أنسنة الفكر والشعور

سيبقى حوار الإناسات المتباينة طبقاً لتباين الانتماء والفكر هو الآلية الأرجح قبولاً من الصراع ; لإمكانية العثور على حلول مشتركة تتقاطع فيها المشاعر والآمال والمصالح الإنسانيّة طرّاً ..

الإناسة محكومة بنبض الحياة والتواصل والتقايض ، المتمحّضة في الممارسة الخالصة ، وليدة رحم الفكر والمنهج ..

إنّ أشد ما نخشاه في هذا السياق ونهابه ونتوجّس منه بل يبقى هاجسنا المثير : أن ننزلق أكثر إلى هاوية الشعار والرمزيّة ونبكي أملاً لم يتبلور أو ماضياً نقتات على مائدة فخره وعزّه كما بكينا ولازلنا على حضارتنا وتراثنا دون أن نفعل شيئاً لحالنا وغدنا ، فلا نحاكي ولا نراجع ولا نحفر ولا نتمسّح ، بل تغوينا أحلام البطّالين المفترشين حواشي الطرقات المعرفيّة ، علّنا نعود من جديد ..

أبداً لن نحصد الغضاضة والنضارة ولن نستعيد مجدنا إلاّ باسترجاع قدم السبق وزمام المبادرة بلامكابرة وقفز على الحقائق .. ولا أمل في كلّ


ذلك ما لم نستعيد إنسانيّتنا من جديد .. وهذا ما لا يحصل إلاّ بأنسنة الفكر والشعور ، ولا يخفى ما في بحث «الأنسنة» من سعة تضيق بها إشارتنا الخاطفة هذه ..


ممّا قيل في الفكر والمنهج

كلٌّ يفكّر بحسبه ، وهذا أمرٌ طبيعي .. والقداسة إنّما تحوم حول «الفكر» فالفكر هو الحياة ولا حياة بلا فكر ، إنّه الخطاب وإن صمت ، خطابٌ إثر قراءة وتلقٍّ عُجِنا بمعاجن العقل فاختمرا بممارسة الوظائف طبق الأدوات المعهودة من التحليل والمراجعة والحفر والمقارنة والاستقراء والاستنطاق والاستنباط ، وعلى حدّ قول أرسطو : «لا يوجد شيء في الذهن إلاّ ويكون قد سبق وجوده في الحواسّ» فإنّ ذلك يعني كما ترى مي زيادة : إنّ كلّ فكر من أفكارنا تكوّنه تأثيرات آتية توّاً من الخارج أو متجمّعات في خاطرنا من بقايا تذكّرات ماضيات انتقلن إلينا بواسطة إحدى الحواسّ الخمس ... هذا هو الثبوت ..

ولمّا يرسل الفكر إشعاعه وأنواره بآليّاته المختلفة ويبثّ حصيلة مادار في أروقة العقل من عمليّات ومراحل ، وينشر على البشريّة رواشحه وعصاراته .... فهذا هو الإثبات ..

ويبقى الفكر فعّالاً ينتج ويصحّح ويجدّد ويبلور وينذر ويستبدل ويؤصّل ويوثّق وينقد ، فهو ماء الحياة وأثيرها ، شهيقها وزفيرها ، فكيف


لها أن تدوم بدونه .... إلاّ أن تنزع الإنسانيّة لباسها وتخلع حلّتها وتنسى أنّها عقلٌ وجوارح ; فتصطفّ في صفّ البهائم ، همّها علفها ليس إلاّ ..

الفكر هو أرقى وأسمى مراحل الإنتاج الإنساني مطلقاً ، وعدم الخلط بينه وبين التفكير واضح ; إذ الثاني عمليّة يمارسها النوع البشري كلّ آن ولحظة ، سواء باستخدام الأدوات المعرفيّة والعلميّة أم بدونها ، وقد لا يتعدّى محيط صاحبه بجزئيّات حاجته وافتقاره ، بينا الفكر ـ الذي هو حاصل الجهد المعرفي العلمي بأرفع مراتبه وأدواته ـ يغطّي أكبر مساحة ممكنة من الوجود الإنساني ، فيخلد ويخلّد صاحبه ..

وكيف لا يسمق الفكر ولا يشمخ وهو «الكائن الحيّ الذي يصنع اللغة واللسان ، الكائن الذي يلفظ حتى في حال صمته ، الدافع الأكبر لإبقاء الحياة شريفة مهيبة ، فلولاه لما استحقّ الوجود عناية ، ولكانت حياتنا كالخابية الفارغة» ..

«الفكر أضخم وأغور ممّا ركز في جمجمة الرأس ومن المنطق السليم ومن العقل المحاسب فينا ، إنّه الأبحّ في الطول والعرض والعمق ، الرفّاش الهائل الذي يجرف دفعةً كلّ هذا ، إنّه الذي يتناول مافات وما حضر وما هو آت من حياة الإنسان ، الذي يستقطب كلّ نواحي اللطيفة البشريّة على أنّها وحدة لا تتكسّر ، لا تتجزّأ ، وما هو إلاّ النظرة الشاملة في الوجودين الأكبر والأصغر ، إنّه الفكر العقائدي الفلسفي الذي يشارك الله من باب «كوني فكانت» ; بفضل هذا الفكر العقائدي تشرف الحياة


ويتمندل الوجود .. ولهذا يكون «الفكر أقوى من المفكّرين ، فيخلد ويخلّدهم على الرغم ممّا قد يشوبهم من ضعف الأخلاق والشخصيّة» ..

«الفكر أقوى وأمضى سلاح على الإطلاق يملكه الإنسان في حربه مع المجهول ، فلولا الفكر الذي يعمل ويتأمّل في السكينة لكنّا لا نزال قابعين في غياهب المغاور .. وهذا السلاح يصدأ بالإهمال وقلّة الاستعمال ، أو في الاستعمال في غير الأغراض التي من أجلها وُجِد .. ونحن عندما نكثر الكلام في توافه الاُمور إنّما نسدّ المنافذ إلى جليلها ، فنعطّله عن العمل المثمر بدلاً من أن نشحذه وندفعه .. ونحن إذ نُلهي الفكر بالقيل والقال فكأ نّنا نسخّر العاصفة لنقل قشّة من هنا إلى هناك ، والصاعقة لقتل ذبابة أو بعوضة .. ومثلما لا يتمّ الحمل ولا ينمو الجنين إلاّ في سكينة الأرحام وظلماتها كذلك لا يحبل الفكر بعظائم الاُمور إلاّ في سكينة الخلوات والتأمّلات» ..

«الأصل في الفكر إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم هو أن يكون حواراً بين «لا» و «نعم» وما يتوسّطهما من ظلال وأطياف ، فلا الرفض المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ولا القبول المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ففي الأوّل عناد الأطفال ، وفي الثاني طاعة العبيد» ..

«ليس الفكر ترفاً يلهو به أصحابه كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجل أراد أن يقتل فراغه ، بل إنّ الفكر مرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياةً يكتنفها العناء ، فيريدون لها حلاًّ حتى تصفو لهم المشارب


وبمقدار ما نجد الفكرة على صلة عضويّة وثيقة بإحدى تلك المشكلات نقول : إنّها فكرة بمعنى الكلمة الصحيح» ..

و «الفكر الإسلامي يوجب على معتنقيه النظر والتبصّر والاعتبار بتقلّبات الزمن ، والبحث المستمرّ عن اتّجاهات الحياة ، ومحاولة التحكّم في سير الأشياء وفقاً لما تستدعيه مصلحة الإنسان الذي اُنزل لهذه الأرض كي يخلف الإله فيها بالعمارة والإصلاح ..

إنّ الفكر الإسلامي يعني الانتباه والحذر والحركة الدائبة والتجديد المستمرّ في الاُسلوب وخصوصاً في الآلة النفسيّة التي تبعث على انتحاله ، وفي الحركة وخصوصاً في فهم العوامل الداخليّة والخارجيّة التي تدعو إليها .. وهو أكثر من ذلك : وازع الثورة على الخمود والاستنكار للجمود والابتلاء بروحانيّة العمل والكفاح للتمتّع بالحقّ والشعور بالعدل وتذوّق معاني الحرّيّة ..

فكرنا الإسلامي يجب أن يتّجه اليوم قبل كلّ شيء إلى إصلاح حالتنا وتحرير اُمّتنا من عبث الذين يعيدونها للخرافات والأوهام ، وإنقاذها من كثير من التقاليد البالية التي تمنعها من التقدّم والرقي ، وتحول بين عقلها وبين التفتّح لأسرار الكون ومعالم الإيمان ، وتمنعها من تغيير ذهنيّتها التي تكوّنت تدريجيّاً في عهد الانحطاط الأخير ، وتكييفها على الصفة التي تقتضيها روح العصر ومقوّمات العهد الجديد ، ثم مقاومة كلّ ارستقراطيّة قائمة على سيطرة المال وعبادة المال ; لأن هذه الارستقراطيّة


هي التي تكوّن أصنام الأحياء على صور «عجل الذهب الموسوي» ، وهؤلاء لا يقبلون متى تحكّموا في المجتمع إلاّ أن تسخّر لهم الشعوب وتخضع لهم الرقاب ..

إنّ الفكر الصحيح الذي تحتاجه الاُمّة ويمكنه أن ينقذها من مصائبها ليس هو تفكير الشارع الذي يُبنى على اُصول عادية تتلقّاها كلّ يوم من مختلف الأوساط والهيئات التي لا ندريها ، ولكنّه فكر الطبقة المتنوّرة التي تستطيع أن تقلب الأشياء على وجوهها وتنفذ إلى أعماقها ..

إنّ الفكر الحرّ لا يستطيع أحد أن يقيّده ، ولم يجعل الله لأحد سلطاناً على حركة الإنسان الداخليّة ، هكذا تعوّد الناس أن يقولوا ، ولكن هذه الحرّيّة التي يحمدون الله عليها لا قيمة لها إذا لم يكن لها الحقّ في أن تظهر للناس ، أي في أن تعطي لصاحبها حقّ التظاهر بما يعنّ له من فكر ، والإعراب عمّا يخطر بباله من رأي .. إنّ عدم الإعراب عن أفكارنا من أهمّ أسباب خنق هذه الأفكار ، وإذن فهو من أعظم وسائل الغصب لحرّيّة التفكير ، وإنّ الخاصّة من ذوي الفكر أنفسهم لا يجدون متعة بأفكارهم إذا لم يُسمَح لهم بالإعراب عنها ، بل قصارى حالهم أن يتعوّدوا الكبت الذي يفقدهم تدريجيّاً عادةً النظر بما يستصحبها من آلام وأكدار ..

إنّ الفكر الرفيع هو الذي يستطيع التحرّر من القيود التي تحيط به من جميع جهاته ، ويسمو في آفاق النظر العالي ; ليشرف على كلّ الأشياء من المحلّ الأرفع كما يعبّر ابن سينا ، ثم ينفذ ببصيرته الخارقة إلى مواطن


الأشياء فيستجليها ثم يقارنها بالظواهر ويستغرق في نظرته الشاملة مجموع ذلك كلّه ، ليستغرق الفكرة التي يبديها للناس غضّةً يانعةً غير مهتمّ بالذين لا يلقون لها بالاً أو بالذين يعتبرونها خارقة للمألوف أو خارجة عن حدود المعقول» ..

«لقد كان الفكر العربي فكراً عربيّاً خالصاً ـ إلاّ قليلاً ـ في الجاهليّة من حيث طبيعته ومن حيث لغته ، أمّا في الإسلام فنحن نسمّيه فكراً عربيّاً على نوع من التجوّز ، وهو في الواقع فكر اُمم مختلفة اتّخذت اللغة العربيّة أداة لتفكيرها ، وهو فكر العرب وفكر الفرس وفكر الروم وفكر المصريّين ، مُزج كلّه مزجاً قويّاً واتّخذ اللغة العربيّة أداته واتّخذ الإسلام أساسه» ..

«الفكر والحسّ شرطان للخلود في كلّ رائعة إنسانيّة ، ولا نعني بالفكر جفاف المنطق ، بل مدّاً في العقل إلى مراتع الجمال ، ولا نعني بالحسّ رخاوة المتميّع ، بل حناناً في القلب إلى مضارب الحقّ .. الفكر والحسّ في ناطحات الوجدان اقنوم واحد ، هناك فوق تلك الحافّات اللاهبة يتعانقان ، هناك تنقلب الإنسانيّة بهما من شحيح الواقع إلى سخاء المجاز ; نقول هذا لأنّ الحسّ لا يبدع في النفس كألفاظ مجرّدة ، وإنّما يدور دورته الخلاّقة بالدلالات التي يشير بها إلى الحقّ الأكبر ، وهل تبطل اللفظة عن أن تكون حسّاً إذا عنت حقائق إنسانيّة عالية؟! ونقول هذا أيضاً لأنّ الفكر لا يبدع في النفس كفِكَر مجرّدة فقط ، وإنّما يدور دورته الخلاّقة بالقلم المعسول ، أي بالكلمة الجميلة ، وهل تبطل الفكرة عن أن


تكون فكرة إذا تكلّمت في بيان مجلو؟!

متى ابتعد الحسّ عن ترّهات الوجود محلّقاً في دهاليز النفس ... في سراديبها ... تناول هذا الوجود كأكثر ديباجة قاموسيّة ، تناوله من جهة الحقّ الذي ينير .. ومتى أغار الفكر على المعطيات البادئة على ألفباء الكائنات ... نظر إلى الوجود من وراء عينيه ، ليراه بأجفان الحالم ، أي بعصبيّة العاشق ، لهذا ينتهي البيان ..

الحسّ الكبير لا يرضى بما يحدّ إطاره فلا يبدأ ، والفكرة الكبيرة لا تقنع بما ينتهي فلا يعاد ، إنّ معناها الأسمى هو في البادئ المعيد ، نعني في مجاز الحقيقة لا في الحقيقة ذاتها ..

الحسّ لا يفتأ يتلمّح غيباً في كلّ حاضر ، والفكر لا يبرح يضرب في مجاهل كلّ معلوم ، حتى يلتقيا أمام الباب الموصود ، الذي لئن أتيته من جهة القلب أو من جهة العقل إنّه هو هو من حيث جئته ، وتمتدّ اليدان إلى المفتاح العجيب ، حتى إذا لمستاه احترقت الأصابع وترمّدت فوق العتبة الغريبة .. هناك يصبح كلّ شيء رؤية ، والرؤية بلاغة» ..

و «لئن كان الإنسان اُعجوبة الخليقة كما يقولون وكان فكر الإنسان أعجب ما في الإنسان ، فإنّ هذا الفكر قد أبدع عجائب ثلاثاً جعلت للحياة معنى ورونقاً جديدين ، وتلك العجائب الإنسانيّة هي : الكلمة والحرف والمطبعة .. من يستطيع أن يتصوّر الحياة خالية من الكلام؟ نعم ، السكوت جميل ، وله أسرار هي حيناً مرعبة كظلمات اللجج ، وآناً لامعة كمُقل


الكواكب في الدُّجى ، ولكنّه كلام في ذاته ، كلام تهمس به النفس بلا صوت ولا حركة ، وما السكوت القهري إلاّ بكم أو نوع من البكم» ..

إنّها أشبه برحلة خاطفة محدودة في مكانة الفكر وشموخه وشريانيّته وعظيم نتاجه وسابغ أفضاله على الإنسانيّة ..

أمّا «المنهج» فهو رائعة نتاجات الفكر المتلألئة على غرّة العلم وجبين المعرفة وهامة الحضارة ..

ومهما عنينا بالمنهج ـ سواء الرحماني منه أو الطبيعي ـ فالمفروض أنّه النظام الذي لا يستحيل عليه شيء ; إذ إنّه ـ طبق التصوّر العلمي قد تجاوز بالمراجعة والمقارنة والحفر والاستقراء والبعثرة والاستنطاق والبلورة والاستنتاج ـ المشكلة الزمكانيّة ، ويبقى ـ مع حفظ الاُسس والاُصول ـ يستجيب للمستحدثات ويتعامل مع الأخطاء والهفوات والفجوات ويصنع البديل .... وإلاّ فَقَدْ فَقَدَ عنفوانه وتزلزت الأرض من تحت أقدامه وفقد دواعي وجوده ..

«فالمنهج المعهود ـ كما نرى ـ هو منهج الحياة كلّها ، صديق العلم الحميم ، المرحّب بالمزيد منه ، وهو يشكّل الإطار العام الذي يتحرّك فيه العلم ويعمل به العقل بكلّ أمان واستقرار ، الإطار الذي يصنعه «مَن» يعلم بالإنسان وفطرته وطاقاته وحاجاته الحقيقيّة وخفاياه ، الإطار الذي تواصل به البشريّة حركتها النامية المتجدّدة آمنة سالمة» ..


«إنّ المنهج عندنا يساوق الحقيقة ولا انفصام بينهما وغير منهجنا ـ منهج الإسلام ـ لا يمكن أن يحقّق الإسلام في النهاية ... فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة والنظام في كلّ حركة إسلاميّة» ..

ولا يمكن لنا والحال كذلك أن نقبل بـ «أن يجعل الإسلام نفسه نظريّة للدراسة تخرج به عن طبيعة منهج التكوين والتفكير الربّاني ، فنُخضعه لمناهج التفكير البشريّة وكأ نّه أدنى منها!! وكأ نّما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصوّر والحركة ليوازي مناهج العبيد!! فالأمر حالئذ خطير والهزيمة قاتلة» ..

إنّ المنهج الربّاني :

مادام يعطينا منهجاً خاصّاً في التفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهليّة السائدة في الأرض والتي تضغط على عقولنا وتترسّب في ثقافتنا ...

ومادام يرفض بنا الرفض الأعمى والطاعة العمياء ، ويدعونا إلى التأمّل والتدبّر والتؤدّة والتمييز والتحليل وإيجاد الحلول للمشاكل على أرقى وجه ، وتنظيم الأفكار وسوقها سوقاً منظّماً بدءاً بصغار الاُمور ثم كبيرها ، والاستقراء الوافي العلمي ..

ومادام لا يرفض المنهج الطبيعي إذا عمد هذا الأخير إلى الانسلاخ من الأنانيّة والتمرّد الذي قام به على المنهج الربّاني ; ولاسيّما بعد بلوغ العلم مرحلة التقنيّة الحديثة «التكنولوجيا» وبزوغ نجم «نظريّة


الاحتمال» التي طغت على كلّ مراحل النهضة التجريبيّة منذ جاليلو ونيوتن إلى يومنا هذا ، النظريّة التي تُخرِج الكون عن مبدأ «الميكانيكا» إلى مبدأ وجود القوّة المسيطرة العليا الخارجة عن نطاق الكون والطبيعة .. مع الاعتراف الخجول بذلك البزوغ الذي تقابله المحبّة الرحمانيّة حيث يمكن أن يؤدّيا إلى نتائج مشتركة تزيل ذلك الالتباس والفهم الخاطئ والتردّي الحاصل على مستوى الإيمان والإنسانيّة ، الأمر الذي لاحت بوادره الخيّرة من هنا وهناك ....

فمادام المنهج الرحماني كذلك ، مادام يمتلك قوى البقاء والكفاح والإبداع والانتشار ، مادام بإمكانه احتضان المنهج الطبيعي وضمّه إلى حظيرته طبق الصفقة المذكورة أعلاه .... فهذا يعني بلوغ البشريّة مرحلةً من أشرف مراحل التفاهم والوئام التي تذيب حواجز الكراهيّة المعرفيّة وتمهّد للمحبّة الفكريّة والإنسانية المفعمة بالقيم والأخلاق والإيمان والروحانيّة ..


ممّا قيل في : الحداثة ، الأصالة ، المعاصرة ، الإبداع ،

التجدّد والتجديد ، التقليد ، العقلانيّة

الحداثة

يقول محمّد عابد الجابري : الحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى ما نسمّيه بـ «المعاصرة» أعني : مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي ..

صحيح أنّ من شأن الحداثة أن تبحث عن مصداقيّة اُطروحاتها في خطابها نفسه ، خطاب «المعاصرة» وليس في خطاب «الأصالة» الذي يُعنى بالدعوة إلى التمسّك بالاُصول واستلهامها ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترتفع بعد إلى هذا المستوى ، فهي تستوحي اُطروحاتها وتطلب المصداقيّة لخطابها من الحداثة الاُوربيّة التي تتّخذها اُصولاً لها ...

وإذن ، فطريق الحداثة عندنا يجب ـ في نظرنا ـ أن ينطلق من


الانتظام النقدي في الثقافة العربيّة نفسها ; وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل .. لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أوّلاً وقبل كلّ شيء : حداثة المنهج وحداثة الرؤية ، والهدف تحرير تصوّرنا لـ «التراث» من البطانة الايديولوجيّة والوجدانيّة التي تضفي عليه داخل وعينا طابع العامّ والمطلق وتنزع عنه طابع النسبيّة والتاريخيّة ..

من هنا خصوصيّة الحداثة عندنا ، أعني دورها الخاصّ في الثقافة العربيّة المعاصرة ، الدور الذي يجعل منها بحث «حداثة عربيّة» والواقع أنّه ليست هناك حداثة مطلقة ، كلّيّة وعالميّة ، وإنّما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر ..

وبعبارة اُخرى : الحداثة ظاهرة تاريخيّة ، وهي ككلّ الظواهر التاريخيّة مشروطة بظروفها ، محدودة بحدود زمنيّة ترسمها الصيرورة على خطّ التطوّر .. فهي تختلف إذن من مكان لآخر ، ومن تجربة تاريخيّة لاُخرى ..

يقول محمّد أرگون : الحداثة ليست معاصرة زمنيّة أو تزامنيّة ، وإنّما هي موقف فعلي وتوتّر روحي معيّن قد يوجد في أقدم العصور وقد لا يوجد بين معاصريك الذين تأكل معهم وتشرب يوميّاً ..

ويقول الجابري أيضاً : كلاّ ، ليست الحداثة موقفاً فرديّاً إلاّ من حيث ارتباطها بانبثاق روح النقد والإبداع داخل ثقافة ما ، باعتبار أنّ النقد


والإبداع كليهما عملٌ فردي يقوم به أفراد بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعة .. ولكن مع ذلك فهي ليست انكفاء على الذات .. إنّ الحداثة هي

ـ على الرغم من الأهمّيّة التي تعطيها للفرد كقيمة في ذاته ـ ليست من أجل ذاتها ، بل هي دوماً من أجل غيرها ، من أجل عموم الثقافة التي تنبثق فيها .. الحداثة من أجل الحداثة لا معنى لها .. الحداثة رسالة ونزوع من أجل التحديث ، تحديث الذهنيّة ، تحديث المعايير العقليّة والوجدانيّة وعندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تراثيّة فإنّ خطاب الحداثة فيها يجب أن يتّجه أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى «التراث» بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصريّة عنه ..

واتّجاه الحداثة بخطابها ، بمنهجيّتها ورؤاها ، إلى التراث ، هو في هذه الحالة اتّجاه بالخطاب الحداثي إلى القطّاع الأوسع من المثقّفين والمتعلّمين ، بل إلى عموم الشعب ، وبذلك تؤدّي رسالتها .. أمّا التقوقع في فرديّة نرجسيّة فإنّه يؤدّي حتماً إلى غربة انتحاريّة ، إلى التهميش الذاتي ..

يقول علي حرب : إنّها ـ الحداثة ـ بحسب ما نفكّر فيها ونصنعها خلقٌ مستمرّ نتغيّر به بقدر ما نغيّر العالم ، ونصنع أنفسنا بقدر ما نصنع الأحداث ... ولأنّ الحداثة خلقٌ مستمرّ ورؤية إشكاليّة وتجربة لا تكتمل ، فهي موقف نقدي من الذات والحقيقة والفكر يتيح الخروج عن المراجع والنماذج أو كسر الاُطر والقوالب ، سعياً دوماً لبناء إمكانات جديدة للفكر والقول والعمل ..


يقول علي أحمد سعيد (أدونيس) : تولّدت الحداثة تاريخيّاً من التفاعل أو التصادم بين موقعين أو عقليّتين ، في مناخ من تغيّر الحياة ، ونشأة ظروف وأوضاع جديدة .. ومن هنا وصف عدد من مؤسّسي الحداثة الشعريّة بالخروج .. كان معظمهم إمّا من أصل غير عربي ، وإمّا أنّهم مولدون من أب عربي واُمّ غير عربيّة ..

ونشؤوا إلى ذلك في وسط اجتماعي فقير ، عبيداً أو موالي ، وهكذا اندفعوا لإثبات وجودهم في المجتمع العربي .. وفي سبيل ذلك تسلّحوا بأقوى الأسلحة العربيّة : اللغة والدين .. أمّا اللغة فأتقنوها أكثر من أهلها ، ممّا كذّب نظريّة الطبع أو الفطرة .. وأمّا الدين ففسّروه تفسيراً يلائم تطلّعاتهم في الحياة التي استجدّت ، نزعوا عنه القرشيّة العروبويّة ، وأعطوه طابعاً إنسانيّاً اُمميّاً (شعوبيّاً) ، قائلين : إنّ الإسلام يؤاخي بين البشر ويتجاوز الأجناس والعصبيّات .. هكذا وجدوا أنفسهم طبيعيّاً في موقع يناقض النظام القائم ، من جهة لأ نّه يقوم على العنصريّة أي على اللامساواة ، ويناقض من جهة ثانية التقاليد التي يتبنّاها النظام ; لأ نّها تقاليد السلطة الموروثة لا تقاليد الحياة الناشئة ، ويناقض أيضاً التقاليد الأدبيّة ; لأ نّها هي أيضاً التقاليد التي يرثها النظام ويشيعها ويرسّخها .. وتبعاً لذلك وجدوا أنفسهم طبيعيّاً في موقع من يبتكر تعبيراً يلائم الحياة الجديدة أو التي يطمحون إليها ويتطابق معها ، أي أنّهم وجدوا أنفسهم في موقع التجديد ..


ويقول أيضاً : إنّ لهاجس الحداثة جذوراً في نتاج أبي نوّاس وأبي تمّام ، وفي كثير من النتاج العربي العلمي والفلسفي (الرازي ، ابن الراوندي ، ابن رشد) والصوفي ; ذلك أنّ الخاصّيّة الرئيسيّة التي تميّز هذا النتاج هي إدانة التقليد أو المحاكاة ورفض النسج على منوال الأقدمين ، والتوكيد على التفرّد والسبق وعلى الابتكار ..

وممّا يزيد في أهمّيّة الهجس بالحداثة وعمقه لدى أسلافنا هؤلاء هو أنّه لم يأت مصادفة أو بشكل مجّاني ، وإنّما كان يرتكز إلى نظرة جديدة ، من عناصر هذه النظرة مثلاً : نشوء مفهوم للزمن عندهم يغاير المفهوم الديني ، وفي نتاجهم نقد لمفهوم الزمن الديني نشأ ما يناظره في اُوربّا فيما بعد حين نقد مفهوم الزمن كماترى إليه المسيحيّة ..

ونعرف جميعاً أنّ هذا النقد كان في أساس الحداثة العربيّة .. وهكذا أدخلت نظرة أسلافنا اُولئك إلى الحياة العربيّة بعد العلم ، أي أنّها أحلّت حركيّة التقدّم محل سلفيّة الاُصول .. ربما أنّ هذا البعد يمتزج حكماً بالعقل فقد صار هاجس الحداثة عندهم محكوماً بفكرة التجاوز ..

وتعني هذه الفكرة على صعيد الإبداع ـ وبخاصّة الشعري ـ أن يعيش المبدع دائماً في حركة تدفعه إلى أن يكون دائماً غير ذاته وغير الآخرين .. فكأ نّها تقول له : لكي تظلّ موجوداً باستمرار لابدّ لك من أن تتجاوز نفسك وغيرك باستمرار .. من هنا تغيّر تبعاً لذلك موضوع النقد ، لم يعد يستند إلى حقيقة ماضية ثابتة يعود إليها دائماً ، إنّما أصبحت الحقيقة نفسها نقداً ، وأصبحت مرادفة للتغيّر ..


يقول جابر عصفور : ابتداءً تنبثق الحداثة من اللحظة التي تتمرّد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك ، سواء أكان إدراك نفسها من حيث هي حضور متعيّن فاعل في الوجود ، أو إدراك علاقتها بواقعها من حيث هي حضور مستقلّ في الوجود ..

على المستوى الأوّل تبدأ الحداثة من انقسام الوعي المتمرّد على نفسه ليصبح ذاتاً فاعلة وموضوعاً منفعلاً ، ذاتاً فاعلة تعيد إنشاء موضوعها الذي هو هي من ناحية ، وتعيد صياغة أدوات إنتاج معرفتها بهذا الموضوع من ناحية اُخرى ..

وعلى المستوى الثاني فإنّ الوعي المنقسم على نفسه ينشقّ على واقعه ، فيتمرّد على أدوات إنتاج المعرفة السائدة في هذا الواقع وعلاقاتها ، ويبحث عن أدوات جديدة يؤسّس بها معرفة مغايرة ، تحرّره في علاقته بنفسه على المستوى الأوّل ، وعلاقته بواقعه على المستوى الثاني .. ولا يتمّ هذا التمرّد إلاّ بنوع من الوعي الضدّي ، ينبع من الإحساس بأنّ ما اُنجز لم يعد يكفي ، وأنّ ما هو واقع يمثّل عائقاً أمام تشوّق الأنا وأحلامها ، وأنّ القيود صارت كثيرة ، وأنّ الهويّة تتمزّق بين نقيضين أو نقائض متكثّرة ، وأنّ الاُفق يخايل بالوعد ..

ويقول أيضاً : من المؤكّد أنّنا لسنا إزاء حداثة واحدة لها تجلّيات متنوّعة ، كأ نّها الروح الهيجلي الذي يتجلّى في أشكال مختلفة المظهر ثابتة الجوهر ، ولسنا إزاء عناصر ثابتة مطلقة واُخرى متغيّرة نسبيّة داخل


حداثة كونيّة واحدة مفارقة كأ نّها الاُجروميّة المتعالية لمّا أطلقت عليها البنيوية الشكليّة مصطلح «أدبيّة الأدب» ..

إنّ وضع فعل الوعي الذي يصوغ الحداثة داخل سياقه التاريخي يؤكّد أنّنا إزاء حداثات متعدّدة على المستوى المتزامن (السينكروني) والمتعاقب (الدياكروني) على السواء ، أعني إزاء حداثات تتعدّد ، متوازية ، في العصر الواحد ، بتعدّد الشروط الخاصّة بكلّ مجتمع على حدة .. وإزاء حداثات تتعدّد ، متعاقبة ، في العصور المتتابعة ، بتعدّد المراحل التاريخيّة المتغايرة ..

كما يقول : إذا كانت الحداثة تعني ـ فكريّاً وعلميّاً ـ البحث الذي لا يتوقّف لتعرّف أسرار الكون وتعمّق اكتشاف الطبيعة ، والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها ، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض ، فإنّها تعني ـ اجتماعيّاً وسياسيّاً ـ الصياغة المتجدّدة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرّيّة ، ومن الاستغلال إلى العدالة ومن التبعيّة إلى الاستقلال ، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج ، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة ، ومن الدولة التسلّطيّة إلى الدولة الديمقراطيّة .. بذلك تجعل الحداثة الإنسان جديراً بالصورة التي كرّمه الله بها حين خلق آدم على صورته واستخلفه على أرضه .. وإذا كانت الحداثة تغيّر عالم هذا الإنسان فإنّها تسبق ذلك بتغيير إبداعه ...

إنّ الحداثة بهذا الفهم تبشّر بإنسان قدرته على التمرّد لا تفارق نهمه


في التعرّف وتساؤله الذي لا يتوقّف لا ينفصل عن تطلّعه الدائم إلى إبداع ..

يقول محمّد أرگون : الحداثة التكنولوجيّة ـ المصرفيّة تعني تهميش كلّ الأنبياء والقدّيسين واللاهوتيّين والفلاسفة والفنّانين والشعراء والأبطال التاريخيّين الذين عاشوا في الماضي وقدّموا للبشريّة خيرة ما عندهم .. إنّها تعني احتقارهم أو الاستهزاء بهم ورميهم في سلّة الماضي لكي يصبحوا مادّة للتبحّر الأكاديمي الجاف أو للنسيان الكلّي والنهائي ..

ولذا فإنّني أقول : ينبغي على الحداثة كمشروع إنساني أن تصحّح إرادة المعرفة الهادفة إلى السيطرة والاستغلال والهيمنة .. ولكن كيف؟ عن طريق الإدخال الفعلي ، أي الفلسفي والقانوني ، لحقوق الروح في حقوق الإنسان ، فقد تحوّلت هذه الأخيرة إلى مصطلح مؤدلَج أكثر من اللزوم ، بل ومستهلك وفاقد لروحه .. فالغرب يرفعه كشعار ايديولوجي للضغط على الآخرين أكثر ممّا يتقيّد به عندما يتعامل مع الآخرين ..

يقول برهان غليون : إنّ المشكلة ـ بعكس ما يقال حتى الآن ـ لا تكمن في الحضارة ولا في التراث ، وإنّما تكمن في النظام الثقافي الذي طوّرناه نحن في القرون الحديثة من أجل استيعاب هذه الحضارة وهذا التراث ..

إنّها تكمن في فاعليّتنا ، أو بالأحرى لا فاعليّتنا الثقافيّة والعقليّة الحديثة .. فلم يكن تراث أسلافنا البدوي أغنى أو أعظم قيمة من تراث


الجماعات الكبرى التي كانت محيطة بهم ، ولم تكن حضارة هاتيك الجماعات أقلّ قوّة وتنوّعاً ممّا يحيط بنا اليوم بالمقارنة مع البداوة .. ومع ذلك فقد تمكّنوا من هضم حضارات عصرهم ..

إنّ المشكلة إذن تكمن في الحداثة الثقافيّة ذاتها .. والحداثة لا تعني الحضارة بشكل عام ، وإنّما تعني العقل الذي وجّهنا إلى أخذ ما أخذناه ونأخذه من هذه الحضارة ، أو إلى ما اعتبرناه حتى الآن أساساً لخروجنا من الوضعيّة الدونيّة التي وضعنا فيها صعود الغرب إلى مركز العالميّة .. بل إنّ تفكيك ثقافتنا وإفقارها ليس هو ذاته إلاّ ثمرة لهذه الحداثة ونتيجة لها .. وإذا تحوّلت الثقافة القديمة أو تحوّل التراث إلى عنصر مقاومة للعصرنة ، فذلك لأنّ الحداثة كانت ومازالت تعني التبعيّة المادّيّة والاستلاب الروحي والثقافي والشقاق الاجتماعي وتكوين مجتمع حديث مرتبط بالخارج ومعادي للمجتمع المحلّي .. أي لأ نّها ومازالت اغتراباً تاريخيّاً حقيقيّاً وتراجعاً وتحلّلاً للذات العربيّة ..

ويقول أيضاً : هكذا تُطرَح في نظرنا مسألة الحداثة .. فهذا الإخفاق المتجدّد والدائم في استيعاب الحضارة هو المصدر الأساسي والوحيد لاستمرار الحديث عن الهويّة والمعاصرة والصراع بينهما ; لأ نّه بقدر ما يجعل الحداثة الفعليّة والمنتجة مستحيلة ، أي بقدر ما يمنع الحداثة من أن تكون حضارة ومدنيّة ، ويحوّلها إلى وسيلة من وسائل الصراع الاجتماعي ، يزيد قوّة التفكّك والانحلال ، ويعمّق الاستلاب ومحو الشخصيّة ، ويدفع إلى تفاقم مشكلة الهويّة والعودة إلى الاُصول كحلّ


شكلي وحيد لها ; إذ ليس للهويّة حلّ بدون النجاح في الوصول إلى مشاركة إيجابيّة في الحضارة ، وهذا أساس ومصدر الشعوب بالذاتيّة الفاعلة والتاريخيّة .. وليس الوصول إلى هذه المشاركة من طريق سوى تأكيد الذاتيّة والهويّة ، أي تحقيق الوعي بالذات والكشف عن تناقضاتها وحلّها وإيجاد الصورة المطابقة أو استخراجها منها .. فموضوع الهويّة لا يتعلّق في نظرنا بالتراث ولا بالحداثة ، وإنّما بتحديد العلاقة مع الآخر وبتمييز الذات عن الغير ، وهذا التمييز لا قيمة له إلاّ إذا كان من اُفق وضمن نطاق المشاركة في الحضارة القائمة ..

وليس الاستلاب بهذا المعنى إلاّ النتيجة المباشرة للتبعيّة للمشاركة السلبيّة والاستهلاكيّة المحضة في الحضارة .. وهذا من دواعي الشعور بالدونيّة ولا جدوى الذات ولا فاعليّتها ..

لذلك فإنّ السؤال الأساسي الذي يستحقّ الطرق هو : لماذا كان هناك تحديث ولم تكن نهضة؟ فبقدر ما تنفي الحداثة الذاتيّة وتعتقد أنّ التقدّم لا يتمّ إلاّ بالقضاء على التراث ، تبيّن النهضة أنّ الحضارة لا يمكن أن تكتسب وتستوعب إلاّ بتأكيد الذاتيّة .. إنّ النزاع القائم بين أنصار الهويّة وأنصار العصريّة يعكس إذن غياب مشروع النهضة وإمكانيّتها ، ويترجم هذا الغياب في نفي متبادل لعنصريها الأساسيّين ، أو لإمكانيّة التفاعل بين التراث والحضارة .. ولو كانت هناك إمكانيّة للتقدّم الفعلي لاكتشف التراثي قيمة الحداثة ، واكتشف الحداثي قيمة وأهمّيّة التراث ..


يقول حازم صاغية : كائناً ما كان التأويل المعتمد لـ «الحداثة» يبقى أنّ ولادة هذا المفهوم ارتبطت بولادة مفهوم «الفرد» أو أنّها جاءت من قبيل السعي الفكري إلى الإسراع في توليد الفرد الذي يكسر قوالب الجماعة ووحدتها المعلنة .. فلا يمكن للحداثة بهذا المعنى أن تكون دعوة جمعيّة أو قوميّة تعيد تدوير الفرد وإدراجه في كلّ مزعوم أكبر .. ويزيد في مفارقة الحداثة العربيّة أنّ سائر الدعوات القوميّة تردّ إلى عصور ذهبيّة أحدثها في الدولة الاُمويّة وأعتقها في سومر وبابل ..

إشكاليّة الأصالة والمعاصرة

يقول محمّد عابد الجابري : كثيراً ما تطرح إشكاليّة الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ، على أنّها مشكل الاختيار بين النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة ... إلخ ، وبين «التراث» بوصفه يقدّم أو بإمكانه أن يقدّم نموذجاً بديلاً أو أصيلاً يغطّي جميع ميادين الحياة المعاصرة ..

ومن هنا تصنّف المواقف إزاء هذا الاختيار إلى ثلاثة أصناف رئيسيّة :

مواقف «عصرانيّة» تدعو إلى تبنّي النموذج الغربي المعاصر بوصفه نموذجاً للعصر كلّه ، أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخيّاً كصيغة حضاريّة للحاضر والمستقبل ..


ومواقف «سلفيّة» تدعو إلى استعادة النموذج العربي الإسلامي كما كان قبل الانحراف والانحطاط ، أو على الأقلّ الارتكاز عليه لتشييد نموذج عربي إسلامي أصيل يحاكي النموذج القديم في الوقت ذاته الذي يقدّم فيه حلوله الخاصّة لمستجدّات العصر ..

ومواقف «انتقائيّة» تدعو إلى الأخذ بأحسن ما في النموذجين معاً والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة معاً ..

يقول ناصيف نصّار : تنطوي إشكاليّة الأصالة والمعاصرة على معنيّين متميّزين : معنى زمني ومعنى قيَمي ..

المعنى الزمني يحدّد الأصالة كرجوع إلى عهد قديم ونموذج قديم ، أو كاستعادة لعهد قديم ونموذج قديم ، والمعاصرة كانخراط في العصر الحاضر واندماج في حركته ..

والمعنى القيَمي يحدّد الأصالة كبحث عمّا هو أصيل وشريف ومفيد في ماضي القوم ، فيحسن الاتّصال به والاطمئنان إليه والتفاعل معه أو استلهامه ، لحلّ مشكلات الحاضر ، ويحدّد المعاصرة كبحث عمّا هو أفضل منجزات العصر وأمتنها ، وينبغي للقوم أخذه من الغير للمشاركة في مسيرة التقدّم البشري ..

والتحليل النقدي لإشكاليّة الأصالة والمعاصرة بالمعنى الزمني يظهر أنّها ليست أكثر من إشكاليّة زائفة ووهم خالص ; إذ لا وجود لإمكانيّة اختيار بين الأصالة والمعاصرة ، ولا لإمكانيّة الجمع بينهما ; فالوضع


الزمني لكلّ قوم هو العصر الذي يعيش فيه ، أي أنّه لا يملك أن يخرج من عصره ويرجع إلى عصر مضى ، ولا يملك أن يبعث الماضي ويعيشه من جديد .. كلّ قوم من الوجهة التاريخيّة ابن عصره ولاعب من لاعبيه ..

فدعوى الأصالة بالمعنى الزمني باطلة ، ودعوى الأصالة بالمعنى نفسه تحصيل حاصل .. وعلى هذا النحو تنهدم إشكاليّة الأصالة والمعاصرة ، ويتحتّم التخلّي عنها .. ولكن ذلك لا يعني تجريد القوم من الماضي ، ماضيه وماضي غيره من الأقوام .. فالتعامل مع الماضي بعدٌ من أبعاد انوجاد القوم في عصره ..

ومن هنا تنطرح إشكاليّة الأصالة والمعاصرة بالمعنى القيَمي .. كيف ينبغي أو كيف يحسن أن يتعامل القوم مع ماضيه الأصيل وتراثه؟ وكيف ينبغي أو كيف يحسن أو يتعامل مع القوى الفاعلة في العصر؟ هذان السؤالان ممكنان من الوجهة المنطقيّة ، وجديران بأن تبذل جهود لمعالجتهما .. فالأصالة بالمعنى القيَمي مسلك يسلكه القوم في توظيف تراثه في عصره لحلّ مشكلاته .. وكذلك المعاصرة ، فهي مسلك يسلكه القوم في انفعاله بتراث الأقوام الاُخرى الفارضة نفسها على مسرح التاريخ الحاضر ..

الأصالة

يقول محمّد عابد الجابري : إنّ الأصالة ـ مثلها مثل المعاصرة ـ لا تدلّ على شيء ، فهي ليست ذاتاً ولا واقعاً ، إنّها صفة أو سمة لكلّ عمل


يدوي أو فكري يبرز فيه جانب الإبداع بشكل من الإشكال .. فالإنتاج الأصيل قد يكون قديماً وقد يكون معاصراً .. والأصالة فوق ذلك لا تعدم اُصولاً ، فليست خلقاً من لا شيء ، بل هي في الغالب صياغة جديدة معبّرة لجملة من العناصر أو الاُصول المعروفة ، إنّها عمليّة دمج تعطي كائناً أو بنية جديدين .. وعملية الدمج ـ هذه البنية المعقّدة التي تطبعها الذات الدامجة بطابعها ـ هي ما يميّز الإنتاج الأصيل من الإنتاج المقتبس أو التوفيقي .. والأصيل بعد ذلك لا يكون أصيلاً إلاّ إذا كان ذا دلالة في الحاضر .. والجوانب الأصيلة ـ في أيّة ثقافة ـ هي تلك التي نستطيع أن نتبيّن فيها ليس فقط التعبير القوي المبدع عن بعض معطيات الماضي ، بل أيضاً التي تستطيع أن توحي لنا بنوع من التعبير جديد عن معطيات الحاضر .. الثقافة الأصيلة هي التي يجد فيها الحاضر مكاناً في ما تحكيه عن الماضي ، دون أن تحجب آفاق المستقبل .. إنّها تساعد على تأسيس الحاضر في اتّجاه المستقبل ، لا في اتّجاه الماضي ..

وقال أيضاً : الأصالة والمعاصرة لا تنفصلان ، إنّ من ينشد الأصالة بدون المعاصرة كمن ينشد المعاصرة بدون الأصالة ، الأوّل مقلّد والثاني تابع ، بل كلاهما تابع ومقلّد .. والشرط الضروري لتجديد العقل العربي وتحديث الفكر العربي وتغيير الوضع العربي هو كسر قيود التقليد وقطع خيوط التبعيّة .. إنّه الاستقلال التاريخي الذي لا يُنال إلاّ بممارسة النقد المتواصل للذات وللآخر ، أيّاً كان هذا الآخر .. والنقد لا يعني الرفض الميكانيكي ، بل هو أساساً تفكيك للسلطة التي يمارسها الخطاب على


المخاطَب .. الواعظ الديني والخطيب السياسي والمبشّر الايديولوجي ، هؤلاء جميعاً لا يقول أيٌّ منهم : «أنا أقول لكم ...» ، بل هو يقول دائماً : «قال فلان ...» ممّن يملكون سلطة المعرفة .. وقد يلجأ إلى التعميم قصد تعزيز سلطة كلامه فيستعمل الغائب أو يحيل على مجهول فيقول : «قالوا ...» و «قيل ...» ، والنقد والتفكيك يبدآن في هذه الحالة بتحويل المبنيّ للمجهول إلى المبنيّ للمعلوم ورصد صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب .. لابدّ إذن من الكشف عن المسمّيات التي يراد أن تنوب عنها أسماؤها ، ولابدّ من إعادة تسمية الأشياء ـ التي تقدّم نفسها كمسمّيات مجرّدة ـ بأسمائها التي تكشف عن جانب الانحياز فيها .. إنّه بذلك نتمكّن من جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في آن واحد ..

يقول محمّد شحرور : يجب علينا أن نميّز بين مصطلحين يقع الالتباس بينهما وهما : الأصالة والسلفيّة ، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حيّ ، أمّا السلفيّة فهي عكس ذلك تماماً ، السلفيّة كما نفهمها هي دعوة إلى اتّباع خُطى السلف بغضّ النظر عن مفهوم الزمان والمكان ... إنّ السلفيّة هروب مقنّع من مواجهة تحدّيات القرن العشرين وهزيمة نكراء أمام هذه التحدّيات ، وهي البحث عن الذات في فراغ وليس في أرض الواقع ..

هذا فيما يتعلّق بالسلفيّة الإسلاميّة ..

ولكن هناك نوعاً آخر من السلفيّة نراه عند تيّارات اُخرى تطرح حلولاً نظريّة تعمل في فراغ وفق نموذج متحجّر طُرح في القرن التاسع


عشر وبداية القرن العشرين ، واعتبرته مقدّساً فلا خروج منه .. إنّها تيّارات سلفيّة اُخرى لا تعيش زمانها ولا تتفاعل معه ..

يقول حسن حنفي : لا تعني الأصالة الإبقاء على القديم بأيّ ثمن حتى ولو كان على حساب المعاصرة بمعنى الاعتزاز بالأصالة بدافع من التشبّث بالماضي والتعصّب له كما يحدث لدى بعض المثقّفين المتعصّبين للإيمان .. فالأصالة لديهم لا تتغيّر في صورتها أو مضمونها ، وقد لا يمنعهم هذا من الإحساس بالمعاصرة ، ولكن تمثّلهم لقضايا العصر يكون أقرب إلى التحزّب والاندفاع والانفعال ; لأ نّهم يؤمنون بالأصالة على هذا النحو العصبي دون أيّ محاولة لعرضها على المستوى النظري .. فالمتّفق على هذا النحو يؤمن بالأصالة ويؤمن بالمعاصرة ولكنّه لا يفعل كليهما معاً ، فهو متديّن قبل أن يكون مثقّفاً ، يؤمن بالدين ولا يعقل الايديولوجيّة ..

ولا تعني الأصالة الحدّ من المعاصرة أو من تبنّي الواقع كلّه كما يحدث في كثير من الأحيان عند تغلّف المعاصرة وتغلّف الواقع الجديد تحت أقنعة من الأصالة ; لأ نّه لا جديد تحت الشمس .. وغالباً ما يكون الدافع لذلك هو الحدّ من تطوّر الواقع وابتلاعه داخل القديم ، ويعقلون المعاصرة ، ويرون الحاضر في مرآة الماضي ، ولكن في هذه الحالة تكون المعاصرة هي البادئة ، وتصبح الأصالة هي التابعة ، ومن ثم تفقد الأصالة دورها في إرساخ قواعد المعاصرة ، وتفقد المعاصرة إمكانيّات تنظيرها ; لأ نّها لن تفهم إلاّ بقدر رؤيتها في مرآة الماضي ، والماضي في معظمه


لا يحتوي فكراً بل تصوّراً دينيّاً للعالم ...

والأصالة ليست كما يقال ارتباطاً بالماضي الذي حوى كلّ شيء وكما يدّعي بعض الأصدقاء ، بل هو أساساً وقبل كلّ شيء وعي بالواقع واتّحاد به ، والتاريخ جزء من الواقع ; لأ نّه ما زال يعمل كرواسب في أعماق الأفراد ..

ليست الأصالة هي البحث عن النوعيّة بأيّ ثمن ، بل رؤية صائبة للواقع باعتباره مرحلة من مراحل التاريخ ..

الأصالة هي اتّحاد بالواقع نفسه وإعادة تفسير للقديم كلّه لخدمة هذا الواقع ، ومن ثم تصبح الأصالة مرادفة للمعاصر ولكنّها معاصرة أعمق جذوراً في التاريخ وأكثر تحقيقاً لوحدة الشخص الوطنيّة ..

يقول فؤاد زكريّا : لمفهوم الأصالة معنيّين رئيسيّين ، بينهما تشابك واتّصال وثيق :

المعنى الأوّل زمني .. فالأصيل أو العريق هو الذي تمتدّ جذوره إلى الماضي وتتأصّل فيه .. بهذا المعنى نتحدّث عن اُسرة أصيلة أو عن فرس أصيل ، فنقصد في الحالتين امتداد الجذور إلى اُصول بعيدة يمكن تتبّعها والزهو بها .. ولكنّ هذا الذي تمتدّ جذوره في الماضي لابدّ أن يكون موجوداً معنا اليوم ، أي لابدّ أن يكون معاصراً .. فالفرس الأصيل هو السليل الذي نراه حولنا ونستطيع أن نتتبّع شجرة نسبه إلى أجداد مشهود لهم بعلوّ المكانة ..


وبعبارة اُخرى : فإنّ الأصالة في معناها الزمني تطلق على تلك الحالة التي يكون فيها المعاصر أو الموجود معنا اليوم ضارباً بجذوره في الماضي وفي التاريخ .. وبهذا المعنى الزمني لا تكون الأصالة على الإطلاق نقيضاً أو حتى مقابلاً للمعاصرة ، بل إنّ كلاًّ منهما تشكّل جزءاً من الاُخرى .. فالأصيل لابدّ أن يكون معاصراً يتميّز بعمق جذوره التاريخيّة ، بينما يوجد بالطبع معاصر سطحي بلا جذور .. والمعاصر قد يكون أصيلاً أو غير أصيل ..

وبعبارة اُخرى : فهناك تداخل لا يستهان به في المعنى بين الأصالة والمعاصرة عندما تفهم الأصالة بمعناها الزمني ، على حين أنّ الطرح الشائع الذي لا يناقشه أحد ، لهذه الصيغة ، يصوّر الأمر كما لو كانت الأصالة تشير إلى الماضي أو التراث وحده ، والمعاصرة تلتزم الحاضر فحسب .. على أنّ للأصالة معنىً ثانياً لاصلة له بالزمان ، هو الصدق مع النفس والتعبير الحقيقي عن الذات .. وفي هذا المعنى نتحدّث عن «أصالة العاطفة» أو «أصالة الشاعر» فلا نقصد بالطبع العودة إلى الاُصول التاريخيّة العائليّة للشاعر ، وإنّما نقصد أنّه في فنّه يعبّر عن نفسه بلا تزييف ، أو أنّ العاطفة تعبّر بالفعل عن المشاعر الداخليّة لصاحبها ، وليس فيها زيف أو خداع .. وفي المعنى الثاني بدوره لا نجد أدنى تعارض ، أو حتى اختلاف جوهري في المعنى ، بين الأصالة والمعاصرة ; لأنّ المعاصر يشتمل على ما هو أصيل وما هو غير أصيل ، أعني ما هو صادق مع نفسه ، وما ينطوي على زيف أو خداع ..


هذان هما المعنيّان الرئيسيّان للأصالة ، وهما كما نرى لا يتضمّنان أيّ تعارض مع المعاصرة ، ولكنّ وضع اللفظين أمامنا في كلّ المعالجات الحالية للمشكلة كما لو كانا بديلين يتعيّن أن نختار بينهما ، أو على أحسن الفروض أن نوفّق بينهما ، هو في صميمه طرح باطل ، يؤدّي إلى تشويه للمشكلة برمّتها ، وإلى تضليل العقول التي تضني أنفسها في البحث عن حلّ لها .. فنحن ببساطة شديدة نجهد أنفسنا في اقتفاء أثر لا يوصل إلى شيء ، ونبحث عن باب متاهة ليس لها مخرج ..

الإبداع

يقول حسن حنفي : إذا كان القدماء قد آثروا الاتّباع دون الإبداع فإنّنا نرى مأساتنا في الاتّباع لا في الإبداع .. وإنّ هناك فرقاً بين الابتداع والإبداع .. الأوّل خروج عن النهج بلا اُصول ، والثاني تطوير للاُصول وتجديد لها .. الأوّل انقطاع بلا تواصل ، والثاني تواصل بلا انقطاع .. ليس السلف بأفضل من الخلف بالضرورة ، ولا الخلف أشرّ من السلف بالضرورة ، ولكن لكلّ عصر اجتهاداته ، ولكلّ جيل إبداعاته ، ولكلّ زمن سلبيّاته وإيجابيّاته .. ولكنّ رؤية الماضي كنموذج للاتّباع ورؤية المستقبل كنموذج للإبداع كلاهما إسقاط للحاضر من الحساب ، وفي ذلك إهدار للإمكانيّات البشريّة لجيلنا ، وكأن الحلّ الوحيد يوجد خارج عصرنا إمّا في فردوس الماضي أو في حلم المستقبل ، وكلاهما طريقان وهمّيّان للخلاص .. وذلك ضدّ حركة التاريخ ومساره وتطوّره على نحو طبيعي من


الماضي إلى الحاضر ، ومن الحاضر إلى المستقبل بفعل الأجيال ..

يقول محمّد عابد الجابري : يتلوّن معنى كلمة «إبداع» بلون الحقل الايديولوجي الذي تستعمل فيه .. ففي الحقل الديني والميتافيزيقي تعني كلمة «إبداع» سواء في الإسلام أو في المسيحيّة أو في اليهوديّة أو في الفلسفة المرتبطة بهذه الأديان : الخلق من عدم ، أي اختراع شيء لا على مثال سبق .. والإبداع بهذا المعنى وفي هذا الحقل الديني الميتافيزيقي بالذات خاصٌ بالإله ، لا يقال إلاّ عنه ..

أمّا في الحقول المعرفيّة الاُخرى ـ كالفنّ والفلسفة والعلم ـ فالإبداع لا يعني الخلق من عدم ، بل إنشاء شيء جديد انطلاقاً من التعامل ـ نوعاً خاصّاً من التعامل ـ مع شيء أو أشياء قديمة .. قد يكون هذا التعامل عبارة عن إعادة تأسيس أو تركيب ، وقد يكون نفياً وتجاوزاً ..

من هنا يمكن القول إنّ الإبداع في الفنّ هو «إنتاج نوع جديد من الوجود بواسطة إعادة تركيب أصيلة للعناصر الموجودة» ..

أمّا في الفلسفة والفكر النظري بصورة عامّة فالإبداع نوع من استئناف النظر ، أصيل ، في المشاكل المطروحة ، لا يقصد حلّها حلاًّ نهائيّاً ـ ففي الفلسفة والفكر النظري ليست هناك حلول نهائيّة ـ بل من أجل إعادة طرحها طرحاً جديداً يدشّن مقالاً جديداً يستجيب للاهتمامات المستجدّة أو يحثّ على الانشغال بمشاغل جديدة ..

وبعبارة اُخرى : إنّ الإبداع في مجال الفكر النظري عامّة هو تدشين


قراءة جديدة أصيلة لموضوعات قديمة ولكن متجدّدة ..

وأمّا في مجال العلم فالإبداع اختراع واكتشاف يتمّ بواسطة خطوات فكريّة ميزتها الأساسيّة أنّها تقبل التحقّق إمّا بالتجربة وإمّا بجملة من عمليّات المراجعة والمراقبة يقودها منطق معيّن ، أي جملة من القواعد يتّخذها العقل ميزاناً للصواب والخطأ ، للصدق والكذب ..

يقول علي أحمد سعيد : الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم .. فأن نُبدِع إذن ، أي أن نكتب ، هو أن نخرج ممّا كتبناه من مسافة لحظة مضت ، لكي ندخل في مسافة لحظة تأتي .. المفكّر ، الكاتب ، لا يفكّر إذن ولا يكتب إلاّ إذا كتب وفكّر بشكل مغاير لما يعرفه ، بحيث تكون كتابته وفكره نقطة لقاء بين نفي المعلوم وإيجاب المجهول ..

يقول برهان غليون : إنّ أصل الإبداع هو بالضبط هذا الاختلاف والتناقض العميق بين الثقافة والحضارة ، بين الذاتيّة والعالميّة .. فهذا التناقض هو الذي يخلق التوتّر المبدع ويدفع إلى عدم الأخذ بالحلول الجاهزة وعدم القبول بالأمر الواقع كنهاية للتاريخ .. وهو مصدر تطوّر التاريخ والحضارة معاً .. فالتاريخ هو صراع بين ذوات جماعيّة من أجل التجاوز الحضاري المادّي والفكري ، ومن يتخلّى عن هذا الهدف ينسحب من التاريخ ويخرج من الحضارة ، سواء حصل ذلك بالاندماج في ذات اُخرى أو بالتقوقع على الذات ..


يقول علي زيعور : يبقى الصوفيّون ـ على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي يستحقّونها عبر التاريخ ـ أصحاب نظريّة أصيلة في الإبداع .. فهذا يقول : إنّه أمام الجمال ينسى نفسه ويُغشى عليه ويشطح ; أو أنّه أبدع قصيدته كاملة دون تعمّل أو أدنى جهد ; وقد تهبط عليه قصيدة أو حلّ مشكلة أو معرفة حقيقة على نحو إلهامي : انقذاف في القلب (في الصدر) ، انفتاح المغلق ، جلاء الغامض والمجهول ... كما قد يقول ذاك الصوفي : إنّه تلقّى من هاتف أو في المنام أو من شخص مجهول على شكل خاطرة أو بادرة ... فنوناً وحقائق لا ينالها غيره ، وانكشف أمامه دون مسعى عنها أو بحث .. يعني ذلك : أنّ الإبداع ـ بحسب نظريّة أهل العرفان ـ معاناة ، وخاصّ ببعض الناس «الموهوبين» أو «أهل السرائر» .. إنّ «أهل القلوب» يبدعون بلا حاجة لخبرة مكتسبة ولا لمناهج ، مختبرهم قلوبهم ، ومعاناتهم الشخصيّة أو تجربتهم الذاتيّة موئل إبداعهم .. فليس العقل ولا التفكير المنطقي ولا التحليل أو الدراسة ولا «علم الورق» (مصطلح صوفي) طريقاً ناجحة عند «أهل الحقيقة» هؤلاء ..

يقول علي حرب : إبداع الكاتب بما هو استقصاء واستكشاف ـ سواء عن طريق الفنّ أو العلم أو الفلسفة ـ لا يكتمل إلاّ بكشفه وإذاعته .. فلا كاتب يكتب لنفسه ، تماماً كما لا خالق يكتفي بذاته .. ولا كاتب يفرح بما يكتبه من دون قارئه ، سواء كان هذا القارئ واقعيّاً أم متخيّلاً .. فالاستكشاف مصيره أن يُكشَف .. من هنا يشعر الكاتب بالرغبة في البوح


بكشوفاته .. طبعاً هكذا تكون علاقة الكاتب بنصّه في طورها الأوّل ، أي بعد الانتهاء من كتابته ولكن يمكن أن تتغيّر العلاقة بعد نشر النتاج ، فيحدث طلاق بين الخالق والمخلوق .. عندها يميل الكاتب إلى صنع آخر يتعلّق به ويستمتع بكتابته أو نشره .. المهمّ أنّ الكاتب يتعلّق بالشيء الذي يكتبه كما يتعلّق العاشق بمعشوقه ..

التجدّد والتجديد

يقول حسن صعب : إنّ هذا التجدّد المنهجي الذي يفتح أمام الإسلام سبيل التفاعل والتحاور مع جميع معارف العالم الحديث كما فتح له مثل هذا السبيل في الماضي ، ويشقّ أمام المسلمين طريق التعامل الخيّر الخلاّق مع جميع شعوب العالم الحديث ، هو الخطوة الأساسيّة الاُولى التي يتطلّبها التجدّد الذاتي .. فليس هناك من كائن يستطيع أن يبقى فكريّاً أو حياتياً في حال تقوقع وانعزال .. ولكنّ الإسلام هو في اعتقاد المسلم شرع بقدر ما هو نهج .. وهو شرع منظّم لجميع قواعد الفكر والحياة تنظيماً يبقى ولا يتغيّر .. ويقف هذا المفهوم الخاطئ للإسلام حائلاً بين المسلم وبين التكيّف الإبداعي مع مستلزمات التقدّم الحديث .. ويقف حائلاً بين غير المسلم وبين رؤية قابليّة الإسلام وقدرة المسلمين على مثل هذا التكيّف .. ولذلك تتحتّم النظرة الجديدة إلى الاجتهاد ، وهو مبدأ الحركة والتجدّد في الشرع من قبل المسلمين وغير المسلمين ..


يقول علي حرب : يتجدّد الفكر ممّا يستبعده أصحاب النظريّات الشاملة والأنساق المحكمة والأفكار الجوهرانيّة والماهيّات المحضة .. إنّه يغتني ويتوسّع بالاشتغال على العرضي المهمل بإسم الجوهري ، أو على اللامعقول المنفي في نظر العقل ، أو على الآخر المستبعَد بإسم الهويّة ، أو على المختلف المنبوذ بإسم الوحدة ، أو على الفرع المنتقَص من قبل الأصل ، أو على الشواذّ المقموع بموجب القاعدة ، أو على الهوامات القابعة وراء المفهوم ، أو على العيوب والنواقص التي يتستّر عليها النموذج لكي يغدو نموذجاً ومثالاً ..

بهذا المعنى يتجدّد الفكر بتجاوز تلك المقولات والثنائيّات الفكريّة التي يشتغل بها المثقّفون والمنظّرون ، كالغزو الثقافي وتصادم الحضارات والصراع بين الاشتراكيّة والرأسماليّة ، أو المفاضلة بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي ، ولاسيّما أنّنا دخلنا في عصر يزداد فيه العالم عولمة ، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي والإعلامي ..

يقول نصر حامد أبو زيد : إنّ التجديد ليس حالة فكريّة طارئة ، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الاُصول التي ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصّة .. ما ليس تجديداً في مجال الفكر فهو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله ، وليس هذا الترديد من الفكر في شيء ، ولا يمتّ إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو بعيد .. وبما أنّ قانون الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة هو التغيّر في كلّ شيء ، سواء كان ذلك التغيّر مُدْرَكاً وملحوظاً أو لم يكن ،


فإنّ قانون الفكر هو التجديد ، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته ..

ويصبح «التجديد» مطلباً ملحّاً كلّما سيطر «التقليد» الذي هو عين «الترديد» والتكرار لما سبق قوله وساد ; إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة التي تمضي في حركة تغيّرها غير آبهة بعجز الفكر عن متابعتها ، فضلاً عن قيادتها وترشيد اتّجاه حركة التغيير فيها ..

يقول السيّد محمد حسين فضل الله : إذا انطلق الأشخاص أو انطلقت الجهات التي تفكّر في اتّجاه التجديد في عمليّة توعية وتعبئة فكريّة ، بشجاعة في الموقف من دون خوف من انتقاد هنا وانتقاد هناك ... وهجمة هنا وهجمة هناك ، فإنّني أتصوّر أنّها يمكن أن تحتوي الواقع الذي يمدّها بالكثير من الصدمات الآتية من الخارج .. إنّ الصدمة وحدها لا تكفي لتصنع التطوّر ، بل إنّها تعمل على أساس أن تفتح المجال لحركة التطوّر .. ولكن إذا لم يكن هناك من يواكبون الصدمة ويواكبون حركة التطوّر فإنّ الصدمة لا تترك أيّ أثر إلاّ بعض الانفعالات وبعض الأجواء السلبيّة هنا وهناك ..

يقول الشيخ مهدي محمّد شمس الدين : يبدو أنّ ضرورات التجديد في الاجتهاد تفترض التأمّل في المفهوم الشائع للاجتهاد ، الذي يرادف اليوم المعنى التقني والصناعي ، مع أنّ مهمّاته باتت أوسع بكثير ، وتقتضي فهماً جديداً يتوافق ومقتضياته الواقعيّة ..


هذا الاقتراح عن التجديد في الاجتهاد يمكن أن يفهم على أنحاء :

فتارةً يُفهَم على أساس أنّ الضرورة تقضي بالتجديد في مجالات وحقول الاجتهاد ، كأن نقول : إنّ الاهتمامات والمجالات التي يجب على الفقيه أن يتطرّق إليها في أبحاثه تقضي الضرورة بالتجديد فيها ..

وتارةً نتكلّم على التجديد في المنهج ، وهو ما يلقى الاهتمام والمتابعة ويحتاج إلى كلام مفصّل ... وهذه المسألة اُصادفها كثيراً في أبحاثي ، إنّ مناهج الاجتهاد تحتاج إلى إعادة نظر ، ويبدو لي أنّ هناك نقصاً منهجيّاً ، لا أقول خللاً منهجيّاً ، يوجد نقص منهجي ..

يقول محمّد محفوظ : إنّ التجديد الثقافي الإسلامي المطلوب لا يعني خلق منظومة فكريّة جديدة لا تمتّ بصلة إلى القيم الإسلاميّة الكبرى ، وإنّما يعني إزالة ركام التخلّف والانحطاط من موقعين أساسيّين : موقع الإنسان المسلم الذي تأ ثّر بشكل أو بآخر من عصور التخلّف ، وموقع القيم التي شابها بعض الزوائد التي اعتُبرت بعد فترة تاريخيّة بأ نّها جزء من القيم .. إنّ تنقية هذين الموقعين يؤدّي بنا إلى التفاعل الخلاّق مع منظومة فكريّة حيّة قادرة على الردّ الحسن على الحاجات الجديدة الناجمة عن التطوّر الاجتماعي وتقديم الحلول الأصليّة لها ..

يقول السيّد محمّد حسين فضل الله : هناك نظرتان للتجديد :

النظرة الاُولى : هي أن تتحوّل الحوزة العلميّة إلى الجامعة بحيث


تتجّدد على أساس المنهج الجامعي والتنظيم الجامعي ، حتى في المباحث الفقهيّة والاُصوليّة والفلسفيّة التي يراد لها أن تتحرّك في هذا الاتّجاه وبهذا الاُسلوب ..

النظرة الثانية : هي أن تُبقي الحوزة العلميّة تقاليدها المنفتحة في حركة الدراسة وفي عمقها ولكن تجدّد أساليبها وموضوعاتها ، كما يجدّد تنظيمها في طبيعة أوضاع الطلاّب وطبيعة انتمائهم للحوزة ودراستهم واختبار طاقاتهم ومدّة التخرّج وشهاة التخرّج .. إنّنا نتبنّى النظريّة الثانية ..

التقليد

يقول محمّد محفوظ : التقليد في جوهره هو فشل الذات في إبداع الطرائق والاُطر التي تطوّر الذات وتدفعها إلى الأمام ..

ونحن أمام هذا الفشل لا نقف منه موقف المواجهة والإصرار على تجاوزه ، وإنّما نهرب من مواجهة ونلجأ إلى حصن التقليد واستنساخ الغير في كلّ شؤوننا الخاصّة والعامّة ..

لذلك فالتقليد هو عبارة عن تسوّل حضاري يهدف إلى نقل الآخر (تقاليد وأعراف واُطر وطرائق ونظم) إلى الذات .. وهذا ما يؤدّي بطبيعة الحال إلى الاستلاب والارتهان إلى الآخر ..

ويقول أيضاً : المسافة جدّ قصيرة بين التقليد بوصفه حالة معرفيّة ونفسيّة سائدة في محيطنا العام ، والتبعيّة بوصفها علامة من علامات العجز الذاتي والتوقّف عن النموّ العامّ .. وأكاد أجزم أنّ التقليد هو الوجه الآخر


للتبعيّة ، فهما وجهان لعملة واحدة ، لا ينفصل عنوانها الثقافي عن وجهها الاقتصادي والسياسي ..

من هنا فإنّ الاعتماد على الذات والاستقلال أو التبعيّة والتقليد الأعمى للآخرين يبدآن بالفكر والثقافة قبل الاقتصاد والسياسة ; إذ إنّ الفكر المستقلّ سيصنع اقتصاداً مستقلاًّ يعتمد على واقعه الموضوعي وخصوصيّاته الذاتيّة ، كما أنّ الفكر التابع أو الثقافة المهزومة مهما اُوتيت من إمكانات مادّيّة هائلة لن تخرج عن إطار التبعيّة الاقتصاديّة ونقل النظريّات الجاهزة وتطبيقها في تربة ليست تربتها ..

يقول ياسين الحافظ : إنّ التخلّص من التقليد ـ ذوي الجذور العميقة في العقل الشرقي ـ كان سيرورة تطوّر بطيئة متلاحقة ، جاءت من خلال الممارسة والتأمّل والتثقّف في آن ، وأ نّه لا يمكن بالنتيجة التخلّص منه بموقف قطيعة انقصافيّة ..

من الصعب أن يؤكّد أحد أنّه تخلّص نهائيّاً وكلّيّاً من تأثيرات التقليد الواعية أو غير الواعية في مجتمع متأخّر لم يشهد ثورة ديمقراطيّة وقوميّة .. وبالتالي يصعب أن يؤكّد أحدٌ أنّه أصبح عقلانيّاً وواقعيّاً بكلّ معنى الكلمة في منهج شرقي ضاغط ومفعم بالشعوريّة والمعتقديّة .. وهذا يعني أنّ التأثيرات المجتمعيّة المتخلّفة تجعل امتلاك العقلانيّة والواقعيّة معركة مفتوحة ينبغي أن يعاد كسبها على الدوام ، وأ نّه ينبغي تنمية وتعميق هذه العقلانيّة والواقعيّة باستمرار ..


إنّ التدرّج في مراتب الوعي وإن كان سيرورة إلاّ أنّ مراحل الوعي ومحطّاته قد تتداخل من جهة ، كما أنّها من جهة اُخرى قد تحمل تراجعات بسبب من التقلّبات الشديدة التي شهدها الوطن العربي «الانتصارات» ثم الهزائم ، الآمال ثم الخيبات ..

العقلانيّة

يقول أنور الجندي : أمّا العقلانيّة فهي مفهوم صحيح ، ولكنّه ليس منفرداً بالنظر ، ولكنّه شطر مفهوم متكامل يقوم على العقل والروح والعلم والدين ، والعقل جهاز كاشف ، ولكنّه يسير في ضوء الوحي ، وليست له القدرة على أن يجاوز مهمّته ، وكذلك نظرة الإسلام للعلم ، حيث يقيّمه في إطار المفهوم الإسلامي لا خارجه ، ويقيم له ضوابطه من الوحي من ناحية فيما يتعلّق بعالم الغيب ، وبالأخلاق من ناحية فيما يتعلّق بعالم الغيب ، وبالأخلاق من ناحية فيما يتعلّق بحركته واستثماره ..

يقول علي حرب : ليست العقلانيّة مرحلة نقطعها أو عتبة نختارها أو شهادة نحصل عليها ، بعد أن نفوز بمعيار للعلم الحقّ أو العمل الحقّ ، بقدر ما هي نقد مستمرّ للعقلانيّات السائدة أو الموروثة للكشف عن قصورها ومآزقها .. إنّها فاعليّة فكريّة نقديّة ومستمرّة ، نمارسها بتفكيك أبنية وتحويل علاقات ، لا من أجل تنقية العقل من شوائبه ، بل من أجل تسوية علاقة المرء بأهوائه وكلّ ما لا يعقله أو يتحكّم به ، وأمّا من يعتقد بإمكان


تصفية لا معقولاته فلا يحسن سوى تلغيم عقله ..

ويردف قائلاً : ليست العقلانيّة تأسيساً ديكارتيّاً للوجود ، ولا هي مماهاة هيغليّة مع الواقع ، بقدر ما هي استراتيجيّة معرفيّة أو سياسيّة أو مؤسّسيّة لمواجهة المجهول والخفيّ واللامفهوم ، أو لمجابهة المفاجئ والشاذّ والخطر .. فالعالم ـ قصدت عالم الإنسان ـ يولّد دوماً السحر والاُسطورة والقداسة ، وينتج البربريّة والفوضى والاحتكار ، احتكار السلطات والمشروعيّات والثروات .. من هنا فالعقل هو مجرّد رادع غير محبّب ، والعقلانيّة ليست أكثر من قيد هو أشبه بالشرّ الذي لابدّ منه .. إنّها بالأحرى رهان فكري أو سلطوي لضبط الكثرات المحسوسة أو السيرورات اللامتناهيّة أو الفوضى المشتّتة أو التجارب الكثيفة أو الجموع الحاشدة أو الاختلافات الوحشيّة ..

يقول محمّد عمارة : على تحديد المراد من «العقل» يتحدّد المراد من العقلانيّة ; إذ هناك عقلانيّة التنوير الغربي وشعارها : «لا سلطان على العقل إلاّ للعقل» وهي بذلك تنفي وتنكر ـ بل وتستنكر ـ سلطان «الوحي» على عقلانيّة الإنسان ، وترى في «العقل» و «التجربة» سبيلي المعرفة المؤتمنين على تحصيل المعارف التي تستحقّ الاحترام ... بينما هناك «العقلانيّة المؤمنة» التي تبلورت في علم التوحيد ـ الكلام ـ الإسلامي ، لتقرير الدين وليس لنقضه ... وهي التي تقرن «النقل» بـ «العقل» وتحكم «العقل» بـ «النقل» إيماناً منها بأنّ العقل هو ملكة إنسان


محدود الإدراك ، نسبيّ المعارف ، بينما «النقل» هو نبأ ذي العلم المطلق والمحيط ، سبحانه وتعالى ، ففيه ما لا يستقلّ العقل بإدراكه ، وهذه «العقلانيّة المؤمنة» ـ بعد إضافتها «الوحي» إلى «الكون» في مصادر المعرفة ـ تجعل سبل المعرفة أربع هدايات هي : العقل والنقل والتجربة الحسّيّة والوجدان .. فلا تقف بسبل المعرفة فقط عند العقل والتجربة ـ كما صنعت عقلانيّة التنوير الغربي ـ الوضعيّة والمادّيّة ، فعن أيّ عقل وعن أيّة عقلانيّة يجري الحديث؟ عقلانيّة استبعاد «الشرع» و «لا سلطان على العقل إلاّ للعقل»؟ أم عقلانيّة المؤاخاة بين الشريعة والحكمة ، بتعبير ابن رشد؟

يقول ناصيف نصّار : لا تحمل عبارة العقلانيّة العربيّة أيّ معنى يفصلها عن المعنى الشامل للعقلانيّة في التاريخ العالمي ، فالعقل واحد عند بني الإنسان على اختلاف أفرادهم وجماعاتهم ومجتمعاتهم وحضاراتهم وتواريخهم ، ولا يوجد احتكار لطريقة تعامل مع العقل يخصّ بعضهم دون بعضهم الآخر .. فإذا حصل تمايز بين الشعوب والمجتمعات في موضوع العقلانيّة فإنّه نتيجة عوامل وأوضاع ثقافيّة اجتماعيّة تاريخيّة قابلة للتغيير في إطار التفاعل العالمي الذي يضمّ بني الإنسان جميعاً .. فالعقلانيّة العربيّة ليست أكثر من العقلانيّة في الثقافة العربيّة ، كما أنّ العقلانيّة الإغريقيّة ليست أكثر من العقلانيّة في الثقافة الإغريقيّة ...

والثقافة هنا هي الثقافة بالمعنى السوسيولوجي الواسع ، الذي يحدّد


التمايز بين العقلانيّات بكيفيّة ومدى تأثير العوامل المكوّنة للثقافة في تعريف العقل وفي تحديد طرق استخدامه ومجالاته وحدوده ..

ويقول أيضاً : إنّ واقع العقلانيّة العربيّة ليس التراث العقلانيّ العربي ، الحيّ أو الميّت ، وحده ، إنّما هو ذاك التراث القديم والحديث والممارسات الحاضرة للعقلانيّة على جميع مستويات الحياة الثقافيّة الاجتماعيّة في البلدان العربيّة .. إنّه التراث العقلاني العربي كما يعلن عن نفسه ، وكما نقرأه ونفسّره ونقيّمه ونستوعبه ونتجاوزه ، وهو في الوقت نفسه الممارسات التي نقوم بها نحن ، أفراداً وجماعات ومجتمعات ، لتطوير مفهوم العقل واستخدام العقل في مختلف الميادين النظريّة والعمليّة ..

إنّ مقاربة العقلانيّة العربيّة من زاوية الواقع والآفاق تجعل من جدليّة التراث والحاضر ـ التي هي في العمق جدليّة التراث والتغيير أو التراث والإبداع ـ جدليّة مركزيّة ، ولكن عندما ننتقل إلى تحليلها من زاوية الميادين والمستويات فإنّنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى اعتماد معادلات متباينة لتلك الجدليّة وإلى التركيز على جدليّة اُخرى هي جدليّة النحن والآخرين في عالم اليوم وفي عالم الغد ، التي هي جدليّة المشاركة لجميع الشعوب في التفكير والعمل العقلانيّين لبناء عالم الإنسان الجديد ..

ولا شكّ في أنّ تناول واقع العقلانيّة العربيّة بهذا المعنى يتطلّب إسهامات كثيرة ، متعدّدة المناهج والاختصاصات ، من النفسانيّات والاجتماعيّات إلى الانثروبولوجيات والتربويّات ، مروراً بالسياسيّات


والاقتصاديّات والتاريخيّات ، ومتّصفة بالتواصل والتراكم النوعي عبر ندوات ومراكز أبحاث وهيئات ثقافيّة متعاونة .. إلاّ أنّ الإسهام الأساسي فيه يبقى للفلسفة والفلاسفة .. فالسؤال عن ماهيّة العقل وعلاقته بالوجود ومنزلته ووظيفته في الحياة الإنسانيّة كان ولا يزال سؤالاً فلسفيّاً بامتياز .. إنّه سؤال مطروح على الفيلسوف اليوم ، كما كان مطروحاً على الفيلسوف بالأمس .. ولذلك ينبغي التركيز في دراسة العقلانيّة العربيّة لتطويرها على المستوى الفلسفي فيها ..

يقول برهان غليون : العقلانيّة العربيّة تجعل من العلم أساساً لصحّة معارفنا بدل أن تجعل من الانخراط في التجربة ـ أي من معاينة الواقع القائم ـ وسيلة لمراجعة النظم العرفيّة والتحقّق منها وتثويرها .. أي أنّها اكتفت بالاستهلاك العلمي بدل أن تمارس الفعل العلمي الحقيقي .. وما كان يمكنها أن تفعل العكس طالما أنّها حدّدت منذ البدء موقفها من الواقع الذي تعيشه ، باعتباره واقعاً وهميّاً لا معقولاً ولا مقبولاً ورفضت التفكير فيه والانطلاق منه .. وهكذا حدّدت طريقة نظرنا وتعاملنا معه ، أي إلغاءه المسبق من الذهن قبل إلغائه من الوجود ..

وبهذا المعنى نحن نقول : إنّ العقلانيّة العربيّة التي تحوّلت إلى علمويّة ، أي ايديولوجيّة تبشير بالعلم وامتداح له لا إلى منهج لمقاربة الواقع ، كانت منطلقاً نظريّاً لتدمير الواقع نفسه بهدف إعادة صياغته بما يتلاءم مع المفهوم الذي تملكه عن الواقع «الحقيقي» : واقع الحداثة ..


وبذلك أصبح المفهوم هو الذي يتحكّم بالواقع ويخضعه له بدل أن يخضع له ويتطوّر على ضوئه .. وهذا هو مصدر الاستلاب النظري وفقدان التجربة العلميّة والنظر العلمي ..

بمعنى آخر : أصبحت العلمويّة أو «الاستقواء» بالعلم هي قاعدة تحطيم المسعى العلمي الحقيقي واستبعاده .. وأصبح الموقف السائد هو : العلم موجود ، إنّه قائم هناك وجاهز ومتطوّر ، وليس علينا إلاّ أن نأتي به ، أن ندخله عندنا ، أن نفسح له المجال ونرعاه .. وبذلك حرمنا أنفسنا من كلّ قدرة على مناقشته أو الإضافة إليه ..

يقول محمّد أرگون : يمكننا الآن أن نعدّد الخصائص التالية للعقلانيّة المركزيّة الخاصّة بالمجال العربي ـ الإسلامي :

١ ـ كلّ فعّاليّة فكريّة تتحكّم بها الصورة الدوغمائيّة للعقل القادر على السير والتوصّل نحو الكائن الأعظم (الله) وبالتالي فهو يتناغم أو ينسجم مع الحقّ ـ والخير ـ والجمال الدائم أو الأبدي .. هذا يعني أنّ الباعث الأقصى لكلّ تفكير ليس علميّاً بالمعنى الحديث للكلمة ، وإنّما جماليّاً ـ أخلاقيّاً ...

٢ ـ إنّ العقل يستمدّ أنواره من القوّة العاقلة ، وهي مخلوقة من قبل الله أو ممتلكة عن طريق الأفكار المثلى .. وتكمن وظيفة العقل في التعرّف على الكائن الأعظم ـ الواحد ـ الحق ـ المسبّب الأوّل ـ الخالق .. وهذا ما يفسّر لنا سبب التداخل والتوافق النهائي بين الميتافيزيقيا واللاهوت


والأخلاق والقانون .. فالتعرّف على القيم ثم توصيلها إلى الجمهور يتمّ داخل اللغة المرتكزة على الحسّ المشترك وبمساعدته .. وهذا الحسّ المشترك هو الذي يرسّخ الإحالة المرجعيّة إلى ما هو مألوف ومعتاد ، إلى الشيء نفسه ، إلى العقل السليم الذي يضمن توافق الآراء والحلول مع مبادئ العقل الأعظم أو المطلق .. وأخيراً هناك جملة التصوّرات والصياغات التعبيريّة التي تموضع الخطاب أو تحافظ عليه في منطقة معروفة تكون فيها المعقوليّة مباشرة وعفويّة ..

٣ ـ إنّ العمليّات الأساسيّة التي يقوم بها العقل المثالي المطلق من أجل «العودة إلى القواعد أو الاُصول» تكمن في تشكيل علاقات الهويّة والتناظر والتشابه والتورّط أو التضادّ ، وذلك انطلاقاً من تحديدات كونيّة وماهيّات أولى وجواهر ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل ..

٤ ـ لكي يزوّد نفسه بإمكانيّات التوصّل إلى النتيجة المرغوبة ـ أي في النهاية تأسيس علم يمارس وظيفته كنظام أمان بالنسبة للإنسان ـ فإنّ العقل يرفع إلى مستوى المتعالي المعطيّات العلميّة المحسوسة بشكل صرف ، وهو يرفعها إلى مستوى التعالي عن طريق إسقاط البُنى الحُلُمية (أو المحلوم بها) للمتعالي عليها ..

يقول سالم يفوت : العقلانيّة المعاصرة تلحّ على إبراز القيم الابستمولوجيّة إبرازاً يقوم على إدراك مظاهر التجديد التي تميّز كلّ مرحلة علميّة وكلّ نظريّة علميّة ، وما تحمله من جديد .. ومادام العلم في


تطوّر متواصل فليس بالإمكان الحديث عن قيمة كلّيّة ونهائيّة للعلم ، وفي هذه النقطة بالذات تظهر الفلسفات التقليديّة بعيدة تمام البعد عن القدرة على استيعاب الفكر العلمي في جدّته ..

* * *

نقول : تعجّ الفضاءات العلميّة المعرّفيّة العَقَديّة الثقافيّة بهذه البحوث التي نقلنا بعض ما قيل فيها .. إلاّ أنّ بحث «العقلانيّة» يبقى الأكثر مساحةً والأوسع اُفقاً والأشدّ ابتلاءً والأهمّ حاجةً ، من بينها ، في عصرنا الراهن .. لذا نشير إليه خاطفاً بما يلي :

لا تأتي «العقلانيّة» من مساحات الفراغ أو دهاليز السجايا والخصال الذاتيّة ، فما ينتجه الفراغ ليس إلاّ فراغاً ، وما يترشّح من دهاليز السجايا والخصال الذاتيّة ليس إلاّ نتاجاً مترفاً بلا أدنى جهد ومراجعة وحفر ومقارنة واستقراء ..

ولا تنبعث العقلانيّة من أرحام الظلم والاستبداد والترويع والتعالي والتقوقع والانعزاليّة والجهل والتعصّب ; إذ الشواذّ والمشوّهون والمنحرفون والجناة والمضطربون والحاقدون والمتخلّفون لا ينجبون إلاّ ما يسانخهم ويناظرهم ...

يلزم بـ «العقلانيّة» أن تكون استقراءً ومراجعةً وبعثرةً وحفراً ومقارنةً واستنطاقاً ومحاكاةً ومتابعةً واستشارةً وتأمّلاً وتدبّراً وتفرّساً وكياسةً وحكمةً وعدلاً وإنصافاً وإيماناً والتزاماً وإنسانيّةً وتفكيراً


وإحساساً وتحسّباً وقراءةً وخطاباً وفهماً واستيعاباً وشموليّةً وإحاطةً وعمقاً وظرافةً وهدوءاً وسكينةً وصرخةً وبرهاناً وثباتاً وقوّةً وحزماً وعزماً وأناةً وتوازناً ورحمة وشدّة ....

إنّها منهجٌ وممارسةٌ متمخّضة عن فكر راق وإحساس مرهف وتفاعل مسؤول ، تلك إفرازات العقل «المطبوخ» بالمؤن والأدوات المذكورة أعلاه ; فكلّ واحدة منها بحدّ ذاتها محور وقطب في تكوين النضج المطلوب المنتج للعقلانيّة المرتقبة .. وكلّ واحد من هذه المحاور والأقطاب له في دوائره وحلقاته مناهج وأنساق قد تفضي إلى كسب المراد «الصحيح» وقد لا تفضي إليه .. فليس الأمر بذاك السهل الهيّن حتى يبدو للوهلة الاُولى وكأ نّه ناتج عن لا شيء ، أو أنّه حصاد السجايا والخصال الذاتيّة ... بل العمليّة شاقّة صعبة للغاية ، فهي ـ أي العقلانيّة ـ ممارسةٌ تؤدّي إلى العودة للمركز بعد التشتّت والانفلات والزيغان ، وإصلاحٌ لما عطل ، وتجميعٌ لما تناثر وتفكّك ، وتوليدٌ للمفتقر إليه ، سواء كان عنصره موجوداً وتلف أم لم يكن أساساً ، آخذةً بعين الاعتبار الماضي والحاضر والمستقبل ، متجاوزةً عقبة الزمان والمكان ، مازجةً بين الأصالة والابداع ، بين التراث والتجديد ، نابذةً التبعيّة والتقليد العمياويّين ..

إنّ إعادة الاُمور إلى نصابها الصحيح واتّخاذ التدابير اللازمة للطوارئ المحتملة والحاصلة لا يأتي إلاّ عبر فهم آفاق العقل والروح والتجربة والوحي والعلم والنسبيّ والمطلق ، الفهم المؤدّي إلى معرفة كيفيّة تحليل النصّ والمادّة والتعامل الصحيح مع الإشكاليّات الموجودة والوارد


الجديد ; ممّا يكون بمجموعه مرجعيّةً ومصدريّةً تستند إليها الاُمّة بل البشريّة بأسرها في عقلنة قضاياها وإدارة شؤونها ومعالجة أزماتها ..

إنّ «العقلانيّة» تعني : إيجاد أقصر وأوضح وأسهل الطرق الإقناعيّة ; من حيث مزيجها الروحاني العقلي التجريبي ، وعجينتها المتكاملة ، فلا محلّ حينها لتذرّع المناوئ باستبداديّة «التعبّد» وكبت «الإسكات» أو تردّد المآلف وحيرته وضياعه أحياناً ..

إنّ «العقلانيّة» لا تنهض إلاّ من رحم الأخلاق والفكر والإيمان ، وإذا ما حصلت ـ هذه الثلاث ـ وتوفّرت توفّراً صادقاً حقيقيّاً في الفرد الإنساني من خلال الجهد العلميّ المعرفيّ والبحث المنهجي السليم ، فلا شكّ أنّها تتمثّل بذلك الفرد العقلاني كالأحجار الكريمة والمعادن النفيسة التي تُبذَل المساعي الكبيرة للعثور عليها ، وحينما تُستخلَص من بين طبقات الأرض وأعماق البحار والمحيطات وبطون الأودية السحيقة وتخوم الجبال الشاهقة ومغاراتها العنيدة ومن الصحاري وخفاياها العجيبة ، وتُجرى عليها مراحلها المعقّدة والعديدة ، نراها تشمخ بكلّ جلال وجمال وعنفوان وعزّ وإكرام ، رغم أنّها أحجارٌ ومعادن جامدة لا تعي ولا تفهم ... فكيف بالمعدن الإنساني والفرد العقلاني الذي يقود البشريّة بالأخلاق والفكر والإيمان إلى الخير والعلم والسلام والفلاح والرفاه؟! لا شكّ أنّه أجلّ وأجمل وأعزّ وأكرم وأكثر عنفواناً من أحجار هامدة ومعادن صامتة مُقادة لا تساوي شيئاً قبال الصمت الإنساني العقلاني


حتى ، الذي كثيراً ما غيّر المعادلات والتوازنات وأعاد الاُمور إلى نصابها الصحيح ..

علينا إذن التنقيب والفحص المعرفي عن جواهر إنسانيّة ويواقيت بشريّة مهما كلّفنا الأمر من المشاقّ والصعاب والتضحيات ; إذ الكثير منها بقيت وتبقى مختبئة مخفيّة بدواعي إيمانيّة أخلاقيّة ظرفيّة ; انطلاقاً من المناهج والأدوات التي تلتزم وتعتقد بها ..

ولقد رأينا ولمسنا كيف أشرقت مصاديق العقلانيّة على كافّة مساحات البشريّة لتزيل عنها الآلام والمعاناة ; فالإنسانيّة بلا عقلانيّة محكومة بنظام الغاب ..

وأهمّ ما يميّز العقلانيّة أنّها ليست رغبة فرديّة أو جماعيّة تزول بمجرّد تحقيق المراد منها ، كما هي غير مختصّة بزمان أو مكان معيّن ، إنّها دائمة بدوام البشريّة ومستمرّة باستمرار الحياة ، فهي تتجاوز كلّ هذه المؤشّرات لتبقى شاهداً وناقداً ومعالجاً ومرجعاً مادامت الإنسانيّة موجودة ، وبذلك فهي صمّام الأمان ومقياس الفكر والأخلاق والإيمان ، ومحرّك النموّ والتطوّر ..

إنّ طرح الفكر بنحو آخر ، بنحو معيّن على وجه الخصوص ، بخصوصيّة «العقلانيّة» الملتزمة العَقَديّة يفصح عن مدى المصدريّة الأخلاقيّة والفكريّة والإيمانيّة التي تنطلق منها العقلانيّة المعهودة وأعماقها النابضة بالحكمة والخير والأمان والازدهار والفلاح ..


ولعلّ الهرع النوعي والارتماء بأحضان «العقلانيّة» رغم اختلاف المذاهب وتباين الانتماءات وتصادم الرؤى ، لا يعني إلاّ أمراً واحداً مفاده : إجماع الإنسانيّة على كون «العقلانيّة» القاسم المشترك ونقطة تلاقي كافّة الحضارات والمذاهب والنظريّات الإنسانيّة ، اُؤكّد «الإنسانيّة» ; إذ لا عقلانيّة بدونها ..

فليست «العقلانيّة» إلاّ الممارسة الإنسانيّة المعهودة بخصائصها ، فلا هي قابعة في أعماق المحيطات والبحار ، ولا شاهقة إلى عنان السماء ، ولا مختبئة بحيث يعسر الوصول إليها ، إنّما هي سهلة الوصول ، يسيرة البلوغ ، إن توفّر العزم والحزم والإرادة العلميّة المعرفيّة المنهجيّة السليمة ، فهي تمدّنا إذن أنّى أردنا برواشح الأخلاق والإيمان والفلاح ..

لكن علينا أن ندرك حجم المعاناة والآلام ومقدار الجهد الذي بذله ويبذله أقطاب العقلانيّة من أجل إرساء القيم والمبادئ الصحيحة ; فإنّ جلالة شأنهم وعظم منزلتهم أسمى من التنقيب والبعثرة في زوايا لا تؤدّي إلاّ إلى النكسات والتراجعات ، والخوض في حواشي وهامشيّات ومرجوحات لا واقع لها غالباً ولن تثمر إلاّ الخسران والندم والتقهقر ; على أنّنا لا ننكر على النقد العقلاني الدور الهامّ الذي يضطلع به كمراقب وناظر وملاحظ ومسجِّل ، فلا تُنتقَد العقلانيّة إلاّ بالعقلانيّة ذاتها ، بنفس الأدوات والآليات والمناهج التي تأخذ بعين الاعتبار دوماً المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة مع الحفاظ على الاُصول والثوابت ; فلا يخفى أنّ الأصالة والمعاصرة والتراث والتجدّد لا منافرة ولا تباين بينها إذا استجمعت


الشروط الموضوعيّة المشار إليها سابقاً ..

ولعلّ أخطر ما نودّ الإشارة إليه في سياق وظائف العقلانيّة : أنّها تتعامل ـ أي المفروض فيها ذلك ـ مع الاستفهامات المعرفيّة والتساؤلات العلميّة والغوامض والمبهمات والشكّيّات ونظائرها بروح الشفّافيّة والمسؤوليّة المفعمتين بالبرهان والدليل والشاهد والقرينة الحاسمة ، فالكلمة الفصل أخصب نتاجها ، والمجاملة على حساب الحقيقة والواقع خارجةٌ عنها تخصّصاً ; إذ كيف بالعقلانيّة التي تخوض غمار العمق والجوهر أن تقنع لنفسها بالخضوع لسلطان القشور الزائل؟! فهي تحفر رؤاها وحاصل كدحها على الذهن الإنساني كالنقش على الحجر ; كونها تقتات على العلم وتُرفَد بالعلم وتغوص في العلم وتنبعث من العلم وتقصد العلم ، فلو قُدّر للعقلانيّة أن تقتات على الـ «لو» والـ «إذا» لخرجت عن العنوان الذي اختير لها وصارت كمهنة المتنبّئين المفترشين طرقات السذاجة والبدع والخرافات والأوهام ..


رواشح التسمية

ممّا قيل في الإسم والتسمية :

ـ إنّ المواضعة على مستوى الألفاظ لابدّ أن تقترن بالإشارة الحسّيّة ، حيث تصوّر المفكّرون المسلمون أنّ الإسم بديل للإشارة ، ويقوم بوظيفتها خاصّة حال غياب الشيء الذي يراد الإشارة إليه .. الإسم في هذه الحالة نوع من الإشارة اللفظيّة استُبدل بالإشارة الحسّيّة وحلّ محلّها .. هذا إذا كان الإسم يدلّ على شيء موجود في الواقع الخارجي ، فإذا كانت هناك أشياء ليس لها وجود في الواقع الخارجي فإنّ الإخبار عن مثل هذه الأشياء يستلزم التسمية ، أي يستلزم المواضعة .. من هنا كانت المواضعة ضرورة لتحقيق التواصل الذي عُبّر عنه أحياناً بالبيان وأحياناً بالإنباء أو الإخبار ..

