليهالسلام العراق ، قال على بن يقطين : اما ترى حالي وما انا فيه؟
فقال له : يا على ان لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت
منهم يا على .
وروى في قرب
الاسناد بسنده عن على بن يقطين انه كتب الى ابى الحسن
__________________
عليهالسلام ان قلبي يضيق مما انا عليه من عمل السلطان ، وكان وزيرا
لهارون ، فإن أذنت ـ جعلني الله فداك ـ هربت منه. فرجع الجواب : لا آذن لك بالخروج
من عملهم .
وروى في
مستطرفات السرائر مما استطرفه من كتاب «مسائل الرجال ومكاتباتهم الى مولانا ابى
الحسن على بن محمد الهادي عليهالسلام» قال : وكتبت إليه أسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما
أتمكن من أموالهم ، هل فيه رخصة. وكيف المذهب في ذلك؟ فقال : ما كان الداخل فيه
بالجبر والقهر فالله قابل العذر ، وما خلا ذلك فمكروه ، ولا محالة قليله خير من
كثيره ، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبب على يديه ما يسر له فينا وفي
موالينا. قال : وكتبت إليه في جواب ذلك ، أعلمه أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود
السبيل إلى إدخال المكروه على عدوه وانبساط اليد في التشفي منهم ، بشيء ان أتقرب
به إليهم ، فأجاب : من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراما بل اجرا وثوابا .
وروى في المقنع
قال : روى عن الرضا عليهالسلام : انه قال : ان لله تعالى مع السلطان أولياء ، يدفع بهم
عن أوليائه. قال : وسئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل يحب آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رايتهم ، فقال : يحشره
الله على نيته .
وروى في
الأمالي عن زيد الشحام في الصحيح ، قال : سمعت الصادق عليهالسلام يقول : من تولى امرا من أمور الناس فعدل ، وفتح بابه ،
ورفع ستره ، ونظر في أمور الناس ، كان حقا على الله عزوجل ان يؤمن روعته يوم القيامة ، ويدخله الجنة .
وروى في الكافي
والتهذيب عن محمد بن جمهور وغيره ، من أصحابنا قال : كان النجاشي ـ وهو رجل من
الدهاقين ـ عاملا على الأهواز وفارس ، فقال بعض
__________________
أهل عمله لأبي عبد الله عليهالسلام : ان في ديوان النجاشي علىّ خراجا ، وهو ممن يدين
بطاعتك ، فإن رأيت ان تكتب لي إليه كتابا؟ فكتب إليه أبو عبد الله عليهالسلام :
«بسم الله
الرحمن الرحيم ، سر اخاك يسرك الله تعالى».
قال : فلما ورد
عليه الكتاب وهو في مجلسه فلما خلا ، ناوله الكتاب ، فقال :
هذا كتاب ابى
عبد الله عليهالسلام؟ فقبله ووضعه على عينيه ، قال : ما حاجتك؟ فقال ، على
خراج في ديوانك. قال له : كم هو؟ قال : عشرة آلاف درهم. قال ، فدعى كاتبه فأمره
بأدائها عنه ، ثم اخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل. ثم قال له : هل سررتك؟ قال
: نعم. قال : فأمر له بعشرة آلاف درهم اخرى ، فقال له ، هل سررتك؟ فقال : نعم جعلت
فداك فأمر له بمركب ثم أمر له بجارية وغلام وتخت ثياب ، في كل ذلك يقول : هل سررتك؟
فكلما قال : نعم ، زاده ، حتى فرغ. قال له : احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا
فيه ، حين دفعت الى كتاب مولاي ، وارفع الى جميع حوائجك ، قال ففعل وخرج الرجل ،
فصار الى ابى عبد الله عليهالسلام بعد ذلك فحدثه بالحديث ، على وجهه ، فجعل يستبشر بما
فعل. فقال له الرجل : يا ابن رسول الله ، كأنه قد سرك ما فعل بي؟ قال : اى والله ،
لقد سر الله تعالى ورسوله .
أقول : لا يخفى
ما في هذه الاخبار ، باعتبار ضم بعضها الى بعض ، من التدافع والتمانع.
ومجمل القول
فيها : انه لا شك أنه قد علم من الاخبار المتقدمة حرمة الدخول في أعمالهم على أوكد
وجه ، بل مجرد محبتهم والركون إليهم وحب بقائهم ، فضلا عن مساعدتهم وإعانتهم
بالأعمال ، الا ان الاخبار الدالة على الجواز ظاهرة فيه بالقيود المذكورة فيها ،
لكنها ظاهرة الاختلاف ، فان منها ما يدل على انه بالإتيان بتلك الشروط انما تحصل
له بها الكفارة ، بأن تكون هذه الشروط كفارة لدخوله في العمل ،
__________________
كما يشير اليه قوله ـ في حديث ابى بصير المتقدم ـ : وهو أقلهم حظا في
الآخرة . أي أقل المؤمنين. وقوله ـ في خبر الحسن بن الحسين
الأنباري ـ : كان ذا بذا . وفي خبر زياد بن أبي سلمة : فواحدة بواحدة .
ولعله عليهالسلام ـ في رواية الأنباري ـ كان يعلم عدم حصول القتل عليه
بعدم دخوله ، والا فمنعه عن الدخول ـ والحال هذه ـ خروج عن الأدلة القطعية ، آية
ورواية في العمل بالتقية ، كما لا يخفى.
ومنها : ما يدل
على انه ينال بذلك الحظ الأوفر والمنزلة العليا ، كما يدل عليه كلام الرضا عليهالسلام في رواية الكشي . واخبار على بن يقطين وعلو مرتبته عند الكاظم عليهالسلام . وخبر النجاشي وما قاله الصادق عليهالسلام في حقه .
ويؤيده خبر منع
الكاظم عليهالسلام لعلى بن يقطين عن الخروج من أعمالهم.
* * *
والتحقيق في
ذلك : ان هنا مقامات ثلاثة :
(الأول) : ان
يدخل في أعمالهم لحب الدنيا ، وتحصيل لذة الرئاسة ، والأمر والنهى. وهو الذي يحمل
عليه اخبار المنع.
(الثاني) : ان
يكون كذلك ، ولكن يمزجه بفعل الطاعات وقضاء حوائج المؤمنين وفعل الخيرات. وهذا هو
الذي أشير إليه في الاخبار المتقدمة ، كما عرفت من قوله عليهالسلام : ذا بذا. وقوله : واحدة بواحدة. وقوله : وهو أقلهم
حظا.
__________________
ونحو ذلك.
(الثالث) : ان
يكون قصده من الدخول فيها ، انما هو محض فعل الخير ، ودفع الأذى عن المؤمنين ،
واصطناع المعروف إليهم ، وهو الفرد النادر وأقل قليل ، حتى قيل انه من قبيل إخراج
اللبن الخالص من بين فرث ودم.
ويشير الى هذا
الفرد عجز حديث السرائر المتقدم وعلى هذا يحمل دخول مثل الثقة الجليل على بن يقطين ،
ومحمد بن إسماعيل بن بزيع ، وأمثالهما من أجلاء الرواة عنهم ، والنجاشي المتقدم
ذكره ، وكذلك جملة من علمائنا الأعلام ، كالمرتضى والمحقق الخواجة نصير الدين
والملة ، وآية الله العلامة الحلي ، ومن المتأخرين المحقق الثاني في سلطنة الشاه
إسماعيل ، وشيخنا البهائي ، وشيخنا المجلسي ، ونحوهم عطر الله مراقدهم. مع تسليم
دعوى العموم. وبذلك يزول الاشكال والله العالم.
__________________
تتمة مهمة
أقول : ومن هنا
يعلم الكلام في جواز الدخول في أعمالهم وعدمه ، والأصحاب قد صرحوا هنا بأنه لا
يجوز الدخول في أعمالهم إلا مع التمكن من القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
وقسمة الصدقات والأخماس على مستحقيها ، وصلة الاخوان ، ولا يرتكب في ذلك المآثم ،
علما أو ظنا ، والا فلا يجوز الولاية بلا خلاف ، كما نقله في المنتهى.
وعلى الأول
تحمل الأخبار الدالة على رضا الأئمة عليهمالسلام ببعض الولاة ، كمن أشرنا إليهم في آخر البحث.
وعلى الثاني
تحمل الأخبار المانعة من الدخول كما تقدم.
والظاهر ان
القسم الثاني الذي قدمنا ذكره داخل في الأول من هذين القسمين ، كما تقدم في رواية
الأنباري ، فهو أعم منهما.
والفرق بينهما
حينئذ ـ مع اشتراكهما في الاذن والقيام بالأمور المذكورة ـ من جهة ما قدمنا ذكره ،
من قصد أمر زائد في الدخول على هذه الأمور المذكورة ، وهو حب الرئاسة والأمر
والنهى ونحو ذلك ، وعدمه. فمع قصده يكون من القسم
__________________
الثاني المتقدم ذكره ، ومع عدمه يكون من القسم الثالث الذي هو أقل قليل :
واما لو أكرهه الجائر على الدخول فإنه يجوز له الولاية دفعا للضرر عن نفسه ، ولا
يجوز له ان يتعدى الحق ما أمكنه ، فإن أكره على استعمال مالا يجوز شرعا جاز له ،
ما لم يبلغ الى الدماء ، فإنه لا تجوز التقية فيها على حال.
* * *
بقي الكلام في
الدماء التي لا تقية فيها ، هل هي أعم من القتل والجرح أو مخصوصة بالقتل ، قولان.
والمدعى للعموم
ادعى ورود رواية بأنه لا تقية في الدماء.
والمدعى
للتخصيص نقل رواية بأنه لا تقية في القتل.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المقام ، ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن
ابى جعفر عليهالسلام ، قال : انما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم
فليس تقية .
وروى الشيخ في
الموثق عن أبي حمزة الثمالي ، قال ، قال أبو عبد الله عليهالسلام : انما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقية
الدم فلا تقية .
وأنت خبير بما
فيهما من الإجمال ، لاحتمال حمل الدم على ظاهره الشامل للجرح ، واحتمال ارادة
القتل خاصة ، فإنه مما يعبر عنه بهذه العبارة غالبا.
وبالجملة
فالمسألة لأجل ذلك محل اشكال والله العالم.
__________________
المسألة الرابعة
نوح النائح بالباطل
بان تذكر مالا
يجوز ذكره ، كالكذب. فلو كان بحق فإنه لا بأس به ، ونحوه مع عدم سماع الأجانب
صوتها ، على القول بتحريمه ، وحينئذ فالمنع منه انما هو لاشتماله على المحرم ،
والا فإنه في نفسه جائز على المشهور.
وعلى ذلك تدل
الاخبار :
ومنها : ما
رواه في الكافي والتهذيب في الموثق عن يونس بن يعقوب ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : قال لي أبي : يا جعفر ، أوقف لي من مالي كذا
وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى ، أيام منى .
قيل : الندب ان
تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه وأفعاله ، والبكاء عليه. والاسم : الندبة ـ بالضم.
قال بعض
مشايخنا : يدل الخبر على رجحان الندبة عليهم واقامة مأتم لهم ، لما فيه من تشييد
حبهم وبغض ظالميهم في القلوب ، وهما العمدة في الايمان.
__________________
فالظاهر :
اختصاصه بهم ـ عليهمالسلام ـ لما ذكرنا. انتهى.
ومنها : ما
روياه ـ أيضا ـ في الكتابين المذكورين ، عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : مات الوليد بن المغيرة ، فقالت أم سلمة للنبي صلىاللهعليهوآله : ان آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها
، فلبست ثيابها وتهيأت ، وكانت من حسنها كأنها جان ، وكانت إذا قامت وأرخت شعرها
جلل جسدها ، وعقدت طرفه بخلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالت :
أنعى الوليد
، ابن الوليد
|
|
أبا الوليد ،
فتى العشيرة
|
حامى الحقيقة
، ماجدا
|
|
يسمو الى طلب
الوتيرة
|
قد كان غيثا
في السنين
|
|
وجعفرا غدقا
وميرة
|
فما عاب النبي صلىاللهعليهوآله عليها ذلك ولا قال شيئا .
والجعفر :
النهر الواسع والملان. والغدق : الماء الكثير ، ومنه الآية «ماءً غَدَقاً». والميرة : الطعام.
وعن حنان بن
سدير ، قال : كانت امرأة معنا في الحي ، ولها جارية نائحة ، فجاءت الى ابى ، فقالت
: يا عم ، كنت تعلم أن معيشتي من الله ثم من هذه الجارية ، فأحب أن تسأل أبا عبد
الله عليهالسلام عن ذلك ، فان كان حلالا والا بعتها وأكلت ثمنها حتى
يأتي الله بالفرج ، فقال لها ابى : والله انى لأعظم أبا عبد الله عليهالسلام ان أسأله عن هذه المسألة. قال : فلما قدمنا عليه ـ ع ـ أخبرته
أنا بذلك ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أتشارط؟ قلت : والله ما أدرى تشارط أم لا! فقال أبو
عبد الله عليهالسلام : قل لها : لا تشارط وتقبل ما أعطيت .
__________________
وظاهر هذا
الخبر كراهته مع الاشتراط ، أو زيادة الكراهة به ، لما سيأتي من الاخبار الدالة
على الكراهة.
وما رواه في
الكافي عن عذافر قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن كسب النائحة ، فقال : تستحله بضرب احدى يديها على
الأخرى .
قيل : لعل
المراد انها تعمل أعمالا شاقة تستحق الأجرة فيها ، أو إشارة إلى انه لا ينبغي ان
تأخذ الأجرة على النياحة ، بل على ما يضم إليها من الأعمال. انتهى.
وقيل : هو
كناية عن عدم اشتراط الأجرة. ولا يخفى ما فيه.
أقول : لعل
الأقرب : ان المراد بيان أقل ما تستحق الأجرة ، وهو ضرب احدى اليدين على الأخرى.
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن ابى بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت.
وروى في الفقيه
مرسلا ، قال : وسئل الصادق عليهالسلام عن أجر النائحة؟ فقال : لا بأس به ، قد نيح على رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : وقال عليهالسلام لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا .
أقول : الظاهر
ان هذه الرواية هي ما ذكره عليهالسلام
في الفقه
الرضوي ، حيث قال : ولا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا ثم قال عليهالسلام ، ولا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط الى آخر كلامه عليهالسلام .
وما رواه في
التهذيب عن سماعة في الموثق ، قال : سألته عن كسب المغنية
__________________
والنائحة؟ فكرهه .
أقول : يجب حمل
الكراهة في المغنية على التحريم البتة ، لما تقدم في مسألة الغناء. واما في
النائحة فعلى ما يأتي. فأما ما رواه في الكافي عن عمرو والزعفراني ، عن ابى عبد
الله عليهالسلام ، قال : من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة
بمزمار فقد كفرها ، ومن أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفرها .
وما رواه في
الفقيه في حديث المناهي عن الحسين بن زيد ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه نهى عن الرنة عند المصيبة ، ونهى عن النياحة
والاستماع إليها ، ونهى عن تصفيق الوجه .
وما رواه في
الخصال عن عبد الله بن الحسين بن زيد بن على عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه ،
عن على عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة ، الفخر
بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستقساء بالنجوم ، والنياحة على الميت : وان
النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من
جرب .
وما رواه على
بن جعفر في كتابه عن أخيه ، قال : سألته عن النوح على الميت ، أيصلح؟ قال : يكره .
وما رواه في
قرب الاسناد عن على بن جعفر عن أخيه موسى ، قال : سألته عن النوح ، فكرهه .
__________________
وبظاهر هذه
الاخبار قال في المبسوط ، وابن حمزة ، بل ادعى الشيخ عليه الإجماع فهي محمولة على
ما اشتمل على معصية ومحرم ، من النوح بالباطل ونحوه ، مع احتمال الحمل على التقية
، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام ، وذكر الخلاف بين الأصحاب في المسألة أيضا
في الجلد الثاني من كتاب الطهارة ، في بحث غسل الميت فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه ، وتحقيق الحال بما
ينكشف به غشاوة الاشكال ، والله العالم.
__________________
المسألة الخامسة
في حفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقض
كذا صرح به
جملة من الأصحاب ، بل ظاهر المنتهى : انه إجماع. ولم أقف في النصوص على ما يتعلق
بهذا الباب.
قال في المسالك
: المراد حفظها من التلف أو على ظهر القلب ، وكلاهما محرم لغير النقض والحجة على أهلها
، لمن له أهليتها لا مطلقا ، خوفا على ضعفاء البصيرة من الشبهة ، ومثله نسخها ،
وكذا يجوز للتقية ، وبدونها يجب إتلافها إذا لم يمكن افراد موضع الضلال والا اقتصر
عليها حذرا من إتلاف ما يعد مالا ، من الجلد والورق ، إذا كان لمسلم أو لمحترم
المال. انتهى.
وعندي في الحكم
من أصله توقف ، لعدم النص ، والتحريم والوجوب ونحوهما أحكام شرعية ، يتوقف القول
بها على الدليل الشرعي ، ومجرد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم ، لا تصلح عندي
لتأسيس الأحكام الشرعية.
قال المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد : لعل دليل التحريم ، انه قد يؤل الى ما هو المحرم ، وهو
العمل به ، وان حفظها ونسخها ينبئ بالرضا بالعمل والاعتقاد بما فيه ، وانها مشتملة
على البدعة ، ويجب دفعها من باب النهى عن المنكر. انتهى.
ولا يخفى ما فيه.
قيل : ولعل
المراد بها أعم من كتب الأديان المنسوخة وكتب المخالف للحق ، أصولا وفروعا ،
والأحاديث المعلوم كونها موضوعة ، لا الأحاديث التي رواها الضعفاء ، لمذهبهم
ولفقههم مع احتمال الصدور ، وحينئذ يجوز حفظ الصحاح الستة ، غير الموضوع المعلوم
كالاحاديث التي في كتبنا مع ضعف رواتها ، لكونهم زيدية وفطحية وواقفية ، ولا ينبغي
الاعراض عن الاخبار النبوية ، التي رواها العامة ، فإنها ليست الأمثل ما ذكرنا.
أقول : لو كان
الحكم المذكور منصوصا عليه ، والعلة من النص ظاهرة ، لأمكن استنباط الأحكام من
النص ، بما يناسب تلك العلة ، ويناسب سياق النص ، وأمكن التفريع على ذلك بما
يقتضيه الحال من ذلك النص ، وحيث ان الأمر ليس كذلك ، فهذه التفريعات والتخريجات
كلها انما هي من قبيل الرمي في الظلام.
وقال المحقق
المتقدم ذكره : ثم ان الظاهر ان الممنوع منه هو كتب الضلال فقط ، لا مصنف المخالف
في مذهبه مطلقا وان وافق الحق ، فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها الا المواضع
المخصوصة المعلوم بطلانها وفسادها من الدين ، فان الظاهر لا قصور في أصول فقههم
الا نادرا ، إذ الحق هنا ما ثبت بالدليل وليس شيء هنا مقرر في الدين قد خولف ، بل
كتبهم في ذلك مثل كتبنا في نقل الخلاف واختيار ما هو المبرهن ، وهو الحق. وكذلك
بيعها وسائر التكسب بها ، على انه يجوز كله للأغراض الصحيحة ، بل قد يجب كالتقية
والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقلها ونقل أدلتها إلى كتبنا ، وتحصيل القوة وملكة
البحث على أهلها. انتهى.
أقول : والكلام
هنا يجرى على حسب حال ما قدمناه ، فان تخصيص المنع بالضلال فقط جيد لو كان ثمة
دليل على حسب ما ذكروه ، ولكنهم هنا انما يبحثون على تقدير هذه العبارة التي
قدمناها ، وهي التي يذكرونها في هذا المقام ، وقد عرفت انه لا مستند لهم ، من
اخبارهم عليهمالسلام.
هذا مع تطرق
الإشكال إليها والاحتمال ، بان المراد من كتب الضلال يعنى كتب أهل الضلال ، وهو
مجاز شائع في الكلام ، وبه ينتفي ما ذكروه من التخصيص بالضلال ، ويصير عاما
لمصنفات أهل الضلال مطلقا. وهذا هو المناسب لما ورد من النهى عن الجلوس إليهم
والاستماع منهم ولو للرد عليهم ، خوفا من شمول اللعنة والعذاب له كما يشير اليه
بعض الاخبار .
واما قوله :
فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها ، فإنه وان سلم انها ليست ممنوعا منها من هذه
الجهة المذكورة ، الا انها ممنوع منها بما استفاض في الاخبار من النهى عن تفسير
القرآن الا بما ورد عنهم عليهمالسلام ، وان كان المشهور بينهم عدم العمل بهذه الاخبار ، كما
يعطيه كلامه هنا ، نسأل الله سبحانه المسامحة لنا ولهم من عثرات الأقلام وزلات
الاقدام.
ولعل ذلك لعدم
اطلاعهم عليها ، وإمعان النظر في تتبعها من مظانها ، والا فهي في الكثرة والدلالة
على ما قلناه أشهر من ان ينكر ، كما بسطنا الكلام عليه في غير المقام من مؤلفاتنا
، وأشرنا الى ذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب وبينا ان جملة الأخبار
الواردة عنهم عليهمالسلام متفقة الدلالة على المنع من تفسيره الا بما ورد عنهم عليهمالسلام .
ولذلك تصدى
لذلك جملة من فضلاء المتأخرين المتبحرين ، منهم السيد العلامة السيد هاشم الكنكانى
البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان في تفسير القرآن ، فجمع تلك الأخبار الواردة
بتفسير الآيات عنهم ـ عليهمالسلام ـ ، ولقد أحاط بجملة من الاخبار في تفسير الآيات ، ولم
يسبقه سابق الى وصول هذه المقامات.
ثم الشيخ عبد
العلى الحويزاوي في كتاب نور الثقلين.
__________________
ثم المحدث
الكاشاني في تفسيره الصافي ، وهو الحق الحقيق بالاتباع.
واما قوله :
فان الظاهر انه لا قصور في أصول فقههم. إلخ. ففيه انه لا ريب ان هذا العلم واختراع
التصنيف فيه والتدوين لأصوله وقواعده ، انما وقع أولا من العامة ، فإن من جملة من
صنف فيه الشافعي ، وهو في عصر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ مع انه لم يرد عنهم ـ عليهمالسلام ـ ما يشير اليه ، فضلا عن ان يدل عليه ، ولو كان حقا كما يدعونه ، بل هو الأصل في الأحكام الشرعية كما
يزعمونه ، لما غفل عنه
__________________
الأئمة عليهمالسلام ، مع حرصهم على هداية شيعتهم ، الى كل نقير وقطمير ، كما لا يخفى على من
تتبع أخبارهم ، إذ ما من حالة من حالات الإنسان ، في مأكله ومشربه وملبسه ونومه
ويقظته ونكاحه ونحو ذلك من أحواله ، الا وقد خرجت فيه السنن عنهم عليهمالسلام حتى الخلاء ، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في باب
الخلاء لكان كتابا على حده ، فكيف يغفلون عن هذا العلم الذي هو بزعمهم مشتمل على
القواعد الكلية والأصول الجلية ، والأحكام الشرعية ، وكذلك أصحابهم في زمانهم عليهمالسلام ، مع رؤيتهم العامة عاكفين على تلك القواعد والأصول ،
يعملون به الى ان انتهت النوبة بعد الغيبة إلى الشيخ ـ رحمهالله ـ فصنف فيه استحسانا لما رآه في كتبهم ، وخالفهم فيما
لا يوافقون أصول مذهبنا وقواعده ، ثم جرى على ذلك من بعده من أصحابنا ، كما هي
قاعدتهم غالبا من متابعته في فتاويه وأحكامه وتصانيفه.
وبالجملة فإن
الأمر فيما ذكرنا أظهر من ان يخفى عند الخبير المنصف.
فكتبهم فيه لا
تخرج عن كتب أهل الضلال ، ان عممنا الحكم في المقام ، إلا انك قد عرفت ان أصل
البناء كان على غير أساس ، فصار معرضا لحصول الشك والشبهة والالتباس.
وكيف كان
فالظاهر على تقدير ثبوت التحريم ، انه ان كان الغرض من إبقائها الاطلاع على
المذاهب والأقوال ليكون على بصيرة في تمييز الحق من الباطل وعرض ما اختلف من
الاخبار عليها والأخذ بخلافه ، حيث انه مأمور بذلك عنهم عليهمالسلام ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة ، فلا إشكال في الجواز.
واليه يشير قوله ـ قدسسره ـ أخيرا : على انه يجوز للأغراض الصحيحة. إلخ. والله
العالم وأولياؤه.
المسألة السادسة
في هجاء المؤمن والغيبة
والمراد بالأول
: ذكر معايبه في الاشعار. والثاني : القول بما يكرهه ويغيظه ، وان كان حقا.
قال في المسالك
: وخرج بالمؤمنين غيرهم ، فيجوز هجاؤهم كما يجوز لعنهم.
ولا فرق هنا
بين المؤمن الفاسق وغيره ، اللهم الا ان يدخل هجاء الفاسق في مراتب النهى عن
المنكر ، بحيث يتوقف ردعه عليه ، فيمكن جوازه حينئذ ان فرض انتهى.
وقال المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد : والظاهر ان عموم أدلة الغيبة من الكتاب والسنة يشمل
المؤمنين وغيرهم ، فان قوله تعالى «وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً» اما للمكلفين كلهم أو المسلمين فقط ، لجواز غيبة الكافر.
ولقوله بعده «لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» وكذا الأخبار ، فإن أكثرها بلفظ «الناس» أو «المسلم» مثل
ما روى في الفقيه «من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه ، ونقض وضوؤه ، وجاء يوم القيامة
يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة ، يتأذى به أهل الموقف ، وان مات قبل ان يتوب
مات مستحلا
لما حرم الله تعالى» . «ألا ومن سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها» ،. «ومن اصطنع إلى أخيه معروفا فامتن به أحبط الله
تعالى عمله ، واثبت وزره ولم يشكر له سعيه» .
وقال الشيخ زين
الدين في رسالة الغيبة : «قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه. والغيبة
: تناول العرض ، وقد جمع بينه وبين المال والدم. وقال عليهالسلام : لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، وكونوا
ـ عباد الله ـ إخوانا. وعن انس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مررت ليلة اسرى بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم.
فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في اعراضهم.
وقال البراء : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى اسمع العواتق في بيوتهن. قال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ،
لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فان من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» . الى غير ذلك ، وبالجملة عموم أدلة الغيبة. وخصوص ذكر
المسلم يدل على التحريم مطلقا ، وان عرض المسلم كدمه وماله ، فكما لا يجوز أخذ مال
المخالف وقتله ، لا يجوز تناول عرضه الذي هو الغيبة ، وذلك لا يدل على كونه مقبولا
عند الله تعالى ، لعدم جواز أخذ ماله وقتله ، كما في الكافر. ولا يدل جواز لعنه في
النص على جواز الغيبة ، مع تلك الأدلة ، بأن يقول : انه قصير أو طويل أو أعمى أو
أجذم أو أبرص وغير ذلك ، وهو ظاهر. وأظن انى رأيت في قواعد الشهيد رحمهالله انه يجوز غيبة المخالف ، من حيث مذهبه ودينه الباطل
وكونه فاسقا من تلك الجهة لا غير ، مثل ان يقال أعمى ونحوه والله اعلم ، ولا شك ان
الاجتناب أحوط.
__________________
انتهى .
وصاحب الكفاية
قد نقل صدر هذا الكلام ، فقال : وقال بعض المتأخرين ، إلى قوله : ألا من سمع
الفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها ، ثم قال : ونقل عن رسالة الشهيد الثاني اخبار ،
بعضها بلفظ الناس ، وبعضها بلفظ المسلم. وظاهره : الجمود عليه وموافقته فيما ذكره
، حيث لم يتعرض لرده ولا قدح فيه.
أقول : وأنت
خبير بما فيه من الوهن والقصور ، وان كان مبنيا على ما هو المعروف المشهور من
الحكم بإسلام المخالفين ، الا ان اخبار أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ ظاهرة في رده ، متكاثرة مستفيضة على وجه لا يعتريها
الفتور.
وقد بسطنا
الكلام في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ، وقد قدمنا نبذة في ذلك في كتاب
الطهارة في باب نجاسة الكافر ، وأوضحنا كفر المخالفين غير المستضعفين ، ونصبهم
وشركهم بالاخبار المتكاثرة ، التي لا معارض لها في البين ، وانه ليس إطلاق المسلم
عليهم ، الا من قبيل إطلاقه على الخوارج وأمثالهم ، من منتحلي الإسلام ، وتوجه
الطعن الى كلام هذا المحقق أكثر من ان يأتي عليه قلم البيان.
ولكن لا بد من
التعرض لما لا بد منه مما يندفع به الاشكال ، عن الناظر في هذا المقال ، فنقول :
فيه ـ أولا ـ :
ان ما ادعاه من الحكم بإسلامهم مردود ، للأخبار المستفيضة والآيات الطويلة العريضة
، الدالة على الكفر. ولأجل إزاحة ثقل المراجعة على النظار في الرجوع الى ما قدمناه
في كتاب الطهارة من الاخبار ، نشير الى نبذة منها على جهة الاختصار.
ففي الكافي عن
ابى جعفر عليهالسلام ، قال : ان الله عزوجل نصب عليا علما بينه وبين خلقه ، فمن عرفه كان مؤمنا ،
ومن أنكره كان كافرا ، ومن جهله كان ضالا .
__________________
وقال : ان عليا عليهالسلام باب فتحه الله فمن دخله كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان
كافرا ، ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تبارك وتعالى
: لي فيهم المشية .
وعن الصادق عليهالسلام قال : من عرفنا كان مؤمنا ، ومن أنكرنا كان كافرا ، ومن
لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا ، حتى يرجع الى الهدي الذي افترض الله عليه من
طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء .
وبهذا المضمون
أخبار عديدة.
وروى فيه بسنده
الى الصادق عليهالسلام ، قال : أهل الشام شر من أهل الروم ، وأهل المدينة شر
من أهل مكة ، وأهل مكة يكفرون بالله جهرة .
وبسنده فيه عن
أحدهما ـ عليهماالسلام ـ قال : ان أهل مكة ليكفرون بالله جهرة وان أهل المدينة
أخبث من أهل مكة ، أخبث منهم سبعين ضعفا .
وقد روى في
الكافي جملة من الاخبار في تفسير الكفر ، في جملة من الآيات القرآنية ، بترك
الولاية.
منها : ما رواه
بسنده الى الصحاف قال : سألت الصادق عليهالسلام ، عن قوله تعالى «فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» قال : عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بها ، يوم أخذ
عليهم الميثاق في صلب آدم وهم ذر . ونحوه غيره فليرجع الى الكتاب
__________________
المذكور من أحب الاطلاع عليه فأين ثبوت الإسلام لأولئك الطغام ، مع هذه
الآيات والاخبار الواضحة لكل ناظر من ذوي الأفهام!! وأظهر من ذلك ما رواه
في الخصال
بسنده عن مالك الجهني ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ، ولا
ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب اليم ، من ادعى اماما ليست إمامته من الله
تعالى ، ومن جحد إماما إمامته من عند الله تعالى ، ومن زعم ان لهما في الإسلام
نصيبا .
ورواه النعماني
في كتاب الغيبة في الصحيح عن عمران الأشعري ، عن جعفر ابن محمد مثله. نعوذ بالله
من زيغ الافهام وطغيان الأقلام ، ونسأله سبحانه المسامحة لنا ولهم في أمثال هذا
المقام.
وثانيا : ان ما
ذكره بقوله «والظاهر ان عموم أدلة تحريم الغيبة من الكتاب والسنة يشمل المؤمنين
وغيرهم ، فان قوله تعالى ، (لا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، اما للمكلفين أو المسلمين. إلخ» من العجب العجاب عند
ذوي العقول والألباب. فان صدر الاية «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا» فالخطاب للمؤمنين خاصة ، فكيف يقول : ان الخطاب للمكلفين
أو المسلمين؟! وكأنه غفل عن صدر الآية حتى بنى عليها هذا الكلام الواهي البالغ
غاية الضعف.
وبالجملة ، فإن
الآية انما هي عليه ، لا له ، لما سيأتيك أيضا زيادة على ما ذكرناه.
وثالثا : ان
الآية التي دلت على تحريم الغيبة ، وان كان صدرها مجملا ، الا ان قوله فيها «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» مما يعين الحمل على المؤمنين ، فإن إثبات الاخوة بين
المؤمن والمخالف له في دينه ، لا يكاد يدعيه من شم رائحة الايمان ، ولا من أحاط
خبرا باخبار السادة الأعيان ، لاستفاضتها بوجوب معاداتهم ، والبراءة منهم.
ومنها : ما
رواه الصدوق في معاني الاخبار ، والعيون والمجالس ، وصفات
__________________
الشيعة ، والعلل ، عن محمد بن القاسم الأسترآبادي ، عن يونس بن محمد بن
زياد ، وعلى بن محمد بن سيار ، عن أبويهما عن الحسن بن على العسكري عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ ، ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لبعض أصحابه ذات يوم : يا عبد الله أحب في الله
وأبغض في الله ، ووال في الله وعاد في الله ، فإنه لن تنال ولاية الله الا بذلك
ولا يجد الرجل طعم الايمان ، وان كثرت صلاته وصيامه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت
مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا ، عليها يتواددون وعليها يتباغضون ، وذلك
لا يغني من الله شيئا. فقال الرجل : يا رسول الله ، فكيف لي ان اعلم انى قد واليت
في الله وعاديت في الله؟ ومن ولى الله حتى أواليه؟ ومن عدوه حتى أعاديه؟ فأشار صلىاللهعليهوآلهوسلم الى على عليهالسلام فقال : أترى هذا؟ قال : بلى. قال : ولى الله هذا فواله
، وعدو هذا عدو الله فعاده. ثم قال : وال ولى هذا ، ولو انه قاتل أبيك وولدك ،
وعاد عدو هذا ولو أنه أبوك وولدك .
أقول : فليختر
هذا القائل ، ان المخالف هل هو من أولياء على عليهالسلام فتجب موالاته وتثبت اخوته ويجب الحكم بدخوله الجنة لذلك؟
أو انه عدو له عليهالسلام فتجب معاداته وبغضه بنص هذا الخبر الصحيح الصريح عنه صلىاللهعليهوآله؟ ولو لم يكن الا هذا الخبر لكفى به حجة ، فكيف والاخبار
بهذا المضمون مستفيضة متكاثرة.
ومنها : ما
رواه أيضا في الكافي عن عمرو بن مدرك عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه : أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا : الله ورسوله
اعلم. وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام. وقال
بعضهم : الحج والعمرة. وقال بعضهم : الجهاد. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لكل ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان :
الحب في الله والبغض في الله ، وتوالى أولياء الله ، والتبري من أعداء الله .
__________________
ومنها : ما
رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : كل من لم يحب على الدين ، ولم يبغض على الدين
فلا دين له .
وبالإسناد عن
ابى عبد الله عليهالسلام في رسالته الى أصحابه ، قال : أحبوا في الله من وصف
صفتكم ، وأبغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم ، ولا
تبذلوها لمن رغب عن صفتكم .
وروى في كتاب
صفات الشيعة للصدوق بسنده عن ابن فضال ، عن الرضا عليهالسلام ، قال : من والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله ، ومن
عادى أولياء الله فقد عاد الله ، وحق على الله ان يدخله نار جهنم .
وروى في كتاب
ثواب الأعمال وكتاب صفات الشيعة. عن صالح بن سهل عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : من أحبنا وأبغض عدونا في الله ، من غير ترة
وترها إياه في شيء من أمر الدنيا ، ثم مات على ذلك فلقي الله وعليه من الذنوب مثل
زبد البحر غفرها الله له . الى غير ذلك من الاخبار التي يضيق عن نقلها المقام.
ويعضد هذه
الاخبار العلية المنار الساطعة الأنوار قوله عزوجل «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» وقوله عزوجل «لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ» .
وإذا كان الله عزوجل نهى أهل الإيمان عن ولايتهم ومحبتهم ، فكيف يجوز الحكم
في الآية المشار إليها بأخوتهم!؟ ما هذا الا سهو واضح من هذا النحرير ، وبذلك
__________________
يظهر لك ايضا حمل خبر البراء الذي نقله ، على المؤمن أيضا ، لقوله فيه «من
تتبع عورة أخيه» إذ لا اخوة بين المؤمن والمخالف ، كما عرفت.
وليت شعري أي
فرق بين من كفر بالله سبحانه تعالى ورسوله ، وبين من كفر بالأئمة ـ عليهمالسلام ـ؟ مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين بنص الآيات
والاخبار الواضحة الدلالة كعين اليقين.
ورابعا : ان ما
استند اليه من ورود الأخبار الدالة على تحريم الغيبة بلفظ «المسلم» ففيه :
أولا : انك قد
عرفت ان المخالف كافر ، لاحظ له في الإسلام بوجه من الوجوه ، كما حققناه في كتابنا
«الشهاب الثاقب».
وثانيا : مع
تسليم صحة إطلاق الإسلام عليه ، فالمراد به : انما هو منتحل الإسلام ، كما تقدمت
الإشارة اليه ، والمراد هنا : انما هو الإسلام بالمعنى الأخص ، وهو المؤمن الموالي
لأهل البيت ـ عليهمالسلام.
إذ لا يخفى
وقوع إطلاق الإسلام على هذا المعنى في الآيات والروايات ، ومنه : قوله تعالى «إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ» وقوله عزوجل ـ في حق الأئمة ـ : «هُوَ سَمّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ» وقوله «فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
كما ان الايمان
يطلق أيضا تارة على الإسلام بالمعنى الأعم ، كقوله عزوجل : «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا» فان المخاطبين هم المقرون بمجرد اللسان ، أمرهم
بالايمان بمعنى التصديق. وإطلاق المسلم بالمعنى الذي ذكرنا في الاخبار أكثر كثير ،
كما لا يخفى على من له أنس بالاخبار.
__________________
وثالثا ان
الموجود في أكثر الأخبار الواردة من طرقنا ، انما هو بلفظ «المؤمن» ونحوه ، مثل ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابى عمير ، عن بعض أصحابه ، عن الصادق عليهالسلام : من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من
الذين قال الله عزوجل «إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
وعن عبد الرحمن
بن سيابة ، قال : سمعت الصادق عليهالسلام يقول : الغيبة : ان تقول في أخيك ما ستره الله عليه ،
واما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا. والبهتان : ان تقول فيه ما ليس فيه .
وعن داود بن
سرحان ، قال : سألت الصادق عليهالسلام عن الغيبة ، فقال : هو ان تقول لأخيك في دينه ما لم
يفعل ، وتبث عليه امرا قد ستره الله عليه ، لم يقم عليه فيه حد .
وما رواه في
الفقيه مرسلا ، قال : قال الصادق عليهالسلام في حديث : ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو
شرك شيطان . الحديث ،. الى غير ذلك من الاخبار.
وحينئذ فيجب
حمل «المسلم» على ما ورد في هذه الاخبار المتضمنة للفظ المؤمن والأخ. على ان أكثر
ما نقله من الاخبار انما هو من روايات العامة ، التي لا يقوم بها حجة ، لا سيما
على ما هو المعهود من قاعدته وقاعدة أمثاله من أصحاب هذا الاصطلاح ، في رد الأخبار
المروية في الأصول المشهورة بضعف السند باصطلاحهم المحدث ، فكيف بالأخبار العامة.
__________________
وخامسا : ان
قوله : «انه كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه» فان فيه ـ زيادة
على ما عرفت ـ : ان الاخبار قد جوزت قتله وأخذ ماله مع الأمن وعدم
التقية ، ردا عليه وعلى أمثاله ممن حكم بإسلامه ، وهي جارية على مقتضى الأخبار
الدالة على كفره.
فروى الشيخ في
الصحيح عن حفص بن البختري عن الصادق عليهالسلام ، قال : خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس .
وعن إسحاق بن
عمار ، قال : قال الصادق عليهالسلام : مال الناصب وكل شيء يملكه حلال لك ، إلا امرأته فإن
نكاح أهل الشرك جائز ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : لا تسبوا أهل الشرك فان لكل قوم نكاحا ، ولولا
انا نخاف عليكم ان يقتل رجل
__________________
منكم برجل منهم ، ورجل منكم خير من الف رجل منهم ، لأمرناكم بالقتل لهم ،
ولكن ذلك الى الامام .
وروى في الكافي
والتهذيب في الصحيح عن بريد بن معاوية العجلي ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن مؤمن قتل ناصبيا معروفا بالنصب على دينه ، غضبا لله
ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيقتل به؟ قال : اما هؤلاء فيقتلونه به ولو رفع الى امام عادل ظاهر لم
يقتله به. قلت : فيبطل دمه؟ قال : لا ولكن إذا كان له ورثة كان على الامام ان
يعطيهم الدية من بيت المال ، لان قاتله انما قتله غضبا لله عزوجل وللإمام ولدين المسلمين .
وروى في العلل
في الصحيح عن داود بن فرقد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام :
ما تقول في قتل
الناصب؟ قال : حلال الدم ، ولكن اتقى عليك ، فان قدرت ان تقلب عليه حائطا أو تغرقه
في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل. قلت : فما ترى في ماله؟ قال :
أتوه ما قدرت
عليه .
وروى في العيون
بإسناده عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليهالسلام فيما كتبه للمأمون ، قال عليهالسلام : فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية ،
إلا قاتل أو ساع في فساد ، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك .
وروى في الفقيه
عن محمد بن مسلم في الصحيح ، عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : قلت له : أرأيت من جحد الامام منكم ما حاله؟
فقال : من جحد اماما من الله وبريء منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام ، لأن
الإمام من الله ، ودينه من دين الله ، ومن بريء من دين الله فهو كافر ، ودمه مباح
في تلك الحال ، الا ان يرجع ويتوب الى الله
__________________
مما قال .
وروى الكشي في
كتاب الرجال بسنده فيه الى على بن حديد ، قال : سمعت من سأل أبا الحسن عليهالسلام ، فقال : انى سمعت محمد بن بشير يقول : انك لست موسى
ابن جعفر ، الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله. فقال : لعنه الله ـ ثلاثا
ـ وأذاقه الله حر الحديد ، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة. فقلت : جعلت فداك ،
إذا أنا سمعت ذلك منه أو ليس حلال لي دمه ، مباح ، كما أبيح دم الساب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والامام؟ فقال : نعم ، بلى والله حل دمه ، واباحه لك
ولمن يسمع ذلك منه ، الى ان قال : فقلت أرأيت إن انا لم أخف أن ارم به بريئا ثم لم
افعله ولم اقتله ، ما على من الوزر؟ فقال : يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير
ان ينتقص من وزره شيء اما علمت ان أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله
تعالى ورسوله بظهر الغيب ، ورد عن الله وعن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
فان قيل : ان
أكثر هذه الاخبار ، انما تضمن الناصب ، وهو ـ على المشهور ـ : أخص من مطلق المخالف
، فلا تقوم الأخبار حجة على ما ذكرتم!
قلنا : ان هذا
التخصيص قد وقع اصطلاحا من هؤلاء المتأخرين ، فرارا من الوقوع في مضيق الإلزام ،
كما في هذا الموضع وأمثاله ، والا فالناصب حيثما أطلق في الاخبار وكلام القدماء ،
فإنما يراد به المخالف ، عد المستضعف. وإيثار هذه العبارة للدلالة على بعض
المخالفين للأئمة الطاهرين.
ويدلك على ذلك
ما رواه في مستطرفات السرائر من كتاب «مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا على بن
محمد الهادي عليهالسلام» في جملة مسائل محمد بن على بن عيسى ، قال : كتبت إليه
: أسأله عن الناصب ، هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت ،
واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو
__________________
ناصب .
وهو صريح في ان
مظهر النصب والعداوة ، هو القول بإمامة الأولين.
وروى في العلل
عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : ليس الناصب من نصب لنا ـ أهل البيت ـ لأنك لا
تجد أحدا يقول انى أبغض محمدا وآل محمد ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ولكن الناصب من نصب لكم ، وهو يعلم انكم تتولونا
وانكم من شيعتنا .
ونحوه رواية معلى
بن خنيس ، وفيها «ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم انكم تتولونا وتتبرؤون من
أعدائنا» .
فهذا تفسير
الناصب في أخبارهم ، الذي تعلقت به الأحكام ، من النجاسة ، وعدم جواز المناكحة ،
وحل المال والدم ونحوه ، وهو عبارة عن المخالف مطلقا عدا المستضعف ، كما دل عليه
استثناؤه في الاخبار. وما ذكروا ، من التخصيص بفرد خاص من المخالفين مجرد اصطلاح
منهم ، لم يدل عليه دليل من الاخبار ، بل الاخبار في رده واضحة السبيل .
__________________
ومن أراد تحقيق
الحال وتفصيل هذا الإجمال ، فليرجع الى كتابنا المتقدم ذكره ، فإنه واف وشاف ،
محيط بأطراف الكلام ، وإبرام النقض ونقض الإبرام.
وقد خرجنا بما
ذكرنا من تطويل الكلام في المقام ، عما هو المقصود والمرام ، لمزيد الإيضاح ، لما
في كلام هذا المحقق من الوهن والقصور الظاهر لمن وفق للاطلاع على اخبارهم ـ عليهمالسلام.
* * *
إذا ثبت هذا
فاعلم : انه كما تحرم الغيبة فإنه يحرم استماعها ايضا ، لما رواه الصدوق في الفقيه
في حديث المناهي ، عن الحسين بن زيد ، عن الصادق ، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهمالسلام ، قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الغيبة والاستماع إليها ـ الى ان قال ـ : ألا ومن
تطول على أخيه في غيبة سمعها فيها في مجلس فردها عنه ، رد الله عنه الف باب من شر
الدنيا والآخرة ، فان هو لم يردها وهو قادر على ردها ، كان عليه كوزر من اغتابه
سبعين مرة .
* * *
وذكر بعض
الأصحاب : ان كفارة الغيبة هو التحلل ممن اغتابه ان كان حيا ، والاستغفار له ان
كان ميتا.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في ذلك. ما رواه في الكافي والفقيه عن حفص ابن عمير عن ابى عبد
الله عليهالسلام ، قال : سئل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما كفارة الاغتياب؟ قال : تستغفر الله لمن اغتبته
كلما ذكرته .
__________________
وظاهر الخبر
المذكور : ان كفارة الغيبة : الاستغفار مطلقا ، حيا كان من اغتابه أو ميتا. ويعضده
: ان اخباره بذلك ربما أثار فتنة أو زيادة حقد وبغض في القلوب ، كما هو ظاهر من
أحوال أكثر الناس.
تتمة مهمة
قد استثنى
الأصحاب جملة من المواضع ، فجوزوا الغيبة فيها :
منها التظلم
عند من يرجو زوال ظلمه ، إذا نسب من ظلمه الى الاثام.
قال في الكفاية
ـ بعد نقل ذلك ـ : ولعل الأحوط الاقتصار على أقل الحاجة. انتهى.
ولم أقف على من
استند هنا الى دليل.
ويمكن
الاستدلال على ذلك بما رواه
في الكافي عن
ثعلبة بن ميمون عمن ذكره عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : كان قوم عنده يتحدثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا ،
فوقع فيه وشكاه ، فقال له أبو عبد الله ـ عليهالسلام ـ : وأنى لك بأخيك كله ، واى الرجال المهذب .
ويمكن
الاستدلال على ذلك ايضا بقوله عزوجل «لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» ففي مجمع
البيان : عن الباقر عليهالسلام «لا يحب الله الشتم في الانتصار (إِلّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له ان ينتصر ممن ظلمه ، بما يجوز الانتصار به
في الدين» .
__________________
قال في الكتاب
المذكور : ونظيره «وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» .
وفي تفسير على
بن إبراهيم ـ قدسسره ـ : وقوله تعالى «لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» اى لا يحب الله ان يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم ،
الا من ظلم ، فقد أطلق له ان يعارضه بالظلم .
وفي المجمع ـ ايضا
ـ عن الصادق عليهالسلام : انه الضيف ينزل بالرجل فلا يتحسن ضيافته ، فلا جناح
عليه ان يذكره بسوء ما فعله .
وفي تفسير
العياشي ـ أيضا ـ عنه عليهالسلام في هذه الآية : من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم
، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه. وعنه عليهالسلام : الجهر بالسوء من القول ، ان يذكر الرجل بما فيه .
أقول : الظاهر
ان التفسير بالضيف من حيث دخوله في عموم الآية وإطلاقها ، فلا منافاة فيه للتفسير
الأول. وظاهر ما نقلناه عنهم : تخصيص الحكم بالتظلم عند الحاكم الشرعي ونحوه ،
يرجى به دفع الظلم عنه ، بان يقول : ان فلانا غصبني أو ضربني أو نحو ذلك. ومقتضى
ظاهر الآية : العموم. وكذا ظاهر الاخبار المنقولة في تفسيرها.
(ومنها) الاستفتاء
، كما يقول المستفتي : ظلمني أبي أو أخي ، فكيف طريقي في الخلاص؟
قال في الكفاية
: والأسلم هنا التعريض ، بان يقول : ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو اخوه؟ وقد روى : «ان
هندا قالت للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي
، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال : خذي ما يكفيك
__________________
وولدك بالمعروف» . فذكرت الشح والظلم لها وولدها ، ولم يزجرها صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ كان قصدها الاستفتاء. وفي هذا الحكم إشكال ، إذا كان
سبيل الى التعريض وعدم التصريح. انتهى.
أقول : ما ذكره
من الاستدلال بهذه الرواية ، مع تسليم ورودها من طرقنا ، محل نظر. فإن أبا سفيان
منافق كافر ، قد لعنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في غير مقام فلا غيبة له. ولكن الاستدلال بهذه الرواية
هنا جرى على ما قدمنا ذكره عنه ثمة ، من نقله كلام المقدس الأردبيلي وجموده عليه ،
وقد عرفت ما فيه مما أظهر ضعف باطنه وخافية.
نعم يمكن الاستدلال
على ذلك بما رواه في الكافي والتهذيب ، عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على ابى
عبد الله عليهالسلام ، فشكى رجلا من أصحابه ، فلم يلبث ان جاء المشكو ، فقال
له أبو عبد الله عليهالسلام ـ مغضبا ـ : ما لفلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني
استقضيت منه حقي ، قال : فجلس أبو عبد الله عليهالسلام مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ! أرأيت
ما حكى الله عزوجل في كتابه «يَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ» انهم خافوا الله ان يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا الا
الاستقضاء ، فسماه الله عزوجل سوء الحساب ، فمن استقضى فقد أساء .
الا انهم قد
عنونوا هذا الموضع بالاستفتاء ، وما تضمنه الخبر ليس من قبيل الاستفتاء ، ويمكن
جعل العنوان ما هو أعم ، أو يجعل هذا الخبر من أدلة الموضع الأول.
(ومنها) تحذير
المؤمن من الوقوع في الخطر والشر ، ونصح المستشير. قالوا : إذا رأيت متفقها يتلبس
بما ليس من اهله ، فلك ان تنبه الناس على نقصه وقصوره
__________________
مما أهل نفسه له ، وتنبههم على الخطر اللاحق لهم بالانقياد اليه ، وكذلك
إذا رأيت رجلا يتردد الى فاسق يخفى امره ، وخفت عليه من الوقوع بسبب صحبته فيما لا
يوافق الشرع ، فلك ان تنبهه على فسقه ، مهما كان الباعث الخوف من إنشاء البدعة
وسراية الفسق. الا ان هذا الموضع محل الخديعة من الشيطان ، إذ ربما يكون الباعث
انما هو الحسد على تلك المنزلة ، فيلتبس عليك الشيطان ، كما هو غالب فاش في أبناء
الزمان ، فينبغي للداخل في ذلك ان يلاحظ نفسه فيما بينه وبين ربه.
ومن ذلك ـ ايضا
ـ : بيان الاغلاط الواقعة من العلماء. والظاهر : ان من هذا القبيل طعن العلماء
بعضهم على بعض في المسائل الفقهية حتى انجر الى التجهيل ، كما لا يخفى على من وقف
على الرسالة المنسوبة إلى المفيد والسيد المرتضى ، في الرد على الصدوق في تجويزه
السهو على المعصوم ، فإنها اشتملت على قدح عظيم في حق الصدوق ، لا يليق بمثله ان
ينسب اليه ذلك ، وكما وقع من المحقق والعلامة في الطعن على ابن إدريس في مواضع لا
تحصى ، مما يؤذن بتجهيله ، مع ما هو عليه من الفضل وعلو الشأن ونحو ذلك.
وقد وقع بين
جملة من مشايخنا المعاصرين ممن عليهم الاعتماد بين العباد في البلاد ما يؤدى الى
أعظم الإشكال في هذا المجال ، حتى ان رجلين منهم كانا يصليان الجمعة في أقل من
مسافة الفرسخ. والناس يقتدون بكل منهما. وكان بعض من عاصرناه من المشايخ ينقل
حديثا ـ ان صح هان الأمر في ذلك ـ والا فالمقام مقام خطر واشكال.
وصورة الخبر
الذي ينقله في حق العلماء : انه عليهالسلام قال : خذوا بما يفتون ولا تنظروا الى ما يقول بعضهم في
بعض ، فإنهم يتغايرون كما تتغاير النساء. هذا حاصل معناه.
ومما يؤيد ذلك
: دلالة جملة من الاخبار على حصول الحسد بين العلماء ، خصوصا زيادة على ما بين
سائر الناس.
وبالجملة
فالفداء عضال ، لا يكاد ينفك منه الا من عصمه الله تعالى بالتوفيق في
جملة الأحوال.
نعم قد ورد في
جملة من الاخبار جواز الوقيعة في أصحاب البدع ، ومنهم الصوفية ، كما رواه في
الكافي في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي ، فأظهروا
البراءة منهم ، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في
الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ، ولا يتعلموا من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك
الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة .
وبمضمونه أخبار
عديدة.
وكذلك إذا رأيت
رجلا يشترى مملوكا ، وقد عرفت ان في ذلك المملوك عيوبا منقصة ، فلك ان تذكرها
للمشتري ، فان في سكوتك ضررا للمشتري ، وفي ذكرك ضررا للعبد ، ولكن المشتري أولى
بالمراعاة.
ومن اللازم :
ان يقتصر على العيب المنوط بذلك ، فلا يذكر في عيب التزويج ما يخل بالشركة
والمضاربة مثلا ، بل انما يذكر ما يتعلق بذلك ، من غير تجاوز عنه.
أقول : ويمكن
ان يستدل على ذلك بالأخبار الدالة على وجوب نصح المؤمن ، لا سيما مع الاستشارة ،
كما رواه في الكافي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة في المشهد
والمغيب .
وعن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه .
وعن ابى عبد
الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان أعظم الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة ،
أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه .
__________________
وعنه عليهالسلام قال : من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي ، سلبه الله عزوجل رأيه .
(ومنها) الجرح
للشاهد والراوي للاخبار ، صيانة لحقوق المسلمين ، وحفظا للاحكام والسنن الشرعية.
ومن ثم وضع
العلماء كتب الجرح والتعديل للرواة ، وقسموهم الى الثقات والمجروحين ، وذكروا
الأسباب الموجبة للقدح والجرح ، وكونه كذابا وضاعا للحديث ، لكن لا ينبغي ان يذكر
الا ما يخل بالشهادة والرواية ، ولا يتعرض لشيء من عيوبه التي لا تعلق لها بذلك ،
وقوفا على القدر الذي يمكن تخصيص عموم أخبار النهي عن الغيبة به.
وكيف كان ،
فينبغي التحفظ والإخلاص في ذلك ، بان لا يكون الباعث امرا آخر غير قصد الأمر الذي
قدمنا ذكره.
أقول : ولا
اعلم لهم حجة على ذلك زيادة على ما ذكرناه.
وربما يستند
لذلك بالأخبار التي وردت عنهم ـ عليهمالسلام ـ في ذم بعض الرواة ، وانهم من الكذابين والغالين ، الا
ان مورد هذا الاخبار انما هو غير الشيعة ، ممن يظهر التلبس بهم ، فلا حجة فيها.
ويمكن ان يستدل
بما ورد في الاخبار من ذمهم ـ ع ـ لجملة من الرواة ، كزرارة وهشام ابن الحكم ،
ويونس بن عبد الرحمن ، وغيرهم. بان يكون الوجه في ذلك التحذير عن العمل بأخبارهم ،
الا أن الأمر بالنسبة الى من ذكرناه انما هو العكس مما دلت عليه هذه الاخبار ،
لاستفاضة الأخبار بجلالة شأنهم وعلو قدرهم ، وانما الغرض من هذه الاخبار معان أخر
، مثل الذب عنهم والتقية عليهم ، كما يفصح عنه حديث الكشي بالنسبة إلى زرارة وعذر
الصادق عليهالسلام له بأنه ذمه دفاعا عنه وعن أمثاله.
وحينئذ فيكون
في هذه الاخبار دلالة على موضع آخر لم يذكره الأصحاب ـ فيما
__________________
اعلم ـ وهو جواز الغيبة والذم لدفع الضرر عن ذلك المستغاب.
(ومنها) ان
يكون القول فيه بما يكون متظاهرا به كالفاسق المتظاهر بفسقه ، بحيث لا يستنكف ان
يذكر بذلك الفعل.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بذلك : ما رواه الصدوق في المجالس عن هارون بن الجهم ،
في الصحيح ـ على الأقوى ـ عن الصادق عليهالسلام ، قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة .
ورواية أبي
البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهماالسلام ، قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع ، والامام
الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق .
وروى شيخنا
الشهيد الثاني ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له .
وما ورد في
صحيحة عبد الله ابن ابى يعفور الطويلة ، الواردة في عدالة الشاهد ، عن الصادق عليهالسلام :
حيث قال عليهالسلام : وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن
رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقطت بينهم عدالته ، ووجب هجرانه
، وإذا رفع الى امام المسلمين أنذره وحذره ، فان حضر جماعة المسلمين والا أحرق
عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت غيبته وثبتت بينهم عدالته .
وأنت خبير بان
ظاهر الاخبار الثلاثة الأول ، هو جواز غيبته وان استنكف عن ذلك ، وانه لا يختص
الجواز بالذنب الذي يتظاهر به ، كما هو ظاهر كلام جملة من
__________________
الأصحاب ، وان كان الاقتصار على ما ذكروه أحوط ، الا ان يكون لذكر ما زاد
على ذلك تأثير في ارتداعه عما هو عليه من الفسق والتظاهر به. ولعل الاخبار المشار
إليها انما خرجت بناء على ذلك.
وكيف كان ،
فالظاهر ان حكام الجور والظلمة واتباعهم المتظاهرين بالظلم والفسق ، وأخذ أموال
الناس ، واللعب بالباطل ، كما هو معروف الان في جميع الأصقاع والبلدان بين الشيعة
وغيرهم ، من هذا القبيل بل من أظهر أفراد هذه الاخبار.
وظاهر الخبر
الرابع : جواز الغيبة بمجرد ظهور الفسق وان لم يكن متظاهرا به ، وان ترك الجماعة
فسق وان لم يقل به الأصحاب فيما اعلم ، حيث انهم صرحوا بان ترك المستحبات لا يمنع
من العدالة ، الا ان ظاهر الاخبار خلافه لتظافرها بجواز حرق بيته عليه.
وبالجملة
فالخبر المذكور ظاهر في حصول الفسق بذلك ، وانه يجوز غيبته وان لم يتظاهر به ، الا
ان يخص ذلك بمورد الخبر المذكور من صلاة الجماعة ، تنويها بشأنها وعلو مكانها.
ويؤيد العموم
ما في بعض الاخبار ، من قوله عليهالسلام : لا غيبة لفاسق. الا انه يشكل ذلك بان الغيبة التي هي
عبارة عن ذكر الرجل بالعيب الذي فعله وستره الله تعالى عليه ، انما مورده الفاسق ،
لأنه إنما اغتابه بما فعله من الذنب الموجب لفسقه ، مع ان الله تعالى قد حرم ذكره
بذلك وجعله من قبيل أكل لحم أخيه ميتا. وحينئذ فإذا كان الفسق حاصلا مع تحريم الله
سبحانه غيبته وذكره به ، فكيف يتم نفى الغيبة عن الفاسق مطلقا؟ بل الظاهر هو تقييد
إطلاق الخبر المذكور بما إذا كان متظاهرا به ، كما دلت عليه الاخبار الأولة.
وحينئذ فالظاهر
قصر الصحيحة المذكورة على موردها والله العالم.
(ومنها) ما
أشرنا إليه ـ آنفا ـ من جواز غيبته لدفع الضرر عنه ، وان لم يتعرض له أحد من
الأصحاب فيما اعلم.
ويدل على ذلك
ما رواه الكشي في كتاب الرجال ، في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن زرارة ، قال :
قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : انى إنما أعيبك
دفاعا منى عنك ، فان الناس والعدو يسارعون الى كل من قربناه وحمدنا مكانه. لإدخال
الأذى فيمن نحبه ونقربه ، ويذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا ، ويرون إدخال الأذى
عليه وقتله ، ويحمدون كل من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا بميلك
إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر ، لمودتك لنا ولميلك إلينا ،
فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون ذلك منا دافع شرهم عنك
ـ يقول الله عزوجل (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ) يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. هذا التنزيل من عند الله
سبحانه صالحة ، لا والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه ، ولقد
كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ ، والحمد لله فافهم المثل يرحمك الله تعالى ، فإنك
والله أحب الناس الى ، وأحب أصحاب أبي إلى ، حيا وميتا ، فإنك أفضل سفن ذلك البحر
القمقام الزاخر ، وان من ورائك لملكا ظلوما غصوبا ، يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد
من بحر الهدى ، ليأخذها غصبا فيغصبها وأهلها ، فرحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه
عليك ميتا ، ولقد ادى الى ابناك الحسن والحسين رسالتك ، أحاطهما الله وكلاهما
ورعاهما وحفظهما ، بصلاح أبيهما ، كما حفظ الغلامين ، فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك
ابى عليهالسلام وأمرتك به ، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به ، لا
والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به ، ولكل ذلك عندنا
تصاريف ومعان توافق الحق ، فلو اذن لنا لعلمتم ان الحق في الذي أمرناكم به ، فردوا
إلينا الأمر وسلموا لنا ، واصبروا لأحكامنا وارضوا بها ، والذي فرق بينكم فهو
راعيكم الذي استرعاه الله أمر خلقه ، وهو أعرف بمصلحة غنمه ، في فساد أمرها.
الحديث .
__________________
أقول : والظاهر
انه لهذا كان زرارة ربما قدح في الإمام عليهالسلام وعابه ، كما هو مروي في اخبار ذمه ، بان يكونوا ـ عليهمالسلام ـ رخصوا له ذلك للعلة المذكورة في هذا الخبر.
وبهذا الخبر
ايضا يجاب عما ورد في الهشامين ـ رضى الله عنهما ـ لا سيما ما نقل عنهما من القول
بالجسم والصورة ، وتقرير الأئمة ـ عليهمالسلام ـ على ذلك وذمهم لهما ، مع ما ورد من الاخبار الدالة
على منزلتهما ، ولا سيما هشام بن الحكم.
ونسبة هذين
القولين الشنيعين لهما ـ رضى الله عنهما ـ اما ان يكون مع عدم معرفتهما بذلك عن
الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وهو بعيد ، أو مع معرفتهما بذلك ، وانهما قصدا الى
خلاف ما عليه الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وهو أشد بعدا. فلم يبق الا ما قلنا من الرخصة لهما في
إظهار ذلك دفاعا عنهما بالتقريب المتقدم.
وروى في الكتاب
المتقدم في الصحيح أو الموثق عن الحسين بن زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان ابى يقرأ عليك السلام ويقول : جعلت فداك ، انه لا
يزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران انك ذكرتني ، وقلت في. فقال : اقرأ أباك
السلام ، وقل له : انا والله أحب لك الخير في الدنيا وأحب لك الخير في الآخرة ،
وانا والله عنك راض ، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا .
(ومنها) ان
يكون الإنسان معروفا باسم يعرب عن غيبته كالأعرج والأعمش والأشتر ونحوها.
قالوا : فلا
اثم على من يقول ذلك ، فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف.
وقال الشهيد
الثاني : والحق ان ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك ، يجوز التعويل فيه على
حكايتهم ، واما ذكره عن الأحياء فمشروط بعلم رضاء المنسوب اليه به ، لعموم النهى.
وحينئذ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان فلو وجد عنه معدلا وامكنه التعريف بعبارة أخرى
فهو اولى. انتهى. وهو جيد.
__________________
والذي حضرني من
الاخبار في هذا المقام ، ما رواه في الكافي ، عن الحسن بن زيد الهاشمي ، عن ابى
عبد الله عليهالسلام ، قال : جاءت زينب العطارة الحولاء الى نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الحديث .
وسيأتي قريبا ـ
ان شاء الله تعالى ـ في تحريم الغش.
(ومنها) ما إذا
علم اثنان أو ثلاثة مثلا معصية من آخر ، فذكرها بعضهم للآخر في غيبة صاحب المعصية
، فإنه يجوز ذلك ، لأنها لا تؤثر عند السامع شيئا ، زيادة على علمه سابقا.
أقول : وهو من
حيث الاعتبار جيد الا ان أدلة النهي عن الغيبة من آية أو رواية أعم من ذلك.
والتخصيص بمثل هذا الوجه الاعتباري مشكل.
__________________
المسألة السابعة
في السحر ، ونحوه القيافة ، والكهانة ، والشعبدة
ولا خلاف في
تحريم تعليم الجميع وأخذ الأجرة عليه. ولا بد من بسط الكلام هنا في مقامات :
(الأول)
في السحر.
قال في المنتهى
: السحر عقد ورقي وكلام يتكلم به ، أو يكتبه ، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور ،
أو قلبه ، أو عقله ، من غير مباشرة له.
وزاد الشهيدان
شيئا آخر من جملة السحر ، قال في المسالك : وهو كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام أو
عزائم ونحوها ، يحدث بسببها ضرر على الغير ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر
على وطئها ، وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجن ، واستنزال
الشياطين ، في كشف الغائبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم ، وتلبسهم ببدن صبي أو
امرأة ، وكشف الغائب على لسانه ، فتعلم ذلك وشبهه ، وعلمه وتعليمه كله حرام ،
والتكسب به سحت ، ولو تعلمه ليتوفى به ، وليدفع به المتنبي بالسحر ، فالظاهر جوازه
، وربما وجب على الكفاية ، كما
اختاره في الدروس. ويجوز حله بالأقسام والقرآن ، كما ورد في رواية العلاء.
انتهى.
وقال في الدروس
نحو ما في المسالك ثم انه قد وقع الخلاف بين كافة العلماء في السحر ، هل له حقيقة
أو انه تخيل؟
قال في المسالك
: الأكثر على انه لا حقيقة له بل هو تخيل. ثم قال : ويشكل بوجدان أثره في كثير من
الناس ، والتأثر بالتوهم انما يتم لو سبق للقابل علم بوقوعه ، ونحن نجد أثره فيمن
لا يشعر به أصلا حتى يضربه انتهى.
وقيل : أكثره
تخيل ، وبعضه حقيقي ، لأنه تعالى وصفه بالعظمة في سحرة فرعون. أقول : وصفه بالعظمة
لا يدل على كونه حقيقة ، بل ظاهر الآية خلاف ذلك ، كما ذكره الطبرسي في تفسيره ،
وغيره حيث قال : فلما ألقوا ، اى فلما القى السحرة ما عندهم من السحر ، احتالوا في
تحريك العصي والحبال ، بما جعلوه فيها من الزيبق ، حتى تحركت بحرارة الشمس ، وغير
ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس ، وخيل الى الناس انها تتحرك على ما تتحرك
الحية ، وانما سحروا أعين الناس ، لأنهم اروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته ، وخفي ذلك
عليهم ، لبعده منهم ، لأنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم. وفي هذا دلالة على
ان السحر لا حقيقة له ، لأنها لو صارت حيات حقيقة ، لم يقل الله سبحانه (سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ) ، بل كان يقول : فلما ألقوا صارت حيات. انتهى.
وقال الرازي :
احتج القائلون بأن السحر محض تمويه ، بهذه الآية.
وقال القاضي
البيضاوي : لو كان السحر حقا لكانوا. قد سحروا في قلوبهم وأعينهم ، فثبت ان المراد
انهم تخيلوا أحوالا عجيبة. مع ان الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه.
وقال الواحدي :
قيل ان المراد ، سحروا أعين الناس ، اى قلبوها عن صحة إدراكها ، بسبب تلك
التمويهات.
أقول : لا يخفى
ان الذي حصل من فعل السحرة يومئذ ، هو كون تلك الحبال والعصي التي ألقوها حيات
تتحرك ، ومن الظاهر ان الحركة الثابتة لها ناشئة من الزيبق بعد طلوع الشمس عليها ،
واما كونها حيات في نظر الناظر إليها يومئذ بهذا ، هو الذي حصل به السحر في أعين
الناس حيث انهم بعد رؤيتها حبالا أولا وعصيا ، صارت حيات في نظرهم ثانيا ، وأكد
ذلك حركتها ، فكونها حيات في نظرهم لا بد من حمله على مجرد التخيل والتوهم ، الذي
نشأ من سحرهم ولذلك قال سبحانه : «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» . ولانه لو أمكن الساحر ان يقلب حقيقة من الحقائق إلى
حقيقة أخرى ، لزم مشاركته لله تعالى في الخلق ، وهو باطل عقلا ونقلا ، ولأمكن أن
يعيد نفسه من الهرم الى الصغر ، ويدفع عن نفسه الأسقام والالام ، والكل مما يقطع
ببطلانه عند جملة الأنام.
وقد ورد في
حديث الزنديق الذي سأل الإمام الصادق عليهالسلام المروي في الاحتجاج ، قال : أفيقدر الساحر ان يجعل الإنسان بسحره في صورة
الكلب والحمار أو غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك وأضعف من ان يغير خلق الله سبحانه
، ان من أبطل ما ركبه الله تعالى وصوره فهو شريك الله تعالى في خلقه ، تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا ، لو قدر الساحر على ما وصفت ، لدفع عن نفسه الهرم والآفة
والمرض ، ونفى البياض عن رأسه ، والفقر عن ساحته. وقال عليهالسلام في الحديث المذكور لما سأله الزنديق فيما سأله ، فقال :
أخبرني عن السحر ما أصله ، وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟ قال عليهالسلام : ان السحر على وجوه شتى ، وجه منها بمنزلة الطب ، كما
ان الأطباء وضعوا لكل داء دواء فكذلك علم السحر ، احتالوا لكل صحة آفة ، ولكل
عافية عاهة ، ولكل معنى حيلة ، ومنه نوع آخر : خطفة وسرعة ومخاريق وخفة ونوع منه
ما يأخذ أولياء الشياطين منهم. قال : من اين علم الشياطين السحر؟ قال : من حيث عرف
الأطباء الطب ،
__________________
بعضه تجربة وبعضه علاج. قال : فما تقول في الملكين هاروت وماروت ، وما يقول
الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟ فقال : انهما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما
اليوم «لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو يعالج بكذا أو كذا صار كذا ـ أصناف
السحر» فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما ، فيقولان لهم : انما نحن فتنة فلا تأخذوا
عنا ما يضركم ولا ينفعكم ، الى ان قال عليهالسلام : وان من أكبر السحر النميمة ، يفرق بها بين المتحابين
، ويجلب العداوة بين المتصافين ، ويسفك بها الدماء وتهدم بها الدور ، ويكشف بها
الستور ، والنمام أشد من وطأ على ارض بقدم ، وأقرب أقاويل السحر من الصواب : انه
بمنزلة الطب ، ان الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء ، فجاء الطبيب فعالجه
فأبرأه .
أقول : ومن
الاخبار الواردة في المقام ، ما رواه في الكافي عن على بن إبراهيم عن أبيه عن شيخ
من أصحابنا الكوفيين ، قال : دخل عيسى بن سيفي على ابى عبد الله عليهالسلام ، وكان ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر ، فقال
له : جعلت فداك : انا رجل كانت صناعتي السحر ، وكنت آخذ عليها الأجر ، وكان معاشي
منه ، وقد حججت منه ومن الله على بلقائك ، وقد تبت الى الله عزوجل ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج؟ قال : فقال له أبو عبد
الله عليهالسلام : حل ولا تعقد . ورواه الصدوق بإسناد عن عيسى المذكور نحوه.
ورواه الحميري
في قرب الاسناد ـ بإسناده ـ عن عيسى بن سيفي مثله.
قال في الوسائل
بعد نقل الخبر المذكور : أقول : خصه بعض علمائنا بالحل
__________________
بغير السحر كالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها ، وهو حسن ، إذ لا تصريح بجواز
الحل بالسحر .
أقول : لا يبعد
العمل به على ظاهره من جواز الحل ، كما يظهر من الاخبار الاتية. ويؤيده ما تقدم في كلام
الشهيد من جواز تعلمه للتوقي به ودفع المتنبي بالسحر ، بل وجوبه كفاية.
* * *
ومنها ما رواه الصدوق
بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه ـ عليهماالسلام ـ ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفار لا يقتل. قيل : يا
رسول الله ، لم لا يقتل ساحر الكفار؟ قال : لان الشرك أعظم من السحر ، ولان السحر
والشرك مقرونان .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن زيد الشحام عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال :
__________________
الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه .
وما رواه في
التهذيب عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن على ، عن أبيه عن آبائه عن على عليهالسلام ، قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا عليه فقد
حل دمه .
وعن السكوني عن
جعفر بن محمد عليهالسلام عن أبيه ان عليا عليهالسلام كان يقول : من تعلم شيئا من السحر كان آخر عهده بربه
وحده القتل الا ان يتوب .
ورواه في قرب
الاسناد بسنده عن أبي البختري عنه عليهالسلام مثله.
أقول : قد حمل
هذه الاخبار بعض مشايخنا على من يستحل ذلك ، وهو كذلك كما يظهر من الخبر الأخير ، ويعضده غيره من
الاخبار المذكورة في المقام.
ومنها ما رواه
في العلل ـ بعد نقل رواية السكوني الأولى ـ قال : وروى ان توبة الساحر ان يحل ولا
يعقد .
وما رواه في
عيون الأخبار بإسناده عن الحسن العسكري عليهالسلام ، عن آبائه في حديث ، في قوله عزوجل «وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ» قال : كان بعد نوح عليهالسلام قد كثرت السحرة والمموهون ، فبعث الله عزوجل ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر
ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم ، فتلقاه النبي من الملكين ، واداه إلى عباد الله
تعالى ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه ،
__________________
ونهاهم ان يسحروا به الناس ، وهذا كما يدل على السم ما هو وما يدفع به
غائلة السم ، الى ان قال : وما يعلمان من أحد ذلك السحر وإبطاله حتى يقولا للمتعلم
: انما نحن فتنة وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلمون من هذا ويبطلون به كيد
السحرة ولا يسحروهم ، فلا تكفر باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به ، ودعاء الناس
الى ان يعتقدوا انك به تحيي وتميت وتفعل مالا يقدر عليه الا الله عزوجل ، فان ذلك كفر. الى ان قال «وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» ، لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به ويضروا به ،
فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم ولا ينفعهم فيه. الحديث. .
قال في الوسائل
ـ بناء على ما قدمنا نقله عنه ، بعد ذكر هذا الخبر في جملة الأخبار التي نقلها ـ :
لا يخفى انه يحتمل كون ما مر من جواز الحل بالسحر مخصوصا بتلك الشريعة المنسوخة.
انتهى.
وفيه : ان
الظاهر من نقل الأئمة ـ عليهمالسلام ـ حكايات الأحكام الشرعية ، عن الأمم المتقدمة ، انما
هو لأجل الاستدلال بها على ثبوت تلك الأحكام في هذه الشريعة أيضا ، كما يظهر من
كثير من الاخبار التي اشتملت على ذلك ، والا فمجرد حكايتها من غير غرض شرعي يترتب
عليها ، يكون من قبيل اللغو العاري عن الفائدة ، إذ كل أحد يعلم ان تلك الشرائع
صارت منسوخة بهذه الشريعة ، فلا معنى لنقل أحكامها إذا لم يكن المراد منها ما
ذكرنا.
ويؤيد ما
ذكرناه الرواية المرسلة المتقدم نقلها عن العلل ، مضافا الى ذلك رواية عيسى
المتقدمة.
* * *
ومنها : ما
رواه في العيون ايضا بسنده عن على بن الجهم عن الرضا عليهالسلام في حديث قال : واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما
الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم ، وما علما أحدا من ذلك
شيئا حتى قالا : انما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا
بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرقون بما
__________________
تعلموه بين المرء وزوجه. قال الله عزوجل «وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللهِ» يعنى بعلمه. .
وقال على بن
إبراهيم في تفسيره في حديث هجرة جعفر بن ابى طالب ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه
إلى الحبشة : وبعث قريش عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص إلى النجاشي ليردوهم ـ وساق
الحديث الطويل ـ الى ان قال : وكان على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه فنظرت إلى
عمارة وكان فتى جميلا فاحبته ، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله ، قال لعمارة :
لو راسلت جارية الملك ، فراسلها فأجابته فقال عمرو : قل لها تبعث إليك من طيب
الملك شيئا. فقال لها ، فبعثت إليه. فأخذ عمرو من ذلك الطيب وادخله على النجاشي
وأخبره بما جرى بين عمارة وبين الوصيفة ووضع الطيب بين يديه ، فغضب النجاشي وهم
بقتل عمارة. ثم قال : لا يجوز قتله ، لانه دخل بلادي بأمان ، فدعى السحرة وقال :
اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل. فأخذوه ونفخوا في إحليله الزيبق ، فصار مع
الوحش يغدو ويروح. وكان لا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع
حتى ورد الماء مع الوحش ، فأخذوه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات. الخبر .
وقد ورد في بعض
أخبارنا ـ وفاقا لروايات العامة ـ وقوع السحر على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وانه سحره لبيد بن اعصم اليهودي .
وقد أنكره جملة
من أصحابنا ، منهم العلامة في المنتهى. قال : وهذا القول م. ه. معرفة.
__________________
عندي ضعيف ، والروايات ضعيفة ، خصوصا رواية عائشة ، لاستحالة تطرق السحر
إلى الأنبياء ـ عليهمالسلام.
وأنكره الشيخ
في الخلاف ايضا ، وقال ـ بعد ذكر بعض الاخبار عن عائشة ـ : وهذه الأحبار آحاد لا
يعمل عليها في هذا المعنى. وقد روى عن عائشة انها قالت : سحر رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ فما عمل فيه السحر. وهذا يعارض ذلك. انتهى.
وقال شيخنا في
البحار : «واما تأثير السحر في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والامام عليهالسلام فالظاهر عدم وقوعه ، وان لم يقم برهان على امتناعه ،
إذا لم ينته الى حد يخل بغرض البعثة ، كالتخبيط والتخليط ، فإذا كان الله تعالى
اقدر الكفار لمصالح التكليف ، على حبس الأنبياء والأوصياء وضربهم وجرحهم وقتلهم
بأشنع الوجوه ، فأي استحالة على ان يقدروا على فعل يؤثر فيهم هما أو مرضا».
«لكن لما عرفت
ان السحر يندفع بالعوذة والآيات والتوكل ، وهم ـ عليهمالسلام ـ معادن جميع ذلك ، فتأثيره فيهم ـ عليهمالسلام ـ مستبعد ، والاخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية ، أو
ضعيفة ومعارضة بمثلها ، فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك».
أقول : لا يخفى
ان محل الاشكال انما هو باعتبار ما دلت عليه تلك الاخبار ، من تأثير السحر فيهم ـ عليهمالسلام ـ كغيرهم من الناس ، بحيث يوجب ذهاب العقل أو المرض أو
نحو ذلك ، هذا هو الذي أنكره أصحابنا. ولو صح لصدق ما حكى الله سبحانه عن الكفار
بقولهم «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّا رَجُلاً
مَسْحُوراً». على ان ما ذكره من القياس على تسليط الله عزوجل الكفار على إنزال القتل والحبس بهم ـ عليهمالسلام ـ لمصالح ، مردود ، بان الوجه في ذلك هو انه عزوجل أمرهم بالانقياد لأمراء الجور ، مدة هذه الدنيا الدنيئة
، ومنعهم من الدعاء عليهم وحثهم على الانقياد إليهم.
واليه يشير
قوله عزوجل «قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ
لِيَجْزِيَ
قَوْماً). الاية ، فقد ورد في تفسيرها ما يدل على ما ذكرناه . بخلاف ما ذكره من تأثير السحر فيهم ، وان كان بمجرد
الهم أو المرض ، فإنه لم يرد دليل على أمرهم بقبول ذلك ، مع وجوب دفع الضرر عن
النفس مع القدرة والإمكان ، ولا ريب في إمكان ذلك بالنسبة إليهم ـ عليهمالسلام.
الا ترى الى ما
ورد في جملة من الاخبار في دفعهم كيد السحرة الفجار ، مثل ما رواه في العيون بسنده
عن على بن يقطين ، قال استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام ويقطعه ويخجله في المجلس ، فانتدب له رجل مغرم ، فلما
أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز ، فكان كلما رام أبو الحسن عليهالسلام تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه ، واستفز هارون
الفرح والضحك لذلك ، فلم يلبث أبو الحسن ان رفع رأسه الى أسد مصور على بعض الستور
، فقال له : يا أسد الله ، خذ عدو الله : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من
السباع. فافترست ذلك المغرم ، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم. وطارت
عقولهم خوفا من هول ما رأوا. فلما أفاقوا من ذلك بعد حين قال هارون لأبي الحسن عليهالسلام : سألتك بحقي عليك لما سألت الصورة ان ترد الرجل. فقال
: ان كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم ، فان هذه الصورة ترد ما
ابتلعته من هذا الرجل : فكان ذلك اعمل الأشياء في اماتة نفسه :. ونحو ذلك روى في كتاب الخرائج والجرائح عن الإمام
الهادي عليهالسلام مع المتوكل لعنه الله تعالى. وفي كتاب الثاقب في
المناقب عن الصادق عليهالسلام مع المنصور .
__________________
وبالجملة
فالظاهر ان ما ذكره شيخنا المذكور لا يخلو من استعجال وعدم تأمل في المقام. والحق
هو عدم جوازه عليهم بوجه من الوجوه ، والاخبار الواردة من طرقنا في حقه صلىاللهعليهوآلهوسلم مع ضعفها وشذوذها ، يمكن حملها على التقية لاتفاق
العامة على جواز ذلك.
* * *
__________________
(الثاني)
: في القيافة.
وهي ـ على ما
ذكره مى المسالك ـ الاستناد الى علامات ومقادير ، يترتب عليها إلحاق بعض الناس
ببعض ونحوه. قال : وانما تحرم إذا جزم به ، أو رتب عليه محرما. انتهى.
وقال المقدس
الأردبيلي في شرح الإرشاد : ولعل دليل التحريم الإجماع المذكور في المنتهى.
أقول : ربما
يدل على ذلك ما رواه الصدوق في الخصال ، بسنده عن ابى بصير ، عن الصادق ـ عليهالسلام ـ ، قال : من تكهن أو تكهن له ، فقد بريء من دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال ، قلت : فالقافة؟ قال : ما أحب ان تأتيهم. وقيل :
ما يقولون شيئا الا كان قريبا مما يقولون. فقال : القيافة من فضلة النبوة ، ذهبت في
الناس حيث بعث النبي صلىاللهعليهوآله ،
الا ان الحديث
المذكور لا ظهور له في التحريم كما علله الأصحاب ، مع انه قد روى في الكافي عن
زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي ، قال : سمعت على بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين
بن على بن الحسين ، فقال : والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليهالسلام. فقال له الحسن : اى والله ، جعلت فداك.
لقد بغى عليه
اخوته. فقال على بن جعفر : اى والله ، ونحن عمومته بغينا عليه. فقال له الحسن :
جعلت فداك ، كيف صنعتم؟ فانى لم أحضركم : قال : قال
__________________
له اخوته ونحن ايضا : ما كان فينا امام قط حائل اللون : فقال لهم الرضا عليهالسلام : هو ابني. قالوا : فان رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قضى بالقافة ، فبيننا وبينك القافة ، قال : ابعثوا
أنتم إليهم ، واما انا فلا. ولا تعلموهم لما دعوتموهم ، ولتكونوا في بيوتكم. فلما
جاؤا أقعدونا في البستان ، واصطف عمومته واخوته وأخواته ، وأخذوا الرضا عليهالسلام وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها ، ووضعوا على عنقه مسحاة.
