من مقدّمة تحقيق كتاب ذكرى الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير بريّته محمّد المصطفى ، وعلى آله مصابيح الدجى.

تعاقبت على المتن الفقهي الشيعي مراحل عدّة وأدوار مختلفة ساهمت مساهمةً فاعلةً في بلورة طابعه الذي تميّز به ، وخصائصه التي تفرّد بها ، حتى اتّخذ أبعاده وموازينه القائمة حالياً.

ولقد كان للكفاح الفكري الدؤوب والجهود العلمية الهائلة التي بذلها أعلام الطائفة وأساطينها الأفذاذ ، الدور المشهود في تثبيت وتطوير واستقلالية الفقه الشيعي.

ولبعض هؤلاء الفطاحل الأمجاد اللمسات البارزة والدور الأكبر في ما تحقّق له من تكاملية وحيوية ، نخصّ منهم :

__________________

١. تأليف الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، طبع في أربعة مجلّدات.


شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (م٤٦٠).

المحقّق الحلّي ، جعفر بن الحسن (م٦٧٦).

العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر (م٧٢٦).

الشهيد الأوّل ، محمّد بن مكّي العاملي (م ٧٨٦).

الوحيد البهبهاني ، محمد باقر (م١٢٠٥).

الشيخ مرتضى الأنصاري (م١٢٨١).

وجماعة من أهل الفنّ والاختصاص حصروا هذه المراحل كلّها في مرحلتين :

١ ـ مرحلة المتقدّمين.

٢ ـ مرحلة المتأخّرين.

والمراد من «المتقدّمين» في المتون الفقهيّة المصنّفة في القرن السادس والسابع : فقهاء عصر الأئمّة (عليهم السلام). و «المتأخّرين» : ما جاوز منهم فترة حضور الإمام (عليه السلام) ، أي سنة ٢٦٠ فما بعد.

وقد يطلق مصطلح «المتقدّمين» على شيخ الطائفة ومَن تقدّمه ، و «المتأخّرين» على مَن بعده.

والمعروف من المتون الفقهية عموماً أنّ المحقّق الحلّي ـ ولربما العلاّمة ـ هو الحدّ الفاصل وحلقة الوصل بين «المتقدّمين» و «المتأخّرين».

وقد اُضيف مصطلحٌ آخر في المتون الفقهية المدوّنة في القرن الثالث


عشر بعنوان : «متأخّري المتأخّرين» ، حيث يكون المراد من «متأخّريهم» مَن هم بعد زمن صاحب المدارك.

ولعلّ هذا التقسيم الثنائي يفتقد الدقّة في الضبط والتثبّت ، فهو في الحقيقة أشبه بمصادرة أو غفلة عن كثير من الخطوات العظيمة والابتكارات العملاقة والاقتراحات البنّاءة والآراء السديدة التي صنعت للمتن الفقهي الشيعي كياناً علمياً وفكرياً مستقلاًّ.

نعم ، يمكن إيفاء المطلب حقّه إن قلنا : إنّ أدوار ومراحل الفقه الشيعي ـ على ضوء المحاسبات العلمية والتاريخية وما يقترن بهما من لوازم وعوامل مختلفة ـ تنشطر إلى ثمان :

١ ـ مرحلة عصر الأئمّة (عليهم السلام).

٢ ـ مرحلة أهل الحديث.

٣ ـ مرحلة تفوّق الفقهاء وانحسار مدّ المحدّثين.

٤ ـ مرحلة الشيخ الطوسي.

٥ ـ مرحلة الشهيد الأوّل.

٦ ـ مرحلة المحقّق الكركي.

٧ ـ مرحلة الوحيد البهبهاني.

٨ ـ مرحلة الشيخ الأنصاري.

ولا يخفى أنّ تفصيل وبيان كلّ مرحلة بحدّ ذاتها وما تمتاز به من خصائص ومواصفات ، يستدعي بسط البحث واستطالته ، مع أنّنا نروم


التمحور ـ بعض الشيء ـ حول مرحلة الشهيد (قدس سره) ; لما لذلك من صلة وارتباط بما نحن فيه ، مسلّطين الضوء بشكل خاطف على جوانب من ملامحها واُطرها ، اللذين يمكن استخلاصهما من خلال استعراضنا لمختلف الظروف التي عايشها رضوان الله تعالى عليه ـ أخذاً وعطاءً ـ منذ النشأة وحتى الشهادة.

لذا فنحن نستلّ من تلك المراحل الثمان مرحلة الشهيد (قدس سره) ، فنخوض غمارها بنوع من التوسّع الذي يناسب المقام ، فنقول :

استطاع الفقه الشيعي في المرحلة الثالثة أن يشكّل بناءً خاصّاً ويشيّد برنامجاً مستقلاًّ عن دور ومرحلة الحديث.

والملاحظ على المتون الفقهية التي صنّفت في تلك الفترة اتّصافها بالحالة الفقهية التقليدية التي كانت سائدة حينذاك ، تلك الحالة التي استلهم منها شيخ الطائفة تشييد اُسلوبه ومنهجيته في صياغة كتابه «النهاية» ، إلاّ أنّه (قدس سره) وبتدوينه «المبسوط» و «الخلاف» قد خلق نوعاً من التغيير والتحوّل في محتوى ومضمون المتن الفقهي الشيعي ، حيث سلك فيهما مسلك الاُسلوب السنّي الحاكم آنذاك ، فلا نجازف إن قلنا : إن هيكلية هذا الفقه قد اضطربت بذلك ، وأضحت خليطاً من نظامين متفاوتين.

ولعلّ هذا كان منشأ التوهّم القائل بنسبة الشيخ (رحمه الله) إلى مذهب الشافعية.

ولقد توغّل هذا المنهج في عمق الواقع الثقافي والفكري الشيعي


حتى ترك لمساته البارزة على شتّى المصنّفات والتأليفات المنجزة حينذاك.

ويتلخّص هذا الاُسلوب بـ : أنّه يستعرض أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء العامّة أوّلاً ثم يطرح أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء الشيعة.

ولعلّ الفاضل الآبي (قدس سره) كان أوّل من انتفض على هذا الاُسلوب وتلك المنهجية ، فصنّف كتابه «كشف الرموز» ممتنعاً فيه عن ذكر أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء العامّة.

وشدّ أزره وتابعه على ذلك من تلامذة العلاّمة الحلّي : ولده فخر المحقّقين في كتابه «إيضاح الفوائد» ، حيث استعاض عن نقل آراء وأدلّة فقهاء العامّة بنقل آراء وأدلّة فقهاء الشيعة.

ومع كلّ ذلك ، لا يمكن لنا أن ننكر النضوج والترقّي اللذين أصابا الفقه الشيعي خلال مرحلة الشيخ الطوسي (قدس سره) ، فلا زالت آثاره المباركة إلى يومنا هذا مهوى أفئدة الطائفة بفقهائها ومفكّريها وأساتذتها وتلامذتها ، فهو المفخرة التي ساهمت في منح المذهب عزّةً وكبرياءً ومرتبةً ورفعة .. ولعلّ تفريعات «المبسوط» خير مصداق وأرفع مثل يحتذى به في ما نحن فيه.

كما لا يمكن تناسي دور العلاّمة الحلّي وكل مَن سبقه ومَن تلاه في تدعيم وتثبيت أركان المؤسّسه الفقهية الشيعية ، فلا زالت تفريعاته


ـ ولا سيّما في قسم المعاملات ، والمستفادة من النمط السنّي ـ مورد عناية وتوجّه أهل الفنّ والاختصاص ، والتي طبّقها على المتن الشيعي بشكل رائع من حيث الأساس والقواعد والاُصول والمباني.

وشهيدنا الأوّل ، شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ، وبفضل نبوغه الذاتي ومؤهّلاته الفريدة ، استطاع أن ينقّح الاُصول والقواعد الأساسية للفقه الشيعي ، مجسّداً ذلك على متونه بشكل عملي قلّ نظيره ، وبخطواته الهائلة ـ التي حقّقها بجهوده العملاقة ـ تمكّن من أن يحدث فيه انقلاباً وتحوّلاً مصيرياً ، مانحاً إيّاه شخصيته الحقيقية وهويّته المستقلّة.

إنّ طرح الشهيد للتفريعات التحقيقية والفقهية القيّمة ذات الطابع الابتكاري الحديث ، وبسطه الفقه الشيعي وفتحه آفاقاً جديدةً له ، أكسبه حلّة بهيّةً وذوقاً رفيعاً ومكانةً شامخةً ، تجلّت بأنصع الصور وأروعها ، فغدت «الألفية» و «النفلية» و «القواعد والفوائد» و «الدروس» و «الذكرى» و «غاية المراد» و «اللمعة الدمشقية» وغيرها ، من مصادر الفقه الشيعي ومراجعه المهمّة ، التي تعكس بكلّ وضوح هيبة مدرسة أهل بيت العصمة والطهارة بأرقى خصائصها ومميّزاتها.

وللمكانة التي نالها دور الشهيد وفكره الوقّاد ، فقد سار على دربه وتبع نهجه فقهاء الطائفة وأساطينها ، وذلك زهاء ما يقارب القرن والنصف ، وهم وإن طرحوا في آثارهم ومؤلّفاتهم بعض المباني الجديدة والآراء المبتكرة ، إلاّ أنّ السمة البارزة عليها بيان أفكاره وشرح نظرياته وآرائه.

ومن أبرز هؤلاء الفقهاء :


ابن الخازن الحائري ، زين الدين علي بن الحسن (م أوائل القرن التاسع).

ابن المتوّج البحراني ، أحمد بن عبدالله (م٨٢٠) صاحب النهاية في تفسير الخمسمائة آية.

الفاضل المقداد ، المقداد بن عبدالله السيّوري الحلّي (م٨٢٦) صاحب التنقيح الرائع وكنز العرفان.

ابن فهد ، أحمد بن محمّد بن فهد الأسدي الحلّي (م ٨٤١) صاحب المهذّب البارع والموجز الحاوي والمقتصد وغيرها.

شمس الدين محمّد بن شجاع القطّان الحلّي (م النصف الأوّل من القرن التاسع) صاحب معالم الدين في فقه آل ياسين.

المفلح بن الحسن الصيمري (م بعد سنة ٨٨٧) صاحب كشف الالتباس وغاية المرام وغيرهما.

ابن هلال ، علي بن محمّد بن هلال الجزائري (م بعد سنة ٩٠٩).

إبراهيم بن سليمان القطيفي (م بعد سنة ٩٤٥) صاحب إيضاح النافع.

الشهيد الثاني ، زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي (م٩٦٥) صاحب الروضة البهية وروض الجنان ومسالك الأفهام وغيرها.

إنّ انتساب مرحلة من مراحل تطور متن الفقه الشيعي إلى الشهيد (قدس سره) يعدّ بلا ريب أغلى وسام ناله جرّاء كفاحه المرير ، ذلك الكفاح الذي


ما ترك معه باباً من أبواب العلم والمعرفة إلاّ وطرقه وارتوى من نميره بما يكفيه ويسدّ حاجته ، فكانت سيرةً عطرةً وحياةً مباركةً غذّت شرايين الفكر والثقافة بأبهى الآراء وأجمل المقترحات وملأت سوح الفضيلة جلالةً وفخراً ، متوّجاً إيّاها بدماء زاكيات سالت على ثرى المبدأ والعقيدة الحقّة ، بعد أن أباحت هدرها فئة ضالّة قادها الحقد الدفين والتعصّب الأعمى إلى ارتكاب تلك الجريمة النكراء ، التي لازال جبين الإنسانية يندى لها خجلاً وحياءً ; ولا عجب من ذلك ، فإنّ له في السبط الشهيد (عليه السلام) اُسوةً حسنةً ونموذجاً رائعاً.

غايد المراد وتمام المقصود : أنّ الشهيد بما خلّفه من مخزون علمي خالد وتراث فكري فذّ ، شاد معهما أرسى القواعد وأمتن المباني وأعمق النظريات ، إنّما كان حصيلة إحاطته الفائقة بالعقليات والنقليات ، فجمع شتّى العلوم وألوان الفنون ، حتى غدى بحدّ ذاته مرحلة من مراحل الفقه الشيعي الثمان ، رفدت متونه بأغنى المفاهيم وأرقى الابتكارات.

هذا هو المدّعى ، أمّا إثباته فلنا أن نقول : إنّ إثبات كلّ مدّعى يحتاج ـ كما لا يخفى ـ إلى المؤنة الدليلية اللازمة مع القرائن المقبولة والشواهد المناسبة وصيغ الطرح الملائمة وسائر اللوازم الاُخرى ، التي تصونه من النقض والردّ وتقوّي فيه جانب الإبرام والثبوت ، فكم من المدّعيات التي اُلغيت أو اُسقطت لافتقادها ما يمكن أن تكادح به المنافيات وتقاوم معه المعارضات.


ولعلّ كلّ زاوية من زوايا سيرة الشهيد العلمية والفكرية لها اللياقة في تحقّق المدّعى وإثباته ، فالأدلّة على ذلك متزاحمة ، مضافاً إلى ما يدعمها من مؤيّدات وقرائن وشواهد ; ولتيسير الطريق فإنّنا نستعرض حياته بشكل سريع ، بما فيها : نشأته ، رحلاته ، أساتذته ، تلامذته ، ما قيل فيه ، وآثاره ، وجملة من آرائه ومقترحاته وابتكاراته وملامح مدرسته وخصائصها ، ثم شهادته رضوان الله تعالى عليه. حينذاك سيتجلّى ثبوت المدّعى بكل وضوح وشموخ.

وُلِدَ (قدس سره) في جزّين إحدى قرى جبل عامل من جنوب لبنان ، سنة ٧٣٤ هـ ، جبل عامل ذلك المكان الذي تخرّج منه خُمس علماء الشيعة ، مع أنّه لا يساوي عُشر عُشر بلاد الشيعة مساحةً ، فكانت حركة العلم ومجالس الفكر والمعرفة مزدهرة آنذاك ، فأطلّ الشهيد على الحياة الثقافية من أوسع منافذها ، حتى جالس منذ نعومة أظفاره ـ وبدافع من والده العالم الفاضل الشيخ مكّي جمال الدين ـ علماءها ، وخالط فقهاءها ، وارتاد ندواتها العلمية ، وشارك في حلقات الدرس ، التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت ، وكثيراً ما كان يساهم في المناقشات التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاّب أو الطلاّب أنفسهم ، فمنذ البدء تعوّد أن يبني لنفسه آراءً مختصّةً به في مختلف مسائل الفقه والأدب وغيرهما ، حتى أصبح ـ مع صغره ـ يشار له بالفضل والعلم ويتوقّع له مستقبل زاهرٌ ومشرق.

شدّ الرحال ـ وهو في أوائل ربيعه السابع عشر ، أي في حدود سنة


٧٦١ ـ إلى حيث يمكنه تلقّي العلوم والمعارف ، فارتاد الحلّة وكربلاء المشرّفة وبغداد ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والشام والقدس ، وتركّز استقراره في الحلّة التي كانت آنذاك عامرة بأساطين الفقه وعلماء المعرفة ، حتى أضحت قطباً حيويّاً ومدرسة رائدة من مدارس الفقه الشيعي ، وفي ظلّ هذا الازدهار وتلك الحيوية ارتوى الشهيد من أصفى منابع العلم وأنقاها ..

فتلمّذ على ولد العلاّمة فخر المحقّقين (م٧٧١) الذي كان من أجلّ مشايخه وأعظم أساتذته وأكثرهم دراسةً عليه ، فأولاه من العناية ما لم يولها لغيره ; لما رأى فيه من النبوغ المبكّر والمواصفات الفريدة ، حتى قال فيه : «استفدت منه أكثر ممّا استفاد منّي».

وقرأ على الفقيهين الكبيرين الأخوين : عميد الدين ، السيّد عبدالمطّلب ابن السيّد مجد الدين بن الفوارس (م٧٥٤) ، وضياء الدين السيّد عبدالله ، ابني شقيقة العلاّمة ، قدّس الله أرواحهم الزكية.

وتلمّذ أيضاً على تاج الدين ، السيّد أبوعبدالله محمّد بن القاسم المعروف بـ : «ابن مُعَيّة» ، الذي كان من كبار علماء الحلّة حينذاك.

وفي دمشق ، قرأ على قطب الدين ، محمّد بن محمّد الرازي البويهي (م٧٦٦) ، الكلامي الكبير ، والفيلسوف النحرير ، صاحب شرح المطالع والشمسية وغيرهما.

أمّا أساتذته ومشايخه من العامّة فهم كثيرون ، منهم : القاضي برهان


الدين إبراهيم بن جماعة ، قاضي القضاة عزّ الدين عبدالعزيز بن جماعة ، جمال الدين ـ أبوأحمد ـ عبدالصمد بن الخليل البغدادي ، محمّد بن يوسف القرشي الكرماني الشافعي المعروف بـ «شمس الأئمّة» ، ملك النحاة شهاب الدين أبوالعبّاس أحمد بن الحسن الحنفي النحوي ، شرف الدين محمّد بن بكتاش التستري البغدادي الشافعي ، ملك القرّاء والحفّاظ شمس الدين محمّد بن عبدالله البغدادي الحنبلي ، فخر الدين محمّد بن الأعزّ الحنفي ، شمس الدين أبوعبدالرحمن محمّد بن عبدالرحمن المالكي.

قال (قدس سره) في إجازته لابن الخازن : وأمّا مصنّفات العامّة ومرويّاتهم فإنّي أروي عن نحو من أربعين شيخاً من علمائهم بمكّة والمدينة ودارالسلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام إبراهيم الخليل (عليه السلام) (١).

وشرف التلمّذ عليه والرواية عنه فهما لكثير ، نخصّ بالذكر منهم : الفاضل المقداد السيّوري ، ابن نجدة الكركي ، ابن الخازن الحائري ، ابن الضحّاك الشامي ، الشقراوي الحنّاط ، الكرواتي ، عزّالدين العاملي ، ابن هلال الكركي ، ابن زهرة الحسيني الحلبي ، عزّ الدين الحلّي ، بنته العالمة اُم حسن ، فاطمة ، الملقّبة بـ : «ستّ المشايخ».

__________________

١. نقول : إنّ هذا دليلٌ جلي من دلائل عدّة ، وشاهدٌ بارز من شواهد كثيرة ، على سموّ فكر علماء الشيعة ونقاء سريرتهم وعدم إبائهم من تلقّي شتّى العلوم والمعارف عن طريق علماء سائر المذاهب ، مجرّدين أذهانهم بذلك عن كلّ حقد وتعصّب. بل لم يمنعهم علوّ مرتبتهم وجلالة مقامهم ـ باعتراف أكابر هذه المذاهب وفضلائها ـ من القيام بذلك.


ولو تأمّلنا في مدّة عمره الشريف ـ القصيرة نسبيّاً ـ ورحلاته إلى تلك البلاد وتلك ، وما خلّفه من تصانيف رائعة في شتى العلوم والفنون ، وأنظاره الدقيقة ، ومقترحاته العميقة ، يعلم أنّه من الذين اختارهم الله تعالى لتكميل عباده وعمارة بلاده ، وكلّ ما قيل أو يقال في حقّه فهو دون مقامه ومرتبته.

وإليك بعض الخصائص التي ميّزته رضوان الله تعالى عليه :

ـ أوّل من هذّب متن الفقه الشيعي من أقاويل المخالفين.

ـ من فقهاء الشيعة الخمسة الذين أحاطوا بأقوال العامّة والخاصّة ، أوّلهم زماناً : المحقّق الحلّي ، ثم العلاّمة الحلّي ، ثم ولده فخر المحقّقين ، ثم الشهيد الأوّل ، ثم الشهيد الثاني.

ـ رجحان كفّته في كثير من الموازنات التي كان يعقدها كبار علمائنا بينه وبين فطاحل الطائفة وعظمائها.

ـ أفقه الفقهاء باعتقاد جماعة من الفقهاء والأساتيذ.

ـ تأليفه كتابه الشهير «اللمعة الدمشقية» في سبعة أيّام فقط.

ـ تمكّنه من أن يضيف إلى مدرسة العلاّمة ـ في الفقه والكلام ـ ومنهجيتها أشياء ، ويطوّرها ، ويحدّد المفاهيم ، بما لم يستطع عليه أساتذته وشيوخه.

ـ أوّل من بادر إلى تشكيل وتأسيس نظام خاصّ بجباية الخمس ،


وتوزيع العلماء في المناطق المختلفة ، وشبكة الوكلاء القائمة حالياً هي ثمرة جهوده المباركة.

ـ إنّه عصاره ورمز مرحلة من مراحل تطوّر الفقه الشيعي بأكملها ، حتى سمّيت باسمه ، وهذا مقامٌ لم ينله إلاّ نوادر عظماء الطائفة وأساطينها.

قيل الكثير في نعته والإطراء عليه ، وأثنى عليه أعاظم الفريقين ، نختار بعضاً منها هنا :

ـ مولانا الإمام العلاّمة الأعظم ، أفضل علماء العالم ، سيد فضلاء بني آدم ...

(اُستاذه فخر المحقّقين)

ـ مولانا الشيخ الإمام ، العالم الفاضل ، شمس الملّه والحقّ والدين ...

(اُستاذه ابن معيّة)

ـ شيخ الشيعة والمجتهد في مذهبهم ... وإمام في الفقه والنحو والقراءة ، صحبني مدّةً مديدة فلم أسمع منه ما يخالف السنّة ...

(شمس الدين الجزري)

ـ المولى الأعظم الأعلم ، إمام الأئمّة ، صاحب الفضلين ، مجمع المناقب والكمالات الفاخرة ، جامع علوم الدنيا والآخرة ...

(اُستاذه شمس الأئمّة الكرماني القرشي الشافعي)

ـ الشيخ الإمام العلاّمة ، الفقيه البارع الورع ، الفاضل الناسك الزاهد ...

(اُستاذه عبدالصمد بن الخليل البغدادي شيخ دار الحديث ببغداد)


ـ الشيخ الفقيه ، وإمام المذهب ، خاتمة الكلّ ، مقتدى الطائفة المحقّة ، ورئيس الفرقة الناجية .. الشهيد المظلوم ...

(تلميذه ابن الخازن الحائري)

ـ ملك العلماء ، علم الفقهاء ، قدوة المحقّقين والمدقّقين ، أفضل المتقدّمين والمتأخّرين ... الرئيس الفائق بتحقيقاته على جميع المتقدّمين ، مهذّب المذهب ...

(المحقّق الكركي)

ـ خاتمة المجتهدين ، محيي ما درس من سنن المرسلين ، البدل ، النحرير ، المدقّق ، الجامع بين منقبة العلم والسعادة ومرتبة العمل والشهادة ...

(الشهيد الثاني)

ـ الشيخ الإمام الأعظم ، محيي ما درس من سنن المرسلين ، محقّق حقائق الأوّلين والآخرين ...

(العلاّمة محمّد تقي المجلسي)

ـ شيخ الطائفة وعلاّمة وقته ، صاحب التدقيق والتحقيق ، من أجلاّء هذه الطائفة وثقاتها ، تقيّ الكلام ، جيّد التصانيف ...

(التفرشي صاحب نقد الرجال)

ـ كان عالماً ماهراً ، فقيهاً ، محدّثاً ، مدقّقاً ، متبحّراً ، كاملاً ، جامعاً لفنون العقليات والنقليات ، زاهداً ، عابداً ، ورعاً ، شاعراً ، أديباً ، منشئاً ، فريد دهره ، عديم النظير في زمانه ...

(الحرّ العاملي)

ـ علاّمة العلماء العظام ، مفتي طوائف الإسلام ... مهذّب مسائل


الدين الوثيق ... العارج إلى أعلى مراتب العلماء والفقهاء المتبحّرين وأقصى منازل الشهداء السعداء المنتجبين ...

(المحقّق أسد الله التستري)

ـ أفقه جميع فقهاء الآفاق ، وأفضل من انعقد على كمال خبرته واُستاديّته اتّفاق أهل الوفاق ، وتوحّده في حدود الفقه وقواعد الأحكام ، مثل تفرّد شيخنا الصدوق في نقل أحاديث أهل البيت الكرام (عليهم السلام) ، ومثل شيخنا المفيد وسيّدنا المرتضى في الأُصول والكلام وإلزام أهل الجدل والألدّ من الخصام ...

(صاحب روضات الجنّات)

ـ تاج الشريعة وفخر الشيعة ... أفقه الفقهاء عند جماعة من الأساتيد ، جامع فنون الفضائل ... وقد أكمل الله تعالى عليه النعمة ...

(المحدّث النوري)

ـ كان رحمه الله بعد مولانا المحقّق على الإطلاق أفقه جميع فقهاء الآفاق ...

(صاحب الكنى والألقاب)

كهف الشيعة وعلم الشريعة ، لم يزل فقهه مستقى علماء الإماميّة في نظريّاتهم وكتبه مرجع فقهائهم ، وأنظاره العلمية مرتكز آرائهم ... فلا اُطيل بتنسيق عقود الثناء فأكون كناقل التمر إلى هجر ...

(العلاّمة الأميني)

فليس من الهيّن حقّاً أن يطرى عليه (قدس سره) بكل هذا الإطراء وينعت بكل هذه النعوت الناصعة ; بل ما كان أن يكون ذلك لولا همّته العالية وسعيه الهائل ومثابرته الدؤوبة وفضائله الروحية والأخلاقية ، حيث لم يألُ جهداً


ولم يضيّع فرصةً من أجل الوصول إلى هدفه المنشود ، فكان يقول في ذلك :

معدودٌ من الخسران إن صُرِفَ الزمان في المباح وإن قلّ ، لأ نّه ينقص من الثواب ويخفض من الدرجات ، وناهيك خسراناً بأن يتعجّل ما يُفنَى ، ويخسر زيادة نعيم سيبقى.

وقصّة تناظره مع ابن المتوّج البحراني معروفة ، فكان الشهيد قد غلبه مرّتين في ذلك وأفحمه ، فسأله ابن المتوّج عن السرّ فقال (قدس سره) : سهرنا وأضعتم.

إنّ الفترة التي عاشها رضوان الله تعالى عليه هي فترة توغّل وتعمّق فقه المحقّق والعلاّمة ، ومع ذلك فما نراه قد تأ ثّر بمدرستيهما ، بل ابتعد عنهما إلى حدّ كبير ، وهذا ممّا هيّأ له الأرضية الخصبة لعرض ابتكاراته البنّاءة ومناهجه الجديدة على صعيد الاستدلال وتوسيع المسائل الفقهية ، بتبويب الفقه وتقسيمه على نحو لم يسبقه إليه غيره ، وقد تجلّى ذلك في مختلف مصنّفاته ، كاللمعة ، والقواعد والفوائد ، والذكرى ، والألفية ، والنفلية ، وغاية المراد ، والدروس ، وغيرها.

أمّا آثاره ومصنّفاته وتأليفاته (قدس سره) ، فسنستعرضها بنوع من التفصيل والتوسعة ، حيث هي المحور الأساس من بحثنا هذا ، فمنها استُنبط أغلب ما قيل فيه وفي منهجيته واُسلوبه ومقترحاته وبرامجه التي أعانت المتن الفقهي الشيعي على أن يقفز قفزته المشهورة آنذاك ، ومنها استطاع الشهيد


أن يكوّن بفكره ومعارفه مرحلة من مراحل التطوّر والازدهار ، ومنها يتأ لّق دليلنا التامّ بكلّ شموخ ورقي كي يثبت المدّعى الآنف الذكر على غاية من القوّة والمتانة.

والحقّ أنّ آثار الشهيد كانت ولا زالت مراجع أساسية ومصادر هامّة من مصادر الدين والمذهب ، فلا يمكن الاستغناء عنها مطلقاً ، ولا سيّما أنّها ـ إضافةً إلى كلّ ما أشرنا إليه ـ تتمتّع بسلاسة التعبير ورشاقة البيان والخلوّ من التعقيد والإبهام على نهج من الإيجاز والاختصار.

وننوّه إلى أنّنا أثناء طرحنا لأسماء مؤلّفاته (قدس سره) سنشير إلى قبسات من آرائه وابتكاراته ومقترحاته التي أتحف الفقه الشيعي بها ، وفتح من جرّائها منافذ وآفاقاً جديدة لازالت مورد المداولة والانتفاع :

١ ـ اللمعة الدمشقية في فقه الإمامية :

مختصر لطيف وشريف ، ومؤلَّفٌ منيف ، مشتمل على اُمّهات المسائل الشرعية ، جمع فيه أبواب الفقه ولخّص أحكامه.

ألّفه ـ كما قال ولده المبرور أبوطالب محمّد ـ بدمشق في سبعة أيّام بالتماس من شمس الدين الآوي أحد أصحاب السلطان علي بن مؤيّد ملك «سربداران» في خراسان ، الذي طلب من المصنّف (رحمه الله) التوجّه إلى بلاده في مكاتبة شريفة أكثر فيها من التلطّف والتعظيم والحثّ على ذلك ، لكنّه أبى واعتذر إليه وصنّف له هذا الكتاب.

وأخذ شمس الدين الآوي نسخة الأصل ، ولم يتمكّن أحدٌ من


نسخها منه لضنّته بها ، وإنّما نَسَخَها بعض الطلبة وهي في يد الرسول ، تعظيماً لها ، وسافر بها قبل المقابلة ، فوقع فيها بسبب ذلك خلل ، ثم أصلحه المصنّف بعد ذلك بما يناسب المقام ، وربما كان مغايراً للأصل بحسب اللفظ ، وذلك في سنة ٧٨٢ هـ.

ونقل عن المصنّف (رحمه الله) أنّ مجلسه بدمشق ذلك الوقت ما كان يخلو غالباً من علماء الجمهور ، لخلطته بهم وصحبته لهم ، قال : فلمّا شرعت في تصنيف هذا الكتاب كنت أخاف أن يدخل عَلَيّ أحدٌ منهم فيراه ، فما دخل عَلَيّ أحدٌ منذ شرعت في تصنيفه إلى أن فرغت منه ، وكان ذلك من خفيّ الألطاف.

وهذا ما يضعف قول الحرّ العاملي ومن تبعه في أنّه ألّفه في الحبس في السنة الأخيرة من عمره الشريف حينما كان لم يحضره من كتب الفقه غير المختصر النافع.

مضافاً إلى ذلك فإنّ الشهيد قد اُعتقل لمدّة عام ثم استشهد ، بينما كان قد ذكر اللمعة في إجازته لابن الخازن عام ٧٨٤ ، أي حوالي سنتين قبل استشهاده. كما وأنّ الشهيد الثاني قد ذكر في مقدّمة الروضة البهية ما يدلّ على أنّه ـ أي الشهيد الأوّل ـ قد ألّف اللمعة قبل استشهاده بأربع سنوات تقريباً.

وعلى أيّة حال ، فهذا الكتاب من أشهر مصنّفات الشهيد ومتون الشيعة الفقهية ، وكُتبتْ عليه العديد من الشروح والحواشي.


٢ ـ الدروس الشرعية في فقه الإمامية :

يشتمل على أغلب أبواب الفقه ، ويعدّ من أدقّ تأليفاته وأشهرها.

ابتكر فيه ترتيباً ونظماً جديدين لم يسبقه فيهما أحدٌ غيره ، حيث أضاف فيه عناوين جديدة للكتب (الأبواب) الفقهية ، مثل كتب : المزار ، الحسبة ، المحارب ، القسمة ، المشتركات ، الربا ، تزاحم الحقوق.

كما ونقل فيه آراء كثير من الفقهاء الذين لم تصلنا كتبهم ، كابن بابويه ، والعماني ، وابن الجنيد ، والجعفي ، وغيرهم.

لم ينقل فيه من آراء العامّة شيئاً.

ولم يوفّق لا تمامه ; لاستشهاده.

خرج منه من الطهارة إلى الرهن.

٣ ـ البيان ، في الفقه :

مختصرٌ يخلو من الاستدلال ; جمع فيه بين سهولة العبارة ومتانتها ; مشتمل على كثير من الأقوال.

خرج منه كتب : الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الخُمس.

استشهد (قدس سره) قبل إتمامه.

قال رضوان الله تعالى عليه في مقدّمته : أمّا بعد ، فإنّ الأدلّة العقلية والنقلية متطابقة على شرف العلوم ، ومن أهمّها معرفة شرع الحيّ القيّوم ، وهذا «البيان» كافل بالمهمّ منه والمحتوم على طريق العترة الطاهرة اُولي الفهوم ، الذين نقلهم إسناد معصوم من معصوم ، واستعنت على إتمامه بالله


القادر العالم على كلّ مقدور ومعلوم.

٤ ـ غاية المراد في شرح الإرشاد ، في الفقه :

من آثاره القيّمة ، حسن النظم ، دقيق في تقسيم المسائل ، وهو شرح «إرشاد الأذهان» للعلاّمة ، بل شرحٌ للموارد الصعبة والمشكلة منه ، من أوّله إلى آخره ... فما قيل : إنّه إلى كتاب الأيمان ، لا وجه له.

ويمتاز بتكامل أبوابه على خلاف سائر مصنّفاته ، كالدروس والبيان وغيرهما.

بذل فيه غاية جهده للعناية بالمسائل الخلافية بين فقهاء الشيعة ، وخاض فيها خوضاً عميقاً ومسهباً.

ونقل فيه مطالب من الفقهاء وأساتذته ـ كفخر الدين وعميد الدين ـ كانوا قد ذكروها مشافهةً ولم يوردوا بعضها في مصنّفاتهم.

وتتبّعه ومتابعته للنصوص تعدّ من خصائص هذا الكتاب.

حكى فيه مطالب كثيرة من كتب ورسائل قدماء الأصحاب التي لم تصل إلينا ولم ينقلها الآخرون في مصنّفاتهم ; وذلك لأ نّه قد توفّرت لديه آثار ومؤلّفات القدماء والأوّلين أكثر ممّا توفّر عند المحقّق والعلاّمة.

ومن هذه الكتب والرسائل : الكامل والروضة والموجز لابن البرّاج ، البشرى لابن طاووس ، الفاخر للجعفي ، الواسطة لابن حمزة ، المنهج الأقصد لنجيب الدين ، المفيد في التكليف للبُصروي ، غاية الإحكام للعلاّمة ، النيّات للراوندي ، النيّات للمصري ، الرافع والحاوي للجرجاني ،


رسالة في المضايقة لورّام ، رسالة في المضايقة لأبي الحسن الحلبي ، رسالة في قضاء الفوائت ليحيى بن سعيد ، رسالة في الإيراد على تعريف القواعد والطهارة للقاشي.

كما ونقل عن الكثير من كبار العلماء دون أن يسنده إلى كتاب خاصّ منهم ، ومن هؤلاء العلماء : ابن الغضائري ، ابن جُهَيْم ، الصهرشتي ، البزنطي ، ابن الفاخر ، الصوري ، الحمصي ، أبوصالح الحلبي ، الجعفي المعروف بالصابوني.

أشار فيه إلى بعض الأخطاء الواردة في أسناد روايات كتاب التهذيب وعدد من الكتب الفقهية.

ونستلّ من آرائه التي ضمّها هذا الكتاب عدداً منها :

ـ التبعيض في حجّية الخبر ، أي لو سقطت حجّية قسم من الحديث ـ للمعارضة أو لسبب آخر ـ فإنّ باقي الحديث لا يسقط عن الحجّية.

ـ تطرّقه أحياناً إلى بعض رجال الحديث :

كقوله : وهذه في طريقها السكوني ، وهو عامّي ... وكفى بمذهبه جارحاً.

وقوله : الطريق إلى مسمع ضعيف جدّاً.

وقوله : في الطريق أبان بن عثمان ، وفيه ضعف.

وقوله : وفي طريقها سهل بن زياد ، وضعّفه الشيخ في مواضع والنجاشي وابن الغضائري ...


وفي اُصول الفقه ، فقد احتوى الكتاب على العديد من آرائه ، نذكر منها :

ـ العمدة فتوى مشاهير الأصحاب ... والأولى العمل بفتوى الأصحاب ، وهو الحجّة هنا ولا تعويل على الرواية ، ولهذه عمل بها من طرح أخبار الآحاد بالكلّية.

ـ المعتبر إفادة الظنّ الذي اعتبره الشارع.

ـ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة.

ـ التكليف يكفي فيه الظنّ الغالب.

ـ مفهوم الحصر حجّة.

ـ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، والنهي مفسد.

ـ إنّ المذهب قد يعرف بخبر الواحد الضعيف لاشتماله على القرائن.

٥ ـ القواعد والفوائد ، في الفقه :

مختصر يشتمل على ضوابط كلّية اُصولية وفرعية ، يستنبط منها أحكام شرعية ، لم يُعْمَل مثله.

يضمّ ما يناهز الثلاثمائة وثلاثين قاعدة ، وفوائد تقارب المائة فائدة ، مضافاً إلى الكثير من التنبيهات والفروع .. وبذلك فهو يحتوي أغلب المسائل الشرعية.

وهذه القواعد والفوائد وإن طغى عليها الطابع الفقهي إلاّ أنّ بعضها اُصولية واُخرى في العربية.


واُسلوبه في الكتاب : إيراده القاعدة أو الفائدة ، ثم يستعرض ما ينضوي تحتها من فروع فقهية ، وما قد يرد عليها من استثناءات إن كانت. واتّخذ فيه اُسلوب المقارنة بين فقه العامّة والخاصّة في أغلب الفروع الفقهية ، فيعرض ما قيل من الوجوه ، سواء كان القائل عامّياً أم شيعياً ... وهذا ليس بعزيز عليه (قدس سره) ، فهو من جملة فقهائنا الخمسة الذين أحاطوا بآراء وأقوال الفقهاء على مختلف مذاهبهم.

ويعدّ هذا الأثر من جملة ابتكاراته رضوان الله تعالى عليه.

٦ ـ الرسالة الألفية :

رسالة مختصرة في فرض الصلاة ، تضمّ مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة.

تشتمل على ألف واجب في الصلاة.

قال الشهيد الثاني في شرحه عليها ـ المقاصد العليّة ـ : ... المشتملة على الألفاظ الموجزة الجزيلة الآخذة بمجامع البلاغة ومعاقد الفصاحة.

٧ ـ الرسالة النفلية :

رسالة كبيرة تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة تقريباً في الصلاة.

مرتّبة أيضاً على مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة.

للشهيد الثاني شرحٌ عليها سمّاه «الفوائد الملية».

قال الشهيد الأوّل (قدس سره) في مقدّمتها : ... لمّا وقفت على الحديثين المشهورين عن أهل بيت النبوّة أعظم البيوتات ، أحدهما عن الإمام


الصادق أبي عبدالله جعفر بن محمّد عليه وعلى آبائه وأبنائه أكمل التحيات : «للصلاة أربعة آلاف حدّ» والثاني عن الإمام الرضا أبي الحسن عليّ بن موسى عليهما الصلوات المباركات : «الصلاة لها أربعة آلاف باب» ، ووفّق الله سبحانه لإملاء «الرسالة الألفية» في الواجبات ، ألحقت بها بيان المستحبّات ، تيمّناً بالعدد تقريباً ، وإن كان المعدود لم يقع في الخلد تحقيقاً ، فتمّت الأربعة من نفس المقارنات ، واُضيف اليها سائر المتعلّقات. والله حسبي في جميع الحالات.

٨ ـ المزار (منتخب الزيارات) :

يشتمل على بابين :

الأوّل : في الزيارات ، وهو مرتّب على ثمانية فصول وخاتمة.

الثاني : يشتمل على سبعة فصول وخاتمة.

قال (قدس سره) في مقدّمته : ... وبعد ، فهذا المنتخب موضوع لبيان ما ينبغي أن يعمل في المشاهد المقدّسة والأمكنة المشرّفة من الأفعال المرغّبة والأقوال المروية.

٩ ـ أجوبة مسائل ابن نجم الدين الأطراوي :

مسائل سألها منه (قدس سره) العالم الجليل والفقيه الكبير تلميذه السيد حسن ابن أيّوب الشهير بابن نجم الدين الأطراوي ، وأجابه عنها.

وهي خمس وستّون مسألة فقهية من أبواب متفرّقة.


١٠ ـ أجوبة مسائل الفاضل المقداد :

سبعٌ وعشرون مسألة ، سألها الفاضل المقداد بن عبدالله السيّوري من اُستاذه الشهيد ، فكتب هو جواباتها.

طبعت محقّقة لأوّل مرّة في مجلّة «تراثنا» التي تصدرها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحيات التراث.

١١ ـ جامع البين في فوائد الشرحين :

جمعٌ لشرحي الأخوين العالمين الفاضلين السيد عميد الدين والسيّد ضياء الدين على كتاب خالهما العلاّمة الحلّي «تهذيب الوصول إلى علم الاُصول».

أضاف الشهيد إليه مطالب جديدة.

قال المحقّق الكنتوري : هذّبه وأصلحه الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثي (١).

وقال المحقّق التستري : ونقل فيه ـ أي الشهيد في الجمع بين الشرحين ـ اتّفاق الفرقة على كون مذهب الصحابي ليس حجّةً على غيره من الصحابة (٢).

١٢ ـ جواز إبداع السفر في شهر رمضان :

رسالة مبسوطة تعرّض فيها إلى مسألة السفر في شهر رمضان

__________________

١. كشف الحجب : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢. كشف القناع : ٣٦٣.


والآراء والأقوال المطروحة فيها.

قال (قدس سره) : الظاهر من مذاهب العلماء في سائر الأعصار والأمصار جوازه مع إجماعنا على كراهة ذلك .. لنا عشرون طريقاً ...

١٣ ـ المسائل الأربعينيّة :

رسالة في علم الكلام ، ذكر فيها أربعين مسألة على ترتيب المعارف الخمسة.

١٤ ـ المسائل في الفقه :

مسائل مرتّبة على ترتيب أبواب الفقه ، وهي من ضمن ما جمعه ابن طيّ من فتاوى جماعة من العلماء في كتابه المعروف بـ «مسائل ابن طيّ».

١٥ ـ تفسير الباقيات الصالحات :

شرح مختصر للتسبيحات الأربع.

قال في آخره : فهذه الكلمات تشتمل على الاُصول الخمسة : التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد ، فمن حصّلها حصّل الإيمان وهي الباقيات الصالحات.

أورده الشيخ الكفعمي بتمامه في حاشية الفصل الثامن والعشرين من مصباحه الكبير الموسوم بـ : «جنّة الأمان الواقية».

١٦ ـ الوصيّة :

وصيّته لبعض إخوانه.


١٧ ـ الوصيّة بأربع وعشرين خصلة :

رسالة مختصرة ووصيّة حسنة للإخوان.

١٨ ـ أحكام الأموات من الوصيّة إلى الزيارة :

مرتّب على ثلاثة فصول ، يقرب من سبعمائة بيت.

نسبه إليه صاحب الذريعة (١).

١٩ ـ الأربعون حديثاً :

كتاب صغير يشتمل على أربعين حديثاً في العبادات العامّة البلوى ، أورد أكثرها بلا شرح أو توضيح ، واقتصر على ذكر السند تفصيلاً إلى المعصوم (عليه السلام).

قال الشهيد : والداعي إلى تأليفه ما اشتهر في النقل الصحيح عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «من حفظ على اُمّتي أربعين حديثاً ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً» فرأيت أنّ أكثر الأشياء نفعاً وأهمّها العبادات الشرعية ; لعموم البلوى إليها ، وشدّة الحثّ عليها ، فخرّجت أكثرها فيها وباقيها في مسائل غيرها.

٢٠ ـ المقالة التكليفية :

رسالة في الكلام والعقائد :

قال الشهيد في مقدّمتها : ... فهذه «المقالة التكليفية» مرتّبة على

__________________

١. الذريعة ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.


خمسة فصول : الفصل الأوّل في ماهيته وتوابعها ، الفصل الثاني فى متعلّقه ، الفصل الثالث في غايته ، الفصل الرابع في الترغيب ، الفصل الخامس في الترهيب ...

والقول بأ نّها في الأخلاق أو رسالة حديثية ـ لذكره في الفصل الرابع والخامس روايات في الترغيب والترهيب ـ غير صحيح.

٢١ ـ شرح قصيدة الشهفيني :

الشهفيني هو أبوالحسن علي بن الحسين. وقد قيل : إنّه عاملي ، وقيل : إنّه حلّي.

وعلى أيّة حال ، فقصيدته كانت في مدح أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وهي من جملة ديوانه الكبير.

قال المحقّق التستري : ... لمّا اطّلع الناظم ـ أي الشهفيني ـ على هذا الشرح ورأى اعتناء الشهيد بقصيدته ، اُعجب بالشرح ومَدَحَ الشهيد بعشرة أبيات شكره فيها على ذلك (١).

٢٢ ـ العقيدة الكافية :

رسالة صغيرة جدّاً في الاعتقادات.

٢٣ ـ المجموعة :

قال المحدّث النوري : ... وهي ثلاثة مجلّدات ، كالبساتين النضرة والحدائق الخضرة ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، مشتملة

__________________

١. مجالس المؤمنين ٢ : ٥٧١ ـ ٥٧٢.


على رسائل مستقلّة في الأحاديث والعلوم الأدبية والأشعار والأخبار المستخرجة من الأُصول والحكايات والنوادر وغيرها ، خالية عن الهزليات التي توجد في أمثالها ، نعم يوجد فيها بعض اللطائف والطرائف (١).

٢٤ ـ خلاصة الاعتبار في الحجّ والاعتمار :

رسالة حسنة مختصرة في مناسك الحجّ.

قال الشهيد : ... فهذه الرسالة في فرض الحجّ والعمرة ، مجرّدة عن دليل ، مبنيّة على مقدّمة ومقالتين وتكميل.

أوردها العلاّمة السيّد الأمين في كتابه «معادن الجواهر» (٢).

نقول : لا تخلو طبعتها ضمن هذا الكتاب من الكثير من الأخطاء والتصحيفات. بالإضافة إلى ما سقط من أوّلها وآخرها.

٢٥ ـ حاشية القواعد :

قال أحد تلامذة الشهيد الثاني في تعداد مصنّفاته : حاشية على قواعد الأحكام للعلاّمة ... مشى فيه مشي الحاشية المشهورة بـ «النجّارية» للمولى السعيد الشيخ الشهيد ، وغالب المباحث فيها بينه وبينه (٣).

__________________

١. خاتمة المستدرك ٣ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

٢. معادن الجواهر ١ : ٢٩٦ ـ ٣٠٣.

٣. الدرّالمنثور لعليّ بن محمّد الجبعي العاملي ٢ : ١٨٦.