ـ الكلمات حدود ، مفاهيم ، قَوْلات ، مقولات ، إنّها تسميات لأشياء ، أشياء مادّيّة ، أو علاقات ، أو عمليّات .. إنّها عامُّ خصوصيّات وفرادات .. ومن بين أقسام الكلام أو أنواع الكلمات إنّ الإسم هو الأكثر مفهوميّة ، هو الأكثر قبضاً وإدراكاً وتثبيتاً ..


ـ متى ولج الإسم على الاصطلاح فإنّه قد يتجاوز وظيفته التبليغيّة ، وظيفة الوسيط بين العقل والوجود ، إلى منزلة دلاليّة مستقلّة ، تمكّنه من أن يغدو متعالياً على الأشياء والعقل معاً ، هكذا تصبح للألفاظ سلطة مستقلّة ووجود متميّز عمّا تمثّله من أشياء وأفكار أو تشير إليه من موجودات ; بسبب اكتنازها بالدلالة عبر تاريخها الطويل ..

نقول :

ما يهمّنا هنا تلك التسمية التي تُنتزَع وتُلَبَّس إثر الأفعال الساكنة ـ كترك الواجب وعدم النطق بالباطل ـ والمتحرّكة ، الصادرة عن جهد ذهني وعقلي ومادّي وغيرها ، المترشّحة علماً ومعرفةً وحضارةً وقيماً ومبادئاً وغيرها ، شرّيرة أو خيّرة ، خارقها وطبيعيّها ، مذلّها ومعزّها ، خالدها وفانيها .... هذه التسمية التي تنقلب بكثرة الاستعمال إلى علامة من علامات الحقيقة وتبقى ملازمة لصاحبها لا تنفكّ عنه إلاّ بالصعوبة البالغة رغم توفّر عناصر انسلاخها ، إنّها تمثّل حينئذ ركناً ومحوراً من محاور كيانه ووجوده ، بل ترقى بحيث تكاد تكون بمنزلة «التغاير المفهومي» ..

وتسري هذه التسمية على الفرد والاُسرة والمحلّة والمدينة والوطن والاُمّة والمجتمع والانتماء والهويّة والفكر ..

ولكن طالما خضعت «التسمية» لأسباب وعلل ودواعي غير حقيقيّة وتحقيقيّة ، بل ظالمة وتعسّفية ، نفعيّة وانتهازيّة ، لأدوات غير علميّة ومعرفيّة وأخلاقيّة ، لغايات غير إنسانيّة ، لأوهام وصناعات زائفة ،


لقسوة لا ترحم حتى الهفوة والخطأ العفوي ، لمصالح ومطامع تعظّم وتدمّر ، تضخّم وتفني ، تختلق وتمحو ...

فهذا يعني اضطراب الملاكات والموازين والضوابط ، فاختُرِقت مبادئ العلم والمعرفة والثقافة ، واهتزّت الحقيقة ، ونالت الأحكام والاُصول والتأريخ والتفسير ونظائرها نصيبها من التحريف والتزييف ، اللذين انعكسا بديهيّاً على المدوّنات والمقولات والتقريرات ، وصارت الهوّة تتّسع يوماً بعد آخر وغدا الاختلاف يتّخذ صيغاً وأساليب متنوّعة تبعاً للظرف وحجم الإمكانيّات ، وباتت الشبهة والتهمة والغفلة والنسيان ونظائرها ذنباً وكبيرةً لا تغفر ، وأضحت كبائر الأسياد وخطايا أولياء النعم وذنوب الجبّارين حسنات طيّبات .. وهذا ما يعني سحق الحقيقة بأقدام الحيف والضلال ..

إنّ مناهج الحذف والنفي والتزييف والتشويه والتحريف ما هي إلاّ أدواتٌ من أدوات «التسمية الباطلة» التي صادرت الحقيقة وتعدّت على حقوق الفرد والاُسرة والمجتمع والاُمّة والإنسانيّة طرّاً ..

لا شكّ أنّ الحروب والصراعات والحصار لن تصنع حلاًّ لهذه الأزمة الرهيبة ، أزمة القيم والأخلاق والمبادئ ، ولا نراها ـ أي الأزمة ـ منفرجة طبق القرارات والخطابات والأنساق الموجودة ، وسيستمرّ النقاش والخلاف ، ولن تكون هناك نهاية ايديولوجيّة تاريخيّة توحّد القلوب والعقول ، وستبقى لوائح الاسكندر المقدوني وكونفوشيوس وفوكوياما


ـ الذي تراجع عن نظريّته مؤخّراً ـ مجرّد أماني وأحلام لن ترى نور الحقيقة أبداً ما لم يأذن الله سبحانه وتعالى بمرحلة الحسم المرتقبة ; التي يحلّ بها القسط والعدل بدل الظلم والجور ، إنّه وعد إلهي ولن يخلف الله وعده ، وعدٌ بقلب كلّ المعادلات والموازين القائمة رأساً على عقب ، فيغدو المستضعف إماماً وارثاً ، ويسقط الطواغيت في وحل الذلّ والهزيمة ..

نعم إنّه تبارك وتعالى يروم المنّ على البشريّة حيث ينقذها من أدوات الحذف والنفي والتزييف والتشويه والتحريف ، بقيم وموازين ومبادئ ومناهج سليمة متقنة شاملة ..

وهذا الوعد والمنّة السماويّة لا تعني تبرير الخضوع والخنوع والسكوت القائل والسكون المميت ، الذي يسمّيه البعض : «تمهيدات ما قبل الظهور» حتى شاع مفهوم «التواكليّة» في اُمّتنا ، فأ ثّر سلباً على حركة العقل والتطوّر والنهوض ..

فالإنسان يبقى دوماً كادحاً إلى ربّه كدحاً علّه ملاقيه ، والكدح هذا حركةٌ مقدّسة دؤوبة تشمل العقل والأحاسيس ، وليس سكوناً هدّاماً يجرّ على الاُمّة ويلات الجهل والتخلّف ..


الإفلاس الفكري

يتلوّن البحث العلمي ـ بما ينضوي تحته من مسائل وفروع وعناوين وأبواب وبما يشتمل عليه من مناهج وأنساق وأدوات ـ بتلوّن الأفكار وتباينها ، فيتباين الخطاب ، وعلى طبقه يختلف التلقّي والقراءة والفهم والتحليل والاستنتاج .. ولا يمكن أبداً أن تنصهر الأفكار وتتوحّد في بوتقة وكيان وهويّة واحدة ; إذ سينفقد الفكر والعلم والمعرفة المعنى والدوافع والدواعي ، وتجفّ سواقي الرغبة والعشق ، ويسير العالم على وتيرة مملّة قاتلة ، فلا إبداع ولا تغيّر ولا تجديد ، وستأكل الثوابت نفسها من داخل وتتهرّأ الاُصول من جذورها ، حيث الثوابت والاُصول معمل شحنات دوّام ، فإذا لم تجد هذه الشحنات مفرغاً لها فإنّها تنفجر كالبركان فتقتل نفسها ومن حولها ، تقتل الاُصول والثوابت التي صنعتها ، ومن هنا لم يجد الإنسان بدّاً من صنع الأفكار وتسويقها عبر شتّى الأدوات والآليات ، فكان الاختلاف والتباين النتيجة الطبيعيّة في معترك الرؤى والبصائر ، ممّا أدّى إلى التصادم والصراع والتناحر ، سواء بالحوار أو الشجار أو التقاتل والموت حتى ..


وتحكم الأفكار واختلافاتها وإفرازاتها وتبعاتها عواملٌ وقواعدٌ ناشئة من نوع القيم والمبادئ والأخلاق التي يتبنّاها الفكر ، أيّ فكر ..

بات من الواضح أن جذر الصراعات جذرٌ فكري ، جذرٌ إنساني ، وطبق الدائرة الضيّقة فإنّها ـ بالقهقرى ـ راشحُ الجهد الفردي البشري ، فالفرد الواحد بإمكانه أن يغيّر المعادلات والتوازنات القائمة وأن يحدث الانقلابات الهائلة على صعيد المعرفة والثقافة والقيم .. ومن الطبيعي أيضاً أن تختلف قراءة وفهم واستيعاب ذلك الراشح الفردي ، سواءٌ في ذلك المعتقدون به والمناوءُون ، واختلاف المعتقدين من الممكن أن يفضي كذلك إلى تصادم صراع وتناحر ، انطلاقاً من نوع القراءة والفهم مضافاً إلى المؤشّرات الاُخرى كالمصالح والرغبات وغيرها ..

إلاّ أنّ المثير للجدل تداوم الاستهلاك الفكري المملّ داخل النظام الواحد والأنظمة المتغايرة ، الناشئ من الاختلافات المشار إليها ، بعبارة اُخرى : استمرار الاجترار وجدولة ذات المتغايرات تاريخيّاً وجغرافيّاً دون أدنى تبدّل ملحوظ ، فالإثارات والشبهات والافتراءات والأحقاد والآلام هي ذاتها ، والإجابات والردود والإيضاحات هي ذاتها أيضاً ، بلا أدنى تعب وجهد ..

نحن ضمن نطاق النسق الواحد أيضاً أشغلنا اُصولنا وثوابتنا ومبادئنا وثرواتنا وطاقاتنا بتجاذبات حرمتنا فرصَ النهوض والمواكبة والتفوّق ; فبدل أن نكون مصدر الإشعاع الذي تنعم البشريّة بقيمه وأخلاقه تمكّن


الآخر من إزاحتنا عن ميدان المنافسة والتفوّق ; بفعل خطط واستراتيجيّات ساقنا بها إلى انشغال قاتل ، استنفد ما لدينا من عقول وإمكانيّات ، ثم جرّنا إلى فخّ خطير يؤدّي بنا نهاية المطاف إلى إفلاس فكري يصيّرنا أفواهاً جائعةً جاهزة تلتقف بنهم شديد كلّ ما يصلها من أفكاره ، متسابقة لنيل أرقى مراتب التقليد والتبعيّة والالتقاط الأعمى ، فبات «التنوير» يعني : الوافد علينا ، والتخلّف والظلام يعني : قيَمنا ومبادئنا ، وكأ نّنا اُمّة لا تدرك فلسفة العلم والمعرفة والأخلاق ، وكأ نّنا نسينا اُصولنا وثوابتنا ، بل صرنا نستنكف من انتمائنا حتى ..

لقد شغلونا وأفلحوا ، شغلونا بمفردات تحريف القرآن وسبّ الصحابة والتقيّة وغيرها ، ولم يكتفوا بذلك بل أوجدوا فضاءً من الرعب والخوف والترويع بيننا ، زرعوا حاجز انعدام الثقة ، ساهموا في بناء الستار الحديدي الذي ضربه كلّ منّا على أفكاره وتصوّراته ، وصارت محاولة التعرّف على متبنّيات الآخر منّا محكومةً بالكفر والضلال ، الأمر الذي بات يهدّد الثوابت والاُصول بالنسف والتدمير ، وساءت الأحوال كثيراً إثر تسلّط أمثال الفكر التكفيري وغيره على مقدّرات وأذهان طيف كبير من الاُمّة ، الفكر الذي لا يفهم معنى الحوار مطلقاً ، لا يفهم سوى منطق السيف والدم ، ولم تستطع المحاولات الخجولة من ترويضه أو ردعه ، بل شمّر البعض عن ساعد الدعم لهذا الفكر بوسائل مباشرة وغير مباشرة عبر التحذير والإنذار من «مدّ الآخر» و «الهلال» و «الخطر» و «النفوذ» و «التوسّع» .... هذا «الآخر» المتّهم زوراً وبهتاناً بالخيانة والتآمر في


إسقاط الدولة الإسلاميّة العبّاسيّة والتنسيق مع اليهود في استلاب فلسطين ، المقذوف ظلماً ببيع الأوطان أخيراً ..

كلّ ذلك دون أن يمنحوا البحث العلمي السليم الفرصة المناسبة عبر الحوار الهادئ كي يقول هذا «الآخر» كلمته سواء في الخلافة والولاية والصحابة والقرآن أم في سائر موارد الخلاف والتصادم ..

إنّ «الإفلاس الفكري» المعهود قد بنى لكلّ هذه الاستهلاكات والاجترارات والمكرّرات المملّة صروحاً من الوهم والخيال ، أصرّ رجالاتها عليها رغم عقلانيّة «الآخر» النسبية في الدفع والردّ العلمي المنهجي الذي يتناسب مع حاجة العصر والمكان ، انطلاقاً من مفهوم «المعارضة» المتسالم عليه بين عقلاء العالم على أدنى تقدير ممكن في واقعنا الماضي والحاضر ، المفهوم الذي يعكس سمة حضاريّة رفيعة في طرح الآراء والأفكار بعيداً عن فضاءات التناحر والترويع والتخوين التي ما عادت تمثّل حالياً سوى عنصراً بارزاً من عناصر «الإفلاس الفكري» ..

وما الاضطراب والذهول والخوف والتوتّر الذي مُني به القوم ، المتبلور من خلال «الحملات الانفعاليّة» ، إلاّ شاهد كبير على خلوّ خزينتهم من مؤن المواجهة العلميّة العقلانيّة ، فراحوا يتشبّثون بالقديم الباطل من جديد ، مع أنّ الأحرى بهم مراجعة الثوابت والاُصول ومحاكاتها واستقراؤها ومقارنتها بشكل علمي واقعي ، سعياً إلى نتائج تخرجهم من الإفلاس المذكور وتجعلهم قادرين على محاورة «الآخر»


والتواصل معه طبق المشتركات الغالبة على الخلافيّات ..

ولا شكّ أنّنا جميعاً متمكّنون بالقوّة من إيجاد صيغة واحدة لفكرنا وهويّتنا من خلال التحاكم إلى المناهج العلميّة الصحيحة التي تأخذ بنا نتائجها إلى الممارسة العلميّة لمفهوم التوافق والتآلف ، وهذا ما يتوقّف على الإرادة والتصميم وخلوص النوايا والإيمان الحقيقي ..


الفكر المقارن ، ضرورة الصراع والحوار

وأنت في مكان ما ، في زمن ما ، في تفكير ما ... تحاول ـ طبق المألوف ـ الوصول إلى ما تريد بأقصر سبيل ، بأسرع وقت ، بأفضل نسق ... تسعى جاهداً إلى استثمار وتوظيف كلّ الفرص المتاحة لنيل المراد ، آخذاً بعين الاعتبار النتائج من حيث الثبات والرسوخ والاستمرار ..

ولا نريد أن نغمط حقّاً أو نحجّم مشروعاً أو نؤسّس ونتابع محاولات غايتها التضليل والإيهام ، إنّما نقترح معرفياً إيجاد آليات أكثر شموليّة وإحاطة وتأثير ودوام ، نقترح كياناً تخصّصيّاً يعنى بمراقبة ومراجعة وتحليل وتشخيص الأدوات الأمضى والأنفذ في عمليّة الحوار والصراع ، ولا نعني بالكيان وجوداً خارجيّاً بالضرورة ، فما ينبغي القيام به ـ وهي بلا شكّ حركة هائلة صعبة ـ توفير فضاءات تهدي إلى المطلوب ، عبر البوّابة الأصل والأساس ..

إنّ المحاولات المنجزة على صعيد المقاطع والموضوعات ذات المحدوديّة المعيّنة وإن أثبتت نجاحاً ومثّلت قفزةً ولبّت طموحاً لكنّها تبقى في إطار الجزء إزاء الكلّ ..


ورغم أنّ حركة الاستدلال بالجزء باتّجاه الكلّ «استقراءٌ» مثّل ولا زال يمثّل حاجةً معرفيّة ، كما أنّ حركة الاستدلال بالكلّ باتّجاه الجزء «قياسٌ شمولي» مثل ولا زال يمثّل حاجة معرفيّة ، كما أشار المنطقيّون إلى ذلك وأضافوا إليهما «التمثيل» ، الأمر الذي واجهه آخرون معترضين على حصر الدليل بهذه الثلاثة ....

إلاّ أنّنا نروم عرض وتحليل رؤيتنا بنهج قد يتقاطع مع المباني المنطقيّة ، وقد يختلف ، وربما يمثّل حلاًّ وسطاً جامعاً ..

رؤيتنا : تصوّرٌ قائمٌ على مقترح علمي معرفي ، يستنهض الحلول والمعالجات الشاملة الضاربة في عمق الجذور والاُسس ، ولا خيار أنجع من خيار «الفكر» ، فهو الذي يلقي بظلاله على روح الإنسان وجسمه ، لبّه وحناياه ، يقرّر للحياة مصيرها ونقاطها الحاسمة ، وما الفقه والأخلاق والاقتصاد والسياسة ... إلاّ رشحاً من رواشحه ..

إنّ درك الفكر ـ أيّ فكر كان ـ واستيعابه استيعاباً علميّاً صحيحاً يوفّر فرص التعامل الواعي معه من حيث الوقوف على نقاط التقاطع والاختلاف ، دوافع الصراع والحوار ، الوقاية والعلاج ، الأخذ النافع والضارّ ...

من هنا تكون اُطروحة «الفكر المقارن» هي الاُطروحة المتكاملة في فضاء «المقارنات» ; إذ تتناول وتشرف وتشرّح كلّ ما في ذلك الفكر من قيم ومناهج ومحتوى ، فقهاً كان أم اُصولاً أم اقتصاداً أم سياسةً ...


ورغم وعورة الطريق وصعوبة الأدوات ومحدوديّة الآليات إلاّ أنّ المراد سيكون أسرع وأقرب ، والنتائج ـ لا شكّ ـ أكثر تأثيراً وأبقى دواماً ..

إنّنا إذا تمكنّا من امتلاك أدوات «الإزاحة» فلِمَ الإصرار على طيّ المسافات والسبل الملتوية ولاسيّما أنّ «الزمكانيّة» تظلّ شاخصاً كبيراً أساسيّاً في عمليّة النجاح والرجحان ..

* * *

قبل الانتشار في فضاء الرؤية المطروحة لا بأس بمحطّة كلاسيكيّة تستعرض أصل العنوان لغةً واصطلاحاً ، وأصل العنوان عندنا هنا هو «الفكر» ، حيث إنّه موضوع البحث والرؤية ...

فنقول :

الفكر لغةً

قال ابن منظور الافريقي المصري : الفكْرُ والفِكْرُ : إعمال الخاطر في الشيء .. لسان العرب (فكر) ..

قال الجوهري صاحب الصحاح : التَّفَكُّر التأمّل .. الصحاح (فكر) ..

قال يعقوب : يقال : ليس لي في هذا الأمر فِكرٌ أي ليس لي فيه حاجة .. عنه في لسان العرب (فكر) ..

قال الزبيدي صاحب تاج العروس : الفِكْر ، بالكسر ويُفتَح : إعمال النظر .. تاج العروس (فكر) ..


وفي المحكم : إعمال الخاطر في الشيء .. المحكم (فكر) ..

الجمع : أفكار .. عن ابن دريد ..

وقال سيبويه : ولا يُجمَع الفِكْرُ ولا العِلْمُ ولا النَّظَرُ .. عنه في لسان العرب (فكر) ، تاج العروس (فكر) ..

قال الفيّومي صاحب المصباح المنير : الفِكْرُ ، بالكسر ، تردّد القلب بالنظر والتدبّر لطلب المعاني ، ولي في الأمر فِكْرٌ أي نظر ورَوِيَّة .. ويقال : الفِكْرُ ترتيب الاُمور في الذهن يتوصَّل بها إلى مطلوب يكون علماً أو ظنّاً .. المصباح المنير (فكر)

قال الطريحي في مجمع البحرين : والتفكّر : التأمّل .. والفِكْرُ بالكسر اسم منه ، وهو لمعنيين : أحدهما القوّة المودعة في مقدّمة الدماغ .. وثانيهما : أثرها ، أعني ترتيب اُمور في الذهن يُتوصَّل بها إلى مطلوب يكون علماً أو ظنّاً .. مجمع البحرين (فكر) ..

أقول : هذه مختارات ونماذج في تعريف «الفكر» لغويّاً ..

أمّا اصطلاحاً :

فممّا قيل في الفكر :

ـ آلة من آلات النفس تستعين بها على الإحاطة بالمعلومات .. إثبات النبوءات : ١٣٢ ..

ـ إنّ للنفس ـ أعني نفس البشر ـ أفعالاً ولكلّ فعل منها اسم يختصّ


به ، فهي إذا تطلّبت إدراك شيء ما فتطلّبها ذلك يسمّى الفكر. الرياض : ٧٤.

ـ هو المعنى الذي يوجب كون المرء متفكّراً .. شرح الاُصول الخمسة : ٤٥ ..

ـ هو تأمّل حال الشيء والتمثيل بينه وبين غيره ، أو تمثيل حادثة من غيرها .. المغني في أبواب التوحيد والعدل ١٢ : ٤ ..

ـ هو التأمّل للشيء المفكّر فيه ، بينه وبين غيره .. الذخيرة في علم الكلام : ١٥٨ ..

ـ هو التأمّل في الشيء المفكّر فيه .. الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد : ٩٤ ..

ـ هو تأمّل الشيء المفكّر فيه ، والتمييز بينه وبين غيره .. تمهيد الاُصول للطوسي : ١٩٢ ..

ـ هو إحضار الأصلين في الذهن .. الاقتصاد في الاعتقاد : ١٨ ..

ـ هو ترتيب اُمور معلومة ليتأدّى منها إلى أن يصير المجهول معلوماً .. لباب الإشارات : ١٧٣ ..

ـ هو تحديق العقل نحو المعقول .. تلخيص المحصّل : ٤٨ ..

ـ عبارة عن ترتيب مقدّمات علميّة أو ظنيّة ليتوصّل بها إلى تحصيل علم أو ظنّ آخر ..

ـ عبارة عن انتقال الذهن من المطلوب إلى مبادئه التي يحصل منها طالباً لها ثم منها إلى المطلوب ..


ـ إنّ من كان مطلوبه العلم بأنّ العلم ممكن ، فنظره لتحصيله هو انتقال ذهنه منه إلى مقدّمات دليله المذكور بأجزائها وترتيبها المستلزم لانتقال ذهنه إلى النتيجة التي نسمّيها قبل النظر مطلوباً ، فمجموع تلك الانتقالات هو المسمّى فكراً ونظراً .. قواعد المرام في علم الكلام : ٢٤ ..

اُنظر في ذلك كلّه : شرح المصطلحات الكلاميّة ، إعداد قسم الكلام في مجمع البحوث الإسلاميّة ، ص ٢٥٥ ..

ـ هو سلوك النفس الناطقة إلى تلخيص المعاني وهو معرفة ماهيّاتها .. المقابسات : ٣٦٣ ..

ـ ما يكون عند إجماع الإنسان أن ينتقل عن اُمور حاضرة في ذهنه متصوّرة أو مصدَّق بها تصديقاً علميّاً أو ظنّيّاً أو وضعاً وتسليماً إلى اُمور غير حاضرة فيه .. الإشارات والتنبيهات / ١ ..

ـ هو تخييل عقل موجود في حيوان ناطق .. في النفس : ١٤١ ..

ـ هو الذي يفعل التخييلات والتواطؤ والانبعاث .. في النفس : ١٦٩ ..

ـ هو الانتقال من المعلومات إلى المجهولات .. مطالع الأنظار : ٥ ..

ـ هو توجيه الذهن نحو المطالب المعلومة كي يتأدّى من تلك المبادئ إلى مطالب اُخر لأجل ترتيب واقع في المبادئ وهيئة حاصلة فيه .. (معرّب عن الفارسية) درّة التاج ١ : ١ ..

ـ هو الحركة في المقولات .. مطالع الأنظار : ٧ ..

ـ حركة النفس بالقوّة التي آلتها مقدّم الدودة التي هي البطن الأوسط


من الدماغ ، أيّ حركة كانت إذا كانت في المعقولات ..

ـ الحركة من المطلوب إلى المبادئ من غير أن ينضمّ إليها الرجوع فيها إليه ، أي إلى المطلوب ..

ـ هو حركة النفس في المعقولات مبتدئة من المطلوب مستعرضة للمعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئه المؤدّية إليه إلى أن تجدها ، وترتّبها ، فترجع منها إلى المطلوب .. مطالع الأنظار : ١٠ ..

ـ حركة للنفس إلى المبادئ لترجع منها إلى المطالب .. حاشية المحاكمات : ٣ ..

ـ إنّ قوّة الاكتساب تختلف قوّةً وضعفاً ، فإن كانت ضعيفة فهي الفكر .. حاشية المحاكمات : ٢٤٦ ..

ـ هو انتقال النفس من المعلومات التصوّريّة والتصديقيّة الحاضرة فيها إلى مجهولاتها المستحضرة .. الحكمة المتعالية ٤ : ٥١٦ ..

ـ حركة من المطالب إلى المبادئ ثم من المبادئ إلى المطالب .. الحكمة المتعالية ٤ : ٢٩ ..

ـ هو انتقال النفس إلى المعلومات التصديقيّة والتصوّريّة من معلوماتها المستحضرة فيها .. مفاتيح الغيب : ١٣٨ ..

اُنظر في ذلك كلّه : شرح المصطلحات الفلسفيّة ، إعداد قسم الكلام في مجمع البحوث الإسلاميّة ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ..


قال التهانوي في كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ج ٢ ص ١٢٨٤ (لبنان ناشرون) :

الفِكْرُ بالكسر وسكون الكاف عند المتقدّمين من المنطقيّين يطلق على ثلاثة معان :

الأوّل : حركة النفس في المعقولات بواسطة القوّة المتصرّفة ، أيّ حركة كانت ، أى سواء كانت بطلب أو بغيره ، وسواء كانت من المطالب أو إليها ، فخرج بقيد الحركة الحَدْس ; لأ نّه الانتقال من المبادئ إلى المطالب دفعةً لا تدريجاً ..

والمراد بالمعقولات : ما ليست محسوسة وإن كانت من الموهومات ، فخرج التخيّل ; لأ نّه حركة النفس في المحسوسات بواسطة المتصرّفة ، وتلك القوّة واحدة لكن تسمّى باعتبار الأوّل متفكّرة ، وباعتبار الثاني ـ أي باعتبار حركة النفس بواسطتها في المحسوسات ـ تسمّى متخيِّلة .. هذا هو المشهور ..

والأولى أن يزاد قيد القصد ; لأنّ حركة النفس في ما يتوارد من المعقولات بلا اختيار كما في المنام لا تُسمّى فكراً ..

ولا شكّ أنّ النفس تلاحظ المعقولات في ضمن تلك الحركة ، فقيل : الفكر هو تلك الحركة ، والنظر هو الملاحظة التي في ضمنها .. وقيل : لتلازمهما أنّ الفكر والنظر مترادفان ..

والثاني : حركة النفس في المعقولات مبتدئة من المطلوب المشعور


بوجه ما ، مستغرقةً فيها طالبةً لمبادئه المؤدّية إليه إلى أن تجدها وترتّبها ، فترجع منها إلى المطلوب ، أعني مجموع الحركتين ، وهذا هو الفكر الذي تترتّب عليه العلوم الكسبيّة ، ويحتاج في تحصيل جُزْأيْه المادّيّة والصوريّة جميعاً إلى المنطق ، ويجيء تحقيق ذلك في لفظ «النظر» ويرادفه النظر في المشهور بناءً على التلازم المذكور ..

وقيل : هو هاتان الحركتان ، والنظر هو ملاحظة المعقولات في ضمنهما ، وهذا المعنى أخصّ من الأوّل كما لا يخفى ..

والثالث : هو الحركة الاُولى من هاتين الحركتين ، أي الحركة من المطلوب إلى المبادئ وحدها من غير أن توجد الحركة الثانية معها وإن كانت هي المقصودة منها ، وهذا هو الفكر الذي يقابله الحدس تقابلاً يشبه تقابل الصاعدة والهابطة ; إذ الانتقال من المبادئ إلى المطالب دفعةً يقابله عكسه الذي هو الانتقال من المطالب إلى المبادئ وإن كان تدريجاً ، لكنّ شارح المطالع جعل الحدس بإزاء مجموع الحركتين ، فإنّه لا يجامعه في شيء معيّن أصلاً ، ويجامع الحركة الاُولى ، كما إذا تحرّك في المعقولات فاطّلع على مباد مترتّبة فانتقل منها إلى المطلوب دفعةً .. وأيضاً الحدس عدم الحركة في مسافة فلا يقابل الحركة في مسافة اُخرى ..

والتحقيق : أنّ الحدس بحسب المفهوم يقابل الفكر بأيّ معنى كان ; إذ قد اعتُبر في مفهومه الحركة وفي مفهوم الحدس عدمها .. وأمّا بحسب الوجود بالنسبة إلى شيء معيّن فلا يجامع مجموع الحركتين ويجامع


الأوّل والثالث كما عرفت .. ولا ينافي ذلك كون عدم الحركة معتبراً في مفهومه ; لأنّ الحركة التي لا تجامعه ليست جزءاً من ماهيّته ولا شرطاً لوجوده .. ثم إنّ هذا المعنى أخصّ من الأوّل أيضاً وأعمّ من الثاني ; لعدم اعتبار وجود الحركة الثانية فيه .. وعند المتأخّرين هو الترتيب اللازم للحركة الثانية كما هو المشهور .. وذكر السيّد السند في حاشية العضدي : أنّ الحركة الثانية يطلق عليها الفكر على مذهب المتأخّرين ، انتهى ..

ويرادف الفكر النظر في القول المشهور .. وقيل : الفكر هو الترتيب ، والنظر ملاحظة المعقولات في ضمنه ، هكذا ذكر أبوالفتح في حاشية الحاشية الجلاليّة ، ويجيء توضيح ذلك في لفظ النظر أيضاً ..

فائدة :

قالوا : الفكر هو الذي يُعدّ في خواصّ الإنسان ، والمراد الاختصاص بالنسبة إلى باقي الحيوانات لا مطلقاً ..

فائدة :

قالوا : حركة النفس واقعة في مقولة الكيف ; لأ نّها حركتها في صور المعقولات التي هي كيفيّات ، وهذا على مذهب القائلين بالشَّبَح والمثال .. وأمّا على مذهب من يقول إنّ العلم بحصول ماهيّات الأشياء أنفسها فتلك الحركة من قبيل الحركة في الكيفيّات النفسانيّة لا من الحركات النفسانيّة ..

فائدة :

الفكر يختلف في الكيف ، أي السرعة والبطؤ ، وفي الكمّ أي القلّة


والكثرة ، والحدس يختلف أيضاً في الكمّ وينتهي إلى القوّة القدسيّة الغنيّة عن الفكر بالكلّيّة ..

بيان ذلك : إنّ أوّل مراتب الإنسان في إدراك ما ليس حاصلاً من النظريّات درجة التعلّم ، وحينئذ لا فكر له بنفسه ، بل إنّما يفكّر المتعلِّم حين التعلُّم بمعونة المعلِّم ، وفي هذا خلاف السيّد السند ، فإنّ عنده لا فكر للمتعلِّم ، ثم يترقّى إلى أن يعلم بعض الأشياء بفكره بلا معونة معلِّم ، ويتدرّج في ذلك ، أي يترقّى درجةً درجةً في هذه المرتبة ، إلى أن يصير الكلّ فكريّاً ، أي بحيث يقدر على تحصيله بفكره بلا معونة معلِّم ، ثم يظهر له بعض الأشياء بالحدس ، ويتكثّر ذلك على التدريج إلى أن تصير الأشياء كلّها حدسيّة ، وهي مرتبة القوّة القدسيّة ، ومعناه : أنّه لو لم يكن بعض الأشياء حاصلة بالفكر فهو يعلمه الآن بالحدس ..

فإن قيل : في تأخّر هذه المرتبة نظر ; إذ لا تتوقّف صيرورة الأشياء حدسيّاً على صيرورة الكلّ فكريّاً ..

قلت : ليس معنى صيرورة الكلّ فكريّاً كون الكلّ حاصلاً بالفكر ، بل بالتمكّن منه كما عرفت ، ولا يراد بالتمكّن الاستعداد القريب بالنسبة إلى الجميع الذي يحصل بحصول مبادئ الجميع بالفعل ، ولا الاستعداد البعيد الذي حصل للعقل الهيولاني ، بل الاستعداد القريب ولو بالنسبة إلى البعض .. ولا خفاء في تأخّر هذه المرتبة عنه وإن كان لا يخلو عن نوع تكلّف ..


ثم المراد بالقوّة القدسيّة القوّة المنسوبة إلى القدس ، وهو التنزّه هنا عن الرذائل الإنسانيّة والتعلّقات ، انتهى ..

قال الحكماء : هذه القوّة القدسيّة لو وجدت لكان صاحبها نبيّاً أو حكيماً إلهيّاً ، فظهر أنّ الاختلاف في الكيف مختصٌّ بالفكر ، والاختلاف في الكمّ يعمّهما ، هكذا يستفاد من شرح الطوالع وشرح المطالع وحواشيه في تقسيم العلم إلى الضروري والنظري ..

قال الصوفيّة : الفكر مَحْتد الملائكة سوى إسرافيل وجبرائيل وعزرائيل وميكائيل عليهم السلام من محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ..

اعلم أنّ الدقيقة الفكريّة أحد مفاتيح الغيب الذي لا يعلم حقيقتها إلاّ الله ، فإنّ مفاتيح الغيب نوعان : نوع حقّي ونوع خَلْقي .. فالنوع الحقّي هو حقيقة الأسماء والصفات ، والنوع الخَلْقي هو معرفة تراكيب الجوهر الفرد من الذات ، أعني ذات الإنسان المقابل بوجوهه وجود الرحمن ، والفكر أحد تلك الوجوه .. بلا ريب فهو مفتاح من مفاتيح الغيب ، لكنّه أبَّنَ ذلك النور الوضّاح الذي يستدلّ به إلى أخذ هذا المفتاح ، فتفكّر في خلق السموات والأرض لا فيهما ، فإذا أخذ الإنسان في الترقّي إلى صور الفكر وبلغ حدّ سماء هذا الأمر أنزل الصور الروحانيّة إلى عالم الإحساس واستخرج الاُمور الكتمانيّة على غير قياس ، وعرج إلى السموات وخاطب أملاكها على اختلاف اللغات ..

وهذا العروج نوعان :


فنوعٌ على صراط الرحمن ، مَنْ عرج على هذا الصراط المستقيم إلى أن بلغ من الفكر نقطة مركزه العظيم ، وجال في سطح خطّه القويم ، ظفر بالتجلّي المصون بالدرّ المكنون في الكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون ، وذلك اسمٌ اُدغم بين الكاف والنون مسمّاه إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وسُلّمُ المعراج إلى هذه الدقيقة هي من الشريعة والحقيقة ..

وأمّا النوع الآخر : فهو التسحّر الأحمر المودع في الخيال والتصوير المستور في الحقّ بحجب الباطل ، والتزوير هو معراج الخسران وصراط الشيطان إلى مستوى الخذلان كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، فينقلب النور ناراً والقرار بَواراً ، فإن أخذ الله يده وأخرجه بلطفه بما أيّده جاز منه إلى المعراج الثاني فوجد الله تعالى عنده ، فعلم مأوى الحقّ ومآبه ، وتميّز في مقعد الصدق عن الطريق الباطل ومن يذهب ذهابه ، وأحكم الأمر الإلهي فوفّاه حسابه .. وإن أهمل انهلك في ذلك النار وترك على ذلك الفرار وطفح ناره على ثياب طباعه فأكلها ، ثم طلع دخانه إلى مشامّ روحه الأعلى فقتلها ، فلا يهتدي بعدها إلى الصواب ولا يفهم معنى اُمّ الكتاب ، بل كلّ ما يلقيه إليه من معاني الجمال أو من تنوّعات الكمال يذهب به إلى ضيع الضلال ، فيخرج به على صورة ما عنده من المحال ، فلا يمكن أن يرجع إلى الحقّ ..

اعلم أنّ الله خلق الفكر المحمّدي من نور اسمه الهادي الرشيد ، وتجلّى عليه بإسميه : المبدئ والمعيد ، ثم نظر إليه بعين الباعث الشهيد ،


فلمّا حوى الفكر أسرار هذه الأسماء الحسنى ، وظهر بين العالم بلباس هذه الصفات العليا ، خلق الله من فكر محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أرواح ملائكة السموات والأرض كلّهم لحفظ الأسافل والعوالي ، فلا تزال العوالم محفوظةً مادامت بهذه الملائكة ملحوظة ، فإذا وصل الأجل المعلوم قبض الله أرواح هذه الملائكة ونقلهم إلى عالم الغيب بذلك القبض ، فالتحق الأمر بعضه ببعض وسقطت السموات بما فيها على الأرض ، وانتقل الأمر إلى الآخرة كما ينتقل إلى المعاني أمر الألفاظ الظاهرة ، فافهم ..

كذا في «الإنسان الكامل» ..

ويقول في كشف اللغات ولطائف اللغات : الفِكْرُ في اصطلاح السالكين هو سير السالك بسير كشفي من الكثرة والتعيّنات ـ التي هي باطلة في الحقيقة ، أي هي عدم ـ إلى الحقّ ، يعني بجانب وحدة الوجود المطلق الذي هو الحقّ الحقيقي ..

وهذا السير عبارة عن وصول السالك إلى مقام الفناء في الله ، وتلاشي وامّحاء ذوات الكائنات في أشِعَّة وحدة الذات كالقطرة في اليم ..

انتهى كلام التهانوي في معنى الفكر ..

أمّا كلامه في معنى النَّظَر ، فيقول :

بفتح النون والظاء المعجمة ... وعند المنجّمين : كون الشيئين على


وضع مخصوص في الفلك ... وأمّا عند غيرهم كالمنطقيّين فقيل : هو الفكر ، وقيل : غيره ، وقد سبق ..

وقال القاضي الباقلاني : النَّظَر هو الفكر الذي يُطلب به علم أو غلبة ظنّ ، والمراد بالفكر انتقال النفس في المعاني انتقالاً بالقصد ، فإنّ ما لا يكون انتقالاً بالقصد كالحدس ، وأكثر حديث النفس لا يُسمّى فكراً ، وذلك الانتقال الفكري قد يكون بطلب العلم أو الظنّ فيُسمّى نظراً ، وقد لا يكون كذلك فلا يُسمّى به ، فالفكر جنس له وما بعده فصل له وكلمة ، أو لتقسيم المحدود دون الحدّ ..

وحاصله : أنّ قسماً من المحدود حدّه هذا ، أي الفكر الذي يُطلب به علم ، وقسماً آخر حدّه ذاك ، أي الفكر الذي يُطلب به ظنّ ، فلا يرد : أنّ الترديد للإبهام فينافي التحديد ، والمراد بغلبة الظنّ هو أصل الظنّ ; وإنّما زيد لفظ الغَلَبة تنبيهاً على أنّ الرجحان مأخوذ في حقيقة ، فإنّ ماهيّة الظنّ هي الاعتقاد الراجح ، فلا يرد : أنّ غلبة الظنّ غير أصل الظنّ فيخرج عنه ما يطلب به أصل الظنّ ، والمراد بطلب الظنّ من حيث هو ظنّ من غير ملاحظة المطابقة للمظنون وعدمها ، فإنّ المقصود الأصلي كالعمل في الاجتهاديّات قد يترتّب على الظنّ بالحكم بالنظر إلى الدليل ، فإنّ الحكم الذي غلب على ظنّ المجتهد كونه مستفاداً من الدليل بحسب العمل به عليه من غير التفات إلى مطابقته وعدم مطابقته ، ولاسيّما عند من يقول بإصابة كلّ مجتهد ، ولذا يثاب المجتهد المخطئ ، فلا يرد : أنّ الظنّ الغير المطابق جهل ، فيلزم أن يكون الجهل مطلوباً وهو ممتنع ; إذ لا يلزم من


طلب الأعمّ الذي هو الظنّ مطلقاً طلب الأخصّ الذي هو الظنّ الغير المطابق ، فلا يلزم طلب الجهل ..

وهذا التعريف يتناول النظر في القصور والتصديق ; لأنّ التصوّر مندرج في العلم ، وكذا التصديق اليقيني مندرج فيه ، فيتناول القطعي باعتبار مادّته وصورته كالنظر القياسي البرهاني والظنّي من حيث المادّة كالنظر القياسي الخطابي ، ومن حيث الصورة كالاستقراء والتمثيل ، وكذا يتناول النظر الصحيح والفاسد ..

اعلم أنّ للنظر تعريفات بحسب المذاهب :

فمَن يرون أنّه اكتساب المجهول بالمعلومات السابقة وهم أرباب التعاليم القائلون بالتعليم والتعلُّم يقولون : إنّ النظر ترتيب اُمور معلومة للتأدّي إلى مجهول ، وبعبارة اُخرى ترتيب علوم إلخ ; إذ العلم والمعلوم متّحدان والترتيب فعل اختياري لابدّ له من علّة غائيّة ، فالباعث على ذلك الفعل التأدّي إلى المجهول يقيناً أو ظنّاً أو احتمالاً فهو الفكر ، فخرج عنه المقدّمة الواحدة ; لأنّ الترتيب فيها ليس للتأدّي بل لتحصيل المقدّمة ، وكذا خرج أجزاء النظر وترتيب الطرفين والنسبة الحكميّة أو بعضها في القضيّة لتحصيل الوقوع واللاوقوع المجهول ، وكذا خرج التنبيهات ، وكذا خرج الحدس ; لأ نّه سنوح المبادئ المرتَّبة دفعةً من غير اختيار ، سواء كان بعد الطلب أوْ لا ، وأيضاً ليس له غاية لعدم الاختيار فيه ..

ودخل فيه ترتيب المقدّمات المشكوكة المناسبة بوجود غرض


التأدّي احتمالاً ، وكذا التعليم لأ نّه فكر بمعونة الغير ، وكذا الحدّ والرسم الكاملان ، إلاّ أنّ الأوّل مُوصِل إلى الكُنْه والثاني إلى الوَجْه ، لكنّه يخرج عنه التعريف بالفصل والخاصّة وحدهما ، وكون كلٍّ منهما قليلاً ناقصاً كما قاله ابن سينا لا يشفي العليل ، لأنّ الحدّ إنّما هو لمطلق النظر فيجب أن يندرج فيه جميع أفراده التامّة والناقصة ، قلّ استعمالها أو كثر ..

ولهذا غيّر البعض هذا التعريف فقال : هو تحصيل أمر أو ترتيب اُمور للتأدّي إلى المجهول ..

وكذا دخل فيه قياساً المساواة والاستلزام بواسطة عكس النقيض وإن أخرجوهما عن القياس لعدم اللزوم لذاته ، وكذا النظر في الدليل الثاني لأنّ المقصود منه العلم بوجه ودلالته وهو مجهول ..

وإنّما قيل «للتأدّي» ولم يقل «بحيث يؤدّي» ليشتمل النظر الفاسد صورة أو مادّة فيشتمل المغالطات المصادفة للبديهيّات كالتشكيك المذكور في نفس اللزوم ونحوه لأنّ الغرض منها التصديق للأحكام الكاذبة وإن لم يحصل ذلك ..

وغيّر البعض هذا التعريف لما مرّ فقال : النظر ملاحظةُ العقل ما هو حاصل عنده لتحصيل غيره ، والمراد بالعقل النفس ; لأنّ الملاحظة فعلها وأنّ المجرّدات علمها حضوري لا حصولي ، والمتبادر من الملاحظة ما يكون بقصد واختيار ، فخرج الحدس ، ثم الملاحظة لأجل تحصيل الغير تقتضي أن يكون ذلك لتحصيل غاية مترتّبة عليه في الجملة ، فلا يرد


النقض بالملاحظة التي عند الحركة الاُولى والثانية ; إذ لا يترتّب عليه التحصيل أصلاً ، بل إنّما يترتّب على الملاحظة التي هي من ابتداء الحركة الاُولى إلى انتهاء الحركة الثانية .. نعم ، يترتّب على الملاحظة بالحركة الاُولى في التعريف بالمفرد وهي فرد منه ، فتدبّر ..

فظهر شمول هذا التعريف أيضاً لجميع الأقسام ..

وأمّا مَن يرى أنّ النظر مجرّد التوجّه إلى المطلوب الإدراكي ، بناءً على أنّ المبدأ عامّ الفيض متى توجّهنا إلى المطلوب أفاضه علينا من غير أن يكون لنا في ذلك استعانة بمعلومات ، فمنهم من جعله عدمياً فقال : هو تجريد الذهن عن الغفلات المانعة عن حصول المطلوب ، ومنهم من جعله وجودياً فقال : هو تحديق العقل نحو المعقولات ـ أي المطالب ـ وتحديق النظر بالبصر نحو المبصرات ..

وقد يقال : كما أنّ الإدراك بالبصر يتوقّف على اُمور ثلاثة : مواجهة البصر ، وتقليب الحدقة نحوه طلباً لرؤيته ، وإزالة الغشاوة المانعة من الإبصار ; كذلك الإدراك بالبصيرة يتوقّف على اُمور ثلاثة : التوجّه نحو المطلوب ـ أي في الجملة ـ بحيث يمتاز المطلوب عمّا عداه كما يمتاز المبصر عن غيره بمواجهة البصر ، وتحديق العقل نحوه طلباً لإدراكه ـ أي التوجّه التامّ إليه ـ بحيث يشغله عمّا سواه كتقليب الحدقة نحو المبصر ، وتجريد العقل عن الغفلات التي هي بمنزلة الغشاوة ..

فإن قلت : الاستعانة بالمعلومات بديهيّة ، فكيف ينكرها؟


قلت : لعلّه يقول : إنّ إحضار المعلومات طريق من طرق التوجّه ، فإنّه يفيد قطع الالتفات إلى غير المطلوب ، ولذا قد يحصل المطلوب بمجرّد التوجّه بدون معلومات سابقة على ما هو طريقة حكماء الهند وأهل الرياضة ، والظاهر هو مذهب أرباب التعاليم ..

قيل : والتحقيق الذي يرفع النزاع من المتقدّمين والمتأخّرين هو أنّ الاتّفاق واقع على أنّ النظر والفكر فعل صادر عن النفس لاستحصال المجهولات من المعلومات ..

ولا شكّ أنّ كلّ مجهول لا يمكن اكتسابه من أيّ معلوم اتّفق ، بل لابدّ له من معلومات مناسبة إيّاه كالذاتيّات في الحدود واللوازم الشاملة في الرسوم والحدود الوسطى في الاقترانيّات وقضيّة الملازمة في الشرطيّات ..

ولا شكّ أيضاً في أنّه لا يمكن تحصيله من تلك المعلومات على أيّ وجه كانت ، بل لابدّ هناك من ترتيب معيّن فيما بينها ومن هيئة مخصوصة عارضة لها بسبب ذلك الترتيب ، فإذا حصل لنا شعور بأمر تصوّري أو تصديقي وحاولنا تحصيله على وجه أكمل ، سواء قلنا إنّ ذلك الوجه هو المطلوب أو أنّ المطلوب ذلك الأمر بهذا الوجه ، فلابدّ أن يتحرّك الذهن في المعلومات المخزونة عنده منتقلاً من معلوم إلى معلوم آخر حتى يجد المعلومات المناسبة لذلك المطلوب وهي المسمّاة بمبادئه .. ثم أيضاً لابدّ أن يتحرّك في تلك المبادئ ليرتّبها ترتيباً خاصّاً يؤدّي إلى ذلك المطلوب ،


فهناك حركتان : مبدأ الاُولى منهما هو المطلوب المشعور بذلك الوجه الناقص ، ومنتهاها آخر ما يحصل من تلك المبادئ ; ومبدأ الثانية أوّل ما يوضع منها للترتيب ، ومنتهاها المطلوب المشعور به على الوجه الأكمل .. فالحركة الاُولى تحصل المادّة ، أي ما هو بمنزلة المادّة ، أعني مبادئ المطلوب التي يوجد معها الفكر بالقوّة ، والحركة الثانية تحصل الصورة ، أي ما هو بمنزلة الصورة ، أعني الترتيب الذي يوجد معه الفكر بالفعل ، وإلاّ فالفكر عَرَض لا مادّة ولا صورة ..

فذهب المحقّقون إلى أنّ الفعل المتوسّط بين المعلوم والمجهول للاستحصال هو مجموع هاتين الحركتين اللتين هما من قبيل الحركة في الكيفيّات النفسانيّة ; إذ به يتوصّل إلى المجهول توصّلاً اختياريّاً ، للصناعة الميزانيّة فيه مدخل تامّ ، فهو النظر بخلاف الترتيب المذكور اللازم له بواسطة الجزء الثاني ; إذ ليس له مدخل تامّ ; لأ نّه بمنزلة الصورة فقط ..

وذهب المتأخّرون إلى أنّ النظر هو ذلك الترتيب الحاصل من الحركة الثانية ; لأنّ حصول المجهول من مبادئه يدور عليه وجوداً وعدماً .. وأمّا الحركتان فهما خارجتان عن الفكر والنظر ، إلاّ أنّ الثانية لازمة له لا توجد بدونه قطعاً ، والاُولى لا تلزمه بل هي أكثريّ الوقوع معه ; إذ سنوح المبادئ المناسبة دفعةً عند التوجّه إلى تحصيل المطلوب قليل ..

فالنزاع بين الفريقين إنّما هو في إطلاق لفظ النظر لا بحسب المعنى ; إذ كلا الفريقين لا ينكران أنّ مجموع الحركتين فعل صادر من النفس


متوسّط بين المعلوم والمجهول في الاستحصال ، كما لا ينكران الترتيب اللازم للحركة الثانية كذلك مع الاتّفاق بينهما على أنّ النظرين أمران من هذا القبيل ، ومختار الأوائل أليق بصناعة الميزان ..

ثم إنّ هذا الترتيب يستلزم التوجّه إلى المطلوب وتجريد الذهن عن الغفلات وتحديق العقل نحو المعقولات ، فتأمّل حتى يظهر لك أنّ هذه التعريفات كلّها تعريفات باللوازم ، وحقيقة النظر هي الحركتان ، وأن لا نزاع بينهم بحيث يظهر له ثمرة في صورة من الصور ..

فائدة :

المشهور أنّ النظر والفكر يختصّان بالمعقولات الصِّرفة لا يجريان في غيرها ، والظاهر جريانهما في غيرها أيضاً كقولك : هذا جسم ; لأ نّه شاغل للحيّز ، وكلّ شاغل للحيّز جسم ، كذا ذكر أبوالفتح في حاشية الجلاليّة للتهذيب .. وبقي ههنا أبحاث فمن أرادها فليرجع إلى حواشي شرح المطالع في تعريف المنطق ..

انتهى كلام التهانوي في كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ج ٢ ص ١٧٠٤ ـ ١٧٠٨ ..

* * *

تقول مي زيادة في نصوص خارج المجموعة ص ١٩ ، ٩٧ :

قال أرسطو : «لا يوجد شيء في الذهن إلاّ ويكون قد سبق وجوده


في الحواس» .. معناه : إنّ كلّ فكر من أفكارنا تكوّنه تأثيرات آتيات توّاً من الخارج أو مجتمّعات في خاطرنا من بقايا تذكرات ماضيات انتقلن إلينا بواسطة إحدى الحواسّ الخمس ..

يقول كمال الحاج في «دفاعاً عن اللغة العربيّة» ص ٨ ، ٢٥ :

الفكر كائن حيّ ، متى صُبّ في قالب يصعب من ثَم نقله إلى قالب آخر مع إبقاء بيانه وبلاغته .. ولقد كان ذلك دليلاً عندي أنّ الفكر لا يتحرّك في مهده إلاّ بشكل لغة ، مهما تعالى وشفّ وتناهى في طبقات التجريد الرفيع فهو لغة منذ النبضة الاُولى .. من الصعب والحال هذه إن لم يكن من المستحيل أن نقبض على فكر لا يكوّن لغة ، على فكر لا يكوّن هذا اللسان أو ذاك ، على فكر لا يُلفَظ وإن صمتاً .. هذا الفكر العاري افتراض لا واقع ، هو مشروع فكر لا فكر صحيح ، هو تخطيط فكر في سبيل أن يصبح فكراً تامّاً .. ولمّا كانت الفكرة تتميّز بوحدتها ، أي لا يمكن أن تكون هذه وسواها في الوقت ذاته ـ دون أن تفقد جوهرها الصافي ـ فمن الواجب أيضاً أن تتميّز بقالبها الاُم ، أي أن تكون اللغة الاُولى ذات وحدة ، فلا يمكن أن تكون هي وسواها في الوقت ذاته ..

يقول زكي نجيب محمود في «تحديد الفكر العربي» ص ١٧ ، ٣٠ :

الأصل في الفكر ـ إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم ـ هو أن يكون حواراً بين «لا» و «نعم» وما يتوسّطهما من ضلال وأطياف ، فلا الرفض


المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ولا القبول المطلق الأعمى يعدّ فكراً ، ففي الأوّل عناد الأطفال ، وفي الثاني طاعة العبيد ..

ويقول أيضاً في «مجتمع جديد أو الكارثة» ص ٢ ، ٥ :

ليس الفكر ترفاً يلهو به أصحابه كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجلٌ أراد أن يقتل فراغه ، بل الفكر مرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياةً يكتنفها العناء ، فيريدون لها حلاًّ تصفو لهم المشارب ، وبمقدار ما نجد الفكرة على صلة عضويّة وثيقة بإحدى تلك المشكلات نقول : إنّها فكرة بمعنى الكلمة الصحيح ..

يقول كمال الحاج في «الطائفيّة البنّاءة» ص ٣ ، ٣٦ :

قد ترجّح الفكر البشري في تاريخه منذ القدم بين ثلاثة حلول : روحي متطرّف ، مادّي متطرّف ، ثنائي وسط .. عندنا أنّ الثنائيّة خير الحلول ، إنّها تعكس حقّاً واقع الإنسان الحياتي ، الروحيّة والماديّة تجريدان ذهنيّان ، هما تصوير ، عن طريق الذهن المجرّد ، لإنسان لا شرايين له ولا عروق ولا أعصاب ولا قلب ، إنسانهما إنسان مركّب وفق ما يرتأيه الخيال .. يبقى أنّ الثنائيّة هي أفضل تعبير فلسفي عن آدميّتنا ، الإنسان جسد وروح معاً ..

اُنظر في ذلك كلّه : موسوعة مصطلحات الفكر العربي والإسلامي


الحديث والمعاصر ، الدكتور جيرار جهامي ، مكتبة لبنان ناشرون ، ج ٣ (مادّة فكر) ..

يقول محمّد عابد الجابري في «إشكاليّات الفكر العربي المعاصر» ص ١٢ ، ٥١ :

الفكر ليس مضموناً أو محتوى وحسب ، بل هو أداة أيضاً ، أداة لإنتاج الأفكار ، سواء منها تلك التي تصنّف داخل دائرة الايديولوجيا أو داخل دائرة العلم .. هو أداة بمعنى أنّه جملة مبادئ ومفاهيم وآليات تنتظم وتترسّخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتّحه على الحياة لتشكّل فيما بعد «العقل» الذي به يفكّر ، أي الجهاز الذي به يفهم ويؤوّل ويحاكم ويعترض ..

وفي ص ٦ ، ٥٢ يقول :

إنّ تلك المبادئ والمفاهيم والآليّات الذهنيّة التي تدخل في تكوين الفكر الأداة ، أو العقل ، هي عبارة عن عناصر متداخلة متشابكة بصورة تجعل منها بنية ، أي «منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحوّلات» ، الأمر الذي يعني أنّ الفكر أداة تعمل بثوابت معيّنة وأنّ عملها ذاك لا يخترق حدوداً معيّنة ، كذلك هي الحدود التي تنتهي عندها التحوّلات والتغيّرات التي تقبلها تلك الثوابت ، أي التي لا تمسّها في ثباتها وتماسكها .. غير أنّ هذه الخاصّية البنيويّة ليست مقصودة على الفكر


كأداة ، بل أنّ الفكر كمحتوى يمكن النظر إليه هو أيضاً كجملة من الأفكار والآراء والنظريّات تنتظمها عناصر ترتبط بعلاقات بنيويّة ، علاقات تجعل منها أجزاء تستقي دلالتها ووظيفتها من الكلّ الذي تنتمي إليه ..

يقول علي حرب في «الماهيّة والعلاقة ، نحو منطقي تحويلي» ص ٢ ، ٨٠ ، ٢٧ ، ٩٠ :

من معاني الفكر أنّه حركة وتوتّر ، أو وَجْد وارتحال ، فهو هذه الحركة المزدوجة جيئةً وذهاباً ، أوفعلاً وقبولاً ، أو بناءً وانبناءً ، بين ما يحضر وما لا يحضر ، أو بين ما نفكّر به وما نفكّر فيه ، أي بين المقدّمات والنتائج ، أو بين المبادئ والمطالب ، أو بين المقاصد والوسائل ، وإذا شئت الكلام بلغة اُخرى أقول : بين الأحكام والمسبقات ، أو بين المعطيات والبداهات ، أو بين المنطوقات والمسكوتات ، وذلك من أجل استحضار ما هو غائب ، أو تسمية ما لا تجوز تسميته ، أو قول ما يمتنع على الوصف والتعيين .. وهذه الحركة المركّبة هي في أصلها توتّر بين قطبين هما الأنا والعالَم ، أي بين الداخل والخارج ، أو بين الذهن الذي يجترح المعنى والجلد المثقوب بالجوارح .. وهذا التوتّر الفكري يتّخذ أشكالاً مختلفة .. قد يكون معاناةً بين الرغبة والقدرة ، أو تجاذباً بين النفس والغير ، أو تفاعلاً بين الفكرة والحدث ، أو بين المقولة والتجربة ، أو بين الخلوة للتأمّل والكتابة ، وبين المشاركة في ندوة أو النشر في صحيفة أو مجلّة ، للانخراط في النقاش وإدارة السجال .. ولأنّ الفكر هو توتّر فإنّ المنخرط في التجربة


الفكريّة لا يقطع ولا يبتّ ، أي لا يتوهّم يقيناً ولا يعرف أمناً ، وإنّما هو في تعايش دائم مع المشكلة ، ولذا فهو يقيم على طرق التناقض ، ويقف على حدّ السؤال أو على شفا الفجوة ..

ليس الفكر مجرّد تذكّر نتماهى به مع أصل أوّل أو مع نموذج كامل .. ولا هو مجرّد طوبى نتخيّل عبرها ما يجب أن يكون ، أو ما نأمل أن يقع .. وإنّما هو رهان لأن نكون على غير ما نحن عليه ، بتغيير علاقتنا بذواتنا وبالواقع في آن .. والرهان هو علاقة بالحاضر ، كما هو علاقة بالمستقبل والماضي ، إنّه تشخيص للواقع ، يوظّف الماضي من أجل إبقاء الحاضر راهناً دوماً ، بفتحه على المستقبل ، أي على المجهول واللامتوقّع ، وذلك بإقامة «علاقة نقدية» مع الحاضر ومع الذات وفقاً لصياغة ميشال فوكو ، علاقة تتيح للواحد أن يفكّر في ما لم يكن ممكناً التفكير فيه ، أو أن يفعل ما لم يكن بالمستطاع فعله .. وهكذا فالفكر هو علاقة بالحاضر عبر الماضي باتّجاه المستقبل ، تسمح للمرء بأن يصير على غير ما هو عليه ، فيما هو ينخرط في واقعة ويحيا زمنه ..

ولا يمكن لهذه الصيرورة أن تتحقّق إلاّ إذا مورس التفكير كتوليفة بين الحسّاسيّة الفائقة والفهم الخارق والخيال الخلاّق ... بكلام آخر : ليس الفكر المنتج الفعّال وقوعاً في فخّ الهوية ، ولا هو رجم بالغيب ، وإنّما هو صنع حقائق تفرض نفسها ، أو تشكيل واقع يترك أثره في المستقبل ، كما هو شأن كلّ حدث هامّ وخطير .. ولا شكّ أنّ محور التفكير هو العلاقة بما يحدث .. من لا يحيا زمنه أو لا يحسن التعاطي مع حاضره يتعلّق


بالمستقبل تعلّقاً طوباويّاً ، أو يتعامل مع الماضي تعاملاً اُصوليّاً ، وكلاهما خطر ومدمّر ، كلاهما يؤول إلى العزلة أو ينتج الضعف والهشاشة ..

ويقول أيضاً في «نقد الحقيقة» ص ٢٠ ، ١١٤ :

صحيح أنّ العقل مضطرّ بحكم بنيته نفسها إلى الانتهاء إلى مبادئ أوّليّة يبدأ بها ، أو إلى الوقوف على اُسس يبني عليها ، لكنّ مصير الفكر أن يكتشف مع كلّ محاولة أنّ الأوّليّات ليست اُولى وأنّ الاُسس مؤسَّسة بدورها وأ نّها تحتاج إلى السؤال والفحص .. هذا هو قدر الفكر ، إنّه يشتغل ، أي يوضّح ويبيّن بما ينمّ عن الوضوح والبيان ، أو بما ليس واضحاً بيّناً بذاته ، أو بما يحتاج أبداً إلى إيضاح وتبيان ، ولنقل ـ الأحرى ـ بما يحتاج إلى تفسير وتأويل .. إنّ الفكر يتأمّل ذاته فيما هو ينظر في موضوعاته ، أي أنّه يفكّر في مبادئه وبها في الآن نفسه .. ومبادئ الفكر وإن كانت تستعصي على الوضوح والتميّز بسبب من ذلك ، أيّ تفكير فيها إلاّ بها ، فهي لا تخرج بالكليّة عن فلك الفكر ; إذ لا معرفة اُولى .. ولهذا فالمهمّة التي يضطلع بها الفكر هي التنقيب عمّا يؤسّس الاُسس ، والبحث عن القبليات التي تسبق القَبْل ، والحفر في طبقات الأقوال عن بداهاتها التي لم تُقَل ، والضرب في ظلمات الأشياء عمّا غاب عنها وانتسى .. والمفكّر كلّما ضرب في ظلمة كشف وأضاء ، وكلّما حفر في طبقة ارتقى درجة في معارج المعرفة ، وكلّما بحث عن مسبق حقّق سبقاً وفتح إمكاناً لم يكن ممكناً ، وكلّما نقّب عن أصل أعاد التأسيس واستأنف الوضع ..


يقول محمّد شحرور في «دراسات إسلاميّة معاصرة في الدولة والمجتمع» ص ١٣ ، ١١٩ :

ينقسم الفكر إلى قسمين : الإدراك المشخّص بالحواس (الإدراك الفؤادي) وهو ما تنقله الحواسّ من صور مباشرة عن طريق السمع والبصر وبقيّة الحواس .. ثم يأتي الفكر في التحليل والتركيب ، والعقل في إطلاق الحكم ..

ونتوقّف في مجال الإدراك الفؤادي (الصور الاُولى التي ولّدتها الحواس) هذه الصور هي أقوى الصور تأثيراً عند الإنسان ; لأ نّها تولّد ما يسمّى بالانطباع المباشر ، الذي يتراكم لديه يوميّاً منذ نعومة أظفاره .. لذا فإنّ عمليّة استعادة هذا الانطباع المباشر للصور الآتية عن طريق الحواس ، والمتراكم كمعلومات مخزنة ، عمليّة تسمّى الذاكرة .. ولهذا فإنّ أقوى مؤثّر على الإنسان هو الشيء الذي يأخذ عنده انطباعاً مباشراً متكرّراً يوميّاً ، بحيث تندمج الانطباعات المباشرة والذاكرة معاً ، كشروق الشمس مثلاً ، فالإنسان يرمي شروق الشمس يوميّاً بانطباع مباشر ، ومن التكرار اليومي لهذه العمليّة تدخل في ذاكرته ، فكلّ الأشياء التي تدخل في انطباع الإنسان المباشر وذاكرته معاً هي من أقوى الأشياء تأثيراً على الفكر الإنساني وعلى توجيهه معاً ، وهي التي تفرض عليه فرضاً التفكير فيها وتحليلها وعقلنتها ..


اُنظر في ذلك كلّه : موسوعة مصطلحات الفكر النقدي العربي والإسلامي المعاصر ـ لبنان ناشرون مادّة «فكر» ..

يقول ديكارت في كتاب التأمّلات ـ على ما ينقله عنه الدكتور جميل صليبا في المعجم الفلسفي (مادّة فكر) ـ :

«ما هو الفكر؟ إنّه الشيء الذي يشكّ ويفهم ويدرك ويثبت ويريد ، أو لا يريد ، ويتخيّل ويحسّ» ..

يقول جميل صليبا : وفي هذا القول دليل على أنّ معنى الفكر عند «ديكارت» يشمل الإحساس والإدراك والتخيّل والشكّ والإثبات والإرادة .. وقد بطل اليوم استعمال لفظ الفكر بهذا المعنى العام ، حتى أنّ «ديكارت» نفسه لم يطلق لفظ الفكر على الحالات الانفعاليّة والإراديّة إلاّ من جهة ما هي حالات تدركها النفس بإعمال الفكر فيها .. فلا غرو إذا اقتصر الفلاسفة المتأخّرون على إطلاق لفظ الفكر على الأفعال العقليّة دون غيرها ..

إنّ الفكر عند «كانت» هو القوّة الانتقاديّة ، والفكر المتعالي عنده هو الفعل الذي يربط الظواهر بقوّتي الفهم والحدس ..

والفكر عند «مين دوبيران» هو القوّة الداركة التي تردّ الكثرة إلى الوحدة ..

وفي موسوعة لا لاند الفلسفيّة ، ج ٢ ، ص ٩٥٥ :

فكر ، فكرة PENSEE


D. Gedanke, Denken; E. Thought; I. Pensiero.

يمكن أن تقال هذه الكلمة في كلّ واحد من معانيها على مجمل الوقائع المعتبرة (الفِكر) ، وعلى كلّ منها على حدّة (فكرة) ..

أ ـ بالمعنى الأوسع تشمل كلّ ظواهر العقل .. «ما هو شيء يفكّر؟ إنّه شيء يرتاب ، يعني ، يتصوّر ، يقرّر ، يريد ولا يريد ، ويتخيّل أيضاً ويشعر» ..

٣٢ I, Philosophie, la de Prince ..Cf ـ ٧ mإditation, Deuxiإme Descartes,

وانظر (*) Ideإ في ما سبق.

لقد شاخ هذا المعنى ; وفوق ذلك ، حتى عند ديكارت ، يبدو تماماً أنّ الأحوال الوجدانيّة والإرادة لا تُدعى أفكاراً إلاّ من حيث اعتبارها معروفةً بالضرورة من قِبَل التي تريد أو تشعر : «أعني بكلمة فكر كلّ ما يتشكّل فينا بحيث إنّنا ندركه بأنفسنا مباشرةً .. لذا فإنّ : عَنى وأراد وتخيّل وكذلك شَعَرَ هي كلّها هنا شيء واحد مع فكّر» ..

Prine. de la Philosophie, I, ٩.

ب ـ بنحو عادي أكثر ، تُقال على كلّ الظواهر المعرفيّة (في مقابل المشاعر والمشيئات) .. عندئذ يكون الفكر مرادفاً للعقل وللعاقلة intelligence بالمعنى أ .. «لئن كان ثمّة حقائق فطريّة ، ألا ينبغي أن يكون هناك أفكار فطريّة؟ إطلاقاً ، لأنّ الأفكار هي أفعال» (وقائع بالفعل) ،


«ولأنّ المعارف أو الحقائق ، من حيث كينونتها فينا ولا نتفكّر فيها مع ذلك قطّ ، إنّما هي عادات أو استعدادات ، ونحن نعلم اُموراً كثيرةً لا نتفكّر فيها أبداً» ..

Leibniz, Nouveaux Essais, I, ch. I, ½ ٢٦.

ج ـ بالمعنى الأخصّ ، تقال على الإدراك والعقل ، من حيث إنّهما يسمحان بفهم (*) Comprendre ما يشكّل مادّة المعرفة ، ومن حيث إنّهما يحقّقان درجةً توليفيةً أرفع من الإدراك الصوري ، من الذاكرة أو الخائلة .. «إذن ليس الفكر أقلّ تميّزاً من الإدراك الصوري ، ولا هو أقلّ تميّزاً من الحسّاسيّة والإرادة ... فحين نتمثّل المدى نخرج من ذاتنا لندخل في مطلق الفكر» ..

ص J. Lachelier, Psychologio et Mإtaphysique,١٥٠

) بعد (Fondement de l¨ Inducation

كما أنّه يسمّي هذا الفكر «وعياً عقليّاً» في مقابل «الوعي الحسّي» .. المصدر نفسه ..

وفي الهامش ينقل عن «ج .. لا شلييه» قوله :

حول فكر ، فكرة Pensإe .. ـ هل ينبغي بإطلاق شطبُ معنى أوسع بكثير ، ومُبالَغ فيه قليلاً بلا ريب ، يُطلَق فيه اسم فكر على كلّ ما له بذاته طابع معقوليّة ومعاقلة ، حتى بلا وعي راهن ، لكن مع نزوع إلى الوعي ، بحيث يمكن القول مثلاً : إنّ الطبيعة أو حتى الكون في كلّيّته هو فكرة؟


أليست المآليّة الملازمة الكائنة في كائن حيّ هي فكرة بلا وعي ، تقود الكائن في مجرى تطوّره؟

يقول مجاهد عبدالمنعم مجاهد على ما ينقله عنه معن زيادة في «الموسوعة الفلسفيّة العربيّة» ج ١ «الاصطلاحات والمفاهيم» ، في مادّة «فِكْر» (تفكير) :

نشاط إنساني يحدث بشكلين رئيسيين : التفكير من أجل الحصول على معرفة بالشيء ، أو التفكير لإعمال العقل بشأن الإرادة ، وبهذا يكون عندنا التأمّل والتدبّر أو القصد .. ولهذا فإنّ أصحاب نزعة الظاهريّات ابتداءً من برنتانو ١٩١٧ ـ ١٨٣٨ يرون أنّ التفكير قصدي ، أي أنّه يتوجّه نحو موضوع ، وهذا الموضوع قد يكون عينيّاً وقد يكون تجرّديّاً ، والتفكير في الموضوع هو تفكير في صفاته أو في علاقاته ..

ويمكن حصر الاتّجاهات التي فسّرت التفكير في خمسة اتّجاهات :

١ ـ الأفلاطونيّة ، وهي ترى أنّ التفكير هو حوار في النفس يتضمّن كلمات ذهنيّة تشير إلى أشكال وإلى أفراد ، وعلى هذا فإنّ التفكير نشاط روحي ..

٢ ـ الأرسطيّة ، ترى أنّ التفكير فعل من أفعال العقل يظهر ماهيّة الشكل أو صورته العقليّة ..

٣ ـ التصوّريّة ، ترى أنّ التفكير نشاط لإبراز المفاهيم أو الأفكار أمام العقل ، وهو إمّا نظري أو يتشكّل من تجريدات الخبرات الحسّيّة ..


٤ ـ التخيّليّة ، التفكير نتيجة صور تخيّليّة ترتبط ببعض العادات نتيجة ميول العقل إلى التحرّك من صورة إلى صورة ..

٥ ـ النزعة الإسميّة السيكولوجيّة ، ترى أنّ التفكير هو حوار داخلي في النفس يستخدم الصور اللفظيّة أو الكلمات الذهنيّة التي تشير إلى الأشياء أو فئاتها ..

ويرى الفيلسوف المعاصر جلبرت رايل ١٩٧٩ ـ ١٩٠٠ في كتابه «مفهوم العقل» أنّ السلوك الحقّ هو الذي يتمّ استناداً إلى بعض مبادئ الاستدلال والموضوع والسلوك هو تطابق مع الاتّساق الاستدلالي ..

أمّا الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هيدغر ١٩٧٦ ـ ١٨٨٩ فإنّه يحلّل التفكير تحليلاً وجوديّاً ، ويرى أنّ التفكير دليل على نقص التفكير ، وأنّ ما يدفعنا إلى التفكير هو أنّنا لا نزال لا نفكّر ، واللغة أساسيّة للتفكير ، فعندما يتكلّم الإنسان فإنّه يفكّر وليس العكس ، والتفكير بهذا المعنى نداء ، وما ينادينا أن نفكّر فيه إنّما يعطينا غذاءً للفكر ، والتساؤل يعطينا التفكير والتفكّر ، ويمنحنا ثقة في التفكير باعتباره مصيرنا الجوهري ..

* * *

نقول : ولابدّ من الإشارة إلى نقاط :

أوّلاً : غير خاف أنّ الفكر لا يولد جماعيّاً ، فكلّ مراحل الولادة تجري فرديّاً بدءاً بانعقاد النطفة حتى الظهور الخارجي ..


بعبارة اُخرى : جميع العمليّات الثبوتيّة والتصوّريّة ذات اُسّ وأصل فردي .... نعم ، إمكانيّة الفكر الجماعي والانتشار الأوسع متصوّرة في عالم الإثبات والتصديق ، عالم الممارسة والتطبيق ، لذا فالأصل في صناعة الفكر والنظريّة والمذهب والتيّار والاتّجاه ونظائرها : الفرد .. أمّا القياسات والنسب الكمّيّة والكيفيّة والمقداريّة والبيانيّات فهي خاضعة لملاكات وضوابط علميّة معيّنة تحدّد من خلالها مؤثّريّة ونفوذيّة وديمومة هذا الفكر وذاك المذهب وتلك النظريّة ..

ثانياً : إنّنا لا نتعبّد ـ ونحن نطرح رؤيتنا في «الفكر المقارن» ـ بأخذ الكيانات الفكريّة الشاخصة وحدةً واحدةً لا تتجزّأ ; إذ من الواقعيّة أن نتعامل مع كيان فكري معيّن تعاملاً تفكيكيّاً ، فالمسيحيّة ـ مثلاً ـ لم تتّفق على فهم واحد لاُصولها وثوابتها ، بل اختلفت داخل إطارها المسيحي في ضبط الاُصول والثوابت ، فأثمرت الكاثوليك والبروتستانت والارثوذكس ، فرقاً تختلف في فهم القيم والتعاليم التي نادى بها المسيح عليه السلام .... بل علينا حمل التفكيك المذكور معنا حتى إلى أورقة الكاثوليكيّة بذاتها مثلاً ، فإنّها أيضاً تفترق داخليّاً في فهم تلك القيم والتعاليم ، وهكذا البروتستانيّة والارثوذكسيّة ..

كما لا ينبغي لنا أخذ الإسلام وحدةً واحدةً لا تتفرّط ، فالسنّة يفهمون اُصول ومبادئ الإسلام على غير ما يفهمه الشيعة ، بل السنّة في أروقتها الداخليّة اختلافٌ مشهود في ذلك الفهم أنتج المذاهب الأربعة المعروفة ، وهكذا الشيعة فإنّها قد تعدّدت الرؤى داخلها إزاء معنى الدين ،


فأنتجت فرقاً مختلفة وأفهاماً متباينة ..

ثالثاً : إنّنا نروم الضغط برؤيتنا هذه على القواسم المشتركة التي تجمع الكلّ ، والقدر المتيقّن من الانتماءات طرّاً أنّها تسعى حسب عقيدتها لبناء وتربية الإنسان ، على اختلاف الآليات والأدوات والأفهام والتأويلات .. وبهذا الضغط علّنا نوفّق في المساهمة بإيجاد فضاءات تنبذ العنف والكراهيّة والتعصّبات الجاهليّة ، وتنعش آمالاً طالما راودت البشريّة في العيش بأمن وحبٍّ وسلام ..

رابعاً : ديدننا دائماً جعل «العقلانيّة» نصب أعيننا ، جعلاً ماهويّاً فكريّاً ، وهذا ما يتطلّب إزالة الغموض والإبهام والغشاوة عن كثير من القضايا والأحداث والمواقف ..

وبذلك فإنّنا لا نقصد الإثارة وتوسيع الهوّة وتفعيل الصراع ، بل إنّ مقتضيات البحث قد تستدعي لوازم يصعب غضّ النظر عنها ، ولاسيّما إذا كان البحث يفقد عنفوانه وموضوعيّته بعدم الخوض فيها ..

خامساً : تمسّكاً بالمعايير العلميّة ومناهج البحث الصحيحة ، فإنّنا لا نصدر الأحكام المسبقة ، بل عندنا نسق معرفي نطرح من خلاله جميع الموارد المقصودة على طاولة المراجعة والتحليل والاستقراء والمقارنة والحفر ; لتسجيل النتائج الحاصلة ، ثم عرضها على سائر النتائج المسجّلة من الدوائر الاُخرى ; من أجل تطبيق رؤيتنا المشار إليها .. نحن إذن مع الدليل ..


سادساً : إنّ العيّنات التي تفيدنا في بيان رؤيتنا مأخوذة من النظريّات والمذاهب والأديان الفاعلة في فضاءات الفكر والعلم والثقافة ، كالمسيحيّة والإسلام والكونفوشيوسيّة والهندوسيّة .... لأسباب ودواعي لا تخفى على ذوي الاختصاص والنخب ..

سابعاً : لسنا بصدد الترويج لمبادئ «القرية الكونيّة» و «وحدة القلوب» و «نهاية التاريخ» ونظائرها ... إنّنا ننطلق من قيم واُصول تدعو إلى تربية الإنسان وإعانته على الدخول في فضاءات تأخذ به إلى الخير والهداية والفلاح ..

ثامناً : إنّنا نبحث في رؤيتنا عن إجابة لسؤال ينبذ العنف والحذف والتهميش ويرى في الحوار والأدوات الحضاريّة سبيلاً صالحاً للتوافق والسلام ... إجابة صريحة كاشفة عن جهد جادّ ونوايا شفّافة والتزامات أخلاقيّة وممارسات واعية تجنّب العالم ويلات الظلم وسائر القبائح ..

ومن السذاجة بمكان اعتقاد التأثير والنفوذ وإيجاد التحوّل والتغيير عبر المناهج والأدوات التي تهاجم وتتعدّى وتروّع وتحرّف وتحذف وتتطاول على القيم والثوابت ; إنّها تزيد الاُمور سوءاً ، فتضاعف الفجوة وتعمّق الخلاف وتوسّع التباعد ..

إنّ المعايير العلميّة الصحيحة والأنساق المعرفيّة السليمة هي التي تخلق فضاءات مناسبة للحوار ، ونعني بالحوار : العلمي المعرفي منه ..


بتعبير آخر : الحضور إلى طاولة البحث بلا مسلّمات وأحكام ونتائج مسبقة ، بلا تمترس عرقي ومذهبي ، إنّه الانطلاق وسبر الغور في كافّة المؤن الدليليّة الممكنة والمتاحة ، المستند إلى المبادئ والقيم الأخلاقيّة الرفيعة كالعدل والإنصاف والصدق .. إنّنا إن استطعنا توفير هكذا فضاءات فإنّه يعني ارتقاء المنصّة التي تقذف بنا إلى أجواء صالحة من الحوار والبحث العلمي البنّاء ..

وهذا يعني أنّ الروح الإنسانيّة باتت آنذاك مهيّأة للعودة إلى القيم والمبادئ النبيلة ..

إنّه مكسبٌ بشريٌّ كبير أن تتوفّر فضاءات الحوار المناسبة ، وهذا يكفي في التحرّك الجادّ صوب المنشود ثم تحقّقه ، فلا العنف ولا القذف ولا الافتراء ولا الأساليب الرخيصة تبلغ المقصود ..

نعم ، التعقّل والعقلانيّة والأساليب القائمة على الخصائص الإنسانيّة الحميدة وحدها التي تخلق لنا فرص التلاحم والمحبّة والسلام ..

إنّ المسيحي والمسلم والهندوسي والكونفوشيوسي والإلحادي ، الكاثوليكي والبروتستاني والارثوذكسي ، السنّي والشيعي ، كلّهم يدّعون مقصداً واحداً : «سعادة الإنسان» .. إنّما الاختلاف في الأنساق والأدوات والأفكار .. وطاولة البحث والحوار العلمي تعني الميل صوب الدليل أينما يميل ، بلا سبق في الحكم والقضاء ..

ولا نعني بطاولة البحث والحوار العلمي وبالفضاءات والأجواء ظرفاً


خاصّاً ، فالعالم بأسره والتاريخ كلّه ظرف متّسع لها ، إنّنا نهدف إلى ثقافة شاملة تقوم على مبدأ البحث والحوار العلمي البنّاء ، فلا نرى يوماً أن تزول الاختلافات والتناقضات ، فتقوم المدينة الفاضلة ، كلاّ ، إنّ غاية همّنا العمل على المشتركات بأساليب تعتمد القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة السليمة ، بلا عنف وترويع وإرهاب .. وكما أنّ تجفيف منابع التخويف والعنف والإرهاب لا يمكن أن يكون بالأساليب المسانخة ، بل بالنتائج الحاصلة عبر البحث والحوار ، فكذا الخلافيّات لا يمكن معالجتها بالخلافيّات ، إنّما بالعمل على محاور الجذب والتلاقي أوّلاً ، ثم السير قدماً نحو المقصود خطوة تتلو الاُخرى ، وكلّ خطوة لا شكّ لها شروطها وملاحظاتها وجداولها ..


فكرةٌ بلا رسالة

الفكرة التي لا تحمل رسالة خاويةٌ من الأساس ..

الفكرة التي لا يمكنها التعبير عن ذاتها ومحتواها ومقاصدها فكرةٌ بلا نفع ولا جدوى ..

الفكرة التي لا تمتلك الآليات والأدوات المناسبة للوصول إلى نقطة الهدف فكرةٌ محكومة بغبار الأرشفة وثلوج التجميد ..

يمكن للفكرة أن تتجسّد عبر كلمات معدودات ، ربما خلال لقطة سينمائيّة خاطفة أو حركة مسرحيّة سريعة ، ولعلّها تبرز من خلال ريشة فنّان في ثنايا لوحة واحدة فقط .... ناهيك عن موسوعات من الكتب والمدوّنات ومجاميع من السمعيّات والمرئيّات والمنبريّات والحواريّات والندوات والمؤتمرات ..

ليس هذا هامّ البحث ، إنّما هو فاعليّة الفكرة وحيويّتها وديموميّتها المطلوبة ، وهذا الهامّ لا يتحقّق إلاّ عبر منهج ونسق يراعي القيم والموازين العلميّة ، تلحظ العوامل الزمانيّة والمكانيّة مع حفظ الاُصول والثوابت ،


تلغي أو تتوقّف عن إصدار الأحكام المسبقة كي تأخذ مسارها المعرفي التطبيقي النتائجي في فضاءات الحوار والاستدلال العقلاني ، طبق المقرّر في كلّ المعايير العلميّة ، فلا يمكننا ـ مثلاً ـ أن نعلن مسبقاً أنّ الإسلام منح المرأة حقوقها ، بل لابدّ لنا أن نستعرض ما قاله الإسلام في المرأة وما لها وعليها ، استعراضاً علميّاً منهجيّاً وافياً يشتمل على المراجعة والاستقراء والمقارنة والتحليل والحفر والاستنطاق والاستنتاج ، تاركين الحكم لما بعد ، ولاسيّما أنّ كلّ مراجعاتنا واستقراءاتنا ومقارناتنا وتحليلاتنا وحفرياتنا واستنطاقاتنا واستنتاجاتنا ما هي إلاّ حالات من الفهم والتفسير والتأويل تنضوي جميعاً تحت قائمة «النسبي» إزاء «المطلق» ، فنحن نعتقد أنّ القرآن الكريم مطلقٌ كامل شامل يلبّي حاجة الإنسان أنّى كان ويكون ، أمّا أفهامنا وتفسيراتنا وتأويلاتنا وأفكارنا ورؤانا فإنّها مهما رقت وجالت في العمق تبقى ذلك «النسبي» إزاء المطلق ..

ومن هنا فإنّ فهمنا ـ مثلاً ـ لحقوق المرأة في الإسلام المترشّح من قراءتنا للقرآن الكريم والنصّ عموماً يظلّ يدور في شعاع «النسبي» ، فلا ينبغي لنا حسم الحكم مسبقاً ، بل لنا أن نعرض الرؤى والأفكار المستوحاة من فهمنا للنصّ عرضاً علميّاً منهجيّاً يأخذ بنظر الاعتبار كلّ الملاكات والموازين والمعايير التي يفتقرها البحث ، بلا حكم مسبق ..

إنّ الأخلاق ترفض الاستبداد بكلّ أشكاله ومنه الاستبداد الفكري ، وترفض تلك التعبديّات التي تصادر حرّيّة العقل ، فلا تؤمن بالوصفات الجاهزة ما لم توردها مختبرات العقل ، لذا بات من الضروري التسليم بأنّ


«سوق العقلانيّة» هو السوق المزدحم بزبائنه على الدوام ، وعالمنا اليوم غدا أشدّ حاجة إلى العقلانيّة من العوالم الغابرة بفعل التطوّر التقني والانفتاح العلمي المعرفي الثقافي ، حتى أضحى أهل الأرض وكأ نّهم يعيشون على نقطة كونيّة واحدة ..

إنّ الفكرة إذا اُريد لها الحياة والفاعليّة والبقاء لابدّ أن تخرج عن الاُطر التقليديّة السائدة وتلحظ بعين الاعتبار حاجة العصر مع حفظ الاُصول والثوابت ، لذا ينبغي لها :

أن تكون جذّابة المحتوى والعرض والاُسلوب ..

أن تفتح أوسع الآفاق للتواجد الفاعل دون الاقتصار على خاصّة النخب والأعلام ..

أن تراعي الحاجة المعاصرة ، يعني : أن تنظر بمنظار اليوم لا بمنظار الأمس ..

أن لا تكون استعراضاً للقوّة بمختلف معانيها ولا تمثّل الحشو الزائد المملّ ، فلطالما فعلت عبارة واحدة فقط ما لم تفعله موسوعات من المدوّنات ، أو لقطة سينمائيّة ومسرحيّة واحدة سريعة ما لم تفعله أفلام ومسرحيّات ومسلسلات ، أو زاوية من لوحة رسم ما لم تفعله معارض رسم بكاملها ...

و «الاُورجانون الجديد» الشهير الذي جاء به فرانسس بيكون فأحدث به تلك النهضة الصناعيّة الكبرى ليس سوى فصولاً مختصرة واضحة الفكر


والطرح والغاية ، دون استعراض عضلات الفكر والمعرفة والفنّ عبر مغاليق العبارات وغوامضها والموسوعات المطوّلة والأفلام واللوحات الكذائيّة ..

نعم ، الملاك والميزان صحّة الفكرة ومدى رواجها وفاعليّتها ومعالجتها لواقع الإنسان ومشكلاته وتمكّنها من الدوام أكثر فأكثر ..

لذا فصرف كون القرآن الكريم مطلقاً لا ينقذنا ولا يجدي لنا نفعاً إن لم نجد الآليات والأدوات المناسبة لتفسيره وفهمه ، على أن كلّ فهم وتفسير لا يعني وحياً منزلاً ; إذ تغيّر المكان والزمان ربما يجعل ذلك الفهم والتفسير محصوراً بمكانه وزمانه ، فنضطرّ إلى فهم وتفسير جديد لهذا المطلق الذي لا تنضب معانيه ورؤاه ، كيف وهو الشجرة المباركة التي تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ..

وهذا التصوّر ينسحب على كلّ مفاصل الحياة وشؤونها ، سواء في ذلك الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها ، لذا فعلوم التفسير والفقه والاُصول والكلام ... لابدّ أن تراعي المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة ، وهذا واضح لاخفاء فيه ، فكيف بنا العمل بمناهج اُصول يونس بن عبدالرحمن أو الفضل بن شاذان وغيرهما وتطبيقها في عصرنا الراهن وترك مناهج الاُصول التي جاء بها الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني وغيرهما التي تتناسب مع متطلّبات زماننا هذا؟! ، وهل عاد فقه المرتضى ـ مثل : الانتصار وجمل العلم والعمل ـ يمثّل حاجة اليوم بمثل ما يمثّله فقه


المعاصرين؟! ولعلّنا غداً نحتاج إلى فقه آخر غير فقه الحاضرين ... مع إجلالنا وإكبارنا لعلمائنا المتقدّمين منهم والمتأخّرين والمعاصرين على السواء ..

إنّ ثقافتنا ومعارفنا ومناهجنا وأفهامنا لابدّ أن تأخذ «العقلانيّة» بعين الاعتبار ، فالعقلانيّة يمكنها أن تسهم في تلبية حاجة العصر بل كلّ عصر ، ومن قال : «إنّها مستورد غريب لا يناسب اُصولنا ومناهجنا» فهو هروبٌ إلى الأمام وتمسّكٌ بالقشور وانقلابٌ على الجوهر والأصل ، ولاسيّما أنّ «العقل» له المكانة المميّزة في أدلّتنا وأدبياتنا ورسالتنا ونفاخر به على أقراننا وخصومنا ..

وكما يجب على الفكرة أن تكون رسالة معبّرة فاعلة تستوعب أوسع المجالات التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة ، يجب أن تكون متكاملة تكاملاً طبق المعايير العلميّة والموازين المعرفيّة ، فلا تدع مجالاً للشكّ والترديد والنقص والخلل ، ولا تحمّل المجتمع ما لا قدرة له عليه ، ممّا تجعله يتخبّط ويدور في حلقات مفرغة ويخوض غمار أروقة ومراتب لم ينضج فيها بعد ; فهي خارجة عن حيّز ممارساته وعياً وتطبيقاً ; كونها ذات خصائص من الدقّة الفائقة والتصوّر الشامل والإحاطة الكبيرة والنظرة العميقة متوفّرة في نخب المجتمع فقط ، والمجتمع عنوان عظيم يضمّ الجميع ، وأغلب الجميع قد ابتُلي بإحالات أحالها الكيان التشريعي أو الكيان القضائي والتنفيذي ، هي صعبة عليه جدّاً ، لا يمكنه الاستجابة والتكيّف والخروج عن عهدتها ; إذ مفروض الأمر وصول


الأحكام والقوانين كاللقمة السائغة إليه بلا بعثرة وتشطير ونقص وغموض ، فهو لا يستسيغ مثلاً : سوى أنّ غداً هو الأوّل من شهر رمضان فيصوم أو الأوّل من شوّال فيفطر ، أو أنّ السعي هو بين الصفا والمروة و «هما هذان» فيسعى بينهما طبق المسافات المحدّدة له طولاً وعرضاً ، أو أنّ هذا غناءٌ فهو حرام وليس غناءً فحلال ... أمّا أنّ المجتمع ـ الذي هو عبارة عن «العرف» ـ هو الذي يحدّد هذه الموضوعات وما سواها ، فإنّها وظيفة شاقّة جدّاً على المجتمع ، ولعلّه نوع هروب إلى الأمام قام به الكيان المتصدّي فأوقع ـ بلا قصد ـ المجتمع في شراك التخبّط والحيرة والوهم ، ناهيك عن عدم حسم كثير من «الموضوعات» التي أحالها الكيان الديني على المجتمع «العرف» ، فحينما تُذكَر حوالي عشرة تعريفات للغناء في الكتب الفقهيّة المعتمدة ولا يتعيّن أيّ منها عند ذلك الفقيه الكبير فكيف يفهم المجتمع ذو الغالبيّة العظمى غير المختصّة وعياً وممارسةً أنّ تلك الحصّة الخاصّة هي غناء فيحرم أداؤه وسماعه و ....

من هنا ينبغي تكرار محاولات الفهم لذلك المطلق لاستحلاب نسبيٍّ يكون قادراً على مكادحة الحاجة الزمانيّة والمكانيّة ، ولا شكّ أنّ رواشح القرآن الكريم والنصّ عموماً المدعومة بخطوات العقل وجهوده العلميّة ستوفّر بلا شكّ فضاءً من الفاعليّة والنشاط والنموّ القائم على الاُصول والثوابت ، الآخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات المختلفة ، فتكون الفكرة كما ينبغي لها أن تكون من التوفّر على الخصائص والمعايير والمواصفات الآنفة الذكر ..


ثورة الإبداع

يعيش الإنسان صراعاً بين أن يكون أو لا يكون ، بين أن يكون رقماً يشار له بالبنان ، رقماً فاعلاً في ميدان الفكر والإبداع والتأثير ، ممسكاً بأدوات وآليات ومناهج المعرفة ، فلابدّ حينئذ من تحمّل كلّ المشاقّ والآلام والمعاناة من حصار ووحدة وتهديد ومساومة ، تحمّلاً يسمو فوق التراجع والنكوص والهزيمة والحطّ من الكرامة والعزّ الإنساني ....

آنذاك يرقى الإنسان برقيّ فكره وإبداعه وتأثيره ; حيث يتحرّر من دوائر التبعيّة والتقليد الكفيف والخضوع للإملاءات الفردانيّة والإغراءات المثيرة ..

وشرطُ الرقيّ غيرُ منحصر بهذه المقاومات والتضحيات ، بل يعتمد أوّلاً مبدأ التسلّح العلمي الثقافي المرتكز على الاُسس الصحيحة والأنساق الرفيعة والأداء المطلوب والانتخاب السليم ....

وحينما يرقى الإنسان على هذا المنوال تسمو المبادئ والمفاهيم وتفتح آفاقاً في القلوب والعقول ; إذ رقيّ الإنسان انعكاسٌ لرقيّ القيم ،


ذلك الإنسان الذي آلَ على نفسه إلاّ أن يكون مركز إشعاع وقطب هداية ومحور تأثير ..

فالفكرة قد تصدر ممّن توفّرت فيه شروط الإصدار ، وقد تصدر ممّن سواه ، وشتّان ما بينهما في التأثير والتغيير ، ولعلّ الثاني أقرب إلى التخريب والنسف منه إلى الإعمار والبناء ..

ولا نحسبُ الناسَ رعاعاً عواماً لا يفقهون شيئاً ، فهذا أوّل الفشل ، علينا أن نحسب فيهم الوعي والبصيرة ، كلٌّ حسب وعيه وبصيرته لا حسب جهله وقصر فهمه ، حسابٌ مرتكزٌ على الحقيقة والعدل والإنصاف ..

إنّ المعارف والعلوم والفنون تبقى قوى كامنة إن لم تجد الطريق الصحيح إلى حيّز الممارسة والفعليّة ، والطريق الصحيح هو الإبداع الإنساني والبلورة الابتكاريّة طبق الأنساق العلميّة السليمة والأدوات المعرفيّة المباحة التي تجيد قراءة العلوم والفنون واستنطاقها وتحليلها ومقارنتها واستخلاص النتائج منها ، سواء بالاكتشاف أو الاختراع ، وإلاّ فهي عبءٌ ثقيل واجترارٌ مُمِلٌّ وتبعيّة مرهقة ..

ولا نريد الحطّ من قدر الأداء التنفيذي وإنجاز المهامّ الملقاة على عاتق الإنسان ، لكنّه جهد يغلب عليه العنصر الفيزيائي التقليدي ، وهذه الحاجة من السهل تذليلها والاكتفاء منها ; لاحتواء مخازننا الإنسانيّة عليها ، إنّما الحاجة التي تكلّفنا باهض الدفع هي عناصر الابتكار


والإبداع ، عناصر الضغط على الوتر الحسّاس من النقص والخلل والعجز ، العناصر التي توجد مؤن الردم والإصلاح والإبدال ..

إنّ تحقّق هكذا عناصر مرتهن بوجود السبل المناسبة لظهورها ، السبل التي تستدعي مزيد تضحيات وتحمّل كثير صعاب وربما مجازفات تتخلّلها عراكات وخسائر وانهدامات مادّيّة وفكريّة ... آنها ستنهض هذه العناصر وهي تحمل في ذاتها اُسّ الوعي ، الوعي المتولّد من رحم الاُمّة وصلبها ، المنبثق من جروحها وآلامها انبثاق الفهم والإدراك ، فلابدّ لها حالئذ ـ وهي بحوزتها التفكير الإبداعي والعقل الابتكاري المترشّح من الأدوات المعرفيّة المعهودة ـ أن تمنح الاُمّة حصيلة مجهودها الفكري من خلال الوقوف على موارد النقص والخلل وإيجاد الحلول والمعالجات الصحيحة ..

إنّ الميل صوب الحفر والمراجعة والاستنطاق والبعثرة والمقابلة والتحليل يفرز ثورةً من الأفكار والرؤى المنبعثة من رحم الرسالة والنصّ المقدّس ، ثورةً على كلّ مظاهر الزيف والقشور والانهزاميّة والأوهام والضبابيّة ، ثورةً يقودها العقل ويحرسها الإحساس ويباركها الربّ العظيم ..