قالوا له : ادخل البستان ، كأنك تعمل فيه ، ثم جاؤا بأبي جعفر عليهالسلام ، فقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبيه! فقالوا : ليس له
هنا أب ، ولكن هذا عم أبيه ، وهذا عمه ، وهذه عمته ، وان يكن له ها هنا أب فهو
صاحب البستان ، فان قدميه وقدميه واحدة ، فلما رجع أبو ـ الحسن عليهالسلام ، قالوا : هذا أبوه ، قال على بن جعفر : فقمت فمصصت ريق
ابى جعفر عليهالسلام ، ثم قلت له : أشهد أنك إمامي عند الله عزوجل ، الحديث .
فظاهر هذا
الخبر جوازها والاعتماد عليها :
اما أولا ،
فلأنهم لما دعوه الى حكم القافة أجابهم الى ذلك ، ولو كان ذلك محرما لا يجوز
الاعتماد عليه ، لما أجابهم بل منعهم ، وقال : انه محرم غير مشروع ، ولا يجوز
الاعتماد عليه في نفى ولا إثبات.
واما ثانيا ،
فإنهم نقلوا ان رسول الله صلىاللهعليهوآله قضى بالقافة ، وظاهره عليهالسلام تقريرهم على ذلك ، حيث لم يكذبهم.
واما قوله عليهالسلام : ابعثوا أنتم إليهم واما أنا فلا ، فالظاهر ان المراد
منه انما هو لدفع التهمة عنه عليهالسلام ، بأنه ربما يكون اعلامه لهم بذلك قرينة لهم على الحاقه
به ، كما يشعر به قوله : ولا تعلموهم لما دعوتموهم ، لا أن المراد منه ما ربما
يتوهم من انه لما لم يكن مشروعا لم يرض عليهالسلام بان يكون هو الداعي لهم.
وبالجملة فإن
ظاهر الخبر هو ما ذكرناه من جواز ذلك ، وصحة الاعتماد
__________________
عليه.
اللهم الا ان
يقال : انه لما كان عليهالسلام يعلم ان القافة يلحقونه به. ويندفع بهم شبهة أعمامه
واخوته من إنكارهم كونه ابنه ، رضى بذلك.
وفيه : ما فيه.
فإنه بالدلالة على ما ندعيه انسب ، والى ما ذكرناه أقرب ، من ان القافة لا يقولون
الا حقا ، ولا يحكمون الا صدقا.
وبالجملة
فالدليل من الاخبار على التحريم غير ظاهر ، وليس الا ما يدعى من الإجماع.
نعم يمكن ان
يقال : ان الحكم بإلحاق شخص بآخر ، الموجب لترتب أحكام كثيرة ، مثل حل النظر ،
والميراث ، وتحريم المناكحة ، ونحو ذلك ، يحتاج الى دليل شرعي قاطع ، والخبر
المذكور لا دلالة فيه على وجه يوجب ذلك مطلقا. والله العالم.
(الثالث)
: في الكهانة.
قال في المسالك
: هي بكسر الكاف ، عمل يوجب طاعة بعض الجان له واتباعه له ، بحيث يأتيه بالأخبار
الغائبة. وهو قريب من السحر.
أقول : ويدل
على تحريمها ما تقدم في حديث ابى بصير ، المذكور في الموضع الثاني .
وما رواه في
مستطرفات السرائر ـ نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم ، قال : قلت
للصادق عليهالسلام : ان عندنا بالجزيرة رجلا ربما أخبر من يأتيه يسأله عن
الشيء يسرق أو شبه ذلك فنسأله ، فقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من مشى الى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه بما يقول ،
فقد كفر بما انزل الله من كتاب .
__________________
وأنت خبير بأنه
قد تقدم في كلام المسالك ، في تعريف السحر ، ومثله في كلام الدروس ، ان من جملة
السحر استنزال الشياطين في كشف الغائبات. وهو بظاهره مما يدل على دخول الكهانة تحت
السحر. وفي كلامه هنا ما يؤذن للمغايرة ، وان كان قريبا منه ، ولا يخلو من نوع
تدافع. والخبر الثاني مما يؤيد ما ذكره هنا من المغايرة ، وهو الأظهر ، للخبر.
(الرابع)
في الشعبذة.
وهي الحركات
السريعة التي يترتب عليها الأفعال العجيبة ، بحيث يلتبس على الحس الفرق بين الشيء
وشبهه ، لسرعة الانتقال منه الى شبهه.
وقد صرح في
المنتهى بنفي الخلاف عن التحريم. والظاهر : انه لا دليل سواه ، فانى لم أقف بعد
التتبع على خبر يدل على ذلك.
المسألة الثامنة
في القمار
قال في المنتهى
: القمار حرام بلا خلاف بين العلماء. وكذا ما يؤخذ منه. قال الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . الى ان قال : فان جميع أنواع القمار حرام ، من اللعب
بالنرد ، والشطرنج ، والأربعة عشر ، واللعب بالخاتم ، حتى لعب الصبيان بالجوز ،
على ما تضمنته الأحاديث ، ذهب إليه علماؤنا اجمع. وقال الشافعي : يجوز اللعب
بالشطرنج. وقال أبو حنيفة بقولنا. انتهى.
أقول :
والاخبار بما ذكروه هنا مستفيضة متكاثرة ، ومنها ما في الكافي عن ابى عبيدة الحذاء
في الصحيح قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» فقال : كانت قريش تقامر الرجل بأهله وما له ، فنهاهم
الله عزوجل عن ذلك. .
__________________
وعن جابر عن
ابى جعفر عليهالسلام ، قال : لما انزل الله عزوجل على رسوله الله صلىاللهعليهوآله «إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ» قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ فقال : ما تقومر به حتى
الكعاب والجوز. قيل : فما الأنصاب؟ قال : ما ذبحوه لآلهتهم. قيل : فما الأزلام؟
قال قداحهم التي يستقسمون بها. .
وعن الوشاء عن
ابى الحسن عليهالسلام قال : سمعته يقول : الميسر هو القمار .
وعن إسحاق بن
عمار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ، ويقامرون. فقال : لا تأكل
منه فإنه حرام. .
وعن السكوني ،
عن الصادق عليهالسلام ، قال : كان ينهى عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار
ان يؤكل. قال : هو سحت. .
وعن عبد الحميد
بن سعيد ، قال : بعث أبو الحسن غلاما يشترى له بيضا ، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين
فقامر بها ، فلما اتى به اكله ، فقال له مولى له : ان فيه من القمار. قال فدعى
بطشت فتقيأه. .
وعن محمد بن
مسلم ، عن أحدهما ـ عليهماالسلام ـ قال : لا تصلح المقامرة ولا النهبة .
وعن السكوني عن
الصادق عليهالسلام ، قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله عن اللعب
__________________
بالشطرنج والنرد. .
وعن ابى جندب
عمن أخبره عن الصادق عليهالسلام ، قال : الشطرنج ميسر والنرد ميسر. .
وعن ابى بصير
عن الصادق عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام النرد والشطرنج هما الميسر. .
وعن عمر بن
يزيد عن الصادق عليهالسلام ، قال : ان الله عزوجل في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار ، الا من أفطر
على مسكر ، أو مشاحن ، أو صاحب شاهين. قلت : وأى شيء الشاهين؟ قال الشطرنج. .
قال في الوافي
: المشاحن المعادي. والشحناء العداوة. ولعل المراد منه هنا : صاحب البدعة المفارق
للجماعة. كذا فسره الأوزاعي في الحديث النبوي «يغفر الله تعالى لكل عبد ما خلا
مشركا أو شاحنا». وشاهين تثنية شاه ، وهو من آلات الشطرنج ، وهما اثنان.
أقول : لعل
الأظهر في الخبر هو الحمل على من أضمر عداوة لأخيه المؤمن.
وعن زرارة عن
الصادق عليهالسلام ، انه سئل عن الشطرنج. وعن لعبة شبيب التي يقال لها :
لعبة الأمير. وعن لعبة الثلاث ، فقال : أرأيتك إذا ميز الله الحق والباطل ، مع
أيهما تكون؟ قال : قلت : مع الباطل. قال : فلا خير فيه .
__________________
أقول : وكما
يحرم اللعب بذلك ، كذلك يحرم حضور المجالس التي يلعب فيها بذلك ، والنظر الى ذلك ،
فروى في الكافي عن حماد بن عيسى في الصحيح أو الحسن ، قال : دخل رجل من البصريين
على ابى الحسن الأول عليهالسلام فقال له : جعلت فداك ، إني أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج
، ولست ألعب بها ، ولكن انظر. فقال ، مالك ولمجلس لا ينظر الله الى اهله .
وعن سليمان
الجعفري عن ابى الحسن الرضا عليهالسلام ، قال : المطلع في الشطرنج كالمطلع في النار . وعن ابن رئاب قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ، فقلت له : جعلت فداك ، ما تقول في الشطرنج؟ فقال :
المقلب لها كالمقلب للحم الخنزير. قال : فقلت : ما على من قلب لحم الخنزير؟ قال :
يغسل يده .
وفي مستطرفات
السرائر من جامع البزنطي عن ابى بصير عن الصادق عليهالسلام ، قال : بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ، واتخاذها
كفر ، واللعب بها شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة ، والخائض فيها
يده كالخائض يده في لحم الخنزير ، ولا صلاة له حتى يغسل يده كما يغسلها من لحم
الخنزير ، والناظر إليها كالناظر في فرج امه ، واللاهي بها والناظر إليها في حال
ما يلهى بها والسلام على اللاهي بها في حالته تلك ، في الإثم سواء. ومن جلس على
اللعب بها ، فقد تبوأ مقعده من النار ، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة. وإياك
ومجالسة اللاهي والمغرور بلعبها ، فإنها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله ،
يتوقعونه في كل ساعة فيعمك معهم .
__________________
المسألة التاسعة
في الغش بالخفي
، وتدليس الماشطة ، وتزيين الرجل بما يحرم عليه.
والكلام هنا
يقع في موارد ثلاثة : ـ
(الأول) : في
الغش بالخفي ، كشوب اللبن بالماء.
ولا خلاف في
تحريمه ، كما حكاه في المنتهى.
اما لو غش بما
لا يخفى ، كالتراب يجعله في الحنطة ، والردى منها بالجيد ، فظاهر الأصحاب عدم
التحريم ، وان كان مكروها ، لظهور العيب المذكور للمشتري فهو انما اشترى راضيا به.
ولعل وجه
الكراهة عندهم : انه تدليس في الجملة ، وانه ربما يغفل عنه المشترى لا سيما مع
كثرة الجيد إذا خلطه بالردي.
والذي يدل على
الحكم الأول من الاخبار : ما رواه في الكافي عن هشام ابن سالم في الصحيح أو الحسن
ـ بإبراهيم بن هاشم ـ عن الصادق عليهالسلام ، قال : ليس منا من غشنا .
وبهذا الاسناد
عن الصادق عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لرجل يبيع التمر :
__________________
يا فلان ، أما علمت انه ليس من المسلمين من غشهم . ورواه الشيخ ، وكذا الذي قبله.
وعن هشام بن
الحكم ، في الصحيح أو الحسن ، قال : كنت أبيع السابري في الظلال ، فمر بي أبو
الحسن الأول موسى عليهالسلام راكبا ، فقال لي : يا هشام ، ان البيع في الظلال غش ،
والغش لا يحل . ورواه الصدوق بإسناده ، عن هشام مثله.
أقول : السابري
ثياب رقيقة جيدة وفيه دلالة على تحريم بيع الثياب في المكان المظلم ، بطريق اولى.
وعن السكوني عن
ابى عبد الله عليهالسلام ، قال نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ان يشاب اللبن بالماء للبيع . ورواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن مسلم مثله.
وعن موسى بن
بكر ، قال : كنا عند ابى الحسن موسى عليهالسلام ، وإذا دنانير مصبوبة بين يديه ، فنظر الى دينار ،
فأخذه بيده ، ثم قطعه بنصفين ، ثم قال لي : ألقه في البالوعة حتى لا يباع شيء فيه
غش .
وعن الحسين بن
زيد الهاشمي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : جاءت زينب العطارة الحولاء الى نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عندهن ، فقال : إذا أتيتنا طابت بيوتنا. فقالت : بيوتك
بريحك أطيب يا رسول الله ، قال : إذا بعت فأحسني ولا تغشى ، فإنه أنقى وأبقى
للمال. الحديث . وعن عيسى بن هشام عن رجل من أصحابه عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : دخل عليه رجل يبيع الدقيق ، فقال : إياك والغش
، فان من غش غش في ماله ،
__________________
وان لم يكن له مال غش في اهله . وعن سعد الإسكاف عن ابى جعفر عليهالسلام قال : مر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في سوق المدينة بطعام ، فقال لصاحبه : ما ارى طعامك الا
طيبا ، وسأله عن سعره ، فأوحى الله عزوجل اليه ان يدس يديه في الطعام ، ففعل فأخرج طعاما رديا
فقال لصاحبه : ما أراك الا وقد جمعت خيانة وغشا للمسلمين . وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، في الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشيء
، وأحدهما أجود من الأخر ، فيخلطهما جميعا ، ثم يبيعهما بسعر واحد. فقال : لا يصلح
له ان يغش المسلمين ، يبينه .
وعن الحسين بن
المختار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انا نعمل القلانس فنجعل فيها القطن العتيق ، فنبيعها
ولا نبين لهم ، ما فيها؟ قال : أحب لك ان تبين لهم ما فيها .
وعن الحلبي في
الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يشترى طعاما ، فيكون أحسن له وأنفق له ان يبله
، من غير ان يلتمس فيه زيادته. فقال : ان كان بيعا لا يصلحه الا ذلك ولا ينفقه
غيره ، من غير ان يلتمس فيه زيادة ، فلا بأس. وان كان انما يغش به المسلمين فلا
يصلح .
أقول : ظاهر
هذا الخبر ان الجواز وعدمه دائران مدار قصد البائع ، في بلة الطعام. فإنه متى كان
قصده انما هو لأجل إنفاق السلعة وشرائها ، وانه بدون ذلك يكسد عليه ، فلا بأس بما
يفعله. وان كان غرضه انما هو لأجل زيادة في الوزن ، فهو غير جائز.
__________________
واما ما يدل
على الحكم الثاني ، فما رواه في الكافي والتهذيب ، عن محمد بن مسلم في الصحيح عن
أحدهما ، انه سئل عن طعام يخلط بعضه ببعض ، وبعضه أجود من بعض. فقال : إذا رؤيا
جميعا فلا بأس ، ما لم يغط الجيد الردي .
أقول : قد عرفت
دلالة خبر سعد الإسكاف على تحريم تغطية الجيد الردى ، وهو المشار إليه في هذا
الخبر ، فظاهر الخبرين الحرمة في الصورة المذكورة. ويمكن حمل ذلك على ما إذا حصل
الاشتباه ولم يعلم. ولو فرض العلم بعد البيع بظهور ذلك الردى ، فيمكن القول
بالكراهة وان للمشتري الخيار بظهور العيب حينئذ.
ثم انه مع خفاء
الغش ـ كما هو الحكم الأول ـ فقد عرفت انه لا خلاف في التحريم ، وانما الخلاف في
انه هل يصح البيع؟ وان ثبت للمشتري الخيار بعد ظهور ذلك ، ويكون حكمه حكم ما لو
ظهر في المبيع عيب من غير الجنس ، أم لا؟ قولان.
جزم في المسالك
بالأول ، لما ذكرناه ، ثم قال : وربما احتمل البطلان : بناء على ان المقصود بالبيع
هو اللبن ، والجاري عليه العقد هو المشوب ، فيكون كما لو باعه هذا الفرس فظهر
حمارا. وقد ذكروا في هذا المثال اشكالا من حيث تغليب الإشارة أو الاسم. والفرق
بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. انتهى.
أقول : الظاهر
ان ما ذكره في تعليل البطلان من قوله : فيكون كما لو باعه. إشارة الى ما ذكره في
الذكرى في باب صلاة الجماعة ، حيث قال : ولو نوى الاقتداء بالحاضر على انه زيد
فبان عمرا ، ففي ترجيح الإشارة على الاسم فيصح ، أو بالعكس فيبطل ، نظر. ونظيره :
ان يقول المطلق لزوجته التي اسمها عمرة هذه زينب طالق. أو يشير البائع إلى حمار ،
فيقول : بعتك هذا الفرس. انتهى.
أقول : من
المحتمل قريبا ان النهى في الاخبار المتقدمة وما في معناه ، انما هو من حيث عدم
صلاحية المبيع المذكور للبيع من حيث الغش ، كبيع العذرة ونحوها مما منعت منه
الاخبار ، لعدم قابليتها للانتقال ، وان اختلف الوجه في كل منهما
__________________
وان الوجه في المنع في العذرة والخمر ونحوها من حيث النجاسة ، وفيما نحن من
حيث الغش. والفرق بينه وبين ما ذكره في المسالك في وجه الصحة من ان حكمه حكم ما لو
ظهر في المبيع عيب ، ظاهر ، لان ما نحن فيه مما استفاضت الاخبار ، كما عرفت ،
بالنهي عن بيعه ، وليس الوجه فيه الا ما ذكرنا ، وعموم أدلة صحة البيع ظاهرة في
تجويز بيع ما فيه عيب ، وصحته مع جبره بالخيار للمشتري. والله العالم.
المورد الثاني
في تدليس
الماشطة :
والمراد بذلك :
ما إذا أرادت تزويج امرأة برجل ، ومثله بيع امة ، بان تستر عيوبها وتظهر لها محاسن
ليست فيها ، كتحمير وجهها ووصل شعرها ونحو ذلك ، مما يوجب رغبة الزوج في تزويجها
أو المالك في شرائها.
والظاهر : ان
ذكر الماشطة في كلامهم ، انما خرج مخرج التمثيل ، والا فلو فعلت المرأة بنفسها ذلك
للغرض المذكور ، فالظاهر ان الحكم فيها كذلك.
ولعل الوجه في
تحريم ذلك من حيث التدليس والغش ، وهو محرم كما تقدم.
ولم أقف فيما
حضرني من الاخبار ، على ما يدل على الحكم المذكور ، سوى ما أشرنا إليه من دخوله
تحت الغش والتدليس ، واليه أشار المقدس الأردبيلي ، حيث قال : وكأن دليل التحريم
الإجماع وانه غش وهو حرام ، كما تدل عليه الاخبار وقد تقدمت. انتهى.
هذا كله مع عدم
علم الزوج والمشترى بذلك. واما فعل الزوجة بنفسها
ذلك ، وفعل الماشطة بها لقصد إظهار الزينة لزوجها ، فالظاهر انه لا بأس به
، لما يدل عليه رواية سعد الإسكاف عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها ، قال :
قلت له : بلغنا ان رسول الله صلىاللهعليهوآله لعن الواصلة والموصولة؟ فقال : ليس هناك ، انما لعن
رسول الله صلىاللهعليهوآله الواصلة والموصولة التي تزني في شبابها ، فلما كبرت
قادت النساء الى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة. .
ويؤيده ما في قرب
الاسناد عن عبد الله بن الحسن ، عن جده على بن جعفر ، انه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهالسلام ، عن المرأة التي تحف الشعر من وجهها ، قال : لا بأس .
هذا ، والظاهر
من الاخبار : انه لا بأس بكسب الماشطة ، الا ان الأفضل لها ان لا تشارط وتقبل ما
تعطى. فروى في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : لما هاجرت النساء الى رسول الله صلىاللهعليهوآله هاجرت فيهن امرأة يقال لها أم حبيب ، وساق الخبر الى ان
قال : وكان لام حبيب أخت يقال لها أم عطية وكانت مقنية يعني ماشطة ، فلما انصرفت
أم حبيب إلى أختها أخبرتها بما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لها ، فأقبلت أم عطية إلى النبي صلىاللهعليهوآله فأخبرته بما قالت لها أختها ، فقال لها رسول الله :
ادنى منى يا أم عطية ، إذا أنت قنيت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة ، فإن الخرقة
تشرب ماء الوجه. وفي التهذيب : بماء الوجه .
وعن ابن ابى
عمير عن رجل عن ابى عبد الله عليهالسلام قال دخلت ماشطة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال لها : هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت : يا
رسول الله انا أعمله إلا ان تنهاني عنه فانتهى ، فقال : افعلي ، فإذا مشطت فلا
تجلى الوجه بالخرق فإنه
__________________
يذهب بماء الوجه ، ولا تصلى الشعر بالشعر .
وروى في الفقيه
مرسلا ، قال : قال عليهالسلام : لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطى ، ولا
تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها ، واما شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة .
وروى في
التهذيب عن على عليهالسلام : قال : سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها
معيشة غير ذلك ، وقد دخلها ضيق. قال : لا بأس ، ولكن لا تصل الشعر بالشعر .
وعن عبد الله
بن الحسن ، قال : سألته عن القرامل. قال : وما القرامل؟ قلت : صوف تجعله النساء في
رؤسهن. قال : ان كان صوفا فلا بأس به ، وان كان شعرا فلا خير فيه ، من الواصلة
والموصولة .
وروى في معاني
الأخبار بسنده عن على بن غراب عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهالسلام ، قال : لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النامصة والمنتمصة ، والواشرة والموتشرة ، والواصلة
والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة .
قال الصدوق :
قال على بن غراب : النامصة التي تنتف الشعر ، والمنتمصة التي يفعل ذلك بها ، والواشرة
التي تشر أسنان المرأة وتفلجها وتحددها ، والموتشرة التي يفعل ذلك بها ، والواصلة
التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها ، والمستوصلة التي يفعل ذلك بها ، والواشمة
التي تشم وشما في يد المرأة أو في شيء من بدنها ، وهو ان تغرز بدنها أو ظهر كفها
أو شيئا من بدنها بإبرة حتى تؤثر فيه ، ثم تحشوه بالكحل أو بالنورة ، فتخضر ،
والمستوشمة التي يفعل ذلك بها.
__________________
بقي الكلام في
ان جملة هذه الاخبار ، قد اتفقت في الدلالة على النهى عن وصل الشعر بشعر امرأة
غيرها ، وظاهر حديث سعد الإسكاف المتقدم : انه لا بأس بما تزينت به المرأة لزوجها
، وان كان بوصل شعرها بشعر امرأة غيرها ، فإنه لما سأله السائل عن الحديث المتضمن
للعن الواصلة والمستوصلة ، فسره عليهالسلام بمعنى آخر ، تنبيها على الجواز ، وان الخبر ليس المراد
به ذلك ، مع استفاضة هذه الاخبار كما ترى بالمنع والنهى.
وجمع بعض
الأصحاب بين هذه الاخبار بحمل الأخيرة على الكراهة.
ويؤيده نفى
البأس في رواية قرب الاسناد عن حف الشعر عن الوجه ، مع دلالة رواية على بن غراب
على النهى عن نتف الشعر.
وربما حملت
ايضا على قصد التدليس عند ارادة التزويج ، والظاهر بعده عن سياق الأخبار المذكورة
واحتمل ثالث
حمل النهى من حيث عدم جواز الصلاة في شعر الغير ، وهو أبعد ، فإنه لم يقم عليه
دليل ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل كما تقدم تحقيقه في كتاب الصلاة ، في بحث
لباس المصلى.
المورد الثالث
في تزيين الرجل
بما يحرم عليه ، كتزيينه بالذهب والحرير ، الا ما استثنى. وظاهر المسالك : تفسيره
بما يختص بالنساء كلبس السوار والخلخال والثياب المختصة بهن بحسب العادة. قال :
ويختلف ذلك باختلاف الأزمان والأصقاع.
__________________
أقول : الظاهر
ان الأقرب هو ما ذكرناه أولا ، وهو الذي فسره به بعض الأصحاب أيضا ، لأن الثاني
على تقدير تسليم تحريمه لا يكون مطردا ، بل يختلف على الوجه الذي ذكره ، بخلاف ما
ذكرناه أولا ، فإن التحريم ثابت معلوم مطرد في جميع الأوقات والأزمان ، إلا مواضع
مخصوصة دل الدليل على استثنائها.
قال في المسالك
: وكذا يحرم على المرأة التزين بزينة الرجل والتحلي بحلية المختصة به ، كلبس
المنطقة والعمامة والتقليد بالسيف. ولا فرق في الأمرين بين مباشرة الفاعل لذلك
بنفسه أو تزيين غيره له ، الا ان المناسب للعبارة هنا فعل الغير بهما ليكتسب به ،
اما فعلهما بأنفسهما فلا يعد تكسبا الا على تجوز بعيد. انتهى.
أقول : لم أقف
في هذا الموضع على خبر ولا دليل يدل على ما ذكروه ، سوى ما ورد من عدم جواز لبس
الرجل الذهب والحرير ، فلو خص تحريم التزيين بذلك لكان له وجه لما ذكرناه ، واما
ما عداه فلم نقف على دليل تحريمه ، لا بفعل الإنسان ولا بفعل الغير به.
ويشير الى ما
ذكرناه ما صرح به المقدس الأردبيلي في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد ذكر نحو ما
قدمناه ـ : ولعل دليله الإجماع بنفسه ، وانه نوع غش ، وهو محرم. والإجماع غير ظاهر
فيما قيل ، وكذا كونه غشا وهو ظاهر. انتهى.
أقول : قد عرفت
صحة هذا الحكم بالنسبة إلى تزيين الرجل بالذهب والحرير ، لما ذكرناه. وانما موضع
الاشكال ما عدا ذلك مما قدمنا نقله عنهم.
نعم قد ورد في
بعض الاخبار : لعن المتشبهين بالنساء ولعن المتشبهات بالرجال. الا ان الظاهر منها
ـ باعتبار حمل بعضها على بعض ـ انما هو باعتبار التأنيث وعدمه ، لا باعتبار اللبس
والزي.
فقد روى في
الكافي بسنده عن جابر عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : قال رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث : لعن الله المحلل والمحلل له ، ومن يوالي غير
مواليه ، ومن ادعى نسبا لا يعرف ، والمتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من
النساء بالرجال ،
ومن أحدث حدثا في الإسلام ، أو آوى محدثا ، ومن قتل غير قاتله ، أو ضرب غير
ضاربه .
وروى الصدوق في
العلل عن عمرو بن خالد عن زيد بن على عن آبائه عن على عليهالسلام انه رأى رجلا به تأنيث ، في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال له : اخرج من مسجد رسول الله ، يا لعنة رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم قال على ـ عليهالسلام ـ : انى سمعت رسول الله يقول : لعن الله المتشبهين من
الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال .
قال : وفي حديث
آخر : أخرجوهم من بيوتكم فإنهم أقذر شيء .
وبهذا الاسناد
عن على عليهالسلام ، قال : كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جالسا في المسجد حتى أتاه رجل به تأنيث ، فسلم عليه فرد
عليهالسلام ، ثم أكب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الأرض يسترجع ، ثم قال : مثل هؤلاء في أمتي؟! انه
لم يكن مثل هؤلاء في أمة إلا عذبت قبل الساعة .
__________________
المقام الرابع
فيما يحرم لتحريم ما يقصد به
كآلات اللهو ،
مثل العود والزمر. وهياكل العبادة المبتدعة ، كالصليب والصنم. وآلات القمار كالنرد والشطرنج. واجارة المساكن
والسفن للمحرمات. وبيع العنب ليعمل خمرا. وبيع الخشب ليعمل صنما. ويكره بيع ذلك
لمن يعملها.
وتحقيق الكلام
في هذا المقام يتوقف على بسطه في مواضع :
الأول
: لا خلاف بين
الأصحاب في تحريم عمل آلات اللهو والتكسب بها وبيعها. مثل العود والدفوف والطبول
والمزامير ونحوها مما ذكر.
__________________
قال في المنتهى
: ويحرم عمل الأصنام وغيرها من هياكل العبادة المبتدعة وآلات اللهو ، كالعود
والزمر وآلات القمار كالنرد والشطرنج والأربعة عشر ، وغيرها من آلات اللعب ، بلا
خلاف بين علمائنا في ذلك. انتهى.
أقول : وقد
تقدمت جملة من الاخبار المتعلقة بآلات اللهو ، في المسألة الثانية من المقام
المتقدم ، دالة على الأحكام المذكورة.
وبالجملة فلا
ريب في تحريم البيع بقصد تلك الأغراض المحرمة ، بل مطلقا ايضا ، حيث انه لا غرض
يترتب على هذه الأشياء إلا ذلك.
اما لو أمكن
الانتفاع بها في غير ذلك ، فيحتمل الجواز ، الا انه فرض نادر ، فيمكن التحريم
مطلقا ، بناء على ان الغرض المتكرر المترتب على تلك الآلات انما هو ما ذكرنا ، فلا
يلتفت الى الافراد النادرة الوقوع.
نعم لو كان
الغرض من البيع كسرها مثلا وبيعت لأجل ذلك ، فالظاهر انه لا ريب في الجواز إذا كان
المشترى ممن يوثق به في ذلك.
قال في المسالك
: ولو كان لمكسورها قيمة ، وباعها صحيحة للكسر ، وكان المشترى ممن يوثق بديانته ،
ففي جواز بيعها وجهان. وقوى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن. والأكثر
أطلقوا المنع. انتهى.
أقول : الظاهر
ان إطلاق الأكثر المنع انما هو من حيث ندور هذا الفرض ، والا فمع وقوعه على الوجه
المذكور فإنه لا مانع من صحة البيع شرعا كما لا يخفى.
قال في المسالك
: وهل الحكم في أواني الذهب والفضة كذلك؟ يحتمل ، بناء على تحريم عملها والانتفاع
بها في الأكل والشرب. وعدمه ، لجواز اقتنائها للادخار وتزيين المجالس والانتفاع
بها في غير الأكل والشرب ، وهي منافع مقصودة. وفي تحريم عملها مطلقا نظر. انتهى.
أقول : وقد
تقدم في آخر كتاب الطهارة : ان المشهور بين الأصحاب هو تحريم
__________________
اتخاذها ، وان كان للقنية والادخار. وعليه تدل ظواهر جملة من الاخبار
المذكورة ثمة وبذلك يظهر كونها من قبيل ما نحن فيه.
الثاني
: المشهور في كلام
الأصحاب : تحريم اجارة السفن والدابة للمحرمات ، مثل حمل الخمر ، والبيت ليباع فيه
الخمر ، والخشب ليعمل صلبانا ، أو شيئا من آلات اللهو ، والعنب ليعمل خمرا.
بمعنى ان البيع
أو الإجارة وقع لهذا الغايات ، أعم من ان يكون قد وقع شرطها في متن العقد ، أو حصل
الاتفاق عليها. صرح بذلك غير واحد من الأصحاب. بل في المنتهى : انه موضع وفاق.
اما لو كانت
الإجارة أو البيع لمن يعمل ذلك ولم يعلم انه يعملها ، فإنه يجوز على كراهية. ومع
العلم قولان. فقيل بالجواز على كراهية ، وقيل بالتحريم. واختاره في المسالك. قال :
والظاهر ان غلبة الظن به كذلك. والى هذا القول ايضا مال المقدس الأردبيلي رحمهالله عليه.
والاخبار لا
تخلو من اختلاف واضطراب في المقام ، فلا بد أو لا من نقلها ، ثم الكلام فيها :
ومنها ما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة ، قال : كتبت الى ابى عبد الله عليهالسلام : أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو
عليها الخمر والخنازير؟ قال : لا بأس .
وما رواه فيه
ايضا ، وفي التهذيب عن صابر ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال : حرام أجرته
.
وما رواه في
الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ، قال : كتبت الى ابى
__________________
عبد الله عليهالسلام : أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال :
لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال : لا .
وعن عمرو بن
حريث ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب والصنم؟ قال : لا .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن احمد بن محمد بن ابى نصر ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل ان يقبض الثمن ، فقال :
لو باع ثمرته ممن يعلم انه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس ، فاما إذا كان عصيرا فلا
يباع الا بالنقد .
وعن محمد
الحلبي ، قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراما ، قال : لا بأس به ،
تبيعه حلالا ليجعله حراما فأبعده الله وأسحقه .
وما رواه في
الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ، قال : كتبت الى ابى عبد الله عليهالسلام : أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم انه
يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال : انما باعه حلالا في الإبان الذي يحل شربه أو أكله فلا
بأس ببيعه .
وعن ابى كهمس ،
قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام ـ الى ان قال ـ : ثم قال عليهالسلام : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا .
وما رواه في
التهذيب عن رفاعة بن موسى في الصحيح ، قال : سئل الصادق عليهالسلام ـ وانا حاضر ـ عن بيع العصير ممن يخمره ، قال : حلال. ألسنا
نبيع تمرنا ممن يجعله
__________________
شرابا خبيثا!؟ ،.
وعن الحلبي في
الصحيح عن الصادق عليهالسلام : انه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا ، فقال : بعه
ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب الى ، ولا أرى بالأول بأسا .
وعن يزيد بن
خليفة الحارثي ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : سأله رجل ـ وانا حاضر ـ قال : ان لي الكرم. قال
تبيعه عنبا! قال : فإنه يشتريه من يجعله خمرا ، قال فبعه إذا عصيرا. قال : فإنه
يشتريه منى عصيرا فيجعله خمرا في قربتي ، قال : بعته حلالا ، فجعله حراما فأبعده
الله الحديث.
هذه جملة ما
وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام.
والشيخ قد حمل
الخبر الثاني على من يعلم انه يباع فيه الخمر ، ولهذا حرم الأجرة. والأول على من
لا يعلم ما يحمل عليها.
وفيه : ان
اخبار العصير كلها متفقة على جواز البيع مع العلم بأنه يعمله خمرا.
ومقتضى كلام
أصحاب الذي قدمنا نقله عنهم : حمل الخبر الثاني على ان يكون الإجارة لهذه الغاية ،
بحيث ذكرت وشرطت في أصل العقد أو وقع الاتفاق عليها. والخبر الثاني على ما لم يكن
كذلك.
وجمع في الوافي
بين الخبرين المذكورين ، فقال : لا منافاة بين الخبرين ، لان البيع غير الحمل ،
والبيع حرام مطلقا ، والحمل يجوز ان يكون للتخليل.
وفيه ـ أولا ـ :
ما عرفت من عدم تحريم البيع مطلقا ، لاخبار العصير المذكورة ، الا ان يقيد بما
ذكره الأصحاب.
وثانيا : ان
الحمل للتخليل ، وان احتمل في الخمر ، لكن لا مجال لهذا الاحتمال في الخنزير الذي
ذكر معه في الخبر.
__________________
فالأولى انما
هو حمل الخبر الثاني على ما ذكره الأصحاب من الاشتراط أو الاتفاق.
وعلى هذا ايضا
تحمل اخبار بيع الخشب ليعمل صلبانا أو أصناما.
ويمكن ان تحمل
اخبار المنع على الكراهة ، جمعا بينها وبين ما دل على الجواز.
ويشير الى ذلك
صحيحة ابن أذينة أو حسنته الثانية ، حيث نفى البأس فيها عن بيع الخشب ليعمل برابط
، ومنع من البيع ليعمل صلبانا ، مع ان الأمرين من باب واحد. بان يقال بشدة الكراهة
في عملها صلبانا فنهى عنه وان كان جائزا.
والمقدس
الأردبيلي ـ هنا ـ قد استدل ـ على تحريم البيع والإجارة ممن يعلم بترتب تلك الغاية
المحرمة على البيع أو الإجارة ، وان لم يحصل الاشتراط ، على الوجه الذي ذكره
الأصحاب ـ بأن فيه معاونة على الإثم والعدوان ، مع وجوب النهى عن المنكر ، وإيجاب
كسر الهياكل ، وعدم جواز الحفظ ، وكسر آلات اللهو ، ومنع الشرب ، والحديث الدال
على لعن حامل الخمر وعاصرها ، المذكور في الكافي ، ومنع بيع السلاح لأعداء الدين ،
فإنه يحرم للإعانة ، وهو ظاهر.
وفيه : ان ما
ذكره جيد في حد ذاته ، لو سلم من المعارضة بأخبار العصير المذكورة ، فإنها ما بين
صريح وظاهر في صحة البيع في الصورة المذكورة ، مع كثرتها وصحة كثير منها.
واما قوله ـ رحمهالله ـ : ويمكن حملها على وهم البائع ان المشترى يعمل هذا
المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا ، أو يكون الضمير راجعا الى مطلق العصير والتمر
لا المبيع ، ولا صراحة في الاخبار ببيعه ممن يعلم بجعل هذا المبيع خمرا ، بل لا
نعلم فتوى المجوز بذلك. وبالجملة فالظاهر : التحريم مع علمه بجعل هذا المبيع خمرا
بل ظنه أيضا فتأمل. انتهى.
فلا يخفى ما
فيه من التعسف والتكلف ، والخروج عن ظاهر الاخبار بل صريحها ،
فإنها مطابقة المقالة ، واضحة الدلالة على ان البائع يعلم ان المشترى يصنع
ذلك المبيع من العنب والتمر خمرا ، ولا سيما قوله في خبري محمد الحلبي ويزيد بن
خليفة ـ : بعته حلالا فجعله حراما. فان ظاهره ينادي بأن المدار في التحريم
والتحليل انما هو بالنسبة الى حال المبيع ، فان كان المبيع مما يحل بيعه في ذلك
الوقت وتلك الحال صح البيع ، والا فلا ، ولا تعلق لصحة البيع بما يؤل اليه حال
المبيع بعد البيع ، علمه أم لم يعلمه. وما ذكره من الحمل على توهم البائع أو رجوع
الضمير الى مطلق العصير والتمر لا المبيع ، عجيب من مثله! وكيف لا وهو عليهالسلام يقول : انا نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا وشرابا
خبيثا. اى يصنع ذلك التمر الذي نبيعه إياه ، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم
والفهم القويم. وبالجملة فإنه لو قامت هذه الاحتمالات البعيدة لانغلق باب
الاستدلال.
وقد تلخص من
ذلك : ان الظاهر من هذه الاخبار ـ بعد ضم بعضها الى بعض ـ هو : قصر التحريم على ما
إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق على البيع أو الإجارة لتلك الغاية المحرمة ،
وحل ما سوى ذلك. وما ذكره الأصحاب من الكراهة في موضع التحليل ، وان كان جيدا في
حد ذاته ، الا ان ظواهر الاخبار لا تساعده ، لا سيما اخبار بيع التمر والعنب ليعمل
خمرا. والله العالم.
الثالث
: المشهور بين
الأصحاب بل الظاهر انه لا خلاف فيه : تحريم بيع السلاح على أعداء الدين
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المقام : ما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بكر الحضرمي ، في
الحسن قال : دخلنا على ابى عبد الله عليهالسلام ، فقال له حكم السراج : ما تقول فيمن يحمل الى الشام
السروج وأداتها؟ فقال : لا بأس ، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، انكم في هدنة ، فإذا كانت المبانية حرم عليكم ان
تحملوا إليهم السروج والسلاح .
__________________
والظاهر : ان
المراد بقوله «بمنزلة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» اى الباقين على صحبته ودينه بعد موته ، كما يشير اليه
قوله «انكم في هدنة» أي سكون من الفتن بالصلح مع أعداء الدين.
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن هند السراج ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : أصلحك الله ، انى كنت أحمل السلاح الى أهل الشام
فأبيعه منهم ، فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك ، وقلت : لا أحمل إلى أعداء
الله. فقال لي : احمل إليهم وبعهم ، فان الله يدفع بهم عدونا وعدوكم ، يعنى الروم
، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا ، فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا
فهو مشرك .
وما رواه في
الكافي عن محمد بن قيس في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال
: بعهما ما يكنهما ، الدرع والخفين ونحو هذا ،.
وعن السراد عن
ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت له : انى أبيع السلاح ، قال : لا تبعه في
فتنة .
وفي التهذيب
رواه عن السراد عن رجل عنه. وهو الظاهر ، حيث ان السراد المذكور انما يروى عن ابى
عبد الله عليهالسلام بالواسطة ، هذا ان حمل انه الحسن بن محبوب المشهور بهذا اللقب والا فلا ، ويكون الرجل مهملا.
__________________
وما رواه في
التهذيب عن ابى القاسم الصيقل ، قال : كتبت اليه انى رجل صيقل اشترى السيوف
وأبيعها من السلطان ، أجائز لي بيعها؟ فكتب ـ عليهالسلام ـ لا بأس به .
وما في قرب
الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر ، ورواه على بن جعفر في كتابه عن
أخيه موسى ـ عليهالسلام ـ ، قال : سألته عن حمل المسلمين الى المشركين التجارة
، قال : إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس .
وما رواه في
الفقيه بإسناده عن حماد بن انس وانس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ في وصية النبي صلىاللهعليهوآله لعلى عليهالسلام ، : يا على كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة ـ الى
ان قال : ـ وبايع السلاح من أهل الحرب .
* * *
والكلام في هذه
الاخبار يقع في مواضع :
(الأول): ان
المستفاد من الخبر الأول والثاني : تخصيص تحريم حمل السلاح إلى الأعداء بوقت
المباينة دون وقت الصلح والهدنة. وكلام الأصحاب ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ مطلق.
فالواجب تقييده بما ذكرنا من الخبرين. والى ذلك أشار في المسالك ـ بعد ذكر عبارة
المصنف الدالة بإطلاقها على العموم ـ فقال : وانما يحرم مع قصد المساعدة أو في حال
الحرب أو التهيؤ له.
(الثاني): لا
فرق في أعداء الدين بين كونهم مشركين أو مسلمين كالمخالفين.
ويدل عليه
الخبران الأولان ، لاشتراكهما في الوصف وهو العداوة للدين ، بل
__________________
لا يبعد ـ كما ذكره جملة من المتأخرين ـ دخول مثل قطاع الطريق ونحوهم من
الظالمين ، لما تقدم من تحريم اعانة الظالمين ولو بالمباحات ، بل الطاعات ، فضلا
عما في الإعانة على الظلم. ويعضده ظاهر الآية من النهى عن الإعانة على الإثم
والعدوان. وحديث السراد المتقدم
(الثالث): محل
البحث في كلام الأصحاب وكذا في اخبار تحريم السلاح هو السيف والرمح ونحوهما. أما
ما يتخذ جنة كالدرع والبيضة ولباس الفرس المسمى بالتجفاف ـ بكسر التاء ـ فالظاهر
عدم دخوله في الحكم المذكور. وبذلك صرح في المسالك ايضا.
ويدل عليه
صحيحة محمد بن قيس المتقدمة ، الا ان ظاهر رواية أبي بكر الحضرمي : دخول السروج
فيما يحرم بيعه ، وهي ليست من السلاح. فلو قيل بالعموم لما يحصل به المساعدة ، من
سلاح وغيره ، لكان أوجه ، فإنه لا شك ان الإعانة بالدرع والبيضة التي تقي لابسها
عن القتل أشد وأعظم من الإعانة بالسرج الذي قد صرحت الرواية المشار إليها بتحريمه.
ويمكن الجواب
عن الصحيحة المذكورة بأنها لم تتضمن المعونة لأعداء الدين على المسلمين ، وانما
دلت على المعونة على مثلهم من أهل الباطل ، والظاهر ان الفرقتين من أعداء الدين.
الا انه يشكل ذلك بتخصيص التجويز بالجنة دون السلاح وبالجملة فإدخال نحو السرج في
الحكم المتقدم وإخراج نحو الدرع لا يخلو عن اشكال.
(الرابع): لو
باع على تقدير التحريم ، هل يصح البيع ويملك الثمن وان أثم ، أم يبطل؟ قولان ،
استظهر في المسالك الثاني ، قال : لرجوع النهي إلى نفس المعوض. واليه مال المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد ، قال : لان الظاهر ان الغرض من النهى هنا عدم التملك وعدم
صلاحية المبيع لكونه مبيعا ، لا مجرد الإثم ،
__________________
فكان المبيع لا يصلح لان يكون مبيعا لهم كما في بيع الغرر انتهى. ولا يخلو
من قرب ، وان كان للمناقشة فيه مجال ، لإمكان رجوع النهي إلى المعونة ، والا
فالعوض من حيث هو صالح للنقل ، فيكون توجه النهى انما هو لأمر خارج كالبيع وقت
النداء في يوم الجمعة ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في بعض مجلدات هذا الكتاب بما يكشف عن وجهها نقاب الشك والارتياب.
(الخامس): ظاهر
خبر هند السراج : جواز حمل السلاح إلى أعداء الدين وقت الهدنة لأجل
الاستعانة به على دفع الكفار ، وعليه يحمل خبر القاسم الصيقل ، مع انك قد عرفت في
الموضع الأول جواز الحمل في حال الهدنة مطلقا.
__________________
المقام الخامس
في حكم أخذ
الأجرة على ما يجب على الإنسان فعله ، كتغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم.
ويلحق بذلك أخذ
الأجرة على الأذان ، وبيع القرآن ، وكذا أخذ الأجرة على الصلاة بالناس ، والقضاء
والحكم بين الناس.
وتفصيل هذه
الجملة يقع في موارد : ـ
الأول : المشهور في كلام الأصحاب ـ من غير خلاف يعرف ـ ان
تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم ، من الواجبات الكفائية ، على من علم
بالموت من المسلمين ، فلا يجوز أخذ الأجرة على شيء من ذلك.
قال في المنتهى
: يحرم أخذ الأجرة على تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم ، لان ذلك واجب
عليهم ، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على فعله ، كالفرائض انتهى.
ونحن قدمنا
البحث معهم في هذه المسألة في فصل غسل الأموات من كتاب الطهارة وكذا في كتاب الصلاة في باب الصلاة على الأموات. وذكرنا
__________________
ان الخطابات الواردة من الشارع في هذه المواضع انما توجهت إلى الولي بأن
يفعل ذلك أو يأمر من يفعله ، الا ان لا يكون للميت ولى ، وعلى ما ذكرنا لا يتجه
تحريم أخذ الأجرة على الإطلاق كما ذكروه ، وان كان ظاهرهم الاتفاق على ما نقلناه
عنهم.
الا ان يقال :
انه إذا أذن الولي وجب عليه حينئذ وهو بعيد ، لعدم الدليل عليه فانا لم نقف لهم في
دعوى الوجوب الكفائي في هذا المقام على دليل يعتمد عليه من الاخبار ، وليس الا
ظاهر اتفاقهم عليه.
والأصحاب قد
نقلوا في هذا المقام عن المرتضى جواز أخذ الأجرة بالتقريب الذي ذكرناه.
قال في المسالك
ـ بعد ذكر المصنف لأصل الحكم ـ : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وعليه الفتوى ،
وذهب المرتضى الى جواز أخذ الأجرة على ذلك لغير الولي بناء على اختصاص الوجوب به ،
وهو ممنوع ، فان الوجوب الكفائي لا يختص به ، وانما فائدة الولاية توقف الفعل على
اذنه ، فيبطل منه ما وقع بغيره ، مما يتوقف على النية. انتهى.
وفيه : ان ما
ادعاه ـ رحمهالله ـ وغيره من الوجوب الكفائي عار عن الدليل كما عرفت.
واما قوله : ان
فائدة الولاية توقف الفعل على اذنه ، فان فيه : ان النصوص الدالة على ذلك ظاهرة بل
صريحة في توجه الأمر بالإتيان بتلك الأفعال إلى الولي ، كقول أمير المؤمنين عليهالسلام ـ فيما رواه في الفقيه ـ : يغسل الميت اولى الناس به أو
من يأمره الولي بذلك . وبمضمونه خبر آخر في الغسل .
__________________
وقول الصادق عليهالسلام : يصلى على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب . ونحوه أخبار ولاية الزوج لزوجته ، وانه اولى الناس
بالصلاة عليها والغسل بها . وهكذا في سائر ما يتعلق بالميت ، فان الخطاب بإيقاع
ذلك الفعل انما توجه إلى الولي خاصة ، اما بان يوقعه بنفسه أو يأذن لغيره. وأين
هذا من الوجوب الكفائي ، الذي يدعونه؟!
وبذلك يظهر :
ان فائدة الولاية هو اختصاص الفعل به ، بان يغسله ويصلى عليه ويكفنه ونحو ذلك ، أو
يأذن لغيره في هذه الأمور.
وحينئذ فلو
فرضنا ان الغير امتنع من امتثال أمر الولي إلا بالأجرة جاز له ذلك ، لانه غير
مخاطب بهذه الأمور ، ولا مكلف بها حتى يحرم عليه أخذ الأجرة كما ادعوه.
نعم لو سلمنا
صحة ما ادعوه من الوجوب الكفائي ، صح ما رتبوه عليه من تحريم أخذ الأجرة.
ثم ان مقتضى
تخصيص الأصحاب الحكم بالواجب من هذه الأمور ، جواز أخذ الأجرة على المستحب ، مثل
زيادة الحفر على ما يستر ريحه عن الشياع ، ويكن جثته عن السباع ، بمقدار الترقوة ،
ونقله الى المشاهد المشرفة ، وتثليث الغسلات في التغسيل ، ووضوء الميت على تقدير
القول باستحبابه ، وتكفينه بالقطع المندوبة ونحو ذلك.
وقيل بالمنع.
نقله في المسالك عن بعض الأصحاب ، محتجا بإطلاق النهى! وأنت خبير بانا لم نقف على
نهى في هذا الباب ، ولا ذكره أحد من الأصحاب ، بل ذكر المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد ايضا ، انه لم يقف عليه ، قال ـ بعد نقل القول المذكور ـ : ووجهه غير ظاهر
، ولعله انها عبادة وهي تنافي الأجرة ومنعه ظاهر ، الا ترى جواز أخذ الأجرة على
الحج وسائر العبادات بالإجماع والأدلة. قيل : لإطلاق النهى ، وما رأيت النهى.
انتهى.
__________________
الثاني
: المشهور بين
الأصحاب تحريم أخذ الأجرة على الأذان.
واستدل عليه
بما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن عبد الله المنبه عن الحسين بن
علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن على عن أبيه عن آبائه عن على عليهالسلام ، انه أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى أحبك
لله ، فقال له : لكني أبغضك لله. قال : ولم؟ قال : لأنك تبغي في الأذان أجرا ،
وتأخذ على تعليم القرآن اجرا ، وسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من أخذ على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم
القيامة .
وذهب المرتضى
الى جواز أخذ الأجرة عليه ، تسوية بينها وبين الارتزاق.
والى هذا القول
يميل كلام المقدس الأردبيلي ، استضعافا للخبر المذكور ، لان رجاله من العامة
الزيدية. قال : والشهرة ليست بحجة ، وأيد ذلك باشتمال الخبر على النهى عن أخذ
الأجرة على تعليم القرآن ، مع كون ذلك على الكراهة عند الأصحاب. قال : ويبعد كون
أحدهما مكروها والأخر حراما. والأصل ، وجواز أخذ الأجرة في المندوبات ، يؤيد عدم
التحريم. انتهى.
أقول : ما ذكره
وان أمكن تطرق المناقشة اليه الا ان الخبر المذكور مع الإغماض عن المناقشة في سنده
لا ظهور له في التحريم ، فإنهم كثيرا ما يزجرون عن المكروهات بما يكاد يدخلها في
حيز المحرمات ، ويحثون على المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، وهذا ظاهر لمن
تتبع موارد الأحكام الواردة في أخبارهم
__________________
ـ عليهمالسلام.
وعلى تقدير
القول بالتحريم ، هل يحرم الأذان أيضا بذلك أم لا؟
قال ابن البراج
: يحرم ورجحه العلامة في المختلف ، قال : الأذان على هذا الوجه غير مشروع ، فيكون
بدعة.
والظاهر : بعده
، لأن النهي هنا انما توجه إلى أخذ الأجرة ، لا إلى الأذان ، فالقول بعدم مشروعيته
وانه بدعة مع دخوله تحت الأخبار العامة الدالة على صحة الأذان ومشروعيته مشكل.
نعم يكون ما
فعله من أخذ الأجرة عليه محرما ، هذا مقتضى قواعدهم وأصولهم.
* * *
ثم ان الظاهر
من كلام الأصحاب : انه لا خلاف في جواز الارتزاق من بيت المال ، وهو ما أعد لمصالح
المسلمين من مال الخراج والمقاسمة.
وهل يشترط ان
يكون ذلك بإذن الإمام عليهالسلام أو نائبه ، أم يجوز ولو كان من الجائر؟ قولان. المشهور
: الثاني. وسيأتي تحقيق المسألة إنشاء الله تعالى في محلها.
* * *
والظاهر ايضا :
جواز أخذ ما وقف للمؤذنين أو نذر لهم ، لان للمالك ان يفعل في ماله ما يشاء ،
ويعينه لمن يشاء ، والظاهر انه لا يحرم وان قصد بالأذان ذلك.
قال في المسالك
: والفرق بين الأجرة والارتزاق ان الأجرة تفتقر الى تقدير العمل والعوض ، وضبط
المدة والصيغة الخاصة ، واما الارتزاق فمنوط بنظر الحاكم ، لا يتقدر بقدر. انتهى.
وهو يشعر بان
ما يأخذه من الأجرة بغير القيود المذكورة لا تسمى اجرة ولا تكون محرمة وانه لا
يكون الأمن بيت المال ، لانه من قبيل الارتزاق دون الأجرة. والظاهر : بعده ، فان
الظاهر من الأجرة في هذا المقام : انما هو ما يعطى لأجل الأذان ، بحيث
لو لم يعط لم يؤذن ، بأن يقال له : أذن ونعطيك كذا وكذا ، فيؤذن لذلك ،
سواء عينت مدة الأذان أم لا ، وقعت بالصيغة المخصوصة أم لا ، وسواء كان ما يعطى من
بيت المال أو من شخص معين أو من أهل البلد كملا.
وبما ذكرنا صرح
المحقق الأردبيلي أيضا. ويؤيده خلو أخبار البيوع والإجارات ونحوهما من أكثر هذه
القيود والشروط المذكورة في كلامهم في هذه الأبواب ، وانما العمدة وقوع التراضي
بالألفاظ ، مع معلومية ما يقع عليه العقد ، ولو في الجملة.
الثالث
: اختلف
الأصحاب في جواز أخذ الأجرة على القضاء والحكم بين الناس.
فقال الشيخ في
النهاية : لا بأس بأخذ الأجرة والرزق على الحكم والقضاء بين الناس من جهة السلطان
العادل.
وقال المفيد :
لا بأس بالأجرة في الحكم والقضاء بين الناس. والتبرع بذلك أفضل ، وأقرب الى الله
سبحانه.
وقال أبو
الصلاح : يحرم الأجر على تنفيذ الأحكام من قبل الامام العادل.
وقال ابن إدريس
: يحرم الأجر على القضاء ، ولا بأس بالرزق من جهة السلطان العادل ، ويكون ذلك من
بيت المال ، دون الأجرة ، على كراهية فيه.
وقال في
المختلف : الأقرب ان نقول : ان تعين القضاء عليه اما بتعيين الامام عليهالسلام أو بفقد غيره أو بكونه الأفضل وكان متمكنا ، لم يجز الأجر
عليه ، وان لم يتعين أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة. قلنا : الأصل الإباحة على
التقدير الثاني ، وانه فعل لا يجب عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات
الواجبة.
وقال في
المنتهى : يحرم الأجر على القضاء ، ويجوز الرزق فيه من بيت المال. واستدل على
الأول بصحيحة عبد الله بن سنان الاتية. وقال المحقق في الشرائع ـ على ما نقله في
المسالك ـ : ان تعين عليه بتعيين الإمام ، أو بعدم قيام أحد غيره ، حرم
عليه أخذ الأجرة مطلقا ، لأنه حينئذ يكون واجبا عليه ، والواجب لا يصح أخذ
الأجرة عليه ، وان لم يتعين عليه ، فان كان له غنى عنه لم يجز ايضا ، والا جاز.
قال في المسالك
ـ بعد نقل كلام المحقق المذكور ـ : وقيل : يجوز مع عدم التعيين مطلقا. وقيل : يجوز
مع الحاجة مطلقا ومن الأصحاب من جوز أخذ الأجرة عليه مطلقا. والأصح المنع مطلقا ،
الا من بيت المال على جهة الارتزاق ، ويتقدر بنظر الامام. ولا فرق في ذلك بين أخذ
الأجرة من السلطان ومن أهل البلد والمتحاكمين ، بل الأخير هو الرشوة التي ورد في
الخبر «انها كفر بالله ورسوله». انتهى.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المقام : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن عبد الله بن
سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ،
فقال : ذلك السحت. . وما تقدم في صدر هذا البحث من الاخبار الدالة على ان
الرشا في الحكم هو الكفر بالله العظيم.
ونحوها : ما
رواه في الكافي عن سماعة ـ في الموثق ـ عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : الرشا في الحكم هو الكفر بالله. .
وما رواه الشيخ
عن جابر ، قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : لعن رسول الله صلىاللهعليهوآله : من نظر الى فرج امرأة لا تحل له ، ورجلا خان أخاه في
امرأته ، ورجلا احتاج الناس اليه لتفقهه فسألهم الرشوة. .
وظاهر الأصحاب
ـ حيث جوزوا الارتزاق ـ : حمل الخبر الأول على الأجر. ولا يخلو من اشكال ، لعدم
المعارض ، مع ظهور اللفظ في الارتزاق.
نعم يمكن ان
يقال : ان الارتزاق لما كان جائزا لجملة المسلمين المحتاجين من بيت
__________________
المال ، فلا وجه للفرق فيه بين القاضي وغيره ، الا انه يمكن دفعه بأنه لما
كان أخذه هنا انما هو في مقابلة القضاء ، كما يدل عليه ظاهر الخبر الأول ، كان
حراما لهذه الجهة ، ولا ينافي لما حله له من حيث كونه من جملة المسلمين أو
المحتاجين.
والمحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد اختار القول بالتحريم مطلقا ، استنادا الى اخبار تحريم
الرشا ، والى انه مع تعينه عليه بأحد الوجوه المتقدمة يكون واجبا ، والواجب لا
يجوز أخذ الأجرة عليه.
وفيه : ان
اخبار الرشا أخص من المدعى ، لان الرشوة ما يؤخذ من المتحاكمين على الحكم لصاحب
الرشوة ، فتكون الرشوة في مقابلة الحكم له ، والمدعى : تحريم الأجر بقول مطلق.
والأظهر هو
الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان المذكورة ، بحمل الرزق فيها على ما هو أعم من
الارتزاق من بيت المال أو الأجرة.
* * *
وظاهر جملة من
الأصحاب : عد الصلاة بالناس فيما تحرم الأجرة عليه ، ونقل في المختلف عن ابن
البراج : انه عد في أقسام المحرمات ، الأذان والإقامة والصلاة بالناس ، وتغسيل
الموتى وحملهم والصلاة عليهم ودفنهم ، فإنه لا يحل أخذ الأجرة عليها.
ولم يحضرني
الان خبر في هذا الحكم.
ومن جملة من
صرح بذلك صاحب الوسائل ، مع انه لم يورد في الباب ما يدل عليه ، وانما أحال على ما
قدمه من أحاديث التظاهر بالمنكرات ، واختتال الدنيا بالدين ، وجهاد النفس ، وفي
استفادة الدلالة على ذلك منها نظر ، لا سيما مع ورود الاستيجار على العبادات
ومشروعيته ، وكيف كان فالاحتياط : فيما ذكروه.
الرابع
: صرح جملة من
الأصحاب بأنه لا يجوز بيع المصحف ، وانما يباع الورق والجلد ونحوهما من الآلات
التي اشتمل عليها ذلك الكتاب.
وعليه تدل
الأخبار المتكاثرة : فروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سليمان عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : ان المصاحف لن تشترى ، فإذا
اشتريت فقل : انما اشترى منك الورق وما فيه من الأديم وحليته ، وما فيه من عمل يدك
، بكذا وكذا .
وعن عثمان بن
سعيد عن الصادق عليهالسلام ، قال سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ قال : لا تشتر
كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفتر ، وقل : اشتريت منك هذا بكذا وكذا ، .
وعن عنبسة
الوراق ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، فقلت له : انا رجل أبيع المصاحف ، فإن نهيتني لم
أبعها ، فقال : ألست تشترى ورقا وتكتب فيه؟ قلت : بلى ، وأعالجها ، قال : لا بأس
بها .
وروى في
التهذيب عن عثمان بن عيسى عمن سمعه ، قال : سألته عن بيع المصاحف وشرائها. فقال : لا تشتر
كتاب الله ولكن اشتر الحديد والجلود والدفتين ، وقل : اشترى منك هذا بكذا وكذا .
وعن عبد الله
بن سليمان ، قال : سألته عن شراء المصاحف ، فقال : إذا أردت ان تشترى فقل : اشترى
منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا .
وعن سماعة قال
: سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فان بيعها حرام. قلت : فما
تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه الدفتين والحديد و
__________________
الغلاف ، وإياك ان تشترى منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراما ،
وعلى من باعه حراما .
أقول : «قوله :
وإياك ان تشترى الورق وفيه القرآن». يعنى : تجعله المقصود بالشراء فيلزمه التحريم.
فوائد
الأولى : قد صرح الأصحاب بكراهة تعشيره بالذهب ، واستدلوا على ذلك بما رواه في
التهذيب عن سماعة ـ في الموثق ـ قال : سألته عن رجل يعشر المصاحف بالذهب ، فقال :
لا يصلح. فقال : إنها معيشتي : فقال : انك ان تركته لله جعل الله تعالى لك مخرجا .
وروى في الكافي
ـ ومثله في التهذيب ـ عن محمد الوراق ، قال : عرضت على ابي عبد الله عليهالسلام كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب ، وكتب في آخره سورة
بالذهب ، فأريته إياه فلم يعب فيه شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب ، فإنه قال : لا
يعجبني أن يكتب القرآن الا بالسواد كما كتب أول مرة .
وفي هذا الخبر
: ما يدل على حمل الخبر الأول على الكراهة ، وفيه أيضا دلالة على كراهة كتابة
القرآن بغير السواد.
الثانية
: جواز أخذ
الأجرة على كتابته.
والظاهر : انه
لا خلاف فيه. ويدل عليه ايضا : ما رواه الشيخ عن روح بن عبد الرحيم ، عن ابى عبد
الله عليهالسلام ـ في حديث ـ قال : قلت : ما ترى ان اعطى على
__________________
كتابته اجرا؟ قال : لا بأس. الحديث .
وعن عبد الرحمن
بن ابى عبد الله ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : ان أم عبد الله بنت الحسن أرادت أن تكتب مصحفا
فاشترت ورقا من عندها ، ودعت رجلا فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين
دينارا. وانه لم تبع المصاحف الا حديثا .
وفي هذا الخبر
: إشارة إلى كراهة اشتراط الأجرة على كتابة القرآن ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى
في مسألة تعليم القرآن ، وأخذ الأجرة على التعليم.
الثالث
: يكره محو شيء
من كتابة القرآن بالبزاق ، لما رواه في الفقيه في حديث المناهي ، المذكور في آخر
الكتاب ، عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ونهى ان يمحى شيء من كتاب الله العزيز بالبزاق
أو يكتب به .
__________________
البحث الثاني
فيما يكره التكسب به ، وهي أمور :
الأول : الصرف. لان صاحبه لا يكاد يسلم من الربا.
ويدل عليه من
الاخبار : ما في الكافي والتهذيب ، عن إسحاق بن عمار قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ، فأخبرته أنه ولد لي غلام. فقال : ألا سميته محمدا!
قال. قلت : قد فعلت. قال : فلا تضرب محمدا ولا تشتمه ، جعله الله قرة عين لك في
حياتك ، وخلف صدق بعدك. قلت : جعلت فداك في أي الأعمال أضعه؟ قال : إذا عدلت عن
خمسة أشياء فضعه حيث شئت ، لا تسلمه صيرفيا ، فإن الصيرفي لا يسلم من الربا ولا
تسلمه بياع الأكفان فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان. ولا تسلمه نخاسا فان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر الناس من باع الناس. ولا تسلمه بياع
الطعام ، فإنه لا يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه جزارا ، فان الجزار تسلب منه الرحمة
.
وروى في الكافي
والفقيه عن سدير الصيرفي ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : حديث بلغني عن الحسن البصري ، فإن كان حقا فانا لله
وانا إليه راجعون! قال :
__________________
وما هو؟ قلت : بلغني ان الحسن كان يقول : لو غلى دماغه من حر الشمس ما
استظل بحائط صيرفي. ولو تفرثت كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماء!
وهو عملي
وتجارتي ، وفيه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجى وعمرتي! فجلس عليهالسلام ثم قال : كذب الحسن ، خذ سواء وأعط سواء. فإذا حضرت
الصلاة فدع ما بيدك ، وانهض الى الصلاة ، اما علمت ان أصحاب الكهف كانوا صيارفة ؟.
ومن هذين
الخبرين يعلم ما ذكرناه من جواز التصريف على كراهية.
واما قوله ـ في
آخر الخبر الثاني ـ : اما علمت ان أصحاب الكهف كانوا صيارفة ، ففيه بحث قد
استوفينا الكلام فيه في كتابنا الدرر النجفية.
ويمكن ان يقال
: ان الجواز على كراهة ، مخصوص بمن لم يكن يتمكن من التحرز من الوقوع في تلك
الأشياء ، للنهي عنها ، وعليه يحمل الخبر الأول. واما من تمكن من ذلك فلا يكره في
حقه ، وعليه يحمل الخبر الثاني.
ويؤيده ان
إسحاق المذكور في الخبر الأول من أعاظم الصيارفة ، وهو بالمحل الأدنى عندهم ، وهو إسحاق بن عمار بن حيان التغلبي ، المذكور
في كتاب النجاشي ، من بيت كبير من الشيعة.
ويؤيد ما قلناه
ـ ايضا ـ انه قد تقدم في الخبر الأول النهي عن كونه نخاسا ، مع انه قد روى في
الموثق عن ابن فضال ، قال : سمعت رجلا يسأل أبا الحسن الرضا عليهالسلام فقال : إني أعالج الرقيق فأبيعه ، والناس يقولون : لا
ينبغي. فقال له الرضا عليهالسلام : وما بأسه؟ كل شيء مما يباع إذا اتقى الله فيه العبد
فلا بأس به .
__________________
وعلى هذا الوجه
حمل الشيخ الرواية الأولى ، كذا رواية إبراهيم بن عبد الحميد الاتية فقال في
التهذيب : هذان الخبران محمولان على من لا يتمكن من أداء الامانة ، ولا يحترز في
شيء من هذه الصنائع ، فاما من تحفظ فليس عليه في شيء منها بأس ، وان كان الأفضل
غيرها. ثم ذكر رواية ابن فضال المذكورة.
الثاني
: بيع الأكفان
، وبيع الطعام ، وبيع الرقيق ، والذبح ، والصياغة ، والحياكة ، والحجامة.
وعلى ذلك تدل
جملة من الاخبار : منها : خبر إسحاق بن عمار المتقدم. ومنها ما رواه في الكافي
والتهذيب عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عليهالسلام ، قال : قال رسول الله عليهماالسلام : انى أعطيت خالتي غلاما ونهيتها ان تجعله قصابا أو
حجاما أو صائغا .
وعن إسماعيل
الصيقل الرازي ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ومعى ثوبان ، فقال لي : يا أبا إسماعيل ، تجيئني من
قبلكم أثواب كثيرة وليس يجيئني مثل هذين الثوبين الذين تحملهما أنت : فقلت : جعلت
فداك تغزلهما أم إسماعيل وأنسجهما أنا. فقال لي : حائك؟ قلت : نعم فقال : لا تكن
حائكا : قلت : فما أكون؟ قال : كن صيقلا. وكانت معي مائتا درهم ، فاشتريت بها
سيوفا ومرايا عتقا. وقدمت بها الى الري فبعتها بربح كثير .
وروى في الكافي
عن احمد بن محمد عن بعض أصحابه ، رفعه الى ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : ذكر الحائك عند ابى عبد الله عليهالسلام انه ملعون. فقال : انما ذلك الذي يحوك الكذب على الله
وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن ابى الحسن موسى
__________________
ابن جعفر عليهالسلام ، قال : جاء رجل الى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، قد علمت ابني هذا الكتاب ، ففي
أي شيء أسلمه؟ فقال : أسلمه ـ لله أبوك ـ ولا تسلمه في خمس : لا تسلمه سباء ، ولا
صائغا ، ولا قصابا ، ولا حناطا ، ولا نخاسا. قال : فقال : يا رسول الله ما السباء؟
قال : الذي يبيع الأكفان ، ويتمنى موت أمتي. والمولود من أمتي أحب الى مما طلعت
عليه الشمس. واما الصائغ فإنه يعالج غبن أمتي. واما القصاب فإنه يذبح حتى تذهب
الرحمة من قلبه ، واما الحناط فإنه يحتكر الطعام على أمتي. ولان يلقى الله العبد
سارقا أحب الى من ان يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوما. واما النخاس فإنه أتاني
جبرئيل ، فقال : يا محمد ان شرار أمتك الذين يبيعون الناس .
أقول : قال بعض
مشايخنا : اتفقت نسخ أخبارنا في قوله سباء ـ بالباء الموحدة ـ وقال في الوافي :
والسباء في النسخ التي رأيناها من الكتب الثلاثة ، بالباء الموحدة المشددة.
أقول : وهذا
الخبر قد روته العامة ـ بالياء المثناة من تحت ـ كما ذكره ابن الأثير في النهاية ،
وجعله من السوء والمسائة .
__________________
وقوله : يعالج
غبن أمتي ، قيل : معناه : انه يفسد عليهم الدينار والدرهم ، فيكون منشأ الكراهة
فيه ذلك.
وفي التهذيب :
زين أمتي ـ بالزاي ـ والمراد : انه يلهيهم بذلك عن الآخرة فيكون ذلك وجه الكراهة
في هذه الصناعة.
ونقل بعض
مشايخنا في حواشيه على التهذيب : انه بالمهملة بخط الشيخ ـ رحمهالله ـ وانه كتب في الحاشية «والرين : الذنب». وفي اللغة :
الرين : الطبع والختم ، كما قال تعالى «بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» اى غلب على قلوبهم حب الدنيا بحيث لا يستطيعون الخروج
منها.
ثم قال شيخنا
المشار اليه : وأكثر النسخ بالزاي ، كما في العلل ، وهو انسب. انتهى.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابى بصير عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : سألته عن كسب الحجام؟ فقال : لا بأس به إذا لم
يشارط .
وما رواه في
الكافي عن حنان بن سدير ، قال : دخلنا على ابى عبد الله عليهالسلام ، ومعنا فرقد الحجام ، فقال له : جعلت فداك انى اعمل
عملا وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين. فزعموا انه عمل مكروه ، وانا أحب ان أسألك
عنه فان كان مكروها انتهيت عنه وعملت غيره من الأعمال ، فإني منته في ذلك الى
قولك. قال : وما هو؟ قال : حجام. قال : كل من كسبك يا ابن أخي ، وتصدق به ، وحج ،
وتزوج ،
__________________
فإن نبي الله تعالى قد احتجم واعطى الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه. قال :
جعلني الله فداك ان لي تيسا أكريه ، ما تقول في كسبه؟ قال : كل كسبه ، فإنه لك حلال
، والناس يكرهونه ، قال حنان : لأي شيء يكرهونه وهو حلال؟ قال : لتعيير الناس
بعضهم بعضا .
وما رواه في
الكافي والفقيه عن جابر عن ابى جعفر عليهالسلام قال : احتجم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حجمه مولى لبني بياضة وأعطاه. ولو كان حراما ما أعطاه ،
فلما فرغ قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : اين الدم؟ قال : شربته يا رسول الله : فقال : ما كان
ينبغي لك ان تفعل وقد جعله الله عزوجل لك حجابا من النار فلا تعد .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن زرارة ـ في الموثق ـ قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن كسب الحجام ، فقال : مكروه له ان يشارط ، ولا بأس
عليك ان تشارطه وتماكسه ، وانما يكره له ولا بأس عليك .
وما رواه المشايخ
الثلاثة ـ في الصحيح من بعض طرقه ـ عن معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن كسب الحجام ، فقال : لا بأس به .
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، ان رجلا سأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كسب الحجام ، فقال : لك ناضح ؟ قال : نعم. قال : اعلفه إياه ولا تأكله .
__________________
وما رواه في
التهذيب عن رفاعة ، قال ، سألته عن كسب الحجام ، فقال : ان رجلا من الأنصار كان له
غلام حجام ، فسأل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : هل لك ناضح قال : نعم ، قال : فاعلفه ناضحك .
وما رواه في
الكافي عن سماعة ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : السحت أنواع كثيرة ، منها : كسب الحجام إذا شارط .
وما رواه في
التهذيب عن سماعة ، قال ، السحت أنواع كثيرة ، منها كسب الحجام .
تنبيهات
(أحدها): ينبغي ان يعلم : ان كراهة هذه الأشياء التي قدمنا
ذكرها ، مخصوصة بما إذا كانت صناعة للعامل بها ، كما هو المستفاد من ظاهر هذه
الاخبار ، وقد صرح به الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أيضا. فإما المرة والمرتان
والثلاث ونحوها ، فالظاهر : انه ليس كذلك.
(ثانيها): قد اختلفت الاخبار ـ كما ترى ـ في الحجامة. والمفهوم
من كلام الأصحاب : الكراهة مع الاشتراط ، وعدمها مع عدمه.
قال في المنتهى
: كسب الحجام إذا لم يشترط حلال طلق ، واما إذا اشترط فإنه يكون مكروها ، وليس
بمحظور ، عملا بأصل الإباحة انتهى وهو جيد وعليه يمكن جمع الأخبار المتقدمة بعد
تقييد مطلقها بمقيدها ، فان منها ما هو مطلق في الحل ونفى البأس.
__________________
ومنها : ما قيد فيه النهى بالشرط ، وعلق نفى البأس على عدم الشرط.
واما ما دل على
ان يعلفه ناضحة ولا يأكله ، فهو مع معارضته بما هو أكثر عددا وأصرح دلالة على جواز
الأكل منه ، يجب حمله على تغليظ الكراهة مع الشرط وهو ظاهر في الحل ، لانه لو كان
حراما لم يجز أخذه لعلف دابته أو غيره.
واما أمره
بالتنزه عن أكله ، فيحمل على وقوع الشرط فيه الذي دلت تلك الاخبار على المنع منه
على جهة الكراهة.
وبالجملة فإنه
لا إشكال في عدم التحريم ، وانما الكلام في الكراهة وعدمها ، وقضية الجمع بين
الاخبار ثبوت الكراهة مع الشرط ، واما ما تضمنه موثق زرارة من كراهة اشتراط الحجام
وجواز المماسكة والاشتراط ، فلعل المراد به : انه يجوز لك المماسكة والاشتراط
بأجرة مخصوصة. وينبغي له الرضا بذلك ولا يماكس ولا يشترط.
(ثالثها): ان ما تضمنه خبر فرقد الحجام من كسب التيس ، بمعنى انه
يواجره للضراب ، مما يدل على جواز ذلك من غير كراهة ، والأصحاب قد عدوا ذلك في
جملة المكروهات من هذا الباب ، مع انه عليهالسلام نسب الكراهة إلى الناس ، بعد حكمه بالحل.
وفي المسالك
نسب المنع منه الى العامة.
ومثل هذه
الرواية ، ما رواه في الكافي والتهذيب في تتمة صحيحة معاوية ابن عمار المتقدمة ـ بعد
ذكر ما تقدم منها ـ قال : فقلت : أجر التيوس ، قال : ان كانت العرب لتعاير به ،
ولا بأس به . وهي ـ ايضا ـ ظاهرة في الجواز بلا كراهة ، الا انه روى
في الفقيه مرسلا ، قال ، نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله عن عسيب الفحل ، وهي
__________________
اجرة الضراب . والظاهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق ، الذي يدخله
غالبا في الاخبار.
لكن بعض متأخري
مشايخنا المحققين ، وهو المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أسند هذا الخبر الى
الجمهور ، قال : ويدل عليها ـ ايضا ـ خبر مروي من طريق الجمهور : ان النبي صلىاللهعليهوآله نهى عن عسيب الفحل ، وحينئذ فيضعف الاعتماد عليه في
تخصيص الخبرين المتقدمين.
والمحقق
المتقدم ذكره ، قال ـ بعد ذكر الخبرين المشار إليهما ـ : كأنه يفهم منهما كراهة
أجر الضراب ، فان التيس قيل فحل العنز. انتهى.
أقول : لعل هذا
التشبيه بالنظر الى قوله عليهالسلام ، ان الناس أو العرب لتعاير به. ولا يخفى ما فيه من
الغموض وعدم الظهور ، بل ظهوره في العدم أقرب.
وبالجملة فإني
لا أعرف للكراهة وجها وجيها.
نعم لو ثبت
الحديث النبوي المذكور من طرقنا لتم ما ذكروه والله العالم.
الثالث
: المشهور بين
الأصحاب كراهية أخذ الأجرة على تعليم القرآن. قال في المنتهى : ويكره الأجر على
تعليم القرآن وليس بمحظور ، عملا بالأصل الدال على الإباحة ، وبأنها طاعة فيكره
أخذ الأجرة عليها.
وظاهره : انه
لا فرق بين الاشتراط وعدمه.
وقال الشيخ في
النهاية : يكره أخذ الأجرة على تعليم شيء من القرآن ونسخ المصاحف وليس بمحظور ،
وانما يكره إذا كان هناك شرط فان لم يكن هناك شرط فلا بأس. وكذا قال ابن البراج.
وقال المفيد :
لا بأس بالأجرة على تعليم القرآن والحكم كلها ، والتنزه أفضل.
وقال أبو
الصلاح : يحرم اجرة تعليم المعارف والشرائع وكيفية العبادة ـ الى ان قال ـ وتلقين
القرآن.
__________________
وقال في
الاستبصار : يحرم مع الشرط ويكره بدونه.
وقال ابن إدريس
: يكره مع الشرط ولا بأس بدونه.
وقال في
المختلف ـ : الأقرب إباحته على كراهية ، لنا الأصل الإباحة ، ولان فيه منفعة تعليم
القرآن وتعميم إشاعة معجزة النبي صلىاللهعليهوآله ولانه يجوز جعله مهرا فجاز أخذ الأجرة عليه ، ولو حرمت
الأجرة لحرم جعله مهرا. انتهى.
أقول : والاخبار
الواردة في هذه المسألة ظاهرة التنافي.
فمنها : ما
رواه المشايخ الثلاثة عن الفضل بن أبي قرة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ان هؤلاء يقولون : ان كسب المعلم سحت. فقال : كذبوا ـ أعداء
الله ـ انما أرادوا ان لا يعلموا أولادهم القرآن ، ولو ان المعلم أعطاه رجل دية
ولده لكان للمعلم مباحا .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن حسان المعلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التعليم ، قال : لا تأخذ على التعليم اجرا. قلت :
الشعر والرسائل وما أشبه ذلك ، أشارط عليه ، قال : نعم ، بعد ان يكون الصبيان عندك
سواء في التعليم ، لا تفضل بعضهم على بعض .
وما رواه في
التهذيب عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن على ، عن أبيه عن آبائه عن على عليهالسلام ـ ورواه في الفقيه مرسلا عن على عليهالسلام ـ انه أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى
لأحبك لله : فقال له : والله انى لأبغضك لله. قال : ولم؟ قال : لأنك تبغي على
الأذان كسبا ، وتأخذ على تعليم القرآن اجرا .
وزاد في
التهذيب : وسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من أخذ على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم
القيامة .
__________________
وفي الفقيه :
وقال على عليهالسلام : من أخذ على تعليم القرآن. الحديث.
وما رواه في
التهذيب عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح ، قال : قلت له : ان لي جارا يكتب ، وقد
سألني أن أسألك عن عمله ، قال : مره إذا دفع اليه الغلام ان يقول لأهله : إني إنما
أعلمه الكتاب والحساب واتجر عليه بتعليم القرآن حتى يطيب له كسبه .
وعن جراح
المدائني عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : المعلم لا يعلم بالأجر ، ويقبل الهدية إذا اهدى
اليه .
وعن قتيبة
الأعشى ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى أقرئ القرآن فيهدى إلي الهدية فأقبلها؟ قال : لا
قلت : انى لم أشارطه ، قال : أرأيت لو لم تقرئ كان يهدى إليك؟ قال : قلت : لا. قال
: فلا تقبله .
وعن جراح
المدائني قال : نهى أبو عبد الله عليهالسلام عن أجر القاري الذي لا يقرء إلا بأجرة مشروطة. ورواه في
الفقيه مرسلا عنه عليهالسلام قال نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أجر القاري. الحديث .
وفي الفقه
الرضوي : واعلم ان اجرة المعلم حرام إذا شارط في تعليم القرآن. أو معلم لا يعلم
الا قرآنا فقط ، فحرام أجرته إن شارط أم لم يشترط. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى
«أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ» قال : اجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن.
وروى ان عبد الله بن مسعود جاء إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، أعطاني فلان الأعرابي ناقة
بولدها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لم يا بن مسعود؟ فقال : انى كنت علمته اربع سور من
كتاب الله. فقال : رد عليه يا ابن مسعود ، فإن الأجرة على القرآن
__________________
حرام. انتهى ما ذكره في الرضوي .
والشيخ جمع بين
الاخبار بحمل الرواية الأولى على عدم الاشتراط ، والروايات المطلقة في المنع على
الاشتراط.
قال : لا تنافي
بين هذا الحديث وبين الخبر الدال على إباحة أخذ الأجرة ، لأن الدال على التحريم
محمول على انه لا يجوز له ان يشارط في تعليم القرآن اجرا معلوما ، والخبر الأخر
محمول على انه إذا أهدي إليه فإنه يكون مباحا ، لما رواه جراح المدائني ـ ثم ذكر
الرواية المتقدمة ـ ثم نقل ما عارضها من رواية قتيبة الأعشى ، وحملها على الكراهة.
وهذا الكلام
منه مؤذن بالتحريم مع الشرط ، والكراهة مع عدمه.
قال في المنتهى
ـ بعد نقل مجمل كلام الشيخ ـ : وهذا التأويل من الشيخ يعطي انه يرى التحريم مع
الشرط. ونحن نتوقف في ذلك.
وأنت خبير بان
توقفه هنا مؤذن بالعدول عما صرح به في صدر المسألة ، مما قدمنا نقله عنه.
والمفهوم من
كلام الأصحاب : هو العمل بالخبر الأول الدال على الجواز ، وحمل الأخبار الأخر على
الكراهة ، اشترط أو لم يشترط.
ولا يبعد عندي
حمل جملة الأخبار الناهية عن الأجرة ، والمبالغة في تحريمها ، وانها سحت ، على
التقية. كما هو ظاهر الخبر الأول ، بل صريحه.
ويؤيده ما ذكره
الأصحاب هنا من أصالة الحل ، وإشاعة معجزته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فان القرآن هو أظهر معاجزه صلىاللهعليهوآله ولزوم اندراسه ، فإنك لا تجد أحدا ينصب نفسه ويترك
معاشه ، وتحصيل الرزق له ولعياله ، ويجلس لتعليم القرآن لأولاد الناس بغير اجرة
تعود اليه.
والى ما ذكرنا
يشير قوله ـ عليهالسلام ـ في الخبر الأول «انما أرادوا ان لا يعلموا
__________________
أولادهم القرآن».
ومما يعضد ما
ذكرنا كلام الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه ، واستدلاله على ما ذكره ، وتأييده بما
نقله عن ابن عباس وابن مسعود ، مما يدل على التحريم ، فإنه عليهالسلام في الكتاب المذكور كثيرا ما يجرى على ذلك ، حيث ان أكثر
من يحضره كان من المخالفين ، كما نبه عليه بعض مشايخنا المتأخرين. وهذان المذكوران
من المعتمدين عند العامة ، والا فهو عليهالسلام لا يرجع الى غير آبائه ـ عليهمالسلام.
وبالجملة فإن
ظواهر الأدلة المانعة هو التحريم ، والحمل على الكراهة ، وان كان احدى القواعد
التي جرى عليها الأصحاب في الجمع بين الاخبار.
الا انك عرفت
في غير مقام مما قدمناه في مجلدات كتاب الطهارة والصلاة ، انه لا دليل عليه.
فاللازم اما
القول بالتحريم ، كما هو ظاهر هذه الاخبار ، ورد الخبر الأول وطرحه مع تأيده بفتوى
الأصحاب قديما وحديثا ، وهذا مما لا يلزمه محصل.