قال صاحب الرياض في عدّ مصنّفات الشهيد : وله أيضاً حواشي القواعد إلى آخر الكتاب ، سمّاها : الحواشي النجّارية (١).

ويظهر من ذلك أنّ الحواشي النجّارية هي عين حاشية الشهيد على القواعد.

٢٦ ـ حاشية الذكرى :

نسبها صاحب الذريعة إليه وقال : وحواشي المصنّف نفسه ـ أي مصنّف الذكرى ـ إلى صلاة المسافر ، كما يظهر من حاشية البويهي (٢).

ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة

وهو السِفْر المائل بين يدي القارئ اللبيب.

كتاب فقهي الاستدلالي.

خرج منه الطهارة والصلاة فقط.

وكان (قدس سره) قد عزم على إتمامه ; بدليل قوله في آخره : وليكن هذا آخر المجلّد الأوّل من كتاب ذكرى الشيعة ، ويتلوه إن شاء الله تعالى في المجلّد الثاني كتاب الزكاة.

وقوله في ص٨٠ (الحجري) ـ الفصل الرابع ، في واجبات الوضوء ،

__________________

١. تعليقة أمل الآمل : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

٢. الذريعة ٦ : ٨٧ وج١٠ : ٤٠.


في بحث النية ـ : ... إلاّ ما سنذكر في الحجّ والعتق إن شاء الله تعالى.

لكنّ استشهاده رضوان الله تعالى عليه حال دون ذلك.

وعلى أيّة حال ، فهو فقه الشهيد الاستدلالي.

وقد جاء ناظراً في الأغلب إلى كتب المحقّق والعلاّمة ، كالمعتبر والمختلف والقواعد والتحرير.

ووضعه على أساس أقوى الأدلّة ـ في رأيه ـ من الكتاب والروايات ومن الإجماعات ، ومن هنا فقد كانت إجماعاته واستدلالاته موضع اهتمام الفقهاء من بعده ، ومع ذلك فقد حاول التعرّض للفروع الفقهية وأدلّتها بأقلّ ما يمكنه من الألفاظ.

كما ويمتاز باُسلوبه الجميل وترتيبه البديع ، وقد أشار إلى ذلك في مقدّمته فقال :

... أمّا بعد فهذا كتاب ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة أوردت فيه ما صدر عن سيّد المرسلين بواسطة خلفائه المعصومين ، ممّا دلّ عليه الكتاب المبين وإجماع المطهّرين والحديث المشهور والدليل المأثور ، تجديداً لمعاهد العلوم وتأكيداً لمعاقد الرسوم وتأييداً للمسائل الفقهية وتخليداً للوسائل الشرعية ، تقرّباً إلى الله بارئ البرية ... وتنتظمه مقدّمة وأقطاب أربعة ، أمّا المقدّمة ففيها إشارات سبع : الاُولى : الفقه لغةً : الفهم .. الإشارة الثانية : يجب التفقّه ... الإشارة الثالثة : يعتبر في الفقيه اُمور ثلاثة عشر ... الإشارة السابعة : يجب التمسك بمذهب الإمامية لوجوه تسعة :


الأوّل : قد تقرّر في الكلام عصمة الإمام ، والمعصوم أولى بالاتّباع. الثاني : قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وغير المعصوم لا يعلم صدقه ... الثالث : قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ...

وأمّا الأقطاب فأربعة : أوّلها العبادات ... وثانيها العقود ... وثالثها الإيقاعات ... ورابعها السياسات (الأحكام) ... القطب الأوّل في العبادات. كتاب الصلاة ... وشروط ستّة في ستّة أبواب. الباب الأوّل : الطهارة ... فهاهنا فصول أربعة ، الفصل الأوّل ...

هذا ، وتعدّ المباحث الاُصولية القيّمة التي ذكرها في المقدّمة من مميّزات هذا الكتاب وإحدى خصائصه النفيسة.

وقد أشار الشهيد إلى كتابه «الذكرى» في عدّة من كتبه ، كاللمعة والدروس وأجوبة مسائل الفاضل المقداد ، بعبارات مختلفة ، مثل : حقّقناه في الذكرى ، بيّناه في الذكرى ، بيّنا مأخذه في الذكرى ، فكتبنا في ذلك ما تيسّر في الذكرى ، بسطت المسألة في الذكرى ، وقد ذكرنا الروايات الدالّة على القضاء عن الميت لما فاته من الصلوات وأحكام ذلك في الذكرى .. إلى غير ذلك من الألفاظ والعبارات.

قال في الذريعة : وفرغ منه في ٢١ صفر ٧٨٤ (١).

فما في مقدّمة الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية من أنّه فرغ

__________________

١. الذريعة ١٠ : ٤٠.


منه بسنة ٧٨٦ ـ أي في سنة استشهاده ، فيكون آخر مؤلّفاته ـ في غير محلّه ، ولاسيّما وقد جاء التصريح في مقدّمة الدروس بأ نّه ألّفه ـ أي الدروس ـ بعد الذكرى والبيان.

وهناك أيضاً مصنّفات وآثار يشكّ في نسبتها إليه أو أنّها له ولكن بعناوين اُخر ، نذكرها ـ لضيق المجال ـ على عجالة :

١ ـ الخلل في الصلاة.

٢ ـ أحكام الصلاة.

٣ ـ قصر صلاة المسافر.

٤ ـ الاستدراك.

٥ ـ الدرّة الباهرة من الأصداف الطاهرة.

٦ ـ منظومة في مقدار نزح ما يقع في البئر.

٧ ـ اللوامع.

٨ ـ شرح مبادئ الاُصول.

٩ ـ غاية القصد في معرفة الفصد.

١٠ ـ تقريب المبادئ.

١١ ـ خلاصة الإيجاز.

١٢ ـ المعتبر.

١٣ ـ النيّة.


١٤ ـ مجموعة الإجازات.

١٥ ـ المنسك الكبير.

١٦ ـ مسائل تزاحم الحقوق.

١٧ ـ حاشية الشرائع.

١٨ ـ التهذيب في الاُصول.

١٩ ـ أربع مسائل فقهية.

٢٠ ـ أجوبة مسائل محمّد بن مجاهد.

أمّا إجازاته لتلامذته ، فهي كثيرة ، إلاّ أنّ الموقوف على نصّه منها خمس إجازات :

١ ـ الإجازة لابن الخازن.

٢ ـ الإجازة لابن نجدة.

٣ ـ الإجازة لجماعة من العلماء.

٤ ـ الإجازة لولده الثلاثة.

٥ ـ الإجازة لولديه.

ولا يخفى أنّ الشهيد كان كاتباً وأديباً وشاعراً ، فشعره مع قلّته يمتاز بجمال التعبير ودقّة التصوير والرقّة وجودة الأداء ، وقد عدّ البعض من جملة مؤلّفاته : ديوان صغير يشتمل على نحو عشرين مقطوعة وقصيدة (١).

__________________

١. محمّد رضا شمس الدين في «حياة الإمام الشهيد الأوّل» : ٦٥.


توّج حياته الشريفة وسيرته العظيمة بأفضل الموت وأحسنه ، شهادة دوّنها التاريخ بأحرف من نور ، فنال من المنزلة ما يغبطه عليها الصدّيقون والمؤمنون.

قال الحرّ العاملي في أمل الآمل :

وكانت وفاته سنة ٧٨٦ ، اليوم التاسع من جمادى الاُولى ، قتل بالسيف ، ثم صلب ، ثم رجم ، ثم اُحرق ، بدمشق ، في دولة بيدر وسلطنة برقوق ، بفتوى القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي ، بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام ... وكان سبب حبسه وقتله أنّه وشى به رجل من أعدائه وكتب محضراً يشتمل على مقالات شنيعة عند العامّة من مقالات الشيعة وغيرهم ، وشهد بذلك جماعة كثيرة وكتبوا عليه شهاداتهم ، وثبت ذلك عند قاضي صيدا ، ثم أتوا به إلى قاضي الشام ، فحُبس سنة ، ثم أفتى الشافعي بتوبته والمالكي بقتله ، فتوقّف عن التوبة خوفاً من أن يثبت عليه الذنب ، وأنكر ما نسبوه إليه للتقية ، فقالوا : قد ثبت ذلك عليك وحكم القاضي لا ينقض والإنكار لا يفيد ، فغلب رأي المالكي لكثرة المتعصّبين عليه ، فقتل ، ثم صلب ورجم ، ثم اُحرق قدّس الله روحه. سمعنا ذلك من بعض المشايخ ورأينا بخطّ بعضهم ، وذكر أنّه وجده بخطّ المقداد تلميذ الشهيد (١).

__________________

١. أمل الآمل : ١٨٢ ـ ١٨٣.


وهناك تفصيلات اُخرى لقضية استشهاده (قدس سره) ، تعرّض لها الكثير من أصحاب التراجم وغيرهم.

كانت هذه لمحة خاطفة عن أحوال الشهيد ونشأته ورحلاته ومكانته وسيرته ومصنّفاته وخصائصه وما قيل فيه ، لو تأمّلنا فيها قصيراً لأدركنا الداعي لأن يكون (قدس سره) صاحب مرحلة كاملة من مراحل تطوّر الفقه الشيعي.


من مقدّمة تحقيق كتاب نقد الرجال (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الحكم العدل ، العليّ الكبير ، اللطيف الخبير ، والصلاة على السراج المنير ، البشير النذير ، محمّد الأمين ، وآله الدررالميامين.

لا ريب أنّ الاشتغال بالعلم الديني هو خير الأعمال وأفضلها ، وأخصّه فضيلةً وأعظمه بركةً هو تمييز ومعرفة الصحيح الوارد عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).

والمتتبّع الخبير والمدقّق الفهيم تراه محيطاً بالخصوصيات والسمات التي تلازم الأدلّة الاجتهادية الأربعة :

فالكتاب الكريم ، غير متكفّل ببيان جميع الأحكام ، بل لا يتكفّل بخصوصيات ما تكفّل ببيانه من العبارات.

والعقل ، فموارد إدراكه للأحكام الشرعية قليلة ، تنحصر في إدراك

__________________

١. للعلاّمة التفرشي ، تحقيق وطبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، صدر في خمسة مجلّدات.


الملازمة بين حكم شرعي وحكم آخر.

أمّا الإجماع ، فالكاشف منه عن قول المعصوم شاذّ نادر ، وغير الكاشف لا يمكن له أن يكون حجّة ; حيث إنّه لا يخرج عن إطار الظنّ غير المعتبر.

فتحقّق أنّ استنباط الحكم الشرعي يتمّ غالباً عبر الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، إلاّ أنّ إثباته من خلالها يتوقّف على أمرين :

١ ـ إثبات حجّية الخبر.

٢ ـ إثبات حجّية ظواهر الروايات.

ولا نسلّم الكلّية القائلة بحجّية كلّ خبر عن المعصوم ، بل إنّ دائرة الحجّية تتضيّق هنا لتختصّ بالخبر الثقة أو الحسن. وإثبات كونه ثقةً أو حسناً يتحصّل بمراجعة علم الرجال ومعرفة أحوالهم ، فهو نصف العلم كما قيل.

ثم إنّ الذي يضاعف الحاجة إلى هكذا علم هو عدم قطعية صدور روايات الكتب الأربعة ، التي أدّعى جماعة من المحدّثين قطعيتها ، الأمر الذي كان أحد المحاور المهمّة التي أجّجت شعلة الخلاف المرير بين الأخباريين والاُصوليين ، ولاسيّما زمن الشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة ـ أحد كبار الأخباريين آنذاك ـ ورائد مدرسة الاجتهاد الوحيد البهبهاني ـ قدّس سرّهما ـ فانبرى الأخير ليثبت بالدليل القاطع سقوط دعاوى الأخباريين الواحدة تلو الاُخرى ـ التي منها دعوى


قطعية صدور روايات الكتب الأربعة ـ فاستطاع بذلك دحرهم وتحجيم دائرتهم.

وبذلك اتّضح أيضاً بطلان الرأي القائل بعدم الحاجة إلى علم الرجال بذريعة حجّية كلّ رواية عمل بها المشهور ، وعدم حجّية ما لم يعمل به المشهور ، سواء وُثّقوا رواتها أم ضُعّفوا.

فلو سلّمنا الكلّية المذكورة ، تبقى الحاجة إلى هذا العلم على حالها ، فكثيرٌ من المسائل لا منفذ لنا إلى معرفة فتاوى المشهور فيها ، لعدم إيرادهم لها في عباراتهم ، واُخرى لا شهرة فيها على أحد الطرفين ، فيتساويان ، أو أشهرية أحدهما دون الآخر ، وليس كلّ مسألة فقهية يكون فيها أحد القولين أو الأقوال مشهوراً وما يقابله يكون شاذّاً.

ولقد تجلّت أهمّيّة علم الرجال منذ العصر الأوّل ، حيث عبيدالله بن أبي رافع كاتب أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان قد دوّن أسماء الصحابة الذين بايعوه (عليه السلام) وشاركوه حروبه في الجمل وصفّين والنهروان.

ثم في القرن الثاني كتب في الرجال : ابن جبلّة وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم.

وهكذا إلى أن تمّ تدوين الاُصول الرجالية الخمسة الشهيرة : الاختيار من كتاب الكشّي والفهرست وكتاب الرجال لشيخ الطائفة الطوسي ، وكتاب الرجال للنجاشي وكتاب الرجال للبرقي. (١)

__________________

١. وإن كان البعض قد عدّها ستّة ، وذلك بإضافة رجال العقيقي.


واستمرّ العطاء المبارك يزداد نموّاً وازدهاراً عصراً بعد عصر ، إدراكاً من علمائنا لمدى أهمّيّة هذا العلم وما يترتّب عليه من الآثار الحسّاسة والمصيرية على مختلف الأصعدة والمجالات.

إلاّ أنّ نوعاً من الإهمال قد أصاب علم الرجال في العصور المتأخّرة ، وبقول أحد جهابذة أعلامنا : حتى كأ نّه لا يتوقّف عليه الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية.

فكان اللازم معالجة هذا التراجع الخطير بالخوض في هذا العلم تصنيفاً وبحثاً وتحقيقاً.

هذا ، ويعدّ كتابنا «نقد الرجال» للعلاّمة المحقّق السيّد ميرمصطفى الحسيني التفرشي من أبرز الكتب الرجالية التي صنّفت في القرن الحادي عشر الهجري ، ساعين إلى تسليط الضوء خاطفاً على سيرة وترجمة مؤلّفه ، ثم بيان ما يتعلّق من مميّزات ومختصّات أفردته عمّا سواه من المصنّفات الرجالية.


من مقدّمة تحقيق كتاب منتخب الأمثال (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المَثَل الأعلى والانموذج الأسمى الخاتم المصطفى محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) وعلى آله أسياد الورى وأنوار الهدى (عليهم السلام).

المَثَلُ ، بغضّ النظر عن :

معناه اللغوي وهل كونه الشبه ، النظير ، الحديث (الشعار) ، المثال ، التمثيل ، الصفة ، الخبر ، المقدار ، الانتصاب ، الحذو ...

و ـ عن معناه الاصطلاحي ، وأنّ العرب عرّفوا ثلاثة أنواع من الأمثال هي : المثل السائر ، المثل القياسي ، المثل الخرافي.

و ـ عن أقسامه الثلاثة : الفصيح ، المولَّد ، العامّي.

__________________

١. للملاّ حبيب الله الشريف الكاشاني ، تحقيق وطبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، صدر منه ثلاثة مجلّدات.


و ـ عن مدى تلاقيه وافتراقه عن الحكمة والعبارة التقليديّة والنادرة.

و ـ عن الوقوف على تاريخ نشأته من عدمه.

و ـ عن الإسلامي منه وأقسامه الثلاثة : أ ـ ما كان القرآن الكريم السبب في استحداثه. ب ـ ما كانت السنّة الشريفة أصلاً له. ج ـ ما قاله الصحابة والتابعون.

و ـ عن الناجم منه عن حادثة ، المرويّ في قصّة ، الناجم عن القرآن الكريم ، الناجم عن التشبيه ، الذي في أصل وصفه كنايات وعبارات اصطلاحيّة تقال في مناسبات معيّنة ، الناجم عن شعر.

و ـ عن مميّزات أساليبه ، كالبلاغة والإيجاز وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية والاستعارة والسجع والمبالغة والطباق والموسيقى وتنوّع الصيغة اللغويّة وعدم تغيّره ـ أي المثل ـ مهما اختلفت الأحوال التي يُضرَب فيها وتعدّد روايات المثل الواحد.

بغضّ النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ المَثَل هو النتاج الأدبي الألسني العلمي الثقافي المعرفي الذي تتناغم معه الاُذن الإنسانيّة أيّ تناغم ، وتتناقله الألباب والجوارح برهنةً وتأثيراً أيّ تناقل ، وتتفاعل معه حياة البشريّة بمختلف مجالاتها وطبقاتها وألوانها واُصولها ومذاهبها وأعراقها أيّ تفاعل.

إنّ المَثَل مؤشّر شاخص على حيوية الاُمم ومَعْلَم من معالم تراثها


وتاريخها وحضورها ، ولاسيّما أنّه قد شاطر مشاطرةً ملموسةً في أنسنة الفكر وأمدّ يد العون والدعم إلى أواصر الارتباط بين الشعوب والحضارات المتفاوتة.

وما يزيد من مكانة المَثَل وأهمّيّته أنّه فيضٌ لغوي ـ شعوريّاً كان أم لا ـ رشح إثر الحاجة التي مارست ضغطاً كبيراً ألزمت العقل المسؤول ـ بسبب الإدراك الوظيفي الناشئ من حسّ الافتقار إلى ما يردم الهوّة ويعالج المعاناة ـ بضرورة نتاج يلبّي تلك الحاجة ، فهو حينئذ نتاج معرفي ، حيث المعرفة قائمة على : اللغة والتاريخ والفكر ، ولا شكّ أنّ المَثَل عنصرٌ من عناصر التاريخ وأداة من أدواته ومادّة من موادّه.

من هنا أخذ المَثَل منزلته في عالم التدوين والتأليف والتصنيف ، فكُتبت الكتب والموسوعات المختصّة في ميدان جمع الأمثال وشرحها وبيان المراد منها وتبويبها وفهرستها ، والحاصل هو العديد من كتب الأمثال المرموقة الشهيرة التي غدت مصادر ومراجع يعوّل عليها ويستند إليها في مضمار الشاهد والحجّة والاستدلال.

ويعدّ مشروع الفقيه الاُصولي الأديب ، صاحب المصنّفات الرفيعة والآثار الجليلة ، ملاّ حبيب الله الشريف الكاشاني ، القائم على جمع وفهرسة وتبويب وشرح الأمثال في موسوعته المسمّاة «منتخب الأمثال» غرّةً ناصعةً في جبين المعارف الإنسانيّة والعلوم البشريّة ، وجهداً لا غرو أنّه سيثري ـ بتحقيقه وتصحيحه ونشره بحلّة أنيقة جميلة ـ المعاقل


الفكريّة والمكتبات الثقافيّة بما هي بحاجة إلى هذا اللون من العلوم والآداب.

مبتهلين إليه تبارك وتعالى قبول هذا القليل بوافر لطفه وبالغ تأييده.


من مقدّمة تحقيق كتاب نهاية الوصول

إلى علم الاُصول (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى وآله أئمّة الدين والهدى.

إنّ محاولة استكشاف وضبط مآل اللبنة الاُولى لكيان ما لا ريب أنّها إغارةٌ استقرائية ، فردٌ معرفي منبعثٌ من تلك الطبيعة ، طبيعة المعرفة ، ذلك الأساس الذي اختلفت فيه الرؤى باختلاف الايديولوجيات التي تعجّ بها البشرية ، فتباينت المقاصد والمطامح والسبل والآليات ، وتعارضت الخطابات والقراءات ، حتى غدا مجال نظرية المعرفة وتكوّن حياة الإنسان العقلية بكلّ ما تزخر به من قيم وأفكار ومفاهيم الشغلَ الشاغل لأرباب الفلسفة والثقافة والمعرفة ، وأضحت سلسلة التساؤلات المعرفية

__________________

١. للعلاّمة الحلّي ، تحقيق وطبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، صدر منه إلى الآن ثلاثة مجلّدات.


تنبض بحيوية الاستدلال العلمي الاستقرائي ما دامت هناك حياة تسري وأنفاس تتصاعد.

وممّا استفيد لنظرية المعرفة عندنا : إنّ الذي يجعل المعرفة متكاملة ـ وعلى درجة كبيرة من اليقين من جهة ، ويجعل كلّ عنصر من مصادر المعرفة حاضراً في جميع مجالات الفعل الإنساني ، ممّا يجعله متحرّراً من جميع التناقضات المختلفة في حياته العلمية من جهة ثانية ـ هو إبداع نظرية معرفية تتوفّر على العناصر الثلاثة التالية :

١ ـ إعطاء نظرية المعرفة وظيفتها الحقيقية والتي تكمن في إنتاج معرفة تخدم حركة التكامل الإنساني في جميع ميادين الحضارة ، وبالتالي إخراجها من المجال النظري البحت إلى حيث مجالات الفعل اليومي الإجرائي.

٢ ـ إعطاء الوحي وظيفته الطبيعية والتي تكمن في ترشيد وتأطير عملية التطوّر والتكامل الإنساني معرفةً وسياسةً وعقيدةً ومدنيةً ... وعدم الاقتصار على الطابع الديني المحدود المقرّر له من طرف أرباب الفكر الإنساني العالمي. وبذلك يصبح للوحي المقدّس دور رئيسي في تسيير حياة الإنسان وإخضاع كلّ ما هو نسبي ومتغيّر وغير مقدّس لقوانينه الفاعلة.

٣ ـ إعطاء العقل البشري وظيفته الحقيقية التي خُلق من أجلها ، وهي أن يكون الواسطة الضرورية بين المطلق والنسبي ، والمقدّس وغير


المقدّس ، بين المتعالي والتأريخي ، بين الوحي والممارسة العملية اليومية للإنسان ، وبكلمة : بين الحقيقة الربّانية المطلقة والثابتة والحقيقة الإنسانية والنسبية.

وهذا ما يقودنا إلى : أنّ تحقّق هذه الأهداف يستدعي لزاماً إبداع نظرية معرفية تتوفّر على العناصر الثلاثة في بنية مصادرها ثم نقوم بعد ذلك بعملية التركيب للخروج في النهاية بالمنتوج المعرفي متجرّداً عن كلّ عنصر من عناصر النسق ، فلا هو إلهي محض ولا عقلي محض ولا تجريبي ، وإنّما خلاصة الجميع ..

المنتوج الذي سوف يؤمّن لنا فرز وإنتاج معرفة إنسانية راقية وملزمة ، بحيث تنتفي معها وتندثر ظاهرة الجهل وذرائع عدم الوصول إلى المعرفة ، ومعها يتمّ القضاء على ظاهرة الكفر والشرك والإلحاد.

إنّ نظرية نشأة المعرفة لا ينبغي بالضرورة أن نحصل لها على مسمّىً أو عنوان خاصّ في المكتوبات عموماً وخصوص مدوّناتنا نحن المسلمين ، فقد نجدها مبثوثةً مرّة في الأبحاث الفلسفية واُخرى في الكلامية وثالثة في الاُصولية وهكذا.

ونحن إن استحضرنا في تقديمنا الموجز هذا ثلاثة تساؤلات :

١ ـ من أسّس لعلم الاُصول؟

٢ ـ هل اكتسب علم الاُصول الشيعي شخصيّته ومعالمه من علم الاُصول السنّي؟


٣ ـ إنّ مرحلة تكامل علم الاُصول الشيعي التي نحياها وتعدّ امتداداً لمدرسة الشيخ الأنصاري (قدس سره) :

هل هي حصيلة وثمرة تلك المواجهة المصيرية بين الفكر الأخباري والفكر الاُصولي ، الممتدة لقرنين من الزمان ، والتي حسمها للثاني ـ بكلّ تأ لّق وجدارة ـ الوحيد البهبهاني (قدس سره) (م ١٢٠٥هـ) ، المواجهة التي ترشّحت عنها تلك العقول الفولاذية أمثال : المحقّق القمّي (قدس سره) صاحب القوانين (م ١٢٣١ هـ) ، شريف العلماء (م ١٢٤٥ هـ) ، النراقي (م ١٢٤٥ هـ) ، الأخوين محمد حسين ومحمد تقي الاصفهانيين صاحبي الفصول وهداية المسترشدين (م١٢٦١ هـ ، ١٢٤٨ هـ) ، القزويني صاحب الضوابط (م ١٢٦٥ هـ)؟

أم هي حصيلة ذلك العطاء المعرفي والسلسلة المترابطة والعقد المتناسق ، المشادة بأنوار علم أئمّة الحقّ (عليهم السلام) ، المستمرّة بمراحلها وأدوارها ومدارسها على اختلاف عناوينها وتصنيفاتها ورتبها حتى عصرنا الحاضر؟

فليس إلاّ من حيث كونها منضوية تحت لواء فرد من أفراد تلك الطبيعة المشار إليها آنفاً ، طبيعة المعرفة ونظريتها ومبحث نشأة حياة الإنسان العقلية ، بأدنى تناغم وحمل موضوعي ممكن.

ولا نروم الإجابة عن هذه التساؤلات بالنمط الكلاسيكي المعروف ، بل نسلك بالبحث سلوك النسق الموضوعي الموحّد ، كي نحصل على


إجابة منطقية مترشحّة عن معرفة إنسانية راقية ملزمة.

* * *

يقول الفخر الرازي : اعلم أنّ نسبة الشافعي إلى علم الاُصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق ونسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض (١).

ويقول الزركشي : الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أوّل من صنّف في اُصول الفقه (٢).

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة : نشأ علم اُصول الفقه مع علم الفقه ، وإن كان علم الفقه قد دُوِّن قبله ; لأ نّه حيث يكون الفقه يكون حتماً منهاج للاستنباط ، وحيث كان المنهاج يكون حتماً لا محالة اُصول الفقه (٣).

ويعلّق الدكتور محمد الزحيلي على قول أبي زهرة قائلاً : ولكن هذه المبادىء وتلك القواعد كانت متناثرة في الكتب ، وتختلف من عالم إلى آخر ، ومن مدرسة إلى اُخرى ، ولا ينتظمها سلك ، ولا يحوطها سور ، ولا تشكّل علماً مستقلاًّ ، إلى أن جاء الإمام الشافعي فجمع شتاتها ودوّن قواعدها ، وصنّف أوّل كتاب في علم اُصول الفقه ، وهو الرسالة.

ثم يضيف : فأصّل الاُصول ـ أي الشافعي ـ وقعّد القواعد ; ليعصم أهل الاجتهاد والخلاف والمناظرة من الخطأ والانحراف في الاستنباط ،

__________________

١. مناقب الشافعي : ٥٦٠.

٢. البحر المحيط في اُصول الفقه ١ : ١٠.

٣. اُصول الفقه (أبو زهرة) : ١٠.


ويضع بين أيديهم الموازين لبيان الخطأ والصواب ، فكان بحقّ أوّل من وضع علم الاُصول (١).

لكنّ السيّد حسن الصدر (قدس سره) يرتئي خلاف ذلك تماماً حين يقول :

فاعلم أنّ أوّل من أسّس اُصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام أبو جعفر الباقر ثم بعده ابنه الإمام أبو عبدالله الصادق (عليهما السلام) ، وقد أمليا على أصحابهما قواعده ، وجمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخّرون على ترتيب المصنّفين فيه بروايات مسندة إليهما ، متّصلة الاسناد ، وكتب مسائل الفقه المروية عنهما موجودة بأيدينا إلى هذا الوقت بحمد الله :

منها : كتاب اُصول آل الرسول ، مرتّب على ترتيب مباحث اُصول الفقه الدائر بين المتأخّرين ، جمعه السيد الشريف الموسوي هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني رضي الله عنه نحو عشرون ألف بيت كتابةً.

ومنها : الاُصول الأصلية ، للسيد عبدالله العلاّمة المحدّث الشبّري عبدالله بن محمد الرضا الحسيني الغروي ، وهذا الكتاب من أحسن ما روي فيه اُصول الفقه ، يبلغ خمسة عشر ألف بيت.

ومنها : الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة ، للشيخ المحدّث محمد بن الحسن بن علي الحرّ المشغري صاحب كتاب وسائل الشيعة.

وحينئذ فقول جلال السيوطي في كتاب الأوائل [ص ١١٧] : أوّل

__________________

١. علم اُصول الفقه : ٢٩ ، ٣٣.


من صنّف في اُصول الفقه الشافعي بالإجماع ، في غير محلّه ، إن أراد التأسيس والابتكار ، وإن أراد المعنى المتعارف من التصنيف فقد تقدّم على الإمام الشافعي في التأليف فيه هشام بن الحكم المتكلّم المعروف من أصحاب أبي عبدالله الصادق (عليه السلام).

ويضيف السيد حسن الصدر (قدس سره) : فاعلم أنّ أوّل من صنّف فيه ـ علم اُصول الفقه ـ هشام بن الحكم ، شيخ المتكلّمين في الاُصوليين الإمامية ، صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها ، وهو أهمّ مباحث هذا العلم.

ثم يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله ، وهو مبحث تعارض الحديثين ، ومسائل التعادل والتراجيح في الحديثين المتعارضين ، رواه عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) ، ذكرهما أبو العبّاس النجاشي في كتاب الرجال ، والإمام الشافعي متأخّر عنهما.

ويشير (قدس سره) إلى مشاهير أئمّة علم اُصول الفقه : كـ : أبي سهل النوبختي ، الحسن بن موسى النوبختي ، ابن الجنيد ، أبي منصور الصرّام النيشابوري ، ابن داود ، الشيخ المفيد ، السيد المرتضى ، الشيخ أبي جعفر الطوسي ، الشيخ سديد الدين الحمصي الرازي ، العلاّمة الحلّي ، المحقّق الحلّي (١).

إلاّ أنّ الدكتور شعبان محمد اسماعيل لا يوافق السيد حسن الصدر رأيه ، فيقول :

__________________

١. تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٠ ـ ٣١٤.


ادّعت الشيعة الإمامية : أنّ أوّل من دوّن علم الاُصول هو الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين المتوفّى سنة ١١٤ هـ وجاء بعده ابنه الإمام أبو عبدالله جعفر الصادق المتوفّى ١٤٨ هـ .. قال آية الله السيد حسن الصدر : اعلم أنّ أوّل من أسّس اُصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام محمد الباقر ، ثم من بعده الإمام أبو جعفر ، وقد أمليا على أصحابهما قواعده ، وجمعوا في ذلك مسائل رتّبها المتأخّرون على ترتيب المصنّفين فيه بروايات مسندة إليهما متصلة الاسناد. [الشيعة وفنون الإسلام ص٥٦ ، عقيدة أهل الشيعة في الإمام الصادق ص ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ، الشافعي (للشيخ أبي زهرة) ص ١٧٩].

كما روي أنّ أوّل من كتب فيه الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم. [الفهرست لابن النديم ص ٢٨٦ في ترجمة الإمامين المذكورين].

وهذا لا يعارض ما قلناه من أنّ الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ هو أوّل من دوّن علم الاُصول ، ففرّق بين الكتابة المتناثرة والقواعد التي ترد في مسألة فقهية عارضة ، وبين علم متكامل ومصنّف مستقل ، فالقواعد التي يشير إليها السيد حسن الصدر في العبارة المتقدّمة إنّما هي من قبيل مناهج الاستنباط وطرق الاستدلال كما قلنا سابقاً ، وهذه كانت موجودة حتى في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

قال الإسنوي : وكان إمامنا الشافعي ـ رضي الله عنه ـ هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع ، وأوّل من صنّف فيه بالإجماع ، وتصنيفه المذكور فيه


موجود بحمد الله تعالى ، وهو الكتاب الجليل المشهور ، المسموع عليه ، المتّصل إسناده الصحيح إلى زماننا ، المعروف بالرسالة الذي أرسل الإمام عبدالرحمن بن مهدي من خراسان إلى الشافعي فصنّفه له ، وتنافس في تحصيله علماء عصره.

على أنّه قد قيل : إنّ بعض من تقدّم على الشافعي نُقل عنه إلمام ببعض مسائل في أثناء كلامه على بعض الفروع ، وجواب عن سؤال السائل لا يسمن ولا يغني من جوع ، وهل تعارض مقالة قيلت في بعض المسائل تصنيف كتاب موجود مسموع مستوعب لأبواب العلم. [التمهيد ص٣ ، ٤].

ويُبرِز الدكتور شعبان محمد اسماعيل تصوّره في نهاية المطاف بهذا الشكل :

فظهر بذلك عدم صحّة ما نقل من أنّ هناك من سبق الإمام الشافعي في تدوين علم الاُصول ، وثبت أنّ الواضع الأوّل لهذا العلم هو الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في كتابه الرسالة (١).

نقول :

إنّ الرقيّ كما نفهمه : سموّ النفس الإنسانية حين تروم الكمال بمعرفة جادّة مقيّدة مصفّاة من شوائب الجهل وذرائع الحجب والانحراف بشتّى أطيافها.

__________________

١. اُصول الفقه تاريخه ورجاله : ٢٢ ـ ٣٣.


ولا نبغي ولوج حيّز التبرير بأقسامه المنطقية والفلسفية والعلمية والعملية ولا حتى عالم اليقين بأقسامه : الرياضي والمنطقي والذاتي والموضوعي ، ولا مباحث النزعة الترجيحية باتجاهيها السيكولوجي والفسيولوجي ، ومسائل الانتخاب الإنساني ومشكلة تضادّ المصالح ، وغيرها ; لأنّ ذلك يقودنا إلى بحوث موسّعة معمّقة تخرجنا عن دائرة المقصود ، بل مجرّد الإشارة إليها والتذكير بها وبضرورة أن تكون المعرفة الإنسانية إنسانيةً خالصةً له تبارك وتعالى ، تجعل أمثال السيوطي وأبي زهرة والإسنوي وشعبان والزحيلي وغيرهم قبال تساؤل كبير : أهذه هي المعرفة الإنسانية الملتزمة السائرة نحو الكمال المنشود؟!

أمَا كان ينبغي لشعبان وغيره أن يكمل مقالة السيد حسن الصدر ـ الآنفة الذكر ـ بصحائفها الثلاث ولو بإيجاز؟! انبعاثاً من مفهوم المعرفة الملتزمة؟!

ثم إنّ ادّعاءه : كون الشافعي قد فرّق بين الكتابة المتناثرة والقواعد التي ترد في مسألة فقهية عارضة ، وبين علم متكامل ومصنّف مستقل ..

مرفوضٌ أوّلاً : بأنّ هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن قد سبقا الشافعي تخصّصاً ; إذ صنّفا في علم الاُصول بلا أدنى ريب وشبهة ، ولم تعدّ مؤلّفاتهما من الكتابات المتناثرة ولا من القواعد التي ترد في مسألة فقهية عارضة.

ثانياً : إنّ نعت رسالة الشافعي بالعلم المتكامل والمصنّف المستقلّ ، يفتقد الدقّة والموضوعية ..


يقول أحمد محمد شاكر في مقدّمة تحقيقه لرسالة الشافعي :

وكتاب الرسالة ألّفه الشافعي مرّتين. ولذلك يعدّه العلماء في فهرس مؤلّفاته كتابين : الرسالة القديمة والرسالة الجديدة. أمّا الرسالة القديمة فالراجح عندي أنّه ألّفها في مكّة ; إذ كتب إليه عبد الرحمن بن مهدي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن ، ويجمع قبول الأخبار فيه ، وحجّة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنّة. فوضع له كتاب الرسالة.

وقال علي بن المديني : قلت لمحمد بن إدريس الشافعي : أجبْ عبدالرحمن بن مهدي عن كتابه ، فقد كتب إليك يسألك ، وهو متشوّق إلى جوابك. قال : فأجابه الشافعي ، وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه في العراق ، وإنّما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي.

وبعد أن يذكر الاختلاف في محلّ تصنيف الرسالة القديمة ، مكّة أم بغداد ، وأنّ الجديدة ألّفها بمصر ، يقول أحمد محمد شاكر : وأيّاً ما كان فقد ذهبت الرسالة القديمة ، وليس في أيدي الناس الآن إلاّ الرسالة الجديدة ، وهي هذا الكتاب.

ثم يقول : والراجح أنّه ـ الشافعي ـ أمْلَى كتاب الرسالة على الربيع إملاءً كما يدلّ على ذلك قوله في (٣٣٧) : فخفَّف فقال : (عَلِمَ أن سَيَكُون مِنْكُمْ مَرْضى) قَرَأ إلى : (فَاقْرَءوا ما تَيَسَّرَ مِنْه) (١). فالذي يقول «قرأ» هو

__________________

١. المزّمّل ٧٣ : ٢٠.


الربيع ، يسمع الإملاء ويكتب ، فإذا بلغ إلى آية من القرآن كتب بعضها ثم يقول «الآية» أو «إلى كذا» فيذكر ما سمع الانتهاء إليه منها ، ولكن هنا صرّح بأنّ الشافعي قرأ إلى قوله : (فَاقْرءوا ما تَيَسَّرَ مِنْه).

إلاّ أنّ شاكر مع كلّ ذلك يقول : وهذا كتاب الرسالة أوّل كتاب أُ لِّف في اُصول الفقه ، بل هو أوّل كتاب أُ لِّف في اُصول الحديث.

ثم يقول في «نُسَخ الكتاب» : لم أر نسخة مخطوطة من كتاب الرسالة إلاّ أصل الربيع ونسخة ابن جماعة. ولكنّا نجد في السماعات ـ التي سيراها القارئ ـ أنّ أكثر الشيوخ وكثيراً من السامعين كانت لهم نسخٌ يصحّحونها على أصل الربيع ، وأنّ نسخة ابن جماعة قوبلت على اُصول مخطوطة عديدة ، فأين ذهبت كلّ هذه الاُصول؟! لا أدري.

وفي «أصل الربيع» يؤكّد أحمد محمد شاكر : من أوّل يوم قرأتُ في أصل الربيع من كتاب الرسالة أيقنتُ أنّه مكتوبٌ كلّه بخطّ الربيع ، وكلّما درسته ومارسته أزددت بذلك يقيناً ، فتوقيع الربيع في آخر الكتاب بخطّه بإجازة نسخه ... نفهم منه أنّه كان ضنيناً بهذا الأصل ، لم يأذن لأحد في نسخة من قبلُ.

حتى أذِنَ في سنة ٢٦٥ بعد أن جاوز التسعين من عمره ، وعبارةُ الإجازة تدلّ على ذلك ; لمخالفتها المعهود في الإجازات ، إذ يجيز العلماء لتلاميذهم الرواية عنهم ، أمّا إجازة نسخ الكتاب فشيءٌ نادرٌ لا يكون إلاّ لمعنى خاصّ ، وعن أصل حجّة لا تصل إليه كلّ يد.


ثم يقول : وأنا اُرجّح ترجيحاً قريباً من اليقين أنّ الربيع كتب هذه النسخة من إملاء الشافعي ; لِما بيّنتُ في ما مضى ، ولأ نّه لم يذكر الترحّم على الشافعي في أيّ موضع جاء اسمه فيه ، ولو كان كتبها بعد موته لدعا له بالرحمة ولو مرّةً واحدةً كعادة العلماء وغيرهم.

ثم ما يثلج الصدرَ ويملؤه يقيناً أن نجد شهادةً بخطّ أحد العلماء الحفّاظ الأثبات القدماء ، يسجّل فيها أنّ هذه النسخة بخطّ الربيع ، فنرى هبة الله بن أحمد بن محمد الأكفاني (المتوفّى في ٦ محرّم سنة ٥٢٤ عن ٨٠ سنة) يكتب بخطّه ثلاثة عناوين للأجزاء الثلاثة ، يسوق فيها إسناده إلى الربيع ، ثم يكتب فوق عنوان الأوّل منها ما نصّه : الجزء الأوّل من الرسالة لأبي عبدالله الشافعي بخطّ الربيع صاحبه. ويكتب فوق عنوان الثالث ما نصّه : الجزء الثالث من الرسالة بخطّ الربيع صاحب الشافعي. وأمّا عنوان الجزء الثاني ففوقه : الثاني من الرسالة. يظهر أنّ باقي الكلام ممحوّ بعارض من عاديات الزمان (١).

نقول :

انظر الصفحة الاُولى من رسالة الشافعي ، حيث فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

... الربيع بن سليمان قال :

__________________

١. اُنظر في ذلك كلّه : الرسالة (للشافعي) ص ١٠ ـ ٢٢ (المقدّمة) بقلم محقّقها أحمد محمد شاكر.


بسم الله الرحمن الرحيم

أخبرنا أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلّب بن عبد مناف المطّلبي ، ابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... (١).

فقد اتّضح جليّاً أنّ «الكتاب» ـ كما قيل في تسميته ـ أو «الرسالة» ليس من تدوين وتصنيف الشافعي نفسه بل من إملاءاته. وما أعظم وأعمق وأشمل ما أملاه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أصحابهم وحواريهم في علم اُصول الفقه وغيره ، أفذلك يسمّى تصنيفاً وهذا لا يسمى؟! أوَ باؤك تجرّ وبائي لا تجرّ؟!

ثالثاً : إنّ القراءة الدقيقة في فهرس أبواب الكتاب تدحض رأي كلّ من ادّعى استقلاليته وتكامليته.

فهل من الممكن حصر مسائل علم الاُصول بالكتاب والسنّة والناسخ والمنسوخ والعلم وخبر الواحد والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان والاختلاف؟! هذا هو حال رسالة الشافعي.

ثم إنّ مباحث الصلاة والفرائض المنصوصة والزكاة والحجّ والعِدَد ومحرّمات النساء ومحرّمات الطعام وغسل الجمعة ، الواردة في رسالة الشافعي محلّها مصنّفات الفقه عادةً وليس مصنّفات الاُصول.

__________________

١. الرسالة (للشافعي) : ٧.


فأين هي ياترى تلك التكاملية والاستقلالية المزعومة المنعوتة بها رسالة الشافعي؟!

بل إنّ الشيخ أبو زهرة نفسه قد اعترف بذلك في مقدّمة كتابه «محاضرات في اُصول الفقه الجعفري» إذ يصرّح : ولا نقول أنّ الشافعي قد أتى بالعلم كاملاً ، بل أضاف لما جاء به الآخرون وحقّق فيه على قدر ما يمتلكه من استعداد كبير ...

وبهذا الصدد يقول الدكتور محمد فتحي الدريني : من الخطأ الاعتقاد بأنّ الإمام الشافعي هو مؤسّس علم الاُصول ومبتكر قواعده ; لأ نّها كانت ـ كما قدّمنا ـ مبثوثة في فقه الصحابة والأئمّة قبله ، يقوم عليها ما يدلي به كلٌّ منهم من الحجج والأدلّة لتأييد وجهة نظره في فهمه للنصّ ، أو تطبيقه أو استنباطه للحكم الاجتهادي ، أو في معرض بيانه لوجه استدلاله بالدليل ، أو الردّ على مخالفيه ونقدهم (١).

يقول الدكتور أبو القاسم گرجي : لو كان المقصود من تأسيس علم الاُصول هو اختراعه وإيجاده ، فنحن لا نرى صحّة نسبة هذا الأمر لأيّ شخص كان ; إذ إنّنا علمنا أنّ علم الاُصول تلفيقٌ لمسائل ترتبط باللغة والأدب والعلوم العقلية وبناء العقلاء والشارع. من هنا فإنّ اختراع علم الاُصول يجب أن يُنسَب إلى أهل اللغة والعقل والشارع لا لأيّ شخص آخر.

__________________

١. المناهج الاُصولية : ٩.


فكيف يمكننا القول بأنّ الشافعي هو الذي أسّس ووضع قواعد : دلالة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة ، والتحسين والتقبيح العقليين ، والعمل بخبر الثقة ، وحجّية الاستصحاب؟ هذه المسألة عينها يمكن أن تلحظ في نسبة وضع المنطق إلى أرسطو.

ولو كان المقصود من تأسيس علم الاُصول الكشف والتوضيح والتطبيق للقواعد الاُصولية في استنباط الأحكام فإنّ نسبته إلى الشافعي إن صحّ في قسم من القواعد الاُصولية فنحن على يقين بعدم صحّته في جميعها ; إذ من الواضح أنّ باب الاجتهاد والتمسّك بالقواعد الاُصولية للاستنباط كان مفتوحاً منذ صدر الإسلام وخاصّة بعد وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) ، فالصحابة والتابعون والفقهاء دأبوا في استنباطهم على الاستناد إلى هذه القواعد ...

في رأينا أنّ الشافعي لم يكن مؤسّس علم الاُصول ـ كما تقدّم ـ ولم يصنّف فيه تصنيفاً كاملاً ، كما اعترف أبو زهرة نفسه بذلك ، بل أضاف لما جاء به الآخرون ... إضافةً الى ذلك : فإنّ هذا الكتاب شأنه شأن الكتب التي ذكرها السيد حسن الصدر عن أمالي الإمامين ، من أمالي الشافعي وليس من تأليفه ... إنّ رسالة الشافعي لم تطرح مسائل الاُصول بشكلها المجرّد كما شاع ذلك في العصور التالية ، بل إنّها طرحت هذه المسائل من خلال الكتاب والسنّة ... إضافةً الى ذلك : فإنّ علم الاُصول في هذا الكتاب ـ الرسالة ـ ليس بغالب على سائر العلوم الاُخرى فيه ، لذا فإنّا


لا نستطيع أن نعتبر رسالة الشافعي من كتب الاُصول ولو من باب التغليب (١).

* * *

تكامل الاُصول الشيعي

«مراحل» ، «أدوار» ، «مدارس» ، أيّاً كانت التسميات والتقسيمات والعناوين المصطلحة على مسيرة علم الاُصول الشيعي ، وأيّاً كانت احصائياتها : اثنان ، ثلاث ، أربع ، تسع .. باختلاف آراء الباحثين والمحقّقين والمستقرئين ، فإنّهم قد اتّفقوا على منح مدرسة ـ أو مرحلة أو دور ـ الشيخ الأنصاري (قدس سره) منزلة التكامل في الاُصول الشيعي.