الإبداعُ إمتاع

كم هو رائع وجميل أن تكتب أو تقول أو تفعل أيّ شيء فيه من الجديد والإبداع ما تلتذّ به الذات ويلتذّ به الآخرون ويستمتعون بقراءته وسماعه ومتابعته ، قبال ما يصيبهم من الملل والتضجور إثر المكرّرات والاجترارات التي لا تشكّل سوى عبئاً ثقيلاً على الجميع ..

إنّ المحاور الثلاثة : اللغة والتاريخ والفكر ، هي الأساس في بناء الأنساق والمناهج والمعايير التي تنقل البشريّة إلى عوالم التغيير والتكيّف والحيوية والنموّ ; إذ نحن محكومون بضرورة التوصّل والعثور على أفهام ومعاني جديدة ، كلٌّ حسب شاكلته ...

فالنصّيّون لابدّ أن يجدوا تأويلات وتصوّرات وآفاقاً اُخرى تعيد أو تجدّد للنصّ حضوره الفكري والميداني الفاعل ، موجَدات تحاكي الزمان والمكان وتحافظ على الثوابت والاُصول ولاسيّما أنّ النصّيّين يصرّون على تمزيج المباني بمؤنة العقل ، هذا هو الشاخص الذي بقي المؤشّر المحوري على طول التاريخ في بقاء أو زوال الفكر أيّ فكر ، فإذا ما نشطت مدارس ومذاهب ورؤى وأفكار فإنّما مردّه إلى تلك الأنساق


والمناهج التي صاغها العقل الإنساني لتوليدها وبثّها والترويج لها وديمومتها ... ونحن إذ نستقي من معين «المطلق» ما يجعلنا قادرين على البقاء والصمود قبال أمواج التغيير المستمرّة باستمرار الحياة ، فهذا ما يترجم الحاجة الملحّة إلى تكثير معاقل الفهم والاستنباط وتشييد وترسيخ بنى العقل التحتيّة ; لإنتاج مزيدَ المعاني والتغييرات التي تكادح التهديدات بشتّى صنوفها ، ومحاولاتنا التاريخيّة في الفهم والاستنباط إلاّ مجرّد «نسبي» والنسبي يبقى بصفاته ويزداد نحولاً كلّما داهمته الأزمان والأصقاع ..

إنّ الفهم التبريري لـ : «لا اجتهاد قبال النصّ» أفيونٌ تخدّر وتكهّف به «تنابلة العلم» ليخروجه عن إطاره الصحيح ويفرغوه عن محتواه الأصيل ; إذ معناه : لا اجتهاد مناف ومباين للنصّ ; فالمراد بـ «قبال» هنا : التعارض والتباين والتجاوز .. ولا معنى آخر لها غير ذلك ..

أمّا إذا كان الاجتهاد هو ذلك الذي يماهي النصّ ، وينقّب في أعماقه ، وينشأ من رحمه بالمراجعة والاستقراء والحفر والمقابلة والتحليل ، القائمة على الاُسس العلميّة والمعايير المنهجيّة فإنّه اجتهادٌ يأخذ بالنصّ إلى حيث مواقعه الحقيقيّة من الحاكميّة والحيويّة والديموميّة الميدانيّة ، بخلاف ذلك الجمود المخيف الذي يقلّل من فرص التأ لّق ويطفئ شمعة الأمل ويزرع أحراشاً من الملل والضجر والتعب والانحراف ..

إنّنا إن أردنا أن نكون في حيّز الإبداع والإمتاع الفكري والعقائدي


والثقافي فما علينا إلاّ التحرّر من خيوط القشور قاصدين لبّ القيم وجوهرها ; لننشئ شراكةً بين الأصالة والثوابت والقيم من جهة ، وبين حركة التجديد والتغيير والحاجة الملحّة من جهة اُخرى ، تدرّ علينا أرباحاً من الأفهام والمعاني والممارسات التي تقوّض المحاولات التي تروم بنا الحذف والنفي والإبعاد ..


الإبداع قرين الصدق

الفكرة التي لا تحمل طابع الإبداع فهي اجترارٌ وحملٌ ثقيل وتكرارٌ مملّ .. والإبداع الذي يجافي الصدق والخير لا بارك الله فيه .... فالفكر المبدع هو ذلك السبيل الألِق نحو بلوغ الحقيقة ..

وللحقيقة شروطٌ إن حصلت ستؤتي ثمارها اليانعة التي تنمو بها الإنسانية والقيم والمبادئ والأخلاق ..

إن نزع الإنسان عن ذاته لباس الزيف والخوف والمنفعة والضعف وتحلّى بما ينبغي أن يكون عليه ، بما تفرضه عليه إنسانيته الواقعية ، فإنّ قيم الشرّ والظلم وسائر مصاديق القبح تضمحل فيه وتأفل وتسود قيم العدل والخيروالأمان والفلاح في أعماقه وترفل ..

إنّ أساس مشكلة الإنسان هي مع ذاته ، إنّه حينما يهتزّ ويتراجع ويكذب ويخون ويماري ... فإنّه يُلِحق الضرر أولاً بذاته ; إذ المفروض بناء الذات طبق القيم والمبادئ الصحيحة ، أمّا الظهور على مسرح المفاهيم والأخلاق ظهوراً قاصداً قشور الحقيقة فإنّه لن يوصل إلى الغاية المطلوبة ;


حيث استعاض بالوسيلة عن الهدف ، إنّه قاصد السراب الذي لن يبلغه قطّ ..

إذا أراد كل منّا أن يكون مبدعاً في حياته ، اُسرته ، مجتمعه ، اُمّته ، عمله ، فكره ، ثقافته ، معرفته ، أخلاقه ، دينه .... لابدّ أن يكون صادقاً مع ذاته ، مع غيره ، مع قيمه ومبادئه .. وهذا شرط محوريٌّ في الإبداع رغم صعوبته ، فلربما يحول بيني وبين الحقيقة خوفٌ أو طمعٌ أو أيّ ضعف ونقص وخلل غيرهما ، وبتخطّيهما يسمو بمراتب العزّ والكمال ويحلّق في آفاق القيم والمبادئ ألقاً شامخاً ..

إنّ الصدق والمعاناة والأصالة تخلق فرص الانتشال من خطر السقوط في أوحال الهزيمة القيميّة والمبدأية ..

إنّ الرغبة والشوق والحركة والداعي والعشق والبعث والتصوّر والتصديق كلّها تصنع الفضاء الذي ينمو فيه الصدق والوفاء والإخلاص والإبداع ..


معنى التغيير

مادام «العقل الإنساني الإيماني» فاعلاً فإنّ رواشحه دوّامةٌ زاخرةٌ تبسط نفوذها وتمتدّ إشعاعاتها متجاوزةً عناصر التاريخ والمكان ، فهي تُناغِم «المطلق» تناغماً يصنع نتاجاً مبتكراً يحاكي الظرف ويعتمد الثوابت والاُصول عبر المعايير السليمة المستفادة في عمليّة الفهم والاستنباط ..

لا شكّ أنّ الإنسان مجبولٌ على النموّ والتغيير ، تغيير الواقع بما يتناسب مع الضرورة ، وبما يتيح له الاستجابة الإيجابيّة لنتائج حركة العقل والفكر التي تفرض شروطاً جديدة ، فهماً جديداً ومعنى حديثاً لما يحتويه «الأصل» الذي آمنّا به ثابتاً شامخاً متكاملاً يعطينا المطلوب طبق الشروط العلميّة المعرفيّة السليمة ..

إنّ تيار التغيير المعهود جارفٌ لا يمكن التصدّي له والإطاحة به ; إذ ذلك يعني مجابهة نشاط العقل والفكر والجمود على وقائع وظروف لا تتماشى مع حاجة المكان والزمان أبداً ، وهي في النتيجة مجابهةٌ : الخاسر والمهزوم فيها نقيضُ العقل والفكر ..


إنّ الخروج من دوائر الرتابة والملل وإضفاء المتعة والجاذبيّة على برامج الحياة المختلفة ، لا شكّ أنّه ابتكار عقلي قائم على مناهج وأنساق معيّنة ، إلاّ أنّ الخطورة تكمن فيما لو كان الغرض من تلك المتعة والجاذبيّة مخدوشاً يحمل في طيّاته ألواناً من المكر والخداع ممّا يكون أشبه بالفخ الذي يراد به إيقاع الفريسة في الشباك ، لذا فتلك المتعة والجاذبيّة القادمة من دهاليز المكر والخديعة وباءٌ لا يمكن الحدّ من انتشاره المذهل السريع ، وبه تصاب الاُمّة بنكسة مروّعة وإحباطة كبيرة لا يُعلَم زمن الإفاقة منها ..

إنّ اشكاليّة العمل بالمرفوضات خلقت عندنا أجواءً من الضبابية وانعدام الثقة ، فإنّنا رفضنا العمل بالقياس ـ مثلاً ـ في قاموس انتمائنا ومبادئنا لكنّنا تشبّثنا به في مفاصل استراتيجيّة من ممارساتنا وتطبيقاتنا ، حتى باتت ثقافةً سرت إلى أصغر خلايا المجتمع ، فصار ربّ الاُسرة والحلقة والمجموعة والكيان ... يمارس الريادة المستوحاة من ثقافة الصلاحيّات والاختيارات الممنوحة للنائب العامّ بغيابه (عليه السلام) ، وهذا ما ولّد بطبيعة الحال سلسلة من التناقضات والتصادمات والتهافتات التي نشهدها حيّةً واضحةً في ظروفنا الآنية كما شهدها أهل الأمس وسيعاني منها أيضاً أهل الغد ، ولاسيّما أنّ هذه الثقافة قد قادت وتقود إلى سلسلة من القرارات الفرديّة الناشئة من ذلك الفهم الذي يسمو بالفرد فوق كلّ القيم والقوانين والمعايير ويبلغ به مرتبةً لا يعلوه بها سوى الله سبحانه وتعالى ، لذا فالتغيير إذا وقع فإنّه يتجاوز كلّ الأفهام الموجودة التي تعطّل النموّ وتأخذ


بالإنسان إلى متاهات الاستبداد والاختناق والتراجع ، إنّه يمنحنا فرصة جديدة للحياة مستقاة من فهم جديد للثابت والأصل ..

إنّ الشرخ الذي تحدثه عمليّة الجذب والإمتاع المزوّرة والأخذ بالمرفوضات ، شرخٌ لا يمكن ردمه باليسر والسهولة ; إذ بديهة سرعة الهدم على حساب البناء قائمة لا تزول ، ورأب الصدع يفتقر مؤن ومناهج وتضحيات تستنزف الكثير من الموارد والطاقات ، وربما تحتاج زمناً طويلاً من الجهد والسعي الحثيث لإعادة الاُمور إلى نصابها الصحيح ..

على أنّ الوقاية هي خيرٌ من العلاج أبدا ، نعني : إنّ القرارات الحاسمة قد تغيّر مصير اُمّة بكاملها ، سلباً إن جاءت على خلاف المعايير العلميّة والعقليّة والمبنائيّة ، إيجاباً إن كانت خاضعة للأنساق والمباني والدراسات السليمة ; خصوصاً إن كانت تلك القرارات تمثّل مفترق طريق يصعب تصوّر العودة والتراجع عنها ، لذا فإنّ المنهج الصحيح يعني استخدام كافّة الأدوات المعرفيّة المتاحة قبل الولوج في فضاء القرار والإقدام عليه ، والندم لا يصنع المعاجز ، والخطأ الواحد قد يقلب الاُمور رأساً على عقب ، ولعلّ من أخطر رواشحه تزلزل المصداقيّة ، الأمر الذي يعني انهدام أركان واسعة من الكيان ، أيّ كيان ، وتكون عمليّة البناء الجديدة أكثر مشقّةً ومعاناة ; ولاسيّما إن كانت عمليّة البناء الاُولى مصحوبة بمتانة المصداقيّة وتوفّر الثقة التامّة ، بخلاف الثانية .... والذي يلحظ آثار كلا العمليّتين يرى ويلمس البون الشاسع بينهما من حيث الحيويّة والآثار والاستمراريّة ..


يتحصّل من كلّ ذلك : أنّنا محكومون ـ في كلّ الافتراضات والاحتمالات ـ بالتغيير ، الذي بإمكانه تخفيف وطأة الأخطاء والقرارات المستعجلة ، ويعيدنا إلى دائرة المنافسة من جديد ، ويفوّت الفرصة على سائر الرؤى والمناهج التي تترقّب الشرخ والفجوة لتنفذ بكلّ ثقلها ووجودها كي تنال المرام والمقصود ..

إنّ ثقافة حذف الآخر ونفيه والنيل منه لا تزال حاكمة في كلّ مجال ، وليس في الاُفق ما يلوح بزوالها وضمورها ، ولعلّ ازدياد حدّتها وارتفاع سخونتها هما المتوقّعان ، بل حاصلان واقعاً وحقيقةً ، طبق الاستقراءات والمطالعات الموجودة ، وهذا الفضاء وإن لم يعد يخيفنا كثيراً ـ إذ قد تمرّسنا عليه واكتسبنا الخبرة التاريخيّة إزاءه ـ إلاّ أنّ الذي يخيفنا حقّاً هذا الصراع السلبي الدائر داخل الأنا ، فيقتسمها ويشطّرها إلى دوائر وحلقات وأنصاف ومثلّثات ونقاط تصادم وتناحر ، وهذه الأنا التي نخرها الصراع المعهود ومحاولات الحذف الذاتي كيف لها التماسك والاستقامة قبال الآخر الذي تجاوز مفاهيم الرحمة والسماحة وجعل من «الحذف» نسقاً يأخذنا به إلى حيث يرغب ويريد ..

فمضافاً إلى كوننا محكومين بالتغيير فإنّنا محكومون أيضاً بتقديم تنازلات صعبة لبعضنا البعض كي تظلّ «الأنا الإيجابيّة» محافظة على وجودها وتطلّعها نحو النموّ والانتشار ..


التغيير حاجة

الكلّ ينشد التغيير ، فالحياة تبدو مملّة ورتيبة إن سارت على نسق ولحن واحد .. وتختلف عناوين التغيير من شخص إلى آخر ومن جماعة إلى اُخرى ، فمنهم من يطلق عليه «المراجعة» وآخر «البعثرة» وثالث «التمسّح» ورابع «النقد» وخامس «الجدولة» وسادس «إعادة انتشار» وهكذا تعدّدت العناوين واتّحد المفهوم ..

نتنوّع في المأكل والملبس والاستماع والمشاهدة وربما في الأحاسيس والأصدقاء ولوازم الحياة .. ولكن هل نوّعنا التفكير أو تنوّعنا في الفكر؟ هذا أيضاً ممكن ، فالكثيرون قد اختاروا مسالك ومناهج ورؤى تختلف عن سابقاتها ، والذي لصالحه سمّاه استبصاراً والذي بضرره نعته بالانحراف ..

إلاّ أنّ الذي ظلّ على نهجه ونسقه وانتمائه هل غيّر اُسلوب تفكيره ، سواء بالمراجعة أو البعثرة والتمسّح والنقد والجدولة وإعادة الانتشار؟

أشدّ ما يعاب علينا تقليديّتنا المفرطة ، ممّا حدا ببعض رموزنا أن


يحكموا على الخارج عليها بأحكام شديدة ، والخارجون هم ألوانٌ ونوايا ومراتب ودواعي مختلفة ، والذي يهمّنا من كلّ ذلك : الذي انتفض على النمط التقليدي لا لهدف سوى السموّ والرقي وحفظ القيم وديمومة فاعليّتها وذياع مضامينها مع الالتزام بالثوابت ، فهو عمل بالمتغيّر طبق الثوابت ، فاختار حلاًّ وسطاً يجمع بين التقليديّة والتجدّد ، ولعلّه أمرٌ يرضي الجميع ..

ولعلّني أجد أصعب وأدقّ وأخطر ما يواجهه هذا النمط من التغيير بين الملتزمين قضيّة الانتفاخ والتورّم الفكري العقائدي التي غدت من أشدّ الذرائع التي يتمسّك بها المناوئون ، بل منّا ومن دائرتنا مَن لم تحلّ عنده إشكاليّة الانتفاخ والتورّم الفكري العقائدي ..

يلزم بنا أن ننأى بقيمنا ومفاهيمنا عن الهرطقة والاُسطورة والخيال ، عن الغثّ الدخيل الذي أساء لنا ولرؤانا السامية ، إنّنا اُمّة ورسالة تؤمن بالعلم ودور العقل وتتكيّف بمؤنها مع واقع الناس وحقائقهم ، اُمّة تدّعي ـ بمبادئها التكامليّة ـ نقل الإنسان إلى ضفاف العزّ والطمأنينة والفلاح ، ادّعاءٌ لا موضوعيّة له بلا أدلّة وبراهين «إقناعيّة» ولاسيّما نحن نواجه المذاهب والحضارات ذات الباع الطويل في ميادين المعرفة والفلسفة والثقافة ، فمنهم من لا يرتضي بغير التجريبيّة طريقاً للنموّ والنجاح وقد فعلتها اُوربّا في عصر النهضة فحصدت ما حصدت وهكذا أميركا ، ومنهم من لا يرتضي إلاّ بالمادّيّة والجدليّة التاريخيّة والعلّيّة الطبيعيّة ، وهكذا .. بل هناك من يعتقدنا فرقةً شاذّةً ضالّةً خارجةً عن إجماع الاُمّة وقيمها .. ومن


أبناء جلدتنا وهويّتنا مَنْ يتملّكه القلق والوسواس والتراجع والتردّد ..

إنّنا أمام اختبار إن لم أقل «محنة فقدان الإقناع الفاعل» وتفشّي «الإسكات القاتل» ذي الجرعة التسكينيّة ليس إلاّ ، فسرعان ما يعود الألم ومعاناة الغموض والضياع والشتات ، إنّه الموت البطيء ..

وبتكثّر فرص الوعي وأدوات النضج بفضل التقنية الحديثة أضحت الشفّافيّة حاجة ملحّة وبات انكشاف الغطاء أمراً لابدّ منه ، لذا علينا أن نشمّر عن ساعد الجدّ المعرفي العلمي كي نفهم فهماً صحيحاً ونقتنع قناعةً برهانيّة علميّة لنُفهم الناس ونقنعهم قناعةً فاعلةً لا أن نُسكتهم إسكاتاً آفلاً سرعان ما يضمحل ويزول ويُزيل ..

إنّ محاور الاعتقاد شامخة عظيمة لكنّ أدواتنا وأساليبنا هشّة ضعيفة ..

فمحاور الفقه مثلاً عندنا تتخلّلها الفجوات والخلل ولاسيّما عندما نجعل الناس يتيهون في الحيرة والتردّد إثر عدم اتّضاح وغموض العديد من القضايا ، كعدم تحديد موضوع الغناء مثلاً أو ترك مسألة الهلال الهامّة بعهدة الناس بحجّة عدّها من الموضوعات ومثلها قضية المسعى التي استجدّت أخيراً واُحيل أمرها إلى العرف لذات الحجّة ..

وسوى مسألة الموضوعات ، تطرح قضيّة الزمان والمكان مثلاً ومدى تأثيرهما على الفتوى ، إلى سائر المحطّات الفقهيّة التي تستدعي الوضوح والحسم ، خصوصاً أنّ غالب الناس يأخذون معالم دينهم من


أقطاب الدين ، المراجع والفقهاء والعلماء الربانيّين ، يريدونها أشبه بالوصفة الكاملة الجاهزة لا الناقصة المعلّقة .. مع أنّ إشكاليّة التعبّديّة المحضة لها مجالها الواسع ومحلّ بحثها الخاصّ الذي يستدعي بسط مائدة النقاش على غاية من الوضوح والشفّافيّة ; نظراً لتغيّر حياة الإنسان وتطوّر طموحاته وأفكاره الناهدة نحو فهم الحقيقة بالبرهان والدليل لا بالتعبّد المحض «والإسكات الآفل» ..

وعلم الرجال عندنا يعاني ممّا يعاني ، فحتى اُصولنا الرجاليّة ـ مثلاً ـ تختلف اختلافاً بيّناً في الرجل الواحد بين توثيق وتضعيف وإهمال وتجهيل ... الأمر الذي يجعل جوانب من هذا العلم محلّ السؤال والاستفهام ممّا ينسحب على الرواية ومصيرها .. بل مصير أحد أدلّتنا الأربعة الأساسيّة وهي السنّة ، على أنّ بعض الكبار ـ وهو الحقّ ـ يرى محاكاة متن الرواية لنا ولقيمنا ومناهجنا وعقولنا وانتمائنا إن كان صادراً من المعصوم (عليه السلام) ، وإلاّ فلا يصدر كذا متن منه عليه السلام ... من هنا يطرح البعض ضعف علم الرجال أحياناً في المساهمة للوصول إلى المراد ..

كتابة التاريخ أيضاً بقيت عندنا مجرّد محاولات فاشلة ، هذا العلم الكبير الذي سبقتنا فيه مختلف الاُمم والحضارات وخصومنا ، وبقينا نحن نراوح في مكاننا ، ولاسيّما إذا عرفنا أنّ علم التاريخ ليس مجرّد وصف المعلومات والأحداث التي توالت عبر الحقب والأزمان الماضية ، بل هو تحليل ومناقشة ومنطق وإناسة وبنيويّة وسيكيولوجيا وميثودلوجيا وانثروبولوجيا وسوسولوجيا وسائر محاور الحياة والإنسان ...


أمّا العلوم الحديثة والمعارف الأكاديميّة فالمأساة أكبر من أن تتناولها مقالة بهذا الاختصار والطرح الخاطف ..

نعم ، نحن نفاخر بماضينا الزاهر وتاريخنا المضيء ، ولا أدري كم نبالغ وننفخ بماضينا الزاهر هذا ... ولو سلّمنا بذلك فإنّها ممّا يعدّ من التجارات الخاسرة والأوهام البائسة التي لا تغيّر من حالنا شيئاً ولا ترجع بنا إلى ماضينا الزاهر المضيء ..

لنترك الماضي يخلد بهدوء وراحة ونترك ظاهرتنا الصوتيّة ، وننهض باُمّتنا ، بقيمنا ، بواقعنا ، إلى مراتب العزّ الحقيقيّة ، عبر الكلمة الصادقة والشفّافيّة المتأ لّقة بالدليل العلمي والبرهان المعرفي الذي يزيل الأوهام والتردّد والحيرة والضياع والشتات والنقص والخلل ، فيرشف الصادي منّا ويروي ضمأنا ـ فنحن ضمأى الحقيقة السرمديّة ـ ويسدّ حاجتنا إلى سبل ومؤن وأدوات الفلاح والإيمان ، فالإنسان طالب كمال ، طالب معرفة ، وكمال المعرفة معرفة الله ، والقرآن وقادتنا عليهم السلام خير الوسيلة والسبيل إلى معرفة الله ، ذلك إن عرفنا القرآن وعرفنا قادتنا عليهم السلام ..


سلطة النصّ ما بين الموروث والمعاصر

بدءاً نشير خاطفاً إلى بعض ما يرتبط ببحثنا في جملة محاور :

أوّلها : يقول علماء اللغة والألسنيّات : من عوامل التطوّر الدلاليّ للّفظ :

١ ـ استعمال بعض الكلمات في مدلولات معيّنة ..

٢ ـ غموض معنى الكلمة ..

٣ ـ التطوّر الصوتي ..

٤ ـ اختصار العبارة ..

٥ ـ كثرة الاستعمال ..

٦ ـ الابتذال أو الانحطاط في الكلمة ..

ثانيها : يقول أبو حاتم الرازيّ (٣٢٢ هـ) رائد دراسة التطوّر الدلالي

ـ كما قيل ـ : أقسام الرصيد اللغويّ العربيّة :

١ ـ قديمة موروثة بألفاظها ودلالاتها ..

٢ ـ ألفاظ قديمة مُنِحت دلالاتٌ جديدة بعد مجيء الإسلام ، أي أنّها


أصابها التطوّر الدلاليّ فعُمّم معناها أو خُصِّص ..

٣ ـ ألفاظ جديدة في صيغها ودلالاتها ..

٤ ـ ألفاظ أعجميّة اقترضتها العرب من لغات الاُمم الاُخرى ..

ثالثها : يقول اللغويّ «اُولمان» تغيّر العلاقة بين اللفظ والمدلول يظهر في صورتين :

١ ـ أن يضاف مدلولٌ جديد إلى كلمة قديمة ..

٢ ـ تضاف كلمةٌ جديدة إلى مدلول قديم ..

ثم يقول : الصورة الاُولى كادت تُنسي الباحثين الصورة الثانية ; على اعتبار أنّ اللفظ ثابت ومعناه هو المتبدّل ..

رابعها : يقول اللغويّون : أهمّ مظاهر التطوّر الدلالي :

١ ـ تخصيص دلالة الكلمة ..

٢ ـ تعميم استعمالها ..

٣ ـ تغيير مجال استعمالها :

أ ـ تارةً بالانتقال من الدلالة الحسّيّة إلى المجرّدة ..

ب ـ واُخرى بالانتقال من المجرّدة إلى الحسّيّة ..

نقول : إنّ الصحيح المعتبر الواصل بأيدينا من الموروث الدينيّ الثقافي الاجتماعيّ السياسيّ الاقتصاديّ العسكريّ ... حقيقةٌ تأريخيّةٌ ثابتةٌ محفورةٌ في عمق الوجدان والضمير الإنسانيّ .... هذا الواصل حقيقةٌ


بسلبيّاته وإيجابيّاته ، بألَقه واُفوله ، بشموخه وهبوطه ، بنجاحاته وانتكاساته ، بحركاته وسكناته ، بنطقه وصمته ، بأنواره وعتماته ..

موروثٌ متنوّعٌ ونتاجٌ مختلفٌ راشحٌ من تنوّع فهم النصّ واختلاف الأنظار في كيفيّة تلقّيه وتحليله واستنباط الأحكام منه ، تبعاً لتباين المقوّمات الشخصيّة والمؤهّلات الذاتيّة ـ بمعنيّيها الأخصّ والأعمّ ـ والمقاصد والأغراض الممنهجة والظروف الزمكانيّة ... مع ادّعاء الكلّ التقيّد بحدود النصّ وعدم تجاوزها .... رافضين إشكاليّة هيمنة الحديث

ـ بصحيحه وسقيمه ـ على النصّ الإلهي ـ القرآن الكريم ـ التي أثارها عددٌ من النقّاد والمفكّرين قديماً وحديثاً ; باعتبار أنّ الحديث لا يشكّل برادوكساً ـ تنافياً ـ معه فحسب ، بل هو وليدُ رحمه البارّ الوفيّ وصنيعة أضلاعه المباركة .... مع أنّ لنا نحن أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المضمار كلاماً يطول بيانه ويقصر مقامنا عن استيعابه واحتوائه ..

إذن كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى ....

ولو تنزّلنا واكتفينا بحاضر الزمان وأنشأنا مقاربةً علميّةً منهجيّة تستحضر مؤن البحث المعرفيّ وأدواته الشهيرة من المراجعة والقراءة والمقارنة والاستقراء والفحص والتحليل ... لوجدنا النتائج تشير إلى استمرار بقاء الخطّين المتوازيين اللذين ما التقيا ولن يلتقيا يوماً ما ; لأسباب وعلل بُذرَت بذرتها من ذلك اليوم ، فضربت جذورها في الأعماق وامتدّت أغصانها وتشابكت فروعها فلا زالت تضلّ ـ بالمعجمة


اُخت الصاد ـ بظلالها السوادَ الأعظم من الاُمّة ....

فحينما ينسدّ باب الاجتهاد وتنشلّ حركة العقل وتفعل المقاصد الدنيئة والأغراض الحاقدة فعلتها في النفوس والأرواح تجد النصّ أسيراً مرتهناً بأيد وعقول تمتهن العنف والترويع والحذف والتضليل ....

وحينما يبقى باب الاجتهاد مفتوحاً وينبض العقل بالحيويّة والنضارة وتؤثّر المقاصد النبيلة والأغراض الحميدة أثرها في النفوس والأرواح تجد النصّ نميراً عذباً تنهل منه الألباب روائع الأنظار وبدائع الأفكار ، فيرشح الحبّ والأمان والتآلف والفلاح والإيمان ..

نعم ، هنا تتجلّى ثمرة التطوّر الدلاليّ للّفظ وما أشرنا إليه خاطفاً في صدر البحث من المحاور الأربعة ..

ولا ندّعي الكمال في فهم النصّ وبلورة مضامينه ، فلنا أخطاؤنا ونقاط ضعفنا وهفواتنا ، لكنّا حاولنا أكثر من مناوئنا ورقيبنا ومنافسنا ، ولازلنا نسعى أن نكون بمستوى المرحلة والظرف من حيث التكيّف والتناسق والتعامل مع المستحدثات تعاملاً مسؤولاً ، بمعنى التماهي مع حاجة العصر في نفس الوقت الذي نحفظ فيه الاُصول والمبادئ والأخلاق التي استللناها من النصّ الإلهيّ المقدّس عبر بوّابة وفضاء فهم أئمّتنا (عليهم السلام) له ، الفهم الذي نعتقد ونتمسّك به انطلاقاً من أنّ القرآن الكريم والعترة الميامين صنوان لا يفترقان ..

فلا خيار عندنا سوى الإقرار والاعتراف وإعلان البيعة لسلطة النصّ


وأ نّه هو الملاك في تمييز الغثّ من السمين موروثاً ومعاصراً ، كما نؤمن بأنّ النصّ سيبقى هو الملبّي الوحيد لحاجة الإنسان أبداً ; لصدوره من لدنّ الحكيم العليم تبارك وتعالى ، ولتكيّفه الزمانيّ المكاني ، ثم إجابته عن سؤال الحياة الكبير : من أين ، في أين ، إلى أين ..

إنّ الحكمة والعقلانيّة وحسن التدبير والكياسة والفطانة مثلما نقرؤها : مؤشّراً واضحاً وبرهاناً ساطعاً على الملاحظة الدقيقة والدرك الصحيح والتوقيت السليم في بثّ الأفكار والآراء ثم التحرّك الفاعل والحضور المؤثّر في ميادين التصميم والقرار ودرء الفتن والأخطار ولمّ الشمل ونشر ثقافة الإخاء والسلام ونبذ العنف والتشرذم والإرهاب .... كذلك نقرؤها : فهماً متطوّراً للنصّ يلبّي الحاجة ويحفظ الأصل ..


زمن الانحطاط الفكري (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يكون الدافع الأكبر لإبقاء الحياة رفيعة ، شريفة ، مهيبة ، هو الفكر ، الذي لولاه ما استحقّ الوجود عناية ، ولا سمت آياته ألِقةً فوق التراب ، ولكانت حياتنا كالطبل الأجوف الصوبين ، فلا صوتٌ ولا أثر ....

حينما يُتغنّى بجدّ في واقع الفكر وينُعت هكذا ، بل ويوصف أنّه الوعي الأضخم الأغور ، الوعي الضارب في الطول والعرض والعمق ، ذلك المتدفّق الهائل الذي يجرف دفعةً كلّ هذا ...

فالمراد والمقصود به الفكر الذي يتناول ما فات وما حضر وما هو آت من حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً ، الفكر الذي يستقطب كلّ نواحي اللطيفة البشرية ، على أنّها وحدة لا تتكسّر ، لا تنفرط أقساماً ، لا تتجزّأ ..

ولمّا لم يزل يعني بمفهومه ومحتواه إلاّ النظرة الشاملة في الوجودين الأصغر والأكبر ، فهو الفكر العقائدي الذي بفضله تشرف الحياة وتشمخ

__________________

١ .. كلمة العدد ٨١ / السنة ٢١ / فصليّة تراثنا / إصدار مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.


برفعة وسموٍّ ، من علو ..

ولِمَ لا يكون إذن ـ كما قيل ـ أقوى وأمضى سلاح على الإطلاق يملكه الإنسان في حربه مع المجهول؟! فلولا أن يعمل الفكر ويتأمّل في السكينة لكنّا لازلنا قابعين في غياهب المغاور .. وهذا السلاح يصدأ بالإهمال وقلّة الاستعمال ، أو بالاستعمال في الأغراض التي ليس لأجلها وُجد .. ونحن عندما نكثر الكلام في توافه الأُمور إنّما نسدّ على الفكر المنافذ إلى جليلها ، فنعطلّه عن العمل المثمر بدلاً من أنّ نشحذه وندفعه ، ونحن إذ نلهي الفكر بالقيل والقال فكأ نّنا نسخّر العاصفة لنقل قشّة من هنا إلى هناك ، نسخّر الصاعقة لقتل ذبابة أو بعوضة .. ومثلما لا يتمّ الحمل ولا ينمو الجنين إلاّ في سكينة الأرحام وظلماتها ، كذلك لا يحبل الفكر بعظائم الأُمور إلاّ في سكينة الخلوات والتأمّلات ..

وعليه ، فقد أصّلوا للفكر :

أنّه أذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم أن يكون حواراً بين «لا» و «نعم» وما يتوسّطهما من ظلال وأطياف ، فلا الرفض المطلق الأعمى يعدّ فكراً ولا القبول المطلق الأعمى يعدّفكراً ، ففي الأوّل عناد الأطفال ، وفي الثاني طاعة العبيد ...

وأ نّه ليس ترفاً يلهو به أصحابه ، بل مرتبطٌ بالمشكلات التي يحياها الناس حياةً يكتنفها العناء ، فيريدون لها حلاًّ ..

وفكرنا الإسلامي يقال فيه :


إنّه يوجب على معتنقيه النظر والتبصّر والاعتبار بتقلّبات الزمن والبحث المستمرّ عن اتّجاهات الحياة ، ومحاولة التحكّم في سير الأشياء وفقاً لما تستدعيه مصلحة الإنسان الذي أُنزل لهذه الأرض كي يخلف الإله فيها بالعمارة والإصلاح ...

ـ وهو الانتباه والحذر والحركة الدائبة والتجديد المستمرّ في الأُسلوب ، خصوصاً في الآلة النفسية التي تبعث على انتحاله ، وفي الحركة ولا سيّما في فهم العوامل الداخلية والخارجية التي تدعو إليها ، وهو أكثر من ذلك وازع الثورة على الخمود والاستنكار للجمود والامتلاء بروحانية العمل والكفاح للتمتّع بالحقّ والشعور بالعدل وتذوّق معاني الحرّية ..

وتأسيساً على ذلك ، فكون الفكرة أصيلة حسنة جميلة موافقة للأنظمة الطبيعيّة ، تقود صاحبها إلى ذروة الفضائل ، ليست باطلة تافهة ولا مغايرٌ مبدؤها لنواميس الوجود ; فكذا فكرة لابدّ أن نلتمسها في القرآن وسنّة النبيّ والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) ، أُصول تعاليمنا وقيمنا ومفاهيمنا وتشريعاتنا ومعاملاتنا وأخلاقياتنا ، التي من خلالها نفهم العلاقة القائمة بين الخالق والخلق ، الكون والحياة والإنسان ، الإنسان ونفسه ، الفرد والجماعة ، الفرد والدولة ، الجماعات الإنسانية كافّة ، الجيل والأجيال ..

وحصيلة الأمر : أنّ الفكر التربوي والتربية الفكرية ، هما توأمان ينهلان من نمير الايديولوجيا ذاتها ..


فالفكر التربوي والتربية الفكرية عموماً يولدان من رحم العقيدة التي ينضويان تحت لوائها وينموان في أحضانها ويتأ ثّران بكلّ خصائصها ومقوّماتها ، فهما مصداق من مصاديق هويّتها وعنوانها ..

ولو قلّبنا صفحات الفكر والتربية والتأريخ لوجدنا ـ مثلاً ـ في اليونان القديم وفي اسبارطة بالذات أنّه جرى التركيز على إعداد الإنسان القوي القادر على الدفاع عن الدين والدولة ، ممّا مثّل انعكاساً للايديولوجيا والعقيدة القائمة آنذلك ..

وكذا أرسطو لمّا دعا إلى التدرّج في الإنشاء والإعداد ، حيث يبدأ جسمياً ثم خلقياً ثم فكرياً ..

أو المسيحية من خلال استخدامها مناهج عبر الكنيسة ، حيث اتّجهت في القرن الرابع إلى انقاذ المجتمع الروماني من الأزمة المادّية الحادّة ، فكان التوجّه إلى الرهبنة والاعتكاف في صوامع فردية هي الصورة البارزة لوضع المجتمع آنذاك ...

بينما نرى الحركة المدرسية في القرن الحادي عشر بزعامة «توما آلاكويني» قد دعت إلى بناء الحياة العقلية ودراسة الفلسفة والمنطق وتعبئة الذهن البشري بأكبر ما يمكن من هذه المعارف ، مضافاً إلى غرس الرؤى الدينية في نفوس التلامذة ...

حتى قيل : وهذا التناقض والاضطراب والتأرجح في مناهج المسيحية يعني أنّها ـ كديانة ـ جاءت لمعالجة مشكلات محدودة زمنياً ،


فهي غير قادرة إذن على استيعاب كلّ المستجدّات عبر تطوّراتها الزمنية ..

وجاء «جان جاك روسو» ليقول : لنترك الطبيعة تعمل عملها في خلق الشخصية ، بعد أن قسّم مراحل التنشئة إلى أربع مراحل ..

ونرى المنهج الكلاسيكي يؤكّد على ضرورة تنمية العقل ونقل التراث ودراسة العلوم بوصفها علوماً ورعاية أُسس ثابتة وعامّة في التعليم ..

ونلحظ في أحد الاتّجاهات المعاصرة أنّه يصرّ على تجنّب العقاب كأداة في توجيه الإنسان وترشيده ; إذ إنّ هناك قوى أساسية تتحرّك ـ كالإرادة والطاقة الشهوية ـ كي تستخدم العقل أساساً لتبرير معطياتها ، وبما أنّ حوافز الإرادة الأساسية لا يمكن تغييرها ، خاصّة في حالة انغمازها تحت الشعور في منطقة «اللاشعور» فإنّنا لا نستطيع حينئذ أن نحاسب الإنسان على أعماله وسلوكه ، وهذا يعني : أنّنا لا نعاقبه ..

إنّ كلّ هذه المدارس والمناهج الفكرية والتربوية المشار إليها ـ وكذا غيرها ـ تمثّل في الواقع إفرازات وترشّحات عقائدية أثمرت وتجلّت بصور وأشكال وقوالب متفاوتة طبقاً لتفاوت الانتماء الايديولوجي وتباينه مع الانتماءات الأُخرى ..

ولا يشذّ الفكر التربوي والتربية الفكرية الإسلامية عن القاعدة العامّة المشار إليها .. وإن تغايرت وتعارضت الرؤى والمناهج داخل البيت الكبير فالأمر الأكثر أهمّيةً يكمن في تحليل الدراسات المختصّة الباحثة في


الإسلام ـ فكراً وتربيةً ـ والتي نجدها ما بين دراسات مخلصة جادّة وأُخرى تحريفية وثالثة مجحفة ورابعة ناقصة وهكذا ; ثم كيفية تناولها وفهمها لمصدريه الرئيسين في الفكر والتربية ـ القرآن والسنّة المباركة ـ اللذين يطرحان الإطار الفكري والتربوي الشامل المكّون للخلفية الايديولوجية لهما ، فالكتاب المجيد وقول المعصوم وفعله وتقريره هما منبع ومصدر كلّ الرؤى والمناهج الإسلامية السليمة ، سواء على مستوى الفكر والتربية أو على مستوى الجوانب الأُخرى ..

إنّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة هما الضابط والميزان الذي به تأخذ الفكرة الخاطئة المنحطّة طريقها إلى الهاوية ، فلايجني المحتطب ـ حينئذ ـ في ظلام الأفكار بغياب سراج البصيرة سوى الخيبة والفشل ; بينما تشقّ الفكرة الصحيحة طريقها متلألئةً شامخةً إلى سلالم المجد والفخر ..

وفكرتنا التي تعني الإسلام الأصيل ـ فكراً وتربيةً ـ لا تخشى مساعي الحذف والتغييب والتشويه ، ولا تعدو لاهثةً خلف شعارات الحداثة والحرّية و ... الفارغة ، وذلك بوحي من الأصالة التي تعني التعامل الواعي مع المحاولات والإثارات المذكورة ، آخذةً بعين الاعتبار منجزات الإنسانية الحديثة بلا سحق للقيم والمفاهيم الراسخة ولا تمرّغ على رمال الترف الفكري والميل الذاتي ..

فنحن أُمّة لها كيانها الفكري والتربوي المتكامل المستوعب لعاملَي


الزمان والمكان كلّ الاستيعاب ، فلنا الاستحقاق الأوفر والأهلية الأتمّ كي ننقل الإنسان إلى مرافئ الأمان وقلل العزّ والكمال ..

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١) ..

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ..

__________________

١ .. آل عمران : ١١٠ ..


الوسطيّة بين الأصالة والتجديد

حينما يكون النصّ موّاجاً قابلاً للتحاور والتناغم مع المحاولات الجادّة لفهمه ودرك معانيه فهذا يعني : منح الفضاء المعرفيّ مزيداً من الحراك العلمي والحضاري ، شريطة أن يكون بأدوات وآليات تتلاءم وحاجة الظرف .. إنّها خطوة رائدة تعمل على تجاوز الجمود والخمود اللذين أصابا مصانع الفِكَر وقوّضا المساعي الرامية إلى الخروج بها من واقع التبعيّة والاستسلام إلى قلل الإبداع والاستقلال وبلوغ المرام ..

يجب أن نؤمن أوّلاً أنّ كلّ الأفهام والتفسيرات والتأويلات والمعاني التي رشحت بفعل قراءة وتحليل واستقراء ومقارنة النصّ ـ رغم شموخ الكثير منها ـ تبقى في فضاء النسبي إزاء المطلق ، وهذا ما يعني : أنّ ما بُذل لا يمثّل نهاية المطاف أبدا ، إنّها بارقة أمل تفتح آفاق النموّ والفلاح لاُمّة لا خيار لها سوى التمسّك بحركة العقل والفكر والعلم النابضة بالحيويّة والفاعليّة ، بل هي محكومة بهذا الخيار بفعل القيم والمبادئ والمفاهيم التي تدعوها إلى عدم السكون ، بل الاستمرار في الجهد والعطاء اللّذين يمثّلان الركائز المحوريّة لقانون البقاء وإدارة عمليّة الصراع ..


لا ريب أنّ النصّ ثابتٌ لا يتغيّر محتواه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١) (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) (٢) ، هذا الذي نعتقده منهجاً ونسقاً لا خلل ولا نقص ولا تهافت فيه ، فهو مطلقٌ بمحتواه ، والمتغيّر إنّما هي الأدوات ، والمراد بالأدوات : الأساليب والطرق التي تختلف باختلاف الانتماءات والملاكات والظروف والإمكانيّات والفضاءات وعوامل اُخر ; تبعاً لذلك فالنتاج الحاصل يتناسب طردياً مع أدواته ، وبذلك تتلوّن الأفهام والتفاسير والمعاني والاستنباطات والتأويلات .. كلٌّ منها لا يرقى ـ مهما بلغ من الدقّة والعمق والبيان ـ فوق مستوى النسبي ، أي لا يمكن لنا أن نطلق عليه أرقى من هذه التسمية والعنوان ; إذ إنّه فهمٌ معيّنٌ يناله الخلل والنقص وعدم الإحاطة ، نعم بإمكانه أن يكوّن تصوّراً عالياً وبلورةً شامخة يأخذان حيّزهما ومداهما الزماني والمكاني الكافيين ، لكنّه يبقى فهماً بين الأفهام ومعنىً بين المعاني وقراءةً بين القراءات وتفسيراً بين التفاسير ، لا يسدّ منافذ الفهم الاُخرى ولا يغلق الباب أمام المحاولات اللاحقة التي تسعى بأدوات وآليات متفاوتة أن تستنطق النصّ بعد أن تحاكيه محاكاةً مراعية فيها الضوابط والملاكات العلميّة التي من شروطها وقيودها أخذ الواقع وملابساته والوارد ومحتواه بعين الاعتبار ، وهذا ما يوفّر فضاءً معرفيّاً يخلق أجواءً فكريّة ملائمة للخروج بناتج يحفظ النصّ بحفظ الاُصول

__________________

١ .. سورة الحجر : ٩ ..

٢ .. سورة فصّلت : ٤٢ ..


والثوابت ويناغم الجديد والحديث ، ممّا يعني : صنع عجينة مركّبة أساسها وقواعدها وأعمدتها وجوهرها الاُصول والثوابت ، وغلافها ومظاهرها ووسائطها مستفادة من الوارد الجديد ، العجينة التي بإمكانها أن تكون غذاء الحياة المعاصرة ، فتسدّ الرمق وتشبع الجائع وتروي الضمآن ، كما تصنع مناعة قويّة وأرضيّة صلبة تكادح بها الآفات بألوانها وأساليبها .. فلا مندوحة من الأخذ بالحادث الجديد والعمل به مادام لا يتعارض مع اُسسنا وجوهر عقائدنا ..

إنّ الذي يجعلنا أكثر اطمئناناً بإمكانيّة الخروج من المأزق النوعي الذي يعترضنا بين الحين والآخر دعوة النصّ الشفّافة لنا بضرورة الأخذ بزمام الاُمور والتصدّي للإجابة عن سؤال الحياة الكبير ، شريطة التقيّد «بالوسطيّة» بما تعنيه من مفهوم ومبدأ وإطار ونهج وممارسة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) ..

إنّ النصّ بمطلقيّة محتواه متسام فوق القيود الزمانيّة والمكانيّة والأفهام والتفسيرات النسبيّة صبغةً ومضموناً ، وهذا ما يؤهّل الوسطيّة أن تكون أصلاً ثابتاً من ثوابت الحياة والفكر والتأريخ ، ممّا يجعلنا نركّز البحث بلَيِّ جِيدِهِ قليلاً وعطفه حيال الوسطيّة ، كي نتمكّن من الحصول على النتيجة المتوخاة ..

__________________

١ .. سورة البقرة : ١٤٣ ..


ولسنا في غفلة عن الالتزام بالمعايير العلميّة والمنهجيّة في إدارة البحث من جهة عدم استباق النتائج وإعلان الحكم ابتداءً بلا مزاولة للدليل والشاهد ، وهذا ما جعلنا نعبّر عن محاولتنا بهيئة المضارعة «يؤهّل» لا الماضي ، غير منكرين في الوقت نفسه المعاني والأفهام السابقة التي خاضت مجال البحث ذاته وتوصّلت إلى النتائج المطلوبة طبق معاييرها ومقاصدها ، بل لا نروم الإتيان بشيء جديد على صعيد المعنى والفهم لأصل «الوسطيّة» وفاعليّتها وعمق جذورها وتأثيراتها التأريخيّة والفكريّة ..

إنّنا على عزم لإيجاد نوع من التناغم والتواصل والتلاقح والتلاقي والتفاعل والانسجام بين الاُصول والثوابت من جهة ، وبين الحداثة والمعاصرة من جهة اُخرى ، من خلال طرح فهمنا لمعنى «الوسطيّة» المستقى من صميم القيم والمبادئ الدينيّة .. وهذا التناغم إن عُدّ فهماً ومعنىً بين المعاني فلا غضاضة ..

إنّ العيّنات المتوفّرة لغويّاً منها ما يشير إلى كون الوسط من كلّ شيء : أعدله ، ويقال : شيء وسط ، أي بين الجيّد والردي ... أوْسَطُ الشيء : أفضله وخياره ... وَسْط القوم : بينهم ... وَسَط الدار منها ، ووَسْط القوم غيرهم ... وتوسَّط بينهم : عَمِلَ الوساطة ، وتَوسَّط : أخذ الوَسَط .. الوَسَط : المعتدل (١) ..

__________________

١ .. تاج العروس ١٠ : مادّة وسط ، السيّد محمّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي ، دار الفكر بيروت ; المنجد ، مادّة وسط ، دار المشرق بيروت ..


أمّا «الوَسَط» في النصّ الإلهي المقدّس :

فقيل : معناه خياراً أو عدولاً ، هو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كالمركز ، ثم استعير للخصال المحمودة البشريّة ; لكونها أوساطاً للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين الجبن والتهوّر ، والحكمة بين الجربزة والبلادة ..

على أنّ من نظر بعين الإنصاف لم يَرَ في الآية أكثر من دلالتها على أفضليّة هذه الاُمّة على سائر الاُمم ..

نعم ، ذهب بعض الشيعة إلى أنّ الآية خاصّة بالأئمّة الإثني عشر ، ورووا عن الباقر أنّه قال : «نحن الاُمّة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجّته على أرضه» وعن علي كرّم الله وجهه : «نحن الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)» وقالوا : قول كلّ واحد من اُولئك حجّة فضلاً عن إجماعهم ، وأنّ الأرض لاتخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومَن عليها ..

ولا يخفى أنّ دون إثبات ما قالوه خرط القتاد (١) ..

وقيل : يعني كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمّد عليه السلام وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملّته ، وفضّلناكم بذلك على مَن سواكم من أهل الملل ، كذلك خصصناكم

__________________

١ .. الآلوسي البغدادي ، روح المعاني ٢ : ٤ ـ ٥ ، دار إحياء التراث العربي ..


ففضّلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم اُمّةً وسطا ...

وقال زهير بن أبي سلمى :

هُم وَسَطٌ ترضى الأنامُ بحكمهم

إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعظَم (العظائم)

وأرى أنّ الله تعالى ذكره إنّما وصفهم بأ نّهم «وَسَط» لتوسّطهم في الدين ، فلا هم أهل غلوٍّ فيه ، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهّب ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه ، تقصيرَ اليهود الذين بدّلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربّهم ، وكفروا به ... ولكنّهم أهل توسّط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ; إذ كان أحبّ الاُمور إلى الله أوسطها (١) ..

وقيل أيضاً في صدد بيان معنى الآية : كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم اُمّةً وسطاً .. كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل ، كذلك جعلناكم اُمّةً وسطاً .. أنّه تبارك وتعالى خصّ هذه الاُمّة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً ، لا وجوباً .. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم اُمّةً وسطا ..

[إلى ذلك :] أوّلاً : إنّ الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ، ولا شكّ

__________________

١ .. محمّد بن جرير الطبري ، جامع البيان ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، دار المعارف بمصر ..


أنّ طرفي الإفراط والتفريط رديئان ، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين ، فكان معتدلاً فاضلاً ..

ثانياً : إنّما سُمّي العدل وسطاً لأ نّه لا يميل إلى أحد الخصمين ، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين ..

ثالثاً : المراد بقوله (وَسَطاً) ، ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلاّ بكونهم عدولاً ، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة (١) ..

وقيل : الله سبحانه وتعالى جعل هذه الاُمّه وسطاً بأن جعل لهم ديناً يهتدي منتحليه إلى سواء الطريق ، وسط الطرفين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، بل يقوّي كلاًّ من الجانبين ، جانب الجسم وجانب الروح ، على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين ، فإنّ الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضاً ولا جسم محضاً ، ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادّيّة والمعنويّة ، فهذه الاُمّة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كلّ من طرفي الإفراط والتفريط ، فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف ، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وهو المثال الأكمل من هذه الاُمّة ـ هو شهيد على نفس الاُمّة ، فهو (صلى الله عليه وآله) ميزان يوزن به حال الآحاد من الاُمّة ، والاُمّة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط ..

__________________

١ .. اُنظر الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٤ ص ١٠٨ ، ١٠٩ ..


هذا ما قرّره بعض المفسّرين في معنى الآية ، وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقّة ، إلاّ أنّه غير منطبق على لفظ الآية ، فإنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان ، وميزاناً يوزن به الجانبان ، لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين ، أو يشاهد الطرفين ، فلا تناسب بين الوسطيّة بذلك المعنى وبين الشهادة ، وهو ظاهر ، على أنّه لا وجه للتعرّض بكون رسول الله شهيداً على الاُمّة ; إذ لا تترتّب شهادة الرسول على الاُمّة على جعل الاُمّة وسطاً كما تترتّب الغاية على المغيّى والغرض على ذيه ...

فقد تبيّن بما قدّمناه :

أوّلاً : إنّ كون الاُمّة وسطاً مستتبع للغايتين جميعاً ـ الشهادة والشهداء ـ وأنّ قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية ، جميعاً ، لازم كونهم وسطاً ..

وثانياً : إنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس ، لا بتخلّلها بين طرفي الإفراط والتفريط ، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس ... (١)

وقيل : «الوسط» سببُ التقاء الطرفين ، وهو تعدّي الحكم إلى المحكوم عليه (٢) ..

__________________

١ .. السيّد محمّد حسين الطباطبائي ، الميزان ، ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٣ ، مطبعة إسماعيليان ..

٢ .. الغزالي ، معيار العلم ص ٦ ، ١٣٥ ..


وقيل : «الوسط» هو الدليل ، وهو الواسطة في العلم بين الملزوم واللازم ، وهما المحكوم والمحكوم عليه ، فإنّ الحكم لازم للمحكوم عليه مادام حكماً له (١) ..

وقيل : إنّ الوسطيّة في المنظور القرآني هي صفة رئيسة وجامعة للاُمّة الإسلاميّة ، بل إنّها إرادة الله لهذه الاُمّة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وإذا كانت الوسطيّة تعني رفض الانحياز إلى طرف ضد طرف وقطب من أقطاب الظاهرة دون القطب الآخر ، فإنّها في المفهوم الإسلامي ليست التوسّط المعزول عن الطرفين والقطبين والمغاير لهما تمام المغايرة ، إنّها موقف جديد وثالث ، ولكنّه لا يغاير قطبي الظاهرة المدروسة ، وإنّما يجمع بالنظرة الشاملة كلّ ما يمكن جمعه ، ويؤلّف كلّ ما يمكن تأليفه من قطبي الظاهرة المدروسة .. إنّها ليست نقطة رياضيّة ثابتة تتوسّط قطبي الظاهرة المدروسة ، وإنّما هي موقف جديد يتأ لّف من عناصر الحقّ والعدل في القطبين معاً .. إنّها العدل والتوازن بين القطبين ، وليست الانحياز لواحد منهما ، ولا المغايرة التامّة لهما .. إنّها الحقّ بين باطلين ، والعدل بين ظلمين ، والاعتدال والتوازن بين تطرّفين وغلوّين (٢) ..

نقول : التفاوت في الفهم والاستنباط هو الحقيقة التي لا تقبل الترديد ; استناداً إلى قاعدة المطلق والنسبي المشار إليها ، ولعلّ من

__________________

١ .. ابن تيميّة ، الردّ على المنطقيّين ج ١ ص ٢١ ، ١٩٤ ..

٢ .. محمّد عمارة ، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام ص ١٣ ، ١٨٤ ..


الخصائص الهامّة التي أبقت النصّ حيويّاً نابضاً هي قابليّته على التكيّف والمرونة عبر المحاولات الجادّة ذات الأنساق والمناهج العلميّة السليمة ; حيث تبذل الجهد وعناء البحث وغاية التأمّل ومنتهى الدقّة وشامخ الإنصاف فترشح منه المعاني والمفاهيم والقراءات التي تفتح آفاقاً جديدة في فضاءات الفكر والمعرفة ، آخذةً الحاجة المعاصرة مأخذ الجدّ ..

والذي يثلج الصدور أنّ رواشح النصّ لا تقف عند حدٍّ معيّن من المعاني والتفسيرات والقراءات ، وهذا عامل آخر يجعل محاور العلم الثلاثة ـ الفكر والتأريخ واللغة ـ مستمرّة الحركة والفاعليّة ، اللّتين لابدّ وأن تنتجا فهماً راقياً للقيم والمبادئ والنظم الروحية والجسمية بما يتناسب مع قانون الفطرة العام ; إذ هو المحور والقوّة الجاذبة التي تستقطب من رام العودة وتطرد مَن سواه ..

إنّنا نرى في (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) : تحميلاً لمسؤوليّات ووظائف رياديّة ، انتخاباً من لوازمه : وجوب التصدّي المصيري الخطير من خلال منهج مرتكز على قيم ومبادئ منشورة بنصٍّ إلهي (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) نُسِخَتْ به المناهج السالفة الشقيقة ، ولسنا نعني بالنسخ : الطرد والتنقيح المطلق ، فهذا غير متصوّر في حقّ الباري تبارك وتعالى ، إنّما هو نسخ اشتمل على الحذف والإضافة والتعديل والتغيير بما يتلاءم وتطوّر التلقّي الإنساني التأريخي ، فالعقل البشري بدا مهيّأً في القرن السادس الميلادي لتفهّم النصّ الإلهي بشكله ومحتواه المتكامل ، هذا النصّ الذي اُغلق باب صدور أيّ نصّ إلهي سواه إلى الأبد ، فلم نَرَ أو نسمع


بنصّ إلهي جديد ، وهذا أدلّ دليل على كون القرآن الكريم نهاية مطاف الرسالات السماويّة ، لذا انبرى الكثيرون للتشكيك بصحّة صدوره إلهيّاً وقالوا : إنّها إفرازات وخيالات وإبداعات وصناعة أحاسيس ومشاعر محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، رغم إقرارهم بنبوّته (صلى الله عليه وآله) ، قالوا ذلك ليُسقطوا حجّيّة القرآن عليهم ويبقوا منتصرين لدياناتهم التي أوقف القرآن مشروعيّتها ودواعي دوامها (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١) ، (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ) (٢) ..

وبما أنّنا نرى صحّة الرأي القائل بـ «التطوّر الدلالي للّفظ» ، الأمر الذي نضيفه إلى رصيدنا من الأدلّة والشواهد ، نجد أنّ «الوسطيّة» التي كُلّفت بها الاُمّة ـ الاُمّة التي نعتقدها بما هي الوجه الآخر للرسالة والدين والفكر الإلهي ، مثلما نعتقد أنّ التغاير بين الاُمّة المقصودة في النصّ وبين الرسالة ليس سوى المفهوميّ منه فحسب ـ هي وسطيّة التوازن ، أي إيجاد وحفظ وبثّ التوازن بتحويله إلى منهج وممارسة وثقافة وأخلاق تستمدّ البشريّة منها القيم والمبادئ ، وهذا ما يعود بنا إلى النقطة المحور ، إلى العقلي العملي ; إذ العقل النظري ليس بإمكانه أن يكون طرفاً ولاعباً في معادلة القيم والمبادئ والأخلاق ، ولا شكّ أنّ التوازن مفهوم أخلاقي نميّز من خلاله العدل والظلم الحسن والقبح ، فالوسطيّة رسالة أخلاقيّة ، ومسؤوليّة اُمّة ..

__________________

١ .. سورة البقرة : ١٢٠ ..

٢ .. سورة الإسراء : ٩ ..


إنّ المعالجة الأخلاقيّة أشقّ اختبار يعرف من خلاله مدى نجاح الفكر والمنهج ، ولاسيّما أنّ المعاناة الاُولى الشاغلة للوجود الإنساني معاناة الأخلاق ، فكلّ الرؤى والأنساق والإبداعات تدّعي هدفاً أخلاقيّاً يسمو بالنفس البشريّة من مهاوي السقوط والانحراف إلى مراتب الخير والفلاح.

إنّ العدالة هي قلب الأخلاق النابض بلا أدنى ريب ، فإن سرت في ممارسات الوجود الإنساني لم يعد للشرّ والظلم والقبح مفهومٌ عملي ومعنىً وميدانٌ ومعترك ، وحيث إنّ «الوسطيّة» المعهودة من معانيها العدل كما أشرنا ، فنحن اُمّة العدالة ، والعدل أصلٌ من اُصولنا ، على أنّ المراد من الاُمّة ليس كلّ فرد فرد من أفرادها ، بل الاُمّة بما تعنيه من رسالة وقيم ومبادئ ودين كما أسلفنا ..

والإمساك بالعصا من وسطها وجهٌ من وجوه العدالة ، ونوعٌ من أنواع حفظ التوازن ..

وكيف للدين على ضوء كونه الفكر والحركة الدائمة في الحياة أن يحلّ إشكاليّة الأصيل والوارد الجديد ـ إشكاليّة الثابت والمتغيّر ، التراث والحداثة ـ بحلٍّ مرتجل سريع؟! فإنّه إثراءٌ للإشكاليّة وتجذيرٌ لها ، وسلوكيّةٌ لا تتناغم مع وسطيّتنا وعقلانيّة مبادئنا وحركة الدين الدؤوبة التي تعني التغلّب على عوائق الظرف أنّى كانت ، بل لا تتناسب مع رسالتنا التي نحملها للبشريّة بأسرها ، ولا تنسجم مع قابليّة النصّ للتحاور


والوصول إلى أرضيّة خصبة من التفاهم والتوافق ، بل هي في نهاية المطاف على برادوكس مع العدالة التي نعتقدها ..

نعم ، إنّ المعايير العلميّة والمناهج المعرفيّة التي يقرّها الدين هي فصلُ الخطاب في حسم الإشكاليّة ، وهذا ما يعني عرض الجديد على الأصل بإجراء سلسلة من المراحل المختبريّة كالمراجعة والاستقراء والتحليل والحفر والمقارنة ... فإن قادتنا النتائج إلى حلّ إشكاليّة الجديد ، وإلاّ فلا ..

علينا إذن التعامل معياريّاً ، توازنيّاً ، وسطيّاً ، فلا نرفض مطلقاً ولا نقبل مطلقاً ، فمحاكاة الثوابت محاكاةً علميّة حاكمةٌ علينا ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا تبعيّة وتقليد والتقاط ذليل ، نعم عزٌّ وكرامةٌ وسموّ مبادئ فوق الاستفزاز والاستبداد والاستبعاد والنفي والتحريف والترويع.

ولا نستبق النتائج ، فنحن اُمّة تجنح حيث جنح البرهان واستقرّ الدليل ..

وحيث يلعب التطوّر الدلالي للّفظ دوراً حاسماً في توجيه البحث وحسم الحوار ، فإنّنا نرى اللفظ موّاجاً يتحرّك حيث يتحرّك المكان والزمان ، فالكثير من المفاهيم والمعاني التي كانت سائدة آنَ انطلاق الرسالة غير سائدة حالياً ، كما أنّ الموضوعات قد تغيّر وتطوّر الكثير منها ، وتعطّلت أحكامٌ بفعل غياب موضوعاتها ، وظهرت أحكامٌ اُخرى بفعل حدوث موضوعات جديدة ، بل وتطوّرت موضوعات تطوّراً لافتاً عظيماً عمّا كانت عليه في عهد الرسالة الأوّل ..


والدين الذي نعتقده متكيّفاً مع كلّ الظروف ، مجيباً عن سؤال الحياة ، ليس بإمكانه غضّ الطرف عن كلّ هذه التحوّلات والتطوّرات والتغيّرات ; ولاسيّما أنّه أعلن حضوره الدائم في مختلف صنوف الحياة حضوراً إلى قيام الساعة ..

نعم ، إنّنا لازلنا في معاناة إثر المناهج والأنساق والآليات الضعيفة التي خاضت مراحل الصراع تاريخيّاً ولاسيّما بعد عهد التأسيس وذاك الازدهار الذي لم يكن يخلو من إشكاليّات أساسيّة ..

وعلى ضوء ما قرّرناه فالوسطيّة المقصودة في النصّ هي ذلك التكليف الملقى على عاتق الاُمّة ، فلابدّ أن تمارس مسؤوليّاتها ووظائفها المنبعثة من العدل ، فهو بالأحرى انتخابٌ لرسالة ودين جاء مكمّلاً لكلّ الأديان والرسالات السماويّة السالفة ، وليس من المعقول أن يكون هذا الانتخاب انتخابَ عبث ولعب ، وإنّنا إن تخلّفنا أوتراجعنا وانحسرت كفاءتنا وقدرتنا في تحمّل المسؤوليّة إنّما بسبب ضعف الآليات والمناهج لا ضعف المحتوى ; فالسماء لم تخطئ أبداً في الانتخاب ، الانتخاب صحيح ، فلابدّ من تغيير كبير في أنساقنا وأدواتنا ، تغيير ينتشلنا من حيث نحن فيه إلى حيث لابدّ أن نكون ، إلى مستوى الجعل والتأسيس الوارد في النصّ ..

إنّ النظرة الفاحصة الشاملة والإشراف على كلّ المجريات وتسجيل كافّة الملاحظات والانبعاث من مبدأ الوسطيّة في التعامل مع الأحداث


والناس والأفكار ، الوسطيّة بما تعنيه من مفهوم عقائدي علمي معرفي ، يقود إلى ممارسات لا تخرج عن إطار وشعاع التكليف المناط والمسؤوليّة الملقاة على عاتق الاُمّة ، فكما لا جبن ولا تهوّر ، بل شجاعة ، ولا جربزة ولا بلاهة ، بل حكمة ، ولا غلوّ ولاتقصير ، بل اعتدال في الدين ، ولا إسراف ولا بخل ، بل جود .... فأيضاً لا رفض للجديد مطلقاً ولا قبول كذلك ، بل تعامل معياري منهجي نسلّم بالنتائج حيثما تكون ..

فهكذا وسطيّة شاملة هي المقصودة في النصّ ، «وسطيّة جوهريّة» لا وسطيّة قشور فاقدة القيم والمعايير العلميّة ; إذ الوسطيّة الجوهريّة قادرة على تحمّل المسؤوليّة وإدارة كفّة الاُمور ، ولاسيّما أنّها تراعي الفواصل والمسافات والقياسات ، وتنطلق بمنطلق أخلاقي قائم على العدل ..

إنّها حركة دائمة تجرف معها كلّ العناصر الباطلة الشاذّة ولا تُبقي إلاّ العناصر المتلائمة .. تبعثر وتحفر في العمق لتبلغ قراءات جديدة ومعاني حديثة ومفاهيم مبتكرة تحمل معها مقوّمات المناعة والتكيّف والانتشار والنمو ..

على ضوء ما تقرّر فليس التنافر المزعوم بين «الأصالة والمعاصرة» مرفوضاً وباطلاً فحسب ، بل إنّهما محكومان بالتمازج والتلاقح والانسجام ، وكيف يمكن تصوّر الأصالة بمعزل عن المتغيّرات فلا تحرّك ساكناً ، وأيّ ثوابت تلك التي تخشى التحوّلات وتهاب الولوج خوفاً ورهبةً؟!


ولسنا بصدد تصنيف الاُمّة ـ كرسالة ودين ـ إلى أنّها هل تسمو فوق كلّ الأديان والمذاهب والانتماءات ، أم أنّها لابدّ أن تخوض المعترك اُسوةً بالآخرين لتثبت الكفاءة والاقتدار ، على اختلاف القولين ..

إنّنا نرى في الاُمّة ـ بما تعنيه من أصالة وثوابت وقيم ومبادئ ـ الأهليّة الفائقة في التعامل مع الجديد ومعالجة الإشكاليّات التي تحوم حوله وتنبثق منه ، ونرى فيها ـ بعقلانيّتها ـ المبلور المناسب الذي يستقبل الجديد المتناغم ويلفظ الشاذّ المتنافر ..

نحن نفتقر الحميّة المعرفيّة والغيرة الفكريّة اللتين تعنيان : تشمير ساعد العلم والثقافة والعمل بالمعايير الصحيحة ; كي نسمو فوق النكوص والتراجع والتخلّف ، لا أن تكون المواجهة عاطفيّة فنبرّر التقاعس والسكون بحجّة الذود عن الثوابت والاُصول ; فإنّ التمترس خلف العناوين الكبيرة والموضوعات العريضة والارتماء بأحضان الادّعاءات التي تؤمن بالسكوت والسكون تمهيداً لمرحلة الظهور كما يزعم البعض ، جلبا علينا ويلات الذلّ والهزيمة والانحطاط والفساد ..

وكم هي الفاصلة بعيدة بين القيم والمبادئ وموازين العقل ، وبين التصوّر القائم على السكوت عن رواج الانحراف ـ بل حتى الإعانة عليه ـ بداعي إيجاد الشروط المناسبة والفضاء المطلوب لظهور الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وهل هو ـ روحي فداه ـ رهن شروطنا أم رهن شروط سامية أملاها عليه الله تبارك وتعالى؟! وكيف لنا فهم ملاكات الأحكام وعللها ولاسيّما


موضوع الغيبة والظهور البالغ الأهمّيّة حيث يتوقّف عليه مصير الإنسانيّة طرّاً ، ونحن لازلنا وسنبقى لا نعرف علل الأحكام البسيطة وأسبابها؟!

كلّ البحوث والمطالعات والرؤى الدينيّة متّفقة على كون وجود الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين نعمة مباركة وخير للبشريّة ، والأئمّة عليهم السلام كانوا كلّهم معيناً من القيم والمبادئ النبيلة ومصدر عطاء ولطف ، ولا يستثنى الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف عن ذلك ، فهو قطب الخير والهداية أنّى كان ويكون ، حاضراً أم غائباً ، إنّه اللطف الإلهي المتجلّي ، وكيف بهكذا لطف أن يتناسب مع تلك الادّعاءات الرخيصة التي تأخذ بالاُمّة إلى مهاوي الرذيلة والضلال بحجّة التمهيد للظهور؟!

إنّ الامام عليه السلام نصّ السماء الناطق وبرهانه العلمي العملي ، النصّ الذي وهبته الإرادة الإلهيّة لنا لنكون على النهج الأقوم ، النصّ الذي لم يغفل لحظةً عن التأكيد على دور العقل ـ بتأمّله وتفكّره وتدبّره ـ في الهداية وخير البشريّة ، وهذا ما لا يتّفق قطعاً مع الدعوات الرامية إلى إمهال الفساد ليسري ـ بل الإعانة عليه ـ انطلاقاً من استنباطات وتأويلات ومعاني لا تتناغم مع حيويّة النصّ وحركته الدائمة ..

إنّ التكليف يحتّم علينا بذل غاية الجهد ، كلٌّ طبق ما يمتلك من قدرات وطاقات ومساحة نفوذ وتأثير ، لأ نّنا اُمّة وسط ، والاُمّة الوسط ـ بمعانيها المتقدّمة ـ لا يمكن لها أن تخذل الناس وتسلبهم فرص الخير والسعادة والهداية ، فهي بمثابة الأب الذي يرعى ولا يفرّط ، يسعى إلى


توفير الأمن والاستقرار للأبناء ، ولا يألُ جهداً على جادّة النموّ والازدهار ..

هكذا ينبغي أن نكون على ماقرّره النصّ وأمضاه العقل .... أمّا كيف ستؤول الاُمور وكيف سيكون التأريخ بعد الظهور فهذا خارج عن نطاق اختياراتنا وإمكانياتنا الذاتيّة ..

على أنّ النصّ قد أخبر عن نوعيّة النظام الذي سيحكم العالم (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (١) ..

وظاهر النصّ يحكي أنّ المنظومة التي ستدير سدّة الاُمور نهاية المطاف هي منظومة العدل والمبادئ ، منظومة الموازين ، وليست هي عمليّة تطييب خواطر كما قد يفهم من ذلك من باب التعويض وجبران ما فات ، إنّما هي وظيفة من وظائف الاُمّة الوسط التي تعيد الاُمور إلى نصابها الطبيعي طبق نظام المقاييس والمعايير السليمة ..

ولكنّ السؤال الذي قد يدور في بعض الأذهان في كيفيّة وواقعيّة تحوّل عناصر السلطة والمالكيّة ممّن هم اليوم سلاطين العالم وقادته إلى المستضعفين ، فإن كان البحث منظوراً إليه خارج نطاق الإعجاز الإلهي فلابدّ أن نستقرئ ونحلّل ظرف المستضعفين ومدى توفّر عناصر النهوض فيهم ليغيّروا المعادلات والموازين القائمة ..

إلاّ أنّ مؤن التغيير على أرض الواقع ليست سوى مؤشّرات مخيّبة

__________________

١ .. سورة القصص : ٥ ..


للآمال ، باستثناء بعض المحاولات الجادّة التي لم ترق بعدُ إلى مرحلة الريادة العالميّة فضلاً عن الاقليميّة .... رغم ذلك فهي تستحقّ عناء المطالعة والتامّل ..

نعم ، صرّح النصّ بكون الإرادة الإلهيّة ـ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ...) ـ هي التي تغيّر ميزان القوى لصالح المستضعفين ، ولكن بأيّة أدوات وآليات؟ فهذا ما لا يكشف النصّ تفاصيله على غرار نهجه في الإخبار عن المغيّبات والمستقبليّات إخباراً كلّيّاً ..

الدعم الإلهي القاطع في تغيير موازين القوى لصالح المستضعفين واضحٌ شفّاف .... لكنّ التساؤل بشأن كفاءة «المستضعفين» في إدارة كفّة الحياة والصراع يبقى تساؤلاً حيويّاً ، الأمر الذي يُرجع البحث إلى نقطة محوريّة مركزيّة ، قضيّة موضوعيّة اللفظ وتطوّره الدلالي ودوره الحاسم المصيري ، فأيّ «المستضعفين» حطّ عليهم رحال النصّ وبنى حكمه فيهم ، لا شكّ أنّهم ليسوا مستضعفي ذلك الزمان مفهوميّاً ، إنّهم مستضعفو هذا الزمان بمن فيهم اُمّتنا التي عانت ولا زالت تعاني انتكاسات وهزائم وتراجع واستبداد واستغلال واستضعاف وتحقير وإذلال لا يمكن السكوت عنها والقبول بها ، فهذه «الاُمّة الوسط» بفضل عدلها وموازينها ومبادئها والمسؤوليّة الملقاة على عاتقها يمكنها تبوّء الدور الحاسم ; لكنّ ذلك يستدعي جهوداً ومساعي للتغيير (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا


بِأَنفُسِهِمْ) (١) ، بما يتناسب مع الفطرة وحاجة الظرف ، وقبل كلّ ذلك : التزامٌ بالاُصول والثوابت وتعاملٌ مع الجديد معياريّاً ومنهجيّاً ، حينها يحقّ للاُمّة أن تطالب السماء بالوفاء بالوعد والمنّة المعهودة ، يحقّ للاُمّة أن تستجمع قواها الجسميّة والروحيّة وتهتف بالمنقذ المنتظر كي يظهر ويقودها حيث أرادت السماء ، فيغلق بظهوره ملفّ بحث «نهاية التاريخ» إلى الأبد ..

وليس بالضرورة أن تستجيب السماء لرغبة الاُمّة وطموحها فتقرّر الموقف نزولاً عند ذلك ، فهي لها ملاكاتها وضوابطها في تنفيذ الأحكام وإجراء القوانين ، والذي نريد قوله : إنّ الاُمّة المؤهّلة فكريّاً وعقائديّاً وأخلاقيّاً راجحة على الاُمّة المنتفية فيها هذه المواصفات ، رجحاناً يجعلها تمتلك داعياً قويّاً لتحمّل المسؤوليّة العالميّة ، لا ينقصها سوى قيادتها المغيّبة ; ومن هنا جاء مفهوم «الانتظار الإيجابي» مفعماً بحيويّة القيم والمبادئ والحركة الفكريّة والعلميّة الدؤوبة ، على خلاف «الانتظار السلبي» الذي يدعو إلى «التصحّر القيمي والمبادئي والفكري» بحجّة التمهيد للظهور ; فالأرض إن مُلئت بفعل المنحرفين والفسّاق ظلماً وجوراً فهذا لا يعني أبداً التخلّي عن مبادئ العدل والقسط ; إذ صراع الخير والشرّ عمليّة دائمة لم تتوقّف منذ البدء حتى قيام الساعة ..

ولا شكّ أنّ «الانتظار الإيجابي» ـ بفعل النشاط والفاعليّة المتميّز

__________________

١ .. سورة الرعد : ١١ ..


بهما ـ يتناغم طبيعيّاً مع «الجديد المقبول» ليكوّن نسيجاً متناسقاً من الأصالة والمعاصرة ..

وقد خاب ظنّ من يعتقدون أنّ الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف سيظهر ويعود بنا إلى آليات وأدوات الصدر الأوّل من الرسالة ، فإنّه ـ بحكم العقل وحيويّة النصّ وتطوّره الدلالي والخصائص العلميّة والمعرفيّة التي يمتاز بها أهل البيت (عليهم السلام) ـ سيرتقي ذروة التقنية والوسائل الحديثة للبلوغ بالقيم والمبادئ إلى حيث تشاء السماء وحيث هي المهمّة الملقاة على عاتقه عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، ولاسيّما أنّه اللطف وقطب الخير والبركة والرفاه والازدهار ; ومتى كان إمامٌ من أئمّة الهدى (عليهم السلام) غير ذلك حتى يكون الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف هكذا؟! إنّ «حرفة العاجز» تستدعي الاختباء خلق القشور والتشبّث بالمظاهر خوفاً من ولوج الجوهر الذي يعني مزيداً من الجهد والمراجعة والتحليل والمقارنة والاستقراء والاستنباط والحركة الدائمة المواكبة لتطوّر الآليات والأدوات ..

ولابدّ من الإشارة إلى ما يعانيه «النص الحديثي» عندنا من مشاكل تحتاج إلى حلول ومعالجات ، فغالبه لا يتعدّى دائرة الظنّ المعتبر ، أي بقي في دائرة الظنّ ولم نعالجه سوى بجابرات ـ فيها من الكلام الكثير ـ أخذت به إلى عنوان الإضافة «الظنّ المعتبر» ولمّا يبقى الظنّ ظنّاً لا يرقى إلى مرتبة اليقين فإنّنا نواجه مشكلة ، لا يمكن حلّها إلاّ بسلسلة خطوات تمشيطيّة وفلترة علميّة صحيحة ، وهذا ما يعني : «ثورة حديثيّة» وتنقية من موجودات قد نعدّ بعضها داخلة ضمن قائمة الثوابت ، وكسراً لحواجز


تعيقنا منذ مئات السنين ، إنّها عمليّة قد تكلّف الكثير من الخسائر والأضرار الجسيمة ; إذ فيها إعادة حسابات وجدولة مفاهيم وربما تغيير قيم ومبادئ وتصوّرات بنى عليها «الظنّ» بناءه ..

إنّنا محكومون بإستخدام صيغ ومناهج علميّة وتعامل بأدوات وآليات تمهّد لنا السبيل إلى الارتقاء «بالنصّ الحديثي» إلى المكانة التي تؤهّله للتصدّي الواقعي والمشاركة الحيويّة في إحياء الصرح الديني الفكري القائم على العلم واليقين ..

حينما نرى القرآن الكريم رغم إجماعنا اليقيني الذي لا يقبل الشبهات والترديدات على صدوره من لدن الباري تبارك وتعالى ، وأنّ النصّ الموجود حالياً هو ذلك النصّ الذي أنزله الله سبحانه على صدر خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) بلا زيادة ولا نقصان ولا تحريف ....

رغم كلّ ذلك ، نجد المجادلات الهائلة الكبيرة التي أسّس لها بعض المستشرقين وغيرهم لإيجاد فضاء من التشكيك والخدش في نسبة صدور القرآن وأصل محتواه ..

بات علينا أن نعي خطورة المشكلات التي يتعرّض لها «النصّ الحديثي» بشكل أولى ، ذلك إذا رمنا نفض غبار الخمود والسكون ولفظ التعصّب والتعبّد ، التي خلّطت الأوراق وأوجدت مساحات هلاميّة وأجواءً ضبابيّة على حساب الشفّافيّة التي نحن بأمسّ الحاجة لها في ظرف


تسنّمت فيه العقلانيّة قلل الفكر والمعرفة والثقافة وصارت تترك مسحاتها المؤثّرة عميقاً على القيم والمبادئ والثوابت ..

إنّ معالجة «النصّ الحديثي» عمليّة مكلفة باهضة الثمن ربما تستدعي تنازلات صعبة لكنّها تؤسّس لفضاء نموذجي قائم على نسيج منسجم يقيني من الروحانيّة والعقلانيّة ، من الغيبيّات والحسّيّات ، فضاء ينسجم ويتلاءم مع ما نُنعت به من ترحيبنا الدائم بالعقلانيّة وإشادة الآخرين لنا بأ نّنا من أهلها والداعمين لتنشيط دورها في عمليّات النهوض والبناء والنمو ..

إنّ الخروج بنتائج واضحة على صعيد معالجة «النصّ الحديثي» يوجد تلاحماً حاسماً بينه وبين النصّ القرآني ، ويفتح آفاقاً رحبة تقود إلى ثورة من التصديق الفاعل وتيّار يجرف الشكوك والأوهام والترديدات والظنون ، ويقضي على مشاريع الحذف والرفض والنفي والتحريف ....

حينها نفهم معنى الاُصول والثوابت فهماً لا لبس ولا غموض فيه ، فهماً لا يخضع لنظريّة «ديانة الآباء» أو «التعبّد الظلماوي» أو «الخوف والترويع الديني» ....

حينها نعرف كيف نتعامل مع الفروع والمستحدثات على غاية من السهولة والبساطة ، فلا نجد أيّ ضير بين تلاقح وتلاقي وتلاحم الجديد مع الأصل ، والمعاصر مع الثابت ; إذ كلٌّ قد عرف حدّه وطوره ....

حينها يصحّ أن ندّعي أنّنا نحن «الاُمّة الوسط» اُمّة العدل والفصل


والتوازن ، اُمّة اختارها الله كي تتحمّل المسؤوليّة والأمانة السماويّة الملقاة على عاتقها ، اُمّة بإمكانها تهيئة أرضيّة ظهور المنقذ الذي تتكلّل به كلّ المساعي والجهود المبذولة من أجل بناء عالم يلفظ الظلم والتعسّف والاضطهاد والترويع والفقر والانحراف ، وينشد الخير والأمان والعدل والرفاه والحبّ والسلام ..

إنّ اليقين القيَمي والمبدأي الحاصل من خلال منهج علمي دقيق يقودنا إلى نفض غبار الخيال والأوهام وإبراز الشكل والمحتوى لحقيقة فكر ورسالة لها من العمق والشمول ما جعل سائر الحضارات تستلهم منها روح الحركة والإبداع والتطوّر ..

فلسنا إذن ـ كما ادّعى علينا فون كريمر (١) ـ مجرّد تجريبيّين وأصحاب ملاحظة دقيقة بالأخذ من الرواية والتقليد ، ولسنا في حقل المعرفة النظريّة والتفكير التجريدي مجرّد عبء على الفلسفة الارسطوطاليسيّة والأفلاطونيّة ، حتى إذا حاولنا الخروج من إطار الفلسفة الإغريقيّة كان الخيال الشارد يؤدّي بنا إلى خيالات وأوهام وإلى نوع من الغيبة التي لا شكل لها ....

بعبارة اُخرى : ليس الإسلام قد قدّر له بعد فترة قصيرة جدّاً من النمو والتطوّر أن يتّخذ شكلاً جامداً ثابتاً لا يقبل التغيّر ، كما أبداه «كينن» ، فردّ عليه «جولد تسيهر» بأنّ التاريخ الداخلي للحركات الدينيّة السياسيّة في الإسلام عبارة عن صراع بين السنّة والبِدَع ، أي بين مبدأ

__________________

١ .. Culturgeschich des orien ١١,٤٦٦ (Vinna,١٨٧٥ ـ ٧) ..


العرف الذي لا يلين وبين المحاولات الدائمة لتوسيع هذا المبدأ وللخروج من الإطار الذي أقامه (١) ..

كما وليس الإسلام مفتقراً إلى تطييب الخواطر كما فعل «فون كريمر» لمّا قال :

إنّ كلّ نسمة من نسمات الرأي العام الاُوربيّ تترك تموّجاً عنيفاً ، أمّا في الشرق فإنّ ما يبدو على سطح الحياة يظلّ هادئاً ساكناً كالمرآة إلى أن يتفجّر فجأةً من الهدوء التامّ قوّةً تندفع من الأسفل بشكل براكين من القوّة المخرّبة (٢) ..

كما أنّ الإسلام لا يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة كما يرى «ميلر» بقوله : تلك العقيدة الراسخة المطلقة وذلك الإيمان غير المشروط بالقضاء والقدر الذي يقيّد اليوم الحياة الفكريّة عند المسلمين بقيود حديديّة ثقيلة لم يعد من الممكن فيما يبدو التحرّر منها (٣) ..

وليس الإسلام كما يقول «مكدونالد» : ما لا شكّ فيه أنّنا نجد هنا سرّاً من أسرار ذلك النقص الفاضح في الفكر الإسلامي ..

نعم ، لكلّ قاعدة شواذّ ، واعية أو غير واعية ، ولكنّ الاتّجاه العامّ في استغلال القوّة والتأثير قد تجاوز كلّ حدّ ، فأفسد حرّيّة الفكر .. فإنّ الغاية يجب أن تكون عند المسلم محدّدة واضحة المعالم قبل الشروع بأيّ

__________________

١ .. Vorlesungen دber den Islam ٢٨٥ f. (Heidelberg ١٩١٠) ,٢nd edition,

٢٦١ f. (Heidelberg ١٩٢٥) ..

٢ .. Geschichte der herrschenden Ideen, ١٨٤ (Lelpzig, ١٨٦٨) ..

٣ .. DER Islam im Morgen ـ und Abendland ١, ٧١ (Berlin ١٨٨٥ ـ ٧) ..


بحث ، ويجب أن تكون واحدة من أنواع معيّنة ..

أمّا البحث الذي لا يعلم صاحبه إلى أين سيؤدّي به ، ولا النتائج التي قد يسفر عنها ولا يأبه سلفاً بها ، فمحرّم في الإسلام ، حتى أنّ اللهو أو التسلية البريئة يجب أن يجد لهما من النفع ما يبرّر الانغماس فيهما .. كذلك المرح المرفّه عن النفس يجب إخفاؤه وستره بأقنعة من أمثال وأقوال حكيمة وأخبار عن فكاهات الأوّلين المتزمّتين ونكاتهم المرحة ..

فإنّ النفس البشريّة الحرّة المتطوّرة الواثقة من ذاتها لا يسمح لها أن تسير سيرها الطبيعي في الحياة مهما كانت دوافع هذه النفس طاهرة بريئة ، بل يجب أن تتكيّف لتلائم الأوضاع الصارمة والنماذج التقليديّة التي كانت تفرضها مختلف الفلسفات والنزعات الفكريّة (١). (٢)

نقول : إنّنا على ثقة كبيرة واطمئنان كامل لو قُدّر أن تخضع كلّ الإمكانيّات والقيم والمُثُل الغربيّة للإرادة الإسلاميّة لما انتُشل أو التُقط منها شيئاً إلاّما أقرّه الإسلام ضمن مبادئه ومفاهيمه ; لسبب واحد بسيط مفاده : وجود حالة من التكيّف والتناغم والتحاور في هذا الدين ، تفتح آفاقاً من القراءات المستمرّة واختراقات لأبواب اللاّمفكّر فيه ، فكلّ شيء عندنا في تطوّر .. هكذا يفيدنا الأصل والثابت من الدين ; أما أنّنا لِمَ في ما لا يناسبنا منذ أمد طويل ، فلقد كرّرنا الإشارة إلى أنّ مردّه ضعف الأساليب والأدوات لا ضعف المحتوى والمضمون ..

__________________

١ .. The Religious Attitude und life in Islam ١٢١, ١٢٣ (Chicago ١٩٠٩) ..

٢ .. اُنظر في ذلك كلّه : فرانتز روزنتال ، ترجمة أنيس فريحة ، مراجعة وليد عرفات ، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ص ١٤ ـ ١٧ (دار الثقافة ، بيروت) ..


الإرهاب الفكري (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

تسامى الفكر الإسلامي الأصيل ـ عبر حقب التأريخ المتفاوتة ـ فوق كلّ التيّارات والنظريّات والمقولات والنزعات ، التي أرادت إجهاضه وشطبه ، عزله وتهميشه ، تشويهه وتحريفه ، فبقي مُمسكاً بخيوط الخلاص البشري ; لغناه الايديولوجي ذي الشمولية المترامية والتكيّف المشهود ..

وحينما نخوض اليوم مواجهةً حضاريّة كبيرةً على صُعد شتّى ، كـ : نظام العولمة ونزعة التكفير وغيرهما ، فلا ريب أنّنا نتعرّض لإرهاب فكري ، منظّم أنيق جميل تارةً ، وقبيح خشن مشوِّه تارةً أُخرى ...

فهو على كلا الحالين معتركٌ معرفي ثقافي مثير ، وصراعٌ عقائدي يستهض النهج القويم ، والقراءة الواعية ، والاستنباط الفطن ، والعزم الأكيد ; كي يكون خطابنا مستوعباً لظروف المرحلة ، ومتفوّقاً فيها ..

ويطرح الأوّل ، المتلبّس بالأناقة والجمال «مفهوم العولمة» كمنهج

__________________

١ .. كلمة العدد ٧٧ / السنة ٢٠ / فصليّة تراثنا / إصدار مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.


وأُسلوب واستراتيجية في خوض المنافسة وإنهائها لصالحه ..

فهو يتّخذ ـ أحياناً ـ من الإثارات الشعورية وتنشيط الرغبات الحسّية والمتطلّبات الحياتية ، كـ : الحرّية والديمقراطية والرفاهية ، سبيلاً يخترق به الحنايا والأعماق ; ليسهل حينها بذر نواة الهيمنة على العقول والأذهان ، فيسلبها فرصة التفكير العقلاني الواعي الرافض للرؤى المستوردة الرخيصة ذات المضامين المادّية المضلّة ..

والإجماع منعقدٌ على كون هذا الأُسلوب من أرقى أساليب مفهوم العولمة ، وأفتك أسلحته التي تجعله ممسكاً بزمام المبادرة ..

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مصطلح «العولمة» يرجع في جذوره ـ كما يقال ـ إلى مفهوم القرية الكونية ، الذي استنبطه أُستاذ جامعة تورنتو : «مك ليوهان» في الستّينات من استدلاله للحتمية التكنولوجية ، القائم على قاعدة التقدّم الكهربائي ـ الألكتروني ، المبشّر بقدوم عالم دعامته الأساسية التمدّد الآلي لحواسّ الإنسان ـ التكنولوجيا ـ الدعامة التي تصنع من إنسان عالمنا إنساناً متحوّلاً في عالَم تُحدّد مُثله ونظمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية ..

وقد جاء العصر التكنولوجي مضادّاً للحتمية التاريخية في سياق مقولة : «نهاية الايديولوجيا» ، التي نشرها «دانيال بل» عام ١٩٥٩ م ، وروّج لها في الستّينات ، على غرار ما روّج لمقولة «فاكوياما» : «نهاية التأريخ» في مطلع التسعينات ، وكان الهدف من مقولة : «نهاية


الايديولوجيا» و «الحتمية التكنولوجية» هو التمهيد لمقولة : إنّ الليبرالية والديمقراطية قضية ، ولا مستقبل لغيرها ، وهي التي انتصرت في جميع أرجاء العالم ....

وإذ تعمّقت شبكة العولمة باجتيازها مراحل عدّة ، إنّما كان ذلك عبر الحذف والنفي ، وعلى حساب الأُمم والقيم ، وانتهاك الحدود ومقدّسات الآخرين ، وتفرز القراءة الاستقرائية على أنّها ايديولوجية التسويغ بشتّى الآليات لمحاولة فرض الهيمنة والغطرسة الإنجلوسكسونية على دول العالم قاطبة ..

فهي آلة حرب ، جنون ، غسل دماغ ... وتعني قبل كلّ شيء : أنّ مَن يكتب الشيكات هو الذي يصوغ القوانين ، ويملك وسائل الاتّصال ومصادر المعلومات وموظّفي أدوات الاتّصال الجماعي ، من أكاديميين إلى إعلاميين إلى دعائيين وغيرهم ..

وذهب آخرون إلى أنّها : عملية تاريخية تعدّ نتيجة لازمة لتفاعلات معقّدة ، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وتكنولوجية ، وهي حقبة التحوّل الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء ، في ظلّ هيمنة دول المركز وقيادتها وسيطرتها ، بسيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ ; فهو إذن انتصارٌ ـ إن صحّ التعبير ـ لنمط معيّن من أنماط الملكية والسيطرة التامّة ... إنّها رسملة العالم بما يتناسب مع المصالح الأساسية والحيوية ..

ولربما عدّها بعضهم سليلاً طبيعياً لمقولة الإسكندر المقدوني ، التي


أطلقها في مأدبة «أوبيس» عام ٢٣٢ ق .. م ، القائلة بوحدة القلوب وبكومنويلث مشترك بين الفرس والمقدونيّين على قاعدة الأُخوّه الإنسانية ..

وبينهما بون شاسع ; إذ إنّ عالمية المقدوني أسقطت نظرية التفوّق الإغريقي ، ومهّدت السبيل إلى المدرسة الرواقية ، التي أسّسها «الفينيقي الصغير» : «زينون» ، ودعا فيها إلى وحدانية البشرية والشعوب ، وقيام الدولة المدنية العالمية على قاعدة المساواة ..

في حين تقوم عولمة عصرنا على قاعدة : «أميركا محور العالم» من خلال محاولة فرض الهيمنة بقوّة السلاح حيناً ، وبقوّة السوق حيناً آخر ، وبالغزو الثقافي ثالثاً ، و .... وأنّ النظام العالمي الجديد هو إمبراطورية عالمية أميركية ، لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية هذه دمغة الروح الأميركية ....

وقد صرّحت «وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي» بشخص الرئيس الأمريكي عام ٢٠٠٢ م بما يلي : سوف لن نسمح بأن تصبح أيّة دولة أقوى من الدولة الأميركية ، فنحن «الإمبراطورية» المهيمنة ... سوف لن نسمح بأن يسبقنا أحد في هذا الموضوع ..

وبذلك فقد اتّضح خاطفاً ما يمثّله مفهوم العولمة ـ بنظامه الشمولي المترامي ـ من مصدر خطورة وقلق يرتقي معهما ، في واحدة من زواياه ، إلى أعلى مراحل الإرهاب الفكري المبرمج ..


هذه حالةٌ ومصداق لأبرز محاور الصراع الحضاري المذكور ، المتأ نّق بمفاهيم العصرنة والحداثة ، المتسلّح بالتقنية العالمية والتفوّق العلمي ..

وأمّا الآخر ، القبيح الخشن المشوِّه ، فيتمثّل بالتيّار التكفيري ، المقترن بأقذر وسائل العنف والتدمير المباشر والتصفية الجسدية ، مع غاية في القسوة والخشونة ، تعكس الروح الهمجية والنفس الحيوانية البهيمية ....

إنّها نزعةٌ وتيارٌ وموجةٌ جابت العالم الإسلامي ـ بل الدنيا بأسرها ـ ولا تستثني أحداً ، فعلماء أهل السّنّة كفّار ، ومثقّفوهم أكفر ، ومن كان سلفياً وخالف آخر مثله في اجتهاد أو رأي فهو كافر ، أمّا الشيعة الإمامية فهم ليسوا كفّاراً فحسب بل أشدّ خطراً من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ..

إنّ النهج التكفيري يعدّ من أشدّ الانتكاسات التي تمرّ بها الصحوة الإسلامية ، وهو المحنة التي تواجه العقل المبدع الخلاّق ، والمِعْوَل الذي يهدم صرح الثقافة والتطوّر نحو الأفضل ، ومصداق الاستبداد والديكتاتورية والقهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي ...

وتشير دراسات علم النفس إلى أنّ الإرهابي النوعي يعاني من شعور بالإحباط كبير ، وإحساس بالفشل وعدم احترام الذات ، فيحاول أن يَظهر ; كي يسلّط الضوء على نفسه من خلال سلوكه الانحرافي ، ثم إنّه مهما كان خائفاً قلقاً فهو يعجز عن التعبير عن ذلك ، ورغبة الظهور تمنعه من إبدائه أبداً ..


وإذا أضفنا إلى هذه المعلومة ما يُنشَر ضمن أدبيات الرؤية الأميركية من أنّ الخطر الذي يهدّدها قادمٌ من صوبنا ، يتّضح ـ حينها ـ عمق المواجهة التي نخوضها ، وشراسه غريمنا الذي يحيط بنا ، ليخترقنا وينال منّا ، ويمحونا بلا أيّة رحمة ..

ونحن إذ نمتلك المحتوى المتكامل المستنبط من مدرسة آل البيت (عليهم السلام) ، لا نفتقر إلاّ إلى الآليّة السليمة والأُسلوب المتقن بما يتلاءم ومتطلّبات العصر ..