واما العمل
بذلك الخبر المؤيد بفتوى الأصحاب ، وطرح هذه الاخبار ، أو حملها على ما ذكرناه من
التقية. وهو الظاهر الذي عليه العمل.
ولا بأس بالقول
بالكراهة كما ذكروه (رضوان الله عليهم).
واليه يشير
قوله عليهالسلام ـ في رواية عمرو بن خالد ـ «وسمعت رسول الله. إلخ» فإنه
لو كان الأجر محرما لم يقتصر على كونه حظه يوم القيامة ، الذي هو عبارة عن عدم
إيصال الثواب اليه ، بل يكون مستحقا للعقاب لارتكابه فعلا محرما.
فوائد
الأولى : ما تضمنه خبر قتيبة الأعشى ، من النهى عن الأجرة للقرآن ، ولو مع عدم الشرط ،
المؤذن بالتحريم ، لم أقف على قائل به من الأصحاب. والموجود
__________________
في كلامهم هو الكراهة مع الشرط ، كما صرح به الشيخ وغيره.
وقال في الدروس
: فلو استأجره لقراءة ما يهدى الى ميت أو حي لم يحرم ، وان كان تركها أفضل. ولو
صرفه اليه بغير شرط فلا كراهة. انتهى. وهو ظاهر خبر جراح المدائني الأخير.
والظاهر : انهم
بنوا في الصحة على العمومات الدالة على جواز الإجارة ، لا سيما في العبادات ، مثل
الصوم والصلاة ونحوهما ، كما مر تحقيقه في كتاب الصلاة في باب القضاء. وهو قوى.
وحينئذ فالواجب
حمل خبر الأعشى على تأكد الكراهة مع الشرط ، والكراهة في الجملة مع عدمه ، ولا
ينافي ذلك خبر جراح المدائني المذكور ، ولان غايته الجواز مع عدم الشرط ، ولا
ينافيه كون ذلك على كراهية ، مما دل عليه خبر قتيبة المذكور.
وبه يظهر ان ما
ذكروه من نفى الكراهة بالكلية مع عدم الشرط ليس في محله.
والظاهر انهم
بنوا ما ذكروه على خبر جراح المدائني المذكور وغفلوا عما دل عليه خبر قتيبة من
النهى ، ولو مع عدم الشرط.
الثانية : ما تضمنه خبر حسان المعلم ، من جواز أخذ الأجرة على
تعليم الشعر والرسائل ونحوها من الآداب والحكم ، كالعلوم الأدبية من النحو والصرف
والمنطق وعلم المعاني والبيان ونحوها ، فالظاهر : انه لا اشكال ولا خلاف في جواز
أخذ الأجرة عليه ، مع الشرط وعدمه ، عملا بالعمومات. ويخرج هذا الخبر شاهدا.
واما العلوم
الفقهية ففيها تفصيل بين الواجب منها وغيره ، فتحرم الأجرة في الواجب من حيث
الوجوب كما تقدم ، للأخبار الدالة على وجوب التعليم ، ومنها : ما أخذ الله العهد على الجهال بان يتعلموا
حتى أخذ على العلماء بان يعلموا.
الثالثة : ما تضمنه الخبر المذكور من انه ينبغي مع الشرط ان
يكون الصبيان عند المعلم سواء في التعليم ، لا يفضل بعضهم على بعض ، فينبغي تقييده
بما إذا استوجر على تعليمهم على الإطلاق ، اما لو تفاوتت الأجرة بالزيادة في
التعليم و
__________________
عدمها ، فالظاهر : انه لا إشكال في جواز الزيادة لبعضهم على بعض ، باعتبار
ما زاده من الأجرة.
وكذا لو وقعت
الإجارة على تعليم مخصوص لهذا ، وتعليم مخصوص للآخر ، وهكذا. فإنه لا بأس بزيادة
بعضهم على بعض ، عملا بما وقع عليه التراضي في الإجارة.
هذا ، وقد تقدم
جملة من المكروهات ، ويأتي منها أنشأ الله تعالى في مواضعها.
* * *
وما عدا ما ذكر
من المحرمات والمكروهات المتقدمة والمشار إليها ، يكون من المباحات. وحيث كانت غير
منحصرة في العد طوينا البحث عنها ، اكتفاء بما ذكرناه مما عداها ، فإن الشيء يعرف
بمعرفة ما عداه وضبط ما نافاه. والله العالم.
__________________
المقدمة الرابعة
في تحقيق مسائل
تدخل في حيز هذا المقام ، وتنتظم في سلك هذا النظام :
الأولى : لو دفع إنسان إلى غيره مالا ليصرفه في قبيل ، وكان
المدفوع اليه منهم ، فان علم عدم دخوله فيهم ، ولو بقرينة مقامية ، كأن يعين له
حصة على حدة من ذلك ، فلا إشكال في عدم جواز أخذه منه.
وان علم دخوله
فيهم ، ولو بقرينة حالية ، بأن يصرح له بان الغرض وصوله الى هذا الصنف ـ مثلا ـ أيا
كان ، وكان هو منهم ، فإنه يجوز له الأخذ.
ولا خلاف بين
أصحابنا في الحالتين المذكورتين ، وانما الخلاف مع عدم العلم بأحد الأمرين
المذكورين.
وقد اختلف
كلامهم ، بل كلام الواحد منهم في ذلك. والمشهور هو الجواز. ذهب اليه الشيخ في
النهاية ، الا انه قيده بقدر ما يعطى غيره ، وهكذا شرط من جوز له الأخذ.
وفي المبسوط :
منع من ذلك. وتبعه العلامة في المختلف. وفي المنتهى : اختار الجواز بقدر ما يعطى
غيره.
وبالجواز قال
ابن إدريس في كتاب المكاسب ، ومنع في كتاب
الزكاة.
والمحقق في
كتاب المكاسب من الشرائع جوز ذلك ، ومنع في كتاب النافع.
ولكل من
القائلين علل اعتبارية زيادة على ما استند اليه من الاخبار.
فمن قال
بالجواز كالعلامة ، علل ذلك بأصالة الجواز ، وكون الوكيل متصفا بما عين له من
أوصاف المدفوع إليهم ، لأنه المفروض.
قال في المنتهى
: لأنه بإطلاق الأمر ، وعدم التعيين قد وكل اليه وفوض اليه التعيين ، ولا فرق بينه
وبين غيره في الاستحقاق ، إذ التقدير ذلك ، فيجوز له التناول.
ومن قال بالمنع
، علل بان المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إياه في أمر غيره ، فان الله تعالى إذا
أمر نبيه أن يأمر أمته ان يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر.
وأنت خبير بما
قدمناه في غير مقام ، من عدم صلوح أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية ،
المبنية على الأدلة الواضحة الجلية ، بل القطعية.
* * *
واما الروايات
الواردة في المسألة ، فمنها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن يسار قال :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يعطى الزكاة يقسمها في أصحابه أيأخذ شيئا منها؟
قال : نعم .
وعن الحسين بن
عثمان في الصحيح أو الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ عن أبي إبراهيم عليهالسلام ، في رجل اعطى مالا يفرقه فيمن يحل له ، أله أن يأخذ
منه شيئا لنفسه ، وان لم يسم له؟ قال : يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطى غيره .
__________________
وعن عبد الرحمن
بن الحجاج في الصحيح ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام ، عن الرجل يعطى الرجل الدراهم يقسمها ويضعها في
مواضعها ، وهو ممن تحل له الصدقة ، قال : لا بأس ان يأخذ لنفسه كما يعطى غيره. قال
: ولا يجوز له ان يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسماة إلا باذنه .
وانما وصفنا
هذه الرواية بالصحة وان كان في طريقها محمد بن عيسى عن يونس ، وقد نقل عن القميين
الطعن فيما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس ، تبعا لجملة من مشايخنا المحققين
المتأخرين ، لعدم ثبوت ما ذكره القميون. وقد وصفها العلامة في المنتهى أيضا بالصحة
، وهو ظاهر في عدم العمل بما نقل عنهم من الطعن المذكور.
وأنت خبير بما
في هذه الروايات ـ مع صحتها ـ من وضوح الدلالة على القول المشهور ، وهو المؤيد
المنصور.
ويؤيده أيضا ما
رواه في التهذيب في الصحيح ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، في رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في المساكين ، وله عيال
محتاجون أيعطيهم منه من غير ان يستأمر صاحبه؟ قال : نعم .
واما ما يدل
على القول الثاني ، فهو ما رواه الشيخ بالإسناد الأخير عن عبد الرحمن المذكور ،
قال : سألته عن رجل أعطاه رجل مالا يقسمه في محاويج أو مساكين ، وهو محتاج ، أيأخذ
منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال : لا يأخذ منه شيئا ، حتى يأذن له صاحبه .
وربما طعن
بعضهم في هذه الرواية بالإضمار. والظاهر ضعفه ، لما تقدم تحقيقه في غير مقام ، من
ان مثل هؤلاء الأجلاء لا يعتمدون في أحكام دينهم على
__________________
غير الامام ، ولما ذكره غير واحد من الأصحاب ، في سبب الإضمار الواقع في
الاخبار. على ان العلامة في التحرير أسندها إلى الصادق عليهالسلام ، كما نقله في المسالك ، قال : وهو شهادة الاتصال.
ولعله رحمهالله اطلع على المسئول من محل آخر غير المشهور في كتب
المحدثين. انتهى.
وأنت خبير بأن
الرواية المذكورة وان كانت ظاهرة فيما ذكروه ، الا انها معارضة بما هو أكثر عددا ،
من الروايات المتقدمة. ولهذا حملها الشيخ على الكراهة ، ونفى عنه البأس في
المسالك.
واحتمل بعض
مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ ايضا الحمل على ما إذا علم ان مورده غيره ، أو الأخذ
زيادة على غيره. ولا بأس بالجميع في مقام الجمع ، وان بعد كل واحد منها في حد ذاته
عن ظاهر الخبر.
ولا يحضرني
الان مذهب العامة في المسألة ، فلعل هذه الرواية إنما خرجت مخرج التقية.
وظاهر شيخنا
الشهيد في الدروس التوقف في المسألة ، حيث اقتصر على نقل أدلة القولين ، فقال :
وفي جواز أخذه لنفسه رواية صحيحة ، وعليها الأكثر ، وربما جعله الشيخ مكروها ،
لرواية أحرى صحيحة بالمنع انتهى.
والظاهر ان
مراده بالرواية الأولى الجنس ، والا فهي كما عرفت ثلاث روايات.
فروع :
الأول : ظاهر الشرط المذكور في روايتي حسين وعبد الرحمن ـ وهو
عدم الزيادة على غيره ـ وجوب التسوية في القسمة على غيره من أصحاب ذلك القبيل ، وانه
لا يجوز له تفضيل بعضهم على بعض ، لانه من جملتهم.
ويشكل ذلك في
غير المحصورين كالفقراء ، فإنه يجوز التفاضل مع عدم قرينة خلافه كما دلت عليه
أخبار قسمة الزكاة ، فإن التسوية فيها غير واجبة ، والمسألة هنا مفروضة فيما هو
أعم من الواجب والندب.
نعم لو كانوا
محصورين أمكن ذلك ، كما صرحوا به في المال الموصى به لأشخاص معينين ، مع إمكان
المناقشة هنا ايضا ، لعموم الدليل وصدق التفريق مع التفاضل.
وبالجملة
فالظاهر : ان منع المأمور عن أخذ الزيادة على غيره لا يدل على وجوب التسوية. ولهذا
قال العلامة في التحرير : وان لم يعين تخير في إعطاء من شاء من المحاويج كيف شاء ،
مع قوله في الكتاب المذكور بعدم تفضيله نفسه على غيره.
واما الوصية ،
فثبوت ذلك فيها بدليل خاص ان كان ، لا يقتضي ثبوته فيما لا دليل عليه.
ولعل المراد
بعدم تفضيله نفسه على غيره ، مع القول بجواز التفضيل في القسمة ، كما هو الظاهر ،
هو انه متى وقعت القسمة بالتفضيل بالمزايا الموجبة لذلك ، فينبغي ان يراعى المقسم
نفسه بكونه من أهل المزايا الموجبة للتفضيل أم لا ، فيأخذ بنسبة القبيل الذي هو
منهم ، لا يزيد على ذلك.
الثاني : الظاهر انه لا اشكال ولا خلاف على القولين المذكورين
في انه يجوز له ان يدفع الى عياله وأقاربه ، كما يدفع الى غيرهم ، من تسوية أو
تفاضل ، اقتصارا في موضع المنع على مورد الروايات المتقدمة ، وهو نفسه. وتخرج
صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الثانية شاهدة على ذلك.
__________________
الثالث : الظاهر : انه لا فرق على القولين بين ان يقول له
الأمر : اقسمه أو اصرفه أو ادفعه إليهم أو ضعه فيهم أو نحو ذلك ، لاشتراك الجميع
عرفا في المعنى.
ونقل عن بعضهم
الفرق ، فجوز له الأخذ ان كانت الصيغة «ضعه فيهم» أو ما ادى هذا المعنى ، ومنع من
الأخذ إذا كانت الصيغة بلفظ «ادفعه» أو «اصرفه» أو نحوهما. والظاهر ضعفه.
المسألة الثانية
الظاهر : انه
لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم ، في ان ما يأخذه السلطان الجائر باسم
المقاسمة والخراج من الأراضي والغلات ، وما يأخذه باسم الزكاة من الانعام والغلات
ونحو ذلك ، يجوز شراؤه ، وقبول اتهابه. بل ظاهر كلام جملة من الأصحاب دعوى الإجماع
على ذلك.
ولم أقف على
مخالف في الحكم المذكور ، الا المقدس الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وقبله الفاضل
الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي أصلا ، والحلي مسكنا.
وهذا الشيخ كان
معاصرا للمحقق الشيخ على بن عبد العالي الكركي ، وجرت بينهما مناقشات ومباحثات ،
رد فيها كل منهما على الأخر ، منها هذه المسألة فإن المحقق الشيخ على قد صنف فيها
رسالة في حل الخراج ، فصنف الشيخ إبراهيم ردا عليه رسالة في تحريمه.
قال في المسالك
ـ بعد قول المصنف : «ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات باسم المقاسمة أو الأموال
باسم الخراج عن حق الأرض ومن الانعام باسم الزكاة ، يجوز ابتياعه وقبول هبته ، ولا
يجب إعادته على أربابه وان عرف بعينه» ما صورته :
«المقاسمة :
حصة من حاصل الأرض ، تؤخذ عوضا عن زراعتها.
«والخراج :
مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه الحاكم.
«ونبه بقوله «باسم
المقاسمة واسم الخراج» على انهما لا يتحققان الا بتعيين الامام العادل.
«الا ان ما
يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ في التناول منه.
«وأطبق عليه
علماؤنا ، لا نعلم فيه خلافا ، وان كان ظالما في أخذه ، لاستلزام تركه والقول
بتحريمه الضرر والحرج العظيم على هذه الطائفة.
«ولا يشترط
رضاء المالك ، ولا يقدح فيه تظلمه ما لم يتحقق الظلم بالزيادة عن المعتاد أخذه من
عامة الناس في ذلك الزمان.
«واعتبر بعض
الأصحاب في تحققهما اتفاق السلطان والعمال على القدر ، وهو بعيد الوقوع والوجه.
«وكما يجوز
ابتياعه واستيهابه يجوز سائر المعاوضات.
«ولا يجوز
تناوله بغير إذن الجائز ، ولا يشترط قبض الجائر له ، وان أفهمه قوله «ما يأخذه»
فلو أحال به أو وكله في قبضه أو باعه وهو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى
ووجب على المالك الدفع.
«وكذا القول
فيما يأخذه باسم الزكاة ، ولا يختص ذلك بالإنعام كما افادته العبارة ، بل حكم زكاة
الغلات والأموال كذلك.
«لكن يشترط هنا
ان لا يأخذ الجائر زيادة عن الواجب شرعا في مذهبه ، وان يكون صرفه لها على وجهها
المعتبر عندهم ، بحيث لا يعد عندهم عاصيا ، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم ايضا.
«ويحتمل الجواز
مطلقا ، نظرا إلى إطلاق النص والفتوى ، ويجيء مثله في المقاسمة والخراج ، لان
مصرفها مصرف بيت المال ، وله أرباب مخصوصون عندهم ايضا.
«وهل تبرأ ذمة
المالك من إخراج الزكاة مرة أخرى؟ يحتمله ، كما في
المقاسمة والخراج ، مع ان حق الأرض واجب لمستحق مخصوص ، والتعليل بكون ذلك
حقا واجبا عليه.
«وعدمه ، لأن
الجائر ليس نائب المستحقين فيتعذر النية ، ولا يصح الإخراج بدونها.
«وعلى الأول ،
تعتبر النية عند الدفع اليه كما تعتبر في سائر الزكوات.
«والأقرب عدم
الاجتزاء بذلك ، بل غايته سقوط الزكاة عما يأخذه إذا لم يفرط فيه ، ووجوب دفعه
إليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في أحكامهم والتحرز عن الضرر
بمباينتهم.
«ولو اقطع
الجائر أرضا مما تقسم أو تخرج ، أو عاوض عليها ، فهو تسليط منه عليها ، فيجوز
للمقطع له أخذها من الزارع والمالك ، كما يجوز احالته عليه.
«والظاهر : ان
الحكم مختص بالجائر المخالف للحق ، نظرا الى معتقده واستحقاقه ذلك عندهم ، فلو كان
مؤمنا لم يحل أخذ ما يأخذه منها ، لاعترافه بكونه ظالما فيه ، وانما المرجع حينئذ
إلى رأى الحاكم الشرعي.
«مع احتمال
الجواز مطلقا ، نظرا إلى إطلاق النص والفتوى.
«ووجه التقييد
: أصالة المنع الا ما أخرجه الدليل ، وتناوله للمخالف متحقق ، والمسؤول عنه للأئمة
ـ عليهمالسلام ـ انما كان مخالفا للحق فيبقى الباقي. وان وجد مطلق
فالقرائن دالة على ارادة المخالف منه ، التفاتا الى الواقع أو الغالب. انتهى كلامه
زيد إكرامه.
وقال في
الكفاية : والظاهر ان الأئمة (ع) لما علموا انتفاء تسلط السلطان العادل الى زمان
القائم (عج) ، وعلموا ان للمسلمين حقوقا في الأراضي المفتوحة عنوة ، وعلموا انه لا
يتيسر لهم الوصول الى حقوقهم في تلك المدة المتطاولة الا بالتوسل والتوصل الى
السلاطين والأمراء ، حكموا بجواز الأخذ منهم. إذ في
تحريم ذلك حرج وغضاضة عليهم وتفويت لحقوقهم بالكلية. انتهى.
وقال المحقق
الأردبيلي رحمهالله في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ما تقدم نقله عن
الشرائع ما صورته ـ اعلم ان الخراج والمقاسمة هما المقدار المعين من المال ،
بمنزلة الأجرة في الأرض الخراجية ، اى المعمورة المفتوحة عنوة بإذن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الإمام عليهالسلام على المشهور. والمأخوذة بالصلح ، بان يكون الأرض
للمسلمين ولهم السكنى ، وهي لمصالح المسلمين ، والأمر فيها إليهم ـ صلوات الله
عليهم ـ والمقاسمة : الحصة المعينة من حاصل تلك الأرض ، مثل العشر. والخراج : المال
المضروب عليها غالبا ، فلا يضر إطلاق الخراج على المقاسمة ، كما ورد في بعض
الروايات والعبارات ، والأمر في ذلك هين ، فان المقصود ظاهر ، لان المراد منهما
ومن الطسق والقبالة واحد ، وهو : ما يؤخذ من الأرض المذكورة بمنزلة الأجرة ، سوى
الأجرة للعملة. وانما الإشكال في الإباحة وعدمها حال الغيبة أو حين الحضور ،
والأمر واضح ظاهر والمعصوم يفعل ما يريد ، وكذا تحقق الأرض التي يؤخذ منها.
ثم ساق الكلام
في تحقيق الأرض الخراجية الى ان قال :
واما حليتهما
يعنى الخراج والمقاسمة كما هو ظاهر أكثر العبارات ، لكل أحد مستحق لذلك كالمصالح
أم لا ، قليلا كان أم كثيرا ، بشرط عدم التجاوز عن العادة التي تقتضي كونهما أجرة
، بإذن الجائر مطلقا ، سواء كان مخالفا أو موافقا ، قبضهما أم لا ، وعدمها بدون
اذنه مع كونه جائرا وظالما في الأخذ والاذن ، وعدم إباحتهما له ، مع وجوب الدفع
اليه والى من يأمره ، وعدم جواز كتمان الرعية والسرقة منهما بوجه من الوجوه ، مع
كونهما أجرة للأرض ومنوطة برأي الامام ورضاء الرعية كما هو في الإجارات ، فهي
بعيدة جدا. ويدل على العدم العقل والنقل ، ولا دليل عليها مع الإشكال في ثبوتها
وتحققها في نفسها ثم العلم بها ثم ثبوتها بالنقل وحجيته. وما ادعى ولا نقل أيضا
الإجماع صريحا ، بل قيل : انه اتفاق ـ ونقل عبارات البعض في الرسالة
المدونة لهذه المسألة بخصوصها مع كثرة الاهتمام بتحقيقها وإثبات الإباحة
فيها ـ ثم قال : وهو إجماع. وفيه ما فيه لعدم ثبوت الإجماع بعبارات البعض مع خلو
البعض عنه ، ولهذا ترى بعض العبارات خالية عن هذه. وقد ذكر اباحة الشراء فقط. مثل
عبارة نهاية الشيخ على ما نقل في هذه الرسالة. ويظهر من شرح الشرائع أيضا دعوى
الإجماع في الجملة ، فالسماع منهما مشكل وقد ادعى فيهما دلالة الأخبار المتظافرة
عليه وما عرفتها وما فهمتها من خبر واحد ، وكأنه لذلك ما ادى في المنتهى ، بل
استدل على ذلك بالضرورة ودفع الجرح ، وإثبات مثله بمثله بعيد ، كما ترى. انتهى
كلامه.
أقول :
والتحقيق ـ كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى ـ : ان ما استدل به من الاخبار على
القول المشهور ، منه ما هو ظاهر المقصود ، ومنه ما يظهر منه ذلك ، لكنه لا يفي
بتمام ما ادعوه في هذا المقام ، وما ذكره المانع أيضا في أكثر هذا المجال لا يخلو
من البحث والاشكال.
* * *
وها أنا أسوق
لك ما استدل به للقول المذكور ، مذيلا كل خبر بما يتعلق به من الكلام ، بالذي
يتجلى به غشاوة الإبهام. فأقول ـ مستمدا منه تعالى العصمة من زيغ الافهام وزلل
الاقدام ـ :
(الأول) من
الاخبار المشار إليها : ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن جميل بن صالح قال :
أرادوا بيع تمر عين ابى زياد ، فأردت أن أشتريه ، ثم قلت حتى استأمر أبا عبد الله عليهالسلام. فأمرت مصادفا فسأله فقال : قل له فليشتره ، فإنه ان لم
يشتره اشتراه غيره .
استدل به في
المنتهى على جواز ابتياع المقاسمة والزكاة.
وقال المحقق
الشيخ على قدسسره في رسالته التي وضعها في المسألة : احتج بذلك في
المنتهى على حلهما.
ورده المحقق
الأردبيلي ، بعدم الدلالة على المطلوب ، قال : ويمكن ان
__________________
يكون المعنى جواز شراء مال الظلمة مع عدم العلم بالغصب بعينه ، كما يدل
عليه الأصل والاخبار الكثيرة الدالة على جواز أخذ جوائزهم مع كراهة ولكن تزول مع
الضيق. انتهى.
أقول : الحق
هنا ما ذكره المحقق الأردبيلي رحمهالله ، على انه قد روى في الكافي في باب نادر ، آخر أبواب
الزكاة ، ما يدل على ان عين ابى زياد المذكورة في هذا الخبر كانت ملكا لأبي عبد
الله عليهالسلام :
روى فيه عن
يونس أو غيره عمن ذكره عن ابى عبد الله عليهالسلام قال قلت له : جعلت فداك ، بلغني انك تفعل في غلة عين
زياد شيئا فأنا أحب ان أسمعه منك. قال : فقال لي : نعم ، كنت آمر إذا أدركت الثمرة
ان يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كل يوم ان توضع عشر
بنيات يقعد على كل بنية عشرة ، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى ، يلقى لكل نفس منهم
مد من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم ، الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة
، ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها ، لكل انسان منهم مد ، فإذا كان الجذاذ أوفيت
القوام والوكلاء والرجال أجرتهم ، واحمل الباقي الى المدينة ففرقت في أهل البيوتات
والمستحقين ، الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم : وحصل لي بعد
ذلك أربعمائة دينار ، وكان غلتها أربعة آلاف دينار .
ومن هذا الخبر
يظهر ان الضيعة المذكورة كانت له عليهالسلام ثم اغتصبت منه ، وان استئماره عليهالسلام في الشراء من ثمرتها انما هو من حيث كونه له عليهالسلام.
ولعل المعنى في
جوابه عليهالسلام وقوله للسائل : ان لم يشتره اشتراه غيره ، بمعنى ان
تركه شراءه لا ينفع في قلع الظالم عن ظلمه وارتداعه ، فان غيره يشتريه ، نعم لو
اتفق الناس على عدم شرائه ، لربما كان ذلك رادعا لهم عن الظلم ، كما تقدم في خبر
على بن أبي حمزة ، في المسألة الثالثة من المقام الثالث من مقامات المقدمة
__________________
الثالثة ، من قوله عليهالسلام : لو لم يجد بنو أمية من يحضر جماعاتهم ، ويجبي لهم
الخراج ، ويكتب لهم ، ما غصبونا حقنا .
ولا ينافي ما
ذكرنا اشتمال الخبر الأول على تسمية الضيعة المذكورة بعين ابى زياد ، وتسميتها في
هذا الخبر بعين زياد ، فان مثل هذا التجوز كثير في الكلام.
واما قوله في
الوافي ـ بعد ذكر الخبر الأول في كتاب المتاجر ـ «أبو ـ زياد كان من عمال السلطان»
فهو تخرص ، وانما هو اسم الضيعة المذكورة ، وكأنه غفل عن الخبر الذي نقلناه ، وهو
قد قدمه في كتاب الزكاة.
وبالجملة فإن
الخبر المذكور لا دلالة فيه على ما ادعوه من حل الخراج والمقاسمة ونحوهما بوجه ،
وقصاراه ـ مع قطع النظر عما ذكرناه ـ هو ما ذكره المقدس الأردبيلي رحمهالله.
(الثاني) : ما
رواه الشيخ ، في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : قال لي أبو الحسن عليهالسلام : مالك لا تدخل مع على في شراء الطعام ، إني أظنك ضيقا
، قال : قلت : نعم ، فإن شئت وسعت على ، قال : اشتره .
وأنت خبير بما
فيه من الإجمال المانع من صحة الاستناد إليه في الاستدلال ، إذ لا تعرض فيه ـ ولو
بالإشارة ـ إلى كون ذلك الطعام من وجه الخراج أو المقاسمة أو الزكاة بوجه ، ومجرد
احتمال كون المقام من أحد هذه الوجوه لا يكفي في الدلالة.
(الثالث) : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن الحذاء عن الباقر عليهالسلام قال :
__________________
سألته عن الرجل منا يشترى من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم انهم
يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال : فقال : ما الإبل والغنم الا مثل
الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به ، حتى تعرف الحرام بعينه. قيل له : فما ترى في
مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا ، فنقول : بعناها فيبيعناها ، فما ترى في
شرائها منه؟ فقال : ان كان قد أخذها أو عزلها فلا بأس. فقيل له : فما ترى في
الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل ، فما ترى في
شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : ان كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه
من غير كيل .
واعترض المحقق الأردبيلي
على هذه الرواية ، بأنه لا دلالة فيها على إباحة المقاسمة بوجه من الوجوه ، ولكن
لها دلالة على جواز شراء الزكاة ، ولهذا جعلها في المنتهى دليلا عليه فقط ، وفي
الدلالة ـ أيضا ـ تأمل ، إذ لا دلالة في قوله «لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه»
الا انه يجوز شراؤ ما كان حلالا بل مشتبها ايضا ، ولا يجوز شراؤ ما هو معروف انه
حرام ، ولا يدل على جوار شراء الزكاة بعينها صريحا.
نعم ظاهرها ذلك
، ولكن لا ينبغي الحمل عليه ، لمنافاته العقل والنقل. ويحتمل ان يكون سبب الإجمال
التقية. ويؤيد عدم الحمل على الظاهر : انه غير مراد بالاتفاق ، إذ ليس بحلال ما
أخذه الجائر فتأمل. انتهى.
وأجاب عن ذلك
في الكفاية ، فقال ـ بعد نقل هذا الكلام ـ : وفيه نظر ، لأن السؤال وقع عن أصل
الصدقة ، والجواب : انه لا بأس به ، لانه يحتمل ان يكون مفروضا في غيره ، لكن لما
فرض السائل انه يعلم انهم يأخذون أكثر من الحق ، فقد فرض وقوع الحرام في الصدقات
التي في أيديهم ، فوقع الحاجة الى الاستثناء الذي فعله عليهالسلام ، وكان غرض السائل كان متعلقا باستعلام الحكم باعتبار
الاختلاط المذكور ،
__________________
وكان جواز شراء أصل الصدقة مستغنيا عن البيان عنده. ثم قوله : لا ينبغي
الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل ، محل نظر. إذ لا اعرف دليلا عقليا ولا نقليا
يدل على ما ذكروه حتى يقع الحاجة الى التأويل أو الحمل على التقية ، إذ ذلك غير
سائغ. ودعوى الاتفاق الذي ذكره غير ظاهر. انتهى.
أقول : اما ما
ذكره الأردبيلي ـ رحمهالله ـ من عدم دلالة الرواية على إباحة المقاسمة بوجه ، فجيد
، الا انه من المحتمل قريبا ، ان المراد بالقاسم في قوله «يجيئنا القاسم فيقسم لنا
حظنا» هو الأخذ لمال المقاسمة ، لأنك قد عرفت ان المقاسمة حصة من حاصل الأرض تؤخذ
عوضا عن زراعتها. بقرينة التعبير عن آخذ الزكاة في صدر الخبر بالمصدق ، اى جامع
الصدقات الا ان الخبر غير صريح في ذلك ، لاحتمال الحمل على قسمة حق الزكاة أيضا ،
وان عبر عنه أو لا بعبارة أخرى.
واما ما ذكره
من التأمل في جواز شراء الزكاة بالتقريب الذي ذكره ، فليس بجيد. والحق هنا هو : ما
ذكره في الكفاية ، فإن سوق الكلام ظاهر فيه.
واما ما ذكره
الأردبيلي ـ قدسسره ـ من الاعتراف بان الجواز ظاهر فيه الرواية لكن لا
ينبغي الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل فغير بعيد ، بل هو محتمل احتمالا قريبا.
وقول صاحب
الكفاية : انه لا يعرف دليلا عقليا ولا نقليا يدل على ما ذكره فيه : ان الظاهر ان
مراد المحقق المذكور بالدليل العقلي والنقلي في هذا المقام ، انما هو ما دل على
قبح التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، فإن العقل والنقل متطابقان على ذلك. وما نحن
فيه من جملة ذلك ، الا ان يقوم الدليل على ما ادعوه في هذه المسألة من الحلية ،
فيكون موجبا لخروج هذا الفرد ، والا فلا.
ومن أجل منافاة
ظاهر هذه الرواية لما ذكره ، من دلالة العقل والنقل على عدم جواز التصرف في مال
الغير بغير اذنه حملها على التقية ، ثم أيده بما ذكره من ان ظاهرها غير مراد
بالاتفاق. ومراده الاتفاق على ان ما يأخذه الجائر محرم عليه. وهو كذلك ، فإن
القائلين بالحل يعترفون بذلك ، ولكن يدعون ان الأئمة ـ عليهمالسلام ـ
قد أذنوا ورخصوا في جواز شرائه وقبول هبته ونحو ذلك ، فقول صاحب الكفاية
هنا ايضا : ان دعوى الاتفاق الذي ذكره فيه غير ظاهر ، غفلة أو تغافل.
وبالجملة ، فإن
غاية ما يدل عليه ظاهر الرواية المذكورة : جواز الشراء من الزكاة التي يأخذونها من
الانعام كانت أو من الغلات ، مع معارضة ذلك بالأدلة الدالة على المنع من التصرف في
مال الغير إلا بإذن صاحبه. وتلك الأدلة قطعية تضعف هذه الرواية عن معارضتها لدلالة
العقل والنقل ، كتابا وسنة. والإجماع على ذلك. الا ان ظاهر جملة من الاخبار الاتية
مما يعضد هذه الرواية. وبذلك يجب تخصيص الأدلة المذكورة بهذه الاخبار ، مع قطع
النظر عن هذه المعارضة.
فغاية ما تدل
عليه هو جواز الشراء من الزكاة إذا أخذه الجائر قهرا ، فلا دلالة فيها على الجواز
في غيرها ، الا على الاحتمال المتقدم ، ولا على جواز دفع الزكاة إليهم اختيارا ،
كما يدعونه في المسألة أيضا.
وقال الأردبيلي
ـ رحمهالله ـ ايضا : وعلى تقدير دلالتها على جواز الشراء من الزكاة
فلا يمكن ان يقاس عليه جواز الشراء من المقاسمة. وعلى تقديره ايضا لا يمكن ان يقاس
عليه جواز قبول هبتها وسائر التصرفات فيها مطلقا كما هو المدعى ، إذ قد يكون ذلك
مخصوصا بالشراء بعد القبض ، بسبب لا نعرفه كسائر الأحكام الشرعية. الا ترى ان أخذ
الزكاة لا يجوز منهم مطلقا. ويجوز شراؤها منهم.
وقال في
الكفاية ـ في الجواب عن هذا الكلام ـ : اما لو سلمنا ان أخذ السلطان وجمعه حق
الخراج من الأرضين حرام مطلقا ، حتى لو كان مقصوده جمع حقوق المسلمين وصرفه في
مصارفه الشرعية بقدر طاقته ، كان حراما ايضا ، لكن لا نسلم أن إعطاءه لأحد في هذه
الصورة هبة أو غير ذلك حرام ، إذا كان الأخذ مستحقا لفقره أو كونه من مصالح
المسلمين ، كالغازى والقاضي والذي له مدخل في أمور الدين ، وان كان الأخذ حراما
أولا. ولا أجد ـ بحسب نظري ـ دليلا على ذلك ولا الأصل يقتضيه. انتهى.
أقول : فيه ان
الخصم يدعى ان الجائر هنا غاصب ، للدليل العقلي والنقلي الذي تقدمت الإشارة إليه «انه
لا يحل مال امرء إلا بإذنه» فجميع تصرفاته المتفرعة على هذا الغصب باطلة شرعا ،
وهو قد وافق على تحريم أخذه لهذا المال ، فكيف يصح تصرفاته بالهبة له ونحوها.
نعم قام الدليل
ـ بناء على تسليم القول بالرواية المذكورة ـ على جواز الشراء منه في الصورة المذكورة
، فيجب استثناء ذلك بالنص ، ويبقى ما عداه على حكم الأصل ، من قبح التصرف في مال
الغير.
وبالجملة ، فان
الحق هنا فيما ذكره المحقق الأردبيلي ـ رحمهالله عليه ـ وكلام صاحب الكفاية هنا ظاهر القصور.
وبذلك يظهر لك
ايضا ما في قوله في الكفاية : ثم يظهر من الحديث ان تصرف العامل بالبيع جائز ، إذ
لو كان حراما لكان الظاهر ان يكون الشراء منه حراما ايضا ، لكونه اعانة على الفعل
المحرم ، وحيث ثبت ان التصرف بنحو البيع والشراء جائز ، ظهر ان أصل التصرف فيه ليس
بحرام.
وفيه ـ زيادة
على ما عرفت ـ : ان قضية تحريم الأخذ على الجائر ، المتفق عليه ، الموجب لكون ذلك
غصبا ، هو إجراء أحكام الغصب على هذا المأخوذ من وجوب رده على المالك ، وتحريم
التصرف فيه بأي نحو كان.
هذا هو الموافق
للقواعد الشرعية والضوابط المرعية.
نعم قام الدليل
ـ بناء على تقدير تسليمه ـ على جواز الشراء فوجب استثناؤه من ذلك ، فكيف يمكن
ادعاء حل البيع للبائع ونحوه بمجرد دلالة الرواية على جواز الشراء ، مع ان جواز
الشراء باطل بمقتضى القواعد التي ذكرناها. ولكنا انما صرنا إلى إخراجه ، بهذه
الرواية.
وبالجملة فإن
الحكم على خلاف مقتضى الأصول ، فيجب الاقتصار فيه على مورد النص. ولو تمت هذه
الدعوى التي ادعاها ، من ان جواز الشراء مستلزم لحل
جميع التصرفات ، لأمكن ايضا ان يدعى ان جواز الشراء مستلزم لحل أخذ الجائر
لهذا المال ، حيث انه لم يعهد في القواعد الشرعية تحريم الغصب وحل التصرف في
المغصوب ، فمتى دل الدليل على جواز التصرف كان مستلزما لحل الأخذ وعدم تحريمه ، مع
انه خلاف الاتفاق في المقام.
والحق هو ما
تقدمت إليه الإشارة ، في كلام المحقق المتقدم ذكره ، من انه قد يكون ذلك مخصوصا
بالشراء بعد القبض بسبب لا نعرفه كسائر الأحكام الشرعية.
وبالجملة ، فإن
كلام صاحب الكفاية هنا ، عند من عض على المسألة بضرس قاطع ، مما يحسبه الظمآن ماء
أو هو سراب لا مع ، وكيف كان فان هذه الرواية من معتمدي أدلة القول المشهور ، وهو
على ما ترى من القصور ، بالنسبة إلى الخراج. والمقاسمة. واما بالنسبة إلى الزكاة
فقد تقدم تحقيق القول. فيها.
* * *
(الرابع) : ما
رواه في التهذيب عن ابى بكر الحضرمي ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام وعنده إسماعيل ابنه فقال : ما يمنع ابن ابى السماك ان
يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطى الناس؟ ثم قال لي : لم
تركت عطاءك؟ قلت : مخافة على ديني! قال : ما منع ابن ابى السماك ان يبعث إليك
بعطائك ، أما علم ان لك في بيت المال نصيبا؟ .
قال الأردبيلي
ـ رحمهالله ، بعد نقله الرواية ـ : ليس فيها دلالة أصلا ، الا على
جواز إعطاء مال من بيت المال الذي هو لمصالح المستحقين من الشيعة. واين هذا من
الدلالة على جواز أخذ المقاسمة من الجائر على العموم الذي تقدم. والعجب انه قال ـ في المنفردة ـ : هذا نص في الباب ، لانه عليهالسلام بين ان لا خوف للسائل على دينه إذ لم يأخذ الا حقه من
بيت المال. وقد ثبت في الأصول : تعدى الحكم بتعدي العلة المنصوصة ـ وانا ما فهمت
هنا منها دلالة ما ، كيف وغاية دلالتها ما ذكر ، وذلك
__________________
قد يكون من بيت المال الذي يجوز أخذه وإعطاؤه للمستحقين ، مثل ان يكون
منذورا أو وصية لهم بان يعطيه ابن ابى السماك أو غير ذلك. ثم أطال الكلام.
أقول : لا يخفى
على المتتبع للسير والآثار ، والمتطلع في كتب الاخبار : ان بيت المال المذكور في
أمثال هذا المقام ، انما هو المشتمل على الأموال المعدة لمصالح المسلمين وأرزاقهم
، كما يدل عليه أخبار إعطاء المؤذن والقاضي ، والديات التي يعطى من بيت المال ونحو
ذلك. وليس في الأموال التي يأخذها الإمام عادلا أم جائرا ، ويكون في بيت المال ،
ما يكون كذلك الا مال الخراج والمقاسمة ، والا فالزكاة لها أرباب مخصوصون.
واحتمال الحمل
على ما ذكره من بيت مال يكون منذورا أو وصية ، عجيب من مثله رحمة الله عليه ، لا
سيما مع ما صرح به غير واحد من المحققين ، من ان الإطلاق الواقع في الاخبار انما
يحمل على الافراد الشائعة المتكثرة لها وانها هي التي ينصرف إليها الإطلاق دون
الفروض النادرة.
وبالجملة فإن
مناقشته هنا في بيت المال ، بالحمل على غير ما ذكرناه ضعيفة.
واما كون أحد
مصاريف بيت المال ارتزاق الشيعة أو هم مع غيرهم ، فالأخبار به أكثر من ان يأتي
عليها المقام ، كما لا يخفى على المتتبع للاخبار بعين التحقيق والاعتبار.
وبالجملة فإن
الخبر المذكور ، بمعونة غيره من الاخبار في جواز ارتزاق الشيعة من بيت المال ، مما
لا يحوم حوله الاشكال ، وان كانت أبواب المناقشة منسدة في هذا المجال.
والظاهر ـ ايضا
ـ من قوله «ما يمنع ابن ابى السماك ان يخرج شباب الشيعة» أي إلى جباية الخراج
وجمعه ويعطيهم ما يعطى غيرهم ، والظاهر ان الرجل المذكور كان منصوبا من قبل الخليفة
على جمع الخراج وحفظه وخزنه في بيت المال وقسمته. ومراده عليهالسلام حث الرجل المذكور على نفع الشيعة وصلتهم ، يجعلهم
أعوانا له على جمع الخراج ليحصل لهم اجرة ذلك. وجواز أخذ الشيعة من بيت
المال الذي قد عرفت انه مال الخراج والمقاسمة. هذا هو ظاهر الخبر وسياقه.
وكيف كان ، فان
الخبر وان كان ظاهره ما ذكرناه ، الا انه لا يفي بتمام ما ادعوه في هذا المقام ،
مما تقدمت الإشارة إليه في كلام المحقق الأردبيلي.
* * *
(الخامس) : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن إسحاق بن عمار ، في الموثق قال : سألته عن الرجل يشترى
من العامل وهو يظلم ، فقال : يشترى منه ما لم يعلم انه ظلم فيه أحدا .
قال المحقق
المتقدم ذكره : ولا دلالة فيها أصلا الا على شراء شيء لا يكون ظلم فيه أحدا ،
فالاستدلال بها على المطلوب بعيد. انتهى.
أقول : الظاهر
ان الاستدلال بهذه الرواية بتقريب : ان العامل ـ في الخبر المذكور ـ شامل لمن يجبى
المقاسمة ويجمعها ، فيكون الخبر من حيث العموم دالا على جواز الشراء من المقاسمة ،
ما لم يعلم انه ظلم فيه أحدا.
والاستدلال
بالخبر انما هو بالنظر الى عموم العامل لمن قد ذكرناه ، لا من حيث شراء شيء لا
يكون فيه ظلم ، كما ذكره حتى ينتفي بذلك الاستدلال به. والخبر ـ بهذا التقريب ـ صالح
للاستدلال ، كما لا يخفى.
* * *
(السادس) :
الأخبار الدالة على جواز قبالة الخراج والجزية. استدل بها في الكفاية.
ومنها : ما
رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح. عن إسماعيل بن الفضل ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل يتقبل بخراج الرجال وجزية رؤوسهم و
__________________
خراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ، وهو لا يدرى لعل هذا
لا يكون أبدا أو يكون ، أيشتريه ، وفي أي زمان يشتريه ، ويتقبل منه؟ فقال : إذا
علمت ان من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتره وتقبل به . وما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسماعيل بن
الفضل الهاشمي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، في الرجل يتقبل بجزية رؤوس الرجال وبخراج النخل
والآجام والطير ، وهو لا يدرى ولعله لا يكون. الخبر المتقدم بأدنى تفاوت.
قال : وظاهره
ان غرض السائل متعلق بالسؤال من حيث انه لا يدرى ، يكون من ذلك شيء أم لا ، ولهذا
لم يذكر خراج الأرض ، فكأن أصل الجواز من حيث كون ذلك خراجا أمر مسلم عندهم.
ومنها : ما
رواه الشيخ عن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام ، في جملة حديث قال : لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض
وأهلها من السلطان. وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث ، قال : نعم لا
بأس به ، وقد قبل رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ خيبر ، أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالجز ، والجز هو
النصف .
أقول : لا يخفى
ان غاية ما تدل عليه هذه الاخبار ـ بناء على ما ذكره ـ هو انه يجوز للإنسان أن
يتقبل من السلطان الجزية التي على رؤوس أهل الذمة ، وهي المشار إليها بخراج الرجال
في صدر الخبر ، فيكون العطف تفسيريا ، وكذا خراج النخل ونحوه مما ذكر من الأرض
الخراجية ، بأن يستأجر من السلطان ما يأخذه من هذه الأشياء المعدودة ، بمبلغ معين
يدفعه اليه. وفيها دلالة على حل ذلك وان كان من الجائر ، واشارة الى ان حكم تصرف
الجائر في هذه الأرض حكم تصرف
__________________
الامام العادل ، ردا على القول الأخر. الا انه لا يفي بتمام ما ادعاه
الأصحاب في المقام مما تقدمت الإشارة اليه.
ونحو هذه
الروايات ايضا فيما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل ابن الفضل عن ابى
عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته عن رجل استأجر من السلطان ارض الخراج بدراهم
مسماة أو بطعام مسمى ، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها ان يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو
أكثر ، وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصح له ذلك؟ قال نعم ، إذا حفر لهم نهرا أو
عمل لهم شيئا يعينهم بذلك ، فله ذلك ، قال : وسألته عن رجل استأجر أرضا من ارض
الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشيء
معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ، ولا ينفق شيئا. أو يواجر تلك
الأرض قطعا على ان يعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله
تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له : إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها
، فلا بأس بما ذكرت .
ومنها ما رواه في
الفقيه مرسلا ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل استأجر أرض الخراج. الحديث .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الفيض بن المختار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ، ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم
أؤاجرها أكرتي على ان ما اخرج الله منها من شيء ، كان لي من ذلك النصف أو الثلث
بعد حق السلطان قال : لا بأس به كذلك أعامل أكرتي .
وبالجملة فإن
هذه الروايات ـ باعتبار ما دلت عليه جواز قبالة الخراج و
__________________
الأرض الخراجية ، مع ما تقدم في رواية أبي بكر الحضرمي ، وما ذيلناها به ،
وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم في حكم الزكاة وجواز شرائها ـ مما يثمر الظن
الغالب بجواز تناول الخراج والمقاسمة من الجائر ، وان تصرفه في ذلك يجرى مجرى تصرف
الامام عليهالسلام.
لكن لا في جميع
الوجوه التي ذكروها ، من انه لا يحل إنكار ذلك عنه ، ولا خيانته فيه ولا سرقته
ونحو ذلك. حيث ان غاية ما يفهم من هذه الروايات : هو التوصل الى الانتفاع من هذه
الأراضي الخراجية ، وخراجها بقبول ذلك من الجائر ، والاستيجار منه ، والشراء من
مال الخراج والزكاة التي قبضها.
واما ما ذكروه
من الزيادة على ذلك من عدم جواز إنكاره ، ووجوب دفعه له ، فربما دلت بعض الاخبار
على خلافه ، مثل صحيحة عيص بن القاسم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في الزكاة ، قال : ما أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به ،
ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم ، فان المال لا يبقى على هذا ان يزكيه مرتين .
والرواية وان
كان موردها الزكاة خاصة ، الا ان فيها إشارة إلى انه لا يجوز دفع الحقوق الشرعية
لغير مستحقها وأهلها ، لا سيما مع ما يستلزمه من اعانة الظلمة ، الذي تقدم التصريح
بتحريمه. والى ذلك ايضا تشير صحيحة زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ان هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون الصدقة
فنعطيهم إياها أتجزي عنا؟ قال : لا ، إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ظلموكم ـ أموالكم
، وانما الصدقة لأهلها .
وحمله الشيخ
على استحباب الإعادة ، جمعا بينه وبين ما يدل على الاجزاء من الاخبار. وقد تقدمت
في كتاب الزكاة.
__________________
والأظهر في وجه
الجمع. انما هو حمل ما دل على الاجزاء على عدم التمكن من إنكارها ومنعها ، وانما
تؤخذ منه قهرا. وما دل على العدم على من تمكن من عدم الدفع ودفعها لهم اختيارا ،
كما تدل عليه صحيحة العيص المذكورة. والله العالم.
(السابع) :
الأخبار الدالة على جواز أخذ جوائز خلفاء الجور. ومنها : ما رواه في التهذيب عن
يحيى بن ابى العلاء عن ابى عبد الله عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام : ان الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ كانا يقبلان جوائز معاوية . ونحوها من الاخبار الاتية في المسألة التالية إنشاء
الله. وأنت خبير بما فيه من الضعف الغنى عن التنبيه.
__________________
المسألة الثالثة
لا اشكال ولا
خلاف في حل جوائز السلطان وجميع الظلمة ، على كراهية ما لم يخبره بأن ذلك من ماله
، فإنه لا كراهة. وما لم يعلم بكونه حراما فيجب رده على مالكه ، أو الصدقة به عنه.
ويدل على
الثالث : ما تقدم في مسألة تحريم معونة الظالمين ، من رواية على ابن أبي حمزة .
وعلى الأول
والثاني : أصالة الحل ، المدلول عليها بالأخبار المتكاثرة ، وقد تقدم شطر منها في
مقدمات الكتاب.
وعلى الكراهة
في الأول : وقوع الشبهة فيها ، باحتمال كونها من الحرام أو دخول الحرام في تلك
الجوائز ، لعدم تورع الدافع لها ، مع عدم اخباره بالحل.
ولهذا صرح
الأصحاب باستحباب إخراج الخمس منها ، من حيث احتمال الاختلاط ، وخروج الخمس محلل
للمال المختلط حلاله بحرامه.
قال في المنتهى
: ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وان كان المجيز لها ظالما ،
__________________
وينبغي له ان يخرج الخمس من جوائز الظالم ، ليطهر بذلك ماله ، لان الخمس
يطهر المختلط بالحرام فيطهر ، ما لم يعلم فيه الحرام. وينبغي ان يصل إخوانه من
الباقي بشيء وينتفع هو بالباقي.
أقول : ومن
الاخبار الواردة في المقام ما تقدم قريبا من خبر يحيى بن ابى العلاء .
وما رواه في
التهذيب والفقيه في الصحيح ، عن ابي ولاد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له كسب الا
من أعمالهم ، وانا أمر به وانزل عليه فيضيفني ويحسن الى ، وربما أمر لي بالدراهم
والكسوة ، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه ، لك المهنا وعليه الوزر .
وما رواه في
الفقيه عن ابى المعزا ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وانا عنده ، فقال : أصلحك الله أمر بالعامل أو اتى
العامل ، فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال : نعم ، وحج بها. . ورواه الشيخ في الصحيح مثله بدون قوله «أو اتى العامل».
وما رواه الشيخ
عن محمد بن هشام أو غيره ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال : نعم. قلت :
وأحج منها؟ قال : نعم حج منها .
وعن محمد بن
مسلم وزرارة قالا : سمعناه يقول : جوائز العمال ليس بها
__________________
بأس .
وعن عمار في
الموثق عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال : لا ،
الا ان لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ، ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده
شيء فليبعث بخمسه الى أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ .
وما رواه في
الكافي عن عمر أخي عذافر ، قال : دفع الى انسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي
عبد الله عليهالسلام فكانت في جوالقي ، فلما انتهيت إلى الحفيرة شق جوالقي
وذهب بجميع ما فيه ، ورافقت عامل المدينة بها ، فقال : أنت الذي شق جوالقك وذهب
بمتاعك؟ قلت : نعم. قال : إذا قدمنا المدينة فأتنا نعوضك. قال : فلما انتهينا إلى
المدينة ، دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام فقال : يا عمر شقت زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت : نعم.
فقال : ما أعطاك الله تعالى خير مما أخذ منك ـ الى ان قال ـ فائت عامل المدينة
فتنجز منه ما وعدك ، فإنما هو شيء دعاك الله اليه لم تطلبه منه .
الى غير ذلك من
الاخبار الدالة على صلة خلفاء بنى العباس للأئمة ـ عليهمالسلام ـ وقبولهم ذلك منهم.
فوائد
الأولى : ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من كراهة هذه
الجوائز لما تقدم ذكره ، ربما نافاه الأخبار الدالة على قبولهم ـ عليهمالسلام ـ لجوائز
__________________
خلفاء الجور ، وقد تقدم خبر قبول الحسن والحسين عليهماالسلام لجوائز معاوية ، ومثله ما رواه في كتاب الاحتجاج في
حديث : انه كان يبعث الى الحسين عليهالسلام في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب .
ويمكن الجواب
عن ذلك ، بوجوه :
(أحدها) : ان
الأرض وما فيها لهم ـ عليهمالسلام ـ كما دلت عليه جملة من الاخبار التي قدمناها في كتاب
الخمس فكيف بما في أيدي هؤلاء الفجرة من ذلك.
و (ثانيها) :
انه من المحتمل ـ قريبا ـ ان قبولهم لها لا يستلزم أكلهم منها ، فيجوز ان يتصدقوا
بها ، لأنها من مال المسلمين فيصرفونها عليهم.
ويدل على ذلك :
ما رواه في العيون عن صاحب الفضل بن الربيع ، عن ابى الحسن موسى عليهالسلام ، في حديث : ان الرشيد بعث اليه بخلع وحملان ومال. فقال
: لا حاجة لي بالخلع والحملان والمال ، إذا كان فيه حقوق الأمة. فقلت : ناشدتك
بالله ان لا ترده فيغتاظ. قال : اعمل به ما أحببت .
وفي خبر آخر ،
ان الرشيد أمر ان يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير. فقال عليهالسلام : والله لو لا انى ارى من أزوجه بها من عزاب بني أبي
طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها .
وروى في الكافي
عن محمد بن قيس بن رمانة قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام فذكرت له بعض حالي ، فقال : يا جارية هاتي ذلك الكيس ،
هذه أربعمائة دينار
__________________
وصلني بها أبو جعفر ، فخذها وتفرج بها الحديث.
و (ثالثها) :
جواز فعلهم للمكروه أحيانا ، كما دلت عليه جملة من الاخبار لبيان جوازه ، وانهم لو
امتنعوا من قبول ذلك امتنع الناس التابعون لهم بامتناعهم منه اقتداء بهم ، ولزم به
إدخال الضرر عليهم في بعض الموارد ، لا سيما في مقام الضرورة ، مع حل ذلك شرعا.
و (رابعها) :
ان لهم حقا في بيت المال ، فيكون ذلك من حقوقهم الواجبة لهم ، ويحمل الامتناع منهم
في بعض الأوقات على التنزه والله العالم.
الثانية : ما ذكره الأصحاب هنا من استحباب إخراج الخمس من هذه
الجوائز لم أقف فيه على خبر ، الا ما قدمناه من خبر عمار .
ومورده انما هو
الدخول في أعمالهم وحصول شيء له من ذلك. والفرق بينه وبين الجوائز ظاهر ، لما
تقدم من اختلاف الاخبار في جواز الدخول في أعمالهم ، وقد تقدمت في تلك المسألة ،
بخلاف مسألة الجوائز ، فإن الأخبار متفقة على حلها ، ومعارضة بالقاعدة المتفق
عليها ـ نصا وفتوى ـ كل شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه .
ومورد اخبار
الخمس ـ الكثيرة بالنسبة الى هذا الفرد ـ انما هو المال المعلوم دخول الحرام فيه ،
مع عدم معلوميته بعينه ، وعدم معلومية صاحبه. وقد تقدمت في كتاب الخمس .
وظاهر عبارة
العلامة المتقدمة : انه انما استند في إخراج الخمس في هذا المقام
__________________
الى هذه الاخبار باعتبار دلالتها على ذلك بطريق الأولوية. حيث انها دلت على
تطهير المال المعلوم فيه وجود الحرام بإخراج الخمس ، فتطهير ما ظن كونه حراما أو
دخل فيه الحرام بطريق اولى.
وفيه منع ظاهر
، بل هو قياس محض مع الفارق ، للاتفاق هنا على الحل نصا وفتوى ، مع الاعتضاد ـ كما
عرفت ـ بالقاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، بخلاف ما لو علم فيه الحرام ، إذ لا
خلاف في تحريمه بمقتضى النصوص الواردة في المحصور من ذلك ، لكن لما وردت هذه
الاخبار بتحليله بإخراج الخمس منه وجب استثناؤه من النصوص المذكورة.
الثالثة : قد صرحت موثقة عمار المتقدمة بأنه يبعث بخمس المال الذي يصير في يده من عملة
الظالمين إليهم ـ عليهمالسلام ـ والظاهر من ذلك : ان مصرفه مصرف الخمس المأخوذ من
الغنائم ونحوها ، مما تقدم في كتاب الخمس ، مع ان هذا الموضع مما لم يتعرض أحد من
الأصحاب لعده في كتاب الخمس في عداد تلك الأشياء وقد وقع في الخمس المأخوذ من
الحلال المختلط بالحرام بحث في مصرفه قدمنا ذكره في الكتاب المشار اليه.
والظاهر : ان
عدم تعرض الأصحاب لهذا الفرد ، اما من حيث عدم وجوبه ، فان ظاهرهم انما هو
الاستحباب ، أو ندور الرواية المذكورة.
وكيف كان
فإخراج الخمس مخصوص بمورد الخبر ، وهو العمل لهم ، دون ما نحن فيه من الجوائز.
والله العالم.
الرابعة : قد عد بعض مشايخنا المحققين من محدثي متأخري
المتأخرين جوائز الظالم ، في الشبهات الواردة في اخبار التثليث «حلال بين ، وحرام
بين ، وشبهات بين ذلك» . بناء على ان ما احتمل الحرمة وان كان بحسب ظاهر الشرع
حلالا ،
__________________
الا انه من جملة أفراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار.
وعد من ذلك ـ بناء
على هذا الأصل الذي ذكره ايضا ـ ما اختلف فيه الاخبار ، مع ترجيح أحد طرفيها في
نظر الفقيه ، كمسألة نجاسة البئر مثلا ، مع القول بالطهارة.
وفيه ـ أولا ـ :
ان الحل والحرمة ـ كما حققناه في محل أليق وقد تقدم أيضا في المجلد الثاني من كتاب
الطهارة ـ ليس عبارة عما كان كذلك في نفس الأمر والواقع ، وانما ذلك بالنظر الى
علم المكلف ، وكذلك الطهارة والنجاسة ، فالحلال هو ما لم يعلم المكلف حرمته ، وان
كان حراما في الواقع ، لا ما علم عدم حرمته. والطاهر : ما لم يعلم نجاسته ، لا ما
علم عدم نجاسته.
ولا يقال : هذا
حلال بحسب الظاهر وحرام في الواقع ، إذ لا واقع هنا لذلك ، فإن الأحكام الشرعية لم
يجعلها الشارع منوطة بالواقع ونفس الأمر الذي لا يعلمه الا هو ، وانما جعلها منوطة
بعلم المكلف.
وتحقيق البحث
في المقام واسع ، وقد تقدم في الموضع المشار اليه.
وثانيا : ان
المفهوم من الاخبار في هذا القسم الثالث ـ اعنى قسم الشبهة ـ هو الكف والتثبت
والرد إلى الأئمة ـ عليهمالسلام كما ان الحكم في الحلال البين والحرام البين ، هو
الإباحة في الأول ، والمنع مع المؤاخذة بالمخالفة في الثاني.
ومن الاخبار
المشار إليها : قول ابى جعفر عليهالسلام في حديث طويل : وما اشتبه عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا
نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا .
وقول الصادق عليهالسلام : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الأمور ثلاثة ، أمر تبين لك رشده
__________________
فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده الى الله عزوجل .
وقول الصادق عليهالسلام : أورع الناس من وقف عند الشبهة .
وقول أمير
المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليهالسلام : أوصيك يا بنى ـ الى ان قال ـ : والصمت عند الشبهة .
وقوله عليهالسلام : الوقوف عند الشبهة ، خير من الاقتحام في الهلكة . الى غير ذلك من الاخبار.
وما نحن فيه
ليس من هذا القبيل ، لتصريح الاخبار به ، واتفاق الأصحاب على الحل من غير توقف.
وبالجملة ، فإن
دخول ما ذكره في افراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار ظاهر الفساد لمن تأمل في ما
ذكرناه بعين الفكر والسداد.
نعم يمكن ان
يقال : ان معنى الشبهة لا ينحصر في هذا الفرد المذكور في هذه الاخبار ، بل من
جملته ما يستحب التنزه عنه فيما إذا حصل الشك أو الظن باحتمال النقيض لما قام
الدليل على حليته أو طهارته على الإطلاق كما فيما نحن فيه ، فان الدليل دل على ان
كل شيء حلال حتى تعلم حرمته ، وجوائز الظالم من هذا القبيل كما صرحت به اخبارها ،
لكن يحتمل قريبا بسبب العلم بأخذه الحرام كون هذا الفرد منه ، وان لم يعلم المكلف.
فالأفضل له التورع عنه. والله العالم.
الخامسة : روى في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري
، انه كتب الى صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف
__________________
مستحلا لما في يده ، لا يتورع عن أخذ ماله ربما نزلت في قريته وهو فيها ،
أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه ، فان لم آكل من طعامه عاداني عليه ،
فهل يجوز لي ان آكل من طعامه ، وأتصدق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وان اهدى هذا
الوكيل هدية الى رجل آخر فيدعوني الى ان أنال منها ، وانا اعلم ان الوكيل لا يتورع
عن أخذ ما في يده فهل على فيه شيء إذا أنا نلت منها؟ الجواب : ان كان لهذا الرجل
مال أو معاش غير ما في يده ، فكل طعامه واقبل بره ، والا فلا . ورواه الشيخ ـ رحمهالله ـ في كتاب الغيبة أيضا.
وأنت خبير بان
ظاهر هذا الخبر : عدم جواز قبول جوائز الظالم الا مع العلم بان له معاشا أو مالا
حلالا ، وظواهر الأخبار المتقدمة أعم من ذلك ، فالواجب تقييد تلك الاخبار به.
الا ان ذلك
خلاف ما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب في هذا الباب ، فإنهم يكتفون في الحكم
بالحلية بمجرد مجهولية الحال وان لم يعلم ان له مالا حلالا أو معاشا حلالا ، وهو
ظاهر الاخبار المتقدمة. وانما يستثنون معلومية كونه حراما.
اللهم الا ان
يقال : ان ظاهر هذا الخبر يعطي : ان السائل عالم بان هذا الوكيل ليس له مال الا
مال الوقف الذي في يده ، وانه يستحل اكله ، وعلى هذا فيكون جميع ما يصرفه ويهديه
انما هو من هذا المال الذي في يده ، فأجابه عليهالسلام ان كان كذلك فلا يجوز الأكل من عنده ، وان كان له معاش
أو مال غير ذلك ، بحيث يحتمل كون ما يعطيه من ذلك المال الحلال جاز الأكل ، وحينئذ
فلا يدخل في هذا مجهول الحال الذي دل كلام الأصحاب وظواهر الأخبار المتقدمة على حل
جوائزه.
السادسة : قد صرح الأصحاب ، وعليه دلت الأخبار ، بأنه لا بأس
بمعاملة
__________________
الظلمة والبيع عليهم والشراء منهم ، وان كان مكروها.
ومن الاخبار في
ذلك ما تقدم في المسألة السابقة ، من موثقة إسحاق بن عمار الدال على انه يشترى من
العامل ما لم يعلم انه يظلم فيه أحدا .
وما رواه في
التهذيب عن محمد بن أبي حمزة عن رجل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : اشترى طعاما فيجيئني من يتظلم يقول : ظلموني ، فقال :
اشتره .
أقول : إنما
أمره عليهالسلام بالاشتراء ، لانه لم يعلم ان ظلمة كان في ذلك الطعام
بعينه ، بل أخبره بأنهم يظلمون الناس. وقد عرفت ان ذلك غير مانع من جواز الشراء
منهم ، ما لم يعلم الظلم في ذلك المبيع المعين المعلوم.
وعن على بن
عطية ، قال أخبرني زرارة ، قال : اشترى ضريس بن عبد الملك واخوه من هبيرة أرزا
بثلاثمائة الف ، قال : فقلت له : ويلك ـ أو ويحك ـ انظر الى خمس هذا المال فابعث
به اليه واحتبس الباقي ، فأبى على ، قال : فأدى المال ، وقدم هؤلاء فذهب أمر بنى أمية. قال : فقلت ذلك لأبي عبد الله عليهالسلام فقال ـ مبادرا للجواب ـ : هو له هو له. فقلت : انه قد
أداها ، فعض على إصبعه .
وظاهر سياق
الخبر المذكور : ان هبيرة كان من بنى أمية أو أعمالهم ، وان الشراء وقع في مقدمات
ذهاب دولتهم على يد العباسية. وزرارة لما علم ذلك أمر ابن أخيه ان يبقى الثمن ولا
يدفعه إلى البائع ، وان يبعث بخمسه الى الامام عليهالسلام ليحل له المال ، لانه مال الناصب المأمور بإخراج الخمس
منه ، فامتنع ابن أخيه من ذلك ، فلما أخبر زرارة الإمام عليهالسلام قبل ان يتم له الحكاية ، حلل له الخمس الذي
__________________
امره بإرساله ،
ثم لما أخبره زرارة انه دفع الثمن عض على يديه ندما على ما فعل ضريس من دفع الثمن
، ففي الخبر المذكور دلالة على حل مال الناصب كما ورد به غيره ، وعلى إخراج خمسه ،
وعلى تحليل الامام عليهالسلام بالخمس ، كما تقدم في كتاب الخمس ، وعلى جواز معاملة
الظلمة كما هو المقصود بالبحث ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام.
واما الكراهة
فالوجه فيها : ما تقدم بيانه في الجوائز. والله العالم.
المسألة الرابعة
قد اختلفت
الاخبار وكلمة الأصحاب ، وان كان الأول أشد اختلافا ، فيما يأخذ كل من الولد
والوالد من مال الأخر.
فقال الشيخ في
الاستبصار ـ بعد إيراد صحيحة محمد بن مسلم ، وصحيحة أبي حمزة الثمالي ، وحسنة محمد
بن مسلم الآتي جميع ذلك إنشاء الله تعالى ـ ما لفظه : هذه الاخبار
كلها دالة على انه يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ، إذا كان محتاجا ، فأما مع
عدم الحاجة فلا يجوز له أن يتعرض له ، ومتى كان محتاجا وقام الولد به وبما يحتاج
اليه فليس له ان يأخذ من ماله شيئا ، وان ورد في الاخبار ما يقتضي جواز تناوله من
مال ولده مطلقا ، من غير تقييد. فينبغي ان يحمل على هذا التقييد. انتهى.
وقال في
النهاية : لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا على كل حال ، إلا بإذنه قل ذلك
أم كثر ، لا مختارا ولا مضطرا ، فان اضطر ضرورة شديدة حتى يخاف تلف النفس ، أخذ من
ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم. والوالد فما دام الولد ينفق
عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة
__________________
والطعام بالمعروف ، فليس للوالد أن يأخذ من ماله شيئا. وان لم يكن الولد
ينفق عليه وكان الوالد مستغنيا عن ماله ، فلا يجوز له ايضا ان يأخذ من ماله شيئا على
حال. فان احتاج الى ذلك أخذ من ماله قدر ما يحتاج اليه من غير إسراف. بل على طريق
القصد. وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده ، جاز له ان يأخذ منه ما يحج به حجة
الإسلام ، فأما حجة التطوع فلا يجوز له ان يأخذ نفقتها من ماله إلا باذنه ، وإذا
كان للولد جارية ولم يكن وطأها ولا مسها بشهوة ، جاز للوالد أن يأخذها ويطأها ،
بعد ان يقومها على نفسه بقيمة عادلة ، ويضمن قيمتها في ذمته. ومن كان له ولد صغار
فلا يجوز له ان يأخذ شيئا من أموالهم إلا قرضا على نفسه ، والوالدة لا يجوز لها ان
تأخذ من مال ولدها شيئا الا على سبيل القرض على نفسها. انتهى.
وقال ابن إدريس
في السرائر : لا يجوز للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، قليلا كان أو كثيرا إلا
بإذنه ، لا مختارا ولا مضطرا. وان اضطر ضرورة يخاف معها على تلف نفسه أخذ من ماله
ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم.
«هذا إذا كان
الوالد ينفق عليه ويقوم بواجب حقه ، لأن نفقة الولد عندنا تجب على الوالد إذا كان
الولد معسرا ، سواء كان بالغا أم غير بالغ ، ويجبر الوالد على ذلك. فاما إذا كان
الولد موسرا فلا تجب نفقته على والده ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، بلا خلاف بيننا.
«فإذا تقرر ذلك
فإن أنفق عليه والا رفعه الى الحاكم ، وأجبره الحاكم على الإنفاق. فان لم يكن حاكم
يجبره على ذلك ، فللولد عند هذه الحال الأخذ من مال والده ، مقدار ما ينفقه على
الاقتصاد ، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.
«والوالد فما
دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة والطعام بالمعروف ،
فليس لوالده ان يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا ، لا لقضاء ديونه ، ولا ليتزوج به ، ولا
ليحج به ، ولا لغير ذلك. فان لم يكن الوالد معسرا وكان مستغنيا
من مال ولده ، فلا يجوز ان يأخذ من ماله شيئا على كل حال ، لا بالمعروف ولا
غيره. لان نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا الا مع الإعسار ، فاما مع الاستغناء
فلا تجب النفقة على ولده».
ثم نقل عن
الشيخ في النهاية : جواز أخذ الوالد لحج الإسلام. ثم قال : الا انه رجع عنه في
الاستبصار. فإنه ـ رحمهالله ـ قال. ثم نقل عبارته المتقدمة في صدر المسألة ، ثم نقل
عنه في الاستبصار في حيزه : أما موثقة سعيد بن يسار الاتية إنشاء الله ، الدالة
على الحج من مال ابنه الصغير ، وانه ينفق من مال ولده. وانه أجاب عن الإنفاق
بالحمل على ما إذا امتنع الولد من القيام به ، وعن الحج بأنه محمول على انه يأخذ
على وجه القرض على نفسه ، إذا كان وجبت عليه حجة الإسلام.
ثم نقل عنه في
الاستبصار أيضا ، بحمل الأخبار الدالة على انه يطأ جارية ابنه ، على ما إذا كان
الابن صغيرا وقومها على نفسه ، أو يكون هو القيم بأمورهم والناظر في أموالهم.
ثم اعترضه في
تجويزه أخذ نفقة الحج قرضا. قال : فان هذا لا يجوز ، لانه لا تجب عليه الاستدانة
ليحج بها ، الا انه لو حج به كانت الحجة مجزية عما وجبت ، واستقر في ذمته. انتهى.
أقول : وأنت
خبير بأن ما ادعاه ابن إدريس هنا ، من ان الشيخ رجع عما ذكره في النهاية ، من جواز
أخذ الوالد للحج في الاستبصار ، واستدل بالعبارة المتقدمة ، لا يخلو من خدش ، فان
من تأمل كلام الاستبصار في هذا المقام ، من أوله الى آخره ، يعلم ان العبارة
المتقدمة ، وان أوهمت ما ذكره ، الا ان آخر كلامه وحكمه بجواز القرض إذا كانت ذمة
الأب مشغولة بالحج ، مخصص للكلام المتقدم.
ولا فرق بين
كلامه في النهاية وكلامه في الاستبصار ، إلا إطلاقه في النهاية «جواز الأخذ للحج
وان لم يستطع قبل ذلك» وتقييده في الاستبصار بما إذا كانت الذمة مشغولة
بالحج ، وأخذه على سبيل القرض. ولهذا نازعه في جواز القرض للحج ايضا. وبهذا
يظهر انه لم يرجع عن أصل المسألة ، كما هو ظاهر كلامه ، وانما رجع عن ذلك الإطلاق
الى هذا التقييد.
ثم ان ما ذكره
في النهاية أيضا ، بالنسبة إلى وطي الأب جارية ابنه ، مطلق بالنسبة إلى الولد
صغيرا كان أو كبيرا ، وظاهر الاستبصار التخصيص بالصغير.
قال ابن إدريس
: وهذا هو الصحيح الذي عليه الإجماع ، فاما إذا كان الولد كبيرا بالغا فلا يجوز
للوالد وطي جاريته إلا باذنه على كل حال.
ثم انه في
السرائر اعترض على الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ أيضا في قوله في آخر كلامه بجواز أخذ
الأم قرضا من مال ولدها مع الاستغناء ، فقال بعد نقل كلام الشيخ رحمهالله المتقدم : وهذا غير واضح ، لانه لا دلالة على ذلك. وقوله
عليهالسلام : «لا يحل مال مرء الا عن طيب نفس منه» . وايضا التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح عقلا وسمعا
، فمن جوزه فقد اثبت حكما يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي. انتهى.
وما ذكره ابن
إدريس هنا محل نظر ، لما سيأتي إنشاء الله تعالى عند نقل الاخبار ، من جواز أخذها
قرضا ، مع تحقيق المسألة.
أقول : والواجب
هنا أو لا نقل الأخبار الواردة في المقام ، ثم الكلام فيها بتوفيق الملك العلام ،
بما ينحل به عنها شبهة الإبهام ، وينجلي عنها غياهب الظلام.
(الأول) : ما
رواه في الكافي والفقيه ، في الصحيح ، عن محمد بن مسلم عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن رجل لابنه مال ، فيحتاج الأب إليه ، قال
: يأكل منه. فأما الأم فلا تأكل منه الا قرضا على نفسها .
(الثاني) : ما
رواه في الكافي عن على بن جعفر عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : سألته
__________________
عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال : لا ، الا ان يضطر إليه فيأكل منه
بالمعروف ، ولا يصلح للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، إلا بإذن والده .
ورواه الحميري في
قرب الاسناد ، عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر ، الا انه قال : لا ، إلا
بإذنه أو يضطر فيأكل بالمعروف أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر .
(الثالث) : ما
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن ابى جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لرجل : أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليهالسلام : ما أحب ان يأخذ من مال ابنه الا ما احتاج اليه مما لا
بد منه ، ان الله عزوجل لا يحب الفساد .
(الرابع) : ما
رواه في الكافي عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل يكون لولده مال ، فأحب أن يأخذ منه ، قال :
فليأخذ. وان كانت امه حية فما أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها .
(الخامس) : ما
رواه في الكافي والتهذيب ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يحتاج الى مال ابنه ، قال : يأكل
منه ما شاء من غير سرف. وقال : في كتاب على عليهالسلام : ان الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ،
والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء ، وله ان يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن
وقع عليها. وذكر ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لرجل : أنت ومالك لأبيك .
ورواه الصدوق
عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى جعفر عليهالسلام في كتاب
__________________
على عليهالسلام : ان لم يكن الابن وقع عليها. ثم قال : وفي خبر آخر :
لا يجوز ان يقع على جارية ابنه إلا بإذنه .
(السادس) : ما
رواه في الكافي والفقيه ، عن الحسين بن ابى العلاء ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال : قوته بغير سرف إذا
اضطر اليه. قال : فقلت له : فقول رسول الله صلىاللهعليهوآله للرجل الذي أتاه فقدم أباه ، فقال له : أنت ومالك لأبيك؟
فقال : انما جاء بأبيه إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله هذا ابى ، وقد ظلمني ميراثي من أمي
، فأخبره الأب انه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن
عند الرجل شيء أو كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يحبس الأب للابن؟!. ورواه الصدوق في كتاب معاني الاخبار
في الحسن .
(السابع) : ما
رواه الشيخ في الموثق عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال : نعم. قلت :
يحج حجة الإسلام وينفق منه؟ قال : نعم ، بالمعروف. ثم قال : نعم ، يحج منه وينفق
منه ، ان مال الولد للوالد ، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه .
(الثامن) : ما
رواه عن الحسين بن علوان ، عن زيد بن على ، عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ قال : انى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ان ابى عمد الى مملوك لي ،
فأعتقه كهيأة المضرة لي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنت ومالك من هبة الله لأبيك ، أنت سهم من كنانته ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ،
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ...) جازت عتاقة أبيك ، يتناول والدك من مالك وبدنك ، وليس
لك ان تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه .
__________________
(التاسع) : ما
رواه أيضا في الصحيح عن ابن سنان ـ والظاهر انه عبد الله ـ قال : سألته ـ يعني أبا عبد
الله عليهالسلام ـ ما ذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال : أما إذا أنفق
عليه ولده بأحسن النفقة ، فليس له ان يأخذ من ماله شيئا. وان كان لوالده جارية
للولد فيها نصيب ، فليس له ان يطأها الا ان يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه.
قال : ويعلن ذلك. قال : وسألته عن الوالد ، أيرزأ من مال ولده شيئا؟ قال : نعم ،
ولا يرزأ الولد من مال والده شيئا إلا بإذنه ، فإن كان لرجل ولد صغار ، لهم جارية
، فأحب أن يفتضها فليقومها على نفسه قيمة ، ثم ليصنع بها ما شاء ، ان شاء وطأ وان
شاء باع .
(العاشر) : ما
رواه ايضا عن إسحاق بن عمار في الموثق ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته عن الوالد ، يحل له من مال ولده إذا
احتاج اليه؟ قال : نعم ، وان كان له جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ويعلن
ذلك ، قال : وإذا كان للرجل جارية فأبوه أملك بها ان يقع عليها ما لم يمسها الابن .
(الحادي عشر) :
ما رواه الصدوق في العيون والعلل ، بسنده عن محمد بن سنان ، ان الرضا عليهالسلام كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله : وعلة تحليل مال
الولد لوالده بغير اذنه ، وليس ذلك للولد ، لان الولد موهوب للوالد في قوله عزوجل «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» مع انه المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا. والمنسوب اليه
والمدعو له ، لقوله عزوجل «ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ». ولقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنت ومالك لأبيك». وليس للوالدة مثل ذلك ، لا تأخذ
من ماله شيئا إلا بإذنه أو بإذن الأب ، ولان الوالد مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ
الام بنفقة ولدها .
__________________
(الثاني عشر) :
ما رواه على بن جعفر في كتابه ، عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يكون لولده الجارية ، أيطأها؟ قال
: ان أحب. وان كان لولده مال ، وأحب ان يأخذ منه فليأخذ. وان كانت الأم حية فلا
أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا .
(الثالث عشر) :
ما في الفقه الرضوي ، حيث قال عليهالسلام : اعلم انه جائز للوالد أن يأخذ من مال ولده بغير اذنه
، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه .
* * *
أقول : ظاهر
كلام الأصحاب ـ في غير مسألتي الحج ووطئ الجارية ـ : الاتفاق على انه لا يجوز
للوالد الأخذ من مال ولده شيئا متى أنفق عليه وقام بما يحتاج اليه الا بإذنه.
قال في المنتهى
: ولا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده البالغ مع الغناء عنه ، ولا مع إنفاق الولد
عليه. بالاتفاق ، لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.
ويدل على ذلك ،
من هذه الاخبار المذكورة : الخبر الثاني. لا سيما برواية الحميري.
والمراد بما
يضطر اليه فيه : هو القوت الواجب على الولد ، كما فسره الخبر السادس.
ويدل على ذلك ـ
ايضا ـ : الخبر الثالث والسادس والتاسع.
وما دلت عليه
هذه الاخبار ، المعتضدة باتفاق كلمة الأصحاب ، هو الموافق للقواعد الشرعية ، من
الآيات القرآنية ، والسنة النبوية ، الدالة على تحريم التصرف في مال الغير إلا
بإذن صاحبه.
__________________
ولهذا ان
الأصحاب أجمعوا على طرح ظاهر هذه الاخبار المخالفة لذلك ، وتأولوها بالحمل على كون
أخذ الوالد للنفقة.
الا أن الاخبار
المذكورة تنبو عن ذلك ، إذ لا فرق حينئذ بين الولد والوالد ، مع ان الروايات
المذكورة دلت على الفرق ، وانه انما يباح الأخذ للوالد خاصة دون الولد.
وكذلك الفرق في
الاخبار المذكورة بين الام والأب حيث منعت الام من الأخذ مع انها واجبة النفقة
أيضا كالأب.
وبالجملة فإن
الحمل المذكور ، وان أمكن إجراؤه في بعض ، الا انه لا يتم في الجميع ، كما عرفت.
وأجاب بعض
الأصحاب ، بان ما تضمن جواز أخذ الأب من مال الولد ، محمول اما على قدر النفقة
الواجبة عليه مع الحاجة ، أو على الأخذ على وجه القرض ، أو على الاستحباب بالنسبة
إلى الولد. وما تضمن منع الولد ، محمول على عدم الحاجة ، أو على الأخذ لغير النفقة
الواجبة ، وكذا ما تضمن منع الام ، لجواز وجود الزوج لها فتجب نفقتها عليه لا على
الولد.
وأنت خبير بما
في ذلك كله من البعد ، الا انه لا مندوحة عن المصير اليه لعدم إمكان الوقوف على
ظواهر هذه الاخبار.
والأظهر عندي
هو : حمل هذه الاخبار ـ وان تعددت ـ على التقية ، لاتفاق الأصحاب على ترك العمل
بها ، مضافا الى خروجها عن مقتضى القواعد الشرعية. وبعد التأويلات التي ذكروها ،
مع إمكان إرجاع بعضها الى ما يوافق القول المشهور.
ويشير الى ما
ذكرناه من الحمل المذكور : الخبر الثالث ، حيث انه عليهالسلام بعد ان نقل الخبر النبوي الدال على الحكم المذكور ، أضرب
عنه تنبيها واشارة الى عدم صحته. والا فكيف ينقله وهو صحيح عنده ، ثم يخالفه ويسمي
ذلك فسادا ،
وان الله لا يحب الفساد.
وقد اشتمل خبر
الحسين بن علوان ـ وهو الخبر الثامن ورجاله من العامة والزيدية ـ على المبالغة
التامة في معنى هذا الخبر ، وأكثر أخبار الجواز انما تدور على هذا الخبر ، مع انك
عرفت من الخبر السادس تأويل الخبر المذكور بما يدفع الاستناد اليه.
واما الكلام في
وطئ جارية الابن ، فقد عرفت من كلام الشيخ في الاستبصار ، التخصيص بالصغير ، مع
تقويم الجارية على نفسه وان أطلق ذلك في النهاية.
وأنت خبير بان
ظاهر الخبر الخامس : جواز وقوعه على جارية ابنه الكبير ، فان قوله عليهالسلام فيه : «ان لم يكن الابن وقع عليها» لا يجري في الصغير.
والخبر التاسع ، ظاهر في جواز وطئه لجارية ولده.
واما الخبر
العاشر فهو مطلق شامل بإطلاقه للولد الصغير والكبير ، وعجزه ظاهر في الابن الكبير.
وكذلك الخبر
الثاني عشر مطلق. ومن ذلك يعلم مستند كلام الشيخ في النهاية ، ويظهر ان اعتراض ابن
إدريس فيما تقدم من كلامه على النهاية ليس في محله.
الا انه يمكن
ان يقال : ان هذه الاخبار ، الظاهرة في جواز وطئ الأب جارية ابنه الكبير بغير إذنه
، مخالفة لمقتضى القواعد الشرعية ، وحينئذ يكون سبيلها سبيل الروايات المتقدمة ،
من وجوب الحمل والتأويل فيها بما قدمناه.
واما الابن
الصغير فالأمر فيه أهون ، لأن ولاية التصرفات في ماله للأب ، والروايات قد دلت على
تصرف الأب في جاريته على الوجه المذكور فيها ، وليس فيها من الخروج عن القواعد ما
في رواية جارية الابن الكبير.
واما مسألة
الحج ، فقد تقدم الكلام فيها في كتاب الحج ، وبينا : ان سبيل الرواية الواردة به ،
سبيل الروايات الدالة على الأخذ من مال الابن مطلقا ، ولا معنى لمنع القول بتلك
الروايات ، مع القول بهذه ، كما صار اليه الشيخ ومن تبعه والله العالم.
تتمة
اتفق الأصحاب
على ان المرأة لا يجوز لها ان تتصدق بشيء من مال زوجها. إلا المأدوم.
قال في المنتهى
: لا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها شيئا قل أو كثر ، إلا المأموم إجماعا ،
فإنه يجوز لها ان تأخذ منه الشيء اليسير وتتصدق به ، ما لم يؤد الى الضرر بالزوج
، أو لم يمنعها بصريح القول ، انتهى.
ويدل على ذلك :
ما رواه في الكافي والتهذيب ، في الموثق ، عن ابن بكير ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ما يحل للمرأة ان تتصدق به من مال زوجها بغير اذنه؟
قال : المأدوم .