إنّها رحلة عطاء فكري دؤوب ومسيرة جهاد معرفي طويل ومعترك علمي مرير ، كادح فيها أعلام المذهب وعباقرته بكل ما اُوتوا من مواهب وقدرات ونبوغ لمواجهة مسلسل النفي العقائدي والكياني الذي تعرّض ولا زال يتعرّض لها مذهب آل البيت (عليهم السلام) من مختلف الأطراف المناوئة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (٢) ، إنّه الفتح الإلهي المبارك والنصر الربّاني المؤزّر ، فقد سطّر فحول الدين والمذهب الحقّ ملاحم النتاج المعرفي الراقي الملتزم ، على شتّى محاور العلم والثقافة والفنّ والأدب ، وغدوا ـ كما كانوا ـ أرباب الرسالة وفوارس

__________________

١. اُنظر في ذلك كلّه : نظرة في تطوّر علم الاُصول : ٢٢ ـ ٢٩.

٢. سورة الصفّ ٦١ : ٨.


ميادينها وأبطال سوحها ، لهم الكلمة الفصل وعليهم المعوّل ، كيف لا؟! وهم ربائب الدوحة النبوية الشريفة وتلامذة مدرسة الوحي السماوي ، مدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام).

إنّ تكاملية الاُصول الشيعي ليست ميزةً على مستوى المذهب خاصّة ، بل على مستوى الإسلام عامّة ، فتلك الانطلاقه البطيئة المتأخّرة قليلاً إثر وجود مصدر التشريع ـ الأئمّة (عليهم السلام) ـ لم تكن لتعيق الاُصول الشيعي عن مواصلة المسير بكلّ عزم وحزم وثبات.

والاستقراء العلمي المنصف والبحث الموضوعي الدقيق يجعل دعوانا على غاية من المتانة والاطمئنان ، إنّها ليست رغبة وميل ، ولا مصلحة وتبرير ، ولا مجازفة طائشة تنام على أساس من الترف الفكري الهشّ ، بل حقيقة ساطعة لا تقبل الغبار أبداً.

وإن استعرضنا خاطفاً أبرز العطاء الاُصولي الشيعي من البدء حتى يومنا هذا ، تاركين مناقشة عمق المحتوى وشموخ المضمون وتأ لّق الفكر لأرباب الصناعة والتخصّص ; اعترافاً منّا بعدم الإحاطة بنتاجنا الاُصولي الثرّ .. سيتجلّى بوضوح شموخ دعوانا ورقيّها.

ـ كتاب الألفاظ ومباحثها ، لهشام بن الحكم (م ١٧٩ هـ).

ـ كتاب اختلاف الحديث ومسائله ، وهو مبحث تعارض الحديثين ، ومسائل التعادل والتراجيح ، ليونس عبد الرحمن (م ٢٠٨ هـ).

ـ كتاب الخصوص والعموم ، كتاب الأسماء والأحكام ، كتاب إبطال


القياس ، كتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي ، لأبي سهل النوبختي إسماعيل بن علي (م ٣١١ هـ).

ـ كتاب خبر الواحد والعمل به ، كتاب الخصوص والعموم (١) ، للحسن بن موسى النوبختي (عاش قبل الثلاثمائة وبعدها).

ـ كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول ، لابن أبي عقيل العماني (م ٣٢٩ هـ).

ـ كتاب كشف التمويه والإلباس في إبطال القياس ، كتاب إظهار ما ستره العباد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد ، لابن الجنيد الإسكافي (م٣٨١ هـ).

ـ كتاب بيان الدين في الاُصول ، كتاب إبطال القياس ، لأبي منصور الصرّام النيشابوري (عاش في القرن الثالث الهجري).

ـ كتاب مسائل الحديثين المختلفين ، لابن داود (م ٣٦٨ هـ).

ـ كتاب التذكرة باُصول الفقه ، للشيخ المفيد (م ٤١٣ هـ).

ـ كتاب الذريعة في علم اُصول الفقه ، للسيّد المرتضى (م ٤٦٠ هـ).

ـ كتاب التقريب في اُصول الفقه ، لسلاّر الديلمي (م ٤٤٨ هـ).

ـ كتاب العدّة في اُصول الفقه ، للشيخ أبي جعفر الطوسي (م ٤٦٠ هـ).

__________________

١. كتاب الخصوص والعموم ، ذكره النجاشي عند ترجمة اسماعيل بن علي النوبختي وعند ترجمة الحسن بن موسى النوبختي ، ولا نعلم اتّحادهما أو تعدّدهما ـ اُنظر رجال النجاشي ١ : ١٢١ / ٦٧ (اسماعيل) ، ١٧٩ / ١٤٦ (الحسن).


ـ كتاب غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع ، لابن زهرة الحلبي (م٥٥٨ هـ).

ـ كتاب المصادر في اُصول الفقه ، كتاب التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح ، كتاب المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد ، للشيخ سديد الدين الحمصي الرازي (م نحو ٦٠٠ هـ).

ـ كتاب معارج الوصول إلى علم الاُصول ، كتاب نهج الوصول إلى معرفة الاُصول ، للمحقّق الحلّي (م ٦٧٦ هـ).

ـ كتاب نهاية الوصول إلى علم الاُصول (كتابنا هذا) ، كتاب النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضى ، كتاب غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى الوصول لابن الحاجب ، كتاب مبادىء الوصول إلى علم الاُصول ، كتاب تهذيب الوصول إلى علم الاُصول ، للعلامة الحلّي (م ٧٢٦ هـ).

ـ كتاب منية اللبيب في شرح التهذيب ، للسيد عميد الدين الأعرجي (م ٧٥٤ هـ).

ـ كتاب النقول في تهذيب الاُصول ، للسيد ضياء الدين الأعرجي (١).

ـ كتاب غاية السؤول في شرح تهذيب الاُصول ، لفخر المحقّقين (م ٧٧١ هـ).

__________________

١. وقد تنسب المنية لضياء الدين والنقول لأخيه عميد الدين.


ـ كتاب شرح تهذيب الاُصول ، للحسيني الجرجاني.

ـ كتاب شرح مبادىء الاُصول ، للفاضل المقداد السيّوري (م ٨٢٦ هـ).

ـ كتاب تهذيب القواعد ، كتاب جامع البين من فوائد الشرحين ، للشهيد الثاني (م ٩٦٥ هـ).

ـ كتاب معالم الاُصول ، للشيخ محمد حسن نجل الشهيد الثاني (م ١٠١١ هـ).

ـ كتاب زبدة الاُصول ، للشيخ البهائي (م ١٠٣١ هـ).

ـ كتاب غاية المأمول في شرح زبدة الاُصول ، للفاضل الجواد (م أواسط القرن الحادي عشر الهجري).

ـ كتاب حاشية المعالم ، كتاب حاشية زبدة الاُصول ، لسلطان العلماء (م ١٠٦٤ هـ).

ـ كتاب الوافية ، للفاضل التوني (١٠٧١ هـ).

ـ كتاب شرح زبدة الاُصول ، كتاب حاشية معالم الاُصول ، للملاّ صالح المازندراني (م ١٠٨١ هـ).

ـ كتاب شرح عدّة الاُصول ، للملاّ خليل القزويني (م ١٠٨٩ هـ).

ـ كتاب مشارق الشموس ، للشيخ حسين الخوانساري (م ١٠٩٨ هـ) ، يشتمل على أغلب القواعد الاُصولية والاجتهادية ، رغم كونه كتاباً فقهياً.


ـ كتاب حاشية معالم الاُصول ، للميرزا الشيرواني (م ١٠٩٨ هـ).

ـ كتاب حاشية شرح المختصر للعضدي ، لاقا جمال الخوانساري (م ١١٢٥ هـ).

ـ كتاب شرح الوافية ، للسيد الرضوي القمّي (م بين ١١٦٠ ـ ١١٧٠ هـ).

ـ كتاب الفوائد الحائرية ، كتاب الرسائل الاُصولية ، كتاب إبطال القياس ، كتاب إثبات التحسين والتقبيح العقليين ، كتاب الاجتهاد والتقليد ، للمولى الوحيد البهبهاني (م ١٢٠٦ هـ أو ١٢٠٨ هـ).

ـ كتاب غاية المأمول في علم الاُصول ، للشيخ كاشف الغطاء (م ١٢٢٨ هـ).

ـ كتاب قوانين الاُصول ، للميرزا القمي (م ١٢٣١ هـ).

ـ رسالة في الإجماع والاستصحاب ، تعليقة على معالم الدين ، تعليقة على مبادىء الوصول ، للسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض (م ١٢٣١ هـ).

ـ كتاب كشف القناع عن وجوه حجّية الإجماع ، للشيخ الدزفولي الكاظمي (م ١٢٣٤ هـ).

ـ كتاب المحصول ، كتاب شرح الوافية ، للسيد الأعرجي الكاظمي (م ١٢٤٠هـ).

ـ كتاب مصابيح الاُصول ، للمولى أحمد الخوانساري.


ـ كتاب مفاتيح الاُصول ، للسيد محمد المجاهد نجل صاحب الرياض (م ١٢٤٢ هـ).

ـ كتاب مناهج الأحكام ، كتاب مفتاح الأحكام ، كتاب أساس الأحكام ، كتاب عين الاُصول ، كتاب شرح تجريد الاُصول ، رسالة في اجتماع الأمر والنهي ، للملاّ أحمد النراقي (م ١٢٤٥ هـ).

ـ رسالة جواز أمر الامر مع العلم بانتفاء الشرط ، لشريف العلماء (م ١٢٤٥ هـ).

ـ كتاب هداية المسترشدين ، كتاب شرح الوافية ، للشيخ محمد تقي الطهراني الاصفهاني (م ١٢٤٨ هـ).

ـ كتاب عناوين الاُصول ، لمير عبد الفتّاح المراغي (م ١٢٥٠ هـ).

ـ كتاب حقائق الاُصول ، للمولى النجف آبادي.

ـ كتاب الفصول الغروية ، للشيخ محمد حسين الطهراني الاصفهاني (م ١٢٦١ هـ).

ـ كتاب إشارات الاُصول ، للشيخ الكلباسي (م ١٢٦٢ هـ).

ـ كتاب ضوابط الاُصول ، كتاب نتائج الأفكار ، للسيد الموسوي القزويني (م ١٢٦٥ هـ).

ـ كتاب فرائد الاُصول (الرسائل) ، للشيخ مرتضى الأنصاري (م ١٢٨١ هـ).


ـ كتاب مفاتيح الاُصول ، كتاب نخبة الاُصول ، للسيد محمد باقر القزويني (م ١٢٨٦ هـ).

ـ كتاب تقريرات الميرزا الشيرازي ، للمولى الروزدري (م حدود ١٢٩٠ هـ).

ـ كتاب مطارح الأنظار (تقريرات دروس الشيخ الأنصاري) ، للميرزا الكلانتري الطهراني (م ١٢٩٢ هـ).

ـ كتاب بشرى الوصول إلى علم الاُصول ، للحجّة الكوهكمري (م ١٢٩٩ هـ).

ـ كتاب أوثق الرسائل في شرح الرسائل ، للشيخ التبريزي.

ـ كتاب جوامع الشتات ، كتاب قوامع الفضول ، للشيخ الميثمي (م ١٣١٠ هـ).

ـ كتاب بدائع الاُصول ، لميرزا حبيب الله الرشتي (م ١٣١٢ هـ).

ـ رسالة في اجتماع الأمر والنهي ، تلخيص إفادات الشيخ الأنصاري ، للمجدّد الشيرازي (م ١٣١٢ هـ).

ـ كتاب غاية السؤول في علم الاُصول ، للسيد محمد حسين الشهرستاني (م ١٣١٥ هـ).

ـ كتاب بحر الفوائد ، للميرزا الأشتياني (م ١٣١٩ هـ).

ـ كتاب مجمع الاُصول ، للمولى محمد باقر المازندراني (م ١٣٢٢ هـ).


ـ كتاب كفاية الاُصول ، كتاب فوائد الاُصول ، تعليقة على الرسائل ، للآخوند الخراساني (م ١٣٢٩ هـ).

ـ كتاب درر الاُصول ، للشيخ عبد الكريم الحائري (م ١٢٥٥ هـ).

ـ كتاب إيضاح الفرائد ، للميرزا محمد التنكابني (م ١٢٥٩ هـ).

ـ كتاب نهاية الدراية في شرح الكفاية ، للشيخ محمد حسين الاصفهاني (م ١٣٦١هـ).

ـ كتاب مقالات الاُصول ، لاقا ضياء الدين العراقي (م ١٢٦١ هـ).

ـ كتاب وقاية الأذهان ، للشيخ أبي المجد الاصفهاني (م ١٣٦٢ هـ).

ـ كتاب فوائد الاُصول (تقرير دروس النائيني) ، للشيخ الكاظمي (م ١٣٦٥ هـ).

ـ كتاب شرح كفاية الاُصول ، للشيخ عبد الحسين الرشتي.

ـ كتاب نهاية النهاية في شرح الكفاية ، لميرزا علي الإيرواني.

ـ كتاب اُصول الفقه ، للشيخ محمد رضا المظفّر (م ١٣٨٣ هـ).

ـ كتاب حقائق الاُصول ، للسيد محسن الحكيم (م ١٣٩٠ هـ).

ـ كتاب منتهى الدراية ، للسيد الجزائري المروّج.

ـ كتاب نهاية الأفكار (تقرير دروس اقا ضياء الدين العراقي) ، للشيخ محمد تقي البروجردي (م ١٣٩١ هـ).

ـ كتاب عناية الاُصول في شرح كفاية الاُصول ، للسيد الفيروزآبادي.


ـ كتاب اُصول الاستنباط ، للسيد علي نقي الحيدري.

ـ كتاب دروس في علم الاُصول (الحلقات) ، للشهيد الصدر (١٤٠٠ هـ).

ـ كتاب بداية الوصول ، للشيخ محمد طاهر آل راضي (م ١٤٠٠ هـ).

ـ كتاب منتقى الاُصول (تقرير دروس السيد محمد الروحاني) ، للشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم (١٤٠٣ هـ).

ـ كتاب مناهج الوصول إلى علم الاُصول ، كتاب الرسائل ، للسيد الخميني (م ١٤٠٩ هـ).

ـ كتاب أجود التقريرات (تقرير دروس النائيني) ، للسيد أبي القاسم الخوئي (م ١٤١١هـ).

ـ كتاب بدائع الأفكار (تقرير دروس اقا ضياء الدين العراقي) ، لميرزا هاشم الآملي (م ١٤١٢ هـ).

ـ كتاب دراسات الاُصول (تقرير دروس السيد الخوئي) ، للسيد علي الشاهرودي.

ـ كتاب مصباح الاُصول (تقرير دروس السيد الخوئي) للسيد محمد سرور.

ـ كتاب جواهر الاُصول (تقرير دروس السيد الخوئي) للشيخ فخر الدين الزنجاني.


ـ كتاب مصابيح الاُصول (تقرير دروس السيد الخوئي) للسيد علاءالدين بحر العلوم.

ـ كتاب الوصول إلى كفاية الاُصول ، للسيد محمد الشيرازي (م ١٤٢٢ هـ).

ـ كتاب الاُصول العامّة للفقه المقارن ، للسيّد محمّد تقي الحكيم.

ـ كتاب تهذيب الاُصول (تقرير دروس السيد الخميني) للشيخ جعفر السبحاني.

ـ كتاب المحجّة في تقريرات الحجّة (تقرير دروس الحجة الكوهكمري) ، للشيخ الصافي الگلبايگاني.

ـ كتاب المحكم في اُصول الفقه ، للسيد محمد سعيد الحكيم.

ومصنفات اُخر عديدة يزدحم المجال بذكرها هنا.

أكثر من مائة وخمسة عشر أثراً اُصولياً ـ ليست على سبيل الحصر ـ عبر رحلة معطاء شارفت الألف ومائتين وخمسين سنة ، بكيفية تصاعدية أسفرت عن ذلك التكامل المفخرة ، الذي جعل من علم الاُصول الشيعي محتلّ الصدارة ألقاً شامخاً على كلّ المدارس والمذاهب والفرق الإسلامية ، إنّها دعوة مقرونة بالدليل التامّ والحجّة القاطعة ، ومن شاء فليبحث ويحقّق ويدقّق ويتعمّق في هذا النتاج الموجود ، شرط الأخذ بأخلاقيات المعرفة الإنسانية الراقية الملزمة.

* * *


ولقد كانت محاولة السيد محمد تقي الحكيم (رحمه الله) ـ المتعنونة بكتابه : الاُصول العامّة للفقه المقارن ـ ناجحةً في عرض التفوّق العلمي الشيعي الاُصولي وإيصال إشعاعاته الفكرية إلى الميادين المختصّة في عالمنا الإسلامي ; حيث اطّلع علماء المسلمين على مدى العمق والدقّة والنظم والمنهجية والابتكار التي يمتاز بها هذا العلم عندنا ، والملفت للنظر ذلك الخطاب الميسّر واللغة السهلة اللذين استخدمهما المؤلّف في نقل وعكس أفكار مدرستنا الاُصولية مقارنةً بسائر المدارس ، مع أنّها تعدّ بلا شك خطوة نحو الحوار العلمي الرصين الهادف.

* * *

إنّ بلوغ علم الاُصول الشيعي مرحلة التكامل زمن الشيخ الأنصاري (قدس سره) كان نتيجة سلسلة متواصلة من البناء العلمي والجهاد الفكري والكفاح المعرفي ، بذر نواته الاُولى الرسول الأكرم وأئمّة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، واستمرّ إلى يومنا هذا .. فهي إذن حقيقة متواصلة متناغمة ، لا تقبل العزل والفصل والقطع والمصادرة بأيّ شكل من الأشكال.

أمّا الرقيّ المستمرّ بعد وفاة الشيخ الأنصاري (قدس سره) فيعدّ امتداداً لمدرسته المباركة ، بل زاد ذلك في تكامليتها استحكاماً ورسوخاً ورفعةً وسموّاً .. إنّها من أشمخ حالات اليقين والطمأنينة ، وهذا فضلٌ عظيم منّ به الباري سبحانه وتعالى على المذهب الحقّ.


ويحقّ لنا بعد ما عرضناه أن نختلف ـ إلى حدٍّ ما ـ مع بعض محقّقي أفاضلنا حين أعاد جلّ الفضل في تكاملية علم الاُصول الشيعي إلى الإعداد العلمي الضخم الذي سبق مدرسة الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، المتجسّد بعطاء أمثال : المحقّق القمّي صاحب القوانين ، صاحب الفصول ، شريف العلماء ، النراقي ، صاحب الضوابط ، وغيرهم .. غير منكرين عظمة الدور الذي اضطلع به أمثال هؤلاء الأجلاّء ; لكنّنا نراها سلسلة مترابطة متجانسة امتدّت من زمن النبي الخاتم والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) حتى بلغت مبلغها زمن الشيخ الأعظم (قدس سره).

يقول محقّقنا الفاضل (١) :

وقد سبق ظهور هذه المدرسة ـ مدرسة الشيخ الأنصاري (قدس سره) ـ إعداد علمي ضخم على مستوى ضخامة المدرسة وأفكارها ، ودخل علم الاُصول مواجهة فكرية ، وفي صراع علمي بين المجتهدين والأخباريين مدّة تزيد على قرنين من الزمان.

وقد أكسبت هذه المعركة علم الاُصول قوّة ومتانة واستحكاماً يؤهّله لمثل هذا التطوّر الهائل الذي حدث في مدرسة الشيخ الأنصاري (قدس سره).

والذي يتأمّل الكتب التي كُتبت في علم الاُصول في فترة الصراع ـ كالوافية للفاضل التوني (قدس سره) والقوانين للمحقّق القمّي (قدس سره) والفوائد الحائرية للوحيد البهبهاني (قدس سره) ـ يلمس بوضوح هذه الحقيقة.

__________________

١. الشيخ محمد مهدي الآصفي في : المنهجيات المعاصرة لعلم الاُصول من عصر الشيخ الأنصاري (قدس سره) حتى اليوم ، المنشورة في مجلة دراسات اُصولية ، العدد ٤ و٥ ص ٩٨.


فقد أعدّ الله لهذا العلم قبل الشيخ الأنصاري عقولاً وأفكاراً قوية نهضت بتحقيقات واسعة ونقدت أفكار السابقين وهذّبتها ، وجدّدت في هذا العلم ، ووضعت مبانيه واُسسه على اُصول قوية متينة ، مثل : المحقّق القمّي في القوانين ، وصاحب الفصول ، وشريف العلماء ، والنراقي ، وصاحب الضوابط (المتوفّى سنة ١٢٦٣ هـ) وغيرهم.

ثم جاء الشيخ مرتضى الأنصاري (١٢١٤ ـ ١٢٨١ هـ) مستفيداً من هذه الجهود جميعاً ، قرأها ووعاها ، واستفاد وتمكّن منها ، ثم استخدم ما آتاه الله تعالى من المواهب الفكرية والرؤية الثاقبة في النقد والتجديد والبناء في المحتوى والمنهج ، وبلغ هذا العلم على يده أرقى ما وصل إليه علم الاُصول في تاريخ الفكر الإسلامي.

وقد جدّد الشيخ الأنصاري في علم الاُصول وجاء بمنهجية جديدة ، أصبحت هي منهج الاُصول في المباحث العقلية من بعده ، ولم يتّفق لأحد من قبله هذا الكشف والفتح الذي فتحه الله على يده.

نقول : إنّنا لا نزيد في الجواب على ما صدّرنا به الإشارة إلى رؤية هذا المحقّق الفاضل ; حيث إنّ مسرى البحث متكاملاً يكشف ضعف هذه الرؤية وعدم تكاملها.

* * *


نهاية الوصول إلى علم الاُصول

إنّه الخطوة العلمية الرائدة التي خطاها الحسن بن يوسف المطهّر المشتهر بالعلاّمة الحلّي ، والإسهامة المختصّة المُعِدّة ـ كسابقاتها ولاحقاتها ـ لمرحلة تكامل الاُصول الشيعي الحاصل زمن الشيخ الأنصاري (قدس سره).

إنّ براعة واقتدار المؤلّف في المعقول والمنقول ، إحاطته بألوان الفنون والعلوم والمعارف ، آراؤه الثاقبة ، نظرياته الفذّة ، شخصيّته الفكرية المتكاملة ، ذلك المزيج من ثقافتي الطوسي والمحقّق الحلّي .. هي خصائص فريدة تراها حاضرة كلّها في موسوعته الاُصولية المقارنة ، كتابنا الماثل بين يدي الباحث القدير «نهاية الوصول إلى علم الاُصول».

فلمّا ينطلق (قدس سره) بمقصد «ماهية علم اُصول الفقه» ينتقل بعدها إلى «اللغات» ثم يحلّق في «كيفية الاستدلال بخطاب الله تعالى» ، فيحطّ في «الأمر والنهي» ثم يتّجه صوب «العموم والخصوص» ، وبعدها إلى «باقي صفات الدلالة» فـ «الأفعال» يليه «النسخ» ويتلوه «الإجماع» السابق على «الخبر» ، المتقدّم على «القياس» ، ويروم دونه جهة «الاستدلال» ، ومسك ختامه «الاجتهاد والتقليد والتعادل والتراجيح» .. إنّها ثلاثة عشر مقصداً يتخلّل كلّ واحد منها ـ نوعاً ـ العديد من الفصول والبحوث والمطالب والمسائل والفروع والتذنيبات والتنبيهات.


إنّه يستعرض الآراء والأقوال بروح علمية رفيعة خالية من عناصر التعصّب والتحيّز.

تارةً تلحظه يسجّل مختاره من خلال عنوان البحث واُخرى في نهاية المطاف.

إنّ تناول الكتاب بالبحث والتحقيق والدراسة سيجعل الوقوف على الابتكارية ، النظم ، المنهجية ، المقارنة الأمينة ، الحوار الهادف ، خصائص المؤلّف الفكرية ، الجامعية ، العمق .. أمراً لابدّ منه ..

ولقد وفى (قدس سره) حقّاً ما وعد به ولده فخر المحقّقين (قدس سره) لمّا سأله إنشاء كتاب جامع لما ذكره المتقدّمون ، حاو لما حصّله المتأخّرون ، مع زيادة نفيسة لم يسبقه إليها الأوّلون ، فصرف الهمّة إلى وضع هذا الكتاب القيّم ، مشتملاً على ما طلبه ولده وأراده ، فانتفع وغيره بما فيه وأزاده بمنّه وكرمه.


مقدّمةٌ على كتاب معجم رجال الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم وغاصبي حقّهم من الآن إلى قيام يوم الدين.

لا ريب أنّ بلوغ أيّة حقيقة وكشف أيّ واقع يمرّ عبر طرق وقنوات قائمة على أساس من القواعد والاُصول والقوانين.

وهذه المعادلة الكلّية لها من المصاديق الخارجية ما لا يمكن عدّها أو حصرها ; لتفاوت الأهداف والغايات بتفاوت التوجّهات والرغبات.

فتتباين على ضوء ذلك المناهج والأساليب المعتمدة لأجل نيل المرام وبلوغ المقصد.

وانطلاقاً من واقع الخلقة وأساس التكوين ، فإنّ حقيقة المعرفة

__________________

١. مقدّمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث على كتاب «معجم رجال الشيعة» للعلاّمة المحقّق الراحل السيّد عبدالعزيز الطباطبائي طاب ثراه.


الإلهية فوق كلّ المعارف ، فلا تضاهيها أيّة حقيقة مطلقاً ، وأ نّها الضرورة التي دونها سائر الضرورات ، فهي أقدس المقاصد وأشرف الأهداف ، والتمرّس في عناصر دركها هو أجلّ الممارسات التي تفتح المنفذ الوهّاج نحو الهداية والفلاح.

وعليه ، فإنّ إنسانية الإنسان ـ علوّاً أو هبوطاً ـ تنمو أو تضمحل بمقدار سيره تجاه فهم تلك الحقيقة واستيعاب محاورها بالشكل الذي يؤمّن له دوام الاستمرار في طىّ مراحل التربية والكمال البشري أو نأيه عنها وتخبّطه في معاقل الفساد والضياع.

ولا شكّ أنّ صمّام الأمان من الضلال والرادع الأساس عن الانحراف والمنقذ من الانحطاط ، هو التمسّك بما دعى خاتم الرسل والأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) إلى التمسّك به ، والانفصام عنه انفصامٌ عن الدين والإيمان ، وانضمامٌ إلى الكفر والنفاق ، ولا نقول بالفصل أبداً بين الكتاب والعترة ; فهما أساس المعرفة الإلهية ، والكلّ المركّب لا يقوم إلاّ بقيام جميع أجزائه.

فدون التمسّك بالإمامة والاعتقاد بالخلافة الإلهية التي منحها المولى تبارك وتعالى لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، لا يمكن بأيّ وجه من الوجوه كسب المطلوب وتحصيل رضا الربّ.

لذا فإنّ كلّ العلوم وكافّة العقول وجميع الجهود وكلّ الطاقات ومختلف الإمكانيات يجب توظيفها وتسخيرها لأجل نشر وبيان المنزلة العظيمة والمضامين العميقة والاُطر الواسعة التي يحتويها أصل الإمامة.


وبقول بعض الأجلّة :

إنّ درك وفهم عمق الإمامة لا يتمّ إلاّ بفهم : (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (١).

وإبراهيم (عليه السلام) كان قد اجتاز مراحل أربع حتى نال المقام الشامخ والمنزلة الإلهية الرفيعة ، والتي هي :

١ ـ مرحلة العبودية.

٢ ـ مرحلة النبوّة.

٣ ـ مرحلة الرسالة.

٤ ـ مرحلة الخلّة : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (٢).

والإمامة لابد وأن تتوفّر فيها جهتان :

الاُولى : ما يلي الحقّ. أي أنّ الإمام لا يسأل إلاّ من الله سبحانه وتعالى.

الثانية : ما يلي الخلق. أي أنّ الإمام إذا سُئل لا يقول : لا.

وتجتمع في الإمام (عليه السلام) ـ كما قيل ـ أربعون خصوصية ، كلّ واحدة منها تحتاج إلى بحث وتفصيل عميقين لا تستغرقه قلائل صفحاتنا هذه ، ولكن نشير إلى واحدة منها ، فنقول :

__________________

١. سورة البقرة : ١٢٤.

٢. سورة النساء : ١٢٥.


إنّه قد ورد في النصّ الصحيح : «ألبسه الله تاج الوقار ، وغشّاه من نور الجبّار» (١).

والملاحظ أنّ الحديث صريح في أنّ المتوِّج هو الله تبارك وتعالى دون واسطة أبداً ، فلا النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) ولا الملائكة (عليهم السلام) لهم الحقّ أو الدخل في الانتخاب والترشيح.

وأمّا درك المراد من : «وغشّاه بنور الجبّار» فإنّه ـ كما قال بعض مشايخنا ـ يتوقّف على مقدّمة ، تتلخّص في فهم آيات من سورة النور : وهي قوله تعالى : (فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ) (٢). وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالاْرْضِ) (٣).

والنبيّ (صلى الله عليه وآله) في مقام وصف الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه) قال : «عليه جلابيب النور» (٤).

أمّا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقد روي عنه أنّه قال في معنى قوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) : «القائم المهدي (عليه السلام) ، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شيء عليم» (٥).

__________________

١. غيبة النعماني : ٢٢٤ / ٧.

٢. النور : ٣٦ ـ ٣٧.

٣. النور : ٣٥.

٤. كفاية الأثر : ٥٩.

٥. تفسير البرهان ٣ : ١٣٦ / ١٦.


والإمام الرضا (عليه السلام) قد نُقل عنه قوله في الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) : «عليه جيوب نور تتوقّد بشعاع ضياء القدس» (١).

وبالتأمّل والتفكّر ترى عجز البيان وقصور الأفهام وتخاذل المشاعر والأحاسيس عن درك عظم هذه الرفعة وتلك المنزلة العظيمة.

هذه شذرات وقبسات ولمحات استقيناها من ذلك النور المقدّس والعنفوان الإلهي المتجلّي بأتمّ البهاء والجمال.

ولسنا بصدد الإنشاء أو التأسيس ـ والعياذ بالله ـ بل هي حالة من الإخبار التي يتلذّذ بها ذوو الألباب الواعية والفطرة النقيّة والمشاعر العميقة ، وإلاّ فإنّه منذ النشأة الاُولى والفرد الإنساني الطموح كان قد طوى مراحل العلم والمعرفة وانكشفت له الستائر والحجب ، حتى عانى جرّاء ذلك أشدّ المصائب وأقسى المحن والويلات ، واستطاع أن ينال المقام المحمود والمكانة العالية في تسلّق سلّم الحقيقة الباهرة والطَلِبَةَ الخالدة.

وبفضل الجهود العملاقة ـ المنعكسة على صفحات الحياة الإنسانية بأمتن منهاج وأدقّ اُسلوب وأفضل محتوى ـ التي جادت بها أذهان علمائنا ، وأساطين الفكر والبحث والمعرفة من رجالنا ، والمنصفين من القوم وغيرهم ، اتّضح الكثير من معالم المعرفة الإلهية بواقعها الصحيح والمطلوب.

وعلماء الشيعة الإمامية تمكّنوا من طرق كلّ ألوان العلوم

__________________

١. عيون أخبار الرضا ٢ : ٦ / ١٤.


والمعارف ، سعياً منهم ـ ومن واقع الوجوب الكفائي ـ إلى بيان أصل الإمامة والخلافة الإلهية لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ونشر قيمه ومبادئه ، على نحو من الاستدلال الفكري الشامل ، الممتلئ بالمنقولات الشرعية الصحيحة متناً وسنداً ; ناقضين الشبهات بأرفع عناصر الدفع والردّ ، مبرمين محاور المدّعى بأعمق البراهين وأوضح القرائن.

وقد استدعت التكاملية في الأداء إلى تباين المهام وتنوّع التخصّصات ، وهذا ما جعل النتائج على غاية من التفوّق المشحون رصانةً ومكانة.

ولكنّ الأغراض والأهداف لا يمكن لها أن تتوقّف على هذا المقدار من الفهم والإدراك ; لكون مراتب المعرفة ذات محتوىً غزير وعمق واسع لا ينحصر على حجم محدّد من المكان أو الزمان ، فديمومة المثابرة وتنشيط حركة العلم والبحث والتحقيق ، أمران لابدّ منهما على طول الطريق ومرّ الوقت.

إنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ـ وبفضل العناية الإلهية ـ استطاعت أن تخرّج علماء وأفاضل ومفكّرين وباحثين في شتّى مجالات المعرفة والثقافة ، والتي منها : علم الفقه والاُصول ، علم الكلام والمنطق ، علم التفسير والبيان ، علم الرجال ، علم البحث والتحقيق والتنقيب ... وغيرها من العلوم والمعارف.

وفقيدنا الراحل العلاّمة المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز


الطباطبائي (قدس سره) هو واحد من اُولئك الذين حملوا لواء الفكر والفضيلة ، وأسدوا خدمات جليلة وكبيرة للدين والطائفة ، بحيث كانت ولا زالت محلّ ثناء وإطراء أهل العلم والخبرة.

بل هو أحد الذين فتحوا آفاقاً جديدة نحو كشف الآثار القيّمة والنفيسة التي تفصح عن أصاله مذهب التشيّع وسموّ مبادئه ، وذلك بروح ممزوجة بالكرم والسخاء والوفاء والإخلاص والتواضع والزهد ، فكان عبارة عن عطاء متواصل ومنبع جود لا ينقطع أغنى حقول الثقافة بأتقن النتاجات وأجمل العروض ، ولا عجب في ذلك فإنّ ما كان لله ينمو.

والذي عايش السيّد الطباطبائي لابدّ وأن شاهد تلك الهمّة وذلك الشعور والإحساس بالواجب الشرعي في إحياء ونشر علوم آل محمد (صلى الله عليه وآله) ، فكان يبذل الجهد ويسعى دون أن يستند إلى غير الله سبحانه وتعالى ، فإن كان قد قدّم في حياته هذه الحصيلة الباهرة والباقة والعطرة من الآثار فإنّما قدّمها بالاتّكال على المولى تبارك وتعالى ومن ثم طاقاته ومواهبه الشخصية.

وقد أجاد وبرع (رحمه الله) في شتّى محاور العلم والفضيلة ، سواء على صعيد التأليف ، أو التحقيق ، أو الفهرسة ، أو المتابعة والبحث ، إلاّ أنّه امتاز وتفرّد في الكشف عن الآثار التي تبرز المكانة اللائقة والشأن الشامخ لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ; وكذلك فهرسة تلك المصنّفات وترتيبها وتنظيمها ، وتسلّطه في علم الرجال ومهارته في تفصيل محاوره وأركانه ، وبيان نظرياته ومبانيه.


كشف وتقييم المخطوطات

لقد شاع وانتشر هذا اللون من العلوم ونما بنموّ حركة التأليف والتحقيق وما رافق ذلك من تزايد الوعي لدى مختلف طبقات الاُمّة والمجتمع .. ولقد كان ذلك على أثر مجموعة من القواعد والاُصول التي تبلورت وتوسّعت باتّباع جملة من المناهج والأساليب المتطوّرة ، ممّا جعله الدعامة والمهمّة الأساسية في إنجاز المشاريع والأعمال الثقافية.

إنّ هذا المضمار المترامي الأطراف لابدّ وأن تتوفّر في متخصّصية عدّة من العناصر التي تؤهّلهم لكسب أرقى النتائج وأفضل القواعد ، فمثلاً : إنّ اسم الكتاب واسم كاتبه من أهمّ الجوانب التي يجب تثبيتها بالدليل القاطع والبرهان المتين ، كما أنّ معرفة كاتب النسخة من الاُمور التي تساهم مساهمة فاعلة ومؤثّرة في رفع قيمة المخطوطة وإظهار مدى نفاستها ، فقد تكون بخطّ المؤلّف نفسه ، أو قد قرئت عليه ، أو قوبلت وكتبت بحضوره أو في زمانه ، أو في فترة قريبة منه ، أو أنّ كاتبها وإن كان متأخّراً لكنّه من العلماء والأفاضل أو المعروفين .. كلّ هذا يعكس مدى جودة وصحّه نسبة المخطوطة إلى صاحبها ، وخلافه يظهر رداءتها وزيفها ونفي انتسابها إلى كذا شخص ، أو أنّها ليست الكتاب الفلاني ، ولا أقلّ من التشكيك.

وحسم هذه الاُمور ـ التي تعرّضنا إلى قسم منها على سبيل المثال لا الحصر ـ لابدّ وأن يتمّ على يد عالم وخبير في هذا المجال.


كما أنّ العثور على نفائس المخطوطات والآثار عموماً ، التي تظهر معالم مدرسة آل البيت (عليهم السلام) خصوصاً ، يحتاج إلى معرفة سبل وقنوات لا يجيدها إلاّ أهل الخبرة والاختصاص ، ولا سيّما أنّ الكثير منها قد اختفى إمّا لجهل مالكيها ، أو لحقدهم الأعمى ورغبتهم عن درك الحقيقة وفهم الواقع.

ولقد كان العلاّمة الراحل (قدس سره) من ألمع رجال هذا اللون من العلوم ، بل هو من فرائده ونوادره والنجم الذي تلألأ في سمائه بكلّ قوّة وجدارة ; لمؤهّلات ومواصفات نشأت ونمت معه منذ عهد يفاعته ; والذي يدلّنا إلى ذلك كيفية آثاره وشهادة أهل الخبرة بطول باعه وعظيم كفاءته ، ولقد أعانه على ذلك أيضاً : ذهنه الوقّاد ، وحضور فكره العجيب ، وفراسته المعروفة ; مضافاً إلى ملازمته الدائمة والدؤوبة لاُستاذيه الشهرين : العلاّمة الأميني صاحب كتاب الغدير ، وأقابزرگ الطهراني صاحب كتاب الذريعة ، واللذين أسديا له خالص النصائح ، مع متابعتهما لأعماله ونشاطاته ، فتعلّم منهما الكثير واستفاد الغزير بفضل علومهما حتى أصبح ممّن يشار إليه بالبنان.

وهذه الخصائص كلّها جعلت منه (رحمه الله) العقل المفكّر والدليل المطمئن والمبرمج الكبير ، الذي غذّى المجامع العلمية والتحقيقية بعصارة أفكاره وخلاصة خبرته ، وعطّر سوح الثقافة بأريج لمساته الممسّكة بطابع الولاء.

وحريٌّ بنا أن نشير إلى نفحة من نفحات إرشاداته ونصائحه ، فنقول :


إنّه في معرض إجابته عن سؤال حول الخطوات التي يجب اتّباعها في العثور على النسخ والمخطوطات والآثار النفيسة ومن ثم إنقاذها ، أجاب (رحمه الله) قائلاً :

لابدّ من اتّباع الخطوات التالية التي اعتقد أنّها تساعد على التوصّل إلى نتائج مثمرة في هذا المجال ، وأهمّ تلك الخطوات :

١ ـ التوصّل إلى معرفتها بمختلف الطرق المشروعة ، وكذلك البحث عن معلومات حقيقية ومصادر تفيد هذا الغرض.

٢ ـ يقتضي نشر الأخبار الواردة ، أو التي ترد عنها ، ومتابعة تفاصيلها.

٣ ـ يفترض بمراكز البحوث والتحقيق ـ التي تتمتّع بالإمكانات ـ أن تباشر إلى استقصاء أخبار مراكز البحوث العالمية ; كي تحقّق أهدافها.

٤ ـ حثّ الجماعات والباحثين على التجوال واستقصاء الجديد ، كما يتطلّب من هؤلاء اقتناء ما يصل بأيديهم والمباشرة بتحقيقها.

٥ ـ توفير الإمكانات للمحقّقين والبحّاثة لإنجاز هذه المهمّات العلمية والدينية بصورة صحيحة.

ثم أردف (رحمه الله) قائلاً : وكان عندنا في مجلّة تراثنا حقل كنّا نطلق عليه : ما ينبغي نشره من التراث ، حيث أختار لهم الأهمّ فالأهمّ والمقدّم من المخطوطات الذي ينبغي نشره والدلالة على أماكن وجود مخطوطاته وأرقامها وتاريخها ، والوسائل الكفيلة بالوصول إليها ، حيث جرّب بعض


الباحثين حظّهم في هذه المخطوطات ، وأدّى إلى قيام جماعة اُخرى في التحقيق في هذه المحطوطات ، وتمّ نشره بالفعل ... (١).

الفهرسة

إنّ الحركة الشاملة والنهضة السريعة التي يشهدها عالم المعرفة والثقافة استدعت استخدام أفضل الطرق والأساليب التي تساهم في بلوغ المرام بأقصر مدّة وعلى غاية من الكيفية والمتانة.

وتعدّ عملية الفهرسة من المحاور المهمّة والأساسية التي تختزل زمن البحث والتحقيق إلى أدنى حدوده ، وتفتح الآفاق الرحبة لتبنّي الكثير من المشاريع والأعمال العلمية التي يعزّ ويصعب نيلها بدون ذلك.

بل وقد أصبحت الفهرسة من الأركان والملازمات التي يستفاد منها في أيّ مكان وزمان ، حيث شقّت طريقها إلى كلّ مجال ، وبات يستعان بها في أيّة لحظة.

والأهمّ من ذلك : أنّ الفهارس استطاعت أن تعرّفنا بآثار ومصنّفات وعلماء وشخصيات ومتون وأماكن وموادّ علميّة وغيرها ، كانت خافية علينا ، أو كنّا نجهلها تماماً.

ولا شكّ أنّ المشاريع الفهرستية قد نمت وتطوّرت بتطوّر برامجها وأساليبها ، مضافاً ما للتقنية الحديثة من لمسات بارزة ومؤثّرة في دفع

__________________

١. من إحدى اللقاءات التي اُجريت معه (رحمه الله) والمنشورة في كتاب : المحقّق الطباطبائي في ذكراه السنوية الاُولى ج١ ، قسم الحوارات.


وازدهار مناهجها وسهولة الوصول إليها.

وسيّدنا الفقيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هو واحدٌ من اُولئك الذين تمرّسوا وأبدعوا في فنّ الفهرسة ، فمن تلك البدايات في مكتبة جدّه المرحوم ، ثم مكتبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف ـ والتي شيّدها العلاّمة الأميني (قدس سره) ـ إلى هذه الآثار والأعمال والمؤلّفات الفهرستية ، نجد عمق بحثه ودقّة متابعته وتحقيقه ، فكم من كتاب أو رسالة غاصت في أتربة الإهمال والضياع والنسيان ، تراها قد أبصرت النور بفضل جهوده ومساعيه.

وله (رحمه الله) أكثر من عشرة مؤلّفات فهرستية هي حصيلة متابعاته وأبحاثه وسفراته ، ذُكِرت أسماؤها في أكثر من مقام.

التخصّص في علم الرجال

لقد تميّز (قدس سره) بقدرته وتسلّطه بعلم الرجال ، العلم الذي له الدخل المباشر في صياغة الحكم الشرعي ، بل في تنظيم حياة المجتمع وترسيخ القيم والعقائد ، لذا فهو ركن من الأركان وقناة من القنوات التي نصل عبرها إلى درك الفروع والاُصول بالمحتوى الصحيح والمضمون الحقيقي ، وهل دراسة المتون الحديثية إلاّ دراسة المتن ودراسة السند ، التي ينعكس على ضوئها مدى صحّة وسقم الخبر.

إنّ أهمّيّة علم الرجال نشأت نتيجة الظروف والعوامل التي أحاطت بالسنّة الشريفة ، ابتداءً من مرحلة منع تدوين الحديث في زمن الخليفة


الثاني ، ومروراً بحقد الدولتين الاُمويّة والعبّاسية ، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ هذه الهجمات العنيفة وحملات التزييف والتحريف والتشويه التي وجدت في ذراع الوهّابية وغيرها خير معين وذابّ عنها. كلّ هذه المحاور وغيرها قد اجتمعت لتجعل من علم الرجال على غاية من الأهمّيّة والخطورة.

والعلاّمة المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (رحمه الله) هو ذلك الرجالي المسلّط على هذا العلم من حيث مبانيه وأدواته تسلّطاً عميقاً ودقيقاً ، ممّا يلحظ ذلك على مؤلّفاته وتحقيقاته بشكل جلي وبارز ، الأمر الذي جعلها بالمكانة التي أهّلتها لأن تستقطب آراء العلماء والفضلاء وأهل الخبرة والبحث والتحقيق بالقبول والدعم والإطراء.

وله في هذا المضمار مراجعات كثيرة ، وكتب وتراجم عديدة لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، والتي قد استخرج المبعثر منها في بطون الكتب من مختلف المصادر السنّية والشيعية والفهارس والمخطوطات.

وكان (رحمه الله) في نيّته وعزمه إنجاز مشروعين على صعيد التراجم والرجال ، ولكنّ دعوة الحقّ حالت دون ذلك.

والجدير بالذكر أنّ تصحيح كتاب معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي (قدس سره) كان بعهدته وتحت إشرافه.

ولا يخفى على القارئ اللبيب والمطّلع الأريب وأهل البحث والتحقيق مدى إحاطته بالمباني الاُصولية والفقهية ، والتي أضفت على


آثاره درجةً عاليةً من المتانة والإتقان.

كلّ هذه المؤهّلات وجميع العلوم وكافّة التخصّصات والمؤلّفات التي ناهزت الأربعين مؤلّفاً والتحقيقات التي جاوزت العشرة والسيرة العطرة والأخلاق الرفيعة ، كلّها لا ترقى إلى ذلك الذوبان التامّ والولاء العظيم والانقياد الكامل والإيمان العميق بولاية أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، فإنّ الشعور العقائدي والحسّ المبدئي هما أغلى ما عرفناه عنه (قدس سره) ، فلا يكاد تصنيفٌ أو تحقيقٌ أو بحثٌ أو مطالعةٌ ـ تحريراً أو مشافهةً ـ إلاّ وقد عطّره بذلك الحسّ والشعور المنبثقين عن شدّة التمسّك وروعة الوفاء والإخلاص لأصل الإمامة والخلافة الإلهية التي منحها الباري عزّوجلّ لآل النبيّ الأطهار (عليهم السلام).

إنّ العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله) ما كان له أن ينال هذه المكانة والمنزلة وذلك الشأن والشموخ لولا الولاء الحقيقي والدرك الصحيح والفهم الصائب ، الممزوجة كلّها بأشرف مراحل الممارسة والتطبيق.

فغاية ما أردنا الإفصاح عنه هو الجمع بين تلك النفحة العقائدية التي صدّرنا بها الكلام وبين شخصية الراحل الفقيد ، والنتاج هو المصداق الفاعل والدؤوب لمن سار نحو درك الحقيقة إيماناً وتجسيداً.