وحينئذ لابُدّ أن نصنع ـ بالرؤى المعمّقة ، والشفّافيّة الأنيقة ، وسعة الصدر المعهودة ، والعقلانية الهادئة ـ السبل المناسبة لمواجهة حضارية مصيرية ، وليس الفلاح ببعيد عن اُمّة تترشّح قيمها من عمق القرآن الكريم ومدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ولنا في أقطابنا العظام ، ربائب الدوحة النبوية ـ الذين ما برحوا يتأ لّقون رفعةً وسمّواً بكياستهم وحكمتهم وتدبيرهم ، المشهود بها لدى المناوئ والموالي ـ أُسوةٌ حسنة ..

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين ..


تمرين المعرفة

في واحدة من جلسات البيت الليليّة كنت أقول : إنّ العقل إذا تغلّب على القلب سار الإنسان مساراً صحيحاً لتحقيق طموحاته وغاياته .. بادرني ولدي بالسؤال : كيف نعلم أنّنا غلّبنا العقل على القلب أو العكس ـ طبعاً باُسلوبه كطفل في العاشرة من عمره ـ لقد أعجبني سؤاله كثيراً واُعجبت بنباهته ، وأظهرت له ذلك ، ممّا أشعرني أنّه زاد ثقةً بنفسه ..

نعم ، بإمكان المحيط أن يصنع ما يسانخه ، فالفضاء الثقافي يخلق اهتماماً ثقافيّاً وهكذا إن كان بتوجّهات اُخرى ، فالسنخيّة في الاهتمام حاكمةٌ واردة ..

علينا أن نمرّن أجواءنا بتمارين المعرفة والعلم والقيم والمناهج ; إذ أدنى ما تصنعه هو تحريك العقول نحو اختراق المجهول غير المفهوم ، الغامض المشتبه ، المردّد ، المشكل ، انطلاقةٌ نحو الممارسة العلميّة المعرفيّة الاستدلاليّة التي نفتقرها في أساليبنا ومناهجنا وأدواتنا الثقافيّة ..

إنّ ترغيب صغارنا ـ أمل الغد ـ يفتح الآفاق الرحبة صوب الحفر


والبحث والتنقيب عن جواب السؤال الذي قد يبدأ بصيغة فضول في بدايات العمر ثم ينمو إلى حافز معرفي كبير لشقّ جدار الجهل والغموض روماً للحقيقة الوضّاءة التي تنشدها كلّ العقول والقلوب السليمة ..

يبقى المنهج والنسق حاكمان في كلّ محاولة معرفيّة هدفها بلوغ الكمال الإنساني ، سواء في جلسات البيت أو الكيان أو الذات ..

وتبقى المعرفة مفهوماً محوريّاً ومحتوى نوعيّاً ومخزناً جامعاً لكلّ أدوات الفكر الطامح ..


التدبير الصحيح

إنّ العقل الناضج والقلب السليم هما اللذان يتفاعلان مع المؤثّرات والأحداث بنسق متوازن ، والتدبير العقلي الشعوري الصحيح يوفّر أنجع طرق الاختيار والانتخاب ..

فالافتخار بالانتماء الإثني والقومي والديني لا يوفّر حلاًّ ما لم يستند إلى العقل والشعور السليمين ; إذ بدونهما ستضعف الإرادة ويهتزّ الأداء وتتأرجح القيم وتشمخ الازدواجيّة وتستشري الانتهازيّة وتعلو المبادئ الرخيصة التي تنتج معضلة كأْداء لا تحمد عقباها ..

على خلاف التدبير النسقي الصحيح ، فإنّه يمنح الإنسان شأواً لامعاً يجعل الأدوات مسيّرة له ، بل هي كالاُمّ الرؤوم تحنو عليه كلّما افتقر لها في ميادين العلم والمعرفة والأحاسيس والمشاعر ..

إنّ التدبير الصحيح يمنح الفرد حجماً حقيقيّاً يمكّنه من تحمّل ما يجب تحمّله ، فتحتاجه الناس وتحتاجه الاُمّة ، يغدو مصدراً ومرجعاً واقعيّاً بعيداً كلّ البعد عن صور الزيف والمبالغة والمنافسة الكاذبة


والازدواجيّة والانتهازيّة ونسيان المعروف وتغيير الحقائق وتشويه الواقع والتأرجح وفقدان الاتّزان النسقي والاستخدام الخاطئ للعقل والمشاعر ..

هذا الفرد يعتزّ بمنظومته القيَمية وتعتزّ هي به ، يفهم مواضع القوّة والضعف ، يقرأ المحاور الأساسيّة قراءة واعية انطلاقاً من واجبيّة المهامّ والوظائف المعهودة إليه ، يواجه الواقع بكلّ شفّافيّة ونقاء ، لا تناله الأحقاد والحسابات الرخيصة ، يعي حدوده ومزاياه ، يراجع ويتأمّل ويحفر ، متأنٍّ غير عجول ، لا يفرّط في عواطفه وأحاسيسه ، يعلم ماله وما عليه ، لا يفسد رأيه بالغضب والحسد والسذاجة ، قويّ الإرادة ، مقصده واضح مرسوم ، يسير إلى هدف وغاية ..


من أوهام فرانسس بيكون

من سخافات فرانسس بيكون «رائد نهضة الحديثة» ما أطلق عليه «أوهام المسرح» التي صنّفها في منهجه ضمن القسم السلبي ، وأراد بها تلك الأوهام أو الأخطاء الناتجة عن تأثير المفكّرين القدامى في عقل الإنسان ، فيصبح هذا العقل وكأ نّه خشبة مسرح ـ كما يقول ـ يعرض عليها المفكّرون السابقون رؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن ..

نقول : نحن نستعرض كلّ سنة بل كلّ حين وقعة الطفّ الفضيعة التي قُتل بها الحسين (عليه السلام) وخيرة أصحابه ، نستعرضها بشتّى الآليات والأساليب والأدوات ونعيشها حيّةً نابضةً يقظةً في قلوبنا وعقولنا ، ونستلهم منها مفاهيم العزّ والإباء والثبات والصدق والإخلاص والإيمان والكرامة والوفاء والعشق والولاء والرقيّ والفلاح ..

«إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي» ، مبدأٌ يحرّرنا من القيم البالية والأفكار الرخيصة ويسوقنا إلى مراتب العقلانيّة والانفتاح والحوار .. فهل الحياة والإنسان الكامل إلاّ سلسلة مبادئ شامخة أقرّها العقل الفاعل واعترفت بها الحكمة العمليّة ..

إنّنا فهمنا نتائج الطفّ بهذا الشكل والمحتوى ، إذن فلا هي أوهام


ولا أخطاء تقوّض القيم الرفيعة والاُسس الخيّرة ، بل إنّها ذات المفاهيم الطاهرة التي تنشدها البشريّة بأسرها ..

إنّ بيكون وديكارت وهيوم غاصوا في وحل التجريبية المحض فلم يسمعوا ولم يشاهدوا ولم يلمسوا إلاّ المسموع والمشاهد والملموس المادّي ـ رغم مداراة ديكارت لقضايا اللاهوت والدين ـ فأغفلوا العشق والولاء والملأ الأعلى وزعموا أنّ الحياة تنتهي بالموتة الاُولى ..

ماذا يفسّرون يا تُرى زحف الجموع الميلونيّة كلّ سنة في مسيرة تجديد العهد والولاء مشياً على الأقدام مئات الكيلومترات إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، فيهم : الكهل والصغير ، المرأة والرجل ، المريض والسليم ، المثقّف والاُستاذ والعالم وابن السوق والكادح ، الفقير والغني ... كلٌّ يروم كربلاء ، بشوق وعشق تزيده السنون حرارةً وصلابة ; ماذا يريدون ، أيّ شطر يقصدون ، المكاسب والأرباح الدنيويّة مفقودة هنا ، لا جوائز ولا أيّ شيء آخر قد يخطر ببال بيكون ورفاقه ، هل من تفسير لهذه الرسالة؟ فليس رأس الحسين (عليه السلام) بأوّل أو آخر رأس مقطوع ولا سبي عياله وانتهاك حرمهم كذلك .. فلِمَ هذا الخلود النجومي والعنفوان السرمدي ، وهل أطلقتها زينب (عليها السلام) بلا وعي وحساب : «فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا» أم أنّه منهج المعرفة الأصيل ونمير القيم السليم والكيان الفكري القويم الذي يمنح البشريّة صدق الطمأنينة وسبيل النجاة وأنوار الهدى ومفاتيح الفلاح على مرّ العصور والأزمان؟!

عميت عينٌ وجنّ عقلٌ ومات قلبٌ وجفّت مشاعر لا تجعل من الحسين انموذجاً مشرقاً نحو الحرّية والصلاح ..


المالُ : استقلالٌ ونفوذٌ ، سيطرةٌ وقدرة

المنسبق للذهن من «المال» مفهومه الماديّ العيني ، وهو الغالب على الأذهان والمهيمن على التصوّرات المنعقدة حوله ، وعلى إثر هذا الفهم والتصوّر نمت نوع العلاقات والالتزامات والقرارات ، وصار ثقافةً ذات اُصول وأسس ومناهج اخترقت كلّ مرافق الحياة ..

إنّ التأمّل والتدبّر المقرونين بأدوات البحث والمراجعة العلميّة ينتج حقيقة واحدة ، حقيقة النسق ، فالنسق ذاته ولوحده هو الذي يؤسّس لهذه الرؤية وتلك الفكرة ويشيد الثقافة التي تتلاءم معه .. فالقدرة والنفوذ والسيطرة والاستقلال كلّها رواشح النسق لا غير ..

وحديث «المال» حديث الفرد إزاء الطبيعة ، طبيعة النسق ، فلربما كان المال عيناً أو كان مبدأً وقيمةً وأخلاقاً أو كان كليهما ، تبعاً لاختلاف الأنساق واختلاف مصادرها ..

ونحن لا يمكننا سوى أن نرى «المال» مقولة متشكّلة من حدّين ; انبثاقاً من القواعد والاُصول والجوهر الذي نؤمن به ونعتقد بمحتواه ، فلا


انغماس محض في عالم المادّة ، ولا تصوّف محض ، بل أمرٌ بين الأمرين ، شريطة التقيّد بالحدود والأحكام التي تنظّم حركة الحياة ، فكما لا تحريم لزينة الحياة الدنيا ، كذلك لا تسيّب ولا انفلات ولا حرّيّة على الإطلاق ..

هذه الرؤية إنّما هي نظريّتنا إزاء الحياة وفلسفة التواجد فيها ; بخلاف الواقع الذي نحياه ، حيث هيمنت سلطة المال المحض وكوّنت فضاءً حكم الناس واكتسح التاريخ والفكر والضمير الإنساني ، وصار للمال المادّي كلمة الفصل والسيادة والقدرة والنفوذ والتسلّط على الأفكار والأحاسيس ، حتى غزانا نحن أيضاً أصحاب النظريّة التي تحدّ من هيمنة المادّة وتستقطب العباد إلى الآفاق الروحانيّة المفعمة بالإيمان ومجاهدة كلّ ما يعيق حركة الاعتقاد ورسوخها في العقل والقلب ، فغدونا وغدا الكثير من أقطابنا يلوّح ويستخدم المادّة لتركيعنا وإذلالنا تارةً وإغوائنا وإغرائنا تارةً اُخرى ، فلا مائز إذن ، إنّها ذات الأداة والوسيلة التي يوظّفها الجميع لبسط الهيمنة والنفوذ والسيطرة ، إنّما المائز في كوننا أتباع نظريّة لا نعمل بها واُولئك أتباع نظريّة يعملون بها.

نحن لا نستطيع تغيير أنفسنا ومن حوالينا والعالم طرّاً بمجرّد انتمائنا واعتقادنا نظريّاً بنظريّة ورسالة نرى أنّها الأسلم والأشمل والأكمل والأعمق دون التلقّي والفهم والممارسة والمتابعة السليمة طرّاً ، بأدوات وآليات وسبل كلّها صحيحة ، متناسبة مع المكان والزمان ، فهي الكفيلة بإيجاد التغيير والنموّ والانطلاق نحو نهضة إنسانيّة جادّة ترفض السطحيّة والقشريّة والشعاريّة والاستعراضيّة التي هي وجهٌ آخر من وجوه الخداع ،


خداع الذات والغير ، خداع الأنا والآخر ، ولعمري ما تمكّن الخداع يوماً من بلوغ الثراء والغنى ; إذ الثراء ثراء القيَم والغنى غنى المبادئ ، وهكذا عدنا ونعود دوماً إلى حكاية الجوهر والأصل والمحتوى ، ودونها فكلّ الحكايات تافهة لا اعتبار لها ..


مقولتا العمق والقشر

مقولةُ العمق والجوهر والأصل ... بإزائها مقولة الظاهر والقشر والفرع ... هما مقولتا وطرفا الصراع الذي لا ينتهي ..

نرى أنّ الاُمّة قد اُوهمت بفعل عمل بعض النخب التي يتعارض العمق والجوهر والأصل مع تطلّعاتها الاستحواذيّة الاستبداديّة ، فعملت تاريخيّاً طبق منهج واُسلوب وأدوات يُستبدَل بواسطتها المطلوب بمطلوب آخر والغاية والمقصود بغيرهما ، فصار الشعار ـ مثلاً ـ هدفاً في الكثير من قضايانا بينما حدّ الشعار كونه معبراً نحو سبر الغور في الجوهر الذي فيه مقوّمات الفكرة بكلّ شروطها وجزئيّاتها ، فيرشح جديداً كلّما حاكيناه واستنطقناه واستقرأناه وقارنّاه وحلّلناه وحفرنا في مساحاته وحلّقنا في فضاءاته وآفاقه ، هذا الجوهر الذي لا يتعبّدنا بفهم واحد وتفسير واحد ، حيث يتسامى فوق المكان والزمان ليتكيّف مع شتّى الظروف وألوانها ، كونه يمتلك كلّ خصائص ومميّزات الفكر الذي بإمكانه التجاوب مع المنهج العلمي الاستدلالي اللاّدوغمائي ، فلا نتائج مسبقة بلا بحث وبرهان ; إذ كلّ مسائله معروضة على مختبر المنهج العلمي السليم لتمرّ


بمراحل الفحص الشاقّة ، فما بين الثبوت والإثبات مناطق تنقيب ومحطّات اختبار وأدوات تحليل وبعثرة كي يثبت المراد ، وإذا ما ثبت المراد فلا يعني ذلك نهاية العالم ، بل الحركة دائمة القراءة والمراجعة والمقارنة والحفر والبعثرة والتحليل والتمسّح والاستنتاج ليرشح في كلّ مرّة شيءٌ يواكب الجديد ، وهذه هي خصيصة الفكر المتكامل الشامل ; إنّه لا يخاف الشبهة الزمكانية ولا يهاب الوارد ولا يخشى التغيير ، إنّه يتعامل تعاملاً علميّاً أخلاقيّاً لا يقبل الشكّ والترديد ، حينها لا يكون للتبعيّة والذيليّة والتقليديّة ـ بل للشعاريّة والاستعراضيّة والقشريّة ـ دخلٌ في تعيين المصير وتشخيص السبيل ..

ولقد اُسيئ استخدام مفهوم «الظاهر حجّة» أيّما إساءة ; حيث سرى في أروقتنا سريان النار في الهشيم ، حتى صارت مظاهر الحياة ملاكاً وميزاناً وضابطاً في القضاء والحكم ، وغدا الملبس والمأكل والمركب مؤشّراً «حقيقيّاً» في المعرفة والفهم!! ذلك بفعل حكومة الظاهر على الباطن والشعار على العمل والاستعراض على الحقيقة والمسرح على الواقع ، وهكذا رويداً رويدا صرنا لا نفهم من عقائدنا وأخلاقنا سوى رؤوس أقلام وعناوين خافتة رمزيّة المحتوى ، وبات الغالب منّا ـ مثلاً ـ يختصر أو يرى الولاء لأهل البيت عليهم السلام في محطّات معيّنة ، أمّا مَن هم أهل البيت ، ما هي سيرتهم وعلومهم ورؤاهم وأهدافهم ، وكيف يتسنّى لنا الاقتداء بهم اقتداءً محتوائيّاً؟ فهذا من القضايا الغريبة أو المسائل التي ليست محلّ ابتلائنا!!


لقد حصرتنا بعض النخب في هذه الزاوية لتسلبنا حرّيّة التفكير والبحث والفحص والتحقيق والانتخاب ; لتُبقي هيمنتها علينا سارية واستبدادها دائماً ; لكي لا تتعرّض المنزلة والمكانة والقدسيّة الوهمّيّة للخطر!!


صراع المانع والمقتضي

لعلّ من الصعوبة بمكان الاستمتاع بالحرّيّة والاسترسال والشفّافيّة والطمأنينة ونظائرها من جهة ، وارتفاع قلق التحريف والتصحيف والوشاية ونظائرها من جهة اُخرى ، ذلك حال عرض الرؤى وبيان الأفكار ; حيث مكوّنات «المانع» ومؤنه وظروفه موجودة بقوّة غالباً ، وبإزائها «المقتضي» ومؤنه وظروفه معدومة غالباً .... تأسيساً على ذلك تأخذ فضاءات التورية والتقيّة والعزلة والصمت والأعراف الدبلوماسيّة مجالها الرحب ونشاطها الدؤوب فتكوّن شاهقاً كبيراً وحاجباً عظيماً عن واقعيّة الأفكار وحقيقة الرؤى ..

إنّنا في خضمّ سلبيّة نتاجات المانع ورواشحه من نفاق وببغائيّة وحربائيّة وصنميّة وتزلّفيّة وبراغماتيّة لا يمكننا إلاّ أن نُخضِع الوضع للمنهج العلمي الكفيل بإيجاد الفضاء المطلوب لانطلاق الأفكار مع الأخذ بعين الاعتبار ماهيّة الطرف الآخر وهل كونه هو الفرد أو المجموعة التي تقع مورد التخاطب والإلقاء ، وهل الظرف ظرف إغاثة أو دفع منكر أو بيان حقائق وبصائر لابدّ من بيانها والكشف عنها ..


ولقد ابتُليت الأوساطُ الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة بمشكلة «المانع» أيّما ابتلاء ، ولاسيّما مع فرص «المقتضي» الضعيفة جرّاء تعملق «المانع» وتنمّره ..

إلاّ أنّ جبروت «المانع» مهما شمخ واستعظم لا يمكنه حجب أنوار الحقيقة ولابدّ من نافذة أو مسلك واُفق تطلّ منه الرؤى وتشرق الأفكار الداعيّة إلى التزام القيم والمبادئ النبيلة .... ومهما استغلظ الاستبداد واخشوشن أو تغلغل من خلال القدرة وسلطان المال والإغراءات وأدوات التحريف والتضليل والحذف ، فإنّه لن يستطيع دحر فضاء العقلانيّة وآفاقها الرحبة ; إذ القناعة والقبول والرضى الحقيقي شيء ، والبراغماتيّة والنفاق والببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّفيّة شيء آخر ، والملاك كلّ الملاك في حكم العقل ثم تسليم القلب ، حيث تتوفّر آنذاك المناخات المطلوبة للتلقّي السليم المسبوق بالعرض السليم ، بعيداً كلّ البعد عن الأجواء الاستعراضيّة والمسرحيّات المزيّفة والأصنام بشتّى أقسامها وأنواعها وانتماءاتها ..

والعجب كلّ العجب ممّن يسدّ منافذ العقل والشعور ويكتفي بلغة القدرة والغطرسة ، متناسياً متغافلاً عن الحقيقة الوضّاءة : «كلّ شيء متصرّم ولن يبقى سوى وجهه الكريم وأنّ ما فيها إلى الفناء إلاّ الله ، فهو الباقي بعد فناء الأشياء» ..

والأعجب أنّه لا يعلم أو يغضّ النظر عن حقيقة كونه كلّما ازداد


استبداداً وغطرسةً وظلماً وحقداً كلّما ازدادت رؤى الخير ومبادئ العدل عمقاً وانتشاراً بحركة دؤوبة تنبض نشاطاً وهمّة وطمأنينة تعكس إيماناً وثباتاً ، فتزحف صوبه رويداً رويدا وتحاصره شيئاً فشيئاً لتقضي عليه وتشيد على أطلاله حضارة العدل والقيم الحقّة ..


وقفة عَقَديّة

بينا نظلّ متمسّكين بالانتماء العَقَدي الإيماني ذابّين عنه عبر السبل والآليات المتوفّرة على قراءات مستوعبة لاُطر وجوهر وأعراض الانتماء ; انبعاثاً من البناء الثيولوجي الارثوذكسي اللاهوتي الناسوتي الإناسي ... نبقى أيضاً وبانفتاح كبير نؤمن بالحفر والبعثرة والتمسّح وطَرْق اللاّمفكّر فيه ـ بعبارة : الجانب السلبي في الفكر ـ على قاعدة التأسيس والتأصيل لا التقليد والالتقاط ، ونبقى نؤمّن لهذا الانتماء أدواته الخطابيّة والمعرفيّة والسوسيولوجيّة والانثربولوجيّة والابستمولوجيّة اللازمة ، من خلال القراءة والتلقّي والفهم والعرض السليم ; إنّها الرؤية الصائبة التي تمسك بنا ونمسك بها ، تذود ونذود عنها ، إنّها القوّة المركزيّة التي تعيدنا إلى المحور عند كلّ لحظة زيغ وابتعاد ..


أمران : سؤال الأنا والآخر ،

برمجة الرؤى المستقبليّة

لابدّ من الإشارة لأمرين :

الأوّل :

سؤال الأنا والآخر مفهومٌ بمصاديق لا تكاد تعدّ وتحصى ، بل محور أساسي وقطب ارتكازي ينشر نفوذه على كلّ نواحي الحياة الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، سواء ضمن الانتماء الواحد والكيان الذاتي والخليّة المنحصرة ، أم ضمن دائرة الكون الكبرى .. ويعدّ الجانب الإدراكي مصيريّاً في تفعيله وتقويمه وديمومته ونتائجه ..

والشعور الإنساني يبقى دوماً هو الملاك الذهبي في دنيا الأخلاق العمليّة ونموّ القيم الصحيحة والمفاهيم السليمة ، هذا الشعور إذا قُدّر له أن يكون نقيّاً شفّافاً صافياً ملتزماً فسيبسط نفوذه الخيّر على عالم الإنسان بشتّى مفاصله وأركانه ; إلى ذلك فإنّه خطوة نحو وحدة القلوب التي نادت بها الأديان والمذاهب والنظريّات والأفكار البشريّة على مرّ التاريخ ..


من مصاديق سؤال الأنا والآخر ضمن الانتماء الواحد بل الخليّة المحدّدة الصغيرة : أن أفهم ما تريد وتفهم ما اُريد .. أن تعي حاجتي وأعي حاجتك ، أن تشعر بمشكلتي وأشعر بمشكلتك ، أن أسندك وتسندني ، تمنحني الثقة وأمنحك إيّاها ، لا اُفرّط بك ولا تفرّط بي ، تعزّ شأني وأعزّ شأنك ، أنت عينٌ لي بغيابي وعينك أنا بغيابك ، تفرح لفرحي وتحزن لحزني ، أفرح لفرحك وأحزن لحزنك ، تنصحني وأنصحك ... حينها أجبتُ عن سؤالك وأجبتَ عن سؤالي ..

الثاني : لا ريب أنّ صياغة وبرمجة الرؤى الآنيّة والمستقبليّة صمّامُ أمان لحياة أفضل وأرقى ، شريطة أن تحمل لوازمها معها من خلال تضمّنها عوامل الاستقراء والإيمان والتجربة والانتخاب والتخصّص والاستقامة والشوق والعمق ...

إنّ التساؤل المطروح هنا : هل للقلب دورٌ في تحقّق بعض عناصر البرمجة والتخطيط؟ أن نصطفي المفردة المجرّدة ونجري عليها فعّالياتنا واختباراتنا لأجل تأهيلها .. وهذا الاصطفاء الأوّلي هل يكفي فيه بعض الخصائص الأوّليّة الظاهريّة أم لابدّ من توفّر المميّزات القويّة التي تفتح اُفقاً جادّاً لا غبار ولا شبهة فيه؟ ولعلّ الملاحظ في عدّة موارد منه : أنْ يُنتخَب فردٌ ما ، ثم تُبذَل عليه جهودٌ كبيرة لتقويمه وتجهيزه للمهامّ المطلوبة .. وهذا الانتخاب كما يبدو مصبوغٌ بلون القلب والميل لا بلون البرمجة والرؤية المستقبليّة ، والملاك والميزان في مدى نجاح هذا الانتخاب متروكٌ للرأي الخبروي التخصصّي العقلاني ، فهو الذي يقول


كلمته هنا ، أمّا الفاعل الناخب فلا يعتدّ برأيه رغم حجم مساعيه لكسب رضى العقل الجمعي ..

تبقى موازين العقل غالبة على موازين القلب ، ويبقى العرف حاكماً قاطعاً لا يستهان بحكمه أبداً ولاسيّما أنّه كثيراً ما استقطب الشرع ليحكم بحكمه ، ناهيك عن الموضوعات فله الكلمة الفصل بها .. ومهما بلغنا شأواً وتسنّمنا شوامخ الرتب وثُنيت لنا وسائد العزّ والفخر والرئاسة ، فإنّ قيم العقل وآراء العرف تظلّ لاعباً أساسيّاً مصيريّاً لا يمكن تخطّيه وغضّ النظر عنه والاستخفاف به ..


ماذا نعني بأدوات البحث؟

ماذا نعني بالمراجعة والحفر والبعثرة والمقارنة والتحليل والاستنطاق وقراءة ما خلف السطور وسماع ما وراء المقول ولمس غير الملموس من الشعور ; وماذا نعني بتكرارها بين الحين والآخر وفي أيّة فرصة تسنح ; ولِمَ كلّ هذا الإصرار عليها؟

إنّنا نعني : عمق القيم وأصالة المبادئ وحقيقة المفاهيم ; الانتماء الواقعي والهويّة الصحيحة ; حركة العقل بتحريك النصّ عبر استخدام الأدوات المعرفيّة المتاحة على نسق ونهج علمي سليم ; إثارة الشعوروتحفيزه وإيقاظه وبثّ الثقة فيه بإمكانيّة النهوض والمواكبة والنموّ ; رفض النظم القشوريّة والأغلفيّة والسطحيّة والانفعاليّة والاستبداديّة والفرديّة والبراغماتيّة ; إرساء العقلانيّة والحواريّة العمليّة الحضارية ونبذ العنف والحذف والنفي ، وقبول الآخر أخلاقيّاً على أدنى تقدير ; الإجابة عن سؤال الحياة الكبير ; عدم الجمود والتقليد التبعيّة العمياء الصمّاء ، وعدم الرفض المطلق للجديد ، من خلال الفلترة والتنقية المعرفيّة والأساليب العلميّة الصحيحة ممّا ينتج انتخاباً سليماً واستفادةً مشروعةً ..


أمامنا أرباب المنطق القديم والميتافيزيقيا أمثال أرسطو وأفلاطون وسقراط وأقرانهم وأتباعهم ; وأرباب التجريبيّة الثائرة على المنطق القديم أمثال فرانسيس بيكون وهيوم وهيدجر وأقرانهم وأتباعهم ; وأرباب محاولات الجمع بين المكتبين التي لم يكتب لها النجاح المطلوب أمثال كَنْت وأقرانه وأتباعه ; أمامنا البنيويّة وما بعد البنيويّة والحداثة وما بعد الحداثة ; أمامنا بحوث وحروب وصراعات وجدالات «الفرقة الناجية» التي لم يسلم منها أحد ولم يُبرّأ منها أحد ; أمامنا هذا السيل الهادر المتواصل من الشبهات والافتراءات والانتقادات والإشكاليّات ; أمامنا الموضات الجديدة القديمة من يافطات الصفونة والعربنة المذهبيّة الطائفيّة والهجمات المدروسة على النبيّ والقرآن والإسلام ...

أمامنا كلّ هذه الملفّات ونحن لازلنا بكبار نخبنا ومثقّفينا لا نعرف أو لا نريد أن ندرك ـ مثلاً ـ معنى العقل القبلي والبعدي وتطبيقاته على الشريعة وأدواتها الرئيسة ، وهل أنّها ـ مثل الاجتهاد والتقليد ـ في طول الشريعة أم في عرضها ، هل هي نتاج العقل الأوّل أم العقل الثاني ، وهكذا مبدأ «شكر المنعم» و «حقّ الطاعة» وغيرها ; لا نريد التفكير في مجرّد سماعها حتى ، ناهيك عن الخوض فيها وافتراشها على طاولة البحث والنقاش ; إذ اعتدنا على تلقّي الوصفات الجاهزة ، بل جعلنا من النصّ وصفةً جاهزة جامدة لا تقبل الحفر والمراجعة والاستنطاق والمقارنة والتحليل ; جعلاً ربما منشؤه الهاجس والخشية المعرفيّة من عدم الإثبات والتفوّق الذاتي الذي يضرّ بغرور أنفسنا واعتبارنا ومنزلتنا ; وربما منشؤه


التقاعس المُحتمي بقشريّات القيم وأغلفتها ، مثل : التمترس بالمظاهر البرّاقة والحماسيّات التأريخيّة والأوهام القبائليّة ; وربما منشؤه انتكاسة الحركة وتحوّلها إلى سكون ونظام استاتيكي فرضته الأدوات المعرفيّة الضيّقة والتفسيرات المنهجيّة الخاطئة والممارسات البعيدة عن القيم والاُسس التي جاءت من أجلها تلك الحركة كما تدّعي ; وربما ...

إنّنا مع التأكيد على حفظ قداسة الدين وصون حريمه والذود عن اُطره ومضامينه ، لا نريده أن يُعبّأ في علب ويُجفّف ويُحفظ في أماكن وأوعية قد لوحظت فيها مانعية التأثيرات الكيمياويّة والفيزيائيّة ، أو يؤطَّر ويوضع في معرض زجاجي يتبرّك به الناس عبر ملامسة الزجاج الخارجي ..

نريده ـ كما أرادت له السماء أن يكون ـ برنامج حياة عملي يشير علينا بكلّ صغيرة وكبيرة ، أن نشحذ العقل ونستنهض الذهن ونوظّفه لأجل المراجعة والحفر والمقابلة والتحليل والانتخاب والاستنتاج ، سواء بالنسبة إلى النصّ المعهود أم الجديد من البنى والأفكار والنتاجات العلميّة والإنسانيّة ، ينأى بنا عن أنصاف الحلول والإجابات النسبيّة والتصوّرات الضبابيّة من خلال الحسم والوضوح والشفّافيّة المنبعثة من بطون اليقين بلا أدنى شكّ ووهم وظنّ ; يواكب بنا المسير غير عابئ بالزمان والمكان ، يجيب ويعيّن ويقوّم ويعمل كلّ شيء من أجل الإنسان وهدايته وسعادته وفلاحه ..


هكذا يريد ونريد الدين وهكذا عرفناه وتلك هي ثقتنا به ، وإلاّ لما اتّخذناه ديناً لنا ولما جعلناه منهجاً لحياتنا يؤدّي بنا إلى برّ الطمأنينة والسلام والازدهار ، هكذا دين بهكذا انتظار بهكذا اُطر وقيم عرّف بها نفسه وطرح وجوده بها هو دين العمق والمعرفة والعمل لا دين القشور والأغلفة الزائلة والوعود الواهمة ، إنّه معنى العدالة والإنصاف والخير والأمان ..

وهكذا معاني بهذه المواصفات الرفيعة لا يمكن لها أن تجفّف أو تحفظ في معارض زجاجيّة ; بدواعي انهزاميّة وأفكار هلامية لم تجد لها مفرّاً وملجأً سوى الاختباء خلف القشور والمظاهر الآفلة ، فراحت تزلزل الثقة بالدين وبعمق رؤاه وتشجّع وتروّج لا إراديّاً للإعلام والتصوّر الوجودي المعتقد بأفيونيّة الدين وتخديره للشعوب ، إنّنا نؤكّد على الحاكميّة المعرفيّة والثقافيّة والشعوريّة والعمليّة لقيم الدين واُسسه ومبادئه ، فإذا حكمت قيم الدين الصحيحة على عقل وقلب الإنسان فإنّه الهدف الذي سعى وجاهد لتحقيقه الأنبياء والأوصياء والشرفاء من العلماء والنخب والمفكّرين والمثقّفين ، إنّها إرادة السماء التي تدعو الإنسان إلى الخير والهداية والفلاح الأبدي ..


نحن وعلم الكلام

يقولون : إنّ المعرفة هي التأمّل في المفكّر فيه لكشف الواقع والحقيقة .. والتأمّل هذا ، ليس مجرّد تأمّلات عادية صرفة ، إنّما هو سلسلة مراحل خاضعة لمناهج وأدوات وسبل علميّة مختلفة باختلاف العقائد والميول والانتماءات ، المتعدّدة بتعدّد رواشح الفكر والعقل الإنساني ، استقرائيّةً كانت المناهج أم استنباطيّةً أم قياسيّةً منطقيّة ... سواء باعتماد الوحي في حركة الروح الإنسانيّة وأعمالها وتجاربها ، أو بالتخلّي عنه واعتماد التجربة والحسّ المحض أساسَ الكشف عن الواقع ، أو بمحاولات الجمع والتطعيم والإفادة من الميتافيزيقيا ـ مثلاً ـ في تخصيب الفروض التجريبيّة وتدعيم نتائجها الاحتماليّة لتغطية فشلها في الإجابة عن مجموعة تساؤلات حاصرتها وضيّقت الخناق عليها آناً بعد آن ..

ولا أدري ، هل استراح من استسلم لدين الآباء والأجداد استسلاماً تامّاً وخضع للموجود خضوعاً مطلقاً ، فقلّد وتبع وانتهى كلّ شيء ... حقّاً انتهى كلّ شيء واُغلق الملفّ وآمن إيماناً راسخاً بصفاته وشروطه وخصائصه عقلاً وقلباً وعملاً؟! لا أظنّ عاديّ العقل يقبل بذلك فضلاً عن


رفيعه وكامله .. كيف لنا الإيمان ونحن في راحة من البحث والتدبّر والتأمّل والمراجعة ... أمّا البقاء على الفطرة السليمة فلا يمكن تصوّره بلا حركة العقل والقلب من أجل الحفاظ على الفطرة والإيمان .. إنّنا لو استقصينا كلّ النماذج ومطلق الظروف لما وجدنا إيماناً حقيقيّاً بلا عقل فاعل وقلب نابض وحركة دؤوبة نحوه .. إذن كيف استراح من استسلم وقلّد وتبع ، ذلك إن عنينا بالراحة راحة القلب والذهن والعمق والحنايا ، راحة اليقين والاطمئنان ، التي لا يمكن الحصول عليها بلا وعي ، أمّا البله أو التظاهر به فليس بمقدوره أداء المطلوب ، لشذوذ صاحبه وافتقاده خصائص القناعة المقصودة ، فأيّ قناعة تلك التي لا تنشأ من التفكير والتأمّل والتدبّر والمراجعة والمقارنة والاستنباط والتحليل؟! ثم إنّ قناعة البلهاء ليست اختياريّة أبداً ، إنّها مفروضة بفعل عوامل الخلقة والتكوين ، والشموخ كلّ الشموخ هو بلوغ المرام في ظلّ الفضاءات العاديّة الطبيعيّة ، حين يكون الإنسان مجرّداً عن الاستثنائيّات وسائراً في المجال الطبيعي لنيل المراد ..

لذا يعود السؤال مجدّداً : ماذا يفعل غالب الناس من أجل معرفة الحقيقة وبلوغ المطلوب ، إنّهم بلا شكّ تركوها بعهدة الآباء والأجداد واستصحبوا الأحوال وأكملوا الحاجة بالتبعيّة والتقليد فخلصوا من متاعب البحث العقلي والفكري ، إنّهم سلّموا القلب والأحاسيس لمن وثقوا به وعطّلوا حركة العقل اللازمة لبلوغ المرام ..

وقد تأ ثّرت فضاءاتنا الدينيّة والثقافيّة والمعرفية تأ ثّراً سلبيّاً خطيراً بفعل غياب العقل والفكر الجمعي واقتصاره على «مجموعة صغيرة


محدّدة» ، لنا كلام طويل حولها ، إذ حتى هذه «المجموعة الصغيرة المحدّدة» التي تولّت مسؤوليّة إدارة شؤون الاُمّة عقائديّاً ومعرفياً يفتقر البعض منها إلى خصائص المسؤوليّة والإدارة محتوائيّاً وفنيّاً ، هذا ما وقفنا عليه وقوفاً استقرائيّاً ، وقد وجدنا القلّة القليلة فقط من هذه «المجموعة الصغيرة المحدّدة» التي بإمكانها النهوض بأعباء المهمّة ; لتوفّرها على المواصفات النوعيّة والموضوعيّة ، المحتوائيّة والفنيّة ، التي تمنح القدرة والإمكانيّة في الإجابة عن سلسلة التساؤلات والإشكاليّات والإبهامات والشبهات ، مستمرّة الطرح على الدوام منذ القدم حتى نهاية المطاف ..

إنّ ذوي الخبرة والتخصّص والفضل يشهدون بمظلوميّة «علم الكلام» والغربة هذه يعانيها حتى من أرفع مراكز القرار الديني والمعرفي ، وهذا الضعف الخطير المزمن تاركٌ آثاره على شتّى فضاءاتنا الفكريّة والعقليّة والمعرفيّة ; والمقارنة البدائيّة ـ على صعيد الاهتمام والعناية والممارسة والتداول ـ بين علم الكلام وسائر العلوم ـ كالفقه والاُصول مثلاً ـ تظهر نتائجها مغبونيّة هذا العلم المصيري ، فحريٌّ بآفاقنا العلميّة والثقافيّة جعل الترويج له ـ بالدرس والندوة والمناقشة وسائر الأدوات المتاحة ـ على سلّم الأولويّات بلا راجح عليه ; إذ علم الكلام يعني حركة العقل والفكر الموّاجة نحو بلوغ المراد ، الحركة التي تثبت صحّة الادّعاء ممّا يمهّد السبيل إلى إيمان حقيقي قائم على فاعليّة العقل ، فإذا ما امتلك العقل القناعة طبق المعايير والمناهج السليمة ، فإنّها تفضي إلى فضاءات من العقل الجمعي الممهّدة لحركة شاملة على صعيد الإيمان المعهود ..


وتنحصر المسؤوليّة بالعلماء والمختصّين والكوادر والطاقات في أداء الوظيفة المشار إليها ، فإنّنا قد نبلغ بعلوم الفقه والاُصول والرجال والتاريخ واللغة والتفسير والحديث والعلوم الحديثة والأكاديميّة أهدافاً ذا قيمة ومنزلة عالية ، لكنّنا بعلم الكلام نستطيع فهم معنى العبوديّة والخالقيّة والوجود والكون والرسالة والولاية ، فهم عقيدتنا نحن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .. فهل تمكّنّا على صعيد النخب والعلماء من استيفاء حقّ المطلب استيعاباً وفهماً وترويجاً طبق المعايير العلميّة والاُسس المنهجيّة ، هل استطعنا تعبئة الاُمّة تعبئة محتوائيّة راسخة قبال الغزو العقلاني الثقافي المتواصل ، بل هل بات بإمكان النخب بيان «مفهوم الغيبة» ـ مثلاً ـ بياناً صحيحاً قائماً على القواعد العقليّة والمنطقيّة والعقلانيّة التي تناسب المكان والزمان؟ استفهامات كثيرة ...

إنّنا لم نستطع ذلك بدليل الإهمال لعلم الكلام والتشبّث بكلّ ما يجانب الجوهر والأصل والعمق من المظاهر والشعارات والقشور ، هرباً من المواجهة الحقيقيّة التي تعني التوفّر على الخصائص المحتوائيّة والفنّيّة الغائبة عن أكثر النخب والطاقات التي اكتفت بظاهر الدين ، تقاعساً أو تقصيراً أو تأميناً للمنافع ..

نحن سلكنا فضاء العلوم الدينيّة لنقول للناس ـ بعد تكامل الشروط المطلوبة في كلّ طالب علوم دينيّة ـ : أيّها الناس! إنّ فلسفة الحياة قائمة على اُسس ومعايير خاصّة ، فنبيّن لهم معنى الاُسس والمعايير الخاصّة باللغة والبيان الذي يفهمون ويعقلون ، فإذا ما عقلوا أمراً فإنّهم يستطيعون


البقاء عليه والذبّ عنه ، حينها تصلح الاُمّة وتصلح الأحوال وتتوفّر مقدّمات الهداية والإيمان والفلاح ..

فهل وفينا بما ينبغي علينا القيام به ، هل صرنا النموذج الذي يُقتدى به ، هل صار اللباس الديني المقدّس ـ باعتباره علامة رجل الدين والدليل الظاهر عليه ـ سبيل الاسترشاد بنا للخروج من ظلمات الانحراف والفساد والضياع إلى أنوار الإيمان والفلاح ، أم صار اللباس المقدّس غايتنا وهدفنا لتحقيق منافعنا ومصالحنا؟

تراجعت ثقة الناس بنا تراجعاً مخيفاً ولاسيّما في الفترة الأخيرة حين وجدوا «مجموعة» منّا لا تعمل بوظائفها ، إنّما همّها بلوغ رغباتها الذاتيّة ، الأمر الذي انعكس سلباً على سائر طلاّب وعلماء العلوم الدينيّة ، إنّها غدت أزمة ثقة ، أزمة مصداقيّة لابدّ من الوقوف عليها وقوفاً علميّاً لمعالجتها معالجة منهجيّة سليمة ..

يجب أن يكون رجل الدين مرتكز الناس وموئل الجمع والمرجع الذي يأخذون منه معالم العقيدة والانتماء ، يجب أن يكون مصدر الثقة وأساس المصداقيّة والكهف والملاذ والملجأ الآمن ، يجب أن يكون العقل الكبير والقلب النابض بالحبّ والمشاعر النبيلة ، عنوان التواضع ورمز الزهد والقناعة ، مثال الأخلاق السامية والصفات الرفيعة ، محرم الأسرار وحلاّل المشكلات ومصداق الإخلاص والوفاء ونكران الذات ...

هكذا يجب أن يكون رجل الدين وإلاّ فلا يتورّط ويورّط الناس


معه ويدنّس اللباس المقدّس الذي أرخص البعض قيمته هذه الأيّام ..

ولا جدوى في إلقاء العتب واللوم والتقصير على مجموعة معيّنة من رجال الدين ، إنّما الأمر يستلزم نهضة شاملة جادّة كي يأخذ الأهل الكفء مكانته اللازمة ..

المترشّح من ممارسات القلّة التي انعكست على الكثرة انعكاساً صار واقعاً ملموساً : أنّ رجل الدين يعيش هذه الأيّام غربتين :

إحداهما : ـ ولا أقصد الجميع إنّما التلقّي والانطباع السائد ـ الشعور الذي يخالجه ويطغى على ظاهره وأساليبه ، شعور العلوّ والسموّ العلمي والثقافي والمعرفي وأنّ الناس عوام لا يفقهون شيئاً ، وهذا الشعور جعله بعيد التكيّف والاُنس مع المحيط الاجتماعي ، ممّا يضعف فيه إمكانيّة التفاعل والتأثير والنفوذ ، ولاسيّما أنّ غالب هذا الشعور لا واقع له ، إنّما هو نتيجة الشكل الظاهري وبعض العلوم الأوّليّة والمعلومات البدائيّة جعلت منه في شعور غير حقيقي .. وهذا خلاف المفروض في رجل الدين من الزهد والتقوى وأ نّه كلّما ازداد علماً كلّما ازداد خلقاً رفيعاً وتواضعاً ..

ثانيهما : حدوث الفاصلة بينه وبين الناس ; بفعل ممارسات مجموعات معيّنة تمثّل الأقليّة من رجال الدين ، ابتعدت الناس عنه بفعل المشاهدات والمسموعات والمظاهر التي لا تناسب رجل الدين ، اُصيب الناس بصدمة وذهول حينما وجدوا رجل الدين ـ وإن كان واحداً ـ يعمل خلاف المواصفات اللازم توفّرها فيه ، وجدوه ليس كما ينبغي فآثروا


الابتعاد ، لتزلزل الثقة والمصداقيّة ..

على أنّي أقول مؤكّداً بكلّ حزن وأسف : أنّ هذه الطبقة الشريفة الجليلة ، طبقة رجال الدين ، طبقة الفقهاء والعلماء والفضلاء ، لا يمكن أبداً أن تُصنَّف هذا التصنيف النوعي الظالم بفعل ممارسات القلّة منها ، التي أوجدت فضاءً سلبيّاً نال من مكانة وسمعة واعتبار رجال الدين النبلاء ، ولست في مقام بيان تاريخ ومناقب ومواقف وتضحيات ومساعي رجال الدين ، فإنّها لا تعدّ ولا تحصى ، بل في مقام تشخيص المشكلة والإشكاليّة التي تتعرّض لها المؤسّسة الدينيّة بشكل عام ورجال الدين على الخصوص ; كي يأتي العلاج والوقاية بأثر فاعل يعيد الاُمور إلى نصابها الصحيح ..

وللخروج من الواقع الراهن لابدّ من حركة منهجيّة علميّة منسجمة تعيد الاُمور إلى نصابها ، ولا يحصل ذلك إلاّ عبر خطوات تمنح القواعد والاُصول والمحتوى عميق المكانة في ذات رجل الدين ، وهذا يعني الفهم الفاعل الصحيح لقيم ومبادئ واُسس الدين الفكريّة والأخلاقيّة والعلميّة ، فتختفي حينئذ السطحيّة والقشوريّة والمنافع الذاتيّة وسمات التعالي والغطرسة ... وتحلّ محلّها البدائل المطلوبة المترشّحة من الاُصول والثوابت ، وبذلك يمكننا العودة والقول : إنّ المتبادر من رجل الدين هو ذا حقّاً ولا غير ..


الفرقة الناجية

كيف يخلد للنوم من عزم على تهذيب نفسه وبناء ذاته ، كيف يرقد بهناء دون أن يستعرض شريط آناته التي تصرّمت ولحظاته التي قضت ، استعراضاً علميّاً معرفيّاً واقعيّاً ممزوجاً ـ بداهةً ـ بالنقد والتحليل والمراجعة والمقارنة ، من أجل نتائج تخلق فرصاً ليوم آخر أفضل من سابقه ، ليوم أكثر ثقة ووعي أعمق ، بشعور أرقّ وإحساس أرهف ، خصوصاً إن كان الإنسان ينتمي إلى مجموعة قيَميّة محدّدة المعالم والمحتوى بوضوح وشفّافيّة ، فإنّها من المفروض أن تغدق عليه مؤنها وأدواتها وآليّاتها وأنساقها التي تضيء له درب التهذيب والبناء.

ولا نحسب الأمر خالياً من الدموع والآلام والمعاناة والمصائب ، فكثيراً ما يجد سالك هذا الطريق ذاتَه في غربة ووحدة وعزلة بين أهله وعشيرته وأصحابه يودّ لو يهرب إلى مكان نائي ... وغالباً ما يرى أنّه لا يفقه شيئاً ، أو مردّداً بين التفكير الخاطئ والتفكير الصحيح الذي يأخذ به إلى القرار الحاسم ... إنّها بلا شكّ محطّات الفرز والانتخاب المصيري ، الانتخاب الذي يقوده إلى أحد النجدين ; فلابدّ له من التزوّد بالمؤن


السليمة التي تجتاز به «المفترق» إلى مساحات الأمان والطمأنينة الذاتيّة ..

وفي «التزوّد» هذا ومؤنه نقاشٌ وعراكٌ صعبٌ ومرير قامت عليه المذاهب والتيّارات والانتماءات الإنسانيّة المتفاوتة ، كلٌّ يرفع لوائح الإنقاذ وصكوك الغفران والفلاح ; ولكنّ أيّاً منها هو المنقذ الحقيقي الذي يأخذ بالإنسان ليبني ذاته ويهذّب نفسه؟ إنّها معضلة البشريّة المنحصرة أساساً في معركة «الفرقة الناجية» ..

وما التنافرات الهامّة والصراعات الدمويّة والحضاريّة والمعرفيّة التي كانت ولازالت فإنّها تدور ضمن هذا الإطار ، ولا تنتهي قريباً ..

وما يطرحه البعض من حلول ومقترحات لتجنّب المنازعات ـ مثل : استخدام أدوات العقل العملي والقيم الأخلاقيّة في ترويضها ثم حذفها من دائرة الوجود ـ تحوم حوله استفهامات وتتجاذبه تباينات تجعل منه مجرّد أمانيّ لا تلج حيّز الواقع والتطبيق ، فتبقى حبيسة الفضاء الرومانسي لا تجد سبيلاً تسلكه إلى باحات ممارساتنا وأروقة أفعالنا ..

فلو سكّنّا الآلام بوصفة : «التعدّديّة مطلب ومطمح إنساني» فكيف لنا أن نؤمن بأنّ حقّ الآخر في الاختيار معتقدٌ أخلاقي ، من أجل الوصول إلى نتائج إيجابيّة؟! وكيف للدين الوقوع في وحل «الفرقة الناجية»؟!

ثم إنّ افتراض الدرس الفقهي واللاهوتي والكلامي لكون التعدّديّة ضرورة إنسانيّة أخلاقيّة ، لا يعني وجوب تحقّقها خارجاً ، بل مجرّد الافتراض كاف في إبصار الإيجابي ، مع أنّ إبصار الإيجابي لا يفتقر إلى


هذا الافتراض حتى ، فكيف بتحقّقه؟!

فالدين إمّا وصفة كاملة أو ناقصة ، ولا ثالث .. وعقيدتنا القائمة على القول الأوّل لا تقبل بكلّ هذه المقترحات والحلول التي تجعل من الدين مجرّد رقم ـ سواء رقماً ذهبيّاً أم غيره ـ بين سائر الأرقام وفارساً بين سائر الفرسان ; إنّها ترى الدين أسمى وأجلّ من كلّ الصراعات القائمة ..

نعم ، علينا تجديد رؤانا وبصائرنا بتجديد أدواتنا المعرفيّة وآلياتنا العلميّة في «استحلاب» ثدي الدين الكريم ، والكريم لا يبخل في العطاء ، ولاسيّما إن كان كرمه متّصلاً بمبدأ الجود والسخاء المطلق .. ونعني بالعطاء : أنّنا إن قرأنا وراجعنا واستقرأنا وقارنّا وحلّلنا لاستنتجنا أنّ القول الأوّل ليس مجرّد شعار وأحلام وطموحات ، بل حقيقة سامية لا تقبل القسمة على اثنين .. فلا فرار من الاختيار حينئذ وهذا الاختيار لا يقع إلاّ على واحد من الطرق الموجودة .... لذا يكون مفهوم «الفرقة الناجية» عقلانيّاً واقعيّاً ..

نعود إلى ما صدّرنا به البحث فنقول : إنّ بناء الذات وتهذيب النفس يجب أن يخضع إلى نظم معرفي روحي شعوري ، نظم يبلور الأفهام والمساعي العلميّة والاعتقادات والأحاسيس في سبيل الوصول إلى النتائج المطلوبة ..

والإنسان إذا ما تمكّن من بناء ذاته وتهذيب نفسه سيتحوّل لا إراديّاً إلى معلّم ومربّي وقطب إشعاع يفيض على من حوله بل على الناس


جميعاً من مكارم سلوكه وفضائل عطائه ، وتغدو حركاته وسكناته مصداقاً للإنسان السامق صوب قلل الكمال ، الإنسان الذي أغدق عليه مبدأ الفيض المقدّس بأنواره وبركاته السرمديّة ، وأيّ لذّة أطيب وأشهى وأسمى من لذّة الإيمان ، لذّة الاطمئنان القلبي والأمان الذاتي ..

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهَ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ..


التشيّع وحدة مفهوم (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

صفونة التشيّع وعربنة التسنّن ، أحدث موضات الجناح المناوئ ضمن مسلسل حملته الإعلامية المضلّلة التي لا زال يمارسها منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا ، وقد قرأنا له من قبل : التشيّع السياسي ، التشيّع الاجتماعي ، التشيّع الديني ، التشيّع العلوي ...

إنّ صياغة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لطبيعة التشكيلة القيادية وبناءه الهيكلية الرائدة في إدارة الأُمّة أوجدا تحفّظاً وامتعاضاً لدى شريحة اعتقدت أنّها الأجدر والأكفأ في تسلّم المهام ، ورغم وجوده (صلى الله عليه وآله) بين ظهرانيهم كانت تطفح بين الفينة والأُخرى مواقف ترسم توجّهاً مستقبليّاً للانقضاض على الحكم واستلابه من رجاله الشرعيين ; إنّها نار الخيبة التي ما اختبأت تحت الرماد حتى بحضوره (صلى الله عليه وآله) ، فراحت تسوّق الأوهام والإشكاليّات عبر

__________________

١ .. كلمة العدد ٨٩ / السنة ٢٣ / فصليّة «تراثنا» / تصدرها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ..


شتّى الوسائل والآليّات ، وكان المصطفى (صلى الله عليه وآله) يدحضها في كلّ مرّة بمختلف دلائل الدعم والإسناد لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ..

شفّافية الخطاب النبويّ في تفهيم الأُمّة أصل الولاية المتجلّي في غدير خمّ لم تثن القوم عن مواصلة الطموح وترجمة الأماني إلى حقيقة تقفز على كلّ المعايير والقيم المقدّسة التي صاغتها إرادة السماء ، وللأسف فإنّ طيفاً كبيراً قد ضاع وسط أفكار هلامية ضبابية نادى بها التيّار الممتعض من قرارات الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) ولاسيّما المختصّ منها بشؤون إدارة الأُمّة ومستقبلها ..

رغم كلّ ذلك نقول : الاختلاف في الفهم طبيعة غريزية في الجنس البشري ، فقد اختلف الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس في فهم القيم والمبادئ التي نادى بها المسيح (عليه السلام) ، واختلف ماركس وهيغل وفيورباخ في فهم المذهب الوجودي الإلحادي ... واختلفنا نحن المسلمون في فهم الإسلام ، فاعتقدته الشيعة كما ترى واعتقده الآخرون كما يرون .. ويلعب العقل عندنا كما لدى الكثيرين من غيرنا دوراً محورياً في فهم النصّ والحدث ، فنشأت فينا الفرق والمذاهب والتيّارات المختلفة ، ونشأنا نحن أتباع التشيّع على الاعتقاد بكون الفكر الشيعيّ هو المعنى الصحيح للإسلام ، انبثاقاً من الأدلّة والبراهين والشواهد التي تؤكّد أنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أولى أصل الولاية اهتماماً خاصّاً بالقول والفعل والتقرير ، وجسّد (صلى الله عليه وآله) وجوب العمل بها من بعده في شامخة غدير خمّ (وَمَا يَنطِقُ


عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) .. (١)

لذا فإنّ محاولة النيل من التشيّع عبر نعته بالسياسيّ تارةً والدينيّ أُخرى والاجتماعيّ ثالثةً والصفويّ رابعةً ... أو قراءته من خلال بعض التجارب التاريخية والرؤى الفكرية المعيّنة .... أو دراسة الإسلام دراسة انتقائية ... كلّها جناية صارخة بحقّه ; إذ كلّ تجربة أو رؤية في هذا السياق لابدّ من عرضها على مفهوم التشيّع فإن وافقته وإلاّ يُضرَب بها عرض الحائط ..

وما مصطلحات : تقيّة المجاهد ، اجتهاد وانفتاح ، رجوع إلى العالم المختصّ ، إنسانية ، وحدة ، توحيد ، سنّة ، مقارعة الظالمين ، انتظار إيجابي ، عَبرة ... والمصطلحات المعاكسة لها ... التي تقال في التشيّع ، إلاّ جهدٌ آخر للطعن والنيل من وحدة مفهومه وسلامة انتمائه ..

إنّ صفونة التشيّع وعربنة التسنّن يافطة جديدة لن تجرّ لهم نفعاً أيضاً ، فلقد رفعوا من قبلُ غيرَها في عكاظ تضليلاتهم وما ربحوا وعادوا بخفّي حنين ، بل مارسوا أشدّ أنواع الظلم والتعسّف والاضطهاد بحقّ التشيّع منذ البدء حتى يومنا هذا ، وهذه الذراع التي تمتدّ الآن لقتل الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين وتهجّر الناس قسراً من ديارهم وتنعت الشيعة بالكفر والضلال هي ذات الذراع التي امتدّت لتغتال أميرالمؤمنين (عليه السلام) في محراب الصلاة وتذبح ريحانة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)

__________________

١ .. سورة النجم : ٣ ـ ٤ ..


الحسين الشهيد (عليه السلام) وخيرة صحبه وأبنائه في كربلاء وتسبي أطفاله ونساءه ..

إنّ وقفة تأمّل قصيرة مستشرفة ورق التأريخ تظهر شموخ التشيّع ورسوخ قيمه ومبانيه التي تعني الإسلام بأوجز بيان رغم كلّ مساعي الحذف والنفي والتزييف الفكريّ والمادّي ، بل وتظهر حجم الحقد والحسد اللذين أعميا بصرهم وبصيرتهم ، وتثبت أنّ نور الإيمان لا يدرك بهذه الآليّات الدنيئة .. (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور) .. (١)

__________________

١ .. سورة النور : ٤٠ ..


التراث وازدواجية المعايير (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

لمصلحة من يدمّر تأريخنا ، تراثنا ، معالم حضارتنا ...؟! لِمَ تجدّ المساعي الشرّيرة كي تقضي على المكانة الخالدة التي اُقِرَّت لقادة فكرنا وديننا؟! إقراراً رشح إثر عطاء أغدق على الإنسانية حكمةً وعدلاً ونبلاً إلى يومنا هذا .. أليس لكونه عهداً عملياً وخطاباً واعياً يحاكي العقول النيّرة والضمائر الحيّة ، فتجافيه حينئذ تلك التي امتلأت غيضاً وحقداً حتى أنّها لم تألُ جهداً لحذفه ونفي كلّ ما يمتّ له بنوع صلة أو ارتباط؟!

نعم ، لقد فجّر الحقد مرقد الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) بمدينة سامرّاء في العراق ، ولن تكون فعلتهم الشنيعة هذه نهاية المطاف ، بل إنّه نهج وفكر يدوم بدوام دواعي الكراهية والعداء لمدرسة آل البيت (عليهم السلام) ورؤاها السامية ..

__________________

١ .. كلمة العدد ٨٥ / السنة ٢٢ / فصليّة «تراثنا» / تصدرها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ..


لا نبثّ شكوىً ولا نستعطف أحداً ولا نحمّل غيرنا الفكرة والرؤية عنوةً ، ولسنا بصددها هنا ، فآل بيت المصطفى (عليهم السلام) ـ تأريخاً وسيرةً وعطاءً وتجسيداً لقيم السماء ـ كالشمس في رابعة النهار ، بل أبزغ وأسنى ، حيث لا اُفول لمكانتهم الشامخة وتعالميهم الرائدة .. ولسنا أيضاً في مقام تناول التيّار السلفي التكفيري بالنقد والتحليل ، فأمره كان ولا زال واضحاً ويزيده الله تبارك وتعالى يوماً بعد آخر فضيحةً وهزيمة ..

إنّما ننطلق في إشارتنا لهذه الجريمة من زاوية التراث ، فهو القاسم المشترك ونقطة الالتقاء مع سائر الحضارات والثقافات والأديان ، وقد حظى بعناية واحترام الكلّ بالإجماع ..

نعم ، إنّه ضمير الأُمّة ، المرآة التي ترى فيه الاُمّة تحقّق الممكن .. والمتمسّكون بالتراث لا يتمسّكون به لمجرّد أنّه تراث الآباء والأجداد ، بل لأ نّهم يقرءُون فيه ما ينبغي أن يكون ; إنّه قراءة للمستقبل في صورة الماضي ..

وليس التراث في الوعي المعاصر قطعة عزيزة من التأريخ فحسب ، ولكنّه دعامة من دعامات وجودنا وأثر فاعل في مكوّنات وعينا الراهن ، وأثره قد لا يبدو للوهلة الاُولى بيّناً لكنّه يعمل فينا في خفاء ويؤثّر في تصوّراتنا ..

وتراثنا الإسلامي قد سلّم به قسم كبير من العالم منذ أكثر من ألف عام واستطاع أن يزوّد الإنسانية بحضارة حقيقية وعلم صحيح ورجال


عظام ما زالوا إلى يومنا هذا هم الانموذج الأرفع .. فهو عالمي ، بمعنى أنّه تراث حضارة عالمية ، حضارة الإنسانية ، فالثقافة الإسلامية تمثّل ثقافة على المستوى العالمي ; كونها غير محدودة ولا منغلقة ، بل متفتّحة قابلة لاستيعاب كلّ الثقافات التي احتكّت بها ..

وخلاصته : إنّه تفاعل الناس مع القرآن والنبي وآله الأطهار وصحبه الأخيار ..

أقلّ ما يقال في حقّ مرقد الإمامين العسكريين (عليهما السلام) : إنّه تراث محترم لدى كافّة الاُمم والشعوب والحضارات والثقافات .. وعليه ، فهل نالت جريمة تفجير هذا المرقد الطاهر الحدّ الأدنى من اهتمام المحافل الدولية والمنظّمات المختصّة؟! مثلما نال الانحراف المستمرّ في برج بيزا الإيطالي متابعة هذه الدوائر التي طالما عبّرت عن قلقها حياله ، بل إنّ المقطوعة الموسيقيّة المسروقة من إحدى سمفونيّات بيتهوفن بقيت ليومنا هذا مورد عناية ومتابعة تلك الجهات ، وهكذا لوحة الموناليزا .... ومنظّمة الثقافة والعلوم «اليونسكو» التابعة للاُمم المتحدة راقبت عن كثب وعملت ما بوسعها من أجل الحصول على نتائج لائقة بهذا الشأن ، بل وذرفت دموع التماسيح من أجل تمثال «بوذا» الذي دمّرته حكومة الطالبان في أفغانستان ، التمثال الذي يجسّد الشرك والكفر بأجلى مصاديقه ، لكنّها لم تنبس ببنت شفة ـ حتّى يومنا هذا ـ تضامناً أو اهتماماً بقضية تفجير المرقد المقدّس للإمامين العسكريّين (عليهما السلام) ، هذا الصرح الذي يمثّل بكلّ شموخ مفاهيم العدل والحرّية والإنسانية بأروع مضامينها ..


إنّ هذه الأزدواجية في التعامل مع القيم والأحداث ما هي إلاّ إفرازة من التراكمات التأريخية والمصالح السياسية والاقتصادية والثقافية لقوى الهيمنة والتسلّط العالمي ..

ولن تزيدنا هذه الظلامة إلاّ عزماً وتصميماً في الذود عن مبادئنا السامية وديننا الحنيف وفكرنا الحقّ ..

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهَ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) .. (١)

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ..

__________________

١ .. سورة الصفّ : ٨ ..


كونوا زيناً لنا

لمّا يستطيل البحث عندنا وتتكثّر القراءات وتتكرّر المراجعات وتزدحم أروقة الثقافة بنتاجات تحكي للعالم بأسره : أنّا أتباع رسالة سماوية وشريعة إلهية ذات محتوى ونهج متكاملين ضامنَين حياة البشرية بشقّيها الدنيوي والاُخروي ، قادتنا : محمّد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) والمعصومون الطاهرون (عليهم السلام) ، الذين بغياب آخرهم عجّل الله تعالى فرجه الشريف نتشبّث ـ حسب النظم الموجود ـ بنوّابه العامّين ، قدّس الله أرواح الماضين منهم وأدام ظلّ الباقين على رؤوس الأنام ....

نعم ، لمّا يكون الأمر كذلك فهذا يعني : أنّنا نبعث برسالة واضحة مفادها : نحن أتباع ذلك «الإنسان الكامل» ، ومن البديهي أن يغدو التابع ـ طبق المدّعى ـ على نسق المتبوع إطاراً ومحتوىً ....

فهل نحن هكذا يا تُرى؟! فهل نحن على ذات المضمون والنهج والسيرة التي ورثناها من قادتنا (عليهم السلام) وأقطابنا وأركاننا؟ أم أنّا مجرّد ظاهرة صوتية؟ فإن رفضنا الثاني أيمكننا إثبات ما يلي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ :


١ ـ حين تزاحم المظهر والاستعراض والقشر مع العمق والمحتوى ، أنّنا نقدّم الثاني من أجل الحقّ؟

٢ ـ حين تزاحم البذخ والراحة والترف والرغبة الذاتية والشهوة النفسانية مع الزهد والتعب والمعاناة والمصالح العامّة ، أنّنا نقدّم الثاني من أجل الحقّ؟

٣ ـ أنّنا لا نداهن ولا نساوم على المبادىء السماوية والملاكات العَقَدية والضوابط الدينية والقيم الأخلاقية والموازين العلمية ، فلا نحذف الآخر ولا نسقّط ولا ننافق ولا نتزلّف ولا نُصنِّم ولا نتلوّن ولا نتناحر ولا نتغطرس ولا نستبدّ ولا نغتاب ولا نكذب ولا نسرق ولا نخون ولا نخدع .... نجلّ الصالحين ونحترم العلم وأهله ، فلا نخيّب آمال المؤمنين والعلماء والنخب بنا لمّا نرفض ترجيح الرغبة على الملاك الحقّ والشهوة على الميزان الحقّ ، ولا نكون كالتي نقضت غزلها بعد قوّه أنكاثا ، فنظلّ نعتزّ ونفخر بالسليم من الموروث الديني والتاريخي والمعرفي ، ولا نفرّط به ـ غروراً وجهلاً ـ جملةً وتفصيلاً بمجرّد خلل هناك ونقص هنا دون الالتفات إلى المخاطر والعواقب الوخيمة المترتّبة على هكذا تفريط وتجاوز مرفوض .... كما لا نكون كذاك الذي أساء إلى المعصوم (عليه السلام) أيّما إساءة فبادره (عليه السلام) بأروع الخُلُق وبالغ الإكرام فبقي لا يدري ما يصنع من فرط الندم والخجل إزاء مقابلة الإساءة بالإحسان؟

وممّا يندى له الجبين حقّاً أنّ مصاديق هتك الموروث الديني


والتعدّي على الثوابت والحرمات والرموز المقدّسة لازالت فاعلة إلى يومنا هذا ..

إنّ اعتزازنا بديننا وقادتنا لا قيمة له إن لم نكن «زيناً» على الدوام قدر ما استطعنا ، وإلاّ فإنّا نكون قد بعثنا برسالة خاطئة كاذبة إلى العالم لا واقع لها أصلاً ، فيصحّ أن يقال فينا : أنتم «شَين» و «الشَّين» لا يستحقّ الاحترام أبدا ..


هذا أنا فمن هم؟

تجمّعوا ، تجمهروا ، تماهوا ، تغنّوا بلحن التمنّي ، أنشدوا نشيد الشماتة والاستفزاز والتشفّي ، ردّدوا مزيّفاتهم المكرّرة وادّعاءاتهم المملّة وتبريراتهم المضلّة ، هتفوا ـ وأنا منهمكٌ أقصد الدرب المبين ـ : فاشلٌ أنت مهزوم ، التقدّم فيك معدوم ، راوح مكانك فالتراجع فيك محتوم ، حريٌّ بك أن تُفنى فلا يظلّ لك ذكرٌ ولا يدوم .... ثم واصلوا التشدّق متغطرسين ـ وأنا أتابع السير بجدٍّ ويقين ـ : شاهقةٌ أسوارنا ، عصيّةٌ موانعنا ، صلبةٌ هممنا ، قويّةٌ عزائمنا .... نحن نحن نحن ...

أمّا أنا فلاخيار لي سوى مواصلة المسير بذاك الوثوق والحماس المثير لأبلغ المطلوب الكبير .... مؤنتي وزادي : كلّ ما رسخ في عقلي وفؤادي من ذاك اللبن الصافي الذي غذّتني به أحاسيس آبائي وأفكاري المستفادة من معين الولاء الجاري في دمي ولحمي وعظمي ومخّي وسائر أعضائي ....

فأنا قلبٌ ينبض بالحبّ والمودّة والهيام بآل العصمة الأطهار ..


أنا عقلٌ يستفيض برؤى وبصائر وهدي بيت النبيّ المختار ..

أنا ذاك الذي صاغ من ظلامة الحائط والباب حبرَ الأفكار ويراع الأنظار وأُسّ الآراء فأحفرُ وأُراجع وأُحلّل وأستقرئ وأُقارن فأستنتج : أنّ الزهراء قد رسّخت ـ بإلهامها وعصمتها وثباتها وبيانها ـ مبادئ الدين والأُصول التي جاء بها السراج المنير وعانى من أجلها صعاب الدرب العسير ..

أنا ذاك الذي علّمه سيف الرسالة الأمين وباب علم خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله) أميرالمؤمنين (عليه السلام) بصبره الحكيم طيلة الخمسة والعشرين من السنين .... قواعدَ الإيمان السليم ومعنى الحفاظ على مصالح المسلمين رغم الحقّ السليب وخذلان الخاذلين ..

أنا ذاك الذي جعله المجتبى (عليه السلام) سبط سيّد المرسلين يحلّق عالياً في آفاق معارف وأخلاق الآل وسعيهم الحثيث لحفظ النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، مثلما جعله (عليه السلام) يقف على حقيقة اليد الأُمويّة التي لازالت تعبث بالقيم والدين ..

أنا ذاك الذي علم واستيقن أنّ ملحمة المولى الغريب وما بذله الحسين السبط الشهيد من العطاء والسخاء الكريم بالمهجة في يوم الطفّ العظيم .... هي التي حفظت رسالة سيّد الكونين إلى قيام يوم الدين ..

أنا ذاك الذي فهم انتظار فرج الغائب أرواحنا فداه بأ نّه : الإبقاء على جذوة الإيمان والقبض على جمرة الاعتقاد بكلّ عزيمة وشوق واقتدار ..


أنا ذاك الذي استلهم من أهل بيت التقى النجباء كلّهم بلاستثناء منهج الحياة المتين وسبيل الفلاح الأمين ..

أنا ذاك الذي علّمته حواضر النجف وقم وكربلاء ونظائرها من معاهد الخير والهدى : أنّ عقيدتنا منهجٌ وأُسلوبٌ ومحتوى ، أنّها خطّ الدين الممتدّ منذ النبيّ المصطفى حتى بزوغ راية المرتجى ..

أنا ذاك الذي اختار وانتخب واتّبع مراجع الدين العظام حين علم أنّهم ـ حقّاً ـ نوّاب الإمام بما لهم من الصفات والخصائص التي جعلت منهم ملاذ الخلق وملجأ الناس على مرّ القرون والأعوام ..

أنا ذاك الذي اشرأبّ عنقه إجلالاً وتعظيماً للسيّد الصمصام ، الرمز الهمام ، العارف الحكيم ، المدبّر العليم ، الكيّس الحليم ، محيي الحبّ في النفوس وململم الشمل في الزمن الضروس ومنادي الأمن والسلام رغم كلّ دعوات الحقد والشتات والترويع والعنف الهدّام.

أنا ذاك الذي كسب النزال بالإصرار على صادق الحوار ورفض منطق الإرعاب والتهديد بالحرب والحرمان والحصار ..

أنا ذاك الذي أوغلوا في تشريدي وحرماني وقتلي ، وماحَكُوني طول الدهر قاصدين حذفي ونفيي والقضاء علىّ بما تيسّر لهم من أساليب البغي والتعدّي .... ثم ضلّلوا وحرّفوا الحقائق وإلى الشرك والكفر نسبوني ....

لكنّني غدوت على خلاف ما راموه بي وأرادوني .... عدّةً وعدداً وحضوراً ونفوذاً ونموّاً وتقدّماً ..


فها أنا بعد كلّ ذاك التضييق والأذى شامخٌ في النجف وبغداد وقم وطهران وبيروت ودمشق وصنعاء .. والبقيّة تاتي بلطف السماء ، خطفتُ القلوب وشغلتُ العقول بلا خيل وسيف وركاب ، أزدادُ أمناً وطمأنينةً ويزدادون خوفاً بلا راحة وسكينة .. عنوانهم الإرهاب والذبح والإيلام ، عنواني الحبّ والوئام والسلام ..

إذن ، أنا الربيع الآتي والحقيقة الموعود بها في آيات الكتاب الربّاني : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (١)

__________________

١ .. سورة القصص : ٣ ..


لِمَ نخاف ونخشى؟

لِمَ نخاف ونخشى؟! لِمَ نرهب الكلمة والصوت والصورة؟! حتى الهمس والإشارة .... بل السكوت أحياناً ، نرتاب بالنوايا ونتوجّس الأحاسيس والمشاعر ، وكثيراً ما تزعجنا لغة العيون والقلوب ... القلم ، الخطاب ، الانترنت ، القرص المضغوط ، السكون ، الحركة ، الحضور ، الغياب ... نهابها ونضطرب وتصفّر وجوهنا منها ..

لِمَ نحن هكذا؟! ألا نمتلك الرصيد الكافي ، الثقة التامّة ، الاطمئنان الكامل ، المصداقيّة الواضحة ، الشفّافيّة ، البيّنة الراسخة ، الخلفيّة اللامعة ، العلم ، المعرفة ، الثقافة ، الوفاء ، الصدق ، الفكر الشامل ، التراث النفيس ، الأعلام الزاهرة ... ألسنا ندّعي هكذا؟! ألسنا من يتغنّى بكثافة المادّة المعرفيّة والأدوات المنهجيّة والنسق العلمي الرصين؟! ألسنا الذين ننقض كلّ المدارس الفكريّة والمذاهب الفلسفيّة ولا نقول إلاّ بمقولتنا التي نرى فيها المخطّط البارع والمنقذ الوحيد والمجيب الفريد عن سؤال الحياة الكبير؟! ألسنا الذين نؤمن بعقلنة الأفكار والعلوم وندعو إلى الحوار الهادئ الهادف الشفّاف ، ونعتقد بالمراجعة والنقد والفحص والتأمّل


والتدبّر؟! ألسنا الذين نحترم حقوق المرأة والطفل والأقليّات؟! ألسنا ...

إذن نحن نمتلك الرصيد الكافي الذي يبعث على الثقة والاطمئنان .. فلِمَ نخاف ونخشى ونرتهب ونرتاب وننزعج ونضطرب؟! لا أقصد شخصاً بالذات ، أعني الجميع بلا استثناء ، أيّاً كان العنوان دينيّاً أو سياسيّاً أو اجتماعيّاً ..

أين المشكلة يا تُرى؟ أين مربط الفرس «كما يقال»؟ أين الخلل؟ إمّا فينا نحن الذين نحمل وندّعي أنّنا حملة هذا الفكر والمنهج والرسالة ، أو في ذات الفكر والمنهج والرسالة؟ والقول الثالث معدومٌ هنا ..

ولا نختلف نحن في صحّة الفكر والمنهج والرسالة وسلامتها من الخلل والنقص والاضطراب والتهافت ، وبذلك البحث والكلام يتّسع ويطول ..

إذن الخلل فينا والنقص والاضطراب والتهافت عندنا ، طبق ما نعتقد ونسلّم ..

أمّا الآخرون فيقولون : إنّ الخلل فيكم وفي فكركم ومنهجكم ورسالتكم وفي هذا أيضاً بحث وكلام يطول مقامه ..

فالإجماع منّا ومنهم منعقد على كون الخلل فينا نحن دعاة الفكر وحملة نهجه ورعاة رسالته .... نخاف ونخشى ونرتهب ونرتاب وننزعج ونضطرب لأ نّنا ضعاف في تدينّنا ، في سياستنا ، في اجتماعنا ، نفتقد الثقة والاطمئنان بأنفسنا ; ضعافٌ لأ نّنا حملة رسالة غير حقيقيّين ، غير


صادقين ، غير شفّافين ، غير معرفيّين ، شعاريّون ليس إلاّ ، كاريزميّون حتى الهامة وفي أضيق حلقاتنا ; إذ نبيع ونشتري بالموهبة أنّى شئنا وأردنا ، صنميّون بشكل رهيب ، مراهقون لذائذيّون دوماً .... والنادر فينا يبقى نادراً وهو كالمعدوم الذي يذوب بلا شكّ وسط هذا السيل الهادر من الزيف والانفلات العَقَدي الأخلاقي ..


لماذا الإلهيات؟

لا اُنكر على «الأكاديميات» ضرورتها أبدا ، وليس مثلي ـ بجهله ـ مَن يعلم مدى حاجة البشرية لها ، لكنّي انموذج الطالب الجامعي سابقاً والمتواصل ـ بمقدار ما ـ مع العلوم الحديثة حاليّاً أودّ أن أعترف وأقول :

لم تفتح لي «الأكاديميات» اُفقاً معرفيّاً واضحاً ولم تعطني نفعاً ثقافياً كافياً ولم تمنحني حصانة انتمائية أفخر بها .. أمّا الكلّيات التي تعلّمتها منها ـ وحتى بعض التفصيليات من علومها وفنونها التي ضاع غالبها بين الطيش الفكري والغرور الكاذب وضبابية الهدف ـ فلم ترو غليلي أو تَسدّ رمقي ....

بخلاف «الإلهيات» التي فتحت لي اُفقاً معرفياً رحيباً وأعطتني كسباً علمياً ثقافياً ملموساً ومنحتني حصانة انتمائية قوية ، فكنت ولازلت أشعر بل أعتقد بزيادة رصيدي العلمي يوماً بيوم ، بل ساعة بساعة ، إنّها كرّمتني حيث أهدت لي عين الثقة بالنفس ..

صرتُ ألمس قدراتي وحدود إمكانياتي بلا غرور وغلوّ وقشور ..


صرت اُمارس شعارات روحي وضميري حين يهتفا بي : «إنّ الإنسان موقف وكلمة» بكلّ فخر واعتزاز ، واُحاول بلورتها عملياً ، حتى منحتني شعوراً بالراحة والطمأنينة ، فبعد معاناة وآلام ومخاطر يطول بيانها بتُّ أختار واُقرّر الفعل أو الترك ، ولا أشتري أو أبيع بأيّ ثمن ..

صرت أهتمّ بوقاري وسلوكي وتدبيري ، فأنشد الحكمة والفطنة والكياسة والتعلّم بكلّ لهفة وشغف ..

صرت أمقت الأساطير والخرافات والأوهام وأنزع إلى الدليل والحجّة والبرهان ..

صرت أترنّح طرباً لأيّة مؤنة معرفية تثير طمعي الفكري وتشبع نهمي الثقافي ..

صرت أجد في القرآن الكريم غير ذاك الذي اُرتّله في شهر رمضان فقط لتُحسَب لي الختمة والختمتان ; حين علمت أنّه نصّ متكيّف موّار وصنعة سماوية متكاملة ونسخة وقاية وعلاج لكلّ الأحقاب والأمصار ..

صرت أجد في محمّد بن عبدالله أسمى من ذاك الذي درسناه في المدارس والجامعات وكونه ـ على الإجمال ـ نبيّاً جاء بدين وكتاب ، حين علمت فيه الكمال الإلهي والتجلّي الربّاني والمنقذ الحقيقي بأرقى المعاني وأجمل الصور ..

صرت أجد في عليّ بن أبي طالب فوق الشجاعة وقلع باب خيبر وقتل عمرو بن ودّ ... حين علمت أنّه القرآن الناطق والوليّ السماوي


والعدل المتجسّد والحركة التي لا تعرف التوقّف ، حين علمت أنّه يهزّني من العمق هزّا ..

صرت أجد في الزهراء البتول فوق الضلع المكسور وفدك والمسمار الملعون ; حين علمت أنّها الشرف الإلهي والطهر القدسي والكمال الروحاني بألمع معانيها وأبهى تجلّياتها ، فلا غرو أنّها قطب أنيني ولوعتي وشكواي ..

صرت أجد في الحسين أسمق من قطيع الرأس وذابل الشفاء ومبضّع القلب بذاك المثلّث الغدّار ; حين علمت أنّه سيّد الإصلاح والتغيير بلا منازع ، ومحرار الفلاح وثار الله المنتقم الجبّار ..

صرت أجد في عليّ بن موسى الرضا فوق مُكرَه على الولاية ; حين علمت أنّه عالم آل محمد بذاك النهج والنسق ورشاقة البيان ، إنّه المولى الذي أنار قلبي وعقلي وحوّلني من جاهل مغرور إلى جاهل يبحث عن الحقيقة بجدٍّ دون ملل وفتور ..

صرت أجد في سيّد الأمل الحجّة ابن الحسن المنتظر فوق الغياب والانتظار ; حين علمت أنّني كلّما ضعت وتاهت بي الدروب أعثر على ذاتي في أروقة بركاته ونسمات فيوضاته ..

صرت أجد في آل العباء كلّهم دون استثناء سادتي وأئمّتي ومناري ومعتمدي في ديني ودنياي ..

من هنا مال قلبي وعقلي إلى فضاء الإلهيات كلّ الميل والهوى بأرفع مراتب القناعة والرضى ..


حقّ التاريخ

تسالم المعرفيّون على أنّ «المعرفة» مستندة إلى القوائم الشهيرة الثلاث : اللغة ، التاريخ ، الفكر .... كما تسالموا ونظراؤهم على كون التاريخ ليس مجرّد سرد جافٍّ للأحداث ، إنّما هو ضبطٌ برؤية فاحصة وتحليل علمي وقراءة منهجية ومراجعة غائرة ضاربة في الأعماق ، تستحضر الماضي وتفكّك الحاضر وتستشرف المستقبل ..

وإنّه لمن المؤسف والمؤلم حقّاً أنّ جلّ ما بأيدينا من نتاجات ومدوّنات في علم التاريخ هي حاصل جهد المناوئ والمخالف والمعادي الذي راح بسطوة السلطة الحاكمة والإمكانيات الهائلة يضربنا بسيف الحقد والحذف ضَرْبَ المحرِّف المضلِّل ، ولا تزال هذه الذراع الغادرة تحكم بظلم وتقبّح وجه التاريخ دون أن ننبري لمشروع جادّ يعيد صياغة التاريخ طبق رؤية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) رغم تغيّر الظرف لصالحنا نسبيّاً وتوفّر المستلزمات المطلوبة ..

إنّ النقص الكبير الذي نعاني منه في هذا المضمار الحسّاس شكّل عبئاً ثقيلاً على كاهل الجهد المعرفي عندنا وحفر فجوةً فكريةً طالما حالت بيننا وبين الفهم الدقيق والاستيعاب الصحيح لمقاصد ومعارف أهل


البيت (عليهم السلام) .... هذا النقص الذي جرّنا وسحبنا طوليّاً بنحو مماثل إلى التعثّر في التعامل السليم مع العديد من الرؤى والمفاهيم والقضايا ، منها على سبيل المصداق لا الحصر : مفهوم «المرجعية الدينية» عموماً من حيث الوجود والامتداد والنيابة العامّة ، ومطالباتها وإيجاباتها وتوقيتاتها و ... على وجه الخصوص ..

لاغرو أنّ مراجعة محطّات التاريخ مراجعةً علميّةً منهجيّةً تكشف لنا حصيلة نوعيّة مؤدّاها : أنّ الصوت المغرّد خارج السرب مهما علا وارتفع فهو خافت إزاء صوت المرجعية الدينية الصادح بمصالح الدين والعباد ..

وليس اليوم بمختلف عن الأمس ، فهاهي المرجعية الدينية تداري وتنصح وتقف على الأخطاء فتعالج وتصحّح وتطرح الحلول الجليّة والسبل الكفيلة بتغيير الأوضاع صوب الأفضل ، فنادت بمبدأ «القبول الواسع» و «تدارك الأخطاء» و «عدم التشبّث بالمنصب» و «العمل بالتوقيتات الدستورية» و «احترام القانون» ... مثلما دعت إلى وحدة الصفّ ونبذ العنف والاصطفاف الطائفي وحماية الأقليّات الدينية والعرقيّة ; كلّ ذلك من أجل الخروج من المأزق الحالي وتفويت الفرصة على الغرباء الذين استغلّوا الوضع الهشّ فتمدّدوا بشكل خطير ومثير ..

إنّ مواقف المرجعية المباركة ما هي إلاّ انعكاس حىّ للمبادئ والقيم الأصيلة التي أكّدت عليها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) المتضمّنة أرقى معاني


الحبّ والسلام واحترام كرامة الإنسان وطموحه بحياة حرّة يسودها العدل والأمان .... تلكم المواقف التي ستبقى محفورةً على صفحات التاريخ بأحرف من نور .... دونها التشبّث بالمصالح الخاصّة التي سرعان مايغادرها التاريخ أو يكتبها بأحرف الظلمة والعتمة القاتمة ..

ما أجمل الاستماع إلى نداء العقل والحكمة ، وما أروع أن يتأمّل من يهمّه الأمر ويمنح الحنكة والذكاء فرصةً قد لا تعوّض أبدا ، فيخرج من ذلّ الرغبة العابرة إلى عزّ الذاكرة الخيّرة بإتاحة المجال للآخرين كي يأخذوا دورهم في عملية التغيير والتصحيح وتدارك الأخطاء ، الخطوة التي تعني ترجيح منافع الاُمّة على المنافع الضيّقة والتناغم مع مطلب المرجعية الدينية الذي نال التأييد الكاسح على شتّى الأصعدة والمستويات ... حينها سيكون للتاريخ وقفة اُخرى يحلّق بصاحبها إلى آفاق الأجيال الآتية بكلّ ألق وفخر واعتزاز ..

وللتذكير نقول : إنّ المرجعية الرشيدة أدّت وتؤدّي دورها بما تراه في صالح الدين والعباد ، ولن تخسر شيئاً مادامت تقصد الخير وتعمل من أجله ، سواءٌ قوبلت مواقفها بالاستجابة أو عدمها ، بخلاف الذين يجازفون بمنافع الاُمّة وقيمها النبيلة ، فإنّهم مهزومون لا محالة ، فقد يخسر الإنسان شيئاً ما ولكن أن يُهزَم فالهزيمة تعني خسران كلّ شيء ..

وللتذكير أيضاً بما صدّرنا به البحث نقول : إنّ ضبط مجريات الأحداث ليس كسابق عهده ، حيث التقنية الحديثة العالية ومضامير


التواصل الواسعة التي جعلت من العالم قريةً كونيةً واحدة ، قد أعطت وما سواها الفرصة الكافية لتدوين التاريخ بأوسع مجال من الحرّيّة ، ولكنّنا لازلنا نراوح مكاننا في واحد من أهمّ أركان مثلّث المعرفة وأكثرها خطورةً وحسّاسيّة ، وحقّ التاريخ علينا أن تنهض به مشاريع كبرى تقلّص الهوّة العميقة التي تفصلنا عن السطح المطلوب وتحدّ من النقص الهائل الذي يشكّل حاجزاً شاهقاً بيننا وبين الكثير من الحقائق .... آنذاك نستطيع الادّعاء بإمكانيّة منح الفضاءات المعرفيّة نتاجات علميّة أرقى ورواشح فكريّة أسمى ..


فهم التاريخ

اليوم يوم الغدير وكذا كان بالأمس وسيكون غداً ...

الشدو يغمر قلب المحبّ الموالي لأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وأهل البيت عليهم السلام ... كلٌّ يعبّر عن تمسّكه بالولاية من خلال المفردات والصياغات التي حفظها ظهراً عن قلب ...

لكن هل نحن حقّاً من الشيعة المتمسّكين بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام بلا تفصيل؟ أم التفصيل حاكم ، فمنّا من أخذها من سيرة الآباء والأجداد ، ومنّا من ليس في هذه الفضاءات أبداً ، ومنّا من يماشي فقط ، ومنّا من يسعى لفهم معنى الغدير والولاية ، ومنّا من فهم وتأ لّق في مراتب الفهم والبيان بشتّى أدواته وآلياته حتى غدا محوراً ومصدر إشعاع وتنوير يهفو إليه الضامي والصادي ليروي ويرتشف ..

.... اليوم يوم العاشر من محرّم وكذا كان بالأمس وسيكون غداً ...

الحزن يغمر قلب المحبّ الموالي لأبي الأحرار الحسين بن علي وأهل البيت عليهم السلام ... كلٌّ يعبّر عن ولائه حسب طريقته ونهجه ..


وتعود «هل» لتفرض نفسها ثانيةً وثالثةً ...

كما يعود دوماً حديث الإمام الصادق عليه السلام : «شيعتنا منّا ، خلقوا من فاضل طينتنا ، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا» ليجعلنا في بحث معرفي عن معنى الشيعي والخلق والفرح والحزن وماهيّة المقصود من النصّ ..

اليوم يوم الخامس عشر من شعبان وكذا كان بالأمس وسيكون غداً ...

الفرح يغمر قلب المحبّ الموالي للإمام الحجّة صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه وأهل البيت عليهم السلام ... كلٌّ يفصح عن الشوق والانتظار والدعاء لتعجيل فرج ظهوره عليه السلام طبق اُسلوبه وآليته ...

وهكذا تعود «هل» لتسائلنا عن مفهوم الغيبة والانتظار والظهور و ....

اليوم يوم شهادة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وكذا كان بالأمس وسيكون غداً ...

قلوبٌ تعتصر ألماً لما حدث من فاجعة بين الحائط والباب نفّذتها أفكار الحقد والكراهيّة ... كلٌّ يكشف عن مكنون شجنه طبق أدواته وسبله ...

وأيضاً تعود «هل» لتختبر فهمنا لمكانة الزهراء عليها السلام وشأنها ومحاولات طمس حقيقة ما جرى ...


يمرّ بنا التاريخ وتمرّ أيّامه وأحداثه ومواطن الخير والشر فيه ونظلّ نحن نسرده سرداً أجوفاً طالما يكون بمنأىً عن المراجعة والتحليل والبحث والاستقراء والمقارنة المنهجيّة ، فتظلّ الأحداث في ذاكرتنا وقلوبنا ووعينا جثثاً هامدة لا تنطق ولا تتحرّك ولا نأخذ منها شيئاً ، ونبقى نحيا الفرح والحزن باجترار وتكرار لا تغيير فيه ، الأمر الذي يجعلهما عرضةً للملل والتعب ..

نعم ، ينبغي فهم التاريخ على أنّه أحداث وتحليل ونتائج وحركة نحو الأمام ، حركة تفتح سبلاً وآفاقاً معرفيّة ، بمعنى : أنّنا حيث نتمكّن من فهم الأحداث فهماً مستنداً إلى الأدوات والمناهج العلميّة ، حينها سنعرف المعنى الحقيقي للغدير وكربلاء والنصف من شعبان وظلامة الزهراء عليها السلام ، ونعرف معنى التاريخ والدين والحياة وتقرير المصير ...

غاية الألَق والشموخ أن يتصاعد الشعور والوعي تصاعداً منسجماً تذوب معه الثنائيّة وتنصهر في بوتقة الوحدة الذاتيّة ، وحدة العقل والإحساس ، فإنّنا حينئذ نحفظ الاُصول والمبادئ حفظاً منهجيّاً معرفيّاً ..


نهاية التأريخ

نهاية التأريخ ، الشموخ الايديولوجي النهائي ، الريادة السماويّة الحاسمة ; سواء عبر ظهور المصلح الأعظم وعودة المسيح ، أم طبق قيم فوكوياما وكونفوشيوس ... إنّها مؤشّرات ومضامين الهيمنة والسلطنة على الإنسان ونزعاته الفكريّة .... أمّا التعارض والتباين والتقاطع والتوازي ... فكلّها إشعاعات الذهن التي ترسم على ثرى الحقيقة خطوة الحياة العريضة ، فنروم المشرق والمغرب ونعلو ونهبط كي نعطي الصورة الأقرب لنهاية التأريخ ونحويّة التكلّل العَقَدي ، فنراها ويرونها ، ننطق وينطقون ، نحدّق ويحدّقون ، نتأمّل ويتأمّلون ... إلاّ أنّ عيوننا غير عيونهم وكذا ألسنتنا وتأمّلاتنا وسائر حواسنا ..

رغم كلّ هذه الصعاب والنزاعات فجميعنا مؤمن بتلك النهاية وحتميّة حلولها ، أمّا الكيفيّة فتفرضها الإرادة الأقوى والقيم الأسمى ، ولا شكّ أنّها تلك القدرة العليا التي تكفّلت البدء والشروع فهي التي تضمن النهاية والختام ، ثم لا ريب أنّها ستعلو في الاُفق الرحيب بكلّ متانة وجلال ، وهذا لازم الكمال العلوي ورشح من رشحاته الموعودة ، وإفاضة


من إفاضاته التائقة لها قلوب العارفين وبصائرهم ، حتى وإن التقت بها القيم الفوكويامويّة أو الكونفوشيوسيّة أو ... فهذا يجري في الطبيعيّات والمفاهيم العريضة كالحبّ والحريّة والازدهار ، ثم فلا غرابة من منبع الفيض الأعظم أن ينتهل منه الجميع في الوقت الذي يحتفظ لذاته القدسيّة بالسموّ والرفعة والوحدانيّة التي لا يدانيه فيها أحد ..


القياس والإجماع

يقول الشيخ محمّد رضا المظفّر (رحمه الله) : إنّ القياس من الأمارات التي وقعت فيها معركة الآراء بين الفقهاء .. وعلماء الإماميّة ـ تبعاً لآل البيت (عليهم السلام) ـ أبطلوا العمل به ... ومن المعلوم عند آل البيت (عليهم السلام) أنّهم لا يجوّزون العمل به ، وقد شاع عنهم : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» و : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» .. بل شنّوا حرباً شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي وقياسهم ما وجدوا للكلام متّسعاً .. ومناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) معهم معروفة ..

هذا مضافاً إلى أنّ الحنابلة والظاهريّة لم يكن يقيمون للقياس وزناً كما ذكر الشيخ المظفّر ذلك ..

أقول : ذكرتُ قول الشيخ المظفّر لكونه يمثّل نموذجاً مقبولاً في بيان رأي الإماميّة الإثني عشريّة في مسألة القياس ، وإلاّ فإنّ نوع المصنّفات الاُصوليّة الشيعيّة تذهب إلى نفس الرأي ..

واستثنى الإماميّة الإثنا عشريّة من القياس «منصوص العلّة»


و «قياس الأولويّة» المعروف بمفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب ، فجوّزوا الأخذ بهما وأرجعوا السبب في التجويز : أنّ منصوص العلّة وقياس الأولويّة من الظواهر ، والأخذ بالظواهر ليس من القياس في شيء ..

وفي باب «الإجماع» يقول الشيخ المظفر (رحمه الله) : ... أمّا الإماميّة فقد جعلوه ـ أي الإجماع ـ أيضاً أحد الأدلّة على الحكم الشرعي ، ولكن من ناحية شكليّة واسميّة فقط ، مجاراةً للنهج الدراسي في اُصول الفقه عند السنيّين ، أي أنّهم لا يعتبرونه دليلاً مستقلاًّ في مقابل الكتاب والسنّة ، بل إنّما يعتبرونه إذا كان كاشفاً عن السنّة أي عن قول المعصوم ، فالحجّيّة والعصمة ليستا للإجماع ، بل الحجّة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهليّة هذا الكشف ..

أقول : ممّا ذكر يظهر جليّاً أنّ الشيعة الإماميّة ترى العمل بالقياس باطلاً ، وترى أيضاً أنّ الإجماع المعتبر هو الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام ، وإلاّ فلا قيمة له ولا اعتبار إذا لم يكن كاشفاً عن رأيه عليه السلام ..

إنّنا نروم هنا مناقشة مدى جدّيّة وواقعيّة العمل بهذه الرؤية المشار إليها ، الرؤية المترشّحة من صميم انتمائنا الديني والعقائدي والفقهي والفكري التي لها آثار ولوازم وعواقب شتّى على مختلف مرافق الحياة عندنا ..