واما ما رواه في
التهذيب عن على بن جعفر عليهالسلام انه سأل أخاه موسى عليهالسلام عن المرأة ، لها ان تعطى من بيت زوجها بغير اذنه؟ قال :
لا ، الا ان يحللها . فيجب حمله على الخبر الأول ، حمل المطلق على المقيد ،
كما هو القاعدة المشهورة نصا وفتوى.
ومثل هذا الخبر
الأخير : ما رواه في الفقيه في حديث وصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلى عليهالسلام
__________________
عن حماد بن عمرو ، وانس بن محمد ، عن أبيه جميعا ، عن جعفر بن محمد ، عن
آبائه ـ عليهمالسلام ـ قال : يا على ، ليس على النساء جمعة ـ الى ان قال ـ ولا
تعطى من بيت زوجها شيئا بغير اذنه .
ويحتمل العمل
بظاهر هذين الخبرين ، وحمل الأول على حصول الرضا وان لم يصرح بالاذن.
والى ذلك يميل
كلام صاحب الوسائل ، الا ان شهرة الحكم بين الأصحاب ، بل الاتفاق عليه كما عرفت ،
يوجب المصير إلى التأويل الأول.
قال في الدروس
: والمأدوم : ما يؤتدم به كالملح واللحم. وفي التعدية إلى الخبز والفواكه نظر ،
انتهى.
ولا يجوز للرجل
ـ ايضا ـ ان يأخذ من مال زوجته إلا بإذنها ، للأصل الدال على عصمة مال الغير ،
فأما إذا إباحته أو وهبته ، اقتصر على ما تعلق به ذلك.
وروى الكليني
والشيخ ، في الموثق ، عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ، امرأة دفعت الى زوجها مالا من مالها
ليعمل به ، وقالت له ـ حين دفعت إليه ـ : أنفق منه ، فان حدث بك حدث فما أنفقت منه
لك حلال طيب ، وان حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب. فقال : أعد على يا سعيد
المسألة ، فلما ذهبت أعيد عليه المسألة ، اعترض فيها صاحبها وكان معى حاضرا فأعاد
عليه مثل ذلك ، فلما فرغ ، أشار بإصبعه الى صاحب المسألة ، وقال : يا هذا ، ان كنت
تعلم انها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب ـ ثلاث
مرات ـ ثم قال : يقول الله جل اسمه في كتابه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» .
__________________
وروى في
التهذيب في الموثق ، عن سماعة قال : سألته عن قول الله عزوجل «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» قال : يعنى بذلك أموالهن التي في أيديهن مما يملكن .
وعن هشام وغيره
في الصحيح ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل تدفع إليه امرأته المال فتقول : اعمل به واصنع
به ما شئت. إله ان يشترى الجارية يطأها؟ قال : لا ، ليس له ذلك .
وعن الحسين بن
المنذر قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : دفعت الى امرأتي مالا اعمل به ، فاشترى من مالها
الجارية أطأها؟ قال : فقال : أرادت أن تقر عينك وتسخن عينها ؟! ورواه في الفقيه عن حفص بن البختري عن الحسين المنذر
..
أقول : في هذين
الخبرين ما يشير الى تقييد المطلق بما دلت عليه قرائن الحال ، فإن الاذن في
الخبرين ، ولا سيما الأول ، وان كان مطلقا في جميع وجوه الانتفاع ، الا انه لما
كان المعلوم من المرأة الغيرة وعدم الرضا بامرأة عليها ، جارية أو غيرها منعه عليهالسلام من ذلك.
وظاهر الخبرين
المذكورين : تحريم الشراء ، وقوفا على ظاهر النهي ، في الأول والتعليل في الثاني.
وظاهر كلام من
وقفت عليه : الكراهة. صرح بذلك في القواعد ، والمحقق ، والشيخ على في الشرح.
فقال ـ بعد ذكر
المصنف ذلك ـ : لان فيه مقابلة نفعها بإضرارها بها. ولقول الصادق عليهالسلام وقد سأله الحسين بن المنذر. ثم ساق الرواية كما قدمناه.
وقال في الدروس
: والزوج يحرم عليه تناول شيء من مالها ، الا برضاها ،
__________________
ولو ملكته مالا كره له التسري به ، ويحتمل كراهة جعله صداقا لضرة
إلا بإذنها. انتهى.
وأنت خبير بما
فيه ـ اما أولا ـ فلما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين على التحريم. و ـ اما
ثانيا ـ فلاتفاقهم على تحريم تصرف الزوج في مال زوجته إلا بإذنها. ومن المعلوم
المقطوع ، بالنظر الى قرائن الأحوال ، كما أشار إليه عليهالسلام في الخبرين المذكورين ، عدم الاذن في هذا التصرف الخاص
فان حاصل كلامه عليهالسلام : ان هذا التصرف مستثنى من عموم اللفظ الدال على
إباحتها له التصرف في مالها.
__________________
المسألة الخامسة
اختلف الأصحاب
في جواز التناول لمن مر بالزرع أو الشجر اتفاقا ، هل يجوز له الأكل منه أم لا؟
فالمشهور ،
الجواز ، بل ادعى عليه في الخلاف الإجماع.
قال الشيخ في
النهاية : إذا مر الإنسان بالثمرة ، جاز له ان يأكل منها بقدر كفايته ، ولا يحمل
منها شيئا على حال.
وكذا قال على
بن بابويه وابنه في المقنع. وبذلك قال ابن البراج وأبو الصلاح.
وقال ابن إدريس
: إذا مر الإنسان بالثمرة جاز له ان يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل منها شيئا
على حال ، من غير قصد إلى الثمرة للأكل ، بل كان مجتازا في حاجة ، ثم مر بالثمار ،
سواء كان أكله منها لأجل الضرورة أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا ، وأجمعوا
عليه. لأن الاخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منهم منعقد. ولا يعتد بخبر شاذ ، أو
خلاف من لا يعرف اسمه ونسبه ، لان الحق مع غيره.
ونقل عن الشيخ
ـ في المسائل الحائرية ـ : تخصيص الجواز بالنخل.
والى المنع مال
جملة من المتأخرين ، منهم العلامة في المختلف. وفي القواعد جعل المنع أحوط.
وبالمنع صرح
ولده «فخر المحققين» في الشرح على ما نقله عنه بعض مشايخنا المعاصرين. وكذا المحقق
الشيخ على في شرحه ، قال : والحق انه لا يجوز. تمسكا بالدلائل القاطعة على تحريم
مال المسلم الا عن طيب نفسه منه ، سوى بيوت من تضمنته الآية الأكل من بيوتهم.
والقائل : الشيخ ، استنادا الى بعض الاخبار التي لا تنهض معارضتها لدلائل التحريم.
ونقل في
المسالك القول بالمنع عن المرتضى في المسائل الصيداوية.
واختلف كلام
المحقق هنا في الشرائع ، ففي كتاب البيع ، جزم بالجواز من غير نقل خلاف. وفي كتاب
الأطعمة ، تردد في الجواز.
وكذلك كلام
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فان ظاهره في كتاب البيع الميل الى الجواز ، حيث
انه نقل عن العلامة حمل اخبار الجواز على ما إذا علم بشاهد الحال الإباحة. ثم قال
: وهو بعيد. ثم نقل عن الشيخ الجمع بين الاخبار بحمل اخبار المنع على الكراهة أو
على النهى عن الحمل ، ثم قال : وهو جمع حسن. هذا كلامه ـ رحمهالله ـ هنا.
وقال في كتاب
الأطعمة ـ بعد ذكر المصنف المسألة ـ : وقد اختلف الأصحاب فيه بسبب اختلاف الرواية
وبالجواز قال الأكثر ، وبه روايتان مرسلتان لا تقاومان ما دل عليه الدليل عموما ،
من تحريم تناول مال الغير بغير اذنه ، فالمنع لا يحتاج إلى رواية تخصه ، وما ورد
فيه فهو مؤكد ، مع انه من الصحيح. انتهى. وهو كما ترى ظاهر في اختياره المنع.
استدل القائلون
بالمنع بصحيحة الحسن بن يقطين الاتية ، واعتضادها بالقرآن الكريم المتضمن للنهى عن
أكل مال بغير تراض ، وبقبح التصرف في مال الغير ، وباشتمالها على الحظر وهو مقدم
على ما تضمن الإباحة عند التعارض ، لان دفع
الضرر اولى من جلب النفع. وحملوا الأخبار المنافية على ما تقدم في كلام
المسالك نقلا عن العلامة.
واحتج المجوزون
بمرسلة ابن ابى عمير ، ورواية محمد بن مروان ، وقد تقدم نقل جمع الشيخ بين
الاخبار.
* * *
أقول : والواجب
هنا أولا نقل ما وصل الى من الاخبار الواردة عنهم ـ عليهمالسلام ـ ثم الكلام فيها بما يقتضيه المقام.
فمنها : ما
رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا بأس بالرجل يمر على الثمرة ويأكل منها ولا
يفسد ، قد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ان تبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارة ، قال : وكان
إذا بلغ نخلا أمر بالحيطان فخرقت (فخربت) لمكان المارة . ورواه احمد بن ابى عبد الله البرقي في المحاسن عن أبيه
عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان مثله ..
وعن ابى الربيع
عن ابى عبد الله عليهالسلام نحوه الا انه قال : ولا يفسد ولا يحمل .
وروى في الفقيه
مرسلا ، قال : قال الصادق عليهالسلام : من مر ببساتين فلا بأس ان يأكل من ثمارها ولا يحمل
منها شيئا .
وما رواه في
التهذيب بطرق ثلاثة ، عن ابى داود عن بعض أصحابنا عن محمد بن مروان ، قال : قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : أمر بالثمرة فآكل منها؟ قال : كل ولا تحمل. قلت :
جعلت فداك ، ان التجار قد اشتروها ونقدوا أموالهم ، قال :
__________________
اشتروا ما ليس لهم كذا في سند من الأسانيد الثلاثة المذكورة. وفي سند آخر «قلت
: فإنهم اشتروها؟ قال : كل ولا تحمل».
وعن يونس عن
بعض رجاله عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يمر بالبستان وقد حيط عليه أو
لم يحط عليه ، هل يجوز ان يأكل من ثمرة؟ وليس يحمله على الأكل من ثمره الا الشهوة
، وله ما يغنيه من الأكل من ثمره ، وهل له ان يأكل من جوع؟ قال : لا بأس ان يأكل
ولا يحمله ولا يفسده .
وعن ابن ابى
عمير عن بعض أصحابنا ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يمر بالنخل والثمرة ، فيجوز له ان
يأكل منها من غير اذن صاحبها ، من ضرورة أو غيرها؟ قال : لا بأس .
وما رواه في
الكافي عن السكوني ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : قال النبي صلىاللهعليهوآله فيمن سرق الثمار في كمه ، فما أكل منه فلا اثم عليه ،
وما حمل فيغرمها ويغرم قيمته مرتين .
ورواه الشيخ
ايضا. وما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليهالسلام ، قال : سألته عن الرجل يمر على ثمرة فيأكل منها ، قال
: نعم ، قد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله ان تستر الحيطان برفع بنائها .
وروى الصدق في
كتابه «إكمال الدين» بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي ، فيما ورد عليه من محمد بن
عثمان العمرى ، في جواب مسائله عن صاحب الزمان عليهالسلام وعجل الله تعالى فرجه ، قال : أما ما سألته من أمر
الثمار من أموالنا يمر به
__________________
المار فيتناول منه ويأكل ، هل يحل له ذلك؟ فإنه يحل له أكله ، ويحرم عليه
حمله ورواه الطبرسي في الاحتجاج عن ابى الحسن محمد بن جعفر مثله ..
وروى في
مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن على بن محمد ـ
عليهماالسلام ـ ، من مسائل داود الصرمي ، قال : سألته عن رجل دخل
بستانا ، أيأكل من ثمرها من غير علم صاحب البستان؟ قال : نعم .
* * *
هذا ما وقفت
عليه من الاخبار الدالة على القول المشهور ، وهي ظاهرة الدلالة على ذلك تمام
الظهور ، وقد تقدم ـ ايضا ـ من برهان المسألة الثانية ، مرسلة
__________________
يونس الدالة على ما كان يفعله الصادق عليهالسلام في ضيعته «عين زياد» .
واما ما يدل من
الاخبار على القول الأخر ، فمنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن على بن يقطين ، قال
: سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر
والمباطخ وغير ذلك من الثمر ، أيحل له ان يتناول منه شيئا ، ويأكل بغير اذن صاحبه؟
وكيف حاله ان نهاه صاحب الثمرة ، أو أمره القيم فليس له ، وكم الحد الذي يسعه ان
يتناول منه؟ قال : لا يحل له ان يأخذ منه شيئا .
وعن مروك بن
عبيد عن بعض أصحابنا عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له : الرجل يمر على قراح الزرع ويأخذ منه
السنبلة. قال : لا. قلت : أى شيء السنبلة!. قال : لو كان كل من يمر به يأخذ منه
سنبلة كان لا يبقى شيء .
أقول : الظاهر
ان هذا الخبر لا يدخل في سياق هذه الاخبار ، فلا معنى لإجرائه في هذا المضمار. فان
موضوع المسألة هو الأكل من الثمار في مكانه من غير ان يحمله. ومن الظاهر ان
السنبلة ليست من المأكول على تلك الحال. وان الظاهر انما هو ارادة حمله معه ، لا
إرادة أكله. والمنع في هذه الصورة مما لا خلاف فيه.
وعن محمد
الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن البستان ان يكون عليه المملوك أو أجير
ليس له من البستان شيء. فيتناول الرجل من بستانه؟ فقال : ان كان بهذه المنزلة لا
يملك من البستان شيئا ، فما أحب ان يأخذ منه شيئا. وروى في قرب الاسناد عن مسعدة بن
زياد ، عن جعفر بن محمد عليهالسلام انه سئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو حلال
لهم ، فقال : لا يأكل أحد الا من ضرورة ، ولا
__________________
يفسد ، إذا كان عليها فناء محاط ، ومن أجل الضرورة نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله ان يبنى على حدائق النخل والثمار بناء لكي لا يأكل منها
أحد .
* * *
وأنت خبير بأن
هذه الاخبار تقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة ، الا انه مع عدم القول بها فلا بد
لها من محمل تحمل عليه.
وقد تقدم حمل
الشيخ لها على الكراهة ، أو الحمل. وقد تقدم ايضا حمل العلامة للأخبار الدالة على
الجواز على ما إذا علم ذلك بشاهد الحال. وهو غير بعيد ، بقرينة روايات هدم
الحيطان.
وجمع في الوافي
بين الاخبار بأنه يمكن تخصيص الجواز بالبلاد التي تعرف من أرباب بساتينها وزروعها
عدم المضايقة في مثله لوفورها عندهم. وهو وان كان لا يخلو عن بعد ، الا انه في
مقام الجمع غير بعيد.
وربما أشعر
ظاهر رواية قرب الاسناد بالجمع بين الاخبار بالضرورة وعدمها حيث انها أشعرت بأنه صلىاللهعليهوآله انما نهى عن الحيطان من أجلها ، الا انه يدفعه ما تقدم
من الاخبار الدالة على الجواز من غير ضرورة.
وبالجملة ، فإن
القول المشهور ، وان كان لا يخلو من قوة ، لكثرة الأخبار الدالة عليه ، الا ان
المسألة غير خالية عن شوب الاشكال ، لعدم المحمل الظاهر لاخبار المنع.
ولا يحضرني
الان مذهب العامة في هذه المسألة لعرض هذه الاخبار عليه فيؤخذ منها بما يخالفه
ويصار اليه.
* * *
وكيف كان ، فان
الظاهر من النصوص وكلام الأصحاب في المقام انه يشترط في الجواز شروط ثلاثة :
__________________
(أحدها) : ان
يمر بالثمر ، بمعنى ان يكون المرور اتفاقيا. وعلى هذا فلو قصدها ابتداء لم يجز له
الأكل ، اقتصارا في الرخصة المخالفة للأصل على موضع اليقين. وهو اتفاق النص
والفتوى.
والمراد
بالمرور هنا : ان يكون الطريق قريبة منها ، بحيث يصدق ـ عرفا ـ انه مر بها ، لا ان
يكون الطريق على نفس الشجرة أو ملاصقة للبستان.
و (ثانيها) :
ان لا يفسد. والظاهر ان المراد بالإفساد : هدم حائط ، أو كسر غصن ، أو نحو ذلك.
وزاد بعض
الأصحاب : ان لا يأكل منها شيئا كثيرا ، بحيث يورث فيها أثرا بينا يصدق معه
الإفساد عرفا. قال : ويختلف ذلك باختلاف كثرة الثمرة وقلتها ، وكثرة المارة
وقلتهم. وهو غير بعيد ايضا. وان كان المتبادر الأول.
و (ثالثها) :
ان لا يحمل منها شيئا ، بل يأكل في موضعه. وقد دل خبر السكوني المتقدم على انه
يغرم ما حمله ، أو يغرم قيمته. والظاهر ان المراد بقوله «مرتين» ان الغرم يتعدد.
وزاد بعض
الأصحاب (رابعا) وهو : عدم علم الكراهة.
و (خامسا) هو :
عدم ظنها. واستحسنه في المسالك.
ويدفعه : قوله
ـ في رواية محمد بن مروان : «قد اشتروا ما ليس لهم» فإنه يشعر بأن هذا حق للمارة
ليس لهم المنع منه.
و (سادسا) هو :
كون الثمرة على الشجرة.
أقول : ولا بأس
به ، فإنه هو الظاهر من الاخبار.
المسألة السادسة
في أحكام الأرضين
وهي ـ على ما
ذكره الأصحاب ، رضوان الله عليهم ، وصرحت به الاخبار عنهم ـ عليهمالسلام ـ : على أربعة أقسام :
الأول ـ المفتوحة
عنوة.
الثاني ـ أرض
أسلم عليها أهلها طوعا.
الثالث ـ ارض
الصلح.
الرابع ـ أرض
الأنفال.
فالبحث هنا يقع
في مقامات أربعة :
الأول
: الأرض
المفتوحة عنوة ، اى بالقهر والغلبة والسيف.
وحكمها ـ على
ما صرح به غير واحد من الأصحاب ، وبه صرح أيضا أخبار الباب ـ انها للمسلمين قاطبة
، من وجد ومن سيوجد الى يوم القيامة ، ليس للغانمين منها الا كغيرهم من المسلمين.
الا ان جملة من
الأصحاب صرحوا بأن ذلك بعد إخراج خمسها لذوي الخمس.
وربما خصه
بعضهم بزمان وجود الامام عليهالسلام ، قال : واما في الغيبة ففي الاخبار
ما يدل على انه لا خمس فيها.
قال في المنتهى
: الأرضون أربعة أقسام ، أحدها : ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا بالسيف. فإنها تكون
للمسلمين قاطبة ، فلا تختص بها المقاتلة ، بل يشاركهم غير المقاتلة من المسلمين.
وكما لا يختصون بها كذلك لا يفضلون ، بل هي للمسلمين قاطبة. وذهب إليه علماؤنا
اجمع.
وقال في
المبسوط ـ بعد كلام في المقام ، وذكر مكة وارض السواد ونحوهما ـ : والذي يقتضيه
المذهب ، ان هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة ، يكون خمسها لأهل الخمس
، وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة ، الغانمون وغير الغانمين في ذلك سواء.
«ويكون للإمام
النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء ، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين
وما ينوبهم من سد الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح ،
وليس للغانمين في هذه الأرض خصوصا شيء ، بل هم والمسلمون فيه سواء.
«ولا يصح بيع
شيء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا
إجارته ولا إرثه ، ولا يصح ان تبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من
أنواع التصرفات التي تتبع الملك ، ومتى فعل شيء من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق
على الأصل.
«وعلى الرواية
التي رواها أصحابنا «ان كل عسكر أو فرقة غزت بغير اذن الامام فغنمت تكون الغنيمة
للإمام خاصة» هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول الا ما فتح في أيام أمير
المؤمنين عليهالسلام ان صح شيء من ذلك ، يكون للإمام خاصة ، ويكون من جملة
الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره انتهى.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد الحلبي ،
قال : سئل الصادق عليهالسلام عن السواد ما منزلته؟ فقال : هو لجميع
المسلمين ، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يخلق
بعد ، فقلت : الشراء من الدهاقين؟ قال : لا يصلح الا ان يشترى منهم على ان يصيرها
للمسلمين ، فإذا شاء ولى الأمر أن يأخذها أخذها. قلت : فإن أخذها منه قال : يرد
عليه رأس ماله ، وله ما أكل من غلتها بما عمل .
وعن محمد بن
شريح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شراء الأرض من ارض الخراج فكرهه ، وقال : إنما أرض
الخراج للمسلمين. فقالوا له : فإنه يشتريها الرجل وعليه خراجها. فقال : لا بأس ،
الا ان يستحيي من عيب ذلك .
وما رواه في
التهذيب والفقيه عن ابى الربيع الشامي ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال لا تشتر من ارض السواد شيئا الا من كانت له ذمة ،
فإنما هو فيء للمسلمين .
وما رواه في
التهذيب عن صفوان في الصحيح ، قال : حدثني أبو بردة بن رجاء قال : قلت لأبي عبد
الله عليهالسلام : كيف ترى في شراء ارض الخراج؟ قال : ومن يبيع ذلك ،
وهي أرض المسلمين. قال : قلت : يبيعها الذي هي في يده. قال : ويصنع بخراج المسلمين
ما ذا؟ ثم قال : لا بأس ان يشترى حقه منها ويحول حق المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى
عليها واملى بخراجهم منه .
وما رواه الشيخ
في الموثق عن حريز عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : رفع الى أمير المؤمنين عليهالسلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج. فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : له ما لنا وعليه ما علينا ، مسلما كان أو كافرا ، له
ما لأهل الله وعليه ما عليهم .
__________________
وما رواه في
الكافي عن صفوان بن يحيى واحمد بن محمد بن ابى نصر جميعا ، قالا : ذكرنا له الكوفة
وما وضع عليها من الخراج ، وما سار فيها أهل بيته. فقال : من أسلم طوعا تركت أرضه
في يده وأخذ منه العشر ، مما سقى بالسماء والأنهار ، ونصف العشر مما كان بالرشا ،
فيما عمروه منها. وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن يعمره ، وكان
للمسلمين. وعلى المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر. وليس في أقل من خمسة أوسق شيء
من الزكاة. وما أخذ بالسيف ، فذلك الى الامام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله
صلىاللهعليهوآله بخيبر ، قبل سوادها وبياضها ، يعني أرضها ونخلها.
والناس يقولون : لا تصلح قبالة الأرض والنخل ، وقد قبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيبر. قال : وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف
العشر في حصصهم. ثم قال : ان أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر.
وان مكة دخلها رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ عنوة ، وكانوا أسراء في يده فأعتقهم ، وقال : اذهبوا
فأنتم الطلقاء .
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابى نصر ، قال : ذكرت لأبي الحسن الرضا ـ عليهالسلام ـ الخراج وما سار به أهل بيته. فقال : العشر ونصف العشر
على من أسلم طوعا ، تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها.
وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره ، وكان للمسلمين وليس فيما كان أقل
من خمسة أو ساق شيء. وما أخذ بالسيف فذلك الى الامام يقبله بالذي يرى ، كما صنع
رسول الله صلىاللهعليهوآله بخيبر ، قبل أرضها ونخلها ، والناس يقولون : لا تصلح
قبالة الأرض والنخل ، إذا كان البياض أكثر من السواد. وقد قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر .
وفي مرسلة حماد
بن عيسى الطويلة عن العبد الصالح ابى الحسن الأول عليهالسلام
__________________
والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في أيدي من يعمرها
ويحييها ، ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم ، من حق الخراج : النصف
أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم. ثم ذكر إخراج العشر
ونصف العشر من الخارج .
* * *
وتنقيح البحث
في المقام يقع في موارد :
الأول : ظاهر عبارة المبسوط المتقدمة هو : المنع من التصرف في
هذه الأراضي بجميع وجوه التصرفات ، مطلقا في حضور الامام وغيبته. ونحوه صرح في
المنتهى. وهو ظاهر عبارات أكثر الأصحاب في هذا الباب.
وظاهر كلام
الدروس : التخصيص بحال حضور الامام. قال ـ رحمهالله ـ ولا يجوز التصرف في المفتوح عنوة ، بإذن الإمام عليهالسلام سواء كان بالوقف أو البيع أو غيرهما. نعم في حال الغيبة
ينفد ذلك وأطلق في المبسوط : ان التصرف فيها لا ينفد. انتهى.
والى ذلك يميل
كلام المحقق الثاني في شرح القواعد ، فإنه ـ بعد ذكر عبارة المصنف الدالة بإطلاقها
على ما ذكره في المبسوط ـ قال ، ما صورته : هذا في حال ظهور الامام عليهالسلام اما في حال الغيبة فينفذ ذلك كله ، كما صرح به في
الدروس وصرح به غيره. انتهى.
واعترض ذلك
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد بأن هذه الأراضي ملك للغير ، والبيع والوقف
موقوفان على كونها ملكا للبائع والواقف. قال : بل تحصل الشبهة في جواز هذه حال
الحضور ، لبعد حصول الاذن بذلك منه عليهالسلام الا ان يقتضي المصالح العامة ذلك ، بان يجعل قطعة منها
مسجدا لهم ، أو حصل الاحتياج الى ثمنها. انتهى.
__________________
وظاهر كلام
جملة من الأصحاب ، ومنهم ابن إدريس ، ان جواز التصرف بالبيع ونحوه انما هو فيما
يملكه البائع من الآثار التي في تلك الأرض.
قال ابن إدريس
ـ بعد نقله القول بالمنع من التصرف ، ما صورته ـ : ان قيل : نراكم تبيعون وتشترون
وتقفون ارض العراق وقد أخذت عنوة! قلنا : انا نبيع ونقف تصرفنا فيها وتحجيرنا
وبنياننا ، فاما نفس الأرض فلا يجوز ذلك فيها.
وبذلك ايضا صرح
في المسالك ، فقال ـ بعد قول المصنف «ولا يصح بيعها ولا وقفها» ـ : انه لا يصح شيء
من ذلك في رقبتها مستقلة ، اما فعل ذلك لها تبعا لآثار التصرف ، من بناء وغرس وزرع
ونحوها ، فجائز على الأقوى. فإذا باعها بايع مع شيء من هذه الآثار دخلت في البيع
على سبيل التبع ، وكذا الوقف وغيره ، ويستمر ذلك ما دام شيء من الآثار باقيا ،
فإذا ذهبت اجمع انقطع حق المشترى والموقوف عليه وغيرهما عنها. هكذا ذكره جمع من
المتأخرين وعليه العمل. انتهى.
أقول : وتحقيق
الكلام في المقام ان يقال : لا ريب ان هذه البلاد المفتوحة عنوة ، منها ما هو عامر
وقت الفتح ، ومنها ما هو بائر. والأشهر الأظهر ان الحكم مخصوص بالعامر ، دون القسم
الأخر فإنه للإمام ، نظرا الى عموم الأخبار الدالة على اختصاص موات الأرضين به ـ عليهالسلام ـ وانها من جملة الأنفال كما تقدم تحقيقه في كتاب الخمس.
* * *
بقي الكلام في
أنها وقت الفتح كانت تلك الاملاك ، من دور ونخيل وبساتين ، في أيدي ملاك لها يومئذ؟.
وظاهر الاخبار
وكلام الأصحاب الدال على ان ما كان عامرا وقت الفتح فهو للمسلمين كافة ، شامل
للأرض وما فيها من تلك الآثار يومئذ ، وان مرجع ذلك الى الامام ـ عليهالسلام ـ يقبله ويصرف حاصله في مصالح المسلمين. وحينئذ فليس
لأولئك الملاك قبل الفتح التصرف إلا بإذن الإمام عليهالسلام والاستيجار منه عليهالسلام
فقول ابن إدريس ومن تبعه : انا نبيع املاكنا وآثارنا وبنياننا ، انما يتم
لو كان الذي للمسلمين وقت الفتح انما هو رقبة الأرض العامرة خاصة ، واما الأملاك
فإنها على هذا ملك لمن في يده ، وهو خلاف الظاهر من الاخبار ومن كلامهم ، كما
عرفت.
وبالجملة ،
فإني لا اعرف لكلامهم وجه استقامة ، الا ان يخص ملك المسلمين وقت الفتح برقبة
الأرض دون ما فيها. وفيه : ما عرفت. أو انه يجدد أحد بعد الفتح بناء أو غرسا أو
نحو ذلك فالبيع والشراء أو الوقف ونحوها انما هو فيما كان كذلك وهذا ايضا غير
مستقيم ، لان هذه الأرض حينئذ انما هي من البائرة وقت الفتح التي قد عرفت انها من
الأنفال وهي خارجة عن محل البحث.
نعم يمكن ان
يقال : ان هذه الاملاك والأراضي بعد الفتح إذا تقبلها أحد من الامام وعمرها وبنى
فيها وغرس وزرع وتصرف بهذه التصرفات ونحوها ، مع دفعه كل سنة وجه القبالة له عليهالسلام أو نائبه ، فإنه يجوز البيع والشراء والوقف في تلك
الاملاك المحدثة ، مع القيام بما عليها من وجه القبالة ، دون رقبة الأرض.
والى ذلك يشير
خبر بردة بن رجاء المتقدم ، ورواية محمد بن شريح المتقدمة أيضا ، ونحوهما غيرهما ،
وظاهر هذه الاخبار وقوع البيع والشراء في هذه الأراضي في وقتهم ـ عليهمالسلام ـ وان لم يكن بإذنهم. ومنه يظهر قوة ما ذهب اليه ابن
إدريس ومن تبعه. الا ان هذا لا يجري في بناء المساجد.
الا ان يقال :
انها من المصالح العامة للمسلمين التي هي أحد مصارف هذه الأراضي ، فيجوز بناؤها
لذلك ، واما وقف أرضها على المسجدية ، كما هو ظاهر كلام الأصحاب في بحث المساجد ،
فلا يتصور هنا. لأن الأراضي غير مملوكة للواقف وهو شرط صحة الوقف ، إلا انك قد
عرفت في بحث المساجد من كتاب الصلاة : انه لا دليل على ما ذكروه من اشتراط الوقفية
في أرض المسجد ، فلا اشكال.
وعلى ما حققناه
فيجب تقييد كلام الشيخ واتباعه بالمنع من التصرف في
الأرض المفتوحة عنوة ، بما ذكره ابن إدريس ومن تبعه من تخصيص ذلك برقبة
الأرض والاملاك الموجودة فيها حال الفتح ، دون ما يحدث فيها من العمارات والزراعات
والغرس ونحو ذلك من المتقبلين لها كما ذكرناه ، ويخص ايضا كلام ابن إدريس بذلك ،
فان ظاهر إطلاق كلامه شمول ما ذكره للعمارات الموجودة يوم الفتح. وقد عرفت انها
للمسلمين قاطبة ، فلا يجرى فيها ما ذكره. بل يجب تخصيصه بما ذكرناه.
* * *
والتحقيق عندي
في هذا المقام ، على ما ادى اليه فهمي القاصر من اخبارهم ـ عليهمالسلام ـ وان كان خلاف ما عليه علماؤنا الأعلام ، هو : انه مع
وجود الامام عليهالسلام أو نائبه وتمكنهما من القيام بالأحكام الشرعية ، فالمرجع
إليهما في ذلك ولا يجوز التصرف بشيء من أنواع التصرفات إلا بإذن أحدهما.
واما مع عدم
ذلك فظاهر كلمة الأصحاب : الرجوع الى الجائر المتولي لأخذ الخراج من تلك الأراضي ،
كما تقدم ذكره في مسألة حل الخراج ، فان ظاهرهم : وجوب الرجوع اليه وعدم جواز
التصرف إلا باذنه ، وان أمكن الرجوع الى النائب في الاستيذان. وعندي فيه نظر ،
لعدم الدليل عليه ، بل وجود الدليل على خلافه كما ستعرف إنشاء الله تعالى.
واحتمال التصرف
فيها للشيعة مطلقا ، والحال هذه ، لا يخلو من قوة. لأنها وان كانت منوطة بنظر
الامام عليهالسلام كما هو مدلول خبري أحمد بن محمد بن ابى نصر المتقدمتين
، وكذا رواية حماد بن عيسى ، مع وجوده وتمكنه ، الا انه مع عدم ذلك لا يبعد سقوط
الحكم وجواز التصرف ، وليس الرجوع الى حاكم الجور ـ بعد تعذر الرجوع اليه ـ ع ـ كما
عليه ظاهر الأصحاب ـ بأولى من الرجوع الى المسلمين يتصرفون كيف شاؤا وأرادوا ، لا
سيما مع استلزام ما ذكروه المعاونة على الإثم والعدوان ، وتقوية الباطل وتشييد
معالمه ، للنهى عنه كتابا وسنة.
وغاية ما يدل
عليه الاخبار التي استندوا إليها فيما ذكروه من الأحكام ، هو : انه إذا استولى
الجائر على تلك الأراضي جاز الأخذ منه والشراء ونحو ذلك ، ولا دلالة في شيء منها
على المنع من التصرف إلا بإذنه كما ادعوه
ويدل على ما
ذكرناه ـ أولا ـ الأخبار الدالة على ان الأرض كلها لهم عليهمالسلام وان شيعتهم في سعة ورخصة من التصرف فيها في زمن عدم
تمكنهم.
فمن ذلك صحيحة
أبي خالد الكابلي ، عن ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : وجدنا في كتاب على ـ عليهالسلام ـ «إِنَّ الْأَرْضَ
لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» انا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ، ونحن المتقون
، والأرض كلها لنا ، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها الى الامام
من أهل بيتي ، وله ما أكل منها.
فان تركها
وأخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحق بها من الذي
تركها ، يؤدى خراجها الى الامام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من
أهل بيتي بالسيف ، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها ، لما حواها رسول الله صلىاللهعليهوآله ومنعها ، الا ما كان في أيدي شيعتنا ، فإنه يقاطعهم على
ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم .
وفي صحيحة عمر
بن يزيد المتضمنة لحمل مسمع بن عبد الملك الى الصادق عليهالسلام مالا من الخمس ورده عليهالسلام له عليه وإباحته له ، ما صورته : يا أبا سيار ، ان
الأرض كلها لنا ، فما اخرج الله منها من شيء فهو لنا ـ الى ان قال ـ : يا أبا
سيار قد طيبناه لك وحللناك منه. فضم إليك مالك ، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض
فهم محللون ومحلل لهم ذلك الى ان يقوم قائمنا فنجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم ،
فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم
__________________
منها صغرة .
وقد تقدمت جملة
من الاخبار الدالة على ان الأرض كلها لهم ـ عليهمالسلام ـ في كتاب الخمس.
لا يقال : انه
يجب تخصيص هذه الاخبار بالأراضي الموات لمعلومية ملك الناس لما في أيديهم ، وبيعه
وشراؤه وتوارثه ونحو ذلك.
لأنا نقول : لا
منافاة بين ما دلت عليه هذه الاخبار من كونها كملا لهم ـ عليهمالسلام ـ وبين ما ذكره ، لان تملكهم على حسب ملك الله ، فإنه
هو المالك الحقيقي ، وملكهم متفرع على ملكه سبحانه ، كما يشير اليه بعض الاخبار
المتقدمة في الموضع المشار اليه ، من قول ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ ، قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة ، فما كان لادم
فهو لرسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وما كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد صلىاللهعليهوآله .
والى ذلك يشير
حكمهم ـ عليهمالسلام ـ بأن ما في أيدي مخالفيهم من الأراضي غصب محرم عليهم
التصرف فيه .
بل ورد في بعض
الاخبار تحريم مشيهم على الأرض ، حيث انها لهم ـ عليهمالسلام ـ وانه بعد خروج القائم ـ عجل الله فرجه الشريف ـ يخرجهم
من الأرض ويجعلها دونهم ، وان ما في أيدي الشيعة الان من الاملاك قد احلوهم به ،
فتصرفهم وتملكهم انما هو من حيث التحليل لهم ، وانه بعد خروج قائمهم يأخذ الطسق منهم
ويقرهم على ما في أيديهم ولا يخرجها من أيديهم ، وحينئذ فلا منافاة
__________________
بحمد الله سبحانه.
ومما ذكرناه
ثبت جواز تصرفهم في هذه الأراضي التي هي محل البحث لدخولها تحت عموم هذه الاخبار ،
ويخص ما ورد من التوقف على اذن الامام بزمان وجوده وبسط يده ، أو وجود نائبه كذلك
، جمعا بين الأدلة.
وثانيا :
الأخبار التي قدمناها ، مثل موثقة حريز ، ورواية محمد بن شريح ، ورواية أبي بردة بن رجاء ونحوها رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن الصادق عليهالسلام في حديث ، قال : وسألته عن رجل اشترى أرضا من ارض
الخراج فبنى بها أو لم يبن ، غير ان أناسا من أهل الذمة نزلوها ، له ان يأخذ منهم
اجرة البيوت ، إذا أدوا جزية رؤسهم؟ قال : يشارطهم. فما أخذه بعد الشرط فهو حلال .
فان ظاهر هذه
الاخبار ـ كما ترى باعتبار ضم بعضها الى بعض ـ هو : جواز البيع والشراء من تلك
الأراضي مع قيام المشترى بما عليها من الخراج ، وان لم يكن البيع بإذنهم ـ عليهمالسلام.
وحمل ذلك على
كون البيع أولا وبالذات انما تعلق بملك البائع وآثاره التي في تلك الأرض ، وبيع
الأرض انما وقع ثانيا وبالعرض ، كما تقدم نقله عن جملة من الأصحاب ، لا إشعار في
تلك الاخبار به ، كما لا يخفى على من راجعها وتأملها.
واما قوله ـ في
رواية أبي بردة ـ : «لا بأس ان يشترى حقه» فيمكن حمله على ـ
__________________
الحق الذي هو بمعنى أولوية التصرف فيها حيث سبق إليها وملكها بذلك.
ويحمل ظاهر
المنع ـ الذي أشعرت به تلك الاخبار من حيث كونها فيئا للمسلمين ـ على الشراء على
وجه يتملكه بذلك ، من غير وجوب دفع حق المسلمين منها ، وهو خراج الأرض المذكورة ،
كما ينادى به سياقها.
وعلى ذلك يحمل
إطلاق رواية أبي الربيع الشامي .
واما ما تضمنه صحيح
الحلبي من «جواز الشراء من الدهاقين وانه ان شاء ولى الأمر ان
يأخذها».
فهو محمول على
وجود الامام عليهالسلام وتمكنه.
ويعضد ذلك ،
الأخبار الدالة على ان لهم من الحق منها ما هو أزيد من ذلك ، وانهم بعد خروج صاحب
الأمر يزادون ، كما في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبيه ، قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ان لي أرض خراج ، وقد ضقت بها ذرعا. قال : فسكت هنيئة ،
ثم قال : ان قائمنا لو قد قام كان نصيبك في الأرض أكثر منها ، ولو قد قام قائمنا
كان الأستان أمثل من قطائعهم :.
__________________
وعن أبي
إبراهيم بن ابى زياد في الموثق قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الشراء من أرض الجزية ، قال : فقال : اشترها ، فان
لك من الحق ما هو أكثر من ذلك .
وعن زرارة في
الصحيح عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ انه قال : إذا كان ذلك كنتم الى ان تزادوا أقرب منكم
الى ان تنقصوا .
المورد
الثاني ، قال في
المبسوط : ظاهر المذهب ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فتح مكة عنوة بالسيف ثم أمنهم بعد ذلك. وانما لم يقسم
الأرضين والدور ، لأنها لجميع المسلمين ، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة ، إذا لم
يمكن نقله الى بلاد الإسلام ، فإنه يكون للمسلمين قاطبة ، وقد من النبي صلىاللهعليهوآله على رجال من المشركين فأطلقهم. وعندنا : ان للإمام عليهالسلام ان يفعل ذلك وكذلك أموالهم من عليهم لما رآه من
المصلحة. واما السواد فهي الأرض المغزوة من الفرس التي فتحها عمر ، وهي سواد
العراق. فلما فتحت بعث عمار بن ياسر أميرا ، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت
المال ، وعثمان بن حنيف ماسحا ، الى ان قال : وكذلك أمير المؤمنين عليهالسلام لما افضى إليه الأمر أمضى ذلك ، لانه لم يمكنه ان يخالف
ويحكم بما يجب عنده. والذي يقتضيه المذهب : ان هذه الأراضي وغيرها. الى آخر ما
قدمنا نقله عنه في صدر المسألة.
أقول : ظاهر
كلام الشيخ في هذا المقام يؤذن بعدم ثبوت كون ارض السواد عنده من المفتوحة عنوة ،
حيث ان الذي فتحها ليس بإمام حق ، وان اجراء أمير المؤمنين عليهالسلام في زمان خلافته عليها حكم الأرض المفتوحة عنوة ، انما
هو من حيث عدم
__________________
تمكنه من اقامة الحكم الشرعي فيها ، كما في كثير من الأحكام ، فان مقتضى
الحكم فيها حيث انها فتحت بغير اذنه ان تكون من الأنفال ، لكن رعاية التقية أوجبت
له العمل فيها بما جرى عليه الولاة المتقدمون.
وعندي فيه نظر
، وان تلقاه بعض متأخري مشايخنا المحققين عنه بالقبول ، وذلك فان الظاهر من بعض
الاخبار : ان أكثر الفتوحات التي صدرت من عمر كان برأي الامام واذنه عليهالسلام فروى الصدوق في الخصال في باب السبعة ، في بيان ما امتحن
الله تعالى أوصياء الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ عن أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث طويل مع اليهودي ـ قال عليهالسلام ـ : في أثنائه : واما الرابعة يا أخا اليهودي ، فان
القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور ومصادرها فيصدرها عن امرى ويناظرني
في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، الحديث .
ويعضد ذلك حكم
الأئمة ـ عليهمالسلام ـ بأن أرض السواد مما فتح عنوة كما تقدم في صحيحة
الحلبي ورواية أبي الربيع الشامي ورواية أحمد بن محمد بن ابى نصر .
فان الجميع
ظاهر في انها من الأراضي الخراجية التي يجب إجراء أحكام الأراضي الخراجية عليها ،
ولو كان ما يدعيه الشيخ ومن تبعه حقا ، لما كان لهذه الاخبار معنى.
وظاهر الأصحاب
: القول بها من غير خلاف يعرف ، الا ما يظهر من كلام المبسوط. والظاهر انه نشأ عن
غفلة عن ملاحظة الأخبار المذكورة.
ويزيد ذلك
تأييدا ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى
__________________
جعفر عليهالسلام ، قال : سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : ان أمير المؤمنين قد سار في أهل العراق سيرة هي
إمام لسائر الأرضين الحديث.
ويعضد ذلك قبول
سلمان ولاية المدائن ، وعمار امارة العساكر ، كما تقدم في كلام الشيخ.
وبذلك يظهر ما
في كلام المحقق الأردبيلي في هذا المقام ، حيث انه يظهر منه المناقشة في كون ارض
العراق فتحت عنوة ، مستندا الى وقوع الخلاف بين العلماء في ذلك ، حيث نقل العلامة
في التذكرة ان بعض الشافعية قال : انها فتحت صلحا. قال : وهو محكي عن أبي حنيفة.
وقال بعضهم : اشتبه الأمر على ، ولا أدرى فتح عنوة أو صلحا.
ثم قال المحقق
المذكور : على انه قد اشترط ـ في المشهور عندنا وكاد يكون إجماعا ـ في المفتوحة
عنوة كون الفتح بإذن الإمام عليهالسلام ، والعلم بذلك في شيء من الأراضي غير معلوم ، لان
العراق المشهورة بذلك فتحت في زمان الثاني ، وما تحقق كونه بإذن أمير المؤمنين عليهالسلام ، بل الظاهر عدمه ، لعدم اختياره ، وما ثبت كون مولانا
الحسن عليهالسلام معهم. ثم نقل كلام الشيخ وقوله : وعلى رواية رواها
أصحابنا. الى آخره ، كما قدمناه.
ثم قال : وهذه
كالصريحة في نفى كون العراق مفتوحة عنوة ، بل في عدم كونها مفتوحة بالمعنى الذي تقدم.
انتهى ملخصا.
وليت شعري كأنه
لم يراجع الأخبار التي أشرنا إليها ، مما هو صريح الدلالة واضح المقالة في إجرائهم
ـ عليهمالسلام ـ حكم المفتوحة عنوة على تلك الأراضي.
واما قوله :
وما تحقق كون الفتح بإذن أمير المؤمنين عليهالسلام. الى آخره.
__________________
ففيه : ان الظاهر انما هو رضاه عليهالسلام به ان لم نقل انه باذنه. وذلك لانه عليهالسلام صاحب الأمر بعد النبي صلىاللهعليهوآله فهو يحب ظهور الإسلام وقوته ، وان لم يكن على يده ، فان
الغرض من أصل البعثة ومن النيابة فيها انما خمود منار الكفر وظهور صيت الإسلام. فهو
عليهالسلام وان لم يكن متمكنا من الأمر والنهى وتنفيذ الجيوش ، الا
ان غرضه الأصلي ومطلبه الكلى حاصل بذلك. فكيف يكرهه ولا يرضاه؟! وهذا بحمد الله
سبحانه وجه وجيه ، لمن أخذ بالإنصاف وارتضاه ، ويخرج ما قدمنا شاهدا لمن عرف الحق
ووعاه.
ويؤيد ذلك ـ ايضا
ـ ما ورد في أخبارنا ، وكذا في اخبار العامة : ان الله يؤيد هذا الذين أو يعزه
بالظالم ـ. هذا حاصل الخبر حيث لا يحضرني الان نفسه.
* * *
ونقل بعض
فضلائنا عن بعض كتب التواريخ قال : وكأنه من الكتب المعتبرة في هذا الفن ، أن الحيرة
وهي من قرى العراق تقرب الكوفة فتحت صلحا ، وان نيسابور من بلاد خراسان فتحت صلحا
، وقيل : عنوة. وبلخ وهرات منها ، وقوشج م. ه. معرفة
__________________
والتوابع فتحت صلحا. وبعض آخر فتح صلحا وبعض عنوة. وبالجملة فإن بلاد
خراسان مختلفة في كيفية الفتح.
واما بلاد
الشام ونواحيها فحكى ان حلب وحمى وحمص وطرابلس فتحت صلحا وان دمشق فتحت بالدخول من
بعض الأبواب غفلة ، بعد ان كانوا طلبوا الصلح. وان أهل طبرستان صالحوا أهل
الإسلام. وان أذربيجان فتحت صلحا. وان أهل أصفهان عقدوا أمانا. والري فتحت عنوة.
انتهى.
وحكى العلامة
في المنتهى عن الشافعي : ان مكة فتحت صلحا بأمان قدمه صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم قبل دخوله. قال : وهو منقول عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن ومجاهد.
ثم انه ـ رحمهالله ـ نسب الى الظاهر من المذهب : انها فتحت بالسيف ثم
أمنهم بعد ذلك. ونقله عن مالك وابى حنيفة والأوزاعي.
وقد ذكر في
المنتهى ان حد سواد العراق في العرض ، من منقطع الجبال بحلوان الى طرف القادسية
المتصل بعذيب من ارض العرب. ومن تخوم الموصل طولا الى ساحل البحر ببلاد عبادان من
شرقي دجلة ، فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هي إسلامي مثل شط عثمان ابن ابى
العاص وما والاها كانت سباخا ومواتا فأحياها عثمان ابن ابى العاص.
أقول : والذي
يظهر لي من الاخبار هو فتح مكة والعراق عنوة ، وان كان قد من على أهل مكة كما تقدم
في كلام الشيخ بأموالهم. واما غير هذين الموضعين المذكورين فهو محل الاشتباه ،
لعدم النص الوارد في شيء من ذلك. والاعتماد في الأحكام الشرعية على مجرد كلام
المؤرخين محل اشكال والله العالم.
* * *
المورد
الثالث : قد عرفت فيما
تقدم ، ان موات الأرض المفتوحة عنوة وقت الفتح انما هو للإمام عليهالسلام من جملة الأنفال. وان كان ظاهر بعض العبارات
كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين كافة من غير تقييد بالعامرة ، الا ان
كلام الأكثر قد اشتمل على التقييد بالعامرة. وهو الظاهر ، نظرا إلى إطلاق الاخبار الدالة
على ان موات الأرض من جملة الأنفال ، أعم من ان تكون الأرض من المفتوحة عنوة أم
لا.
ومن هنا ينقدح
إشكال في هذا المقام ، وذلك لان ما يكون معمورا من الأراضي لا يعلم انه كان معمورا
وقت الفتح حتى يجب العمل فيه بحكم المفتوحة عنوة ، من كونه للمسلمين وما يترتب على
ذلك من أحكام الخراج. إذ يجوز ان يكون في ذلك الوقت مواتا ، وانما أحيا بعد ذلك ،
وقد عرفت : ان موات الأرض لهم ـ عليهمالسلام ـ وانهم قد أحلوا شيعتهم بالتصرف فيها ، فتكون للمحيين
، لا يتعلق بها خراج بالكلية.
واما ما صار
اليه بعض أصحابنا من الاستدلال على ان المعمور الان كان معمورا وقت الفتح بضرب
الخراج الان ، ولو من الجائر وأخذه المقاسمة من ارتفاعها ، عملا بأن الأصل في
تصرفات المسلمين الصحة. فإنه لا يخفى ما فيه ، فان بناء الأحكام الشرعية على مثل
هذه التعليلات الواهية لا يخلو عن مجازفة كما عرفت في غير مقام مما تقدم ، لا سيما
مع ما نشاهده الان ونعلمه علما قطعيا لا يختلجه الريب من تعدى الحكام وظلم الرعية
، وأخذهم الزيادات على الحقوق الموظفة عرفية كانت أو شرعية ، فكيف يمكن الاستدلال
بمجرد ضربهم الخراج الان على أرض معمورة انها كانت كذلك أيام الفتح ، نعم لو كان الإمام
إمام عدل لتم البحث.
وبالجملة فإن
التمسك بأصالة العدم أقوى دليل في المقام حتى يقوم ما يوجب الخروج عنه كما هو
القاعدة بينهم في جملة الأحكام.
واما التمسك
هنا بان الأصل في تصرفات المسلم الصحة فالظاهر ضعفه.
أما أولا ،
فلما عرفت من معلومية الظلم والجور من هؤلاء الذين ادعى حمل
تصرفاتهم على الصحة ، وعدم وقوفهم عند الحدود الشرعية والرسوم المحمدية.
واما ثانيا ،
فلان الظاهر ان المستند في هذا الأصل انما هي الأخبار الدالة على حسن الظن بالمؤمن
مثل خبر «احمل أخاك المؤمن على سبعين محملا من الخير». الحديث ونحوه ، ومن
الظاهر انه لا سبيل الى دخول هؤلاء الفجرة الفساق ، الذين قد اشتهروا بفسقهم
وكفرهم على الإطلاق ، بالخروج عن القول بإمامة امام الافاق على انا لا نسلم دخولهم
في المسلمين الا على سبيل التجوز بمنتحل الإسلام ، كما عليه الخوارج وأمثالهم في
هذا المقام ، وقد تقدم في كتاب الطهارة تفصيل هذا الإجمال وتوضيحه بما لا يداخله
النزاع ولا الجدال ، والا فانا لا نعرف لهذه الأصالة معنى ، إذ لم يرد بمضمونها
خبر على الخصوص ، وانما مستندها ما أشرنا إليه من النصوص ، والحال فيها ما عرفت من
عدم دخول أولئك اللصوص.
وعلى هذا فيزول
جملة الإشكال في هذا المقام ، ويجب الحكم بتملك كل من في يده شيء من تلك الأراضي
، من غير ان يجب عليه دفع ما يدعونه من الخراج ، وان ما يؤخذ منه الان من الخراج
ظلم وعدوان في أمثال هذه الأزمان ، واما ما يتعلق بإحياء الموات من الأحكام التي
ذكرها الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في المقام ووردت بها الاخبار عنهم ـ عليهمالسلام ـ فسيأتي إنشاء الله تعالى في كتاب احياء الموات.
* * *
المورد
الرابع : قد تقدم في
عبارة المبسوط وجوب إخراج الخمس من هذه الأراضي المفتوحة عنوة ، كغيرها من الغنائم
المنقولة. وبذلك صرح من تأخر عنه من أصحابنا من غير خلاف يعرف ، الا ان المسألة
عندي لا تخلو من شوب الاشكال ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في كتاب الخمس ،
فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.
__________________
المقام الثاني
في الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا
والظاهر : انه
لا خلاف بين الأصحاب في أن أرضهم لهم ، يتصرفون فيها تصرف الملاك في ملاكهم ، إذا
عمروها. وانما عليهم فيها الزكاة خاصة.
انما الخلاف
فيما إذا تركوا عمارتها وبقيت خرابا فالمنقول عن الشيخ وابى الصلاح : ان الامام عليهالسلام يقبلها ممن يعمرها ، ويعطى صاحبها طسقها ويعطى المتقبل
حصته ، وما يبقى فهو لمصالح المسلمين ، يجعل في بيت مالهم.
وقال ابن حمزة
: إذا تركوا عمارتها صارت للمسلمين ، وأمرها للإمام ـ عليهالسلام.
وقال ابن
البراج : وإذا تركوا عمارتها حتى صارت خرابا كانت حينئذ لجميع المسلمين ، يقبلها
الامام عليهالسلام ممن يقوم بعمارتها بحسب ما يراه ، من نصف أو ثلث أو
ربع.
وقال ابن إدريس
: الأولى ترك ما قاله الشيخ ، فإنه مخالف للأصول والأدلة العقلية والسمعية ، فإن
ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ولا التصرف فيه بغير اذنه
واختياره ، فلا يرجع عن الأدلة باخباره الآحاد.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما تقدم قريبا ، من رواية صفوان واحمد بن محمد بن ابى
نصر جميعا وصحيحة أحمد بن محمد بن ابى نصر الدالتين على ان ما لم يعمروه من تلك الأراضي يأخذه
الإمام عليهالسلام فيقبله ممن يعمره ، ويكون للمسلمين.
وهما ظاهرتا
الدلالة في قول ابن البراج وابن حمزة.
وما ذكره الشيخ
من انه يعطى صاحبها طسقها ، لا اشعار فيهما به ، فضلا عن الدلالة عليه.
وقال في
المختلف ـ بعد نقل ما قدمناه من الأقوال ـ : والأقرب ما اختاره الشيخ. لنا : انه
أنفع للمسلمين وأعود عليهم ، وكان سائغا ، فأي عقل يمنع من الانتفاع بأرض يترك
أهلها عمارتها ، وإيصال أربابها حق الأرض ، مع ان الروايات متظافرة بذلك. ثم ذكر
رواية صفوان واحمد بن محمد بن ابى نصر وصحيحة أحمد بن محمد ابن ابى نصر.
ثم انه احتج
لابن حمزة وابن البراج ، بما رواه معاوية بن وهب في الصحيح قال : سمعت أبا عبد
الله عليهالسلام يقول : أيما رجل أتى خربة فاستخرجها ، وكرى أنهارها
وعمرها ، فان عليه فيها الصدقة ، وان كانت ارض لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها
ثم جاء بعد يطلبها ، فإن الأرض لله ولمن عمرها . ثم أجاب عن الرواية
__________________
بالحمل على ارض الخراج.
أقول : لا يخفى
ما في كلامه ـ رحمهالله ـ في هذا المقام.
اما أولا ،
فلان ما ذكره من التعليل العقلي عليه عليل لا يبرد الغليل ولا يهدى الى سبيل. فان
كلام ابن إدريس ـ هنا لولا الروايتين المذكورتين ـ قوى متين ، إذ لا ريب في قبح
التصرف في ملك الغير بغير رضاه ، كما دلت عليه الآية والرواية وهذا هو الذي أشار إليه ابن إدريس بالدليل العقلي هنا.
واما ترتب
الانتفاع للمسلمين فلا يصح لان يكون وجها في حل التصرف بغير رضا صاحبها ، والا
لجاز غصب أموال الناس وصرفها في مصالح المسلمين ، وهذا لا يقول به أحد.
وبالجملة فإنه
مع قطع النظر عن الخبرين المذكورين ، فقول ابن إدريس جيد متين.
واما ثانيا ،
فلان الخبرين ـ كما عرفت ـ انما يدلان على قول ابن حمزة وابن البراج ، لا على قول
الشيخ كما زعمه.
واما ثالثا ،
فلان ما أورده من صحيحة معاوية بن وهب ، لا دلالة لها على القول المذكور بوجه ، كما لا يخفى.
والظاهر من صدر
الخبر المذكور انما هو : الحمل على أرض الأنفال ، وهي الأرض الخربة من اى صنف كانت
من أصناف الأراضي ، فإن المحيي لها أحق
__________________
بالتصرف فيها.
واما قوله «وان
كانت أرضا لرجل قبله» فيحتمل حمله على الأرض الخراجية ، بعد زوال آثار تصرف المالك
الأول ، فإنها كما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني ، تخرج عن ملك الأول ، لزوال
آثار ملكه ، وتعود إلى أصلها ، من كونها للمسلمين قاطبة.
وعلى ما قدمناه
يجوز التصرف فيها لمن سبق إليها.
ويحتمل الحمل ـ
ايضا ـ على أرض الأنفال التي أحلوا ـ عليهمالسلام ـ للشيعة التصرف فيها زمان الغيبة ، فإنه بعد زوال آثار
تصرف المالك الأول ترجع الى حالها الأصلي ، وهو ملك الامام عليهالسلام.
ونحوها في ذلك
ما تقدم في صحيحة أبي خالد الكابلي ، من قوله عليهالسلام «فان تركها أو أخرجها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها فهو أحق بها
من الذي تركها» الحديث . ونحوهما صحيحة عمر بن يزيد .
وظاهر هذه
الاخبار : انقطاع حق الأول منها ، وانها تكون ملكا صرفا للمحيي الثاني ، وهو أحد
القولين في المسألة.
وقيل بالعدم ،
ويدل عليه صحيحة سليمان بن خالد. قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها
ويعمرها ويزرعها ما ذا عليه؟ قال : عليه الصدقة. قلت : فان كان يعرف صاحبها. قال :
فليؤد إليه حقه .
والأقرب عندي
في الجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة ، هو حمل الروايات المتقدمة على
ما إذا ملكها الأول بالاحياء ، فإنه يزول ملكه بعد زوال آثاره ،
__________________
وترجع الى حالها الأول ، كما تقدم. وتحمل هذه الرواية على ما إذا ملكها
الأول بغير الأحياء ، من شراء أو إرث ونحوهما ، فإنه لا يزول ملكه عنها ، وان صارت
خربة.
والقائلون
بالقول الثاني من القولين المذكورين اختلفوا ، فبعض قال بأنه لا يجوز إحياؤها ولا
التصرف فيها مطلقا ، الا بإذن الأول. وذهب جماعة إلى جواز إحيائها وكون الثاني أحق
بها ، لكن لا يملكها بذلك ، بل عليه ان يؤدى طسقها إلى الأول أو وراثه. ولم يفرقوا
في ذلك بين ما يدخل في ملكه بالإحياء أو غيره من الأسباب الموجبة للملك ، إذا صار
مواتا. ونقل عن الدروس : انه ذهب الى وجوب استيذان المحيي من المالك الأول ، فإن
امتنع فالحاكم. فان تعذر الأمر ان جاز الأحياء ، وعلى المحيي طسقها للمالك.
وضعف هذه الأقوال
ظاهر ، بضعف القول الذي تفرعت عليه. لدلالة الأخبار التي قدمناها على خلافه ،
وصحيحة سليمان بن خالد التي هي مستند هذا القول ، لا صراحة فيها على ما ادعوه ،
لإمكان حملها على ما قدمناه ، وبه تجتمع مع الاخبار الأخر ، والله العالم بحقائق
أحكامه.
* * *
المقام الثالث
في أرض الصلح
وهي التي صولح
أهلها على ان تكون الأرض لهم ، وانهم يقرون على دينهم ، ولكن عليهم الجزية ، اما
على رؤسهم أو على أرضهم ، حسب ما يراه الامام ـ عليهالسلام.
وجعلها على
الأرض ، بأن يصالحهم على ثلث الحاصل أو ربعه أو نصفه مثلا ، وهذه الأرض ملك لهم
يتصرفون فيها بما شاؤا من بيع وغيره ، وعليهم الجزية المقررة.
ويملكها المسلم
بوجه مملك كالبيع ونحوه ، ولا ينتقل ما على الأرض لو كانت الجزية عليها الى
المسلم. لان المسلم لا جزية عليه ، بل ترجع إلى البائع الذمي.
ولو أسلم صاحب
الأرض سقطت الجزية عنه ، لما عرفت من ان المسلم لا جزية عليه ، وكانت أرضه له لا
يتعلق بها جزية ، كما في سائر المسلمين.
ولو وقع الصلح
بان تكون الأرض للمسلمين خاصة ويكون للكفار السكنى خاصة ، كان حكم هذه الأرض حكم
المفتوحة عنوة ، معمورها ـ حال الفتح ـ
للمسلمين ومواتها عليهالسلام حسبما تقدم الكلام فيه مفصلا.
ومما وقفت عليه
من الاخبار المتعلقة بهذه الأرض : ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة في الصحيح ،
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شيء
موظف ، لا ينبغي ان يجوز الى غيره؟ فقال : ذلك الى الامام عليهالسلام يأخذ من كل انسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق.
انما هم قوم فدوا أنفسهم من ان يستعبدوا أو يقتلوا ، فالجزية تأخذ منهم على قدر ما
يطيقون له ان يأخذهم به حتى يسلموا ، فان الله عزوجل قال «حَتّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» وكيف يكون صاغرا ولا يكترث بما يؤخذ منه حتى يجد ذلا لما أخذ منه فيألم لذلك فيسلم.
قال : وقال
محمد بن مسلم : قلت للصادق عليهالسلام أرأيت ما يأخذ هؤلاء من الخمس من أرض الجزية ، ويأخذون من الدهاقين جزية
رؤوسهم اما عليهم في ذلك شيء موظف؟ فقال : كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم ، وليس
للإمام أكثر من الجزية ، ان شاء الامام وضع ذلك على رؤسهم ، وليس على أموالهم شيء
، وان شاء فعلى أموالهم. وليس على رؤسهم شيء. فقلت : فهذا الخمس؟ فقال : انما هذا
شيء كان صالحهم عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله .
وما رواه في
الفقيه عن مصعب بن يزيد الأنصاري قال استعملني أمير المؤمنين عليهالسلام على أربعة رساتيق المدائن : البهقياذات ، ونهر سير ،
ونهر جوير ، ونهر الملك ، وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهما ونصفا. وعلى
كل جريب زرع وسط درهما ، وعلى كل جريب زرع رقيق ثلثي درهم. وعلى كل جريب كرم عشرة
دراهم. وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم. وعلى كل جريب البساتين ،
__________________
التي تجمع النخل والشجر ، عشرة دراهم. وأمرني بأن ألقي كل نخل شاذ عن القرى
، لمارة الطريق وأبناء السبيل ، ولا آخذ منه شيئا. وأمرني أن أضع على الدهاقين
الذين يركبون البرازين ويتختمون بالذهب ، على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهما ،
وعلى أوساطهم والتجار منهم ، على كل رجل أربعة وعشرين درهما ، وعلى سفلتهم
وفقرائهم ، على كل انسان منهم اثنى عشر درهما ، على كل انسان منهم. قال فجبيتها
ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة .
أقول : «نهر
سبر» ضبطه ابن إدريس بالباء الموحدة والسين المهملة. وحمل هذا الخبر في التهذيب
على ما رآه أمير المؤمنين عليهالسلام مصلحة في ذلك الوقت بحسب حالهم ، فلا ينافي عدم التوظيف
في الجزية.
وما رواه في
التهذيب عن ابى بصير وإسحاق بن عمار جميعا ، عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى أناسا من أهل نجران الذمة على سبعين بردا .
وما رواه في
الكافي عن حريز عن محمد بن مسلم ، قال : سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم مما
يحقنون به دمائهم وأموالهم؟ قال : الخراج. فإن أخذ من رؤسهم الجزية فلا سبيل على
أراضيهم ، وان أخذ من أراضيهم فلا سبيل على رؤوسهم. . الى غير ذلك من الاخبار الواردة من هذا القبيل.
* * *
__________________
المقام الرابع
في أرض الأنفال
وقد تقدم
الكلام فيها في كتاب الخمس ، ونقل جملة من أخبارها ، الا ان من جملة اخبارها ، مما
لم يتقدم ذكره : ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة ، قال : سألته عن الأنفال ،
فقال : كل أرض خربة أو شيء كان للملوك فهو خالص للإمام ليس للناس فيه سهم. قال
ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
أقول : ظاهر
هذا الخبر : ان البحرين مما أسلمت للمسلمين طوعا من غير قتال ، وانها من الأنفال
حينئذ ، وبذلك صرح في الروضة في كتاب الخمس ، الا انه في كتاب احياء الموات ، عدها
مع المدينة المشرفة وأطراف اليمن فيما أسلم عليه اهله طوعا ، وحكم بأن أرضها لهم لذلك. ولا يخفى ما فيه من المناقضة لكلامه في كتاب
الخمس.
__________________
المسألة السابعة
في أحكام اليتامى وأموالهم
وتحقيق الكلام
في هذا المقام يقع في مناهج أربعة :
(الأول) : في
ولي اليتيم.
المفهوم من كلام
الأصحاب : ان الولاية على الصغير للأب ثم الجد له وان علا على الترتيب ، الأقرب
فالأقرب للميت ، فان عدم الجميع فالوصي من جهة الأب ، ثم الوصي من جهة الجد على
الترتيب المتقدم ، ثم مع عدم جميع هؤلاء فالحاكم الشرعي.
وممن صرح بذلك
شيخنا في المسالك ، حيث قال ـ بعد نقل قول المصنف «ولو مات انسان ولا وصى له كان
للحاكم النظر في تركته» ـ ما صورته : الأمور المفتقرة في الولاية ، اما ان تكون
أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم جده ثم
لمن يليه من الأجداد ، على ترتيب الولاية ، للأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن
عدم الجميع فوصى الأب ثم وصى الجد وهكذا ، فان عدم الجميع فالحاكم. والولاية في
الباقي غير الأطفال للوصي ثم الحاكم. الى آخر كلامه رحمهالله.
ونقل في الدروس
عن ابن الجنيد : ان للام الرشيدة الولاية بعد الأب ، ثم رده بأنه شاذ.
أقول : وكان
الواجب ان يعد في ذلك ، الولاية بعد الحاكم لعدول المؤمنين ، كما صرح به جملة من
الأصحاب من انه مع تعذر الحاكم فلعدول المؤمنين تولى بعض
الحسبيات ، المنوطة بنظر الحاكم الشرعي.
وعليه تدل
الأخبار المذكورة أيضا :
ومنها : ما
رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : مات رجل من أصحابنا
ولم يوص ، فرفع أمره الى قاضي الكوفة ، فصير عبد الحميد القيم بماله ، وكان الرجل
خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلما أراد بيع الجواري
ضعف قلبه في بيعهن ، إذ لم يكن الميت صير اليه وصيته ، وكان قيامه بهذا بأمر
القاضي ، لأنهن فروج. قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليهالسلام فقلت : يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ، ويخلف
جواري ، فيقيم القاضي منا رجلا لبيعهن ، أو قال يقوم بذلك رجل منا ، فيضعف قلبه
لأنهن فروج ، فما ترى في ذلك القيم؟ قال : فقال : إذا كان القيم به مثلك أو مثل
عبد الحميد فلا بأس .
وروى في الكافي
والفقيه في الصحيح من الثاني ، عن ابن رئاب ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليهالسلام عن رجل بيني وبينه قرابة ، مات وترك أولادا صغارا ،
وترك مماليك غلمانا وجواري ، ولم يوص. فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية ، يتخذها
__________________
أم ولد ، وما ترى في بيعهم؟ فقال : إذا كان لهم ولى يقوم بأمرهم ، باع
عليهم ونظر لهم كان مأجورا فيهم ، قلت : فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية فيتخذها
أم ولد؟ قال لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم ، فليس لهم
ان يرجعوا عما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم .
أقول : وهذا
الخبر وان كان مجملا ، الا ان الظاهر منه بعد التأمل : ان المراد بالولي فيه انما
هو أحد عدول المؤمنين ، لأن انتفاء الوصي ظاهر من الخبر ، وانتفاء الحاكم الشرعي
الذي هو أحد الأولياء أيضا ظاهر ، إذ ليس في وقته ـ عليهالسلام ـ حاكم شرعي ـ أصالة ـ سواه. واحتمال الجد بعيد من سياق
الخبر. وبالجملة فإن الحكم المذكور مما لا ريب فيه.
ثم ان الأصحاب
ـ بناء على ما قدمنا نقله عنهم ، من ان الولاية على الصغار مخصوصة بالأب والجد له
وان علا ، دون غيرهما من الوصي والحاكم ـ فرعوا على ذلك ما لو أوصت الأم لطفلها
بمال ، أو أحد أقاربه ، وعين عليه وصيا ليصرفه في مصالح الطفل ، فإن للأب أو الجد
انتزاعه من ذلك الوصي ، لثبوت ولايتهما عليه شرعا ، فلا تنفذ وصية الموصى بالولاية
لغيرهما.
قال في الدروس
: ولا ولاية للأم على الأطفال. فلو نصبت عليهم وليا لغى. ولو أوصت لهم بمال ونصبت
عليه قيما لهم صح في المال خاصة. ثم نقل قول ابن الجنيد الذي قدمنا نقله عنه.
وبنحو ذلك صرح
في المسالك ، فقال ـ أيضا في شرح قول المصنف «لو اوصى بالنظر في مال ولده الى
أجنبي وله أب لم يصح ، وكانت الولاية إلى جد اليتيم ـ ما صورته : قد عرفت من
المسألة السابقة ان الولاية للجد وان علا على الولد مقدمة على ولاية وصي الأب ،
فإذا نصب الأب وصيا على ولده المولى عليه مع وجود جدة للأب لم يصح ، لأن ولاية
الجد ثابتة له بأصل الشرع ، فليس للأب نقلها عنه ، ولا إثبات
__________________
شريك معه. الى آخر كلامه رحمهالله.
والظاهر : ان
الحكم المذكور مما لا خلاف فيه الا ما تقدم نقله عن ابن الجنيد ، وضعف أقواله
غالبا معلوم من قواعده.
* * *
(المنهج الثاني)
: في الاتجار بمال الصغير والعمل به.
ولا تخلو الحال
في ذلك ، اما بأن يكون الاتجار لليتيم من الولي ، أو الاتجار للولي نفسه بمال
اليتيم ، أو يكون المتصرف غير ولي شرعي.
قال في النهاية
: ومتى اتجر الإنسان بمال اليتيم ، نظرا لهم وشفقة عليهم ، فربح كان الربح لهم ،
وان خسر كان عليهم ، ويستحب له ان يخرج من جملته الزكاة. ومتى اتجر به لنفسه ،
وكان متمكنا في الحال من ضمان ذلك المال وغرامته ، ان حدث به حادث ، جاز ذلك وكان
المال قرضا عليه ، فان ربح كان له ، وان خسر كان عليه ، وتلزمه في حصته الزكاة ،
كما يلزمه لو كان المال له ، ندبا واستحبابا. ومتى اتجر لنفسه بما لهم وليس بمتمكن
في الحال من مثله وضمانه ، كان ضامنا للمال. فان ربح كان للأيتام ، وان خسر كان
عليه دونهم. انتهى.
وقال ابن إدريس
: ومتى اتجر الإنسان المتولي لمال اليتيم ، نظرا لهم وشفقة لهم فربح كان الربح لهم
، وان خسر كان عليهم. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويستحب ان يخرج من جملته
الزكاة. والذي يقوى عندي : انه لا يخرج ذلك ، لانه لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة
مقطوع بها ، ولا إجماع. ولانه لا يجوز التصرف الا فيما فيه مصلحة لهم ، وهذا لا
مصلحة لهم فيه ، من دفع عقاب ولا تحصيل ثواب ، لان الأيتام لا يستحقون ثوابا ولا
عقابا ، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اتجر
به لنفسه ـ ثم نقل العبارة كما قدمناها ـ ثم قال : قال ابن إدريس : هذا غير واضح
ولا مستقيم ، ولا يجوز له ان يستقرض منه شيئا من ذلك سواء كان متمكنا في الحال من
ضمانه وغرامته أو لم يكن ، لأنه أمين
والأمين لا يجوز له ان يتصرف لنفسه في أمانته بغير خلاف منا ـ معشر
الإمامية ـ ولا يجوز له ان يتجر فيه لنفسه على حال من الأحوال ، وانما أورده شيخنا
إيرادا لا اعتقادا ، من جهة أخبار الآحاد ، كما ورد أمثاله في هذا الكتاب ، وهو
غير عامل عليه. قال في الكتاب المشار اليه : ومتى اتجر لنفسه بمالهم ـ الى آخر ما
قدمناه ـ ثم قال : وقد قلنا : انه لا يجوز له ان يتجر لنفسه في ذلك المال بحال من
الأحوال. انتهى ما ذكره ابن إدريس ملخصا.
أقول : اما
اتجار الولي لليتيم نظرا له وشفقة عليه ، فالظاهر : انه لا خلاف في كون الحكم فيه
ما ذكره الشيخ ، من ان الربح لليتيم والنقصان له ، الا ان الاخبار في هذه الصورة
لا تخلو من تدافع ، وكذا بقية الاخبار في المسألة لا تخلو من الاشكال كما سيظهر لك
إنشاء الله تعالى.
واما لو اقترضه
الولي مع كونه مليا ، فإنه يكون الربح له وهو ضامن لمال اليتيم.
ومنع ابن إدريس
هنا من اقتراض الولي ، مردود بالاخبار الاتية في المقام إنشاء الله تعالى. وكذا
منعه من الزكاة في الصورة الأولى ، مردود بالاخبار ، كما تقدم تحقيقه في كتاب
الزكاة.
واما لو كان
التصرف مع عدم استكمال الشرطين المتقدمين ، فظاهر الاخبار وكلام جملة من الأصحاب :
ان الربح في هذه الصورة لليتيم وهو على إطلاقه لا يخلو من اشكال ، كما سيأتي بيانه
إنشاء الله تعالى في المقام.
* * *
والواجب أولا :
نقل ما وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ثم بيان ما هو المستفاد منها
بتوفيق الله سبحانه.
فمنها ـ مما
تدل على جواز الاقتراض من مال اليتيم ، ردا على ابن إدريس : ـ ما رواه في الكافي
عن منصور بن حازم. عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل ولى مال
يتيم ، أيستقرض منه؟ قال : ان على بن الحسين عليهالسلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره ورواه الصدوق في الصحيح ايضا عن منصور بن حازم عن ابى
عبد الله عليهالسلام مثله وزاد : «فلا بأس بذلك» .
وعن احمد بن
محمد بن ابى نصر قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج اليه ، فيمد
يده فيأخذه ، وهو ينوي أن يرده إليهم ، فقال : لا ، ولكن ينبغي له ان لا يأكل إلا
بقصد ولا يسرف. فان كان من نيته : ان لا يرد عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) .
وروى العياشي
في تفسيره مثله ، وزاد : قال : قلت له : كم ادنى ما يكون من مال اليتيم إذا هو
أكله ، وهو لا ينوي رده ، حتى يكون يأكل في بطنه نارا؟ قال : قليله وكثيره واحد ،
إذا كان من نفسه ونيته ان لا يرده إليهم .
__________________
* * *
ومنها ـ مما
يتعلق بأصل المسألة ـ : ما رواه في الكافي والتهذيب عن أسباط ابن سالم ، قال : قلت
للصادق عليهالسلام : كان لي أخ هلك ، واوصى الى أخ أكبر مني ، وأدخلني معه
في الوصية وترك ابنا له صغيرا ، وله مال ، أفيضرب به أخي ، فما كان من فضل سلمه
الى اليتيم ، وضمن له ماله؟ فقال : ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف فلا
بأس به ، وان لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم .
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في مال اليتيم ، قال : العامل به ضامن ، ولليتيم الربح
، إذا لم يكن للعامل به مال. وقال : ان عطب أداه .
وعن ربعي في الصحيح
عن الصادق عليهالسلام قال : في رجل عنده مال اليتيم فقال : ان كان محتاجا
وليس له مال ، فلا يمس ماله. وان هو اتجر به فالربح لليتيم ، وهو ضامن .
وعن أسباط بن
سالم ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام فقلت : أخي أمرني أن أسألك عن مال يتيم في حجره يتجر
به. فقال : ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف أو اصابه شيء غرمه ، والا
فلا يتعرض لمال اليتيم .
وما رواه في
التهذيب ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتيم وهو وصيه ، أيصلح
له ان يعمل به؟ قال نعم ، كما يعمل بمال غيره والربح بينهما. قال : قلت : فهل عليه
ضمان؟ قال : لا ، إذا كان ناظر له .
__________________
وعن منصور
الصيقل ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن مال اليتيم يعمل به ، قال : فقال : إذا كان عندك مال
وضمنته ، فلك الربح وأنت ضامن للمال ، وان كان لا مال لك وعملت به فالربح للغلام ،
وأنت ضامن للمال .
وما رواه العياشي
في تفسيره عن زرارة ومحمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : مال اليتيم ، ان عمل به من وضع على يديه ضمنه ،
ولليتيم ربحه ، قالا : فقلنا له : قوله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ»؟ قال : انما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم ، فلم
يتخذ لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم .
وما رواه في
الكافي عن سعيد السمان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ليس في مال اليتيم زكاة الا ان يتجر به فان اتجر
به فالربح لليتيم ، وان وضع فعلى الذي يتجر به .
وما رواه في
الفقيه عن زرارة وبكير ، في الصحيح عن ابى جعفر عليهالسلام قال : ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وان كثر ، وليس في
نقر الفضة زكاة ، ولا على مال اليتيم زكاة ، الا ان يتجر به ، فان اتجر به ففيه
الزكاة ، والربح لليتيم وعلى التاجر ضمان المال .
وما رواه في
التهذيب عن بكر بن حبيب ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : رجل دفع اليه مال يتيم مضاربة ، فقال : ان كان ربح
فلليتيم ، وان كان وضيعة فالذي أعطى
__________________
ضامن .
وفي الفقه
الرضوي : وروى ان من اتجر بمال اليتيم فربح كان لليتيم ، والخسران على التاجر ،
ومن حول مال اليتيم أو اقترض شيئا منه كان ضامنا لجميعه ، وكان عليه زكاته دون
اليتيم ـ الى ان قال ـ وروى ان لرئيس القبيلة وهو فقيهها وعالمها : ان يتصرف
لليتيم في ماله بما يراه حظا وصلاحا ، وليس عليه خسران ، ولا له ربح ، والربح
والخسران لليتيم وعليه. انتهى.
هذا ما حضرني
من الاخبار في هذا المقام ، والذي يدل منها على ما قدمنا نقله عن الشيخ ومن تبعه ،
من انه متى اتجر الولي لليتيم نظرا له ، فان الربح لليتيم والنقيصة عليه : رواية
أبي الربيع المذكورة ورواية الفقه الرضوي.
الا ان ظاهر
رواية أسباط بن سالم الاولى المنافاة لذلك ، حيث ان ظاهرها :
ان المتجر ولى
اليتيم ، مع انه شرط عليهالسلام في صحة تصرفه وتجارته لليتيم «الملاء» المؤذن ذلك
بضمانه النقصان.
ويؤيد الخبر
الأول ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور ، فانى لم أقف على مخالف فيه ،
وحينئذ فلا بد من ارتكاب التأويل في الخبر الثاني ، وان بعد ، بحمله على ما إذا لم
يكن وليا للطفل ، وان كان وصيا على ما عداه من الأموال والتصرفات.
والذي يدل على
ما ذكره الأصحاب ، من أنه متى كان وليا مليا فإنه يجوز له الاقتراض من مال الطفل ،
والاتجار لنفسه ، وان الربح له والنقيصة عليه ، فاما على
__________________
الاقتراض فما تقدم من صحيحة منصور بن حازم . واما على باقي الأحكام فرواية منصور الصيقل حيث صرحت بأنه إذا كان عنده مال وضمنه فله الربح. وهي
وان كانت مطلقة بالنسبة إلى كونه وليا ، الا انه يجب حملها على ذلك ، لما سيأتي
بيانه إنشاء الله تعالى ، من انه متى لم يكن وليا ، فإنه غاصب وتصرفه باطل ، فلا
يكون مستحقا للربح.
ويدل ذلك ايضا
مفهوم صحيحة ربعي ورواية أسباط بن سالم الثانية وهما ايضا ، وان كانتا مطلقتين بالنسبة إلى كونه وليا ،
الا انه يجب حملهما على ذلك لما ذكرناه.
ويعضده : انه
هو الأغلب ، إذ لا خلاف بين الأصحاب في تحريم التصرف في مال اليتيم الا بالشرطين
المتقدمتين.
نعم استثنى
جملة من المتأخرين الأب والجد من شرط الملائة ، فجوزوا لهما التصرف وان كانا غير
مليين. واستشكله في المسالك. والظاهر : ان ما ذكره الأصحاب أقرب ، لا سيما مع
الضمان كما هو المفروض ، لما تقدم في المسألة الرابعة ، من الاخبار الكثيرة الدالة
على حل مال الولد للوالد. وبالجملة ، فالظاهر : ان الحكم في هاتين الصورتين مما لا
اشكال فيه.
والذي يدل على
ما ذكروه ، من انه متى اتجر في مال اليتيم بدون الشرطين المتقدمتين ، فان الربح
لليتيم ، والمتصرف ضامن ، فاما بالنسبة إلى الضمان ، فلان تصرفه غير شرعي ، وهو
يوجب الضمان البتة.
واما بالنسبة
إلى كون الربح لليتيم ، فأكثر الأخبار المتقدمة ، مثل صحيحة
__________________
محمد بن مسلم وصحيحة ربعي وعجز رواية منصور الصيقل ونحوها غيرها مما ذكر ايضا ، وقد اشترك الجميع في
الدلالة على أنه متى لم يكن له مال واتجر به ، فإنه ضامن ، والربح لليتيم ، كما
ذكرناه ، أعم من ان يكون وليا أو غير ولى ، اتجر للطفل أو لنفسه ، وقع الشراء بعين
المال أو في الذمة.
إلا ان في هذا
المقام اشكالا ، قد نبه عليه جملة من علمائنا الأعلام.
منهم : صاحب
المدارك ، قال ـ عليه الرحمة ـ في كتاب الزكاة : أما ان ربح المال يكون لليتيم ،
فلان الشراء وقع بعين ماله كما هو المفروض ، فيملك المبيع ويتبعه الربح ، لكن يجب
تقييده بما إذا كان المشترى وليا أو اجازه الولي ، وكان للطفل غبطة في ذلك ، والا
وقع الشراء باطلا ، بل لا يبعد توقف الشراء على الإجازة في صورة شراء الولي أيضا ،
لأن الشراء لم يقع بقصد الطفل ابتداء ، فإنما أوقعه المتصرف لنفسه ، فلا ينصرف الى
الطفل بدون الإجازة ، ومع ذلك كله فيمكن المناقشة في صحة مثل هذا العقد ، وان قلنا
بصحة الفضولي مع الإجازة ابتداء ، لانه لم يقع للطفل ابتداء من غير من اليه النظر
في ماله ، وانما أوقعه المتصرف في مال الطفل لنفسه على وجه منهي عنه. انتهى.
وحاصله : ان ما
ذكرناه من مقتضى إطلاق الاخبار المذكورة ، مناف لجملة من القواعد المقررة بين كافة
الأصحاب :
منها : أنه لو
لم يكن وليا واتجر بعين مال الطفل لنفسه ، فالظاهر أنها تجارة باطلة ، أو موقوفة
على الإجازة من الولي أو الطفل بعد بلوغه ، ان قلنا بصحة عقد الفضولي ، وعلى تقدير
البطلان أو عدم الإجازة فلا ربح لأحد ، بل يجب رد ما أخذ على صاحبه ورد مال اليتيم
الى محله مع ان ظاهر الاخبار المتقدمة : صحة البيع ،
__________________
وان الربح لليتيم.