معجم أعلام الشيعة

هذا الكتاب هو إضاءةٌ من إضاءاته التي أتحف بها حقول الفكر والفضيلة ، ولمسة من لمساته الخالدة على صفحات العلم أبداً.


وهو كما قال رضوان الله تعالى عليه بنفسه : تراجم أعلام لم يذكرهم شيخنا صاحب الذريعة (رحمه الله) في طبقات أعلام الشيعة. وذلك أنّي في خلال مراجعاتي لكتب التراجم والمعاجم وما أعثر عليه من تراجم أعلامنا ، اُقارنه بطبقات أعلام الشيعة ، فإن كان ذكر فيه سجّلت المصدر بالهامش ، فتكون من مجموع ذلك تعليقات كثيرة في كلّ قرن من الطبقات ، وإن لم أجده فيها كتبته في ورقة. ورتّبت أوراق التراجم على الحروف بدل الطبقات ، فأصبح معجم أعلام الشيعة (١). انتهى.

ومؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ التي عايشته أباً كبيراً وصديقاً حميماً ودليلاً مطمئنّاً ومشاوراً أميناً ومنفّذاً مخلصاً ـ من واقع الوفاء وعرفان الجميل ، إذ تقدّم لجمهور العلم والبحث والتحقيق جهدها المتواضع هذا ، لا يسعها إلاّ أن تعرب عن بالغ حزنها وعظيم أساها لهذا الفقدان الكبير ، الذي عرفته الطائفة علماً من أعلامها وشاخصاً مضيئاً من شواخصها المنيرة.

تغمّده الله بواسع رحمته ، وأسكنه بحبوحة جنانه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

__________________

١. اُنظر ترجمته (رحمه الله) المدوّنة بخطه والمطبوعة في مقدّمة كتابه : مكتبة العلاّمة الحليّ : ١٨ ـ ١٩.


مقدّمةٌ على كتاب أهل البيت في المكتبة العربيّة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين بارئ الخلائق أجمعين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمّد المصطفى وآله الأطيبين الأطهرين.

إنّ أصل الولاية هو من أهمّ وأخطر الاُصول التي لابدّ من دركها واستيعابها ، والعنصر الفاحص والموجّه لسائر عناصر الامتثال والانقياد الديني ، والدعامة التي ترتكز عليها الحقيقة المبدأية ، والمناط والمفترق الذي تتباين عنده الآراء ويتّضح به جوهر الأفكار والنظريات.

ولأجل سبر الغور في عمق هذا الأصل ومعرفة كوامنه ، خطى الإنسان منذ القدم مراحل الصراع المرير ، وسعى بالجهد الدؤوب إلى طرق أبواب الحقيقة ، وكابد في ذلك الأمرّين.

وبتكامل أطوار الرسالة الإلهية واستقرارها بالمحتوى الأتمّ سواء

__________________

١. مقدّمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث على كتاب «أهل البيت في المكتبة العربيّة» للعلاّمة المحقّق السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (رحمه الله).


بالنسخ أو الإحكام من خلال منقذ البشرية وخاتم الرسل والأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) ، تجلّت علائم الولاية وبرزت شامخة كالطود الأشمّ ; حيث إنّه (صلى الله عليه وآله) أرسى قواعد الرسالة المقدّسة وحصرها في محورين لا ثالث لهما :

الأوّل : كتاب الله ، أي القرآن الكريم.

الثاني : العترة الطاهرة ، أي الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).

ولدواعي كثيرة ـ أهمّها البغض والحسد وطمع الدنيا ـ نال المحور الثاني أشدّ الطعنات وأقسى الهجمات ، فقد نشأت منذ الفترات الاُولى التي تلت رحلة النبي (صلى الله عليه وآله) جبهات وتيّارات غاية همّها حرف الاُمّة وإبعادها عن قادتها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، ورميها في شراك الضلال والضياع.

ولا شك أنّ خوض المواجهة مع هذا المحور يعني بالضرورة إنكار المحور الأوّل ; لابتناء الحقيقة الدينية وتركّبها من كليهما ، فإمّا الأخذ بهما معاً وإلاّ فلا إيمان ولا اعتقاد.

وهذا الأمر لم يمنع الكثير من أهل الفكر والعلم والمعرفة ـ من غير الشيعة ـ من التصدّي لإبراز جوانب من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) التي تعكس رقيّ منزلتهم وعظمة شأنهم وغاية فضيلتهم ، وهذا ممّا يساهم في تفتّح العقول والأذهان في درك معنى الولاية والمنصب الذي منحه الله إيّاهم (عليهم السلام) ، ولا عجب في ذلك ، فهم الملاذ الذي تأوي إليه النفوس في زمن التيه والانحطاط ، ومُغني الأرواح في عصر البؤس العقائدي والتشتّت المبدئي.


والذين كتبوا وصنّفوا في أهل البيت (عليهم السلام) باللغة العربية ـ من غير الشيعة ـ لا يمكن حصرهم أو استقراء آثارهم في هذا المجال ، لكنّ الفقيد المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (قدس سره) بذل جهوداً كبيرة وخطا خطوات رائعة في جمع وفهرسة ما يمكن جمعه واستقراؤه من كتب وكراريس وأشعار ضبطتها أقلام غير شيعية ، في كتاب سمّاه : أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية.

وهذا المشروع الكبير والابتكار الرفيع استطاع أن يفتح نافذة واسعة على مؤلّفات تعكس قبساً من حياة ومنزلة آل البيت (عليهم السلام) التي طالما أخفاها موالوهم تقيّةً وأعداؤهم حسداً.

وكتاب أهل البيت هذا سبق وأن نُشر إلى قسم من حرف الميم على شكل حلقات في مجلّة تراثنا ، وذلك في الأعداد : ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ١٠ ، ١١ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦.

وقد أتمّه السيّد المحقّق (قدس سره) وأفعمه بإضافات واستدراكات قد جرى تثبيتها هنا.

ولمناسبة الذكرى السنوية الاُولى لرحيل هذا العلم الفذّ ، وللأهمّيّة البالغة التي يتّسم بها هذا الأثر القيّم ، قمنا بطبعه بشكل مستقلّ وبحلّة جديدة.

تغمّده الله بواسع رحمته ، وأقرّه عالي جنانه.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله المنتجبين.


كلمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) الواردة في كتاب

«المحقّق الطباطبائي في ذكراه السنويّة الاُولى»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله العترة المعصومين.

ليس بالإمكان ادّعاء الإحاطة بمعالم ومفردات شخصية نالت المكانة الرفيعة والمنزلة المتينة والشأن الشامخ في سوح العلم والفضيلة والتقوى ، وما كان بحدّ البساطة تحليل هذه السيرة العطرة بمجرّد قبضة قلم أو تركيز ذهن ولملمة فكر.

فإن كان المقصود استعراض ملامح هذا العَلَم واستيعاب المحاور التي ميّزته عن أقرانه ، فإنّ الأمر يستدعي تعميق البحث وتشطيره إلى أبواب وفصول وتفريعات ، ولا نرى ـ مع ذلك كلّه ـ أن نفي المقام حقّه ; ولعلّ الوجه في ذلك :

أنّ المحقّق الفقيد آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (قدس سره) قد صنع


بالسعي الحثيث والكفاح المرير والعزم الشديد محتوىً نفيساً من ألوان العلم والثقافة ، وأطّره بأُطر الوفاء والإخلاص ، فكان المعين الذي لا ينضب ، والحصن المنيع الذي لا ينهدّ ، والمجاهد الذي كابد في سبيل نشر علوم آل محمّد صنوف الأذى ومختلف الصعاب ، فكيف يمكن لنا بلوغ المرام ونيل المقصود؟!

ولمّا عسر علينا منح البحث نوعاً من الشمولية ، ارتأينا عطفه والميل به نحو واحدة من علائم هذا الراحل الكبير ، فنقول :

إنّ أهمّ ما امتاز به ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هو الكرم والسخاء العلمي ، فقد لا يتفطّن الكثير ما لهذه الصفة من فاعلية مؤثّرة ودور ملموس ونتائج مضيئة تثري الحياة الإنسانية وترفد الساحة الفكريّة بألمع عوامل الرقىّ وتساهم مساهمة عميقة في تخصيب مراتع العلم والثقافة وتشييد صروح المجد والازدهار.

وإن كانت الاُمم المختلفة قد مرّت عبر مراحل التأريخ المتفاوتة بحالات من النهوض والتطوّر ـ التي أكسبتها حضارةً وتقدّماً ورفعةً

ومنزلة ـ فإنّما مرجعها إلى تلك القواعد والبرامج التي رسمها رجالاتها من أهل العلم والمعرفة ، والذين منحوا اُممهم عصارة أفكارهم وجنّدوا عقولهم وأذهانهم لخدمة أهليهم وشعوبهم ، فتجسّد ذلك على صعيد التطبيق والممارسة حركةً نشطة وجهوداً عملاقة سارت بهم إلى الرفعة والشموخ بكلّ فخر واعتزاز ، حتى غدوا المثل الذي يحتذى به والنموذج الحيّ لمن يروم العزّ والعلا.


ولابدّ أن نذكّر بأنّ المقصود بالضرورة من متعلّق الكرم والسخاء هو علم القيم والمبادئ ، والمراد بالحضارة والرقيّ هو حضارة ورقيّ الاُمم في دركها لعقائدها والاُصول الثابتة التي تؤمن بها ، فلا يمكن لنا بأيّ حال من الأحوال أن نعتبر المفاهيم التي تؤدّي بالفرد الإنساني إلى أسفل مراحل الرذيلة والانحطاط علوماً أو أصحابها ذوي ازدهار ورفعة ، فالسموّ هو سموّ الفكر الذي يأخذ بالإنسان إلى أعلى درجات الشعور والإحساس السليم ، أمّا ما يجرّ إلى الانحراف والسقوط في المتاهات المادّية فلا يجعل من الإنسان إلاّ كتلة من الشهوة وانعدام الشعور وسلب الإرادة.

وإنّك إذ ترى رجالاً سخّروا عقولهم وأذهانهم وكلّ طاقاتهم لخدمة مبادئهم وقيمهم ، فإنّك تلحظ آخرين غيرهم بخلوا بعلومهم على اُممهم ، وقبضوا عليه قبض الأسد على فريسته ، فكانوا وبالاً وكيداً على أهليهم ، وظلّ التأريخ يلعنهم أبداً.

فالملاك كلّ الملاك في نموّ الفرد والمجتمع معنىً ومعرفة ، الذي تتفتّح قنواته ومحاوره عبر الدرك الصحيح والفهم السليم للعقائد الحقّة والموازين الثابتة ، وهذا مالا يتوفّر لأيّ أُمّة إلاّ إذا امتلكت علماء ومفكّرين يبذلون بكلّ جود وسخاء عظيم جهودهم وغاية طاقاتهم لغرض إحيائها وانتشالها من واقع الذلّ والضياع.

ويعدّ فقيدنا الراحل العلاّمة المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (قدس سره) واحداً من اُولئك الذين تجلّى فيهم الكرم العلمي والسخاء


الفكري بأجمل صورة وأدقّ معنى ، فهو مصداق الجود في ميادين البحث والتحقيق والثقافة ، والذهن المعطاء ، والعقل الذي ما امتنع من استضافة روّاده أبداً ، والأجود من ذلك أنّه كان يمدّ الآخرين بما استطاع عليه وإن لم يطلب منه ذلك ، أو كانت مشاريعهم ذات مشروعه ; ولا غرو في ذلك ، فإنّ تلك الصفات قد نمت معه بنموّ فكره وشمخت بشموخ همّته وعلوّ ذاته ; لإيمانه بمبادئ وقيم سعى طيلة عمره الشريف ومن واقع الإحساس بالتكليف الشرعي بالذود عنها والدفاع عن حريمها المقدّس ، فلم يألُ جهداً في اقتناء المزيد من العلوم وكسب الغزير من المعارف ، ثم ممارسة النشر والتوجيه وبرمجة الكثير من المشاريع والأعمال ، والتي تنصبّ كلها في خدمة المذهب والطائفة.

فكان (رحمه الله) العقل المدبّر والمشاور الأمين والدليل المطمئن ، الذي بقيت بصماته خالدةً على صفحات الفكر والفضيلة ، وقبساً يستنير به رجالاتها على مدّ العصور والدهور.

ومؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، كان الغرض من تأسيسها وإنشائها هو تحقيق جملة من الأهداف والغايات ، والتي من أهمّها : استقطاب علماء وفضلاء الحوزة العلمية والسعي للانتفاع من آرائهم ونظرياتهم.

ولم تتردّد المؤسّسة أبداً في منح غاية جهدها وصرف كبير طاقاتها لأجل الوصول إلى مقاصدها ونيل مرادها ، فكان أن ترجمت ذلك على


مستوى التطبيق والواقع ، فاستطاعت أن تمدّ عرى الترابط مع رجال الفكر والتحقيق والمعرفة ، وأن تفتح معهم أوسع القنوات وتبني أقوى المحاور ، فهم المرفأ الأمين والمنهل العذب والملجأ الكبير.

وقد أتاح نجاح هذه الخطوة شقّ الكثير من المنافذ ورفع العديد من الحواجز ، الأمر الذي ساهم بشكل فاعل ومؤثّر في طرح نتاجات رفيعة كمّاً وكيفاً ، وإنجاز المشاريع والأعمال التي يعسر القيام بها وإتمامها بهذا العرض الرشيق والمستوى المتين ، ممّا شهد له القريب والبعيد من كلّ حدب وصوب.

وبين الميزة التي امتاز بها السيّد المحقّق (رحمه الله) المشار إليها آنفاً ، وطبيعة الأهداف المنبثقة لأجلها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث والتي ذكرنا منها ما له صلة بالمقام ، تشمخ العلاقة الكبيرة والصلة الوثيقة والعلقة الروحية التي ارتبط بها الفقيد الراحل بالمؤسّسة ، فلا يخفى أنّه (قدس سره) قد سايرها منذ أيّامها الاُولى حتى لحظاته الأخيرة ، فأعطاها بقدر ما استطاع من كلّ ما اُوتي من علم وفكر ومعرفة وفضيلة ، فكان المبرمج والمشاور والدليل والمنفّذ ، حتى اعتُبر مرشداً روحياً وساعداً قويّاً أثرى المؤسّسة برائع إخلاصه وعظيم وفائه.

إنّ هذه الصلة الرصينة عبارة عن رحلة طويلة وقصّة شيّقة عاشتها المؤسّسة مع هذا العلم الفذّ لا تحيط بها السطور القليلة ولا تطويها فواصل البعد والفراق الكثيرة.


ولا ننسى تلك الرعاية وذلك الاهتمام اللذين كانا يوليهما (رحمه الله) لمجلّة تراثنا ، فكان لها ومنذ التأسيس حتى الفقدان والرحيل أباً كبيراً وموجّهاً قديراً ومبرمجاً خبيراً ، ناهيك عمّا أغدق عليها بروائع مقالاته ورفيع تحقيقاته ، فما كانت تطلّ المجلّة على روّادها من أهل العلم والتحقيق والمعرفة إلاّ ولمسة مضيئة من لمساته الخالدة قد زيّنتها وأضفت عليها طابعاً من المتانة والبهاء ، نعم إنّها بصمات الاُستاذ الفريد والمحقّق النحرير.

ونحن إذ نحيي الذكرى السنوية الاُولى لاُفول نجم من نجوم الفكر والمعرفة ، وعلم من أعلام الطائفة والدين ، نقول : إن كان لابدّ من كلمة تقدير وإطراء أو تجليل وثناء ، فكيف والكلم أعجز من درك المرام وبلوغ المقصود؟!

إنّه لم يمت ، وكيف يموت العطاء ويأفل الجود ويضمحلّ الكرم ويرحل السخاء؟!

كيف ، وقد بذل عصارة العمر لتروى بها سوح المبادئ والقيم؟!

لأجلك أيها العزيز تنزف القلوب ، وما عزاء الروح إلاّ مواصلة الدرب وبذل المزيد.

رحمك الله أبا جواد وأنالك واسع المغفرة والرضوان.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله العترة الميامين.


نعي العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين (رحمه الله) (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على خير الأنام محمّد المصطفى وآله الحُجج الأطهار أنوار الدجى.

كيف يمكن للمرء في لحظات حزنه الاُولى أن يرخي عنان اليراع كي ينمّق أحرف الشجن والأسى ، بل كيف له أن يروّض أمواج العبرات التي تتكسّر على شاطئ القلب لوعةً ووجدا؟!

وما عساه أن يقول في فارس لوّى القوافي ليّاً ، حتى انكبّت له خيل المفردات تطاوعه أنّى شاء وأبى.

وماذا نؤبّن؟ أنؤبّن فيه العلم والفضيلة؟ أم الشعر والأدب؟ أم الهجرة والجهاد؟

__________________

١. كلمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث بمناسبة رحيل العلاّمة الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين (رحمه الله).


نعم ، ترافقتَ أنت والرحيل كي تريح شعوراً مرهفاً وقلباً فسّرته الهموم والآلام تفسيراً.

هكذا شاءت قدرة المولى تبارك وتعالى ، فكان أن طالت يد المنون لتخطف ثمرةً طالما غذّت العشّاق بحسّها الدافئ وكلمتها الهادفة رؤىً من الحبّ والصفاء ممزوجةً بروعة الولاء والاخلاص.

نعم ، لقد غادر جمعنا هذا عَلَمٌ متأ لّق من أعلام الفكر والأدب والمعرفة ، وشاخص من شواخص الالتزام والاعتقاد.

رحل الشاعر الكبير والأديب الفذّ والباحث الجليل والاُستاذ القدير الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين إثر مرض عضال ألمَّ به لم يمهله طويلاً ، عن عمر ناهز السبعين عاماً ، صرف جلّها في اقتناء العلم والمعرفة وخدمة الدين ، حتى خلَّف وراءه نماذج رائعة وتصانيف جيّدة في مختلف فنون الفكر والأدب.


أربعينيّة العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين (رحمه الله) (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملك الحقّ ، والصلاة على الخاتم الأمجد والفخر الأرفع والناطق الأبلغ محمّد وعلى آله مهوى الأفئدة ، أسياد البشر ، والدرر الغرر.

لعلّ الخطب يهون لو كنّا نروم تسليط الضوء على جانب من جوانب شخصية العلاّمة الراحل الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين ، ولكن كيف وقد اجتمعت فيه ألوان العلوم وتلألأت في سمائه شتّى النجوم ، فالأمر صعب والترجيح مرير ...

أنكتب في نبله وشرف انتمائه وعراقة أصله؟!

فهو المنحدر من بيت النبوّة ، وسليل العترة الطاهرة صلوات الله عليهم ، والمترعرع في كنف العلم والفضيلة والتقى.

أم نكتب في شدة شوقه وتلهّفه لاقتناء العلم والمعرفة؟!

__________________

١. مقدّمة كرّاس «السيّد مصطفى جمال الدين بين التكريم والتأبين» الذي صدّرته مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث بمناسبة أربعينيّة الفقيه الراحل (رحمه الله).


فهو الظامئ الذي ما ارتوى من منابع الفكر والمعاني وبقي توّاقاً دوماً وأبداً لاكتساب المزيد من مناهل العقيدة ونميرها العذب.

إنّه الفاضل واللغويّ الكبير والمنطيق القدير ، صاحب المفاهيم العميقة والآراء السديدة ، الخائض في بحور التخصّص وأمواجها المتلاطمة خوض الخبير المجرّب الفذّ ، فيفصح عن راجحها ومرجوحها وسليمها وسقيمها ، بالنقض والإبرام ، إفصاح اللبيب الدقيق مع غاية في البيان وجمال الإتقان.

ولا ننساه سبّاقاً ساهم في إعداد جمله من البرامج التي تدعو إلى تطوير الاساليب والمناهج على مستوى الدراسات الدينية.

وإن شاءت الأنامل أن تكتب في شدّة إيمانه وروعة جهاده ...

فهو الموقف والكلمة الرافضة لكلّ ألوان الانحراف عن خطّ آل البيت (عليهم السلام) ونهجهم القويم ، الداعي إلى إزالة كلّ مواطن الذلّ والفساد ، وإن كان ساوم على مبدئه وعقيدته فما تراه قد هجر العراق وقلبه عينان تسكبان دماً وحزناً :

عينٌ تشبح إلى الوطن والأهل والأحبّة ، إلى جنان الأئمّة (عليهم السلام) والنجف وسوق الشيوخ.

واُخرى تذوب وهي تعايش البعد والغربة وأنين الفراق ومعاناة الرحيل بأمرّ المصاديق والصور ولكن دون ذلٍّ ورضوخ.

وبين شاهق العينين أملٌ يسمو وأحلامٌ تتراءى ، وما عزاء الروح إلاّ


القبض على جمرة الإيمان وصون الدين ، اللذين نمى بهما لحمه واشتدّ ساعده ، فأبى إلاّ أن يخلص لهما وينصهر فيهما.

وإن سار بنا المطاف أن نكتب فيه شاعراً ...

فهو بحقّ من أجلى وأوضح نماذج النفر الذين نزل بهم الاستثناء المنادى به في الآية المباركة : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * ... إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...) (١).

وهو المثال الساطع الذي بدّد غيوم الوهم وأزال العجب من أذهان الذين تساءلوا عن كيفية الجمع بين الدين والشعر ، فتراه القلب الذي امتلأ حسّاً مرهفاً وإيماناً عميقاً ..

وقد جهر بها مراراً : «إنّ دين الإسلام الذي ينسَب له التناقض مع الشعر استعان في شتّى مراحله بالشعر والشعراء. وإن كان يثار على الشعر مسألة التخيّل والمبالغة والكذب ـ الأبيض طبعاً ـ وغيرها من أدواته التي تقتضيها طبيعة أساليبه ، فإنّ الإسلام بإقراره للشعر فهو يقرّ لأدواته ولغته الخاصّة أيضاً».

ثم يذكر (رحمه الله) الكثير من الشواهد ، نشير إلى واحدة منها هنا ، وهو قول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) :

«إنّ من البيان لسحراً ، وإنّ من الشعر لحكمة».

نعم ، لقد جمع السيّد الراحل بين الإيمان الديني العميق والحسّ

__________________

١. سورة الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٧.


الشعري المرهف بأروع الصور وأجمل اللوحات ، فيكفيك أن تقف وقفة تأمّل قصيرة مع بعض قصائده الولائية لترى عمق هذا الترابط ومدى تماسكه ..

اُنظره كيف يحلّق بك في سماء الولاية وأصالة الانتماء حينما ينشد في الغدير وصاحبه (عليه السلام) :

ظامِئ الشِعر ، ههنا يُولدُ الشِعـ

ـرُ ، وتنمو نُسورُهُ وتطيرُ

سيّدي أيّها الضمير المصُفّى

والصراط الذي عليه نسيرُ

لك مهوى قلوبنا ، وعلى زا

دِك نُربي عُقولنَا ونَميِرُ

نحن نهواك لا لشيء ، سوى أنّـ

ك من أحمد أخٌ ووزيرُ

وحسامٌ يحمي ، وروح تفدّي

ولسانٌ يدعو ، وعقلٌ يشيرُ

ومفاتيح من علوم ، حَباها

لك ، إذ أنت كنزها المذخورُ

أمّا في قصيدته «الحسين» فهو يمزج الولاء والحبّ والإيمان بأرفع الدرجات وأمتن المعاني آخذاً بك إلى الطفّ وأحزان كربلاء وسبي العيال وصبر أبي الأحرار (عليه السلام) على ما ألمّ به من الظلم والمصائب ، حتى تكون النتيجة : أنّ جهاده (عليه السلام) كانت قبساً ونبراساً ودرساً بليغاً وطريقاً رحباً يهتدي به السائرون نحو الخير والهداية.

ولكلّ ما مرّ ، فإنّه ـ وكما صدّرنا به الكلام ـ من الصعب الإحاطة بشخصية العلاّمة الأديب الفقيد الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين.


ونحن على أعتاب مرور أربعين يوماً على رحيله ، كيف لنا أن نرثيه ولمن العزاء؟!

فإن كان أحدٌ أحقّ به فهي الطائفة التي فقدت فيه مفكّراً بارعاً وفاضلاً ماهراً ولغوياً كبيراً وشاعراً عملاقاً ، فكما قال هو (رحمه الله) :

كيف يرقى إلى رثاه البيان

وعلى شعره يعيش الزمان

لم يمت شاعر المعاني ولكن

هوّمت في ضلوعه الألحان

فلا يسعنا مرّة اُخرى إلاّ أن نعبّر عن بالغ حزننا لهذا الحدث الجلل ، وإنّنا إذ نشاطر الجميع همومهم وأحزانهم ، ندعو المولى تبارك وتعالى أن يأخذ به إلى رفيع درجاته وأن يسكنه عالي جنانه.


مصطفى جمال الدين بين التكريم والتأبين

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

الحمد لله الواحد الصمد والصلاة والسلام على الرسول المسدّد والمحمود الأحمد ، أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وعلى آله الأخيار الحُجج (عليهم السلام).

سادتنا العلماء الأفاضل ;

إخواننا الأماجد ;

لا يغيب عن الذهن ولا يخفى على البال الدور الذي يضطلع به رجال العلم والفكر والمعرفة في رفد الحركة الثقافيّة بعناصر ديمومتها وعوامل بقائها والتي تمثّل بلا شكّ الوجه الناصع لمنهج ومبادئ أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).

ويعدّ فقيدنا الراحل العلاّمة الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين الاُنموذج الدؤوب والمصداق الفاعل للعلماء الذين سعوا بكلّ حزم

__________________

١. كلمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل العلاّمة الدكتور السيّد مصطفى جمال الدين (رحمه الله).


وصلابة إلى مدّ الساحة الإسلاميّة بأرقى عوامل الثبات والتصدّي للكثير من المناهج المنحرفة.

ولا غرو في ذلك ، فهو المقتني للعلم والفضيلة من أصفى منابعها وأجلى سبلها بهمّة يعلوها الإيمان بقدسيّة المواجهة ، التي هي فرع الاعتقاد الراسخ بسلامه العقيدة وأحقّية المبدأ وضلالة العدو.

وهو العالم المعلِّم الذي جاهد في بثّ ونشر ما اكتسبه من ألوان الفنون والمعرفة بأجمل وجه وأروع صورة.

فقد صنّف ـ رضوان الله تعالى عليه ـ من الكتب القيّمة والآثار الجليلة في مختلف المحاور ، الأمر الذي يكشف عن رقيّ منزلته العلميّة ومكانته الجليلة.

فمن مؤلّفاته :

البحث النحوي عند الاُصوليّين ، وهي اُطروحته التي نال عليها شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد.

ومنها : الاستحسان حجّيته ومعناه ، الذي هو من المباحث الاُصوليّة التي فنّد فيها ـ رحمة الله عليه ـ الاستحسان بالدليل والبرهان.

ومنها : القياس حقيقته وحجّيته ، الذي هو من مباحثه الاُصوليّة أيضاً التي أبطل بها القياس بأوضح بيان.

ومنها : الديوان ، الذي هو عبارة عن ثلاث من مجاميعه الشعرية : عيناك واللحن القديم ، الحان الغربة ـ وهي قصائده التي نظمها في المهجر ـ قصائد عشتها.


ومنها : الإيقاع في الشعر العربي ، الذي يبحث فيه أوزان الشعر العربي.

ومنها : محنة الأهوار والصمت العربي ، الذي تعرّض فيه إلى ما يمرّ به أهل الأهوار من جنوب العراق من الظلم والتعسّف دون أن يجدوا لمآسيهم اُذناً صاغية.

ومنها : عيناك واللحن القديم ، الذي هو أحد دواوينه المطبوعة سنة ١٩٧٢م.

ومنها : بحث في العين المرهونة ، الذي هو دراسة في الفقه المقارن.

سادتنا العلماء الأجلاّء ;

إخواننا الأكارم ;

لا ريب أنّ التلاقح العلمي هو من أهم الركائز التي تساهم مساهمةً مؤثّرة وعميقة في تنشيط الحركة الثقافيّة والفكريّة ، وفي دعم الجهود المنادية بصيانة ونشر الاُصول العقائديّة الثابتة التي لا تقبل الذلّ والمساومة بأيّ وجه من الوجوه ، الأمر الذي يحفظ للاُمّة وجودها ويرسّخ قيمها ومبادئها.

وانطلاقاً من الأهداف النبيلة التي نشأت من أجلها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ التي تعدّ الاستعانة بآراء رجال العلم والفكر والفضيلة ، وعمليّة استقطابهم والمشورة معهم ، من أركانها الثابتة الأساسيّة ـ فإنّ لنا مع الفقيد الراحل ارتباطاً فكريّاً شمخ وتوالى عبر


السنين الطوال وأينعت له ثمارٌ وثمار.

ولفصليّة «تراثنا» مع الفقيد الراحل مشوارٌ ومشوار ، فمرّة تراه الكاتب الذي غذّاها ببعض روائع مقالاته وكتاباته ، واُخرى تراه المشاور الأمين والناقد الحريص الذي لا يهمّه سوى تطوير برامجها وتقوية محاورها.

ولا عجب في ذلك ، فهو الباحث القدير والفاضل الجليل الذي أضفى على حياته العلميّة بشتّى ألوانها روحاً تحقيقيّهً فتحت نافذة واسعة برز من خلالها علوّ كعبه وعظم شأنه.

وهكذا يتجلّى للعيان نوع العلاقة التي ارتبط بها جمال الدين ـ المحقّق ـ بمؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) ، التي تكنّ له بالغ الاحترام وكبير المنزلة ، والذي منحها بدوره روعة المديح وطراوة الثناء بأصدق حسٍّ وأروع شعور مبدياً إعجابه باُسلوبها الفريد ومنهجيّتها المبتكرة في عالم التحقيق ، ألا وهو اُسلوبُ العمل الجماعي الذي تبنَّتْه المؤسّسة في إنجاز أعمالها العلميّة والثقافيّة.

وله في ذلك أبياتٌ معروفةٌ لا يسعُ المجال لذكرها هنا.

كيف لا؟! وهو الشاعرُ الكبيرُ والأديب المتأ لّق الذي عرفته سوح الشعر والأدب فارسها المهيب ، وشمسها التي لا تغيب.

تغمّده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنّاته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أبوحسن مجلّة (١)

أرخصتُك دمعي كونك أغلى وأرقى ، حفرتك في ذاكرتي مصداقاً أستفيق به كلّما شغلتني دنياي عن آخرتي.

سكنتَ قلبي دون استئذان .. خالطت مشاعري بأبهى عنوان.

ماذا يجدر بي أن أقول فيك أيّها الغريب الذي أعرفه ، أيّها القريب الذي أجهله .. يامن رفضت ألاعيب المسارح والاستعراضات وميادين الظهور .. لكنّك ألقٌ رغم الستار ، ممشوقٌ رغم الغبار ; لِمَ لا؟! وأنت الذابّ عن حمى الولاية بذاك الثبات.

سافرت لتترك فينا لوعةً وروعة : لوعة المصاب وحزن الفقدان .. روعة الإنسان الذي أحببنا فيه النقاء والإيمان.

أبا حسن! ستظلّ حيّاً مادام نتاجك في الحقّ حيّاً نابضاً ومادامت ذرّيّتك الصالحة تقتفي أثرك وتسير على ذات الدرب الذي سلكته في سوح العلم والمعرفة ذوداً عن الحقيقة المظلومة.

__________________

١. أبو حسن ، السيّد محمّد عليّ الحكيم ، مدير فرع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) في دمشق / سوريا ، الباحث ، المحقّق ، الكاتب ، كان لفترة طويلة مسؤول مجلّة تراثنا التي تصدرها مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) ، حتى تلازمت كنيته معها. كتبتُ هذه الكلمات بمناسبة رحيله رضوان الله تعالى عليه.


ريحانتي

ابنتي ، نور عيني ، ثمرة فؤادي ، نبض القلب المحزون والفكر المشحون .. حبيبتي ريحانة ، مدلّلتي غرّيرتي ، رغم الشمعتين من عمرك الجميل ، وجدت فيكِ ما لم أجده في غيرك ، وعثرت فيك ما لم أعثر عليه في غيرك ، فلطالما احتجت الحبّ والحنين أيّام غربتي وليالي وحدتي ، ففتّشت الأماكن والعيون وكلّ ما استطعت من القلوب والعقول فما حصلت على ضالّتي ومرادي ، قَسَتْ عليَّ الاحتمالات بأجمعها ، فبقيت أنا وآلامي أنوء بوحشة العزلة ومرارة الجفوة ... وها أنتِ تجيئين لتضمدي جراحاً عتاق ، وتزيلي عن جبيني معاناة الوحدة والفراق ، وتغذّيني بحنين كحنين النياق.

فياوردتي هلاّ تكبرين؟ وهلاّ يكبر الورد فيزداد عطراً وجمالاً؟ وهلاّ تشمخين ، فلا يشمخ إلاّ العزّ والنبل بشموخ المعارف والأخلاق ديناً وولاءً .. ابتهلتُ ولازلت أبتهل في دعائي أن تكوني على غاية من السلامة : سلامة الجسم والروح والفكر ، على غاية الجمال : جمال الخلقة والأخلاق والبصائر ، على غاية من النجابة : نجابة النفس والثقافة


والمبادىء .. فكوني كما ينبغي أن تكوني ، وجاهدي كي تصيري كما يجب أن تصيري ، تهزّك الفطرة وترجعك الفطرة وتهديك الفطرة وتنجحك الفطرة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها.

في لهفة أنا ، في شوق غامر ، إلى ذلك اليوم وتلك اللحظات والحالات التي تستطيعين بها درك كلماتي وفهم مقاصدي ، فإن كنتُ على قيدالحياة فسعادتي لا توصف ، وإن كنت رحلتُ عن هذه الدنيا فرجائي أن تحفظي وصيّتي وعهدي وتكوني الفتاة والمرأة والزوجة والاُمّ والطاقة التي يُحتذى بها.


ذلك الشيخ الكبير

مذ بدأت فهم الذي يريحني ويزعجني وددتُ لو أتفوّق في كلّ شيء حتى يشار لي بالبنان ، وتنطق الأفواه بمدحي وإطرائي ، فيعلو كعبي ويذيع صيتي ، وأتفرّد بين الناس بخصائص يفتقرها الآخرون.

خصائص الجمال والقوّة كانتا شغلي الشاغل ، وصرت أرى حينها أنّ توفّرهما يكسباني الذي أحلم به وأتوق إليه ، وقد أوليتهما اهتماماً خاصّاً ، وما كنتُ السبّاق فيهما لكنّي لم أكن متأخّراً بهما.

كلّما سارت قافلة السنين كلّما شعرت أنّ الذي أطمح وأصبو إليه شيءٌ آخر.

ولن أنسى أبد ما حييت تلك الألفاظ المشينة التي أسمعني إيّاها أحد كبار السنّ لمّا وصفني وأنا في تلك الأعوام الاُولى من العمر بما يوصَف به البلهاء الأغبياء ، كانت بمثابة البركان الذي هزّ وجودي وجرحني في الصميم رغم صغر سنّي ; إنّها كلمات جاوزت الأربعين عاماً لكنّها لم تزل حاضرةً في عقلي وقلبي وحناياي ، تؤلمني على الدوام ، لازالت تغلي في


دمي وشراييني. كلّما أعود إلى الوراء أجد ذاك الشيخ قد أشعل في أعماقي جذوة الغضب والرفض والانتقام ، الغضب للكرامة المهدورة والمشاعر المجروحة والرفض لتلك الألفاظ القاسية التي كادت تطيح بآمالي وأحلامي وكلّ شخصيّتي ، والانتقام من خلال إثبات الخلاف.

ولعلّي إن حاولت دراسة تلك الأوصاف التي نُعِتُّ بها من باب علميٍّ نقدي فسأقتنع أنّ الأمر جار ضمن النسق والمنهج المعرفي الذي يتبنّى الفكر النقدي على أنّه عامل بناء لا هدم ، حتى وإن كان ذلك الشيخ الكبير لم يكن يعلم معنى الفكر النقدي وأدواته المعرفيّة ، لكنّه منحني الحصيلة التي تنتظم ضمن هذا السياق والمحتوى ، وأنا أيضاً لم أكن أعي الفكر النقدي وأدواته وخصائصه ، إلاّ أنّ معالجتي للمشكلة قد شكّل ـ بالإضافة إلى النقد المذكور ـ عبر نتائجها الملموسة معادلة متكاملة من البناء ; إذ آليت على نفسي ألاّ أهدأ عن التعلّم بشتّى الطرق والأساليب مادمت قادراً عليه.

إنّ كلمات ذلك الشيخ الكبير باتت الأصل الذي يتّكئ عليه حسّ الانتقام المعرفي في كياني وذاتي ووجودي ، وصارت الانتقادات التي تليها جارية على ذات النسق ، تزيد فيَّ همّة التعلّم ، ولم أكتف بالانتقادات على صورها المعروفة بل صرت ـ مثلاً ـ أرى في نجاح الآخرين بمشاريعهم العلميّة والثقافيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة انتقاداً غير مباشر لي ولبرامج أفكاري وآرائي ، التي وجدتها في أكثر الأحيان دون المستوى الذي يتناسب مع حركة العقل والفكر.


وأعترف أنّي عانيت ولا زلت اُعاني من قلّة العمق أو عدمه في تصوّراتي ومطالعاتي إثر فهمي السطحي للقضايا والمسائل ، التي لابدّ من استيعابها استيعاباً متكاملاً قويّاً ، ولعلّ سبب الضعف هو الاغترار بالمرور على عناوين ورؤوس الأفكار وحفظها دون الولوج في أغوارها وفهمها وفكّ رموزها واستنطاقها ومقارنتها وتحليلها.

إنّ جنوحي منذ أكثر من عقد إلى الفكر النقدي أوجد في ثقافتي تحوّلاً استدعى شروطاً لابدّ من تحقّقها حتى أنال إمكانيّة دركه ثم التعامل به ، الشروط التي تعني التلقّي الصحيح والشموليّة والتسلّط على الأفكار والمباني وتوفّر عناصر المراجعة والبعثرة والحفر والمقارنة والاستنطاق وقراءة ما خلف النصّ والتحليل والاستنتاج ، ثم إجادة عناصر الطرح والخطاب .. كلّ ذلك بناءً على حفظ الاُصول والثوابت ، وعلى كون الفكر النقدي عمليّة بناء لا هدم تجري ضمن مناهج وأنساق علميّة معرفيّة كما أشرنا إليه ، وهذا ما يتطلّب جهداً فكريّاً كبيراً وعملاً دؤوباً مشفوعاً بالرغبة والأناة والهمّة والعشق والأمانة والمسؤوليّة والإيمان.


قالها ورحل

قال لي كلمات لا أستطيع تذكّرها بالضبط ; إذ مرّ عليها زمن طويل ، لكنّي لازلت أحفظ معناها والمراد منها ، وليس ضروريّاً كشفُ النقاب عن هويّته بقدر بيان فحوى ما أسمعني إيّاه.

لم أتجاوز العاشرة من العمر حينها .. ألهو وألعب وإذا بسهامه تجرحني في الصميم وأنا طفلٌ صغير .. قذفني بما يخدش عقلي وينال منّي ، وصفني بما يباين الفطنة والذكاء الإنساني. منعتني طفولتي وبراءتي ـ كأقراني ـ من الذبّ عن نفسي والدفاع عن حقوقي. أضمرتها في قلبي وحناياي ناراً تلتهب وحمّىً تستعر.

كلّما يصلب عودي وتكثر أيّامي أعود فاُراجع ما مضى منها ورحل ، مراجعةً ساهم ببناء مشروعها في ذاتي وكياني ذلك الرجل العجوز بكلماته القلائل تلك. قالها ومضى إلى سبيله ، أنجز ما أراد إنجازه ببضع ثوان ، إلاّ أنّي بقيت العمر كلّه أنوء بحمل ثقيل. افترضتُ في كلماته ـ لمّا كنت اُكرّر المقصود منها ـ التحدّي أو النقد ; إذ لا مخرج لي ـ للحفاظ على كرامتي ـ سوى حمل المراد منها على ذلك ، حملاً شيّدته أنا كي اُخرج


وجودي من حيّز المحنة النفسيّة إلى فضاء معالجة الألم والمعاناة.

نعم ، منذ ذلك اليوم وإلى يومي هذا صار لي مع النقد والتحدّي ألف ملفّ وألف حكاية ، ملفّات وحكايات تكتنف أسراراً وألغازاً وتأريخاً من الأخطاء والغفلات والكبوات المتبوعة بمراجعات ومقارنات واستقراءات وتحليلات واستنتاجات.

قالها ذلك الرجل العجوز ورحل ، لكنّه لا يعلم عظيم الفضل الذي أسداه لي ، وأ نّي لأحسبها عنايةً ولطفاً خصّني الله بهما ; إذ بتلك الألفاظ التي تمتم بها ذلك الشيخ الكبير قُدّر لي أن أحفظ الهدف في أعماقي وحناياي طيلة أعوامي ، ليتحوّل روايداً رويداً إلى واقع اُعايشه وألمس بركاته.

حمداً لك يا ربّ ، فلقد غدت كلماتٌ ما شعلةً ونبراساً يضيىء لي الدرب ويعبّد طريق البحث عن الحقيقة الخالدة.

فمَن قال : إنّ النقد هدّامٌ مطلقاً؟! إنّ النقد إذا صدر صدوراً منهجيّاً علميّاً أو تُلقّي تلقّياً صحيحاً سيكون برنامج بناء ونمو. وليس كلّ سهام النقد جارحة قاتلة ، فإنّ منها ما يشاد على جراحها صروخٌ شامخةٌ تعلن التحدّي وتحيي الأمل وتبعث الحياة من جديد.

علينا جميعاً السعي الجادّ لبناء الاُسس والقواعد وإيجاد الأدوات والآليات التي تساعد على ترويج ثقافة النقد العلمي المنهجي وتشكيل فضاءات من الرصد والمراقبة ; إذ النقدُ فكرٌ ومعرفةٌ ومعيارٌ ومحرارٌ


وضابطٌ ومقياسٌ ونقطة توازن وموجّهٌ ومانعٌ من الانحراف وحافظٌ للاُصول والقيم والمبادئ.

وليس النقد البنّاء امتهاناً للمفاهيم والثوابت والكرامة الإنسانيّة كما يعتقد البعض ، بل هو نوعٌ من أنواع الإمضاء والقبول والتبليغ والحماية والترسيخ للقيم النبيلة والمبادئ المقدّسة. وما يخشاه إلاّ الذين يخشون الجوهر والأصل والعمق ويتشبّثون بالقشور والمظاهر والشعارات الخاوية.

كلّ الكتب السماويّة والرسالات الإلهيّة والمذاهب والتيّارات والفرق والطوائف اتّخذت من «النقد» عاملاً محوريّاً في الظهور والانتشار والبقاء والنمو. وإذا ماارتقى فكر وازدهرت نظرية وتلألأت حضارة واتّسعت قيم فلا شكّ أنّ «النقد» أخذ فيها مكانه الطبيعي.

إنّ رواج ثقافة النقد السليم يعني انحساراً لثقافة المظاهر والقشور والشعارات الخاوية ، وتراجعاً للاستبداد والظلم والانحراف ، وانهزاماً للصنميّة والببغائيّة والحربائيّة والتزلفيّة والرغبات الذاتيّة الشهوانيّة.

لا ريب أنّ «النقد» مؤلمٌ جارحٌ حال ظهوره وانتشاره ، لا يعالجه سوى منهجُ التعامل الصحيح ، فإذا كان المنهج انفعاليّاً عاطفيّاً كانت النتيجة فشل التعامل والمعالجة ، أمّا إذا كان علميّاً عقلانيّاً يعتمد المعايير والأدوات السليمة كانت النتيجة نجاح التعامل والمعالجة.

وأساس الفشل والنجاح يعود إلى خصائص المحتوى ، فإن كانت


الخصائص والمحتوى دون مستوى النقد كان الفشل ، وإن كانت بمستوى النقد أو أرفع كان النجاح. إنّها إذن أشبه بالمعادلة الرياضيّة ، بل معادلة منطقيّة لا تقبل النقاش.

إنّنا نمتلك المحتوى والخصائص الكافية لكنّنا بحاجة ماسّة إلى الأساليب والأدوات والوسائط والأوعية الناقلة للمحتوى نقلاً وإيصالاً أميناً مطمئنّاً .. نعاني من ضعف مفرط في الوسائط والآليات وافتقار شديد للأدوات ولاسيّما تلك التي تناسب المكان والزمان وتحفظ في ذات الحال الاُصول والثوابت.

إنّ هذا الضعف قد انعكس سلباً على المحتوى ، ومظلوميّة المحتوى نتحمّل نحن مسؤوليّتها حينما اتّخذنا الصمت والمدارة والمسايرة اُسلوباً خاطئاً في مواجهة ثقافة القشور ; فهذا الفكر السامي والرسلة العظيمة قد اُنتهكت حرمتهما واتُّهما بما لا يمتّ لهما بأيّة صلة ، ذلك بسبب ضعف الحركة والأدوات الوسائطيّة عندنا.


رقابة النقد البنّاء

كثيراً ما تتحوّل معاناة الإنسان وهمومه ـ الراشحة عبر الملاحظة بشتّى أدواتها وآلياتها ـ إلى فكرة تأخذ مجالها ومتنفّسها من خلال المشافهة أحياناً والتدوين طوراً والفعل ثالثاً ; وإذا ما ظلّت حبيسة فضائها فإنّها قدتنفجر فتدمّر ذاتها وما حواليها ، بل ربما يصل مدى التدمير شعاعاً نجهل حدوده ومساحاته وأحجامه.

لذا فمن الضروري الاحتكام إلى العقل ومخزون الذهن لترويض الحنايا وأعماق الشعور بواسطة عقد حوار ذاتي تشترك فيه جميع فصائل الذات للخروج بحصيلة منهجية عمليّة ، الأمر الذي يستدعي استخدام مراحل الاستدلال المعرفيّة من مراجعة وإعادة قراءة ومقارنة وحفر واستقراء وتحليل وفحص ، آنذاك تنعقد الفكرة وتشقّ طريقها نحو البروز متجاوزةً «الثبوت» صوب «الإثبات» و «التصوّر» نحو «التصديق».