بعبارة اُخرى : إنّنا هل التزمنا في ممارساتنا العمليّة المتنوّعة


باُصولنا الثابتة وثوابتنا الأصليّة أم خرجنا عنها تبعاً لظروف الضغط والمصلحة والفهم وغيرها ، فلم نحتفظ إلاّ بالشعاريّة إزاء قيمنا ومبادئنا وأخلاقنا ، وسخّرناها بأساليبنا الدعائيّة أداةً لمنافعنا وأهوائنا وحاجاتنا ، وزاولنا أرقى مراحل التأويل والتفسير البراغماتي لبلوع مآرب وغايات لابدّ من بلوغها مهما كلّف الأمر حتى وإن كانت «الغاية تبرّر الوسيلة» هذا المبدأ الذي نرفضه رفضاً قاطعاً في قيمنا وأدبياتنا ، لكنّا كثيراً ما عملنا به لنيل ما ينبغي لنا نواله؟

يخطر في ذهني أنّ أحد الفقهاء قدّس الله أرواحهم الزكيّة تعرّض إلى ذكر رواية في أكثر من مورد في كتابه الفقهي الاستدلالي وفي وقت كانت تلك الرواية تدعم مدّعاه وقوله استبسل في تجبيرها وتقويتها وإزالة عوامل الضعف عنها ، وحينما كانت نفس الرواية وفي موضع آخر تدعم مدّعى القول المخالف له راح يعمل على تضعيفها والنيل من حجّيّتها ، وقد أشار كاتب مقدّمة ذلك الكتاب إلى هذه النقطة بكلّ وضوح ..

لست بصدد استقراء الأفراد والمصاديق بقدر ما أهتمّ بالتركيز على أصل المشكلة ، رغم حاجة البحث لبعض العيّنات ودرج بعض الشواهد التي تقرّب الفكرة إلى ذهن القارئ أكثر وتجعلها أيسر فهماً وقبولاً ..

نعم ، إنّنا ارتكبنا مخالفات كبيرة وصغيرة ، كلٌّ بحسب نسبته ومكانته ، من علماء ونخب وكوادر ومتخصّصين إلى عامّة الناس وجمهور الاُمّة ، مخالفات بالخروج على القيم والثوابت والاُصول والمبادئ


والأخلاق ، خروجاً له علله وأسبابه ودواعيه المختلفة ..

وتمثّلي بالقياس والاجماع ليس إلاّ من باب إيصال الفكرة عبر المصاديق الحيّة الحسّاسّة حتى نبلغ نتائج عامّة وشاملة ..

لذا فإنّنا حينما نفهم القياس ـ مثلاً ـ فهماً مطلوباً نتمكّن من فهم أفراده ومصاديقه والميادين العمليّة التي يتّسعها ، ونفهم أيضاً كلّ ما يمتّ له من صلة وتأثير ، ولا شكّ أنّ المفروض في العلماء والكوادر والنخب وذوي الاختصاص أنّهم قد فهموا «القياس» ـ على سبيل الفرض ـ فهماً عالياً يمكّنهم من التعامل معه تعاملاً مطلوباً يسهل معه فرز الصحيح عن الخطأ وتوضيح الغوامض وحسم المواقف بكلّ جلاء وشفّافيّة ، فإنّها المهمّة الطبيعيّة للمتصدّين المختصّين الملقاة على عاتقهم مهمّة توعية الاُمّة وسوقها صوب قيمها ومبادئها وأخلاقها ..

لذا بات من المسلّمات بيان اُصول الدين وفروعه عبر ألوان الأدوات والآليات المناسبة ، بياناً تستوعبه الاُمّة وتجيد التعامل معه والعمل به بكلّ اطمئنان وشفّافيّة ، ويترتّب على ذلك فهم النظم والقانون وقبلهما فهم الدين والعقيدة والأخلاق فهماً حصوليّاً لا فهماً منقولاً وراثيّاً ..

ولعلّني بتركيزي على «أصل الإمامة» عند الشيعة الإثني عشريّة أكون قد بدأت وضع اللمسات الاُولى لفكرتي التي أروم طرحها هنا ..

إنّنا نعتقد ـ الشيعة الإثني عشريّة ـ كما يقول الشيخ محمّد رضا المظفّر : إنّ الإمامة أصلٌ من اُصول الدين لا يتمّ الإيمان إلاّ بالاعتقاد بها ،


ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربّين مهما عظموا وكبروا ، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوّة ... كما نعتقد أنّها كالنبوّة لطفٌ من الله تعالى ... إنّ الإمامة لا تكون إلاّ بالنصّ من الله تعالى على لسان النبيّ أو لسان الإمام الذي قبله ، وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس ... لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى ... سواء كان حاضراً أم غائباً عن أعين الناس ... ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سنّ الطفوليّة إلى الموت ، عمداً وسهواً ... معصوماً من السهو والخطأ والنسيان ... ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال ... أمّا علمه ، فهو يتلقّى المعارف والأحكام الإلهيّة وجميع المعلومات من طريق النبيّ أو الإمام من قبله ... إنّ قوّة الإلهام عند الإمام ـ التي تسمّى بالقوّة القدسيّة ـ تبلغ الكمال في أعلى درجاته ... ونعتقد أنّ الأئمّة هم اُولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ..

وفي باب «عقيدتنا في المجتهد» يقول الشيخ محمّد رضا المظفّر (رحمه الله) : «وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط : إنّه نائب للإمام (عليه السلام) في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس ، والرادّ عليه رادّ على الإمام ، والرادّ على الإمام رادّ على الله تعالى ، وهو على حدّ الشرك بالله ... فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط ، بل الولاية العامّة ، فيرجع إليه في


الحكم والفصل والقضاء ، وذلك من مختصّاته لا يجوز لأحد أن يتولاّها دونه إلاّ بإذنه ، كما لا يجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلاّ بأمره وحكمه .. ويرجع إليه أيضاً في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصّاته .. وهذه المنزلة أو الرئاسة العامّة أعطاها الإمام (عليه السلام) للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة ولذلك سمّي «نائب الإمام» ..

أقول : إنّ اعتقادنا بكون «الإمامة» من الاُصول كما هو التوحيد والنبوّة والعدل والمعاد لا يعني سوى عظم مرتبتها وعلوّ شأنها وخصوصيّة قدسيّتها التي تضاهي نظائرها بها ، وتبعاً لذلك فإنّ الإمام له من الصفات والمزايا ما يتفرّد بها على سائر البشر كما تفرّد بها الأنبياء .. وحقيق الرأي وسديد القول أن يكون الإمام ذا خصائص ومكوّنات تميّزه عن غيره ، وإلاّ كان كباقي الناس ، وكان أصل الإمامة لا معنى لوجوده والتمسّك به ..

إذن الإمام ـ بما له من المزايا ـ له من المرتبة ما لا يدانيه بها أحد من سائر الناس .. لكنّنا بواقعنا جعلنا كلّ ما للإمام لغير الإمام من الاختيارات والصلاحيّات الاعتقاديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة .. فساوينا بين الإمام (عليه السلام) وغير الإمام ، كلّ ذلك بفضل استنباط ما في مقبولة ابن حنظلة من أحكام ومفاهيم ; ولعلّ الظروف المختلفة التي عصفت بالمدرسة الفقهيّة الشيعيّة جعلت أقطاب التشيّع يفكّرون بالمخرج الذي يمكّنهم من الإمساك بزمام الاُمور على نطاق أوسع ; فعالجوا الرواية المذكورة متناً وسنداً وتوصّلوا إلى قبولها للحصول على نتائج تصبّ في منفعة الدين والمذهب كما يرون ..


ولعلّ التساؤل المطروح هنا هو : إنّ أهمّيّة وعظمة كلّ شيء تكمن في اُسسه ومقدّماته وأدلّته وفضاءات ثبوته وإثباته ، التي تكون من القوّة والإحكام والدقّة بمكان تجبر الخصم على التراجع والقبول أو ثباتها برسوخ إزاء فصول المناقشة والبحث والردّ والاعتراض .. وهذا ما حصل لنا كمسلمين بالنسبة إلى القرآن الكريم ونبوّة النبي (صلى الله عليه وآله) وكيف انبرى الآخرون عبر الأدوات والآليّات العلميّة والمعرفيّة للنيل من القرآن الكريم والتشكيك بكونه نصّاً إلهيّاً وأ نّه ـ كما يرى كثير من المناوئين ـ من نتاج محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) أو أنّ نبوّته (صلى الله عليه وآله) فيها من الشكّ والشبهة برأي آخرين منهم .. وأيضاً ما حصل لنا كشيعة إثني عشريّة في أصل الإمامة والولاية مع سائر الفرق الإسلاميّة من خلاف واختلاف ، ولكن على كلا الحالين كانت ولازالت لنا أدلّتنا المحكمة واُسسنا القويّة وشواهدنا الجليّة ومقدّماتنا العلميّة ومعاييرنا المعرفيّة التي نكادح بها الخصم سواء على صعيد كوننا مسلمين نذبّ عن القرآن الكريم والنبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) وسائر قيمنا ومبادئنا ، أم كشيعة إثني عشريّة نذود عن أصل الإمامة وباقي معتقداتنا وأخلاقياتنا ورؤانا ..

لكنّنا داخل الإطار الشيعي ذاته انقسمنا مختلفين إزاء مسألة الفقيه المجتهد الجامع للشرائط إلى فريقين رئيسين : فريق يرى الولاية المطلقة لذلك الفقيه ، وفريق يراها مقيّدة وفي اُمور معدودة كالحسبة والأيتام وغيرهما .. وهامّ الأمر يتجلّى حينما نفهم معنى غيبة الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ومعنى النيابة العامّة التي يتولاّها ذلك المجتهد الجامع


للشرائط ، هذا الفهم الذي يترشّح منه تصوّر وتصديق مفاده حسّاسيّة وخطورة ومصيريّة المهمّة الملقاة على عاتق نائب الإمام أثناء غيبته عجّل الله تعالى فرجه الشريف ..

وعلى كلا القولين ـ سواء قلنا بولاية الفقيه المطلقة أو المتجزّئة ، كما ليس المقصود أبداً النيل أو الانتقاص أو الانحياز لأحد المبنيّين ، إنّما هي محاولة مراجعة وقراءة وفهم علّها تسهم في ترصين صفوفنا إزاء ما نواجهه من حذف وتهميش ونفي وترويع ـ فلابدّ أنّ لكلّ فريق ما يناسب شأن دعواه الخطيرة من الأدلّة والشواهد والقرائن الكافية باعتقاده في الدفاع عن تصوّراته والثبات عندها ، ولاسيّما أنّها دعوى تأخذ حسّاسيّتها من عنوانها الكبير «نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف» ودعوى نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف لها من الحجم والمساحة والاُفق واللوازم والآثار ما يجعل أدلّتها بذات الحجم والمساحة والاُفق ... ولكن هل الأدلّة على إثبات ولاية الفقيه ـ سواء المطلقة منها أو المتجزّئة ـ بالمستوى المطلوب ، وهل مقبولة عمر بن حنظلة ونظائرها تلبّي الحاجة والطموح ، حاجة اُمّة وطموح جماهير سلّمت عقولها وقلوبها وأموالها وأعراضها وأوطانها وكلّ شيء لديها لقيم ومباني ترى فيها الأصحّ الأسلم ، هذه الرؤية المستقاة من ذلك الاطمئنان بفقهائنا وعلمائنا ومجتهدينا الذين قالوا لنا : إنّ الولاية في ظلّ غياب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف إمّا مطلقة أو متجزّئة ، والناس عملت كما قال هؤلاء العظام ، ولكن هل شحّة الدليل بهذا الحدّ الذي يجعلنا نتمسّك بمقبولة اسمها يفصح عنها ، أي فيها من النقاش الحارّ سواء على صعيد السند أو المتن ما يدعو


إلى التوقّف والتأمّل الطويل ، لكن عظماءنا ـ رغم ذلك ـ اختاروا قبولها ودعموها بشواهد وقرائن ونصوص لا تخلو من المناقشة أيضاً ..

ولسنا في مقام الحكم وإبداء الرأي والتشكيك في قدرات عظمائنا في مجال التعامل مع النصوص وكيفيّة الاستنباط والفتيا وإدارة شؤون الاُمّة وتلبية طموحاتها في حياة حرّة كريمة مستندة إلى القيم والمبادئ الحقّة ... لكنّا حينما نقارن بين ما تمسّكوا به من نصوص وروايات وما تخلّوا عنه في شتّى أبواب الفقه ، تبرز أهمّيّة السؤال المعهود .. فلطالما وجدناهم يخوضون في النصّ بكلّ أبعاده متناً وسنداً ; ليحصلوا على النتائج المطلوبة بشكل لا يدعون مجالاً للشكّ على صعيد الاستفادة من الاُسس والمعايير العلميّة في معالجة النصّ ، لذا فنحن ندعو مرّة اُخرى إلى مراجعة واستقراء ومقارنة وحفر واستنطاق وتحليل النصّ من جديد ، علّنا نحصل على غير مقبولة ابن حنظلة في مجال تدعيم مبنى ولاية الفقيه ; فإنّ فهمنا مهما رقى سيبقى في إطار النسبي قبال المطلق ، اُسوة بكلّ التفاسير والأفهام التي هي بمثابة النسبي ، والنسبي قابل للتغيّر بتغير الظرف المكاني والزماني والاستعداد المعرفي الإنساني ..

إنّ القراءات الجديدة والنتائج المبتكرة تساهم في رفع اشكاليّة التجنّي على الثوابت والاُصول ، ولعلّنا نتمكّن بمحاولتنا المستمرّة من إيجاد صيغ أكثر عقلانيّةً وقبولاً سواء على صعيد ولاية الفقيه ونيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف أم على صعيد الثبات على الاُصول والاُسس ، فلا نُتَّهم بعدئذ برفض القياس نظريّاً والأخذ به عمليّاً ، كما لا نُتَّهم بالتجاوز على مقام


الإمامة عبر التصرّف بخيارات وصلاحيّات واُمور هي من مختصّات الإمام فقط ، كما لا نُتَّهم بإرساء ثقافة القشور والمظاهر على حساب الجوهر والعمق ، ولاسيّما نحن اُمّة تؤمن بالعقل وقدراته على إيجاد السبل الناجعة للتعامل مع المتغيّرات ..

إنّنا لا نريد هنا الانتقاص من عظمة ومكانة علمائنا وفقهائنا الذين بذلوا ما في وسعهم لصيانة القيم والمبادئ من الاندراس والضياع ، وتحمّلوا جرّاء ذلك شتّى صنوف القهر والظلم ، ونال الكثير منهم وسام الشهادة المقدّس حفظاً لحمى الدين والمفاهيم الحقّة ، بل نريد بيان الفارق بين الإمام وغير الإمام حتى وإن كان غير الإمام فقيهاً مجتهداً جامعاً للشرائط ، فإنّ للإمام من الخصائص ما لا يشاركه فيها أحد أبداً ، إلاّ أنّنا طبق الواقع والوقائع الحاصلة والممارسات الموجودة نجد الكثير من القوانين والبرامج والخطوات قد اُخذ بها وكأنّ الإمام (عليه السلام) حاضرٌ ليس بغائب ، الأمر الذي يثير التساؤلات الخطيرة والإبهامات المخيفة ، ولعلّ الكثيرين يرون في تلك الممارسات نوعاً من التجنّي على هيبة ومكانة وصلاحيّة الإمام (عليه السلام) ..

ولقد أخذت الممارسات التي أحلّت غير الإمام مكان الإمام (عليه السلام) طابعاً قياسيّاً ; إذ صار غير الإمام يقاس وجوده عمليّاً على وجود الإمام ، بما لذلك الوجود من قدسيّة وخصوصيّة وخيارات وصلاحيّات ، فصرنا نعمل بالقياس الباطل بعلم منّا أو بدون علم ، وسرى هذا القياس شيئاً فشيئاً بين مختلف أفراد «غير الإمام» بدءاً من الفقيه الجامع للشرائط


ـ الذي يتسلّح بالأدلّة الفقهيّة فله ما يبرّر مبناه على أدنى تقدير ـ إلى ذلك الذي همّ بارتداء زيّ الروحانيّة بدافع من هذا الشعور الذي يجعله أوّلاً جنديّاً من جنود صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ثم يرتقي هذا الجندي ليمارس نفس المهامّ والصلاحيّات التي يمارسها الإمام (عليه السلام) ، لذا تجد هذا الفتى يشبّ ويشبّ معه الرأي الذي يرى الناس عواماً لا يفقهون شيئاً ، وهو الذي بمجرّد ارتدائه ذلك الزي صار يفقه كلّ شيء ، وكأنّ ذلك القماش فيه من المعاجز والكرامات والمعلومات ما يجعله الأعلم الأفقه ، وهذه هي اُولى مراحل التمسّك بالقشور والابتعاد عن الجوهر والعمق ; حيث الجوهر والعمق يدعوان إلى المراجعة والاستقراء والبعثرة والحفر والمقابلة والاستنطاق وممارسة الاُسس والمعايير العلميّة للحصول على النتائج المطلوبة ، وهذا ما لا يتّفق مع طالب العزّ والشهرة والسلطة والمال في ليلة وضحاها ..

ثم صرنا نعقد لكلّ مسألة وقضيّة تروق لنا «إجماعاً» ودوّنا في ذلك من الإجماعيّات ما لا تعدّ وتحصى متناسين أنّ الإجماع الذي لا يكشف باليقين عن رأي المعصوم (عليه السلام) لا وزن ولا قيمة له ، وكذا إجماع لا يخدم سوى ذوي المصالح والمنافع ، وهم كمثل اُولئك الذين أحتجّوا بالإجماع المزيّف ليسلبوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حقّه في الخلافة ..

فهل غاية ما نستفيده من «أصل الإمامة» تقوية شوكتنا الدنيويّة؟! بل حتى الاستفادة الدنيويّة لم تكن بتلك الاستفادة الصحيحة ; إذ صنعنا نحن «غير الإمام» في ذاتنا روحَ الفرديّة والاستبداد والسلطويّة ، بأوضح


صورها ومصاديقها ، لأ نّنا بنينا على الاُسّ الخطأ وشيّدنا على الخطأ ومارسنا على الخطأ ، خطأٌ جذري يعود إلى ممارسة مهامّ وخيارات وصلاحيات تعود في أصلها إلى الإمام (عليه السلام) فقط ، أو على الرأي الفقهي إلى الفقيه الجامع للشرائط ، جوّزناها لأنفسنا بلا رخصة شرعيّة ، فسرى المرض وفتك بنا جميعاً ..

إنّنا يجب أن نحفظ ما للامام (عليه السلام) للامام (عليه السلام) فقط ونمارس مالنا حقّ ممارسته فقط ، مع زرع الوعي الصحيح في نفوس وقلوب وأذهان الاُمّة ; فالاُمّة يجب أن تفهم فهماً واضحاً مكانة وعظمة ومنزلة الإمام (عليه السلام) كما يجب أن تفهم مكانة المجتهد الجامع للشرائط ومدى الفرق بينه وبين الإمام (عليه السلام) ، مثلما يجب على الاُمّة فهم الفرق بين المجتهد الجامع للشرائط وغيره ; سعياً منّا لمعالجة اختلاط الأوراق الذي جلب لنا مختلف المآسي والويلات ..

إنّنا لا نروم معالجة الاُمور تحت طائلة ضغط قوى الهيمنة الفكريّة العالميّة :

فهناك من عالج مسألة القوميّة ـ التي كانت الفكرة السائدة في أوانها ـ من خلال تزيينها بلباس الدين والتمثّل لها بآيات من القرآن الكريم مثل : (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ...) ..

وهناك من عالج الماركسيّة ونظريّة الجدل والديالكتيك بمسألة التوحيد ; حيث إنّ الله جعل الصراع بين الخير والشرّ صراعاً طويلاً فينتصر


فيه الخير آخر المطاف ، كما أنّ الجدل والتضادّ هو عنوان مراحل الصراع الذي ينتهي إلى الشيوعيّة لا غير.

وهناك من عالج الليبراليّة دينيّاً باُسس ومقدّمات وقبليّات تسعى إلى فهم النصّ فهماً يتناسب مع متطلّبات المكان والزمان دون القفز على الاُصول والثوابت ..

إنّنا نريد معالجة واقعنا تحت طائلة الضغط الذي نتعرّض له من داخلنا لا من خارجنا ، إنّنا ينبغي أن نفهم حقيقة وحدود كلّ شيء ، ينبغي أنّ نعلم أن أساس المشكلة يكمن فينا ، فلا يصحّ أن نتجنّى فنمارس الظلم أنّى كان ويكون وبحقّ أيٍّ ما كان ويكون ، وليس لنا من سبيل سوى العمل بالاُسس والمعايير والقيم والمبادئ التي نعتقد أنّنا آمنّا بها وذدنا عنها في أدبيّاتنا ونتاجاتنا نظريّاً ، فلا محيص عن ترجمة هذا الذبّ النظري إلى ممارسة حيّة تصدر من صميم انتمائنا وهويّتنا لا من واقع مصالحنا ومظاهرنا ، فالقياس ـ مثلاً ـ إن كان يبطل العمل به فهذا الحكم والمبنى سار إلى نهاية المطاف ، والإجماع ـ مثلاً ـ الذي لا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) لا قيمة ولا وزن له إلى آخر المطاف .. إنّنا بذلك نكون قد فهمنا معنى الحقيقة والحدود ، وعليه فإنّ أصل ومقام الإمامة يبقى بتلك الهيبة وذلك الشموخ في نفوس الناس ، فلا يُخدَش إثر ممارسات وتصوّرات بنت وجودها بفعل «نيابة الإمام» تلك النيابة التي مُنحت الكثير من اختيارات وصلاحيّات الإمام ، لا كلّ ما للإمام ، الأمر الذي حدا بالقريب والبعيد أن ينال من مفهوم وأصل الإمامة بذريعة أنّ ممارسات


هذا وذاك محسوبة على كيان الإمامة ، لأ نّنا جعلنا للإمام (عليه السلام) نائباً بهذه الإمكانيّات والاختيارات وكأنّ وجود الإمام وعدمه سواء ، فلم نأخذ بالحسبان جدّيّاً عصمة الإمام (عليه السلام) ومسألة لطف الباري تعالى وذلك الارتباط الإلهي الخاصّ بين الإمام (عليه السلام) وبينه تبارك وتعالى ، وسائر الخصائص التي يتفرّد بها الإمام (عليه السلام) .. لذا فإنّ الفهم الصحيح للحقيقة وحدودها يمنحنا الفرصة المناسبة للتخلّي عن روح الهيمنة والاستبداد والاستئثار ، ويجعلنا نفكّر قويّاً بالحلول التي تستند إلى الاُسس والمعايير العلميّة ، وتنأى عن القشريّات والمظاهر التي تسيء إلى المبادئ والأخلاق ، وتتنافى مع حركة العقل التي رفعنا شعار التمسّك بها ..

إنّنا لا نريد إلباس فكرنا كلّ يوم ذلك اللباس وهذا ، إنّما نريد أن نمارس حقيقة كون النصّ مطلقاً بمحتواه وأنّ أفهامنا بإمكانها أنّ تأتي بالجديد الذي يقاوم المتغيّرات المكانيّة والزمانيّة مع حفظ الاُصول والثوابت ، أي أنّ النصّ قادرٌ على أن يجيب على سؤال الحياة ويمنحنا البرنامج الصحيح المتكامل للمواصلة والمقاومة والنموّ والبقاء ، شريطة أن نفهم ذلك النصّ فهماً صحيحاً يستوعب شروط المكان والزمان ، فكلّ الأفهام والتفاسير والتأويلات تبقى نسبيّةً إزاء هذا المطلق ، لذا فالفرصة قائمةٌ دوماً للحصول على أفهام جديدة وتفسيرات حديثة كلّما تعاملنا مع هذا المطلق تعاملاً منطقيّاً قائماً على المعايير العلميّة والاُسس المعرفيّة ..

ولا شكّ أنّ هذا المنهج سيكلّفنا الكثير ويكلّف الكثيرين المضارّ الجسيمة والخسائر الكبيرة ; إذ الخضوع للمعايير العلميّة والاُسس المعرفيّة


القائمة على المراجعة والاستقراء والحفر والمقارنة والتحليل والقراءة سينتج فهماً جديداً ـ وإن كان نسبياً ـ بإمكانه الإجابة على التساؤلات الزمكانيّة ، ثم إنّه يفضح ويكشف ويعزل الأساليب والمناهج التي تنأى عن المحتوى والجوهر والعمق ، فهذه المناطق بإمكانها أن تكشف لنا بوضوح مدى ولوغنا في المرفوضات التي آثرنا العمل بها لنأخذ نصيباً وافراً من الهيمنة والسلطة والاستبداد على حساب المبادئ والأخلاق التي رفعنا شعارها منذ القدم ، هذا الولوغ الذي حدا بغير الإمام ـ بلا حجّة ولا دليل ولا برهان ـ مداناة الإمام (عليه السلام) في الرتبة والاعتبار والصلاحيّات ، فما عاد ـ في ثقافته ـ يدرك الفواصل الشاهقة التي تفصله عن الإمام المعصوم ، ناهيك عن الفواصل التي تفصله عن الفقيه الجامع للشرائط ، الذي يمتلك على أدنى تقدير أدلّة «نيابة الإمام» سعةً وضيقاً على اختلاف المباني ..

كما لا شكّ أيضاً في أنّ التمسّك بالمناهج العلميّة التي تقود إلى أفهام جديدة قائمة على الأخذ بالمحتوى والتعامل مع الجوهر ، سيعرّض روّاده إلى مختلف المتاعب والمصاعب والافتراءات من ذلك الفريق الذي لا يؤمن إلاّ بالمظاهر والقشور ، ولا يرى في مثل ولاية الإمام (عليه السلام) إلاّ حقّاً خاصّاً به لا يجوز للآخرين النيل منه ، فيجتهد ويستنبط من الأحكام ما يتلاءم مع تصوّراته ومبانيه ... إلاّ أنّ الإنسانيّة قد شهدت على مرّ العصور حجم التضحيات العظام التي بذلها أقطاب الفكر والعلم والمبادئ والأخلاق للذود عن رسالتهم وترسيخها ونشرها ، ولنا في أهل البيت (عليهم السلام)


اُسوة حسنة في كلّ مضامير الحياة ..

إنّنا في الوقت الذي نشدّ فيه على ذوي الرؤى العلميّة الثاقبة من نخب الاُمّة وطاقاتها ومفكّريها ومختصّيها لاستمرارهم بكلّ عزم وحزم في رفد الإنسانيّة بروائع نتاجاتهم وأنيق بصائرهم مع ما يكلّفهم ذلك من آلام ومعاناة ، فإنّنا ندعو الفريق الآخر من الاُمّة إلى تمكين لغة الحوار والتفاهم القائمين على الجوامع والقواسم المشتركة ; لأجل الحصول على مواقف وتصوّرات موحّدة تقود إلى ممارسات منسجمة مع طبيعة الانتماء والاعتقاد وجوهر وجوده ، الأمر الذي يخلق آفاقاً من الحركة والفاعليّة والتطوّر والازدهار ..

نعم ، لنا في أهل البيت (عليهم السلام) اُسوة ألقِة في إعلاء كلمة الدين الحنيف والقيم الحقّة ، ثبوتاً وإثباتاً ، تصوّراً وتصديقاً ، نشراً وذوداً وجهاداً بأرقى المضامين وأفضل السبل ، بل جادوا بأنفسهم ومهجهم دون المبادئ والاُصول السماويّة ، فهذا هو الحسين بن علي (عليه السلام) ـ كمثال شامخ يُحتذى به ـ قد ضاق ذرعاً بذلك الانحراف والاستبداد والفساد الذي ملأ فضاءات واسعة وقوّض جهوداً بذلها كبار أقطاب الدين حتى سالت دماؤهم لأجلها ، فانطلق عليه السلام براية الإصلاح والتغيير في اُمّة هو أحقّ من غيره أن يُوجِدَ فيها التحوّل والعودة إلى الاُصول والثوابت ، انطلق (عليه السلام) لأ نّه ما كان ليطيق خنق الحرّيّات ومصادرة الأفكار وأخذ الولاء بالإجبار ، انطلق ليصدح بصرخة العزّة والكرامة ، براية العدل والإمامة ; فهي مُنحة الله تبارك وتعالى ـ منصباً ومسؤوليّةً ـ كي يعيد الاُمور إلى نصابها الصحيح ،


وهو وإن خسر المعركة عسكريّاً وآل الوضع إلى ما آل إليه ، لكنّه ربحها قيَميّاً ومبدئيّاً وأخلاقيّاً ، وهذا كلّ ما كان يتوخّاه من حركته المباركة ولاسيّما أنّه عالمٌ بمصيره المحتوم «شاء الله أن يراني قتيلاً» ; فملاك التغيير والإصلاح ملاك الحقّ لديه ، فما كان يبالي سواء وقع على الموت أم موقع الموت عليه ..

اُنظر ماذا صنع اليقين الذي كان يمازج روح الحسين (عليه السلام) وقلبه وعقله ، لقد صنع آيات من المجد وشوامخ من الكرامة واُسس وضّاءة لمفاهيم ومبادئ وأخلاق ستبقى أبد الدهر مشعلاً ينير درب السائرين نحو النجاة والفلاح ..

وانظر ماذا صنع العنف والإرهاب والترويع الذي مارسه عدوّ الحسين آنذاك ، ومازال ـ بأذرعه وثقافته ـ يمارسه إلى الآن ، لقد صنع عاراً وذلاًّ لن يغادرا التأريخ أبداً ..

ما كان الحسين ليقنع بمظاهر وقشور تحفظ لدين الملوك والوعّاظ مصالحهم ورغباتهم وسلطتهم ، بل كان يريدها حركةً شاملةً تبعثر وتحفر وتراجع وتقارن وتستقرئ وتستنطق كي يأخذ الإصلاح والتغيير مجراه الواقعي ..

نحن كذلك لا يهّمنا سوى ذلك الإصلاح والتغيير الواقعي الذي يعني العمل بالمحتوى والأخذ بالأصل والجوهر ونبذ القشور والمظاهر ، وهذا الهامّ رغم أنّه يخيف شريحة واسعة لكنّه يسعد اُمّة برمّتها ، اُمّة تعبت من


التخلّف والذلّ والتبعيّة والتقليد الأعمى ، اُمّة تروم التجديد القائم على الاُسس والمعايير العلميّة الصحيحة التي تحفظ الاُصول والثوابت بلا أدنى تأثير سلبي من قوى الهيمنة الفكريّة العالميّة ، القوميّة منها أو الماركسيّة أو الليبراليّة أو غيرها ، فلنا في ذلك المحتوى المطلق والنصّ المقدّس وسيرة آل الحقّ (عليهم السلام) خير كهف وملاذ وملجأ نغترف منه أنّى شئنا وأردنا ، إنّه المطلق الذي يهدي للتي هي أقوم ، المحفوظ برعاية السماء وعناياتها ، القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ..


أثر المكان والزمان

لسنا بصدد الخوض في التأثيرات الزمكانيّة على نحو التوسّع والتفصيل بقدر ما نريد أن نقول فقط : إنّ الظرف دخيل في الحكم وله تأثير ملموس عليه ، سواء كان هذا التأثير محدوداً أم كبيراً .. ويبدو أنّنا يجب أن نقبل بهذا التأثير انبعاثاً من تبنّينا لمقولة تكيّف النصّ خصوصاً والدين عموماً مع كلّ الأحوال والظروف ، مع التمسّك بالمبادئ والاُصول والقواعد الأساسيّة ..

يشمخ أمامنا حينئذ بحث التطوّر الدلالي للّفظ وحركة اللفظ النامية المتطوّرة بفعل المتغيّرات الزمكانيّة .. إنّنا إن رفضنا مقولة «التكيّف» نكون قد قضينا على وجودنا بالسكون والسكوت والانسحاب من حركة الحياة ونقرّ بأ نّنا كنّا قبل في ما مضى وانتهى الأمر ، فلا أفهام متعاقبة ولا استنباطات متصاعدة ولا كلّ شيء ، وهذا ما يرفضه «العقل» عندنا حينما يصرّ على كوننا ـ كنصّ ودين ـ وُجِدنا لنبقى ما بقيت الإنسانيّة ..

إنّنا إذ نتّفق مع مقولة الزمكانيّة بما أشرنا إليه أعلاه إلاّ أنّه اتّفاق بشرطه وشروطه :


منها : الحفاظ على المبادئ والاُصول والقواعد الأساسيّة ..

منها : انتخاب المتابعة التي ننمو معها ولا تتنافى معنا عَقَدياً وأخلاقياً ..

منها : عدم التضحية بالجوهر لصالح الظاهر ..

والأخيرة محور البحث ، وكان القصد من وراء هذه المقدّمة المختزلة الوصول إلى هذه المنطقة من مناطق الصراع عندنا ، حيث يعتقد الكثيرون أنّنا نضحّي على الدوام بالجوهر لصالح الظاهر ..

للتوضيح نقول :

تناقلت المصادر المختصّة قضيّة ذلك الرجل الذي ورد على جمع من المسلمين فقال ـ بما محتواه ـ : من منكم محمّد؟ وذلك لتساوي الجميع آنذاك بالمظهر والملبس ، الأمر الذي يدلّ على تواضع النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذوبانه ظاهريّاً بين أصحابه وأتباعه بحدٍّ ما كان يمكن تمييزه عن الآخرين ..

وبقيت هذه القضيّة رائعة من روائع الدين والأخلاق تتناقلها المدوّنات والمشافهات بالفخر والاعتزاز ..

هل نقول إنّ «الزمكانيّة» تفرض علينا الانتقال من ذلك الحال إلى حال اُخرى ، بمعنى : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لو كان بيننا اليوم هل يجلس ويلبس كما كان عليه الحال في صدر الإسلام؟ لنفترض ـ جدلاً ـ تمايز النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالشكل والمظهر لو كان بيننا اليوم ، لكنّه بلا أدنى شكّ سيبقى بيّناً بما


عنده من الخصائص المعهودة التي أهّلته ليكون رحمةً للعالمين ، فلا يضحّي بالجوهر لصالح الظاهر .. وهذا ما لا يختلف فيه اثنان أبداً ..

لنَقُل : إنّنا مع مقولة «الزمكانيّة» وتأثيراتها ، لكنّا هل تمسّكنا بالجوهر فلم نضحّ به لصالح الظاهر؟ هل للمحتوى والمبادئ والاُصول عمق في واقع حركتنا؟ هل هي ذات القيم والأخلاق التي جاء بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟ المخاطب هنا النخب المتصدّية ، التي ترجع إليها الناس في اُمورها وقضاياها ، والتي تدوّن وتشافه وتناظر وتحتكّ ، وكلّ من تجلبب بجلباب الدين والشريعة ..

لسنا بصدد الاستقراء والتصويت ، أو الإثارة والفتنة ، بقدر ما هي دعوة جادّة للنخب نحو المراجعة الحقيقيّة لمسؤوليّة التصدّي لاُمور الدين والذبّ عنه ، من حيث الأدوات والآليات ومدى تناغمها مع الجوهر والاُصول وعمقها العلمي والمعرفي ، وإمكانيّة بلورتها عمليّاً ..

إنّ الذي دعاني لهذا الدعوة ما سمعته مؤخّراً من تغريدة سيّئة طالت رجال الدين ، قيل : إنّها متداولة منذ فترة ليست بالقليلة ، مفادها : أنّ الناس قسمان : إمّا من بني آدم ، فهو إنسانٌ يفهم اُصول الإنسانيّة ولوازمها ، أو معمّم!! وبقول البعض : إنّها ردّة فعل قبال وصف رجال الدين لغيرهم : «عوام الناس» المتبادر منها محدوديّة الفهم عند غير رجال الدين ، هذا الوصف الذي أثار ولا يزال يثير سخطاً كبيراً بين مختلف طبقات المجتمع ، ولاسيّما الطبقة الواعية التي لا ترى في رجل الدين سوى انتقاضاً لواقع


مرير ، سوى رجلاً درس عشرات السنين بحوثاً حوزويّة بإمكان الدراسات الأكاديميّة اختزالها في سنوات قليلة جدّاً ..

والبعض الآخر يقول : إنّها تداعيات الواقع قد ألقت بظلالها الظالمة على نوع طبقة الروحانيّين دون تمييز ..

ويقول بعض رجال الدين : نحن الذين اخترعنا هذه التغريدة يوماً لأجل المزاح لكنّها انقلبت وصارت وبالاً علينا ..

مهما كانت الدواعي فالنتائج خطيرة ، إنّها تغريده تطال بها طبقة من أرقى طبقات المجتمع وعياً وأخلاقاً والتزاماً ، طبقة طالما كادحت من أجل الدين والقيم الحقّة ..

إنّه مشروع تسقيط ، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود ، فلابدّ إذن من مراجعة حقيقيّة ، بما في معنى المراجعة من مفهوم علمي معرفي منهجي ، كي تبقى أو تعود هذه الطبقة إلى دورها الريادي في توجيه الاُمّة والأخذ بها حيث برّ الأمان ، إلى السعادة الإنسانيّة والفلاح الأبدي ..

فلو قلنا : إنّنا لا نعترض على تميّز رجل الدين بهذا الشكل والظاهر ، إثر المتغيّرات الزمكانيّة ، بل نظهر له الاحترام كما فعلناه طيلة العقود والقرون الماضية ....

لكنّه ينبغي عليه احترام هذا الزيّ المقدّس الذي يظهر به بين الناس من خلال بذل غاية السعي لبلوغ الخلق الديني الرفيع ومواصلة كسب العلوم والمعارف وتعليمها ونشرها والذبّ عنها والتخلّص من مظاهر الدنيا


وكلّ ما يؤدّي إلى اتّهام رجل الدين بما يخالف شأنه وهويّته .... مع أنّنا لا ننسى الفتنة التي تثار ضدّ رجل الدين من هنا وهناك وأنّ علينا الوقوف بوجهها ووأدها ..

إنّ رجل الدين ينبغي أن يكون من الناس ، في الناس ، إلى الناس ; كي يشعروا أنّه واحد منهم ، وهذا الأمر يسهّل عمليّة ارتباطهم به وتأ ثّرهم بحركاته وسكناته وأقواله ، لا أن نرى رجال الدين أشبه بمجموعة أو صنف منعزل أو معزول عن الاُمّة يفصلهم عنها شاهق لا يمكن عبوره بيسر ..

لقد آلمني ما شاهدته وسمعته من أحد رجال الدين الذي يشار له بالفضل والعلم أن يصارح أحد الطلبة الحوزويّين الذي سأله عن ظروف حوزة النجف الأشرف وكيفيّة الانتقال إليها ، إذ قال له : مهما كنت لن يعترفوا بك في النجف إن لم تكن معمّماً!! حضر في ذهني ردٌّ لو شافهتُ به ذلك الفاضل العالم قد يحصل له نوع إحراج فتوقّفت عنه وسكتُّ ، أردت أن أقول مستنكراً : إذن الملاك ليس ملاك المحتوى والجوهر ، الملاك ملاك المظهر!!

والمؤسف حقّاً أن يغدو المظهر هو المطلوب والمقصد ، حينها يكون التراجع المعرفي المحتوائي طبيعيّاً ، ويفقد العمق تأ لّقه وتتصدّر القشور والاستعراضات جدول الترتيب العام ، فيكون الخاسر الأكبر نحن جميعاً بلا استثناء ..


الاختراق الثقافي

لازال القتل واستباحة الدماء والاستحواذ على الأرض شاخصَ الصراع والنصر والهيمنة والاستغلال والاستتباع ، شاخصاً مرعباً هدّاماً ، مستهدفاً ـ على الغالب ـ حذف الإنسان وإذلاله وامتهان كرامته الذاتيّة والوطنيّة والفكريّة ، مصادراً مقوّمات الانتماء والهويّة والحرّيّة التي يؤمن بها ويسعى لأجلها ..

كما عملت الفتوحات التقنيّة والعلميّة على الإمساك بحبل الصراع عبر أدوات وآليات جديدة تتناسب مع حاجة العصر وتلبّي مطامح «العولمة» بلا قتل ودماء وترهيب ونسف واستحواذ على الأرض والوطن ..

إنّه «الغزو الثقافي» الذي لا يحتاج اليوم سوى استخدام وسائل سلميّة ناعمة أبرزها «الفضاء» كي يكون وسيطاً للاتّصالات المطلوبة التي يُبَثّ من خلالها نتاج الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والفنّ ونظائرها ، إلينا ونحن في عقر دارنا ، نتلقّى ونتفاعل ونفكّر ونمارس ونروّج ونذبّ عن القادم الجميل الأنيق الذي يتناغم مع تطلّعات «الأكثريّة الساعية إلى


اللحاق بركب الحضارة الغربيّة ومبادئها ومضامينها الهادفة إلى التحرّر والتطوّر والرفاه!!» تفد علينا ونحن بعلمائنا ونُخبنا وطاقاتنا ومتخصّصينا لازلنا نحيا بعقليّة القرون الغابرة والأدوات التي أكل الدهر عليها وشرب ، لازلنا نعيش القشوريّة والانهزاميّة والركون إلى التبعيّة والنوم على أعتاب الماضي السحيق ومفاخر الأجداد ، دون أن نحرّك ساكناً ننفض به غبار التخلّف ونغوص في أعماق الجوهر والاُصول كي نستخرج بالمراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل ما يمنحنا القدرة المتشعّبة على التصدّي لغزو هو أمرّ وأخطر علينا من الحروب التقليديّة واحتلال الأرض ونهب الثروات ..

وبفضل «الغزو الثقافي الألكتروني» تنتفي الحاجة مستقبلاً إلى القوّة العسكريّة .. إنّه عصر ثقافة الاختراق التي بدأت تحلّ رويداً رويداً محلّ ثقافة الهيمنة التقليديّة ..

يقال : إنّ الثقافة تتأ ثّر أساساً بالأفلام والمضمون الترفيهي من دراما وأغان ورقصات وأزياء فضلاً عن عادات التغذية وأنماط الاحترام أو اللياقة في التعامل بين الأفراد التي تعدّ من المحاور المؤثّرة في الثقافة الموضوعيّة ..

والأخطر ما في الغزو هذا هو الغزو الثقافي الأميركي ..

فلقد أصبح ـ مثلاً ـ برنامج نايت لاين Night Line الذي تبثّه محطّة ABC الأميركيّة شكلاً من أشكال الدبلوماسيّة التي تلعب دوراً هامّاً في صنع القرار السياسي ..


ولو لاحظنا صراع شركتي فايكون Viacom وQvc للاستحواذ على شركة صناعة الاتّصالات الفضائيّة (بارامونت كومينيكشن) بمبلغ قدره عشرة بلايين دولار ـ كأوّل صفقة في التاريخ ـ لوقفنا على عمق الأهمّيّة التي تعوّل عليها الولايات المتّحدة في الهيمنة على الفضاء وصناعاته .. بل لا غرابة حينئذ أن نجد ٦٥% من الاتّصالات في العالم تصدر من أميركا ..

أمّا سيطرة محطّة CNN الأميركيّة ومحاولات محطّة BBCالبريطانيّة اللحاق بها فإنّه بحث وموضوع مترامي الأطراف يضيق به اُفق مقالتنا الموجزة ..

وهذه فرنسا بعظمة إمكانيّاتها التي تحاول الدخول في مواجهة مع أميركا كأوّل دولة اُوربيّة في مجال الصراع بين أميركا واُوربّا ، نجد أسواقها خاضعة بنسبة ٥٥% لسيطرة الأفلام الأميركيّة .. ومع ذلك فقد عارضت أميركا المحاولات الفرنسيّة للحدّ من هيمنتها الفضائيّة الثقافيّة بحجّة حرّيّة الاتّصال والتقاء الثقافات والمعلومات ..

ولقد استخدمت شبكة NBC الأميركيّة جهاز Fly Away لتغطية الانتخابات الفلبينيّة عام ١٩٨٦ التي شابها الاحتيال والتزوير ، الأمر الذي جعل الدعم الأميركي لماركوس يتآكل ويظهر نجم كوروزون أكينو وتسلّمها مقاليد الاُمور ..

نعم ، إنّ معاناة العالم أجمع تكمن في التأثير الثقافي الأميركي ، فكندا ـ مثلاً ـ مع عظمتها هي قزم أمام الاجتياح الثقافي الأميركي وهكذا فرنسا وانگلترا و ....


أصبحوا في كندا لا يميّزون بين الجنديّة الملكيّة والمباحث الأميركيّة ، وكذا القضاء الكندي يعاني الشيء نفسه .... الأطفال الكنديّون لا يدركون أنّهم كنديّون!

يقول شيللر ـ المنظّر في عالم الاتّصال ـ في «المتلاعبون بالعقول» : وسائل الإعلام هي امتداد للامبراطوريّة الأميركيّة التي بدأت تنتشر عالميّاً بعد الحرب العالميّة الثانية ..

أمّا إيغاد فيقول في «غزو العقول» : قوى الثقافة ينبغي أن تكون الغلاف الخلاّب لأيّة بضاعة سياسيّة ..

ويرى فيليب كومبس أنّ : التحرّك الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي للولايات المتّحدة يقترن بالتحرّك الإعلامي والثقافي الذي يكون في مستوى الأبعاد الثلاثة الاُخرى ..

ويجب أن لا ننسى البثّ المباشر DBC الموجّه نحو الشرق الأوسط ، لو بدأ عمليّاً ، ماذا ينبغي لنا أن نفعل ، وهذا المشروع آخذ بالاكتمال؟

هل فكّرنا بإيجاد منظومة أمنيّة ثقافيّة تقف حيال الغزو الثقافي المذكور؟

ماذا قدّمنا في مجال الاتّصالات وصناعات الفضاء ، ولاسيّما أنّ الأخطر في عصرنا الراهن «تثبيت الأفكار» وقد باتت اتّصالات الفضاء تؤدّي الدور الحاسم المصيري في نقل الأفكار وترسيخها في عالم غدا


قريةً كونيّةً ليس إلاّ؟ إلى ذلك كلّه : ما تلعبه الفضائيّات من أداء مفصلي في مجال الاقتصاد والتربيّة والتعليم ...

إنّهم يسيرون بخطاهم النسقيّة لبلوغ المقصد من جانب ، ومن جانب آخر يخوضون ضدّنا حرباً إعلاميّة واسعة النطاق أوجز ما يقولون فيها : إنّنا ـ الإسلاميّون ـ نبثّ ثقافة التطرّف ونشجّع على الانسحاب من الحياة ونروّج للخرافات ونرسّخ مشاعر الاستسلام ونجانب العلم والتطوّر ..

ماذا عسانا أن نفعل إزاء كلّ ذلك ، هل نبقى متمسّكين بأدواتنا التقليديّة وآليّاتنا الكلاسيكيّة في بثّ ثقافاتنا وعقائدنا ورؤانا ، هل نظلّ معشعشين على القشور ونتنفّس مفاخر الماضي ونحيا الأحلام الورديّة بعودة ذلك المجد الغابر ، أم ننفض عن أنفسنا غبار التخلّف والتقاعس والظواهر الصوتيّة ونواجه الواقع ونقبل الحقيقة فنعيد حساباتنا ونراجع ونقوّم ونستقصي ونقرأ ونحلّل ... كي نلحق بركب التطوّر العلمي والتقني ، فننشئ درعاً مضادّاً وشبكة أمنيّة ومنظومة فكريّة دفاعيّة تقينا الغزو الثقافي الألكتروني اللائحة في الاُفق طلائعه والقادم أشدّ وقعاً وأعظم خطراً وأعمق اختراقاً؟!

إنّ أوّل ما ينبغي العمل لأجله هو إيجاد مواطئ قدم ثابتة ومحكمة في الفضاء ، ليس عبر شراء الأقمار الصناعيّة ، فهذه ليست مفخرة نتشدّق بها ، بل الأخذ بزمام المبادرة والدخول في مجال صناعات الفضاء واتّصالاته ، الأمر الذي يستدعي جهوداً علميّة كبيرة وإمكانيّات عظيمة


من الطاقات والمتخصّصين والأموال والجرأة والثبات والمقاومة .. إنّها الخطوة الاُولى في الاتّجاه الصحيح نحو كيفيّة التعامل مع المعلومة وبها ، فإنّنا اليوم أشدّ ما نعانيه هو سيطرة المعلومة الأميركيّة علينا ، أيّة معلومة ، سياسيّة كانت أم ثقافيّة وفنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ، فالولايات المتّحدة ـ وكما قدّمنا ـ بفعل الهيمنة الفضائيّة والتقدّم التقني في مجال صناعات الاتّصالات الفضائيّة ، تمتلك حصّة الأسد في تصدير المعلومة إلى العالم ، الحقيقة التي لها لوازمها وتأثيراتها وتفاعلاتها ..

لذا بات علينا أن نفكّر في جذر المسألة وأساسها ، لنقف على حقيقة الأشياء بكلّ وضوح وشفّافيّة ، ونعترف بقوّة المعلومة الوافدة علينا ، هذه القوّة يجب أن تقف بوجهها قوّة اُخرى مساوية لها على أدنى تقدير كي تمنعها من التقدّم وتوقفها عند حدّها ، ناهيك عن كونها أقوى منها لتردّها إلى الخلف فتحتلّ مواقعها وتمسك زمام المبادرة بيدها ، من خلال إيصال معلوماتها وقذفها في ساحة المنافس ..

هكذا يجب أن نكون ، أن نمتلك القدرة على ايصال المعلومة التي لا توقف المعلومة المناوئة عند حدّها فحسب ، بل تسيطر على مناطقها فتفرض شروطها عليها كحقيقة على أرض الواقع ، مثلما يفرض المنتصر في أرض المعارك التقليديّة شروطه على الخاسر المنهزم ; إذ إنّنا إن لم نكن هكذا فسنبقى نتلقّى الكثير من الهجمات والضربات بلا أيّة مقاومة حقيقيّة ، وهذا يعني سقوطنا في فخّ الغزو الثقافي الذي يحسب له المناوئ ألف حساب في تركيعنا وسلخ هويّتنا وإملاء أفكاره علينا بلا حروب


ودماء وقتل ، إنّما هي السبل الناعمة والأدوات الجذّابة والآليّات الظريفة والأشياء المثيرة التي تجعلنا متلقّين ومتابعين جيّدين ، وهذا أوّل الغيث ، ثم ينهمر التأثير والترسيخ وتثبيت الرؤى ..

بذات الآليّة والنسق والأدوات التي يعتمدها الندّ في إيصال المعلومة ، علينا أن نوصل معلومتنا ، كحدٍّ أدنى من حدود المقاومة والتصدّي لثقافة الغزو الجديدة ، وإلاّ فإنّنا ينبغي أن نكون أكثر جذّابيّةً واستقطاباً وإثارةً وترفيهاً سليماً في عرض وإيصال ثقافتنا وأفكارنا ومبادئنا ، وهذا الأمر يتطلّب جهداً عظيماً وطنيّاً وإمكانيّات هائلة على مستوى الدول والحكومات ومحاور الاُمّة الرئيسة كالمرجعيّات الدينيّة والعلميّة والتقنيّة والثقافيّة ، ويحتاج تعبئةً شاملةً لشتّى القطاعات المختصّة وإرساء المقدّمات والأوّليّات اللازمة ، مسبوقةً بمناقشة وتثبيت الخطط القريبة والبعيدة المدى ، وإن تحرّكت بعض الدول الإسلاميّة وقدّمت مؤخّراً نماذج طيّبة في مضمار صناعات اتّصالات الفضاء وغيرها ، فإنّها خطوة على جادّة الألف ميل تستدعي خطوات كثيرة اُخرى ..

علينا أن نحاكم المعتقد الغربي القائم على كوننا اُمّة محكومة تكويناً بالتخلّف ومحدوديّة الاستعداد العقلي والعلمي ، من خلال الإثباتات العلميّة العمليّة التي تدحض هذا المعتقد وتنسفه من الأساس .. إنّهم بلا شكّ غاضبون قلقون من بعض الإنجازات التي تحدث في هذا البلد الإسلامي وذاك ، ويبذلون سعيهم الحثيث لمنع وإفشال ومحاصرة أيّ تقدّم نحصل عليه ..


وبمقدار ما نكون جادّين مخلصين في إنجاز التكاليف الملقاة على عاتقنا ، من خلال حماية ونشر وبيان القيم والمبادئ الحقّة ، عبر أرقى وأفضل الوسائل والآليّات التي تلبّي حاجة العصر ... بهذا المقدار تسري الروح والحيويّة والأمل في نفوس المؤمنين ويسري الحزن والقلق واليأس في نفوس المناوئين ..

إنّ الغزو الثقافي الذي نتعرّض له اليوم لم يخترقنا عبر المحاضرة والخطاب والندوة والمؤتمر والمهرجان ذوات الصبغة المملّة والتوجّه الواحد الذي يهمل ويحذف الرأي الآخر ... إنّما اخترقنا عبر الوسائط الترفيهيّة والأفلام والرقص والغناء والأزياء والدعايات الإعلاميّة الشيّقة والبرامج المسلّية المثيرة وعادات التغذية ونماذج الاحترام واللياقة في التعامل بين الأفراد ... إلى ذلك : الندوات والحوارات التي تقنع المشاهد والمستمع والقارئ وتجعله يشعر بوجود حرّيّة الرأي والاعتراض والشفّافيّة والصدق والواقعية في تناول مختلف الاُمور والقضايا ، بلا تعسّف واستبداد وغطرسة! حيث الشاخص الأوّل فيها الإنسان ومكانته وحرمته التي يحميها القانون ، ونحن بإزاء ذلك لا يبقى لنا سوى أن نغبط الإنسان الغربي والنظام الذي يعيش بكنفه! وننعتهم مجازاً ـ إعجاباً بما فيهم من الصدق والنزاهة والشفّافيّة و .... ـ بالشعوب المسلمة بلا إسلام! أمّا شعوبنا فإنّك تأسى وتألم لما حلّ بها من الابتعاد عن قيم الدين الرفيعة وصفاته الحميدة والتسوّل على أعتاب الحضارات الاُخرى ..

إنّنا بمقدار ما نمتلك من الخزين الثرّ على مستوى الثقافة والمعرفة


والاُصول الراسخة والمبادئ النبيلة والجوهر العميق والتراث الكبير ومقوّمات النهوض والتكيّف الزمكاني ; فإنّنا على النقيض من ذلك ، لا نمتلك الأساليب والأدوات والآليّات التي ترتقي قطعاً إلى الخزين المشار إليه ، ونعاني ضعفاً مفرطاً في طرق الاتّصال والإيصال وكيفيّاتها وأنواعها ، الأمر الذي ينعكس سلباً على حجم التلقّي وتأثيراته وانفعالاته ، وهذا الضعف ـ بلا شكّ ـ راجع إلى التخلّف التقني العلمي والفكري والإصرار على البقاء على السبل القديمة ، ناهيك عن الخشية المفرطة من ولوج العمق والجوهر والأُصول والمبادئ التي تعني : هجران المظاهر الزائفة والشعارات الفارغة والظواهر الصوتيّة ، وتهديد مصالح المتربّعين على مقدّرات الاُمّة المراهنين على تخلّفها وضآلة وعيها ..


موقعنا في جدول التواصل التقني

الدنيا بأسرها في استخدام مذهل لتقنيّة التواصل بشتّى مناحيها وسبلها ، على تفاوت في مديات الاستفادة والاستثمار تبعاً لعناصر الفضاءات الحاكمة قوّةً وضعفا ..

إنّ عالَم الاتّصال عالمٌ مثيرٌ بإمكانه إرساء المقدّمات المناسبة لخلق وإيجاد التغيير الأساسي في مجالات الحياة المختلفة ..

إنّ أساليب ومناهج الهيمنة والسلطة نجدها قد تحوّرت عن ذي قبل ، فصارت حضاريّةً عصريّةً تناسب الظرف وتستجيب لحاجة الإنسان اليوميّة ، وباتت السيطرة على الأثير والفضاء الشغل الشاغل لقوى النفوذ والقرار ، فلا غرابة أن تُختَرق الفضاءات الفرنسيّة ـ مثلاً ـ بنسبة مئويّة تفوق الخمسين بنتاجات أميركيّة الثقافة والعادات والتقاليد ، فتغلغلت في عمق المجتمع الفرنسيّ الذي طالما عرفناه مجتمعاً متغطرساً متعالياً معتزّاً باُصوله وثقافته وماضيه وحضاريّته ، ناهيك عن سائر المجتمعات الأدون ازدهاراً وتأريخاً ..


ومن المؤلم حقّاً أن يكون مجتمعنا أيضاً مأسوراً مقلّداً تابعاً لذاك النتاج جملةً وتفصيلا ، حتى اشرأبّت له الأعناق وخضعت له الرؤى والأفكار وغدا ملاك التطوّر وميزان الحضاريّة ..

نحن لا نرفض ذاك النتاج مطلقاً ولا نقبله مطلقاً ، فلنا قولٌ بالتفصيل مفاده : إنّنا بحكم العقل والمنطق نأخذ ما يتناغم مع اُصولنا وثوابتنا ولا يشكّل برادوكساً مع قيمنا ومبادئنا ; ذلك بعد استخدام الأدوات المنهجية السليمة من العرض والقراءة والتحليل والمقارنة والاستقراء ...

أساس البحث يتمحور حول معرفة موقعنا وترتيبنا وفاعليّتنا في ميدان التواصل التقنيّ الذي غزا الإنسان في عقر داره .... فهل استطعنا النهوض بمشروع أو مشاريع تواصليّة تقنيّة تناسب الظرف وتلبّي الحاجة وتطرح الشكل والمحتوى الصحيح لقيمنا ومبادئنا وأخلاق رسالتنا بحلّة جميلة جذّابة استقطابيّة ممتعة؟

نعم ، أنبثقت عشرات بل مئات المشاريع في هذا المضمار لكنّها تفتقر المزيد وتعاني الضعف المشهود والنقص الكبير ، بل البعض منها وبالٌ علينا وشرٌّ ينبغي التخلّص منه ، فلا زال الطرح والإطار والمضمون دون الطموح بكثير ، ولا زال الفرد منّا في ميل ورغبة الى ذلك الوارد الغريب ، ففيه من الجمال والجاذبيّة والإثارة ما يجعله يكتفي ويشبع حاجته به ثم التأ ثّر بمحتواه الأخلاقي والثقافي ; كوننا لم نمنحه الفرصة المناسبة لتلبية ما يريد فذهب إلى البعيد ولربما دون رجعة من جديد ..


يجب علينا صناعة الفكرة التي تكسب العقل الجمعيّ وتقتحم الميدان العمليّ فتستميل الأنا وتثير الآخر المغوي ، الفكرة الآنيقة الرشيقة التي تُحدِث التأثير وتوجد التغيير ، المستقاة من واقع المبادئ وحقيقة الثوابت ، سلسة الخطاب ، سهلة التلقّي ، بسيطة الأجزاء ، لقمة سائغة ، هنيئة مريئة تمضغها الأفهام والعقول وتترنّم بها الأحاسيس والشعور ; فقد ورد في النصّ الشريف : «خاطبوا الناس على قدر ـ بقدر ـ عقولهم» ..

لابدّ من وضوح الصوت والصورة والكلمة والإشارة .... وضوحاً علميّاً معرفيّاً قيَميّاً تقنيّاً عصريّاً ; كي تنحسر آفاق الضياع وتتضاءل دروب المتاهات ، كي نصنع الفرصة التي تمهّد مقدّمات الإياب إلى فضاء الذات الأصيلة ، فضاء الفطرة التي فطر الله الناس عليها حيث لا معصية ولا جريرة ..

لابدّ أن يفهم الجميع بالإقناع لا بالإسكات : أنّنا اُمّةٌ ورسالةٌ وفكرٌ ونهجٌ متكاملٌ متكيّفٌ متسام فوق المكان والزمان مادامت البشريّة في حركة وحياة وعنفوان .... هكذا هو قدرنا وهكذا هي إرادة السماء حيث خطّتنا ديناً خاتماً لكلّ الأديان وفي ذلك فخرٌ وعزٌّ لا يضاهيه أيّ منصب وعنوان ، والحمد لله المتعال المنّان ..


الفضائيّات

غدا شبه التزام يومي ونسق برمجي أن اُتابع ـ ولو بسرعة نسبيّة ـ مضامين فقرات الفضائيّات العربيّة والإسلاميّة وغيرهما ..

يتمحور غالب تركيزي الذهني على الفضائيّات المنتمية هويةً لمدرسة آل البيت (عليهم السلام) ، فلم أجد للأسف البالغ فضائيّة واحدةً تكاد تطرح القيم والمبادئ والأفكار والعقائد الشيعيّة بالشكل والمحتوى الجذّاب المقبول .. ناهيك عن استخدام الأدوات العصريّة الحديثة والأساليب الجديدة والمناهج المبتكرة والنسق العلمي ..

لا ترديد في جلالة الفكر وعظمة المضامين ورفعة القيم لكنّ الخطاب الإعلامي الذي نتلقّاه حالياً خطابٌ ضعيف يفتقر المقوّمات التي تتناسب مع الزمان والمكان ، الأمر الذي يشكّل عقبة كأْداء أمام القراءة الصحيحة والاستيعاب السليم والفهم اليسير لمنظومتنا القيميّة السامية ..

فإمّا فضائيّة غارطسةٌ بالحزن حدّ الإفراط واُخرى غالبٌ عليها الانتماء الجغرافي أو السياسي أو الفكري وخامسة تنأى عن شبهة الانتماء


الطائفي وسادسة تسبّح بحمد ذاك وهذا ..

أمّا الفضائيّة التي تمثّل الانتماء المجمع عليه نسبيّاً لمدرسة آل البيت (عليهم السلام) ، الانتماء الذي يمثّل العقلانيّة الشيعيّة ، بأساليب حديثة ومتطوّرة وآليات استقطاب متخصّصة ، فغير موجودة عندنا بتاتاً ، فالفضائية الناجحة تلك الفضائية التي تحرّك المشاهد الزائر للبحث عنها والوصول لها بشوق واهتمام ، وتترك أثرها الواضح على ثقافته وأفكاره وسائر مفاصل حياته ..

علينا أن نتسامى فوق الانتماء الجغرافي والسياسي والاجتماعي والفردي ، علينا أن نطرح الفكر الشيعي الأصيل ، أن نكون وسيلة لعرض الدين لا أن يكون الدين وسيلة لعرض نوايانا والوصول لأهدافنا ..

إنّ هذا الفراغ الكبير في عالم اليوم ، عالم التقنية والانتقال السريع ، يجب أن يُملأ الآن قبل الغد بعد الإعداد المتكامل والبحث والدراسة والمراجعة والاستفادة من أفضل الخبرات والآراء ; لتلبية حاجة ملحّة تفرضها ضرورة نشر القيم الحقّة ، هذا النشر الذي يعدّ بحد ذاته دفاعاً عن الدين ورسالة السماء المباركة ..


بلا فصل وعنوان

لا أدري هل هو اعترافٌ أم لا موضوعيّة للاعتراف ..

ربما ألزمت نفسي بموارد كان حكمي وقراري فيها عجولاً قشريّاً ، أعني : الدعم والتأييد والانبهار والإعجاب بأشياء ساهمت فيها دغدغةُ طموحات طالما تراود القلوب والأذهان مقرونةً بتلك الأماني والأحلام التي تؤثّر جميعاً في اتّخاذ الموقف وصنع القرار ..

ربما هكذا ، وربما الذي فعلته كان فعلاً صائباً قد يغبطني أو يحسدني عليه الكثير ..

ما أعتقده : أنّي كنت ـ حيث كنت ـ في حال أقرب به إلى الدين والتقوى ; إذ مصاديق الفتنة والابتلاء كالمعدومة آنذاك قياساً إلى ما أنا عليه الآن ، ولا اُخفي تذمّري وامتعاضي من ذلك العسر الدنيوي الذي كان يؤرّقني خشية غد مجهول ، ولاسيّما أنّ التذلّل والتزلّف صفتان لا أرتضيهما لنفسي أبدا ..

نطقتُ بها أكثر من مرّة وقلت : إنّ الفضاء الحالي يتّسم بالحيويّة


والاُلفة ويبعث أملاً على التطوّر العلمي وبذل المزيد .. نطقاً ألزمتُ به ذاتي وألزمني الآخرون به ..

نعم ، شددتُ الرحال وهجرت بقعةً طاهرةً هي مهوى القلوب ومحطّ الأفئدة واُنس النفوس ، هجرةً لا أسمح أن تُترجَم جفاءً ، وكيف لي الجفاء وأنا التابع لهم سادتي ومواليّ أهل البيت الذين أذهب الله الرجس عنهم وطهّرهم تطهيرا ، فلا اُفكّر ولا أكتب ولا أنطق إلاّ بوعي الانتماء إلى مبادئهم واُصولهم التي تعني لي الدين بمفهومه الصحيح المبين ..

من الطبيعي أن اُعاني أوّل الأمر وأنا أخوض تجربةً جديدةً على نطاق أهمّ وأوسع ، اُعاني الغربة وصراع التكيّف مع الفضاء الذي يختلف كثيراً عن ذلك الفضاء المحدود البسيط ، صراعاً بمثابة إثبات وجود يمنحني الثقة بنفسي أوّلاً لأنطلق بطاقة مضاعفة ، ويمنحني شهادة ارتياح ذاتي ورضى الذين راهنوا على أدائي وإمكانيّاتي ..

ولابدّ لي أن اُشير إلى نقطة هامّة مفادها : أنّني وإن كنت أظهرتُ إعجاباً بالفضاء الحالي لكنّي لم اُعبّر عن رغبة بالانتقال ، إنّما فكرة الانتقال قد طُرِحت ابتداءً بشكل مباشر من الرأس الأساس ، ثم تابعَتَها وأصرّت عليها محاور رئيسة فيه ، ولم أكن معرضاً عنها إلاّ أنّ بعض الصعاب والموانع كانت تحول دون ذلك ، قد ساهم في تذليلها الرأس الأساس مساهمةً ملموسةً مؤثّرة ، فتوفّرت الأسباب والمقدّمات المناسبة للانتقال الذي حصل بالفعل وصار واقعاً ..


كلّ يوم اُمارس فيه عملي أزداد تجربةً ومعرفةً بالذي يجري من حولي ، وأزداد أيضاً تسلّطاً على إدارة المهامّ الملقاة على عاتقي وأكتشف أكثر فأكثر نقاط القوّة والضعف في نفسي وأسعى منهمكاً في دفع الأعمال إلى الأمام بكيفيّة وكمّيّة أفضل ، وهكذا يتواصل الجهد بين مزاولة التحقيق والكتابة وعقد الاجتماعات التي تهمّ التخصّص ، ومتابعة القضايا المختلفة ... وكنت ألزم نفسي بالحضور الدائم إلى جانب الرأس الأساس واستمرّ الحال على هذا المنوال أكثر من إثني عشر عاماً ، شعرتُ فيها بلذّة الإنتاج والحركة والحيويّة ، مقرونةً بالتنوّع والاُلفة وتحسّن الظرف على أبعاد شتّى ..

اُسجّل اعترافي : أنّ العناوين الاعتباريّة ـ في ظلّ هذا المحيط الهامّ ـ لها الأثر البارز في التفاعل والنموّ والاستمرار وترتّب الآثار ..

رغم الانهماك الكبير في فضاء العمل والإدارة والحضور الدائم إلى جانب الرأس الأساس ، لم أشعر يوماً أنّي صرت كما ينبغي أن أكون ، أي ذاك الذي كنت أتوقّعه ; فلطالما اعتقدتُ أنّي استحقّ ـ نتيجة الإخلاص والوفاء وبذل الجهد ـ أكثر من ذلك ، ولا أعني بالاستحقاق سوى الاعتباري منه ، وإلاّ فإنّي على الدوام ـ سرّاً وعلناً ـ شاكرٌ ممتنٌّ لما يجاد به عليَّ من جود وسخاء ، لذا لا أرى حاجةً كي اُذكَّر بها بين الحين والآخر ، فأنا مقرٌّ على طول الخطّ ، إلى ذلك : فإنّ المنّة لو حصلت فإنّها لا تناسب الشأن مطلقاً ، ولم يخطر ببالي أنّني أنكرت مرّةً جميل وحسن ما صُنِع معي ..


نعم ، شعوري بوجود الفاصلة وبعض التمييز لم ينقطع عن ذهني وحناياي ، وبقيت إلى الآن لم أعرف السبب ، ولعلّه يعود إلى «مشهديّة» انطلاقتي ، أو لوجود ثغرات وهفوات في أدائي واُسلوبي ، أو لبعض انتقاداتي وملاحظاتي التي تنبعث من مواقع حبّي وحرصي وإخلاصي ، ولعلّه أمر تكويني أعجز عن توفيره في نفسي ... لا أدري ..

مع كلّ هذا الشعور المقترن بنوع معاناة وآلام حافظتُ على جاهزيتي العمليّة والعلميّة ، وأعتقد أنّي قد استطعت نيل الثقة وكسب الموقع التخصّصي المرجوّ منّي في تفعيل المهامّ الملقاة على عاتقي ..

لم اُشهر سيفَ ثلاثة عقود مارستُ فيها كلّ مراحل التحقيق بكيفيّة وعشق وصبر يخبر عنها الآخرون ، مارستُ مسؤوليّات إداريّة ـ صغيرة وكبيرة ـ بداعي الخدمة وشغف الذود عن حمى علوم آل العصمة والطهارة عليهم السلام .... بقيتُ وبقي حبّ الفضاء يجري في أعماقي وعروقي ، ولا أراني لحظةً منفكّاً عنه ومنسلخاً بلا انتماء إليه ، ولاسيّما أنّه المعقل الذي علّمني الكثير وبذلت حلاوة جهدي وربيع إمكانياتي من أجل ديمومة عطائه وشموخه ....

لم اُشهر سيف المنّة ولم أتجّرأ يوماً على التفكير بها ، فكيف لي بالمنّة على فضاء ساهم مساهمةً فاعلةً في تعلّمي وتعليمي ، على فضاء أجد نفسي جزءاً لا يتجزّأ منه .... ولكن أن يُشهَر سيف المنّة بوجهي أو أن اُ تّهم وتثار بعض الشبهات بدون دليل وسند وبرهان ، بل وبدون التأ نّي


وانتظار ما تؤول له الأحوال آخر المطاف ، فإنّه شيء أمرّ عليّ من العلقم ..

وأنا في عنفوان الحيويّة والفاعليّة وإذا بجام الغضب والانتقاد يُصَبّ عليّ وكأنّ مشكلات الفضاء كلّها ـ من تعثّر الفصليّة إلى ضعف قسم الأرشيف ، وتفكّك اللجنة الإداريّة وتضاؤل الإنتاج وتراجع الشبكة ... ـ أنا السبب فيها ... آلمني ذلك فاعترضت على ثقافة ومنهج الانتقاد الذي لا يتوقّف ، الأمر الذي جوبهتُ فيه بهجوم عنيف ، لكنّي اُعرب دوماً عمّا في ثناياي عبر الكتابة حيناً أو المشافهة حيناً آخر ، وهذا يكفي ، ولاسيّما أنّ تلك الانتقادات تؤخذ كلّ مرّة أخذ المسلّمات في حضور أفواه ملكومة لا ترى بدّاً إلاّ انتخاب السكوت منفذاً للخلاص والراحة والطاعة وعدم العصيان ..

غاية حرصي أن أكون سنداً لا ذيلاً :

سنداً يذبّ عن الفضاء وتاريخه ومحاوره وعناصره التي بذلت ما عندها لنشر القيم والمبادئ الحقّة ...

سنداً يسعى للتفكير جدّيّاً بإيجاد أفضل السبل والآليات للحفاظ على بقاء الفضاء وفاعليّته وتجدّده ...

سنداً يعيش الفضاء في دمه وشرايينه ولا يرتضي التراجع والنكوص والترهّل ...

سنداً لمّا يقف على فجوة وخلل ونقص ومؤشّر سلبي يدعو إلى الوقاية والعلاج وأخذ الحيطة ، دعوةً بالقلم تارةً والمشافهة اُخرى ... وإن


كان البعض يعدّه نقداً ، سلّمنا ، إلاّ أنّ النقد البنّاء بنّاءٌ لا هدّام ، خصوصاً إن كان ضمن المعايير والاُسس العلميّة السليمة ..

أمّا الذيليّة فإنّها تعني إخراج الفكر والتفكير من دائرة الفاعليّة والإبداع ، فلا الطاعة العمياء فكرٌ ولا التمرّد المطلق فكر ، إنّه حالة بين «لا» و «نعم» ، وأ نّى لنا تصوّر الوجود الإنساني بلا فكر .. مضافاً إلى ما للذيليّة من لوازم وعواقب وتأثيرات سلبيّة يضيق المقام عن بيانها هنا ..

لكنّ حرصي هذا ربما قد تُرجِم على غير حقيقته ، وتشهد لذلك ردود الفعل التي تعبّر عن حالات رفض واستياء وغضب شديد ، وهذه الردود تجعلني أتأمّل طويلاً في ما يقال غالباً عن الإنسان الكاريزمي النوعي بكونه متفرّداً سلطويّاً يحاول بشتّى الوسائل إقناع الناس بالتخلّي عن رؤيتهم فيه ; الذي عليه بدوره الاشتغال كثيراً كي يدفع عمليّاً إشكاليّة الرغبة الذاتيّة والفرديّة والاستبداديّة التي طالما يتّصف بها ذوو الشخصيّات الخاصّة ..

إنّ التحليل العلمي يثبت أنّ الإنسان الكاريزمي يضيق ذرعاً بالنقد والاستكشال ، وإن كان لا يعبّر عن ذلك سريعاً ، إلاّ أنّ التواصل الزمني يسجّل عليه ذلك ..

إنّ هذا الإنسان يسعى جاهداً كي يزيل كلّ الموانع التي تحول بينه وبين تحقّق المطلوب ، فلو كلّفه الأمر فقدان هذا الرمز وذاك الرقم الكبير لفعل بلا تردّد ، بل أراني أعتقد أنّ إزالته الموانع الإنسانيّة وغيرها نابعةٌ من


استراتيجيّة ثابتة تفيد أنّ «حلقات الصراع» تكمن في وجود العِدْل والندّ ، وبوجود هذا العدل والندّ المزاحم لا يمكن للأهداف أن تتحقّق ، وبإزالته فلابدّ من بديل يتّصف بالمميّزات المطلوبة باعتقاده ، بديل لا يزاحم ولا يعكّر صفو الأجواء بالنقد والاستكشاف ; والمصداق معنا لا يفارقنا ، فلقد فقدنا عمليّاً وخسرنا أرقاماً هامّة ، لكن الذي كسبناه عوامل تهدئة وبؤر طاعة ، مستقبلنا مجهول بها وغير مطمئنّ معها ..

إنّ ثقافة «الإسكات» متفشّية في أروقتنا ، فالهامّ في أساليبنا ومحاوراتنا الإسكات لا الإقناع ، وهذا المنهج يمرّر عبر أدوات وآليات مختلفة ، ولا شكّ أنّ الغلبة غالباً للمسكِت لا المسكَت ، ولاسيّما إن كان الثاني صاحب حاجة ، أو كان لا يجيد خلفيّات القضايا وإدارة الحوار و ....

ومن السذاجة بمكان أن نعتقد في أنفسنا الكسب عبر ثقافة «الإسكات» ، إنّها تجارة خاسرة لا محال ، كونها لا تتجاوز حدّ القشور والرغبات ، ولا تؤسّس لمفاهيم ومعاني راسخة ، الأمر الذي تشهد له شواهد ودلائل وقرائن لا تخفى ..

إنّ «المنّة» لها رائحة حادّة شديدة في فضاءاتنا ، وحيث لا أحد ينكر الجود والسخاء والجهود والخدمات ، وإن أنكرها أو استضألها البعض فالعامّ الغالب يقرّ ويشهد بها .. لكن ما أروع الجود والسخاء والجود والخدمات إن حصلت بلا إضافات تفسدها بل تقلبها بخلاً ونكوصاً وتهاوناً ، والمنّة أبرز مصاديق الإضافات ، فـ : «زعلة العصفور على بيدر


الدخن» هذا مصطلح وشعار وحالة من عشرات الحالات التي تعبّر عن منّة واضحة .... ولا أستثني أحداً ، فالكلّ باُسلوب وآخر يستعرض منّته على الناس ، متغافلين عن مراعاة أحاسيسهم ومشاعرهم رغم كونهم أصحاب حاجة ..

أمّا الظواهر التي لا تناسب شأن المقام فإنّها قد أقضّت مضاجع المحبّين والحريصين على منزلة الفضاء ووجوده ; محتجّين بأنّ مفروض هكذا فضاءات أن تكون ذا مظاهر مسانخة علميّاً واعتباريّاً ، بفضل حضور الرموز والنخب والطاقات ، حضوراً دائماً متواصلاً ، لا فضاءات تعجّ بمن لا يناسب حضورهم شأن المقام وأهله ..

أثبتت التجربة أنّ ملاك الولاء والقربة يعتمد غالباً الاُسس الظاهريّة حكماً وفصلاً للخطاب ، أعني أنّ الحضور الفيزيائي المقرون بالفنون الببغائيّة والتزلّفيّة والتصنّميّة له السهم والصدارة في نيل الرضا وقبول الأعمال ، أمّا الحضور الذي يعتمد العمقيّات والمعرفيّات فليس له إلاّ الحظّ الأدون ..

ومخطئٌ تماماً من يعتقد أن نوع الإنسان ينسى ويسامح على كلّ شيء ولا يحتفظ في قلبه وأحاسيسه بآلام ومعاناة إزاء موقف هذا وتصرّف ذاك ، مع غضّ النظر عن الأحقّيّة وملابسات الاُمور .. وهذا أمر طبيعي ; فهو إنسان كسائر الناس له مشاعرة وعقله وكرامته .... ومهما أغمض عن هذه وتلك فالقلب والأعماق باقيان ببقاء الحياة .. إنّه مهما


علت سجاياه الخلقيّة الطيّبة يبقى يحمل في حناياه آلاماً ومواقف لابدّ وأن تظهر بشكل أو بآخر ، ومهما بلغ التسامح عنده رفعةً فإنّه يبقى محتفظاً لنفسه بحقّ الردّ على هذا وذاك في الوقت والمكان المناسبين ..

لكنّك حينما تتّخذ إنساناً نموذجاً نسبيّاً في حياتك ، وترى فيه تسامياً فوق الانتقام وتصفية الحسابات ، فلا ينتظر الفرصة واللحظة المؤاتية كي يردّ أو يكيد الكيد كيدين ، ولا يرتّب الآثار المزمنة إزاء مَن خالفوا ـ مخلصين كانوا أم مغرضين ـ أو انتقدوا .... فإن ظهر خلاف ذلك ستصاب بالألم وخيبة الأمل ..

* * *

ولابدّ من التأكيد على شهادة وقناعة مشادة بالحجّة والدليل ، مفادها : أنّ معهودنا يمتاز بصفات حميدة قلّما تتوفّر في غيره ، وأعتقد جازماً أنّه سيترك لمسات مؤثّرة تبقى امتداداتُها مباركةً نافعةً لفترة تطول على مختلف الأصعدة العلميّة والاجتماعيّة والإداريّة .. كما أنّه «الخطّ الأحمر» الذي أعتقده في فضائنا رغم حبّي وتقديري واحترامي للآخرين .. وأرفض النيل منه لأغراض دنيئة ; إذ أرى في الممارسات التحريفيّة والحذفيّة بحقّه مناهجَ مشبوهة ، الهدف منها إلحاق الضرر ليس بالفضاء فحسب ، بل بالمنظومة القيميّة والمبدأيّة برمّتها بأيّ شكل من الأشكال ..


أعود ثانيةً فأقول :

إنّنا نعاني من غموض وإبهام وضبابيّة في هيكل الفضاء الإداري ، بل النظام الحقوقي فيه يعاني من خلل ونواقص ما لا يسعها المقام .. فأنا النوعي أو الشخصي لا أعرف حدود الصلاحيّات والاختيارات الممنوحة لي ، ولا أدري هل أنا مسؤول حقّاً أم لا ، ولو سلّمنا ذلك فما العنوان الذي أحمله؟ وهل يتداخل مع عنوان غيري؟ مضافاً إلى أنّ للفضاء نظاماً داخليّاً مثبّتاً في الدوائر الرسميّة الحكوميّة ، مسجّلاً فيه أسماء المسؤولين ـ هيئة الاُمناء ـ سواء الذين هم الأصل أم الذين على البدل ... فأنا النوعي أو الشخصي غير المسجّل اسمي هناك ماذا يكون موقعي ودوري وحدودي مع كوني عمليّاً أحمل عنواناً في الفضاء؟! هذا على سبيل المثال لا الحصر .. ثم إنّ المنتسبين غير آمنين ومؤمّنين على وجودهم ومستقبلهم فيه ; إذ لا تعهّد رسمي من قبل الفضاء إزاءهم ، فكلّ شيء محتمل ووارد بحقّهم ، فهذا الذي خدم عشرين عاماً مثلاً ـ أكثر أو أقلّ ـ لا يشعر بالاطمئنان إلى بقائه مطلقاً ، فلربّ «جرّة قلم» أو «قرار شفاهي» أو نظيرهما وينتهي الأمر فيرى نفسه خارج الإطار فجأةً رغم السنين كلّها ..

لا يعرف أحدٌ بالضبط كيف ينسّق وضعه الإداري والاقتصادي في ظلّ الإبهام الموجود ، ولا يفهم دقيقاً ما عليه من واجبات وماله من حقوق ، إلى ذلك : معضلة «التأمين الاجتماعي» التي يعاني منها عدد


لا يستهان به من أفراد الفضاء ، ثم إنّ مشكلة المنتسبين الأجانب نارٌ تحت الرماد ، بل هاجت أكثر من مرّة لكنّ نفوذ الرأس الأساس أطفأ اُوارها ..

أمّا «البطالة المقنّعة» فهي الاُخرى مرضٌ ينخر ويؤسّس لحال من الترهّل والتسيّب والتراجع ..

والحديث عن البرمجة والتخطيط والإبداع حديثٌ ذو شجون ، حيث الفكرة والشعار والطرح شيء والتطبيق شيء آخر ، أعني : إنّ طاقاتنا أثبتت بالفعل لياقتها في الاُمور المشار إليها ، إلاّ أنّ فلسفة الرأس الأساس وحساباته الخاصّة قيّدت الكثير من ابتكاراتهم ، بل خيّبت آمالهم وأحبطت تطلّعاتهم ، ولا سيّما حينما وجدوا أنّ أفكارهم ذاتها قد لقيت فيما بعد الترحاب كونها صدرت من أسماء معروفة ومشهورة ..

فعلى سبيل المثال لا الحصر : طُرِحت أفكارٌ تخفي وراءها دراسات وتصوّرات لمشاريع هامّة ، لكنّها اُهملت ولم تلق الاهتمام المناسب ، فهناك مقترح مشاريع مركز الدراسات الاستراتيجيّة ، مكتبة العلوم الأكاديميّة ، فضائيّة تقوم على نسق حديث واُسلوب عصري في بيان المبادئ والقيم ، شبكة الوكلاء والمبلّغين ، نتاج المرجعيّة العلمي الثقافي ، مركز رعاية الطاقات والمواهب ، المركز الإعلامي ... قد اُهملت لكنّها أو بعضها عُرضت فيما بعد بشكل أو بآخر كمقترح تقدّم به آخرون ، فلاقت القبول والرضا!!

أستبعدُ أن لا يعلم الرأس الأساس بما يدور في مختلف الأروقة من


تناقل لما يجري داخل الفضاء من قضايا واُمور ، سواء كان التناقل صادقاً أم كاذباً أم مبالغاً فيه ، وأنا الذي قد اُعدّ واحداً من الحلقة الأقرب ـ هذا إذا كانت الظروف جيّدة بلا برود في العلاقات كما أعتقد ـ قد اُخبرت بمجمل موارد ومسائل من خارج إلاطار ، العديد منها كان صحيحاً ، والعديد منها كان مبالغاً فيه ، والعديد منها كان كذباً .. والذي يدهش المرء أنّ بعض المعلومات الخاصّة والدقيقة كيف تسرّبت وفشى أمرها ، وليس بخاف على أحد استمرار اللغط والهمس والحديث داخل الإطار عمّا يحصل من أفعال وتصرّفات وظواهر ، بل إنّ المتابعة العجيبة لمجريات الاُمور غدت الشغل الشاغل لكثيرين ، سواء منهم المنضوين أو غيرهم ....

أستبعدُ أن لا يعلم بكلّ هذا ـ بل الأكثر منه ـ أو يعلم به ويغضّ النظر عنه ، لكونه شيئاً طبيعيّاً يحدث في كلّ فضاء بهذه الوسعة والحجم ... لكنّنا نعيش بين الناس وعلينا أن نفهم تصوّراتهم وأراءهم فينا ، وصاحب الحاجة ليس ملاكاً وميزاناً .... تجب مراجعة أساليبنا خصوصاً في ظلّ الظروف الراهنة والعنوان الكبير الذي بات يضمّنا وننضوي تحته .. الذي في ذهني أنّه حسّاس من بعض التسريبات التي يعتقد بحصولها من مقرّبيه ، لكنّه في نفس الوقت يصرّح بأن «لا أسرار عندنا نخفيها» وقوله الأخير أرفضه بمعنىً ; فكلّ إنسان وكيان ، لديه أسراره وخفاياه ..

علينا أن نفكّر مليّاً ، والمرء يأخذ بعين النظر أسوأ الاحتمالات غالباً ، فماذا لو زال العنوان الذي نكتنف بظلّه حاليّاً؟ وبقينا في الساحة وحدنا كما كنّا سابقاً ، فهل ينفعنا ما نقوم به الآن من نشاط لتأمين


المستقبل؟ وهل المستقبل منحصرٌ بما ننشط به فعليّاً أم نحتاج أيضاً قلوب الناس والرموز والأرقام الشاخصة من نخب وطاقات ومختصّين يكونون على استعداد لقبولنا والتحاور والعمل معنا والاستمرار في ذلك ، رغم افتقادنا آنذاك العنوان الذي نحيا في ظلّه حالياً .. هل ينسون غرورنا وتمنّنا وتعالينا وإسرافنا النسبي في اُمور دنيانا ومظاهرنا التي يصعب علينا الانفكاك عنها؟ هل ينسون ذلك رغم كلّ ما بذله الفضاء ورأسه من خدمات وجهود على أصعدة شتّى؟ فـ : «من أين لك هذا؟» سوطٌ يسلّط علينا عاجلاً أم آجلاً ، بالحقّ أو الباطل ، سوطٌ يقضّ المضاجع ويؤرّق الأجفان ويسلب الوسن ويخطف الصحّة والأمان ..

إن كانت مصلحة الفضاء لا تهمّ الكثيرين حتى الذين ينتمون إليه ناهيك عن غيرهم ، فإنّها تهمّنا ، كيف لا؟! وقد بذلنا حشاشة العمر وربيع السنين وكلّ الجهد والسعي كي يزداد علوّاً وشموخاً ، لذا أرى أنّ الذود عن الفضاء ـ رغم الموارد الانتقاديّة السابقة والتالية ـ أولويّة عمليّة لا راجح عليها ; فدعمه وإسناده دعمٌ وإسنادٌ للعلم والمعرفة ، دعمٌ وإسنادٌ للقيم والمبادئ الحقّة التي نؤمن بها وتمثّل وجودنا وهويّتنا ..

سؤال كبير : ماذا لو لم يكن الرأس الأساس موجوداً؟ ما عسانا فاعلين؟

الجواب : تخبطّ وتزلزل وتفكّك وتحلّل وسقوط رهيب ، تجربة عايشناها لأكثر من مرّة ، فمجرّد غياب بسيط له عن مسرح الأحداث


ـ لمرض وغيره ـ نلمس الموارد المشار إليها بكلّ وضوح وجلاء ..

أعتقد أنّ السؤال موجّه إليه أوّلاً ; إذ يجب عليه صنع البديل الذي يأخذ على عاتقه تولّي الاُمور لو حصل السؤال المتقدّم ، وصنع البديل ليس وليد ساعة ويوم ، بل نتاج سعي وجهد حثيث يستغرق أعواماً من التربية والتنشئة والصقل والتجربة النظريّة والميدانيّة .... أمّا ادّعاء صنع البديل فهذا ما لا يقنع بسطاء الناس فضلاً عن العقلاء وذوي الرأي منهم .. لذا لابدّ من صناعة حقيقيّة للبديل تستند إلى المعايير والمناهج السليمة ، هذا إن أراد حفظ الموجود ، ولا شكّ أنّه يريد ، لكنّ الإرادة ذات تفاصيل ، نختلف معه في بعضها ونتّفق في البعض الآخر ..

مشكلتنا أنّنا نحيا غالباً بلا فضاء فكري منفتح ، إنّ تجربة عقود من العمل والتواصل جعلتني على هذا الرأي ، فكلّ الأفكار والجهود والتصوّرات والممارسات لابدّ من تكييفها وعجنها بأفكار وجهود وتصوّرات وممارسات الرأس الأساس ، فهو الحاكم المطلق هنا بلا شكّ ، وأفكاره وممارساته وأحكامه هي النافذة السارية .. ولكن ليس الأمر كما قد يتصوّره البعض من خنق واستبداد وتسلّط مخيف .. بناء هذا الرأي جاء على ضوء الحصيلة والنتائج ، أي أنّنا لابدّ أن نصهر أفكارنا ورؤانا في بوتقة فكره ورؤاه إلاّ ما شذّ وندر!

ولعلّ الأحرى به ـ وإن كان الأمر ليس بالهيّن ـ أن يسمح لنشاط من


الحركة الفكريّة والنقديّة يستفاد منها في ترسيخ أعمدة الفضاء وقواعده ..

وكنت قد ذكرت في مقال أنّنا نواجه «ظاهرة ظلّ العصمة» ـ بتفاوت الصياغة ووحدة المحتوى ـ التي تمارس عندنا ممارسة عمليّة واضحة .. وزهاء عقود قضيتها هنا لم يخطر ببالي تراجعاً واحداً ـ سواء شهدته أنا أم حُكي لي ـ أو اعترافاً بخطأ اُقِرّ به صريحاً أو الذي دونه ، ولا قيمة لقولنا : نحن بشر والبشر خطّاءُون .... ما لم نكن شفّافين في بيان أخطائنا بالتعيين لا بالعناوين الكلّيّة ..

أمّا قبول الانتقاد قبولاً عمليّاً فهذا أيضاً عزيز التحقّق عندنا ..

إنّنا أشبه ما نكون في حالة استلاب واستحلاب ، إذ نجوّز لذواتنا

ـ شعوريّاً أو لا شعوريّاً ـ ما يختصّ بالمعصوم عليه السلام من خيارات وصلاحيّات ، فنعمل بالقياس وننظّر لبطلانه ..

أمّا التأكيدات مراراً على منهج الجذب والاستقطاب ورفض منهج الطرد والإبعاد ، فقد وجدتها موفّقةً في موارد ومخفقةً في اُخرى :

موفّقةً على الغالب في استقطاب وجذب الخامات الشابّة الطامحة إلى النموّ والتطوّر الميداني التخصّصي والاعتباري وربما المالي أيضاً ..

مخفقةً في هجرة الكثير من الطاقات والشخصيّات ، سواء كانت هجرة عمليّة فعليّة بما فيها البعد المكاني والانتمائي ، أو بقيت ضمن الإطار لكنّها تمارس وجوداً وحضوراً رمزيّاً صوريّاً ; ولعلّ ذلك يعود إلى نسق إدارة الحلقات الرامي إلى تعبيد الطريق من أجل بلوغ الأهداف


والمقاصد .. والملفت للنظر أنّ كلّ الذين غادروا الكيان لم يرجعوا إليه مطلقاً إلاّ النادر الذي لا يُحسب له حسابٌ خاص ..

ولعلّ الخافي على الكثيرين حالة بقاء الأفراد ـ حتى الهيكل الإداري ـ بحاجة ما على الدوام ، مفتقرين في شتّى الشؤون ، فيظلّ الفرد يعدو ويلهث ويطلب ويسأل ويتابع كي يحصل على المطلوب .. ولا شكّ أنّها حالة غير رسميّة ولا معلنة ، لكنّ التفحّص والتأمّل كافيان في فهم ذلك .. إنّك تبقى في دوّامة ذلّ السؤال ، وللسؤال هذا آثارٌ ولوازم يسهل على البعض تحمّلها ويعسر على آخرين ..

إنّ النفوذ الكبير والعلاقات المترامية وسياسة حفظ التوازنات شكّلت شاخصاً بارزاً ومنعطفاً هامّاً في تاريخ الفضاء الذي كان يعاني الأخطار والتهديدات أوائل تأسيسه ، إلى ذلك : تأسيس المراكز والمعاهد العلميّة والخدميّة والاجتماعيّة ، قد منحته محوريّةً ووجوداً شاهقاً .. ولا ريب أنّ جهوده ومساعيه عملاقة لا تنكر .... إلاّ أنّها تصبّ في صالحه نهاية المطاف غالباً ; إذ تخفّف عنه وطأة الضغط السياسي والقانوني والحقوقي والاجتماعي ، وتجعل يده مفتوحةً في السير قدماً بتنفيذ خططه ومشاريعه ..

ولعلّ معاناة المنتسبين الناشئة من المعاشات والمرتّبات المتواضعة والإمكانيّات الحقوقيّة المحدودة لا تجد انفراجاً قانونيّاً في بعض الأحيان ; آملين تحقّقه تدريجيّاً ..


إنّ الرأس الأساس يحسب لكلّ شيء حسابه الخاصّ ، أفراداً كانوا أو جماعات وكيانات وانتماءات وغيرها ، فهو يفهم كيف يغور في ذات الفرد أو الجماعة ، تارةً بإيجاد الفرص الاقتصاديّة واُخرى بإيجاد الفرص الاعتباريّة ، وهكذا ..

إنّ انفعالاته على نحوين : إحداهما : صوريّة مفتعلة لتفعيل وتمشية الكثير من الاُمور .. واُخرى : حقيقيّة ناشئة من شدّة الضغط والإجهاد والإرهاق المتواصل ، ولربما من بعض المواقف والنقاشات الحادّة مع من يهتمّ بمنزلتهم ومكانتهم ..

إلى ذلك : فإنّه ينصّب فلاناً وفلاناً دروعاً تقيه الإحراجات وتمتصّ النقم وتكون واجهةً لصرف وردّ هذا الطلب وذاك ... والغريب أحياناً أنّ هذه الدروع إذ تعمل بوظائفها المنوطة بها تجد أنفسها فريدةً مغضوباً عليها بفعل قبوله تلك الطلبات فيما بعد ، وإن جابهوه بالعتب الخفيف على ما صنع يقول : عليكم تعلّم الآلية واُسلوب التعامل مع الناس ..

لا شكّ أنّه يبغض الفقر ويميل إلى الترافة واليسر ويبذل ويجود ويقيم الموائد ، ومجالس ضيافته منعقدة على طول الخطّ لا تنقطع ، بل يفتعل أحياناً الضيافة على شرف هذا أو ذاك ; لعشقه «الگعدة» حيث تخفّف عنه شدّة التعب والتوتّر العصبي ; ولاسيّما أنّه نموذج لا يعرف التوقّف والسكون ، حركة دائمة وحيويّة نابضة بلا كلل وملل ، ولقد أتعب من حوله شبّاناً وشيباً بقدرته الفائقة على النشاط والفاعليّة .. من ذلك


باتت «الگعدة» حاجةً وضرورةً كي يستريح قليلاً ..

إنّ المتابع يدرك جيّداً اُفول نجم المؤسّسة التي سطع نجمها وشمخت منزلتها وذاع صيتها التخصّصي حتى غدت الرائد والنموذج الذي يشار له بالبنان ، تراها اليوم تقتات على مفاخر الأمس وحصاد الماضي ، فهي الآن كسائر النظائر في مضمارها بلا ميزة وتفوّق مشهود ، وهو يعتقد أنّ المؤسّسة يجب أن تعطي الآن نتاجاً أفضل وأكثر ; نتيجة الظروف المتاحة حالياً وزوال الموانع والحواجز التي كانت تعترضها في أعوامها الاُولى ..

لكنّنا نقول : إنّ المؤسّسة وبسبب الظروف الحالية قد فقدت فاعليّتها وحيويّتها العلميّة ; إذ تحوّلت إلى المعقل الرئيس للمرجعيّة هنا ، وفي ذلك ضريبة كبرى وتضحيات جسام ; حيث بات الناس يرون فيها «بيت المرجعيّة» والكلّ يعلم ما لهذا العنوان من تبعات ولوازم ألقت بظلالها على فضاء المؤسّسة التحقيقي ..