ومنها : أنه لو
اتجر في الذمة لنفسه ، فان مقتضى القواعد صحة البيع والشراء ، وكون الربح له ، وان
كان تصرفه في مال اليتيم بدفعه عما في الذمة ، فلا تبرأ ذمته عما عليه من الثمن ،
بل يجب دفع الثمن من غيره ، ورد مال اليتيم الى محله. مع ان مقتضى إطلاق الاخبار
المذكورة : صحة العقد ، وكون الربح لليتيم ايضا.
ومنها : أنه لو
لم يكن وليا واتجر للطفل ، فان الظاهر : ان هذه الصورة كالأولى ، في الوقوف على
الإجازة أو البطلان ، بناء على القول بصحة عقد الفضولي. مع ان ظاهر إطلاق النصوص
المذكورة : الصحة ، وان الربح لليتيم.
ومن هنا يظهر
وجه الإشكال في العمل بظاهر الأخبار المذكورة ، الا أن الأظهر العمل بما دلت عليها
، لتكاثرها وتعددها ، مع ظهورها في ذلك ، وعدم إمكان تقييدها بما تقتضيه القواعد
المشار إليها ، كما سمعتها من كلام صاحب المدارك.
فاللازم حينئذ
اما طرحها. وفيه من الشناعة ما لا يخفى. واما العمل بها ، ويكون هذا الحكم مستثنى
من تلك القواعد المذكورة.
ويشير الى ما
ذكرناه : ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور ، من انه متى وقع الاتجار في
مال الطفل بدون الشرطين المتقدمين فان الربح لليتيم ، والعامل ضامن من غير تفصيل
وتقييد ، حسبما دل عليه إطلاق الاخبار المذكورة.
وهذه المناقشة
حصلت من متأخري المتأخرين ، كالسيد في المدارك ، وقبله المحقق الأردبيلي ، ومن
تأخر عنهما.
وبالجملة
فالمسألة لذلك محل اشكال ، وان كان العمل بإطلاق الأخبار المذكورة ، وفاقا لظاهر
الأصحاب ، لا يخلو من قوة ، والله أعلم.
* * *
(المنهج الثالث)
: فيما يحل لقيم مال اليتيم.
وقد اختلف
الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في ذلك على أقوال :
(أحدها) : أجرة
مثل عمله. وبه صرح في الشرائع ، وعلله في المسالك ، قال : لأنها عوض عمله ، وعمله
محترم فلا يضيع عليه ، وحفظه بأجرة مثله.
وقال في مجمع
البيان : والظاهر من روايات أصحابنا : ان له اجرة المثل ، سواء كان قدر كفايته أو
لم يكن.
أقول : وفي
ظهوره من الروايات كما ادعاه نظر ، كما سيظهر.
(وثانيها) : ان
يأخذ قدر كفايته لقوله عزوجل «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» والمعروف : مالا إسراف فيه ولا تقتير.
ونقل في المجمع
هذا القول عن عطاء بن ابى رباح وقتادة وجماعة. قال : ولم يوجبوا اجرة المثل بما
كانت أكثر من قدر الحاجة.
واستظهر هذا
القول بعض مشايخنا المعاصرين ، قال : وهذا هو الظاهر من الاخبار ، ولكن ليس على
إطلاقه المتناول للغنى وقلة المال وعدم الاشتغال عن أمور نفسه ، فإطلاقه مشكل.
انتهى.
أقول : وسيأتي
ـ إنشاء الله تعالى ـ توضيح ما ذكره.
(وثالثها) :
أقل الأمرين من الأجرة والكفاية ، واحتج له بوجهين :
أحدهما : ان
الكفاية ان كانت أقل من الأجرة ، فلان ـ مع حصولها ـ يكون غنيا ، ومن كان غنيا وجب
عليه الاستعفاف عن بقية الأجرة ، وان كانت اجرة المثل أقل ، فإنما يستحق عوض عمله
، فلا يحل له أخذ ما زاد عليه.
وثانيهما : ان
العمل لو كان لمكلف يستحق عليه الأجرة ، لم يستحق أزيد من اجرة مثله ، فكيف يستحق
الأزيد مع كون المستحق عليه يتيما.
وفيه بحث يأتي
ذكره ـ إنشاء الله تعالى ـ بعد نقل روايات المسألة ، وتحقيق
__________________
ما هو الحق الظاهر منها.
(ورابعها) :
استحقاق اجرة المثل مع فقره ، وعلل بأنه يمكن حمل الأكل بالمعروف عليه ، لان أجرة
المثل ان كانت أقل من المعروف بين الناس فالإنسان لا يأخذ عوض عمله من غير زيادة
عن عوضه المعروف وهو اجرة مثله ومثل هذا يسمى أكلا بالمعروف ، والزيادة عليه أكل
بغير المعروف ، هذا إذا كان فقيرا ، اما لو كان غنيا فالأقوى وجوب استعفافه مطلقا
، عملا بظاهر الآية.
(وخامسها) :
جواز أخذ أقل الأمرين ، من اجرة مثله وكفايته ، مع فقره.
قال في المسالك
: ولو تحقق للكفاية معنى مضبوط ، كان هذا القول أجود الأقوال. ومثبتو أحد الأمرين
من غير تقييد بالفقر ، حملوا الأمر بالاستعفاف على الاستحباب ، وادعوا ان لفظ
الاستعفاف مشعر به ، وله وجه. انتهى.
* * *
أقول : والواجب
ـ أولا ـ بسط الروايات الواردة عنهم ـ عليهمالسلام ـ والتنبيه على ما يمكن استنباطه من الأحكام منها.
فمنها : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق ، عن الصادق عليهالسلام في قوله الله تعالى «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما
يقيمه ، وهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف. وان كانت ضيعتم
لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرز أن من أموالهم شيئا .
وما رواه في
التهذيب عن ابن سنان في الصحيح ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام وانا حاضر عن القيم لليتامى ، في الشراء لهم والبيع
فيما يصلحهم ، إله أن يأكل من أموالهم؟ فقال : لا بأس ان يأكل من أموالهم بالمعروف
، كما قال الله عزوجل
__________________
في كتابه «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا
بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : المعروف هو القوت. وانما عنى الوصي لهم والقيم في
أموالهم ما يصلحهم .
وما رواه الشيخان
المتقدمان عن عبد الله بن سنان في الصحيح ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله «فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ» قال : المعروف هو القوت ، وانما عنى الوصي والقيم في
أموالهم ما يصلحهم .
وعن حنان بن
سدير في الموثق ، قال : قال الصادق عليهالسلام سألني عيسى بن موسى عن القيم للأيتام في الإبل ، ما يحل
له منها فقلت : إذا لاط حوضها ، وطلب ضالتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من
غير نهك لضرع ، ولا فساد لنسل .
وعن ابى الصباح
الكناني عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله عزوجل «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل
بالمعروف ، إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا.
قال : قلت : أرأيت قول الله عزوجل «(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ) »؟
قال : تخرج من
أموالهم قدر ما يكفيهم ، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ، ثم تنفقه ، قلت ، أرأيت ان
كانوا يتامى صغارا وكبارا ، وبعضهم أعلى كسوة من بعض ، وبعضهم أكل من بعض ، وما
لهم جميعا. فقال : اما الكسوة فعلى كل انسان ثمن كسوته ، واما الطعام فاجعلوه
جميعا ، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير .
__________________
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن هشام بن الحكم ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عمن تولى مال اليتيم ، ماله ان يأكل منه؟ فقال : ينظر
الى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم ، فليأكل بقدر ذلك .
وما رواه الثقة
الجليل محمد بن مسعود العياشي في تفسيره ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألته عن رجل
بيده ماشية لابن أخ يتيم في حجره. أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ فقال : ان كان يليط
حياضها ، ويقوم على هنأتها ، ويرد شاردها ، فليشرب من ألبانها ، غير مجهد للحلاب
ولا مضر بالولد. ثم قال : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف» .
وروى هذه
الرواية في مجمع البيان الى قوله «ولا مضرة بالولد» ورواه الزمخشري في الكشاف ، عن ابن عباس .
وما رواه العياشي
في تفسيره عن أبي أسامة عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى «فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ» فقال : ذلك رجل يحبس نفسه على أموال اليتامى ، فيقوم لهم
فيها ، ويقوم لهم عليها ، فقد شغل نفسه عن طلب المعيشة ، فلا بأس ان يأكل بالمعروف
، إذا كان يصلح أموالهم ، وان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا .
وما رواه في
الكتاب المذكور عن سماعة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قوله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : بلى
__________________
من كان. الحديث كما تقدم عن الكافي ، الا انه قال : «ليس له شيء» عوض قوله
ثمة «وليس له ما يقيمه» .
وما رواه العياشي
في تفسيره ـ ايضا ـ عن إسحاق بن عمار عن ابى بصير ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في قول الله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ،
ويشغل فيها نفسه. فليأكل منه بالمعروف ، وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي
عنده موضوعة .
وما رواه فيه
ايضا عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام قال : سألته عن قول الله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم ، فلا يحترث لنفسه ،
فليأكل بالمعروف من مالهم .
وما رواه فيه
ايضا عن رفاعة ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في قوله «فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ» قال : كان ابى يقول : انها منسوخة .
وقال في مجمع
البيان في تفسيره : قوله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» ، معناه ، ومن كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر
الحاجة والكفاية ، على جهة القرض ، ثم يرد عليه ما أخذ إذا وجد. عن سعيد بن جبير
ومجاهد وابى العالية والزهري وعبيدة السلماني ، وهو مروي عن الباقر عليهالسلام. وقيل : معناه يأخذ ما يسد به جوعته و
__________________
يستر عورته ، لا على جهة القرض. عن عطاء بن ابى رباح وقتادة وجماعة ، ولم
يوجبوا اجرة المثل ، لأنها ربما كانت أكثر من قدر الحاجة. والظاهر من روايات
أصحابنا : ان له اجرة المثل ، سواء كان قدر كفايته أو لم يكن. انتهى .
أقول : وبالله
سبحانه التوفيق ، المستفاد من هذه الاخبار المذكورة ـ بعد ضم بعضها الى بعض ، عدا
الرواية الأخيرة من روايات العياشي ـ : أنه يشترط في صحة أكل الولي من مال اليتيم
شروط :
(أحدها) : فقره
، فمتى كان غنيا فليس له ان يأكل منه شيئا.
وعلى ذلك دل
ظاهر الكتاب بحمل الأمر بالاستعفاف ـ في الآية ـ على الوجوب. فاما الحمل على
الاستحباب ـ كما تقدم نقله عن المسالك ، وظاهره الميل اليه ـ فلا اعرف له وجها ،
الا مجرد الاجتهاد في مقابلة النصوص ، لأن الأصل تحريم أكل مال الغير ، خرج منه في
هذا الموضع بالآية والروايات المرخصة للولي إذا كان فقيرا ، مع اتفاقهم على ان
أوامر القرآن للوجوب ، الا ما خرج بدليل ، والحال انه لا معارض هنا ، بل المؤيد
المؤكد موجود من الاخبار ، والآية الدالة على اشتراط الفقر.
و (ثانيها) :
اشتغاله بإصلاح أموالهم بحيث يمنعه ذلك عن الاشتغال لأمر نفسه فلو لم يكن قائما
بها أو كان كذلك ، ولكن لا يشغله عن تحصيل المعاش لنفسه وعياله ، فإنه لا يجوز له
ان يأكل منه شيئا.
وبهذا الشرط
صرحت الروايات المتقدمة عن تفسير العياشي ، وبه وبالذي قبله صرحت موثقة سماعة
المنقولة من الكافي في صدر الاخبار.
و (ثالثها) :
سعة مال اليتيم ، فلو كان قليلا لم يجز له الأكل منه ، والآية الشريفة وان كانت
بالنسبة الى هذا الشرط مطلقة ، الا ان الاخبار قد صرحت به كرواية أبي الصباح ،
ورواية أبي سلمة المنقولة من تفسير العياشي.
__________________
والظاهر ان
الوجه فيه هو انه متى كان قليلا فإنه لا يشغله عن تحصيل المعيشة لنفسه ولا موجب
لحبس نفسه على إصلاح أموالهم.
و (رابعها) :
كون الأكل مقدار الكفاية من غير إسراف ، لقوله عزوجل «بِالْمَعْرُوفِ» والمعروف : مالا إسراف فيه ولا تقتير ، وهو الحد الوسط.
والى هذا الشرط
يشير قوله ـ في صحيحة عبد الله ابن سنان ـ : «المعروف هو القوت» وقوله ـ في موثقة
سماعة ـ : «فليأكل بقدر ولا يسرف».
ومن هنا يعلم
صحة القول الثاني من الأقوال المتقدمة باعتبار هذا الشرط ، وان كان بالنظر الى
إطلاقه غير صحيح ، لما عرفت من اشتراط الأكل بالشروط التي ذكرناها ، وكذا غيره من
الأقوال المتقدمة ان أخذت على إطلاقها ، كما هو ظاهر قولهم بها ونقل الناقلين لها.
وحينئذ يكون ما
اخترناه هنا قولا سادسا.
اما القول
باعتبار اجرة المثل ـ كما هو أول الأقوال المتقدمة ـ فأنكره بعض مشايخنا المعاصرين
بعد اختياره القول الثاني ، لعدم وجود الدليل عليه ، وادعى انه ليس في
الاخبار تقييد اجرة المثل ، وانما هو تخريج محض واستنباط صرف ، وهو في مقابلة النص
غير معتبر. قال : وهذا كاف في رد هذا القول. انتهى.
أقول : يمكن ان
يستدل على هذا القول بقوله عليهالسلام في صحيحة هشام بن الحكم «ينظر الى ما كان غيره يقوم به
من الأجر فليأكل بقدر ذلك» فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر في الرجوع الى أجرة المثل ،
وحينئذ فيكون هذا الخبر مستند القول المذكور.
__________________
نعم يبقى
الكلام في الجمع بين هذا الخبر وبين ما دل على الكفاية.
والظاهر : هو
حمل هذا الخبر على تلك الأخبار الدالة على الكفاية ، لاعتضاد تلك الاخبار بظاهر
الآية الشريفة ، حيث دلت على الأكل بالمعروف ، وهو كما عرفت مالا إسراف فيه ولا
تقتير ، وهو الحد الوسط. وبذلك يظهر ان ما أطال بها أصحابنا فيما قدمناه من
أقوالهم ، من القول بأقل الأمرين ، بناء على الجمع بذلك بين الدليلين ، من
الاحتمالات والتخريجات لا ضرورة تلجئ اليه بل الأظهر الجمع بما ذكرناه ، وحينئذ
تجتمع الاخبار على القول بالكفاية حسبما يأتي تحقيقه إنشاء الله تعالى.
ثم لا يخفى ان
ظاهر الاخبار المتقدمة ـ بعد التأمل فيها يعين التحقيق ـ : ان المراد بالكفاية هو
ما كان له ولعياله الواجبي النفقة.
أما ـ أولا ـ فلان
الآية والاخبار ـ كما عرفت ـ قد دلا على اشتراط الفقر في جواز الأخذ ، ومنعا من
الأخذ حال الغنى ، ومن الظاهر المعلوم : انه لو اقتصر في الكفاية على نفقته خاصة
مع وجود الواجبي النفقة عليه ، فإنه لا يخرج بذلك عن الفقر ، ولا يدخل في الغنى ،
للاتفاق نصا وفتوى على ان الغنى انما يحصل بملك مؤنة السنة لنفسه وعياله الواجبي
النفقة قوة وفعلا والا فهو فقير.
وبالجملة فإن
شرط الفقر الموجب لجواز الأخذ موجود ، والغنى المانع من الأخذ مفقود ، وحينئذ فلا
معنى لتخصيص الكفاية به خاصة دون عياله المذكورين.
واما ـ ثانيا ـ
فلان الاخبار قد دلت على اشتراط حبس نفسه على إصلاح أموالهم في جواز الأخذ ،
وحينئذ فاللازم من تخصيص الأخذ بما يكفيه خاصة ضياع عياله الواجبي النفقة ، مع انه
يجب عليه الإنفاق عليهم.
وبذلك يظهر
جواز أخذه الكفاية له ولعياله المذكورين ، ولا يختص بالأكل ،
وان كان ظاهر صحيحتي عبد الله بن سنان ذلك ، بل يتعدى الحكم إلى الكسوة أيضا ، لأن المفروض انه حبس نفسه على أموالهم ليس له
مكسب سوى ذلك ، وحينئذ يحمل القوت في الخبرين المذكورين على التمثيل ، لانه
الضروري اللابدى .
قال في المسالك
: ان الأكل بالمعروف يحتاج الى تنقيح ، فإن أريد به الأكل المتعارف ـ كما يظهر من
الآية والرواية وجعل مختصا بالولي ـ لا يتعدى الى عياله ، فلا منافاة بين الفقر
وحصول الكفاية منه بهذا الاعتبار ، لان حصول القوت يحتاج معه إلى بقية مؤنة السنة
من نفقة وكسوة ومسكن وغيرها ، حتى يتحقق ارتفاع الفقر ، ان لم نشترط حصول ذلك في
بقية عياله الواجبي النفقة ، وحينئذ فقولهم ـ في الاستدلال بثبوت أقل الأمرين «انه
مع حصول الكفاية يكون غنيا فيجب عليه الاستعفاف عن بقية الأجرة» ـ غير صحيح. وان
أريد به مطلق التصرف كما هو المراد من قوله «وَلا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً وَبِداراً» ـ «وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» ـ «إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» وغير ذلك ، فقيد المعروف من ذلك غير واضح المراد ،
ليعتبر
__________________
صحة أقل الأمرين ، لأن التصرف على الوجه المعروف يختلف باختلاف الأشخاص
والحاجة ، وربما ادى ذلك الى الإضرار بمال اليتيم. الى آخر كلامه.
ومما قدمنا من
التحقيق في المقام قد انكشف غشاوة الإبهام عما استشكل هنا وكذا غيره من الاعلام.
هذا.
واما ما ذكره
الشيخ الطبرسي فيما قدمنا نقله منه ، من الرواية عن مولانا الباقر عليهالسلام «ان الأكل انما هو على جهة القرض» فلم يصل إلينا. ويمكن ان يكون ذلك إشارة
إلى رواية رفاعة المنقولة من تفسير العياشي ، الدالة على ان هذه الآية منسوخة ،
فإنه متى ثبت النسخ تعين عدم جواز الأكل إلا قرضا ، إلا انك قد عرفت تكاثر الاخبار
واستفاضتها بخلاف ما دلت عليه هذه الرواية ، مضافا الى ظاهر الآية ايضا ، لدلالتها
على جواز الأكل كما عرفت ، فلا عمل عليها وهي مرجئة إلى قائلها.
واما قوله «والظاهر
من رواياتنا. الى آخر كلامه. فقد عرفت انه خلاف الظاهر ، بل الظاهر منها بمعونة
ظاهر الآية الشريفة انما هو الكفاية على الوجه الذي قدمنا تحقيقه.
(المنهج
الرابع) قد
استفاضت الاخبار بتحريم أكل مال اليتيم ظلما وعدوانا. ويعضدها القرآن العزيز ، حيث
قال ـ عز من قائل ـ «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً» اى ما يجر الى النار والسعير.
ومن الاخبار في
ذلك : ما رواه في الكافي عن سماعة في الموثق ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : وعد الله عزوجل في أكل مال اليتيم بعقوبتين ، إحداهما : عقوبة الآخرة :
النار ، واما عقوبة الدنيا فقوله عزوجل «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» يعنى ليخش أن اخلفه في ذريته ان يصنع بهم كما صنع
__________________
بهؤلاء اليتامى .
وعن عجلان بن
صالح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن أكل أموال اليتامى ، فقال : هو كما قال الله ـ عزوجل ـ «إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» ثم قال ـ من غير أن أسأله ـ : من عال يتيما حتى ينقطع
يتمه أو يستغنى بنفسه ، أوجب الله ـ عزوجل ـ له الجنة ، كما أوجب النار لمن أكل مال اليتيم .
وروى في الكافي
والتهذيب عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، قال : قيل لأبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ : انا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم ،
فنقعد على بساطهم ، ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم ، وربما أطعمنا فيه الطعام من
عند صاحبنا ، وفيه من طعامهم. ما ترى في ذلك؟ فقال : ان كان في دخولكم عليهم منفعة
لهم فلا بأس ، وان كان فيه ضرر فلا. وقال عليهالسلام «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» فأنتم لا يخفى عليكم ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ «وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» .
وروى في الكافي
عن على بن المغيرة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لي ابنة أخ يتيمة فربما اهدى لها شيء ، فآكل منه
ثم أطعمها بعد ذلك شيئا من مالي ، فأقول. يا رب هذا بذا ، فقال : لا بأس .
وروى في
التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يكون للرجل عنده المال ، اما بيع
واما قرض ، فيموت ولم يقضه إياه ، فيترك أيتاما صغارا فيبقى لهم عليه لا يقضيهم ، أيكون
ممن يأكل أموال اليتامى
__________________
ظلما؟ قال : لا ، إذا كان نوى ان يؤدى إليهم .
وعن سماعة في
الموثق قال : سألت الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ» فقال : يعنى اليتامى ، إذا كان الرجل يلي الأيتام في
حجره ، فليخرج من ماله على قدر ما يحتاج اليه على قدر ما يخرجه لكل انسان منهم ،
فيخالطهم ويأكلون جميعا ، ولا يزرأن من أموالهم شيئا ، انما هي النار .
وقد تقدم نحو
هذا الخبر في جواب ابى الصباح الكناني .
وروى العياشي
في تفسيره عن على عليهالسلام عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن قول الله في اليتامى «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ» قال : يكون لهم التمر واللبن ، ويكون لك مثله على قدر ما
يكفيك ويكفيهم ، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح .
وعن عبد الرحمن
بن الحجاج عن ابى الحسن موسى عليهالسلام قال : قلت له : يكون لليتيم عندي الشيء وهو في حجري
أنفق عليه منه ، وربما أصيب مما يكون له من الطعام ، وما يكون مني إليه أكثر. قال
: لا بأس بذلك .
وروى على بن
إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» اخرج كل من كان عنده يتيم ، وسألوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في إخراجهم ، فأنزل الله تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ». قال : وقال الصادق عليهالسلام
__________________
لا بأس ان تخلط طعامك بطعامهم ، فان الصغير يوشك ان يأكل مثل الكبير ، واما
الكسوة وغيرها فيجب على كل رأس صغير وكبير ما يحتاج إليه .
أقول : ويستفاد
من هذه الاخبار الشريفة جملة من الأحكام المنيفة : ـ (منها) : ان أكل أموال
اليتامى ظلما ـ كما دلت عليه الآية ـ انما هو في صورة ما لو لم ينو رده ، كما يظهر
من رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة ، ونحوها ما تقدم في المنهج الثاني من
رواية أحمد بن ابى نصر.
وربما أشعر ذلك
بجواز التصرف في مال اليتيم ، ولو من غير الولي إذا كان ينوي الرد مع ان ظاهر كلام الأصحاب : التحريم حيث خصوا جواز
الاقتراض
__________________
بالولاية والملائة ، وحكموا بكون غيره عاصيا غاصبا.
ويمكن الجمع
بأن عدم دخول هذا التصرف في مدلول الآية لا يستلزم الحل له ، بل غاية ذلك انه لا
يكون عقوبته عقوبة الناوي ، وهو الذي يأكل في بطنه نارا وسيصلى سعيرا. وان كان ذلك
محرما ومستوجبا للعقاب في الجملة.
وأنت خبير بأن
روايات جواز الاقتراض من مال اليتيم التي تقدمت ، ليست نصا فيما ذكره الأصحاب من
الاشتراط ، بل ربما ظهر منها الجواز مطلقا ، الا ان الأحوط الوقوف على ما ذكروه
حسما لمادة الشبهة.
(ومنها) : ان
التصرف في أموالهم يتوقف على نوع مصلحة لهم في ذلك ، مثل الجلوس على فرشهم والشرب
من مائهم واستخدام خادمهم ونحو ذلك ، كما يظهر من رواية الكاهلي المتقدمة ، بأن
يكون التصرف بأحد هذه الأنواع ممن يصل إليهم نفعه بأي وجوه المنافع فيكون هذا
بهذا.
ولو لم يكن
كذلك فهو مجرد مفسدة وضرر عليهم وداخل تحت قوله تعالى «وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» ويشير الى هذا رواية على بن المغيرة ، ورواية عبد الرحمن
ابن الحجاج المنقولة عن العياشي.
(ومنها) : جواز
خلط طعام الأكل معهم بطعام الأيتام مع تساوى الغذاء والأكل جميعا ، معللا بأنه
ربما كان الصغير يأكل مثل الكبير ، اما لو علمنا يقينا ان الصغير لا يأكل ذلك
المقدار فإشكال ، من ظواهر الأخبار المذكورة ، ومن أصالة التحريم. والاحتياط لا
يخفى.
(ومنها) : جواز
أكل شيء من مالهم إذا كان اليتيم يأكل عوضه أو أكثر. الى غير ذلك من الفوائد التي
يمكن استنباطها منها. والحمد لله رب العالمين.
أحكام العقود والمعاملات
الفصل الأول
(في البيع)
وأركانه ثلاثة
: الصيغة ، والمتعاقدان ، والعوضان.
والبحث عن ذلك
يقتضي بسطه في مقامات : ـ
الأول : المشهور ـ بل كاد يكون إجماعا ـ هو اشتراط الصيغة
الخاصة في البيع كغيره من العقود ، فلا يكفى التقابض من غير تلك الصيغة ، وان حصل
من الألفاظ والأمارات ما يدل على ارادة البيع ، سواء كان في الخطير والحقير.
قال في الشرائع
: ولا ينعقد الا بلفظ الماضي ، فلو قال : اشتر ، أو ابتع أو أبيعك لم يصح ، وان حصل
القبول. وكذا في طرف القبول ، مثل ان يقول : بعني
__________________
أو تبيعني ، لأن ذلك أشبه بالاستدعاء أو بالاستعلام.
وهل يشترط
تقديم الإيجاب على القبول أم لا؟ فيه تردد ، والأشبه : عدم الاشتراط.
وقال في الدروس
: فالإيجاب : بعت وشريت وملكت. والقبول : ابتعت واشتريت وتملكت وقبلت ـ بصيغة
الماضي. فلا يقع الأمر والمستقبل ، ولا ترتيب بين الإيجاب والقبول على الأقرب ،
وفاقا للقاضي ـ الى ان قال ـ : ولا تكفي المعاطاة وان كان في المحقرات ، نعم يباح
التصرف في وجوه الانتفاعات ، ويلزم بذهاب احدى العينين ويظهر من المفيد الاكتفاء
بها مطلقا وهو متروك. انتهى.
وعلى هذا النهج
كلام العلامة وغيره.
وبالجملة ،
فإنه لا بد عندهم من لفظ دال على الإيجاب وآخر على القبول ، وان يكون بلفظ الماضي.
ومنهم من أوجب
قصد الإنشاء.
ومنهم من أوجب
تقديم الإيجاب على القبول.
ومنهم من أوجب
فورية القبول وانه لا يضر الفصل بنفس أو سعال ونحوهما.
ومنهم من أوجب
وقوع الإيجاب والقبول بالعربية إلا مع المشقة. الى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع
لكلامهم.
قال الشهيد
الثاني ـ في شرح قول المصنف «ولا يكفى التقابض من غير لفظ. الى آخره» ـ هذا هو
المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعا ، غير ان ظاهر كلام المفيد يدل على
الاكتفاء في تحقق البيع بما يدل على الرضا من المتعاقدين ، إذا عرفاه وتقابضا. وقد
كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب الى ذلك ايضا ، ولكن يشترط في الدال كونه لفظا ،
وإطلاق كلام المفيد أعم منه ، والنصوص المطلقة من الكتاب والسنة الدالة على حل
البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على ذلك ، فانا لم نقف على دليل صريح
في اعتبار لفظ معين ، غير ان الوقوف مع المشهور هو الأجود ،
مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه الى ان يعلم الناقل.
وقال في أواخر
البحث ـ بعد ان نقل عن متأخري الشافعية وجميع المالكية انعقاد البيع بكل ما دل على
التراضي وعده الناس بيعا ـ ما صورته : وهو قريب من قول المفيد وشيخنا المتقدم ،
فما أحسنه وأتقن دليله ، ان لم ينعقد الإجماع على خلافه. انتهى.
أقول : والى
هذا القول مال جملة من محققي متأخري المتأخرين ، وبه جزم المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد ، وأطال في نصرته والاستدلال عليه ، وبه جزم ايضا المحقق الكاشاني في
المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية ، واليه يميل والدى ، والشيخ عبد الله بن
صالح البحراني ، ونقلاه ايضا عن شيخهما العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني.
وهو الظاهر
عندي من اخبار العترة الاطهار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار ، كما سيظهر
لك إنشاء الله تعالى على وجه لا تعتريه غشاوة الإنكار. هذا.
واما ما ذكره
في المسالك من ان الأجود القول المشهور ، فلا اعرف له وجها في المقام ، بعد ما صرح
به من الكلام ، واما الاعتضاد بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه الى ان يعلم الناقل.
ففيه : انه قد اعترف هو بأن إطلاق الكتاب والسنة دال على حصول البيع بكل ما دل على
التراضي من قول أو فعل ، وصرح في آخر كلامه بأنه ما أحسنه وامتن دليله ، وهو
اعتراف منه بوجود الناقل ، فكيف يصح منه الحكم بأجودية القول المشهور لهذا التعليل
العليل المذكور ، ولم يبق الا التعلق بالشهرة بين الأصحاب ، وهي ليست بدليل شرعي
في هذا الباب ولا غيره من الأبواب.
ثم انه ينبغي
ان يعلم أنه لا بد في هذا البيع من جميع الشرائط المعتبرة في صحة البيوع ، سوى الصيغة
الخاصة التي أدعوها ، فإنه لا دليل عليها.
بل ظاهر
الروايات الواصلة إلينا في أبواب البيوع والأنكحة ونحوهما من
__________________
سائر العقود والمعاملات : ان المعتبر فيها ، انما هو الألفاظ الجارية في
البين ، مما يدل على الرضا من الطرفين.
ولا بأس بإيراد
ما خطر بالبال من الاخبار الجارية على هذا المنوال :
فمنها : صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألته عن الرجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له
: آخذ منك المأة بمأة وعشرة ، أو بمأة وخمسة ، حتى يراوضه على الذي يريد ، فإذا
فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا ، ثم قال له : قد راددتك البيع وانما أبايعك على هذا ، لأن الأول لا يصلح ، أو لم يقل
ذلك ، وجعل ذهبا مكان الدراهم : فقال : إذا كان اجرى البيع على الحلال فلا بأس
بذلك .
وظاهر الخبر ـ كما
ترى ـ ان البيع انما وقع بهذا اللفظ المذكور الذي وقع بينهما أولا من المحاورة على
الزيادة ، حتى تراضيا على قدر معلوم ، غاية الأمر انه لما كان البيع باطلا بسبب
الزيادة الجنسية المستلزمة للربا ، فمتى أبدلها بغير الجنس صح البيع وتم.
ومنها : حسنة
الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال قدم لأبي متاع من مصر فصنع طعاما ، ودعى له التجار
، فقالوا له : نأخذه منك بده دوازده فقال لهم ابى : وكم يكون ذلك؟ فقالوا في العشرة آلاف
ألفان ، فقال لهم أبي : فإني أبيعكم هذا المتاع باثني عشر الف درهم. فباعهم مساومة
.
والحديث ـ كما
ترى ـ صريح في صحة البيع بهذا اللفظ ، مع انه غير جار على مقتضى قواعدهم التي
اشترطوها ، من تقديم الإيجاب على القبول ، كما
__________________
هو المشهور بينهم ، وكونهما بلفظ الماضي لا المستقبل والأمر ، كما عليه
ظاهر اتفاقهم ، فإنه لا قبول في الحديث بالكلية إلا ما يفهمه قولهم أولا : «نأخذ
منك بده دوازده» يعنى على جهة المرابحة. وهو عليهالسلام باعهم بهذه القيمة مساومة. ويفهم من الخبر ان رأس المال
كان عشرة آلاف درهم. والإيجاب هنا انما هو بلفظ المستقبل.
ومنها : رواية زرارة
عن الصادق عليهالسلام في زرع بيع وهو حشيش ثم سنبل. قال : لا بأس إذا قال :
ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع. فإذا اشتراه وهو حشيش فان شاء أعفاه وان شاء تربص
به .
والتقريب ظاهر
، فإن صيغة البيع هي هذه التي حكاها الامام عليهالسلام عن لسان المشترى ورضاء البائع بذلك.
ومنها : رواية
إسحاق بن عمار قال : قلت للصادق عليهالسلام : يكون للرجل عندي الدراهم الوضح ، فيلقاني فيقول : كيف
سعر الوضح اليوم؟ فأقول : كذا وكذا. فيقول : أليس لي عندك كذا وكذا الف درهما وضحا؟
فأقول : نعم فيقول : حولها لي دنانير بهذا السعر ، وأثبتها لي عندك. فما ترى في
هذا؟ فقال لي : إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك. فقلت : انى لم
أوازانه ولم أناقده ، وانما كان كلام منى ومنه. فقال أليس الدراهم والدنانير من
عندك؟ قلت : بلى. قال : فلا بأس . أقول : الوضح الدرهم الصحيح. فانظر الى بيع هذه
الدراهم بالدنانير بأي نحو وقع ، والراوي انما استشكل من حيث كونه صرفا يجب فيه
النقد والتقابض في المجلس ، فأزال عليهالسلام استشكاله بأنه لما كان النقدان كلاهما عنده كفى تحويل
أحدهما بالاخر في صحة الصرف.
ومنها : رواية
محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : جاءت امرأة إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
فقالت : زوجني. فقال : من لهذه؟ فقام رجل فقال : انا يا رسول الله ،
زوجنيها. فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شيء ، فقال : لا ، فأعادت فأعاد رسول
الله الكلام. فلم يقم غير الرجل ، ثم أعادت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرة الثالثة : أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم.
قال : قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن ، فعلمها إياه .
وهذه الرواية
مخالفة لقواعدهم من وجوه ، منها : وقوع القبول من الزوج بلفظ الأمر ، والظاهر من
كلامهم وجوب كونه بلفظ الماضي. ومنها : تقديم القبول على الإيجاب. ومنها : الفصل
بين الإيجاب والقبول بزيادة على ما اعتبروه.
وفي حديث تزويج
الجواد عليهالسلام بابنة المأمون ، المروي في إرشاد المفيد وغيره ، قال
الجواد عليهالسلام في خطبة النكاح : ثم ان محمد بن على بن موسى يخطب أم
الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو خمسمائة درهم جياد ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين
على هذا الصداق المذكور؟ قال : نعم ، قد زوجتك يا أبا جعفر ابنتي على الصداق
المذكور ، فهل قبلت ذلك؟ قال أبو جعفر : قبلت ذلك ورضيت به .
وفي رواية أبان
بن تغلب ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوجك متعة
على كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وان شئت كذا وكذا
سنة ، وبكذا وكذا درهما. وتسمى من الأجر ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا ،
فإذا قالت : نعم ، فقد رضيت ، فهي امرأتك الحديث.
وبمضمون هذه
الرواية أخبار عديدة في صورة عقد المتعة بلسان الزوج.
وفي موثقة
سماعة. قال : سألته عليهالسلام عن بيع الثمرة ، هل يصلح شراؤها قبل
__________________
ان يخرج طلعها؟ فقال : لا ، الا ان يشترى معها شيئا من غيرها. رطبة أو بقلا
، فيقول : اشترى منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا ، فان لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشترى في
الرطبة والبقل .
وفي صحيحة محمد
بن مسلم عن أحدهما ـ عليهماالسلام ـ انه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه
، ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال : كل واحد منهما لصاحبه : لك ما
عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما .
أقول : وهذا من
صيغ الصلح الدالة هنا على انتقال ما في يد كل منهما اليه ، وبراءة ذمته من مال
الأخر من ذلك المال المشترك وبمثل ذلك في باب الصلح أخبار عديدة.
وفي صحيحة
الحلبي عن الصادق عليهالسلام انه قال في الرجل يعطى الرجل المال فيقول له : ائت أرض
كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها ، قال : فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن الحديث.
أقول : وهذه من
صيغ المضاربة التي أوجبت للعامل استحقاق حصة من الربح ، وان لم يصرح بها في الخبر
، لكون الغرض من سياقه بيان مخالفة العامل في تجاوزه عن البلدة المأمور بها. الى
غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع. الدالة على سهولة الأمر في العقود ،
وان الألفاظ الجارية بين المتعاقدين الدالة على الرضا ، والمقصود من تلك العقود
الرافعة للنزاع والاشتباه بأي نحو كان ، كافية في صحة العقد وترتب أحكام الصحة
عليه.
__________________
* * *
وتمام الكلام
في المقام يتوقف على بيان أمور : ـ
(الأول) : المفهوم
مما نقله في المسالك عن بعض مشايخه المعاصرين ، هو اشتراط وجود اللفظ الدال على
التراضي من الطرفين.
والمفهوم مما
نقل عن المفيد : الاكتفاء بمجرد التراضي ، ولو بالإشارة والقرائن ، وان لم يحصل
بينهما ألفاظ دالة على ذلك ، واختاره في المفاتيح وسجل عليه.
والظاهر هو
الأول ، لتطرق القدح الى ما ذكره ، فإن الأصل بقاؤ ملك كل واحد لمالكه حتى يعلم
الناقل شرعا ، وغاية ما يفهم من الاخبار الجارية في هذا المضمار ـ مما تلوناه عليك
ونحوه ـ هو النقل وصحة العقد بالألفاظ الجارية من الطرفين ، الدالة على التراضي
بمضمون ذلك العقد ، دون الصيغ الخاصة التي اعتبرها الأكثر.
واما مجرد
التراضي والتقابض من غير لفظ يدل على ذلك فلم يقم عليه دليل ، وحديث «انما يحلل
الكلام ويحرم الكلام» . مؤيد ظاهر لما قلنا ، وغاية ما تدل عليه الأدلة التي
استند إليها ، من الهدايا والهبة ووقوع الشراء قديما وحديثا من البائع بغير كلام
إذا كان السعر معهودا ونحو ذلك ، هو جواز التصرف ، وهو مما لا نزاع فيه ولا إشكال
، اما كونه موجبا للنقل من المالك السابق ما دامت العين موجودة ، بحيث لا يجوز
لصاحبها الرد فيها ، فغير معلوم ، كيف وقد صرحوا بأنه لا خلاف في جواز الرد في
الهدايا ما دامت العين موجودة ، وحديث «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام». مؤيد أيضا
، إذ لم يحصل من الكلام ما أوجب الانتقال حتى يحرم الرد والرجوع ، واما جواز
التصرف فلا ينافي الخبر المذكور ، لانه محمول على اللزوم وعلى ما بعد
__________________
الرجوع ، جمعا بينه وبين ما دل على الإباحة بالتراضي.
وبالجملة
فالتمسك بأصالة بقاء الملك حجة قوية ، الى ان يحصل المخرج عن ذلك من الحجج الشرعية
، وغاية ما يستفاد من الاخبار ـ كما عرفت ـ هو الاكتفاء بالتراضي الحاصل من
الألفاظ ، دون مجرد التراضي.
(الثاني) : المشهور
بين القائلين بعدم لزوم بيع المعاطاة : هو صحة المعاطاة المذكورة ، إذا استكملت
شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وانها تفيد اباحة تصرف كل منهما فيما صار اليه
من العوض المعين ، من حيث اذن كل منهما في التصرف ، وتسليطه على ما دفعه اليه الا
انه لا يفيد اللزوم ما دامت العين باقية ، بل لكل منهما الرجوع فيما دفعه للآخر.
وعن العلامة ـ في
النهاية ـ القول بفساد بيع المعاطاة ، وانه لا يجوز لكل منهما التصرف فيما صار
اليه ، من حيث الإخلال بالصيغة الخاصة ، الا ان جمعا من الأصحاب نقلوا رجوعه عن
هذا القول في باقي كتبه.
قال في المسالك
ـ على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في صدر المسألة ـ : فلو وقع الاتفاق بينهما
على البيع ، وعرف كل منهما رضا الأخر بما يصير اليه من العوض المعين ، الجامع
لشرائط البيع غير اللفظ المخصوص ، لم يفد اللزوم. لكن هل يفيد اباحة تصرف كل منهما
فيما صار اليه من العوض؟ نظرا إلى اذن كل منهما للآخر في التصرف ، أو يكون بيعا
فاسدا ، من حيث إخلال شرطه وهو الصيغة الخاصة ، المشهور الأول. فعلى هذا يباح لكل
منهما التصرف ، ويجوز له الرجوع في المعاوضة ، ما دامت العين باقية ، فإذا ذهبت
لزمت. اما جواز التصرف ، فلما فرض من تسليط كل منهما الأخر على ما دفعه اليه واذنه
له فيه ، ولا نعني لإباحة التصرف الا ذلك. واما لزومها مع التلف ، فلرضاهما بكون
ما أخذه كل منهما عوضا عما دفعه ، فإذا تلف ما دفعه كان مضمونا عليه ، الا انه قد
رضى بكون عوضه هو ما بيده ، فان كان ناقصا فقد رضى به ، وان كان زائدا فقد رضى به
الدافع ، فيكون بمنزلة ما لو دفع المديون عوضا عما في ذمته ورضى به صاحب الدين.
انتهى.
أقول : لقائل
أن يقول : انه لا يخفى ما في هذا الكلام من تطرق المناقشة اليه ، وان كان ظاهرهم
الاتفاق عليه. وذلك فإنه متى كانت الصيغة الخاصة عندهم أحد أركان البيع كما صرحوا به مع تصريحهم هنا باشتراط جميع شروط البيع
في صحة المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصة ، فقضية ذلك هو بطلان هذه المعاطاة وفسادها
، لفوات أحد أركان الصحة ، وهو الصيغة الخاصة ، كما ذكره العلامة في النهاية. وهم
انما تمسكوا في صحة المعاطاة وإفادتها الإباحة مع وجود العين ، واللزوم مع تلفها ،
بالرضا من كل من المتعاقدين ، كما يدور عليه كلامه في المسالك.
ولا ريب ان
افادة الرضا لما ذكروه فرع المشروعية ، الا ترى انهما لو تراضيا على بيع المجهول
وشرائه ، أو الربوي أو نحو ذلك ، مما لا يصح بيعه شرعا ، فإنه لا يصح. ولا ثمرة
لهذا الرضا بالكلية ، فكذا فيما نحن فيه ، بناء على ما حكموا به من ركنية الصيغة
الخاصة ، ودوران الصحة والابطال مدارها ، وجودا وعدما.
وبالجملة فإنه
بالنظر الى مقتضى الأدلة الشرعية ، فاللازم هو صحة المعاطاة ، وان حكمها حكم البيع
المترتب على الصيغة الخاصة ، من غير فرق ، كما هو المختار. واليه ذهب من عرفت من
علمائنا الأبرار. وبالنظر الى قواعدهم وتصريحاتهم بما قدمنا ذكره ، فالواجب هو
الحكم بالفساد ، لما عرفت. وما ذكروه تفريعا على الصحة من اباحة التصرف وعدم
اللزوم ، الا بعد ذهاب العين ، بناء على ما عرفت من تعليلات المسالك ، فإنه غير
موجه عندي ولا ظاهر كما أوضحناه.
فإن قيل : ان
اشتراط الصيغة الخاصة انما هو في البيع ، وهذا ليس ببيع ، وانما هي معاملة أخرى
تفيد الإباحة على الوجه المذكور في كلامهم.
قلنا : فيه ـ أولا
ـ : ان صحة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكروه ، موقوفة
__________________
على الدليل الشرعي ، وليس الا مجرد هذه التعليلات التي ذكروها ، وقد عرفت
ما فيها.
وثانيا :
اشتراطهم جميع شروطهم البيع عدا الصيغة الخاصة في ترتب تلك الأحكام على المعاطاة ،
ينافي ما ذكرت. فان الناظر في ذلك يجزم بأنه بيع فان ثبت اشتراط صحة البيع بالصيغة الخاصة كان بيعا
فاسدا ، وان لم يثبت ـ كما هو المختار ـ كان بيعا صحيحا.
نعم لو لم
يشترط شرط صحة البيع في المعاطاة لأمكن ان يقال : انها معاملة أخرى غير البيع ،
وان لم يقم عليها دليل ، الا ان الأمر ليس كذلك ، كما عرفت.
وبالجملة ،
فاللازم اما فساد هذه المعاملة أو كونها بيعا حقيقيا ، وما ذكروه من التعليلات كما
صرحوا به وان كانت ترى في بادئ النظر صحته ، الا انه بالتأمل فيما ذكرناه يظهر
فساده ، وهو مؤيد لما قلناه في غير مقام من مجلدات كتابنا هذا ، من ان الاعتماد
على أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مما لا ينبغي العمل عليها ، بل
الاعتماد انما هو على الاخبار ان صرحت به ، أو أومأت إليه.
(الثالث) : قال
في المسالك : هل المراد بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب العين ، افادة ملك
متزلزل كالمبيع في زمن الخيار ، وبالتصرف يتحقق لزومه ، أم الإباحة المحضة التي هي
بمعنى الاذن في التصرف ، وبتحققه يحصل الملك له وللعين الأخرى؟ يحتمل الأول ، بناء
على ان المقصود للمتعاقدين انما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ولم يجز
التصرف في العين ، وان الإباحة إذا لم تقتض الملك فما الذي أوجب حصوله بعد ذهاب
العين الأخرى؟ ويحتمل الثاني ، التفاتا الى ان الملك لو حصل بها لكانت بيعا ،
ومدعاهم نفى ذلك ، واحتجاجهم بان الناقل للملك لا بد
__________________
ان يكون من الأقوال الصريحة في الإنشاء المنصوبة من قبل الشارع وانما حصلت
الإباحة باستلزام إعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته مسلطا عليها الاذن في التصرف
فيها بوجوه التصرفات ، فإذا حصل كان الأخر عوضا عما قابله ، لتراضيهما على ذلك ،
وقبله يكون كل واحد من العوضين باقيا على ملك مالكه ، فيجوز الرجوع فيه ، ولو كانت
بيعا قاصرا عن افادة الملك المترتب عليه لوجب كونها بيعا فاسدا ، إذ لم تجتمع
شرائط صحته ، ومن ثم ذهب العلامة في النهاية إلى كونها بيعا فاسدا ، وانه لا يجوز
لأحدهما التصرف فيما صار إليه أصلا. انتهى.
أقول :
وبالاحتمال الأول جزم المحقق الشيخ على في شرح القواعد كما سيأتي نقل كلامه ، لما
تقدم من التعليل.
ثم أقول : انه
لما كان البناء في هذه المسألة ـ كما قدمنا الإشارة اليه ـ على غير أساس ، حصل
الشك فيه والالتباس ، إذ لم يقم لهم دليل شرعي على صحة هذه الدعوى ، من إفادة
المعاطاة جواز التصرف ، من غير ان تكون ملكا حقيقيا ، سواء سمى ملكا متزلزلا أو
اباحة ، وانما مقتضى الأدلة ـ كما عرفت ـ هو كونها بيعا حقيقيا موجبا للانتقال وعدم
جواز الرجوع ، وان كانت العين موجودة ، حسبما قيل في البيع المشتمل على الصيغة
الخاصة ، واللازم على تقدير ما ذهبوا إليه في هذا المقام ، انما هو فساد البيع ،
كما قدمنا ذكره ، لانه لا خلاف بينهم في ان البيع المترتب عليه الانتقال وصحة
التصرف ، مشروط بشروط عديدة ، بالنسبة إلى الصيغة والمتعاقدين والعوضين وانه
باختلال شرط من تلك الشروط يكون البيع فاسدا ، وان حصل التراضي ، فإن التراضي لا
اثر له في تصحيح ما حكم الشارع بإبطاله ، وبيع المعاطاة عندهم مما يجب استكماله
جميع شروط البيع غير الصيغة الخاصة ، مع تصريحهم بكون الصيغة الخاصة أحد أركان
البيع وقضية ذلك بطلان البيع بالإخلال بها كما في الإخلال بغيرها من الشروط.
ودعوى
استثنائها من تلك الشروط ، بان تركها لا يوجب البطلان ، وانما يكون
الحكم هو الإباحة أو الملك متزلزلا ، تحكم محض. ولم نظفر لهم بدليل الا ما
عرفت من التعليلات المبنية على التراضي ، مع انها جارية في صورة اختلال غيرها من
الشروط ، لجواز تراضيهما على بيع المجهول والربوي ونحوهما مما منع الشارع منه ، مع
انهم لا يقولون به ، والكلام في الصيغة الخاصة ـ بناء على دعواهم وجوبها وانه لا
يلزم البيع الا بها ـ كذلك ، وبذلك يظهر لك ما في قوله في المسالك في تعليل
الاحتمال الأول من انه مبنى على ان المقصود للمتعاقدين انما هو الملك ، فإذا لم
يحصل كانت فاسدة ، فإن فيه : انهم قد أوجبوا في حصول القصد المذكور دلالة لفظ صريح
عليه ، وخصوه بالصيغة الخاصة ولم تحصل ، والى ذلك يشير قوله في الاحتجاج للاحتمال
الثاني : ان الناقل للملك لا بد ان يكون من الأقوال الصريحة ، فاللازم حينئذ هو
فساد المعاطاة كما ذكرنا ، لانتفاء الدال على ذلك المقصود ، وكذا في قوله ـ في
تعليل الاحتمال الثاني ـ من انه انما حصل باستلزام إعطاء كل واحد منهما للآخر
سلعته ، فان فيه : ان هذا لو صلح وجها لما ذكروه من الإباحة لا طرد في صورة
الإخلال بغير هذا الشرط من شروط صحة البيع ولزومه ، مع انهم لا يلتزمونه ، وتخصيصه
بهذا الموضع تحكم كما عرفت.
وقال المحقق
الشيخ على في شرح القواعد ـ بعد قول المصنف «ولا تكفي المعاطاة» ـ ما ملخصه :
وظاهره انها لا تكفي في المقصود بالبيع ، وهو نقل الملك ، وليس كذلك ، فان المعروف
بين الأصحاب انها بيع وان لم تكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد ،
وقوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» يتناولها ، لأنها بيع بالاتفاق حتى من القائلين بفسادها
، لأنهم يقولون هي بيع فاسد ، وقوله «إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنه عام الا فيما أخرجه الدليل ، وما يوجد في عبارة
جمع من متأخري الأصحاب ، انها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب احدى العينين ، يرون به
عدم
__________________
اللزوم في أول الأمر ، وبالذهاب يتحقق اللزوم ، لامتناع إرادة الإباحة
المجردة عن أصل الملك ، إذ المقصود للمتعاطيين انما هو الملك فإذا لم يحصل كانت
فاسدة ولم يجز التصرف في العين ، وكافة الأصحاب على خلافه. انتهى.
أقول : ما
ذكروه من ان المعاطاة بيع وانها تفيد الملك ، إذ مقصود المتعاطيين انما هو الملك ،
وشمول الآيات الدالة على حل البيع وصحته لذلك ، جيد متين.
لكن يبقى
الكلام في دعوى عدم اللزوم مع وجود العوضين ، فإنه يحتاج الى دليل ، إذ مقتضى ما
ذكروه هو الصحة واللزوم وكونه بيعا حقيقيا ، ولا اعرف لهم دليلا على هذه الدعوى
هنا ، الا الاستناد إلى الإخلال بالصيغة الخاصة ، بناء على ظاهر اتفاقهم على انها
ركن من أركان البيع ، وقضية ذلك انما هو الفساد لا الصحة مع عدم اللزوم.
فان قيل : انهم
يستندون الى وقوع المعاطاة في الصدر الأول مع الإخلال بالصيغة.
قلنا : فيه ـ أولا
ـ انك قد عرفت ان هذه الصيغة الخاصة لم يقم عليها دليل.
وثانيا : ان
المعاطاة في الصدر الأول انما كانوا يقصدون بها البيع الحقيقي كما عرفت من الاخبار
المتقدمة ونحوها ، وتوقف ذلك على تلف احدى العوضين غير معلوم ولا مدلول عليه
بدليل.
وأنت إذا ضممت
ما دلت عليه الاخبار المتقدمة ، من صحة بيع المعاطاة وغيره من العقود بالألفاظ
الدالة على مجرد التراضي ، مع الاخبار الدالة على الخيار بأنواعه ، والاخبار
الدالة على النزاع بين المشترى والبائع ونحو ذلك ، مما يتفرع على البيع صحة
وبطلانا ، ظهر لك ان ذلك كله مترتب على بيع المعاطاة كالبيع بالصيغة الخاصة عندهم.
وبالجملة فإني
لا اعرف لما ذكروه هنا وجه استقامة ، واللازم اما كون المعاطاة بيعا حقيقيا ـ كما
اخترناه ـ أو بيعا فاسدا ـ كما هو مقتضى قواعدهم.
ثم انه مما
يتفرع على الاحتمالين المذكورين في عبارة المسالك من الملك أو الإباحة ، حصول
النماء. فان قلنا بالملك كان تابعا للعين في الانتقال والملك ، وان قلنا بالإباحة
احتمل كونه مباحا لمن هو في يده كالعين ، وعدمه.
واما وطي
الجارية ، فقيل : الظاهر انه كالاستخدام يدخل في الإباحة منها.
واما العتق
فعلى القول بالملك يكون جائزا لأنه مملوك ، وعلى الإباحة يتجه العدم ، إذ
لا عتق إلا في ملك ، ومقتضى حكمهم بتجويز جميع التصرفات في بيع المعاطاة يدفع
التفريع على الإباحة هنا ، فيكون هذا مما يؤيد القول بالملك.
(الرابع) : لا
اشكال ولا خلاف عندهم في انه لو تلف العينان في بيع المعاطاة فإنه يصير لازما ،
وانما الكلام في تلف إحداهما خاصة ، وقد صرح جمع منهم بأنه كالأول ، فيكون موجبا
لملك العين الأخرى لمن هي في يده ، نظرا الى ما قدمنا نقله عن المسالك في الأمر
الثاني ، واحتمل هنا ايضا العدم ، التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم «الناس
مسلطون على أموالهم» .
ثم انه حكم بأن
الأول أقوى ، وعلله بان من بيده المال مستحق قد ظفر بمثل حقه باذن مستحقه فيملكه ،
وان كان مغايرا له في الجنس والوصف ، لتراضيهما على ذلك.
أقول : قد عرفت
آنفا ان الاستناد إلى أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مشكل ، وانما
المدار على النصوص الدالة على المراد بالعموم أو الخصوص. والمسألة عارية عن ذلك من
أصلها ، فضلا عن فرعها. واما على ما اخترناه فإنه لا إشكال
__________________
في هذا المجال.
ثم انه لو تلف
بعض إحداهما فهل يكون حكمه حكم تلف الجميع أولا ، وجهان. اختار أولهما المحقق
الشيخ على في شرح القواعد. قال : ويكفى تلف بعض احدى العينين لامتناع التراد في
الباقي إذ هو موجب لتبعيض الصفقة والضرر ، ولان المطلوب كون إحداهما في مقابلة
الأخرى.
وتنظر فيه في
المسالك ، قال : لان تبعيض الصفقة لا يوجب بطلان أصل المعاوضة ، بل غايته جواز فسخ
الأخر ، فيرجع الى المثل أو القيمة كما في نظائره ، واما الضرر الحاصل من التبعيض
المنافي لمقصودهما ، من جعل إحداهما في مقابلة الأخرى ، فمستند الى تقصيرهما في
التحفظ بإيجاب البيع ، كما لو تبايعا بيعا فاسدا. ويحتمل حينئذ ان يلزم من العين
الأخرى في مقابلة التالف ويبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدمناه. انتهى.
وهو جيد بناء
على قواعدهم. واما على ما اخترناه فالأمر ظاهر ، إذ صحة المعاملة المذكورة ولزومها
لا تتوقف على تلف أحد العوضين أو بعضه ، بعين ما قرروه في العقد بالصيغة الخاصة
عندهم.
(الخامس) : ان
من فروع المسألة بناء على ما قرروه فيها ، ما لو وقعت المعاوضة بقبض أحد العوضين
خاصة ، كما لو دفع إليه سلعة بثمن وافقه عليه أو دفع اليه ثمنا عن عين موصوفة
بصفات السلم ، فتلف العوض المقبوض ، ففي لحوق أحكام المعاطاة ولزوم الثمن المسمى
والثمن الموصوف إشكال ، ينشأ من عدم صدق اسم المعاطاة ، لأنها مفاعلة تتوقف على
العطاء من الجانبين ، ولم يحصل.
ويعضده ايضا
الاقتصار فيما يخرج عن الأصل على موضع اليقين ان كان ، ومن صدق التراضي على
المعاوضة ، وتلف العين المدعى كونه كافيا في التقابض من الجانبين.
وبالصحة هنا
صرح في الدروس فقال : ومن المعاطاة ان يدفع إليه سلعة بثمن
يوافقه عليه من غير عقد ، ثم يهلك عند القابض فيلزمه الثمن المسمى. انتهى.
أقول : ويؤيده
أن التسمية بالمعاطاة في هذا البيع انما وقعت في كلامهم ، إذ لا نص في المقام.
فوجوب ترتب الصحة على الإعطاء من الجانبين ـ بناء على هذا اللفظ ـ لا وجه له. نعم
لو كان هنا نص ورد بهذه التسمية لاقتضى تفريع ذلك عليه. وحينئذ فالمرجع في ذلك ـ بناء
على أصولهم في هذه المسألة ـ الى ما علل به في الوجه الثاني ـ بناء على ما اخترناه
ـ دلالة النصوص على كون ذلك بيعا صحيحا شرعيا ، لما عرفت آنفا من ان اشتراط هذه
الصيغة الخاصة غير ثابت ، بل يكفى مجرد الألفاظ الدالة على التراضي ، مع استكمال
باقي الشرائط المعتبرة في البيع. والله العالم.
السادس) : قال
في المسالك : ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة ، بأن يأمره بعمل
معين ويعين له عوضا ، فيستحق الأجرة بالعمل ، ولو كانت إجارة فاسدة لم يستحقق شيئا
مع علمه بالفساد ، بل لم يجز له العمل والتصرف في ملك المستأجر ، مع اطباقهم على
جواز ذلك ، واستحقاق الأجر. انما يكون الكلام في تسمية المعاطاة في الإجارة. وذكر
في مثال الهبة : ما لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض إتلافه ، وتملكه به ، ولو كانت
هبة فاسدة لم يجز. ولا بأس به ، الا ان في مثال الهبة نظرا ، من حيث ان الهبة لا
تختص بلفظ ، بل كل لفظ يدل على التمليك بغير عوض كاف فيها كما ذكروه في بابه ،
وجواز التصرف في المثال المذكور موقوف على وجود لفظ يدل عليها ، فيكون كافيا في
الإيجاب. اللهم الا ان يعتبر القبول اللفظي مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتجه ما
قاله. انتهى.
أقول : لا يخفى
على من مارس الاخبار أنه لا وجه لتخصيص هذا البعض ما ذكره بالإجارة والهبة ، وذلك
فإن غاية ما يستفاد منها بالنسبة الى جميع العقود ، انه لا يعتبر فيها أزيد من
الألفاظ الدالة على الرضا بمضمون ذلك العقد ، كيف كانت ، وعلى اى نحو صدرت ، ومع
استكمال جميع ما يشترط فيه ، من غير توقف على الصيغ
الخاصة التي أوجبوها في كل عقد.
واما الإشكال
في كون ذلك يسمى معاطاة أم لا ، كما يشير اليه كلام شيخنا المذكور ، ففيه : ما
أشرنا إليه آنفا ، من ان هذه التسمية انما هي اصطلاحية ذكروها في باب البيع ،
وجعلوها في مقابلة البيع بالصيغة التي اتفقوا عليها فقسموها الى البيع بالعقد
المخصوص والى بيع المعاطاة ، وجعلوا لكل منهما أحكاما ، كما تقدم ذكره ، ولما كانت
هذه الصيغة تتضمن المفاعلة من الطرفين ، استشكلوا في إجرائها في هذه المواضع
ونحوها.
وأنت خبير بأنه
مع الرجوع الى الاخبار فلا وجود لهذه التسمية ولا اثر يترتب عليها في باب البيع
ولا غيره ، وقد عرفت انهم في باب البيع قد خرجوا عنها في صحة المعاطاة بقبض أحد
العوضين دون الأخر ، وظاهر كلامه ـ عليه الرحمة ـ ان المستند في صحة الإجارة
والهبة في هذا المقام انما هو اطباق الناس على جواز التصرف في الصورتين المذكورتين
، واستحقاق الأجرة في الإجارة ، وأنت خبير بما فيه : وان كان فيه نوع إيماء إلى
الإجماع ، بل الحق في ذلك انما هو كون ذلك غاية ما يستفاد من الأدلة في هذين
الموضعين وغيرهما ولا يستفاد منها ما ادعوه من الصيغ الخاصة التي جعلوا بها هذه
الافراد قسيما لما اتفقوا على صحته. والله العالم.
(السابع) : الظاهر
انه لا خلاف في ان اشتراط الإتيان بالصبغة الخاصة أو مجرد ما دل من الألفاظ على
الرضا ، انما هو بالنسبة الى من يتمكن من التلفظ ، فأما من لم يمكنه ذلك كالأخرس
ومن بلسانه آفة ، فإنه تكفيه الإشارة المفهمة.
قيل : وفي حكمه
الكتابة ايضا على ورق أو خشب أو نحو ذلك واعتبر العلامة في الكتابة ان تدل على
رضاه. والظاهر عدم وجوب التوكيل في الصورة المذكورة وربما قيل بالوجوب.
قيل : ويجب
وقوع الإيجاب والقبول باللفظ العربي ، مراعيا فيهما أحكام الاعراب والبناء ، وكذا
كل عقد لازم ، لان الناقل هو الألفاظ المخصوصة ، وغيرها
لم يدل عليه دليل ، ومعلوم ان العقود الواقعة في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهماالسلام انما كانت بالعربية ، نعم يجوز لمن لا يعلم ذلك ،
الإيقاع بمقدوره ، ولا يجب التوكيل ، للأصل. نعم يجب التعلم إن أمكن من غير مشقة
عرفا. انتهى.
أقول. قد عرفت
ان غاية ما يستفاد من الاخبار الواردة في البيوع والصلح والأنكحة ونحوها وجود
الألفاظ الدالة على التراضي بما دلت عليه بأي نحو كانت ، وكون العقود في وقتهم ـ عليهمالسلام ـ كانت باللغة العربية وعلى النهج العربي الصحيح ، لا
يدل ما ذكروه من اشتراط ذلك ، لان ذلك انما صدر من حيث ان محاوراتهم ومحادثاتهم
وكلامهم كانت على ذلك النحو ، في عقد كان أو غير عقد ، فهو من قبيل السليقة
والجبلة التي طبعت عليها ألفاظهم ومحاوراتهم وألسنتهم. واشتراط ذلك في صحة العقود
يحتاج الى دليل واضح وبرهان لائح ، وأصالة العدم أقوى متمسك في المقام ، وان كان
الاحتياط فيما ذكروه ، لا سيما في باب النكاح المبنى على الاحتياط. والله العالم.
المقام الثاني
قد عرفت ان أحد
أركان البيع : المتعاقدان. فيشترط فيهما البلوغ والعقل والاختيار والملك ونحوه ،
بأن يكون مالكا أو مأذونا على خلاف في هذا الموضع يأتي إنشاء الله تعالى بيانه فلا
يصح بيع الصبي ولا شراؤه ولا المجنون ولا المكره ولا المغمى عليه ولا السكران ولا
غير المالك ومن في حكمه.
وتفصيل هذه
الجملة يقع في مسائل : ـ
الاولى : ظاهر
كلام جمهور الأصحاب انه لا يصح بيع الصبي ولا شراؤه ولو اذن له الولي. وانه لا فرق
في الصبي بين المميز وغيره. ولا فرق بين كون المال له أو للولي أو لغيرهما. اذن
مالكه أو لم يأذن.
ونقل جماعة من
الأصحاب هنا قولا بجواز بيع الصبي وشرائه إذا بلغ عشرا وكان عاقلا ، وردوه بالضعف.
قال في المسالك
: والمراد بالعقل هنا الرشد ، فغير الرشيد لا يصح بيعه ، وان كان عاقلا ، اتفاقا.
انتهى.
قال العلامة في
التذكرة : الصغير محجور عليه بالإجماع ، سواء كان مميزا أولا ، في جميع التصرفات
الا ما استثنى ، كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره و
وصيته وإيصال الهدية واذنه في دخول الدار ، على خلاف في ذلك. قال الله
تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا
بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ» وقوله تعالى «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً» يعني أموالهم. ولعل قوله «وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ» قرينة له. وقوله «فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» .
قيل : السفيه
المبذر ، والضعيف الصبي ، لأن العرب تسمى كل قليل العقل ضعيفا ، والذي لا يستطيع
التغلب مغلوب على عقله.
وظاهره دعوى
الإجماع على الحكم المذكور ، مع انك قد عرفت وجود المخالف في ذلك.
ويظهر من
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد ما نقل
هذا الكلام ـ ما ملخصه : والإجماع مطلقا غير ظاهر ، والآية غير صريحة الدلالة ،
لأن عدم دفع المال إليهم وعدم الاعتداد بإملائهم ، لا يستلزم عدم جواز إيقاع العقد
وعدم الاعتبار بكلامهم ، خصوصا مع اذن الولي والتمييز.
ويؤيده اعتبار
المستثنى ، فإنه لو كان ممن لا اعتداد بكلامه ما كان ينبغي الاستثناء ، ولهذا قيل
بجواز عقده إذا بلغ عشرا أو عقده حال الاختيار ، فان ظاهر الاية كون الاختبار قبل
البلوغ ، ولئلا يلزم التأخير في الدفع مع الاستحقاق ـ الى ان قال ـ : وبالجملة إذا
جاز عتقه ووصيته وصدقته بالمعروف وغيرها من القربات ، كما هو ظاهر الروايات
الكثيرة ، لا يبعد جواز بيعه وشرائه وسائر معاملاته ، إذا
__________________
كان بصيرا مميزا رشيدا يعرف نفعه وضره بالمال ، كما نجده في كثير من
الصبيان ، فإنه قد يوجد منهم من هو أعظم في هذه الأمور من آبائهم ، فلا مانع له من
إيقاع العقد ، خصوصا مع اذن الولي أو حضوره بعد تعيينه الثمن. انتهى.
أقول : لا يخفى
ان ما ذكره وان كان جيدا من حيث الاعتبار بالنظر الى ما عده من الافراد ، الا انه
بالنظر الى الاخبار لا يخلو من تطرق الإيراد.
وها أنا اذكر
ما وصل الى من الاخبار الجارية في هذا المضمار.
فمنها : ما
رواه في الكافي عن حمزة بن حمران عن حمران قال : سألت أبا جعفر ـ عليهالسلام ـ قلت له : متى يجب على الغلام ان يؤخذ بالحدود التامة
ويقام عليه ويؤخذ بها؟ قال : إذا خرج عن اليتم فأدرك ، قلت : فلذلك حد يعرف به؟
فقال : إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك ، أقيمت عليه
الحدود التامة ، وأخذ بها ، وأخذت له ، قلت : فالجارية متى تجب عليها الحدود
التامة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال : ان الجارية ليست مثل الغلام ، لان الجارية إذا
تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في
الشراء والبيع ، وأقيمت عليها الحدود التامة ، وأخذ لها وبها. قال : والغلام لا
يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة ، أو يحتلم
أو يشعر أو ينبت قبل ذلك . ورواه في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن
بن محبوب الا انه رواه عن حمزة بن حمران ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام من غير واسطة حمران.
أقول : والخبر
ـ كما ترى ـ ظاهر فيما ذكره الأصحاب ـ رضياللهعنهم ـ
__________________
من انه لا يجوز بيع الصبي ولا شراؤه ، وكذا الصبية إلا بعد البلوغ ،
المعلوم بأحد الأمور المذكورة ، والطعن بضعف السند غير موجه عندنا ، مع رواية
الخبر المذكور أيضا في كتاب المشيخة المشار إليه الذي هو أحد الأصول المعتمدة.
وما رواه الصدوق
في الخصال عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليهالسلام قال : سأله ابى وانا حاضر عن اليتيم متى يجوز امره؟ قال
حتى يبلغ أشده. قال : وما أشده؟ قال : احتلامه قال : قلت : قد يكون الغلام ابن ثماني
عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولا يحتلم. قال : إذا بلغ وكتب عليه الشيء جاز امره ،
الا ان يكون سفيها أو ضعيفا .
والتقريب فيها
: ان المراد بجواز أمره هو التصرف في ماله بالبيع والشراء ونحوهما ، كما أفصح عنه
في حديث حمران المتقدم ، وقد أناط عليهالسلام ذلك بالبلوغ ، وهو ظاهر في انه ما لم يبلغ فإنه لا يجوز
امره ولا تصرفه فيه بوجه من الوجوه ، الا ما دل دليل من خارج على استثنائه ،
فالقول بأنه لا منافاة بين صحة بيعه وبين عدم دفع المال اليه ـ كما يظهر من كلام
المحقق الأردبيلي المتقدم ذكره ـ لا معنى له ، فان الخبر المذكور دل على عدم جواز
أمره ، يعني تصرفه بجميع أنواع التصرفات ، والعقد الواقع منه ان كان صحيحا موجبا
لنقل الملك فهو التصرف الذي منع منه الخبر ، والا فهو لغو لا عبرة به ولا ثمرة
تترتب عليه ، واذن الولي والتميز انما يكون مؤثرا في الصحة مع قيام الدليل ، وليس
فليس.
وبالجملة
فأصالة بقاء الملك لكل من المتعاقدين حتى يقوم دليل واضح على النقل ، أقوى متمسك.
وما رواه الصدوق
في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام قال : إذا بلغ الغلام أشده : ثلاث عشرة سنة ، ودخل في
الأربع عشرة سنة ، وجب عليه ما وجب على المحتلمين ، احتلم أو لم يحتلم. وكتبت عليه
السيئات وكتبت له
__________________
الحسنات ، وجاز له كل شيء ، الا ان يكون سفيها أو ضعيفا . والتقريب في الخبر المذكور : دلالته بمفهوم الشرط ـ الذي
هو حجة عند المحققين ، ودلت عليه الاخبار التي قدمناها في مقدمات كتاب الطهارة ـ على
انه ما لم يبلغ أشده (السنين المذكورة) فإنه لا يجوز له شيء ، يعنى من التصرفات ،
كما دل عليه الخبر ان المتقدمان.
وما رواه على
بن إبراهيم في تفسيره عن ابى الجارود ، عن ابى جعفر عليهالسلام في حديث ، قال فيه : قوله «وَابْتَلُوا
الْيَتامى» قال : من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له ان
يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ، فإذا احتلم وجب عليه الحدود واقامة الفرائض ، ولا
يكون مضيعا ولا شارب خمر ولا زانيا ، وإذا آنس منه الرشد دفع اليه المال وأشهد
عليه ، فان كانوا لا يعلمون انه قد بلغ فإنه يمتحن بريح إبطه ونبت عانته ، فإذا
كان فقد بلغ ، فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا ، ولا يجوز ان يحبس عنه ماله ويعتل
عليه بأنه لم يكبر بعد .
أقول : والخبر
المذكور ـ كما ترى ـ صريح في انه محجور عليه حتى يبلغ ، وظاهر الخبر أن المراد
بالآية المذكورة : انه يجب اختبار اليتامى بالبلوغ وعدمه ، فإذا علم البلوغ بأحد
أسبابه وجب دفع ماله إليه إذا آنس منه الرشد ، والا فلا يدفع اليه.
وبذلك يظهر ما
في قول المحقق المتقدم ذكره.
ويؤيده اعتبار
المستثنى ، فان استثناء عدم الدفع انما هو بالنسبة إلى البالغ من حيث عدم الرشد
بالنسبة إلى اليتيم قبل البلوغ ، كما يظهر من كلامه ، والاختبار بالرشد وعدمه انما
هو بعد تحقق البلوغ.
وما رواه العياشي
في تفسيره عن عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : متى يدفع الى الغلام ماله؟ قال : إذا بلغ أو أونس منه
الرشد ، ولم يكن سفيها و
__________________
لا ضعيفا «الحديث» .
والتقريب فيه :
دلالته على انه محجور عليه لا يدفع اليه ماله الا بعد البلوغ والرشد ، ومن الظاهر
ان وقوع البيع والشراء منه فرع وجود مال في يده ليأخذ به ويعطى ، ولا معنى لصحة
عقده وجواز تصرفه بمجرد إنشاء صيغة البيع وقبول الشراء ، مع كونه محجورا عليه في
دفعه وقبضه.
على انك قد
عرفت ان البيع لا يتوقف على صيغة خاصة ، بل هو عبارة عن التراضي على القبض
والإقباض بمجرد الكلام الجاري بينهما.
وبالجملة فإن
الظاهر من هذه الاخبار التي ذكرناها ونحوها غيرها مما يقف عليه المتتبع : ان الصبي
ما لم يبلغ فإنه محجور عليه ولا يجوز بيعه ولا شراؤه ، ودلالة بعض الاخبار على
تصرفه بالعتق والوصية أو الصدقة ، لا يدل على الجواز في محل البحث ، بل يجب الوقوف
فيه على مورد تلك الأخبار المذكورة ، ويكون ذلك مستثنى بها مما دلت عليه هذه
الاخبار ونحوها ، وإلحاق غيره به قياس لا يوافق أصول المذهب ، لا سيما مع تصريح
بعض هذه الاخبار بعدم جواز البيع والشراء منه.
وبذلك يظهر لك
قوة القول المشهور ، وانه المؤيد المنصور ، وضعف ما ذكره المحقق المذكور. والله
العالم.
واما ما يتحقق
به البلوغ فقد تقدم الكلام فيه مستوفى في كتاب الصيام.
__________________
المسألة الثانية
لا خلاف بين
الأصحاب في اشتراط الاختيار ، فلا يصح عقد المكره ، لفوات الشرط المذكور.
وظاهرهم ـ ايضا
ـ الاتفاق على انه لو اجازه ـ بعد وقوعه حال الإكراه ـ صح بخلاف ما تقدم من عقد
الصبي والمجنون ، إذ لا قصد لهما الى العقد ولا أهلية ، لفقد شرطه وهو العقل ،
بخلاف المكره فإنه بالغ عاقل ، وليس ثمة مانع الا عدم القصد الى العقد حين إيقاعه
، وهو مجبور بلحوق الإجازة ، فيكون كعقد الفضولي حيث انتفى القصد اليه من مالكه
الذي يعتبر قصده حين العقد ، فلما لحقه القصد بالإجازة صح ، وحينئذ فلا مانع من
الصحة إلا تخيل اشتراط مقارنة القصد للعقد ، ولا دليل عليه.
وينبه على عدم
اعتباره عقد الفضولي ، وعموم الأمر بالوفاء بالعقد يشمله ، فلا يقدح فيه اختصاص
عقد الفضولي بالنص ، كذا صرح به في المسالك ، واليه يرجع كلام غيره ايضا.
وظاهر كلام
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : المناقشة فيما ذكروه من الفرق بين عقد الصبي
والمجنون وبين عقد المكره ، بصحة الثاني مع لحقوق الإجازة ، بخلاف الأول. حيث قال
ـ في أثناء البحث في بيان الأحكام التي اشتملت عليها عبارة المصنف ، التي من
جملتها استثناء عقد المكره من البطلان متى لحقته الإجازة ـ ما لفظه : فالتفريع كله
ظاهر ـ الى قوله ـ : ولو أجازا ، والا المكره.
فان الاستثناء
غير واضح ، بل الظاهر البطلان ايضا ، لعدم حصول القصد ، بل وعدم صدور القصد عن
تراض ، والظاهر اشتراطه على ما هو ظاهر الآية ، ولانه
لا اعتبار بذلك الإيجاب في نظر الشارع ، فهو بمنزلة العدم ، وهو ظاهر. لعدم
الفرق بينه وبين غيره من الطفل ونحوه ، والفرق في كلامهم بأنه لا اعتبار به بخلاف
المكره فإنه معتبر الا انه لا رضاء معه فإذا وجد الرضا صح لوجود شرطه ، بعيد جدا
لما عرفت. وبالجملة لا إجماع فيه ولا نص ، والأصل الاستصحاب وعدم الأكل بالباطل
الا ان تكون تجارة عن تراض مما يدل على عدم الانعقاد ، الا ان المشهور الصحة وما
نعرف لهم دليلا ، وهم اعرف. ولعل لهم نصا ما نقل إلينا. انتهى. وهو جيد.
ويؤيده ـ بأظهر
تأييد ـ ان الأحكام الشرعية مترتبة على النصوص الجلية وليس للعقول فيها مسرح
بالكلية ، والأصل بقاء الملك في كل من العوضين لمالكه الأصلي حتى يقوم الدليل
الشرعي على الانتقال. وهم قد سلموا بان عقد المكره حال الإكراه باطل اتفاقا ،
فتصحيحه بالإجازة أخيرا يتوقف على نص واضح يدل على ذلك ، والتعلق في ذلك ، بعقد
الفضولي مع قطع النظر عن كون ذلك قياسا لو ثبت صحة العقد الفضولي ، مردود بما
سنوضحه إنشاء الله تعالى في تلك المسألة من بطلانه.
وقوله : فلا
يقدح اختصاص العقد الفضولي بنص ، مردود بأن هذا النص انما هو من طريق العامة ، وهو
حديث البارقي ، ونصوصنا ظاهرة بخلافه كما ستقف عليه إنشاء الله.
وقوله : ان
عموم الأمر بالوفاء بالعقد يشمله ، إشارة إلى قوله عزوجل «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» مردود بالاتفاق على ان المراد بالعقود : العقود الصحيحة
، والا لتناول العقد حال الإكراه.
ودعوى كون هذا
العقد صحيحا بعد الإجازة مع اتفاقهم على البطلان قبلها ، يتوقف على الدليل الواضح
، والا فهو محض المصادرة.
وقوله : ان
مقارنة القصد للعقد لا دليل عليه ، مردود بأنه هو المستفاد من النصوص ، وغيره لا
دليل عليه ، فان المستفاد من النصوص التي قدمناها في بيع المعاطاة ونحوها : أنه لا
بد في صحة العقد من حصول الرضا بتلك الألفاظ الجارية
بين المتعاقدين في أي عقد كان ، وهذا هو القدر المحقق منها في شرط صحة العقد
، واما انه يصح بالإجازة بعد وقوعه على جهة الإكراه ، بحيث يكون الرضا به والقصد
إليه متأخرا عن العقد ، فهو المحتاج الى الدليل.
وبالجملة فإن
دعواه معكوسة عليه ، كما لا يخفى على من رجع الى الإنصاف وجنح اليه.
والى ما ذكرنا
هنا يشير كلام المحقق الشيخ على في شرح القواعد ، حيث قال : واعلم ان هذه المسألة
ان كانت اجماعية فلا بحث ، والا فللنظر فيها مجال ، لانتفاء القصد أصلا ورأسا مع
عدم الرضا ، ولا يتحقق العقد المشروط بذلك إذا لم يتحقق ، لان الظاهر من كون
العقود بالقصود : اعتبار القصد المقارن لها دون المتأخر انتهى. وهو جيد.
واما قوله في
المسالك ـ على اثر الكلام المتقدم نقله ـ : «وبهذا يظهر ضعف ما قيل هنا من انتفاء
القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا ، وان الظاهر من كون العقود بالقصود : المقارن دون
المتأخر» ، فهو إشارة إلى رد كلام المحقق المذكور ، وقد عرفت ما فيه من القصور ،
فان ما ذكره من الوجوه التي زعم بها ضعف هذا الكلام ، قد كشفنا عن وجوه قصورها
نقاب الإبهام.
على ان عود
الصحة بعد البطلان غير معقول ، الا ان يقول بان العقد حال الإكراه جائز صحيح ،
ولزومه موقوف على الإجازة ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فإنهم لا يختلفون في البطلان
لفقد شرط الصحة وهو الاختيار ، ولهذا انهم في العقد الفضولي حكموا بجوازه وصحته ،
وانما منعوا من لزومه ، فجعلوا لزومه وعدمه مراعى بإجازة المالك وعدمها.
ثم انه قد أورد
عليهم في هذا المقام اشكال ، وهو انهم قد حكموا بفساد عقد الهازل ، ولم يذكروا
لزومه لو لحقه الرضا ، مع ان ظاهر حاله انه قاصد الى اللفظ دون مدلوله ، كما في
المكره ، لانه بالغ عاقل ، فاللازم حينئذ اما إلحاقه
بالمكره في لزوم عقده مع لحقوق الرضا به ، أو بيان وجه الفرق بينهما.
ودعوى كونه غير
قاصد للفظ ، بعيدة عن جادة الصواب.
* * *
هذا. وينبغي ان
يعلم : ان الحكم ببطلان بيع المكره مخصوص بما إذا كان الإكراه بغير حق ، فلو كان
بحق كان صحيحا لا يضره الإكراه ، وقد ذكروا لذلك مواضع :
منها : ان
يتوجه عليه بيع ماله لوفاء دين عليه ، أو شراء مال أسلم إليه قيمته فاكرهه الحاكم
عليه ، صح بيعه وشراؤه ، لأنه إكراه بحق.
ومنها : تقويم
العبد على معتق نصيبه منه ، وتقويمه في فكه من الرق ليرث ، وإكراهه على البيع
لنفقته ونفقة زوجته مع امتناعه ، وبيع الحيوان إذا امتنع من الإنفاق عليه ، والعبد
إذا أسلم عند الكافر ، والعبد المسلم والمصحف إذا اشتراهما الكافر وسوغناه ،
فإنهما يباعان عليه قهرا ، والطعام عند المجاعة يشتريه خائف التلف ، والمحتكر مع
عدم وجود غيره واحتياج الناس إليه ، فإن جميع هذه الصور مستثناة من قولهم «ان بيع
المكره غير صحيح» وضابطها : «الإكراه بحق» والله العالم.
المسألة الثالثة
قد عرفت فيما
تقدم ان من شروط صحة البيع : كون البائع مالكا أو في حكمه على المختار ، الا انه
قد وقع الخلاف بين أصحابنا في عقد الفضولي.
والكلام فيه
يقع في مقامين : ـ
المقام الأول :
اختلف الأصحاب في صحة بيع الفضولي وبطلانه ،
فالمشهور ـ بل كاد ان يكون إجماعا ـ : هو الأول. وان توقف لزومه على
الإجازة ، وذهب في الخلاف والمبسوط وتبعه ابن إدريس الى الثاني. وهو الظاهر من
عبارة أبي الصلاح في الكافي. ولم أر من نقل عنه ، الا ان الذي يظهر من عبارته ذلك
، فإنه قال في الكتاب المذكور ـ بعد تعريف البيع بأنه عقد يقتضي استحقاق التصرف في
المبيع والثمن وتسليمهما ـ ما صورته : ويفتقر صحته الى شروط ثمانية : صحة الولاية
في البيعين ـ الى ان قال ـ واعتبرنا صحة الولاية لتأثير حصولها بثبوت الملك أو
الاذن ، وصحة الرأي في صحة العقد ، وعدم ذلك في فساده. ثم قال ـ في موضع آخر ـ :
ومن ابتاع غصبا يعلمه كذلك فعليه رده الى المالك ، ولادرك له على الغاصب ، وان لم
يعلمه فللمالك انتزاعه منه ، ويرجع بالدرك على من باع. انتهى.
فإنه جعل
المؤثر في صحة العقد هو حصول الولاية المسببة عن الملك أو الاذن كالوكيل ونحوه :
فالفضولي ليس له ولاية بشيء من المعنيين ، وفي فساده عدم ذلك. وأوجب فيمن ابتاع
غصبا رده الى المالك لا وقوفه على الإجازة.
ونقل الفاضل
المقداد في التنقيح هذا القول عن شيخه. ولا اعلم من أراد به من مشايخه.
واختار هذا
القول ـ ايضا ـ فخر المحققين هنا وفي كل موضع من العقود الفضولية ، وتبعه على ذلك
العماد مير محمد باقر الداماد ، حيث قال في رسالته الرضاعية ما هذا لفظه : عندي ان
عقد النكاح بل مطلق العقد الصادر من الفضولي ، وهو الذي ليس له ولاية ولا وكالة ،
باطل من أصله ، والإجازة اللاحقة غير مؤثرة في تصحيحه ، ولا كاشفة عن صحته أصلا.
انتهى.