إذن كيف بي أن أجعل من معاناتي وهمومي فكرةً تسهم في الرقيّ البشري والوجود الإنساني؟


لن يصنع العنف والصدام رقيّاً ولا الترويع والحذف مجداً ، إنّما الكلمة الطيّبة سحرٌ يخترق العقول والقلوب على السواء ، ويا حسرتي فغالباً ما أفتقد القدرة على استخدام الكلمة الطيّبة فأخسر الكثير واُضيّع ما جمعته وربحته في سالف أيّامي.

الكلمة الطيّبة : فكرةٌ ومبدأ وقيمة وأخلاق وبيان وأناة ومنهج ومعرفة ...

فليس من الصحيح استغلالها مجرّد عنوان نتغّنى به ونتّخذه شمّاعة لمظاهرنا ومسارحنا واستعراضاتنا وشعاراتنا وقشورنا الفارغة المحتوى ورغباتنا الذاتية الجامحة.

حينما يعلو السفلي ويطفح الزبد ويشمخ النفاق وتتأ لّق الحربائيّة وتفوز الصمنيّة وترتفع الببغائيّة وتُحتَرم التزلّفية ، وتغيب الاُصول ويستهان بالحبّ والإخلاص والمبادئ والأخلاق ; يجب أن أصنع من الألم والمرارة : فكرةً تجابه الانحطاط والانحراف ، فضاءات نقد بنّاء وآفاق «نفس لوّامة» تعيدنا إلى ثوابتنا الرفيعة ومفاهيمنا النبيلة.

لسنا أعداء بعض ، إنّما كلّ واحد منّا يرقب صاحبه ، فالرقابة تخرجنا من حُفَر الاستبداد والتعسّف والرغبة الذاتية والكبر والغطرسة ... إلى قلل العدل والعقل الجمعي والأخلاق الحميدة ... تفتح لنا آفاقاً رحبةً نحو النموّ والازدهار بكلّ ثقة وعزم وثبات.

إنّ غياب الرقابة والنقد البنّاء يجعل فرص التقدّم نادرةً كالعدم ; إذ


يستحوذ العقل الفردي على شتّى الاُمور وتتدخّل الرغبة والشهوة في حسم القضايا ، فتضيع الاُصول والقيم والموازين ، ممّا يعدّ مؤشّراً خطراً ينذر بالتخلّف والتراجع ، مع ما له من عواقب وخيمة على شتّى الميادين والمجالات.

إنّنا يجب أن نستلهم من آلامنا وهمومنا ومعاناتنا وملاحظاتنا فِكَراً ورؤىً تسند العقل الجمعي وتسهم في إعادة كلّ شيء إلى مركزه الطبيعي ، على قاعدة القيم والمبادئ والاُصول السليمة.


وقفة نقديّة / ١

فلينتبه الجميع ويستوعبوا مغزى أن تقول كلمتك شفّافةً قويّةً تحمل بين طيّاتها هموم الآخرين واستفهامات الناس وحرص النخب ، موجّهاً إيّاها إلى مَن يمرّ بقمّة المجد وذروة التأ لّق والقدرة والنفوذ ، تقولها غير آبه بالعواقب المترتّبة والنتائج الحاصلة ، ما دمت قلتَ شيئاً طالما اقتنعت به وذدّت عنه وكشفته تدريجيّاً تبعاً لحاكميّة الظرف ، حتى سنحت الفرصة لتدلي به مجتمعاً رغم بعض الاُمور التي كان لابدّ من ضمّها وإضافتها إليه لكن الغفلة والنسيان تحولان دون ذلك على الدوام.

كلّ منّا يعمل بما هو مكلّف به ، وقد وجدت لزاماً عليّ العمل بما ينبغي عمله ; انطلاقاً من المسؤوليّة التي أثقلت كاهلي كثيراً ; وإزاحةً للهمّ الذي كان جاثماً على صدري ، فلا يمكن أن أرى وأسمع وألحظ دون فعل شيء ما ، إلى ذلك أكون بخطوتي تلك قد ساهمت قليلاً في إلغاء حجّة عدم العلم والانتباه والاطّلاع على القضايا المعهودة. وما كان في حساباتي الحصول ـ بعملي هذا ـ على إطراء ومدح أو التعرّض للوم وذمّ ،


إنّما هو الواجب والتكليف الذي حتّم عليّ التحرّك لفعل شيء ما ، بقدر ما يسمح به الظرف والمقام.

أقدمت على خطوتي وأنا واضع في الحسبان أسوأ الاحتمالات وأصعبها ، وبالفعل فقد مررت بمقاطع مرّة وعصيبة لكنّي بفضل الدعاء والقناعة حافظت على تماسكي وإصراري على موقفي. لقد زادني الله تبارك وتعالى ثقةً بالنفس ومنحني طمأنينةً وأماناً وراحة بال لم أكن أحسبها أبداً.

بدأت رويداً رويدا أطلّ على فضاء الأحداث إطلالةً أكثر إشرافاً وإحاطةً بعدما كنت منغمساً مندكّاً فيه بشكل أكاد أفتقد الوضوح والواقعيّة والإنصاف ، فصرت أعقد مقارنةً واستقراءً ومراجعةً وتحليلاً ، ما كان يمكن أن تكون بهذه الكيفيّة سابقاً. أعترف بجنوحي إلى تغيّر في النظرة والمواقف بعدما كنت ذلك المتحمّس الراديكالي بعض الشيء ، لا أدري فلربما قادني البحث والتأمّل إلى مزيد من الجنوح نحو الوسطيّة والاعتدال.

العيّنة التي ألمسها على الدوام عيّنة اللاهثين خلف الذلّ والذيليّة ، خلف الرغبات الرخيصة والأماني القصيرة ، خلف المظاهر الزائفة والشهوات التي لا تدوم.

أن يهوي المرء إلى أدنى الحضيض وأسفل القاع لأجل حاجة ما ، أمل ما ... فإنّها تجارة العبيد الذين باعوا العزّة والكرامة الإنسانيّة بثمن بخس.


إنّما المرارة أن تُعدّ أنت أيضاً في قافلة هذه الشرذمة المعهودة ; إذ قد يصعب على الناس الفرز والتمييز إزاء هذا الكمّ الهائل من المتزلّفين والببغائيّين والحربائيّين والصنميّين ... فلا يبعد أنّهم كانوا ـ أو لازالوا ـ يحسبونك كذلك من اللاهثين المعهودين.

يبقى شيء واحد ، فالأيّام كفيلة بزوال الخلط والوهم والضبابية والتردّد ، وللناس حقّ في ذلك ; فإنّهم إزاء فضاء واحد ، فالتفكيك والتجزئة صعبة جدّاً عليهم.

لست موافقاً لكثير ممّا يقوله الناس بشأننا ، فبعض التقوّلات تصل حدّ الافتراء والكذب والظلم .. غير رافض لبعضها الآخر وإن كان يحمل بين طيّاته قدراً من التضخيم والمبالغة.

والمؤسف حقّاً اعتقادنا بكون الناس لا يدركون ولا يكشفون الحقائق ، متناسين أنّنا من خلال فلتات ألسنتنا ـ وما أكثرها ـ نمنح الحجّة كي يقولوا فينا ما يقولون ; حيث يأخذنا الغرور ـ مثلاً ـ والغطرسة والمباهاة في حالات من الشعور واللاشعور ، فنسرد القصص كي يقفوا على مراتبنا ومكانتنا واعتبارنا وأهمّيّتنا وإنجازاتنا ، سرداً لا تغادره اللذّة والنشوة والكبرياء ، وهذا بحدّ ذاته كاف في تحقّق المطلوب لدى المتصيّدين في الماء العكر. إلى ذلك مظاهر حياتنا وأساليبنا المجافية للاحتياط ، كلّها تمنح الفرص المناسبة للنيل منّا نيلاً قد يكون أحياناً بحقٍّ وإنصاف واُخرى بظلم وإجحاف.


ولعلّ «الفضاء» الحاكم فينا وعلينا قد أوجد المبرّرات الواسعة لبروز هذه الظواهر والأفعال والأساليب. نعم ، إنّه الموروث الذي نرزح تحت وطأته منذ أمد بعيد ، مضافاً إلى استغلال المسائل العَقَدية في تدعيم هذا الموروث المؤلم ، بل تجاوزنا ثوابتنا واُصولنا وعَمِلْنا بما نقول ببطلانه من أجل بلوغ المقاصد والمرامي ، فمسحنا على أنفسنا مسحة صلاحيّات أقطاب الدين والشريعة ، وصرنا نقيس ما ليس لنا بما للمعصومين عليهم السلام من خيارات وحدود وإمكانيّات ، مع السعي منّا لإيجاد التوجيه العَقَدي والفكري الذي ينطلي على الكثيرين.

وبالطبع فإنّ كلّ الأضواء تكون مسلّطة على نقطة واحدة.

من هنا يصبح ارتفاع صوت أو أصوات تنادي بالإصلاح والتعديل والتغيير ، غير مألوف وسط فضاء يعجّ بثقافة محدودة الآفاق ، ولاسيّما مع وجود شرذمة ترى مصالحها مرهونة بدوام هذه الثقافة وما يترتّب عليها من آثار ولوازم ، الثقافة التي تحتاج إلى أدوات ووسائل ووسائط لتثبيت ركائزها واُسسها ، هم أدواتها ووسائلها ووسائطها ، ولكلّ شيء ثمن ، فمادام الملاك «هل امتلأتي» و «الرغبات الذاتيّة» ، فليكن الثمن ما يكون.

وفي خضمّ بروز الانتقادات والملاحظات على هكذا ثقافة يدخل الجميع مختبر القيم والمواقف والعزّة الإنسانيّة ، فينجح قوم ويفشل آخرون ، وتنكشف حقائق ، ويزاح الستار عن المخفيّات ، وتعرف


المزيّفات ، ويتعرّى الذين كانوا يتلبّسون بلباس الوقار والمتانة والمنعة والإباء والاستقلاليّة ، فتتجلّى الذيليّة والحربائيّة والببغائيّة والصنميّة ... شفّافةً أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى.

وليعلم الكلّ أنّ خطوة النقد لم تكن الاُولى والأخيرة مادامت هنالك مبادئ لا تحتَرم وقيم تندثر وظواهر خطرة تنمو وتنتشر.

وليس القصد سوى الحفاظ على المنجزات الطيّبة والسير نحو الأمام بخطى راسخة وعزم أكيد من خلال إرساء الفضاءات المناسبة ، الصحيحة والحقيقيّة ، المؤمنة بأصل القيم والمبادئ لا بالظواهر والقشور ، بالتلاقح والاستشارة ، لا بالاستبداد والاختناق ، بالعمل الجادّ والإخلاص والحبّ ، لا بالأساليب المرفوضة ، بالمعنويّات ، لا بتحكيم المادّة كقدرة مهيمنة في كلّ شيء وعلى كلّ شيء.


وقفة نقديّة / ٢

أعيش فضاءً فيه الصلاة والصيام والخمس والمروءة قائمة كما هي الشهوات والرغبات والمنّة والخذلان ومظاهر الدنيا فيه قائمة ...

أيّ فضاء هذا الذي يجمع المتخالفات المتباينات؟! ماذا يوصل من إشارات ومفاهيم ومعطيات؟

لِمَ اجتمعن سويّةً ، ألاِجلِ أن يحمي بعضها البعض لإيجاد المسوّغ والدليل ، فيتسالم الناس عليها ويقبلوا بها؟ وهل يمكن الأخذ بالسليم المختلط بالسقيم ولاسيّما بلحاظ الإيمان ببعض وعدمه في البعض الآخر (١) ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المحاسبات الإلهيّة الدقيقة لا تغفل حتى الصغيرة المستهان بها عندنا (٢)؟

ليس المهمّ كلّ ذلك بقدر أهمّيّة المحصّلة النهائيّة التي تقرّر الفلاح أو الضلال ، الفوز أو الخسران ، السعادة أو الشقاوة ، دار النعيم أو دار البوار.

__________________

١. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض).

٢. (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا).


هناك .. هناك ، لا ضحك على الذقون ، فلا خفاء ولا إخفاء ولا ظاهر ولا باطن ، كشفٌ ليس بعده كشف ، وحقائق ما فوقها حقائق ، وبمجرّد التفكير بهذا الأمر يصاب الإنسان برهبة وخوف وذهول.

أعتقد أنّ فضاءنا فضاء خير وصلاح ، أي الأصل فيه هكذا ; لدلائل وشواهد وقرائن عدّة ، لكنّ المتغيّرات والمستجدّات وقوّة الرغبات الذاتيّة فرضت واقعاً مختلطاً ، اختلط السليم بالسقيم ، هذا السقيم القوي الذي ما استطاع فضاؤنا صدّه والتغلّب عليه ، فغدا جزءاً شاخصاً جليّاً من أجزاء حياتنا التي سبّبت متاعب وتراجعات وهجمات لاذعة وانتقادات حادّة تزداد شدّةً يوماً بعد آخر ، بل جعلنا في عيون الناس وعقول الكثير من النخب كتلة غلبت عليها مظاهر الحياة ورغبات الذات ، فعادوا لا يعيرون أهمّيةً أو لا يرون بوضوح ما نمنح الوسط الديني والاجتماعي والثقافي من عطاءات وإنجازات.

إنّنا يجب أن نكون حيث ينبغي أن نكون : ظاهرنا يعبّر عن باطننا ، تأخذنا القيم والمبادئ والشريعة إلى ما تريد لا أن نسوقها إلى ما نرغب ونهوى ونريد .. ملاكنا رصد السماء لا رصد الأرض ، عيون السماء لا عيون الأرض. فهل نحن كذلك يا ترى؟ قبل الإجابة لابدّ أن نتذكّر أنّنا إن حاولنا الاشتغال بالتورية ونظائرها فلا يمكننا تمرير توجيهاتنا وتعليلاتنا على السماء وقوانينها الدقيقة العادلة.

والمؤسف فينا أنّنا صرنا نرى في نتاجنا أنّه الأرقى والأفضل ،


زاهدين في عطاء الآخرين وإنجازاتهم ; فما عادت عيوننا تبصر إلاّ

ذاتها وما حواليها ، بل حتى ما حواليها تتحكّم فيه بعض الشروط والخصائص المستقاة غالباً من واقع الرغبة الخاصّة التي تأخذ به إلى أروقة الاهتمام والعناية بلا خضوع حقيقي لمراحل البحث والمطالعة والتحقيق ولوازمها.

وهذا ما جعلنا دون مستوى الطموح والانتظار ، بل لأجل مناغمة الرأي العامّ عمدنا إلى إكثار الأسماء والعناوين سعياً منّا إلى استخدام «منهج تحريك الجمهور» ولا شكّ أنّها سياسة انفعاليّة سرعان ما تهدأ كزوبعة الفنجان. نعم ، محطّاتنا ونقاطنا كثيرة جدّاً لكنّها هل تؤدّي الأداء المطلوب ، وهل هي الراجحة على ما سواها من مشاريع وأفكار نظيرة أو اُخرى اُهمِلت ولازالت تُهَمل؟

إنّنا طبق النسق الجاري والمظاهر الحاكمة لا يمكننا البقاء طويلاً ونحن نسير بلا تعامل جدّي مع الجوهر والأصل والعمق ; حيث المحكوم على نسقنا أنّه بالشعارات والظاهر والقشور والنماذج الاستعراضيّة.

يجب أن نراجع ـ على الدوام ـ ما نحن فيه وعليه ، ونقرأ الاُمور قراءةً أوسع وأشمل وأدقّ وأعمق ، ونستقرئ ، ونقارن ، ونستقصي ، ونحلّل ، ونحفر ، ونبعثر ، ونتمسّح ; لنحصل على نتائج ترسم لنا نهجاً ونسقاً علميّاً يقودنا إلى النموّ الحقيقي والفلاح المعهود. وبدون ذلك فلا نخدع إلاّ ذواتنا أوّلاً وآخراً.


وقفة نقديّة / ٣

لسنا بصدد الإنشاء أو الإخبار عن كون «النقد» فلسفةً أو علماً أو مذهباً له أقطابه وتأريخه واُسسه ومبانيه وقيَمه وأدواته المعرفيّة وأنساقه الخاصّة ، فهذا جهدٌ قد وُفِّر عناؤه على أرقى المستويات والأفكار ، ولاسيّما أنّه قائمٌ قبل هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض بأمر المولى تبارك وتعالى بفعل معصيته الشهيرة التي انتُقِد عليها أشدّ الانتقاد ، وعانى على إثرها المعاناة المريرة والآلام الصعبة ، فقُدّر للإنسانيّة أن تبدأ رحلة شاقّة وهي ترى واقعها منقسماً بين خطّين متوازيّين لا يمكن لهما الالتقاء أبداً.

كما لسنا في مقام تجديد معرفتنا بالنقد والأقوال فيه ; إذ إنّنا نعلم أو لابدّ أن نعلم أنّ :

النقد : ليس إضعافاً للموقف وللذات ، بالعكس ، إنّ النقد بما هو كشف وتعرية وفضح ، يؤول إلى خروج المرء من عجزه ، باختراق حاجز نفساني معيق ، أو كسر قالب معرفي ضيّق ، أو تفكيك جهاز مفهومي قاصر ، أو تغيير شرط وجودي قاهر .. بهذا المعنى يفضي النقد إلى إمتلاك


إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، تتغيّر معها علاقات القوّة بين المرء ونفسه ، وبينه وبين الغير والعالم.

ـ النقد : هو فاعليّة معرفيّة تطال بالكشف وتعرية المساحات المستبعدة من دائرة الضوء والنقاش ، بهذا المعنى لا يقتصر النقد على الفروع والتفاسير وعصور الانحطاط ، بل يطول أيضاً وخاصّة الاُصول والاُسس وعصور الازدهار ... والذين يركّزون نقدهم على فترات النكوص وعصور انحطاط لكي يحيّدوا مراحل الصعود وحقب الازدهار ، لا يريدون لنا سوى التراجع إلى الوراء وممارسة النقد المقلوب.

ـ الأصل في كلمة النقد : «دراسة إمكانيّات» الموضوع الذي يُنقَد ، أي دراسة ما كان يمكنه أن يكون عليه ، وما هو عليه بالفعل وأسباب ذلك التفاوت أو التطابق. هذا هو المعنى الفلسفي العلمي ، وهو معنى لا يمكن قبوله إلاّ في بيئة حضاريّة تسعى إلى التجدّد والتطوّر وتعدّي القديم البالي ، أمّا إذا كان الأساس هو الإبقاء على المألوف ، فإنّ فكرة النقد تصبح عدوانيّة ، لا يمكن أن تستعمل إلاّ للهدم والتجريح.

ـ إنّ نقدَ علم هو تكريمٌ للعلم ... نقدُ الشيء يحييه ، عدم نقده معناه أنّه مات ، خرج ورحل.

ـ النقد الأخلاقي للوضع التأريخي أو الإنساني ، والذي يقول في بعض اتّجاهاته ومذاهبه الدينيّة والفلسفيّة والعلمانيّة بأنّ جميع جوانب الحياة والعلاقات الإنسانيّة مسمّمة برذائل مدمّرة كالأنانيّة والكبرياء


والجشع والطموح والقسوة و... وبالتالي فإنّ الحلّ لها يكون في تجاوزها إلى حقيقة روحيّة عليا.

ـ النقد مزيج من كره وحبّ : كره لما يرغب عنه من موجود ، وحبّ لما يرغب فيه من مفقود ، الذي هو عنصر الإصلاح بعينه ، وأيّ شيء يحلّ بنا لولا الإصلاح.

ـ النقد عمل الحياة الدائم.

ـ كلّ نقد صحيح هو الذوق ، فمن حرمه لا يمكن أن يستعيض عنه بشيء آخر.

ـ الناقد لابدّ أن يكون واسع المعرفة والإدراك ، رقيق الإحساس ، صادق الإخلاص.

وما إلى ذلك من الأقوال والمعاني والآراء الواردة في أبواب النقد المختلقة.

إنّما نحن إزاء تساؤل كبير :

لِمَ نهرب من النقد ، نهابه ونخشاه ، لِمَ يتبادر منه في عقولنا وأحاسيسنا : أنّه انتقاصٌ وإذلالٌ وحطٌّ ، فيرسم في أذهاننا وقلوبنا الصورة السيّئة القاتمة ، يجعل الناقد عندنا مكروهاً مرفوضاً غير مَرغوب فيه ...؟!

إنّنا إذ نجافي الحقيقة ونتشبّث بالقشور وننأى عن الجوهر ، فلا نخوض في مساحات الفكر عمقاً ولا مراجعةً ولا تحليلاً ولا حفراً


ولا حتى فهماً واستيعاباً أوّلياً ، ولا نغادر سطوة أنفسنا واستبدادها وتعسّفها ورغباتها ولذائذها ، ونقدّس الجمود إذ يحمينا من التغيير ، ونصطفي الراحة والاسترخاء والتقليد حيث تخلّصنا من عناء العمل والبحث والجدّ ، ونروّج للشعارات الملهبة الحماسيّة حينما تمنحنا غطاء الأخذ بغلاف القيم والمبادئ والأخلاق ...

فلابدّ لنا من الهرب والهيبة والخشية من النقد ، فكيف نسمح لكرامتنا وعزّتنا أن تُنتَقص وتُذلّ وتُحطّ ، وأ نّى لنا أن نرتضي بالذي يفضحنا ويعرّينا ; فليس الهامّ عندنا اُممنا ومجتمعاتنا ولا حتى الهويّة والانتماء ، التي نفاخر بها نفاقاً وكذباً ، بل الهامّ رغباتنا ومنافعنا وكياناتنا الشخصيّة!!

من البعيد جدّاً وفي ظلّ الظروف والمعادلات القائمة حاليّاً أن ندرك بالاستيعاب والممارسة أنّ النقد ـ كما أشرنا لبعض نماذج معانيه ـ يعني النموّ والازدهار ومواصلة الحياة وبثّ الأمن والاستقرار والعدل والإنصاف وإزالة مظاهر الظلم والتخلّف المعرفي والقيَمي والأخلاقي ; وأنّ به يزداد الحبّ وتأفل الكراهيّة ويعمّ الناس الأمل ويكبر الطموح بفرص أفضل وأرقى .. ذلك بعيدٌ جدّاً ما لم نغيّر ما بأنفسنا.

(إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).


وقفة نقديّة / ٤

يتبادر من النقد في عقولنا وأحاسيسنا : أنّه انتقاصٌ وحطٌّ وإذلال ، يرسم في قلوبنا وأذهاننا الصورة السيّئة القاتمة ممّا يجعل الناقد عندنا مكروهاً مرفوضاً غير مرغوب فيه.

وهذا بحدّ ذاته مجافاةٌ للحقيقة والإنصاف ، مجافاةٌ أساسها ردود الفعل السريعة ، والأحكام العاطفيّة ، وعدم الإحاطة اللازمة بمفهوم النقد ومعناه العلمي المعرفي ، والارتماء بالقشور خشيةً من الجوهر وعمقه ودلالاته ومصاديقه.

النقد الصحيح يفضي إلى امتلاك إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، إلى دفع الإنسان نحو الاُطر والمضامين السليمة للتفكير والممارسة ، إلى إيجاد الرقيب المحسوس والخفيّ ، الذي يدفعنا دوماً نحو إيجاد أفضل فرص النموّ والتطوّر.

وفي السياق ذاته يمتلك النقد الأخلاقي القدرة على توفير السبل المناسبة إلى حقيقة روحية عليا حينما يرى الحياة قد تلوّثت برذائل


مدمّرة كالأنانيّة والكبرياء والجشع والقسوة و...

لازَمَ النقدُ حياةَ الإنسان منذ البدء إلى يومنا هذا بأشكال وآليات ومناهج مختلفة ، تبعاً للمتغيّرات المكانيّة والزمانيّة.

أمّا الفكر النقدي الحديث (١) فقد ظهر في مجتمعنا العربي والإسلامي منتصف الخمسينات من القرن الماضي. ولقد بلورت المطارحات والنقاشات والحوارات ـ القائمة على أساس التلوّن والتنوّع الفكري ـ الفضاء المعرفي المناسب لتجلّي المناحي النقديّة وجريانها في اتّجاهات دينيّة وفلسفيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة.

إنّ وجود المتوازيات الفكريّة في عالمنا العربي والإسلامي : اتّجاه عقلي وآخر وضعي ، اتّجاه موضوعي علمي وآخر ذاتي وجداني ، اتّجاه قومي وآخر ديني ... كشف عن خفايا الأعماق وحناياها عبر الرواشح العقليّة على مختلف انتماءاتها وميولها.

وكانت مواجهة التيّارت المعاصرة الوافدة من مهامّ حملة الفكر النقدي ، من خلال استيعاب هذه التيّارات وتوظيفها وترويضها ، ولاسيّما أنّها تعارض ما لدينا المكرّس عقائديّاً وسلطويّاً وتقليديّاً. لذا حاول النقّاد منّا تنصيب العقل وإخضاع الدراسات الدينيّة لسلطته بواسطة الاستفادة من الآليّات الحديثة في الأنساق والمعارف لنقد الفكر الديني وأساليب

__________________

١. وضعنا نصب أعيننا : جيرار جهامي ، سميح دغيم ، رفيق العجم ـ موسوعة مصطلحات الفكر النقدي العربي والإسلامي المعاصر ، مكتبة لبنان ناشرون / بيروت ، الطبعة الاُولى ٢٠٠٤م.


الحياة الماضية. فكان مصير النقّاد : المعارضة والتهميش والملاحقة والتكفير.

وانطلاقاً من قاعدة : «أن لا شيء يقع خارج دائرة الفحص والجدل فلسفيّاً» :

فإنّ انقسام علمائنا إلى أهل ظاهر وباطن ، أهل تنزيل وتأويل ، وما شهدناه من صراعات السلفيّة والمعتزلة والأشعريّة والعدليّة ، المغلّفة بالنقد وتفكيك البُنى الفكريّة وتفتيت المسلّمات وهدم البراهين ، المتجسّدة في أنظار الغزالي بنقده الفلسفة المشّائيّة ، وابن رشد في تهفيته الغزالي وغيره في جوانب من مسائلهم بإسم اليقين والبرهان ، وابن خلدون بنقده الفلسفة الإلهيّة والتصوّف الغيبي اللاواقعيّين ، وملاّ صدرا في انتفاضته على منكري حركة الجوهر ...

يثبت فاعليّة حركة الفكر النقدي آنذاك وانتشارها وإن كانت بأساليب تتناسب مع المكان والزمان بمصطلحات نقديّة تناسبهما أيضاً مثل : المشاغبة ، التبكيت ، التعاند ، المغالطة ، التحيير ، المنع ، التسخيف ، التهفيت ، التضعيف ، المرجوحيّة ...

أمّا الفكر النقدي الحديث فهو عقلاني التوجّه نوعاً ، يعالج قضاياه ويتناول قضايا الآخرين مراعياً وجهتي المع والضدّ ، ومطلقاً أحكامه التقديريّة والتقويميّة عليها : أهي صحيحة أم كاذبة ، عادلة أم جائرة ، مقبولة أو مرفوضة ، فالناقد ـ بأدواته المعرفيّة ومنهجه العلميّ القائم على


المراجعة والحفر والبعثرة والاستنطاق والمقارنة والاستقراء والتحليل والاستنتاج ... ـ يرمي إلى إماطة اللثام عن الوجه الخفيّ للواقع. لذا فهو يقتحم مكامن الخلل والنقص والضعف لدى خصمه ليبرهن أنّ الحقيقة لا تتمثّل من جانبه كخصم بهذا الموقف المجتَزأ أو ذاك المتهافت. وغايته القصوى تقضي بوضع شروط معرفيّة جديدة وتأسيس نظم فكريّة تناسب المطلوب. فالعقل النقدي لا يسلّم بأيّ معطى أو مبدأ إلاّ ويدقّق فيه بذاته ، دونما الانبهار بما يقوله الآخرون أو يفرضه العقائديّون.

إنّ النقد يفضي إلى امتلاك إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، تتغيّر معها علاقات القوّة بين المرء ونفسه ، وبينه وبين الغير والعالم. وفي ضوء مبادئ النقد هذه ومرامي النقّاد انصرف معظم المفكّرين المعاصرين نحو إعادة قراءة الوقائع المعاشة والمعرفيّات المرتهنة والسلوكيّات الممارسة لنفض غبار التقليد عنها ومحاولة ترسيخ اُسس نهضويّة تكون أكثر فاعليّة من تلك القائمة سابقاً على النقل والإسقاط ، حين رام أصحابها إخفاء المشاكل الحقيقيّة أو تخوّفوا من أبواب حلول جذريّة. والهامّ في الفكر النقدي كشفه عن أنماط جديدة من العلاقات بين الفكر وإجراءاته العملانيّة.

هذا ، ولم يألُ الناقد جهداً على جادّة الاغتراف من شتّى المنهجيّات والوسائط التحليليّة التي تدعمه في بلوغ المراد بما يتناسب مع العصر والتطوّر ، فكانت أنساق العلوم الإنسانيّة واللسانيّة ضالّته التي تفتح له


آلياتها آفاقَ عرض الجديد أو مراجعة الماضي وقراءته طبقاً لاجتهادات منفتحة.

فمثلاً : ركّز محمّد عابد الجابري على الموضوعيّة واشترط في الناقد القدرة الشموليّة «على استيعاب جميع التحوّلات التي يتحرّك بها ومن خلالها فكر صاحب النصّ». فهو يرى أنّ المسبقات والايديولوجيّات المنحرفة تقتضي منّا انفصالاً عن النصّ في مرحلة اُولى ، ثم نعود لنتّصل ونتواصل معه للكشف مرّة اُخرى عن محتواه الايديولوجي وجعله معاصراً لنفسه ، ومن ثم إعادة تكوينه في ظلّ معطيات تمكّننا من استغلاله. وبذلك نعيد مثلاً فهم التراث وجعله متحرّكاً وفقاً لظروفه وظروفنا ، وعليه فالجابري يرى «إنّه ليست جميع المناهج صالحة لجميع الموضوعات ... فطبيعة الموضوع هي التي تحدّد نوعيّة المنهج» وبذلك نفكّك العلاقات الثابتة ونولجها عالم المتغيّرات تحليلاً ، أيضاً نجعل المطلق نسبيّاً واللاتاريخي تاريخيّاً. ومثل هذه المنهجيّة الواعية ـ كما يقولون ـ توصلنا إلى مستوى النقد الابتسمولوجي لإزاحة الستار عن طرق ومفاهيم انتاج المعرفة ونقدها.

ومثلما فعل زكي نجيب محمود في نقده الوضعي المنطقي للميتافيزيقيا ـ قبل أن يتراجع عنه في أواخر نتاجاته الفكريّة والمعرفيّة ـ فقد فكّك الجابري بُنى العقل العربي ، ليعيد تشييدها طبق ما يمكن بواسطته توسيع مجالات البحث في اُصوله وخصائصه وأهدافه وايديولوجيّته العامّة.


وتبنّى محمود أرگون النظريّات الاجتماعيّة ـ التاريخيّة والسيمياء في معالجة النص ، ممّا يسمح بإعادة تأطيرها ومتابعة تطوّراتها. ورفض في الوقت ذاته المنهجيّة الفللوجيّة ـ التاريخيّة معتبراً إيّاها «وصفيّة سكونيّة دونما طرح الإشكاليّات العامّة». انبثاقاً من ذلك فهو يرفع بيرق العمل بإركيولوجيا العلوم الإنسانيّة ; كونها تتجاوز المثاليّة الشائعة.

وهذه المنهجيّات تتيح للناقد فتح مساحات كانت شبه محرّمة على المنقّبين والباحثين والمختصّين ، بالأخصّ العقائديّة منها. إنّه بذلك يزحزح ما كان قارّاً غير مفكَّر أو يستحيل الخوض في مقدّساته.

ويعتقد أرگون ضرورة العمل بأساليب «مدرسة الحوليّات» التي أضاف روّادها العلوم الإنسانيّة إلى ميدان التاريخ والمؤرّخين ، ممّا أطلق عنان المؤرّخ وفتح أمامه سبلاً أوسع نحو أداء فنّ التحليل التاريخي. ويُعتقد أنّ سرّ نجاحها يكمن في اعتمادها ابتسمولوجيا تاريخيّة «تطرح فرضيّات جديدة وتضعها على محكّ الواقع لمعرفة مدى صدقها أو كذبها» حتى لا تبقى الحقائق محتمية بغطاء دوغمائي ، ولا مطليّة بتوجّه ايديولوجي بعيد عن مراقبة العقل النقدي.

ويرى طه عبدالرحمن : «أنّ كلّ تقويم للنصّ التراثي هو عبارة عن عمليّة نقدية مبناها أساساً على الاعتراض على هذا النصّ بالمناهج المشروعة حتى يتبيّن كيف تستند وسائله أو مضامينه إلى أدلّة مقبولة» لذا فهو يدعم كلّ توجّه فكراني في هذا الإطار ، ويأخذ بآلية العلوم التي


تخصّ كلّ علم على حدة بمنهجيّة تطبعه وفقاً لمعطياته ، وتبعاً لأوصاف ثلاث للآليّة : الخدمة (لذاته ولغيره) ، العمل (كيفيّة إجراءاته) ، المنهج (طرق وأساليب يتوصّل بها إلى نتائج معيّنة).

وقد مارس طه عبدالرحمن ـ بشكل خاصّ ـ المنهج المنطقي الفقهي ، والمنهج المنطقي الرياضي ، تحليلاً للثابت والمتغيّر في الفكر العربي والإسلامي.

هذه المنهجيّات المختلفة ـ التي أشرنا إلى نماذج منها في واقعنا العربي الإسلامي ـ تؤكّد باعتقاد الفكر النقدي وحملة لوائه ضرورةَ إعادة النظر في أساليب وأدوات تحليل وقراءة النصوص ، سواء كانت ذات مضمون يعدّ من المسلّمات أم من المقدّسات ، فلا يمكن حينئذ الاستبداد واحتكار النصّ وتأويله صوب أهداف معيّنة أو مؤطّرة بذريعة «أنّ الفرقة الناجية واحدة».

وفي هذا السياق يستشهد نصر حامد أبو زيد الذي يعرّف الهرمينوطيقا بأ نّها «لا تعني مجرّد عمليّة الفهم لشيء معطى محدّد سلفاً له وجود خارجي محايد عن المتلقّي الذي يحاول أن يفهم هذا الشيء أو هذا النصّ فلا ننساق حينئذ ـ والرأي لأبي زيد ـ ونطأطئ حيال سلطة التراث السلفيّ ونأخذ بسبل طرحه للحقائق ...

ويرى أيضاً : أنّ اليسار الإسلامي يجسّد هذا الخط التأويلي المنفتح ; إذ يرفض «صياغة الحاضر طبقاً لنموذج الماضي ; لأ نّه يرى أنّ مأساة


الحاضر تَشَكُّلُهُ بالفعل على نموذج الماضي ، من حيث القيم والمفاهيم وأنماط السلوك» ...

ودعم حسن حنفي هذا التوجّه حين افترض قراءة اليسار المتجدّد للتراث قراءةً كاشفة «قراءة للماضي في الحاضر ورؤية للحاضر في الماضي». إلاّ أنّ أبازيد يحذّر من التمادي في هذا النوع من التأويل ; خشيةً من ضياع الدلالات التاريخيّة المتنوّعة للنصّ الواحد «فنضحّي بالابتسمولوجي لحساب الإيديولوجي».

نقول : يلعب الحاضر دوراً هامّاً رئيساً في ديمومة الماضي ومعرفة آفاقه وكيفيّة التعامل مع تأثيراته ، ولاسيّما أنّ الماضي وتراثه ليسا جامدين حتى يزولا بزوال أصحابهما.إنّنا نأخذ منهما ما يخدم يومنا وغدنا ، انطلاقاً من كون التاريخ ليس مجرّد عمليّة تدوين للوقائع والأحداث ، إنّ التاريخ بماضيه وتراثه يظلّ حيّاً نابضاً بأفكاره ومضامينه في الوجدان البشري ، إنّه ينعش النفوس ويوقظ الضمائر على وقع القيم والمفاهيم والمبادئ التي كم سعت السياسات والقوانين والتيّارات إلى محوها وطمسها.

أمّا الفكر الحديث فقد اختلف في كيفيّة التعامل مع التراث ، فهناك من يدعو إلى فكّ أيّ ارتباط معه ، انبثاقاً من فصل الأصالة عن الحداثة ، وهناك من هو على العكس ، وثالث يؤمن بالتواصل بين الماضي والحاضر خدمةً للمستقبل وتطويره مع الالتزام بالثوابت والانتماء الذاتي.


من هذا المنطلق اكتسبت مسألة تقويم التراثيّات وإعادة قراءتها على ضوء المعطيات الجديدة أهمّيّةً خاصّة ، ولاسيّما أنّ ذلك يتطلّب نمطاً من الجرأة والشهامة والإقدام ما قد يعدّ مجازفةً أو انحرافاً أو كفراً ، فمثلاً حينما تنقلب الموازين والمعادلات وتتغيّر مناهج العلوم ومقاصدها ويجعل الكلام هو قصد الإنسان نحو الله ، حينها تكون الاحتمالات المذكورة أعلاه واردة ، مع أنّ الدافع لذلك ـ برأي أصحاب هذا التوجّه ـ ليس ترميم الماضي بل تغيير الحاضر ، ذلك حينما لا يكون التراث غاية في ذاته بل وسيلة للتحريك والتغيير.

وفي الوقت الذي يرى فيه محمّد عابد الجابري ضرورة إحداث قطيعة ابستمولوجيّة بين العقل العربي وعصور الانحطاط وامتداداتها فإنّه يؤكّد على وصل المعاصرة بالأصالة ، لأ نّنا ـ حسب تعبيره ـ لا نستطيع أن ننشد الواحد دون ربطه بالآخر.

ويدعو جابر عصفور إلى ابتداع أدوات تفكير جديدة ومقولات تفسير لرؤيا متجدّدة ; ذلك من أجل عدم الوقوع في حداثة أحديّة موحّدة لكلّ تجلّيات الوعي الفردي والجماعي ، إنّما جدليّاً خلق حداثات متعدّدة تنخرط في تطوّر التاريخ وتطويره ، فالحداثة تنقلب نحو مثيلتها أو نقيضتها لكنّها تبقى حداثة وتبتغي التحديث ..

وهذا التنوّع يظلّله حقّ الاختلاف وحرّيّة الاختيار ، الذي يدافع عنه كذلك علي أومليل من جهة نظر ديمقراطيّة مشروعة كما يعتقد ، تذهب


إلى حدّ قبول أيّة رواية جديدة للتراث وإن أتتنا من ملل مختلفة ، وإلاّ وقعنا في دوّامة الاختزال والاستبداد ، الاحتكار والتسلّط.

وفي السياق ذاته انقسم الاستشراق إلى جهتين :

إحداهما : سعت إلى تحميل رواشحها الفكريّة على التراث وبيان نتاجاته طبق بناها ومعتقداتها الايديولوجيّة والفلسفيّة.

واُخرى : تمكّنت من فهم آليّة التعامل الصحيح مع التراث على ضوء ثوابته واُصوله. ومع ذلك ، فإنّ نقّاداً إسلاميّين ، أمثال نديم البيطار وأنور الجندي وهشام جعيط وحازم صاغية وغيرهم ، عدّوا ذلك غير كاف ; إذ سدّ الثاني ـ كما يرون ـ منافذ الفهم الصحيح وضيّق بل أغلق على البحوث والمطالعات والدراسات الدينيّة آفاق الانفتاح والشموليّة ، فالاستشراقيّون حوّلوا هويّة القطّاعات الاستشراقيّة إلى مصاديق من التفكير المثالي ; إنّهم بذلك أظهروا عجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته لتطويرها.

لذا فإنّ أيّة دراسة أو تحليل أو قراءة للتراث ـ سواء كانت منّا أو من الغير ـ لابدّ أن تتناول التراث بأكمله غير مشطّر ولا مفكّك ولا مهملة وظيفة من وظائفه أو عنصر من عناصره.

من هنا فقد بُنيَتْ حقولٌ للخوض في خصائص التراث ومزاياه ، وكانت المشاريع العقليّة هي الرائد فيها ، ممّا أوجد مطارحات ومناظرات ومساجلات حول موضوع «العقل العربي» بالذات وطرحت إشكاليّة مرجعيّة مثل هذه المشاريع ، أو هل هناك عقل عربي حقّاً كما هو رأي


جورج طرابيشي وهشام غصيب .. مع الأخذ بنظر الاعتبار افتقار مشروع الجابري المثالي إلى عدّة نماذج لاستيعاب هذه المرجعيّة المتعدّدة الأطراف ; إذ نظام الثقافة الشمولي لا يتوقّف عند مجرّد تجسيد تصوّرات معيّنة لمستويات الذهن والواقع ، ولاسيّما أنّ العقل يغور في كلّ الأروقة والآفاق.

ولقد بُذِلت جهودٌ من أجل إيجاد «مناطق ثقافة حرّة» تتلاقح فيها مختلف الحضارات والعقول في «هذه المنطقة المحايدة» على ضوء المشتركات والتقاطعات الممكنة .. إلاّ أنّ التباينات الفكريّة والعقائديّة جعلت من التراثيّات ساحة شجار ونزاع لا تلاقي ، رغم كلّ محاولات «الأنسنة الإسلاميّة» التي قام بها البعض من أجل درء هكذا شجارات ونزاعات فكريّة وعقائديّة.

وهذا ما يفسّر برأينا ضرورة التفكير باُطر وآليّات وأدوات اُخرى تجعلنا مثل «كاسب الطهورين» الذي ما إن افتقد أصلاً التجأ إلى أصل آخر يحميه من الانحراف والخروج عن بوتقة الانتماء والهويّة ، الأمر الذي يجعلنا في وقت واحد متمسّكين بثوابتنا واُصولنا وتراثنا المفيد ، منفحتين على الجديد والحديث انتقائيّاً ، أي نأخذ الذي يلائم ثقافتنا وقيمنا ومبادئنا ونترك الذي لا يلائم.

إنّ الإسلام الذي بإمكانه توفير مثل هذه الظروف العلميّة المعرفيّة والواقعيّة ليس «إسلام النفط» كما يسمّيه فؤاد زكريّا وجابر عصفور ، بل


الإسلام الذي بامكانه ـ نسقاً ونظاماً ومحتوىً وممارسةً ـ مواجهة الواقع والتحدّيات المفروضة ، الإسلام الذي يتناغم مع حنايا الإنسان وأعماقه ومشاعره. وهذا الإسلام إسلام واحد لا ضرورة إلى تشطيره وتفكيكه إلى إسلامات متعدّدة كما يرى محمّد أرگون ، الإسلام الذي يخضع لثوابت وشروط واُصول واحدة ، واختلاف الفهم والتأويل لا يعني تعدّد الإسلامات ، وإلاّ لعمّت الفوضى في كلّ أركان الكيان حتى في أدقّ خليّة منه ، فلا يبقى للإسلام إلاّ لفظة تقال أو تراث ربما تتذكّره الأجيال أوْ لا.

ولقد استدلّ المدافعون عن الإسلام الذي نؤمن به بالانفتاح والعقلانيّة التي نحملها في أدبيّاتنا وثوابتنا وممارساتنا ، بالدعوة مثلاً إلى نبذ الطائفيّة واحترام كلّ الطوائف والأديان ، بالدعوة إلى فتح أبواب الاجتهاد ، بالدعوة إلى تكريس الحوار ونبذ العنف والتحلّي بقيم الدين الذي يؤمن بالعقل ودوره في إخماد الصراعات والفتن والمغامرات الخاسرة.

نقول : تبنّى بعض النقّاد عندنا اُسساً جديدة للإبداع الفلسفي ذي هويّة عربيّة شرقيّة أو إسلاميّة اجتهاديّة ، ممّا أتاح بناء فضاء رحب في شتّى العلوم والمعارف يُستنشَقُ منه نسيم الأمل بفضاء يزيل الجمود والتحجّر ويعالج قصر الإدراك والفهم لمتطلّبات الحاضر والتطلّعات الجديدة على القاعدة المشار إليها من حفظ الاُصول والثوابت والتعامل الانتقائي مع الوارد والوافد من هنا وهناك. ولا شكّ أنّ الأمر يتطلّب التسلّح بأرقى مراتب البحث والمعرفة والفهم السليم ، وهذا ما يستدعي


استقلالاً فكريّاً نقدّياً ملتزماً بموضوعه محدّداً لآليّات وطرق المعالجة المناسبة.

كما نقول : إن أراد الفكر الفلسفي أن لا يكون منحسراً على ذاته ، سجيناً في دائرته ، فعليه النزول إلى ساحة العمل وميدان الممارسة ، عليه أن يقوم بواجبه الاجتماعي حين يؤازر عامّة الناس ، يحميهم من خلال التثقيف والتوعية ، يراقب أداء الخاصّة ، ينتقد ما هو بحاجة إلى النقد. ولا ننكر عليه خطواته العلميّة الساعية إلى نبذ التشرذم والطائفيّة والانقسام والإرهاب والاستبداد وقبول الآخر والتفاعل مع المتغيّرات تفاعلاً ملموساً.

إنّنا لا نتّفق مع الذين يزعمون الخلاص عبر العلمانيّة بحجّة تحريرها الدين من استغلال السلطة له ، العلمانيّة التي لا تعادي الدين كما يزعمون. فعلمانيّةٌ لا تقف بوجه الدين فهذه مجرّد علاجات وقتيّة وإقناعات طفوليّة بل أماني وأحلام ورديّة ، إلى ذلك فبإمكان الدين أن يقيم النظام الذي يتجاوز ما تخشاه العلمانيّة من سلطة الدين إذا ما فُسّر الدين تفسيراً واقعيّاً مستنداً إلى قواعده الذاتيّة التي لها الإمكانيّة الكاملة في التكيّف مع الحاضر والمستقبل (كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا).

إنّ أمثال سمير أمين وعزيز العظمة جعلوا مفتاح الحلّ السحري في الدولة العلمانيّة التي يرون فيها تجاوز الطائفيّة ، وأ نّها سلطة منفتحة لا تساوم على حرّيّة الفرد ولا تحتكر المجتمع.


أمّا أمثال أنور الجندي فإنّهم يرون في العلمانيّة الخطر الأعظم الذي بإمكانه تمزيق نظام المجتمع الإسلامي وشرذمته.