ومن الأمثلة البسيطة على ذلك : هرعُ الكثيرين من كلّ حدب وصوب ليجدوا مكاناً لهم فيها تأميناً للاعتبار والمستقبل ، هرعٌ مدعومٌ على الغالب بتعريف فلان وفلان الذين لا يُردّ لهم طلب ; لمقتضيات الحال والمقام والعنوان ، ثم نشوء الوضع الجديد ..

ومنها : ابتعاده عن فضاء المؤسّسة التحقيقي ابتعاداً كاملاً بعد ما كان المحرّك واللولب الأساس في دفع الأعمال وإيصالها إلى مرحلة النتاج


والعطاء .. بل سحب معه أيضاً طاقات المؤسّسة ومحاورها وصارت مجرّد عنوان انتماء ـ غير فاعل ـ لوجودها التحقيقي ليس إلاّ ..

منها : إنّ الصبر والتحمّل والمعاناة التي عاشها أفراد المؤسّسة في تلك الأيّام الحوالك كانوا ينتظرون بعدها انفراجاً وتغيّراً نحو الأفضل اقتصاديّاً ، لكنّهم شعروا بخيبة أمل بعد التغيّر المعهود ; إذ لازالوا يجدون أنفسهم في وضع لا يُحسَدون عليه ـ ولاسيّما حينما يرون باُمّ أعينهم اُناساً لم يتجاوزوا سنين قلائل على انتمائهم للفضاء وإذا بهم شادوا وعمّروا وتموّلوا ، اُناساً غير ذوي تخصّص ، لكنّهم بحكم القرب الفيزيائي حصلوا على ما حصلوا .. بل يرون «المؤلّفة قلوبهم» يسرحون ويمرحون بالخير والنعمة ـ الأمر الذي تسبّب في هجرة العديد من النخب والكوادر ، أمّا الباقون فمنهم من جعل أعمال المؤسّسة في الدرجة الثانية والثالثة على سلّم أولويّاته ، ومنهم من جعل الحضور والتواجد الرمزي كافياً في الإبقاء على شعرة معاوية ، وهناك من بقي على الجدّ والمثابرة ولكنّ في قلبه شيء .. أمّا المنتفعون فهم في عيشة راضية ..

منها : أنّ البعض يرى في استراتيجيّة الرأس الأساس مجموعة سلالم ومراحل لبلوغ المقاصد ، وما كانت المؤسّسة سوى ذراعاً وجسراً لتلك المقاصد ، وبتحقّقها فقدت المؤسّسة بريقها وعنفوانها ، رغم تصريحه كراراً : إنّ المؤسّسة وليدي وثمرة جهدي وخلاصة أتعابي .. ولا يراه ذلك البعضُ يعتصر ألماً لو يُغلَق فرعٌ من فروع المؤسّسة هنا أو هناك ; إذ وقع المطلوب وتحقّق المراد ..


لذا عاد التباكي على المؤسّسة وماضيها وتاريخها المشرّف أمراً هامشيّاً ـ ولازال الرأي رأي البعض ـ فاليوم له شأنه ، وشأن اليوم مختصٌّ بالانهماك في تأسيس هذا المركز وتلك الخليّة ، خصوصاً تشييد المعاقل التي تُردّ بها أحاجيج المعترضين على نهج المرجعيّة وعقليّتها في أنّها لا تواكب الازدهار والتطوّر التقني العلمي الحديث ..

شأن اليوم مختصٌّ بمتابعة احتياجات الناس وانتظاراتهم من المرجعيّة العليا ، من سفرات تفقّديّة إلى توسعة علاقات وارتباطات ، إلى مراقبة الأحداث والأوضاع عن كثب ، دراسة المشاريع الجديدة ، قضايا الوكالات والوكلاء ، شهريّة الحوزات العلميّة ، تمويل المشاريع المختلفة وتأمين مستقبلها ، إدارة الأعمال والاُمور المختلفة ، بعثة الحجّ التي أخذ بريقها بالاُفول عاماً بعد آخر ، بعد افتقاد الشخصيّات الكبيرة التي كانت تضمّها ; لأيّ سبب كان ، سواء للشيخوخة أو المرض أو الزعل أو غيرها ..

إذن ما عادت المؤسّسة تمثّل حاجةً وضرورة ، أعني المؤسّسة بمحتواها العلمي التحقيقي ، وإلاّ فهي الآن وعاء المرجعيّة الأساس وظرفها الارتكازي .. نعم ، متابعات تلقائيّة قد تكون في السنة مرّة واحدة ، وقد تكون إثر تحريك هذا وتهييج ذاك .. متابعات لا أراها تسمن أو تغني من جوع وضمأ ..

وإن عاد يهتمّ في الآونة الأخيرة لأمر يخصّ المؤسّسة فهذا الاهتمام ناشئ أحياناً من موضوع له ارتباط وثيق بالظرف الجديد الذي فرضه واقع


المرجعيّة ، ولاسيّما قضيّة العمل على تخفيف وطأة الصراعات الطائفيّة ، الأمر الذي ترك أثره العلمي الثقافي على نوعيّة أعمال المؤسّسة من حيث المحتوى والمضمون ، حيث بدأ برفض أو تغيير كلّ مشروع يثير الحسّاسيّات المذهّبيّة ، على الرغم من كونه اُسلوباً قد لا يتّفق معه عقيدةً ومبنىً ..

إنّ جريان الاُمور على هذا المنوال يشعرني بعدم أهمّيّة وجودي النوعي والشخصي بمختلف عناوينه ، ليس شعوراً فحسب ، بل واقعاً تتجسّد مصاديقه ومفرداته باستمرار .. انطلاقاً من ذلك يمّمت جناحي صوب الكتابة ، الكتابة التي أعشقها منذ صغري وأجد فيها متنفّسي وراحتي واُفقاً تحلّق فيه رؤاي الفكرية والعلميّة والثقافيّة ، دون أن أنفكّ عن المؤسّسة مطلقاً ، إلاّ إذا همّت هي بفكّ علقتي بها ; إنّها المعلّم والملاذ لي ، ولن أنسى جميلها أبد ما حييت ..

ثم إنّي أرى «تحقيق النصوص» معبراً ومنصّة انطلاق نحو الفضاءات الفكريّة الرحبة ، فلم يكن التحقيق يوماً من الأيّام غاية آمالي وطموحاتي ، وإنّما جعلته الذراع التي أمتدّ بها وبغيرها إلى مساحات الأهداف والمقاصد المرسومة على صفحات الذهن والقلب ..

ولابدّ لي أن اُشير إلى مرتكز ذهني وقلبي ، إلى علقة تمازج العقل والمشاعر ، الحنايا والفكر ، في سبكها وصياغتها ، طيلة الأعوام التي أمضيتها في هذا الفضاء المبارك ... مرتكز قناعة وحبّ ووفاء وحرص ;


اُدوّن ما في أعماقي بكلّ صدق ورسوخ ، رغم الجفاء الذي ألمسه بين الحين والحين الذي اُفسّره بعض الأحيان بـ «أزمة ثقة» ، نتيجة بعض القرائن والشواهد التي لا ترقى إلى مستوى الدليل ، سواء من جانبي أو من جانب الرأس الأساس ..

أساس ما يهمّنا هنا هي القضايا الاعتباريّة والعلميّة والتخصّصيّة ، فلقد واكبنا المسير وبذلنا الجهد في أحلك الظروف وأصعب الأوضاع ، لذا نحن لم نأت لنثرى ، ولم نبق لنتخم ، نواصل لأنّ العقل والقلب اشتركا في صياغة قناعة راسخة نشأت إثر انسجام الأهداف والقيم ; لذا نعمل كي ترقى المفاهيم الحقّة ، رقيّاً أعني به : الممارسة الواعية لمبادئ الدين الحنيف ، التي تمثّل تربية الإنسان تربيةً سليمةً تأخذ به إلى مراتب الخير والفلاح ..

رغم الملاحظات والإشكاليّات والاعتراضات التي تثار علينا بسبب بعض الأساليب والمظاهر والأفعال ; حيث صار كلّ شيء تحت المجهر وخاضعاً للمراقبة والتحليل والاستنتاج بما في ذلك عمليّات الإضافة والحذف والتحريف والتضخيم ، لكنّنا نظلّ في كثير من الأحيان لا نبالي ولا نعير للرأي والشعور العامّ أيّة أهمّيّة تذكر ، ولكلّ فعل ردّ فعل معاكس في الاتّجاه مساو له في القوّة ، هذا على ضوء الموازين الطبيعيّة ، وغير مساو في القوّة ـ بل أشدّ أحياناً ـ في ظل الظروف غير الطبيعيّة ، وأعتقد أنّ ظرفنا ـ نظراً لعدّة اعتبارات واُمور ـ غير طبيعي ، لذا بات الاحتياط والحذر مقوّماً أساسيّاً في البقاء والمواصلة والنموّ لفضاء كيف كان وكيف


عانى الصعاب والمضايقات ، وكيف غدا بفعل العناوين الجديدة التي أضافت إلى سجلّه قائمةً طويلةً من الانتظارات ، ممّا يعني مزيداً من الاستحقاقات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، شئنا ذاك أم أبينا ..

إنّنا بحاجة دائمة إلى المراجعة والتقويم والمقارنة والتحليل والاستقراء والبحث كي نبقى على تواصل حيّ مع القيم والمجتمع ونتطلّع إلى مستقبل أفضل يجعلنا دوماً في عمق الحدث والوجود العلمي المعرفي والديني ، وإلاّ لضاع اسمنا ورسمنا ولفظتنا الأحداث كما لفظت غيرنا ..

أشدّ ما نخشاه هذا الضمور والاُفول والاضمحلال على مستوى الحركة والنشاط والفاعليّة رغم بقاء ورسوخ القناعة والحب ، فلقد خَفَتَ الوهج وبَهُتَ لون الحيوية ، فنسأل الله تبارك وتعالى ـ الذي نستمدّ منه العون ـ أن يعيد الاُمور كما كانت عليه ، وهذا ما يتطلّب منّا جميعاً توفير أجواء تزيل الشبهات والأزمات وتبدّد الأوهام وتؤسّس من جديد لقاعدة متينة قائمة على الثقة والصراحة ..

رغم ما يختلج في القلب والأعماق من آلام ومعاناة أعتقد جازماً أنّ التخلّي عن الفضاء خيانةٌ وخذلانٌ وتصرّفٌ غير أخلاقي لا ينسجم مع قناعاتي وأحاسيسي ; غير مكترث سابقاً ولاحقاً بالعروض والإغراءات ..

وقد يدغدغ أفكاري بين الحين والآخر حنين العودة إلى ربوع طوس وروضتها الطاهرة وأيام قضت وذكريات طيّبة ، لكنّ العواطف


والأحاسيس شيءٌ والواقع بلوازمه العقليّة والمنطقيّة شيءٌ آخر ، ولا أعلم ماذا يضمر لنا الغد من أحداث ومتغيّرات ومفاجآت ..

لابدّ من صياغة منهج ونسق يتناسب مع حاجة اليوم ويلبّي متطلّبات الغد ، والهامّ فيه أن يكون شاملاً متكاملاً واضحاً لا إبهام ولا لبس فيه ، كلّ جهة وفرد يدرك تماماً ما له وما عليه من حقوق وواجبات واختيارات وصلاحيّات ، منهج يعتمد الاُسس والمعايير المتعارفة عندنا والتي لا تتنافى مع الشرع والقانون ، وبذلك يمكن له أن يكون برنامجاً عمليّاً واقعيّاً ..

إنّ المفهوم الكاريزمي الحاكم ربما جعل من تفعيل هذه الفكرة أمراً صعباً أحياناً ; كونها تفتقر مزيداً من البحوث والمناقشات التي تعالج الأوضاع والنواقص والاحتياجات في حال أكثر انفتاح وحرّيّة ; فلكي تجد النتائج تفهّماً وقبولاً عمليّاً لابدّ لها من المرور عبر الفيلتر الكاريزمي ذي الكلمة الفصل ، صاحب القدرة والنفوذ الهائلين ، وقد أثبتت التجربة تعثّر وتكسّر العديد من المقترحات والآراء إثر استشكال ورفض الرأس الأساس لها ، ولابدّ أن نعترف أنّ بعض الدراسات والاقتراحات التي قُدّمت كان ينقصها الدقّة والواقعيّة .. والبعض الآخر يلبّي حاجات الأفراد أكثر من حاجة الفضاء ..

والمقصود بالمنهج والنسق ما يعمّ الحقوق والواجبات والمشاريع العلميّة والتخصّصيّة ، منهج يتكفّل نظاماً شاملاً متكاملاً يلحظ الظرف الراهن وحاجة المستقبل ..


هذا على فرض وجود الإرادة والعزم والإصرار على جعل وإبقاء الفضاء حيّاً فاعلاً في الميادين العلميّة والتخصّصيّة ، وإلاّ فالقضيّة كالسالبة بانتفاء الموضوع ..

وممّا يثير الشجون والأحزان ويعتصر منه القلب والوجدان بألم ومرارة ونيران خفوتُ وهج وبريق ذلك الحسّ المعنوي الذي نحسبه من مزايا وشواخص فضائنا ، وحينما نعرّف ونكتب ونقول ترانا نعتزّ بمزيّتنا في هذا المضمار .. نعم ، لقد كان الغالب التلاحم والمحبّة ، والآصرةُ التي تربط الجميع وتشدّهم وتزيد من الحماس والشوق والرغبة فيهم هي وحدة الهدف وقدسيّته ; أمّا المساهمة في نشر علوم أهل البيت عليهم السلام فهي الباعث والمحرّك والصانع لهذه الآصرة رغم الأوضاع الاقتصاديّة السيّئة نسبيّاً التي كانت سائدة آنذاك ..

حينما تحسّنت الأوضاع ولاسيّما الاقتصاديّة منها ـ بفضل التحوّلات المعروفة ـ ظهرت مسارات عدّة :

منها : انفتاح سلّة الانتظارات المعلّقة سنين طوال ; إذ صار الكلّ يترقّب تغييرات أساسيّة نحو الأفضل ، إلاّ أنّ النتائج ـ لحدّ الآن ـ كانت مخيّبةً لآمال غالب المنتسبين ..

منها : توافد الكثيرين للانضمام أملاً بالحصول على مزايا بفعل الواقع الجديد ..

منها : حيطة وحذر العديد من الأصدقاء والأعضاء بفعل الواقع


الجديد لئلاّ ينالهم الخدش اعتباريّاً ..

وقد أشرنا خاطفاً إلى التضحيات والخسائر التي منينا بها بفعل الواقع الجديد ولاسيّما على الصعيد العلمي والتخصّصي ..

نتيجة الأوضاع المشار إليها اختلط الفضاء بالمثبت والسالب ، فترشّحت أنفاس بعضها لا يشبه الآخر ، الأمر الذي أدّى إلى حدوث جوٍّ من التزلزل وعدم الرضا تظهر آثاره بين الحين والآخر ..

ولا ننسى أنّ المحاور المخلصة والطاقات الوفيّة بقيت على ما هي عليه ، ولكنّ هناك من يعيش التردّد ، وثالث من هو موجود لنيل مكسب وآخر .... إلى ذلك : لمّا يرى الكلّ بعين الحيرة والعجب كيف رقى هذا واُتخم ذاك وعلا ثالث وهكذا ، بينا هم ـ قدماء الأصحاب والرعيل الأوّل الذي عايش الصعاب وكابد ـ يراوحون في أماكنهم ..

ولعلّ الأمر يهون إزاء خشية تفشّي أجواء الوشاية والسعاية بين أرقى الحلقات ، «خشيةٌ» لها ما يبرّرها من المؤشّرات والقرائن التي لم ترق بعد إلى مستوى الدليل ، وعساها لا ترقى إليه ، وإلاّ فالخراب آت لا محالة .. يجب أن نبقى كما كنّا قلباً وعقلاً واحداً ، كلاًّ منّا سنداً للآخر بعيداً عن المطامح الشخصيّة والاغراءات الدنيويّة ، فالحذف والنفي والتحريف أشياء أجنبيّة عنّا ، فلا ندع لنزغ الشيطان منفذاً إلى عقولنا وقلوبنا ... فكما أعتقده : إنّنا في فضاء عُقدت عليه آمالٌ عريضةٌ للارتقاء بالقيم والمبادئ الحقّة مُرتقىً رفيعاً .. فلا نخيّب الظنّ بنا بفعل أهوائنا


ورغباتنا التي تزيّنها أحياناً فرص الظهور والمظاهر التي لن تدوم ; إذ كلّ شيء إلى فناء ، ولن يبقى إلاّ وجه الله ذوالجلال والإكرام ..

استهلكتُ وقتاً اُراجع واُحلّل واُقارن وأستقرئ وأقرأ فيه مواقف وأحداث وأساليب حصلت ، استنتجت منها : أنّ كلّ شيء هنا بثمن ، فثمن الولاء غال جدّاً ; إذ لابدّ من اختيار السكوت ، وحذف النقد ، والحضور الفيزيائي الدائم ، والطاعة التعبديّة ... آنذاك سيل المكاسب ينهال ... ذلك لمن لا يهتمّون كثيراً لأمر الشخصيّة وبنائها على أساس من العزّ والكرامة ..

والمسألة قد تبدو طبيعيّة في ظلّ فضاء يعجّ بقيادة الفرد المطلقة ، بقيادة كاريزميّة لا تسمح لأيّة محاولة قد تسعى ـ بأيّ شكل من الأشكال ـ للبزّ والغمز والخدش ، بل حتى وإن كانت محاولات بنيّة الخير والحبّ والنقد البنّاء ; دفعاً للفوضى وتدعيها للاستقرار ..

لا شكّ أنّ الأكثريّة تنساق وراء الاستجابة والخضوع للواقع الموجود ، ولاسيّما أنّه واقعٌ متسلّحٌ بغطاء وحماية الشرعيّة الدينيّة ومدعوم بقدرات هائلة على أصعدة شتّى ، وممارسات عمليّة على أرض الحقيقة تشير إلى نشاط وفاعليّة وبناء لا يمكن تجاوزها ومجابهتها ..

أمّا الذي ينطلق من زوايا اُخرى فإنّه يرى خللاً وفجوات لابدّ من معالجتها في ظلّ قيم ومبادئ وأخلاق وأحكام وأدلّة مغروسة في عمقنا العلمي والمعرفي والثقافي والاجتماعي ..

إنّنا نسعى ـ في إطار فكر ينشد التكامليّة الموسوم بها ديننا وانتماؤنا


الذي نعتقد أنّه الحقّ الصحيح ـ إلى إيجاد فرص الحوار البنّاء المرتكز على المعايير والضوابط المنطقيّة السليمة ، إلى فضاء يمتلئ بالحيويّة الحقيقيّة التي تعني المشاركة الواقعيّة في البحث والصياغة والممارسة ; بجعل مقولة «تلاقح الأفكار» أمراً عمليّاً صادقاً لا شعاراً طوباويّاً محفوراً على أروقة الأحلام والمثاليّة العقيمة ..

إنّنا حينما نمنح الأخصّائي والخبير والفنّان والعالم ... الإجلال والإكرام ، حتى في حال السكون والصمت ، إنّما نمنح العلم والثقافة والمعرفة والموهبة والتخصّص والخبرة ذلك الإجلال والإكرام ، وإلاّ فإنّ الجهد العضلي والبدني الذي يبذله عامل المنجم والبناء ونظائرهما أكثر بكثير من جهد المشار إليهم أعلاه مع احترامنا لكلّ الناس وطبقات المجتمع .... فالفكر والعقل والنتاج الذهني راجحٌ على النتاج الآخر .... إنّ محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله تمكّن من تغيير واقع ونهج ومصير اُمم بكاملها من خلال الفكر والعقل والثقافة ، وتدّعي النهضة الغربية أنّها مدينة لفرانسيس بيكون إثر مجموعة فصول كتبها بعنوان «الاُرجانون الجديد» استطاعت أن تغيّر وجة الغرب تغييراً أساسيّاً .. إنّنا إذن بحاجة كي نكرّم فينا العقل والفكر والمعرفة دون أن نتناسى سائر الجهود المبذولة ..

كيف يمكن الجمع بين «الشفّافيّة» و «حفظ التوازنات»؟ طرح هذا السؤال ينطلق من كون الرأس الأساس يمتاز في الأوساط المختلفة ببذل أقصى الجهد وغاية السعي لحفظ التوازنات والبقاء على مسافة واحدة من


جميع الانتماءات والتيّارات والتوجّهات مع الحفاظ على الاُصول والثوابت .. كما يمتاز بالشفّافيّة في بيان الآراء والانتقادات والأفكار .. ولقد كان هذا الواقع مقبولاً معروفاً لدى الغالب من هذه الأطراف ; إذ يحملون النقد منه والاعتراض محل الحبّ والحرص .... إلاّ أنّ بعض الأحداث جعلت أحد طرفي المعادلة يعلن انزعاجه من ميله الواضح إلى الطرف الآخر ، مخالفاً ـ كما يرى ـ قاعدة البقاء على مسافة واحدة من الجميع ، مضافاً إلى أنّ حسّاسيّة والتهاب الأوضاع الراهنة بشكل استثنائي وامتلاك الطرف المنزعج لزمام الاُمور ـ رغم علاقات الرأس الأساس الواسعة والنفوذ القوي والاحتماء بالمرجعيّة القويّة ـ تجعل الاُمور أكثر تعقيداً ..

إنّ «حفظ التوازنات» صعب مرير مع البقاء على «الشفافيّة» ، فقد تمرّ القضايا بأمن وسلام في تلك المرحلة وتلك إلاّ أنّ في البين مراحل لا يمكن تجاوزها بسهولة ، فالأمر إذا استدعى سقوط رؤوس لم نكن نحتمل حتى فرض سقوطها نظراً لذاتيّة وجودها ضمن المعادلة الحالية ، فكيف بمن سواها؟!

إنّ نظرتنا التي نتحرّك بها هي على ضوء ظواهر الأرقام والشواخص وما غاب عنّا لا يخضع لتحليل العقل والمنطق .. ولقد شهدت العقود الماضية أحداثاً ومواقف تجاه الأطراف والشخصيّات المختلفة سواء على مستوى الانتماءات الموالية أو المخالفة وغيرها ، تستدعي التأمّل والتدبّر كثيراً ، ولاسيّما مع حضور الراديكاليّة في كلّ مكان وزمان ..


فقد يصبر هذا وذاك على النقد والاعتراض مرّة أو مرّتين في الظروف العادية ، لكنّه لا يتحمّل ذلك إذا تكرّر ، خصوصاً في ظروف كالتي نشهدها حالياً ..

من جانب آخر فإنّ «حفظ التوازنات» قد يستدعي السكوت عن أشياء تخالف القناعة الذاتيّة وربما الاُصول والثوابت ، من هنا بات الجمع بين الشّفافيّة وحفظ التوازنات أمراً غير مقدور عليه في موارد كثيرة ، ولا سيّما إذا أضفنا إلى كلّ ذلك : أنّ النقد والاستشكال والاعتراض مهما كان بنّاءً وإيجابيّاً فإنّه بمواجهة مشاعر وأحاسيس وصفات إنسانيّة اُخرى ، أعني : أنّها تحفر في الذاكرة «شيئاً» مهما بلغ الأمر من إخلاص وحرص وحبّ ، وقلّما نعثر على ذاك الذي يقبل النقد ويستوعبه دون أدنى ردّ فعل عاجل أو آجل ، بشكل مباشر أو غير مباشر ..

أقول : ذلك حاصلٌ مهما بلغت الأنساق والمناهج والأدوات من رقي علمي معرفي مستند إلى المعايير والاُسس الصحيحة ، نعم قد يتّخذ الفضاء مجالاً عقلانيّاً أكثر منه فوضويّة وخشونة ، لكنّ الآثار تترتّب على كلّ حال ..

الجندي الهادئ لمذهب التشيّع

هكذا جعل أحد الباحثين عنوان مقالة مقتضبة عن الرأس الأساس أراد لها التوسّع مستقبلاً ..

أوقفني العنوان وقفة استشكال ونقد ، ناهيك عن المحتوى الذي


ينقصه الكثير ، إلاّ أنّ الكاتب اعتذر ضمنيّاً من خلال إفصاحه عن بحث مفصّل سيظهر فيما بعد ، قد يُتلافى فيه ما أوردناه ..

نعم ، مصطلح «جندي» و «هادئ» وجدتُ فيهما حجّةَ النقد والاستشكال ; إذ قد تجاوز المعهود مرحلة «الجنديّة» وبات حالةً وظاهرةً حريّاً بها أن تراجَع وتُستقرأ وتقارَن وتُبحث وتحلَّل وتُسنتَج منها النتائج والحصيلة التي تقود إلى حكم يؤسّس لقواعد وضوابط اختصاصيّة يخرجها من غبار المبالغة والمغالاة إلى مجالات التطبيق والممارسات ، أي الخروج بنهج ونسق يأخذ طريقه إلى الفضاءات العلميّة المختصّة ..

إنّ القارئ والمطّلع الجيّد على ما يدور في أروقتنا يدرك حقيقة ما أقول ، مثلما يدرك أنّ المعهود حركةٌ لا تعرف السكون ، وموجٌ هادر لا تحدّه المرافئ والشطآن ، إنّه يخلق من السكون حركة ، وأدلّ دليل على الشيء وقوعه ، فما هذه الشواخص العمليّة إلاّ ترجمة لقسم ممّا يجول في ذاته وأعماقه من سيل عظيم من أفكار النشاط والفاعليّة التي لو اُفرج عنها لقلبت كثيراً من المعادلات والموازنات القائمة .. نعم ، إنّه يرفض استباق الأحداث ويعتقد أنّ الناتج العملي خير وسيلة إعلام وتبليغ ، فهو يعمل أكثر ممّا يتكلّم ، لا أقول إنّه لا يتكلّم ، فهو يتكلّم الخبرة والتخصّص والأفكار الموّاجة ، يتكلّم النقد والاستشكال الشفّاف النابع من الحبّ والحرص والوفاء بلا غرض ولا عدائيّة ، ولا أقول إنّه لا يخطئ ، وربما للكثيرين ملاحظات عليه ، إلاّ أنّ الاُمور تؤخذ بنتائجها ، وكفّة الميزان تهبط بالأثقل وزناً لتعلو به في سلّم الحسابات العلميّة والرقميّة والماديّة ..


لا شكّ أنّه أنجز ما عجز عنه الكثيرون وفكّر بما لم يفكّر به الآخرون .. إنّك إلى جنبه لا تشعر بالوقفة والسكون ، فكيف لنا وصفه بالهادئ؟! ففي الوقت الذي تراه يقول ويتكلّم فهو لا يثرثر ، بل يعمل وينتج ، وما وجدتُه يوماً مستسلماً لمرحلة من مراحل العمل والإنتاج ، فالحركة الدؤوبة لا تفهم معنى الاستسلام والقبول بالموجود ..

خلاصة الكلام : إنّه شغل الناس بالحركة والنتاج والفاعليّة بشتّى ألوانها وأصعدتها ، يقولون : إنّه قد أنسى مَن قبله وسيُتعِبُ مَن بعده ..

كذا إنسان ، ليس من اللطف والإنصاف أن نصدر عنه بحثاً أو مقالاً يختصره في عنوان «الجنديّ الهادئ لمذهب التشيّع» ..

* * *

«الببغائيّة» ظاهرة سلوكيّة إنسانيّة تعكس واقعاً من التخلّف والتقليد والتبعيّة وانعدام الإبداع ، وتساهم في خلق فضاءات تناهض النموّ والابتكار والحرّيّة ، وتعطّل حركة العقل والتفكير والنقد والبناء .... وسبب التسمية معروف لا حاجة بنا لتوضيحه ..

أروقتنا تعجّ بهذه الظاهرة وروّادها ، وباتت دواعيها غير مفتقرة لشرح وبيان ، إلاّ أنّ المثير للانتباه هو التسابق المحوم في عرض أرقى مستويات «الببغائيّة» لنيل رضى وحبّ الرأس الأساس الذي أراه من الفطنة والذكاء والدهاء بمكان لا تنطلي عليه معها هذه الأساليب وأمثالها ، رغم أنّ الإنسان بطبيعته النوعيّة يسترخي للثناء والمديح ..


وقد استقرأتُ الببغائيّين عندنا فما وجدت فيهم مبدعاً فكريّاً وعلميّاً وثقافيّاً وتخصّصيّاً ، إنّما هم اُناس ظلّوا يراوحون في مواقعهم ، بل التراجع فيهم بيّن ملحوظ .. وهذا الاستقراء ليس جديداً على فضاءات الإنسانيّة وأروقتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة وغيرها ، فالكلّ متّفق على ذلك وإنّما أنا أعيش واقعاً أنقل حقائقه الملموسة المحسوسة ..

من هنا أنّى لنا التشبّث بطموحات تتوفّر على تربية وصنع كوادر وطاقات كفوءة بإمكانها سدّ الثغرات وملء الفجوات وجسر الهوّة وهي تمارس أرقى مراحل التبعيّة والتقليد والخوف ، بل تتنافس على تقديم أجمل المسرحيّات الببغائيّة ، وأنا على يقين بأنّ المقصود رغم إظهاره الحبّ والمودّة لهذا الببغائي وذاك ، وهذه من أساليبه المعروفة في الجذب والاستقطاب ، لكنّه لا يحترم إلاّ الآراء المبدعة الناضجة التي حذفت الخوف والتبعيّة من قاموس أنساقها ، وانطلقت انطلاقة وعي وفكر يعمل على بناء وتقوية القواعد والاُسس الكفيلة ببقاء وتطوّر الفضاء ، ولاسيّما أنّ الظرف ليس ظرف مجاملات ومجالس مدح وإطراء وثناء ، إنّما نفتقد الإرادة النوعيّة والعزم الجادّ والتلاحم العميق ، المستندة طرّاً إلى المناهج والمعايير العلميّة الصحيحة ، لمواجهة التحدّيات والأخطار والتوجّه صوب التأصيل والانتشار على شتّى الأصعدة والميادين ..

* * *


أعجبني نوع التفكير الذي يمتلكه بعض الجدد المنتمين إلى الحلقة الضيّقة ، ولعلّي لم أكن منتظراً منه هذا المقدار من الإحساس والانتباه والتحليل لبعض القضايا والاُمور ; إذ الفرصة لم تسنح قبلئذ للحوار الشفّاف بيننا ، فوجدته واقفاً على بعض المسائل وقوفاً واعياً رغم حداثة سنّه وحداثة انتمائه إلى هنا ، كما عثرت فيه على الإنسان الذي لا يقبل الخضوع للمغريات الموجودة ، ناشداً بذلك النموّ والتطوّر ..

كلّ ذلك بمقدار المحاورة والطرح النظري ، أمّا عمليّاً فالواقع هو الذي يحدّد مقدار التناغم والتطابق بين القول والفعل ..

إنّنا يجب أن نبني الأفكار والآراء ضمن اُسس ومعايير علميّة منطقيّة ، بعبارة اُخرى : لابدّ لنا من إنشاء منظومة متكاملة منسجمة الأدوار والمراحل ومتوفّرة على الأدوات والآليات التي تضمن الحاجة وتواجه الموانع والإشكاليّات مواجهة معرفيّة واعية ، ولا شكّ أنّ النقد القائم على الاُصول العلميّة السليمة سيكون عامل استحكام وبناء وتطوير ... لكنّ الملاحظ أنّ فضاءنا يفتقد الشروط المناسبة لممارسة الفكر النقدي دوره في عمليّة البناء والنموّ ; إذ التلقّي السلبي والفهم الخاطئ لموضوع النقد ورفض التفاصيل فيه ، والاسترخاء بالتكيّف على حدّ القشور والظواهر دون الولوج في العمق والجوهر ، والعاطفة المفرطة الممزوجة بالرغبة الذاتيّة والثقافة المبتنية على الفرديّة ... لها الأثر الرئيس في بطء حركة النقد عندنا ..

* * *


في لحظة ما ، في موقف ما ، لعلّه اختبار أو محكّ بسيط حتى .... تظهر الخفايا وتتجلّى الاُمور على حقائقها ، فتُبرِز الذات ما في أعماقها وحناياها من مخزون طالما سعت إلى دفنه تحت ظواهر الشعور والسلوك ، أو تركه تابعاً خلف قضبان التصنّع واختلاق الصور ..

لا مواربة ، فإنّ تلك اللحظة والموقف والاختبار والمحكّ تضع أو تعيد كلّ شيء إلى مربّعه الحقيقي ، بمعنى : أنّها تنسف وتطوّح بكلّ ما شُيّد وبُني على أساس هشّ وقاعدة رخوة واسطوانة جوفاء ، فكما قيل : «إنّ حبل الكذب قصير» فهنا أيضاً بناءُ الكيان الإنساني على اُسس وقواعد وأعمدة هشّة ورخوة وجوفاء ، بناءٌ موهونٌ كبيت العنكبوت ..

إنّنا نختبىء غالباً خلف ثقافة مستورَدة أساساً ، ولا نعني بالاستيراد أن يكون بالضرورة خارج الفضاء والمنظومة التي نتحرّك ونعيش في إطارها ، بل قد يكون من داخلنا بخلق الفرص والظروف التي نحتاجها لتمرير أو تبرير ما لا يتناغم مع القيم والثوابت والاُصول ، لكنّه يحقّق للذات مطامحها ومراميها ، آنذاك لا يعني القفز فوق الحقائق والمفاهيم الحقّة سوى تمرّداً وتعدٍّ ونوعاً من أنواع الاستيراد ، ثقافيّاً كان أم غيره ..

إنّنا بذلك نخادع أنفسنا ، ومن خادع نفسه ضعيف ، فالضعيف هو الذي يفتقد المقوّمات الموضوعيّة للبقاء والثبات والتقدّم إلى الأمام ، ذلك التقدّم القيَمي والأخلاقي ، لذا يتشبّث بكلّ ما اُتيح له من أداة وآلية كي يبقى بقاءً على حساب الحقّ والحقيقة ..


وضعفنا المفرط هذا يفرض علينا الاحتجاج بأحاجيج سخيفة ، بعيدة كلّ البعد عن المعايير العلميّة وجوهر الاُصول والثوابت ..

ولعلّ الضعف ضعفان :

ضعفٌ تقصده ، وضعف يقصدك ، أمّا الأوّل فهو الخمول والكسل والركون والقبول بالواقع المتخلّف علميّاً وثقافيّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً .... وكذا الاختباء والتعشعش على القشور والظواهر التي تؤمّن القدر الكافي من حاجة الذين يرون في الاُمّة مطيّة الرغبة الذاتيّة من سلطة واستبداد وهيمنة ، الأمر الذي يلازمه الترويج لثقافة البقاء على هذا المنوال خشية نهوض العقل الجمعي بطرق الجوهر والعمق والجذور .... خشية التسلّح بأدوات المعرفة السليمة ، التي تعني : المراجعة والاستقراء والمقارنة والتحليل والحفر والتنقيب في لبّ الاُصول والثوابت ... خشية كشف زيف الأحاجيج التي أبقت عناصر القشور فاعلة في فضاءاتنا التي نال منها الجهل والفقر والظلم سهماً أوفى ... خشية استلاب العناوين والمواقع التي توفّرت بفعل خمود ذلك العقل ..

إنّ الإصرار على إبقاء الاُمّة مركونة في زوايا التبعيّة والتقليد والجهل والفقر والظلم هو إصرار على سلب إرادة العلم والثقافة والعدل والازدهار ، ولا شكّ أنّ هذا الإصرار هو ضعفٌ نقصده ..

أمّا الضعف الذي يقصدنا فهو حينما نلمس الاختراق والانحراف وضياع القيم ورواج ثقافة الفساد فلا نعمل شيئاً لصدّها والتغلّب عليها ،


آنذاك تعيرنا تلك الثقافة وذلك الاختراق البدائل الرخيصة التي تسلبنا هويتّنا وانتماءنا القيَمي والمفاهيمي ، فتجعلنا أذلّة نتسوّل على طرقاتها وندقّ أبوابها كي تمنحنا زاد الحقارة والانحطاط في ذواتنا فنزداد تبعيّةً وتقليداً وضعفاً ..

* * *

تأرجح الأفكار والأحاسيس والمواقف والأحكام ، بما في ذلك ما نعتقده من ثوابت العقل والأعماق والحنايا التي نذود ونذبّ عنها بشدّة وحماس ، هل هي حالة نوعيّة تعترض الإنسان ، أيّ إنسان ، إلاّ ما عصم الربّ ، أم أنّها تستولي على بعض دون البعض الآخر؟

هل تعدّ مراجعة مقصودة أو غير مقصودة لسلسلة الالتزامات والميول فيتخلّلها أحياناً جدولة الأحكام والمواقف والرغبات ، أو إعادة قراءة تخرج بجديد التصوّر والتصديق؟

ويبقى السؤال الكبير : لِمَ هذا التأرجح والقلق وعدم الثبات والاضطراب ، من أين يأتي ، وما مقصده ، ومتى تغلق حكاياته؟

إنّنا نريد تجاوز عقدة «العزّة بالإثم» كي نخوض البحث خوضاً أكثر شفّافيّة ، وما يمنحنا الجرأة على ولوج ذلك العمق شهادة الثوابت ، منها : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) (أَفَحَسِبْتُمْ

__________________

١ .. سورة العنكبوت : ٢ ..


أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (١) ... بل لو تأمّلنا النصّ بأكمله وحكم العقل والإجماع الدائر في فضائه لالتقينا في نقطة واحدة ، نقطة أنّ الإنسان في محكّ ، أي لابدّ أن يقتحم غمار هذا المحكّ ـ رغم أنفه ـ وهنا تتلوّن الأساليب والآليات والأدوات التي تمنح الحصيلة النهائيّة لونها الخاصّ بها ..

وحيث نسير جميعاً إلى مصير واحد لا مفرّ منه بتاتاً تنكشف فيه الاُمور والخفايا على حقائقها ـ كما نعتقد ـ فياليت شعري هل نصفّي الحساب قبل حلول المصير المهيب ، قبل (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٢) فتكون (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) لا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) (٣)؟

لِمَ لا نسارع إلى حسم الموقف قبل فوات الأوان ، لِمَ نتقاعس بانتظار اللحظات الأخيرة ، ونحن لا نعلم متى وأين وكيف تكون النهاية؟

لست معتقداً بسهولة تصفية الحسابات قبل أوان الموت ، فالأمر يتطلّب مزيداً من الجدّ والجهد الشاملين على شتّى أصعدة الذات ، مزيداً من الخسائر والتضحيات ، مزيداً من الصبر والألم والمعاناة ، ولاسيّما أنّ ترويض النفس ومنعها عن رغباتها ولذائذها والانهماك في تهذيبها وتطهيرها من أدران المادّة وشوائبها أمرٌ على غاية الصعوبة والمشقّة بلا

__________________

١ .. سورة المؤمنون : ١١٥ ..

٢ .. سورة عبس : ٣٤ ـ ٣٦ ..

٣ .. سورة عبس : ٣٨ ـ ٤٠ ..


ريب ، فإنّ الالتزام الحقيقي بالقيم الحقّة والمفاهيم السليمة التزاماً عمليّاً صادقاً هو بوّابة التحليق في آفات اليقين والاطمئنان حيث تنعدم كلّ حالات التأرجح والقلق والاضطراب ..

أسفي كلّ أسفي على نفسي التي لازالت تعاني التأرجح والقلق والاضطراب والخوف ، نفسي التي كلّما روّضتها عن منقصة أتت بغيرها أشدّ منها أو عادت لها بفعل ضعفها ومسكنتها ، كلّما اُذكّرها تنسى ، خصوصاً آن غضبها وتعبها أو حال زهوها وانتعاشها .... قلّما وجدتها خارجةً عن نطاق التأرجح والقلق والاضطراب والخوف ..

لا يخفى أنّ التفكير بشيء أمرٌ والحصول عليه أمرٌ آخر ، فانشغال الذهن بمسائل اليقين والعلم والاطمئنان انشغالاً لا يخضع للاُسس والمناهج الصحيحة ولا يقترن بالجدّيّة وتحمّل المشاق ، لا حاصل منه سوى الألم والحيرة والتخبّط ، أمّا الالتزام بتلك الاُسس والمناهج بعزم وجدّ فإنّ رواشحها تسوق إلى ذاك اليقين والعلم والاطمئنان ، وتحلّق بالعقل والقلب في آفاق الكمال الإنساني المنشود ; إنّها بلا شكّ معادلة فكريّة مشاعريّة عمليّة ، وإلاّ فمجرّد التفكير الأجوف بقضايا العلم واليقين والاطمئنان أشبه بالبطالة الذهنيّة المقنّعة التي لا تعمل ولا تنتج ..

إنّ قناعتي وذودي وحبّي لهويّتي وانتمائي أراها لا تكفي لبلوغ تلك الفضاءات والآفاق الطيّبة ، فالقناعة التي أنا عليها والتي تمخّض عنها ذلك القبول والذود والحبّ لم ألمس منها بَعْدُ يقيناً يباشر عقلي وقلبي ...


وأعترف أنّي بلغت أوقاتاً نادرةً نالني الاطمئنان فيها ، فشمخ به قلبي وعقلي وروحي ، لكنّي ضيّعت فرصتي فتناثر المحصول في يوم عاصف ، ذلك المحصول الذي لم يأت عبثاً ، بل كان عصارة جهد فكري مشاعري ضميري ، وهذا ما ذكّرني بمقولة : «إنّ تحقّق النصر هامّ لكن الأهمّ منه الحفاظ عليه» ..

أرى أنّ ذخيرتي ـ أقصد الفكر الذي اُؤمن به ـ غنيّة فاعلة بما فيه الكفاية ، وإنّما الخلل في آلية التزوّد ، في تقاعس التفكير الذاتي وصلابة القلب واضطراب الروح وأثر المنافيات التي طالما بقيت وبقي معها الألم والمعاناة يكبران همّاً يقضّ المضجع ويسلب الوسن ..

إنّ «خارطة الطريق» العَقَدية المرسومة لبلوغ الهدف الأقدس والمقصود الأسمى خارطةٌ عقلانيّةٌ ، علميّة ، إنسانيّة .... رغم الفروع الدخيلة والمحطّات الزائفة والقرى الوهمّيّة ، رغم الاستنباطات الخاطئة والمصادرات الظالمة والاستلابات المرفوضة والعداءات المتشعّبة ، رغم الأحقاد والأضغان والترويع والحذف والتحريف ..

نعم ، أشدّ ما نفتقر إليه التوسّع والانتشار في فضاءات العقلانيّة التي تشكّل أداة هامّة في التغلّب على الأوهام والإشكاليّات والشبهات التي تظهر بين الحين والآخر ، ولاسيّما أنّنا نمتلك المقوّمات المناسبة لإيجاد الحواضن الجيّدة لتأقلم العقلانيّة وانسجامها مع مفاهيمنا وقيمنا وأفكارنا ..

مناقشاتي المتعدّدة مع الذات لا أدري هل أسفرت عن نتائج واضحة


أم لازلت أدور في حلقة مفرغة ، وغشاوة الموقف تلوح من خلال جهلي بحدودي وحدود الوعي والإيمان والحسّ والسلوك الخاصّة بي ، ونوع الانطباع عنّي ، ومدى منزلتي في قلوب الأهل والأصحاب وسائر الناس ، فلقد أحببت الناس طرّاً ولم أكره أحداً فيهم ولكن هذا لا يعني أنّهم يحبّونني كلّهم ، فكثيراً ما اُدهَش بغضب هذا وذاك منّي لأسباب غفلتُ عنها أو تسامحت في أهمّيّتها إلاّ أنّها مؤثّرة وحاسمة لدى الآخرين ، فما راعيتُ شعورهم ، وهذا خطأ رغم انتفاء العمد والقصد ; إذ الكياسة والفطانة خصيصتان من خصائص المؤمن أراني ضعيفاً في الاتّصاف بهما ..

وإذ أعدّ النقد من مزاياي ، وأرى في شخصيّتي نقّاداً وناقداً بنّاءً ، فهلاّ مارستُ النقد بحقّ ذاتي ، كيف أنا بين اُسرتي ، حرمي وأبنائي ، أرحامي ، جيراني ، أصحابي ، زملائي ، أساتذتي ، مدى التزامي بالقيم والمفاهيم التي أحسب أنّني منتم إليها ، إخلاصي ، خلواتي ، أسراري ، أحاسيسي ، أفكاري ، مظاهر سلوكي وسيرتي ...

كلّما أستجمع نقاط النقاش الذاتي المعهود كلّما أجد تأخّري عن قافلة الركب ، الجميع دون استثناء ، فأنا أقف خلفهم مرتبةً ، لذا تراني كثيراً ما أحسستُ بالذلّ والحقارة حينما ألمس في غيري خصالاً أفتقدها بل اُكابر بحيازتي لها كذباً وافتراءً ورياءً ، كالعلم والإيمان والإخلاص والأخلاق والأمانة والحبّ ، ولا اُخفي محاولاتي المبذولة على صعيد اللحاق بركب المتقدّمين لكنّها إلى الآن بلا جدوى ; حيث لازلت ضعيف الإيمان غير راسخ العقيدة ، أعيش القلق والاضطراب والتأرجح والخوف ،


فأين أنا من مراتب العلم واليقين والاطمئنان ، فلا زلتُ هشّ الفهم والنضوح والوعي ، صلب القلب والأحاسيس والمشاعر ، فالغيبة والغيرة والحسد ونكران الجميل والخيانة والاستخفاف واللامبالاة والغضب والعجلة والغرور وسوء الظنّ والشهوة والمتعة ... تخالط عقلي وأعماقي وتنازعني المصير لتصرعني وتطرحني مهزوماً لا أبلغ مرتبة الذين أفلحوا وفازوا ....

وكم أتشدّق في دعائي وصلواتي وخلواتي برغبة تعجيل الفرج والصلح وحبّ الخير للآخرين وطلب الرحمة للأموات والابتهال بزيادة العلم واللحاق بركب الصالحين والإغناء بالحلال الربّاني عن الحرام وبفضله تعالى عمّن سواه وبطاعته سبحانه عن معصيته وتنوير العقل والقلب والوجه بنور الإيمان ... ولا أراني عاملاً جادّاً لها ، فكلّ همّي تأمين منافعي ورغباتي ، أنانيةً منّي ليس إلاّ ، والأقبح من ذلك إظهاري ما ليس في باطني وإسراري ما ليس على ظاهري ، نفاقاً منّي ليس إلاّ ..

إنّ حبّي لعقيدتي وهويّتي واُسرتي وأهلي وفضائي ومجتمعي واُمّتي وإنسانيّتي واعتزازي بمكوّنات ثقافتي ومعارف مدرستي لا يكفي لنيل المراد ; فالمفروض بي العمل الجادّ بمقرّرات الإيمان طبق خارطة الطريق التي رسمتها دوائر الهويّة الحقيقيّة ، كي يكون الحبّ نابعاً من الإيمان الصحيح ، وهذا هو الحبّ الذي يمهّد الطريق إلى بلوغ المنى وتحقّق الآمال ..


نعم ، إنّ الملاك والميزان (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الاْنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (١) ..

فالإيمان ممارسة عمليّة واعية للقيم والمبادئ والمفاهيم الحقّة ، الأمر الذي يلازمه الألم والمعاناة وتحمّل المشاق ..

أينفعني حبّي لمحاور هويّتي وأقطاب انتمائي وأعلام ثقافتي وهداة معرفتي ومحرار أفكاري دون التقيّد المطلوب بالمحتوى الذي جرى التأكيد على العمل به ، أو دون العمل بالأدبيّات التي ركّز عليها ذلك الفكر والمدرسة المعهودة؟

هنا تتضارب النصوص التي تصرّح طائفة منها بكفاية الحبّ المشار إليه ، والطائفة الاُخرى التي تصرّح بوجوب العمل بما أقرّه الفكر والمدرسة المعهودة .. ولعلّ التفصيل فيهما يخرج المقام عن حالة الطرح المتّخذة هنا من حيث الاختصار والإيجاز ، وعصارة الحلّ تكمن آخر المطاف في مراعاة جملة من القواعد العقليّة والاُصوليّة والمنطقيّة ، مثل : الاحتياط حسن على كلّ حال ، احتط لدينك أخوك دينك ، الجمع أولى من الطرح .. لذا بات الحبّ الحقيقي العملي هو ذلك الحبّ المقترن بالالتزام بمقرّرات المحبوب وتوصياته ، وجوباً كانت أم حرمةً أم استحباباً أم كراهةً أم إباحةً ... الأمر الذي ستقرّ به يقيناً عيون المحاور والأقطاب والأعلام الهداة ..

__________________

١ .. سورة العصر : ١ ـ ٣ ..


ماذا يعني الوقوع في عمل الخطأ ثم السعي إلى إيجاد المبرّر بشتّى الأدوات والآليات .. أليس هذا قفزاً على المعايير والاُسس السليمة للتفكير ، ألا يجوز بي أن اُفكّر ثم أعمل ، وهل يصحّ العمل بلا تفكير؟ ثم إذا وقع الخطأ تراني ألهث خلف الدليل والقرينة والشاهد لإضفاء الشرعيّة والصحّة على سلوكي ..

ماذا يعني رفض النقد الموجّه لي والغضب من الملاحظات المطروحة عنّي والإسراع باستخدام ما تيسّر من وسائل الحوار والنقاش لردّ ونفي ذلك النقد وتلك الملاحظات ، ولكنّي ما إن أختلي بذاتي أعترف بصحّة كليهما بعد أن تأخذني العزّة بالإثم آنَ البحث والحوار والنقاش ، أليس منطقيّاً أن أكون صادقاً مع ذاتي ومع الآخرين؟

ثم إنّي إن تقبّلت النقد أو سكتُّ عن إبداء ردود الفعل الفوريّة ، لِمَ تراني أعمل بمنهج الانتقام وتصفية الحساب حين تمرّ الأيّام وتسنح الفرصة للنيل ممّن انتقَدَ ولاحظ ، بأساليب وطرق مختلفة ، فأقتفي زلاّته وهفواته وأستمع بشهيّة لما يقال فيه بلا تفحّص واستفسار وتحليل ; لأ نّي عثرت على ما يروي غليلي ويطفئ نار غضبي ووجدي ..

إلامَ كلّ هذا الخلاف والجفاء والاحتقان؟ كلّ هذا الألم والمعاناة؟ في لحظة هدوء وتفكّر حينما يختلي الإنسان بذاته يجد ألاّ قيمة سوى للمبادئ والمفاهيم التي تقوده إلى إعمار ما اخترب من أحاسيسه وأفكاره ، إلى خير الدنيا والآخرة ، حيث تخرجه من دائرة الحزن


والإحباط والضبابيّة والحيرة والقلق والتيه إلى فضاءات السرور والأمل والشفّافيّة والحسم والاطمئنان ومعرفة الذات ، فيحلّق ألِقاً في رحاب الحبّ الحقيقي والإيمان الصادق ..

* * *

لا أعلم مدى تفاهم العقل والشعور إزاء بعض التصوّرات والرغبات ، هل هي عقليّة محضة ، أم شعوريّة محضة ، أم نتاج كليهما؟ فرغم قناعتي وتمسّكي بحضوري العلمي الثقافي ، تراودني رغبةٌ ترقى أحياناً حدّ التمنّي تقودني إلى التصوّر وربما التصديق بالتفرّغ الكلّي والاستقلال والعزلة والتوجّه صوب المحطّات الخاصّة بي بلا تقيّد والتزام وارتباط ووصاية وظلّ ، بلا فضاء أراه يغمطني حقّاً طوراً أو ألحظ فيه مواقف وأساليب وقضايا تؤلمني وتثير أشجاني طوراً آخر .. فلا أدري هل اُصارع ازدواجيّةً في ذاتي أو اُكادح واقعاً من جهة ورغبةً من جهة اُخرى ، فهذا معقلٌ حقّقتُ من خلاله العديد من المطامح والغايات وأتمتّع فيه بموقع وسمعة واحترام وتقدير .. وتلك خلوات أنأى بها من همّ الالتزام والوصاية وهمّ اللحظات والمواقف التي اشمئزّ منها وتؤلم أعماقي وحناياي ..

وربّ قائل يقول : المانعُ مرتفع والمقتضي موجود ، إلى ذلك : الشعور المتواصل بأ نّك تنال نصيبك من الجفاء إثر بعض المواقف والاُمور .. فما عليك إلاّ أن تغلق ملفّ حضورك إلى الأبد ..

أقول : كلّ ذلك صحيح ، ولكنّ الجفاء لا يمكن الردّ عليه بجفاء آخر أشدّ منه ، فإنّني أعتقد بحرمة هذا المعقل وبخدماته الجليلة للقيم والمبادئ


الحقّة ، مضافاً إلى أنّني سأكون في زمرة الناكثين والخائنين إن تخلّيت عمّن أعتزّ وأفخر بأفضاله عليّ ..

بماذا يفسّر هذا الحال ، أهي ازدواجيّة معايير ، أم صراع ناشئ من رواشح متناقضة إثر تناقض الأوضاع ضمن الفضاء الواحد ; حيث توجد أهداف مقدّسة ونتاج شامخ وحضور فاعل ومنزلة رفيعة ، إلى جانبها اُمور وأساليب ومشاهد ونتائج لا تتناسب ونتاج وحضور ومنزلة هذا الفضاء؟

لا أدري مدى تجانس العقل والشعور في صياغة هذا التصوّر ، ولكنّي أكاد أقطع بأ نّها ليست مجرّد رغبة صاغها الشعور بمفرده ، فالخلفيّة الطويلة والخبرة العريضة والقرب المركّز من مواقع القرار والمشاهدات والمسموعات والدلائل والقرائن ... كلّها تشير إلى وجود القضايا المشار إليها .. نعم ، لو تعاملنا بالأدوات العقليّة والمنطقيّة والاُصوليّة مع الفضاءين الموجودين طبق القواعد الترجيجيّة لأمكننا الحصول على نتائج وقرارات علميّة تحسم الصراع والنزاع لصالح أحد الطرفين ..

مع لحاظ جوانب الأمرين بنظر الاعتبار وبعد سلسلة فحوصات ومراجعات وتحليلات وقراءات ومقارنات وحفريّات ، وبالاستفادة من أدوات الترجيح وقوانينها ومراحلها ، نجد راجحيّة البقاء على الحذف ، راجحيّة الوجود على العدم ، ولاسيّما أنّ مصلحة الاستمرار أقوى بكثير من مصلحة التوقّف ..

أمّا التفكير أو الشعور بالحاجة إلى الراحة والاسترخاء والتفرّغ


والعزلة على حساب القضايا الأساسيّة فإنّه أمرٌ ربما فيه من الأنانيّة ما لا يخفى ، فمن أجل الرغبة الذاتيّة لا يمكن الحكم سلباً على الحقائق الموضوعيّة المتوفّرة بهذا الحجم والكثافة والفاعليّة والنجاح ..

نعم ، أن تؤول الأوضاع إلى ذلك المصير الضبابي بفعل غياب الرأس الأساس ، أو تغيّر المعادلة الموجودة أو تحقّق الظروف القاهرة ، فهذا بحث آخر لا ارتباط له بعناصر الشعور أو العقل المشار إليها .... لذا تراني أحياناً أعيش افتراضيّاً مرحلة ما بعد الغياب المذكور الذي إن حصل سقط كلّ شيء في فخ التراجع والخمول والدمار والضياع ، وهذا راشح طبيعي من رواشح ثقافة التأسيس والتنظيم والعمل والتفكير بآلية واُسلوب الفرديّة ، رغم كلّ النجاحات المتحقّقة ، فالثقافة الفرديّة لا تنتج ـ كما قلنا مراراً ـ سوى أدوات ومكائن تعمل ليل نهار بعيدةً كلّ البعد عن فضاء البرمجة والتخطيط والإبداع والبناء الذاتي ، فالكلّ معاني حرفيّة إزاء معنى استقلالي واحد هو الرأس الأساس ..

نعم ، ربما يأتي ذلك اليوم الذي تتغيّر فيه الأوضاع ، فنتحاور حواراً جادّاً تحكمه المعايير بلا أدنى عسر وحرج ، بلا إمام ومأموم ، حينها يمكننا المرور على الماضي مروراً تحليليّاً نقديّاً شفّافاً ، فنقول ما أضمرته الصدور طيلة هذه السنين صوناً للحرمة والرفقة والظروف الحاكمة ، وتخرج رواشح الفكر على حقيقتها بلا أدنى ملاحظة وخجل ، فيرتفع لحن النقد واللوم ، ويتّسع مجال التذكير بتلك الأساليب والسلوكيّات التي تتنافى مع القيم والأخلاق والعهود والمواثيق التي صاغتها مبادئ الهويّة


والانتماء ... نتعارك ، نتحاور ، بألم وقسوة ومرارة ، ولكن بعيداً كلّ البعد عن أجواء الشامتين والمخالفين الذين يتربّصون بنا الفرقة والشتات ، ناهيك عن الوقت الحاضر الذي لابدّ من التسامي فيه على الخلافات والآلام صوناً للمبادئ وحفظاً لتاريخنا واحتراماً لأهدافنا واعتزازاً بنتاجنا ..

إنّ حنيني إلى سالف الأيّام ـ رغم مرارتها ـ مردّه إلى تلك الحالات التي كانت حاكمة علينا آنذاك ، حالات الإخلاص والاُلفة والرغبة والشوق والصبر على المشاقّ وضيق الإمكانيّات ، فجميعنا كنّا نجهد ونعمل وننتج من أجل هدف مشروع ; حيث كان ولازال رائدنا الذود عن حمى الدين والقيم الحقّة عبر إحياء ونشر علوم آل محمّد (عليهم السلام) .... لكنّ الحالات الجديدة بدّلت الكثير ، وصار الإخلاص والاُلفة مورد تزلزل وضعف ، فما عادت الاُمور والأخلاق والأوضاع والأهداف كما كانت آنذاك .... ولعلّ العسر يصنعنا واليسر يهدمنا ، لا أدري قد تكون فتنة يتخطّاها قومٌ ويسقط في فخّها آخرون ..

مخطئٌ من يعتقد موت الأفكار أو قتلها بمجرّد استبداد أو خنق للأصوات ، فإنّها لابدّ وأن تعلن عن وجودها سواء بالنطق أو الكتابة أو الرسم أو التمثيل أو الإشارة ، ولا تعجب إن كان الصمت والعزلة يعبّران أحياناً كثيرة عن فكرة ورؤية معيّنة ، ولاسيّما أنّ المتلقّي الواعي والمترجم الجيّد موجودان على طول الخطّ ..


بل على النقيض تماماً ، فإنّ العنف والترويع وأنساق التغييب تخلق عزماً مضاعفاً وإرادةً أقوى وإصراراً أكيداً ـ مقرونةً كلّها بدقّة أكثر وإحاطة أشمل ـ على ظهور الفكرة وانتشارها وتأثيرها ..

لا شيء يستحقّ الأهمّيّة في كلّ الزوبعة أكثر من بناء الإنسان ذاته ووجوده وعناصر معرفته وتكامله ..

فأيّ علم وثقافة وتجارة ومنزلة وشهرة لا تجدي نفعاً إن لم تفتح آفاقاً وفضاءات لبناء الذات وترميمها وصيانتها ....

حينما يُختَرق الظاهر الغضّ الجميل في لحظة ما إثر محكّ صعب حقيقي تلمس الأشياء على حقيقتها ، فلا تجد في ذلك التواضع ورباطة الجأش والمودّة والاُلفة والوداعة ... سوى انقلاباً من جنس الغطرسة والكبر والتهوّر والحقد ، أضمرتها ذرائع الوقت والمكان ، فلا يعلو آنئذ سوى ما ترغبه الذات وترنو إليه ، نعم ، ما أضمر امرئ من شيء إلاّ وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه ، فالزبد لابدّ وأن يطفح يوماً ما ; إذ الكون وما فيه محكوم بقانون العدل الإلهي ، لا الظلم الإنساني ..

أمّا القلّة التي عالجت العمق والباطن فالأمر سيّان عندها لا يفرق مقدار أنملة ، سواء تعرّضت لمحكٍّ أم لم تتعرّض ..

إنّنا في كلّ معقل وخليّة وكيان نجد ألواناً متفاوتة متناقضة مختلفة ، نجد الصالح والطالح ، العزيز والذليل ، القوي والضعيف ، الشفّاف والمتزلّف


والصنمي .. في ظلّ هذه الدائرة المتشابكة الأوتار كيف بنا إدارة الصراع؟

تمنّيتُ لوعدت إلى العشرين من عمري وأنا بهذا الحال والوضعِ ، فأصلح ما اخترب من ذاتي ، واُصحّح أخطائي ، واُعمّق أعماقي ، واُروّض رغباتي ، فأخلق الفرص الأنسب نحو تأ لّقي ونجاحي ... فبذاك النشاط وتلك الحيويّة أمزج ما اختمر في عقلي وأحاسيسي ، رؤىً وخبرةً فاُسيّرها لأجل ديني وآمالي ..

ولكن هيهات هيهات فـ «ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن» ..

غاية جهدي ألاّ أكون شيئاً تحت الرغبة والطلب ، فاُعَدّ حيناً واُهمل حيناً ، اُضاف مرّةً واُحذف اُخرى .. وهذا يعني حملي خشبتي على ظهري تهيّؤاً لكلّ طارئ وحادث ، سعيي ألاّ اُساوم على مبادئي وقيَمي وأخلاقي مهما كلّفني ذلك من ثمن غالي ، وألاّ أركع لأساليب الابتزاز الرخيصة وآليات الإذلال السخيفة مهما كان الضرر عالي .. سأبقى أحتجّ ولو بصمتي واعتزالي. أسعى إلى رفض كلّ قبيح وإن صدر من ذاتي ; إذ «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم وليلة» ، ذلك من صفات ديننا الراقي ..

نعم ، بقلمي ، بلساني ، بصحبتي ، بإشارتي ، باعتزالي ... اُعبّر عن شجبي واعتراضي ..

آه يا هذا لو تعلم كم تشحن في حنايايي طاقةً وحركةً وفاعليّةً من


الفكر والإبداع والعزم كلّما أثرت شجوني وآلامي وأحزاني بأساليبك المؤسفة وأدواتك الجارحة ; فلا يشمخ الفكر وتكتمل المعرفة إلاّ بالمعاناة والمحن والصعاب ، أمّا الراحة والترافة فلا تمهّد للبصائر والرؤى طريقاً ولا للقيم والمبادئ سبيلاً .. إنّ الجرح وأنين الليالي وشقوة الأيّام بنت في عقلي ومشاعري اُسّاً لتحمّل الألم وتجرّع غصص الزمن العنود ، اُسّاً لبصيص من الأمل بلطف ربّاني ينالني ورفق إلهي ينتشلني إلى حيث مرابع العزّ والفلاح المنشود ، ذلك هو الألق الحقيقي الذي دونه يرخص كلّ شيء ويضمر ويذوب كلّ مراد ومطلوب ..

أنا لا أكتب سوى لأ نّي أحتاج الكتابة ، فهي معرض أفكاري ومتنفّس آرائي ومهدّئ معاناتي ومخفّف أحزاني ، أكتب لأنّ الكتابة جسرٌ ينقلني من حال إلى حال ، من فضاء الرغبة والطموح إلى واقع الممارسة والنتاج ، ولعلّ الفائدة تعمّ وتنمو رغم أنّي بكتابتي أروم إفادة ذاتي وإصلاح ما فسد من عقلي وأعماقي ..

* * *

ماذا يريدون ، أيّ مكان يقصدون .... جاهٌ ومقام أم لقاء المحبوب المضام ..

دأبهم منذ مئات السنين : مئات الآلاف ، ملايين الناس ، الكبير والصغير ، الهرم والغرير ، السقيم والسليم ، العالم والجاهل ، الغنيّ والفقير ،


الأبيض والأسود ، القريب والبعيد ، الموافق والمخالف ... كلٌّ يتسامون فوق كلّ شيء ..

أمواجٌ بشريّة متلاطمة تطوي المسافات النائية بقلوب لهفى وعيون حرّى وعقول حيرى إلى حيث يقف ذلك الشهيد سامقاً مهيباً عاليا ..

فله يرخص كلّ شيء وتهون النفس ، يا أغلى من كلّ شيء ..

إنّهم يتسامون على الجراح والآلام ، على المال والبنين والمقام ، بقلوب الحبّ والعشق والذوبان ، بعقول العقيدة والمبادئ والإيمان ; لينالوا فرصة لقاء المحبوب ، هذا المحبوب الذي قضى شهيداً صوناً للشرف والقيم والكرامة والأخلاق ، فالتأسّي بهكذا شهيد ليس جرماً على الإطلاق ، إنّه عين الصواب وحقّ اليقين ، فلا غنوصية ولا هرطقة ولا بدعة ولا غلوّ ولا أوهام ولا أفيون ، هي الحقيقة الألقة كألق الشمس في رابعة النار ..

وإن كان ذكره بمختلف الطرق والآليات يحرّك العقل والقلب والاحساس فلِمَ لا يكون نهجه فكراً ورسالةً ورمزاً وملاذاً واُسوةً ومناراً لجميع الناس ، ولاسيّما أنّه الذي خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح ، منتفضاً على الذلّ والظلم والانحراف والفساد ليقيم العدل ويسترجع العزّ والحقّ المباح ..

لا عجب إذ ينطلق العاشقون من كلّ حدب وصوب ، من هنا ، من هناك ، من تلك القرى والنقاط المجهولة التي تناستها حتى خرائط


الجغرافيّة والتأريخ ، إلى كربلاء الحسين عليه السلام ، بلذّة التعب والعطش والجوع ، بجرأة الانتصار على الإرهاب والترويع والقتل بجذر الإيمان وغصن العشق المربوع ، تزحف الجموع مجدّدةً عهد الوفاء لأبي الأحرار وسيّد الشهداء عليه السلام ، وهي إذ تكرّر البيعة لأبي عبدالله إنّما تعلن التزامها بالنهج السليم والنسق الصحيح والفكر الأصيل ، التزامها بحسين الرقّي والبهاء ، حسين التصوّر والتصديق ، حسين الكرامة والإباء ..

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللهِ ، وَعَلَى الاْرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنآئِكَ ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ اللهِ أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِىَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ ...

* * *

ورد في «منية المريد» للشهيد الثاني ، تحقيق الشيخ رضا المختاري ، طبع ونشر مكتب الإعلام الإسلامي ، ١٤٠٩ هـ ، ص ١٨٣ :

وعن محمّد بن سنان ـ رفعه ـ قال :

قال عيسى بن مريم عليهما السلام : يا معشر الحواريّين ، لي إليكم حاجة ، اقضوها لي ..

قالوا : قُضِيَتْ حاجتك يا روح الله .. فقام فغسّل أقدامهم ، فقالوا : كنّا نحن أحقّ بهذا يا روح الله ، فقال : إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالِم وإنّما تواضعتُ هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم .. ثم قال عيسى عليه السلام : بالتواضع تُعْمَرُ الحكمة لا بالتكبّر ، وكذلك في السهل


ينبت الزرع لا في الجبل (١) ..

وفي «منية المريد» أيضاً ص ١٩٢ ـ في آداب المعلّم مع طلبته ـ :

الخامس : أن لا يتعاظم على المتعلّمين ، بل يلين لهم ويتواضع ، قال تعالى : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ..

وقال صلّى الله عليه وآله : «إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا» (٣) ..

وقال صلّى الله عليه وآله : «ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزّاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله» (٤) ..

وهذا في التواضع لمطلق الناس ، فكيف بهؤلاء الذين معه كالأولاد ، مع ما هم عليه من ملازمتهم له ، واعتمادهم عليه في طلب العلم النافع ، ومع ما هم عليه من حقّ الصحبة وحرمة التردّد وشرف المحبّة وصدق التودّد ..

وفي الخبر عنه صلّى الله عليه وآله : «علّموا ولا تعنّفوا ; فإنّ المعلِّم خيرٌ من المعنِّف» (٥) ..

وعنه صلّى الله عليه وآله : «ليّنوا لمن تعلِّمون ولمن تتعلّمون منه» (٦) ..

__________________

١ .. الكافي ١ : ٣٧ / ٦ ..

٢ .. سورة الشعراء : ٢١٥ ..

٣ .. المصادر بهامش المصدر ..

٤ .. المصادر بهامش المصدر ..

٥ .. المصادر بهامش المصدر ..

٦ .. المصادر بهامش المصدر ..


فعلى المعلِّم تحسين خلقه مع المتعلّمين زيادةً على غيرهم ، والتلطّف بهم إذا لقيهم ، والبشاشة وطلاقة الوجه وإظهار البشر وحسن المودّة وإعلام المحبّة وإظهار الشفقة ، والإحسان إليهم بعلمه وجاهه حسب ما يمكن .. انتهى ..

هذا ، وقد روى شيخنا الاُستاذ في مجلس الدرس روايةً عن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام ، لم أقف على نصّها في مصادر الحديث ، مفادها استحباب تواضع المعلِّم لتلميذه ..

أقول : إنّ الدين منفتح المعاني والمفاهيم ، أعني به الدين الذي تلقّيناه من فضاءات أهل البيت عليهم السلام ، فلقد ربّوا أتباعهم ابتداءً على ممارسة التحقيق والغوص في أعماق النصّ وتحليله ومراجعته ومقارنته واستنطاقه ضمن شروط وقواعد وأنساق واضحة المعالم والمضمون ، فلا خروج عن دائرة النصّ ولا جموداً حرفيّاً على اللفظ ، فإنّهم (عليهم السلام) يدركون تماماً مدى حاجة الزمان والمكان إلى نصٍّ متكيّف معهما ، لذا بات العقل والإجماع يموجان بالحركة والإبداع والتغيير والاستجابة للضرورة قدر الإمكان ضمن حدود وشعاع الحفاظ على النصّ وصلاحيّات الاستنباط والفهم ..

من هنا فإنّ المراد بالمعلِّم والاُستاذ ونظائرهما ما هو الأعمّ من معلِّم الدروس والعلوم والثقافة ، إنّه كلّ معلم واُستاذ ، فاللفظ عامٌّ مطلقٌ مشتملٌ على جميع الأفراد مستغرقٌ فيهم بما في ذلك المعلِّم الذي يعلّم التلميذ ولو حرفاً واحداً ..


لكنّا نعاني ـ نوعاً ـ غطرسة المعلِّم والاُستاذ وكبره وغروره واستنكافه وتعاليه واستهانته وتحقيره واستصغاره وجفاءه لتلميذه ....

نعم ، إلاّ أن يجعل التلميذ من ذلك الاُستاذ والمعلِّم صنماً يُعبَد ، فلا يذكّره بهفواته وغفلاته وأخطائه ، ويسبّح دوماً بفضائله وحسناته وخصائصه ، نفاقاً وغلوّاً وتملّقاً ; فإنّه تلميذٌ ذو حضوة ومكانة ومنزلة رفيعة ، إنّه آنذاك نعم التلميذ الوفيّ المخلص المحبّ!!

أمّا ذلك التلميذ الذي ـ رغم حبّه وإجلاله لمعلِّمه واُستاذه ـ يسعى للتعامل على ضوء الواقع والحقائق ، فلا يغلو ولا يتملّق ، يذكّره ـ بنعومة ـ بهفواته وغفلاته وأخطائه ; فينظر الجانب المشرق في معلِّمه ، ويأمل رجحانه على الجانب المظلم فيه ، بل أن يكتسحه بأنوار علومه وتواضعه ، لأ نّه يرجو في معلِّمه الخير والنجاح .... فهذا التلميذ لا ينال تلك الحضوة والمكانة والمنزلة الرفيعة ، وهو ـ للأسف ـ دون مرتبة ذلك المنافق الغالي المتملّق!!

* * *

إنّ لي مع المعاناة تأريخاً ومواقفَ وأحداث ، معاناة العلم والمعرفة والفهم والسلوك ، فما وجدت في ليالي الألم والوحدة من يرحمني ويعينني على نفسي إذ تأثم وتخطئ وتجفو وتقسو وتزهو وتعلو وتتهوّر بلا حدود وموازين ، من يسعفني على عقلي إذ لا يعي ولا يدرك ويجهل بديهيَّ الأشياء ، حيث كنت ولا زلت ذلك المتشبّث بشوارد المعلومات


والمصطلحات أختطفها من هنا وهناك فاُعيد تلاوتها ببغائياً على السطحيّين من أقراني ليقفوا منبهرين بعلمي ومعرفتي!!

وأنا المطمئنّ بقشريّة أفكاري صرت اُصدّق علوّ كعبي وسعة طاقاتي بفعل إطراء المساوي والداني!!

كنت ولازلت اُحبّ الإيمان والعلم والأخلاق الكريمة ، لكنّي لا أملك شيئاً منها .. وهذا الحبّ الذي بقي مجرّد شعور وإحساس بلا ممارسة وتصديق هو الذي يثير أشجاني وآلامي .. ولا أنسى أنّي بذلت كثير الجهد ـ اختياريّاً وإجباريّاً ـ لأفهم وأتعلّم واُهذّب نفسي ، فدرست ودرّست وطالعت وتباحثت وحقّقت وكتبت واستمعت وشاهدت وحشرت نفسي مع أهل المعرفة والثقافة والأخلاق ، وما تخلّيت عن فضاء القراءة والكتابة والبحث سوى أيّاماً معدودات لأحداث قاهرة ; كلّ ذلك علّني أجد ذاتي وأتجاوز آثامي وأقف على مواطن الجهل التي تؤرّقني وتقضّ مضجعي ... لكنّي لا زلتُ حزيناً اُحسّ بغربتي وأفتقد الدليل والحبّ : الدليل الذي يأخذ بي إلى اُسس المعرفة السليمة ، والحبّ الذي يرفد أحاسيسي وأعماقي بما افتقدته طيلة الأيّام والسنين من حنين وشوق وعطف ..

بين أهلي وأحبّتي ، وسط فضاءات الثقافة والفكر ، أجدني غريباً تائهاً غاطساً في جهلي ، يا لمحنتي وإضطرابي وخشيتي وبؤسي .... أتوق إلى الصدر الدافئ إذ يضمّني ويحميني ، إلى الصاحب الذي أشكو وأبثّ


إليه همومي ولواعجي ، إلى الملاذ والملجأ والكهف الذي كلّما حاصرتني الهموم وهاجمتني الأحداث أفرّ إليه فيؤويني ، إلى العقل المفكّر والناصح الأمين والمستشار الفطين الذي كلّما زللت وانحرفت وأثمت وأخطأت وجهلت يرشدني ويعلّمني ويهديني .. إنّي مفتقرٌ محتاجٌ لكلّ هؤلاء ، وقد بحثتُ عنهم وابتهلت ودعوتُ وانتظرت لكنّي مازلت وحيداً حزيناً أعول بغربتي وجهلي وآلامي التي تؤذيني ..

عزائي الوحيد هو لوذي بديمومة البحث والابتهال والانتظار علّني أبلغ غايتي ومناي ، وقد علّمتني أدبيّات الدين والمبادئ أنّ القنوط مفتاح الخسران ، ولاسيّما أنّ اليأس من رَوح الله ورحمته كفرٌ وظلمٌ لا محال ..

إذا اسعفتني الذاكرة جيّداً فإنّي مذ بدأت اُميّز الأشياء كنت أشعر بالأذى والألم لو نالني سهم نقد واعتراض أو استهزاء وإذلال ، وبردّ فعل معاكس سريع اُواجه الموقف آنذاك ..

وأعترف ببقاء هذه الصفة إلى الآن ، لكنّ آليّة معالجة الموقف اختلفت ، فما عدت ذلك الطفل والمراهق والشابّ الناشئ الذي يواجه الأحداث مواجهة عاجلة عاطفيّة ، وهذا أمر طبيعي منطقي يقتضيه حال العمر والخبرة والميل إلى الكياسة والتدبير التي تمنح الإنسان اُفقاً أوسع وهدوءاً أكثر ورباطة جأش يعالج بها القضايا والاُمور ـ التي منها النقد وغيره ـ معالجةً سليمةً مؤثّرة ..

لازال النقد وسواه يجرحني ويؤلمني ويثير أحزاني وأشجاني ،


والمرارة التي أتجرّعها كطعم العلقم بسببه لا تعني عدم المراجعة والتحليل والمقارنة والحفر والبعثرة للحصول على النتائج المطلوبة ، فكثيرٌ من موارد النقد والانتقاص التي تعرّضتُ لها أفادتني فوائد لا تحصى ، بل غيّر البعض منها منهج واُسلوب ومصير حياتي رغم تلك المرارة والألم الفوري ; إذ النفس والأعماق ونشاط الضمير والعقل إبّان الخلوة والوحدة لا تقبل إلاّ الصدق والحقيقة بلا أدنى وهم وغبار ، ولا شكّ أنّ أرقى النقاشات والندوات والمؤتمرات هي التي تعقدها الذات بحضور القلب والعقل وسائر الأدوات ، فإنّها لو جرت على النسق المعياري العلمي الصحيح لخرجت بأشمخ النتائج وبأبهى القرارات ، حيث يتطابق التصوّر مع التصديق تطابق المسلّمات ، وتسير العمليّة سيراً مدروساً منطقيّاً من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات .. وهذه هي واحدة من أدقّ مناهج التربية والبناء الإنساني السليم ; ذلك بفضل النقد البنّاء الذي يفتح أبواباً من المراجعة والمحاسبة والتصحيح والبناء والإبداع والبقاء والتطوّر والتأثير المستديم ..

* * *

لا اُخفي أنّي كنت أبحث عن فرصة عمل تناسبني وتسدّ قسماً من حاجتي ، ففتحت مؤسّسة آل البيت عليهم السلام آفاقها لي دون سواها في وقت كنت لا أعرف في «تحقيق النصوص» شيئاً ، صَعِبَ الأمرُ عليّ ابتداءً وكدت اُغادر مبكّراً لولا العمل الذي اُنيط بي لاحقاً ، فكتابة الهوامش عمليّة تحتاج إلى نظم واُمور فنّيّة كالخطّ الجميل وبعض


الذوقيّات وحفظ ترتيب العلماء والكتب تاريخيّاً ... وقد استهوتني ورغبت فيها ، بخلاف عمليتي مقابلة المخطوطات والاستخراج اللتين عانيت منهما ; حيث باشرت فيهما وأنا لازلت في نقطة الانطلاق توّاً ، فكنت كالأعمى الذي يتخبّط بين هذا القول وتلك الرواية ولا أعلم كيفيّة استخدام المصادر والاستخراج منها .. وصارت صياغة الهوامش مهمّتي الأساسيّة التي مُنِحتُ من خلالها كتاب شكر وترقية معاش وهديّة كتاب مستدرك الوسائل للمحدّث النوري ، الأثر الحائز على جائزة أفضل كتاب تحقيقي في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ..

امتلكت ثقة عالية بالنفس ، وكان نجاحي في صياغة الهوامش القاعدة التي انطلقت منها إلى مجالات أوسع وأهمّ ، كاستخراج المجاهيل ـ أي الأقوال والروايات والآثار وعموم الموارد التي عجز عن استخراجها حتى المدقّقين ـ وأوّليات تقويم النصوص ، ثم تقويم النصوص ، ثم المراجعة والإشراف النهائي وكتابة المقدّمات ، إلى جانب ذلك إدارة التحقيق والمساهمة في صياغة برامج وخطط وأعمال المؤسّسة والتواجد الفاعل في مختلف الأروقة والمحطّات التي تهمّها من قريب وبعيد ..

ويزيدني شرفاً وفخراً أن ساهمت في تحقيق أكثر من خمسين مجلّداً من إصدارات المؤسّسة ، وتمام ثمانية مجلّدات بشكل فردي ومستقل خارج إطارها .. إلى ذلك الإشراف ومراجعة عشرات الآثار التحقيقيّة والتأليفيّة ـ التي اُنيطت بالمؤسّسة مهمّة مراجعتها والإشراف عليها ـ وإبداء الرأي النهائي الذي عاد يشكّل نوعيّاً رأي المؤسّسة برمّتها ..


إلى ذلك : بناء الهيكليّة التحقيقيّة لبعض المؤسّسات وتمثيل المؤسّسة في بعض المؤتمرات والمهرجانات وكتابة عشرات المقدّمات والمقالات وسائر الأعمال المرتبطة بها ..

هذا ، وقد رفضت وأهملت العديد من العروض المغرية المقدّمة من مراكز وجهات شتّى ; ترجيحاً منّي للاستمرار في ما أنا عليه ، ولاسيّما شعوري بالراحة والاطمئنان والقناعة اللاّتي تشكّل دواعي هامّة لمواصلة البقاء والعطاء ..

وقد كان الانتقال من فرع مشهد المقدّسة إلى مركز المؤسّسة في قم المقدّسة برغبة من رئيس المؤسّسة ومؤسّسها ـ ونوع ميل باطني منّي ـ قد مثّل نقلة نوعيّة في حياتي من حيث حجم العمل وسعة المهامّ ومضاعفة الجهود ، ولا يمكن مقايسة الفرع بالمركز مطلقاً من شتّى الجوانب والجهات .. فرغم أنّني قد عانيت ابتداءً معاناةً شديدة بفعل الفضاء الجديد والضغط النفسي الحادّ إثر الانتظارات المرتقبة بإدارة «التحقيق» بالشكل المطلوب ، إلاّ أنّني تمكّنت تدريجيّاً من الاندماج مع المحيط واستلام زمام المبادرة وإدارة الأعمال وتنظيم الجلسات والتواصل المستمرّ مع رئيس المؤسّسة ..

وبفعل ازدياد الخبرة والاستشارة الدائمة والمتابعة صرت واحداً من اثنين تقع على عاتقهما «فلترية» كلّ أعمال المؤسّسة العلميّة والتحقيقيّة ، وأصبحتُ فيلتر الفحص العلمي والثقافي لكثير من النصوص الواردة على


رئيس المؤسّسة من داخلها وخارجها ، فأضع خلاصة الرأي النهائي بين يديه ليتّخذ بدوره القرار النهائي بصددها ..

كلّ ذلك بفضل الله وعناياته الواسعة وقدسيّة الهدف الذي نعمل لأجله ، هدف الذود عن حريم الدين والطائفة الحقّة من خلال نشر علوم آل محمّد (عليهم السلام) تأليفاً وتحقيقاً وإشرافاً ومراجعةً وإدارةً ...

وما كنّا نكترث كثيراً بمحدوديّة الوارد المالي ـ رغم الحاجة الماسّة إليه ـ وصار طبيعيّاً أن نستلم معاشاتنا كلّ شهرين مرّة واحدة ، «ولا أنسى بركة تلك المعاشات» ولعلّها استجابة وقبول ربّاني لجهودنا في خدمة القيم والمبادئ المقدّسة .. نعم ، بدأنا أجورنا بالعشرين توماناً فقط عن الساعة الواحدة ، ويوم قالوا لنا : ترقّيتم إلى «ثلاثة وعشرين توماناً» فرحنا وعوائلنا كثيراً ..

أبداً ما حييت ، لن أمحو عن ذهني أنّ مؤسّسة آل البيت عليهم السلام قد منحتني الفرصة التي غيّرت مجرى حياتي علميّاً واعتباريّاً واقتصاديّاً ، فلها عظيم الفضل والامتنان ، وسأبقى شاكراً لها ولرئيسها وأعضائها وإدارتها ; لما بذلوه بحقّي من جميل وإحسان .. وبالتضايف ، فلقد منحتها ـ ولا زلتُ ـ حبّي وعشقي وطاقتي وشوقي ورغبتي ، ولا يمكنني تخيّل انفكاكي عنها بأيّ حال من الأحوال مادام الهدف والمصير واحداً .. ولا اُغالي إن قلت : إنّها تجري في عروقي وشراييني وخالطت لحمي ودمي وهيمنت على عقلي وأفكاري ومشاعري وأعماقي ..


ولن أغفل أبداً عمّا بذره في قلبي وحناياي وذهني هذا الرجل الجليل والأخ الكبير العلاّمة الحجّة السيّد جواد الشهرستاني من أمل وثقة واحترام ، فجعلني أنطلق مفعماً بالحيويّة والفاعليّة لمواصلة الذود عن الدين والقيم الحقّة .. فلله درّه وعليه أجره .. كما اُحيّي شقيقة العلاّمة الحجّة السيّد علي الشهرستاني حيث منحني الثقة يومَ كنت في مشهد المقدّسة ..

أفخر بمواصلة العمل مع الجواد رغم كلّ ما قيل ويقال ; للقناعة الراسخة الصلبة بنزاهته وإخلاصه ووفائه لمبادئ الولاية المقدّسة ، وأعتقد أنّ التخلّي عنه خيانةٌ وعمل غير أخلاقي ، وسأبقى أذبّ عنه مادام ذابّاً عن حريم المذهب والطائفة ..

نعم ، سأستمرّ في التواصل معه بسفره وحضره وصحّته ومرضه حتى وإن أحسست ببعض جفائه معي ; لأ نّني لا أستطيع نكران كلّ هذا اللطف الجميل بمجرّد لحظات جفاء عابرة ، ولاسيّما أنّه ذو القلب الرقيق والحسّ المرهف ، ولطالما أعربنا وأفصحنا عن كونه الملاذ والملجأ والكهف لنا جميعاً .. وحينما أتخيّله قد استبدّ وعلا أعود فألمس فيه مواقف ترجح على هذا الخيال وترسّخ الحقيقة التي تقول ببقائه كما كان أيّام «فرع ممتاز» ، أيّام المحنة والأحداث الشداد ..

وحينما اُبدي ملاحظاتي وانتقاداتي إنّما اُعبّر عن حبّي وحرصي على هذا الكيان ومستقبله :

فأنا أدعو إلى الشفّافيّة والوضوح في بناء وبيان الهيكل الإداري


وتشخيص الحدود والصلاحيّات بإطار ومحتوى قانوني واضح ..

كما أرفض أساليب «الإسكات» واُنادي بأساليب «الإقناع» ..

ولطالما صرّحت بافتقادنا لروح الإبداع والبرمجة وانحصارها في بوتقة التنفيذ والإجراء كأ نّنا أدوات ميكانيكيّة تعمل بحركة ونظام معيّن لا يتغيّر ..

ولست مع أساليب الحذف التي تطول وطالت بعض المحاور والأقطاب واستبدالها بعناصر لازالت في بداية المشوار مع اعتقادي بأنّ الجمع أولى من الطرح ..

ودعوت كثيراً إلى رعاية الأفكار والمشاريع التي تطرحها طاقات الكيان وعدم إهمالها ، في نفس الوقت ـ للأسف ـ الذي تُحترَم فيه أفكار ومشاريع اُخر مشابهة لأ نّها عُرِضتْ من أسماء لامعة ..

وشجبت كراراً أجواء النفاق والملق والصنميّة التي تدنّس طهارة أجوائنا ..

أمّا المنّة فلقد عانى منها ـ ولا زال ـ الكثيرون ..

والعصبيّة المفرطة والأساليب الخشنة التي طالما ترافقها الإهانات والشتائم لا تناسب فضاءاتنا مطلقاً ..

ومظاهر الإسراف والترف لها الأثر السلبي علينا جميعاً ..

والمؤسف أنّ الحضور الفيزيائي المقرون بإبداء مظاهر الولاء بات الراجح على غيره ..


وعدم تحمّل النقد والآراء الاُخرى شاخصٌ بيّنٌ لا ينكر ، مع ما للنقد والاعتراض من عواقب بعيدة المدى على الناقد ..

وجميعنا معلّقون بشعرة ليس إلاّ ، فرغم أعوام الجهد الطويلة قد تجد نفسك خارج إطار الكيان لغياب الاُسس القانونيّة والرسميّة ..

ثم ماذا لو غاب المؤسّس؟ سينهار كلّ شيء ; لعدم وجود تخطيط بعيد المدى ..

وغياب الحرّيّة المنطقيّة ساهم في تعزيز أساليب التفرّد والاستبداد ..

وشعار رجحان الاستقطاب على الطرد تنقضه موارد كثيرة لا أدّعي بلوغها مرحلة التخصيص المستهجن لكنّي أخشى ذلك ..

والادّعاء بتوفير كلّ الأجواء المطلوبة لاستمرار نشاط المؤسّسة التي هي ثمرة جهد خاصّ يخدشه غياب المؤسِّس عن الحضور العلمي والمتابعة مع بقاء الكلمة الفصل له في كلّ شيء رغم قوله إنّه سلّمها ـ أي المؤسّسة ـ إلى المسؤولين عليها ..

وللولاء ثمنٌ فلابدّ من السكوت وإظهار الموافقة الدائمة وعدم النقد وإبداء الملاحظات لنيل المراد ...

كلّ هذا لا يعني النظر إلى القسم الفارغ من الإناء ; إذ السيرة والواقع العملي والاعتقاد الذاتي يثبت أنّني طالما ذدت وأذود عن قسم الإناء الممتلئ ، ذوداً حقيقيّاً منبعثاً من قناعتي الراسخة بالكيان والمؤسِّس .. أعتقد أنّني يجب أن أكون سنداً وعضداً وساعداً لا ذيلاً وتابعاً ومقلّداً


أعمى ، فالمعرفة والفكر والثقافة هي اُسّ وجود الكيان ، وعلى هذا نشأنا وتربّينا وسنواصل الدرب بعزّ وكرامة وعنفوان ..

والحمد لله ، فأنا أكتب هذا وقد مضى على انتمائي إلى مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) ثلاثة عقود من الزمن ، سنون أعتزّ بها اعتزازاً كبيراً ، وما ادّخرت عنها جهداً وإخلاصاً وطاقة وتخصّصاً منذ البدء إلى يومنا الحاضر ، وسأبقى مادمت مؤمناً بها وبأهدافها الرامية لحفظ ونشر وإعلاء القيم والمبادئ الحقّة ، ومادامت هي كذلك ..

وأحمده تبارك وتعالى أن اُدوّن كلماتي هذه وأنا الذي لا أطلب لقضاياي الخاصّة ولا ألهث خلف المطامع والمغريات ، ولا يُعرَف عنّي التملّق والببغائيّة والنفاق والصنميّة .. نعم ، أفضال ومكرمات وإحسان المؤسِّس بحقّي لا تنكر مطلقاً ، لكنّه المبادر دوماً ولستُ الطالب .. ولعلّ أروع ما خصّني به المؤسّس : دعمه وإسناده العلمي والثقافي لي منذ تلك السنين إلى يومنا هذا ، الأمر الذي منحني ثقة بالنفس عاليةً وظّفتها في تنمية وتطوير مجالات اُخرى سوى التحقيق ، كالكتابة والإشراف والمراجعة وإبداء الرأي المحكّم .. وهذا ما اُدين بقسم كبير منه للمؤسِّس الجليل ..

* * *

«المجالس بالأمانات»

شعارٌ أخلاقي يعني : عدم إفشاء ما حصل في مجلس معيّن وإبقاؤه


ضمن حدوده ، فلا يخرج ولا يتسرّب منه شيء بتاتاً ..

ولدواعي عدّة يُخرَق هذا الشعار ويُنتَهك الالتزام الأخلاقي ، والأنكى في ذلك هو التسريب الانتقائي ; إذ يختار المنتهك مقاطع ومواقف وأقوالاً مبتورة ، أو يستفيد من أدوات وكيفيّات وأساليب تحطّ من المصدر وتشوّه مقولاته رغم النقل التام ، فيعكس صورةً سلبيّةً مخالفةً للحقيقة .. وبذلك يكون قد ارتكب مخالفتين ، الاُولى : نقض الالتزام بعدم الإفشاء ، الثاني : الإفشاء الناقص المبتور والمشوّه للواقع أو الاُسلوب المغرض في النقل رغم تمامه ، فيقلب الحقائق وتترتّب آثار غير محمودة ولاسيّما إن كان الطرف الثالث قليل التفحّص والتأمّل والبحث والدقّة ، أو كان ينتظر بالطرف الأوّل الزلّة والخطأ ليساجله ; سواء لتصفية حسابات أو بواعث اُخر ..

وهذه آفة من الآفات غير الأخلاقيّة التي تعاني منها البشريّة ، خصوصاً مجتمعاتنا التي تعجّ بالتخلّف القيَمي المبادئي والثقافي ; إثر التنائي المتصاعد يوماً بعد آخر عن المفاهيم الإنسانيّة السليمة والمعايير الدينيّة الأصيلة ..

* * *

أفرادٌ وجماعاتٌ وفرق وطوائف وقوميّات ، مذاهب وأحزاب وتيّارات ومدارس واتّجاهات ، دول وحكومات وأنظمة ، تحالفات وعهود ومواثيق وعلاقات ، حروب وخلافات وصراعات ، سباقات وتنافسات ، ندوات ومؤتمرات وجلسات ، سفرات ولقاءات واتّصالات واستشارات ،


مخابرات وجواسيس ومعلومات ، اقتصاد وسياسة وزراعة وصناعة ، ثقافة وإعلام وفنون ، تربية وتعليم ، مناهج وخطط واستراتيجيّات وتكتيكات ، أفكار ومبادئ وأخلاق ، ترويج ومظاهر ودعايات ، دين وتاريخ وفلسفة ، علوم وأكاديميّات وآثار ، ابتكار واكتشاف واختراع ، جوهر وأصالة ، استقلال وتحرير واحتلال ، تقليد واتّباع ، مدوّنات ومسموعات ومرئيّات ، حوارات ونقاشات ، معاهد ومراكز ومؤسّسات وجامعات ، معسكرات وقواعد وأساطيل ، جيوش وتعبئة وجماهير ، أهدافٌ وغايات ، ماض وحاضرٌ ومستقبل ، موتٌ وحياة ...

قوائم وأعداد وسجلاّت وملفّات لا متناهية من الإحصائيّات والأرقام والأحداث والنتائج والمصطلحات والجزئيّات والكلّيّات والتصوّرات والتصديقات ، جميعها تروم شيئاً واحداً هو : البقاء ، والعنصر الراقي لهذا «الشيء الواحد» : التفوّق ، الذي من آثاره : السيطرة وتأمين المنافع والاستمرار باطمئنان ، وقلّما يفارقها ـ أي الآثار ـ الاستبداد والقهر والظلم والحذف والترويع وامتهان الحقوق والكرامات والسوق نحو الإذلال والتبعيّة والاستنزاف ..

أساس البداية ونقطة الانطلاق شخصٌ وإنسان واحد ، رواشح فكر وشعور واحد ، غريزة واحدة ، ثم تتّسع الفكرة الوليدة ، وليدة العقل والقلب والروح والضمير الواحد ، لتخترق عقولاً وقلوباً أكثر فأكثر ، شيئاً فشيئا ، خطوةً خطوة ، لحظةً لحظة ، فتغدو تيّاراً ونهجاً وفكراً ورسالةً ترسم معالم اُمّة ـ ولربما الدنيا ـ بأسرها ، الاُمّة التي تعني الفكر واللغة والتاريخ ،


المبادئ والهويّة والمصالح المشتركة ..

ليس الأمر بهذه السهولة والبساطة ، إنّه نتاج وراشح جهد خارق وعزم راسخ وتحمّل كبير وإحاطة وعلم ومعرفة وإيمان وصلابة ، مرتكزة كلّها على اُسّ عميق مؤنته : إفرازات الغريزة واستعداد العقل والثقة العالية بالنفس ..

ولسنا في مقام بيان القسم النبيل والمشروع ـ باعتقادنا ـ من القيم والمبادئ والأهداف ، وصفات العزم والتحمّل والإحاطة والعلم والمعرفة والإيمان والصلابة ، بل نقصد كلا القسمين : النبيل المشروع والدنيء غير المشروع ، فكلّ واحد منهما إن لم يتوفّر على الشروط المهيّئة لانتشاره وبقائه ونموّه لا يمكنه أن يتحوّل إلى فكر ورسالة ومنهج ..

والغريزة إذا ما تختصّ بالقوّة والطموح وسعة الاُفق فإنّها تخلق الثقة العالية بالنفس التي تصنع الجرأة والتحمّل والعزم والإرادة الصلبة نحو تحقيق المرام ، ولعلّ الواحد منّا يمتلكها ولكن بتفاوت في الشدّة والضعف ، فإذا اُضيف إليها الذكاء فإنّهما يكوّنان مركّباً راسخاً منسجماً يسير بإحكام لنيل المقصود ، والذكاء أيضاً فيه منازل ودرجات .... لذا فإذا كانت الغريزة والذكاء حائزين على الخصائص المطلوبة فالأرضيّة الخصبة سرعان ما تينع ثماراً ونتاجاً ..