وممن ظاهره
القول بالبطلان هنا ـ ايضا ـ المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال ـ بعد قول
المصنف «ولو باع الفضولي وقف على الإجازة» ما ملخصه : هذا هو المشهور ، وما نجد
عليه دليلا. ثم نقل الرواية العامية الاتية
إنشاء الله تعالى ، وبعض تعليلاتهم العقلية. ثم قال : ومعلوم عدم صحة
الرواية ومعارضتها بأقوى منها دلالة وسندا ، لقوله عليهالسلام لحكيم بن حزام : لا تبع ما ليس عندك. ومعلوم ـ ايضا ـ عدم
صدوره من أهله ، لأن الأهل هو المالك أو من له الاذن. وبالجملة : الأصل ، واشتراط
التجارة عن تراض ، الذي يفهم من الآية الكريمة ، والآيات والاخبار الدالة على عدم
جواز التصرف في مال الغير إلا باذنه ، وكذا العقل ، يدل على عدم الجواز ، وعدم
الصحة وعدم انتقال المال من شخص الى آخر. انتهى.
ويظهر ذلك ـ ايضا
ـ من الشيخ الحر في الوسائل.
وهذا القول هو
الظاهر عندي من الاخبار ، على وجه لا يعتريه الشك والإنكار ، إلا ممن قابل بالصد
عن الحق والاستكبار ، وسيأتيك اخباره إنشاء الله تعالى في المقام ساطعة الأنوار
علية المنار.
هذا وظاهر
الأصحاب : ان المراد بالبيع الفضولي هو من باع مال غيره مع عدم الاذن من مالكه ،
أعم من ان يكون البيع لنفسه أو للمالك ، فيدخل فيه بيع الغاصب ونحوه ، وأدلتهم
التي استدلوا بها في المقام شاملة بعمومها لما قلناه ، وكأن بنائهم في الحكم بصحة
البيع المغصوب ، مع كونه منهيا عن التصرف فيه ، انه لا منافاة بين الصحة والنهى ،
لكون النهى انما يؤثر الإبطال في العبادات ، واما في المعاملات فغاية ما يترتب
عليه لحوق الإثم بالمخالفة ، فيصح بيعه وان أثم البائع بالتصرف ، وسيجيء تحقيق
الكلام في المقام إنشاء الله تعالى.
وقد احتج
الأصحاب على ما ذهبوا اليه ـ هنا من الصحة ـ بأن مقتضى الصحة موجود وهو العقد
الجامع للشرائط ، وليس ثم مانع الا اذن المالك ، وبحصوله يزول المانع ويجتمع
الشرائط ، كذا قرره في المسالك.
واحتج على ذلك
في المختلف بأنه بيع صدر من أهله في محله فكان صحيحا
اما صدوره من اهله فلصدوره من بالغ عاقل مختار ، ومن جميع الصفات كان أهلا
للإيقاعات ، واما صدوره في محله فلانه وقع على عين يصح تملكها وينتفع بها ، وتقبل
النقل من مالك الى آخر ، واما الصحة فلثبوت المقتضى السالم عن معارضة ، وكون الشيء
غير مملوك للعاقد غير مانع من صحة العقد ، فان المالك لو اذن قبل البيع لصح فكذا
بعده ، إذ لا فارق بينهما.
واحتج ايضا بما
رواه عن عروة البارقي : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة ، فاشترى شاتين ثم باع
إحداهما بدينار في الطريق. قال فأتيت النبي صلىاللهعليهوآله بدينار والشاة فأخبرته ، فقال : بارك الله لك في صفقة
يمينك .
واحتج الشيخ في
الخلاف على ما ذهب اليه من القول بالبطلان بإجماع الفرقة. قال : ومن خالف لا يعتد
بقوله ، لانه لا خلاف في انه ممنوع من التصرف في ملك غيره والبيع تصرف ، وايضا روى
حكيم عن النبي صلىاللهعليهوآله انه نهى عن بيع ما ليس عنده ، وهذا نص. وروى شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لا طلاق إلا فيما يملك ، ولا عتق الا فيما يملك ،
ولا بيع الا فيما يملك . فنفى عليهالسلام البيع في غير الملك ولم يفرق.
وأجاب القائلون
بالصحة عن الإجماع بمنعه مع وجود المخالف وهو من جملة المخالفين في نهايته ، وعن
المنع من التصرف في ملك الغير بأنه مسلم ، لكن إذا كان بغير اذنه والاذن هنا موجود
، وهو الإجازة القائمة مقامه. وعن النفي بأنه إذا دخل على حقيقة ، أريد به نفى صفة
من صفاتها ، فيكون المراد بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا بيع الا فيما يملك». : لا لزوم للبيع الا فيما يملك ، والا لزم بطلان
بيع الوكيل والوصي والولي ، فيكون المراد : لا بيع الا فيما هو ملك أو كالملك بسبب
الاذن وقد حصل.
__________________
أقول : وعندي
فيما ذكروه من الأدلة على الصحة ، وفيما ذكروه من الأجوبة عن أدلة الشيخ نظر يتوقف
بيانه على ذكرها واحدة واحدة ، ليتأكد بذلك صحة ما اخترناه وقوة ما قويناه ، ويكون
ذلك في مواضع :
(الأول) : ما
احتج به في المسالك من كون المقتضي للصحة موجودا وهو الجامع للشرائط ، ففيه : انه
لم يقم لهم دليل على اعتبار هذا العقد الذي ذكروه ، والصيغة التي اشترطوها ، وانما
المتحقق من الناقل الذي يترتب عليه أحكام البيع ، هو حصول التراضي من الطرفين ،
وبذلك صرح هو أيضا في مسالكه ، فقال ـ بعد ان نقل عن ظاهر المفيد الاكتفاء في تحقق
البيع بما دل على الرضا به من المتعاقدين ان عرفاه وتقابضا ، وعن بعض مشايخه
المعاصرين انه يذهب الى ذلك لكن يشترط في الدال كونه لفظا ـ ما صورته : والنصوص
المطلقة من الكتاب والسنة الدالة على حل البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة
تدل على ذلك ، فانا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معين ، وقد عرفت فيما تقدم
ميل جملة من العلماء الى هذا القول.
وحينئذ فإذا
اعترف بأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد الذي ذكروه ، وانما المدار على حصول
التراضي من الطرفين أعم من ان يكون بهذا اللفظ أو بغيره مما يدل عليه ، كان الناقل
المترتب عليه الأحكام انما هو الرضا من المالك ، وحيث لم يحصل ـ كما هو المفروض ـ فلا
وجود للبيع من أصله ، ولا يترتب اثر عليه. فكيف يحتج هنا بأن المقتضي للصحة موجود
وهو العقد الجامع للشرائط.
لا يقال : ان
لقائل أن يقول : ان البائع الفضولي يجوز ان يتراضى مع المشترى على نحو من الوجوه ،
ويكون ذلك التراضي بيعا موقوفا.
لأنا نقول :
التراضي الذي دل عليه الدليل ـ عندنا ـ هو ما يكون بين المالك والمشترى ، أعم من
ان يكون مالك الأصل أو المتصرف كالولي والوصي والوكيل ، وأيضا فإن ذلك القائل لا
يرتضيه ولا يقول به لتصريحه بوجوب تلك الصيغة المخصوصة.
(الثاني) : ما
احتج به في المختلف من أنه بيع صدر من اهله ، وجعله الأهلية عبارة
عن البلوغ والعقل والاختيار ، ففيه : منع ظاهر ، لان الخصم يقول : ان
الأهلية عبارة عن ذلك بإضافة المالكية للأصل أو التصرف ، ولا يسلم له ما ادعاه من
أهلية الفضولي ، وان الأهلية عبارة عما ذكره ، بل هو أول المسألة.
واما ما ذكره
من صدوره في محله باعتبار وقوعه على عين يصح تملكها وتقبل النقل فيه ، ففيه : ما
في الأول ، فإن الخصم يقول : ان محله المال المملوك أصلا أو تصرفا ، لا ما يصلح
للتملك ويقبله في حد ذاته.
وبالجملة فإن
ما ذكره من الدليل مصادرة على المطلوب كما لا يخفى.
واما ما ذكره
من انه لا فرق بين الاذن قبل البلوغ أو بعده فغير مسلم أيضا ، لأن التصرف بعد
الإذن شرعي بلا خلاف فلا يترتب عليه اثم ولا ضمان ، واما قبله فغصبى يترتب عليه
الضمان والإثم ، لقبح التصرف في مال الغير بغير اذنه ، ومنع الشارع من ذلك. وقد
صرحوا بذلك في مواضع عديدة ، والا لجازت الصلاة في الأماكن مطلقا ، وفي الثياب
كذلك ، وجاز أكل الغير والتصرف فيه بأنواع التصرفات ، بناء على الاذن المتأخر. حيث
لا فرق بينه وبين الاذن المتقدم ، فان اذن المالك والا غرم له اجرة ذلك ، وتكون
التصرفات على التقديرين تصرفات شرعية ، وهو مخالف للمعقول والمنقول.
واما ما احتج
به من الرواية فلا تقوم بها حجة في هذا المجال ، وان اشتهر نقلها في كتب الاستدلال
، حيث انها عامية والعجب منه ـ رحمهالله ـ وممن تبعه في ذلك حيث انهم كثيرا ما يطعنون في
الأحاديث الصحيحة ويردونها لمخالفتها ما اصطلحوا عليه من هذا الاصطلاح الجديد ،
ويعتمدون هنا في أصل الحكم على رواية عامية ، ويفرعون عليها فروعا ، ويرتبون عليها
أحكاما ، والحال كما ترى.
وأنت خبير بأن
المفهوم من هاتين الحجتين : ان المراد بالبائع : من باع لنفسه أو للمالك ـ كما
أشرنا إليه سابقا.
ويؤيده : أنهم
جعلوا بيع الغاصب من قبيل بيع الفضولي ، ومن الظاهر ان الغاصب انما يبيع لنفسه لا
لمالكه ، وقد صرح بذلك العلامة في القواعد ، والشيخ على في
شرحه. فقال ـ بعد قول المصنف «وكذا الغاصب» ما صورته : اى حكم الغاصب
كالفضولي ، وهو أصح الوجهين ، وان احتمل الفساد نظرا إلى القرينة الدالة على عدم
الرضا ، وهي الغصب.
وكذلك في
الدروس ، حيث قال ـ بعد ذكره البيع ـ : ولا يقدح في ذلك علم المشترى بالغصب.
انتهى.
ومن العجب هنا
منعه في التذكرة في بيع مالا يملك ثم يمضى ليشتريه من مالكه ويسلمه إلى المشتري.
قال : ولا نعلم فيه خلافا ، لنهي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع ما ليس عندك ، ولاشتماله على الضرر فان صاحبها
قد لا يبيعها وهو غير مالك لها ولا قادر على تسليمها. انتهى.
وسؤال الفرق
متجه ، فان ما ذكره من الدليلين الأولين على المنع شامل لما نحن فيه ، ونسبة اجازة
المالك في الفضولي بعد العقد كنسبة بيع المالك على البائع الفضولي ، في ان حصول كل
منهما مصحح ، ويلزم بالعقد السابق. وان كان هناك غرر كما ذكره ففي الفضولي أيضا
غرر بأنه قد لا يجيز المالك ايضا ، وعدم المالكية ثابتة في الموضعين ، وعدم القدرة
على التسليم مشترك أيضا ، لأن تسليم البائع الفضولي من غير اذن المالك تصرف غصبي
منهي عنه شرعا ، فيصدق في حقه انه غير قادر على التسليم شرعا.
وبالجملة فإن
تجويزه في بيع الفضولي الذي هو محل البحث ، ومنعه هنا مما لا وجه له.
(الثالث) : ما
أجابوا به عن حجة الشيخ من جهة المنع من التصرف في مال الغير بأنه مسلم ، لكن إذا
كان بغير الاذن ، والاذن هنا موجود وهو الإجازة القائمة مقامه ، ففيه ما عرفت من
حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه إلا ما استثنى ، وليس منه هذا. ولا شك ان هذا
العقد الواقع بغير اذن المالك وما يترتب عليه من دفع المبيع وقبض الثمن من ذلك
القبيل ، واذنه أخيرا لا يخرج تلك التصرفات السابقة عن ان تكون غصبا. نعم يعفى عما
جناه من ذلك ، كما لو جنى شخص على شخص ثم أبرأه من ذلك. ولو لم يأذن المالك
فان حكم الغصب باق فيكون هو مؤاخذا لجميع تصرفاته دينا ودنيا ، اما الأول
فبالمعاقبة واما الثاني فبوجوب إرجاع كل حق الى مستحقه.
(الرابع) : ما
أجابوا به عن النهي بأنه لا يستلزم الفساد في المعاملات ، فهو وان كان مشهورا
بينهم ، إلا انا كثيرا ما نرى عقودا قد حكموا ببطلانها بسبب النهى الوارد في
الروايات ، ومن تتبع كتاب النكاح ، وكتاب البيع فيما حرموه من بيع الخمر والكلب
والخنزير ونحوها ، ظهر له ذلك ، وما ذكروه من هذه الكلية انما هو اصطلاح أصولي لا
تساعد عليه الآيات والروايات على إطلاقه ، كما لا يخفى على من اعطى المسألة حقها
من التتبع.
* * *
والذي يخطر
بالبال في الجمع بين ما ذكروه ـ من هذه القاعدة ـ وبين ما ورد من الاخبار الدالة
على النهى ، وحكم الأصحاب بالفساد عملا بمضمونها ، ان يقال :
ان النهى
الواقع من الشارع عليهالسلام في ذلك العقد اما ان يكون باعتبار عدم قابلية المعقود
عليه لذلك كالكلب والخنزير ونجس العين ونحوها في البيع مثلا. وإحدى المحرمات
ونحوها في النكاح مثلا ، وحينئذ لا إشكال في الفساد.
أو يكون
باعتبار أمر خارج ، مثل كون ذلك في زمان مخصوص أو حال مخصوصة أو نحو ذلك من الأمور
الخارجية عن العوضين المتقابلين فربما يقال بما ذكروه وتخص القاعدة المذكورة بهذا
الفرد كالبيع وقت النداء ، فإن النهي عنه وقع من حيث الزمان ، فيقال بصحة البيع
لعدم تعلق النهى بذات شيء من العوضين ، باعتبار عدم قابليته للعوضية ، بل وقع
باعتبار أمر خارج من ذلك ، وان أثم باعتبار إيقاعه في هذا الزمان المنهي عن
الإيقاع فيه. وما نحن فيه انما هو من قبيل الأول ، لأن الظاهر ان توجه النهي اليه
انما هو من حيث عدم صلاحية المعقود عليه لذلك ، لكونه تصرفا في مال الغير بغير
اذنه ، وهو قبيح عقلا ونقلا كتابا وسنة. واذن المالك أخيرا على تقدير وقوعه لا
يخرج تلك التصرفات عن كونها غصبا كما تقدم بيانه في الموضع الثالث.
وهذا التفصيل مما خطر ببالي العليل في سابق الزمان ، وهو جيد وجيه ، وقد
تقدم في المباحث السابقة من هذا الكتاب ما يؤيده.
ويؤيد هذا
التفصيل الذي ذكرناه ما وفق الله سبحانه للوقوف عليه في كلام شيخنا زين الملة
والدين في المسالك في مسألة العقد على بنت الأخ وبنت الأخت على العمة والخالة بغير
اذنها حيث انه قيل في المسألة ببطلان العقد ، وقيل بالصحة وان للعمة والخالة الخيار
في فسخه وعدمه.
وقد استدل
القائل بالبطلان بالنهي عنه. ورده في المسالك بأن النهي لا يدل على الفساد في
المعاملات ، ثم قال ـ بعد ذلك ـ فان قيل : النهي في المعاملات وان لم يدل على
الفساد بنفسه ، لكنه إذا دل على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح فهو دال على الفساد
من هذه الجهة ، كالنهي عن نكاح الأخت ، وكالنهي عن بيع الغرر ، والنهى في محل
النزاع من هذا القبيل. قلنا : لا نسلم دلالتها هنا على عدم صلاحية المعقود عليها
للنكاح ، فإنها عند الخصم صالحة له ، ولهذا صلحت مع الاذن ، بخلاف الأخت ، وبيع
الغرر ، فإنهما لا يصلحان أصلا ، وصلاحية الأخت على بعض الوجوه ـ كما لو فارق
الأخت ـ لا يقدح ، لأنها حينئذ ليست أخت الزوجة ، بخلاف بنت الأخت ونحوها فإنها
صالحة للزوجية ، مع كونها بنت أخت الزوجة. والاخبار دلت على النهى عن تزويجها ،
وقد عرفت انه لا يدل على الفساد ، فصار النهى عن هذا التزويج من قبيل ما حرم لعارض
كالبيع وقت النداء لا لذاته. والعارض هو عدم رضاء الكبيرة ، فإذا لحقه الرضا زال
النهى. انتهى.
وقد ظهر منه ما
ذكرناه من التفصيل ، باعتبار رجوع النهي تارة إلى المعقود عليه من حيث عدم صلاحيته
لإيقاع العقد عليه فيكون العقد باطلا ، وتارة إلى أمر خارج عنه فلا يستلزم الفساد
، ومنه بنت الأخ وبنت الأخت ، كما اختاره. فإن النهي عنهما انما وقع باعتبار أمر
خارج ، وهو عدم رضاء العمة والخالة ، فيكون العقد صحيحا مراعى بالرضا ، ولا يخفى
انه قد تقدم لنا تحقيق في هذه المسألة في باب صلاة
الجمعة من كتاب الصلاة بنحو ما ذكرناه هنا ، الا انه ربما تعسر على الناظر
في هذه المسألة الرجوع الى ذلك الكتاب ، فلم نكتف بالحوالة على ذلك الموضع ، بل
أوضحنا المسألة في المقام ، لدفع ثقل المراجعة على الناظر في هذا الكلام.
ثم انه ينبغي
ان يعلم ان ما ذكرناه هنا ، وأطلنا به البحث ليس ذبا عن الحديث الذي استدل به
الشيخ ، فإنه حديث عامي لا تنهض عندنا حجة ، وانما هو تحقيق في المسألة في حد
ذاتها أولا. وثانيا انه على جهة المجاراة معهم في الاستدلال بالخبر المذكور ، فإنه
لا وجه لرده من هذه الجهة التي ذكروها ، بل كان الاولى رده بما ذكرناه ، من انه
حديث عامي لا ينهض حجة.
(الخامس) : ما
أجابوا به عن النفي بأنه إذا دخل على حقيقة أريد به نفى صفة من صفاتها فمسلم ، إلا
انا نقول : ان تلك الصفة هي الصحة لا اللزوم كما يقولونه ، وقولهم : والا لزم
بطلان بيع الوكيل ، فيه : ان وجه الملازمة غير ظاهر ، ومع ذلك نقول : المراد
بالمملوك : ما هو أعم من ان يكون مملوك العين أو التصرف ، كما تقدم ذكره ، وهو
مستعمل في كلامهم كثيرا.
وبالجملة فإن
ما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه من البطلان هو الموافق لمقتضى الأصول الشرعية والعقلية
، وعليه تدل جملة من الأحاديث المعصومية ، التي هي المعتمد في كل حكم وقضية ،
والعجب انهم مع قولهم بالبطلان استدلوا بتلك الرواية العامية في كتبهم الفروعية ،
حتى من مثل المحقق الأردبيلي كما تقدم في كلامه ، ودعواه انها أقوى دلالة وسندا من
رواية البارقي ، مع ان الجميع من طريق العامة ، وروايات أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ مكشوفة القناع ، صريحة الدلالة على هذه المقالة ، مع
تعددها في كتب الاخبار ، فكيف غفلوا عنها ، مع عكوفهم على كتب الأخبار ، مطالعة
وتدريسا ، وبذلك يظهر لك صحة المثل السائر «كم ترك الأول للآخر».
* * *
فمن الاخبار
المشار إليها : صحيحة محمد بن الحسن الصفار : أنه كتب الى ابى محمد الحسن العسكري عليهالسلام في رجل باع له قطاع أرضين ، وعرف حدود القرية الأربعة ،
وانما له في هذه القرية قطاع أرضين ، فهل يصلح للمشتري ذلك وانما له بعض هذه
القرية ، وقد أقر له بكلها؟ فوقع عليهالسلام : لا يجوز بيع ما ليس بملك ، وقد وجب الشراء من البائع
على ما يملك .
والأصحاب قد
أفتوا في هذه المسألة التي هي مضمون هذه الرواية ـ بلزوم البيع فيما يملكه ووقوفه
فيما لا يملك على الإجازة من المالك ، بمعنى انه صحيح لكونه فضوليا موقوفا في
لزومه على اجازة المالك ، والرواية ـ كما ترى ـ تنادي بأنه «لا يجوز» الدال على
التحريم. وليس ثمة مانع يوجب التحريم سوى عدم صلاحية المبيع للنقل بدون اذن مالكه.
ومنها : صحيحة
محمد بن القاسم بن الفضيل ، قال : سألت أبا الحسن الأول عن رجل اشترى من امرأة من
آل فلان بعض قطائعهم ، وكتب عليها كتابا بأنها قد قبضت المال ولم تقبضه ، فيعطيها
المال أم يمنعها؟ قال : قل له : ليمنعها أشد المنع ، فإنها باعت مالا تملكه .
أقول : فلو كان
البيع الفضولي صحيحا ـ كما يدعونه ـ ودفع الثمن للبائع الفضولي جائزا ـ كما
يقولونه ـ لما أمر عليهالسلام بمنعها من الثمن أشد المنع ، معللا ذلك بأنها باعت مالا
تملكه.
ومنها : صحيحة
محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام في حديث قال فيه : سأله رجل من أهل النيل عن ارض
اشتراها بفم النيل ، وأهل الأرض يقولون : هي أرضهم ، وأهل الأستان يقولون : هي من
أرضنا. قال : لا تشترها الا برضاء أهلها .
__________________
لا يقال : ان
السؤال في الرواية انما وقع عن ارض متنازع فيها ، معلوم عدم اجازة المالك فيها على
تقدير الفضولية ، لأنا نقول : موضع الاستدلال في الخبر انما هو قوله «لا تشترها
الا برضاء أهلها» الدال على تحريم الشراء قبل تقدم الرضا. ودعوى قيام الإجازة
المتأخرة مقام الرضا السابق ، مع كونه لا دليل عليه ، مردود بما ينادى به الخبر من
المنع والتحريم ، الا مع تقدم الرضا.
وحاصل معنى
الجواب تطبيقا على السؤال : ان الأرض المذكورة لما كانت محل النزاع فلا تشترها حتى
تعلم مالكها من اى الفريقين ، ويكون راضيا بالبيع.
ومنها : موثقة
سماعة قال : سألته عن شراء الخيانة والسرقة. فقال : إذا عرفت انه كذلك فلا ، فقد نهى عليهالسلام عن الشراء مع العلم. والنهى دليل التحريم ، وليس ذلك
الا من حيث ان المبيع غير صالح للنقل ، لكون التصرف فيه غضبا محضا ، والتصرف في
المغصوب قبيح عقلا ونقلا. والأصحاب في مثل هذا يحكمون بالصحة والوقوف على الإجازة
، وهل هو الا رد لهذا الخبر ونحوه ، ولكنهم معذورون من حيث عدم الاطلاع على هذه
الاخبار ، الا انه يشكل هذا الاعتذار بالمنع من الفتوى الا بعد تتبع الأدلة من
مظانها ، والاخبار المذكورة في كتب الأخبار المتداولة في أيديهم مسطورة.
ومنها : ما
رواه في الاحتجاج مما خرج من الناحية المقدسة ، في توقيعات محمد بن عبد الله بن
جعفر الحميري ، في السؤال عن ضيعة للسلطان فيها حصة مغصوبة ، فهل يجوز شراؤها من
السلطان أم لا؟ فأجاب عليهالسلام الضيعة لا يجوز ابتياعها الا من مالكها أو بأمره أو رضا
منه .
والتقريب فيها
ما تقدم من تحريم الشراء الا بعد تقدم رضاء المالك.
__________________
ومنها : ما
رواه في الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد ، عن الحسين بن زيد ، عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث المناهي ، قال : ومن اشترى خيانة وهو يعلم فهو
كالذي خانها .
ومنها : ما
رواه الشيخ عن ابى بصير ، قال : سألت أحدهما عن شراء الخيانة والسرقة ، قال : لا .
ومنها : ما
رواه عن جراح المدائني عن الصادق عليهالسلام قال : لا يصلح شراء الخيانة والسرقة إذا عرفت .
ومنها : ما في قرب
الاسناد بسنده عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها ، يحل فرجها لمن
شراها؟ قال : إذا أنبأهم أنها سرقة لا يحل ، وان لم يعلم فلا بأس .
فهذه جملة من
الاخبار الواضحة الظهور كالنور على الطور في عدم جواز بيع الفضولي وعدم صحته ، ولو
كان ما يدعونه من صحة بيع الفضولي وتصرفه بالدفع والقبض صحيحا وانما يتوقف على
الإجازة ، لصرح به بعض هذه الاخبار أو أشير اليه ولا جابوا ـ عليهمالسلام ـ بالصحة ، وان كان اللزوم موقوفا على الإجازة ، في بعض
هذه الاخبار ان لم يكن في كلها ، مع انه لا اثر فيها لذلك ولو بالإشارة ، فضلا عن
صريح العبارة.
ومنها : ما
رواه الشيخ في المجالس بإسناده عن زريق قال : كنت عند الصادق عليهالسلام ـ إذ دخل عليه رجلان ـ الى ان قال ـ فقال أحدهما : انه
كان على مال لرجل من بنى عمار ، وله بذلك ذكر حق وشهود ، فأخذ المال ولم استرجع
منه الذكر الحق ، ولا كتبت عليه كتابا ، ولا أخذت عليه براءة ، وذلك لأني وثقت به
وقلت له : مزق الذكر الحق الذي عندك ، فمات وتهاون بذلك ولم يمزقها ، وعقب هذا أن
طالبني بالمال
__________________
وراثه ، وحاكموني واخرجوا بذلك الذكر الحق ، فأقاموا العدول فشهدوا عند
الحاكم فأخذت بالمال وكان المال كثيرا ، فتواريت عن الحاكم ، فباع على قاضي الكوفة
معيشة لي ، وقبض القوم المال ، وهذا رجل من إخواننا ابتلى بشراء معيشتي من القاضي.
ثم ان ورثة الميت أقروا ان المال كان أبوهم قد قبضه ، وقد سألوه ان يرد على معيشتي
ويعطونه في أنجم معلومة ، فقال : انى أحب ان تسأل أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن هذا.
فقال الرجل ـ يعني
المشتري ـ : جعلني الله فداك ، كيف اصنع؟ فقال : تصنع ان ترجع بمالك على الورثة
وترد المعيشة إلى صاحبها ، وتخرج يدك عنها ، قال : فإذا فعلت ذلك له ان يطالبني
بغير هذا؟ قال : نعم ، له ان يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار ، وكل ما كان
مرسوما في المعيشة يوم اشتريتها ، يجب عليك ان ترد ذلك ، الا ما كان من زرع زرعته
أنت فإن للزارع قيمة الزرع ، فاما ان يصبر عليك الى وقت حصاد الزرع ، فان لم يفعل
كان ذلك له ورد عليك قيمة الزرع ، وكان الزرع له.
قلت : جعلت
فداك ، فان كان هذا قد أحدث فيها بناء وغرسا. قال : له قيمة ذلك ، أو يكون ذلك
الحدث بعينه يقلعه ويأخذه. قلت أرأيت ان كان فيها غرس أو بناء ، فقلع الغرس وهدم
البناء؟ فقال : يرد ذلك الى ما كان أو يغرم القيمة لصاحب الأرض ـ فإذا رد جميع ما
أخذ من غلاتها الى صاحبها ورد البناء والغرس وكل محدث الى ما كان ، أو رد القيمة
كذلك ، يجب على صاحب الأرض ان يرد عليه كلما خرج عنه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس
أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ، ودفع النوائب عنها ، كل ذلك مردود عليه .
أقول : هذا
الخبر ، وان تضمن ان البائع هو الحاكم وهو صحيح بحسب الظاهر ، بناء على ما ورد
عنهم ـ عليهمالسلام ـ من الأخذ بأحكامهم في زمان الهدنة والتقية ، الا انه
بعد ظهور الكاشف عن بطلانه واعتراف الورثة بقبض الدين ، يكون من باب البيع الفضولي
، وهو كما سيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ على قسمين : أحدهما ما يكون المشترى
__________________
عالما بالغصب ، وانه ليس ملكا للبائع ، وثانيهما : ان يكون جاهلا أو ادعى
البائع الاذن من المالك ، وما اشتمل عليه الخبر من القسم الثاني. الا ان ما اشتمل
عليه الخبر المذكور من رجوع المشترى بما اغترمه على المالك ، خلاف ما سيأتي في
كلامهم ، من انه انما يرجع الى البائع ، وما ذكره عليهالسلام هو الأوفق بالقواعد ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.
والعجب هنا كل
العجب من صاحب المفاتيح ، حيث جرى في هذه المسألة على ما هو المشهور في أصلها
وفروعها ، كما لا يخفى على من راجعه ، مع ان جل الأخبار التي ذكرناها مما نقله في
الوافي ، ولكن العذر له على ما ذكره في حواشيه على الكتاب المذكور من انه اعتمد في
العبادات على كتاب المدارك ، وفي غيرها على المسالك وهو عذر ضعيف واه من مثله ، لا
سيما مع تصريحه في الكتاب المذكور بجملة من متفرداته في الأحكام ، الدالة على انه
من رؤوس العلماء الاعلام ، الذين لا يجوز لهم الجمود على التقليد في الأحكام ، ولا
الاعتماد على غيرهم من الأنام.
* * *
فإن قيل : ان
البيع الفضولي عند الأصحاب هو ان يبيع مال غيره أو يشترى ، بأن يكون ذلك البيع أو
الشراء للمالك ، لكنه من غير اذنه ولا رضاه ، وما دلت عليه هذه الاخبار انما هو
البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك ، وأحدهما غير الأخر! قلنا : فيه ـ أولا ـ ان
المفهوم من كلام الأصحاب تصريحا في بعض ، وتلويحا في آخر ، ان البيع والشراء
الفضولي أعم من كل الفردين المذكورين ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وتصريح جملة منهم
كالعلامة والشهيد في الدروس ، والمحقق الشيخ على ، بأن بيع الغاصب من افراد البيع
الفضولي.
وثانيا ـ : ان
السؤالات الواقعة في الاخبار المذكورة ، وان تضمنت بيع البائع أو شرائه لنفسه ،
الا ان الأجوبة منهم ـ عليهمالسلام ـ من قوله عليهالسلام في الرواية الاولى «لا يجوز بيع ما ليس يملك» وقوله في
الثانية ، في تعليل المنع من دفع الثمن «فإنها
باعت مالا تملك» وقوله عليهالسلام في الثالثة «لا تشترها الا برضاء أهلها» ونحوها رواية
الاحتجاج ، ورواية قرب الاسناد ، ظاهرة العموم للفردين المذكورين ، وخصوص السؤال
لا يدافع عموم الجواب كما تقرر في أصولهم ، والعبرة انما هو بعموم الجواب فإنها
ظاهرة بل صريحة في ان مالا يملكه الإنسان لا يجوز وقوع البيع فيه ، أعم من ان يكون
البيع للبائع أو لصاحب ذلك المبيع ، من غير رضاه واذنه.
وبالجملة
فالقول بما عليه الشيخ واتباعه من البطلان هو المختار ، كما دلت عليه صحاح الاخبار
، على انا لا نحتاج في الإبطال إلى دليل ، بل المدعي للصحة عليه الدليل ، كما هو
القاعدة المعلومة بين العلماء جيلا بعد جيل ، وقد عرفت ما في أدلتهم وانها لا تسمن
ولا تغني من جوع كما لا يخفى.
المقام
الثاني قال في
الشرائع ـ بعد ان صرح بوقوف البيع الفضولي على الإجازة ـ : فان لم يجز كان له
انتزاعه من المشترى ويرجع المشترى على البائع بما دفع اليه وبما اغترمه من نفقة أو
عوض عن اجرة أو نماء ، إذا لم يكن عالما انه لغير البائع أو ادعى البائع ان المالك
اذن له ، وان لم يكن كذلك لم يرجع بما اغترمه. وقيل : لا يرجع بالثمن مع العلم
بالغصب. انتهى.
وعلل في
المسالك عدم رجوع المشترى بما اغترمه ، قال : لأنه حينئذ غاصب مفرط فلا يرجع بشيء
مما يغرمه للمالك مطلقا ، وعلل عدم رجوعه بالثمن مع العلم بالغصب بأنه دفعه اليه
وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه ، فيكون بمنزلة الإباحة.
أقول : الظاهر
ان المراد بالغصب ـ هنا ـ المعنى الأعم من الغصب الصرف ومن الفضولي ، وهو البيع من
غير إذن ، فإنه حكم في شرح اللمعة بأنه لا رجوع بالثمن مع العلم بكونه غير مالك
ولا وكيل ، لانه سلطه على إتلافه مع علمه بعدم استحقاقه له ، فيكون بمنزلة
الإباحة.
هذه عبارته
هناك بلفظها ، فعبر عن الغاصب الذي صرحت به عبارة الشرائع بكونه غير مالك ولا
وكيل.
ونحو ذلك وقع
في عبارة الدروس ، فإنه قال : ان المالك يرجع عند هلاك العين على المشترى مع العلم
، وعلى الغاصب مع الجهل ، أو دعوى الوكالة. فعبر عن البائع الفضولي بالغاصب ،
وظاهرهم هنا دعوى الإجماع على عدم رجوع المشترى على البائع بالثمن مع تلفه ، نقله
العلامة في التذكرة.
قال في المسالك
في شرح قوله «وقيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب» : هذا هو المشهور بين الأصحاب
، مطلقين الحكم فيه الشامل لكون الثمن باقيا وتالفا ، ووجهوه بأن المشتري قد دفعه
اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له ، فيكون بمنزلة الإباحة. وهذا يتم مع
تلفه ، اما مع بقائه فلا ، لانه له وهو مسلط عليه بمقتضى الخبر ، ولم يحصل منه ما
يوجب نقله عن ملكه ، لأنه إنما دفعه عوضا عن شيء لا يسلم له لا مجانا ، فمع تلفه
يكون إذنا فيه ، اما مع بقائه فله أخذه ، لعموم النصوص الدالة على ذلك ، بل يحتمل
الرجوع بالثمن مطلقا ، وهو الذي اختاره المصنف في بعض تحقيقاته ، لعدم جواز تصرف
البائع فيه ، حيث انه أكل مال بالباطل ، فيكون مضمونا عليه ، ولو لا ادعاء العلامة
في التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف ، لكان في غاية القوة ، وحيث لا إجماع
مع بقاء العين فيكون العمل به متعينا.
فان قيل : كيف
يجامع تحريم تصرف البائع في الثمن عدم رجوع المشترى به مع التلف ، فإنه حينئذ لا
محالة غاصب آكل للمال بالباطل ، فاللازم اما جواز تصرفه أو جواز الرجوع اليه
مطلقا.
قلنا : هذا
اللازم في محله ، ومن ثم قلنا : ان القول بالرجوع مطلقا متجه ، لكن لما أجمعوا على
عدمه مع التلف كان هو الحجة.
وحينئذ نقول :
ان تحقق الإجماع فالأمر واضح والا فمن الجائز ان يكون عدم
جواز رجوع المشترى العالم عقوبة له ، حيث دفع ماله معاوضا به على محرم ،
وعلى هذا يكون البائع مخاطبا برده أو رد عوضه مع التلف ، فان بذله أخذه المشترى ،
وان امتنع منه بقي للمشتري في ذمته ، وان لم يجز له مطالبته به ، ونظير ذلك ما لو
حلف المنكر على عدم استحقاق المال في ذمته ، فإنه لا يجوز للمدعى مطالبته ولا
مقاصته ، وان كان الحق مستقرا في ذمة المنكر في نفس الأمر ، وذلك لا يمنع من
تكليفه برده وعقوبته عليه لو لم يرده.
ولا فرق في هذا
الحكم بين كون البائع غاصبا صرفا مع علم المشترى به أو فضوليا ولم يجز المالك ،
كما هو مقتضى الفرض. انتهى.
* * *
أقول : ظاهرهم
: ان البيع الفضولي هو ما لو باع مال غيره بغير اذن صاحبه ، أعم من ان يكون
المشترى عالما بذلك أو جاهلا ، أو مع دعوى البائع الاذن ، وهو كذلك بناء على
قاعدتهم في المسألة المذكورة ، وظاهرهم انه مع الإجازة يصح البيع المذكور بجميع
افراده ، وانما يظهر الافتراق فيها مع عدم الإجازة ، فإنه متى كان المشترى جاهلا
أو ادعى البائع الإذن له في البيع فإنه يرجع المالك على المشترى بعين ماله ان كانت
موجودة ، والا فبالقيمة. وكذا يرجع عليه بمنافعها ونمائها ، وبالقيمة مع التلف ،
ويرجع المشترى على البائع بما اغترمه على ذلك المبيع من نفقة ونحوها.
وأنت خبير بأن
رواية زريق المتقدمة قد صرحت بان الرجوع بما غرمه على ذلك المبيع انما هو على
المالك لا على البائع ، وانما يرجع بالثمن خاصة. فإنه عليهالسلام بعد ان حكم برجوع المالك على المشترى بعد قبض المبيع
بما استوفاه من منافعه وما أحدثه في الضيعة المذكورة من الفساد أو قيمته ، حكم بعد
ذلك برجوع المشترى على المالك بما أنفقه في إصلاح الضيعة ودفع النوائب عنها.
وظاهر كلام
شيخنا في الروضة : ان المشترى يرجع على البائع أيضا بمنافع
المبيع ونمائه مما حصل له في مقابلته نفع .
قال : لغروره
ودخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، اما ما أنفقه عليه ونحوه مما لم يحصل له في
مقابلته نفع فيرجع به قطعا. انتهى.
وفيه : ان
المستفاد من الخبر المذكور ، وقوله فيه : «تصنع ان ترجع بمالك على الورثة وترد
المعيشة على صاحبها» ان الرجوع على البائع انما هو بالثمن خاصة ، والمقام مقام
بيان ، مع حكمه عليهالسلام في الخبر برجوع المالك على المشترى بعوض المنافع ، فلو
كان للمشتري الرجوع بها على البائع لذكره عليهالسلام مع ذكره أخيرا ان المشترى يرجع بما أنفقه على المالك لا
على البائع.
وبالجملة فإن
المطابق للأصول : انه لا رجوع هنا للمشتري ، لأن المالك انما أخذ منه عوض منافعه
التي استوفاها من ماله ، فسبيلها كسبيل العين في وجوب الرد على المالك ، وظهور
البطلان الموجب لرد العين على مالكها موجب لرد ما استوفاه المشترى من منافعها.
وتعليله بأن
دخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، عليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، لا سيما مع
دلالة الخبر على ما قلناه ، ومتى كان المشترى عالما فإنه يرجع المالك على المشترى
بجميع ما تقدم ذكره ، واما المشتري فإنه بالنسبة الى ما غرمه للمالك لا يرجع به ،
لما علله به في المسالك مما تقدم ذكره واما بالنسبة إلى الثمن فقد عرفت من كلام
شيخنا في المسالك ، ان المشهور عدم الرجوع به عليه ،
__________________
باقيا كان الثمن أو تالفا.
وقيل بالرجوع
مطلقا ، كما نقل عن المحقق في بعض تحقيقاته.
وقيل بالتفصيل
، بالتلف وعدمه ، فيرجع على الثاني دون الأول ، وظاهره في المسالك الميل اليه.
والاشكال هنا
في موضعين :
(أحدهما) : في
عدم رجوع المشترى على البائع بما اغترمه في صورة العلم ، لما علله به في المسالك
من انه حينئذ غاصب مفرط ، فلا يرجع بشيء مما يغرمه للمالك مطلقا.
فان فيه : ان
مقتضى ما صرحوا به من صحة عقد الفضولي ، وجوب الحكم بصحة ما يترتب عليه من
التصرفات ، إذ لا ثمرة لهذه الصحة مع بطلان ما يترتب عليها ، فكيف يكون مع عدم
الإجازة غاصبا؟! اللهم الا ان يقول : ان العقد وان كان صحيحا ، لكن لا يجوز
للمشتري قبض الثمن الا بعد الإجازة ، والا فهو غاصب. وصريح كلامهم خلافه.
ومتى حكم
ببطلان هذه التصرفات انتفى الحكم بأصل العقد ، فضلا عن صحته. مع ان العقد عندهم
عبارة عن الإيجاب والقبول الدالين على نقل الملك بعوض ، وانه يقتضي استحقاق
التصرفات في المبيع والثمن. وتسليمهما كما تقدم نقله عن ابى الصلاح وقد صرحوا بان
حكم العقد تقابض العوضين ، الا ان يشترط تأخيرهما.
وبالجملة
فالموافق لحكمهم بصحة العقد هو صحة ما يترتب عليه من التصرفات.
نعم بعد ظهور
الكاشف ، وهو عدم الإجازة ، يظهر ان تلك التصرفات كلها كانت باطلة ، ويكون من قبيل
البيع الصحيح بحسب ظاهر الشرع ثم يظهر بطلانه ، فيجب عود كل شيء إلى محله ، وكل
حق الى مستحقه.
فالقول بصحة
البيع وجواز قبض المشترى المبيع لذلك ، مع الحكم بأنه مع عدم الإجازة لا يرجع المشترى
بما اغترمه لكونه غاصبا مفرطا فيما أنفقه ، مشكل
لا اعرف له وجها.
و (ثانيهما) :
في عدم الرجوع بالثمن في الصورة المذكورة ، موجودا كان أو تالفا ، فان فيه : ان ما
عللوه به ، من ان المشترى قد دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له فيكون
بمنزلة الإباحة ، مردود :
أولا ـ بأن
قضية تصحيح الفضولي ، وان كان موقوفا في لزومه ، تصحيح دفع الثمن مع الموقوفية
أيضا ، وان يجعل له التصرف في قبض الثمن مثل تصرفه في البيع والإقباض.
وحينئذ فمع عدم
الإجازة يرجع كل مال الى مقره ، وكل من الثمن والمثمن الى مالكه.
ويؤيده : ما
صرحوا به ـ كما نقله في الدروس عن الشيخ ـ من انه لو قبض الفضولي الثمن دفع الى
المالك عند أجازته.
ونقل عن
العلامة : أنه اشترط اجازة قبض الثمن على حياله ، واستحسنه وان كان الثمن في
الذمة. وظاهره موافقة الشيخ في الاكتفاء بإجازة العقد ، وان كان قد دفعه للبائع ،
وحينئذ فكيف يحكم بصحة القبض مع الإجازة وانه يصير للمالك ويحكم بكونه باطلا
ومجانا مع عدمها ، فإنه ان كان صحيحا في حال الدفع فهو في الموضعين المذكورين ،
والا فيهما معا.
وثانيا ـ ان
المشترى إنما دفع الثمن متوقعا للإجازة من المالك ، فهو انما دفعه عوضا عن شيء
لكن لم يسلم له ولم يدفعه مجانا حتى يصير بمنزلة الإباحة.
وقوله في
المسالك ـ بعد نقل التعليل المذكور ـ : وهذا يتم مع تلفه. الى آخره ، مردود بأن ما
علل به الرجوع مع بقائه جاز ايضا مع تلفه ، فان الخبر الذي أشار اليه ـ وهو قوله عليهالسلام «الناس مسلطون على أموالهم». لا اختصاص له بالعين ، بل يشمل في الذمم ايضا.
وكذا قوله : ولم يحصل منه ما يوجب نقله ، جار أيضا في صورة ما لو أتلفه.
واما قوله :
فمع تلفه يكون إذنا فيه فإنه ضعيف في غاية الضعف. بل بعيد الصدور من مثله ، مع ما
عرفت.
وكيف يصح
اجتماع الحكم بوجوب الرد مع وجود العين ، وعدم جواز التصرف فيها مع الحكم ببراءة
ذمة من يجب عليه ردها ويحرم عليه التصرف فيها لو أتلفها.
واما اعتماده
على الإجماع في أمثال هذه البقاع ، فهو مردود بما حققه في رسالة صلاة الجمعة ـ كما
قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة الجمعة ، حيث انه قد مزقه تمزيقا ، وجعله
حريقا.
واما قوله :
على تقدير عدم تحقق الإجماع ، والا فمن الجائز ان يكون عدم جواز رجوع المشترى
العالم عقوبة.
ففيه ـ أولا ـ :
ما عرفت في غير موضع مما تقدم في مباحث الكتاب ، ان أمثال هذه التعليلات لا تصلح
لتأسيس الأحكام الشرعية ، بل المدار انما هو على النصوص الجلية والأحاديث
المعصومية.
و ـ ثانيا ـ :
ما عرفت آنفا ، من ان ذلك مناف لحكمهم بصحة العقد ، فإن قضية صحته صحة ما يترتب
عليه ، من قبض الثمن واقباض المثمن ، وحينئذ فكيف يتم قوله «بأنه مع عدم الإجازة
وقعت المعاوضة على محرم فلا يستحق عوض ما دفعه» فان كان هذا التحريم ثابتا حال
العقد فالمعاوضة باطلة ، والإجازة بعدها لا تؤثر معها شيئا بالكلية ، وان كان انما
علم بعد ذلك فالمعاوضة الأولى صحيحة ، وبعد ظهور الكاشف عن بطلانها يحكم بالبطلان
من حينه ، ورجوع كل شيء إلى مقره ، وتحريم رجوع المشترى فيما دفعه من الثمن ، مع
كونه انما دفعه بناء على صحة العقد وتوقع الإجازة من المالك ، مما لا وجه له
بالكلية.
وما نظره به من
مسألة حلف المنكر قياس مع الفارق ، فان تلك المسألة منصوصة ، قد دلت النصوص فيها
على ذلك ، بخلاف محل البحث ، إذ ليس فيه الا مجرد هذه
التعليلات العليلة التي أوضحنا ضعفها.
وبالجملة
فتعليلاتهم في هذا المقام كلها عليلة ، لكون البناء على غير أساس وثيق ، كما لا
يخفى على من تأمل في ما ذكرناه من هذا التحقيق.
وأنت خبير بان
هذه المسألة في كلامهم نظيره مسألة الهبة قبل لزومها ، فإنهم صرحوا هناك بأن العقد
صحيح غير لازم الا بالتصرف أو التعويض أو نحوهما ، فمع قبض المتهب العين بناء على
ما هو المشهور ، من ان القبض من شروط الصحة لا اللزوم وعدم حصول شيء من الأسباب
الموجبة للزوم العقد ، لو حصل هناك نماء ، ثم بعد ذلك رجع الواهب في العين ، فإنهم
قالوا ان النماء ، ان كان متصلا كالسمن فهو للواهب ، وان كان منفصلا كالولد واللبن
ونحوهما فهو للمتهب ، قالوا : لانه نماء حدث في ملكه فيختص به ، وحكموا بأنه لو
عابت العين والحال كذلك لم يرجع الواهب في الأرش ، لأنه حدث في عين مملوكة.
ونحن نقول هنا
ـ بناء على حكمهم بصحة الفضولي ـ : ان وجه الصحة في الموضعين واحد ، والتصرفات
المتفرعة عليهما كذلك ، ولا فرق بينهما ، الا ان رجوع الواهب ليس كاشفا عن فساد
العقد السابق ، فلا يؤثر فيما تقدم ، وفيما نحن فيه ـ لكشفه عن فساد ما وقع فغايته
وجوب رجوع كل مستحق الى مستحقه.
وبالجملة فهو
من قبيل البيع الذي ظهر فساده ، فيوجب هنا ما يوجبه هناك.
وحيث كانت
المسألة على تقدير كلامهم خالية عن النص الشرعي ، فالقول بها والجزم بالحكم في
فروعها أمر مشكل جدا.
واما على ما
اخترناه فلا اشكال ، لقيام النصوص عموما وخصوصا على العدم.
اما الأولى ،
فلما علم كتابا وسنة من تحريم التصرف في مال الغير من غير اذنه ، ولو اكتفى
بالإجازة المتأخرة لجاز التصرف في أموال الناس بجميع وجوه التصرف بناء على ذلك ،
وهو قبيح عقلا.
واما الثانية ،
فهو ما قدمناه من النصوص الواردة في البيع بخصوصه ، الدالة
على المنع الا بعد رضاء المالك.
ولم أقف على من
تعرض لهذه المسألة بما ذكرناه من هذه التنبيهات ، ولا كشف عن نقابها بمثل هذه
التحقيقات. ولله سبحانه المنة على ما منحنا به من التوفيق ، ونسأله النجاة من كل
مضيق ، والهداية إلى سواء الطريق في أحكامه عز شأنه بحسن التقريب لها والتحقيق ،
انه أكرم مسئول وأجود مأمول.
المسألة الرابعة
قد صرح الأصحاب
بأنه إذا باع ملكه وملك غيره بغير اذن من ذلك الغير ، فإنه يصح فيما ملكه ويبقى
موقوفا على الإجازة فيما لا يملكه.
وهو مبنى على
ما هو المشهور بينهم ، من صحة عقد الفضولي كما تقدم ، فان لم يجز المالك صح فيما
ملكه وبطل فيما لا يملك.
هذا إذا كان
المشترى عالما ، ولو كان جاهلا بكون بعض المبيع غير مملوك للبائع تخير ـ لتبعيض
الصفقة ـ بين الفسخ والإمضاء. فإن فسخ رجع كل ملك الى مالكه ، وان رضى صح البيع
فيما يملكه. وان كان الأمر فيما لا يملك ما ذكرناه أولا.
قالوا : ويقسط
الثمن بان يقوما جميعا ثم يقوم أحدهما ويرجع على البائع بحصته من الثمن. وكذا يقسط
الثمن ايضا فيما لو صح البيع في الجميع ، بأن أجاز المالك في صورة بيع ما يملكه
وما لا يملكه.
وكذا لو باع ما
يملك ـ بالبناء للمجهول ـ ومالا يملك ، كالعبد مع الحر ، والشاة مع الخنزير ،
والخل مع الخمر.
وتفصيل هذا
الإجمال يقع في مواضع :
(الأول) : قد
عرفت ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على الصحة فيما يملكه والبطلان فيما لا يملك مع عدم
الإجازة.
واحتمل بعض
المحققين من متأخري المتأخرين بطلان العقد رأسها. قال : فإنه
انما حصل التراضي والعقد على المجموع وقد بطل ، ولم يحصل التراضي بالعقد على
البعض.
وفيه ـ مع
تسليمه ـ انما يتجه على تقدير الجهل ، لانه مع العلم قادم على انه ربما لا يسلم له
عين المملوك لعدم رضا المالك.
نعم ان تم ذلك
فإنما يتم في صورة الجهل ، الا انه مجبور بالخيار في هذه الحال.
والظاهر ان
بناء القول المشهور ، على ان العقد على الكل بمنزلة عقود متعددة على الاجزاء ،
ولهذا لو خرج بعض المبيع مستحقا للغير لا يبطل الا فيه.
وظاهر كلامهم
في هذا المقام انه لا نص في هذه المسألة ، وانما بنوا الكلام فيها على ما قربوه من
التعليلات المستفادة من قواعد أحكام البيوع ، مع انه قد تقدم في صحيحة محمد بن
الحسن الصفار المذكورة في المقام الأول من المسألة المتقدمة ، الدالة على عدم جواز البيع فيما
لا يملك ، وثبوت الشراء فيما يملك ، وهي دالة على بطلان ما احتمله المحقق المتقدم
ذكره ، من بطلان العقد رأسا ، حيث انه عليهالسلام حكم بالصحة فيما يملك والبطلان فيما لا يملك.
وفيها ايضا رد
لما ذكره الأصحاب من صحة بيع الفضولي وانه موقوف على الإجازة ـ كما تقدم ذكره في
ذيل الرواية المذكورة.
ثم ان ظاهر
الصحيحة المذكورة : ان الحكم في المسألة على ما ذكره عليهالسلام أعم من ان يكون المشترى عالما أو جاهلا.
__________________
وحينئذ فما
ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعيض الصفقة مشكل ، الا ان يقوم دليل من خارج على
ثبوت هذا الخيار ، وهو وان كان مشهورا في كلامهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم ، الا
انه لا يحضرني الآن دليل عليه من الاخبار ، فإن وجد فلا بد من تخصيص هذا الخبر به
، والا كان العمل بإطلاق الخبر المذكور متجها ، وسيجيء تحقيق المسألة إنشاء الله
تعالى عند ذكر أقسام الخيار.
(الثاني) : قد
عرفت انه لا فرق في اعتبار تقسيط الثمن بين ما إذا صح البيع في الجميع بالإجازة ،
أو صح في المملوك خاصة إذا لم يجز ، فإنه يقسط الثمن بنسبة المالين ، ليأخذ المالك
المجيز حصته منه في الأول ، ويرجع المشترى على البائع بقسط غير المملوك في الثاني.
وطريق التقسيط
المذكور ـ على ما صرح به جمع منهم ـ : ان يقوما جميعا بقيمة عادلة ، ثم يقوم
أحدهما منفردا ، ثم ينسب قيمة المنفرد إلى قيمة المجموع ، ويؤخذ من الثمن الذي وقع
عليه العقد بتلك النسبة.
فإذا قوما
جميعا بعشرين درهما مثلا ، وقوم أحدهما بعشرة ، فالنسبة بينهما النصف. فيصح البيع
في المملوك بنصف ذلك الثمن الذي وقع عليه العقد.
وكذا في صورة
اجازة المالك ، فان لكل من المالك البائع ، والمالك المجيز ، النصف.
وانما أخذ
بنسبة القيمة ، ولم يخصه من الثمن قدر ما قوم به ، لاحتمال زيادة النسبة عن قدر ما
يقوم به ونقصانها ، فربما جمع في بعض الفروض بين الثمن والمثمن على ذلك التقدير.
كما لو اشترى
المجموع بعشرة ، وقوم أحدهما بعشرة ، فإنه لو أخذ قدر ما قوم به المملوك من الثمن
المذكور وهو العشرة المذكورة ، للزم الجمع بين العوض والمعوض ، وذهب الثوب عن
المالك البائع عن نفسه بغير عوض. وعلى هذا فقس زيادة ونقصانا.
قالوا : وانما
يعتبر قيمتهما مجتمعين إذا لم يكن لاجتماعهما مدخل في زيادة قيمة كل واحد منفردا ،
كعبدين وثوبين مثلا. اما لو استلزم زيادة القيمة كمصراعي باب ، كل واحد لمالك
فإنهما لا يقومان مجتمعين إذ لا يستحق كل واحد حصته الا منفردا ، فلا يستحق ما يزيد
باجتماعهما.
وطريق تقويمهما
ـ على هذا ـ : ان يقوم كل واحد منهما منفردا وينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين
، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة.
فإذا قوم كل
منهما منفردا بعشرة يؤخذ نصف الثمن ، لانه نسبة أحدهما إلى المجموع. وهذا واضح في
بيع ما يملكه البائع وما لا يملكه في عقد.
فلو فرض كونهما
لمالك واحد ، كما لو باع الفضولي المصراعين معا فأجاز مالكهما في أحدهما خاصة دون
الأخر ، ففي تقديرهما مجتمعين كالغاصب ، أو منفردين كما لو كانا لمالكين ، نظر.
ولم أقف في هذا
المقام ـ بعد التتبع ـ على خبر يدل على ما ذكروه من التقسيط ولو مجملا ، الا ان
الظاهر ان ما ذكروه لا يخرج عن مقتضى القواعد ، وان كان الاحتياط بالمصالحة أولى.
(الثالث) : قد
ذكر الأصحاب في طريق التقسيط ـ فيما لو باع حرا مع عبد أو خمرا مع خل أو شاة مع
خنزير ـ : ان يقوم الحر لو كان عبدا بالوصف الذي هو عليه ، من كبر وصغر وبياض
وغيرها ، فيصح البيع في العبد ونحوه بنسبة قيمته الى مجموع القيمتين ، ويؤخذ من
الثمن بتلك النسبة ، كما تقدم.
واما الخمر
والخنزير فيرجع فيهما الى قيمتهما عند مستحلهما ، لا بمعنى قبول قولهم في القيمة ،
لاشتراط عدالة المقوم ، بل يمكن فرضه في تقويم عدلين قد أسلما عن كفر كان يشتمل
على استحلالهما. أو اخبار جماعة كثيرة منهم يؤمن من تواطئهم على الكذب ، ويحصل
بقولهم الظن الغالب المقارب للعلم كما احتمله في المسالك. وهو يشعر بان المعتبر
عند الأصحاب انما هو الأول.
قال في المسالك
: وبقي في المسألة إشكال من وجهين.
أحدهما : ان
المشترى لهذين الشيئين ان كان جاهلا بما لا يملك توجه ما ذكروه ، لقصده إلى
شرائهما ، فإذا لم يتم له الأمران وزع الثمن ، اما إذا كان عالما بفساد البيع فيما
لا يملك ، أشكل صحة البيع مع جهله بما يوجبه التقسيط ، لإفضائه إلى الجهل بثمن
المبيع حال البيع. لأنه في قوة : بعتك العبد بما يخصه من ألف إذا وزعت عليه وعلى
شيء آخر وهو باطل. وقد نبه على ذلك العلامة في التذكرة ، وقال : ان البطلان ليس
ببعيد من الصواب.
الثاني : ان
هذا الحكم ـ اعنى التوزيع ـ انما يتم ايضا قبل اقباض المشترى الثمن ، وبعده مع
جهله بالفساد ، واما مع علمه فيشكل التقسيط ليرجع بقسطه ، لتسليطه البائع عليه أو
إباحته له ، فيكون كما لو دفعه الى بائع مال غيره كالغاصب ، وقد تقدم ان الأصحاب
لا يجيزون الرجوع بالثمن ، اما مطلقا أو مع تلفه ، فينبغي هنا مثله.
الا ان يقال :
ذلك خرج بالإجماع ، والا فالدليل قائم على خلافه ، فيقتصر على مورده. وهو حسن.
انتهى.
أقول : وهذه
المسألة أيضا لم أقف فيها على نص ، الا ان بعض أحكامها جار على مقتضى القواعد
الشرعية.
المسألة الخامسة
كما انه يصح
العقد من المالك ، كذا يصح من القائم مقامه.
وهم ستة ـ على
ما ذكره الأصحاب ـ وسبعة ـ على ما يستفاد من الاخبار ـ وبه صرحوا أيضا في غير هذا
الموضع : ـ
الأب ، والجد
له ـ لا الام ـ والوصي من أحدهما ـ على من لهما الولاية عليه ـ والوكيل من المالك
، أو ممن له الولاية ، والحاكم الشرعي حيث فقد الأربعة المتقدمة ، وأمينه ، وهو
المنصوب من قبله لذلك ، أو لما هو أعم ، وعدول المؤمنين ، مع تعذر
الحاكم ، أو تعذر الوصول اليه.
ولم يذكره
الأصحاب هنا مع تصريحهم بجواز تولية بعض الحسبيات التي هي وظيفة الحاكم لعدول
المؤمنين مع عدمه ، أو عدم إمكان الوصول اليه.
قالوا : ويحكم
الحاكم المقاص ، وهو من يكون له مال على غيره فيجحده أو لا يدفعه مع وجوبه.
قالوا : ويجوز
للجميع تولى طرفي العقد.
واستثنى بعضهم
الوكيل والمقاص ، فلا يجوز لهما تولي طرفيه ، بل يبيعان من الغير.
* * *
وتحقيق الكلام
في هذه المسألة يقع في مواضع : ـ (الأول) : لا خلاف في ثبوت الولاية للأب والجد له
على الطفل ، الى ان يبلغ رشيدا اى غير سفيه ولا مجنون ، فلو عرض له الجنون والسفه
قبل البلوغ واستمر به الى بعد البلوغ ، استمرت الولاية عليه.
وظاهره في
المفاتيح في كتاب النكاح : انه لا خلاف فيه ، حيث قال : ثبت الولاية في النكاح
للأب والجد وان علا ، على الصغير ، للنصوص المستفيضة ، وعلى السفيه والمجنون ،
ذكورا كانوا أو اناثا ، مع اتصال السفه والجنون بالصغر ، بلا خلاف انتهى.
مع انه قال ـ بعد
ذلك في الباب الخامس في التصرف بالنيابة ، بعد ان صرح بتخصيص ما ذكرنا من التفصيل
بالجنون ـ : قيل وكذا حكم الولاية في مال من بلغ سفيها ، استصحابا لولاية الأب
والجد ، اما من تجدد سفهه بعد ان بلغ رشيدا فولايته للحاكم لا غير.
وقيل : بل
الولاية في السفيه مطلقا للحاكم لا غير ، وهو أشهر. انتهى.
ولا يخفى ما
بين الكلامين من المدافعة ، فإن ظاهر الأول : نفي الخلاف عن
عن ثبوت ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها ، استصحابا للولاية السابقة
فتستمر مع استمرار السفه ، وظاهر الثاني ان هذا القول خلاف الأشهر ، وان الأشهر
ثبوت الولاية للحاكم على السفيه مطلقا ، تجدد سفهه بعد البلوغ أو استمر الى بعد
البلوغ .
والذي يفهم من
الاخبار. كما ستمر بك إنشاء الله تعالى ـ هو كون الولاية للأب والجد كما ذكره
أولا.
والجواب عن
المدافعة المذكورة بالفرق بين النكاح والمال ، لم أقف على قائل به.
والمفهوم من
كلام الأصحاب ـ في كتاب النكاح ـ : ان هذا الإجماع انما هو في الجنون خاصة ، بمعنى
ان من بلغ مجنونا ، فان ولايته للأب والجد بلا خلاف ، واما من بلغ سفيها ففيه خلاف
، فقيل بكونها لهما ، وقيل بكونها للحاكم. هذا.
واما لو بلغ
عاقلا ، ثم عرض له الجنون أو السفه ، فالذي وقفت عليه في كلام جملة منهم : ان
الولاية هنا للحاكم.
قال في المسالك
ـ بعد قول المصنف «وتنقطع ولايتهما بثبوت البلوغ والرشد» ـ ما لفظه : ويشترط في
ثبوت ولايتهما على غير الرشيد استمرار سفهه قبل البلوغ ، فيستصحب حكم الولاية لهما
عليه من الصغر ، فلو بلغ رشيدا ثم زال رشده لم تعد ولايتهما ، بل تكون للحاكم.
وكذا القول في المجنون. انتهى.
وظاهره في
المفاتيح ـ في كتاب النكاح ـ : ان في المسألة قولا برجوع الولاية إلى الأب والجد
ايضا.
__________________
قال : وان طرأ
الوصفان بعد البلوغ والرشد ، ففي ثبوت ولايتهما قولان.
ولم أقف فيما
حضرني من كتب الأصحاب على من نقل الخلاف هنا غيره.
ثم ان ما يدل
على الولاية للأب والجد على من بلغ مجنونا أو سفيها ، لا الحاكم بالنسبة إلى
السفيه ، كما نسبه في المفاتيح إلى الأشهر ـ أولا ـ أصالة بقائها ، حيث انها قبل
البلوغ ثابتة لهما بالاتفاق ، فيستصحب الى ان يثبت المزيل ، والبلوغ على الكيفية
المذكورة في حكم العدم ، فإنهم كالصغير في الحجر والمنع من التصرفات.
وثانيا : قوله عليهالسلام في رواية هشام بن سالم : وان احتلم ولم يؤنس منه رشده ،
وكان سفيها أو ضعيفا ، فليمسك عنه وليه ماله .
وروى في الفقيه
عن الصادق عليهالسلام : انه سئل عن قول الله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» قال : إيناس الرشد حفظ المال .
ونقل في مجمع
البيان عن الباقر ـ عليهالسلام ـ تفسير إيناس الرشد بالعقل وإصلاح المال.
وحينئذ فالموجب
لدفع ماله اليه من الولي هو البلوغ مع الرشد ، فلو لم يحصل فالولاية ثابتة ومستمرة
عليه.
وبه يضعف القول
بكون الولاية للحاكم في الصورة المتقدم ذكرها ، وان كان هو الأشهر ، كما في
المفاتيح. والعجب انه لم يتنبه لذلك مع ظهور الأخبار المذكورة فيه.
(الثاني) : قد
عرفت مما قدمنا ، ان الولاية بعد الأب والجد وكيلهما أو وصيهما للحاكم ، وهو مما
لا خلاف فيه الا من ابن الجنيد ، فإنه جعلها للام الرشيدة بعد الأب ، وهو شاذ
متروك عند الأصحاب ، بل نقل عنه في المختلف ثبوت الولاية للجد من قبلها في النكاح.
__________________
بقي الكلام في
تعارض ولايتي الأب والجد لو اختلفا أو تصرفا دفعة ، هل يقدم الأب على الجد؟
ثم في ترتيب
أجداد الأب أو اشتراكهم مع وجود الأعلى والأدنى أقوال ، نقل ذلك في المفاتيح.
والذي وقفت
عليه في كلام من حضرني كلامه هو تقديم الأب على الجد الأدنى من الجدود ، والأدنى
على الأعلى.
والظاهر انه
المشهور ، الا ان بعض الاخبار دل على تقديم الجد على الأب في النكاح مع التعارض.
قال في المسالك
ـ في كتاب الوصايا ، بعد قول المصنف «وكذا لو مات انسان ولا وصى له كان للحاكم
النظر في تركته» ـ ما صورته : اعلم ان الأمور المفتقرة إلى الولاية اما ان تكون
أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده
لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد ، على ترتيب الولاية الأقرب منهم الى الميت فالأقرب
، فإن عدم الجميع فوصى الميت ، ثم وصى الجد ، وهكذا. فان عدم الجميع فالحاكم.
انتهى.
وعلى هذا النهج
كلام غيره من غير نقل خلاف في المقام الا انه قال في المسالك ـ في كتاب الحجر ايضا
ـ : لا خلاف في كون الولاية عليهما للأب والجد له وان علا ، وانما الكلام في انهما
إذا تعارضا أو وقع العقد دفعة فهل يقع باطلا ، لاستحالة الترجيح ، أو تقديم عقد
الجد أو عقد الأب.
الذي اختاره في
التذكرة في هذا الباب هو الثاني ، والكلام في المال. واما في التزويج فسيأتي في
كتاب الوصايا من التذكرة ، قال : ان ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد ، وولاية
الجد مقدمة على ولاية الوصي للأب ، والوصي للأب والجد اولى من الحاكم .
__________________
أقول :
والمسألة خالية من النص ، فمن أجل ذلك حصل التردد فيها ، والاحتمال في تقديم كل من
الجد والأب على الأخر.
ثم انه ينبغي
ان يعلم : ان ولاية وصي الأب لا تنفذ الا مع فقد الجد وان علا ، لأن الولاية له
بعد الأب أصالة ، فلا يجوز ان يعين وصيا على أطفاله مع وجود أحد آبائه وان علا ،
لان ولايته ثابتة بأصل الشرع ، فليس للأب ان ينقلها الى غيره ، ولا جعل شريك معه
في ذلك وبذلك صرح الأصحاب.
(الثالث) : المشهور بين الأصحاب انه مع فقد الإمام في موضع تكون
الولاية على الأطفال راجعة إليه ، فلعدول المؤمنين النظر في ذلك.
وعن ابن إدريس
المنع ، قال : لان ذلك موقوف على الاذن الشرعي وهو منتف.
والأول مختار
الشيخ والأكثر ، لما فيه من المعاونة على البر والتقوى المأمور بهما ، ولقوله عزوجل «وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» خرج منه ما اجمع على عدم ولايتهم فيه فيبقى الباقي تحت
العموم.
ويمكن أيضا
استفادة ذلك من عموم دلائل الأمر بالمعروف ، وهذا كاف في رد ما ادعاه من عدم الإذن
الشرعي.
ويؤيده ـ أيضا
ـ تطرق الضرر الى مال الطفل بعدم القيم الحافظ له. والمعارضة بطرو الضرر بالتصرف
فيه مدفوعة باشتراط العدالة في الولي المانعة من اقدامه على ما يخالف المصلحة
للطفل.
__________________
ويؤيد ذلك
بأوضح تأييد ما قدمناه في المسألة السابعة في أحكام اليتامى وأموالهم من المقدمة
الرابعة ، من صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع ، وصحيح ابن رئاب ومثلهما في ذلك. بل أوضح من ذلك
رواية سماعة ،
قال : سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية ، وله خدم ومماليك
وعقار ، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال : ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله
فلا بأس .
وعن إسماعيل بن
سعد ، قال : سألت الرضا عليهالسلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا
وترك جواري ومماليك ، هل يستقيم ان تباع الجواري؟ قال : نعم .
وإطلاق هذا
الخبر محمول على الاخبار المتقدمة الصريحة في التقييد بالعدل من المؤمنين.
وبذلك يظهر لك
زيادة ضعف ما ذهب اليه ابن إدريس ، من قوله بالمنع لمجرد خيال تخيله.
(الرابع) : لو
كان له على غيره مال فجحده أو تعذر استيفاؤه منه ، فإنه يجوز له الاستقلال بأخذ
جنس ماله ان وجده ، والا فمن غيره بالقيمة ، مخيرا بين بيعه من نفسه ومن غيره ولا
يشترط اذن الحاكم وان أمكن بوجوده ووجود البينة التي يثبت بها حقه ، على الأشهر
الأظهر ، الا ان يحلف الجاحد أو يكون وديعة. على خلاف في ذلك.
والأصل في ذلك
الاخبار ، بعد ظاهر قوله عزوجل «فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» .
__________________
ومنها : ما
رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن رزين قال : قلت لأبي الحسن موسى عليهالسلام : انى أخالط السلطان فتكون عندي الجارية ، فيأخذونها ،
والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ، ثم يقع لهم عندي المال فلي ان آخذه؟ فقال :
خذ مثل ذلك ولا تزد عليه .
وعن ابى بكر
الأرمني ، قال : كتبت الى العبد الصالح عليهالسلام جعلت فداك ، ان كان لي على رجل دراهم فجحدني فوقعت له
عندي دراهم فاقبض من تحت يدي مالي عليه؟ فان استحلفني حلفت ان ليس له شيء على؟
قال : نعم ، فاقبض من تحت يدك ، وان استحلفك فاحلف له انه ليس له عليك شيء .
وعن على بن
مهزيار ، قال أخبرني إسحاق بن إبراهيم ، ان موسى بن عبد الملك كتب الى ابى جعفر عليهالسلام يسأله عن رجل دفع اليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البر ،
فلم يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه بقدر هذا المال
، فسأل هل يجوز لي ان أقبض مالي أو أرده عليه؟ فكتب ـ عليهالسلام ـ اقبض مالك مما في يدك .
وعن على بن
سليمان قال : كتب اليه : رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة
أو قرض مثل ما خانه أو غصبه ، أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب اليه : نعم ، يحل له
ذلك ان كان بقدر حقه ، وان كان أكثر فيأخذ منه ما كان له عليه ويسلم الباقي إليه
إنشاء الله .
أقول : الظاهر
ان على بن سليمان هو الرازي ، والمكتوب اليه صاحب الأمر ـ عليهالسلام. وفيه دلالة على جواز المقاصة من الوديعة.
__________________
وعن جميل بن دراج
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله
بقدر الذي جحده ، أيأخذه وان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : نعم .
وروى المشايخ
الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن ابى بكر الحضرمي ، وهو ممدوح ، عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له : رجل كان له على رجل مال فجحده إياه وذهب
به ، ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله ، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب
به منه ذلك الرجل؟ قال : نعم ، ولكن لهذا كلام ، يقول : اللهم انى آخذ هذا المال
مكان مالي الذي أخذه مني ، وانى لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما . الى غير ذلك من الاخبار.
وقيل : لو كان
لصاحب الحق بينة يثبت بها الحق عند الحاكم لو أقامها وأمكن الوصول الى حقه بذلك لم
تجز له المقاصة مطلقا ، لان التسلط على مال الغير على خلاف الأصل ، فيقتصر منه على
موضع الضرورة ، وهي هنا منتفية ، ولان الممتنع يتولى القضاء عنه الحاكم.
وأنت خبير بما
في هذه الوجوه في مقابلة النصوص الصريحة. وهل هو الا اجتهاد في مقابلة النص.
* * *
وظاهر الأصحاب
، وعليه دل أكثر النصوص ، انه لا تجوز المقاصة فيما حلف عليه.
ومنها : ما
رواه في الكافي والفقيه عن خضر بن عمرو النخعي ، عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده ، قال : ان
استحلفه فليس له ان يأخذ منه بعد اليمين شيئا ، وان احتسبه عند الله تعالى فليس له
ان يأخذ شيئا ، وان تركه ولم يستحلفه فهو
__________________
على حقه .
أقول : لعل
معنى احتسابه عند الله سبحانه هبته له أو قصد التصدق به أو إبراء ذمته ، فان جميع
ذلك احتساب عند الله.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن خضر النخعي ، عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده ، قال : فان
استحلفه فليس له ان يأخذ شيئا ، فإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه .
وعن إبراهيم بن
عبد الحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده إياه فيحلف له
يمين صبر ان ليس له عليه شيء؟ قال : لا ليس له ان يطلب منه ، وكذلك ان احتسبه عند
الله فليس له ان يطلب منه .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابن ابى يعفور ، عن الصادق عليهالسلام قال : إذا رضى صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه
فحلف ان لاحق له قبله ذهبت اليمين بحق المدعى فلا دعوى له. قلت له : وان كانت عليه
بينة عادلة؟ قال : نعم ، وان أقام بعد ان استحلفه بالله خمسين قسامة ، ما كان له
حق وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه .
وما رواه في
الفقيه مرسلا ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : من حلف لكم بالله فصدقوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه
، ذهبت اليمين بدعوى المدعى ولا دعوى له .
وما رواه المشايخ
الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن سليمان بن خالد ، قال :
__________________
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثم وقع له
عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وجحده وحلف عليه كما صنع؟ فقال : ان خانك فلا
تخنه ولا تدخل فيما عتبة عليه .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن عبد الله بن وضاح ، قال : كان بيني وبين رجل من اليهود معاملة
فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت انه حلف يمينا
فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت ان اقتص الالف درهم التي
كانت لي عنده وحلف عليها ، فكتبت الى ابى الحسن عليهالسلام فأخبرته انى قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال ، فإن
أمرتني أن آخذ منه الالف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب عليهالسلام لا تأخذ منه شيئا ان كان ظلمك فلا تظلمه. ولولا انك
رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، وقد ذهبت
اليمين بما فيها. فلم آخذ منه شيئا ، وانتهيت الى كتاب ابى الحسن عليهالسلام .
* * *
واما ما رواه الشيخ
في الصحيح الى ابى بكر الحضرمي وهو ممدوح عندهم ، قال : قلت له : رجل لي عليه
دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي ـ ان وقع له قبلي دراهم ـ ان آخذ منه بقدر حقي؟
قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام. قلت : وما هو؟ قال : تقول اللهم لم آخذه ظلما
ولا خيانة ، وانما أخذته مكان مالي الذي أخذه منى لم أزد عليه شيئا . فحمله الصدوق والشيخ على انه حلف من غير ان يستحلفه
صاحب الحق ، وهو جيد. هذا.
* * *
واما الوديعة
فالمشهور ايضا انه لا يجوز المقاصة منها لوجوب أداء الأمانات ،
__________________
ولجملة من الاخبار.
منها : ما رواه
المشايخ الثلاثة في الصحيح عن معاوية بن عمار ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا ،
إلى أن آخذ مالي عنده؟ قال : لا ، هذه خيانة .
وما رواه في
التهذيب عن ابن ابى عمرو ، عن ابن أخي الفضيل بن يسار ، قال : كنت عند الصادق عليهالسلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت لي : اسأله
، فقلت : عما ذا؟ فقالت : ان ابني مات وترك مالا ، كان في يد أخي فأتلفه ، ثم أفاد
مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ بقدر ما أتلف من شيء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : لا ، قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أد الأمانة الى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك .
وما رواه في
الفقيه بإسناده عن زيد الشحام ، قال : قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : من ائتمنك بأمانة فأدها اليه ، ومن خانك فلا تخنه .
والشيخ حمل هذه
الاخبار على الكراهة ، جمعا بينها وبين ما دل على الجواز ، مثل ما قدمناه من خبر
على بن سليمان ، المتضمن لكون المال وديعة ، مع انه عليهالسلام جوز له المقاصة منه.
ونحوه ما رواه في
التهذيب في الصحيح عن ابى العباس البقباق ، ان شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف
درهم واستودعه بعد ذلك الف درهم ، قال أبو العباس فقلت له : خذها مكان الألف الذي
أخذ منك ، فأبى شهاب. قال : فدخل شهاب على ابى عبد الله عليهالسلام فذكر له ذلك ، فقال : اما انا فأحب أن تأخذ وتحلف .
__________________
قال في الوافي
ـ بعد نقل هذا الخبر ـ وفيه. إشكالان : أحدهما : جواز الأخذ من الوديعة ، مع انه
خيانة كما مر. والثاني : محبته عليهالسلام ذلك. ويمكن التفصي عنهما بحمله على ما إذا كان الغاصب
المودع هو العامل ، فان ماله اما فيء للمسلمين أو هو للإمام ، وللإمام الاذن في
أخذه ، فان لم يكن كله للإمام فلا أقل من الخمس. ويشعر بذلك عدم ذكر الغاصب ،
والإتيان بصيغة المعلوم في الاستيذان ، كأنه كان معلوما بينهما ، وكان ممن يتقى
منه. انتهى.
* * *
أقول : ملخص
الكلام في المقام ، ان هذه الاخبار قد خرجت على أقسام ثلاثة :
(الأول) : من
وقع بيده مال لرجل فجحده حقه أو امتنع من إعطائه.
ولا خلاف ولا
إشكال في جواز مقاصته. وعليه تدل الأخبار الأولة.
(الثاني) : من
جحد وحلف.
والظاهر ـ ايضا
ـ انه لا إشكال في انه ان استحلفه المدعى فلا تجوز المقاصة كما تدل عليه الاخبار
الثانية. والخبر المنافي ظاهر ـ كما عرفت ـ في انه محمول على حلف من عليه المال
بدون استحلاف صاحب المال ، وهو كمن لم يحلف إذ لا اثر لهذه اليمين اتفاقا ، بل لو
أحلفه الحاكم بدون طلب صاحب الدعوى ، فإنها لاغية.
(الثالث) :
الوديعة.
وقد عرفت
اختلاف الاخبار فيها.
وجمع الشيخ
بينها بحمل اخبار المنع من المقاصة على الكراهة.
وما ذكره صاحب
الوافي من الحمل على كون ذلك الغاصب المنكر عاملا ، فالظاهر انه بعيد عن سياق
الخبرين المذكورين الدالين على ذلك.
ومن المحتمل
عندي قريبا في المقام : هو الجمع بين الاخبار المشار إليها بالإتيان بالدعاء
المذكور وعدمه ، وان التصرف انما يكون خيانة مع عدمه ، كما يشير اليه قوله عليهالسلام في رواية الحضرمي الاولى «وانى لم آخذ الذي أخذته خيانة
ولا ظلما».
وكذا في الرواية الثانية.
والاولى وان
كانت مطلقة حيث ذكرناها في عداد الروايات الأولى ، الا ان الظاهر حملها على
الوديعة ، فإن جواز المقاصة في غير الوديعة صحيح شرعي ، لا يتوقف على هذا الدعاء.
ونحوها الرواية
الثانية ـ أيضا ـ بحملها على ذلك ، والحلف فيها ـ قد عرفت ـ انه بحكم العدم.
وهذا الدعاء
يشير الى ما دلت عليه روايات المنع من المقاصة من الوديعة ، من كون ذلك خيانة ،
فهذا الدعاء في هذا المقام كأنه بمنزلة الصيغ الشرعية والعقود الناقلة في
المعاملات ، فيحتاج اليه لانتقال المال اليه مكان ماله عليه ، كما يحتاج الى
العقود الناقلة في المعاملات.
وقال في الفقيه
ـ بعد ذكر خبر الحضرمي الأول ـ وفي خبر آخر ليونس بن عبد الرحمن عن الحضرمي مثله
الا انه قال : يقول : اللهم انى لم آخذ ما أخذت خيانة ولا ظلما. قال : وفي خبر آخر
: ان استحلفه على ما أخذ فجائز له ان يحلف ، إذا قال هذه الكلمة.
وبالجملة فإن
المقاصة في الصورة الأولى مما لا خلاف فيه ولا إشكال في جوازها ـ كما دلت عليه اخبارها
ـ من غير توقف على شيء بالكلية. وفي الصورة الثانية لا اشكال ولا خلاف في عدمها.
وانما محل الاشكال والخلاف في الثالثة. والمستفاد من هذه الاخبار هو انه مع قول
هذا الدعاء والإتيان به يجوز المقاصة والا فلا. والله العالم.
* * *
(الخامس) قد
صرح جمع من الأصحاب منهم في المسالك والروضة والدروس :
بأنه يجوز
لجميع من تقدم ذكره ممن له الولاية حتى المقاص ، تولى طرفي العقد ، بأن يبيع من
نفسه وممن له الولاية عليه.
واستثنى بعضهم
الوكل والمقاص من الحكم المذكور ، فمنع من توليهما طرفي العقد.
واقتصر آخر على
استثناء الوكيل خاصة ، على تفصيل فيه.
وممن ظاهره
القول بالعموم هنا المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد.
ولا فرق في ذلك
في عقد البيع وغيره من العقود حتى النكاح ايضا.
وتفصيل كلامهم
في التوكيل ، هو انه إذا اذن الموكل لوكيله في بيع ماله من نفسه ، أو وكلته المرأة
على ان يعقد بها على نفسه ، فهل يجوز له تولى طرفي العقد أم لا؟ المشهور بين
أصحابنا هو الأول ، واليه مال في المسالك ، قال : لوجود المقتضى ـ وهو الاذن
المذكور ـ وانتفاء المانع. إذ ليس الا كونه وكيلا ، وذلك لا يصلح للمانعية.
وعن الشيخ
وجماعة : المنع ، للتهمة وانه يصير موجبا قابلا. ورد بأن التهمة مع الإذن ممنوعة ،
ومنع جواز تولى الطرفين على إطلاقه ممنوع. فإنه جائز عندنا في الأب والجد ، كما
قرر في محله.
وظاهر كلامهم
ان ذلك جار في جميع العقود ، من بيع ونكاح ، مع انه قد روى عمار في الموثق ، قال :
سألت أبا الحسن عليهالسلام عن امرأة تكون في أهل بيت ، فتكره ان يعلم بها أهل
بيتها ، أيحل لها ان توكل رجلا يريد ان يتزوجها ، تقول له : قد وكلتك ، فاشهد على
تزويجي. قال : لا. قلت : جعلت فداك ، وان كانت أيما؟ قال : وان كانت أيما. قلت له
: فان وكلت غيره فيزوجها؟ قال : نعم .
وهذه الرواية ـ
كما ترى ـ صريحة في المنع من ذلك مع الاذن صريحا بالنسبة إلى النكاح ، وليس في هذه
الرواية ما يمكن استناد المنع اليه ، الا تولى طرفي العقد. واما غير النكاح من
العقود فلم أقف فيه على خبر ، وما عللوا به من الجواز لا ينهض
__________________
دليلا على إثبات حكم شرعي مخالف للأصل ، والأصل عصمة الفروج والأموال حتى
يقوم دليل شرعي واضح على زوالها ، والأحوط المنع ، كما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه.
هذا مع الاذن ،
اما مع الإطلاق فهل يجوز البيع من نفسه أم لا؟ ظاهر جملة من الأصحاب ـ وكأنه المشهور
ـ المنع. واليه مال في المسالك ، لان المفهوم من الاستنابة هو البيع على غيره ،
فلا يتناوله الإطلاق. وللاخبار. وقيل بالجواز على كراهة.
وقد مر شرح
الكلام في هذا المقام في المقدمة الثانية في آداب التجارة في مسألة «ما لو قال
انسان للتاجر اشتر لي ، فهل يجوز ان يعطيه مما عنده أم لا» ونقلنا القولين في
المسألة والاخبار الدالة على المنع وبها تظهر قوة القول المشهور وصحته.
وما ذكرنا يعلم
ان ليس الخلاف في هذه المسألة من جهة اعتبار تولى الواحد طرفي العقد وعدمه
اما أولا ،
فلان جماعة ممن قال بالجواز في الصورة الأولى ، منعوا في الصورة الثانية.