وليس الفكر الديني بذلك البعبع المخيف الذي يعيق عمليّة التجديد والتطويركما يزعم روّاد العلمانيّة وأقرانهم ، فبالرغم من كونه فكراً يؤمن بالغيب والروحانيّات فإنّه لا يعيش الحاضر والمستقبل بواقع الماضي ، بل يعيش الحاضر والمستقبل بكامل عنفوانهما ، العنفوان المستمدّ قيمه ومبادئه من الاُصول والثوابت التي تدعو بكلّ شفّافيّة إلى الاستفادة من كلّ جديد على قاعدة : «شجرة مباركة تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربها».

ثم أليس المركزيّة الحزبيّة ـ إحدى نماذج الحداثة ـ نوعاً من أنواع الطائفيّة بلباسها وآلياتها الجديدة ، اللهمّ إلاّ أن يقال بخروج «الحزبيّة» من رحم الفكر الديني الأصيل ، وهذا من السخف العجيب حقّاً ; إذ الفكر الديني المعهود هو الذي يتجاوز الانتماءات والتيّارات والأحزاب والطموحات الفرديّة ، فيعيش في الاُمّة حالةً وثقافةً وممارسةً أبويّة تكون على خطٍّ ومسافة واحدة من الجميع ، قانونها وملاكها العامّ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) ، هدفها السعادة الدنيويّة والاُخرويّة.

وهذا الفكر الديني بأنساقه ونظامه وأدواته له القدرة على الإجابة عن إشكاليّة «الفرقة الناجية» التي يعدّها البعض من أشكل المشكلات في مضمار تطبيقات الفكر الديني وممارساته الواقعيّة.

إنّنا حين ندّعي ونلتزم بالفكر الديني نسقاً ومنهجاً ومنقذاً للإنسان وكافلاً وضامناً ، لا يعني أنّنا نغلق على الفكر مجالات الحركة والحوار


والنقد ، وإلاّ كان الجمود والسكون والموت البطيء مصيرنا ، ولنقضنا على أنفسنا التمسّك بقاعدة «شجرة مباركة تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها».

إنّنا لا نتعبّد بكلّ ما هو موجود من فهم وتأويل وتفسير لثوابت الدين واُصوله وجذوره ; فالمراجعة الدائمة والقراءات المختلفة والاستنطاقات الجادّة والتحليلات العلميّة والمقارنات المدروسة والاستقراءات المنهجيّة ، تقودنا إلى استنتاجات ورواشح أكثر تأ لّقاً وعنفواناً ، إلى حصيلة مفعمة بالروح والحركة والنموّ ، تجافي الجمود والسكون المملّ ، تلبّي حاجة الإنسان في الثبات والتكيّف المنطقي مع المتغيّرات.

إنّ النقد الجادّ من أرقى الأدوات والآليّات التي بإمكانها توفير الفضاء العلميّ المعرفيّ المناسب في استدرار الاُصول والتراث رؤىً وبصائر تتجاوز الخلل والنقص والضعف الذي يهيمن على التفكير الديني بين الحين الآخر.

ولا ينبغي لنا ـ أخيراً ـ إغفال الجهود الفكريّة التي شادها أمثال الشهيدين السيّد محمّد باقر الصدر ومرتضى مطهّري وشريعتي وعبدالكريم سروش وعمّار أبو رغيف وداريوش شايغان وغيرهم ، في سياق الفكر الديني ومحاولة الخروج به من دوائره الرتيبة إلى اُفق الفاعليّة والنشاط المطلوبين ، مع كلّ ما يثار على بعضهم من إشكالات وانتقادات أساسيّة ومبنائيّة ، ولا ضير في ذلك أيضاً ; فالنقد ونقد النقد كلاهما رقيبٌ يسعى إلى نشر رسالة هدفها سوق الإنسان صوب القيم والمبادئ الحقّة.


معنى الذات

أشياء ، أحداث ، مواقف ... تبقى تحفر في ذاكرة الوجود الإنساني شواخص تأمّل وتدبّر ومراجعة ، إفرازات ورواشح من الأفكار والأحاسيس المتباينة ... تبني وتهدم ، تثبت وتغيّر ، تؤلم وتفرح ، تفتح وتغلق ، تضيء وتعتم ، تعدل وتظلم ، تحسن وتسوء ...

يظلّ الإنسان والخليّة والجماعة والمجتمع والاُمّة والعالم بأسره يتناقلها جيلاً عن جيل ... يبقى الحسن سرمدياً كما يبقى القبيح سرمدياً ، ولا يمكن التعبير عن المعاناة إلاّ بما يسانخها ، والهجين هجينٌ على كلّ حال ، ولاسيّما أنّ النظم والنظام حاكم بلا إشكال ، والخارج عن كليهما لا محال مصنّف في زمرة الشواذّ والمستثنيات الخارجة عن القاعدة والمألوف عقلاً وعرفاً وشرعاً.

لا يمكن لنا نسيان الحقيقة مهما بذلنا جهداً إضافيّاً لتناسيها وطمسها أو تحريفها وتغييرها ; أنا لا أنسى من أحسن لي كما لا أنسى من أساء لي ، هذه الأنا التي تضيق لتكون ذاتي ووجودي الشخصي وتتّسع لتكون اُمّة وشعباً ومجتمعاً ، لا فرق ، فالأنا هي الأنا وإن اختلفت الكيفيّات والكمّيات


والأماكن والأزمان ، فالعزّة والكرامة تبدأ بالأنا الذاتيّة لينتهي بها المطاف بالأنا المجتمعية والاُممية ، وهكذا سائر الأشياء ومعها الأحداث والمواقف ، فإنّها تنطلق ابتداءً بأنا الخاصّة لتحطّ الرحال بالأنا العامّة .. إنّه نسق الحياة والنهج الذي تترتّب على ضوئه الموازين والضوابط والمعادلات الإنسانيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ; إذن الخطوة الحسّاسة المصيرية تبدأ بنقطة وتنتهي بنقطة : نقطتي الأنا الذاتيّة ونقطة الأنا العامّة.

إنّ صنعة الفكر والمعرفة والثقافة لا يمكن لها التخلّي عن الاُصول والثوابت التي قامت واستندت عليها ، إنّها على الدوام ترصد وتراقب وتلاحظ وتسجّل وتراجع وتستقرئ وتقارن وتحفر وتحلّل وتبعثر وتستنتج وتدوّن ; استفراغاً للوسع نحو استيعاب وضمّ الذات الأعمّ ، وهذا ما ترومه الأديان والمذاهب والتيّارات والأفكار والنظريّات التي تحوم حول شيء واحد وتدّعي شيئاً واحداً : الأخذ بالإنسان إلى الفوز. أو تهدف إلى نجاة الإنسان.

ولا ينجو الإنسان إلاّ :

بالجهل القصوري ، وهذه مرتبة تجعله خارجاً عمليّاً عن مرتبة الإنسانيّة وداخلاً في صنف الحيوانيّة.

أو بالمعرفة على اختلاف مراتبها ، والمعرفة أقلّ ما تعنيه الوعي الذي يسبح في أمواج التفكير ويحلّق في آفاق التأمّل والتدبّر.

وما بينهما ضياع وحيرة وتخبّط.


حديث الذات

أليس لهذه الدموع والآلام مرسى وشفاء؟

إلامَ نحترق بنار الهجر والجفاء؟

إلامَ تستعر الضلوع بلهيب البعد والعناء؟

إلامَ تجثم الآهات على الصدر وتذيب الأحشاء؟

نشكو ندرة الصحبة وشتات الرفاق.

نشكو لواعج الوشي وعلقم النفاق.

نشكو ممّن حفرنا لهم على صفحات القلب عناوين حبٍّ واشتياق.

نسلّي الروح برصف الكلمات علّها تُخمِدُ جمرة الأعماق.

نعلم أنّ ثمن العزّة نفيسٌ مقرونٌ بالمرارة وتضحيات واسعة النطاق.

نبتهل إليك ربّنا ونتضرّع أن تنقذنا من عذاب لا ندري هل نحن استعجلناه أم هو قد عاجلنا في التحقّق والظهور ; حيث لم نعد نطيق عبء الاستعراضات الفارغة وتفاهة القشور .. نروم ذاتاً عارفةً بما تفعل وتقرّر وتقول .. ترفض المرفوض وتقبل المقبول .. تنشد فضاءً يمرّنها ويعلّمها


حقيقة دين الخاتم ومبادىء آل الرسول .. تبحث ممّن وفيمن وإلى من تؤول .. فنحن الذين هاجمتنا الخطايا والذنوب علينا الكدح علّنا ننسلّ من زخارف دنياً سرعان ما تفنى وتزول.

فما جدوى دموع الليل وأهات الخلوات إن لم تقوّم دروب المتاهات وتروّض غليان الرغبة ونار الشهوات؟!

إن استقرّ الإيمان فينا حقّا ، فلا نكترث بطوارق الحدثان حقّا ، حيث المناط يكمن في الحصيلة لمّا تألق وترقى ، حصيلة أن نكون من أصحاب النعيم وجنّة المأوى.

ربّنا اغفر لنا وارحمنا إنّه لا يغفر الذنب إلاّ أنت يا خير مقصود يُرتجى.


حديث القلب

ما تصنع إن خذلك أخصّ ناسك وأقربهم زلفةً إلى ذاتك ، هذا الذي روّيته عشقاً بأعذب الغدير ، هذا الذي تحمّلت وخسرت لأجله الكثير ، منحته أعزّ ما تملك من إحساس وتقدير ، منحته العقل والقلب والذود المثير ; لمّا اقتنعت به رفيقاً ومستشاراً ومخزناً للأسرار ، فصار العمر الذي لا حلاوة له بدونه ولا قرار.

يساوم عليك بالأدنى ، الملاكات القبلية والانتماءات الضيّقة والرغبات الذاتيّة اتّخذها ميزانا ، وأنت الذي تخلّيت عن هذه الملاكات الرخيصة لصالح المبادئ فاتّخذتها شكلاً ومضمونا ..

حينما تستفزّه العاطفة المراهقة وتهيمن عليه ..

حينما ينكر فيك الملاذ والكهف والأمان ، وأنت الذي اخترته حضناً وملجأً ولازلت تحنو عليه.

فأين ترحل بعقلك وقلبك ، بأفكارك وأحزانك وآهاتك ، من ذا الذي يؤويك ويضمّك ويضمّد جراحك ويعوّضك بعض ما فاتك ، من ذا الذي


تتّسع آفاقه فيمنحك شهيق الأمل ويستوعب زفير الألم الذي يكاد يقضي على كلّ ما تبقّى لك في حياتك.

إنّها غربة الروح ووحشة الوحدة ومرارة البُعد ; غريبٌ أنت بين أهلك وخلاّنك ، وحيدٌ وسط زحمة ناسك وأحبّائك ، بعيدٌ وأنت قريبٌ من صحبك ورفاقك ، مفارقٌ أنت في عين اللقاء ; إذ سافر العشق ورحلت المودّة وحلّ الجفاء ، رحل الحبّ وهُجِرت المبادئ الشمّاء ، فلم تبق إلاّ الأطلال والأماني وذكريات تلك الآناء ... سافر الجمال ولا أدري هل من إياب ، هل من كرّة اُخرى فينتعش العمر وتحلو الأيّام ويحلّ اللقاء ...


نقد الذات / ١

لا أشعر بأنّ لي في قلوب الذين اُحبّهم ـ وأنا اُحبّ الناس كلّهم ـ مكاناً وموطئاً ، ناهيك عمّا يعلو ذلك.

نعم ، لست واثقاً أبداً من ذلك ولن أدّعيه قطّ ، وما شعوري إلاّ شعور ذاك الذي لم يكره من الناس أحداً لكنّه عانى ولا زال يعاني أزمة حبّ الناس له ، رغم تواصل الدعاء والابتهال إليه تبارك وتعالى بحبٍّ متبادل وصلح وسلام قائمين على المودّة والإخلاص والوفاء.

كثيراً ما أوعزتُ السبب إلى خراب نفسي واعوجاج ذاتي ، فأنا بحاجة إلى عمليّة تغيير أساسيّة كي استحقّ الحبّ والتكريم والاحترام ، تغيير اُرمّم فيه ما فسد واخترم من روحي وأعماقي وحنايايي.

مشكلتي أنّني لا اُفكّر إلاّ بما : أقول وأفعل واُقرّر ، متغاضياً عمّا يقول الآخر ويفعل ويقرّر ، فتشمخ ثلاثيّتي بناظري وأحاسيسي ـ وحتى عقلي ـ أيَّ شموخ ، وتبقى ثلاثيّة الآخر متواضعة في حساباتي ، وما قادني إلى ذلك سوى استبدادي وغطرستي وغروري ، إنّه «جهلي» ; فلو


امتلكت قليلاً من الجرأة للتعبير عنه والإفصاح إفصاحاً منصفاً عمّا يجول في أروقة ذاتي من قناعات وتوجيهات ومعادلات شادتها العزّة بالإثم والشهوة وحبّ الاستعراض ... لَما آلَ الحال إلى هذا المآل.

لا أروم الحطّ من وجودي أو الخدش بالكرامة الشخصيّة والجلال الذاتي بقدر ما هي صرخة ضمير ونداء عمق ومرارة حنايا قد تجعلني اُصوّرها وكأ نّها وخزة وجدان إثر تراكم أخطاء وآثام وغفلات وإهمالات لم أسْعَ إلى علاجها بالشكل والاُسلوب والمحتوى الصحيح ، فصارت تهاجمني بين الحين والآخر بأساليب وأطوار مختلفة.

ولعلّ عزائي الوحيد أن يكون ما ينتابني من إحساس وشعور محفّزَ التصحيح والتأسيس لمشروع إصلاحي بالاتّجاه السليم.


نقد الذات / ٢

لأكثر من مرّة ومرّة أروم الكتابة فلا أعرف ماذا أكتب ، بل أجدني لا أعي شيئاً ، أتعثّر بحجار الجهل وأكاد أهوي بفعل الخيال ووهم الوعي إلى قاع الحضيض.

نعم ، لقد فعلت «الأنا» فعلتها معي فأسقطتني في شباك الغرور وأنستني حالي وحقيقة أمري ، حقيقة كوني مجرّد حاب بين من يَحبُون ، هذا إن كنتُ حابياً صدقاً.

فهل لي أن أستفيق فأرفع الخلل وأجسر الهوّة وأمشي بخطىً سليمة نحو غايتي ومقصدي؟

ولعلّ الذي أوقعني في الفخّ استعجالي المعرفة وقفزاتي الطويلة لتجاوز مراحلها ، فما علمتُ أو تجاهلتُ أنّ ثمن الوثب الطويل نفيس ، فخسرتُ العمق وأدركتُ بأنّ السير اُفقيّاً وعموديّاً لا ينفعني أبداً ، إنّما ضالّتي تحت قَدَمَيّ لا فوق هامتي ، قَدَمَي المعرفة لا هامة الوهم والغرور ، فكان لابدّ لي من الحفر عميقاً لأتعلّم كيف أقرأ واُراجع وأستقرئ واُقارن


واُحلّل كي أستنطق وأستنتج ... لأفهم فهماً صادقاً ضررَ الأغلفة والقشور والمسارح وخاويات العروض.

وحينما شرعت بالتعلّم بدأتُ ـ طرديّاً وتصاعديّاً على شتّى الجهات ـ أستوعب مقداراً من معنى الاتّزان والتوازن ، اللذين يخرجان الفكر والممارسة من حيّز المراهقة والتأرجح والتهوّر إلى فضاءات النضج والثبات والتعقّل ، فوجدتُ كم قادني جهلي وغروري واندفاعي العاطفي إلى ارتكاب أخطاء ليس من السهل معالجتها وإصلاحها ، ووددت لو ترجع عجلة العمر إلى الوراء كي لا أجني على ذاتي وغيري بحماقات طالما أرّقتني وسلبتني لذّة الوسن وراحة البال ، ولقد بكيتُ وذرفت حمر الدموع لضياع السنين الكثر بين هذا وذاك. ولا أدّعي أبداً تخلّصي من مشكلات الذات وتوابعها ، لكنّي قد أدّعي حصول بعض التغيّر على صعيد التعامل معها بنحو فيه شيءٌ من النضج والاستيعاب.

أعترف بضعفي حيال المديح والإطراء ، فلا أتمالك نفسي وأكاد أطير فرحاً بمجرّد تلقّي شيئاً منهما ، مثلما اعترف بضعفي إزاء النقد والذمّ .. لكنّي في الثانية أكاد اُسيطر على أحاسيسي ، ولاسيّما بعد مضيّ بعض الوقت ، فيتحوّل النقد والذمّ إلى موضوع أتحدّى به ضعفي ومواطن الخلل والنقص في ذاتي ، وتغدو العمليّة برمّتها عمليّة إثبات وتأكيد حضور ، إثبات التغيّر بحضور فاعل وممارسة واعية تنير بقاع العتمة وتفتح لي الآفاق صوب معرفة حقيقيّة صادقة.


إنّ المعاناة والحاجة هي التي تثير الهمم نحو بلوغ الحلول ، تلك الحلول التي تصنعها المناهج السليمة عبر الأدوات المناسبة ; فلا يمكن للترف والمساوئ أن يصنعا فكراً خيّراً ; إذ ليس الفكر إلاّ عصارة التاريخ واللغة والعلم ، فلنا خصائصنا التي بها ومنها وفيها ننطلق لنلبّي الحاجة ونرفع المعاناة ، والذات هي مبدأ الحاجة وقطب المعاناة ، فالحلّ لابدّ أن يشرع بها لتضطرد الرحلة نحو الأكبر فالأكبر .. لكنّ الإشكال في أنّني أنسى وأتغافل الذات ـ بل ربما أعتقدها خارجةً موضوعاً لعدم افتقارها إلى الإصلاح والتغيير ـ فانطلق إلى ما سواها ، وحيث يصاحبني الخلل والنقص منذ الوهلة الاُولى فالنتائج فاشلة بلا ريب (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

إنّ اعتنائي بذاتي قد يكون بفعل حبّي لها وغطرستي .. لكنّه قد يفسَّر أيضاً بأ نّه محاولة للإصلاح والتغيير ، ولعلّ الأرقى في القضيّة إيجاد الشفّافيّة الداخليّة التي تساعد كثيراً على تشخيص النقص والخلل ، ومن المؤكّد أنّ الحوار الذاتي الحقيقي إن حصل فإنّه سيكشف بوضوح عن الذات الموافقة والذات المعارضة ، إذ ليس من الضروري أن يكون «الآخر» خارج الذات ، فهو قابع أيضاً بين ثناياها بلا شكّ ، بل هو منها وتكوينٌ من تكويناتها ، فلا مهرب من الصراع ، ولا مخلص من مفترق الطريق ، والانتخاب تابعٌ لمقدّماته.

مشكلتي أنّني أكذب واُنافق وأخون وأسرق وأتزلّف وأتحامل وأكره وأنتقم وأستكبر وأمنّ وأتصنّم وأتذيّل وأظلم وأتجاوز ... بما لهذه


الموضوعات من معاني ومفاهيم وبما فيها من آراء واجتهادات .. لكنّ غطرستي تمنعني من الارتداع ، الأمر الذي جعل «مبدأ التبرير» مستشرياً طول التاريخ ، مغروساً في ذواتنا ، مخلوطاً بدمائنا ، ممتزجاً بلحومنا ، مهيمناً على أفكارنا وعقولنا وقلوبنا ومشاعرنا. ولا منفذ نحو الحلّ سوى السعي لإيجاد الفضاء المناسب للحوار الذاتي الشفّاف ، نعم إنّه سوى منفذ ، أمّا الحلّ والنجاة فهما بالانتخاب السليم.


أسَدٌ على غيري نعامةٌ على ذاتي؟!

إنّها معاناتي فلا يزر وزرها سوى ذاتي .. نعم ، أنا الشخصيّ المقصود هنا بعظمي ولحمي ودمي ، لا النوعي ، فلا أهرب من قدري وحقيقتي ; هي الأحزان والهموم أبثّها علّني اُخفّف من ثقلها واُزيح من كاهلي بعضاً منها ..

فأنا إنسانٌ عاديٌّ جدّاً ، شأني شأن الكثيرين غيري : جوارحي تعمل ، ذهني يرقب ، يرصد ، يلحظ ، يسجّل ، يحفظ .. بحصيلة ذاكرتي أقرأ ، اُراجع ، أستقرئ ، اُقارن ، اُبعثر ، اُحلّل ، أستنتج : منتقداً تارةً ، مآلفاً اُخرى ، متوقّفاً ثالثة .. بالقلم أو اللسان أو القلب أو ...

لكنّي إزاء كلّ هذا الجهد والوقت الذي أصرفه لرصد هذا وذاك ، لمراقبة سائر الأشياء هلاّ منحتُ الشقّ المناوئ من ذاتي نزراً يسيراً من فرصة إبداء الرأي وحرّيّة التعبير المنطقي ، ثم المراجعة وتواليها من النقد والتوقّف والتأمّل؟! بعبارة اُخرى : هل لي الجرأة والشجاعة والإنصاف والصدق في نقد ذاتي مثلما أنقد غيري؟

قلّما اُمنَحُ فرصة المناجي ربّه معترفاً مقرّاً مذعناً بالضعف والآثام ،


بكلاكل الغفلة والذنوب العظام ، معجونةً بدموع الآه والخشية والآلام ..

فحينما لا يخشع القلب ولا يُسمَع الدعاء ولا تشبع النفس ولا ينفع العلم ، حينما أحسد وأخون وأكذب وأغتاب واُنافق وأغضب واُجافي وأرتدي لباس الحرباء وأتزلّف واُ أدّي دور الببغاء ، حينما أضيع بتوافه الدنيا وهموم الرغبة وأفتقد شوق القرب ولذّة التنسّك وسط هشاشة الاعتقاد وضعف الإيمان والتقاعس عن الوظائف والمهام .. لاعجب أن تجدني أتجرّأ العُتبى على الربّ الغفور الرحيم ، عتبىً قادني إليها كبري وغروري اللعين ، غافلاً متناسياً ما جنيتُ على نفسي من سوء تدبيري وجهالتي الألعنين.

هذه حقيقة ذاتي المعذّبة العالقة في مستنقع الشهوة والخوف لا يواسيها سوى بصيص الرجاء ، رجاء الخلاص بفعل الحبّ الذي ليس عليه أيّ غبار ، حبّ العترة الطاهرة الأبرار.

لطالما وجدتُ أنّي عبءٌ على نفسي وعلى غيري فلم أعد أتحمّل عبء النوم وعبء الاستيقاظ ، وجدتُ أنّي رغم طول تضرّعي وابتهالي أجهل : من أين ، في أين ، إلى أين .. فأغرق في حزني وتثخن جراحاتي .. ثم يعود ذاك الحبّ ليرسم البسمة على شفاهي البائسة ، فصار لي هو الأمل كلّ الأمل في أن أشفى وأبرأ من أسقامي وطعنات الصميم الدامي .. في أن أبلغ مرابع الأمان ومراتع الاطمئنان ورياض الجنان.

ما أروع وأجمل الظفر بتلك الطمأنينة الراشحة من ذاك الحبّ


القدسيّ الطاهر ، التي دونها كلّ شيء ، فلا غرو أنّها بمثابة المقام المحمود ، إن لم يكن التغاير بينهما مفهوميّاً ليس إلاّ ، ولا مندوحة إن هي ـ الطمأنينة ـ استلّتني من براثن القلق والحيرة والجهل والخشية محلّقةً بي صوب آفاق الراحة والحسم والمعرفة والرجاء.

ورغم أنّي ـ بحكم اعتقادي ـ أرى في الحبّ المعهود صكّ الضمان ووثيقة الأمان لكنّ هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال ترك النقد الذاتي بمعنييه الضيّق والواسع ; إنبعاثاً من مبدأ : «كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا».

ثم في مقام النقد ، ليس الضابط والميزان والملاك أن أكون أسداً على غيري ونعامةً على ذاتي ، إنّما المحرار في أن أقطف ثمار العمر وتعب السنين لمّا استأسدُ على ذاتي وأستنعمُ على غيري ، كلاًّ بالتي هي أحسن.

إذن عليّ نفسي ، اُعالجها واُصلح ما فسد من دينها ودنياها ، فإن صلحت صلح المجتمع والاُمّة ، وإلاّ فدونهما خرط القتاد.

فلابدّ لي قبل القول والفعل والتقرير أن أحسم أمري مع ذاتي وما في أروقتها من منعطفات وعثرات ثم التحليق في فضاءات الغير وتسجيل الملاحظات وضبط الاستنتاجات.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ نفسي إنّ النفس لأمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربّي.


رقابة الذات

كلّما حاولت الانسلاخ عن ذاتي وتقمّص سواها مجازاً كي أرقبها واُتابع سيرها واُسجّل الملاحظات عنها واُقيّمها قراءةً ومراجعةً ومقارنةً واستقراءً وحفراً وتحليلاً واستنتاجاً ... فشلتُ وعدت بخفّي حنين.

فمن المشقّة بمكان انتخاب وتوفير المنصّة الملائمة التي تشرف على الأفعال والأقوال والتقريرات إشرافاً علميّاً مهنيّاً محايداً ، ذلك على وجه العموم ، أو كما قد يُطلَق عليه أصالة الصحّة أو الفساد ، ناهيك عن إشراف الذات على ذاتها لترقب وتسجّل وتحاسب ، أو كما قد يُطلَق عليه قاعدة التجاوز والفراغ أو عدمهما.

إنّنا في زحمة «الانتماءات والمنافع والفتن والمخاوف والمطامح» نجد «الأنا» تستنهض كلّ أدوات الوقوف بوجه التغيير والإصلاح ، ولاسيّما أنّ «العناوين المذكورة» تشكّل تحالفاً استراتيجيّاً مدعوماً كلّ الدعم من المحاور العظمى والأقطاب الكبرى التي تعمل من أجل سموّ «الأنا» وشموخها واستعلائها.


إنّنا إن تمكنّا من بلوغ الإشراف المثمر فإنّنا نستطيع توظيف العزم والثبات والإرادة والطمأنينة والتأمّل والسكينة في مواردها المتناغمة معها ، زمانيّاً ومكانيّاً .. الأمر الذي يفتح اُفقاً رحباً نحو معالجة وحلّ القضايا والمشاكل باُسلوب منهجي علمي موضوعي.

ولعلّ من أحرج وأدقّ وأشقّ محاولات الانسلاخ عن «الأنا» محاولة الانسلاخ الآني الفوري حين حدوث الحالات المستعجلة والاُمور الطارئة التي تستدعي حلاًّ ومعالجة فوريّة آنية ، خصوصاً مع وجود الشكّ والحيرة والتردّد ، فإن تجاوزنا محنة الأنا ـ التي هي أساس المشكلة الحادثة والطارئة المعهودة ـ وتمكّنّا من إجراء عمليّة الانسلاخ عن الذات ، كان الحصول على الحلّ والمعالجة والانتخاب السليم أكثر يسراً وأقلّ خطأً.

إنّ هيمنة الرغبة والكبرياء والهلع والغضب مع هشاشة الاُسس والقواعد وفهم المبادئ فهماً قشريّاً مسرحيّاً ، كلّها تخلق ظروف اللاّوعي ، لا وعي الحقائق والإيمان بالقيم السليمة التي تقود إلى برّ الأمان وشاطئ النجاة والطمأنينة ، آنذاك تصعب عمليّة الانسلاخ ، بل تستحيل ، فتنعدم أو تأفل مؤشّرات النمو الذاتي ويضيق المنظار آناً بعد آن وتصبح إنسانيّة الإنسان مهدّدة العنوان وفاقدة المحتوى.

لقد دجّنتنا الثقافة السطحيّة والفضاءات الاستعراضيّة على وثوقية مهلكة دوغمائيّة مخدّرة أماتت فينا أو شلّت حركة الاستدلال القائم على


المناهج العلميّة والأنساق المعرفيّة ، وصارت التعبّديّة البديل المؤلم والحلّ الجاهز لكلّ التساؤلات التي ينهض بها العقل ويرشح بها الفكر ، فاضمحلّت الإبداعيّة والابتكاريّة وحلّت مكانها التبعيّة الارثوذكسيّة المملّة ، وغدت المبادئ والثوابت والاُصول مجرّد أشياء معلّبة لا يمكن محاورتها والوصول إليها ومحاكاتها ، وصار الجديد جديد الغرباء ، أمّا نحن فلا جديد عندنا ; ذلك بفضل فضاءاتنا وثقافتنا التي جمّدت الجوهر الموّاج بالحركة التي لا تهدأ والنتاج الذي لا يتوقّف بلا أدنى شكّ ، فمن قال : إنّ النصّ لا يُحاكى ولا يرشح بالجديد الحديث؟! فهذا يعني أنّ مشروعنا الفكري الرسالي منحصرٌ زمكانياً ، الأمر الذي نقطع بعدمه ; إذ المشروع بنصّه وسائر أركانه جاء ليكون شموليّاً من حيث الزمكانيّة والمبادئ والمفاهيم ، بعبارة أوضح : إنّ المحتوى متجاوز لمشكلة الزمان والمكان ومجيب عن السؤال الكبير إجابةً تتجدّد كلّ يوم طبق الحاجة والظرف وتتناغم مع نموّ الحياة ورفعتها مع حفظ الثوابت والاُصول ، فالحضارة لا تشكّل برادوكساً مع المشروع أبداً ، بل هي حاجة ونتيجة من نتائجه ، ومبدأ القرية الكونيّة مبدؤنا لا مبدؤهم على ضوء ما جاء به الدين من نصّ ومضمون.

إنّنا إن وضعنا هذا الأساس بعين الاعتبار وصارت ثقافتنا تنأى عن الوثوقيّة وتقترب من الفضاءات العقلانيّة والاستدلاليّة العلميّة ، صرنا آنذاك جاهزين أكثر لممارسة عمليّة الانسلاخ المجازي ، الممارسة التي تبني قواعد محكمة على جادّة إرساء المبادئ والقيم والأخلاق السامية.


ولا ننسى أنّ البداية بداية الفرد ، بداية الذات الفرد ، ثم الذات الأوسع فالأوسع ، أعني : الاُمّة والإنسانيّة برمّتها.

* * *

للإنصاف والتاريخ نقول : رغم ما حلّ بنا من ظلم وحيف وتهميش وحذف ، مقرونةً بشتّى أساليب التحريف والتضليل والتشويه ضدّنا ، فإنّنا بقينا نتمسّك بعقلانيّتنا وحواريّتنا ، ونرفض الغلو والغنوصيّة ، ودعونا دوماً إلى إعلاء شأن «الدليل» تلقّياً وتجسيداً وترويجاً ، وإن ذهب بعض الضعفاء منّا إلى التشبّث بمسارات خارجة عن نطاق الدليل والعقلانيّة فهذا لا يعني انسحابها على الغالب الأعمّ ، فمنذ الأيّام الاُولى لبزوغ نور الرسالة رفضنا العنف والمواجهات الخشنة وآثرنا التضحيات الجسام حفظاً للدين والقيم والمبادئ ، وتحمّلنا ـ ولا زلنا ـ ألوان الضغط والترويع والإرهاب صوناً للفكر والمعرفة النابضة بمفاهيم السماء ودعونا دوماً إلى الحوار والحلول المنطقيّة للخروج من الأزمات والإشكاليّات والخلافات والصراعات التي نقع بها على طول الطريق.

ولا ندّعي أنّنا منسلخون دوماً عن ذواتنا ـ الخاصّة أو العامّة ـ لكنّنا ـ ولسنا جميعاً ـ نسعى ونبذل الجهد لفعل ذلك ، وطموحنا : تشكّل فضاءات تسير بهذا الاتّجاه ، ولا شكّ أنّها تسهم بشكل فاعل في تخفيف حدّة المشاكل بأنواعها وتؤسّس لقواعد الحوار العلمي المنهجي المؤدّي إلى ارتفاع مؤشّر نقاط التلاقي وانخفاض مؤشّر نقاط الاختلاف.


وقفة الذات

قلّما استشعر المتعة في حياتي ...

قلّما أجد من ينصفني في أدائي وسلوكي ، فما بين ركام من الزيف أعيش ، وعن الحقيقة اُفتّش وأبحث ، علّني أعرف ذاتي ، أعرف أدواتي وسبلي ، لستُ متأكّداً من كلّ شيء سوى من شيء واحد أتشبّث به كالغريق الذي يكادح الموت.

نشأتُ تبعاً لثقافة الآباء والأجداد ، لكنّها لم تكن سوى عبئاً ثقيلاً على كفاحي نحو بلوغ الحقيقة ، إنّها جرّدتني من روح التنقيب والفحص ومنحتني غذاءً جاهزاً مفروضٌ عليّ تناوله ، إنّها سلبت منّي الحقّ في الاستمتاع والمغامرة ، وشطبت من قاموسي معنى الخوف الذي دُعينا للوقوع فيه حين نستشعره ، فمن اللازم أن أعرف ، أعرف من أين أنا وفي أين وإلى أين ، هذه المعرفة التي يؤرّقني الجهل بها ولا أدري كيف ومتى أبلغها.

آه ، ما أكثر المدوّنات ، وما أكثر المشافهات والمشاهدات ، وما أكثر


ما خضناه في ميادينها ومظانّها ، لكنّا لازلنا قاصرين عن إثبات كثير من الاُمور التي نذبّ عنها ونضحّي لأجلها ، ليس سوى لأ نّنا ارتضينا تناول الغذاء الجاهز تعبّداً ، نحن لا نشكّك سوى في فهمنا ودركنا لا في شيء آخر ، هذا التشكيك الذي أضعفنا على صعيد البحث والاستدلال والإثبات وجعلنا نهتزّ ونضطرب وتركبنا الفوضى في الوهلة الاُولى ، سواءٌ حينما يهاجمنا المناوئ أو لمّا يؤاخذ علينا الموافق.

طريقنا للفلاح : التمتّع بثقة عالية بثقافتنا مقرونة بالمتانة والسكينة والاطمئنان ، وهذا ما لا يحصل إلاّ بتوفّر المقدّمات الممّهدة : من مناهج علميّة سليمة ورؤى معرفيّة صحيحة .. إلى الأخذ بعين الاعتبار دقّة الملاحظة والضبط والتجربة الكافية والقدرة على الحوار بنَفَس عميق وصبر ورغبة وشوق وأمانة في تحمّل المسؤوليّة ...

لا ننسى أنّ العلم ليس بكثرة التعلّم ، فكم من اُناس قضوا العمر بالتعلّم وحازوا على كمٍّ هائل من العلم لكنّهم لم يحسنوا الاستفادة منه ; إذ لابدّ من تآلف العقل والعلم ليكوّنا كياناً معرفيّاً متجانساً فاعلاً مؤثّراً.

ناهيك عمّن حملوا ورفعوا شارة العلم دون أن يتمتّعوا بأوّليات العلم والمعرفة ، وكلّما مرّت الأيّام ازداد هؤلاء كثرةً وسيطروا على الموقف ، ممّا أدّى إلى تراجع العمق والمحتوى تراجعاً مأساويّاً وتعالي القشور والمظاهر تعالياً كارثيّاً ، وصار البحث والفحص والحفر والاستقراء والتحليل والقراءة وفهم النصّ بلحاظ التطوّر الدلالي ونظائره والمقارنة


والاستنتاج ... أُموراً غريبةً بل مبغوضة لدى حاملي لواء المظاهر والقشور ، كونها تكشف زيفهم ومدى خوائهم ، فصاروا ـ بطبيعة الحال ـ أعداء العمق والمحتوى ومناصري الشعارات والاستعراضات ، ودجّنوا كثيراً من الناس بفعل الإمكانيّات التي اُتيحت لهم ، فعاش السواد الأعظم منّا عيشة الأوهام ، هذه الأوهام التي سرت في الاُمّة مسرى النار في الهشيم ، فكان أنْ تراجَعَ الوعي تراجعاً رهيباً ، وعمّ الجهل ، وآل الحال إلى ما نحن عليه الآن ، تسيّرنا الأهواء والمصالح أنّى شاءت ، لا نستطيع سوى التعبّد بميل هذا ورغبة ذاك ، أمّا القيم والاُصول فلا معنىً حقيقيّاً لها ، ناهيك عن التعرّف عليها وخوض غمارها بالمناهج العلميّة والاُسس المعرفيّة السليمة.

ناتج ذلك : طغيان النفاق والببغائيّة والصنميّة والحربائيّة والتزلّفيّة ... الأمر الذي يعني فقدان السلم والأمان وتضاؤل فرص النموّ والازدهار وغياب العدالة الاجتماعيّة وانتشار الفوضى والرعب والعنف ، ممّا أفرز مجتمعاً غابت عنه الرؤى والأفكار البنّاءة وانحسرت فيه الدائرة القيَميّة واهتزّت الاُسس والقواعد ، فتكوّن ذاك الفضاء الذي يموج بالتبعية والتقليديّة على حساب الإبداع والابتكار والاجتهاد.

ألسنا كذلك؟ علّنا نجيب بالنفي ، وهذا ما يجانب الواقع ويجافي الحال الذي نحن عليه ، أمّا حين الإجابة بالإثبات ، فأين الخلل وماهو الحلّ يا ترى؟


لا مفرّ من الشفّافيّة ، لا مفرّ من الجرأة المعرفيّة ، نعم تجب إزالة الحجب التي عشعشت على واقعنا الديني والثقافي والاجتماعي وأزاحتنا عن مراتبنا العلميّة والتأريخيّة وجعلتنا مجرّد ظواهر صوتيّة وصنعت منّا اُمّةً تندب ماضيها التليد وتتغنّى بنتاج الأسلاف المجيد ..

غير متناسين أبداً في جرأتنا المعرفيّة المنهج العلمي السليم في خوض غمار الشفّافيّة والاستفادة من الأدوات والآليات المناسبة للرجوع إلى الاُصول والاُسس والقواعد المجمع عليها ، مع الأخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة وتجسيد تكيّف مقولة الدين مع هذه المتغيّرات بالحفاظ على الثوابت العَقَديّة والدينيّة والفكريّة.

حينها ستكون معركةً حامية الوطيس بين معسكر المظهر من جهة ومعسكر المحتوى من جهة اُخرى ، وسوف تسقط أقنعة وتنكشف حقائق ويظهر زيف كثير من الأشياء ، فتعجّ ـ آنذاك ـ فضاءاتنا بالحركة العلميّة النابضة شوقاً إلى بلوغ أرقى المراتب وأرفع القلل ، وتنشغل الأذهان والأحاسيس انشغالاً حقيقيّاً بكيفيّة الوصول إلى السعادة والكمال الإنساني المنشود.


التعارض الذاتي

حينما أرى البعض يمنحني مزيداً من التكريم والاحترام أشعر بأ نّه مخدوعٌ بظاهري ، فهو لا يعلم ما في باطني من مساوئ وقبائح ، ولمّا اُحاول بيان الحقيقة يعدّ ذلك من حسناتي ويزداد إعجاباً بي ; من باب أنّ الإنسان السليم متّهمٌ لذاته ، متواضعٌ ... ولو كان بإمكانه اختراق هذا الجدار الرقيق المنخفض الحائل ما بينه وبين حقيقتي عرف أنّي لستُ ذاك المتواضع المتّهم لذاته ، وللاذ بالفرار منّي.

كلّ ذلك ولا زال الظاهر حجّة ، فظاهري ـ أنا الإنسان السيّء باطناً ـ المقبول حجّة ، أيّة حجّة هذه التي انخدع الناس بها؟!

نعم ، ربما يقودني اعترافي هذا إلى حصول تيّارين داخل ذاتي : أحدهما موافق والآخر ممانع ، فيكون كلّ واحد منهما رقيباً على الآخر ، وإذا ما سارت الاُمور طبق القواعد المنطقيّة من المنافسة والرقابة السليمة فإنّ احتمالات النموّ واردة ، أقصد نموّ الباطن باتّجاه الصحيح ، ولعلّ العدّ التنازلي للمساوئ والقبائح يبدأ بالانخفاض ، فتسير الذات نحو المطلوب


سيراً حقيقيّاً ، وتتضاءل حدّة وخزة الضمير الناشئة من انخداع الناس.

علينا بذل كلّ الجهد لإيجاد الفضاء الذاتي من الحوار والنقاش والنقد ، فهو سبيلنا نحو الاُفق الرحيب ، اُفق الكرامة والكمال والفلاح.


عبٌ ثقيلٌ أنا

كثيراً ما ينتابني هذا الشعور : إنّ حالي كالمثل الشهير : «ما زاد حنّون في الإسلام خردلةً ولا النصارى لهم شغل بحنّون». وعلى الرواية الاُخرى يكون عجز البيت : «ولا على الإسلام من حنّون من ضرر». بما في ذلك وجودي ضمن اُسرتي.

أشعر بأ نّي عبٌ ثقيل يلقي بظلاله عليهم دوماً ، على الجميع ، بل لا أهمّيّة لوجودي بين ظهرانيهم ، فأرغب في العزلة والانطواء ، رغبة على مضض وإلاّ فإنّ الإحساس بالغربة إحساسٌ مرير.

اُحبّ الناس وأسعى ألاّ اُصيبهم بأذى أو مكروه ، سواء بالكلمة أو بالفعل أو التقرير ، وأشدو إن استطعت إدخال الفرح على قلوبهم .. ولكنّ حنايايي كثيراً ما تتساءل : هل يفتقدونك ، هل يعطوك حيّزاً من حبّهم وتفكيرهم كما تحبّهم وتفكّر فيهم؟

لا أدري مِمَ أتى هذا الشعور وكيف تولّد في صدري؟ هل خلقته التجربة والأحداث المتوالية ، أم هي مجرّد أوهام لا صحّة لها؟ ولعلّ في التفصيل احتمالاً معقولاً؟


وعلى فرض واقعيّة الأمر هل أستحقُّ جفاء الناس وإهمالهم رغم حبّي لهم؟

ليتني أقفز فوق ذاتي وجوهري ودائرتي وأنأى بعيداً ، في زاوية ما ، عن كياني ووجودي لأستقرئ وأبحث واُراجع واُحلّل كي أحصل على النتائج التي تمنحني جواب كلّ الاستفهامات بشفّافيّة ووضوح.

ولا شكّ أنّ الإنسان ـ بتوفّر الأدوات والشروط الخاصّة ـ يستطيع فهم ذاته فهماً عميقاً ، فإذا ما فهم وعرف نفسه فقد عرف كلّ شيء وهانت عليه كلّ الآلام والصعاب وتفتّحت له آفاق المعرفة بأوسع أبوابها ، وما هذا الشعور المشار إليه أعلاه بمصاديقه ولوازمه ـ حقيقة كان أم وهماً ـ إلاّ مفردة سهلة لا يحتاج حلّها كثير مؤنة أو جهد حينما يعرف المرء نفسه.

لكنّي ضئيل المعرفة بنفسي ، أتخبّط بين أنانيّتي ورغباتي وشهواتي وظواهر دنياي وترافة عيشي واعتدادي بذاتي ، اُشرك بربّي كثيراً بعلم مني أوجهل ، بقصور أو تقصير ، أستهين بالصغائر .. مأساتي أنّي أعرف مواطن ضعفي ولا أجهد إلاّ قليلاً لتجاوزها وردم الخلل والنقص الحاصل منها ، وأتوانى في كسب مؤن الفلاح والخير رغم اطّلاعي الوافر بها.

ولا أرى أنّ اعترافي هذا سينقذني ممّا أنا عليه إن لم أفعل شيئاً يغيّر مجرى حياتي وتفكيري. أتوقّف عند قوله تعالى : (وَلْتَنْظُر نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد) وقفةً جادّة ، بل وتهزّني كثيراً ، لكنّي مستلهمٌ آني ، لا تتجاوز به هذه المفاهيم المقدّسة حدود المشاعر والأحاسيس المنفعلة لحظات


ليس إلاّ ، وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المبادئ والنظم والقوانين والأحكام المولويّة منها والإرشاديّة ، فإنّها لا تفعل بي إلاّ فعل المسكّن المؤقّت.

ماذا عساي أن أفعل وصحيفتي سوداء فلا أراها تبيضّ بنور وجهه الكريم وأنا أحتسي غرفات العصيان دون أن أكدح إليه تبارك وتعالى كدحاً لاُلاقيه.

ربّي إنّي أسألك خيرَ ما سألك به عبادك الصالحون وأولياؤك المقرّبون أن تصلّي على محمّد وآله محمّد وأن تجعلني من خيار خلقك وأحسن عبيدك وأخصّهم منزلة لديك وأقربهم زلفة عندك يا أرحم الراحمين ، فإنّه لا ينال ذلك إلاّ بفضلك وكرمك.


«نفّذْ ثم ناقِش»

مفهومٌ تعسّفي استبدادي يعطّل حركة العقل والإبداع ويستهزئ بأدوات الفكر والمعرفة والأنساق العلميّة والمناهج الثقافيّة ، ويقوّي شوكة الفردانيّة والصنميّة والتقليد والتبعيّة والجمود ، ويجعل المراجعة والاستنطاق والحفر والبعثرة والمقارنة والتحليل والاختيار في خبر كان.

طالما تسلّطت على مجتمعاتنا ثقافة العسكرتارية وخيّمت على فضاءاتنا الأفكار الديكتاتوريّة الخانقة ، وليست العوامل السوسيولوجيّة والانثروبولوجيّة والابستمولوجيّة بمنأى عن نشوء ونموّ هذه المفاهيم وفي جعلها تتشعّب وتتوسّع وتتبلور بآليات وقوالب مختلفة تبعاً لطبيعة الانتماء الفكري العقائدي.

ولعبت الهرمونطيقا ـ التأويليّة ـ دوراً أساسيّاً في تنوع هذه الأفكار ضمن الانتماء والهويّة الواحدة حتى ، فالأنظمة الثيولوجيّة ـ مثلاً ـ تتّخذ من الارثوذكسيّة الدينيّة غطاءً يؤمّن لها إرساء أفكارها ومشروعيّة وجودها ، فباتت نظريّتها ومبانيها أمراً مفروضاً على الاُمّة ; استناداً إلى مبنى وجوب الالتزام بما ألزمتنا الشريعة والدين به من أحكام وقوانين


ونُظُم .. بينما نلحظ أنّ ذات الرحم قد أنجب نظريّةً ـ رغم ارثوذكسيّتها الدينيّة ـ لاترى وجوب تحقّق كذا وجوب وإلزام ودوائر وخطوط وأدوات كالتي تراها سابقتها ، بل ومن ذات الرحم ينطلق نداءٌ يدعو إلى فصل الدين عن السياسة.

وإذ تتجاذبنا الاصطفافات المعرفيّة والمباني الفكريّة والتناحرات الثقافيّة :

بين ناقم على الدين واللاهوت ومؤمن بالنهضة التجريبيّة بكلّ أدواتها وأنساقها ووصفاتها الجاهزة.