وباستقراء التأريخ والسيرة والتراجم وأساسيّات الفكر والمعرفة تُظهر النتائج أنّ غلبة الأديان والمذاهب والأفكار والنظريّات وحصول


الاكتشافات والاختراعات وكلّ ما صدّرنا به البحث من علوم وثقافات وديناميكيّات وأخلاق ومبادئ ... الأساس فيها ـ كلّها ـ توفّر الشروط الموضوعيّة في إنسان واحد فقط ، ولكن بالاستفادة القصوى من الغريزة والذكاء ، التي قد تنتج القيم والأفكار والأشياء النبيلة المشروعة وقد تنتج الدنيئة غير المشروعة ..

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الاُصول والمفاهيم السماويّة المنتشرة عبر الرسل والأنبياء والأوصياء والصلحاء ، كمحرار لنا نحن أتباع الديانات الإلهيّة ، لاتّضح لنا المائز والفيصل من الدناءة والنبل ، بين الغريزة الصالحة والغريزة الفاسدة ، بين ذكاء الخير وذكاء الشرّ ، بين الجرأة والثقة العالية بالنفس الموظّفة في سبيل الأهداف الإنسانيّة الإيمانيّة ، وتلك الموظّفة للأهداف الشيطانيّة ; وبالتأمّل العميق المتواصل نعرف ذواتنا أيضاً وإلامَ تطمح وتروم ، وهذا ما يشيد لنا الفرصة الثمينة للمراجعة والمقارنة والاستقراء والاستقصاء كي نحلّق في الفضاءات النقيّة والأجواء الصافية ; إذ درك النفس وفهمها الصحيح يفتح الطريق السويّ لتلك المعرفة التي خُلقنا لأجلها ، لمعرفة الربّ ، أساس الهداية والفلاح ..

هذا كلّه غير خاف على كثير من الناس للوهلة النظريّة الاُولى ، إلاّ أنّ المشقّة والألم يكمنان في المكاشفة الذاتيّة الشفّافة ، فأين أنا وأيّ جهد بذلته لمعرفة نفسي ، أين العدل والإنصاف والجرأة والواقعيّة في تحليل الغريزة وصفاتها ونشاطها ، حسنها وقبحها ، خيرها وشرّها ... وإن كنتُ على مقدار من الذكاء فبما استخدمته واستفدت منه ، والثقة العالية بالنفس


ـ إن كانت ـ ما هي ثمارها ونتاجها؟ استفهاماتٌ شفّافة تترقّب أجوبةً مسانخةً لها ..

* * *

ليت شعري لِمَ أنا غاطسٌ في الإثم والخطأ والرذيلة وأنا الذي خُلقت لأضدادها ، لِمَ لا أدّخر سعياً لترميم ما اخترب من سلوكي وأعمالي وأفكاري وأحاسيسي وأنا الذي مُنحت العقل والقلب والفطرة السليمة؟ فهل هي الغريزة المتمرّدة المنحرفة والفطرة المهجورة والعقل الذي لا يفقه الحقيقة والقلب المصدوء الذي أعمته الأدران والشهوات والأضغان؟ أتذرّع بكلّ ما اُوتيت من ذكاء ولباقة ومناورة لأبلغ المرام ، أفعلُ الشيء ثم أصطنع له المبرّر الشرعي ، وعلى حدّ قول الكثيرين : قتلتنا التورية والشأنيّة ، وأنا أقول : مسكينتان هما التورية والشأنيّة ; إذ صارتا قميص عثمان مع ما لهما من قانون وشروط تحكمهما وعدنا نفسّر كلّ كذبة وخيانة وغطرسة واستبداد بأ نّها من مصاديقهما ، فساءت سمعتهما بين الناس .... وعلى هذا المنوال مسائل القياس والإجماع والشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فنعمل بالقياس ونردّه نظريّاً ، ولا نكتشف رأي المعصوم عليه السلام لكنّنا نجعل الحجيّة بداعي تحقّق الإجماع ، ونقتحم الشبهات ـ الحكميّة منها والموضوعيّة ـ رغم بقائها شبهات ... هذا غيض من فيض ، فالمثال لا يعني الحصر إنّما التقريب والتوضيح أكثر ..

لقد هجرنا الجوهر والأصل والمحتوى وتمسّكنا بالقشر والغلاف والظاهر ، لضعف همّتنا لا قوّة مناوئنا ، لحرصنا على منافعنا ورغباتنا ،


لا صفاء وإخلاص عدوّنا ، لهروبنا وخشيتنا من لوازم عملنا بالجوهر والأصل والمحتوى التي تعني تغليب القيم والمبادئ ، لا ثبات ونبل منافسنا ، لتشتّتنا وتناثر قلوبنا وجهلنا ، لا وحدة وانسجام وعلم رقيبنا ... فعلنا كلّ ما يبعدنا عن تلك الغريزة المقدّسة والفطرة الطاهرة وذلك العقل العظيم والفكر الكبير ، خضوعاً منّا واستسلاماً للرغبة والشهوة والكسل ..

ما كان للأنبياء والرسل والأوصياء والصالحين في تلك العهود سوى الفطرة والعقل السليمين سلاحاً في بلوغ المقصود ، فأرسوا للقيم الحقّة والمبادئ المقدّسة قواعد وأدوات وآليات لازالت ألقةً شامخةً ليومنا هذا .. أمّا نحن في عصر العلم والتقنية إذ نمتلك كلّ شيء إلاّ تلك الفطرة والعقل السليمين ، ترانا نتخبّط في وديان الضلالة والحيرة والضياع والانحراف والضعف والذلّ والتبعيّة ونعشعش على القشور والظواهر ..

نعم ، إذا ما صلحت الغريزة وعدنا لفطرتنا التي فطرنا الله عليها وعملنا بعقولنا لا بعواطفنا سنكون امتداداً لرسالة السماء ومصداقاً حيّاً للقيم الإلهيّة والمضامين الربّانيّة ، عباداً مخلَصين ، وإلاّ فنحن امتدادٌ لحركة الشيطان وتجسيدٌ لتحدّيه السيّىء الصيّت بإغواء الجميع ..

ومَن منّا لا يحمل شيطاناً في عقله وقلبه وروحه ومشاعره وأعماقه وحناياه ، لكنّه صراع دائم ساخن لا يقف ولا يبرد أبداً ، فإمّا النصر وإمّا الهزيمة ولا خيار ثالث في المقام ، والإجماع المركّب معدوم هنا تماماً ، ولاسيّما أنّ المعادلة لا تحتمل سوى طرفين : الكفر والإيمان ، وحرّيّة الانتخاب موجودة .. نعم ، باب التوبة مفتوح ، إلاّ أنّنا نجهل تماماً لحظة


النهاية ، إلى ذلك فالتوبة مقبولة بشرطها وشروطها ..

«اللّهمّ إنّي أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع ومن صلاة لا تُرفع ومن دعاء لا يُسمع» ..

* * *

لن تبقى الحقيقة خالدة في الخفاء ، فلابدّ ما يأتي اليوم الذي تنقشع فيه الحجب لتسطع كالشمس في رابعة النهار ، سواء كنّا أم لم نكن ، شئنا أم أبينا ، وسوف تتناقلها الناس جيلاً بعد جيل ، نعم ، إنّها حقيقة الأشياء التي تستحقّ عناء البحث والفحص والكشف ..

بمعنى آخر : كلّ الأفكار والأحداث والمواقف والكلمات والآثار التي تمنح البشريّة درساً في التربية والتعليم ، ستكون رائد الميدان الذي لا يجارى ، فهي سنّة الحياة ووعد السماء .. فكم من الحقائق إذ ظنّ المناوئون طمسها ومحوها قد شمخت وألِقت وصارت مناراً واُسوةً يُقتدى بها ..

علينا أن ندرك جيّداً أنّ الآثار الخالدة لم تُخلَّد عبثاً ، إنّما هي حصيلة جهد خارق وصبر كبير وإخلاص عظيم وتضحيات جسام والتزام جادّ بالقيم والمبادئ ، التأمت جميعاً كي ترشح حكمةً وتدبيراً ، انسجم في بنائهما العقل والقلب على السواء ..

وكم حاول الكثيرون بآثارهم المختلفة اللحاق بركب الخلود لكنّهم تخلّفوا ولم يبق لهم ذكر يتلى ، وكم من مغمور ومنعزل وصامت افتخر ركب الخلود بضمّه إليه رغم عزوفه عن الدنيا وشهرتها ; إذ الضابط


والميزان والملاك هو مدى التأثير في العقول والقلوب ، ولا ننسى العنايات والألطاف السماويّة التي لها اللمسات البارزة في التعيين والانتخاب ..

أبداً ستظلّ كلمة الحقّ الرافضة للظلم والانحراف والخطأ والفساد ـ غير المساومة ولا المهادنة إلاّ من أجل العدل والإنصاف والإيمان ـ شمعةً تنير الدرب للسائرين نحو العزّ والكرامة والكمال الإنساني ، نحو الخير والأمن والسلام والفلاح ..

* * *

في يوم ما جمعتنا جلسة بمرشّح شهير للانتخابات النيابية المزمع إجراؤها آنذاك ، تداولنا ـ على جناح السرعة ـ قضايا ومواقف مختلفة ، بتفاعل وحيوية جيّدة ، ممّا حدا به الإشادة بهذه الجلسة الخاطفة حيث وصفها بـ «الندوة» ..

الذي استنتجته كحاصل لهذه «الگعدة» القصيرة : أنّنا لازلنا على مسافة بعيدة عن المحتوى والمبادئ التي وردت في أدبيّات الرسالة والفكر الذي ننتمي إليه ، ولازال صدر الرسالة وعصرها الأوّل بممارساته وفهمه لحقائق الدين والولاية أرقى كثيراً منّا ، رغم كلّ القرون والتغيّرات والتطوّرات ، رغم ادّعائنا أنّ الأعلام الاُوَل ـ بمن فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم تسنح لهم الفرصة الكافية لتطبيق قيم الدين والرسالة بالشكل والمحتوى المتكامل ، فهي إن كانت قد سنحت لهم في تطبيق ما طُبّق من قيم الفكر ومبادئه فنحن في العصر الراهن نفتقد حتى الأساسيّات والشروط الأوليّة الواجب توفّرها في عمليّة التأسيس والبناء ناهيك عن


الاستمرار الرصين والعطاء المطلوب ..

إنّنا ضمن إطار البيت الواحد نعاني الفرقة والشتّات والتغالب والحذف والتسقيط وبثّ روح الضعف والتراجع في نفوس الناس المفتقرة إلى الانسجام والاُلفة والأمن والسلام والرفاه ; حيث طال انتظارها لعقول نيّرة وقلوب طيّبة وهمم عالية تنهض بها من الواقع المأساوي إلى فضاءات الخير والإيمان والراحة ..

والذي يزيد الحزن والألم أنّنا لازلنا نصرّ ـ بأساليبنا وممارساتنا ـ على البقاء «طفوليّين» «نفعيّين» «مستجدّين» في عمليّة التأسيس والبناء برفضنا المعايير العلميّة والشروط الموضوعيّة لهما وتمسّكنا بأدواتنا الفاشلة ورغباتنا الفرديّة ..

إلى ذلك ، فلقد نجح النظام البائد ـ للأسف ـ في اختراقنا بغرسه ثقافة الاستبداد والطغيان فينا بلا ارادة منّا ، رغم معارضتنا واختلافنا الكبيرين معه ، وهذه من أشدّ المحن التي سنبقى نعاني منها وتظلّ ساريةً في حنايانا إن لم نتمكّن من معالجتها وإماتتها في نفوسنا من خلال العزم المنهجي الجادّ بالرجوع إلى ذلك المحتوى الأصيل وتلك المبادئ التي صاغها أعلامنا ومارسوها بما توفّر لديهم من الوقت والإمكانيّات ممارسةً رائعةً هي في الحقيقة مناهج وأنساق لنا ، لا يمكن لتغابر الزمان وتباعد المكان أن يسقطاها عن مرتبتها الرفيعة ومنزلتها الشاهقة ..

إنّنا على مفترق طريق :


إمّا أن نثبت للاُمّة كوننا بمستوى المسؤوليّة والتحدّي ونعمل بجهد وإخلاص لانتشال الناس من هذا الواقع المرير ، انتشالاً شاملاً تلوح بوادره بسلسلة إجراءات عمليّة تُمضي صدق نوايانا فيمحنا الناس الولاء والثقة ..

وإمّا أن تبقى التناحرات الفئويّة والثقافات الرديئة والرغبات الانتمائيّة والذاتيّة حاكمة علينا فتغسل الناس أياديها منّا وتقرأ علينا فاتحة الموت والفناء الأبدي ..

ولا أرى الخيار الثالث ممكن الطرح ; لأ نّه يقودنا إلى الأخطر ممّا نحن عليه الآن ، فأن نُنعَت بالمنافقين والانتهازيّين فهذا أمرّ علينا من الموت الزؤام ..

* * *

شكّل «التحدّي» عنصراً هامّاً ودافعاً قويّاً في الوقوف والانتباه إلى أخطائي ونواقصي وتشخيصها ثم السعي إلى معالجتها ورفعها وعدم تكرارها ، ممّا منحني فرصة التفكير الجدّي بملء الفجوة وردم الهوّة التي طالما عانيت ولازالت اُعاني منها ، هوّة الجهل المعرفي والثقافي والأخلاقي ..

منذ نعومة أظفاري وأنا أعيش التحدّي بكلّ أحاسيسي وعقلي وأعماقي لا لأجل شيء سوى لأ نّي اُريد إثبات العكس ; إثبات كوني لست جاهلاً ولا سيّئ الخلق ، أمتلك مقداراً من الذكاء والقدرة على التفكير المنتج ; اُواجه المشكلة والطارئ والحاجة مواجهةً منهجيّةً منطقيّةً


لأبلغ الحلّ المناسب ; اُعالج رغباتي وأهوائي ونقاط ضعفي ومساوئي بأدوات الحقيقة والعدل والإنصاف ; اُبرهن على كوني لست رقماً عاديّاً ولا مهملاً ، إنّما إنساناً له بصماته المؤثّرة وأفكاره النافعة ; اُراهن على الحبّ الذي شغل مساحة القلب كلّها ولم يُبق لغيره شيئاً ، حبّ الناس والأهل والوطن والدين والمبادئ الحقّة والأخلاق السامية ; وبذلك سار «التحدّي» معي بل تمازج بأفكاري ومشاعري ..

ومنشأ التحدّي أسبابٌ :

منها : «النقد» الذي تعرّضت وأتعرّض إليه ، سواء نقد الآخرين لي أم نقدي لنفسي ، فالنقد مهما كان فإنّه يحرّك المراجعة وينشّط المحاسبة رغم المقاومة الأوليّة والظاهريّة التي نبديها إزاءه ، إنّما المناط والملاك حين الخلوة بالذات ، فلا مجال للعزّة بالإثم ولا لنظائرها مكان ; ولو جرت عمليّة المراجعة طبق المعايير العلميّة الصحيحة فإنّها تمهّد لرواشح ونتائج منمّية ومطوِّرة ; ولعلّني أجدني استفدت كثيراً من آلية المراجعة التي تأتي عقيب كلّ نقد خارجي وداخلي ..

وليس الأمر بتلك السهولة كما قد يُعتقد ، بل للمرارة والألم والمعاناة والتحمّل وجودٌ شاخص ; ولاسيّما حينما تعلم يقيناً أنّك تستطيع جني ما تريد بسهولة لكنّك تمتنع التزاماً بالاُسلوب ونمط التفكير الذي انتقيته لبناء الشخصيّة وحفظ العزّة والكرامة الإنسانيّة ، إنّها القيم والمبادئ التي جعلتها ركيزة السداد والفلاح ... فحينما تلمس بالعقل والجوارح مواقف


ومشاهد وآليات وأفكار ترفضها الأذواق وتشمئزّ منها الفطرة السليمة والأذهان الواعية وأنت تمارس ضبط النفس ... حينما تلحظ القفز على المبادئ والانحراف عن القيم والتأويل المشوِّه وتدخّل الرغبات الذاتيّة في صياغة القرار وهجران العوامل الموضوعيّة والمنهجيّة ، وأنت تتضوّع ألماً وحزناً لما يجري ويحدث ... حين تلحظ الاستبداد والغطرسة والحيف والمظاهر التي تتنافى مع الهويّة والاعتقاد وأنت تتذوّق مرارة الصبر ....

فليس أمامك إمّا أن تخضع للفضاء الحاكم وتنجرف مع التيّار وتنسى أنّك تروم البناء على أساس المبادئ والعزّة الإنسانيّة ... أو تقف ندّاً معارضاً مخالفاً للفضاء الحاكم ، وهذا يعني إعلان الحرب بسلاح بارد ... أو تعمل بالتفصيل : بأن تبقى في إطار الفضاء الحاكم لكنّه بقاءٌ يعتمد النقد البنّاء بأساليب هادئة مدروسة ، ولعلّه الانتخاب الأصلح والأفضل في ظلّ الشروط الحاكمة ..

علّمني «النقد» ألاّ أسكت حين ينبغي ألاّ أسكت ـ ولعدم السكوت أدوات وآليات ـ مثلما تعلّمت من الصمت كيف أبني وأصوغ أفكاري ، وكيف أنّ الإسراف في الكلام قد يقود إلى الخطأ والثرثرة ولغو الحديث ، وعلّمتني «مناعة الطبع المتنامية» كيف اُعبّد الدرب لبلوغ المقصد والمرام ، وكيف أستريح من همّ الالتزام غير النافع ، والانطلاق بثبات نحو مزيد من الاستقلاليّة والكرامة الإنسانيّة وحرّيّة الانتخاب ، الحرّيّة التي أشعر بلذّتها المتزايدة وتأثيراتها المباشرة على عقلي وأفكاري وأحاسيسي ..


هكذا هو الإنسان دوماً ، يتعلّم من الموافق والنقيض ـ على السواء ـ ليدرك المطلوب ، فمن الموافق نستلهم العمل بالإيجابي ، ومن النقيض نستلهم ترك العمل بالسلبي ، ومن نافلة القول أذكر أنّ المعروف هو كون الاجترار والتكرار والحشو والتطويل بلا طائل والاختزال المخلّ ... اُموراً سلبيّة علّمتني ألاّ أكتب كذلك ، إنّما أكتب لحاجتي إلى الكتابة ، فهي متنفّس أفكاري وهمومي وآلامي ، غير لاهث بها نحو التجارة أو الإساءة والطعن والتعريض ، اُريد أن اُعرب بكلماتي عن تجربة ـ أعتقدها ناحجة ـ نقلتني ـ على أدنى تقدير ـ من قلق الجهل وخوف الانحراف وذلّ التبعيّة واضطراب القرار وخشية الامتهان وهدر الكرامة إلى اللاّ تصنيف في زمرة الجاهلين والمنحرفين والذيليّين والمردّدين والممتهَنين ..

لعلّ من أهمّ رواشح المراجعة والمحاسبة والتدقيق ـ ولاسيّما المقرونة منها بالجهد الثقافي المعرفي ـ أن يعلم الإنسان : متى يبادر ويتحرّك ويفعل ويقول ومتى يبقى على صمته وسكونه ، كيف يواجه المواقف والأحداث المختلفة ويعالج المريضة منها .. وهذا معنىً من معاني الكياسة والفطنة ....

أن يعلم بالوعي والحكمة وسعة الاُفق أنّ المستقبل آت كما كان الماضي ويكون الحاضر ، آت بشتّى افتراضاته واحتمالاته ، فلعلّ الملك يزول والمجد ينهار والغنى يبور وتنقلب الاُمور رأساً على عقب ، مَن يدري فقد يألق الداني ويتدنّى الألق ; فالوعي والحكمة وسعة الاُفق رقيبٌ كبير حتى في أعزّ مراحل الشموخ وذروة السموق ، ينذر بالعواقب


الوخيمة للغطرسة والاستبداد والظلم ، ويدعو إلى التمسّك والحفاظ والبقاء على القيم والمبادئ الحقّة السليمة ; إذ الخلود خلودها ، وما سواها يجني اللعنة واللوم والخسران .. وهذا أيضاً معنىً من معاني الكياسة والفطنة ....

أن يتواضع الإنسان ويحترم الكرامة والعزّة الجماعيّة ويعمل بالعدل والمداراة ، ويتسامى فوق الغطرسة والاستبداد والظلم ، ويفتح للحرّيّة المنطقيّة فضاءات وآفاقاً ، ويجعل المبادئ الحقّة الضابط والملاك والميزان في كلّ شيء ... ذلك وهو في عنفوان الملك والعلم والثروة والجاه ; فإنّه مفهوم الخلود السامي ومعناه الحقيقي العالي ..

ولقد علّمني النقد والمراجعة والمحاسبة كيف اُحاول تضميد الجروح وتجبير الخواطر وتلافي الأخطاء ، وأسعى مبرهناً على كون الفعل الصادر منّي أو القول والتقرير غير مقصود به التأليم والتعدّي ، ولا يُمثّل العقليّة الخاصّة بي ، ولا عمق المشاعر الذاتيّة ، إنّما هي كبوة مرارتها تقطّع قلبي وأحشائي ولعلّها أكثر تأليماً لي ممّن وقع عليه الفعل أو القول والتقرير المعهود .... إنّ التوتّر والجفاء والقطع كلّها لا تجدي نفعاً ولا تُدرِك غايةً ولا تحقّق مقصوداً ، فلِمَ لا نجعل من عقولنا وقلوبنا وأحاسيسنا مسرحاً للصفاء والوئام والحبّ ونزيح عن ذواتنا عناصر القطيعة والجفاء والزعل ، فإنّنا نتقاطع ونلتقي في الأكثر ولا نختلف إلاّ في القليل ، ولعلّ الخطوة منّي والخطوة منك تسمو على هذا القليل أيضاً ، ولستُ أدّعي زوال الخلاف إنّما أن نلتقي حتى مع وجود الخلاف لا أن نفترق والمشتركات أكثر فينا .... إنّ الجفاء والقطيعة أمران مؤرّقان ولاسيّما إن


كانت جذورهما تافهة سخيفة ، بل حتى مع شدّتهما وعمقهما فإنّ الحوار الإنساني الجادّ يفتح فضاءات من التلاقي يذوب معها جليد الجفاء وصخور القطيعة وتجفّ دماء الحروب وتنقشع رواسب الحقد والكراهيّة ، فلابدّ لنا من التخلّي عن قواعد الثقافة المرفوضة ، ثقافة القطع والعنف والحذف والتشويه ، والسعي إلى إياب علمي لاُصولنا وثوابتنا ومعارفنا التي تدعو وتروّج للحبّ والسلم والأمن والصلح ; إذ مهما بلغت بنا ذروة الخلاف فلابدّ من الإبقاء على رابط وخيط يعيد الاُمور إلى مجاريها في الظروف المناسبة ، وليس من الحكمة والمنطق بناء المعادلة على طرفين لا ثالث لهما : «إمّا معي وإمّا ضدّي» ، فالطرف الثالث لابدّ منه في المعادلة كي يعيد التوازن ويصلح الاُمور ويشكّل نقطة الارتكاز في العودة إلى طاولة الحوار لطرح ومناقشة ومعالجة الإشكالات الحاصلة ، وبدونه فإنّ ثغرة الخلاف تتّسع لتصبح خندقاً ثم وادياً سحيقاً يصعب معه مدّ جسور التلاقي من جديد ..

* * *

لستُ مهتمّاً كثيراً بكتابة شيء عن سيرتي الشخصيّة ، فاُترجم كما يترجم البعض لذواتهم ، لكنّي مؤمنٌ بالمراجعة والمقارنة والبحث والاستقراء والتحليل كمحاور مفصليّة في البناء والتنمية .. وبقدر ما تسعفني الذاكرة وتعينني على استحضار ما مضى من المحطّات والأحداث فسأبذل جهداً لأكون واقعيّاً في التعامل ـ مراجعةً ومقارنةً وتحليلاً ـ مع سالف الأيّام وحاضرها ، علّني أقطف نتائج ورواشح تدعمني في تعميق


وتطوير أفكاري وممارساتي ..

كان الصفّ الأوّل الابتدائي نقطة انطلاق فاشلة من جانبين :

الأوّل : انعدام الرغبة في الحضور الفاعل ; ولعلّه بسبب القيود والالتزامات التي تفرض التخلّي عن حرّيّة اللهو واللعب ونظائرهما ; أو لأجل الهيبة التي هيمنت عليّ جرّاء الفضاء الجديد ، ولعلّ الاُستاذ آنذاك ما كان يجيد فهم وتشخيص العقدة النفسيّة التي تصيب بعض التلامذة الجدد ليعمل على معالجتها ورفعها ; أو للسنّ المبكّر الذي اُدخلت به المدرسة ، فالقرائن والشواهد الكثيرة تؤكّد تسجيلي وأنا في سنّ الخامسة من العمر ، وهذا ما يؤهّلني على أقصى تقدير علمي منهجي للالتحاق بالصفوف التمهيديّة ـ الروضة ـ لا الصفّ الأوّل الابتدائي ..

هذه الأسباب مجتمعة قادت بي إلى بغض المدرسة وهروبي المتكرّر منها وتحايلي على العائلة ، فشكّلت بداية غير موفّقة على الصعيد العلمي ، وأسّست لعقدة عانيتُ منها كثيراً في حياتي ..

الثاني : البقاء في ذات الصفّ لسنة اُخرى بسبب الرسوب ، وهذا ما يعني سنة كاملة من التخلّف العلمي وعدم اللحوق بركب المستقبل ; إذ حركة التطوّر لا تستكين ولا تفهم معنى التوقّف ..

كنت ولداً مشاكساً مَثَلي مثل الكثيرين من أقراني ، أزعجْنا «بوكاحتنا» عوائل محلّتنا وشكوا بنا أهلينا ، بل حتى الأهل قد عانوا منّا الأمرّين بفعل فضاء الطفولة الذي كان يتيح لنا اللهو واللعب بصوره


وأشكاله المختلفة ..

كان أخي الأكبر المحور الذي أخافه وأهابه وأحسب له ألف حساب ، وأعترف له بالفضل على تربيتي وتنشئتي حينما كان يراقبني وسائر إخواني خشية الانحراف والانزلاق في متاهات تبعدنا عن جادّة الصواب ، وبالفعل فقد كانت مرحلة صعبة وحسّاسة ولاسيّما تلك الأجواء وما كان يشوبها من الظواهر والأفعال الرديئة ، وهي موجودة في كلّ مكان وزمان ، وتتفاوت بتفاوت الآليات والأدوات ، أحمد الله تبارك وتعالى أن جاوزتها بخير وأمان ..

لازلت أتذكّر بقايا ومخلّفات الدعايات الانتخابيّة وآثارها على الجدران ، أيّة انتخابات لا أدري ، ولكنّي كنت أسمع كثيراً بالقوميّين والشيوعيّين والبعثيّين وهم ينعتون الإسلاميّين والمتديّنين بالمتخلّفين والرجعيّين والعملاء!

كنّا نحيي مناسبة عاشوراء بالحضور في المساجد والحسينيّات ، وكانت العادة جارية بعقد المجالس في الفضاءات المفتوحة وقيام البعض بتسقيف الشوارع بـ «البواري» المصنوعة من الخوص ، والبعض الآخر كان ينصب أيضاً المراوح الكهربائيّة في الشوارع أثناء الصيف .. ولا أنسى مواكب العزاء وهي تتّخذ من شارع الحبّوبي مسارها الرئيس ، وكنّا نتسارع في أوائل صباح يوم العاشر لنشهد مواكب العزاء ولاسيّما المشهورة منها كموكب «زاير كريم» وموكب «الهيسو» وموكب «عبّاس


جميلة» ويعدّ يوم العاشر من محرّم يوماً خاصّاً في نفوسنا ، فأجواء الحزن كانت تخيّم على كلّ شيء ، وشعورنا بالوحشة لا يوصف ، حتى كنّا نرى السماء كأ نّها قد تغيّرت وأحمرّت وشاطرت أهل البيت عليهم السلام الألم والمواساة باستشهاد أبي الأحرار الحسين عليه السلام ..

أمّا «الهودج» فلازال عالقاً في ذهني ويشكّل مؤشّراً رائعاً في أعماقي ، وكان يحمله «مجيد طخماخ» من أهل السنّة ، المحبّ لأهل البيت عليهم السلام ، وكان «السنّة» متعايشين معنا في مجتمعنا ويشاركوننا مناسباتنا المحزنة والمفرحة ، ولم أشعر يوماً وأنا هناك بوجود مائز وحاجز طائفي بيننا وبينهم ، والغريب أنّي وبعد إبعادي بسنوات كثيرة علمت أن بعض أصدقائي المقرّبين لي هو من أهل السنّة وكذا كان لي أصدقاء مسيحيّون وصائبة طيّبون تعايشوا معنا بأمن وسلام واُلفة ..

ولشهر رمضان المبارك طعمه الخاصّ ، والعجيب أنّنا بطفولتنا كنّا نميّز الأشياء بأحاسيسنا وجوارحنا ، فللأشهر المعروفة كمحرّم ورمضان وأيّام الفرح والحزن طعم ومذاق استثنائي ، وكانت عيوننا ترى الأشهر والأيّام ، بل تلمس تجانس الطقس والهواء معها ، فمن خلال عاشوراء كنّا نشهد السماء وقد تغيّرت وأضفت على نفسها هالةً من الحزن واصطبغت باللون الأحمر ، لون الشهادة ، لون دم المعصوم (عليه السلام) الذي سال على ثرى الطفّ والثلّة الشريفة من أهل بيته وأصحابه الكرام .... كما كنّا نرى السماء بلون الصيام حين يحلّ شهر رمضان ولاسيّما في الساعات الأخيرة المداهمة للغروب لمّا تبدأ الأواني و «الصواني» بالتنقّل من بيت إلى آخر


حاملةً أنواع المأكولات ، عملاً بالعادات العرفيّة والشرعيّة من باب استحباب تفطير الصائم ، أضف إلى ذلك فقرات السهرة المختلفة التي تستمرّ حتى السحور ، وكنّا نسعى للحصول على وجبة السحور الدسمة التي تمنحنا طاقة التحمّل حتى الظهر ، وبذلك نكون قد صمنا «صوم العصافير» ، ولم يخطر ببالي أن صمت «صوم العصافير» إلاّ نادراً ..

كلّ شيء كان يبدو كبيراً واسعاً شاهقاً في عيوننا ، ولعلّ السبب يعود إلى كون الطفل الصغير يرى الأشياء قياساً إلى صغره ، فتبدو له أكبر وأوسع وأشهق ممّا هي عليه ، وقد اتّضح لي الأمر جليّاً بعد ما سافرت إلى العراق عام السقوط ; إذ وجدت الأشياء والأبنية والشوارع في مدينتي صغيرة ومنخفضة وضيّقة ، فذاك شارع الحبوبي الذي كنت أتهيّب عبوره وجدته مجرّد شارع ضيّق لا يتجاوز عرضه الأمتار القليلة ، كما وجدت بيتنا منخفض الارتفاع بخلاف ما كنت أراه سابقاً عالياً شاهقاً ، أمّا شارع محلّتنا القديمة «محلّة الجامع» فكان بعيوننا من الوسع بحيث نقيم فيه مباريات كرة القدم ، بينما وجدته حالياً ـ وهو ذاته لم يتغيّر ـ مجرّد فرع من الفروع الضيّقة ..

وهكذا كانت طموحاتنا وأمانينا صغيرة كصغرنا ، أمّا قلوبنا فكانت كبيرة جدّاً ، لا تفهم معنى الحقد والزعل وكلّ الأشياء الرديئة التي تعلّمناها في الكبر ورست آثارها على صفحات قلوبنا التي ما كانت تحمل في طفولتها إلاّ الحبّ والوفاء والجمال ..


قلّما استفدنا في طفولتنا من عقولنا وأفكارنا ; إذ كان الحسّ والشعور موجّهنا الأوّل نحو قبول الأشياء أو رفضها ، وهذا ما يعني البساطة والسذاجة التي تطغي على غالب أمثالنا ، ولاسيّما نحن أطفال الجنوب ، حيث المعروف عن الجنوبيّين عموماً خصال البساطة والصفاء والشهامة والكرم والحميّة ، وتصوّري المنهجي الفعلي أنّ الجنوبيّين أثبتوا أنّهم أقلّ «ظاهرة صوتية» وأكثر شجاعةً وفاعليّةً وجدّيةً وانتماءً حقيقيّاً للمبادئ والقيم ، رغم كوني أمقت وأقف بقوّة ضدّ المحاصصة الديموغرافيّة والإثنيّة والمناطقيّة والطائفيّة ; لطبيعة الفكر الذي اُؤمن به وأعمل لأجله ، لذا أعرض عن الخوض في اُمور هي أشبه بلغو الحديث ..

ولصحبة الطفولة وعلاقاتها حديثها الخاصّ ولاسيّما حينما نأتلف مرّة ونتقاطع اُخرى ، نشكّل تكتّلاً ضد هذا الفرد أو تلك المجموعة ، وكذا العكس ، نتشاجر ، نتضارب ، يومٌ نَهزِم وآخر نُهزَم ..

ولكلّ موسم ألعابه الخاصّة التي لا تفوتنا أبداً ، منها : السباحة ، كرة القدم ، الدعبل ، الچعاب «كعب الغنم» ، يا حافظ يا ستّار ، اعظيم اللوح ، سبع حفر ، السهم ، البريد ، غمّيضة الجيجو ، الصور ...

كنّا لا نفهم من أيّامنا وليالينا سوى اللعب والمرح خصوصاً أيّام العطل التي نحسب لها ألف حساب ..

ولم أكن مهتمّاً بالدراسة حتى الخامس الابتدائي لمّا رسبت فيه وانتقلنا من محلّة الجامع إلى شارع بغداد ، فتغيّرت المدرسة بطبيعة الحال ،


من اليعربيّة إلى أبي تمام ، وفي مدرسة أبي تمام قضيت أجمل أيّام الدراسة ; إذ كنت من الطلاّب المتفوّقين ، فأحرزت المرتبة الاُولى في الصفّ الخامس والمرتبة الثانية على المدرسة ـ وربما على المحافظة ـ في الصفّ السادس الابتدائي ; حيث الامتحانات عامّة تقام في زمان واحد في كافّة أنحاء العراق «البكلوريا» ..

إلى ذلك : كنت أحد أعضاء فريق المدرسة الرئيسيّين بكرة القدم ، ولسوء الحظ منعتني الإصابة من إكمال باقي المباريات ، بالأخصّ المباراة النهائيّة التي فزنا بها على مدرسة الجماهير أو الجمهوريّة وأحرزنا كأس المحافظة ، كما كان لي نصيب بجوائز المدرسة في مسابقاتها المختلفة ..

أمّا السفرات المدرسيّة إلى نواحي المحافظة وأقضيتها والاستعداد لها بتوفير الأكل مثل البيض المسلوق والكباب المقلي ـ والدجاج نادراً ـ والنهوض مبكّراً فلها في الذاكرة مساحة وصور جميلة ، إنّها لحظات الطفولة واليفاعة التي لن تعود أبداً ... فحينما تبدأ الحافلة بالحركة نشرع بقراءة الأناشيد والفرحة تغمرنا ، وكان المعروف أنّ الذين يتّخذون من الكراسي الأخيرة في السيّارة مكان جلوسهم المسمّى بـ «خانة الشواذي» هم المشاكسون والوكّح ، وأحياناً تفرض الصدفة جلوس طالب هادئ مسالم وسط هؤلاء المشاغبين ، فيالها من مصيبة عليه!!

كان بيتنا في محلّة الجامع من البيوت المميّزة الشاهقة الجميلة ولاسيّما في شارعنا بالذات ، واللون الأبيض مختصٌّ به وببيت الحاج


خليل فقط .. ويشرف بيتنا من الجهة الخلفيّة على السوق الذي يغصّ صباحاً بمختلف السلع كالأسماك والخضر والفواكه والدجاج ، وترى الناس تموج فيه لتحصل على حاجتها ، ووقته من الفجر إلى الظهر لا غير ; إذ ليس هذا السوق مبنيّ بالمعنى المتعارف من الدكاكين والبناء الدائم ، بل عبارة عن أرض كبيرة جدّاً نسمّيها نحن «الخرابة» يفترشها الباعة في الصباح الباكر بما لديهم من بضائع ، وتتحوّل بعد الظهر إلى ساحة كرة القدم وألعاب اُخرى ، وكان فيها بعض بيوت الخوص «البواري» التي اُزيحت وخرّبت بعد فترة ، وبيوت الخوص هذه أنقذت أخي الثاني مرّة ; إذ سقط من سطح بيتنا الشاهق ووقع فوقها ، ولولا هذه البيوت التي احتضنته وهو هاو من شاهق لما كان يُعرَف مصير حياته ..

ولي في هذه «الخرابة» ذكريات حلوة ومرّة ، والمُرّة منها : أن تحرّشت ذات مرّة بالكلاب المستقرّة هناك ، فلحقني كلب وعضّني بظهري ، وأسرع بي زوج خالتي إلى المستشفى ، فغرسوا في بطني مصلاً لقاحيّاً في سبع مراحل كما أتذكّر ; ولولا هذا اللقاح لكنت اُصاب بأمراض خطرة كما قيل وقتها ; إذ كان الكلب الذي عضّني بقولنا مكلوباً «مچلوباً» ..

كم كنّا بسطاء بأمانينا التي لم تكن تتجاوز حجم عقولنا وعدد سنين أعمارنا ، وكان ولع السيّارات مهيمناً علينا ، ولم أكن أحلم أن يمتلك أبي وأهلي سيّارة ناهيك عن الحقيقة والواقع ، رغم وضعنا الاقتصادي الجيّد قياساً إلى سائر العوائل والناس الذين كانوا يعيشون فقراً مدقعاً .... فكنت


أقتفي أثر إطارات السيّارات الذي كانت تتركه بعد مرورها على الطرقات والشوارع غير المعبّدة نوعاً ، اقتفاءَ إعجاب وأماني لا تبلغ مستوى الحلم وجماله فكيف بالواقع؟!

شارعنا في محلّة الجامع رغم صغره النسبي كان يجمع ـ اُسوةً بغيره ـ شتّى صنوف الناس بانتماءاتهم ومستوياتهم وتوجّهاتهم ، ففيه التاجر والمعلّم والسائق والموظّف والعاطل ... وبجوارنا على الجهة اليمنى كان بيت الشيخ نور ، تلك الشخصيّة الدينيّة ذات المكانة والاعتبار الكبيرين في المحافظة ، ومقابلنا فرعٌ ضيّق فيه بيت أو بيتان أحدهما بيت السيّد نعمة القصّاب والد المطرب المشهور حسين نعمة ، حسين نعمة الموسوي الذي كان يقرأ ويجوّد القرآن انتهى به المطاف إلى فضاءات الفنّ والغناء!!

هناك فرعٌ يربط بين شارعنا والسوق «الخرابة» كنّا لا نجرأ على دخوله ; لوجود «سنيّة الخنّاقة» التي ما إن تمسك بنا فإنّها تعرّض حياتنا للخطر! هكذا ألقوا في قلوبنا الرعب من هذه المرأة المسكينة المصابة كما يبدو بمرض أعصاب ، وهي تنتمي إلى اُسرة محترمة أبعدها النظام السابق إلى إيران بحجّة التبعيّة الإيرانيّة ..

في بيت «الشيخ نور» شجرة نبق ضخمة وكانت ابنته الطيّبة الخيّرة لا تسمح لأحد بالدخول إلى ساحة بيتهم والاقتطاف منها وصيد العصافير إلاّ لنا أنا وإخواني ، كونها تعزّ والدتي كثيراً وتحترم عائلتنا .. كما كانت تهيّئ لي ولأخي الثاني أحياناً طريق الفرار من يد أخينا الأكبر إذا أردنا


الخروج ; حيث كان يمنعنا ويقفل الأبواب ، فلا يبقى لنا منفذ سوى السلّم والسطح الخارجي والجدار الذي نتسلّق عبره إلى سطح بيت الشيخ نور ثم الفرار من هناك إلى الشارع .. ولا أنسى ذات يوم تمكنّا فيه أنا وأخي من الفرار وكنّا بالقرب من مخبز الحاج أبي فلاح في شارع الحبّوبي نمشي مسرورين بالإفلات من أخينا الأكبر ونقهقه ساخرين بأ نّه نائم الآن نوماً عميقاً بجوار زوجته وليس بمقدوره الإمساك بنا ، في تلك اللحظات وإذا بيد تمتدّ إلى أخي لتمسكه من عنقه ، التفتّ وإذا به «ألأخ الأكبر» ، أمّا أنا فقد أفلتّ منه وانطلقت هارباً بسرعة فائقة ، إلى أين ، لا مفرّ ، إنّه سينال منّي عاجلاً أم آجلاً .. كنّا وأخي الثاني أشبه بالحلف ، فإذا كان لا يستطيع دخول البيت خوفاً فأنا الذي اُوصل له إمدادات الأكل والشرب وكذلك العكس .. أمّا أخي الثالث فكان هادئ الطبع ساكناً ليس في فضاء المشاكسة والوكاحة مثلنا ، وكنّا نسمّيه «الملاّ» ..

كانت المرحومة زوجة أخينا الأكبر كالاُمّ الثانية لنا ، فهي التي تعتني بشؤوننا ونحن صغار من جهة النظافة والملابس وغيرهما ..

لا أنسى والدتي حينما كانت تتضوّع ألماً جرّاء وجود الحصى في كيس الصفراء لفترة طويلة إلى أن اُزيلت بعمليّة جراحيّة ناجحة نفّذها الدكتور البارع إحسان البحراني في مستشفى الآلوسي الواقع بشارع المغرب في منطقة الأعظميّة ببغداد ، وكنت إلى جنب والدتي ولازال المخدّر «البنج» لم يفارقها حتى أفاقت ففرحت فرحاً لا يوصف .. ولا


أنكر جهود زوجة عمّي المرحوم التي رافقت والدتي وكانت خير مرافق ومعين لها ..

قصدت الوالدة ديار بيت الله الحرام لأداء مناسك الحجّ عام ١٩٦٧ م ، شعرت أثناء سفرها بوحشة وغربة كبيرتين ، ولم أتلقّ الحنان المطلوب من أخي الأكبر الذي كان شديداً معنا ، على خلاف زوجته التي عوّضت بعض الشيء عن والدتي خلال غيابها .. ويوم عودة الوالدة من سفر الحجّ كان عرساً وعيداً لنا فخرجنا لاستقبالها خارج المدينة ، وما إن وقعت عينيها علينا وإذا بالحافلة تنغرس في الوحل! كنّا نقرأ وننشد ابتهاجاً بقدومها الميمون ، ومن جملة ما أتذكّره ما كانت تقرأه بنت العمّ : خضّر عودنه اليابس من سنين ، خضّر عودنه وساوى البساتين ، فرحنه واليحبنه يفرح ويانه ، هذا أوّل فرح شفناه بدنيانه ... ولم نطق صبراً على فتح الحقائب ، إذ كانوا يقولون لنا : فتح الحقائب لا يحصل إلاّ بعد ثلاثة أيّام من رجوع الحاج!! لكنّا في الليلة الاُولى أخذ كلّ واحد منّا سهمه من صوغة مكّة التي يتمنّاها كلّ واحد إلى الآن ، ومن جملة صوغتي رشّاشة كبيرة جميلة تطلق الشرر والنور عند الضغط على زنادها ..

لازلت أتذكّر لمحات خاطفة من بيتنا الواقع في ذلك الزقاق الضيّق حيث أشتاق فيه إلى اُمّ رشيد «حياة» التي قيل : إنّها أرضعتني رضاعاً شرعيّاً ، فأبناؤها إخواني بالرضاعة ..

وللعيد نكهة خاصّة ، فالملابس الجديدة والعيديّة وزيارة الأقرباء


واللعب والمرح وتنوّع الأكل والشرب ، لها طعمها ومذاقها الخاصّ ، وكنّا نجمع العيديّات ، وتبقى في الذاكرة العيديّة الخشنة الدسمة منها ، وكان زوج الخالة الصغرى ـ رغم فقره المادّي ـ يعطينا «العيديّة الأكثر» .. أمّا الحذاء والملابس الجديدة فإنّها جاهزة بأكملها ليلة العيد وموضوعة إلى جانب فراش النوم .. وكان الكباب وشربت الزبيب إفطار صباح العيد المفضّل ..

كنت ولازلت مولعاً شغفاً بحبّ والدتي ، ولطالما اعتبرتها الشخص الوحيد الذي يحبّني في هذا العالم ، كيف لا نحبّ الاُم التي أوقفت عمرها وحياتها وعافيتها وما لديها في سبيل راحة فلذّات كبدها ، ولاسيّما أنّها فقدت ثمانية أبناء نتيجة ظروف التخلّف العلمي والصحّي والثقافي ، فلم يسلم لها سوى أربعة أولاد وبنت واحدة هي اُختي صغيرتنا ومدلّلة الوالدين ، وكان بيني وبينها فاصلة السنتين أو الثلاث ، وهي مسالمة غير مشاكسة ، ولطالما آذيتها لكونها وُلِدَت بعدي مباشرةً ، فالحسّاسيّة طبيعيّة هنا ..

وليس في حساباتي أبداً أن لا توزّع اُمّي حبّها على أبنائها بالتساوي ، وحينما اُبعِدْنا من العراق إلى إيران عام ١٩٨٠ م وفضّلت هي البقاء في العراق ، بقي حبّها مهيمناً على قلوبنا وجلسنا نعدّ الساعات والأيّام للقياها ، وحينما حانت لحظة اللقاء في شقلاوة شمال العراق عام ١٩٩٢ م فقدتُ القدرة على الوقوف ولم أتمالك مشاعري ، فأنا عازم على احتضان اُمٍّ غالية فارقتها اثني عشر عامّاً ، إنّها لحظة خالدة لا تغادر


أعماقي مطلقاً ، وسأبقى مديناً عاشقاً مشعراً بالتقصير والندم والخجل والألم تجاه اُمٍّ هي الأغلى رغم كلّ شيء ..

لا أنسى «رؤوف داني» حين كان يحمل ابنته الصغيرة الجميلة «إيمان» على يديه ميتةً إثر صعقة كهربائيّة ، وموت «خالد مهدي» قريني في العمر تقريباً إثر دهس سيّارة له في شارعنا ، ومشاهدة عزاء النساء وكيف يفعلن بأنفسهنّ بوفاة عزيز عليهنّ ، وانتشار خبر محاولة والد فلان الدخول بزوجة ولده ليلة الزفاف ، وقيادة هاشم ساچت السيّارة بسرعة في شارعنا وهو لا يجيد السياقة أبداً حتى أوقوفها بالكاد ، و «الدوح» الذي كان يصيب «بمصيادته» بدقّة أعقاب السجائر من على بعد ومسافة كبيرة ، وذاك الذي لا يتأبّى عن أكل كلّ شيء حتى «الذباب» ، وبشارتي لأخي بولادة ابنته ووعده لي بخمسين فلساً بعنوان «البشارة» لكنّه دفع لي نصفها فقط ، وركضي مسرعاً تحت زخّات المطر إلى بيت العم كي تأتي زوجته الحاجة إلينا ، حيث زوجة أخي قد جاءها المخاض ، ومواكب «المشق» التي ترد على بيت العم ليلة العاشر لتقيم المراسم التي يصحبها عادةً توزيع الحلويات لتسهم في تحريك الدم في الجسم استعداداً للتطبير صبيحة يوم العاشر ، وذلك المسجد المهجور في شارعنا حيث لم يعد يسمع منه صوت الأذان ، وموت الشيخ نور والضجّة والحزن والعزاء التي أحدثتها وفاته ...

كلّها وغيرها أحداث ومواقف لا تغيب عن الذاكرة ..


امتاز والدي (رحمه الله) بالوقار وملازمة السكوت حتى في البيت ، وسكوت كهذا يضفي على جوّ العائلة مسحةً من الحزن والاختناق ، وقلّما وجدناه ضاحكاً متبسّماً ، لكنّه رجل متديّن يؤدّي وظائفه الشرعيّة على أحسن وجه ، ويصل الفقراء والمساكين والأرحام بخفاء وهدوء ، ويفهم مسؤوليّته جيّداً قبال عائلته وما تحتاجه من وسائل واُمور مختلفة ، لكنّه لم يكن مبسوط اليد تجاه وسائل الراحة والرفاهيّة التي قد ترغب بها العائلة أحياناً ، كامتلاك سيّارة أو تلفزيون ملوّن وغير ذلك ; ولعلّ سبب ذلك التزامه الديني والشرعي ، أمّا سمعته الطيّبة على مستوى المدينة فهي مدعاة فخر واعتزاز لنا جميعاً ..

سنة ١٩٧١ م انتقلنا من محلّة الجامع إلى صوب الشاميّة ، شارع بغداد ، قرب السوق العصري ، واستقرّ بنا الأمر في بيت الحاج لازم مؤقّتاً إلى حين اكتمال بناء البيت الذي شيّده والدي قباله ، وكان بيتاً ـ أي بيت الحاج لازم ـ فسيحاً ذا حديقة واسعة فيها من الورود والفواكه والخضار الجميلة ما يعجب الناظر ويسرّ القلب ..

اكتمل بيتنا وكان «الاُسطة حافظ» محور البنّائين ورئيسهم ، وحقاً إنّه بيت قوي امتاز بالأحزمة الكونكريتية التي تمسك بالبناء وتجعله راسخاً متيناً ، مضافاً إلى الأساس المحكم ، حيث التربة الرخوة التي تحتاج إلى قواعد صلبة يشيّد عليها البناء .. واشتغلت ذات يوم عاملاً في بناء بيتنا لنصف نهار ولم يعطوني اُجرةً بادئ الأمر فتأ لّمت كثيراً ممّا حدى بهم تسليمي سبعة دراهم ففرحت بها كثيراً ، وكانت اُجرة عامل


البناء ليوم كامل ستمائة فلس «١٢ درهم» .. أمّا ولدا خالتي الصغرى فاستمرّا طويلاً في العمل لحاجة عائلتهم الملحّة إلى المال حيث دخل زوج خالتي محدود مع كثرة العيال ..

المرحومة خالتي الصغرى رحمها الله كانت جمرة من الحنان والطيب والحبّ ، نحبّها حبّاً لا يوصف ، وهي ملاذنا ومقرّ فرارنا إذا آذينا والدتنا ، ورغم كلّ وكاحتنا ولعبنا في طابق بيتهم العلوي لكنّها كانت تستقبلنا كلّ مرّة بلهفة وشوق ولا تبخل علينا بالأكل والشرب رغم ظروفهم المادّيّة السيّئة .. كنّا ولازلنا نحبّ أولاد وبنات خالتي حبّاً كبيراً ، حبّ اُخوّة واحترام ، وهم أهلٌ لذلك ، أمّا ابن خالتي الثالث فهو صديقي المقرّب الذي كنت أغبطه وربما أحسده لدماثة خلقه وهدوئه وذكائه وظرافته ..

تنقّل أخي الأكبر ـ بعد خروجه من السجن السياسي وزواجه ـ من عمل إلى آخر ، منها : «مطعم الرصيف» ، فبحلول الغروب تنصب في الشارع الطاولة ومعدّات الطعام والطبّاخ لقلي وتسخين الأكلات التي اُعدّت مسبقاً في البيت ; حيث يتحوّل بيتنا كلّ يوم إلى ورشة طبخ لمختلف الأكلات ، والدتي وزوجته تقومان بالجهد الأكبر ولاسيّما «كبّة البرغل الموصليّة» الصعبة الإعداد جدّاً ، فكانت والدتي تجيدها بشكل كبير ، وكذا الكبّة العاديّة والبورگ واللحم ...

نعم ، في التقاطع المؤدّي إلى مسجد الحاج غالب شمالاً وشارع


الحبّوبي جنوباً والسوق شرقاً ومدرسة الناصريّة غرباً ، يبدأ «مطعم الرصيف» السفري ، بلا سقف وبناء ، بل على رصيف الشارع ، يبدأ بعد الغروب بتقديم أكلاته وخدماته للزبائن ، وكان الإقبال عليه شديداً ، وقلّما يبقى من الأكلات شيءٌ آخر المطاف ، وهذه حسرةٌ ظلّت في نفسي أن آكل ولو مرّة واحدة من تلك الأكلات اللذيذة التي تشهد عليها رائحتها الفوّاحة العطرة وإزدحام الناس عليها ..

لم يدم مطعم الرصيف طويلاً كما لم يدم «مخزن المحلّة» الذي افتتحته والدتي المرحومة لأخي الأكبر وجهّزته بمختلف المواد الغذائيّة وغيرها ، «مخزن المحلّة» بخطّ الرقعة كتبها «حامد المعروف بإبن هدية» على واجهة المحل ، وكنّا نأكل منه النستلة والحلويّات بلا حساب ، والمتضرّر الأوّل والأخير والدتي ، التي عملت ما بوسعها لأخينا الأكبر كي تتحسّن ظروف حياته ولكن دون جدوى ; إذ الأمر يحتاج إلى الجهد والمواصلة والإدارة ، بينما الميل إلى الراحة وشحن الأجواء كي يكون الكلّ في خدمة شخص واحد يريد الاُمور جاهزة على طبق من ذهب ، فهذا ما يرفضه المنطق والعرف ..

انعقد حفل بهيج في بيتنا بمناسة زواج وزفاف أخي الأكبر ، وقد أدّى «حسين نعمة» «حقّ الجوار»!! بحضوره أوائل ظهوره واشتهاره على مستوى العراق ، كنّا من على السطح نشاهد ونسمع ، حيث كان وسط بيتنا مغطّى بالجملون «السقف» الذي تتخلّله النوافذ من جهاته الأربع ..


تمرّ على الإنسان وعلى مدّ السنين خلال منامه مختلف الأحلام والمنامات وينساها ولا يعدّ لها ذكراً ، لكنّي لن أنسى مطلقاً تلك الرؤية التي شاهدتها في ذلك البيت «محلّة الجامع» ، الحلم الذي كلّما يمرّ على ذاكرتي أعيشه بهيبة وجلال ورهبة ; إذ شاهدت في رؤيتي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام واقفاً وسط بيتنا باتّجاه الباب الرئيسيّة رافعاً سيفه ذا الفقار بمحاذاة وجهه الشريف بشكل عمودي ، ملابسه كأ نّها ملابس الحرب ، واقفاً وقفة شموخ وعظمة وبهاء ، فاستيقظت من نومي فزعاً خائفاً متهيّباً ، لكنّ أهلي حينما حدّثتهم بهذا الحلم فرحوا كثيراً ; فهي دلالة الخير والبركة التي حلّت على بيتنا وشرّفت منزلنا وخصّتني بهذا اللطف العظيم ..

تغيّرت العلاقات ونمط الحياة بانتقالنا إلى «شارع بغداد» حيث البيوت الواسعة والحدائق الجميلة والهدوء النسبي والمستوى الثقافي الأفضل ، وقد انعكس هذا الأمر علينا ، ولاسيّما بالنسبة إلى نوع التفكير والملبس والمطامح ..

وبعد سنتين جميلتين جدّاً قضيتهما بمدرسة أبي تمّام الابتدائيّة ، أمضيت أربع سنوات ـ ثلاث منها للمتوسّطة والأخيرة للرابع العامّ ـ في ثانوية سومر ، ولم أكن بالمستوى العلمي المطلوب ; إذ أهملت الدراسة وانشغلت باُمور جانبيّة لا قيمة لها ، وأعتقد أنّ مرحلة المراهقة ولوازمها كان لها الأثر السلبي في تدنّي المستوى الدراسي ، فكنت أجتاز الصفّ الذي أنا فيه دون صعوبة ولكن بدرجات غير جيّدة ، حتى فريق الثانوية


لكرة القدم كنت أتمارض وأصطنع الحجج كي لا أكون أساسيّاً فتُلقى على عاتقي مسؤوليّة لستُ مهيّأً لها نفسيّاً مع كون اُستاذ الرياضة آنذاك قد عوّل عليّ في بادئ الأمر كثيراً لكنّه يئس منّي آخر المطاف ..

أجبرتني الحرب النفسيّة وإشارات التهديد المتكرّرة والاعتقالات التي حدثت لبعض أصدقائي المقرّبين إلى التعهّد بعدم ممارسة أيّ نشاط مخالف لتوجّهات الحكومة والحزب الحاكم .. وبمجرّد التعهّد والمواقف الظاهريّة الخفيفة تخلّصت من مصير مخيف مجهول ، ولقد أفادني بعض الأصدقاء المنتمين للحزب الحاكم في الخلاص من بعض الإجراءات الخطرة التي كادت أن تكون من نصيبي ..

ورغم أنّني لم أكن متديّناً بادئ الأمر لكنّي كنت اُحبّ المتديّنين وأهوى صحبتهم ، إلى ذلك فلم أشعر لحظةً واحدة بميل أو قناعة أو اعتقاد بالنظام الحاكم وحزبه وقائده ، لطبيعة الفكر والأساليب التي لا تنسجم مع ميولي ورغباتي وتوجّهاتي ..

قضّيت الصفّ الخامس والسادس ـ الفرع العلمي ـ في إعداديّة الناصريّة ، وكانت أيّامها أفضل من أيّام الثانويّة ; للتغيّر الذي طرأ على مستواي العلمي والشغف الذي صنعه «ذكاء الرياضيّات» ، فانجذبتُ إلى الدراسة والتفكير بمستقبل راق يتناسب مع طموحاتي وأهدافي ..

لا يفوتني أن أذكر أنّني وبسرعة ملحوظة انسجمت مع المحيط الجديد في شارع بغداد والتحقت بفريق كرة القدم المتكوّن من فئتي العمرية تقريباً ..


توزّعت علاقتي رويداً رويدا بين مجموعتين : الاُولى لا اهتمام لها بالرياضة وإنّما الذي جمعني بها عامل الفنّ بشكل رئيسي ، فالخطّ هوايتي وعشقي منذ الطفولة ، وقد وجدت فيها خير مشجّع ومعين لي في تعلّم الخطّ طبق القواعد الفنيّة والمنهجيّة ، وكانت كرّاسة قواعد الخطّ العربي لهاشم محمّد البغدادي دليلنا ومرشدنا ومعلّمنا ..

تأزّمت علاقتي مع هذه المجموعة بعد سنوات من الصحبة والصداقة والمحبّة ، واتّفقوا على الابتعاد عنّي ; لأسباب مصطنعة وملفّقة لا أساس لها من الصحّة ، لا اُبرّئ نفسي من الخطأ ، فكنّا ولازلنا جميعاً نخطأ وهذا أمر طبيعي بالنسبة لفتيان مراهقين مثلنا ، لكنّهم غدروا بي وظلموني لدسيسة وربما لوعود من عائلة أو شخص كان يكنّ لي الحقد والحسد بفضل تقدّمي النسبي في الدراسة وتأخّر ابنهم أو تأخّره هو بالذات ، لا أدري السبب الحقيقي ، ولكنّها مجرّد تخمينات ، ولعلّي غير صائب في حكمي ، والله أعلم بخفايا الاُمور .. انفصلت ولم يبق لي معهم سوى السلام العابر ..

خيّم عليَّ الحزن والألم أيّاماً لهذه الفعلة المريرة التي فعلوها معي ، ولكن ربّ ضارّة نافعة ، فقد رسّخت وقوّيت علاقتي مع مجموعتي الاُخرى من الأصدقاء الذين كانوا أيضاً زملائي في فريق كرة القدم ، ويمتازون كذلك بالمستوى الدراسي العالي ، وبمرور الأيّام خفّ الحزن والألم وتكيّفت مع مجموعتي الاُخرى بشكل ممتاز ، وهذا ما أثّر إيجاباً


على طموحاتي العلميّة والدراسيّة ، تأثيراً أعتقد أنّه رافقني حتى هذه اللحظة ..

إنّها بداية الإحساس الواقعي بضرورة الاهتمام بالمستوى العلمي الدراسي ، هذا الإحساس هو الذي خلق حسّ المسؤوليّة في حناياي فاتّجهت لإصلاح وتقوية نقاط الضعف عندي ، فعلى سبيل المثال : كنت من أغبياء درس الرياضيّات حتى بعد نصف العام الدراسي للصفّ الرابع العامّ ، حاولت إيجاد حلّ لهذه المشكلة فوجدت في صديقي ـ أحد أعضاء مجموعة أصدقائي الاُخرى ـ معيني في ذلك ، واستطاع باُسلوبه وطريقته الجميلة أن يغرس في نفسي شعوراً بأ نّني ذكيّ لكنّي أفتقر التصديق والقبول بكوني كذلك إثر اهتزاز ثقتي بقدراتي ، وكان المحكّ درس الرياضيّات ، هذا الشعور تحوّل بمرور الأيّام إلى حقيقة ملموسة ظهرت نتائجها في الدرجات الجيّدة التي نلتها بعد ذلك .. كما وساهم صديقي الآخر في تقوية ركائز الرياضيّات في ذهني وعمل على جعلي اُمارس الرياضيّات بعقلي وتفكيري ، فصار هذا الدرس الذي كنت متنفّراً خائفاً منه درسي المفضّل ، ومن خلاله عشقت الكيمياء الرياضيّة والفيزياء ، وصرت أتململ من الدروس السرديّة الحفظيّة ..

إنّ الثقة العالية بالنفس بفضل الرياضيّات ـ مثلّثات ومجسّمة وتحليليّة ـ جعلتني اُضاعف من طموحي نحو مستقبل أرقى ، لذا حينما أعلنت نتائج الامتحانات النهائيّة ١٩٧٩ م وكان معدّلي فوق السبعين اُصبت بخيبة أمل وحزن كبيرين ، حيث الغالب كان يتوقّع قبولي في


الكلّيّات المرموقة كالهندسة والعلوم ونظائرها ، والذي أسهم في انخفاض معدّلي الدروس غير الرياضيّة ، أمّا الرياضيّات والكيمياء فكانتا في الصدارة من حيث الدرجات ، وقد أثّر غياب الاُستاذ الجيّد الخبير على مستوانا جميعاً في الفيزياء ، وكان جلّ اعتمادنا على قدراتنا ودفاتر زملائنا الذين سبقونا حيث كان أساتذتهم بالمستوى المرموق ..

مرّت سنون وأيّامٌ جميلة مع صحبة ملأت فراغات كبيرة من حياتي وأفادتني كثيراً بفعل ما كانوا يهتمّون به ; فالدراسة والمستقبل شاخصهم الأوّل ثم تأتي كرة القدم والسفرات والمتع والمرح والگعدات بمرتبة دون ذلك ، وأهمّ عقدة جاوزتها بفعل المحيط الجديد من الرفقة والصداقة : أنّ نظرة التأخّر العلمي الدراسي المنبعثة من عدم اكتراثي واهتمامي بالدراسة قد زالت وحلّت محلّها توقّعات ذاتيّة ومن آخرين ; حيث صرت اُعدّ طالباً ذكيّاً يستحقّ حجز مقعد في واحدة من الكلّيّات المحترمة ، هذا الانتظار وجدته في عائلتي وأقربائي ومعارفي وأصدقائي ، الأمر الذي جعلني أشعر بالنشوة والفرح والغرور وتضاعف الثقة بالنفس ، صار بإمكاني فهم المسائل والقضايا بنحو أفضل وأعمق ، الأمر الذي يمنحني فرصة اتّخاذ القرار الأنسب ، لكنّ الأخطاء والزلاّت تبقى ترافق الإنسان مادام إنساناً ..

ولعلّ الفضاء الجديد هو الذي أحيا أو أنعش نطفة المراجعة في عقلي ; إذ كنت مع مجموعة الأصدقاء الاُولى ـ كما أرى الآن ـ أرتكب الخطأ تلو الخطأ ، أخطاء متعدّدة ومتلوّنة ، لم يسلم منها الآخرون ،


القريبون والبعيدون ، وحينما يجنّ الليل كنت ـ للأسف ـ أنام برغد دون أن أمنح نفسي فرصة مراجعة أحداث اليوم وما جرى من أفعال وأقوال وتقريرات ، من أخطاء وآثام وذنوب ، وكان من الطبيعي أن يأتي اليوم الآخر بتركة من الأخطاء أثقل وأمرّ وهكذا دون مراجعة وحساب ..

ولا أدّعي أنّ الفضاء الجديد من الصداقة قد منحني هذه الحالة والخصيصة ، لكنّه جعنلي اُفكّر قليلاً بأنّ الآخرين يألمون كما أألم أنا ، لهم وجودهم وكيانهم وأحاسيسهم كما هي لي ، إنّها نقطة البداية ليس إلاّ ، وإلاّ فسيل الأخطاء لازال جارفاً ، ولاسيّما أنّي كنت لا اُطيق الصمت ، وكثرة الكلام تخلق ثرثرة ، والثرثرة تحجّم فرص التفكير ، ألهو مع الكلمات وبها وأتفنّن في تصميمها وإخراجها كي أغلب الآخرين ، بالاستهزاء مرّة وبالتزييف اُخرى ، وبالخداع ثالثة ... وإذا ما أضحكتُ هذا على حساب ذاك فنشوتي لا حصر لها!! غافلاً بالمرّة أنّني آذيت إنساناً ، سحقتُ كرامةً ، هدرت عزّاً ... نعم ، كنت أفعلها ولا اُبالي بآثارها ونتائجها ..

و «نقطة البداية» في التفكير بالمراجعة ، هي قطرة في بحر أخطائي الناشئة من الغرور الفارغ والوعي المحدود والمراهقة وعدم وجود الناصح والموجّه الأمين ، وأشدّ ما يؤلمني ويجرّعني غصص المرارة أنّني كنت قد عبثت أكثر من مرّة بكرامة هذا وسمعة ذاك ، لا لسبب سوى إرضاءً لمرحي وإضحاك أقراني ، ولا اُبرّئ نفسي رغم سنّ المراهقة .. لم أكن فاسداً ومنحرفاً وشريراً لكنّي لم أكن مُقْنِعاً ، هكذا كنتُ حينما اُراجع الآن ما مضى وجرى ..


نعم ، ربما هذه هي نتاجات صحبة المجموعة الاُولى ، ولا اُلقي باللائمة عليهم أبداً إلاّ أنّها مرحلة من حياتي تميّزت بالأفعال الصبيانيّة والسلوكيّات الطفوليّة ..

ولم يسلم أهلي منّي أيضاً ، خصوصاً والدتي التي كنت اُؤذيها كثيراً بالحجج الواهية والدلال المفرط ، ومشكلة الأكل أهمّ ما كانت تعانيه والدتي منّي ، فتحاول بشتّى الطرق إرضائي ولكن دون جدوى ، ويا لندمي وخيبتي حيث رحلت اُمّي عن هذه الدنيا ولم اُوفّق في تعويض قطرة واحدة من بحر حنانها وحبّها ، هذه المرأة المؤمنة العابدة التي تحمّلت الكثير من أجلنا لكنّنا ـ ولاسيّما أنا ـ كنّا دون المطلوب بكثير ، ماتت وهي تحمل معها آلام الأبناء الذين لم يعرفوا قدرها ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن لا يجعل ذلك عقوقاً منّا وأن يمنحنا رضاها ; إذ رضاه من رضا الوالدين ..

ليس من باب الإطراء على النفس والمغالاة ، إنّما هناك حقيقة كوني قد أمتاز عن سائر أفراد أهلي والكثير من أقراني وأصحابي باليقظة والانتباه والوقوف على مسائل وقضايا خافية أو تخفى عليهم ، لذا وجدت الأهل والآخرين يحسبون لي حساباً خاصّاً ، حينما أتكلّم ، حينما أتواجد ، حينما اُشاهد ; أعثر على اُمور لا يعثر عليها غيري .. وقد ساعدتني هذه الحالة وساهمت في عمليّة البناء الذاتي كثيراً ، بالأخصّ في موارد تحليل الأحداث والمواقف وفهم الأفكار والرؤى وتوجّهات الأفراد ...


أحياناً أتمنّى على نفسي لو كنت من السذّج البلهاء الذين يمرّون على الأشياء والأفعال مروراً عابراً نتيجة التكوين الذاتي الذي لا يسمح لهم أكثر من أن يكونوا لا اُباليّين .. وبالمناسبة ، لا أدري كيف فسّر البعض رواية «أكثر أهل الجنّة البله» تفسيراً قشريّاً سطحيّاً ، بينما أراد المعصوم (عليه السلام) من ذلك ـ خلال بيانه بنفسه عليه السلام في ذيل الحديث ـ : مفتعِل ومصطنِع البله ، والمتغافل عن اُمور الدنيا غير المهتمّ بها الذي ادّخر كياسته لاُمور الآخرة ..

مراجعة التأريخ الذاتي بما يكتنفه من أحداث ومواقف وأفعال وأساليب وأحاسيس وأخلاق وتفكير ، تُوقِفُ الإنسانَ وقفات تأمّل طويلة عميقة ، أين أنا ، ماذا كنت ، كيف الآن والسؤال الكبير يبقى شاخص التأمّل وناتج المراجعة ، يأخذني الألم والخجل والندم حينما أتذكّر كم كنت جاهلاً مغروراً غافلاً ، وهذه الذكرى ليست مختصّة بذلك الماضي السحيق والبعيد ، إنّما تشمل حتى الأمس القريب ، بل كلّ ما يتصرّم من دقائق عمري وساعاته ، كم هو مؤلم حال التفكير بالخطأ الذي وقع ، لن تعود عقارب الساعة إلى الخلف كي لا نرتكب حماقاتنا وأخطاءنا مجدّداً ، إنّما تجعلنا نفهم شيئاً واحداً : أنْ كلّما تقدّمت بلحظاتها وأعوامها كلّما تضيّقت فرصة الإعمار والإصلاح ، فتظلّ في القالب الإنساني الشعوري والعقلي والروحي سلسلة مشاريع ومطامح وقضايا لن ترى النور ; بفعل ماهيّة الإنسان التي لن تسكن عن كسب المزيد مطلقاً ، وبفعل الزمن الذي تصرّم وانتهى ولم يتّسع لتنفيذ الآمال والأهداف ـ سواء لسوء إدارة الوقت أو


لازدحام الأفكار والرؤى بالمشاريع التي تفيض على الزمن المحدّد لكلّ إنسان ـ فالموت قاطعة اللجاج وفصل الخطاب ..

هل بمقدوري جمع كلّ ما ارتكبته من حماقات وأخطاء وتشخيص كلّ الفجوات ونقاط الضعف التي كانت ولازالت ترافقني وتعشعش في قلبي وعقلي وأعماقي ; كي استبدلها مرّة واحدة أو على دفعات بالنقيض والمعاكس لها؟

إنّه أمرٌ دونه خرط القتاد ، بل ترفضه أبسط قواعد التكوين والخلق ; إذ المتصرّم من النتاج الإنساني ـ وهو مورد بحثنا ـ متصرّمٌ لن يرجع ثانيةًوتستحيل بحقّه العودة أبداً ..

نعم ، بمقدوري المراجعة والمحاسبة والاستقراء والمقابلة والبحث والتحليل والاستنتاج لأحصل على نسق ونهج يقوّم الآتي من ممارساتي ويقلّل نسبة الخطأ فيها ويقلّل نقاط الضعف ويجسر الهوّة ويردم الفجوة بالقدر الممكن فأقترب من مراتب المعرفة والحكمة والاستقامة ..

السنوات القليلة الأخيرة قبل الإبعاد من العراق تكاد تشعرني بأ نّها كانت فترة تغيّر نسبي في طريقة التفكير واُسلوب التعامل ، لستُ مطمئنّاً من ذلك ولم أبنِ في مراجعاتي على ذلك التغيّر ، بل ألحقت في حساباتي تلك الفترة بما قبلها رغم بعض المؤشّرات والقرائن التي لا ترقى إلى مستوى الحجّة والدليل ..

حين قاربتُ العشرين من العمر ، شعرتُ بأ نّي قد بدأت بوضع


الخطى الهشّة على جادّة الانتخاب ، والانتخاب بمفهومه العامّ مؤشّر مقبول في عالم البناء الذاتي وخطوة أوّليّة على أعتاب الولوج في فضاء المعارف المترامي ; والذي جعلني في اُفق الانتخاب أكثر ما كان يدور من أحداث واضطرابات في إيران ، مظاهرات واحتجاجات ضدّ الحكومة الشاهنشاهيّة ، فلقد اُعجبتُ ـ وبعض أصدقائي ـ بشخصيّة السيّد الخميني رحمه الله ، فهذا الرجل الكبير بإيمانه وصلابته وحكمته استطاع أن يزيل نظاماً عملاقاً من ساحة الوجود ويؤسّس دولة وحكومة إسلاميّة قائمة على نظام ولاية الفقيه المطلقة ، أحد المباني الفقهيّة الشيعيّة الذي كثر ويكثر حوله البحث والنقاش ردّاً وقبولاً وتفصيلاً ..

صرت أكثر ميلاً إلى الأجواء الدينيّة رغم كوني لازلت جاهلاً تماماً بالأحكام وقوانين الشرع والإسلام ، أستأنس بالمتديّنين وبعلاقتي معهم لكنّي كنت اُبقيها مجرّد علاقة وصداقة لا ترتقي إلى مستوى العمل بما يعملون من واجبات وترك محرّمات ، فحسّ التضايق من الالتزام بشيء كان يهيمن على عقلي وإحساسي ، واُحبّ أن أبقى حرّاً غير مقيّد رغم الميول في تلك الفترة للمتديّنين ، وذلك الإعجاب بحركة وشخصيّة السيّد الخميني رحمه الله ..

إنّ ذلك الإعجاب وتلك الميول وقرار الإبعاد عن العراق ساهمت جميعاً في وضع اللبنة الأساس على جادّة الانقلاب الكبير والتحوّل المثير والتغيّر الجذري في حياتي ، وسآتي على ذكر ذلك لاحقاً ..


تأخّر قبولي في الجامعات العراقيّة لنقص بعض الوثائق القانونيّة ، أقصد شهادة الجنسيّة التي أفتقدها من الأساس ، فقد صادر النظام شهادة جنسيّة والدي العثمانيّة بحجّة تبعيّة اُسرتنا الإيرانيّة ، ولم يستطع النظام أبداً إثبات أيّ اسم وأثر لوالدي في سجلاّت الإقامة ، وكذا الحال بعد وصولنا إيران ومحاولة والدي أوائل الأمر الحصول على الجنسيّة الإيرانيّة ، فلم يعثر على أيّ اسم له في سجلّ جدّي المرحوم طاهر .. وقد حصلتُ على نسخة ـ هي لديّ الآن ـ من سجلّ جدّي تخلو من اسم والدي .. رغم كلّ ذلك سحب النظام العراقي شهادة الجنسيّة العثمانيّة من والدي وحاول خداعنا لسنوات بحجّة استبدالها بشهادة الجنسيّة ٤ أ ـ أي التبعيّة ـ ولم نحصل حتى على هذه الشهادة ..

بعد المراجعات المتكرّرة لدائرة القبول المركزي في بغداد ، منطقة الأعظميّة ، والتي كانت ترأسها آنذاك الاُستاذة تماضر عبدالله ، صدر قبولي المتأخّر جدّاً في معهد التكنولوجيا البصرة قسم الميكانيك ، بينما كنت أستحقّ حينها قبولاً في واحدة من الكلّيّات كالإدارة والاقتصاد وغيرها ، أو في معهد التكنولوجيا بغداد ، في أرقى فروعه كالمساحة والكهرباء ، لا «ميكانيك البصرة» الذي يُعدّ من الفروع المتواضعة .. إلى ذلك فرض عليّ عميد المعهد أداء امتحانات كورسين اثنين لمرّة واحدة إذا أردت الاستمرار في الدراسة ، وفي حقيقة الأمر لم أكن راغباً في المواصلة في ظلّ تلك الظروف والضغوط وانعدام الرغبة الكافية بالبقاء ، لذا بقيت معلّقاً بلا دراسة وحاولت الحصول على قبول خاصّ في كليّة التربية فلم اُوفّق ،


وراودتني فكرة الالتحاق بمعهد المعلّمين لكنّي انصرفت عنها بعدئذ ..

مللتُ البطالة ووخز الكلام الذي كنت أتعرّض له داخل البيت وخارجه ، وصرت عبئاً ثقيلاً مستهلِكاً ، أكلٌ ونومٌ فقط ، بذلتُ مساعي للحصول على مقعد دراسي في رومانيا عبر أحد المعارف الذي كان يدرس هناك ، لكنّ الأمر يحتاج إلى تأييد الحزب الحاكم ، وقد أوعدني صديقٌ بترتيب الاُمور المختصّة بالاُمور السياسيّة ; إذ كان أخاً طيّباً من أبناء محلّتنا وقد ترأّس الاتّحاد الوطني لطلبة العراق ـ فرع المحافظة ـ آنذاك ، هكذا كانت الاُمور تتّجه بشكل مقبول والسرور يغمرني بإكمال دراستي في الكلّيّة التي أرغب بها ، ويتوجّب عليّ حجز مقعد في معهد اللغات لمدّة ستّة أشهر أتعلّم خلالها لغة ذلك البلد ، وهذا يعني التهيّؤ مبكّراً للسفر ..

وحيث كنت منهمك التفكير بهذا الأمر المفصلي الذي قد يغيّر مجرى حياتي مستقبلاً ، وإذا برجال الشرطة والأمن صبيحة يوم التاسع من نيسان عام ١٩٨٠ م قد داهموا بيتنا بأسلحتهم ، وتملّك والدتي ـ وكلّ الموجودين في البيت من أطفال ونساء ـ الخوف والرعب ، واقتادونا إلى دائرة الأمن الرئيسيّة ، وكانت هناك بعض العوائل التي اقتيدت لنفس الغرض ، لا ذنب لنا سوى مسألة التبعيّة الإيرانيّة ، أدخلونا بعد دقائق على مدير أمن المحافظة الذي تعامل معنا بأدب واحترام رغم كونه من طائفة ومحافظة اُخرى ، بخلاف ابن مدينتنا ذلك الضابط الذي لم يحسن التعامل معنا ، وقيل فيما بعد : إنّه كان المحرّك الأساسي في قضيّة إبعادنا من


العراق ، ولا أعلم لِمَ كلّ هذا الموقف منه ، ولعلّه بسبب خلافات له ـ كما احتمل البعض ـ مع أخي الأكبر حول بعض المسائل السياسيّة ..

أبعدوا عائلة أخي الأكبر بأجمعهم واُختي معهم بلا تأخير إلى إيران ، وهذا ما علمناه فيما بعد ; حيث فصلوهم عنّا في نفس ذلك اليوم ، أمّا والدتي ففضّلت البقاء ولاسيّما أنّ شائبة التبعيّة الإيرانيّة لا تمسّها أبداً ، وكان والدي حينها مسافراً إلى بغداد لمتابعة قضاياه التجاريّة ..

أدخلوني أنا وأخواي في زنزانة من زنزانات مديريّة الأمن ، أتذكّر أنّها كانت بمساحة ٢ × ٥ م تقريباً ، وشاهدنا فيها حوالي اثني عشر معتقلاً ، سألناهم عن سبب تواجدهم ، فظهر من ثنايا كلامهم أنّهم هناك بسبب انتمائهم الديني ، أوقفونا فيها لأقلّ من ساعة لكنّها كانت وكأ نّها أكثر من ذلك بكثير ، وجدناهم شباباً طيّبين بعمر الورود على سيماهم تظهر علامات الإيمان ، شاهدتُ بعيني قبل إدخالنا تلك الزنزانة واحداً منهم قد اُغمي عليه وحملوه إلى مكان آخر لغرض العلاج ثم أرجعوه ثانيةً إلى هناك ، وتدور الأيّام وإذا بي ألتقي ذلك الذي اُغمي عليه في مدينة مشهد المقدّسة ، قال لي : لقد خلّصني الله وجئت هارباً إلى إيران ..

في اليوم ذاته نقلونا إلى مديريّة التسفيرات لإجراءات مختصّة بنا ، وكان ضابط الأمن الذي رافقنا قد أبقانا في السيّارة وذهب إلى المديريّة تاركاً سلاحه إلى جانبي ، بقي السلاح على وضعه إلى أن عاد ، وكأ نّه أراد أمراً من تركه المسدّس في السيّارة! وهذا الضابط حاول عبثاً التعامل معنا


بلطف ومحبّة لغرض أفصح عنه فيما بعد ، أراد لنا التواصل معهم بعد وصولنا إيران ، لكنّه لم يجد تجاوباً واُذناً صاغية من اُناس سيُبَعدون عن أوطانهم ظلماً وعدواناً ، إلى بلد اُعجبوا سلفاً بقائده السيّد الخميني (قدس سره) ..

وأثناء تواجدنا في مديريّة الأمن جاء المحافظ وتكلّم معنا بلطف ومحبّة مصطنعة محاولاً ترك أثر طيّب في نفوسنا المحزونة المتأ لّمة .. ومن جملة ما قاله لنا : العراق بلدكم وشاءت الظروف والضرورة أن تذهبوا إلى إيران ، وما هي إلاّ مدّة أقصاها ستّة أشهر وتعودون بعزّ إلى العراق .. وهذا المعنى كرّره علينا غيره ، ومن سخيف الكلام ما قاله بعضهم : ائتوا لنا برأس الخميني ، اقتلوا الخميني ، ولكم الكرامة وكلّ شيء .. نعم ، كانوا يراهنون على فشل الثورة وسقوط الحكومة الإسلاميّة الفتيّة ; وفي حساباتهم أيضاً أنّهم يستطيعون فعل ذلك لما يمتلكون حينها من إمكانيّات عسكريّة واقتصاديّة ودعم العالم لهم قبال ثورة وحكومة لازالت تحبو ، لكنّ الله يريد وهم يريدون ..

سجنونا أنا وأخَوَيَّ في سجن على طريق مدينة الشطرة لمدّة ستّة أيّام هي من أمرّ الأيّام التي مرّت عليّ في حياتي رغم الزيارات التي لا تنقطع من والدتي والأقارب والمعارف والأصدقاء ، الأكل الممتاز الذي كانت ترسله الوالدة كلّ يوم ، وكذا ما تلطّف به سائر الأقارب والأصدقاء ، وحتى الثلج الذي كان مفقوداً في السجن توفّر عبر أهلنا ومعارفنا ممّا جعل سائر السجناء يشربون الماء البارد أيضاً ... ثم رغم كلّ ذلك وتلك الجلسات والگعدات والسوالف مع هذا وذاك ، كلٌّ يحكي قصّته وسبب


اعتقاله ، فالسجن سجن على كلّ حال ، مصادرة للحرّيّة التي تعني لنا ولكلّ إنسان الشيء الكثير ... إلى ذلك : المصير المجهول ، ترك الوطن والوالدة والأصدقاء والأقرباء وضياع المستقبل ، الآمال والطموحات ، ماذا نفعل بالغربة ومرارةُ البعد عن أرض الولادة قاتلةٌ لا تطاق ، كيف الحلول على أرض وبلد لا نعرفه ولا نعرف أهله ولغته .. ماذا سيحلّ بنا؟ لا ندري ..

بكينا كثيراً ، بألم وحزن عميقين ، لم يهدّئ روعنا أيّ شيء .. قالوا : ربما ينقلونا إلى بغداد .. فرحنا بهذا الخبر ; إذ سيؤخّر إبعادنا وفي التأخير فرج ، علّنا نبقى .. ولحسن الحظّ لم ينقلونا إلى العاصمة ، فكلّ من نُقِل إلى العاصمة اختفت أخباره حتى هذه اللحظة ; إذ قتلهم النظام جميعاً بسبب التبعيّة الإيرانيّة .. كانوا يقتادون الشباب إلى السجون والمعتقلات ويبعدون عوائلهم إلى إيران ، والعائلة التي تُبعَد ومعها شبابها فإنّهاعائلة محظوظة جدّاً ..

في يومنا الخامس أو السادس في السجن اُلحق بنا والدنا رحمه الله ، ولا معلومات عن عائلة أخينا الأكبر واُختنا الوحيدة ..

مِن السجناء مَن يفخر بما فعله ; حيث أنقذ شرف العائلة والاُسرة من سمعة العار التي تلطّخت بها بسبب ما قامت به إحدى فتياتهم من عمل غير أخلاقي ، قال لي ذلك السجين : انفردت بابنتي في مزرعتنا وفي يدي انبوب ماء حديدي نهايته متّصلة «بالعكس المنحني» ، توجّهت نحوها ، سَقَطَتْ من رعبها وخوفها ، توسّلتْ لم ينفعها توسّلها ، ضربتُها على


رأسها ، قتلتها ، خلّصت العائلة والعشيرة من سمعة العار ، أزحت همّاً ثقيلاً كان جاثماً على صدري ، سلّمت نفسي إلى الشرطة ، وهنا أنا أنتظر الحكم .. كان مسترسلاً بكلامه فخوراً بما قام به ، غير آبه بما قد يحصل له من إعدام وغيره ..

والآخر نقل لي قصّة قتله ذلك الرجل بسبب خلاف ذكره لي لكنّي نسيته الآن ، قال : قصدته إلى الفندق الذي ينزل فيه ، طرقت باب غرفته ، والسكّين بزنبيل أخفيته خلفي ، وأنا أتكلّم معه أمسكت السكين جيّداً وطعنته عدّة طعنات حتى مات .. قالها مستأنساً وبراحة بال وثقة عالية .. عاد من المحكمة ونحن هناك ، دخل فرحاً ، قلنا : بشّر؟ قال : خمس عشرة سنة ، حكموا عليّ بالسجن خمس عشرة سنة ..

الثالث نقل لنا سبب سجنه إثر اتّهام باختلاس أموال حكوميّة ، ينكرها هو ، لكنّ الآخرين قالوا : إنّه فعلها ..

قال البعض : إنّهم احترموكم وجاءوا بكم إلى هذا السجن الذي يتفاوت عن غيره بنزلائه وإمكانياته!! يا لها من إمكانيّات ونزلاء ، فإذا كان هذا السجن محسّناً! فما بال السجون الاُخرى غير المحسّنة؟!

في اليوم السادس كان غذاؤنا الذي أرسلته لنا والدتنا المرحومة رزّاً مع باقلاّء ، نسمّيه محلّيّاً : تمّن باگلة ..

قال أخي مسترسلاً على سبيل النكتة والطريفة ليس إلاّ : نأكل «تمن الباگلّة» هنا والنتائج تظهر هناك .. وإذا بليلة ذلك اليوم أمروا باقتيادنا في


سيارة داخلها مظلم معتم تماماً لا نوافذ بها مطلقاً ، إلى دائرة السفر والجنسيّة ، علمنا أنّها ليلة الإبعاد ، قاموا ببعض الإجراءات ، أرادوا منحنا مبلغاً ، حيث كانوا يمنحون كلّ عائلة يراد إبعادها مبلغاً معيّناً حسب تعداد أفرادها ، لكنّ والدي رحمه الله رفض المبلغ وقال : أنا تاجر ، لا أحتاج لهذا المبلغ ، الذي كان حوالي سبعمائة دينار كما أتذكّر .. لمنا الوالد لرفضه قبول المبلغ ، لكنّه كان مصيباً في رأيه ..

كان خالي المرحوم متواجداً ليلة الإبعاد في دائرة السفر والجنسيّة وكذا بعض الأصدقاء ، أوعدنا خالنا بالعمل كلّ ما في وسعه لنقلنا من إيران إلى الكويت ، ولم تكن والدتي هناك ; لأ نّها كانت بحالة سيّئة جدّاً ولم يخبرونا بحالها وقالوا : إنّها لا تعلم بأمر إبعادكم .. ذلك الذي علمناه عن حالها فيما بعد ..

أركبونا السيّارة التي ستقلّنا إلى الحدود ، تحرّكتْ وفي حركتها فاضت الدموع وانهمرت كالسيل ، أجهشتُ بالبكاء كثيراً ، مرّوا بنا على بهو البلديّة باتّجاه طريق مدينة الشطرة والدموع لا تفارقني أبداً ، فقدتُ الوطن والأهل والمعارف والأصدقاء والأقارب والمستقبل وكلّ شيء مرّة واحدة ، لِمَ لا أبكي وأصرخ وأنا ابن العشرين من العمر؟! اتّجهت بنا السيّارة نحو مدينة الكوت ، ثم مررنا بمنطقة بدرة وجصّان ، بقينا ليلتنا بمدينة بدرة في قاعة إحدى المدارس كما أتذكّر ، وفي صبيحة اليوم التالي نقلونا مباشرةً إلى الحدود العراقيّة ـ الإيرانيّة ..


شاهدنا على الحدود قوّات عسكريّة عراقيّة في حالة تأهّب واستعداد وكأ نّها تريد البدء بحرب ، سرنا على الأقدام باتّجاه الأراضي الإيرانيّة حوالي المائة أو المائتي متر ، كان على الجانب الإيراني رجالٌ ملتحون يجيدون اللغة العربيّة ، يبدو أنّهم من حرس الثورة الإسلاميّة ، استقبلونا بحفاوة واحترام ، لم يكونوا مسلّحين وعددهم القليل جدّاً لا يقاس أبداً بعدد القوّات العراقيّة التي شاهدناها ، نقلونا مباشرةً إلى مدينة مهران ، توقّفنا قليلاً للاستراحة هناك ، والذي جذب نظري ونحن جالسون في السيّارة «الاُتوبوس» تلويح الناس بأيديهم ترحيباً بنا ، ولعلّ هذا الاستقبال مردّه إلى ما قاله السيّد الخميني «قدّس سرّه» عنّا : هؤلاء ضيوفنا ..

سارت بنا السيّارة باتّجاه مدينة أزنا ـ كما علمنا اسمها فيما بعد ـ بين الطرق الملتوية والجبال الشاهقة ، توقّفنا عند أحد المطاعم وكانت بطوننا خالية والجوع شديد ، والذي تفاجأنا به أن والدنا المرحوم تكلّم اللغة الفارسيّة ، ولم نكن نعلم ـ ولاسيّما أنا ـ أنّه يجيد التكلّم بها ، مازحناه قليلاً رغم التعب والألم ، جاءُوا بالرزّ الأبيض ولم يكن معه شيء وبقينا ننتظر شيئاً ولكن دون جدوى ، شرعنا بأكل الرزّ الخالي وإذا بنا نجد اللحم اللذيذ مدفوناً تحته .. لم نألف هذه الطريقة التي تعوّدنا عليها فيما بعد ، سواء بالنسبة إلى الكباب والدجاج أو غيرهما ، أمّا نحن في أكلاتنا فنجعل كلّ شيء ظاهراً بارزاً ، ولا أدري لماذا ذكّرتني وضعيّة الأكل هذه وتفاوتها بين العرب والعجم بكتاب عبدالله القصيمي : «العرب ظاهرة صوتية» ..


وصلنا صباحاً إلى مدينة أزنا ذات البرد القارص ولاسيّما أنّنا اُبعدنا ولم يكن معنا ما يكفينا من الملابس الشتويّة ، كان الوقت أواسط شهر نيسان ولكنّ طبيعة المنطقة ومحافظة لرستان باردة جدّاً ، مكثنا قليلاً في أحد الأماكن ثم نقلونا إلى مخيّم أزنا خارج المدينة ، ومن شدّة البرد لم نتمكّن من النوم ليلاً وغالب أكلنا كان الجبن ، ونادراً ما أعطونا السمك المعلّب ، تحت شدّة البرد كنّا ننتظر من يأتي وينقذنا من ذلك الحال ، بعد أيّام وصل ابن عمّنا المرحوم ، وصوله كان فرحة لنا ، نُقلنا إلى مركز المحافظة ، مدينة خرّم آباد ، مررنا أثناء الطريق بمعسكر بروجرد حيث تتواجد عائلة أخي الأكبر واُختنا معه ، وهذا ما أخبرنا به ابن عمّنا مسبقاً وسررنا بذلك كثيراً ، التقينا بهم وكانت فرحة لا توصف ، انتقلنا سويّةً إلى خرّم آباد ، استقرّوا هم في الفندق حيث إجراءات كفالتهم كانت قد اُنجزت سلفاً ، أمّا نحن فلابدّ من مكثونا ليلةً في المعسكر كي تكتمل الإجراءات القانونيّة بحقّنا ، ارتأى ابن العمّ أن تثبّت مواليدي في ١٣٣٧ هـ .. ش ; كي اُعفى من الخدمة العسكريّة فيما لو حصلنا على الجنسيّة الإيرانيّة ، بزيادة سنتين ; إذ مواليدي الحقيقيّة بفعل القرائن والشواهد عام ١٣٣٩ هـ .. ش ..

توجّهنا بسيارة «١٨ راكب» صوب مدينة خرّمشهر ، مررنا بمحاذاة مدينة دزفول ، مدينة الأصل والجذور التي وُلد بها جدّنا المرحوم طاهر وغادرها نحو النجف الأشرف وعمره سبع سنين ، فقط لا أدري مع من ، وجدّنا هو ابن علي بن أصغر بن حسين رحمهم الله جميعاً .. عدّة من القرائن والشواهد تساعد على كون المرحوم حسين هو عم الشيخ الأعظم


المولى مرتضى الدزفولي الشهير بالأنصاري (قدس سره) ، وهذا «العمّ» هو الذي جاء بالشيخ الأعظم إلى النجف الأشرف آنذاك ..

منذ زمان بعيد ومسألة «الأنصاري» ـ اللقب الذي نحمله ـ تشغل بالي وتجعلني اُشكّك في صحّة انتمائنا إلى هذه الاُسرة العريقة الفاخرة التي يعود نسبها إلى الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ، لذا حاولت البحث عن حقيقة الأمر ولاسيّما أنّ بعض الأعمام مَن ينتحل لقب «تارين» ومعانيه عدّة ، منها : نوع من الأشجار ، منها : طير من الطيور ... ومنهم من يحمل لقب «رطوبتي» وثالث «شمرتي» ورابع «نجفي» وخامس «أنصاري» وهكذا .. وفي سجل جدّي ـ الذي أمتلك منه نسخة ـ أسماء أعمامي من زوجة جدّي الثانية ليست مكتملة ; إذ لم ألحظ فيها أسماء بعض أعمامي ، أمّا أسماء أبناء جدّتي المرحومة اُمّ والدي فلا يوجد اسمٌ لأحدهم ، ولذلك كان استنادي إلى هذه الوثيقة وإثبات كون المرحوم طاهر والد والدي المرحوم رسول قد مرّ بصعوبات كبيرة إلى أن جرى قانونياً إثبات بنوّة «رسول» من «طاهر» وقبلها بنوّتي من «رسول» ، ولذلك حينما حصلتُ على الجنسيّة الإيرانيّة حملتُ لقب «تارين» طبق سجل جدّي المشار إليه ، مع كون لقب والدي «الأنصاري» وهكذا كان لقبنا حينما كنّا في العراق وحينما كنّا نمتلك هويّة الأجانب التي تمنحها وزارة الداخليّة الإيرانيّة لأمثالنا ، علماً بأنّ أخَوَيَّ قد استلما الجنسيّة الإيرانيّة بلقب «الأنصاري» ..

يقول شيخ اُسرتنا عمّنا الأكبر كما ينقل أخي الأكبر : إنّنا نرجع


باُصولنا إلى جابر بن عبدالله الأنصاري .. هذا أوّلاً ; وثانياً : إنّ جدّنا وآباءه وُلِدوا وعاشوا في دزفول ، وأبونا الخامس «حسين» طبق الحسابات الزمنيّة موجود زمن الشيخ الأعظم الأنصاري في دزفول وعمره آنذاك يناسب كونه عمّ الشيخ الأعظم ، عمّه الذي أتى به إلى النجف الأشرف ، فأبونا الخامس شقيق والد الشيخ الأعظم على الظاهر ; أمّا ثالثاً : ففي سفري إلى دزفول عام ٢٠٠٧ م التقيت باُسرة سبط الشيخ الأعظم الأنصاري ، وكما هو معلوم فالشيخ الأعظم لم يعقّب إلاّ بنتين فقط انتشر من خلالهما نسله ، وأثناء تبادل المعلومات مع الشيخ محمود والشيخ محمّد حسن والدكتور علي ـ أسباط الشيخ ـ وجدنا أنّنا نشترك معهم في بعض الأقارب ، وأعلمتهم أيضاً أنّي لا اُعَدّ من نسل الشيخ الأعظم مباشرةً ، إنّما ألتقي به من خلال الأب الخامس «حسين» الذي هو عمّ الشيخ الأعظم ..