واما ثانيا ،
فلانه يمكن المغايرة بالتوكيل في القبول والإيجاب ، مع انه لا يجدى نفعا في مقام
المنع ، كما لو وكل ذلك الوكيل أعم من ان يكون مأذونا له أو مطلقا في الإيجاب
والقبول ، فان ظاهر النصوص المشار إليها العدم ، لأن النهي فيها انما وقع عن
إعطائه من الجنس الذي عنده ، وأخذه من الجنس الذي وكل في بيعه ، أعم من ان يكون هو
الموجب أو القابل ، أو يجعل غيره وكيلا في ذلك.
واما ثالثا ،
فان المانع انما استند الى الاخبار ، مضافة الى ما قدمنا نقله من عدم تناول
الإطلاق لذلك ، لا الى عدم جواز تولى طرفي العقد.
__________________
واما رابعا ،
فلان الأخبار المشتملة على المنع قد علل ذلك في بعضها بالتهمة ، فلو لم يخف التهمة
جاز الشراء من نفسه أو لنفسه. وفي بعضها ما يشير الى عدم دخول جواز البيع على نفسه
تحت الإطلاق كما تقدم ذكر جميع ذلك في الموضع المشار اليه.
قال في المسالك
ـ في شرح قول المصنف في كتاب الوكالة : «إذا اذن الموكل لوكيله في بيع ماله من
نفسه فباع جاز ، وفيه تردد ، وكذا في النكاح» ـ ما لفظه : والخلاف في المسألة في
موضعين ، وينحل إلى ثلاثة :
أحدها : ان
الوكيل هل يدخل في إطلاق الإذن أم لا. الثاني : مع التصريح بالاذن هل له ان يتولاه
لنفسه ، وان وكل في القبول أم لا. الثالث : على القول بالجواز مع التوكيل ، هل يصح
تولى الطرفين أم لا. والشيخ ـ عليه الرحمة ـ على المنع في الثلاثة. والعلامة في
المختلف على الجواز في الثلاثة. وفي غيره في الأخيرين. والمصنف يجوز الأخير ويمنع
الأول. وقد تردد في الوسط. انتهى.
* * *
ولو كان
المتولي لطرفي العقد وكيلا فيهما بأن وكله شخص على الشراء ، وآخر على البيع. فهل
له ان يتولى العقد نيابة عنهما؟ المشهور ذلك.
قال في الروضة
: وموضع الخلاف مع عدم الإذن توليه لنفسه ، واما لغيره بان يكون وكيلا لهما فلا
إشكال في الصحة ، الا على القول بمنع كونه موجبا قابلا. انتهى.
وهذا الكلام في
الوصي أيضا جار عندهم ، فإنه ان كان توليه الطرفين لنفسه فهو محل الخلاف المتقدم ،
وان كان لغيره فالمشهور الجواز ، الا عند من يمنع من كونه قابلا موجبا.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : ان جملة ما استدلوا به على صحة تولى الواحد طرفي
العقد في جملة المواضع المتقدمة ، هو عموم أدلة البيع ، مثل قوله سبحانه
«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»
و «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» ، ولانه عقد صدر من أهله في محله مع الشرائط فيصح ،
والأصل عدم اشتراط شرط آخر ، وعدم اشتراط التعدد وعدم مانعية كونه من شخص واحد
وللاتفاق على الجواز في الأب والجد ، وهو صريح في عدم مانعية الوحدة ، وعدم اشتراط
التعدد.
وأنت خبير بما
في هذه الأدلة ، من إمكان تعدد المناقشة ، فإن للخصم ان يتمسك بأن الأصل عصمة مال
الغير حتى يثبت الناقل له شرعا ، وعصمة الفرج حتى يثبت المبيح. والمعهود الذي جرى
عليهم الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وأصحابهم ، وجملة السلف والخلف ، في العقود الناقلة
في بيع كان ونحوه أو نكاح ، انما هو تعدد المتولي للإيجاب والقبول ، وما ذكر هنا
من جواز تولى الواحد انما وقع فرضا في المسألة ولم ينقل وقوعه في عصر من الأعصار.
وبذلك يظهر لك الجواب عن الاستدلال بإطلاق الآيات المتقدمة ، حيث انهم قرروا في
غير مقام ان الإطلاق في الاخبار انما ينصرف الى الافراد المتكررة الشائعة ، دون
الفروض النادرة التي ربما لا توجد ، والأمر فيما نحن فيه كذلك. فالواجب حملها على
ما هو المعهود المعلوم الذي جرى عليه التكليف في هذه المدة المتطاولة ، وهو وقوع
العقد من موجب وقابل ، ويخرج موثقة عمار المتقدمة شاهدا على ما ذكرنا ، فان ظاهرها : ان وجه المنع مع
اذنها ورضاها انما هو من حيث لزوم تولى طرفي العقد وكونه موجبا قابلا ، وما
استندوا اليه من الاتفاق على ذلك في الأب والجد ، ففيه ـ مع الإغماض عن تطرق
المناقشة إليه أيضا بعدم الدليل وعدم الاعتماد في الأحكام على مثل هذا الإجماع ان
تم وما عداه محل الخلاف في المقام كما عرفت ، وقولهم انه عقد صدر من أهله في محله
: ـ انها مصادرة محضة ، فإن الخصم لا يسلم ذلك ، بل هو محل النزاع والبحث ،
__________________
كما عرفت.
وبالجملة
فالمسألة محل اشكال.
* * *
(السادس) : المشهور بين الأصحاب : انه يجوز للوصي أن يقوم على
نفسه ويقترض إذا كان مليا ، وكثير منهم لم ينقل خلافا في المقام ، فيشترط بعضهم مع
ملائته الرهن عليه حذرا من إفلاسه وزيادة ديونه فيحفظ بالرهن مال الطفل. قال في
مسالك وهو حسن.
وكذا يعتبر
الاشهاد حفظا للحق ، وانما يصح له التقويم مع كون البيع مصلحة للطفل ، إذ لا يصح
بيع ماله بدونها ، مطلقا. قالوا : واما الاقتراض فيشترط عدم الإضرار بالطفل وان لم
تكن المصلحة موجودة. ومنع ابن إدريس من الاقتراض من مال الطفل مطلقا.
وجملة من
الاخبار تدل على الجواز. وقد تقدم الكلام في ذلك منقحا في المسألة السابعة من
مسائل المقدمة الرابعة . ولا دلالة في شيء من تلك الاخبار على ما قدمنا نقله
عنهم من اشتراط الرهن ، وغاية ما تدل عليه : اشتراط الملائة ، كما هو متفق عليه.
وبها فسر قوله
سبحانه «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .
فقيل : ان
المراد بالتي هي أحسن : ان يكون للمتصرف مال بقدر مال الطفل زائدا على المستثنيات
في الدين ، وعن قوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة.
وفسره بعض
المتأخرين بكون المتصرف بحيث يقدر على أداء المال المأخوذ
__________________
من ماله إذا تلف بحسب حاله.
أقول : لم أقف
في الاخبار على مستند لشيء من هذين التفسيرين ، وحينئذ فيكون من قبيل التفسير
بالرأي المنهي عنه في الاخبار ، وظاهر الآية : ان يختار ما هو الأحسن لليتيم ، من
حفظ ماله وإصلاحه وتنميته ونحو ذلك من المصالح ، وفيها إشارة الى ما صرح به
الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة لليتيم في التصرف في ماله.
وبالجملة فإن
الاستناد الى الآية فيما ذكروه بعيد عن ظاهر لفظها.
نعم قد دلت
جملة من الاخبار المتقدمة في المسألة المشار إليها على المنع من التصرف الا ان
يكون مليا ، مثل قوله عليهالسلام في رواية أسباط بن سالم «ان كان لأخيك مال يحيط بمال
اليتيم ان تلف فلا بأس به ، وان لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم» . ونحوه في روايته الأخرى . ونحوهما غيرهما ايضا. والجميع خال من اشتراط الرهن.
وكيف كان فإنه
أحوط ، لكن لا على جهة الاشتراط في صحة القرض ، إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت
والله العالم.
المسألة السادسة
قد صرح جملة من
الأصحاب بأنه يجب ان يكون المشترى مسلما إذا ابتاع عبدا مسلما.
__________________
قال في المسالك
ـ بعد قول المصنف ذلك ـ : يمكن ان يريد بالمسلم من حكم بإسلامه ظاهرا لان ذلك هو
المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه عليه ، فيدخل فيه فرق المسلمين المحكوم
بكفرهم ، كالخوارج والنواصب ، ويمكن ان يكون يريد به المسلم حقيقة نظرا الى ان
غيره إذا حكم بكفره دخل في دليل المنع الدال على انتفاء السبيل للكافر على المسلم
، وهذا هو الاولى ، لكن لم أقف على مصرح به ، وفي حكم العبد المسلم المصحف وأبعاضه
دون كتب الحديث النبوية ، وتردد في التذكرة فيها. انتهى.
أقول : فيه ـ أولا
ـ ان قوله «لان ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم» ان أراد بحسب عرف الناس فيمكن ،
ولكن لا يجدى نفعا ، وان أراد في الاخبار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار ،
فهو ممنوع أشد المنع. لان منها الأخبار الكثيرة المستفيضة بأنه بني الإسلام على
خمسة وعد منها الولاية ، وانه لم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، وهي أعظمهن
واشرفهن. ومن الاخبار المستفيضة المتكاثرة الواردة في بيان الفرق
بين الايمان والإسلام ، بأن الإسلام ما يحقن به الدم والمال ويجرى عليه النكاح
والمواريث والطهارة.
ومنها قوله عليهالسلام في حسنة الفضيل بن اليسار «والإسلام ما عليه المناكح
والمواريث وحقن الدماء» الحديث.
وقوله عليهالسلام في صحيحة حمران «والإسلام ما ظهر من قول وفعل ، وهو
الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث ،
وجاز النكاح» الحديث . الى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بهذا المضمون ، ولا
__________________
ريب انه من المتفق عليه بينهم : عدم جواز إجراء شيء من هذه الأحكام على من
ذكره من الخوارج والنواصب ، فكيف يدعى انه المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه
عليه ، وأي أحكام يريد؟ وهذه أحكام الإسلام المترتبة عليه في الاخبار ، والاخبار
مستفيضة بكفر هؤلاء ، مصرحة به ، بأوضح تصريح ، ولا سيما النواصب ، وإطلاق الإسلام
عليهم انما وقع في كلام الأصحاب ، مع تعبيرهم بمنتحلي الإسلام ، بمعنى انه لفظي
محض ، لاحظ لهم في شيء مما يترتب عليه من الأحكام التي ذكرناها فكيف يدخلون تحت
تبادر هذا اللفظ والحال كما عرفت.
وثانيا : ان
المستفاد من كلامه هنا وكلام غيره ايضا : ان المستند في أصل هذه المسألة انما هو
الآية الكريمة ، أعني قوله عزوجل «وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» وأنت خبير بما فيه ، فإنه لو أريد بالسبيل هنا ما
يدعونه من سلطنة الكافر على المسلم بالملك والدخول تحت طاعته ووجوب الانقياد لأمره
ونهيه ، لا تنقض ذلك ـ أولا ـ بما أوجبه الله تعالى على أئمة العدل من الانقياد
إلى أئمة الجور ، والصبر على ما ينزل بهم من ائمة الجور ، وعدم الدعاء عليهم ، كما
ورد في تفسير قوله عزوجل «قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».
و ـ ثانيا ـ بما
أوقعوه بالأنبياء والأئمة ـ عليهمالسلام ـ من القتل فضلا عن غيره من أنواع الأذى ، واى سبيل أعظم
من هذا السبيل.
و ـ ثالثا ـ بما
رواه الصدوق في العيون من انه قيل له : ان في سواد الكوفة قوما يزعمون ان
النبي صلىاللهعليهوآله لم يقع عليه السهو ، فقال : كذبوا ـ لعنهم الله ـ ان
الذي لا يسهو هو الله ، لا إله الا هو.
__________________
قيل : ومنهم
قوم يزعمون ان الحسين بن على لم يقتل وانه القى اليه شبهة على حنظلة بن أسعد
الشامي ، فإنه رفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليهالسلام ، ويحتجون بهذه الآية «وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً».
فقال : كذبوا ـ
عليهم غضب الله ولعنته ـ وكفروا بتكذيبهم النبي صلىاللهعليهوآله في اخباره بأن الحسين ـ عليهالسلام ـ سيقتل ، والله لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا من
الحسين عليهالسلام أمير المؤمنين والحسن بن على وما منا الا مقتول ، وانى
والله لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ، اعرف ذلك بعهد معهود الى من رسول الله صلىاللهعليهوآله أخبره به جبرئيل عن رب العالمين عزوجل.
واما قوله
تعالى «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً»
فإنه يقول : لن
يجعل الله للكافر على مؤمن حجة. ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا نبيين بغير حق ، ومع
قتلهم إياهم لم يجعل لهم على أنبيائه ـ عليهمالسلام ـ من طريق الحجة.
أقول : والخبر
ـ كما ترى ـ صريح في تفسير السبيل المنفي في الآية بالحجة والدليل ، فتعلق أصحابنا
بظاهر هذه الآية في مواضع من الأحكام ، بناء على المعنى الذي نقلناه عنهم ، مع
ظهور انتقاضه بما قدمنا ذكره ، وورود هذا الخبر ، مما لا ينبغي ان يصغى اليه ،
والعذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على الخبر المذكور.
وهذا مما يؤيد
ما صرحنا به في مواضع من أبواب العبادات من هذا الكتاب ، انه لا ينبغي المسارعة
إلى الاستدلال بظواهر الآيات قبل مراجعة الأخبار الواردة في تفسيرها عن أهل العصمة
ـ عليهمالسلام ـ
وبالجملة فإني
لا اعرف لهم دليلا في هذا المقام سوى ما عرفت مما لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا.
نعم يمكن ان
يستدل على ذلك بمفهوم رواية حماد بن عيسى عن الصادق عليهالسلام ان أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ اتى بعبد ذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا فبيعوه من
المسلمين وادفعوا ثمنه لصاحبه ، ولا تقروه عنده . رواه الكليني والشيخ في التهذيب والنهاية.
والتقريب فيه :
انه ليس للأمر ببيعه قهرا سبب ولا علة إلا رفع السلطنة والسبيل عنه ، وعدم جواز
تملكه ، وحينئذ فيمتنع شراؤه ويحرم تملكه ، لما فيه من وجود السلطنة والسبيل على
المسلم. والله العالم.
فروع
الأول : قد
صرحوا ـ بناء على ما قدمنا ذكره من تحريم شراء الكافر للمسلم ـ باستثناء ما لو كان
العبد المسلم ممن ينعتق عليه بعد الشراء كالأب ونحوه ، فإنه يجوز شراؤه لأنه ينعتق
عليه قهرا بعد الدخول في ملكه.
وهو اختيار
العلامة في المختلف ، ونقله عن والده.
ونقل عن
المبسوط وابن البراج عدم الجواز وعدم ترتب العتق عليه.
والمشهور الأول
، قالوا : وفي حكمه كل شراء يستعقب العتق ، كما لو أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه
فإنه ينعتق عليه بمجرد الشراء.
وصرحوا ـ أيضا
ـ بأنه انما يمتنع دخول العبد المسلم في ملك الكافر اختيارا كالشراء والاستيهاب
اما غيره كالإرث وإسلام عبده الكافر ، فإنه يجبر على بيعه بثمن المثل على الفور ،
ان وجد راغب والا حيل بينهما الى ان يوجد الراغب ، ونفقته زمن المهلة عليه وكسبه
اليه. وفي حديث حماد بن عيسى المتقدم ما يشير الى ذلك.
__________________
الثاني : قد صرح جملة من الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ بأنه لا
يجوز للكافر استيجار المسلم ، وعللوه بحصول السبيل المنفي في الآية المتقدمة ،
وفصل آخرون بأنه ان كانت الإجارة لعمل في الذمة فإنه يجوز وتكون حينئذ كالدين الذي
في ذمته لو استدان منه دراهم مثلا ، ونفى السبيل في هذه الصورة كما في صورة الدين
، وان كانت على العين ، حرمت للعلة المتقدمة ، وهو وجود السبيل المنفي في الآية.
واختار هذا
التفصيل جملة من المتأخرين ، كالمحقق الشيخ على في شرح القواعد ، والشهيد الثاني
في المسالك. وممن صرح بالأول الشهيد في الدروس ، وهو ظاهر العلامة في القواعد.
وأنت خبير بما
في الجميع ـ بعد ما عرفت ـ ويؤيده جملة من الاخبار بأن عليا عليهالسلام كان يؤجر نفسه من اليهود يسقى لهم النخل. وكفاك ما ورد
من الاخبار في قصة نزول سورة هل أتى الدالة على غزل فاطمة ـ عليهاالسلام ـ الصوف لليهود بأصواع من الشعير .
الثالث : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز رهن العبد المسلم
عند الكافر ان وضع على يد مسلم ، وان وضع عند الكافر حرم.
وعللوا الأول
بأن استحقاق أخذ الدين من قيمته لا يعد سبيلا. وعللوا الثاني بوجود السبيل متى وضع
عنده.
وفي عاريته
قولان ، قال في المسالك : أجودهما المنع. قال : وفي إيداعه وجهان أجودهما الصحة ،
لأنه فيها خادم لا ذو سبيل.
وأنت خبير بما
في هذه التفريعات ، بعد ما عرفته في الأصل ، من عدم ثبوته وعدم قراره ، فكيف يتم
ما يبنى عليه.
الرابع
: مقتضى شرطية
الإسلام في المشتري ـ متى كان المبيع مسلما أو مصحفا
__________________
ـ هو بطلان البيع لو لم يكن كذلك وقيل بصحة البيع ولكن يجبر على بيعه ويؤمر
بإزالة ملكه للاية المتقدمة بالنسبة إلى المسلم ، ولما في ملك الكافر للقرآن من
الإهانة ومنافاة التعظيم المأمور به.
قيل : وفي حكم
المسلم ولده الصغير والمجنون ومسبيه المنفرد به ، ان ألحقناه به فيه ، ولقيط يحكم
بإسلامه ظاهرا ، بان يكون في دار الإسلام أو في دار الحرب وفيها مسلم يمكن تولده
منه.
المقام الثالث
قد عرفت ان أحد
أركان البيع العوضان. والكلام في ذلك وتحقيق البحث فيه يقتضي بسطه في مسائل : ـ
الأولى
: المشهور بين
الأصحاب انه يشترط في العوضين : ان يكونا عينا ، فلا يصح بيع المنفعة ، خلافا
للشيخ في المبسوط ، حيث جوز بيع خدمة العبد على ما نقل عنه ، وهو شاذ لا اعلم عليه
دليلا.
وان يكونا ذوي
نفع محلل مقصود لأرباب العقول ، فلا يصح بيع مالا منفعة تترتب عليه من الأعيان
النجسة والمتنجسة مما لا يقبل التطهير ، وقد تقدم البحث في جملة من هذه الأشياء ،
كالعذرات والأبوال والسباع والميتة والكلاب وآلات اللهو وهياكل العبادة ونحو ذلك.
والاخبار المتعلقة بها ، وتحقيق القول فيها ، في المقدمة الثالثة من مقدمات هذا
الكتاب.
وملخص الكلام
فيها : ان كل ما كان له نفع محلل مقصود للعقلاء فإنه يجوز بيعه والتجارة فيه ، الا
ما قام الدليل على خلافه.
قالوا : لا يصح
بيع ما لا منفعة فيه من الخنافس والعقارب ونحوهما ، وفضلات الإنسان كشعره وأظفاره
ورطوباته ، لعدم عد شيء من ذلك مالا عرفا وشرعا ، وعدم
المنفعة المقابلة للمال الذي يجعل قيمة لها ، ولا اعتبار بما ورد في الخواص
من منافع بعض هذه الأشياء ، فإنه مع ذلك لا يعد مالا.
نعم صرحوا
باستثناء اللبن من فضلات الإنسان ، حيث انه طاهر ينتفع به ، فيجوز بيعه وأخذ
الأجرة عليه ، مقدرا بالقدر المعين أو المدة المعلومة ، كما في إجارة الظئر. خلافا
لبعض العامة.
وقد عدوا من
هذا الباب ما لم تجر العادة بملكه ، كحبة حنطة ، وان يجز غصبها من مالكها ، فيضمن
المثل ان تلفت ، وردها ان بقيت. كذا صرح به في الدروس.
وظاهر المحقق
الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ولا
ما لا ينتفع به لقلته كالحبة من الحنطة» ـ ما صورته :
كأنه أشار الى
ان المراد بالملك الذي يحصل به النفع ، فهو عطف على الحر ، فلا يصح ولا يجوز
المعاملة بما لا ينتفع به لقلته ، وان كان ملكا كحبة من الحنطة ، ولهذا لا يجوز
أخذه من غير اذن صاحبه ، وان لم يجب الرد والعوض ، بناء على ما قيل ، ولعل دليله
يظهر مما مر ، من ان بذل المال في مقابلة مثله سفه عقلا وشرعا ، فلا يجوز وانه ليس
معاملة مثله متعارفا ، والمتعاملة المجوزة تصرف إليها.
وفيه تأمل ،
لأنه قد ينتفع به وذلك يكفى ، ولهذا قيل : لا يجوز سرقة حبة من الحنطة ، وينبغي
الضمان والرد ايضا ، كما في سائر المعاملات.
وان قيل بعدمها
ومجرد كونه ليس بمتعارف لا يوجب المنع ، نعم لا بد من بذل مالا يزيد عليه لئلا
يكون سفها وتبذيرا كما في سائر المعاملات ، فإنه قد يشتري حبة حبة ويجتمع عنده ما
يحصل فيه نفع كثير ، وقد يحصل النفع بالانضمام الى غيره ايضا.
وبالجملة مالا
نفع فيه أصلا وبوجه من الوجوه لا يجوز معاملتها للسرف ، واما ماله نفع في الجملة
كالحبة ليس بظاهر عدم جواز المعاملة بأمثالها. انتهى.
وهو بناء على
ظاهره جيد ، الا ان الظاهر ان بناء كلام الأصحاب هنا في الحكم
بكون الحبة من الحنطة لا يجوز المعاملة عليها لعدم الانتفاع بها ، انما جرى
على الغالب ، لا على هذا الفرض النادر الذي ذكره ، والأحكام الشرعية ـ كما تقدم في
غير مقام ، ولا سيما في كتب العبادات ـ انما يبنى الإطلاق فيها على الافراد
المتكررة الوقوع المتعارفة الدوران لا على الفروض النادرة التي ربما لا تقع
بالكلية ، وان جاز فرضها ، وان ما ذكره من الفرض المذكور معارض بما هو معلوم قطعا
من أحوال الناس ، فإنه قد ينتشر من الإنسان الحنطة والأرز ونحوهما فيجمع منه ما
يعتد به وينتفع به ويبقى في الأرض منه حبات كثيرة ويعرض عنها ويتركها لعدم ما
يترتب عليها من النفع لقلتها بل لو تعرض لجمع تلك الحبات ولقطها من الأرض لنسب إلى
الجهالة والحماقة وقلة العقل ، لما ارتسم في قلوب العقلاء إن الأليق بذوي المروات
هو الاعراض عن مثل ذلك ، وان خلافه عيب عندهم ، وهذا أمر معلوم مجزوم به عادة.
المسألة الثانية
من الشرائط :
ان يكون العوضان مملوكين لمن له البيع والشراء ، وهو ظاهر عقلا ونقلا ، إذ لا معنى
لبيعه ما ليس له ، ولا الشراء بما ليس له ، بان يتوجه العقد الى تلك الأعيان.
وانما قيدناه
بما ذكرنا ، احترازا عما لو وقع البيع والشراء في الذمة ، ودفع ذلك عوضا عما في
الذمة ، فإن البيع والشراء صحيح ، حيث انه لم يقع على تلك العين غير المملوكة ولا
بها ، وانما وقع على شيء في الذمة ، فغاية ما يلزم هو حصول الإثم بدفع المال غير
المملوك ثمنا أو مثمنا ، والا فالبيع صحيح كما هو ظاهر ، الا ان الشيخ قال في النهاية
: من غصب غيره مالا واشترى به جارية ، كان الفرج له حلالا وعليه وزر المال ، ولا
يجوز ان يحج به فان حج به لم يجزه عن حجة الإسلام. انتهى.
وهو على إطلاقه
ـ مشكل. ولهذا اعترضه ابن إدريس هنا ، فقال : ان كان الشراء بالعين بطل ولم يجز
الوطي ، وان كان قد وقع في الذمة صح البيع وحل الوطي.
أقول : ما ذكره
ابن إدريس هو المشهور في كلام المتأخرين ، وبه صرح الشيخ في أجوبة المسائل
الحائرية.
والوجه في ذلك
ـ زيادة على ما ذكرنا ـ : أولا ، الجمع بين ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى ،
قال : كتب محمد بن الحسن الى ابى محمد ـ عليهالسلام رجل اشترى من رجل ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع
الطريق أو من سرقة. هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له ان يطأ
هذا الفرج الذي اشتراه من سرقة أو من قطع الطريق؟ فوقع عليهالسلام : لا خير في شيء أصله حرام ، ولا يحل له استعماله . ورواه الشيخ ـ ايضا ـ بسنده الى الصفار.
وبين ما رواه الشيخ
عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ قال : لو ان رجلا سرق الف درهم فاشترى بها جارية ، أو
أصدقها امرأة ، فإن الفرج له حلال ، وعليه تبعة المال .
بحمل الأول على
الشراء بعين المال ، والثاني على الشراء في الذمة.
وبالجملة فإنه
لا خلاف ولا إشكال في شرطية الملك ، فلا يجوز بيع الحر اتفاقا ، ولا بيع ما اشترك
فيه المسلمون ، كالماء والكلاء ، إذا كانا في أرض مباحة. كذا وقع في عبائر جمع من
الأصحاب.
واعترض بأنه
يدل على ملكية المسلمين له على جهة الشركة ، كالأرض المفتوحة عنوة ، مع انه ليس
كذلك ، انما هما قابلان لملك كل انسان بعد الحيازة.
وفيه : ان
الظاهر ان التعبير هنا خرج مخرج التجوز ، وان المراد انما هو ما اشترك
__________________
المسلمون في جواز حيازته الموجبة للملك بعد ذلك ، وانما قيد بكونه في أرض
مباحة ، لأنه إذا كان في أرض مملوكة كان تابعا للأرض في الملك ، فيصح بيعه وشراؤه
، ويحرم على غير المالك أخذه بغير اذن منه ، فعلى هذا لو باع الأرض لم يدخل فيها
الماء والكلاء الا ان ينص عليهما في البيع ، أو يذكر لفظا يعمهما.
وقد صرحوا هنا
بأنه لا يجوز بيع الأرض المفتوحة عنوة ، لأنها للمسلمين قاطبة ، وقيل بالجواز تبعا
لآثار التصرف. وقد تقدم البحث في هذه المسألة منقحا في المسألة السادسة من المقدمة
الرابعة ، وينافيها ما هو المختار ، الظاهر عندنا من الاخبار.
ومنع الشيخ من
بيع بيوت مكة وإجارتها ، ومنع المسلمين من سكناها إذا كانت خالية ، محتجا بالخبر
وآية الإسراء من المسجد الحرام ، مع انه كان من دار أم هاني. ونقل في الخلاف
الإجماع على ذلك وجملة ممن تأخر عنه تبعه في هذه الدعوى ، وبعض تردد لذلك.
والظاهر ان
المشهور قالوا بالجواز. ولله در شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، حيث قال : وربما
علل المنع بالرواية عن النبي صلىاللهعليهوآله بالنهي عنه ، وبكونها في حكم المسجد لاية الإسراء ، مع
انه كان من بيت أم هاني ، ولكن الخبر لم يثبت ، وحقيقة المسجدية منتفية ، ومجاز
المجاورة والشرف والحرمة ممكن ، والإجماع غير متحقق ، فالجواز متجه. انتهى. وهو
جيد.
أقول : وقد مر
في الموضع المشار اليه آنفا ما يؤيد ما اختاره هنا ايضا.
والظاهر ان
الخبر الذي احتج به الشيخ في هذه المسألة ، هو ما نقله عنه في المختلف ، وهو ما
رواه عبد الله بن عمرو بن عاص عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : مكة حرام ، وحرام أرباعها ، وحرام أجر بيوتها .
أقول : انظر
الى هذا التساهل في الأحكام من كل من هؤلاء الاعلام ، في الاعتماد
__________________
على هذه الرواية العامية ، التي هي من أضعف رواياتهم ، حتى ان منهم من وافق
الشيخ في المسألة ، ومنهم من تردد في الحكم ، وهذا مستنده ، مع تصلبهم في هذا
الاصطلاح ، برد جملة من الروايات المروية في الأصول التي عليها المدار ، بزعم انها
ضعيفة أو غير موثقة ، لا سيما مثل المحقق والعلامة ونحوهما الذين قد وافقوه في هذه
المسألة فبين من تردد في ذلك كالمحقق في الشرائع ، حيث قال «وفي بيع بيوت مكة تردد
، والمروي المنع» ، وبين من وافقه والحال كما ترى.
المسألة الثالثة
وقد صرحوا بان
من الشرائط ان يكون المبيع مقدورا على تسليمه ، أو يضم اليه ما يصح بيعه منفردا ،
فلو باع الحمام الطائر أو غيره من الطيور المملوكة لم يصح الا ان تقضى العادة
بعوده فيصح ، لانه يكون كالعبد المنفذ في الحوائج والدابة المرسلة.
وتردد العلامة
في النهاية في الصحة بسبب انتفاء القدرة في الحال على التسليم ، وان عوده غير
موثوق به ، إذ ليس له عقل باعث.
قال في المسالك
: وهو احتمال موجه ، وان كان الأول أقوى.
أقول : لم أقف
في هذا المقام على نص يقتضي صحة البيع في الصورة المذكورة ، فتردد العلامة في محله
، وان كان الأول قريبا ، تنزيلا للعادة منزلة الواقع ، الا ان الفتوى بذلك بمجرد
هذا التعليل مشكل ، على قاعدتنا في الفتاوى.
* * *
ولو باع
المملوك الآبق لم يصح الا على من هو في يده أو مع الضميمة الى ما يصح بيعه منفردا
، فان وجده المشترى وقدر على إثبات اليد عليه ، والا كان الثمن بإزاء
الضميمة ، ونزل الآبق بالنسبة إلى الثمن بمنزلة المعدوم. ولكن لا يخرج
بالتعذر عن ملك المشترى ، فيصح عتقه عن الكفارة وبيعه على آخر مع الضميمة أيضا.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ما رواه في الكافي في الصحيح عن رفاعة
النخاس ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليهالسلام قلت له : يصلح لي ان اشترى من القوم الجارية الآبقة
وأعطيهم الثمن فاطلبها أنا؟ قال : لا يصلح شراؤها الا ان تشترى معها ثوبا أو متاعا
، فنقول لهم : اشترى منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهما ، فان ذلك
جائز .
وما رواه الشيخ
عن سماعة في الموثق عن الصادق عليهالسلام في الرجل يشترى العبد وهو آبق عن اهله ، قال : لا يصلح
الا ان يشترى معه شيئا آخر ، ويقول : اشترى منك هذا الشيء وعبدك بكذا وكذا ، فان
لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى معه . ورواه الصدوق بإسناده عن سماعة مثله ، ورواه الكليني
عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد مثله.
وفي الرواية
الأولى إشارة إلى كون الضميمة شيئا له قيمة كالثوب والمتاع ونحو ذلك ، وينبغي ان
يحمل عليها إطلاق الشيء في الرواية الثانية.
وفي الثانية
دلالة على ما قدمنا ذكره من أنه مع تعذر المبيع يكون الثمن ـ وان كثر ـ في مقابلة
الضميمة ـ وان قلت ـ وفيه ، وكذا في أمثاله ، من مواضع الضمائم الاتية إنشاء الله
تعالى في مواضعها ، رد على بعض الفضلاء المعاصرين فيما تفرد به ، من ان ذلك غير
جائز ، لأنه غير مقصود وان المشترى لا ينقد هذا الثمن الكثير في مثل هذا المبيع
اليسير في سائر الأوقات وما جرت به العادة. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص وجرأة على
أهل الخصوص.
__________________
وفي الخبرين
المذكورين تأييد لما قدمنا ذكره في المقام الأول من هذا الفصل. من الاكتفاء في
صيغة البيع بالألفاظ الدالة على الرضا كيف اتفقت ، فان ما ذكره في الخبرين من قوله
«تقول : اشترى» هو عقد البيع وصيغته الجارية بين المتبايعين ، وهو ظاهر في عدم
وجوب تقديم الإيجاب على القبول كما ادعوه ، ولا كونه بلفظ الماضي كما زعموه ، ولا
وجوب المقارنة كما ذكروه.
تنبيهات
الأول : لا خيار للمشتري مع العلم بالإباق ، لقدومه على النقض
ورضاه به. اما لو جهل الإباق جاز له الفسخ ان قلنا بصحة البيع.
الثاني
: ينبغي ان يعلم
انه يشترط في بيعه ما يشترط في غيره من كونه معلوما وموجودا وقت العقد وغير ذلك
سوى القدرة على تسليمه. فلو ظهر تلفه حين العقد أو استحقاق الغير له بطل البيع
فيما قابله من الثمن. ولو ظهر كونه مخالفا للوصف تخير المشترى.
الثالث
: قال في الدروس
عن المرتضى : انه جوز بيع الآبق منفردا لمن يقدر على تحصيله ، ثم قال : وهو حسن.
واختار ذلك أيضا في اللمعة ، واليه جنح جمع من المتأخرين ، منهم العلامة والمحقق
الشيخ على في شرح القواعد. ولا يخلو عن قوة ، لحصول الشرط وهو القدرة على تسليمه.
ووجه الاشتراط
: صدق الإباق معه ، الموجب للضميمة بالنص ، وكون الشرط التسليم وهو أمر آخر غير
التسليم. ويضعف بأن الغاية المقصودة من التسليم حصوله بيد المشترى بغير مانع وهي
موجودة ، والموجب للضميمة العجز عن تحصيله وهي مفقودة ، فلا مانع من الصحة.
والخبران المتقدمان محمولان على عدم قدرة المشترى
وقت العقد ، وفي الثاني منهما ما يشير الى ذلك ، من قوله «فان لم يقدر على
العبد كان الذي نقده فيما اشترى معه» فإنه ظاهر في كون البيع وقع في حالة لا يتحقق
فيها قدرة المشترى على تحصيله ، بل هي تحتمل للأمرين ، وبه يظهر قوة القول
المذكور.
الرابع
: قد صرح جملة من
الأصحاب ، منهم صاحب التذكرة والروضة وغيرهما ، بأنه لا يلحق بالآبق في هذا الحكم ما
في معناه ، كالبعير الشارد ، والفرس الغائر ، والضالة من البقر والغنم ونحوهما ،
بل المملوك المتعذر تسليمه بغير الإباق ، كالجحود مثلا ، فان الظاهر جواز بيعها من
غير ضميمة شيء ، للأصل وعموم أدلة العقود ، وحصول الرضا ، واقتصارا فيما خالف
الأصل على موضع النص ، وحينئذ فيصح البيع ويراعى بإمكان التسليم ، فان أمكن في وقت
قريب لا يفوت به شيء من المنافع يعتد به ، أو رضى المشترى بالصبر الى ان يسلم ،
لزم العقد. وان تعذر فسخ المشترى ان شاء ، وان شاء التزم بالعقد وبقي على ملكه ،
فينتفع بالعبد بالعتق ونحوه.
الخامس
: قيل : وكما
يجوز جعل الآبق مثمنا يجوز جعله ثمنا ، سواء كان في مقابله آبق آخر أم غيره ،
لحصول معنى البيع في الثمن والمثمن ، وفي احتياج جعل العبد الآبق المجعول ثمنا إلى
الضميمة احتمال ، لصدق الإباق المقتضي لها ، ولعله الأقرب لاشتراكهما في العلة
المقتضية لها.
وحينئذ يجوز ان
يكون أحدهما ثمنا والأخر مثمنا مع الضميمتين ، كذا قيل. وللتوقف فيه مجال ، فان
الحكم وقع خلاف الأصل كما اعترفوا به ، فالواجب الاقتصار فيه على مورد النص
المتقدم ، ومورده انما هو المثمن لا الثمن.
السادس
: ان الآبق يخالف
غيره من المبيعات في أشياء : منها : اشتراط الضميمة في صحة بيعه.
ومنها : انه
ليس له قسط من الثمن.
ومنها : ان
تلفه قبل القبض من المشترى.
ومنها : انه لا
تخيير للمشتري مع فقده ، وكل ما شرط أو ذكر في العقد يتخير المشترى مع فواته.
السابع
: لو وجد المشترى
في الآبق عيبا سابقا ، اما بعد القدرة عليه أو قبلها كان له الرجوع بأرشه ، بأن
يقوم العبد صحيحا مع الضميمة بعشرة مثلا ، ويقومان معيبا بتسعة ، فالأرش هو العشر
، يرجع به المشترى من القيمة التي وقع عليها العقد ، وهكذا لو ظهر العيب في
الضميمة وكان سابقا على البيع ، فان الحكم فيه كذلك.
الثامن
: لا يكفي في
الضميمة ، إلى الثمن أو المثمن ، ضم آبق آخر ، لان الغرض من الضميمة أن تكون ثمنا
أو مثمنا إذا تعذر تحصيل ما ضمت اليه ، فلا بد ان تكون جامعة لشرائطه التي من
جملتها إمكان التسليم ، والآبق المجعول ضميمة ليس كذلك.
المسألة الرابعة
قد صرحوا بأن
من الشرائط : ان يكون المبيع طلقا فلا يصح بيع الوقف العام مطلقا. بضميمة كان أو
بغير ضميمة.
والمشهور :
استثناء موضع خاص ، الا انهم قد اختلفوا في شروطه اختلافا شديدا فاحشا ، حتى من
الواحد في الكتاب الواحد في باب البيع وباب الوقف ، فقلما يتفق فتوى واحد منهم.
فضلا عن المتعددين ، وان أردت الاطلاع على صحة ما قلناه فارجع الى شرح الشهيد على
الإرشاد ، فإنه قد بلغ الغاية في ذلك ، في بيان المراد
بنقل جملة من فتاويهم ، وبين الاختلاف فيها باعتبار الشروط المجوزة للبيع.
ونحن ننقل لك
ذلك في هذا المقام ، إزاحة لثقل المراجعة عمن اراده من الاعلام ، وتقريبا لمسافة
وصوله إلى الأفهام ، فنقول :
قال في الكتاب
المذكور : قال الصدوق بجواز بيع «الوقف على قوم دون عقبهم» ومنع من بيع «الوقف
المؤبد». وقال المفيد : انه يجوز بيع الوقف إذا خرب ولم يوجد له عامر ، أو يكون
غير مجد نفعا ، أو اضطر الموقوف عليه الى ثمنه ، أو كان بيعه أعود عليه ، أو يحدث
ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرب الى الله بصلتهم. قال : فهذه خمسة مجوزة للبيع ،
ليس بعضها مشروطا ببعض.
وقال الشيخ في
المبسوط ، بجوازه إذا خيف خرابه أو خيف خلف بين أربابه ، فجوزه في أحد الأمرين.
وفي الخلاف ظاهر كلامه جوازه عند خرابه بحيث لا يرجى عوده. فقد خالف عبارة المبسوط
في شيئين : أحدهما : انه ذكر هناك خوف الخراب ، وهنا تحققه. وثانيهما : انه لم
يذكر الخلف بين أربابه في الخلاف. وقال في النهاية : لا يباع الا عند خوف هلاكه أو
فساده ، أو كان بالموقوف عليهم حاجة ضرورية يكون بيعه أصلح ، أو يخاف خلف يؤدى الى
فساد بينهم. فهذه أربعة بعضها غير مشروط ببعض. ومخالفتها لعبارتي الكتابين ظاهرة.
وتبعه صاحب الجامع ، الا انه لم يذكر هلاكه أو فساده ، بل قال ـ عند خرابه ـ وقيد
الفساد بينهم بأن تستباح فيه الأنفس.
وقال المرتضى :
يجوز إذا كان لخرابه بحيث لا يجدى نفعا ، أو تدعو الموقوف عليهم ضرورة شديدة ، فقد
وافق المفيد خمسي الموافقة.
وقال ابن
البراج وأبو الصلاح : لا يجوز بيع المؤبد ، واما المنقطع فيجوز بقيود النهاية ،
وتجويز بيع المنقطع أشد اشكالا من الكل.
وقال سلار :
فان تغير الحال في الوقف حتى لا ينتفع به على اى وجه كان ، أو يلحق الموقوف عليه
حاجة شديدة ، جاز بيعه.
وابن حمزة في
كتابيه جوزه عند الخوف من خرابه أو الحاجة الشديدة التي لا يمكنه معها القيام به.
والشيخ نجم
الدين ـ في التجارة من الشرائع ـ جواز إذا أدى بقاؤه إلى خرابه لخلف بين أربابه ،
ويكون البيع أعود. وفي كتاب الوقف جوز بيعه إذا خشي خرابه لخلف بين أربابه ، ولم
يقيد بكون البيع أعود. ثم استشكل فيما لم يقع خلف ولا خشي خرابه ، بل كان البيع
أعود ، واختار المنع.
ففي ظاهر كلامه
الأخير رجوع عن الأول ، وفي تقييده بقوله «إذا لم يقع خلف ولا خشي خرابه» افهام
جواز بيعه عند أحدهما أيا ما كان ، وهو مخالف لما ذكر في الموضعين. وعبارته في هذه
المواضع الثلاثة اختارها المصنف في القواعد في هذه المواضع ايضا ، فيلزمه ما لزمه
، وفي النافع أطلق المنع من البيع ، الا ان يقع خلف يؤدى الى فساد ، فإنه تردد
فيه.
وقال المصنف في
متاجر التحرير : يجوز بيعه إذا أدى بقاؤه إلى خرابه ، وكذا إذا خشي وقوع فتنة بين
أربابه على خلاف. وفي مقصد الوقف منه : لو وقع خلف بين أرباب الوقف بحيث يخشى
خرابه جاز بيعه على ما رواه أصحابنا. ثم قال : ولو قيل بجواز البيع إذا ذهبت منافعه
بالكلية ، كدار انهدمت وعادت مواتا ولم يتمكن من عمارتها ، ويشترى بثمنها وقفا ،
كان وجها. وفي التلخيص جوز عند وقوع الخلف الموجب للخراب ، وبدونه لم يجوز. وجوز
في القواعد بيع حصير المسجد إذا خلق وخرج عن الانتفاع به فيه ، وبيع الجذع غير
المنتفع به الا في الإحراق.
هذه عبارات
معظم المجوزين.
وابن الجنيد
أطلق المنع ، ونص ابن إدريس على إطلاق المنع ، وزعم الإجماع
على تحريم بيع المؤبد. والمصنف في هذا الموضع من الإرشاد قيد البيع بالخراب
وأدائه إلى الخلف بين أربابه ، فخالف عبارات الأصحاب في الخراب ، وخالف المحقق المقيد
بأدائه إلى الخلف بين الأرباب. وفي الوقف من هذا الكتاب ، وبيع الوقف من الشرائع
والقواعد جوز فيه شرط البيع عند ضرورة الخراج والمؤن وشراء غيره بثمنه. وفي
المختلف جوز بيعه مع خرابه وعدم التمكن من عمارته أو مع خوف فتنة بين أربابه يحصل
منها فساد ولا يستدرك مع بقائه. انتهى كلامه.
ومنه يعلم ان
في المسألة أقوالا :
أحدها : المنع
مطلقا. وهو المنقول عن ابن الجنيد وابن إدريس.
وثانيها :
المنع في المؤبد خاصة. وهو مذهب الصدوق. واما غيره فيجوز.
وثالثها : قول
الصدوق المذكور الا انهم قيدوا البيع في غير المؤبد بالقيود المذكورة في النهاية ،
وهو قول ابى الصلاح وابن البراج.
ورابعها ـ وهو
المشهور ـ : الجواز مطلقا ، بالشروط التي ذكروها على اختلافها كما عرفت.
* * *
أقول : والأصل
في هذا الاختلاف اختلاف الافهام فيما رواه على بن مهزيار في الصحيح ، قال : كتبت
الى ابى جعفر عليهالسلام ان فلانا ابتاع ضيعة فوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ،
ويسأل عن رأيك في بيع حصتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها به ، أو
يدعها موقوفة. فكتب عليهالسلام الى : اعلم فلانا أنى آمره ان يبيع حقي من الضيعة ،
وإيصال ثمن ذلك الى ، وان ذلك رأيي إنشاء الله. أو يقومها على نفسه ان كان ذلك
أوفق له.
قال : وكتبت
اليه : ان الرجل ذكر ان بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وانه ليس
يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فان كان ترى ان يبيع هذا الوقف
ويدفع الى كل انسان منهم ما كان وقف له من ذلك امرته. فكتب عليهالسلام بخطه الى : وأعلمه أن رأيي له ، ان كان قد علم الاختلاف
ما بين أصحاب الوقف ان بيع الوقف أمثل فإنه ربما جاء في الاختلاف ما فيه تلف
الأموال والنفوس .
قال شيخنا
الشهيد في الكتاب المذكور المتقدم ذكره ـ بعد نقل هذه الرواية ـ ما صورته : والذي
جوز في غير المؤبد نظر الى صدر الرواية ، والأخر نظر الى عجزها. قلت : لو سلمت
المكاتبة فلا دلالة في الصدر ، إذ الوقف مشروط بالقبول إذا كان على غير الجهات
العامة ، ولم ينقل ان الامام قبل الوقف ، وانما قبل الجعل وامره ببيعه. وحملها على
هذا اولى لموافقته الظاهر واما العجز فدل على جواز البيع لخوف الفساد بالاختلاف من
غير تقييد بخوف خرابه ، فيبقى باقي ما ذكروه من القيود غير مدلول عليها منها.
انتهى.
وظاهره هنا :
اشتراط جواز البيع لخوف الفساد بالاختلاف خاصة. وفي الدروس اكتفى في جواز بيعه
بخوف خرابه أو خلف أربابه المؤدي إلى فساده. وفي اللمعة نسب الجواز ـ بما لو أدى
بقاؤه إلى خرابه لخلف أربابه ـ إلى المشهور ، ولم يجزم بشيء. وقد لزمه ما سجل به
على غيره من اختلاف الواحد منهم في فتواه في هذه المسألة.
وقال الصدوق ـ بعد
ذكر الخبر المذكور ـ : هذا وقف كان عليهم دون من بعدهم ، ولو كان عليهم وعلى
أولادهم ما تناسلوا ومن بعدهم على فقراء المسلمين الى ان يرث الله الأرض ومن عليها
، لم يجز بيعه أبدا.
أقول :
والمعتمد عندي في معنى هذه الرواية ما وقفت عليه في كلام شيخنا المجلسي في حواشيه
على بعض كتب الاخبار ، حيث قال : والذي يخطر بالبال انه يمكن حمل هذا الخبر على ما
إذا لم يقبضهم الضيعة الموقوفة عليهم ولم يدفع إليهم. وحاصل
__________________
السؤال ان الواقف يعلم انه إذا دفعها إليهم يحصل منهم الاختلاف ويشتد ،
لحصول الاختلاف قبل الدفع بينهم في تلك الضيعة ، أو في أمر آخر. أيدعها موقوفة
ويدفعها إليهم أو يرجع عن الوقف ، لعدم لزومه بعد ، ويدفع إليهم ثمنها. أيهما أفضل؟
فكتب عليهالسلام : البيع أفضل لمكان الاختلاف المؤدي إلى تلف النفوس
والأموال. فظهر ان هذا الخبر ليس بصريح في جواز بيع الوقف ، كما فهمه القوم ،
واضطروا الى العمل به مع مخالفته لأصولهم. والقرينة : ان أول الخبر محمول عليه كما
عرفت ، وان لم ندع أظهرية هذا الاحتمال أو مساواته للآخر ، فليس ببعيد ، بحيث تأبى
عنه الفطرة السليمة في مقام التأويل. والله الهادي إلى سواء السبيل. انتهى كلامه ،
علت في الخلد أقدامه.
وما يشعر به
آخر كلامه ، ان كان على سبيل التنزل والمجاراة مع القوم فجيد ، والا فإنه لا معنى
للخبر غير ما ذكره ، فإنه هو الذي ينطبق عليه سياقه. ويؤيده ـ زيادة على ما ذكره ـ
ان البيع في الخبر انما وقع من الواقف ، وهو ظاهر في بقاء الوقف في يده ، والمدعى
في كلام الأصحاب : ان البيع من الموقوف عليهم ، لحصول الاختلاف في الوقف ، والخبر
لا صراحة فيه على حصول الاختلاف في الوقف. ويعضده ـ ايضا ـ ان هؤلاء الموقوف عليهم
من أهل هذه الطبقة لا اختصاص لهم بالوقف ، بل نسبتهم إليه كنسبة سائر الطبقات
المتأخرة ، فهو من قبيل المال المشترك الذي لا يجوز لأحد الشركاء بيعه كلا ، وانما
يبيع حصته المختصة به ، والموقوف عليه هنا ليس له حصة في العين وانما له الانتفاع
بالنماء مدة حياته ، ثم ينتقل الى غيره ، لان الوقف ـ كما عرفوه ـ عبارة عن تحبيس
الأصل وتسبيل المنفعة.
ويؤكده قوله عليهالسلام في صحيحة الصفار الاتية إنشاء الله تعالى «الوقوف على
حسب ما يوقفها أهلها». وكذا جملة من الاخبار الاتية في المقام إنشاء الله تعالى.
ويزيده تأكيدا ـ ايضا ـ الأدلة العامة من آية أو رواية ، الدالة على المنع من
التصرف فيما لا يملكه
الإنسان ، ويتأكد ذلك بما إذا اشترط الواقف في أصل الوقف بان لا يباع ولا
يوهب.
ولو قيل بأنه
متى ادى الاختلاف الى ذهابه وانعدامه فالبيع أولى ، فإنه مع كونه غير مسموع في
مقابلة النصوص ، مدفوع بأنه يمكن استدراك ذلك يأن يرجع الأمر إلى ولي الحسبة ،
فيقيم له ناظرا لإصلاحه وصرفه في مصارفه. وبالجملة فإن الظاهر عندي من الرواية
المذكورة انها ليست في شيء مما نحن فيه ، فجميع ما أطالوا به من الكلام في المقام
نفخ في غير ضرام.
* * *
ومن الأقوال في
المسألة ـ أيضا ـ زيادة على الأربعة المتقدمة ـ خروج الموقوف عن الانتفاع به فيما
وقف عليه ، كجذع منكسر وحصير خلق ونحوهما. قيل : فلا يبعد للمتولي الخاص بيعه ،
ومع عدمه فالحاكم أو سائر عدول المؤمنين. وشراء ما ينتفع فيه ، لأنه إحسان وتحصيل
غرض الواقف مهما أمكن.
* * *
ومنها ـ ايضا ـ
جواز البيع إذا حصل للموقوف عليهم حاجة شديدة وضرورة تامة لا تندفع بعلة الوقف ،
وتندفع ببيعه. وعليه يدل ظاهر خبر جعفر بن حسان الاتى إنشاء الله.
والواجب ـ أولا
ـ نقل ما وصل إلينا من اخبار المسألة ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه منها.
فمنها : ما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار : انه كتب بعض
أصحابنا الى ابى محمد الحسن عليهالسلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ فوقع : «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها» . ورواه الكليني عن محمد بن يحيى.
ومنها : ما
رواه في الكافي في القوى عن على بن راشد ، قال : سألت أبا الحسن
__________________
عليهالسلام قلت : جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم
، فلما وفيت المال خبرت ان الأرض وقف. فقال : لا يجوز شراؤ الوقف ولا تدخل الغلة
في ملكك ، وادفعها الى من أوقفت عليه. قلت لا اعرف لها ربا. فقال : تصدق بغلتها .
وما رواه الكليني
والشيخ في الصحيح عن أيوب بن عطية الحذاء ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : قسم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الفيء فأصاب عليا ارض فاحتفر فيها عينا فخرج ماء ينبع
في السماء كهيأة عنق البعير ، فسماها «عين ينبع» فجاء البشير يبشره. فقال عليهالسلام : بشر الوارث ، هي صدقة بتا بتلا. في حجيج بيت الله
وعابر سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ولا تورث ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .
وما رواه الصدوق
في الفقيه عن ربعي بن عبد الله ، عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : تصدق أمير المؤمنين عليهالسلام بدار له في المدينة في بني زريق ، فكتب بسم الله الرحمن
الرحيم ، هذا ما تصدق به على بن أبي طالب وهو حي سوى ، تصدق بداره التي في بني
زريق ، لاتباع ولا توهب حتى يرثها الذي يرث السموات والأرض ، واسكن هذه الصدقة
خالاته ما عشن وعاش عقبهن ، فإذا انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين .
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن عجلان ابى صالح ، قال : املى على أبو عبد الله عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدق به فلان بن
فلان وهو حي سوى ، بداره التي في بنى فلان بحدودها ، صدقة لاتباع ولا توهب ولا
تورث ، حتى يرثها وارث السموات والأرض ، وانه قد اسكن صدقته هذه فلانا وعقبه ،
فإذا انقرضوا فهي
__________________
على ذوي الحاجة من المسلمين .
أقول : وهذه
الاخبار كلها ـ ونحوها غيرها ـ ظاهرة الدلالة واضحة المقالة في تحريم بيع الوقف.
وأجاب عنها
شيخنا الشهيد بأنها عامة ، والرواية الأولى خاصة ، فيبني العام على الخاص.
وفيه ما عرفت :
ان تلك الروايات لا دلالة لها على ما ادعوه منها ـ كما أوضحناه ـ
ومنها ما رواه المشايخ
الثلاثة. في الصحيح ، عن جعفر بن حنان ، وهو غير موثق ـ قال : سألت الصادق عليهالسلام عن رجل أوقف غلة له على قرابته من أبيه وقرابته من امه
، واوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم كل سنة ،
ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من امه. فقال : جائز للذي اوصى له بذلك.
قلت أرأيت ان لم تخرج من غلة الأرض التي أوقفها إلا خمسمائة درهم. فقال : أليس في
وصيته ان يعطى الذي اوصى له من الغلة ثلاثمأة درهم ، ويقسم الباقي على قرابته من
أبيه وقرابته من امه؟ قلت : نعم. قال : ليس لقرابته ان يأخذوا من الغلة شيئا حتى
يوفوا الموصى له ثلاثمأة درهم ، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك ـ الى ان قال ـ قلت :
فللورثة من قرابة الميت ان يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟
قال. نعم إذا كانوا رضوا كلهم ، وكان البيع خيرا لهم باعوا .
أقول : وبهذه
الرواية استدل من قال بجواز بيع الوقف مع الحاجة والضرورة إذا لم تف الغلة بذلك.
__________________
وظاهر شيخنا
الشهيد في الكتاب المذكور : القول بها ، فإنه بعد ان طعن فيها أولا ، قال في آخر
البحث : والأجود العمل بما تضمنه الحديثان السابقان. وأشار بهما إلى صحيحة على بن
مهزيار والى هذه الرواية. وقد عرفت الجواب عن الصحيحة المذكورة. واما هذه الرواية
فهي غير ظاهرة في كون الوقف فيها مؤبدا ، فحملها على غير المؤبد ـ كما هو ظاهرها ـ
طريق الجمع بينها وبين ما ذكرنا من الاخبار الصحيحة الصريحة في تحريم بيع الوقف
المؤبد.
وأكثر الأصحاب
ـ ممن قال بالقول المشهور ـ ردوا هذه الرواية بضعف السند.
ثم ان جملة ممن
صرح بجواز البيع ـ فيما دلت عليه صحيحة على بن مهزيار ـ أوجب ان يشترى بالقيمة ما
يكون عوضه وقفا.
قال في الروضة
: وحيث يجوز بيعه يشترى بثمنه ما يكون وقفا على ذلك الوجه ان أمكن ، مراعيا للأقرب
الى صفته فالأقرب ، والمتولي لذلك الناظر ان كان والا الموقوف عليهم إذا انحصروا ،
والا الناظر العام. انتهى.
وأنت خبير بأنه
مع قطع النظر عن الرواية التي استندوا إليها في المقام ـ لما عرفت من النقض
والإبرام والرجوع الى أقوالهم المتقدمة وان كانت مختلفة مضطربة ـ فإنه لا يطرد هذا
الحكم كليا على تقدير القول بالجواز ، وانما يتم على البعض ، ولعله الأقل من تلك
الأقوال ، وذلك فان من المجوزين من جعل السبب المجوز في جواز البيع هو شدة احتياج
الموقوف عليهم لعدم وفاء الغلة بذلك ، ومقتضى ذلك انما هو أكل ثمنه والتصرف فيه
بالملك لا بالشراء ، وهو ظاهر. ومنهم من جعل السبب المجوز خوف خرابه أو خوف الخلف
بين أربابه. وعلى هذا ايضا لا معنى للشراء بثمنه ما يجعل وقفا ، لجريان العلتين
المذكورتين فيه ، لانه كما يخاف على الأول من أحد الأمرين ، كذلك يخاف على الثاني
بعد البيع والشراء ، إذ العلة واحدة.
نعم يمكن ذلك
بناء على من يجعل علة الجواز خرابه بالفعل وعدم الانتفاع به بالكلية ، مع ما عرفت
من انه لا دليل عليه. وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا على الحكم المذكور ، مع ما
عرفت في الانطباق على أقوالهم من القصور.
المسألة الخامسة
لا خلاف بين
الأصحاب بل وغيرهم ـ تفريعا على ما تقدم في سابق هذه المسألة ـ في عدم جواز بيع أم
الولد ، مع حياة ولدها ودفع قيمتها أو القدرة على دفعها.
والمراد بها
امة حملت في ملك سيدها منه. ويتحقق الاستيلاد بعلوقها به في ملكه ، وان لم تلجه
الروح. والتقييد بحياة ولدها ـ كما ذكرنا ووقع في كثير من عبارات الأصحاب ـ مبنى
على الغالب أو التجوز ، لانه قبل ولوج الروح لا يوصف بالحياة.
والحق بالبيع
هنا سائر ما يخرجها عن الملك أيضا كالهبة والصلح وغيرهما ، للاشتراك في العلة ،
ولانه لو جوز غيره لانتفى فائدة منعه وتحريمه وهي بقاؤها على الملك لتعتق على
ولدها.
وقد ذكر
الأصحاب جملة من المواضع التي يجوز بيعها فيها :
منها : ما إذا
مات ولدها ، فإنها تكون كغيرها من الإماء. وهذا مما لا خلاف فيه عندنا.
ويدل عليه جملة
من الاخبار الاتية في المقام إنشاء الله تعالى.
ومنها : ما إذا
كان ثمنها دينا على مولاها. مع إعساره. والمراد بإعساره : ان لا يكون له مال زائدا
على المستثنيات في وفاء الدين.
وهل يشترط موت
المالك؟ قال في الشرائع : فيه تردد. وقال في المسالك :
الأقوى عدم اشتراط موته ، لإطلاق النص ، ثم قال : وهذان الفردان المستثنيان
مورد النص وقد الحق بهما بعض الأصحاب مواضع أخر ، انتهى.
والواجب ـ أولا
ـ نقل الأخبار المتعلقة بهذا المقام ، ثم الكلام فيها بما دلت عليه من الأحكام.
فمنها : ما في
الكافي عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى جارية يطأها فولدت له ولدا فمات ولدها
فقال : ان شاؤا باعوها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها ، وان كان لها ولد
قومت على ولدها من نصيبه .
وعن عمر بن
يزيد عن ابى الحسن الأول عليهالسلام قال : سألته عن أم الولد تباع في الدين؟ قال : نعم في
ثمن رقبتها .
وعن عمر بن
يزيد في الصحيح ، قال : قلت للصادق عليهالسلام كما في الكافي ، أو قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام كما في الفقيه : أسألك؟ فقال : سل. قلت : لم باع أمير
المؤمنين عليهالسلام أمهات الأولاد؟ قال في فكاك رقابهن. قلت : وكيف ذلك؟
قال : أيما رجل اشترى جارية فأولدها ثم لم يؤد ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدى عنه
، أخذ ولدها منها فبيعت وادى ثمنها. قلت : فبيعهن فيما سوى ذلك من دين؟ قال : لا .
وفي الكافي عن
يونس في أم ولد ليس لها ولد ، مات ولدها ومات عنها صاحبها ولم يعتقها ، هل يحل
لأحد تزويجها؟ قال : لا هي أمة لا يحل لأحد تزوجها الا بعتق من الورثة. فإن كان
لها ولد وليس على الميت دين فهي للولد ، وإذا ملكها الولد فقد عتقت بملك ولدها لها
، وان كانت بين شركاء فقد عتقت من نصيب ولدها ، وتستسعى في بقية ثمنها .
__________________
وفي التهذيب عن
ابى بصير ، قال : سألت الصادق عليهالسلام عن رجل اشترى جارية يطأها فولدت له ولدا فمات. فقال :
ان شاء ان يبيعها باعها وان مات مولاها وعليه دين قومت على ابنها ، فان كان ابنها
صغيرا انتظر به حتى يكبر ثم يجبر على قيمتها ، وان مات ابنها قبل امه بيعت في
الميراث ان شاء الله الورثة .
وعن ابى بصير
عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى جارية يطأها فولدت له ولدا فمات ، قال ان
شاء الورثة ان يبيعوها باعوها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها ، وان كان
لها ولد قومت على ولدها من نصيبه ، وان كان ولدها صغيرا انتظر به حتى يكبر. الحديث
السابق .
وعن ابى بصير
عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات ، قال ان شاء
ان يبيعها ، باعها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها. الحديث. كما تقدم .
أقول : مما يدل
على الفرد الأول ـ أعني جواز البيع مع موت الولد ـ الرواية الاولى. وذكر الدين
الذي على مولاها انما خرج مخرج التمثيل. ورواية يونس ورواية أبي بصير الاولى من
التهذيب لقوله عليهالسلام في صدرها «ان شاء ان يبيعها باعها» وفي عجزها «فان مات
ابنها قبل امه بيعت في ميراث الورثة ان شاء الورثة». ومثلها الرواية التي بعد هذه
الرواية.
وبالجملة فإن
الحكم المذكور متفق عليه رواية وفتوى.
اما الفرد
الثاني ـ أعني بيعها مع وجود الولد في أداء قيمتها ـ فيدل عليه رواية عمر بن يزيد
الاولى ، وظاهرها جواز البيع في حال حياة السيد أو بعد موته. ولعل قوله
__________________
في المسالك فيما قدمنا من كلامه «لإطلاق النص» إشارة الى هذه الرواية.
وبه يظهر ان
اعتراض المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ على شيخنا المذكور في هذا المقام ،
انما نشأ عن غفلة عن مراجعة الخبر المذكور ، حيث قال : والظاهر عدم الخلاف إذا كان
بعد موت المولى ، ويدل عليه رواية أبي بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام ، ثم نقل الرواية الثانية من روايات ابى بصير الثلاث
الأخيرة المنقولة من التهذيب.
ثم قال : وهذه
غير صحيحة ، لوجود المجهول مثل القصري وخداش ، ولوجود محمد بن عيسى المشترك. على
ان في متنها ايضا تأملا ، وما رأيت غيرها. ففي استثناء غير الصورتين ، بل في
استثناء بيعها مع حياة المولى أيضا تأمل. وما عرفت وجه تعليل هذا الفرد بقوله ـ في
شرح الشرائع ـ «لإطلاق النص» وما رأيت نصا آخر. وفي دلالة هذه على البيع بعد موت
المولى فقط أيضا تأمل ظاهر ، فيمكن الاقتصار على موضع الوفاق وهو البيع في الدين
مع موت المولى وموت الولد. فلا يستثني غيرهما من موضع الإجماع. ولكن لا يبعد ان
يقال : ان الاستصحاب وأدلة العقل والنقل دل على جواز التصرف في الاملاك مطلقا ،
فيجوز مطلق التصرف في أم الولد ، بيعها مطلقا وغيره الا ما خرج بدليل ، وما ثبت
بالدليل وهو الإجماع هنا إلا في منع البيع مع بقاء الولد وعدم إعسار المولى بثمنها
، فيجوز بمجرد موت الولد مطلقا ، لعدم الإجماع ، وفي ثمن رقبتها كذلك لذلك ، فتأمل
واحتط. انتهى.
أقول : ما ذهب
اليه من تخصيص الجواز بموت المولى أحد القولين في المسألة وهو منقول ايضا عن ابن
حمزة فإنه شرط في بيعها في ثمن رقبتها بعد موت مولاها. قال السيد السند في شرح
الإرشاد ، ورده جدي بإطلاق النص ، فإنه متناول لموت المولى وعدمه ، ويشكل بان ظاهر
قوله عليهالسلام «ولم يدع من المال ما يؤدى عنه». وقوع البيع بعد وفاة المولى ، فيشكل
الاستدلال بها على الجواز مطلقا. انتهى.
أقول : وكلام
السيد السند هنا ـ ايضا ـ مبنى على عدم الاطلاع على رواية عمر ابن يزيد المتقدمة ،
وانما اطلع على صحيحته ، ولا ريب انها ظاهرة فيما ذكره ، لكن الرواية المشار إليها
ظاهرة فيما ذكرنا من الإطلاق كما لا يخفى.
واما ما أطال
به المحقق الأردبيلي ـ هنا مما قدمنا نقله عنه ـ فلا يخفى ما فيه. ولكن عذره ظاهر
، حيث انه لم يشرح بريد نظره في روايات المسألة ، ولم يقف منها الا على هذه
الرواية المجملة ، والا فقد عرفت ان رواية أبي بصير ، وهي الاولى من روايات
التهذيب ، ظاهرة في بيعها بعد موت الولد وحياة الأب. وان البائع هو الأب لأنه سأل
عن رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات ـ يعنى الولد ـ فقال : ان شاء ان يبيعها
باعها. يعنى ان شاء ذلك الرجل الذي اشترى الجارية بعد موت الولد ان يبيع الجارية
باعها. ولا يجوز ان يكون الضمير في مات راجعا الى الرجل ، لانه لا معنى لقوله ان
شاء ان يبيعها.
بقي قوله ـ بعد
هذا الكلام ـ «وان مات مولاها وعليه دين» فإنه يجب ارتكاب التأويل فيه والتقدير ،
بان يكون المعنى «وان مات مولاها مع بقاء الولد وعدم موته. الى آخر ما ذكر في
الخبر».
ومثل رواية أبي
بصير الاولى وروايته الثالثة ـ أيضا ـ من روايات الشيخ ، بإرجاع الضمير في مات الى
الولد كما ذكرنا في الاولى. ووجه الاشكال عنده في الرواية التي نقلها : انه جعل
الضمير في «فمات» راجعا الى الرجل الذي اشترى الجارية. والظاهر انما هو رجوعه الى
الولد ، لقوله بعد ذلك «وان كان لها ولد». وهو قد اعتضد فيما ذهب اليه بقوله عليهالسلام «باعوها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها» وفيه : انه لا دلالة على
الحصر في هذا الفرد. فيجوز ان يكون انما خرج مخرج التمثيل ، لأنه أظهر الافراد.
وكيف كان فإنه ينافر هذا المعنى ما ذكرنا من قوله ـ بعد ذلك ـ «وان كان لها ولد».
وبالجملة فإن
روايات ابى بصير الثلاثة الأخيرة. لا تخلو من تشويش في معانيها واضطراب في ربط
ألفاظها.
ثم ان ما يدل ـ
ايضا ـ على بيعها في قيمتها مع وجود الولد : صحيحة عمر بن يزيد ، وظاهرها : البيع
بعد موت المالك ، كما جنح اليه. وبما ذكرنا يظهر لك صحة استثناء هذين الموضعين من
تحريم بيع أم الولد.
* * *
واما ما رواه في
الكافي والفقيه في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال سألته عن أم الولد. قال : امة ، تباع وتوهب وتورث
، وحدها حد الأمة .
وفي الصحيح عن
وهب ابن عبد ربه. عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ في رجل زوج أم ولد له عبدا له ، ثم مات السيد ، قال :
لا خيار لها على العبد ، هي مملوكة للورثة .
وهذان الخبران
لمخالفتهما لما عليه ظاهر اتفاق الأصحاب ، من أن حكم أم الولد غير حكم من لم يكن لها
ولد ، وانها تنعتق بموت السيد على ابنها من حصته من الميراث ، تأولوهما بالحمل على
من مات ولدها ، وإن التسمية بذلك وقع تجوزا باعتبار ما كان.
ويدل على ذلك
ما رواه في الفقيه عن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر عليهالسلام قال : أم الولد حدها حد الأمة إذا لم يكن لها ولد .
واما خبر وهب
بن عبد ربه ، فهو وان رواه الصدوق بما قدمنا نقله عنه ، الا ان
__________________
الشيخ رواه بما يندفع به عنه الاشكال ويزول به الاختلال ، حيث انه رواه
هكذا :
عن ابى عبد
الله عليهالسلام في رجل زوج عبدا له من أم ولد له ولا ولد لها من السيد
ثم مات السيد. الى آخر ما تقدم .
وظاهر الصدوق
في الفقيه حيث اقتصر على نقل الخبرين الأولين القول بمضمونهما بناء على ما ذكره في
صدر كتابه.
وظاهره فيه ـ ايضا
ـ ان أم الولد لا تنعتق على ولدها بمجرد ملكه لها ، بل تحتاج الى ان يعتقها ، كما
يدل عليه بعض الاخبار ، وهو خلاف ما عليه كافة الأصحاب في هذا الباب ، وسيجيء
تحقيق المسألة في محلها إنشاء الله تعالى ، وفق الله لبلوغه.
* * *
أقول : ومن
المواضع التي زادها جملة من الأصحاب وجوزوا بيع أم الولد فيها : ما ذكره شيخنا في
اللمعة وهي ثمانية ، وزاد عليه غيره ما تبلغ الى عشرين موضعا ، ونحن نذكرها واحدا
واحدا لتحصيل الإحاطة بالاطلاع عليها :
(أحدها) : في
ثمن رقبتها مع إعسار مولاها ، سواء كان حيا أو ميتا. قاله الشارح. اما مع الموت
فموضع وفاق ، واما مع الحياة فعلى أصح القولين ، لإطلاق النص.
و (ثانيها) :
إذا جنت على غير مولاها. قال الشارح : فيدفع ثمنها في الجناية أو رقبتها ان رضى
المجني عليه ، ولو كانت الجناية على مولاها لم يجز ، لانه لم يثبت له مال على
ماله.
و (ثالثها) : إذا
عجز مولاها عن نفقتها. قال الشارح : ولو أمكن تأديها ببيع بعضها وجب الاقتصار عليه
، وقوفا فيما خالف الأصل على موضع الضرورة.
و (رابعها) :
إذا مات قريبها ولا وارث له سواها. قال الشارح : لتنعتق وترثه ،
__________________
وهو تعجيل عتق اولى بالحكم من بقائها لتعتق بعد وفاة مولاها.
و (خامسها) :
إذا كان علوقها بعد الارتهان. قال الشارح : فيقدم حق المرتهن لسبقه. وقيل : يقدم
حق الاستيلاد لبناء العتق على التغليب. ولعموم النهى عن بيعها.
و (سادسها) :
إذا كان علوقها بعد الإفلاس. قال الشارح اى بعد الحجر على المفلس ، فان مجرد ظهور
الإفلاس على المفلس لا يوجب تعلق حق الديان بالمال. والخلاف هنا كالرهن.
و (سابعها) :
إذا مات مولاها ولم يخلف سواها وعليه دين مستغرق ، وان لم يكن ثمنا لها. قال
الشارح : لأنها انما تنعتق بموت مولاها من نصيب ولدها ، ولا نصيب له مع استغراق
الدين ، فلا تعتق فتصرف في الدين.
و (ثامنها) :
بيعها على من تنعتق عليه ، فإنه في قوة العتق. قال الشارح : فيكون تعجيل خير
يستفاد من مفهوم الموافقة ، حيث ان المنع من البيع لأجل العتق.
و (تاسعها) :
بيعها بشرط العتق.
قال المصنف :
وفي جواز بيعها بشرط العتق نظر. أقربه الجواز. قال الشارح : لما ذكر ، فان لم يف
المشترى بالشرط فسخ البيع وجوبا ، فان لم يفسخه المولى احتمل انفساخه بنفسه ، وفسخ
الحاكم ان اتفق.
وهذا موضع
تاسع.
وما عدا الموضع
الأول من هذه المواضع غير منصوص بخصوصه ، وللنظر فيه مجال ، وقد حكاها في الدروس
بلفظ قيل ، وبعضها جعله احتمالا من غير ترجيح لشيء.
ثم قال الشارح
: وزاد بعضهم مواضع أخر :
و (عاشرها) :
في كفن سيدها إذا لم يخلف سواها ولم يمكن بيع بعضها فيه
والا اقتصر عليه.
و (حادي عشرها)
: إذا أسلمت قبل مولاها إذ لا نصيب لولدها.
و (ثالث عشرها)
: إذا جنت على مولاها جناية تستغرق قيمتها.
و (رابع عشرها)
: إذا قتلته خطأ.
و (خامس عشرها)
: إذا حملت في زمن خيار البائع أو المشترى ثم فسخ البائع بخياره.
و (سادس عشرها)
: إذا خرج مولاها عن الذمة وملكت أمواله التي هي منها.
و (سابع عشرها)
: إذا لحقت هي بدار الحرب ثم استرقت.
و (ثامن عشرها)
: إذا كانت لمكاتب مشروط ثم فسخ كتابته.
و (تاسع عشرها)
: إذا شرط أداء الضمان منها قبل الاستيلاد ثم أولدها ، فإن حق المضمون له أسبق من
حق الاستيلاد كالرهن والفلس السابقين.
و (العشرون) :
إذا أسلم أبوها أو جدها وهي مجنونة أو صغيرة ثم استولدها الكافر بعد البلوغ قبل ان
تخرج من ملكه. وهذه في حكم إسلامها عنده.
وفي كثير من
هذه المواضع نظر. انتهى.
أقول : قد تقدم
في صحيحة عمر بن يزيد : انها لاتباع فيما سوى تلك الصورة المتفق عليها.
وأنت خبير بان
الظاهر ان مبنى من ذكر هذه الصور الزائدة على محل النص هو ان أم الولد حكمها حكم
غيرها من أموال السيد إلا في تلك الصورة الخاصة.
ولا يخفى ما
فيه ، فإنه قياس مع الفارق ، لان هذه قد تشبثت بالحرية بسبب الولد ، ومن الجائز ان
الاستيلاد قد صار مانعا من التصرف فيها بهذه الوجوه التي ذكروها ، ومقدما عليها ،
وحينئذ فتكون موروثة بعد موت السيد وان كان عليه دين مستغرق أو نحو ذلك من الأمور
التي ادعوا أنها مقدمة على الاستيلاد ، وابنها من جملة الورثة فتعتق
عليه بالحصة التي له.
وهو جيد من حيث
الاعتبار المذكور ، وان كانت الفتوى به محل توقف ، لعدم النص الصريح بذلك ، ثم
يسرى العتق وتستسعى ، أو يفكها الولد ، كما تضمنته الاخبار ، وتخرج الصحيحة
المذكورة شاهدا على ذلك ، وكذا مفهوم صحيحة زرارة ، وقوله فيها «أم الولد حدها حد
الأمة إذا لم يكن لها ولد». فان مفهومها : انه إذا كان لها ولد فإنها ليست على حد
الأمة التي يباح التصرف فيها بتلك الأنواع المذكورة ونحوها.
واما حمل الحد
في الرواية المذكورة على الحد الذي يوجبه الجناية ، بمعنى انها إذا فعلت ما يوجب
الحد فان حدها حد الأمة التي ليست أم ولد إذا لم يكن لها ولد ، فالظاهر بعده ، وان
كان الصدوق قد ذكر الخبر المذكور ، في باب الحدود حملا له على ذلك ، بناء على
مذهبه الذي قدمنا الإشارة إليه ، من ان أم الولد عنده كغيرها ممن لا ولد لها ، الا
ان يعتقها ابنها.
وهو مذهب غريب
مخالف لظاهر اتفاق الأصحاب من انها تنعتق على ابنها من نصيبه كلا أو بعضها بمجرد
الملك من غير توقف على عتق. ويدل عليه جملة من الاخبار ، وان كان ما ذكره الصدوق
هنا ايضا قد دلت عليه صحيحة محمد بن قيس ، ولتحقيق المسألة المذكورة محل آخر يأتي
إنشاء الله تعالى.
* * *
بقي هنا شيء
آخر يجب التنبيه عليه ، وهو انه لو مات ولد الأمة ولكن له ولد فهل يصدق عليها بذلك أنها أم ولد أم لا؟ فقل بالأول
لأنه ولد ، وقيل بالثاني لعموم ما دل على ان أم ولد إذا مات ابنها ترجع الى محض
الرق ، فإنه يتناول موضع النزاع ، وقيل : ان كان ولد ولدها وارثا ، بان لا يكون
للمولى ولد لصلبه كان حكمه حكم الولد ، لأنها تنعتق عليه ، وان لم يكن وارثا لم يكن
حكمه حكم الولد ، لانتفاء الملك المقتضى للعتق.
__________________
واختار هذا
التفصيل السيد السند السيد محمد ـ قدسسره ـ في شرح النافع.
المسألة السادسة
من فروع ما
تقدم من اشتراط كون المبيع طلقا : عدم جواز بيع الرهن أيضا إلا مع الاذن ، وبيع
العبد الجاني على التفصيل الاتى إنشاء الله تعالى.
اما الأول ،
فظاهر بالنسبة إلى الراهن ، لانه بالرهن صار ممنوعا من بيعه ، بل مطلق التصرف فيه
الا بإذن المرتهن. واما المرتهن فأظهر لأنه غير مالك الا ان يكون وكيلا من قبل
الراهن في البيع ، فيتوقف بيعه على الاذن من المالك ، وان امتنع استأذن الحاكم
الشرعي ، وان تعذر جاز له البيع بنفسه على الأظهر. وكيف كان فإنه لا يجوز له بيع
الرهن مطلقا ، بل على بعض الوجوه. وتحقيق المقام كما هو حقه يأتي إنشاء الله تعالى
في بابه.
واما الثاني ،
فالمشهور بين الأصحاب انه لا تمنع جناية السيد عن بيعه ، عمدا كانت الجناية أو
خطاء ، ونقل عن الشيخ في المبسوط الخلاف هنا في جناية العبد فأبطل البيع ، لتخيير
المجني عليه بين استرقاقه وقتله ، ورد بأنه غير مانع من صحة البيع ، لعدم اقتضائه
خروجه عن ملك مالكه. نعم لو جنى العبد خطاء لم تمنع جنايته عن بيعه لانه لا يخرج
بالجناية عن ملك مولاه ، والمولى مخير في فكه ، فان شاء فكه بأقل الأمرين من أرش
الجناية ، إذ هو اللازم بمقتضى الجناية ، وقيمته إذ الجاني لا يجني أكثر من نفسه ،
وان شاء دفعه الى المجني عليه أو وليه ليستوفي من رقبته ذلك ، فلو باع بعد الجناية
كان التزاما بالفداء على أحد القولين ، ثم ان فداه والا جاز للمجنى عليه استرقاقه
، فينفسخ البيع وان استوعب الجناية قيمته ، لان حقه أسبق ، وان لم يستوعب
رجع بقدر أرشه على المشترى فلم ينفسخ البيع في نفسه.
نعم لو كان
المشترى جاهلا بعيبه تخير ايضا بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين الإمضاء. وله الرجوع
حينئذ بالثمن فيما لو كانت الجناية مستوعبة لرقبته وأخذ بها ، وان كانت غير
مستوعبة لرقبته رجع بقدر أرشه ، ولو كان المشترى عالما بعيبه راضيا بتعلق الحق به
لم يرجع بشيء ، لانه اشترى معيبا عالما بعيبه.
ثم ان فداه السيد
أو المشتري فالبيع بحاله ، والا بطل مع الاستيعاب وعدم فداء المشترى له ، كقضاء
دين غيره يعتبر في رجوعه عليه اذنه فيه.
هذا كله في
الجناية خطاء ، ولو جنى عمدا فالمشهور ان البيع موقوف على رضي المجني عليه أو وليه
، لان التخيير في جناية العبد إليهما. وان لم يخرج عن ملك سيده ، وبالنظر الى
الثاني يقع البيع ، وبالنظر الى الأول يثبت التخيير. وذهب الشيخ هنا الى بطلان
البيع كما تقدم ، وقد تقدم بيان ما فيه ، وانه لا يقصر عن بيع الفضولي.
ثم على القول
المشهور ، ان أجاز البيع ورضى بفدائه بالمال وفكه المولى لزم البيع ، وان قتله أو
استرقه بطل. كذا يستفاد من تصاريف كلامهم الدائر في المقام على رؤوس أقلامهم.
وفي استفادة
كثير من هذه التفاصيل من الاخبار إشكال. وتحقيق المسألة ـ كما هو حقه ـ يأتي إنشاء
الله تعالى في محله اللائق بها.
المسألة السابعة
من الشروط
المعتبرة : معلومية الثمن والمثمن ، حذرا من الغرر المنهي عنه وقطعا للنزاع. ولكن
المعلومية لكل شيء بحسبه ، كما يأتي إنشاء الله تعالى.
والكلام هنا يقع في مواضع :
الأول : قد صرحوا بأنه يشترط العلم بالثمن قدرا ووصفا وجنسا ،
قبل إيقاع عقد البيع ، فلا يصح البيع بحكم أحد المتبايعين أو أجنبي إجماعا. ولا
بالثمن المجهول القدر ، وان كان مشاهدا ، لبقاء الجهالة ، وثبوت الغرر المنفي معها
، خلافا للشيخ في الموزون. وللمرتضى في مال السلم. ولابن الجنيد في المجهول مطلقا
، إذا كان المبيع صبرة ، مع اختلافهما جنسا. ولا مجهول الصفة ، كمائة درهم ، وان
كانت مشاهدة لا يعلم وصفها ، مع تعدد النقد الموجود يومئذ. ومجهول الجنس ، وان علم
قدره ، لتحقق الجهالة في الجميع.
أقول : ما
ذكروه من عدم صحة البيع بحكم أحد المتبايعين ، فهو وان ادعى عليه الإجماع في
التذكرة ، الا انه قد روى الصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب ، عن الحسن بن
محبوب ، عن رفاعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام فقلت : ساومت رجلا بجارية له فباعنيها بحكمي فقبضتها
منه على ذلك ، ثم بعثت إليه بألف درهم ، فقلت له : هذه الف درهم حكمي عليك ان
تقبلها فأبى أن يقبضها منى ، وقد كنت مسستها قبل ان ابعث اليه بالثمن فقال : ارى
ان تقوم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها أكثر مما بعثت اليه كان عليك ان ترد
عليه ما نقص من القيمة ، وان كان ثمنها أقل مما بعثت اليه فهو له. قلت : أرأيت ان
أصبت بها عيبا بعد ما مستها ، قال : ليس لك ان تردها اليه ، ولك ان تأخذ قيمة ما بين
الصحة والعيب منه .
ورواه الكليني
عن العدة عن سهل واحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب مثله. وطريق الصدوق في المشيخة
الى الحسن بن محبوب صحيح كما في الخلاصة. وطريق الكليني ظاهر الصحة ، وطريق الشيخ
الى الحسن بن محبوب حسن بإبراهيم بن هاشم الذي هو في حكم الصحيح عندهم ، بل هو من
الصحيح على الاصطلاح الجديد ،
__________________
فالرواية من جهة السند لا يتطرق إليها طعن.
وهي ـ كما ترى
ـ ظاهرة في خلاف ما ذكروه ، وقد اضطرب في التفصي عنها كلام جملة من المتأخرين.
قال المحقق الأردبيلي
في شرح الإرشاد ـ بعد ذكر الرواية وبيان صحة سندها ـ ما صورته : وهي تدل على جواز
الجهل في الثمن ، وانه يقع البيع صحيحا ، وينصرف إلى القيمة السوقية إذا بيع بحكم
المشترى. ولكن نقل العلامة في التذكرة الإجماع على اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه
، يمنع القول بها ، ولكن تأويلها مشكل ، وكذا ردها ، فيمكن ان يكون حكما في قضية ،
ولا تتعدى. انتهى.