وبين حافظ للدين مكانته وكيانه ومنزلته ضمن إطار دُور العبادة والوعظ والتذكير بالآخرة ونظائرها لا غير.

وبين متّخذ الدين نهجاً وميثودلوجيا تنظّم حياته وشؤونه لكن في حدود ودوائر معيّنة.

وبين رافع له إلى مستوى التولّي المطلق على شؤون الاُمّة طرّاً بلا استثناء ..

فإنّها تشتبك تلقائيّاً في اُسسها ومؤنها وإفرازاتها لتفرض على الاُمّة واقعاً مشوّشاً قد ترقى فيه مسائل وقضايا على حساب القيم والمفاهيم والأخلاق ، فقد يفقد العمق والأصالة والحقيقة جلالها وتتأ لّق القشور والأغلفة والمظاهر ، وتبدو المبادئ والمقدّسات وكأ نّها فقط : الحجاب ، اللحية ، العمامة ، السبحة ... أو تبدو الحضارة والمدنيّة وكأ نّها فقط ربطة


العنق ، الخلاعة ، الميوعة ، حلق اللحية ... بل وكأنّ الهمّ والغمّ والطموح منحصر بهذه الوسائط.

نعم ، تحوّلت الوسائط عندنا إلى أهداف وغايات ، أمّا الغايات والمقاصد الشريفة فصارت أشياء غريبة علينا ; إثر ذلك تفشّت مفاهيم التعسّف والاستبداد مثل «نفّذ ثم ناقش» بل توسّعت دائرة المأساة لترتقي إلى «نفّذ ولا تناقش» فغدا الإنسان مجرّد أداة مُسيَّرة لا تختلف عن الحيوان إلاّ بالنطق.


الأنا

ابتهالاتي وصلاتي وأخلاقي ليست سوى مظاهر جوفاء تفتقر الروح والحياة ، تفتقر الصدق والإخلاص ، بدليل أنّها خاضعة لشهواتي خضوع العبد لمولاه ، لستُ سوى مدّع مخادعاً لذاته ولغيره ، اُظهر دماثة الخلق وجمال العبادة والتآلف الاجتماعي لكنّي أضمر المساوئ والقبائح واُمارسها طبقاً لخوارق اللاّشعور ، فتتجلّى تارةً هنا واُخرى هناك.

لا اُحبّ سوى لذاتي ولا أكره سوى لها ، رغباتي هي الملاك والميزان ، اُبرّر كلّ شيء لأجلها ، أعمل كلّ شيء لأجلها ، حتى الأفعال الحسنة التي اُنجزها فهي من باب إرضاء الذات ، الذات التي تزهو حينما تجد أنّها تستطيع ، تستطيع أن تعلو وتكبر فيرى الغير مكانتي ومنزلتي وقدرتي وسلطتي ، أكاد حينها أطير ، بل أنا طائرٌ فعلاً بغروري وكبري ، وهل يا ترى ينفعني فعل الخيرات وأنا أروم ما ترومه شهواتي وتتطلّع إليه رغباتي ، ولاسيّما وأنا ذائبٌ بمدح هذا وإطراء ذاك ، فواحدٌ يتمسّح بلباسي ويقبّل يدي تبرّكاً وآخر وظّف نفسه مسؤولاً عن نعلي وحذائي وثالث ورابع ... الناس تتهاوى لنيل شرف اللقاء بي والحصول على


المغنم ، أيّ مغنم كان مادّي أو اعتباري ...

روحي الصغيرة ، هل بإمكانها تحمّل كلّ هذا الضغط الشهواني الممتلئ بالرئاسة والسلطة والنفوذ والقدرة ، ثم إنّ الناس هم الناس ، الغالب منهم أصحاب حاجة ، الكثير من أصحاب الحاجة يريدون قضاءها بشتّى السبل والآليّات ، لا شكّ أنّي أفتقد روح الأنبياء والأولياء النجباء (عليهم السلام) والصالحين كي أتحمّل كلّ هذا الضغط الشهواني الكبير ثم أهزمه.

نعم ، حينها أسقط لا محالة في فخّ الكبر والغرور وأكون حيث لا أنا ، أسقط في فخّ التقديس ، تقديسي لذاتي وتقديس الآخر لي ، هنا تحلّ الكارثة وترتسم خارطة طريق مقصدها الأنا ومرامها الأنا وهدفها الأنا ، إنّها فضاءات الاستبداد والطغيان والاستغلال والكبر والزهو بأجلى مصاديقها وأسنى أمثالها ، فضاءاتٌ لوازمها معها وعواقبها واضحة.

اللّهمّ أعنّا على أنفسنا يا ربّ.


يقول السلطان

يقول السلطان : بما أنّك يدي المنفّذة «بتعبّد وصنميّة».

بما أنّك الوجه الآخر لي أنا الحليم الكريم البشوش ذي الخلق والأدب الرفيع.

بما أنّك الذابّ عنّي في كلّ الأحوال.

بما أنّك الدرع التي أصدّ بها هذه وتلك.

بما أنّك تذوب كي أبقى أنا.

بما أنّك انسخلت عن أمانيك ورغباتك وطموحاتك وصرت وقفاً لأمانيّي ورغباتي وطموحاتي.

بما أنّك قطب امتصاص النقمة عليّ.

بما أنّك مَفْرَغ شحنات غضبي وآلامي ومعاناتي.

بما أنّك الناطق بما لا يناسب شأني النطق به.

بما أنّك العنف والصرامة والصلافة التي ألبستها إيّاك نيابةً عنّي.

بما أنّك محطّ اللوم والعتب والنقد بدلاً عنّي.


بما أنّك إلى جانبي كلّما أردتك أو لم اُردك.

بما أنّك أنيسي ومدعى راحتي ومستقرّي ولوعة صباي.

بما أنّك تروم بلوغ العلا مهما كلّف الأمر.

بما أنّك سندي وداعمي وتابعي وذيلي.

بما أنّك مخلصي ووفيّي.

بما أنّك الصامت الممضي الموافق بلا قيد وشرط.

بما انّك صوتي وسمعي وعيني وعقلي وكلّ جوارحي بحضوري وغيابي.

بما أنّك المتشدّق بمدحي وتسبيحي وتعظيمي ...

فأنت أخي وصديقي وخليلي وعضدي وحريم أسراري وحافظ منافعي ، وأنت الأقرب منّي وإلي.

ولا يهمّني : إن كنت تجيد من العلوم والمعارف والثقافات والفنون شيئاً أم لا تجيد ، أو إن كنت تجيد التعامل مع أدوات الفكر وآليات الفهم أم لا تجيد ; فمادمت على الصفات الآنفة الذكر ، ومادمت لا تفسد عليّ رأيي بالعصيان والنقد والخذلان ، ومادمت لا تخالفني فلقد منحتك ما تريد ما برحتَ تمنحني ما اُريد.

فهذه هي ملاكاتي وموازيني وضوابطي التي استخلص بها دوائري وحلقاتي وخطوطي.

ولا أكترث بك أيّاً كنت أنت الآخر مادمت تتهافت مع ملاكاتي


وتتناقض مع موازيني وتتباين مع ضوابطي ، فالموافقة الاحتماليّة لا تشفع لك أيضاً ، فهي عندي كالمخالفة القطعيّة ، حيث الحال عندي ذو حدّين لا ثالث لهما : إمّا معي أو ضدّي.

نقول : هنا تُختَبر القيم والمفاهيم وينكشف الانتماء الحقيقي من الانتماء المزيّف البراغماتي ، هنا تصطفّ عناوين ومضامين الأصالة والنبل والكرامة الإنسانيّة في صوب وعناوين ومضامين النفاق والانتهازيّة والفردانيّة والمصلحيّة في صوب آخر ، في عراك مرير وصراع مثير.


مصادرة الجهد

لا أدري بِمَ يُفسَّر عزو الإنتاج والجهد إلى غير ذات الأصل؟

حسب الفهم الأوّلي والتبادر المنطقي فهو يعني : المصادرة ، أمّا المعتقدون بقضيّة الحظّ فيقولون : إنّ الدنيا إذا أقبلت أعارت الإنسان محاسن غيره وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه .. والآخرون يرون أنّها قضيّة جبر وتفويض.

إنّ حظّي كدقيق بين شوك نثروه

ثم قالوا لحفاة يومَ ريح اجمعوه

صعب الأمر عليهم قال قومٌ اتركوه

إنّ من أشقاه ربّي كيف أنتم تسعدوه

كثيرون هم الذين يرفضون مقولتَي الحظّ والجبر ; إذ العقل والفكر والحقيقة تجافي القضايا التي لاتستند إلى البرهان العلمي والاستدلال المنطقي ، فالذهن الذي يمتلك مقوّمات التفكير الصحيح المطعّم بالقيم الأخلاقيّة الرفيعة يمنح الإنسان فرص الثبات والدوام والنموّ والازدهار ، مع ما منحه الله سبحانه وتعالى من حرّيّة الانتخاب والاختيار ، فالحياة سائرة طبق قانون «أمرٌ بين الأمرين» على الرأي الأصحّ الأقوى.


بقي أن نقول : إنّ ذلك العزو إمّا خطأ وباطل ، أو صحيح وحقّ ، ولا قائل بالثاني مطلقاً ، والتوهّم في كون ذي النتاج هذا وليس ذاك أو مشتركاً ونظائرهما ، خارجٌ عن محلّ البحث ; حيث مسألتنا ثابتةٌ بالدليل مفادها : مصادرة الجهد ، لا غير.

إنّ الحبّ لمّا يعمي ويصمّ فإنّه يكوّن الأرضيّة الخصبة لتلك المصادرة ، فلربما لا تكون العمليّة عن عمد ووعي ، بل الباعث العاطفي اللا شعوري هو الذي يخلط الأوراق فيُسقِطُ ويُلحِقُ ويعملُ أشياء اُخر.

أيّاً هي الدواعي والأسباب فإنّ المحصّلة : مصادرة جهد ونتاج ، مهما كان الجهد والنتاج ; إنّه إحباط وخيبة أمل وشعور بالغبن والظلم وجرحٌ لا يندمل.


ماذا أنا؟

ماذا عسانا فاعلين لو لا الحبّ؟ حياةٌ بلا معنى ، بل لا حياة ، إنّ الحبّ ـ بما لكلّ الألفاظ المتعدّي منها واللازم ، وبما لكلّ المعاني من وجود ـ باعث الحركة والسكون ، إنّه أقدس منحة فطريّة غرسها الله تعالى في خلقه .. إنّنا نشتاق لأ نّنا نحبّ ، وهكذا نكبر ونعمل ونطمح ونتأ لّم ونفرح وننام ونستيقظ .. بجوارحنا وجوانحنا ، بالعقل والقلب ، بكلّ ما اُوتينا من أشياء.

بالحبّ وفيه وإليه تجتمع كلّ صفات الخير والصلاح ، إنّها الفطرة لا غير ، كرامة الخالق لمخلوقاته.

وهل لي العيش بلا حبّ؟! وهل لي الموت بلا حبّ؟! وهل الدين إلاّ الحبّ.

ماذا أنا ماذا؟ أيّ سوء عملتُ وأيّة آثام ارتكبت ، هلاّ أصلحتُ ما فسد منّي ، هلاّ قدّمت لحياتي شيئاً ، وهل حفظتُها بما يلزم حفظها به ، وهل صنتُها بما يلزم صونها من كلّ أشكال التعدّي ، سواء على ذاتها أو


على غيرها .. هل قادني الحبّ إلى برّ السكينة وسواحل الأمان أم قدتّه أنا إلى حيث أودية رغبتي وكهوف شروري؟

أيُّ مخلوق أنا ، أيُّ مخلوق أنا الذي لم يعرف نفسه لكنّه يكابر زوراً بمعرفة غيره ، بمعرفة ربّه .. أيّ مخلوق أنا الذي خالطتُ الصدق بالكذب والحبّ بالكره والحقيقة بالوهم والجوهر بالقشر ... إلاّ أنّي لازلت أطمح أن يحشرني الله في زمرة الصالحين!

أشعر أحياناً بأ نّي لستُ سوى ظاهرة بل سوى سراب لا يستحقّ البقاء ; من سوء عملي وفعالي ودوام تفريطي وجهالتي.

وأحياناً اُخرى أشتاق إلى الخير ، إلى النور ، إليه حيث ألمس رأفته وعطفه وحنانه.

ما بين هذه وتلك أغفو وأصحو ونداء السماء يهزّ كياني (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) فإليك يا ربّي نصبت وجهي ... فبعزّتك استجب لي دعائي وبلّغني مُناي.


أبحث عن ضالّتي

أبحث عن ضالّتي وأستفرغ الوسع في التفكير بها ، واُخال أنّها هنا أو هناك ، في هذا الشيء أو ذاك .. أصِلُ إلى هنا أو هناك ، أمسك بهذا الشيء أو ذاك ، بعد سعي حثيث وجهد كبير. لكنّي لازلتُ أبحث عنها ، فما قصدته ووقع بيدي لم يكن مرادي ومطلوبي! فما هو يا ترى ذلك المراد والمطلوب الحقيقي؟

إنّني إنسان بالأصالة ، ضيّعت الطريق الصحيح فسلكت الدروب الوعرة المظلمة وازددت ضياعاً ، وكلّما وصلتُ إلى مكان ما خلته مقصدي وغايتي ، ولكن خاب الظنّ وحبط العمل .. فقدت إنسانيتي فصرت أكذب واُنافق وأخون واُرائي وأغتاب وأسرق وأفتري واُوشي وأتزلّف ، حربائيّاً صنميّاً ببغائيّاً ، منحرفاً عن القيم والمبادئ السليمة ، لا يسترني سوى ظاهري ، فالوجه وجه إنسان والقلب قلب حيوان ...

قادني هذا الضياع إلى فقداني إنسانيتي ، فتبدّلت المقاصد والغايات ، وصرت كلّما أحصل على شيء لهثت لأجله أجدني أبحث عن غيره ; كلّ ذلك لأجل الضياع والانحراف ... فأنا في الحقيقة أبحث عن فطرتي التي


ضيّعتها بسبب تمرّدي وضلالي ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة التي تعني «الإنسانيّة» بكلّ ما للعنوان من إطار ومحتوى ومفهوم ... فالفطرة تجرّني صوبها لكنّي اُكابر إثر ضياعي بغروري وشهوتي واستبدادي وضعفي وذلّتي وركوعي لكلّ ما يغويني ويضلّني.

إنّني حيث أحيا هذا الألم والمعاناة وتأنيب الضمير ، فلعلّها خطوة بالاتّجاه الصحيح ، تتبعها خطوات وخطوات مع معاناة وآلام أكثر وأكثر كي أبلغ ما اُريد فأستعيد إنسانيتي وفطرتي ..

ولا أصْدَقَ من النفس مع ذاتها ، ففي خلوات الروح وحينما يرخي الليل سدوله ويحكم السكون وتنام الأعين تنعقد الأحوال التي يستيقظ بها القلب وينهض الشعور ويرشح العقل ، فإن توفّرت الإرادة الحقيقيّة تجد الصراع بين الذات الأصيلة والمزيّفة على غاية من الجدّ والتنافسيّة ، إنّه صراع الخير والشرّ ، الهداية والضلال ، إنّها لحظات تقرير المصير ، لحظات انتخاب المسير : إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.


ماذا استفدتُ وأفدت؟

ما الذي استفدته من حياتي ، وبماذا أفَدتُ المبادئ التي اُؤمن بها والناس الذين أعيش بين ظهرانيهم ، هل استطعت أن أخدم أبناء جلدتي وعموم الناس؟

ثم مَن أنا حتى أتجرّأ بمثل هذا الادّعاء؟

نعم ، أنا إنسان بإمكانه ـ إن أراد ـ صنع المستحيل ، فإن لم يكن بمقدوري فعل ذلك فعلى أدنى تقدير أبذل ما بوسعي والتوفيق من الله تبارك وتعالى.

اُحاول أن أكون صادقاً مع ذاتي ومع غيري ، لذا أعتقد أنّني لا أملك ما أمنحه لذاتي ولغيري سوى ما يستقطب تأ ثّري وقناعتي ، فكلّ ما يؤثّر بي إيجاباً لا شكّ أرغب فيه ، وما أرغب فيه أسعى نحوه لأتعرّف عليه وأتعلّم منه وأتعمّق فيه وأختصّ به ثم أعكسه على غيري.

فمثلاً : أحببت «الخطّ العربي» وجعلني هذا الحبّ أن أقطع شوطاً طويلاً في التعرّف عليه وتعلّمه والتعمّق فيه والاختصاص به ثم تعليمه ..


إنّه فنٌّ رائع يحتاج إلى الحبّ والرغبة والممارسة والصبر ، المقرونة بالموهبة ، ولا ريب أنّ له تأثيراته على شخصيّة الموهوب فيه ; لأ نّه يشتمل على الجمال والرسم والدقّة والقانون والقدرة والتخصّص والعشق والروح ، فالخطّاط يسمع الحرف الذي يحاكيه ، وينظره كما هو ينظر إليه ، إنّه ينبض بالحركة ، هذا ما يجده فنّان الخطّ.

كما وجدت في «الفكر النقدي» ـ مثلاً ـ محاكاةً لأفكاري وانسجاماً كبيراً معها ، حيث أرى فيه «الرقابة المعرفيّة» التي تسعى إلى منع الخطأ والانحراف وتماحك الاستعراضيّات وتنبذ القشريّة وتنتصر للأصالة والجوهر وكلّ ما يتّصف بالعمق والتحليل والمقارنة والبحث والاستدلال والاستقراء. وبالطبع فإنّ المقصود من «الرقابة المعرفيّة» الرقابة العلميّة المنهجيّة كما هو ظاهر العنوان.

وهكذا أيضاً عثرت على ضالّتي في البحوث العلميّة والفكريّة والمعرفيّة التي تجعلني استشعر الحاجة نتيجة جهلي وضعفي ، فاُحاول ردم الهوّة وكسر الفجوة التي جعلت منّي إنساناً جاهلاً ضعيفاً.

وأرغب ألاّ أتخلّف عن ركب الحاضر في مختلف شؤون حياتي ، مشترطاً على ذاتي الحفاظ على الاُصول والمبادئ التي أعتقد بها.

أرفض الصنميّة والببغائيّة والحربائيّة والتزلفيّة وذلّ التبعيّة وكلّ ما يصادر عزّ الشخصيّة والكرامة الإنسانيّة ، كما أرفض الاستبداد ومصادرة الحرّيّات المشروعة.


ولي تحفّظٌ على كثير من الظواهر والأفعال والأساليب التي أراها لا تنطبق مع قيم الدين والشريعة ; ولا حاجة إلى التصريح بها لعدم توفّر الفضاءات المناسبة لها ، ولقد دوّنتُ ما ليس بالقليل في هذا المضمار ، سواء عبر المقالات ، أو القصاصات ، وقد تسنح الفرصة والظرف للكشف عنها والبوح بها.

أعتقد أنّ الكلمة الواحدة أو الجملة والصفحة قد تفعل من التأثير ما لا تفعله المجلّدات الضخمة والموسوعات الكبيرة ، مع إجلالي للأعمال الكبيرة التي رفدت الفضاءات العلميّة والثقافيّة بالأفكار والقيم الإنسانيّة السليمة. وفي عصرنا الراهن أجد بالغ الحاجة إلى النتاجات المختصرة المفيدة ذات الأساليب والأشكال الجذّابة التي تمتع القارئ إطاراً ومحتوى.

وما عاد الاجترار والتكرار والاستعارات المملّة والإطالة بلا طائل والاختصار الغامض ذات نفع. كما أنّ الآثار التي تروّج للتخندق بكافّة أشكاله والعنف والانحلال وإهمال الطفل والحطّ من شأن المرأة ... قد بات سوقها مهجوراً.

إنّنا نفتقر الآثار التي تحرّكنا وتثير فينا رغبة الرجوع إلى الفطرة ، إلى الحبّ والوئام ونبذ الحيف والذلّ ، إلى التنافس الشريف لبلوغ المراتب الإنسانيّة النبيلة.

نفتقر الآثار التي تحاكي القلب والعقل والضمير باُسلوب وبيان شيّق


مبسّط ; إذ «إنّ من البيان لسحر» .. بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإنّهما يقلبان العداء ودّاً والبغض حبّاً والبلقع مرتعاً.

علينا ترجمة عنوان «الجذب أولى من الطرد» إلى ممارسة حقيقيّة ، لا كما تفرضه المصالح والمنافع ، فبمجرّد خلاف واختلاف ـ ناهيك عن الصراع ومراتبه العليا ـ نُركِنُ هذا المفهوم جانباً ونشرع بالحذف والنفي ، فنخسر كوادرنا ونخسر قيمنا وأخلاقنا لأجل منافعنا واستبدادنا وهيمنتنا التي لن تدوم أبداً ، وقد قيل قديماً : الملك مع الظلم لا يدوم ، وما لا يتحقّق بالعنف يتحقّق بالرفق.

ولقد أدانت كلّ الأديان السماويّة والمذاهب الوضعيّة «المنّة» وبيّنت مساوئها وآثارها الوخيمة ، إنّها تمثّل تراجعاً أخلاقيّاً وشوكةً خطرةً في خاصرة الوجود الإنساني ، بإمكانها تضييع العديد من الجهود وفقدان الطاقات ، فهي مؤشّر تخلّف يجدر بنا الحدّ من انتشارها والتحذير من عواقبها السيّئة ثم التخلّص منها بالوعي والإيمان.

على هذا النسق والفكر والشعور والاعتقاد أودّ أن أكون حاضراً ، وبهذه المحاور أودّ الانتشار ، ولا سبيل عندي للكشف والبيان أنجع وأفضل من الكتابة ، ولو كنت أجيد سواها لفعلت. وهذا لا يعني بأ نّي أجيد الكتابة بالشكل المطلوب ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.


من الناس ، إليهم ، فيهم

من الناس .. إلى الناس .. في الناس .. فقيرٌ مثل الفقراء ، غنيٌّ مثل الأغنياء ، عالِمٌ مثل العلماء ... يدرك من أين ، في أين ، إلى أين .. يروم «الإنسانيّة» ويعمل لأجلها ، لأجل ذاته وغيره ، فالسعادة تعني أن تسعد وتشرك الآخرين في سعادتك. وهل سعادةٌ أشمخ وأجمل وأعزّ وأغنى وأرسخ من سعادة «الإنسانيّة» ...

نعم ، بلوغها شيء ، وحفظها شيء آخر ، وهنا نفهم لذّة دوام السعي والمجاهدة والصراع النبيل ، فلابدّ من البقاء في دائرة الضوء الإنساني بقاءً ينمو ويسمو نحو الأرقى كي لا يعلو الغبن فيتساوى اليوم بالأمس ، ولا تهبط الزيادة فيحصل النقصان ثم الموت ، موت الإنسانيّة ، موت المبادئ والقيم الشريفة.

بلوغ «الإنسانيّة» يعني أن تكون خيراً لذاتك وغيرك. أنت إنسانٌ من الناس ، فإلى الناس تبدأ رحلة الخير ، وبينهم تنشر الخير ، وفي أعماقهم تبني له الاُسس والقواعد ، حالك حالهم ، تتكيّف كما هم ، صادقاً بلا كذب ورياء ونفاق ، تعيش آلامهم ومعاناتهم ، أفراحهم وأحزانهم ،


آمالهم وطموحاتهم .. خبيراً يعي متى وكيف وأين ، بالأدوات القمينة والآليات السليمة .. حكيماً بحركته وسكونه ، بقوله وفعله وتقريره .. مستوعب القيم والأخلاق استيعاب الذائب فيها.

إنّنا إن لم نمتلك هذه المواصفات فعلينا الجدّ بالتدرّب على كلّ واحدة منها لترسخ في قلوبنا وعقولنا وأعماقنا شيئاً فشيئاً ، نتدرّب بالتفكير فيها تفكيراً حقيقيّاً ، ثم تدوينها ، ثم المشافهة بها ، حتى تغدو حركة بدائيّة بسيطة نحو مرتبة الظهور ، ثم تتحوّل إلى حالة تأخذ حيّزاً صغيراً ، ثم ترتفع تدريجيّاً لتحصل على حيّز أوسع تنطلق من خلاله محلّقة بارتفاع شاهق ، فإذا ما ألقت في سماء الإنسانيّة فقد اخترقت الحواجز وانغرست في الضمائر وتبلورت حركةً فاعلةً تمتلك مقوّمات التغيير ، تغيير القيم المنحرفة السائدة واستبدالها بقيم نبيلة متعالية تصبو إلى الخير والفلاح والسعادة الإنسانيّة.

وهذا ما لا يحصل بالطبع إلاّ عبر «منهج الإقناع» ، إقناع الذات ثم إقناع الغير ، ممّا يعني أنّ «منهج الإسكات» أرقى ما يبلغه هو أن يكون علاجاً مؤقّتاً ومسكّناً مرحليّاً يتعسّر الوصول من خلاله إلى الغايات المنشودة.

وبذلك يكون في مقولة «الناس على دين ملوكهم» ـ على ضوء أصل التبادر ـ نوع امتهان للكرامة الإنسانيّة ولحركة الفكر وحرّيّة التعبير وتقرير المصير .. ونوع ترويج لمفاهيم الاستبداد والعبوديّة وتعطيل حركة


العقل .. كون هذه المقولة تستمدّ مقوّماتها من «منهج الإسكات» المشار إليه.

علماً بأنّ الإنسان العادل حقّاً ـ أيّاً كان حاله وموقعه ـ يأخذ الناس «بمنهج الإقناع» ، وهذا ما ينطبق مع القيم النبيلة والمفاهيم السليمة التي تجعل السعادة الإنسانيّة مقصوداً أسمى وغايةً أرقى.


أخشى من نفسي على نفسي

أخشى من نفسي على نفسي ، من ذنوبي ونفاقي وريائي وشهواتي وخيانتي وإهمالي وتقصيري ، من كبريائي العنيد الجاثم على صدري وقلبي وعقلي ، من ضعف إيماني وشكّي ووسواسي ، من اهتزاز أفكاري وأحاسيسي لمجرّد مكتوبة أو مقولة أو فعل يستفهم ويحفر في انتمائي وهويّتي ، الانتماء الذي ورثته من آبائي دون أن أجهد في تجذيره وترسيخه في أعماقي إلاّ قليلاً.

أخشى من نفسي على نفسي من كلّ تهافت وتناقض وتباين يشوب منهجي وسلوكي.

من تفريطي بما منحه لي ربّي من مكرمات وأنعام وأفضال ، غير مكترث بنفاستها إذ هي بمتناولي واختياري ، متأفئف متحسّر إن هي نأت عنّي وفارقتني آناً أم أبدا.

أخشى من نفسي على نفسي حين أرغب بالاستقامة والفلاح وأسعى لهما طوراً ، وحين أرغب عنهما واُجافيهما أطواراً وأطوارا ، من حبّي


للخيرات وفعلي الموبقات ، للحسنات وفعلي السيّئات ، لإبهاج الخلق وفعلي المحظور ; باجتهاد واستحسان وتأويل وتفسير يتوخّز منه الضمير وتتأرّق له الجفون ويضطرب منه القلب والحنايا ويتيه به الفكر ويحير.

أخشى من نفسي على نفسي إذ تحسد وتغار ولا ترجو الخير إلاّ لها ، وإن نال الخير آخر ـ ولاسيّما إن كان صاحباً وصديقاً ورفيقاً وقريباً ـ تحزن وتألم ، فلا تفهم من الغبطة إلاّ شعاراً يُلفَظ ويقال.

أخشى من نفسي على نفسي حين تغضب وتثور فلا تدري ماذا تفعل وتقول ، حين تهذي وتنطق بما لا يُرضي الله والناس والرسول.

أخشى من نفسي على نفسي حين تدّعي وتتقمّص وتتلبّس بما يعاكس باطنها وحقيقتها ، حين تُظهِر ما لا تُضمِر ، وتُعلِن ما لا تُخفي.

أخشى من نفسي على نفسي حين تحجز مكاناً بين ذوي المعرفة والفهم والتدبير ، وهي لا تفقه شيئاً ولا تعلم إلاّ القشور والسطوح والعناوين ولا تحكم أمراً.

أخشى من نفسي على نفسي لمّا تآخذ الناس على أفعال وصفات وأقوال هي فاعلتها ومتّصفة بها وقائلة لها ، بذات السوء والقباحة بل أكثر .. لمّا تزداد في غيّها وغرورها وعصيانها ودوامها على ذمائمها وقبائحها وسوآتها ، فلا تخجل ولا تندم ولا تبذل السعي الصحيح لنفض غبار الانحراف والاستعداد لكسب موطئ قدم على جادّة الصواب والاستقامة.

أخشى من نفسي على نفسي ...


أتراني أرحت ضميري وتخلّصت من ذنوبي وسلكت طريق الخير باعترافي هذا ، إنّه اعترافٌ خاو لا ثمن ولا اعتبار له إن لم يقترن بتوظيف العقل والقلب والجوارح وكلّ شيء بشكل حقيقي يعتمد الاُسس والقيم والمعايير السليمة التي تأخذ بالإنسان إلى ضفاف الفلاح ومرافئ العزّ الواقعي والطمأنينة الراسخة ..

صكوك الغفران لا تُشترى بالاعتراف كما يتوهّم الكثيرون ; إنّها تُمنَح لمن حفظ العهد والأمانة التي أودعها الله بذمّته ، أو لمن تاب وآب وعلم صالحاً ; وإلاّ فهيهات هيهات.

واعترافٌ أخير : رغم كلّ ذلك ، لازلت لم أحسم أمري ولم أتّخذ قراري في الأخذ بأيّ النجدين. ربّي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ، ربّي إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير.


لاحت آفاق الخمسين

لاحت آفاق الخمسين والقلب الغضّ ينبض بالعشرين ، حناياي مرابُع عشق خضراء لا بلقع ، نصف القرن لا أدري كيف مضى وتقشّع ، أيّامي كالريح تعدو بل أسرع ، والقلب الهيمان نواظر حبٍّ تترقّب ، لنسمة سحر تروي صدراً متعب ، لسحابة صيف تسقي أملاً أنهد ، أملاً شعّ ضياه في صدري لن يخمد.

ألمي ومرارة حزني أن أموت فلا اُدرك مقصدي : هفتُ له كلّ حياتي ، وأمرّ وجدي حيرة أمري ; إذ تشطّر ما كنت اُطارد :

بين امرأة ، تاق لها عقلي وقلبي وكلّ كياني ، لتزيح عن عيني حلم الوجد الأثقل ، لاُعانقها فنعلو حين الهوي إلى الأسفل ، لاُحاكيها بلسان النطق الصامت ، لأبوح لها بالسرّ المكتوم منذ الزمن الفائت ، لأغفو في أحضان العشق غفو اليقظان الفائق ، نبكي حيناً ، نضحك حيناً في الثالث نحكي ونعاتب. نعلو جبلاً نهبط واد نطوي سهلاً نركب بحراً ، نغتنم عمراً ، نستبق دهراً ، نطفئ جمراً.


لهفي أن تأتي كي تسمع همسي ، ليتها ... يا لوعة فؤادي ، حصاد عمري ، بؤرة حنيني ، همّ سنيني ، عناء أيّامي ، شمس حياتي ، ضياء دروبي ، شامخ أفكاري ، شكواي وعتابي ، خوفي وانتظاري.

إليّ إليّ يا أملاً محبوساً بزنزانة يأسي وقنوطي ، يا صغيرتي الكبيرة ، يامن أجد فيك أشيائي الكثيرة ، ما عدت اُطيق غروب محيّاك الأبلج ، فأنا إليك ضمآن أحوج.

يا حياتي في موتي ، يا هنائي وراحتي ، يا أنيسي في وحشتي ، ياوطني في غربتي ، يا ملاذي في وحدتي ، يا كهفي في عرائي ، يا ملجأي في تسكّعي ، يا دمعتي في لوعتي ، يا بسمتي في فرحتي ، يا هويّتي في اُمّتي ، يا عرسي في رقصتي ، يا فجوتي في خلوتي ...

إليّ إليّ لأنعم بما ترقّبته كلّ الخمسين ، بالعشق الذي نذرت له كلّ الخمسين ، يا أجمل أطيافي وأعمق مكتوباتي وألذّ آمالي ، يا أملاً قضّ مضجعي وأرّق جفوني ، وأدمى قلبي ، أأنتِ خيطُ دخان أم سراب حسبته ماءً أنا الضمآن ، إلامَ أقرأ هذي العيون وتلك الوجوه ، إلامَ أنتظر وأرقب الدروب ، إلامَ يتعذّب قلبي الملهوف.

عظيم خشيتي ألاّ تأتين ، أو تأتين فلا ننعم بالسعد الذي رجوناه كلّ السنين ، فأقول لك حينها : حيّاك القلب وأعماقي واشتاق العمر للقياكِ ولكن فات الوقت ونامت آمالي ، فنامي يا حلوتي نامي ، نامي على صدري الضامي علّكِ توقظين بعضاً من آمالي.


ـ بين امرأة ... وبين أن أكون أو لا أكون ، أن أكون :

حيّاً يفهم السؤال الكبير ويجيب عليه بعقله وأفكاره ورؤاه ، بقلبه وأحاسيسه وحناياه ، باستنطاق الثابت ومراجعته وحفره ومقابلته وإعادة انتشاره ، بلا أدنى مسّ بقداسته وعنفوانه ..

حيّاً يصون العهد ويحفظ الأمانة الراسخة في الذاكرة الأزليّة ..

حيّاً يبعثر في الساكت والهامش وخلف السطور ، يقرأ الأعماق بالعيون البصائريّة ..

حيّاً يدرك القيَم وأثمانها ، المبادئ وقرابينها ، الاستقامة ومرارة نيلها ، الموازين وحدودها ، الأخلاق ومعانيها ، الناس ومراميها ، غامضها وجليّها ..

حيّاً يخلّف لمساته على كلّ معاقل حياته من بيت إلى عشيرة إلى مجتمع إلى اُمّة إلى طرّ المعمورة بما توفّر له من أدوات وآليات وأنساق ومناهج تمنح الخير والأمان والازدهار والفلاح ، تفتح الآفاق إلى المعرفة السليمة ، معرفة النفس ومعرفة مبدأ الفيوضات العظيمة.

ـ بين امرأة ... وبين أن أكون ... وبين ألاّ أكون :

إلاّ ميّت الأحياء ، همّاً من العلف واللذّة ، تافهاً ، حقيراً ، رخيصاً ، ذليلاً ، جيفةً متنقّلةً ، خائناً ، حسوداً ، جاحداً ، ناكثاً ، مارقاً ، قاسطاً ،


جاهلاً ، مغفّلاً ، ملفوظاً من بيته وعشيرته ومجتمعه واُمّته والناس أجمعين.

هيهات أن يكون نصيبي ثالثها ; إذ لا يمكن لي أن أقنع أو أقبل أن انحطّ إلى ذلك الحضيض :

أمّا المرأة فإنّها عنوانٌ من عناوين الجمال ، والجمال مفهوم مترامي المعاني والمصاديق ، لعلّ منها : انتظار الفرج ، بل هو أسمى وأقدس معاني الجمال ومصاديقه إن لم نقل : إنّه الجمال بذاته ، جمال الفيض الربوبي المتجلّي ، الساطع على ربوع القلب الإنساني ; ليحفظه أو ينقله من مستنقع البهيميّة إلى مرابع العزّ والسعادة السرمديّة.


ماذا دهاك يا قلبي؟

حينما تشعر أن لا أحد يفكّر بك أو يهتمّ بشؤونك تودّ لو ترحل إلى مكان بعيد جدّاً ، إلى مكان ما ، حيث لا أهل ولا معارف ولا أصحاب ، آنذاك يكون الشعور بعدم التفكير والاهتمام بك طبيعيّاً ، وآلام الغربة والوحدة هناك لا يمكن أن ترقى لنظيريهما وأنت ينتابك بين أحبّتك وخلاّنك وعلى أرضك ذلك الشعور المرير.

ماذا دهاكَ يا قلبي وأنت الذي خُلِقتَ لتغنّي فرحة الحبّ للأهل والناس والسلام والفلاح ، للقيم والمفاهيم والاُسس والمباني التي تشيد الحياة الكريمة على نهج ونسق سليم ، بالأدوات المعرفيّة الشريفة ، بالتنقيب والفحص والتأمّل والتجزئة والتركيب ; إذ العقل القبلي إن كان يقبل البديهيات من الصور والمعاني والتصديقات فالعقل البعدي لا يستسيغ ذلك القبول على نحو الإطلاق والعموم أبداً ، إنّه يعمل بجدٍّ وجزم وعزم لمراجعة ومقابلة وتحليل كلّ الوارد عليه كي يحصل على الناتج الأسمى ، لذا سمّي هذا العقل البعدي بالعقل العملي ; وبذلك فإنّه يرفض الوصفات الجاهزة دون تمريرها وإدخالها في مختبراته ، إنّه لا


يفهم معنى الجمود والتقفّي الأعمى ، وهل للمعرفة أن تجمد وتقلّد وتجامل؟! فإنّنا لا نشكّ لحظةً بتغيّر الموضوع إن كان النسقُ نسقَ الجمود والتقليد الأعمى والمجاملة الجاهلة.

علّمني التطفّل على فضاءات المعرفة وأدواتها أنّ الإيمان وعيٌ لا غير ، وهذا يعني بعثرة الأوراق المفاهيميّة على الدوام وإعادة ترتيبها بذاك الشكل أو غيره ، فلا أقبع خلف قضبان التقليد ولا أقبل التجديد مطلقاً ، فأنا أدّعي الانتماء ولي هويّة تعرّفني وفكرٌ يقوّم رؤياي ، وأساليب الحركة والسكون مختمرة في عقلي ; هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى ، فنفس هذا العقل وهذا الفكر والانتماء والهويّة تحتّم عليّ جميعاً أن أغور في العمق متجاوزاً كلّ القشور والأغلفة الخارجيّة ـ التي هي مجرّد حواجز ورقيّة إن أردتُ التجاوز ـ لأبلغ ما يرفدني ويغذّيني بمؤن الأمان والاطمئنان ، فأشمخ إنساناً يرى بوعي ويشمّ بوعي ويسمع بوعي ويلمس بوعي ، بقلب ينبض بالوعي ; فأنا لا اُريد أن اُبقي على وجودي وانتمائي كتلةَ أحاسيس ليس إلاّ ، فإنّها تتصدّع أو تذوب لأدنى حادث أو رشقة مطر صيفيّة ; هذا لأ نّي اُريد أن أكون مؤمناً بوعي ، مؤمن الكياسة والفطنة لا مؤمن القشور والأغلفة الزائلة ، المؤمن الذي يشعّ نور الفيض الالهي على كلّ خلايا وأنسجة عقله وقلبه ، فيغدو محور إشعاع وقطب هداية ووسيلة فلاح ، محوراً يرفض الحذف والنفي والترويع بشتّى صنوفه وآلياته ، يقبل الآخر ، مصداقاً للإجابة عن سؤال الحياة الكبير ... إنّها النفس المطمئنّة الأوّابة الراضية


المرضيّة ، لا النفس الخائفة المتردّدة المختبئة خلف القشور الورقيّة ، لا النفس التي اخترقتها الهواجس في كلّ أروقة ومرافق حياتها ومناهجها وأدواتها ، فراحت تساوم على كلّ شيء مع كلّ أحد طبق مخاوفها المنبعثة من إيمانها الورقي الفضّ ، فليس الملاك ملاك الصراخ بالقيم والمفاهيم الصحيحة المنطلق من سكون العقل وسكوته ، بل الملاك ملاك الوقار والتؤدّة المنطلقين من هيجان العقل ووعيه الناطق ، العقل الدافق بكلّ ما هو معرفي ضارب في الأعماق ، العقل الذي يأبى السكون والاستقرار كنظام استاتيكي ، إنّه الحركة الدائمة الدؤوبة.


حلمٌ إيماني

ما أرقى أن يشعر الإنسان أنّه ملْكُ إيمانه لا غير ، منفكٌّ عن أغلال الدنيا وقيودها وزنزاناتها ، لا تتحكّم فيه إلاّ قِيَمهُ ومبادئُه التي ذاب فيها واعتقد بها ، الداعية إلى المحبّة والعدل والإنصاف والخير والهداية ، المفعمة بالأمان والسلام ، المتجرّدة عن الكراهيّة والظلم والشرّ والضلال والخوف والعنف.

إنّ هذا الشعور إن قُدِّر له أن يكون حقيقيّاً فهو يمنح الإنسان بالغ العزّة والكرامة وحرّيّة الانتخاب ، ويجعله يعيش الطمأنينة بألذّ صورها وتصديقاتها.

لا شكّ أنّ الإيمان لا ينعقد عبثاً ولا يولد في الأعماق والحنايا صدفةً ، بل هو ناتج كفاح مرير وجهاد طويل وصبر كبير ومعاناة وآلام امتزجت كلّها مع الأفكار الفيّاضة والرؤى السديدة في إناء واحد .. فهو لمّا يلعقها إنّما يلعق حصاد العمر وتعب السنين ، وهكذا حصاد لابدّ له أن يستقرّ في الأعماق والحنايا بكلّ رسوخ وثبات ليشعّ بأنواره على غاية


من التأ لّق والعنفوان ، إنّها نشوة النصر والفلاح التي تجعل ذلك الشعور السامي يشمخ بهيبة وجلال.

آه لو يعلم الإنسان ما في ذلك الإيمان من عظمة وشموخ لما ركع لغير خالقه قطّ ، بل ستركع له الدنيا بأسرها آنذاك فتأتيه ساجدةً خاضعةً بفضل من الله ورضوانه ، وسيكون هو الممسك بزمام الاُمور وصاحب القرار الذي يدرك متى يفعل أو لا يفعل ، مالك الاختيار الذي يرفض هذا ويقبل ذاك.

لكنّ الإنسان ظلومٌ جهول ، يظلم ذاته بتجاوزه على القيم والمبادئ الصالحة اعتقاداً منه أنّ استغلال الفرص منقبةٌ وفضيلة وأ نّها تمرّ مرّ السحاب ، فاختلطت عنده المفاهيم وصار لا يميّز أيّ الفرص التي تُستغَلّ سريعاً عاجلاً من دونها ، والغالب الأعظم من بني الإنسان يقوده ضعفه إلى اقتناص فريسة بأيّ جهد وثمن كان ، غافلاً عمّا لو استخدم أدوات العقل والمعرفة طبق المبادئ والقيم السامية لانقادت له الدنيا انقياد العبد لمولاه.


آهات الروح

أن تستشعر الوحدة والغربة لا ناصر لك ولا معين ، ليس هناك من يهتمّ بك ، من يفكّر بآلامك وجراحاتك ، من يخفّف عنك همومك وأحزانك ، لا كهفاً تأوي إليه ، لا ملاذاً تستريح فيه ، لا ملجأً يحميك من قساوة ما تعانيه.

فإنّ ذلك أمرّ من العلقم وأحرّ من الجمر .. ولاسيّما أنّك قد عشقت الناس وأحببتهم وعملت لهم ما بوسعك ، لم تعرف الكره والحقد ، وتبقى واحدةً من أجمل أمانيك المقرونة بخالص الابتهال الدعاء : أن تزيل كلّ شائبة من كلّ قلب ربما آلمته وآذيته ، أن يشدو هذا ويسعد ذاك ، وينفرج كرب ثالث ، وينفَّس عن رابع و...

إلاّ أنّك حين تألم وتحزن وتعاني وتركبك الهموم تجد نفسك غريباً وحيداً ، تجود بجروحك بلا عمد وعضيد ، لا رفيق ولا صاحب ولا صديق ، بمفردك تكابد وتتجرّع الغصص والآهات ، ليس لك إلاّ التضرّع والتمتمة بكلمات نازفات يذوب معها العمق والفؤاد ، فتنطلق إلى عنان السماء تترقّب رحمة المولى الحنون الذي مازال يمدّك بعناياته


وإحاطاته وتسديداته ، ولولاه لمسّك الضرّ وجالت عليك الخطوب جولانها المميت.

تبكي وستظلّ تبكي بأدمع حرّى ، فالبكاء متنفّسٌ وراحة واستقرار وتهدئة أعماق.

ربّنا اغفر لنا وارحمنا يا خير الغافرين وأرحم الراحمين ، بمحمّد وآله الطاهرين.


لحظةٌ واحدةٌ تكفي

لن يغيب عن ذهني أبداً يوم ذكرى وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسبطه الحسن المجتبى (عليه السلام) إذ قصدت مكتبتي وفي قلبي وعقلي تساؤل كبير واستفهامٌ مخيف لا أعلم إن بحت به قد اُلسع بسوط الضلالة والانحراف ، وإن كتمته قد يقرِّض أحشائي من الداخل رويداً رويدا ، كان همّاً مريراً ومعاناةً مثيرةً رمتُ حسمهما إنقاذاً لعقائدي وكرامتي وعاقبتي من التزلزل والضياع ولاسيّما أنّي عدت أشعر وألمس خطورة الموقف الذي أنا فيه.

لعلّ منشأ هذا المأزق الفكري العقائدي يستمدّ وجوده من طبيعة وكيفيّة بناء تصوّراتي وقناعاتي في القضايا المختلفة ، فأنا لا أقبل الوصفات الجاهزة مهما رقت وارتفعت ، لا أجمد على الوارد جمود الخاضع المتسلم بقرار مسبق ، أسعى محاورة أدوات الإثبات بنصّها وتقريرها وفعلها بعقل غير وراثي ; فليس الامر بقالب «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» وانتهى كلّ شيء ببساطة وسهولة ، إنّه مفترق سبيل وحسمٌ يتوقّف عليه مفهوم الحياة والموت ، فلا أذود عمّا لاقناعه لي به ; فهو بدونها يصير ذود التجّار والعبيد والمتزلّفين والجهلاء.


إنّ بحث «علم الإمام» بما فيه من فصول في حدوده وتأويلاته ، وعلم الغيب وتفريعاته ، ومفهوم العلم الحصولي والحضوري ، ومعاني الروح ونظائر ذلك ، والدراسات المختصّة بالمعمّرين ، ومسألة علم الأنسجة والخلايا وإمكانيّة المحافظة عليها بالدليل العلمي ممّا يؤدّي إلى بقاء الإنسان وسلامته ، وتنصيب الإمام الجواد عليه السلام في سنّ الخامسة وكيف أبلى ذلك البلاء الحسن بحضور المرموقين من كبار العلماء والفقهاء ، ونظريّة نهاية التاريخ والايديولوجيا وإجماع كلّ الأديان والمذاهب على الشخص الواحد المنقذ للبشريّة ، وسائر البحوث والمطالعات والمقولات والنصوص المسانخة ..