أوعدوني بإرسال شجرة الاُسرة ، ولعلّ بعض الإهمال الذي كان منّي أدّى إلى عدم حصولي عليها لحدّ الآن ..

هذه الاُمور مجتمعة قد تزيل الشكّ المشار إليه وتجعلني أكثر أطمئناناً بالانتماء إلى اُسرة علميّة شريفة نبيلة كأسرة الشيخ الأعظم الأنصاري المنحدر من نسل الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ..

جاوزنا بسيارة المرسيدس «١٨ راكب» مدينة الأجداد «دزفول» باتّجاه «خرّمشهر» أو «المحمّرة» كما يحلو للعرب تسميتها إيماءً إلى


إقليم «عربستان» الذي يعتقدونه الجزء السليب من أرض العراق ، واسمه الرسمي والقانوني والدولي إقليم «خوزستان» ومركزه الأهواز التي يقلب العرب هاءها حاءً لنفس السبب أعلاه ..

وكما أتذكّر وصلنا «خرّمشهر» ليلاً ، ونزلنا في بيت عمّنا المرحوم ، والأمر طبيعي ; إذ الذي قام بإجراءات الكفالة والضمان وإخراجنا من المخيّم ولده المرحوم ، استقبلونا استقبالاً حارّاً كحرارة الجوّ آنذاك وأسكنونا الطابق العلوي من البيت ، توالت الدعوات و «العزايم» ... بعض الأقارب مَن كان يزورنا ومنهم من لم يتمكّن من زيارتنا لسوء علاقته بعائلة العمّ المرحوم ، وبقول بعضهم : كنّا في الشارع نترقّب بلهفة خروجكم من البيت للقياكم ولكن دون جدوى ، ولاسيّما نحن كنّا بأدئ الأمر لا نعرف أين نذهب وكيف .. علماً بأنّ بيت العمّ المرحوم كانوا يتذمّرون ويخشون لقاء بعض الأقارب بنا الذين لا يرتبطون معهم بعلاقات حسنة ، لكنّنا منذ البداية حسمنا الأمر وقرّرنا أن نكون على علاقة طيّبة مع الجميع ، الأمر الذي لم يرق لعائلة العمّ المرحوم ..

في اليوم الخامس أحسّ والدي بالضيق وقرّر البحث عن بيت يستأجره ، لأسباب عدّة ، منها : طبيعة شخصيّته رحمه الله التي لا تقبل الاتّكاء والخضوع للآخرين ، والتلميحات المتكرّرة التي ظهرت من بيت العمّ المرحوم ، بل التصريحات الاستبداديّة منهم بكون ولديهم سيقترنان حتماً باُختي وابنة أخي ، وهذا الأمر مردّه إلى طبيعة الثقافة التي تحملها عائلة العمّ المرحوم وشعورهم بكونهم الأرقى والأفضل بين الأقارب ،


وهذا ما يظهر من طبيعة أفعالهم وأقوالهم وسكناتهم ..

رغم عمر العشرين ـ القليل نسبيّاً ـ وقفت بحدّة ضد هذا التصوّر الاستبدادي وأ ثّرت على والدي كي لا يأخذ بآرائهم وكان رحمه الله ـ لطبيعة شخصيّته كما أسلفت ـ متفهّماً لما أقول ..

لازلت أتأ لّم حينما أتذكّر اُسلوب التعالي الذي قابلَنا به بعض الأقرباء ، الناشئ من كوننا اُناساً مطرودين مغلوبين لا نمتلك شيئاً ، ولعلّ سخريّة بعضهم منّا ، المقرونة بحسّ الشماتة ، هي أمرّ ما واجهته هناك ... فعل البعض منهم معنا ذلك رغم مآتم الحزن والبكاء التي نصبها والدي المرحوم حينما اُبعد إخوانه هؤلاء من العراق إلى إيران عام ١٩٧١ م .. ظلّت هذه الأساليب المؤسفة تحفر في ذهني وتؤسّس لحافز التفوّق رغم صعاب الغربة والألم ..

استأجرنا شقّة قديمة ـ ولله الحمد ـ وسط سوق الصفا مقابل مسجد باب المراد ، تنفّسنا الصعداء ، ثم اشترى والدي محلاًّ في «فلكة الدروازة ، شارع هريسچي» بعنوان «سرقفليّة» ، شرع أخي ببيع الوسائل المنزليّة البلاستيكيّة فيه ، وكان مشروعاً فاشلاً لم يكتب له النجاح ، ولعلّ قصر المدّة كان السبب الرئيس في الفشل المذكور ..

أمّا شعور الغربة ، ومرارة البعد عن الأوطان ، والتفاوت الفاحش بين طبيعة الحياة هنا وهناك ، ولاسيّما التفاوت الاقتصادي ، المقرونة بضرورة الاعتماد على القدرات الذاتيّة فقط لتلبية الاحتياجات اليوميّة ، وأساليب


التعامل بعلوٍّ وكبر التي لاقيناها من بعض الأقارب ، وضبابيّة الأوضاع والمستقبل ... أسّست اللبنة الاُولى على جادّة الولوج في عالم التحدّي ، تحدّي الظلم والاستبداد والاستضعاف والظروف القاهرة ، وبمرور الوقت بدأ الآخرون يفهمون ويقفون على طبيعة شخصيّة عائلتنا في أنّها عائلة ترفض الأساليب الرخيصة ..

كان التواصل مع الوالدة والأهل والأصدقاء صعباً جدّاً ، والرسائل المكتوبة نبعثها عبر دولة الكويت ، حيث بيت الخالة والخال هناك ، وكانت رسائلنا عن هذا الطريق تسبّب لهم الإحراج والمضايقة من قبل رجال أمن النظام ..

نُقل لي : إنّ بعض أصدقائي كان يتفقّد والدتي ويستطلع أخبارنا منها ..

ومن أسباب بقاء والدتي : أنّها أرادت تصفية أملاك والدي وما تبقّى من أموال وغيرها ، استطاعت أن تُبقي بيتنا الكبير لنا ; حيث اشترته لمّا شفعت لها الحكومة به أثناء عرضه بالمزاد العلني ... نعم ، ملك والدي تبيعه الحكومة ظلماً وتشتريه والدتي ، أمّا الأملاك الاُخرى فقد صودرت .. بقاء والدتي لم يجلب لنا نفعاً بل أضرّنا كثيراً ; من جهة حاجتنا الماسّة لها في الغربة ، فإنّها الاُمّ التي تغدق على أولادها الحبّ والحنان وتخفّف عنهم دوماً وطأة الآلام والصعاب ، ومن جهة اُخرى فإنّنا لم نحصل على أملاكنا وأموالنا ; لأسباب عديدة لا صلاح في ذكرها هنا ..


بدأت الحرب واضطررنا تحت وابل القصف العراقي الشديد إلى مغادرة خرّمشهر صوب «سربندر» القريبة من ميناء ماهشهر ، أسكنونا البيوت الجاهزة ، وكنّا نقف في الصفوف الطويلة لاستلام وجبات الغذاء وأصوات القصف والطائرات في مسمعنا ، وذات مرّة تعرّضت «سربندر» إلى قصف شديد ، اُصيبت بسببه اُختنا بحالة مرضيّة تجعلها تختنق اختناقاً شديداً ثم تسقط فجأةً ، واستمرّ معها هذا المرض طويلاً ، ولم تشف منه إلاّ بعد فترة ..

بقينا شهراً أو أكثر في منطقة «سربندر» عانينا خلالها معاناةً شديدة ، غادرنا بعدها إلى مدينة قم المقدّسة ..

حطّ رحلنا في مدينة قم المقدّسة في الشهر الحادي عشر عام ١٩٨٠ م ، واستقرّ بنا المقام في إحدى مقابرها ، نعم سكنّا غرفة تضمّ مجموعة قبور موتى ، وهذه الغرفة واحدة من عشرات غرف الموتى التي تضمّها مقبرة «الحاج حسين» في «شارع أراك» ، كنّا ننام ونأكل ونجلس والموتى أسفلنا .. واجهنا أيّاماً مريرة جدّاً زاد من مرارتها الفقر الذي آلمنا كثيراً وكاد أن يُسقِط شخصيّتنا في مستنقع الذلّة والانحراف .. غالب الناس كانوا ينظرون لنا بعين الشفقة والاستصغار ، وليلة الجمعة كانت ليلة هامّة لأكثرنا ، حيث تأتي العوائل الطهرانيّة لتتصدّق على متضرّري الحرب بالمال والمأكل والملبس!! ولستُ أنسى تلك المرأة التي قصدت والدي وعمّي رحمهما الله لتعطيهما مبلغاً زهيداً ، يا لها من لحظات عجيبة ، فهذا الرجل التاجر ـ والدي ـ الذي كان ينفق أمواله على الفقراء والمحتاجين


يكون عرضةً لإهانات مقصودة وغير مقصودة تنال من كبريائه واعتباره ومنزلته ، فكيف به لا يمرض ويموت ألماً وحسرةً ..

شاركنا بعض الليالي في مجالس محرّم الحرام التي كانت تقيمها الحسينيّة النجفيّة في مسجد فاطمة الزهراء (عليها السلام) آنذاك ، المسجد الذي كان آية الله الشيخ بهجت قدّس سرّه يقيم صلاة الجماعة فيه ..

شاخِصُنا في تلك الأيّام : أنّنا نجهل المصير تماماً ، فالحرب دائرة بشدّة ، والجمهوريّة الإسلاميّة تواجه مُعتد قويّاً مدعوماً من حكومات العالم الغربيّة والشرقيّة والعربيّة .. وحينما يؤكّد الإعلام الإيراني على ضرورة إسقاط نظام صدّام حسين وشرط إعادة المهجّرين إلى ديارهم من ضمن شروط إيقاف الحرب المفروضة .... كنّا لا نعرف ماذا نفعل : هل نحن باقون هنا أم راجعون ، وهذا التردّد وعدم الحسم يؤثّر سلباً على التوجّه لبناء حياة ومستقبل مستقرّ ، الأمر الذي جعلنا مسلوبي القرار والتصميم ، إلى ذلك فإنّ ظروف الحرب والوضع الاقتصادي السيّئ وعدم إتقان اللغة كان له الأثر الفاعل في البطالة والكسل والخضوع للأمر الواقع ..

سافرنا أواخر عام ١٩٨٠ أو مطلع ١٩٨١ م إلى مشهد المقدّسة بدعوة وإصرار من أخينا الأكبر .. وجدنا مشهد مدينة كبيرة عظيمة جميلة واسعة الشوارع ، شاهقة بعمرانها وتطوّرها الذي لا تقاس به مدينة قم أبداً .. قضينا أيّاماً ممتعة هناك ، وكان لحضورنا تأثيره المباشر في رغبة أخينا بالسكن في مدينة قم ، حيث استقرّ فيها مدّة ثم عاد إلى مشهد ثانيةً ..


ضرب الزلزال مدينة قم أواخر سنة ١٩٨٠ م وكانت المرّة الاُولى التي نشهد بها الزلزال ، كان شديداً نسبيّاً ، اهتزّت غرفتنا في المقبرة وكأ نّها مهد الرضيع ، وسقطت رؤوس منارات حرم السيّدة المعصومة (عليها السلام) ، قُتِل ـ كما قيل آنذاك ـ أكثر من عشرين شخصاً ، ساءت أحوال اُختي الصحّيّة أكثر إثر ذلك ولاسيّما أنّها تعاني ممّا تعرّضت له مسبقاً من حالة اختناق بسبب قصف منطقة «سربندر» ..

أيّام الغربة والفقر والمصير المجهول وفراق الاُمّ والوطن والأحبّة وضياع كلّ شيء ، لا زالت مرارتها عالقة في أحاسيسي وقلبي وعقلي ومشاعري .. ما كنت أحسب أبداً أن يُلقى بنا مرّة واحدة خارج أرضنا وأهلنا وعاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا بفعل أساليب نظام جائر حاقد ، لكنّه كان المخاض العسير الذي أسّس رويداً رويداً لإرادة وعزم على تجاوز الصعاب والآلام وإثبات قدرة الإنسان على البدء من جديد للوصول إلى المطامح وتحقيق الغايات .. وأعتقد أنّها كانت تجربة نافعة ، خصوصاً لي أنا الذي ما كنت اُفكّر أبداً بأ نّي سأتعرّض يوماً ما لمشقّات كثيرة ومعاناة شديدة من حرمان وفقر وحاجة واستصغار ..

انتقلنا إلى منطقة «يزدانشهر» حيث أسكنتنا الجهات المختصّة في بيت ضمّنا مع عائلة المرحوم عمّي سبباً ونسباً ، قضينا شهوراً أفضل نسبيّاً من تلك التي مضت في المقبرة ، لكنّ الفقر والبطالة والمصير المجهول لازالت كما هي ، كنّا لا نعرف كيف نقضّي الوقت ، تمرّ الأيّام والأمل يمازج كلّ شيء فينا ، أمل العودة إلى الوطن ، أمل الانفراج وتبدّل


الأوضاع نحو الأحسن ..

مللنا البطالة والفقر وحصلنا على فرصة عمل في أحد مصانع البلاستيك الصغيرة ، أنا وابن عمّي وأحد الأصدقاء ، علينا النهوض مبكّراً والبقاء حتى أواخر النهار مقابل سبعين توماناً ، أربعة أيّام فقط وعدت إلى البطالة مجدّداً ..

قصدنا شيراز مع مجموعة كبيرة من الاُخوة العراقيّين والخوزستانيّين لإحياء الذكرى الثانية لانتصار الثورة الإسلاميّة ، حيث ينعقد مؤتمر شعري عربي هناك .. ولم نكن سوى مشاركين عاديّين همّنا السفر وقضاء الوقت لا غير .. أسكنونا بادئ الأمر «فندق هما الدولي» الفخم الجميل ، لكنّ تصرّفات كثيرة لا تليق بشأن الفندق صدرت من بعض مجموعتنا أجبرت مسؤولي المؤتمر على نقلنا إلى مكان آخر متواضع جدّاً ..

وفي ليلة من الليالي كانوا يبحثون عن خطّاط يكتب لافتات المناسبة ، عرّفوهم بي وكنت ساكتاً لم أقل شيئاً ولم أدّع أنّني خطّاط ، ذهبنا ثلاثة أفراد بهذا العنوان إلى مكان ما لخطّ اللافتات ، الاثنان الآخران كانا يتهامسان في الطريق وبدأ عليهما عدم الارتياح لوجودي معهما ; إذ هما الخطّاطان وأنا الذي لا اُجيد الخطّ ما الذي حشرني معهم؟! أحسست بأ نّي عب ثقيل عليهم .. شرعنا بالعمل وقد تعلّمت وأنا في العراق قصّ الفرشاة مائلاً والخط مباشرة على القماش ، وهذا ما فعلته بلا تردّد ،


وجدت هذين الاثنين لا يجيدان شيئاً فطلبا منّي أن يساعداني في ترتيب المقدّمات!! أو أخطّ مفرغاً ثم يقومان بعملية الملء ، وترجّياني أن لا أقول نهاية المطاف أنّهما لا يجيدان الخطّ ولا اُفشي لهما سرّاً .. بقينا حتى الفجر نعمل ثم رجعنا مرهقين إلى مكان إقامتنا ..

أثناء تواجدنا في شيراز سمعنا بأنّ آية الله السيّد محمّد باقر الحكيم (قدس سره) ينوي زيارة معسكر العراقيّين المهجّرين في مدينة جهرم الواقعة جنوب شيراز بمسافة تبعد عنها أكثر من مئتي كيلومتر .. بكّرنا صباحاً وسافرنا انفراديّاً إلى جهرم نحن بعض الأصدقاء ، وبعد أن أنهى السيّد الحكيم زيارته وبرنامجه الخطابي هناك تحرّكت سيارته «الاُتوبوس» للعودة إلى شيراز ، أوقفونا نحن الذين قدمنا انفراديّاً بحجّة أنّنا سكنة المعسكر ولا يحقّ لنا مغادرته ، أرسلونا إلى أحد مقرّات حرس الثورة ، هنا لن أنسى أبداً الموقف النبيل للسيّد الحكيم (قدس سره) ; إذ اطمأنّ بنا وصدّقنا وأصرّ على اصطحابنا معه إلى شيراز .. وهذا ما حصل بالفعل ، أركبنا في السيّارة التي كان بها (قدس سره) وأمر لنا بالغداء حيث كنّا في جوع شديد ، وتلاطف معنا ، وقال : لن يصيبكم أيّ شيء وستعودون إلى قم سالمين بإذن الله تعالى .. وهذا ما حصل وتحقّق .. والمؤسف أنّ بعض الذين كانوا معنا قادمين من قم ومدن اُخرى إلى شيراز أنكرونا حين احتجنا شهادتهم رغم أنّنا كنّا معهم ليل نهار في شيراز!!

على أيّة حال ، كانت سفرة مثيرة ممتعة جميلة قضينا فيها أوقاتاً لا تمحوها الذاكرة ..


حين كنّا نستيقظ على صوت الموسيقى العسكريّة «المانشيت» ـ التي تعني بدء الهجوم في جبهات الحرب العراقيّة الإيرانيّة ـ يكبر الأمل في نفوسنا وتغمرنا الفرحة ، فرحة اندحار النظام البعثي الظالم وانتصار الجمهوريّة الإسلاميّة التي ستلبّي ـ بنصرها ـ طموحاتنا بالرجوع إلى العراق .. نعم ، كان همّنا الأوّل والأساس همّ الرجوع إلى العراق ، ونعتقد بالعودة حلاًّ لجميع مشاكلنا وآلامنا ، مجافين في الواقع التفكير المنطقي والحلول المنهجيّة الصحيحة ; لأ نّنا كنّا نعيش بعواطفنا وأحاسيسنا فقط ، فلعلّ النتائج المترشّحة جرّاء إعمال المعايير العلميّة السليمة تقود إلى عدم التفكير ضرورةً بخيار العودة فقط ، فلعلّ الخيارات الاُخرى كالبقاء أو الرحيل إلى طرف ثالث أنسب وأفضل ..

عاد أخونا الأكبر إلى مشهد للسكن مرّة اُخرى ، فاستقرّ في بيت جيّد وتلقّى دعماً مقبولاً من بعض الخيّرين المؤمنين ، وقد رغّبنا كثيراً على شدّ الرحال والإقامة بمشهد ، وهذا ما حصل فعلاً في الشهر الخامس من سنة ١٩٨١ م .. أسكنونا بغرفة واحدة في أحد الفنادق المتواضعة ضمّتنا نحن الخمسة ، فهي مطبخنا ومكان استراحتنا ونومنا ومستقرّ ضيوفنا ، حيث تضطرّ اُختنا مع وجود الضيوف إلى النوم في غرفة اُخرى مع عائلة تجتمع فيها نساؤها فقط ..

تضاعف شعور الغربة في مشهد رغم بركات الإمام الرضا (عليه السلام) وجمال المدينة وترامي أطرافها وروعة مناطقها السياحيّة وطيب هوائها ، خصوصاً أنّنا بدأنا مشوار السكن بها في أوائل فصل الصيف تقريباً .. لازالت البطالة


والمصير المجهول والفقر وآلام الفراق حاكمةً على أوضاعنا ومشاعرنا ..

ساعات وساعات ، أيّاماً وليالي ، كنت أجول شوارع المدينة كي أتعرّف على طرقاتها ودروبها واُقضّي الوقت والفراغ القاتل ، ألحظ الملابس الجميلة والأكل الشهي وسائر الأشياء متمنّياً شراءها يوماً ما وتذوّقها واقتناءها ، كيف وأنا لا أمتلك قرشاً واحداً ، حيث يبقى الجيب خالياً لاُسبوع وأكثر ، وتمرّ الأيّام والفقر باق ولا عزم على العمل والخروج من هذا الحال المزري ، باشر أخي الثاني بالعمل وكان السبّاق دوماً لاغتنام أيّة فرصة عمل تحصل له ، سواء في العراق أو في إيران ، وقد بذل جهداً كبيراً يشهد له الجميع في مساعدة والدي المرحوم والبقاء إلى جانبه هنا وهناك ، كنّا ننتظره ليأتي بحصّته من الدجاج ، حيث عمل في محل لبيع الدجاج المشوي ..

من أجمل أمانيّي تلك الفترة أن أمتلك درّاجة هوائيّة كالتي اشتراها أخي بعرق جبينه ، ولكن من أين : من البطالة والكسل؟!

انتقلنا بعد أقلّ من سنة إلى «شهرك الشهيد بهشتي» ، وهو حيٌّ متكوّن من شقق سكنيّة ، جميعها بلا سلّم كهربائي ، كلّ ٤٥ شقّة في عمارة واحدة ، أعطونا من الطابق الخامس شقّة بلا أيّة غرف ، بل مجرّد صالة «هول» مع ملحقاتها الأساسيّة من مطبخ وحمّام وتواليت ومخزن صغير .. وكان ولازال أغلب قاطني هذا الحيّ من عرب خوزستان ، مهجّري الحرب ، وثقافتنا لا تلتقي مع ثقافتهم كثيراً وكذا عاداتنا وتقاليدنا


تختلف في العديد من القضايا ، لكنّهم عرب يتمتّعون نوعاً بالصفات العربيّة المعروفة رغم أنّ غالبهم متأ ثّرٌ بشكل وآخر بثقافة البلد وأهله .. نعم ، تبقى الخصائص الانتمائيّة والمميّزات العربيّة معهم وفيهم .. وهم فخورون بانتمائهم العربي ، وكان الكثير منهم ينزعج ويتأ لّم فيما لو أحرزت إيران نصراً في إحدى المعارك ; إذ يعدّون صدّام حسين عزّ العرب وحامل رايتهم ، وهذا الأمر صنع حاجزاً هامّاً بيننا وبينهم ، إلاّ الذين اعتقدوا بالجمهوريّة الإسلاميّة وأحقّيّتها في الدفاع عن أراضيها وشعبها قبال التجاوز البعثي الصدّامي .. وقد انعكس ذلك أيضاً على مباريات كرة القدم التي كنّا نخوضها معهم ، حيث الحسّاسيّة المفرطة بفعل اختلاف التوجّه والانتماء والأفكار .. كنّا مسالمين لا نرغب في إثارة النعرات والخلافات معهم ، ولاسيّما نحن أقلّيّة لا تتجاوز العشرين عائلة قبال حوالي ألف وخمسمائة عائلة ، وإن كان البعض منهم فضّ التعامل خشن الاُسلوب فهذا لا يعني أنّ الصفة الغالبة عليهم هي هذه ، ففيهم المؤمنون والطيّبون ، وفيهم الكرم والنخوة والشجاعة ممّا لا يمكن نكرانها أبدا ..

للأسف الشديد ، فقد تلطّخ حيّ الشهيد بهشتي بسمعة سيّئة بفعل التصرّفات غير اللائقة التي توالت من هذا وذاك ، واصطبغ بصبغة غير أخلاقيّة ، وصار مركزاً من مراكز السرقة وتسويق المخدّرات والفساد ، وهكذا مجمّعات سكنيّة لابدّ وأن تتعرّض للمشاكل المختلفة خصوصاً بوجود الفقر والحاجة والبطالة وظروف الهجرة والتنافر القديم ـ بين العرب والعجم ـ التي ساعدت على حدوث وتضخيم مثل هذه المسائل ..


في خضمّ تلك الأوضاع كنّا لا نستطيع مغادرة الحيّ ; لعدم تمكّننا من استئجار أو رهن منزل خارجه ، مع أنّ العديد من الأصدقاء وحتى مسؤولي دائرة دعم متضرّري الحرب كانوا يجدون في بقائنا هناك أمراً غير مناسب لشأننا وشأن عوائلنا ، وأ نّه خطر على مستقبل أبنائنا وثقافتهم ، ولكن ما في اليد من حيلة ..

شكّلنا نحن مجموعة العراقيّين القليلة الموجودة هناك بالإضافة إلى عراقيّي «حيّ الطالقاني» فريقاً لكرة القدم وكان ينضمّ إلى فريقنا بين الحين والآخر بعض أبناء خوزستان الذين يروق لهم معاشرتنا وصحبتنا ..

وقد قتلنا بكرة القدم كثيراً من وقت الفراغ والبطالة ، وكنت أقضي الأوقات الاُخرى في ميدان بيت المقدس ـ فلكه آب ـ حيث هي مقرّنا الأوّل لمّا قدمنا مشهد وتعرّفنا فيها على شباب إيرانيّين ذوي أخلاق حميدة ، وتعرّفنا على الحاج سيّاح ، مصوّر حرم الإمام الرضا (عليه السلام) سابقاً ، وصاحب استوديو التصوير في الميدان المذكور ، هذا الرجل الذي تعجز الكلمات عن وصف سجاياه وخلقه الرفيع ، فكان المأوى والناصح الأمين لنا ، ولن ننسى مواقفه المشرّفة معنا أبد ما حيينا ، وقد عمل أخي الثاني معه في التصوير لمدّة ليست بالقصيرة ، وله يعود الفضل في الأخذ بيدي وإخراجي من دائرة البطالة إلى حيّز العمل والكسب ، حيث شرعت ببيع أفلام الكاميرات التصويريّة بأحجامها المختلفة ، فاستفدت منها لسدّ حاجتي الخاصّة وما عدت أشتكي جيباً خالياً ، ولا أنسى دعم بعض الاُخوة لي في هذا العمل ..


كنت أشعر بالارتياح وأنا أصرف على نفسي من عرق جبيني وكدّ يميني رغم أنّ نوع العمل هذا لا يناسبني ولا يناسب آمالي وطموحاتي .. صرت أستطيع شراء بعض الملابس وتناول الأكلات واقتناء الحاجيات التي لم أكن قادراً عليها سابقاً ..

مجرّد كوني طالباً مقبولاً في الجامعات والمعاهد العراقيّة لا يعني توفّر الحصانة الثقافيّة والمعرفية الكافية ، ومراهناتي آنذاك على هذه الميزة المتواضعة سبّبت لي غروراً فارغاً وبَنَتْ حاجزاً شاهقاً قبال ولوج فضاءات العلم والفكر والتزوّد منها تزوّداً حقيقيّاً ، أمّا الاحتفاظ ببعض المعلومات المتناثرة والمصطلحات والتشبّث بالقشور فما كانت تجدي نفعاً في فهم القيم والمعايير والمبادئ فهماً صحيحاً وعميقاً ..

كانت مشهد بفعل «المحاصرة اللغويّة» معهداً عمليّاً لتعلّم اللغة الفارسيّة ، فبفضل محدوديّة التعامل باللغة العربيّة اضطررنا إلى تعلّم الفارسيّة ، وكانت الرغبة مؤثّرة في سرعة التعلّم ، كما أنّ ذلك يعدّ بذاته نوعاً من أنواع الثقافة والمعرفة .. نسأل عن كلّ شيء ومعناه ونقرأ الصحف والمجلاّت ، الأمر الذي أفادنا كثيراً في التعلّم ..

ولن أنسى الشهيد كريم سياهپوش ; لفترة الصداقة الممتعة التي قضيتها معه في مشهد ، حيث كان يكثر المجيء إليها في كلّ فرصة تسنح له رغم أنّ عائلته كانت تقطن إصفهان ، ولنا علاقة عائليّة تمتدّ إلى مدينة الناصريّة استمرّت حتى إبعادهم عام ١٩٧١ م ، فاختاروا مدينة خرّمشهر


التي هجروها بفعل الحرب .. أفادني في تعلّم اللغة الفارسيّة كثيراً .. وكنت اُكثر المزاح معه فأقول له : متى نأكل حلاوتك! أي حلوى الشهادة ; إذ كان عسكريّاً مرابطاً في الخطوط الأماميّة لجبهات القتال ، وبعد أدائه الخدمة انضمّ إلى قوّات التعبئة «البسيج» ، واستشهد مع أخيه الأكبر في عمليّات كربلاء الخامسة رحمهما الله تعالى ... فتحوّل المزاح إلى حقيقة وفقدنا به أخاً متديّناً دمث الخلق .. وهو أوّل من جعلني أتناول الكبّة التبريزيّة «كوفته تبريزي» التي لازلت معجباً بها ..

شكّلت مدينة مشهد بقدسيّتها وصفائها وجمالها وسعتها وعظمة إمكانياتها وشهرتها وأهمّيّتها ـ حيث تؤمّها الملايين سنويّاً لزيارة المولى عليّ بن موسى الرضا ثامن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ منعطفاً هامّاً في حياتي ، ارتسمت وتبلورت به معالم شخصيّتي وحقيقة ثقافتي وواقع انتمائي العقائدي والفكري ، فصرت اُمارس انتمائي الديني والمعرفي ممارسة عمليّة مُخرجاً ذاتي عن ثقافة المظاهر والقشور ، مقحماً إيّاها فضاءات العلم وآفاق التعلّم ، ولن اُغمط حقّ الذين رغّبوني بالالتحاق في سلك الدراسات الدينيّة ، فللّه درّهم وعليه أجرهم ..

في بدايات سنة ١٩٨٣ أو نهايات سنة ١٩٨٢ م التحقت بمدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) للعلوم الدينيّة بعد تفكير وتردّد منشؤه قضيّة الالتزام بالدرس والوظائف والوقت وخشية عدم الموفّقيّة ، إلى ذلك : انتماء هذه المدرسة إلى خطّ سياسي معيّن ، وهذا ما شكّل لي إحراجاً كبيراً ، فأنا أرفض الانتماء إلى أيّة جهة سياسيّه ; إذ أعتقد بالبقاء خارج اُطر الانتماء


الحزبي والجهوي ; لما في الاستقلاليّة من حرّيّة على صعيد التفكير والعمل والانتخاب ، على خلاف التخندقات الحزبيّة التي تؤطّر التفكير وتحصره في بوتقة ذلك الانتماء ، حيث يعمل الانتماء على غسل الدماغ ، الذي من آثاره رفض الأفكار الاُخرى إن كانت لا تتّفق مع ثقافة ونظام الانتماء ..

حاولوا معي كي أكون ضمن اللعبة السياسيّة ولكن دون جدوى ، الأمر الذي سبّب لي مشاكل وصعوبات وأفقدني امتيازات كنت أتأ لّم لعدم منحي إيّاها رغم كفاءتي العلميّة والفنّيّة والرياضيّة والثقافيّة ; حيث كانت المرتبة الاُولى دراسيّاً محصورة سلفاً بيني وبين أحد زملائي ، فلا ثالث معنا .. أمّا رياضيّاً وفنّيّاً وثقافيّاً فكنت لولباً في شتّى البرامج والفعّاليّات ، لكنّهم منحوا امتيازات لغيري بفضل انتمائهم الرسمي لتيّارهم السياسي ولم يمنحوها لي لعدم انتمائي ، وكنت من النوادر في تلك المدرسة الذين لا يقلّدون مرجعهم الديني ، وكانوا يرجّحونه علميّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، ويرون في طلبة قم ـ من ذوي جلدتهم خصوصاً ـ ومقلّدي بعض المراجع الآخرين طلبةً رجعيّين غير ثوريّين ..

التحقت بمدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وأنا متأخّر لفصل عن أقراني في تلك المرحلة ، قدّمت اختبارات لاُواصل معهم وكانت الدرجات ممتازة جدّاً ..

ومن الطبيعيّ حصول معاناة وصعاب بداية كلّ مشوار إلاّ أنّ الوقت


كفيل بتذليلها ورفعها ، وبالفعل فقد تكيّفت مع الواقع الجديد وبدأت ألمس التغيّر والنموّ الذاتي ، حيث الأجواء والبرامج الدراسيّة المتنوّعة العلميّة منها والفنيّة والرياضيّة والترفيهيّة ، وكان الانهماك النوعي باد على الجميع كي يغتنموا الفرصة التي لاتعوّض ، فحضور الدروس الميداني ، والندوات ، والمناقشات ، واستماع الأشرطة الثقافيّة ، والاحتفالات ، وجلسات العبادة والدعاء والتوسّل ، ومجاميع التدبّر القرآنيّة ، والسفرات ، والزيارات ، ومحاضرات الخطابة بقسميها المنبريّة والجماهيريّة ... ساهمت كلّها مساهمة أساسيّة في بناء شخصيّتي العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة ، وانصهرتُ انصهاراً كبيراً في المجموعة الموجودة التي أحببتها ; لما تمتاز به من الخلق الرفيع والتديّن العالي والقلوب الطيّبة ، فقضينا سنوات رائعة أعدّها من أجمل سنوات العمر ، إنّها السنوات المباركة التي فتحت لي أوسع الآفاق نحو العلم والمعرفة والفكر والثقافة ، فلقد تعلّمت وتباحثت ودرّست وطالعت وبنيت لذاتي برنامجاً كي أبلغ عبره أهدافي وآمالي ..

ساندوني ولم يتخلّوا عنّي في مختلف الظروف والمواقف ، خصوصاً وأ نّي بعد التحاقي بالمدرسة بفترة قصيرة جدّاً فقدت والدي ، فشعرت بالغربة والوحدة أكثر ; إذ بقيت الوحيد من اُسرتي بلا اُمّ وأب وزوجة ، لكنّ رفقاء المدرسة عوّضوا عنّي ما لم يعوّضه حتى أقرب الناس لي ، الذين جفوا معي آنذاك وتركوني لحالي ـ وأنا ابن الثالثة والعشرين ـ اُعاني وأتأ لّم ، وبقيت سنة كاملة أعتمد في مأكلي ومشربي على المدرسة ، وفي


أثناء العطل كنت أتدبّر اُموري الخاصّة وسائر احتياجاتي بنفسي .. كان محكّاً واختباراً جيّداً منحني القدرة والصلابة على تحمّل الصعاب والمشاكل ، وترك أثراً عظيماً في بناء شخصيّتي وتحقيق تطلّعاتي .. فلولا المدرسة ومَن فيها وما فيها لما عرفت مصيري وكيف سيؤول ..

هذا ، رغم المناهج الدراسيّة التي كنت أعتقد الضعف والنقص في العديد منها ، ولم تشجّع إدارة المدرسة بادئ الأمر على المواصلة وأخذ الدروس الأرقى كاللمعتين والمكاسب والرسائل والكفاية والمنطق وغيرها ، لكنّها رضخت نهاية المطاف لمطالبنا وبدأنا بتلقّي هذه الدروس التي تعدّ من المناهج المحوريّة في الحوزات العلميّة قاطبةً ..

منحتني المدرسة فرصة إدارة بعض الندوات مثلما منحتني فرصة التدريس وإلقاء المحاضرات ولاسيّما السياسيّة منها ـ رغم الاستقلاليّة التي حافظت عليها في كلّ الظروف ـ والاُصوليّة ـ اُصول المظفّر ـ والفقهيّة ـ زبدة الأحكام وتحرير الوسيلة ـ واللغويّة ـ الإجروميّة وقطر الندى ـ وكان درس التأليف والكتابة من ضمن الدروس التي استفدت منها كثيراً في تعلّم منهج التدوين والتصنيف ..

ألقى أصدقاء المدرسة في ذهني فكرة الزواج وأعلنوا استعدادهم لتبنّي تكاليف المشروع ، استبعدت الأمر ابتداءً ، لكنّ التصميم أخذ بالنضوج شيئاً فشيئاً .. وهذا ما حصل بالفعل سنة ١٤٠٥ هـ حيث اقترنت بإبنة عمّي .. ولا أنسى الموقف المشرّف لزملاء الدرس ودعمهم وتبنّيهم لمشروع الزواج ..


مرّت الأيّام والأعوام وأنا أزداد رغبةً وشوقاً لتلقّي الدروس والعلوم الدينيّة التي فعّلتُ إلى جانبها نشاط المطالعة والجهود الثقافيّة كي أتجاوز عقدة الفهم القشري والادّعاء السطحي تجاوزاً حقيقيّاً ، فانطلقت بثقة عالية نحو الدروس الحوزويّة الكبرى كاللمعتين والمكاسب والرسائل والكفاية ، التي أخافونا منها كثيراً ; لتعقيداتها وصعوبة درك عباراتها ومحتواها كما قالوا ، لكنّ خوض غمار هذه الدروس شكّل حلقةً ومرحلةً هامّة في حياتي ; إذ شعرت شعوراً واقعيّاً بكوني طالب علوم دينيّة معترفاً به في الأوساط الحوزويّة ، الأمر الذي جعلني مؤهّلاً للالتحاق رسميّاً بحوزة مشهد الرسميّة ..

أرى أنّي اقترنت بامرأة أثبتت خطأ الذين خالفوا انتخابي فيها وراهنوا على تصوّراتهم العقيمة التي أعلم أنّها تصوّرات فاسدة سلفاً ; لطبيعة أدلّتهم الضعيفة ووهنها .. ولا تخلو سيرة الحياة من الآلام والمعاناة كما لا تخلو الحياة الزوجيّة من الخدشات وبعض العثرات التي لا تؤثّر أساسيّاً على مستقبل العلاقة ونموّها ورسوخها ، شاركتني زوجتي صعاب الأيّام وسهلها ومرّ اللحظات وحلوها ، وهي السبّاقة دوماً لتجاوز كلّ ما قد يعكّر صفو الأجواء وهدوئها ، هذه المرأة القنوعة الراضية بحياة بسيطة جدّاً أضفت على حياتي نكهة خاصّة ومنحتها معنىً ألِقاً ، حقّاً أنّها كانت ولازالت وطناً لي في وحدتي وغربتي ، تحمّلت منّي وصبرت عليّ ولاسيّما تلك الحدّة والعصبيّة التي أخذت بالانكماش رويداً رويدا كلّما تقدّم العمر ومضى الزمن ، ولأجلها ولأجل وفائها بقيت مدافعاً شرساً عنها


لم أخذلها أبداً ولم أسمح لأحد بالنيل منها بتاتاً ..

كان الاعتقاد السائد لدى القريبين لي : أنّي رجلٌ يصعب عليه النهوض بمسوؤليّة الزوجة والالتزام بعمل يؤمّن متطلّبات الحياة .. وهذا ما شكّل لي تحدّياً هامّاً ، خصوصاً أنّي قد تعلّمت منذ صباي أن أتعامل مع التحدّي ـ الذي يمثّل نوعاً من أنواع النقد بالنسبة لي ـ تعاملاً إثباتيّاً من أجل النفي ، أي إثبات ما هو خلاف النقد والتحدّي ، وهذا ما يتطلّب جهداً وتحمّلاً كبيرين ..

سارت الاُمور من البساطة والفقر نحو الأفضل يوماً بعد آخر وبدأنا نفكّر بالمشاريع الاقتصاديّة الصغيرة بحجمنا بحيث تسدّ بعض حاجاتنا المعيشيّة الأوّليّة ، تفكيراً مقروناً ببرمجة الصرف برمجة دقيقة واستثمار الوارد استثماراً صحيحاً ، نحسب لكلّ شيء حساباً معيّناً طبق المنهج الذي نسير عليه ، وهذا ما وفّر لنا فرص التغلّب على بعض المشاكل الاقتصاديّة والانطلاق نحو تحسين واقع الحياة بمختلف نواحيها ..

وقد أضفت البرمجة نظماً خاصّاً على حياتنا العائليّة ، مقروناً بالنموّ والتفكير بفرص أفضل ، وهذا ما جعل بعض القريبين منّا يتأسّون بمنهجنا ويعملون بالمشابه له .. صرنا نقتني الأشياء التي ما كنّا نستطيع التفكير بها حتى ، ناهيك عن الحصول عليها .. ولعبت زوجتي دوراً هامّاً في إنجاح برامجنا العائليّة لحسن إدارتها وقناعتها ..

ونحن نسعى ـ ولازال عود الحياة المشتركة غضّاً طريّاً ـ إلى تأمين


لقمة العيش تقرّر أن نستقلّ تماماً بعد ما كنّا أنا وأخي ـ عديلي ـ ندير شؤون البيت معاً ، وهذا الاستقلال قد شكّل تحدّياً لي في أن أثبت قدرتي على إدارة حياتي بالاعتماد الكامل على ذاتي في توفير احتياجات الحياة ، ولاسيّما أنّي لم أكن أملك مورداً سوى راتب المدرسة المحدود جدّاً ..

انتقلنا إلى بيت آخر ، وهذا الانتقال شكّل نقطة حقيقيّة على طريق البناء استناداً إلى الإدارة الذاتيّة فقط .. وفّقني الله أيّما توفيق في هذا الاختبار وكأ نّه سبحانه وتعالى أراده لي كي يأخذ بيدي إلى فرص أكبر وحياة أرقى ..

في خضمّ ذلك بدأت تهديدات مسؤولي منظّمة إسناد متضرّري الحرب لنا والتي مفادها : بما أنّكم لا تحملون الجنسيّة الإيرانيّة فعليكم مغادرة هذه البيوت خلال خمسة عشر يوماً .. كنت أعود تعباً منهكاً من درسي وعملي وإذا بي أجد «الإبلاغيّة» التي تجعلني قلقاً على مستقبل عائلتي ، وأنا الذي لا أستطيع توفير أبسط مبلغ الإيجار لبيت خارج مساكن المنظّمة المذكورة .. تكرّر إرسال الإبلاغيّات لنا المصحوبة بالتهديد والتحريم الشرعي وكأ نّنا كفرة محتلّون! ورغم شعوري بأ نّي فقيرٌ لست كالباقين الذين يحمون عوائلهم بمساكن وأماكن ولا يفكّرون بأمثال تلك التهديدات والإبلاغيّات ، لكنّي ربما كنت أفضل من آخرين لم تتهيّأ لهم مثل فرصتي .. على أنّي وعلى طول الخطّ كنت خجلاً من كوني أقطن حيّاً لا يتمتّع بسمعة طيّبة ولا يناسب شأننا ، إلاّ أنّه لا حيلة باليد ..


واصلت دراستي الدينيّة بكثافة وإقبال كبيرين ولم أكن لاُضيّع أيّام التعطيل أيضاً ، فتقدّمت وأنهيت كلّ المراحل السابقة على دروس البحث الخارج ، واشتركت لأوّل مرّة في دروس البحث الخارج فقهاً واُصولاً سنة ١٤١١ هـ .. ق التي كان يلقّيها المرحوم آية الله الشيخ علي الفلسفي (قدس سره) ، ودام حضوري لخمس سنوات ، أي حتى سنة ١٤١٦ هـ .. ق حيث انتقلت إلى مدينة قم المقدّسة ..

وبالتقارن مع الدروس الحوزويّة واصلت نشاطي التحقيقي في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) متدرّجاً شيئاً فشيئاً من شعبة مقابلة النسخ المخطوطة ثم كتابة الهوامش ومن بعدها استخراج الأقوال وتدقيقها والعثور على مجاهيلها والشروع بمقدّمات تقويم النصوص ، ثم المباشرة المحوريّة والحقيقيّة بتقويم النصوص المقرونة بمهمّة إدارة التحقيق والمسؤوليّة العلميّة التي بدأت عام ١٣٦٨ هـ .. ش واستمرّت حتى انتقالي إلى مدينة قم أوائل ١٣٧٥ هـ .. ش ..

لقد صقل الدرس والتحقيق مواهبي ، بل قد غيّرا مجرى حياتي بأكملها ، فصرت ذلك الإنسان الذي يهوى التريّث والمراجعة والتأ نّي والتفحّص والاحتياط بدل العجلة والتهوّر والتشبّث بالمظاهر والقشور ، وأصبحت أبحث وأتعلّم واُطالع ; كي أبني في ذاتي اُسّاً للثقافة والفكر والمعرفة ، اُسّاً أنطلق به كمنصّة نحو فضاءات العلم وآفاق التفكير الحرّ الذي أنسلخ به من حضيض التبعيّة والتقليد إلى شامخ الإبداع والابتكار والاستقلال ، بلا اجترار وتكرار ولا عبء ثقيل على الأكتاف ، فقرّرت أن


لا أكون صنميّاً وببغائيّاً وذيليّاً ومتزلّفاً رخيصاً ، مع علمي بأنّ هذا القرار سيكلّفني الكثير من الخسائر والتضحيات ، لكنّها تهون بلا شكّ إزاء لذّة الحرّيّة التي ترفض الاستبداد والاحتكار وتجافي الملاكات والموازين الناشئة والمنبعثة من رحم الرغبة الذاتيّة والأهواء الشخصيّة ، وفهمت أنّ النقد البنّاء بناءٌ وشموخٌ وألق ، أنّ النقد جرس إنذار ومعمل وقاية وصيانة ورقابة ، أنّه محرار وموجّه ناصح أمين ، رغم ما يتركه ابتداءً من آلام ومرارة ومعاناة تتحوّل فيما بعد إلى محرّك قوي نحو التغيير والإصلاح ..

ولقد علمتُ أنّ الاستقلال المذكور ـ الذي أعني به التمسّك بالجوهر والاُصول وعمق المفاهيم التي اُؤمن بها وأذود عنها ـ لا يمكن حصوله بالاعتماد على محطّات تصادره وتجعل منه شكلاً فارغاً لا معنى ولا قيمة له ; فقرّرت رسم منهجيّة تقود إلى الاكتفاء الذاتي كي أتفرّغ براحة بال إلى بيان الرؤى والأفكار والعمل بها في فضاء من الحرّيّة بلا شروط وقيود واستبداد ..

ولقد بلغت الاكتفاء المرتقب الذي كوّن محوراً أساسيّاً في ممارسة الانتقال من مراحل الثبوت الفكري إلى الإثبات والتصديق ، مع علمي بخسائر وآلام ستنالني وتستمرّ بالنيل منّي ، لكنّي متمسّك بمبدأ هو أقوى بكثير من كلّ الخسائر والآلام ، بل لا مفهوم للحرّيّة والاستقلال إن لم نقدّم لأجلهما ما يستحقّانه من المؤن واللوازم ..

إنّ القيم والمعاني التي أعتقد بها تفرض عليّ مزيداً من الالتزام بما


يحفظ العزّة والكرامة وشأن الإيمان الذي أروم بلوغه ..

شكّل مجيء الوالدة رحمها الله من العراق إلى إيران عام ١٩٩٢ م ، بعد ذهابي أنا وأخي الأكبر وابن عمّنا إلى «مدينة شقلاوة الشماليّة» للإتيان بها ، وما حصل هناك من مواقف ودموع أثناء اللقاء الذي تمّ بعد فراق دام إثني عشر عاماً ، شكّل حدثاً هامّاً في حياتي ، ولاسيّما أنّها الاُم التي رسمتُ لها في عقلي ومشاعري أجمل معاني الحبّ والعطف والحنان .. جاءت الوالدة وأضفت جوّاً جديداً مفعماً بالحركة والتغيّر النسبي الإيجابي في واقع العلاقات العائليّة ، إلاّ أنّني ينبغي أن اُسجّل اعترافاً مرّاً مفاده : إنّنا جميعاً ـ أبناؤها ولاسيّما أنا ـ لم نكن أبداً بمستوى الأبناء الذين يعتنون باُمٍّ جاءت فقط لتعيش في أحضان فلذات كبدها ، فقد أعمتنا بعض أخطاء الوالدة ـ غير المقصودة ـ عن القيام بوظائفنا تجاهها ، وأحتمل أنّ بعض أساليبنا معها بلغت ـ للأسف ـ حدّ العقوق .. أعتقد أنّها ماتت وقلبها محزون من أبناء لم يحسنوا صنيعاً معها .. وبذلك فإنّنا جميعاً لم نستفد من تجربة الوالد رحمه الله الذي مات وفي قلبه بعض الآلام من سلوك الأبناء .. إنّنا جميعاً يجب أن نعمل كلّ ما يجلب الرضى والسرور لوالدينا المرحومين في قبريهما ، عسى الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا البركة والتوفيق وحسن المآل ..

بعد ثماني سنوات ، وضعت الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة أوزارها بعد إعلان السيّد الخميني (قدس سره) الموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٥٩٨ ، مضمّناً تلك الموافقة مقولته الشهيرة التي مفادها : إنّ قبول وقف


إطلاق النار بمثابة تجرّع كأس السمّ .. ولا يخفى أنّ تصميم الجمهوريّة الإسلاميّة هذا قد جاء في الوقت المناسب ; لظروف الجبهات وخارجها التي شهدت إصراراً وضغطاً دوليّاً كبيرين للنيل من النظام والسعي إلى إسقاطه بكلّ الوسائل الممكنة .. ونحن إزاء ذلك كنّا بين حالين : غصّة بقاء صدّام وأمل في حلّ مشكلتنا ..

طوت إيران ملفّ الحرب وشمّرت عن ساعد الأعمار والبناء ، فشهدت البلاد حركة لا نظير لها ، تمكّنت من خلالها إعمار ما خلّفته الحرب من خراب ودمار ، ثم التوجّه نحو تنفيذ المشاريع العملاقة على شتّى الميادين والأصعدة .. وإيران اليوم نموذج عملي لبلد يروم الإنسلاخ من مجموعة الدول النامية ـ العالم الثالث ـ والالتحاق بركب العالم المتقدّم .. وما الخطّة العشرينيّة إلاّ منصّة الانطلاق من هذا العالم إلى العالم الآخر ، ونماذجها كثيرة على صعيد البنى التحتيّة والتحقيقات العلميّة والمحاولات الفضائيّة الناجحة والقفزات الطبّيّة الكبيرة ونظام الرعاية الصحّيّة والاجتماعيّة وبناء السدود وصناعة السفن والسيّارات والاكتفاء الذاتي النسبي وتخرّج الطاقات والكوادر المختصّة ، إلى ذلك متانة واستقرار النظام السياسي والتأثير والنفوذ القوي في شتّى الأحداث والمواقف الإقليميّة والدوليّة .. وتشير الإحصائيّات الصادرة من المراكز الاقتصاديّة العالميّة ـ المنتشرة قبل حوالي عامين ـ إلى حضور إيران ضمن الواحد والعشرين دولة الأقوى نموّاً اقتصاديّاً في العالم .. ولعلّ السبب الأساس يعود إلى ضيق الفجوة بين النظام والشعب أو انعدامها في


أحياناً كثيرة ، ثم إنّ الانتخابات الساخنة والحراك السياسي وحيويّة الناس تعطي زخماً هائلاً نحو النموّ والتقدّم .. إلى ذلك : فإنّ قواعد وجدران الهيكل السياسي المتعدّدة والمتشعّبة تمنح البلد مزيداً من القوّة والثبات والاستقرار والاندفاع براحة بال نحو تنفيذ مشاريع التطوّر والإعمار ..

صارت إيران بلدي ، وزادت العلقة بها شيئاً فشيئاً ، ولا تهافت بين كونها كذلك وكون العراق وطني ; إذ لا ضير أن يكون للمرء وطنان ، وطنٌ ولده ونشّأه وآخر ضمّه ونمّاه ..

ظلّ وضعنا القانوني الهشّ مبعث قلق وعدم استقرار ; لعدم حصولنا على الجنسيّة الإيرانيّة وبقائنا على البطاقة الخضراء ـ البيضاء لاحقاً ـ ولم تفلح المحاولات المختلفة على تجاوز هذا الوضع ، الأمر الذي أفقدنا كثيراً من الفرص والإمكانيّات ، مضافاً إلى العامل النفسي وخشية المستجدّات المستقبليّة ، وبذلك فكّرت مقطعيّاً باللجوء إلى بعض الدول التي تمنحنا وضعاً قانونيّاً مستقرّاً ، إلاّ أنّ ظروف العائلة والوضع الاقتصادي وعدم وجود الرغبة الحقيقيّة بالمغادرة شكّلت عوامل الاستمرار بالبقاء وانتظار ما قد يحصل من فَرَج وحلّ ..

يوماً بعد آخر يكبر انسجامي وارتباطي ونشاطي وتطوّري في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) بفرعها المبارك في مدينة مشهد المقدّسة ، يوماً بعد آخر أتعلّم شيئاً جديداً وصرت أتسلّق مراتب التحقيق الواحدة تلو الاُخرى بسبب الرغبة والشوق والتصميم والوفاء لكيان ضمّني ووثق بي ،


لكيان كان أساس نشوئه نشر آثار علوم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي دوّنتها عقول وأفكار علمائنا الأفذاذ منذ مئات السنين وظلّت مركونة في زوايا المكتبات يعلوها غبار الدهر ويبني ، فشمّرت فتيهٌ آمنت بربّها وبالرسول الكريم والأئمّة المعصومين ومدرستهم المقدّسة وما رشح عنها من تصنيفات ومدوّنات لتزيل ذلك الغبار عن هذه الآثار والنتاجات وتعرضها في ميادين العلم والثقافة والمعرفة مصحّحة منقّحة مطبوعة بحلّة جديدة زاهية ، وبذلك تكون قد رفدت المكتبات الوطنيّة والإسلاميّة والعالميّة والمراكز المختصّة بروائع الأسفار التي صاغتها أذهان أقطابنا الأجلاّء بأحرف من نور ..

ومؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) كانت رائد الحلبة والمضمار بفعل نتاجها الراقي واُسلوبها المبتكر الذي أعجب الجميع ، ألا وهو منهج التحقيق الجماعي الذي اُشير إليه وجرى شرحه في أكثر من مناسبة وموقف ..

ويعلوني الفخر ونشوة الانتماء لكيان ما برح يذبّ عن القيم السامية والمبادئ النبيلة ..

لقد أفادتني تجربة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) كثيراً وأتاحت لي فرصة الاحتكاك العلمي الواقعي عبر خوض غمار المتون الصعبة المغلقة المبهمة ، وحلّ رموزها وفهم مطالبها وهذا ما يعني : مناقشة عسيرة وامتحان كبير لابدّ من النجاح فيه ; إذ الفهم والتلقّي الصحيح يرشح منه نصٌّ علميٌّ موزَّعٌ توزيعاً صحيحاً ، والعكس بالعكس ... علماً بأنّ الوسط


المختصّ مراقبٌ متربّصٌ لا يغفل ولا يتسامح في كشف ونشر ما يعثر عليه من أخطاء وهفوات وزلاّت ; انطلاقاً من عمليّة النقد الرامية إلى منح النتاج الثقافي مزيداً من الدقّة والتأمّل والتعمّق .. ولا يقلّ الجانب الفنّي شأناً عن الجانب العلمي ، ولاسيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار الترابط الوثيق بينهما ، إلى ذلك الحلّة الجميلة التي تمنح الكتاب شكلاً ورونقاً خاصّاً ..

زرع «التحقيق» في عقلي وأحاسيسي بذور الطموح إلى بلوغ الأساليب والآليات الأخلاقيّة الرفيعة ، كيف لا ، وهو الذي يعني الأناة والصبر والرغبة الشريفة والأمانة وشوق الحقيقة والتأمّل والتعمّق ... كلّ ذلك من أجل الحصول على السلامة والصحّة ، أليس في هذا بُعدٌ أخلاقيٌّ رفيع يربّي النفس ويعلّمها كيف تصل غاياتها طبق الأدوات والسبل النبيلة والقنوات السليمة؟! لذا فإنّي أنظر إلى «التحقيق» ـ بالإضافة إلى زواياه المعروفة ـ من زاوية اُخرى هي الزاوية الأخلاقيّة فيه ، ولعلّها الأساس والأصل حينما يكون بلوغ الحقيقة مقصداً دونه سائر المقاصد ..

لكنّي لا أرى التوقّف والاكتفاء بتحقيق النصوص صحيح ، إنّما هو مرحلة هامّة ومنصّة انطلاق قويّة وبوابّة واسعة نحو الأرقى والأفضل من فضاءات العلم والمعرفة والثقافة ; فالتحقيق بما يعنيه من العمل بمناهج معيّنة على نتاجات جاهزة سلفاً ـ رغم الخدمة الكبيرة ـ قد يعدّ نوعاً من الحبس الفكري والتقيّد المعرفي والمصادرة العفويّة والتبعيّة التي تضعف الإبداع والابتكار ، وبعض المتطرّفين يعدّ عمليّة التحقيق أشبه بالعبوديّة ; إذ صرف الجهود على آثار الآخرين الموجودة سلفاً بحجّة إظهارها بما


يتلاءم مع حاجة العصر ـ مع ما فيها من فوائد لا تنكر ـ هو نوعٌ من أنواع العبوديّة الثقافيّة ، فالإنسان القادر على الإبداع والابتكار لا يمكن له أن يكون آلةً لغيره مع حضور المعنى الاستقلالي في أعماقه وعقله وشخصيّته ..

لا أدعو إلى انتفاضة على «التحقيق» أبداً ، وأنا الذي اُدين له بالكثير ، إنّما أدعو إلى عدم الاكتفاء بالتحقيق وعدّه غايةً وهدفاً ، ولاسيّما أنّ الإنسان كائنٌ يهوى الانطلاق في رحاب الآفاق ليحلّق بعيداً قدر ما استطاع ، والتحقيق رغم سعة فضائه لكنّ حدوده واضحة معلومة ..

أروم التحرّر من كلّ القيود التي تصادر ما بي من حسٍّ عارم نحو الاستقلال ورفض للتبعيّة المكبّلة للأفكار ، أمقت الاستبداد بشتّى ألوانه وأشكاله مثلما أمقت سائر ما يجعل الإنسان رخيصاً مبتذلاً ، أنا توّاقٌ لحرّيّة تأخذ بي إلى برّ الأمان ومرافئ الطمأنينة رغم اعترافي بصعوبة الوصول وبلوغ المرام في ظلّ أوضاع يحكمها المدّ المعاكس لتطلّعات الحبّ والخير والفلاح ..

للأسف ، فقد وجدت في المال ـ كما وجد غيري ـ عاملاً أساسيّاً وركناً قويّاً في تحقيق الآمال المعهودة وعدم الخضوع للاستبداد والسيطرة والتوجيه الآلي ، إنّ المال يمنح القدرة على صياغة الأفكار وعرضها بعيداً عن تأثيرات التبعيّة والذيليّة ، وأعتقد أنّ حلّ مشكلة المال تعطي ثباتاً واستقراراً وتفكيراً صافياً نحو نيل المراد ، كلٌّ حسب هويّته وانتمائه وثقافته ..


وقد عملت وبرمجت وسعيت نحو الاكتفاء المالي ، وحينما حصل ذلك أرخى الواقع عنانه لأفكاري لتنطلق في فضاء الحرّيّة والاستقلال والاختيار ، صرت أتأمّل وأتدبّر الأشياء بكيفيّة أرقى واُسلوب أرفع وأدوات أنضج ; لأ نّي لا أخشى بعد الآن سوى نفسي التي قد تأخذ بي إلى هنا أو هناك ..

وبشفافيّة تامّة أقول : غدوت اُفكّر بربّي تفكيراً أشمخ كما هو الحال بالنسبة إلى النبيّ والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) ولاسيّما قضيّة غياب الحجّة ـ أرواحنا فداه ـ التي أشغلت ولازالت تشغل بالي كثيراً ، من باب كوني لا اُريد وضع اعتقادي على كفّ عفريت أو يغدو كهشيم تذروه الرياح في يوم عاصف ، خصوصاً أنّ العقلانيّة بهيمنتها العصريّة تفرض شروطاً يصعب إغفالها وتجاوزها ، كما وأ نّنا من جهة اُخرى لدينا المؤن اللازمة والخزين الثرّ للإجابة عن تساؤلاتها ، لكنّ الذي يضعف فينا هو الأداء الجيّد والاُسلوب المعياري العلمي والمنهج الصحيح ، فلِمَ لا يغيب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ألف عام وأكثر عقلانيّاً حتى؟ ذلك إذا فهمنا واستوعبنا الآليات السليمة فاغترفنا من المحتوى الرصين مؤناً تكفينا في تثبيت إيماننا والانتقال به من عالم التصوّر إلى عالم التصديق ، ثم إدارة الحوار والصراع بنَفَس أقوى وحجج أدهى وعقلانيّة أرقى ..

نعم ، يتطلّب الأمر مزيداً من العمق والجوهريّة والأصالويّة التي تعني كشف زيف انتماء الكثيرين ـ حتى بعض المسمّين بالعلماء ـ الذين يعشعشون على المظاهر والقشور ; تحقيقاً لمآربهم وغاياتهم ، حيث


اتّخذوا الدين مغنماً ووسيلةً لبلوغ الرغبات الذاتيّة والمطامح الشخصيّة ..

وإن كنت مديناً في حياتي العلميّة والثقافيّة لشيء فأنا مدين للدروس الحوزويّة وتحقيق النصوص ، ثم مطالعاتي ومتابعاتي السمعيّة والبصريّة ..

نعم شكّل الدرس الحوزوي ثم التحقيق ركنَي وجودي الثقافي ، فأنا لهما مدين ; حيث علّماني ما كنت لا أحلم به حتى ، فلعلّني فهمت بهما السرّ وفتحت الشفرة وأدركت النقطة التي تعني رسوخ الثقة بالنفس ..

بعبارة اُخرى : صرت أرى في قرارة أعماقي أنّني غدوت صاحب رأي وقرار وتصميم ، اُميّز المعارف والأفكار والثقافات والقيم والمبادئ والانتماءات وثقل الأفراد ... ولا اُخفي سرّاً إن قلت : إنّني مسرور بما منّ الله عليّ من فتح وتوفيق ، لكنّي لازلت طامحاً بالمزيد ، طامعاً بمراتب تأخذ بي إلى فضاءات الإبداع والابتكار المعرفي والثقافي .. وأقصد بالفتح والتوفيق : النقلة الهائلة التي أنقذت حياتي ، حيث الانتشال من حضيض الغرور وخطر الانزلاق والسقوط في مهاوي الضياع إلى فضاءات العلم والمعرفة والثقافة والإيمان وسبل الخير والهداية ..

كلّما استجمع ذاكرتي واُمرّرها على عقلي وقلبي متى ما تسنح الفرص والدواعي المحرّكة لها ، أجد الجهل والفقر المقطعي أشدّ مراحل الماضي تعاسةً ، وأقصد بالجهل : الادّعاء الذي يغاير الحقيقة ، فلطالما أعتقدت لذاتي بحيازة الرفعة العلميّة والمكانة المعرفيّة ، اعتقاداً أراه اليوم


سخيفاً أجوفاً لا واقع له ، بل كانت مجرّد إشارات وبعض أشياء يخجل المرء أن يضعها في فضاء الفهم الأوّلي ناهيك عن الدرك العميق والتلقّي السليم والتشخيص الصحيح للمعرفة ومعاييرها العلميّة .. ولا يعني هذا أنّي صرت اليوم شيئاً أو رقماً في عالم الثقافة لكنّي صرت أدرك حقيقة حجمي ومقدار مؤني ممّا يسمح لي بالتحرّك وفق الموجود الثقافي قلّ أو كثر ..

وجدت في المراجعة والاستقراء والمقارنة والحفر والقراءة والتأمّل ... ضالّتي التي تنقذني من التهوّر والقشريّة وإصدار الأحكام والآراء غير الناضجة ، فصرت أكثر ميلاً إلى الاحتياط والتأ نّي في اتّخاذ القرارات والتصميم على هذا الأمر وذاك .. ولاحظت حصول العدّ التصاعدي للسكوت في أفعالي وسلوكي ; إذ كنت كثير الكلام والمزاح نسبيّاً ، فصرت أهوى السكوت واُفضّل كلّ ما يمتاز بالهدوء والاسترخاء ، ولعلّ الميل أحياناً كثيرة إلى العزلة والصمت هو محاولة لتقليل الأخطاء ، كما أنّ إحساسي بإيذاء الآخرين إحساسٌ ملؤه المرارة والألم ... لكنّي إنسانٌ والإنسانُ اجتماعيٌّ الطبع ..

كان الفقر المقطعي يؤرّقني ويقضّ مضجعي ويعطّل مشاريع حياتي ويصبغني بصبغة أمقتها مقتاً شديداً ، رغم السعي الكبير إلى حفظ العزّة والكرامة الشخصيّة ولاسيّما أنا ابن اُسرة لها احترامها وسمعتها واشتهارها في موطنها بيسر الحال والغنى والمال .. لكنّ الفقر هو الفقر ، والماضي وذكرياته لا تغيّر من الحاضر والواقع شيئاً ، لذا قرّرت الخروج من دائرة


الفقر إلى الأبد ، وهذا القرار يعني سلسلة برامج ومقدّمات وجهود ومعاناة وآلام ، تمخّضت كلّها عن قفزة نحو الاكتفاء المالي وبلوغ الإمساك بزمام المبادرة وعدم الخضوع والتأ ثّر بأيّة ضغوط وإلزامات تصادر الاستقلال والحرّيّة ..

ولقد منحني الاكتفاء المالي فرصة التفكير بتحقيق الطموحات التي طالما عطّلها الفقر ، أخصّ منها الطموحات الثقافيّة والخيريّة والاجتماعيّة .. ولعلّ قربي من مصادر الثروة والمال والدعم المتنوّع والخدمات الجليلة قد ساعدني في تجربة الحفاظ على المال ـ ولاسيّما المال العام ـ وصرفه في موارده ومستحقّيه من الفقراء والأيتام والمحتاجين ..

نعم ، لقد اجتهدت في مواطن كثيرة ، فتصرّفت بدفع الأموال إلى هذه الطبقات المسحوقة التي قد لا يفكّر بها هذا وذاك أبداً ، ولا أطلب من ذلك العمل أيّ نفع وفائدة ومغنم سوى رضى المولى تبارك وتعالى ، وقد صرّحت في مناسبات مختلفة بكوني لا أملك لنفسي شيئاً ، وكلّ ما عندي أمانة بيدي ، لأ نّي لا أطلب سوى كفافي ، الكفاف المناسب بالطبع ، الذي يخرجني من دائرة الفقر وآثاره ..

أعتقد أنّ إدخالي السرور والفرح على قلب اليتيم والفقير والمحتاج فيه من النشوة والراحة ما لا يقدّران بثمن مطلقا ، وعسى الله سبحانه أن يسامحني في اجتهادي هذا ويدفع عنّي وأهلي ومن آزرني البلاء وسوء العذاب ويحسن عواقب الاُمور ، إنّه غفور رحيم ..


كان لتواصلي الفاعل والإيجابي مع مركز المؤسّسة في قم أثره الكبير في رغبة رئيسها ومؤسّسها بالانتقال ، وقد عبّر عن ذلك خلال اتّصال هاتفي أواسط سنة ١٤١٥ هـ .. ق واقترح عملاً مزدوجاً في المؤسّسة ومكتب المرجعيّة ، لكنّي فضّلت البقاء على تخصّصي بدعم من أصدقائي في اللجنة الإداريّة ..

ومع أنّي كنت أرغب بفضاء التخصّص في مدينة قم لكنّ الرغبة شيء والواقع والفعل شيء آخر ; إذ الأمر يحتاج إلى تفكير وتأمّل ومقارنة ومراجعة واستقراء ، وقد طال ذلك حوالي السنة ، مرّت أيّامٌ قرّرت فيها البقاء ، واُخرى صمّمت فيها على الرحيل .. وثالثة كنت متردّداً فيها بين هذا وذاك .. ولعلّي كنت أنتظر الحجّة المناسبة للعزوف عن الذهاب ، حيث مثّل لي التحوّل تحدّياً ومجازفةً واختباراً صعباً ، فالمركز يختلف عن الفرع اختلافاً شاسعاً ، على شتّى الأصعدة والمجالات ، كمّاً وكيفاً ، والنجاح في محيط محدود كفرع مشهد لا يعني حصوله في محيط كبير جدّاً ، ولاسيّما في ظلّ الظروف التي أعيشها أنا كشخص جديد قادم من مكان بعيد جاء ليدير تحقيق النصوص في مركز الكيان المعروف والمشهور بمكانته ونتاجه وطاقاته .. لكنّي ـ كما ذكرت مراراً ـ اُصارع التحدّي وأسعى لإثبات قدراتي مع ما في العمليّة من موانع وأخطار ..

ولداي كانا صغيرين لا يستطيعان إبداء الرأي ، أمّا زوجتي فما كانت تخفي رغبتها بل ربما فرحتها بالانتقال ; لوجود أهلها في قم ، ولانتعاش الآمال بتحسّن الأوضاع ، إلى ذلك فلقد عانيتُ التوتّر في العلاقات مع


بعض الأقارب والناس ، لا أدري لعلّي أنا المخطئ أم هم ، لا اُريد خوض التفاصيل التي قد تجرّني إلى التهمة والغيبة والبهتان ، لذا أكتفي بذكر هذا الأمر على كونه أحد العوامل التي دفعت بي إلى الرحيل ..

«جفاءٌ بحقّ الإمام (عليه السلام) إذا انتقلت» عبارةٌ سمعتها من أكثر من شخص محترم ، وكنت قبلها منهمكاً بكيفيّة مغادرة أرض طاهرة وموطن مقدّس ضمّني واحتضنني ومنحني بركات وخيرات من فيض الموجود العظيم ، عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ، فبفضله اهتديت وتعلّمت وتقدّمت وصرت أفهم الأشياء واُدرك الاُمور بنحو أكثر عمقاً وجوهريّةً وأصالة .. وكيف لي الرحيل عن مدينة عشقتها لما فيها من القدسيّة وأنفاس العصمة والنجابة والطيب؟! لقد أرّقني «الجفاء» وأقضّ مضجعي .... لكنّي إن قرّرت الرحيل إنّما بأمل الرجوع يوماً ما إلى أنيس النفوس ومهوى الأفئدة ، سيّدي ومولاي أبي الحسن الرضا عليه السلام ، أملاً مفعماً بالدعاء لم يخفت ولم يأفل ، بل يزداد عنفواناً كلّ يوم ، ولن يشتاق القلب ويهفو كما يشتاق ويهفو إلى مشهد الرضا ، عسى ربّي أن يستجيب لي دعائي ويحقّق لي مناي ..

ولا أرى المولى عليه السلام غاضباً عليّ وقد اتّخذت من مدينة اُخته فاطمة المعصومة عليها السلام موطناً ، مركز الإشعاع العلمي الديني والثقافي ، حصن آل محمّد عليهم السلام ، وما ورد في «قم» وأعلامها من روايات وأقوال وتاريخ مجيد كثيرٌ لا يمكن لهذه الصفحات استغراقه مطلقاً ..


وتمثّل «قم» اليوم حاضرة التشيّع ومعلمه الكبير ; لما تقوم به من دور محوري في الذود عن مدرسة آل البيت (عليهم السلام) وعلومها السامية ... وحركة النشر والتحقيق فيها والتأليف ومراكز الثقافة ومعاهد العلم ودور الانترنت ونظائرها دؤوبةٌ شامخةٌ دائمة النموّ والازدهار ..

نحن في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث جزء من هذه الحركة الهائلة التي تسعى إلى بثّ قيم ومبادئ ومفاهيم بيت العصمة والطهارة .. وهذا ما يخفّف من وطأة الإحساس بالبعد والجفاء ، ولاسيّما أنّي قد واصلت دراساتي الحوزويّة العليا بمجرّد الاستقرار في قم ، وهذا الدرس والتحقيق كلاهما يصبّان في رضى آل محمّد (عليهم السلام) إن شاء الله تعالى ..

انتقلت في الثامن من ذي القعدة الحرام عام ١٤١٦ إلى قم ، غادرت مشهد بالدموع والقلق وخشية الفشل ، في ليلة شديدة المطر ، عزمت على الرحيل ولا أعلم المصير ولا أدري ماذا سيحلّ بي هناك ، ومن منّا يقبل الشماتة والتشفّي في حال السقوط؟! لذا قرّرت عدم الرجوع قطّ إلى مشهد لو أصابني الفشل ، فالنكسة يمكن معالجتها وإدارتها لكن تربّص البعض الشامت مرير مؤلم ..

وأقولها بالضرس القاطع والاعتقاد الراسخ : إنّني ما جفوت سيّدي الرضا (عليه السلام) أبداً في رحيلي عنه ، إنّما نويت الخدمة أكثر لقيم ومفاهيم تعلّمناها وأخذناها منهم عليهم السلام ، والواقع خيرُ دليل على ما أدّعي ; إذ لي الفخر أن حقّقتُ وكتبتُ وراجعتُ وأشرفتُ وساهمتُ في عشرات


الكتب والآثار والرسائل والمقالات التي تروّج وتبيّن شموخ وأصالة وعمق مبادئ أهل البيت (عليهم السلام) ، إلى ذلك حضور الدروس الحوزويّة في أعلى مراحلها .. كلّ ذلك موثّق بالسندات والشهادات والإمضاءات ..

لا يمكن مقارنة أجواء العمل في فرع مشهد الصغير مع ما هي عليه في مركز قم الكبير من حيث الحجم والسعة والنشاط والتنوّع والإمكانيّات والموضوعيّة ، أمّا العلاقات والارتباطات والتنسيقات فهي في أعلى مراحلها أيضاً .. ولقد لاحظت بشكل ملموس في أوائل قدومي أنّ المؤسّسة التي كنت اُشاهدها كزائر لبضعة أيّام وأرسم انطباعاتي المحدودة عنها ، إنّما تختلف عمّا أنا عليه كمقيم دائم بها ; حيث تكوّنت في ذهني بعد توطّني فيها صورٌ ومصاديق وتوفّرت معلومات ومشاهدات وانطباعات هائلة جدّاً ..

أرجو درك كوني إنساناً جاء من الفرع الصغير ليدير تحقيق النصوص في المركز الكبير جدّاً بعنوانه وأفراده وطاقاته ، مع تلك الهالة العظيمة المحيطة به ، بفعل المحوريّة التي يتمتّع بها ، نتيجة وجود السيّد جواد الشهرستاني صاحب الإدارة الفذّة والنفوذ القوي والاستقطاب الساحر ..

عانيت بداية المشوار كثيراً وأنا أشرع تدريجيّاً باستلام مهامّ المسؤوليّة ، وربما لم يرق للبعض حضوري وأنا القادم من الفرع لإدارة التحقيق في المركز ، لكنّي كنت أستفاد غاية الاستفادة من كلّ الفرص التي


تسنح لي كي اُثبت بها الجدارة والاستحقاق ..

أوّل ما حاولت فهمه ومعرفته أسماء الأفراد واحداً واحداً وحجم مستوياتهم العلميّة والتحقيقيّة وخصائصهم ومزاياهم وطبيعة شخصيّاتهم ونفسيّاتهم ; كي يتسنّى لي التعامل معهم بالشكل المناسب ، لذا كنت أتصرّف بحذر مع الجميع بلا استثناء حتى أستطيع الإشراف والإمساك والتوغّل في الميادين الإداريّة والعلميّة رويداً رويدا .. صادفتني بعض المشاكل والتعكيرات ـ ربما متعمّدة أو غير متعمّدة ـ لكنّي تمكّنت من احتوائها وإثبات قوّتي في مواجهتها ، ولا أنسى أبداً دعم الإدارة لي في ترسيخ وجودي واستمراري ..

بذلتُ جهدي كي أكون في ميدان العمل رقماً فاعلاً مؤثّراً ، فكنت أجلس مع الجميع للاستماع منهم ، الأمر الذي زاد من معلوماتي عن واقع التحقيق ومشكلاته ، فصرت أنطلق شيئاً فشيئاً إلى مسائل أكبر وقضايا أهم ..

انتظمت الجلسات التي كان يتفاعل معها السيّد الشهرستاني ، ومن خلالها استطعنا حلّ الكثير من المشاكل التي تعترض سير العمل وتطوّره ..

كنت اُحاول قدر الإمكان الدفاع عن إدارة المؤسّسة من جانب وعن مطالب المحقّقين والموظّفين من جانب آخر ; لاعتقادي بضرورة الجمع بينهما كي نواصل العمل والإنتاج بكيفيّة أرقى وكمّيّة أكثر ..

انهمكت انهماكاً كاملاً في المؤسّسة وأعمالها ومتابعة كلّ ما يخدم


وجودها ومستقبلها ; لقناعة راسخة بكونها تمثّل وجهاً ناصعاً ومعلماً بارزاً من معالم الطائفة وقيمها الحقّة ..

وما كان يثلم من وقتي في خدمتها سوى الدرس ولوازمه ، حيث نلت شرف حضور خارج اُصول الاُستاذ الوحيد دام ظلّه ثم خارج الفقه .. وبالتلفيق بين ما حضرته من درس الاُستاذ المرحوم الشيخ الفلسفي (قدس سره) ودرس الاُستاذ الوحيد دام ظلّه أكون قد أكملت حوالي دورة اُصول كاملة والحمد لله ..

كان التفاعل في ذروته ، وقضينا أوقاتاً رائعة وأيّاماً ساخنة ونحن نكافح ونجهد ونتابع ونتحمّل الصعاب من أجل الارتقاء بسطح العمل التحقيقي كمّاً وكيفاً ، وتكللت الجهود بنتاجات ثمينة جليلة رفدنا بها المكتبة الإسلاميّة والأوساط العلميّة والثقافيّة ..

وما كانت الأعمال العلميّة والثقافيّة الجانبيّة لتعوق مساعينا نحو بذل المزيد ، وهذه الأعمال الجانبيّة هي بالعشرات وتنهمر علينا بلاانقطاع ; لما تمثّله المؤسّسة من ثقل علمي وتحقيقي أكسبها ثقة الفضلاء والعلماء والمراكز المختصّة ، فصارت الفلتر المطمئنّ والمستشار الأمين والداعم الكبير الذي تهوي إليه الآثار المختلفة كي تخضع للإشراف والمراجعة والتدقيق ; ثمّ لتأخذ طريقها للطبع والنشر فيما بعد ..

لم يعد الوقت ملكاً لي ; إذ فرض الواقع الجديد مجموعة التزامات لا يمكن التخلّي عنها ، وتغيّرت الحياة بشتّى صورها ، وصرت أتمنّى لو


تعلّمت أكثر في مشهد كي استثمره أكثر هنا في قم ، وعدت أشعر شعوراً آخر خلاف ما كنت عليه هناك ، حيث لم أجد هناك ما يدفعني بالشكل الفاعل للاستفادة ممّا تلقيته من علوم ودروس ، بخلاف ساحة قم التي وجدتُ فيها فضاءً رحباً وميداناً عملاقاً للعلوم والمعلومات والتخصّصات ، فهي بحقّ بورصة التفاعلات العلميّة والثقافيّة والمعرفيّة ، وما وجود المراجع العظام والفضلاء الكرام والنخب والطاقات الشهيرة ثم سموّ مئات المراكز والمعاهد والمؤسّسات المختصّة إلاّ مؤشّر جلي على سخونة الأجواء وديناميكيّة الحركة العلميّة ... وأمّا الكمّ الهائل من النتاجات المتلوّنة على شتّى السطوح والمستويات وفي مختلف الثقافات والمعارف فهو راشح هذه الحركة الفريدة التي انطلقت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة .. غدت قم معقل العلم الأوّل وملاذ الوافدين من كلّ أصقاع العالم ليتزوّدوا من معين معارفها المستقاة من اُصول ومناهج آل البيت (عليهم السلام) ..

ولسنا مستثنين من هذا الفضاء المفعم بالحركة والفاعليّة ، فقد أثّر في اندفاعنا الجمعي والفردي نحو بذل المزيد برفد الأوساط المعرفيّة باُمّهات المصادر والمراجع والآثار خير تأثير ..

ازدادت مراكز ومؤسّسات التحقيق ازدياداً عجيباً ، ورغم السمعة والمكانة التي تمتاز بها مؤسّستنا لكنّنا أصبحنا رقماً بين الأرقام الموجودة بعد ما كنّا رائد الميدان وفرس الرهان الأوّل .. كان علينا صرف الجهد المضاعف للمحافظة على الاعتبار والمنزلة ..


أسّسنا مجلّة تراثنا الفصليّة التي لاقت ترحيباً وإعجاباً كبيرين ، أسّس الآخرون أيضاً فصليّات وشهريّات و ...

افتتحنا شبكة رافد الثقافيّة المعلوماتيّة الانترنيتيّة ، افتتح الآخرون شبكات انترنت أيضاً ..

فزنا بالجوائز وفاز الآخرون ...

وهكذا تستمرّ الحركة والنشاط والابتكار والإبداع والمنافسة من أجل خدمة القيم والمبادئ ..

بسرعة قياسيّة استطعت تثبيت وترسيخ وجودي العلمي والإداري في المؤسّسة ، الأمر الذي سهّل كثيراً في تحقيق جملة من الأغراض والأهداف والمطالب التي كنت أطمح من خلالها إلى تفعيل الفضاء التحقيقي والنشاط العام .. والدعم الذي كنت أتلقّاه باستمرار من السيّد الشهرستاني والهيئة الإداريّة ـ زملائي ـ ساعدني كثيراً في تنفيذ ما كنت اُفكّر به واُخطّط لإنجازه .. وبذلك تجاوزت تماماً مسألة «القادم الجديد من الفرع إلى المركز» ..

ازدادت ثقتي بنفسي كثيراً ، وصرت أطرح آرائي وتصوّراتي بكلّ قوّة ورسوخ ; انطلاقاً من عقيدة ثابتة بكون المؤسّسة منصّة قفز مطمئنّة نحو خدمة الدين والطائفة .. ولقد عاهدت نفسي على البقاء فيها مادامت تخدم الدين والطائفة ، وأعدّ خروجي منها خيانةً وهروباً من تحمّل المسؤوليّة الأخلاقيّة والشرعيّة والعلميّة ..


وأنا في خضمّ الفضاء الجديد العملاق قياساً إلى ذلك الفرع ، كان عليّ التفكير بالأساليب والآليّات والأدوات التي تجعلني رقماً فاعلاً يقاوم كلّ الأفعال ـ المقصودة وغيرها ـ التي تحاول تهميشه وتضعيفه وعزله ، لذا تعاملت مع الواقع الجديد طبق المناهج والمعايير التي استفدتها من فلسفة التحقيق والدرس ، مجانباً بذلك التهوّر والتسرّع والاستعجال في إصدار الآراء والأحكام ، معتمداً التأ نّي والمراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل والقراءة المعمّقة كي أحصل على النتائج المطلوبة ، ولا اُنكر الأخطاء والهفوات التي كانت ولازالت تقع بين الفترة والاُخرى ، إلاّ أنّ التزامي بالمراجعة يساعدني كثيراً في تقليل نسبة الخطأ .. كما ويعدّ فهم خصائص الآخرين والتعرّف على نقاط القوّة والضعف فيهم أمراً على غاية الأهمّيّة في تحقيق النجاح ..

بدأت الفاصلة تكبر شيئاً فشيئاً بين السيّد جواد الشهرستاني بعنوانه مؤسّس ورئيس المؤسّسة وبين السيّد جواد الشهرستاني بعنوانه الوكيل المطلق لمرجعيّة السيّد السيستاني مدّ ظلّه ; بفعل التزامات ولوازم ومشاغل المرجعيّة التي لا يمكن قياسها بمشاغل المؤسّسة أبداً على شتّى الأصعدة الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة وغيرها ..

يرى السيّد الشهرستاني أنّ المؤسّسة قد اجتازت كلّ العوائق والمشاكل التي كانت تعترضها آنذاك وأنّ الفضاء الحالي مهيّأٌ جدّاً لمواصلة السير براحة البال الخالية من أيّ منغّص ومعكّر ..


ويرى الآخرون أنّ الفاصلة كلّما ازدادت بينه وبين المؤسّسة كلّما أفل النشاط وقلّ الاهتمام بها كمؤسّسة تحقيق ، وهذا ما يضعف نتاجها ..

كما ويرى البعض أنّ المؤسّسة كانت ذراعاً استخدمه واستفاد منه السيّد الشهرستاني لنيل مطامحه ، وقد حقّق آماله ، فالمؤسّسة باتت إذن خارج سلّم أولويّاته رغم كونهاثمرة جهوده الشخصيّة ..

ويعتقد البعض أنّ غلق أحد فروع المؤسّسة أو تضاؤل عمل المركز لم يعد يهمّ السيّد كثيراً ولاسيّما أنّه بات ينظر الملاك والميزان في مقدار نجاحه على مستوى المرجعيّة ..

شئنا أم أبينا ، صارت المؤسّسة قربان المرجعيّة وضحيّتها الكبيرة ، خصوصاً إذا أضفنا إلى المذكور أعلاه ـ لو صدق ـ تحوّلها بعين الناس والواقع إلى بيت المرجعيّة ومعقلها الأساس في إيران رغم وجود مكتب سماحة السيّد مدّ ظلّه ، وغدت مهوى ذوي الحاجات والمشاريع والأعمال التي لا تمت بأيّة صلة لمؤسّسة تحقيق .. والكثير بات ينظر لها كمركز مرجعي خيري اجتماعي .. وقد سحب السيّد الشهرستاني إلى فلك مهامّه وشعاع أعماله خيرة طاقات المؤسّسة ليستفاد منها بنحو وآخر في اُمور المرجعيّة ..

تأ ثّر محيط التحقيق سلباً بالواقع الجديد ، والذي زاد الطين بلّةً خيبة أمل الموظّفين عموماً ، حيث كانوا يرجون بالحال الجديد خيراً على مستوى الأوضاع المعاشيّة والاقتصاديّة بعد سنين عجاف قضوها في


خدمة المؤسّسة وأعمالها ، لكنّ الوضع لم يتغيّر كثيراً وبقيت مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) باُجورها من المؤسّسات القليلة العطاء نسبةً إلى نظائرها التي تعلو فيها الاُجور بكثير عمّا هي عليه عندنا ، الأمر الذي جعل أغلب طاقاتنا إمّا أن تلتزم بمشاريع ومؤسّسات اُخرى وتجعل من هنا محطّ رحال ليس إلاّ ، أو تغادر نهائيّاً بلا رجعة ..

إنّ قدماء المحقّقين والموظّفين أصبحوا يرون باُمّ أعينهم اُناساً جدداً يكبرون ويكبر دخلهم ، وحالهم المادّي والاقتصادي في تطوّر دائم من الحسن إلى الأحسن ، أمّا هم الذين بدأوا منذ بدايات المؤسّسة فلا زالوا يراوحون في مكانهم .. أوجد هذا الواقع ردّة فعل ولاسيّما بعد طول انتظارهم للخروج من هذه الأوضاع وأمل بالتحسّن في ظلّ المرجعيّة التي صارت وكالتها المطلقة من نصيب رئيس المؤسّسة ..

رغم كلّ ذلك ـ ورغم انتماء الكثيرين للمؤسّسة مؤخّراً بهدف الحصول على امتيازات وخصائص بفعل الواقع الجديد ـ فقد تمسّك عددٌ لا يستهان به من قدماء المحقّقين المرموقين بالمؤسّسة لمواصلة درب التحقيق وخدمة قيم الدين والطائفة ، واستمرّ العمل والنتاج رغم الاُفول الذي يصيبه بين الحين والآخر .. ولازالت قاعة التحقيق وتوابعها تمثّل جوهر المؤسّسة العلمي الذي يحفظ منزلتها الثقافيّة ومكانتها المعرفيّة بين الأوساط المختصّة ..

إنّنا الآن مؤسّسة كباقي المؤسّسات لا يميّزنا عنها سوى العنوان


والتاريخ والأسبقيّة .. ولأجل النهوض وبثّ الحيويّة من جديد لابدّ من اهتمام خاصّ وابتكارات جديدة ومرغّبات معتدّ بها ، ومتابعات منتظمة من المؤسّس والإدارة ..

هذا ، إن كانت هناك رغبة حقيقيّة في ذلك تحت ظلّ الظروف الحالية .. ولا أعتقد أنّ الفرص تسنح دائماً لتلافي النواقص والأخطاء .. وإلاّ فالاُفول طبيعيٌّ طبق الشروط الحاكمة ، والأجواء المهيمنة إذا استمرّت على هذا المنوال فإنّها ليست في صالح المؤسّسة ومستقبلها العلمي ..

بذلتُ الجهود والمساعي وتحمّلتُ المشاقّ والصعاب والآلام ودفعتُ ـ كأقراني ـ ولا زلت أدفع ضريبة الوضع الذي أنا فيه بالكيان ولوازمه من آراء وأقاويل وتصوّرات واتّهامات ، وهي قضايا طبيعيّة ; نظراً للأجواء الحاكمة ومستوى الناس الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والديني ..

ولستُ متأ ثّراً كثيراً لهذا الأمر ; لاعتقادي وقناعتي بالخطّ والمنهج الذي اتّخذته في حياتي والذي تتخلّله بلا شكّ الأخطاء والهفوات ونقاط الضعف والنقص الواجب تداركها بالمراجعة والتأمّل والمطالعة ..

إنّما تأ ثّري من نوع الآلية المفروضة والسياقات التي يدار بها الكيان ، فالعقليّة الحاكمة والثقافة المهيمنة على إدارة شؤونه وسائر المراكز والمؤسّسات التي باشرت فعّاليّاتها بعد المرجعيّة هي عقليّة وثقافة اتّكالية ، فالكلّ يعتمد ـ حتى في جزئيّات القضايا ـ الرجوع إلى الوكيل العامّ .... وكنت قد كتبت كثيراً هنا وهناك وبيّنت الهيكليّة الإداريّة الموجودة


وخصائصها والسلبيّات المترتّبة عليها بما لا حاجة معه إلى التكرار والإعادة ..

يمكن القول : إنّ مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) كمركمز علمي تحقيقي فقدت سلّم الأولويّة لدى المؤسّس ، وإن حافظت على محوريّتها ومركزيّتها فلأجل كونها مقرّ تواجده وحضوره وتوافد الناس عليه .. وهذا التراجع مشهود لدى الجميع وآثاره سارية على الفضاء داخل المؤسّسة ، ناهيك عن خارجها ; حيث العتب والنقد جرّاء انخفاض الفاعليّة العلميّة وانشغال الوكيل العامّ ومن حوله باُمور المرجعيّة.

نحن نبقى نجدّ بمساعينا كي نحفظ للمؤسّسة وجودها المعرفي والثقافي من خلال تواصل العمل والنتاج ، رغم كلّ الإشكاليّات والمعوّقات والمثبّطات ، رغم كلّ المغريات وأدوات الاستقطاب التي تستخدمها سائر المراكز المشابهة لجذب طاقاتنا ..

أمّا أنا فسائر على المنهج والمبنى الذي شيّدته لحياتي العلميّة والثقافيّة ; إذ «التحقيق» ما عاد هدفي وغايتي ، إنّه منصّة انطلاق نحو مشاريع وأهداف اُخرى ، ولاسيّما أنّ البقاء في إطاره يعني : تحجيم الاستعداد وتخدير الطاقات ومحاصرة الأفهام وحبس الأفكار وتأفيل الإبداع .. نعم ، أجد في الكتابة والمطالعة والمتابعة الثقافيّة المتنوّعة متنفّسي واُفقي الواسع وفضائي الذي اُحلّق فيه بلا قيود وتكبيل ، أمّا التحقيق فرغم الخدمة الجليلة التي أسداها لي فإنّه «بمعناه المعهود» يجعلني أسيرَ رؤى


الآخرين وتابعاً لرواشحهم العلميّة رغم الذي أكنّه لهم من عظيم الإجلال والإكبار والاحترام ..

لا اُريد أن أدور في فلك آثار الآخرين دوراناً ذيليّاً ، إنّما أهدف إلى التعلّم من أفكارهم لأستثمرها في صقل وبلورة وصياغة أفكاري ، ولذلك حاولت منذ البدء أن أجعل «التحقيق» ـ لما يفرض عليّ من مراجعات ومطالعات وتأمّلات ومناقشات ـ واحداً من المناهج التي أملأ بها فراغاً علميّاً لم تتوفّر الفرصة الدراسيّة في اغتنامه ، مثلاً تمكّنت نوعاً ما من الاستعاضة بالبحوث التحقيقيّة التي اُوكلت لي مهمّة ضبط وتقويم نصوصها ـ ككتاب الحجّ والنكاح والقضاء والشهادات والصوم والخمس والزكاة والإجارة ـ عن بحوث دروس الخارج الفقهيّة التي لم اُوفّق للاشتراك فيها ..

وعلى ضوء المجموع الكلّي حصلتُ على مقدار من الخلفيّة العلميّة والثقافيّة التي تمكنّني من صياغة وتدوين الرؤى والأفكار التي أسلك في عرضها وبيانها مسلك «المسافات القصيرة» ; حيث لا أميل إلى التطويل المملّ والإيجاز المخلّ ، خصوصاً أنّ عصرنا والظرف الراهن يحتاج القيم والمفاهيم والمبادئ التي تُنشَر بنحو محتوائي جذّاب استقطابي ، وهذا ما يستدعي الإبداع والابتكار المقترنين بالأساليب الممتعة التي تميل لها الطباع وتأنس لها النفوس وتتقبّلها أواسط العقول والأذهان ، أمّا الموسوعات والمطوّلات والمجاميع والدورات فإنّها اختصاصيّة ليس بمقدور غالب الناس الوصول إليها واقتنائها ومراجعتها وفهمها ; لسعتها


وعمق مطالبها وغلاء أسعارها وافتقارها الوقت الكثير للإفادة منها .... وعالم اليوم هو عالم السرعة والحركة والاستفادة القصوى من عامل الزمن ، فلعلّ مقالة ما أو بحث أو جملة أو كلمة حتى ، تجد أثرها الفاعل في العقول والقلوب والنفوس أكثر من موسوعة ومجلّدات ...

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ..


أنسنة الفكر والشعور............................................................. ٥

ممّا قيل في الفكر والمنهج........................................................... ٧

ممّا قيل في : الحداثة ، الأصالة ، المعاصرة ، الإبداع ، التجدّد والتجديد ، التقليد ، العقلانيّة الحداثة   ١٧

إشكاليّة الأصالة والمعاصرة..................................................... ٢٧

الأصالة..................................................................... ٢٩

الإبداع..................................................................... ٣٥

التجدّد والتجديد............................................................ ٣٩

التقليد...................................................................... ٤٣

العقلانيّة.................................................................... ٤٥

رواشح التسمية................................................................. ٥٨

الإفلاس الفكري............................................................... ٦٢

الفكر المقارن ، ضرورة الصراع والحوار.............................................. ٦٧


الفكر لغةً................................................................... ٦٩

أمّا اصطلاحاً :.............................................................. ٧٠

فكرةٌ بلا رسالة............................................................... ١٠٥

ثورة الإبداع.................................................................. ١١١

الإبداعُ إمتاع................................................................. ١١٤

الإبداع قرين الصدق.......................................................... ١١٧

معنى التغيير.................................................................. ١١٩

التغيير حاجة................................................................. ١٢٣

سلطة النصّ ما بين الموروث والمعاصر............................................ ١٢٨

زمن الانحطاط الفكري......................................................... ١٣٣

الوسطيّة بين الأصالة والتجديد................................................. ١٤٠

الإرهاب الفكري.............................................................. ١٦٦

تمرين المعرفة.................................................................. ١٧٢

التدبير الصحيح.............................................................. ١٧٤

من أوهام فرانسس بيكون...................................................... ١٧٦

المالُ : استقلالٌ ونفوذٌ ، سيطرةٌ وقدرة............................................ ١٧٨

مقولتا العمق والقشر.......................................................... ١٨١


صراع المانع والمقتضي.......................................................... ١٨٤

وقفة عَقَديّة.................................................................. ١٨٧

أمران : سؤال الأنا والآخر...................................................... ١٨٨

برمجة الرؤى المستقبليّة.......................................................... ١٨٨

ماذا نعني بأدوات البحث؟..................................................... ١٩١

نحن وعلم الكلام............................................................. ١٩٥

الفرقة الناجية................................................................. ٢٠٢

التشيّع وحدة مفهوم........................................................... ٢٠٦

التراث وازدواجية المعايير........................................................ ٢١٠

كونوا زيناً لنا................................................................. ٢١٤

هذا أنا فمن هم؟............................................................. ٢١٧

لِمَ نخاف ونخشى؟............................................................. ٢٢١

لماذا الإلهيات؟................................................................ ٢٢٤

حقّ التاريخ................................................................... ٢٢٧

فهم التاريخ.................................................................. ٢٣١

نهاية التأريخ.................................................................. ٢٣٤

القياس والإجماع............................................................... ٢٣٦


أثر المكان والزمان............................................................. ٢٥٤

الاختراق الثقافي.............................................................. ٢٥٩

موقعنا في جدول التواصل التقني................................................. ٢٦٨

الفضائيّات................................................................... ٢٧١

بلا فصل وعنوان.............................................................. ٢٧٣

المحتويات..................................................................... ٤٣٧

نفحات الذات - ٣

المؤلف:
الصفحات: 440