وقال الفاضل
السيد حسين المشهور بخليفة سلطان ، في حواشيه على كتاب الفقيه على هذا الخبر ما
صورته : لا يخفى ان البيع بحكم المشتري أو غيره في الثمن باطل إجماعا ، كما نقله الفاضل
في التذكرة وغيره ، لجهالة الثمن وقت البيع ، فعلى هذا يكون بيع الجارية المذكورة
باطلا ، وكان وطي المشترى محمولا على الشبهة ، واما جواب الامام عليهالسلام للسائل فلا يخلو من اشكال ، لأن الظاهر ان الحكم حينئذ
رد الجارية مع عشر القيمة أو نصف العشر ، أو شراؤها مجددا بثمن يرضى به البائع مع
أحد المذكورين ، سواء كان بقدر ثمن المثل أم لا ، فيحتمل حمله على ما إذا لم يرض
البائع بأقل من ثمن المثل ، ويكون حاصل الجواب حينئذ : انه تقوم بثمن المثل ان
أراد ، ويشترى به مجددا ، وان كان المثل أكثر مما وقع ، ندبا أو استحبابا ، بناء
على انه أعطاه سابقا. وهذا الحمل وان كان بعيدا عن العبارة ، مشتملا على التكلف
لكن لا بد منه لئلا يلزم طرح الحديث الصحيح بالكلية. انتهى.
أقول : لا يخفى
ان مدار كلامهم في رد الخبر المذكور على الإجماع الذي ادعى في التذكرة في هذه
المسألة ، فإنه لا معارض له سواه. وأنت خبير بان من لا يعتمد على مثل هذه
الإجماعات المتناقلة في كلامهم ، والمتكرر دورانها على رؤوس أقلامهم ،
تبقى الرواية المذكورة سالمة عنده من المعارض ، فيتعين العمل بها ، خصوصا
مع صحة السند واعتضاد ذلك برواية صاحب الفقيه ، المشعر بقوله بمضمونها والعمل بها
، بناء على قاعدته المذكورة في أول الكتاب ، كما تكرر في كلامهم من عد مضامين
اخباره مذاهب له ، بناء على القاعدة المذكورة.
وليس هنا بعد
الإجماع المذكور الا العمومات التي أشاروا إليها ، من حصول الغرر ، وتطرق النزاع
ونحو ذلك. وهذه العمومات ـ مع ثبوت سندها وصحته ـ يمكن تخصيصها بالخبر المذكور ،
بل من الجائز ـ أيضا ـ تخصيص الإجماع المذكور ، مع تسليم ثبوته ، بهذا الخبر
الصحيح ، كما يخصص عمومات الأدلة من الآيات والروايات ، وهو ليس بأقوى منها ، ان
لم يكن أضعف ، بناء على تسليم صحته.
وحينئذ فيقال
باستثناء صورة حكم المشترى ، وقوفا على ظاهر الخبر. وما المانع من ذلك؟ وقد صاروا
إلى أمثاله في مواضع لا تحصى ، على انه سيأتيك ما يؤيد ما ذكرناه ويشيد ما
اخترناه.
واما ما ذكروه
من عدم الصحة مع كون المبيع مجهول القدر ، وان كان مشاهدا فقد تقدم ذكر خلاف
الجماعة المتقدم ذكرهم في ذلك.
قال في الدروس
: ولا تكفي المشاهدة في الوزن ، خلافا للمبسوط ، وان كان مال السلم ، خلافا
للمرتضى ، ولا القول بسعر ما بيعت مع جهالة المشتري ، خلافا لابن الجنيد ، حيث
جوزه ، وجعل للمشتري الخيار ، وجوز ابن الجنيد بيع الصبرة مع المشاهدة جزافا بثمن
جزاف مع تغاير الجنس. ومال في المبسوط الى بيع الجزاف وفي صحيحة الحلبي كراهية بيع
الجزاف. انتهى.
أقول : صحيحة
الحلبي المذكورة هي : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح ، عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى من رجل طعاما ، عدلا بكيل معلوم ، ثم ان
صاحبه قال للمشتري : ابتع هذا العدل الأخر بغير كيل ، فان فيه مثل ما في الأخر
الذي ابتعته. قال : لا يصلح الا ان يكيل وقال : وما كان من طعام سميت فيه
كيلا فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من بيع الطعام . وروى في الفقيه في الصحيح عن الحلبي ، والشيخ في
الصحيح أو الحسن عن الحلبي ، عن الصادق عليهالسلام قال : ما كان من طعام. الحديث. كما تقدم.
قال المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف «ولو باع المكيل والموزون والعدد جزافا
، كالصرة بطل وان شوهد» ـ ما لفظه : اعتبارهما فيهما هو المشهور بينهم ، ولكن ما
رأيت له دليلا صالحا ، وأدل ما رأيته حسنة الحلبي في الكافي ـ ثم ساق الرواية
الاولى ـ وناقش في السند بما لا طائل في نقله ، الى ان قال : وبقي في المتن شيء ،
لأنها تدل بظاهرها على عدم الاعتبار بخبر البائع بالكيل ، وهو خلاف ما هو المشهور
بينهم وفي الدلالة على المطلب أيضا تأمل للإجمال ، وللاختصاص بالكيل والطعام في
قوله «ما كان من طعام سميت فيه كيلا» ولقوله «هذا مما يكره من بيع الطعام» وكأنه
لذلك قال البعض بجواز بيع المكيل والموزون بدونها مع المشاهدة ، ويمكن القول به مع
الكراهة ، ويؤيد الجواز الأصل ، وعموم أدلة العقود ، ويدل عليه بعض الاخبار ، مثل
ما ذكر في جواز بيع الطعام من غير قبض. انتهى.
وظاهره الميل
الى الجواز في الصورة المذكورة ، وفاقا للجماعة المتقدمين. وفيه ـ كما ترى ـ تأييد
ظاهر لما قدمنا ذكره من البيع بحكم المشترى ، وان ذلك مستثنى من عدم جواز البيع مع
جهل الثمن ، ان صح الدليل عليه للخبر الصحيح الصريح ، وإذا جاز البيع في هذه
الصورة مع اختلال الشرط الذي ذكروه ، استنادا الى عدم الدليل على ما ادعوه من
الشرط المذكور ، سوى هذه الرواية التي طعنوا فيها بما عرفت في كلام المحقق المذكور
، ونحوه صاحب الكفاية ، فلم لا يجوز فيما ذكرناه مع دلالة الصحيحة الصريحة على ذلك
، وما ذكره المحقق المذكور
__________________
من تأييد الجواز هنا بالأصل وعموم أدلة العقود ، صالح للتأييد لما ذكرنا
ايضا وبذلك يظهر لك ما في كلامه الذي قدمنا ذكره في تلك المسألة واستشكاله فيها
فإنه لا وجه له بعد ما عرفت من كلامه في هذه المسألة ، والشرطان من باب واحد.
ومما يؤيد جواز
بيع المكيل والموزون بغير وزن ولا كيل ـ كما ذهب إليه أولئك المتقدم ذكرهم ـ ما
رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله البصري ، قال : سألت
الصادق عليهالسلام عن الرجل يشترى بيعا فيه كيل أو وزن بغيره ثم يأخذه على نحو ما فيه : فقال : لا بأس به .
قال في الوافي
ـ بعد نقل هذا الخبر ـ اى بغير ما يكال ويوزن على نحو ما فيه ، اى بغير كيل ولا
وزن. ويشبه ان يكون يعيره بالمثناة التحتانية والعين المهملة من التعيير ، فصحف.
انتهى.
ومما يؤيد ذلك
أيضا الأخبار الدالة على جواز الاعتماد على اخبار البائع بكيله أو وزنه ، والاخبار
الدالة على وزن بعض الأحمال وأخذ الباقي على نحو ذلك الموزون.
روى الكليني في
الكافي عن عبد الملك بن عمرو ، قال : قلت للصادق عليهالسلام اشترى مأة رواية من زيت ، فاعترض رواية أو اثنتين
وازنها ، ثم آخذ سائره على قدر ذلك. قال : لا بأس . ورواه الصدوق عن عبد الملك بن عمرو ، والشيخ عن ابى
سعيد المكاري مثله
وروى الشيخ عن
محمد بن حمران ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : اشترينا طعاما فزعم صاحبه انه كاله فصدقناه وأخذنا
بكيله ، فقال : لا بأس. فقلت : فيجوز أن أبيعه
__________________
كما اشتريته منه بغير كيل؟ قال : اما أنت فلا تبعه حتى تكيله .
وفي الفقيه عن
عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، انه سأل أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن الرجل يشترى الطعام ، أشتريه منه بكيله وأصدقه؟
فقال : لا بأس ، ولكن لاتبعه حتى تكيله .
وروى في الكافي
والتهذيب عن سماعة في الموثق ، قال : سألته عن شراء الطعام مما يكال أو يوزن ، هل
يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال : اما ان يأتي رجلا في طعام قد كيل أو وزن
فيشترى منه مرابحة فلا بأس ان أنت اشتريته ولم تكله ولم تزنه ، إذا كان المشتري
الأول قد أخذه بكيل أو وزن ، فقلت له عند البيع : إني أربحك كذا وكذا وقد رضيت
بكيلك ووزنك فلا بأس به .
أقول : ومن هذه
الاخبار ونحوها يعلم ان ما ذكروه من الشرط المذكور ليس كليا ، بل يجب الوقوف فيه
على موارد النصوص ، مما دل على الجواز في بعض الموارد والعدم في آخر ، ومنه يعلم
صحة ما قدمناه في الشرط الأول من الصحة بحكم المشترى في صورة الجهل بالثمن ،
لدلالة الصحيحة المتقدمة عليه فان الطعن فيها وردها بمجرد ما ادعوه من الإجماع غير
الحقيق بالاتباع ، مجازفة محضة.
فإن قيل : ان
العلم بالقدر هنا حاصل بإخبار البائع والتفاوت اليسير مغتفر ، كما في تفاوت
المكائيل والموازين.
قلنا : دعوى
حصول العلم بإخبار البائع ، لا سيما على قواعدهم المعلومة البطلان حيث يمنعونه في
اخبار العدل بل العدلين ، وغاية ما يفيده اخبار العدلين عندهم مجرد الظن ، كما
صرحوا به في غير موضع ، فكيف يمكن ان يدعى هنا حصول العلم باخبار
__________________
البائع ، كائنا من كان. وهذه الدعوى انما وقعت هنا لضيق الخناق في المقام
بسبب هذه الاخبار الظاهرة الدلالة على خلاف قواعدهم في هذه الأحكام. فالأخبار
ظاهرة في تأييد ما ذكرناه كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
ومن هذه
الاخبار ايضا يظهر ان ما اشتملت عليه صحيحة الحلبي المتقدمة ، من عدم صحة بيع
العدل الثاني بعد وزن الأول ، وعدم تصديق البائع في ذلك ، مما يحتاج الى ارتكاب
التأويل فيه ، والإخراج عن ظاهره.
الموضع
الثاني : لا يخفى انه
متى قلنا بعدم الصحة في بعض الموارد لاختلال أحد هذه الشرائط المذكورة ، وقد قبض
المشترى المبيع ، مع ما عرفت من بطلان البيع ، فإنهم قد صرحوا بأنه يكون مضمونا
عليه ، لما تقرر عندهم من ان «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». ويؤيد الخبر
المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» وكذا كل مأخوذ بالبيع الفاسد ، عالما بالفساد
كان أو جاهلا.
ويظهر من
المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة هنا في عموم الحكم. قال ـ بعد قول
المصنف «والمقبوض بالسوم أو البيع الفاسد مضمون على المشترى» ـ ما لفظه :
ثم الذي يظهر
من كلامهم : عدم الخلاف في ان المقبوض بالسوم اى المال الذي أخذ للبيع أو الشراء
مضمون مثل الغصب ، ولو تلف مطلقا فالقابض ضامن. ووجهه غير ظاهر مع الأصل ، والذي
يقتضيه النظر كونه امانة ، ولعل لهم نصا أو إجماعا ، كما هو الظاهر من تشبيه البيع
الفاسد به في الضمان ، فتأمل.
وكذا المأخوذ
بالبيع الفاسد كان القابض عالما بالفساد أو جاهلا ، ودليلهم الخبر المشهور «على
اليد ما أخذت حتى تؤدى» والقاعدة المشهورة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «مالا
يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وصحتها غير ظاهرة. والأصل يقتضي العدم ، وهو مع الجهل
بالفساد قوى ، ومع علم الأخر أقوى.
ومع ذلك قال في
شرح الشرائع : لا إشكال في الضمان مع الجهل بالفساد ، فتأمل ومع علمه بالفساد ،
وبعدم جواز التصرف وحفظه ووجوب رده الى مالكه معجلا كالمغصوب. وذلك قد يكون بعلمه
بطلب من المالك على تقدير الفساد وعدم رضاه بكونه عنده ، وفتوى العلماء له بذلك ،
فهو ضامن للأصل. وما يتفرع عليه كما قيل في الغصب ، حتى انه يضمن العين والمنفعة ،
وان لم ينتفع بها ، مثل اجرة الدابة في المدة التي كانت عنده ، واما مع الجهل
بالفساد لا سيما في أمر غير ظاهر الفساد ، وكذا بعد العلم به ، ولكن مع عدم العلم
بوجوب الرد في الحال ، والضمان غير ظاهر.
ولو ظن ان
المالك رضى لهذا المال بالبدل المعلوم ، فهو راض بأن يتصرف فيه عوضا عما في يده ،
فالأكل حينئذ ليس بالباطل ، بل بالرضا ، فإنه رضى بالتصرف فيه بان يجوز له التصرف
في بدله ، وقد جوز صاحبه ذلك ، وعرف كل واحد من صاحبه ذلك. فحينئذ يجوز تصرف كل
واحد في بدل ماله وان لم يكن بسبب البيع ، بل بسبب الاذن المفهوم مع البدل ، وكأنه
يرجع الى المعاطاة والإباحة مع العوض من غير بيع ، ولا تجد منه مانعا ، غاية الأمر
انه يكون لكل واحد الرجوع عن قصده الأول وأخذ ماله عينا وزيادة.
نعم إذا علم
عدم الرضا الا بوجه البيع ، أو اشتبه ذلك ، يتوجه عدم جواز التصرف والضمان على
تقدير فهم عدم الرضا بالمكث عنده ، وكونه امانة على تقدير غيره ويحتمل جواز التصرف
على تقدير التقابض أيضا في بعض المحال ، بان غاب وامتنع الاطلاع عليه وإيصاله اليه
وأخذ ماله منه. كما في غير هذه الصورة.
وبالجملة دليل
حكم المشهور بينهم ، وهو جعل حكم المقبوض بالسوم والعقد الفاسد مثل الغصب في أكثر
الأحكام ، حتى في إلزامه بالإيصال الى صاحبه فورا ، فلا يصح عباداته في أول وقتها
، على تقدير القول بمنافاة حقوق الآدمي ، كما هو ظاهر كلامه غير ظاهر ، فالحكم
مشكل ، ولا شك انه ينبغي ملاحظة ذلك مهما أمكن.
فتأمل. انتهى.
وانما أوردناه
بطوله لقوته وجودة محصوله. واما ما استظهر في آخر كلامه من عدم صحة العبادة في أول
وقتها ، مع منافاة حق الأدمي ، فهو مبنى على مذهبه في المسألة الأصولية ، من ان
الأمر بالشيء يستلزم النهى عن ضده الخاص. والذي حققناه فيما تقدم من كتب العبادات
من هذا الكتاب عدم ثبوت هذه القاعدة وما يترتب عليها من الفائدة.
الموضع
الثالث: لو تلف المبيع
في يد المشترى في صورة يكون مضمونا عليه ، فان كان قيميا فقيمته ، الا انه قد وقع
الخلاف هنا في القيمة.
فقيل : قيمة
يوم التلف لانه وقت الانتقال إلى القيمة ، واما قبل التلف فهو مخاطب برد العين
وأدائها لا بالقيمة. وجعله شيخنا الشهيد الثاني في الروضة هو الأقوى.
وقيل : يوم
القبض ، لانه مضمون عليه من ذلك الوقت بسبب فساد البيع ، وهو اختيار الشرائع.
وقيل : الا على
من يوم القبض الى يوم التلف ، وهو منقول عن ابن إدريس ، واستحسنه شيخنا الشهيد
الثاني ، ان كان التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة ، لأن زيادة العين مضمونة مع
بقائها ، وكذا مع تلفها فيرجع عليه بأعلى القيمتين. اما لو كان التفاوت باختلاف
السوق فان الواجب القيمة يوم التلف ، كما هو القول الأول. فالأقوال في المسألة :
أربعة.
أقول : لا يخفى
ان الاعتماد على هذه التعليلات الاعتبارية ، لا سيما مع تضادها ، لا يخلو من
الاشكال ، مع انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي ، والشيخ في التهذيب. عن ابى ولاد
الحناط في الصحيح ، قال : اكتريت بغلا الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ،
وخرجت في طلب غريم لي ، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت ان صاحبي توجه الى النيل ،
فلما أتيت النيل خبرت انه قد توجه الى بغداد ، فاتبعته
فلما ظفرت به وفرغت عما بيني وبينه رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي
خمسة عشر يوما ، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه بما صنعت وأرضيه ،
فبذلت له خمسة عشر درهما ، فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته بالقضية
وأخبره الرجل.
فقال لي : ما
صنعت بالبغل؟ قلت قد دفعته اليه سليما. قال : نعم بعد خمسة عشر يوما. قال : فما
تريد من الرجل؟ قال : أريد كرى بغلي ، وقد حبسه على خمسة عشر يوما. قال : ما ارى
لك حقا ، لانه اكتراه الى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه الى النيل والى بغداد ، فضمن
قيمة البغل وسقط الكرى ، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى.
قال : فخرجنا
من عنده ، وجعل صاحب البغل يسترجع. فرحمته مما افتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئا
وتحللت منه ، وحججت في تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله عليهالسلام بما افتى به أبو حنيفة. فقال لي : في مثل هذا القضاء
وشبهه تحبس السماء مائها وتمنع الأرض بركتها. قال : فقلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فما ترى أنت؟ قال : ان له عليك مثل كرى البغل ذاهبا
من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل
من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه.
قال : فقلت ـ جعلت
فداك ـ : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب. فقلت : أرأيت لو
عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة البغل يوم خالفته. فقلت : فإن
أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال : عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترد
عليه. قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو اما ان يحلف هو على القيمة وتلزمك ، وان
رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون ان
قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ، فيلزمك. فقلت : كنت أعطيته دراهم ورضى بها
وحللني.
فقال : إنما
رضي بذلك وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم. ولكن ارجع اليه فأخبره بما
أفتيتك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته فلا شيء عليك بعد هذا. قال أبو ولاد :
فلما انصرفت من وجهي ذلك ، لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني أبو عبد الله عليهالسلام ، وقلت له : قل ما شئت حتى أعطيك. فقال : قد حببت الى
جعفر بن محمد ، ووقع في قلبي له التفضيل ، وأنت في حل. وان أحببت أن أرد عليك الذي
أخذت منك فعلت .
وأنت خبير بان
ما نحن فيه ـ أحد جزئيات مسألة الغصب ، كما عرفته آنفا من كلام المحقق الأردبيلي ،
ونقل ذلك عن الأصحاب.
ومن هذه
الرواية يظهر قوة القول الثاني ، وهو قيمة يوم القبض ، لان ظاهره : انه عليهالسلام أوجب عليه قيمة البغل يوم المخالفة ، التي بها صار
مغصوبا وصار في ذلك اليوم مضمونا عليه ، الا ان في الخبر المذكور احتمالا آخر ،
وهو ان يكون قوله عليهالسلام «يوم خالفته» ظرفا للزوم القيمة ، بمعنى انه يلزم القيمة في ذلك اليوم ،
واما قدر القيمة فهو غير معلوم من الخبر ، فيحتاج في تعيينه الى دليل آخر.
والاستدلال بالخبر ـ كما ذكرنا ـ أو لا مبنى على كون الظرف المذكور ظرفا للقيمة ،
يعني قيمة ذلك اليوم. وتغاير الوجهين واضح. وبذلك بقيت المسألة في قالب الاشكال.
* * *
هذا ان كان
قيميا ، وان كان مثليا فالمعروف من مذهب الأصحاب : انه يضمنه بمثله ، الا انه قد
اضطرب عباراتهم في ضبط المثلي. فالمشهور بينهم : انه ما يتساوى قيمة اجزائه. وضبطه
بعضهم بالمقدر بالكيل أو الوزن. وبعض بأنه ما يتساوى اجزاؤه في الحقيقة النوعية ،
وزاد آخرون : اشتراط جواز السلم فيه. وعرفه في الدروس بأنه المتساوي الأجزاء
المتقاربة الصفات. قيل : وهو أقرب التعريفات إلى السلامة.
فلو كان المثل
موجودا ولم يسلمه حتى فقد ـ والمراد بفقدانه ان لا يوجد في
__________________
تلك البلاد وما حولها مما يتعارف نقله عادة من الأماكن بعضها الى بعض ـ فاللازم
القيمة. وفيها أوجه :
أولها ـ وهو
أشهرها عندهم ـ اعتبار قيمته حين تسليم البدل.
وثانيها :
اعتبارها وقت الإعواز. قال في المسالك : وهو الأقوى.
وثالثها :
اعتبار أقصى القيم من حين الغصب الى حين دفع العوض ، وهو المعبر عنه بيوم الإقباض.
ورابعها :
اعتبار الأقصى من حينه الى حين الإعواز.
وخامسها :
اعتبار الأقصى من حين الإعواز إلى حين دفع القيمة ، ولم نجد لهم دليلا شرعيا على
شيء من هذه الأقوال ، إلا مجرد اعتبارات ترجع بها الى ما ذكروه كما تقدم نقله
عنهم في القيمي.
الرابع : قد
صرح الأصحاب بأن المراد بالمكيل والموزون هو ما ثبت في زمنه صلىاللهعليهوآله وحكم الباقي في البلدان ما هو المتعارف فيها ، فكل ما
كان مكيلا أو موزونا في بلد يباع كذلك والا فلا. وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد المناقشة في ذلك ، حيث قال ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : وفيه تأمل ، لاحتمال
ارادة الكيل أو الوزن المتعارف عرفا عاما في أكثر البلدان أو في الجملة مطلقا أو
بالنسبة الى كل بلد بلد كما قيل في المأكول والملبوس في السجدة ، من الأمر الوارد
بها لو سلم ، والظاهر هو الأخير. انتهى.
أقول : لا ريب
ان الواجب في معاني الألفاظ الواردة في الاخبار هو الحمل على عرفهم ـ عليهمالسلام ـ فكلما علم كونه مكيلا أو موزونا في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ وجب اجراء الحكم بذلك عليه في الأزمنة المتأخرة ، وما
لم يعلم فهو ـ بناء على قواعدهم ـ يرجع الى العرف العام ، الى آخر ما ذكروه من
التفصيل.
ويمكن ان يستدل
على الرجوع الى العرف بما تقدم في صحيحة الحلبي من قوله
عليهالسلام «وما كان من طعام سميت فيه كيلا ، فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من
بيع الطعام» فان ظاهره : ان الرجوع في كونه مكيلا الى تسميته كيلا عرفا ، فكلما
وقع التسمية عليه بأنه مكيل فلا يجوز بيعه مجازفة.
ويمكن ان يقيد
بما إذا لم يعلم حاله في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ والا لوجب الأخذ به كما ذكرناه. وكيف كان فالخبر لا
يخلو عن إجمال يمنع الاستناد إليه في الاستدلال.
واما ما يفهم
من كلامه من الرجوع الى العرف مطلقا وان علم كونه مكيلا أو موزونا أو علم عدمه في
زمانهم ـ عليهمالسلام ـ فالظاهر انه بعيد ومخالف لما صرح به الأصحاب في غير
موضع ، من تقديم العرف الخاص : اعنى عرفهم ـ عليهمالسلام ـ على العرف العام ، أو عرف كل بلد بلد.
وبالجملة فمحل
الاشكال فيما يجهل حاله في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ من كونه مكيلا أم لا ، وموزونا أم لا ، فهل يكون
المرجع فيه الى العرف العام ، أو الى ما ذكره من الافراد ، ووجه الاشكال ما تقدم
التنبيه عليه في غير موضع ، من ان العرف مع تسليم إمكان الوقوف عليه في كل بلد بلد
وقطر وناحية ، لا انضباط له ، فان لكل قطر عرفا وعادة بخلاف ما عليه غيرها من
النواحي والأقطار ، ومن الظاهر ان الأحكام الشرعية متحدة لا اختلاف فيها ، فلا
تناط بالأمور غير المنضبطة.
الخامس
: انه متى ثبت الكيل أو الوزن في بعض الأشياء ، فهل يجوز
بيع المكيل وزنا وبالعكس أم لا؟ أو يختص الجواز ببيع المكيل وزنا دون العكس؟ احتمالات
، بل أقوال.
للأول : حصول
الانضباط بهما. ورجحه في سلم الدروس ، لرواية وهب.
وللثاني : عدم
الدليل على ذلك.
وللثالث : ان
الوزن أصل الكيل وأضبط منه ، وانما عدل الى الكيل تسهيلا.
أقول : قال في
الدروس : ولو أسلم في الكيل وزنا أو بالعكس فالوجه الصحة لرواية وهب ، عن الصادق عليهالسلام. وأشار بالرواية المذكورة الى ما رواه الشيخ عن احمد بن
ابى عبد الله عن وهب عن جعفر عن أبيه عن على عليهالسلام قال : لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما
يوزن . ورواه في الفقيه عن وهب.
وأنت خبير بان
الظاهر من قوله «لا بأس يسلف المكيل في الموزون وبالعكس» ان يكون أحدهما ثمنا
والآخر مثمنا ، لا ما ذكره من كيل الموزون ووزن المكيل ، كما هو المدعى.
ويعضد ما
ذكرناه ذكر الشيخ الرواية المذكورة في باب إسلاف السمن بالزيت واحتمال انه أشار
بالرواية إلى رواية أخرى غير هذه الرواية بعيد ، إذ لم نقف في الباب على غيرها.
ويحتمل في عبارة الدروس ان يقال : ان وزنا بمعنى الموزون ، فيوافق ظاهر الرواية ،
الا ان سياق كلامه يأبى الحمل على ذلك. وبذلك يظهر لك قوة القول الثاني.
وبالجملة فإن
مقتضى القاعدة المتقدمة هو الوقوف في كل شيء على ما ورد ، فالمكيل لا يباع الا
كيلا وكذا الموزون والمعدود ، الا مع ورود دليل شرعي على جواز الاكتفاء بأحدها عن
الأخر ، ومجرد هذه التعليلات التي يتداولونها في مثل هذه المقامات لا تصلح لتأسيس
الأحكام الشرعية.
نعم قد روى المشايخ
الثلاثة في الصحيح عن ابن مسكان والحلبي ، عن ابى عبد الله عليهالسلام انه سئل عن الجوز لا نستطيع ان نعده فيكال بمكيال ثم
يعد ما فيه ، ثم يكال ما بقي على حساب ذلك العدد ، فقال : لا بأس به .
وهذا في
الحقيقة لا يخرج عن بيعه عددا وان دل على اغتفار التفاوت اليسير
__________________
الحاصل بذلك ، كما ورد مثله في رواية عبد الملك بن عمرو المتقدمة ، في
اشتراء مأة راوية من الزيت ووزن واحدة منها وأخذ الباقي بذلك الوزن.
وقيد بعض
الأصحاب جواز بيع كيل المعدود بتعذر عده ، وبعض بتعسره ، قال شيخنا الشهيد الثاني
: ولو قيل بجوازه مطلقا ، لزوال الغرر ، وحصول العلم ، واغتفار التفاوت ، لكان
حسنا. وفي بعض الاخبار دلالة عليه.
أقول : الظاهر
ان من شرط أحد الأمرين المذكورين في المعدود نظر الى قوله في الرواية «لا نستطيع
ان نعده» وان الجواب انما بنى على ذلك ، لكن ينافي ذلك رواية الزيت المذكورة ، وهي
التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره ، بقوله : وفي بعض الاخبار دلالة عليه. والى
الجواز مطلقا ـ كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره ـ مال في المفاتيح ، قال : لو رد
مثله في الزيت من غير تقييد ولا قائل بالفرق بين المعدود والموزون مع ان الأول
أدخل في الجهالة وأقل ضبطا ، ولانتفاء الغرر ، وحصول العلم ، واغتفار التفاوت
اليسير ، كما في اختلاف المكائيل والموازين ، كما يستفاد من المعتبرة ، وتجويزهم
إندار ما يحتمل الزيادة والنقيصة للظروف من الموزونات ، وجواز بيعها مع الظروف من
غير وضع ، بناء على ان معرفة الجملة كافية ، وللأخبار في الإندار ، وفي بعضها «إذا
كان عن تراض منكم فلا بأس» . «وان كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه» . وكذا تجويزهم ـ بلا خلاف ـ الجمع بين شيئين مختلفين في
عقد واحد بثمن واحد كبيع واجارة ونكاح ، وان كان عوض كل منهما بخصوصه غير معلوم
حال العقد. انتهى.
وهو جيد الا
انه يبقى الكلام في محمل تحمل عليه رواية الجوز المذكورة.
السادس
: قد صرحوا بأنه
إذا كان العوضان من المكيل والموزون أو المعدود فلا بد من اعتبارهما بما هو
المعتاد من الكيل والوزن والعدد ، فلا يكفى المكيال المجهول
__________________
كقصعة حاضرة وان تراضيا بها ، ولا الوزن المجهول كالاعتماد على صخرة معينة
وان عرفا قدرها تخمينا ، ولا العدد المجهول بان عولا عليه ثم اعتبر العدد به ،
للغرر المنهي عنه في ذلك كله.
أقول : ومما
يدل على ما ذكروه : ما رواه الصدوق في الحسن عن الحلبي ، عن الصادق عليهالسلام قال : لا يصلح للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر . ورواه الكليني في الحسن مثله.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : لا يحل للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر. قلت :
فان الرجل يستأجر الحمال في المكيل الكيال فيكيل له بمد بيته ، لعله يكون أصغر من
مد السوق ، ولو قال هذا أصغر من مد السوق لم يأخذ به ، ولكنه يحمله ذلك ويجعله في
أمانته. فقال : لا يصلح الأمد واحد والأمناء بهذه المنزلة . قوله : الأمناء جمع منا مقصورا ، وهو المن في اللغة المشهورة
في ألسن الناس ، وما ذكر في الخبر هو الأفصح مما هو المشهور الان في الألسن.
وتثنيته منوان.
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن سعد بن سعد عن ابى الحسن عليهالسلام ، قال : سئل عن قوم يصغرون القفزان يبيعون بها. قال :
أولئك الذين يبخسون الناس أشياءهم .
وظاهر المحقق
الأردبيلي : المناقشة في المقام ، بحمل حسنة الحلبي ـ وهي الأولى ـ على المنع من
البيع بغير صاع البلد بسعر البلد لاحتمال كونه ناقصا أو زائدا ، ثم أيد ذلك برواية
محمد الحلبي المذكورة بعدها ، واستند فيما عدا ذلك الى الأدلة العامة الكثيرة ،
الدالة على الوفاء بالعقود ، وعلى هذا فلو حصل التراضي من البائع
__________________
والمشترى على مكيال مجهول كقصعة ونحوها وحجر مخصوص مجهول ، وقرر القيمة
بناء على ذلك صح البيع بمقتضى ما اختاره.
وفيه : ان
إطلاق قوله عليهالسلام في الخبرين «لا يصلح» كما في الأول ، و «لا يحل» كما في
الثاني «للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر» أعم من ان يكون البيع بسعر صاع المصر ،
وتقدير القيمة والسعر على ذلك المكيال المجهول. وورود ما ذكره في تتمة الرواية
الثانية حكم آخر ، فلا منافاة فيه ، مع ان الجواب الصادر منه عليهالسلام في الرواية الثانية بإطلاقه شامل للمنع من الصورة التي
ادعى جوازها ، وخصوص السؤال لا يخصصه كما تقرر في كلامهم.
وبالجملة فإن
عبارات هذه الاخبار شاملة بإطلاقها لما ذكرنا ، وتخصيصها يحتاج الى دليل ، ومع
ورود المنع في الصورة التي وافق عليها كما في صحيحة سعد بن سعد ، فإنها ظاهرة فيما
ذكره ، لا يوجب تخصيص ذلك الإطلاق. فإن هذا أحد فردي المطلق الذي دلت عليه تلك
الاخبار.
واما الاستناد
الى عموم أدلة الوفاء بالعقد ، فإنه لا يخفى ان العقود ، منها : ما هو صحيح ومنها
: ما هو باطل ، ومن الظاهر ان وجوب الوفاء انما يترتب على العقد الصحيح ، فلا بد ـ
أولا ـ من النظر في العقد صحة وبطلانا ، ليمكن ترتب وجوب الوفاء به عليه.
فالاستناد الى الاستدلال بهذا العموم قبل النظر في العقد ـ كما ذكرنا ـ مجازفة ظاهرة.
ثم ان المحقق
المشار اليه قال ـ في المقام ـ : ومنه يعلم البحث في المعدود. والظاهر عدم الدليل
على عدم جواز بيعه الا عدا ، وعموم أدلة جواز العقود ، والوفاء بها ، يدل على
الجواز ، وعدم اشتراط العد ، والأصل والعمومات ، وحصول التراضي الذي هو العمدة في
الدليل ، دليل قوي. فإثبات خلافه مشكل ، وان كان المشهور عدم الجواز ، والاحتياط
معه قبل وقوع العقد ، نعم الاولى عدم ارتكابه ، والترك لبائعه على
تقدير رضاه. فتأمل انتهى.
أقول : لا ريب
انه لم يرد هنا دليل واضح في الدلالة على ما ذكره الأصحاب ، من عدم الجواز ، الا
ان صحيحة الحلبي وابن مسكان المتقدمة : الواردة في الجوز مؤيدة لما ذكروه ، وان لم
تكن الدلالة صريحة في ذلك ، فان الظاهر من السؤال : ان الحكم في بيع الجوز هو العد
، والسائل رتب سؤاله على ذلك ، فقال : انه إذا كان مما لا يجوز بيعه الا عدا ،
والحال انه لا يستطيع عده لكثرته ، فلو كيل على هذا النحو ، فهل يجزي أم لا؟
والامام عليهالسلام قد قرره على ذلك ، والا لكان يجيبه بأنه لا يحتاج الى
ذلك بل يبيعه مجازفة ، كما يدعيه المحقق المذكور. وقد تقرر ان تقريره عليهالسلام حجة كقوله وفعله.
وحينئذ فيكون
الخبر ظاهرا في تأييد ما ذكره الأصحاب ، بل دالا عليه. وإذا ثبت هذا الحكم في
الجوز يثبت في غيره مما يباع عددا ، ويتعدى الى ما سواه بتنقيح المناط القطعي ،
كما في جل الأحكام ، إذ لا خصوصية لذكر الجوز هنا الا من حيث وقوع السؤال عنه.
واما استناده
الى ما ذكره من عموم أدلة الوفاء بالعقود ، فقد عرفت ما فيه ، واما الأصل فإنه
معارض بأن الأصل بقاء كل ملك لمالكه حتى يقوم دليل شرعي على انتقاله عنه الى غيره.
واما حصول
التراضي الذي جعله العمدة ، ففيه ـ أولا ـ : انه لا يطرد كليا ، والا لجرى في
الصرف والربا ونحوهما بمجرد التراضي ، وسقط ما اشترط فيهما من الشروط.
و ـ ثانيا ـ ان
غاية ما يفيده التراضي مجرد الإباحة ، والمدعى هو البيع الناقل عن الملك والمخرج
له عن صاحبه.
و ـ ثالثا ـ ما
يتضمنه من الغرر المنهي عنه ، كما علله به بعض الأصحاب ، مع اعتضاد ذلك بالاحتياط
كما اعترف به. وبالجملة فالأظهر ما ذكره الأصحاب.
السابع
: قد صرحوا بأنه
يجوز ابتياع جزء معلوم بالنسبة كالنصف والثلث ـ مثلا ـ مشاعا ، تساوت اجزاؤه
كالحبوب والأدهان أو اختلفت كالجواهر والحيوان ، إذا كان الأصل الذي بيع جزؤه
معلوما بما يعتبر فيه من كيل أو وزن أو عد أو مشاهدة ، فيصح بيع نصف الصبرة المعلومة
المقدار والوصف ، ونصف الشاة المعلومة بالمشاهدة أو الوصف.
أقول : ودليل
الجواز فيما ذكروه هنا ظاهر ، وهو عموم أدلة البيع بشروطه المعتبرة فيه ، فلو باع
شاة غير معلومة من قطيع غنم معلوم العد مشاهد ، وان تساوت أثمان ما اشتمل عليه من
الشاة ، لم يصح لمجهولية المبيع.
ولو باع قفيزا
من جرة مجهولة ، فهل يعتبر العلم باشتمالها على المبيع ، أو اخبار البائع بذلك ،
والا لم يصح ، أو انه يصح البيع ، فان نقصت تخير المشترى بين أخذ الموجود منها
بحصته من الثمن ، وبين الفسخ ، لتبعض الصفقة قولان.
والظاهر : ان
المشهور الأول. والثاني اختيار الشهيد في اللمعة.
ثم انه مع
العلم باشتمالها على المبيع وصحة البيع ـ كما هو قول المشهور فهل يتنزل على
الإشاعة ، أو يكون المبيع قفيزا في الجملة ، وجهان. قرب في المسالك الثاني. وتظهر
الفائدة فيما لو تلف بعضها ، فعلى الأول فيتلف من المبيع بالنسبة ، وعلى الثاني
يبقى المبيع ما بقي قدر المبتاع.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار ، مما يتعلق بهذه المسألة : ما رواه الشيخ في الصحيح عن بريد
بن معاوية ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في أنبار بعضه على
بعض من أجمة واحدة ، والأنبار فيه ثلاثون الف طن ، فقال البائع : قد بعتك من هذا
القصب عشرة آلاف طن ، فقال المشترى. قد قبلت واشتريت ورضيت. فأعطاه من ثمنه الف
درهم ، ووكل المشترى من يقبضه ، فأصبحوا وقد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون
الف طن ، وبقي عشرة آلاف طن ،
فقال : عشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري. والعشرون التي احترقت من مال
البائع .
وهي ظاهرة في
ان الجزء المباع من الجملة ليس على سبيل الإشاعة بحيث يلحقه جزء من النقص الواقع
على المجهول ، كما هو أحد الوجهين المتقدمين ، بل يعتبر ذلك القدر المبيع بعينه ،
كما قربه في المسالك.
والطن ـ بالضم
ـ الحزمة من حطب أو قصب. والجمع أطنان ، مثل قفل وأقفال.
قالوا : ولو
قال : بعتك كل قفيز منها بدرهم لم يصح ، ولو قال : بعتكها كل قفيز منها بدرهم
فالمشهور انه لا يصح ايضا مطلقا ، خلافا للشيخ ، ونفى عنه البعد في الكفاية فقال :
وقول الشيخ غير بعيد.
وظاهر هذا
الكلام هو صحة هذه الأحكام ، أعم من ان تكون الجملة مجهولة أو معلومة ، وخص في
الدروس البطلان في الصورة الثانية بما إذا كان المجموع مجهولا.
قال : ولو كان
قال «بعتكها كل قفيز بدرهم» بطل مع الجهالة. وظاهر الشيخ الصحة مطلقا. انتهى.
قال في الروضة
: واعلم ان أقسام بيع الصبرة عشرة ، ذكر المصنف بعضها منطوقا وبعضها مفهوما
وجملتها : أنها اما ان تكون معلومة أو مجهولة ، فإن كانت معلومة صح بيعها اجمع ،
وبيع جزء منها معلوم مشاع ، وبيع مقدار كقفيز تشتمل عليه ، وبيعها كل قفيز منها
بكذا لا بيع كل قفيز منها بكذا والمجهولة. تبطل في جميع الأقسام الخمسة إلا
الثالث. انتهى.
ومنه يعلم : ان
بيعها كل قفيز بكذا يصح مع المعلومية ، ويبطل مع المجهولية الا على قول الشيخ ،
حيث نقل عنه الصحة مطلقا.
__________________
واما بيع كل
قفيز منها بكذا فهو باطل مطلقا ، وبه يتبين ما في الكلام الأول من الإجمال.
وقد صرحوا ـ أيضا
ـ بأنه لا يجوز ابتياع شيء مقدر غير معين منه ، إذا لم يكن متساوي الأجزاء ،
كالذراع من الثوب ، والجريب من الأرض ، وعبد من عبيد ، وشاة من قطيع. ولو عينه من
جهة ، كما لو قال : من هذا الطرف الى حيث ينتهي ، ففي صحته قولان ، أشهرهما :
الصحة. ويجوز ذلك في المتساوي الأجزاء ، كالقفيز من الكر.
أقول : لا يبعد
التفصيل في هذا المقام ، بان يقال بعدم الصحة في نحو عبد من عبدين أو عبيد ، وشاة
من قطيع. والصحة في نحو ذراع من الثوب وجريب من الأرض. لحصول المجهولية في الأول
فيبطل البيع لذلك ، لتفاوت افراد العبيد وافراد الشاة تفاوتا فاحشا ، بخلاف اجزاء
الثوب واجزاء الأرض ، إذ الغالب في الثوب المصنوع ان تكون صنعته من أوله الى آخره
على نهج واحد. وكذلك الأرض. وحينئذ فلا فرق بين ان يبيعه ذراعا معينا مشارا اليه ـ
كما اعترفوا بالصحة فيه ـ ولا بين ان يبيعه ذراعا من اى طرف أراد المشترى. وهكذا
في الأرض
ويؤيده ما تقدم
من الاكتفاء بالمعلومية في الجملة من المواضع. والى ما ذكرنا يشير كلام المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال ـ بعد ان نقل عنهم المنع من عدم تعيين الموضع
، والجواز مع تعيينه ، كأن يقول ـ ابتداء ـ : الذرع من هذا الرأس وابتداء الجريب
من هذا الجانب من الأرض ـ ما لفظه : وفيه تأمل ، إذ لم يقم دليل على اعتبار هذا
المقدار من العلم فإنهما إذا تراضيا على ذرع من هذا الكرباس ، من أي رأس أراد
المشتري ، أو من اى جانب كان من الأرض ، فما المانع بعد العلم بذلك ، مع ان الغالب
هو التساوي في طول ثوب الكرباس ـ مثلا ـ وارض متصلة الاجزاء بمعنى عدم تفاوت بين
اجزائها المستلزم لتفاوت في قيمته. فتأمل فيه. انتهى.
وهو جيد.
وبالجملة فإن
ما ذكروه من القاعدة المذكورة بالنسبة الى غير متساوي الاجزاء ليس على إطلاقه ، بل
ينبغي التفصيل فيه بما ذكرنا. والله العالم.
الثامن
: قالوا : تكفي
في بيع الثوب والأرض المشاهدة وان لم يمسحا. ونقل في التذكرة الإجماع على ذلك ، مع
انه نقل في الدروس عن ظاهر الخلاف المنع.
وينبغي ان يعلم
: ان المراد بمشاهدة الثوب الكافية في صحة بيعه : مشاهدته منشورا ، فلو كان مطويا
لم يكف الا مع تقليبه على وجه يوجب معرفته. هذا بالنسبة الى غير المكيل والموزون
والمعدود ، والا فإنه يجب مع ذلك الاستعلام بأحد الثلاثة المذكورة ولا تكفي
المشاهدة وحدها.
ومن هنا ينقدح
إشكال في هذا المقام ، فإنه متى اعتبر أحد هذه الثلاثة فيما كان كذلك ، زيادة على
المشاهدة ، فكيف يقال بأنه تكفي المشاهدة خاصة في الثوب ، مع انه مذروع. وكما يشير
اليه كلامهم فيما تقدم من قولهم : ذراع من هذا الثوب ، ولان المتعارف في الثوب هو
الذرع. الا ان يقال : المراد به هنا المخيط فقط. أو يقال : ان الذرع غير مشروط في
المذروع. كما في الثلاثة المتقدمة ، فإن ذلك شرط فيها.
ويؤيده إضافة
الأرض. فإنها قد تكون مذروعة أيضا ، مع انه يجوز بيعها مشاهدة وموصوفة بلا ذرع من
غير خلاف.
وتكفي مشاهدة
المبيع عن وصفه ، ولو غاب وقت الابتياع ، بشرط ان لا يكون مما يتغير عادة ، كالأرض
والأواني والحديد والنحاس ونحوها ، أو لا تمضى مدة تتغير فيها عادة ، ويختلف
باختلافه زيادة ونقصانا ، كالفاكهة والطعام والحيوان. فلو مضت مدة كذلك لم يصح
البيع ، لتحقق الجهالة المترتبة على تغيره عن تلك الحالة. وان
احتمل التغير كفى البناء على الأول ، أعني المشاهدة السابقة ، وصح البيع.
فان ظهر التغير
زيادة أو نقصانا فان كان مما يتسامح بمثله عادة فلا خيار ، والا تخير المغبون
منهما ، وهو البائع ان ظهر زائدا والمشترى ان ظهر ناقصا.
ولو اختلفا في
التغير الموجب للخيار ، وهو الذي يتسامح بمثله ـ كما عرفت ـ فقيل : ان القول قول
المشترى ، بيمينه ان كان هو المدعى للتغير والبائع ينكره ، لأن البائع يدعي علمه
بهذه الصفة ، ويقول : انى بعتكه بهذه الصفة التي هو عليها الآن ، وهو ينكره. ولأن
الأصل عدم وصول حقه اليه ، فيكون في معنى المنكر ، ولأصالة بقاء يده على الثمن.
وقيل بتقديم
قول البائع لتحقق الاطلاع المجوز للبيع ، وأصالة عدم التغير.
والمشهور
الأول. والمسألة عارية من النص. والركون الى أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام
الشرعية قد عرفت ما فيه في غير مقام.
ولو باعه أرضا
على انها جربان معينة فظهرت أقل من ذلك ، فقيل بأن للمشتري الخيار بين فسخ البيع
وبين أخذها بحصتها من الثمن. وقيل : بل بكل الثمن.
وللشيخ قول
ثالث ، بأن البائع ان كان له ارض بجنب تلك الأرض تفي بالناقص فعليه الإكمال منها
والا تخير المشترى بين الأخذ بحصتها من الثمن وبين الفسخ. ويدل على هذا القول ما
رواه الصدوق والشيخ عن عمر بن حنظلة عن الصادق عليهالسلام في رجل باع أرضا على انها عشرة أجربة ، فاشترى المشترى
ذلك منه بحدوده ، ونقد الثمن ووقع صفقة البيع وافترقا ، فلما مسح الأرض إذا هي
خمسة أجربة ، قال : ان شاء استرجع فضل ماله وأخذ الأرض ، وان شاء رد البيع وأخذ
ماله كله ، الا ان يكون له الى جنب تلك الأرض ـ أيضا ـ أرضون فلتؤخذ ويكون البيع
لازما له ، وعليه الوفاء بتمام البيع ، فان لم يكن له في ذلك المكان غير الذي باع
، فان شاء المشتري أخذ الأرض واسترجع فضل ماله وان شاء رد الأرض وأخذ المال كله .
__________________
وربما طعن في
الخبر بضعف السند. وهو غير مرضى عندنا ولا معتمد ، والرواية لا معارض لها ، وهي
دالة على صحة القول الأول ، مع عدم وجود الأرض للبائع ثمة ، فالعمل بها متعين.
وفي الكفاية
نقل عن الشيخ ـ هنا ـ مع عدم وجود الأرض : انه يتخير المشترى بين الأخذ بجميع
الثمن والفسخ. قال : ومستنده رواية عمر بن حنظلة عن الصادق عليهالسلام لكنها غير نقية السند. وفيه : ان الرواية انما تدل على
الأخذ بحصته من الثمن ، وهو ما يخص المبيع كما هو القول الأول ، لا بجميع الثمن
كما هو القول الثاني. والظاهر ان ما ذكره سهو من قلمه.
التاسع
: يختبر ما يراد
طعمه كالدبس ، أو ريحه كالمسك أو يوصف.
ويدل على ذلك :
ما رواه الشيخ عن محمد بن العيص قال : سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن رجل اشترى ما يذاق ، يذوقه قبل ان يشترى؟ قال :
نعم ، فليذقه ، ولا يذوقن ما لا يشترى . ورواه البرقي في المحاسن مثله.
فلو اشتراه من
غير اختيار أو وصف بناء على الأصل ـ وهو الصحة ـ فالمشهور بين المتأخرين : الجواز
مع العلم به من غير هذه الجهة ، كالقوام واللون وغيرهما مما يختلف قيمته باختلافه.
وقيل : لا يجوز
بيعه الا بالاختيار أو الوصف للغرر المنهي عنه. وهو منقول عن الشيخين وسلار والتقى
والقاضي وابن حمزة.
والأول مذهب
المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.
ويرجح الأول :
جواز البناء على الأصل احالة على مقتضى الطبع ، فإنه أمر مضبوط عرفا لا يتغير
غالبا الا لعيب ، فيجوز الاعتماد عليه ، لارتفاع الغرر به كالاكتفاء برؤية ما يدل
بعضه على باقيه غالبا كظاهر الصبرة ، وينجبر النقص بالخيار ،
__________________
فان خرج معيبا تخير المشترى بين الرد والأرش ان لم يتصرف فيه تصرفا زائدا
على اختباره ، والا تعين الأرش لو تصرف كذلك ، كما في غيره من أنواع المبيع. وان
كان المشترى المتصرف أعمى ، لتناول الأدلة. خلافا لسلار حيث خير الأعمى بين الرد
والأرش وان تصرف.
واولى بالجواز
من غير اختبار ما يؤدى اختباره الى فساده كالجوز والبطيخ والبيض ، فان شراءه جائز
مع جهالة ما في بطونه ، ويثبت للمشتري الأرش بالاختبار مع العيب دون الرد. وفي بعض
عبارات الأصحاب : جاز شراؤه بشرط الصحة. وفي عبارة الشيخ وجماعة : بشرط الصحة أو
البراءة من العيوب. والأول أجود.
ثم ان أطلق
اقتضى الإطلاق الصحة ورجع بأرش العيب مع ظهوره بعد الكسر لا الرد كما عرفت ،
للتصرف.
وان شرط البائع
البراءة من العيوب صح ولا خيار لو ظهر معيبا. كذا أطلقه الجماعة.
قال في المسالك
ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : ويشكل فيما لو ظهر كله معيبا ولم يكن لمكسوره قيمة كالبيض
، فان مقتضى الشرط رجوعه بالثمن كله لعدم وجود ما يقابله ، وهو مناف لمقتضى العقد
، إذ لا شيء في مقابلة الثمن فيكون أكلا للمال بالباطل فيتجه بطلان الشرط ، وقد
نبه على هذا في الدروس. انتهى. وهو جيد.
قالوا : ولو لم
يكن لمكسوره قيمة كالبيض الفاسد رجع بالثمن اجمع ، لبطلان البيع حيث لا يقابل
الثمن مال.
وهل يكون العقد
مفسوخا من أصله؟ نظرا الى عدم المالية من حين العقد فيقع باطلا ابتداء ، أو يطرأ
عليه لفسخ بعد الكسر وظهور الفساد ، التفاتا الى حصول شرط الصحة حين العقد وانما
تبين الفساد بالكسر ، وجهان بل قولان.
جزم في الدروس
بالثاني وجعل الأول احتمالا. قال : ولو لم يكن له قيمة بطل البيع
من حينه ويحتمل من أصله.
قال شيخنا
الشهيد الثاني ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهو ظاهر الجماعة ، ورجح الأول. قال : ورجحان
الأول واضح ، لان ظهور الفساد كشف عن ظهور عدم المالية في نفس الأمر حين البيع لا
احداث عدمها حينه ، والصحة مبنية على الظاهر. انتهى.
والمسألة محل
توقف. وفرعوا على القولين الكلام في مؤنة النقل من الموضع الذي اشتراه فيه الى
موضع الاختبار ، فعلى الأول على البائع ، وعلى الثاني على المشترى لوقوعه في ملكه.
العاشر : المشهور بينهم ـ من غير خلاف يعرف ـ : انه يجوز بيع
المسك في فأره وان لم يفتق ، بناء على أصل السلامة ، فإن ظهر بعد الفتق معيبا تخير
المشترى ، كما هو القاعدة في كل معيب. والفأر بالهمزة : الجلدة التي فيها المسك. قالوا
: وفتقه بأن يدخل فيه خيط بإبرة ثم يخرج فيشم.
والفأر في
عبائرهم ـ كما في العبارة المذكورة ـ : جمع فأرة كتمر وتمرة ، فهو في العبارة مضاف
الى ضمير المسك ، وقد نص جملة من الأصحاب على انه بالهمزة في المفرد والجمع. وفي
مجمع البحرين : انه يهمز ولا يهمز. وهكذا في فارة البيوت.
ولم أقف لهم في
هذا الحكم على نص ، قال المحقق الأردبيلي : قواعدهم تقتضي عدم جواز بيعه في الفأرة
للجهالة ، لأنهم ما يجوزون في ظاهر كلامهم بيع المشموم بالمشاهدة بل يوجبون الشم
معها ، وقد جوزوا بيعه مع مشاهدة الفأرة في المسك من دون مشاهدته وشمه. ولعله
لإجماع ونص فهم ذلك من فحواه ، ويؤيده عموم الأدلة التي أشرنا إليها غير مرة مع
الأصل وعدم مانع ظاهر يصلح لذلك ، ووجود العلم الجملة ، وعدم وجوب الاستقصاء مع
عدم تفويت حق ، إذ لو كان معيبا تخير ،
وايضا قد يعلمه أهل الخبرة في الفأرة ، وهذا مؤيد لعدم اشتراط العلم في
كثير مما سبق فتذكر ، ومؤيد أيضا لعدم نجاسة ما ينفصل من الحي ، فإنها طاهرة عندهم
بالإجماع ، مع أنها جلدة رماها الغزال فتأمل. انتهى.
ولا وجه لهذه
التأييدات مع عدم نص على الحكم المذكور كما اعترف به ، بل الجميع من قبيل الدعاوي
العارية عن الدليل ، وقد عرفت ان مقتضى القاعدة المذكورة المتقدمة هو المشاهدة أو
الوصف الرافع للجهالة ، والكيل والوزن والعدد فيما كان من هذه الأقسام ، واستثناء
بعض الافراد عن مقتضى القاعدة يحتاج الى دليل. بل لو ورد الدليل في بعض الموارد
لردوه كما في مسألة البيع بحكم المشتري أو البائع أو أجنبي ، فإنهم قد ردوا
الرواية المتقدمة الصحيحة الصريحة في جواز البيع بحكم المشترى ، وهذا المحقق
المذكور ممن وافقهم على ذلك كما تقدم في كلامه في تلك المسألة ، فكيف مع عدم
الدليل كما في هذه المسألة. ومجرد شهرة الحكم بينهم لا يوجب التخصيص لتلك القاعدة.
على انه قد روى
في التهذيب عن عبد الأعلى بن أعين ، قال نبئت عن ابى جعفر عليهالسلام انه كره شراء ما لم تره .
وروى في الخصال
عن محمد بن سنان مسندا إلى ابى جعفر عليهالسلام انه كره بيعين : اطرح وخذ من غير تقليب ، وشراء ما لم
تر .
واستعمال
الكراهة بمعنى التحريم في الاخبار كثير كثير كما نبهنا عليه في غير موضع والخبران
المذكوران مؤيدان لما ذكروه من القاعدة في هذا المقام ، فالخروج عنها بغير دليل
غير معقول ، الا ان يقال ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ : انه لا ضابطة ولا قاعدة في
ذلك ، بل المرجع الى النصوص فيما دلت عليه جوازا ومنعا ، والحال انه لا نص
__________________
في هذا المقام ، فالاحتياط بعدم جواز البيع الا مع المعلومية بالفتق ـ كما
ذكروه ـ واجب ، لاشتباه الحكم ، وان وقع في كلامهم على جهة الاستحباب. والله
العالم.
الحادي
عشر : المشهور انه لا
يجوز بيع سمك الآجام مع ضميمة القصب أو غيره للجهالة ، ولو في بعض المبيع. ولا
اللبن في الضرع ـ وهو الثدي لكل ذي خف أو ظلف ـ لذلك وان ضم إليه شيئا ولو لبنا
محلوبا. قالوا : لأن ضميمة اللبن المعلوم الى المجهول تجعل المعلوم مجهولا ، فاما
عدم الجواز بدون الضميمة فموضع وفاق عندهم ، وانما الخلاف معها. فالمشهور ـ كما
عرفت ـ هو المنع. وقيل بالجواز.
والظاهر : ان
محل الخلاف هو السمك المملوك المقدور قبضه ، فان غير المملوك ولا المقدور لا يجوز
بيعه اتفاقا ، وايضا المراد به غير المحصور ولا المشاهد ، والا فلو كان كذلك فإنه
لا خلاف في جواز البيع ، كما صرح به بعضهم في الموضعين.
ومنه يعلم ان
محل الخلاف انما هو السمك المملوك المقدور غير معلوم العدد ولا المشاهد مع الضميمة
المعلومة. وقد ذهب الشيخ هنا الى الجواز ايضا. كما ذهب الى الجواز في بيع اللبن في
الضرع إذا ضم اليه لبن محلوب ، بل مع الضميمة الى ما يوجد في مدة معلومة.
وفصل آخرون ـ والظاهر
: انه المشهور بين المتأخرين ـ بأنه ان كان المقصود بالبيع هو الضميمة المعلومة
وجعل ما عداها تابعا صح البيع ، وان عكس أو كانا مقصودين لم يصح ، وكذا القول في
كل مجهول ضم اليه معلوم.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في هذا المقام : ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب ، عن
سماعة في الموثق ، قال : سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع؟ فقال : لا ، الا ان
يحلب لك منه أسكرجة فيقول : اشتر منى هذا اللبن الذي في الاسكرجة وما بقي في ضرعها
بثمن مسمى ، فان لم يكن في الضرع شيء كان ما في
الاسكرجة . اى كان المبيع ما في سكرجة. وأسكرجة ـ بضم الهمزة
وسكون السين ، وضم الكاف ، والراء المشددة ـ : إناء صغير فارسي معرب.
وهذه الرواية ـ
كما ترى ـ ظاهرة فيما ذهب اليه الشيخ. والأصحاب ردوها بضعف السند ، وهو عندنا غير
معتمد. وظاهر هذه الرواية عدم اشتراط الكيل والوزن في اللبن.
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن عيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن رجل له غنم يبيع ألبانها بغير كيل ، قال : نعم ،
حتى تنقطع أو شيء منها .
قال المحدث
الأسترآبادي ـ عطر الله مرقده ـ في حواشيه على الكافي : قوله «يبيع ألبانها بغير
كيل» يعنى اللبن في الضرع كالثمرة على الشجرة ليس مما يكال عادة ، فهل يجوز بيعها
بغير كيل؟ قال : نعم. لكن لا بد من تعيين ذلك ، بأن يقال : الى انقطاع الألبان أو
الى انفصال اللبن من الضرع ، فيوافق الخبر الثاني. والله يعلم. انتهى.
وقال المحدث
الكاشاني في الوافي ـ ذيل الخبر المذكور ـ : اى يشترط ان ينقطع الألبان من الثدي ،
أي تحلب اما كلها أو بعضها ، واما إذا كان كلها في الثدي ولم يحلب شيء منها بعد
فلا يجوز بيعها ويشبه ان يكون «حتى» تصحيف «متى».
أقول : ويأتي ـ
على احتمال المحدث الأول ـ جواز بيعها في ضروعها كالثمرة على النخلة. وظاهره صحة
ذلك من غير ضميمة ، لكن لا بد من التقييد بانقطاع الألبان ، ونحوها مما ذكره. وعلى
كلام المحدث الثاني : جواز بيع ما في الضروع مع انفصال بعضه كما دل عليه موثق
سماعة ، وان الممنوع منه انما هو البيع ما دام في الضرع
__________________
ولم يحلب منه شيء بالكلية فعلى كل من الاحتمالين فالخبر دال على خلاف ما
هو المشهور من عدم الجواز كذلك.
وكيف كان فظاهر
هذا الخبر ـ ايضا ـ جواز بيع اللبن بغير كيل ولا وزن.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن البزنطي عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليهالسلام قال إذا كانت أجمة ليس فيها قصب ، أخرج شيء من السمك ،
فيباع وما في الأجمة .
وظاهر الخبر :
انه لو كان فيها قصب فإنه لا يحتاج إلى ضميمة أخرى زائدة على القصب وسمك الأجمة ،
لان القصب معلوم بالمشاهدة.
وما رواه الشيخ
في الموثق عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا بأس ان يشتري الآجام إذا كان فيها قصب . وهي كسابقتها بل أصرح.
وعن ابى بصير
عن ابى عبد الله في شراء الأجمة ليس فيها قصب انما هي ماء. قال : يصيد كفا من سمك
، فتقول : اشترى منك هذا السمك وما في الأجمة بكذا وكذا .
والأصحاب أيضا
ردوا هذه الروايات بضعف السند. قال في المسالك ـ في مسألة بيع الآجام ـ : والقول
بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ استنادا الى اخبار ضعيفة ، ثم رجح ما اختاره
المتأخرون من التفصيل الذي قدمنا نقله عنهم. وقال ـ في مسألة بيع اللبن في الضرع ـ
: جوزه الشيخ مع الضميمة ولو الى ما يوجد في مدة معلومة استنادا إلى رواية ضعيفة ،
والوجه المنع الا على التفصيل السابق.
أقول : العجب
منهم في مسألة بيع المسك في فأره يجوزونه مع الجهالة المطلقة
__________________
وعدم المعلومية بوجه ، ويخرجون عن مقتضى قاعدتهم المتقدمة من غير دليل ،
ويمنعونه في هذا الموضع مع ورود الاخبار بجوازه وقوفا على تلك القاعدة وتمسكا بها
، وردا للأخبار المذكورة لمخالفتها لها ، مع حصول المعلومية في الجملة ، وتأيد هذه
الاخبار في موضع الحاجة إليها ، وغض النظر عن ضعفها.
وبالجملة فان
الحق هنا ما ذهب اليه الشيخ فيما دلت عليه هذه الاخبار ، والى ذلك يميل كلام
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، والفاضل الخراساني في الكفاية.
الثاني
عشر : المشهور انه
لا يجوز بيع الجلود والأصواف والاشعار على الانعام وان ضم اليه غيره أيضا ، لجهالة
مقداره. مع كون غير الجلود موزونا ، فلا يصح بيعه جزافا.
قال في المسالك
ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : والأقوى جواز بيع ما عدا الجلد منفردا أو منضما مع مشاهدته
وان جهل وزنه ، لانه غير موزون كالثمرة على الشجرة ، وان كان موزونا لو قلع
كالثمرة. وفي بعض الاخبار دلالة عليه. انتهى. وهو جيد.
والظاهر ان
الرواية التي أشار إليها هي : ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن
إبراهيم الكرخي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في
بطونها من حمل ، بكذا وكذا درهما؟ فقال : لا بأس ان لم يكن في بطونها حمل كان رأس
ماله في الصوف .
والرواية ـ كما
ترى ـ دالة على جواز بيع الصوف ونحوه من الأوبار والأشعار على ظهر الدابة وحدها.
وكذا صريحها يدل على ما قدمنا نقله عن المسالك من الجواز هنا. لكن قيده بما إذا
كان المقصود بالذات هو ما على الظهور ، وقوفا على القاعدة التي قدمناها عنهم ، في
ضم المعلوم الى المجهول.
وبذلك صرح ـ أيضا
ـ في الكتاب المذكور ، حيث قال ـ بعد قول المصنف
__________________
في تعداد مالا يجوز بيعه «وكذا الجلود والأصواف والأوبار والشعر على
الانعام ، ولو ضم اليه غيره ، وكذا ما في بطونها ، وكذا لو ضمهما» ـ ما صورته :
ضمير المثنى يعود الى النوعين السابقين ، وهما ما في بطونها وما على ظهورها من
الصوف الشعر والوبر ، والمراد : انه لا يصلح بيع كل واحد منهما منفردا ولا منضما
الى غيره ، ولا أحدهما منضما الى الآخر. وحيث عرفت ان بيع ما على الظهور من
المذكورات صحيح ، فيجوز ضم ما في البطن إليه إذا كان المقصود بالذات هو ما على
الظهر ، ما تقدم في القاعدة. انتهى.
وفيه : ان
روايات الضمائم ـ على تعددها ـ لا أشعار فيها بهذا التقييد الذي كروه ، من ان
المقصود بالذات هو الضميمة خاصة. وغاية ما تدل عليه هو : انه مع عدم حصول ذلك
المجهول يصير الثمن في مقابلة الضميمة المعلومة. واما كونها هي المقصودة بالبيع
فلا. بل ربما أشعر ظاهرها : ان المقصود بالبيع انما هو ذلك المبيع المضموم اليه ،
وانما جعلت هذه الضميمة من قبيل الحيل الشرعية ، لئلا يلزم أخذ الثمن بغير عوض
يقابله ليخرج من باب البيع المبنى على المعاوضة.
وقال في الدروس
: والأقرب جواز بيع الصوف والوبر والشعر على ظهور الانعام منفردا إذا أريد جزه في
الحال ، أو بشرط بقائه الى أو ان جزه.
وأنت خبير ـ بناء
على ما حققناه كما دلت عليه الرواية المتقدمة واختاره في المسالك ـ انه لا ثمرة
لهذا الشرط ، إذ المبيع حينئذ مشاهد ، والوزن غير معتبر فيه في تلك الحال ، فيجوز
بيعه. واشتراط جزه لا مدخل له في الصحة بوجه. فالأظهر عدم اشتراطه. وغاية ما يلزم
: أنه ببقائه يمتزج بمال البائع وهو لا يقتضي بطلان البيع ، إذ المرجع حينئذ إلى
الصلح كما سيأتي مثله إنشاء الله في لقطة الخضر.
ثم ان ظاهر
عبارة المسالك المتقدمة ـ أولا ـ : هو عدم جواز بيع الجلد على ظهر الحيوان مطلقا.
وكأنه اتفاقي بينهم ، والا فما المانع من بيعه مع الضميمة كما
في الاشعار والأوبار مع مشاهدة الحيوان الذي عليه الجلد ، فالمشاهدة مشتركة
بين الجلد من الاشعار ونحوها ، وعموم الأدلة والاكتفاء بالمعلومية الجملية كما في
غير موضع مما عرفت وستعرف يقتضي الصحة كما لا يخفى.
ثم ان رواية
الكرخي المتقدمة قد دلت على جواز بيع الحمل مع ضميمة الصوف كما
عرفت ، والأصحاب قد صرحوا بالعدم إلا إذا ضم الحمل إلى الأم ، وكانت الأم هي
المقصودة بالبيع ، عملا بالقاعدة التي تقدم نقلها منهم.
قال العلامة ـ في
التذكرة ـ : لو باع الحمل مع امه جاز إجماعا ، سواء كان في الآدمي أو غيره. ثم قال
ـ بعد هذا ـ : لو قال : بعتك هذه الدابة وحملها لم يصبح عندنا ، لما تقدم ان الحمل
لا يصلح مبيعا ولا جزء منه.
أقول : والأقرب
هو الجواز مع الضميمة مطلقا للخبر المتقدم المعتضد بما صرحوا به في غير موضع من
الاكتفاء بمعلومية المبيع في الجملة ، ومنع الأصحاب من بيع الملاقيح ـ وهو : ما
يلقحه الفحل وتحمله الناقة ـ منفردا أو منضما ، وجهه ظاهر ، لانه معدوم ، ومن شرط
المبيع ان يكون موجودا حال البيع.
ويمكن ان يستدل
عليه بما رواه الشيخ في الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ عن محمد بن قيس عن ابى جعفر عليهالسلام قال : لا تبع راحلة عاجلة بعشر ملاقيح من أولاد جمل في
قابل .
والتقريب فيها
: البناء على عدم الفرق بين الشراء والبيع.
وروى الصدوق في
معاني الاخبار عن محمد بن هارون الزنجاني عن على بن عبد العزيز عن القاسم بن سلام
بإسناد متصل إلى النبي صلىاللهعليهوآله انه نهى عن المجر ، وهو ان يباع البعير أو غيره بما في
بطن الناقة. ونهى صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الملاقيح والمضامين.
__________________
فالملاقيح : ما في البطون ، وهي الأجنة. والمضامين : ما في أصلاب الفحول
وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضرب الفحل في عامه وفي أعوامه. ونهى صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع حبل الحبلة. ومعناه : ولد ذلك الجنين الذي في
بطن الناقة ، أو هو نتاج النتاج ، وذلك غرر. انتهى .
الثالث
عشر : قالوا : إذا
كان المبيع في ظرف جاز وزنه وبيعه معه ، وان يندر للظرف ما جرت به العادة مما يحتمل كونه بذلك القدر أو
أزيد قليلا أو انقص كذلك ، فلو علم يقينا زيادة المسقط على وزنه لم يصح الا بتراضي
المتبايعين ، لأن في ذلك تضييعا لمال أحدهما ، بخلاف ما إذا كان برضاهما.
قيل : وكما لا
يجوز وضع ما يزيد كذا ما ينقص لاشتراكهما في المعنى.
قالوا : ويجوز
بيعه مع الظرف بغير وضع ، بمعنى جعل الموزون المجموع من الظرف والمظروف بسعر واحد
، ولا يضر جهل وزن كل واحد ، لأن معرفة الجملة كافية كنظائره مما يباع منضما.
وقيل : لا يصح
حتى يعلم مقدار كل واحد منهما منفردا ، لأنهما في قوة مبيعين. ورد بأنه ضعيف.
أقول : والذي
وقفت عليه هنا من الاخبار المتعلقة بهذا الحكم : ما رواه الشيخان في الكافي
والتهذيب عن حنان في الموثق ، قال : كنت جالسا عند ابى عبد الله عليهالسلام فقال له معمر الزيات : انا نشتري الزيت في زقاقه فيحسب
لنا النقصان فيه لمكان الزقاق. فقال له : ان كان يزيد وينقص فلا بأس ، وان كان
يزيد ولا ينقص فلا تقربه .
وروى في
التهذيب عن على بن أبي حمزة قال : سمعت معمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليهالسلام فقال : جعلت فداك ، انى رجل أبيع الزيت ـ الى ان قال ـ :
فإنه
__________________
يطرح لظروف السمن والزيت لكل ظرف كذا وكذا رطلا ، فربما زاد وربما نقص. قال
: إذا كان عن تراض منكم فلا بأس .
وروى محمد بن
جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه
موسى بن جعفر عليهالسلام عن الرجل يشترى المتاع وزنا في الناسية والجو التي ،
فيقول : ادفع للناسية رطلا أو أكثر من ذلك. أيحل ذلك البيع؟ قال : إذا لم يعلم وزن
الناسية والجوالق فلا بأس إذا تراضيا .
ويستفاد من
الخبر الأول : انه مع احتمال الزيادة والنقصان في الظروف فإنه لا بأس لوقوع أحدهما
موقع الآخر ، الا ان الخبر الثاني قيده بالتراضي. وكذا ظاهر الخبر الثالث ، وهو
أحوط. ودل الخبر الأول على انه ـ مع معلومية الزيادة ـ فلا يجوز. وظاهر الخبر :
المنع وان حصل التراضي. والأصحاب ـ كما عرفت ـ جوزوه مع التراضي ، الا ان يحمل
الخبر على ذلك ، لان المدار في البيع على التراضي ، الا ان يمنع عنه مانع من خارج
في مواضع مخصوصة منصوصة.
ثم ان ما قيل
من قياس النقيصة على الزيادة في عدم الجواز الا مع التراضي ـ كما تقدم نقله ـ يمكن
الخدشة فيه بان المراد من كلامهم المنقول ـ أولا ـ ان إندار المحتمل لا يحتاج إلى
المراضاة ، وانما المحتاج إليها ما يزيد. ولعل الوجه : انه يجوز ذلك للمشتري لقلة
التفاوت لو كان التسامح بمثله بين الناس غالبا ، مع انه غير معلوم فيحمل على
الغالب مع عدم اليقين. ولا يجوز له إندار الزيادة إلا مع رضاء البائع ، وحينئذ فلا
يرد اشتراط ذلك في النقصان.
وبالجملة فإن
الإندار انما هو حق المشترى ، لأنه قد اشترى ـ مثلا ـ مأة من من السمن في هذه
الظروف ، فالواجب دفع قيمة المأة المذكورة ، وله إسقاط ما يقابل
__________________
الظروف من هذا الوزن المذكور ، فمتى كانت الظروف فيها ما يزيد وينقص حمل
زيادتها على نقيصتها ـ كما تقدم في الاخبار ـ وأسقط ذلك ، إذ فيها ما يحتمل
الزيادة والنقيصة قليلا بحيث جرت العادة بالتسامح في مثله ، فان له إسقاطه. اما لو
كان معلوم الزيادة فليس له الإسقاط إلا برضاء البائع لدخول النقص عليه بذلك ، واما
معلوم النقيصة فإن البائع لا يندره ويدخل على نفسه الضرر بالنقصان. وبذلك يظهر لك
ان قياس أحدهما على الآخر ليس في محله. والله العالم.
وأما ما ذكروه
من أنه يجوز بيعه مع الظروف من غير وضع ، فإنه وان جاز من حيث عدم ضرر الجهل بكل
منهما على حدة ، لأن معرفة الجملة كافية كما ذكروه الا أنه يستلزم كون قيمة الظرف
قيمة المظروف ، والغالب التفاوت ، وربما يكون فاحشا ، فيلزم الضرر بالمشتري.
فالواجب تقييده برضاء المشترى ، كما قيدوا به في صورة زيادة الظرف يقينا. والحكم
المذكور غير منصوص ليتبع فيه إطلاق النص ، الا ان يقال : ان إطلاق كلامهم يحمل على
ذلك.
* * *
الى هنا تم
الجزء الثامن عشر حسب تجزئتنا. وبه يكتمل أحكام المكاسب
والبيوع.
ويبتدئ الجزء التالي (١٩) بأحكام الخيارات.
ونسأل الله
التوفيق في إكمال هذه الموسوعة الجليلة
التي يفخر بها
فقه الإمامية على طول
الزمان. والله
ولى التوفيق
١٧ ربيع الأخر
١٣٩٧ ه ـ
فهرس الجزء الثامن عشر
من كتاب الحدائق الناظرة
كتاب التجارة المقدمة الأولى : في الحث على طلب الرزق وكسب
الحلال................. ٣
في الجمع بين أخبار طلب الرزق وأخبار طلب العلم إذا لم يمكن
لطالب العلم القيام بطلب الكسب ٩
في ان نفقة طالب العلم مكفولة.................................................. ١١
في ان فساد الناس يوجب جور الحكام عليهم....................................... ١٦
في ان الواجب هو التعرض للرزق واما مسبب الأسباب فهو الله تعالى.................. ١٧
في وجوب التفقه للتجارة......................................................... ١٩
المقدمة الثانية : في آداب التجارة التفقه في الدين.................................... ٢٣
التساوي بين المبتاعين والبايعين................................................... ٢٣
كراهة الربح على المؤمن......................................................... ٢٥
استحباب إقالة المستقيل......................................................... ٢٩
استحباب الدعاء بالمأثور......................................................... ٢٩
استحباب الدعاء عند الشراء..................................................... ٣١
لا يعطى المشترى من عنده إذا قال له : اشتر لي.................................... ٣٢
كراهة مدح البايع لمتاعه......................................................... ٣٦
كراهة السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس................................. ٣٧
كراهة مبايعة الأدنين............................................................ ٣٨
كراهة الاستحطاط بعد العقد.................................................... ٤١
كراهة الزيادة في السلعة وقت النداء............................................... ٤٣
استحباب المماكسة الا في مواضع................................................. ٤٧
استحباب ان يكون المسلم سهل البيع والشراء...................................... ٤٨
استحباب البيع عند ظهور الربح.................................................. ٤٩
استحباب المبادرة إلى الصلاة وترك التجارة.......................................... ٥٠
ان لا يتوكل حاضر لباد......................................................... ٥٢
كراهة تلقى الركبان............................................................. ٥٤
كراهة الاحتكار أو حرمته وتحديد مفهوم الاحتكار.................................. ٥٨
المقدمة الثالثة : فيما يكتسب به
(البحث الأول) في المكاسب المحرمة
في التكسب بالنجاسات......................................................... ٧١
في حرمة التكسب بالأعيان النجسة عدا ما استثنى.................................. ٧١
في حرمة المايعات المتنجسة التي لا تقبل التطهير ولا ينتفع بها
منفعة
محللة مقصودة.................................................................. ٨٣
في التكسب بما لا ينتفع به من الحيوانات.......................................... ٩٣
في التكسب بما هو محرم في نفسه................................................. ٩٨
في عمل الصور المجسمة وبيعها.................................................... ٩٨
في الغناء..................................................................... ١٠١
استثناءات من حرمة الغناء...................................................... ١١٥
في معونة الظالمين.............................................................. ١١٨
في الدخول في اعمال الظلمة................................................... ١٢٣
شرائط جواز الدخول في أعمال الظلمة ومعنى لا تقية في الدماء...................... ١٣٤
في النوح بالباطل.............................................................. ١٣٦
في حفظ كتب الضلال........................................................ ١٤١
في هجاء المؤمن وغيبته......................................................... ١٤٦
في الأخبار الدالة على كفر المخالفين............................................ ١٤٩
في وجوب التبري من المخالفين.................................................. ١٥١
في ان المخالف ليس مسلماً على الحقيقة......................................... ١٥٣
في ان غير المستضعف ناصبي................................................... ١٥٧
في حرمة استماع الغيبة أيضاً.................................................... ١٥٩
في بيان كفارة الغيبة........................................................... ١٥٩
في موارد جواز الاغتياب........................................................ ١٦٠
في حرمة السحر وما شاكله.................................................... ١٧١
في عدم تأثير السحر على المعصومين عليهم السلام................................ ١٧٩
في القيافة.................................................................... ١٨٢
في الكهانة................................................................... ١٨٤
في الشعبذة................................................................... ١٨٥
في القمار.................................................................... ١٨٦
في الغش المحرم والتدليس والتزيين بما يحرم.......................................... ١٩٠
في الغش الخفى............................................................... ١٩٠
في تدليس الماشطة............................................................. ١٩٤
في تزيين الرجل بما يحرم عليه وتزيين المرأة بما يحرم عليها.............................. ١٩٧
فيما يحرم لتحريم ما يقصد به................................................... ٢٠٠
في تحريم عمل آلات اللهو...................................................... ٢٠٠
في تحريم الإجارة للمحرم أو البيع للحرام.......................................... ٢٠٢
في تحريم بيع السلاح من أعداء الدين............................................ ٢٠٦
في أخذ الأجرة على الواجبات.................................................. ٢١١
في أخذ الأجرة على تجهيزات الميت الواجبة....................................... ٢١١
في أخذ الأجرة على الاذان..................................................... ٢١٤
في أخذ الأجرة على القضاء.................................................... ٢١٦
في بيع المصحف.............................................................. ٢١٨
(البحث الثاني) فيما يكره التكسب به
الصرف..................................................................... ٢٢٢
بيع الأكفان وبيع الطعام وبيع الرقيق والذبح والصياغة والحياكة
والحجامة.............. ٢٢٤
كراهة أخذ الأجرة على تعليم القرآن............................................. ٢٣٠
(البحث الثالث) في المكاسب المباحة
وهي ما عدا الامرين المتقدمين في البحثين الأول والثاني............................. ٢٣٦
المقدمة الرابعة : في تحقيق مسائل تدخل في حيز المكاسب
لو دفع انسان إلى آخر مالا ليصرفه في قبيل هو منهم ، فهل يجوز
له ان يأخذ منه؟.... ٢٣٧
في جواز تناول الخراج والمقاسمة من الجائر.......................................... ٢٤٣
في حل جوائز السلطان وجميع الظلمة............................................ ٢٦٠
في تناول الوالد من مال ولده.................................................... ٢٧٢
في تناول الزوجة من مال زوجها.................................................. ٢٨٢
في جواز تناول المارة من الثمرة وشرائط ذلك...................................... ٢٨٦
في أحكام الأرضين............................................................ ٢٩٤
في الأرض المفتوحة عنوة........................................................ ٢٩٤
في التصرف في هذه الأراضي................................................... ٢٩٨
في ان مكة فتحت عنوة والتكلم عن سائر البلدان................................. ٣٠٦
في الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعاً........................................... ٣١٣
في أرض الصلح............................................................... ٣١٨
في أرض الأنفال.............................................................. ٣٢١
في أحكام اليتامى وأموالهم...................................................... ٣٢٢
في ولى اليتيم................................................................. ٣٢٢
في الاتجار بمال اليتيم.......................................................... ٣٢٥
فيما يحل لقيم اليتيم........................................................... ٣٣٤
في تحريم تناول مال اليتيم....................................................... ٣٤٣
الفصل الأول : في البيع........................................................ ٣٤٨
في اشتراط الصيغة في صحة البيع وغيره من العقود ، وعدمه........................ ٣٤٨
في اعتبار مطلق اللفظ الدال على التراضي........................................ ٣٥٥
في تحقيق بيع المعاطاة.......................................................... ٣٥٦
في تحقيق معنى إفادة المعاطاة للإباحة عند المشهور................................. ٣٥٨
في ان تلف العين يوجب لزوم المعاطاة............................................ ٣٦٢
فيما لو وقعت المعاوضة بقبض أحد العوضين..................................... ٣٦٣
في وورد المعاطاة في الإجارة والهبة................................................. ٣٦٤
في كفاية إشارة الأخرس........................................................ ٣٦٥
في شرائط المتعاقدين
في اشتراط البلوغ.............................................................. ٣٦٧
في اشتراط الاختيار............................................................ ٣٧٣
في اشتراط كونه مالكاً اوفى حكمه
في بيع الفضولي صحة وبطلانا.................................................. ٣٧٦
في رجوع المشترى على البائع الفضولي............................................ ٣٩١
فيما لو باع ملكه مع ملك غيره................................................. ٣٩٩
في صحته فيما يملك وبطلانه فيما لا يملك....................................... ٤٠٠
في تقسيط الثمن.............................................................. ٤٠١
في كيفية التقسيط............................................................. ٤٠٢
في بيع الوكيل والولي ونحو هما.................................................... ٤٠٣
في تعيين الأولياء.............................................................. ٤٠٥
لا ولاية للام مطلقا............................................................ ٤٠٦
في ولاية عدول المؤمنين........................................................ ٤٠٨
في أحكام التقاص............................................................. ٤٠٩
في تولى طرفي العقد............................................................ ٤١٦
في اقتراض الولي من مال اليتيم.................................................. ٤٢١
في عدم امتلاك الكافر العبد المسلم.............................................. ٤٢٢
جواز امتلاكه إذا كان ينعتق عليه................................................ ٤٢٦
استيجار الكافر للمسلم....................................................... ٤٢٧
رهن العبد المسلم عند الكافر................................................... ٤٢٧
يجبر الكافر على بيع العبد المسلم أو المصحف.................................... ٤٢٨
في شرائط العوضين............................................................ ٤٢٩
ان يكون العوضان عيناً........................................................ ٤٢٩
ان يكونا مملوكين لمن له البيع والشراء............................................. ٤٣١
في منع بيع دور مكة واجارتها................................................... ٤٣٣
ان يكون المبيع مقدوراً على تسليمه أو يضم إليه ما يصح بيعه
منفرداً كما في العبد الآبق ٤٣٤
ان يكون طلقا ، فلا يصح بيع الوقف مطلقا..................................... ٤٣٨
موارد جواز بيع الوقف......................................................... ٤٤٤
في عدم جواز بيع أم الولد...................................................... ٤٤٨
موارد جواز بيع أم الولد........................................................ ٤٥٤
المسألة السادسة ـ عدم جواز بيع الرهن. وبيع الجاني على تفصيل.................... ٤٥٨
من الشروط المعتبرة معلومية العوضين............................................. ٤٥٩
في اشتراط العلم بالثمن قدراً ووصفاً وجنساً....................................... ٤٦٠
في عدم جواز بيع الجزاف...................................................... ٤٦٣
في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد............................................... ٤٦٦
في تعيين يوم الضمان في المقبوض المضمون....................................... ٤٦٨
في المراد بالمكيل والموزون........................................................ ٤٧١
في بيع المكيل موزوناً وبالعكس.................................................. ٤٧٢
في عدم كفاية كيل أو وزن مجهول................................................ ٤٧٤
في بيع الجزء المشاع............................................................ ٤٧٨
في بيع المشاهد............................................................... ٤٨١
في اعتبار الاختبار فيما يراد طعمه أو ريحه........................................ ٤٨٣
في بيع المسك في فأره.......................................................... ٤٨٥
في بيع سمك الآجام........................................................... ٤٨٧
في بيع الجلود والأصواف على الانعام............................................ ٤٩٠
في بيع المظروف مع ظرفه....................................................... ٤٩٣
|