كلّها لم تمرّ على ذهني ومشاعري مرّة واحدة في اليوم المشار إليه ، إذ سبق وأن مرّت عليّ كراراً من خلال قراءاتي وسماعاتي ومشاهداتي التي لا تخلو نوعاً من التأمّل والتوقّف ، فأنا أعتقد بمنهج التحليل والمراجعة والاستنطاق والحفر والمقارنة ... كي أبني آرائي وأفكاري وقناعاتي.

كلّ ذلك ليس فيه شيء جديد بالنسبة لي.

إلاّ أنّ الجديد المثير الذي شعرت به ، بل لمسته في إحساسي وعقلي ، أنّني صرت أنظر إلى هذا الارشيف المذكور برؤية اُخرى ، بروح ثانية ، لا أدري كيف حدث كلّ هذا بلحظة انتباه وتأمّل معيّنة ، لعلّها حاصل تلك الآلام والمعاناة والهموم التي كانت تأخذ الحيّز الأكبر من


تساؤلاتي المصيريّة والتي مهما حاولت التخلّص منها بالقراءة والبحث والتأمّل فلم أفلح ، لعلّها راشحة التعب والجهد اللذين أخذا من أعماقي وذهني الكثير ، لعلّها أيضاً «العقلانيّة» التي أعادت أو جعلت الاُمور في نصابها الصحيح ، ربما قد أشرقت على ربوع روحي أنوار القناعة بالحقيقة التي تخفى على غالب الناس ، ربما منحني الربّ عناياته الخاصّة وأفاض على جدب أفكاري من غدير عفوه ورحمته وهدايته.

نعم ، كانت لحظات لذيذة ذقت طعم حلاوتها عبر تلك الصلاة والدعاء والتوسّل التي شعرت أنّها كانت خالصة لوجهه الكريم. وجدت أنّي نلت البشارة ، بشارة انفتاح آفاق المعرفة الحقّة على قلبي وروحي وعقلي وكلّ مساحات عمري. نلت غايتي ومرادي وتخلّصت من همومي وآلامي ومعاناتي. لقد وجدت الطريق السويّ الذي يدلّني على وسائط فلاحي وهدايتي.

أنا أفخر الآن فخراً علميّاً حقيقيّاً بعقيدتي وأذبّ عنها ذبّاً علميّاً حقيقيّاً وأسعى إلى ترسيخها ونشرها ترسيخاً ونشراً علميّاً حقيقيّاً.

فله الحمد على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.


بين البقاء والرحيل قولٌ بالتفصيل

أقول أحياناً : أنأى جانباً كي «لا أرى ولا أسمع» فأ تّخذ من المطالعة والكتابة ركناً وأساساً ، أو أيّ أمر مناسب يبعدني عن فضاء باتت تتوارد عليه «المرفوضات» الزاحفة بجدٍّ لتقصي أو تحاصر «المقبولات» التي نحن هنا لأجلها وبفضلها نشأنا وكبرنا ، هنا منذ تلك الأيّام حين جمعتنا أجواء الرغبة والشوق والصبر والحبّ والعلم والولاء لقيم ومبادئ قرّرنا الذود عنها بالفكر والقلم ، رغم كلّ مرارة الألم والمعاناة آنذاك ، ولعلّني لست رومانسياً لمّا أعتقد الآن أنّ ظرف المحنة كان طعمه لذيذاً ; إذ خلق فينا العزم والإرادة لإنجاز شيء ما ، ولقد فعلنا ما كان يعسر على الآخرين فعله ، وأنتجنا ما كان يحلم به الكثيرون ، تجاوزنا العديد من رغباتنا حتى نحصل على ثمرة جهد قضينا به وله حلو السنين ومرّها ، شيّدنا ـ مساهمين ـ صرحاً من العزّ والفخر ونتاجاً صار مهوى العقول والأفئدة ، بنينا الحجر الأساس لاُناس وجدوا كلّ شيء مهيّأً على طبق من ذهب فصاروا ربّ البيت ونحن غرباءه ، وصارت المصادرات تجري على قدم وساق.


لا أحد منّا نادمٌ ولا آسفٌ على ما بذله طيلة ما مضى من الأعوام والعقود ; لأ نّنا ما جئنا لنبلغ البروج العاجية ونحصد المال والشهرة ، جئنا في تلك السنين العجاف لرغبة ولاء وحبٍّ لخزين من العلوم والمعارف بنت عليه أتربة الدهر بنيانها وشادت فوقه العنكبوت بيوتها ، خزين يستغيث ويصرخ وينادي بالإنعاش ، فاستجبنا لنداء الإغاثة وشمّرنا عن ساعد العزم والإرادة والعشق والولاء ، وإذا بنا ـ جذلين مسرورين ـ نرفد معاقل الثقافة بروائع المصادر والمراجع التي أزحنا عنها ما استطعنا من غبار ، فجاءت بحلّة مصحّحة منقّحة جميلة فاتنة.

نعتوا مشروعنا بخصائص الإبداع والابتكار ومنحونا نياشين الفوز والنجاح ، وصرنا أصلاً تنشعب من نسقه ونهجه الفروع والأجزاء. كلّ ذلك كان يجري أيّام العسر والمحنة.

ما كان الواحد منّا يصدّق أنّ أيّام العزّ والرفاه إن حلّت ستحاصرنا وتطوّق حركتنا وتصاب الرغبة والعزم والحب فينا بالاُفول والضمور.

نعم ، لقد صرنا واحداً من ضحايا العزّ والرفاه ، ولا ندري فلعلّنا كنّا الذراع التي اُريد بها مطيّة البلوغ ونيل الغايات الكبار.

أيضاً لا ندم ولا أسف ; إذ المبادئ والعلم والمعرفة والثقافة تبقى وتزول الغايات المعهودة وما سواها من الغايات.

أقول : أنأى جانباً ... قرارٌ صعب أن ينسلخ الإنسان عن واقع عاش فيه أخذاً وعطاءً وولِهَ به العمر كلّه. أنأى لأختلي بمتنفّسي ، بقلمي وكتابتي


وتدويني ، نتاج ذاتي وحصاد عمري وأيّامي.

أقول : أبقى ، فهذا نداء العقل والقلب .. ولكنّي أمتلك كغيري جوارحَ وجوانحَ ترفض وتقبل ، تأمر وتنهى ، أفكاراً ورؤىً تراجع وتحفر وتبعثر وتقارن وتحلّل وتستنطق وتستنتج.

فلا النأي كلّ النأي يطيب لي ولا البقاء كلّ البقاء يريحني ، لذا اخترت قولاً ثالثاً مفصِّلاً حيث لا إجماع مركّب هنا ، عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمرا.


قريب الأشياء وبعيده

لِمَ تبدو الأشياء ـ ببُعدها ـ رائعة جميلة يهزّني الحنين إليها هزَّ الذائب فيها ، إلاّ أنّي كلّما دنوت منها خفّ بريق سناها في عيني وخاطري ، وشعرت بغربة مقرونة بافتقاد أشياء لا أكاد أعلمها .. ثم هكذا أعود أحمل شوقاً وإجلالاً لها لمّا تأخذني الأيّام والمسافات بعيداً عنها.

حاولت إيجاد تأويل أو تفسير لهذه الظاهرة التي لا تغادر عقلي وحناياي فما استطعت.

وقد يشمل ذلك حتى الأشياء التي أرفضها وأمقتها وأتوجّس منها لبُعدها المكاني والزماني ، فلما تدنو منّي أو أدنو منها وأخوض غمارها لا أجدها من القباحة والسوء والخطر ما يجعلني أعرض عنها وأهابها.

لا أعلم إلى أين يقودني هذا الحسّ الذي غرس في عقلي وأعماقي بذور الحيرة والاضطراب والألم :

هل أنا أبحث عن شيء لا أعرفه ، هل هذا معنى من معاني فحص الإنسان عن الحقيقة التي يجهلها فيتعلّق بأشياء اُخر ظناً منه بلوغ المرام


بها ، فكلّما نالها وجد أنّ الذي يفحص عنه شيء آخر ، وهكذا تستمرّ دوّامة الضياع والجهل حين يريد ولا يعلم أيّ حقيقة يريد :

حقيقة الكمال الإنساني الذي يعني حيازة شروط المعرفة الصحيحة التي تعيده إلى قطب السعادة ومحورها الحقيقي ، إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فلا ينسج حالئذ في ذاكرته ولا يغرس في كوامنه إلاّ شيئاً واحداً ، هو الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه حينما قبل الأمانة ، فلا يبقى بعدئذ لأصنام الذاكرة مكان في العقل والقلب ، فيعود إلى فضاء من النقاء والصفاء الإنساني الذي يعني الكمال والهداية والفلاح.

أم قد فرض التحوّل المعرفي والنسقي ـ بتنامي المضمون والأدوات والأداء ـ حقائقه على عقلي وأحاسيسي ، فعدت اُعالج التساؤلات والمبهمات والتعبديّات والحماسيّات بروح العقلانيّة التي تلفظ الغموض والضبابيّة والحلول العاطفيّة والإسكاتيّة والانتماءات الوراثيّة ، وتستقطب الأدوات الإقناعيّة الخاضعة للمناهج العلميّة ، حين تراجع وتحلّل وتستقرئ وتستنطق وتحفر وتبعثر وتقارن وتفعل كلّ ما بوسعها من أجل نتائج مفعمة بالقناعة والقبول العقلاني ، وبذلك فهي غير مكترثة بمخاطر الولوج في المساحات الحرجة والآفاق الممنوعة والدهاليز الخاصّة مادامت تروم الأمان وراحة البال والاستقرار عبر الخروج من دوّامة الإبهامات والتقليديّات والتبعيّات العمياء ، بالانطلاق في فضاء المعرفيّات والبرهانيّات ، التي لا أرى أيّ تناف بينهما وبين الاُصول والثوابت مادامت تقوم على قاعدة (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) فمادمنا نحن أتباع


ثقافة تؤمن بالحوار والعقلانيّة والانفتاح ، تلك الخصائص التي تهيّئ أجواء الإجابة عن سؤال الحياة الكبير .. فإنّنا لا نفتقد الخزين الفكري ولا نخشى تصدّع القواعد وتزلزل الاُسس ، بقدر ما نخاف ضعف الأدوات التي لازلنا نفتقر النوعي منها ، الأدوات التي تعني ـ أحياناً ـ الخروج عن المألوف والتقليدي نحو فكّ عرى المغلق الموصد والمقدّس المركون الذي علا عليه غبار التعبّد وبنى قواطعه وحواجزه.

أقول : طالما يكون الخوف قرين التشبّث بالقشور كما الشجاعة قرينة التمسّك بالعمق والجذور ، ونحن فريقان تكادحا منذ غابر الأيّام لينال كلٌّ نصيبَه المسانخ لأفكاره ومراميه ، ولا شكّ أنّ شجرة الدين لم تقم كالحياة الدنيا التي مثّلها النصّ السماوي (كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) ، إنّما هي (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ) .. والنفس المطمئنّة لا محالة تهوي إلى العمق والجذور لتحلّق في فضاء اليقين بكلّ عزّ وشموخ.

وبذلك فينبغي عليّ ـ أنا المسلم ـ أن أفهم الأشياء كما ينبغي عليّ فهمها ، وهذا يعني بطبيعة الحال انتفاضاً على كثير من المعاني والأفهام السائدة وإعادة انتشار للقطعات المعرفيّة والفكريّة أنّى احتاجت ذلك.

إنّنا يجب أن نخرج عن نسق الببغائيّة والظواهر الصوتيّة والركائز الزبديّة ... فلقد تغيّرت الأذهان وما عادت تجنح إلى هذه الوسائل ; بفعل استطراد الوعي وأدواته والانفتاح العلمي المثير ، لذا بات علينا أن نكون


على أرقى مستويات الاستعداد والجاهزيّة الميدانيّة لنخوض غمار الحسم والإثبات بكلّ جدارة ورسوخ ، فما عاد التكهّف والاختباء بملاذات وملاجئ الأمس يجدي نفعاً. وسوى الذاكرة الأبديّة فكلّ الأصنام والذاكرات مجرّد هشيم وخواء .. إنّها ذاكرة الوفاء بالعهد ، الذاكرة التي لا تشفع معها إلاّ الحقائق الواضحة ، والإنسان يبقى بطبيعته في سؤال كي ينال المراد ، ونوال اليوم ليس كنوال الأمس كما نرى ; إثر المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة .. لكنّه يجتمع على قاعدة مشتركة مفادها : محض القناعة والتسليم والرضى عن طيب نفس ولبّ وحسّ.


القرب والبعد

لا أدري لِمَ تبدو لي الأشياء في بُعدها أجمل في العين وأوقع في النفس وأبهى في الذهن وأعزّ على القلب وأدنى ، بل تفسح بين حناياي لوجودها كياناً أرفع وأسنى ، وبين خواطري ورؤاي وهجاً أدوم وأبقى؟! كلّما نأيتُ عنها تفاعلتُ معها تفاعلاً تترجمه الحواسّ والأفكار علماً ويقيناً وحبّاً وانسجاما ...

أتوق إليها فتملأ الكآبة عالمي إن طال زماني بفراقها ، اُيمّم شطرها لكنّي أكرّ خائباً ألفظ نفثات التعب والمسافات ، لا أعلم فلعلّه سوء التوزيع في الحنين والعشق والانتماء ، ولعلّه قمّة الهويّة وفخامة الاعتقاد الذي لا تقرّره الأزمنة والأمكنة بقدر ما ترسّخه المبادئ وجودة المحتوى.

لعلّني أنجذب نحو المؤثّر الأشدّ ، الأدقّ الأرسخ ثباتاً.

وربما هي حجج أهرب بها عن الجواب السليم ، فلا أجد تعليلاً لها ، بل لا أفهم التحليل الصحيح فيها ; ثم إنّ ميلي إلى الترف والخلود إلى الراحة قد يكوّنان السبب المقصود منها.


والأخطر من كلّ ذلك أنّي أفقد التفاعل أحياناً حتى على البعد ثم تجدني أعيشه بكلّ شوق ولهفة ، فهل هو انعدام التوازن يا تُرى ، أم التأرجح وعدم الثبات ، فلا اُبرّئ حينها التعب والملل وضعف الإيمان وضآلة الوعي المعرفي المطلوب؟


ماذا تعلّمت؟

إنّ الإحساس بالضعف وضآلة الخزين المعرفي جعلني أشدّ الرحال ميمّماً شطر العقليّات والفكريّات والعلوم التي تؤسّس لثقافة منبعثة من مناهج وأنساق ومعايير صحيحة ، فقطعت بها شوطاً لا بأس به معتمداً على الأدوات المتوفّرة والإمكانيّات الذاتيّة ، فوجدت الضعف أشدّ والخزين مفقوداً أساساً ، وعلمت أنّي كنت ولا زلت أعيش تيهاً معرفيّاً مؤلماً ، وإذا أحسنتُ الظنّ فما هي إلاّ مجرّد رؤوس أسطر وعناوين أفكار ومضامين مشتّتة لا تخضع لنظم علمي ولا نسق معرفي معياري سليم ، كما علمتُ أنّ الثقافة لا تأتي ولن تتوفّر بلا جهد وسعي حثيث ، وأنّ الاحتفاظ بحفنة مفاهيم ومصطلحات وعناوين لا ينتج إلاّ ثقافة مراهقة وجهلاً مركّباً وترفاً فكريّاً خاويّاً ; ووجدت أنّ خوض غمار الرؤى والأفكار والعلوم يمنح حسّاً لا مثيل له ، حسّاً يجعلك تدرك الحجم والمساحة التي أنت عليها ، هذا الإدراك الذي يخلق فرصة حقيقيّة نحو التسلّح بالثقافة الحقيقيّة ، وعلى أدنى تقدير يوقف الإنسان عند الجهل البسيط إيقافاً واعياً كي ينطلق صوب معالجة الخلل والنقص والخطأ الموجود.


اكتشفتُ أنّ التعشعش والاختباء بظلّ القشور المعرفيّة خشيةً من الجوهر مَثَلُه مَثَلُ ذلك الذي يفوج مكادحاً الطين وغِرْيَنِ السواحل والضفاف خوفاً من ولوج الأعماق القاتلة ، فكما الثاني الذي لا يجيد السباحة وفنونها فيخاف الدنوّ من الأعماق كي لا يغرق ويموت ، كذا الأوّل أيضاً إذ يخشى الجوهر وسبر الغور فيه سبراً جدّيّاً كي لا يتلاشى في عمقه أو لا يطير ـ وهو كسير الجناح أو فاقده ـ في فضائه الذي لا تلجه أو لا تحلّق فيه المظاهر الزائفة والاستعراضات الخاوية.

واكتشفت أنّ الولوج في ما أهابه والخوض في ما أجهله واقتحام ما أخافه قد وفّر لي اُفقاً أرحب وفضاءً أشمل حتى اُعالج ذلك الخلل والنقص والخطأ ; وحتى لا أكتفي بحبّ العلم والفكر والثقافة ، بل يجب بذل المزيد وتحمّل الصعاب والمشقّة والمعاناة علّني أتعلّم شيئاً أستفيد منه واُفيد.

وأيقنت أنّ الدرس والمطالعة والمباحثة رغم عظم فائدتها لكنّها لا تفي بالمطلوب إن لم تقترن بالتفكّر والتأمّل والتدبّر ، وأ نّها لا تمنح الكرامة والعزّة إذا لم تكن مصحوبةً بترويض النفس والذات وكبح جماح الرغبة والشهوة والهوى الذي يقود إلى الحطّ من الشأن والشرف الإنساني ; حيث فخر الثقافة والمعرفة بقوّة الإرادة والعزيمة ومناعة الطبع وعدم الركون للذلّ والهوان.

وتعلّمت أنّ العلم والمعرفة والثقافة السليمة تناهض الاستبداد


والظلم والجور والصفات الرذيلة ، وتفتح آفاقاً نحو العدالة والحرّيّة والأمن والسلام والازدهار.

من هنا والألم يعصر القلب والفؤاد ، ويقلق بشأنه الذهن والأفكار ، لا يسعني ـ بصفتي إنسانٌ لا غير ـ سوى أن أفصح عن تبتّل وابتهال بكشف الغمّة عن هذه الاُمّة التي تعاني حالياً أزمةً خطيرة إثر الأحداث المؤسفة الأخيرة ، ولا شأن لي بالسياسة وتفاصيلها رغم البدايات الدراسيّة التي كنت فيها هاوياً متابعاً للأحداث والوقائع والتحليلات الخبريّة ، إنّما الذي يهمّني النتائج والعواقب والانعكاسات السلبيّة لهذه الأزمة على واقع الانتماء الديني والثقافي وما تحدثه من هوّة عميقة وفجوة رهيبة وشرخ عظيم لا يمكن جسره بيسر وسهولة ، وإذا ما بلغت الاُمور كسر العظم فلا ينفع حينها أيّ شيء وتبتلي الاُمّة ببلاء لا تحمد رواشحه.

ومن الطبيعي أن يلتئم عقلاء القوم وأقطابهم فوراً ليجدوا حلاًّ لهذا المأزق المخيف ، عبر الطرق والوسائل السلميّة بلا ترويع وترهيب وتهديد ، والتشبّث بالحلول الوسطى التي ترضي الجميع ، الأمر الذي يفوّت الفرصة على البغاة والدخلاء وذوي الأغراض الدنيئة. ولا شكّ أنّ الخشونة والشدّة والاستبداد تفسد للودّ قضيّة. ولا زالت الفرصة سانحة كي تعود الاُمور إلى مجاريها وإلاّ فالضرر يلحق الجميع بلا استثناء ، والحكمة والتدبير تستدعي الوقوف على مسافة واحدة من الكلّ ، الكلّ الذي يعتقد بخير الناس وصلاح الاُمّة ، والعمل بأرقى مستوى الجذب


وأقلّ الدفع ، بسعة الصدر ، والتسامي فوق الخلافات ، والتمسّك بالأدوات والآليات المنطقيّة لحلّ المعضلات.

نحن محزونون وقلقون على مستقبل الأوضاع ، ويؤلمنا فرح المناوئ وشماتة العدو ، والصديق والمحبّ ينتظر بنا الصلح والصفاء والوئام.


أتعبني الجمال

أتعبني الجمال وأرهقني فهمه ، فتّشت الصور والألوان وكلّ الكلمات ، بعيوني حدّقت ، بقلبي هامست ، بعقلي تفحّصت ، بجبال الله وسهوله ، بنهاره ولياليه ، بكتابه المنزل على خاتمه المرسل ... تأمّلت ، تدبّرت ، راجعت ، استقرأت ، قارنت ، بعثرت ، بكيت ولازلت أبكي ، يا حسرتي إن اختزلت كلّ شيء بدمعة ، أو اختزلني الحكم والقضاء بمجرّد دمعة. تهتُ وضعت لوهلة وتبعثرت أوراقي حين علمتُ أسِفاً أنّ القشور بلغت أمانيها فصارت لبّاً والعرض حقّق طموحه فغدا جوهراً والفرع نال الفوز فأصبح أصلاً.

يقولون كثيرة الاستعمال تنقل اللفظ من المجاز إلى الحقيقة.

أقول : كثرة التعوّد على المفاهيم المقلوبة والمبادئ المزيّفة والقيم التافهة ينقلها من المجاز إلى الحقيقة ، فصوّروا الفكر والدين والمعرفة ظواهر وأغلقة وشعارات ، وصرنا لا نكترث مثلاً بسورة الفاتحة ومعانيها بقدر ما نكترث بضاد «الضالّين» وكيفيّة نطقها آن الصلاة والذكر ، نصرف


العمر بتحديد الكرّ وحجمه ومائه ... ولا نصرف القليل منه لفهم النصّ واستنطاقه.

أمّا «صدر المجلس» و «الصنميّة» و «الببغائيّة» و «الحربائيّة» و «السلطويّة» و «التزلفيّة» ... فهي من أبرز مفاخر المفاهيم المقلوبة والمبادئ المزيّفة والقيم التافهة!!

أين الجمال يا ترى ، ما هو الجمال يا ترى؟! اختلطت الألفاظ والمعاني وضاعت بين زحمة التأويل وطغيان اللازم والملزوم ... أيّ جمال تريد وأيّ مقصود تروم ، لقد غاروا عليه ولم يبقوا منه إلاّ القشر والإطار ، اغتالوا منه العمق والأصل والجوهر.

فيا بلسم الجراح ومراد العشّاق ، يا مزيل العناء عن جباه المحرومين ، يا أمل المظلومين ، يا مذلّ التفاهات والقشور والشعارات الخاويات ، يا معزّ الجوهر والاُصول الساميات ... إليك أبثّ الشكوى وأنت الذي قلت : «إنّا غير ناسين لذكركم ولا مهملين لمراعاتكم ولولا ذلك لمسّتكم اللأوى واصطلمتكم الأعداء».

شخصك القدسي المبارك أعلم بأعدائنا منّا ، ونحن لا نعلم منهم سوى المعاني التي تحتملها عقولنا المحدودة ، هذه العقول إن عقلت حقّاً فهي بفضل أنواركم أنتم ، وسائط الفيض الإلهي الكريم ، بكم أدركت وفهمت وعانت وأ نّت وتلذّذت حلاوة المعرفة حين غاصت في الأعماق وغرست في الحنايا اُسّ القيم والمبادئ المقدّسة.


إنّنا نشهد ، وما أثبت الشهادة بين ظهرانيكم ، نشهد بأ نّنا ـ ولو بأضعف الإيمان ـ براءٌ من كلّ الذين بدّلوا مبادئ الدين والقيم وجعلوها مجرّد أخبية خالية وقشوراً بالية. نشهد أنّنا نروم الحقيقة التي ثابرتم وجاهدتم وصبرتم وقُتلتم من أجلها.

لا سبيل لنا سوى أن نقصد الجمال الواقعي الذي لا يعني سوى ذات الباري جلّ وعلا ، فهو الجمال المطلق بصفاته وذاته ، وكلّ ما يصدر من ذات الجمال جميل ، قيماً كانت أم مبادئ أم ما سواها. وجماله المطلق سبحانه جمال الجوهر والعرض والآثار واللوازم التي لا تخفى على أهل الإيمان والمعنى.


مفهوم الجمال

بينّا لازلتُ اُخفّف من وطأة الخمسين بأحلام العشرين ، أحلام الحياة والأمان والآمال الورديّة المترنّمة بحديث العشق والمرأة والفضائل والمعارف وسبل الفلاح الأبدي ، وإذا بنبأ وفاة الشيخ الاُستاذ يصكّ مسامعي ، الشيخ الذي اُحبّه وأكنّ له الاحترام والتقدير ، لشخصيّته وسجاياه الحسنة ، فضيلته ، اُستاذيّته لي رغم قصر مدّتها ، ولا أنسى المعاناة والآلام التي كابدها بين المرض العضال وشظف العيش وغيرهما ، التي ما حالت بينه وبين مواصلة النشاط العلمي التحقيقي.

نعم ، لقد استراح من همّ الدنيا وغمّها وأقبل على ربّ غفور رحيم ، أبتهل أن يقرّه سبحانه وتعالى شوامخ جنانه ويمنّ على أهله ومحبّيه بالصبر والأجر.

قد يساهم مثل هذا الأمر في إعادتي كلّ مرّة إلى المربّع الأوّل ، المربّع الذي أنا فيه وعليه بلا خيال وآمال عفويّة وأفكار فتيانيّة ، بعمق يحكي وجهاً آخر لآمالي وأفكاري تلك ، وجهاً خال من الخيال والرومانسيات والحاجات الفتيانيّة ، يحكي قضيّة الانتفاض على رتابة


الحركة والسكون ونوع التفكير واُسلوب التعامل مع القصص المملّة التي تُسرد علينا كلّ يوم ، الانتفاض بنسق ومنهج يعيد الغضاضة في التفكير والطراوة في مواصلة الحياة الآملة ، يكسر الجمود والتقليد ويذيب صخور القسوة والعنف ويفجّر ينابيع المحبّة والرحمة والتلاحم والتلاقح.

الجمال مفهوم نوعي مقدّس بما هو هو مع لحاظ النفس الإنسانيّة بما هي هي بفطرتها السليمة التي فُطرت عليه.

فلو أنّ امرأة جميلة بمفاتنها وأحاسيسها وقيمها تستحقّ العشق والانتظار والاهتمام وعقد الأمل ، كونها من سوابغ نعم الباري تبارك وتعالى التي إذا أحبّ عبداً من عباده منحها إيّاه.

فكيف بنا إذا عشقنا من بشّرت به السماء وتلقّته أهل الأرض بالقبول والترحاب على اختلاف الرؤى والأنساق؟!

إنّ مصاديق الحياة الطيّبة ـ كتلك المرأة ونظائرها ـ تفتح لنا آفاقاً رحبة نحو فهم جمال القيم السامية والمبادئ المقدّسة وتضفي عليها مسحة الحبّ والشعور النبيل ، مثلما أضفت عليها مسحة التأمّل والتفكير .. إنّها تمنحنا الأمل بأنفسنا وعقائدنا وتدعم سلامة انتمائنا وتعالي مفاهيمنا ، ممّا يجعلنا نعتزّ أكثر بجمال هويّتنا فنذبّ عنها ونستفرغ الوسع لحفظها ونشرها خدمةً للإنسانيّة والمثل السماويّة.


النبتة المغرورة

هل تعني النحافة ضعفاً ، جمالاً ، ماذا ...

حيث تطلّ مكتبتي المتواضعة على حديقتنا الصغيرة المهملة ، جذبت نظري نبتة مغرورة تتراقص سيقانها الاُفقيّة والعموديّة تراقص بنت الرابعة عشر ، وقد ازدادت جمالاً بوردة بيضاء تسنّمتها بزهو وشموخ ورفعة وسموق.

ماذا يعني النموّ الاُفقي المتشابك والعمودي المتناسق ، هل هو نوعٌ من حرّيّة الانتخاب؟ ثم ماذا يعني الدوام أيّاماً وأيّام ، رغم الجفاف ونخامة الأعواد؟

كيف استطاعت نبتة طبيعيّة صغيرة خضراء أن تصنع فضاءً من الحيويّة سرى إلى قلبي وحناياي حيث لا أشعر ، لا أدري علّه تناغمٌ من تناغمات الأحياء ، الأرواح ، المخلوقات ، علّها دعوة رمزيّة كنائيّة نحو الحبّ والانسجام والأمن والسلام ... ساقها الخالق لمخلوقاته بمخلوقاته.

الأخضر لون الحياة والأبيض لون الحبّ والسلام ، كلاهما من جنس الجمال ، جمال ذات الجمال ، مبدأ الفيض والأنوار ، القدّوس المتعال.


هذا ما وصلني من صديق

هذا ما وصلني من صديق ، هذا الصديق أيضاً صدّر النصّ بهذه العبارة : هذا ما وصلني من صديق ... وهلمّ جرّا ... يقول أو يقولون : لطالما رمتُ قول شيء ، تدوين أمر ما ، كلّما اكتوت منه أضلاعي أطفأتُه بدمع عيوني.

نعم ، أخلصتُ وأخلصتُ فكان الجفاء نصيبي.

أعترف أنّي لا اُجيد نهج التزلّف وتقليد الببغاء وتلوّن الحرباء وعبادة الأصنام ..

أعترف أنّ ذاك الحماس خفّ بريقه ; كوني تعبت من كثرة ما أخلصت ومن كثرة الجفاء الذي حصدت.

نحن نعلم أنّ الإخلاص الحقيقي يفتقر قواعد ومناهج ومصاديق للتكيّف ، فضاءً خال من الببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّف .. إلاّ أنّ العلم لا يكفي لوحده .. فالعمل هو المطلوب.

نمنّي الذات بما يقولون من أنّ المدينة الفاضلة سيكون لها وجودٌ


على أرض الواقع لا ندري هل هو الوجود الإمكاني أم الافتراضي.

أقول : هذا ما وصلني من صديق ، حقّاً من صديق.

ويقول الآخر : نعم ، أنا أيضاً أخلصت وبذلت حشاشة قلبي وعصارة عقلي فكان جزائي أن اُصنَّف تصنيفاً ثانويّاً ; سبب ذلك ـ باعتقادي ـ أنّي لا اُجيد مناهج الببغائيّة والحربائيّة والتزلفيّة والصنميّة ونظائرها ... رغم أنّي لم أألُ جهداً ولم أدّخر طاقةً ولم أبخل بشيء بإمكانه أن يساهم في رفع شأن الدين والمذهب والقيم الحقّة ...

قسماً بالله! فلقد كان حماساً واندفاعاً دؤوباً لا نظير له ، ولم نكن نبالي إلاّ بتقديم الأفضل والأتقن والأدقّ رغم كلّ شيء.

أعترف باُفول ذاك الحماس وضمور ذاك الاندفاع ; إذ تغيّرت البلاد ومن عليها ، ولقد فرض المكان والزمان شروطهما ، وتدخّلت الرغبات الذاتيّة أكثر وأكثر لتفرض ملاكات متفاوتة ومختلفة عن ذي قبل ، وأخذ صراع الحلقات بُعداً مصداقيّاً ، وازداد دور الشأنيّة ، وطغت المظاهر على المحتوى ، وصار الانقياد التامّ والطاعة العمياء التصنّعيّان ميزان الإخلاص والولاء ... ناهيك عن بعض المصادرات وفضاء المنّة وخشونة التعامل وطغيان الاُسريّة ولوازمها والثراء الملحوظ بحقٍّ أو بدون وجه حقّ ... متناسين توصيات وإرشادات الرموز المباركة بلزوم الابتعاد عن مظاهر الحياة المرفّهة والتقيّد بما يجب على طلبة العلم والمتديّنين التقيّد به ...

نعم ، لسنا معصومين من الخطأ والغفلة لكنّنا ألزمنا ذواتنا بأمر


حسّاس مصيري «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».

لذا من باب الحرص والإخلاص ومن باب «من رأى منكم منكراً» ومن باب «الرقيب العتيد» يجب علينا العمل بتكاليفنا ..

هذا أيضاً ما وصلني من صديق.

اللّهمّ اغفر لنا وارحمنا واهدنا الصراط القويم.


سأبقى بكلمتي فهي سيفي

رغم خفوت صوتي ولواعج غربتي وقسوة وحدتي ، رغم حزني واضطرابي وخشيتي إثر تكثّر خطاياي وآثامي وغفلتي ..

رغم الاعتراض الناهض من هنا وهناك ، والعواقب التي تحمّلتها ولازلت أتحمّلها وألمس أسبابها ودواعيها حتى من أقرب ناسي ، من صحبي وأهلي وكياني ; حيث لكلّ شيء ثمن وثمن الموقف مكلفٌ خطير لازلت أدفع فاتورته بين حين وحين ..

سأبقى بعون الله المتعال ومباركة ساداتي الأطهار ودعوات قادتي الأبرار ..

سأبقى أحفر كلمة الضمير التي توقفني على ذنوبي ونواقصي ومواطن الضعف في قلبي وروحي.

سأبقى أهمر دموعي كلّما أنّبتُ نفسي وذاتي.

سأبقى قدر ما استطعت قابضاً على جمرة أخلاق ديني وانتمائي.

سأبقى أصوغ الكلمة التي أتنفّس بها عبير حرّيتي وأريج كرامتي.


سأبقى أرسم الكلمة التي اُداوي بها جروح صميمي وقروح أعماقي.

سأبقى أكتب الكلمة التي اُؤمن بها وتتناغم مع رسالتي واعتقادي.

سأبقى أنشد الفكرة التي تحلّق في فضاء معارفي وإيماني.

سأبقى ناهلاً من مدرسة عصمة علّمتني وما فتئت تعلّمني برامج عيشي وحياتي.

سأبقى أبحث وأحفر واُراجع وأستقرئ واُقابل واُلاحظ واُحلّل وأستنتج حتى أبلغ مرادي فأفهم حقيقتي.

سأبقى أعود وأعود عسى ولعلّني أرجع إلى أصلي ، إلى ما خلقني عليه ربّي ، إلى فطرتي.

سأبقى اُدين وأنتقد وأشجب جزء الإناء العاطل كما اُشيد واُطري وأتغنّى بجزئه الشاغل.

سأبقى ـ حدّ وسعي واستيعابي ـ أرفض ظلم القبيح الظالم وأمدح عدل الحسن العادل.

سأبقى أطلب الحقيقة وأكتبها ، فإن لم أتمكّن من جميعها فسأكتب بعضها.

سأبقى شوكةً في عيون ومرهماً في عيون.

علّمتني مدرستي مقتَ المساوئ وحبّ المحاسن ، فممّا علّمتني : حرمة الغيبة والبهتان وما ينافي المروءة وسائر ما يغضب الرحمن ، مثلما علّمتني الشيمة والشجاعة في عرض ما في جعبتي بأحسن بيان.


فلا اُشهر سيفاً ، ولا أحتزّ رأساً ، ولا أسترخص دماً ، ولا اُروّع إنساناً ، ولا أنفي ، ولا أحذف ، ولا اُضلّل.

إنّما يراعي سلاحي أذبّ به عن قيم السماء ومبادئ الحقّ الشمّاء.

سلاحي قلمي لا أعتني إن نال منّي أو نال صحبي وأهلي وكياني ، ناهيك عن مناوئي وعدواني.

فهذا فضائي الذي أفخر بكوني منه وإليه ، فيه طوائف من الطيب والخير العميم مثلما فيه موارد من الهبوط الأليم ، فيه الإيمان والولاء والجود والسخاء والعلم والمعارف والتمحّض في الفضل ، مثلما فيه الحربائيّة والصنميّة والببغائيّة والتزلّفيّة والتمحّض في الجهل.

اللّهمّ أعنّي على نفسي فإنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي.


بمن نلوذ؟

إذا ضاق الصدر وتوجّع الفؤاد واُثخن القلب بالجراح ، ولاذت الروح بربّها الكريم ، بأوليائها الطاهرين ، بحجّة الله على العالمين ، بأخيارها الصالحين ، بحكمائها العلماء العارفين ، تستلهم العبر ، تتروّض بالأناة وجميل الصبر ، تقتبس صحيح المعنى من رفيع السير ، فإنّها تفلح بالسكينة والأمان والثقة والاطمئنان بفعل غوالي درر بصائر اُولي النُّهى والإيمان.

إذ هم بلسم الجراح ومسبار الآلام ومشفى الأسقام ، هم الكهف والملجأ والملاذ من كلّ الأخطار وعوادي الأيّام ، تهفو لهم القلوب وترقى بهم العقول ، في قاع الضمير لهم منازلُ وئام وفي خبايا الروح لهم معاقلُ هيام.

آه لو لذنا بهم كلّما آلمتنا ذواتنا ; بفعل جهلنا وإصرارنا على غيّنا ، نشكو غرورنا وتصاعد خطايانا ; علّنا نستفيق ونتّخذ إلى ربّنا سبيلاً فيغفر لنا ذنوبنا ويمحو سيّئاتنا.

آه لو لذنا بهم كلّما آلَمْنا غيرَنا ، بفعل سوء أخلاقنا وقلّة أدبنا ، نشكو تقصيرنا وإسرافنا في مساوئنا ; علّنا نندم ونُرضي ربّنا والآخرين عنّا.


آه لو لذنا بهم كلّما الغيرُ آلَمَنا ، نشكو حيفنا وظلامتنا ; علّنا بمراجعتنا أنفسنا نعرف مواطن الخلل فينا فنسعى لإصلاح ما فسد من اُمور ديننا ودنيانا.

ولكنّ الآه كلّ الآه من إيلام الصاحب الصديق وجفاء العضيد الرفيق ، فإنّه جرحٌ في الصميم أليم.

أمّا : «اُسلوب الإشغال والضرب رأساً برأس» و : «تصفية الحساب في موعد لا يُخلَف أبداً» و «مصادرة الابتكار والعطاء ، أو لا قيمة لهما مهما عظما دون حَسَب ونَسَب» و : «الاسم والرسم والغنيمة للذيول دون الاُصول» ، و : «تخزين الهفوة والفجوة لساعة النقد والاحتجاج» ، و : «الإذلال والتلهيث لقضاء الحاجات وتلبية الطلبات» و : «الإرقاء لمن يُهوى وإن قَرُبَ من صفر الميسرة وإبقاء ما سواه على ما هو عليه وإن زاد على الميمنة ألفا» ، و : «التلويح برسالة التفضيل والتمييز بوضوح في مجال الاستعانة بهذا وذاك ، هنا وهناك» و : «إبقاء العناصر في دوّامة إثبات أرقى مراتب الطاعة والولاء» و : «سريان منهج حلقات الصراع أو صراع الحلقات» و : «رواج سوق التمثيل والتملّق والتلوّن والتصنّم» و : «التهميش» و : «المنّة والتحامل والاستعلاء» و : «الترف والبذخ والإسراف» و : «العبد الخادم الذليل أرجح من العالم الفاضل العزيز» و : «الظنّ والشكّ والتهمة وتزلزل الثقة» ... إلخ ..

فهي اُمورٌ باب البحث فيها صعبٌ خطير والنقاش بتفاصيلها واسعٌ


مثير والوقوف على مناشئها محزنٌ مرير.

رغم ذلك يبقى الصاحب صاحباً والرفيق رفيقاً ويظلّ الحبّ عنواناً باسقاً ومحتوىً ضارباً في عمق الحنايا والوجدان ; إذ القناعة والإيمان والمواقف الغرّ الحسان أشمخ من أن تُنكَر أو يذهب بها النسيان ، بل نصيبها الخلود أنّى طال الزمان وبَعُدَ المكان ; حيث قسم الإناء المليان سرمديٌّ مهما كانت طوارق الحدثان.

ولعلّ هذه شقشقة كان لابدّ لها أن تهدر يوماً ما ; كي تقرّ سريعاً فلا تُطفئ في القلب نوراً ولا تنشر في الجنان عتمةً تلد فتنةً يأنس بها الشيطان ويعزف على أوتارها أنغاماً وألحان.

ولعلّها شكوى مَن يحيا الوحدة بفضاء فيه عشقه وهيامه ، يحيا الغربة بين صحبه ورفاقه ، بين أقرانه واُناسه ، بين قوم طاب له المقام معهم حيث طابوا والرحيل حيث ارتحلوا وساروا ..

إلاّ أنّ النفس إلى اُفق الكرامة ترنو وإلى ألق العزّة تسمو ; فترفض سؤالاً يُذَلُّ به سائلُه ، وتشجب ذالاًّ يأنس بإذلال سائله ، أو عَلِمَ حاجة أخيه المتعفّف لكن منعه عن أدائها إليه ما فيه من الحسّ المستنكف.

نعم ، إذا ضاق الصدر وتوجّع الفؤاد واُثخن القلب بالجراح ، ولاذت الروح بربّها الكريم ، بأوليائها الطاهرين ، بحجّة الله على العالمين ، بأخيارها الصالحين ، بحكمائها العلماء العارفين ، فإنّها عسى ولعلّ أن تُريح وتستريح.


بمن نحتمي؟

ليس على المرء سوى العمل بوظائفه والمهامّ الملقاة على عاتقه في أيّ موقع كان ، ببذل السعي والجهد الكافيين ، أمّا النجاح ونيل المراد فقد يكون وقد لا يكون ، إنّه رهين شروط وظروف بعضها خارج نطاق قدرات الإنسان وطاقاته ، ولاسيّما بملاحظة الحكمة الإلهيّة والمصالح والموازين والملاكات التي تغيب عنّا غالب الأحيان. هكذا نعتقد.

والعمل بالوظائف حدّ المكنة منوطٌ بتوفّر الفضاءات المناسبة الطبيعيّة ، ولعلّ من أهمّها «الطمأنينة» ، فإذا ما توفّرت فإنّها تدفع إلى مزيد من السعي والإبداع والإنتاج النوعي ، وإذا ما اهتزّت أو تلاشت فإنّها تدفع إلى مزيد من الخيبة والتراجع.

والمؤسف جدّاً أن يبذل الإنسان الجهد على طبق الإخلاص بعطاء كبير لكنّه يفتقد الأمان وطمأنينة الاستمرار ، فيرى أنّ كلّ هذا السعي والوفاء والنتاج ليس محترماً ممّا يعني غداً مجهولاً ، والأمر يسري إلى الآخرين لمّا يلمسون الخطر يتهدّد الجميع ، فالكلّ آنئذ ليس بمأمن من القرارات والتصميمات العاطفيّة أو العجولة التي طالما زلزلت كيانات


وصروحاً ما كان يحسب يوماً أنّها ستضطرب أو تزول.

لا مجال للندم ، بل هنا تساؤل كبير يقود إلى سلسلة استفهامات قد لا تنتهي سريعاً ; فإنّنا ضمن آفاق الانتماء الديني والأخلاقي بأرقى صوره وأشكاله وأرقامه وإذ بنا نطرح إشكاليّة افتقار الأمان وتزلزل الطمأنينة! ممّا يعني وضع المصداقيّة برمّتها على المحكّ ، فإذا ما أفِلت القيم والمبادئ والأخلاق المعهودة عن هذه الآفاق فقد أفل حضور الدين ، وبذلك تطفح القيم والمبادئ والأخلاق المناوئة ، فتهتزّ الثقة من جذورها .. أمّا الأفكار المراقبة الراصدة فلا تقعد عاطلةً ، بل تشتغل لتولّد وتنتج نتاجاً لا يغفل شيئاً ممّا ذكر وأكثر ، وليس بالإمكان آنَها الوقوف بوجه العطاء الفكري المعرفي الثقافي الذي ينبذ الانحراف ويدعو للعودة إلى الاُصول والمبادئ التي تحفظ للدين اعتباره ومنزلته وسمعته ، ممّا يعني أنّ التمسّك بالمظاهر والقشور لا يمكن أن يدوم طويلاً ، إنّما الجوهر هو المعين الذي لا ينضب والضياء الدي لا يعرف الاُفول أبداً.

لا أدري ، قد يكون كلّ وحد منّا مرشّحاً عمليّاً ومصداقاً جليّاً لذلك الذي بذل حشاشة العمر وغاية السعي وما توفّر له من الإمكانيّات على طبق الإخلاص والحبّ لكنّه لم يحصد ـ بعد سنين طوال من العطاء ـ إلاّ فقدان الأمان وتزلزل الاطمئنان وخيبة الأمل ممزوجة بالآلام ومرارة المعاناة .. دون أدنى ندم بالطبع ; كونها جهوداً ساهمت في إعلاء راية الدين والقيم الحقّة عاليةً خفّاقة.


لكنّ الذي يكوي الضلوع ويفتّت الأحشاء أن تجد ذاتك وسط فضاء يبدو مستعدّاً لعدم احترام عطائك وإخلاصك ، فيمهّد لتلك الخشية من كون فضاءاتنا لا تعير أهمّيّةً لجوهر الدين واُصوله وأخلاقه وإنّما اتّخذته وسيلة ومغنماً ودرعاً.

وكما أسلفت ، فالأفكار والأقلام لا تقف متفرّجة ، إنّما تلج الميدان بكلّ إرادة وتصميم لتعرب عن شجبها للواقع الوجود ، فتبيّن الهفوات والفجوات ، وتطرح البديل الذي يستجيب لقيم الدين الصحيحة ومفاهيمه السليمة.

وإذ أكون أنا النوعي مرشّحاً عمليّاً لما ذكرت فالنظائر كثيرون ، بل هم أشدّ مصداقيّة وأكثر وضوحاً في هذه القضيّة. وليست هي بأوّل قارورة تكسر ، فنحن على هذا المنوال منذ قرون بعيدة ، منذ أمد طويل والمعاناة بشتّى صنوفها طاغية علينا ولم يتغيّر في الحال شيء ، نعم إن استقامت الملاكات واُصلحت الموازين وصرنا في شوق ورغبة إلى الثوابت والاُصول حينها ينمو الأمل ويكبر التفاؤل ، شيءٌ يقابله حزن الوجوه الناعمة والأيادي التي تدير شؤون الناس بالقشور والمظاهر والشعارات.

أليس من حقّ الجباه المحرومة والعيون الغائرة أن تفرح وتشدو وتنعم بالطيّبات من الحلال ، إلامَ تبقى الرفاهيّة حكراً على الوجوه الناعمة وتبقى «العوام» في بؤس وألم وشقاء ، إلامَ يبقى «الدين والأحكام والأموال» بقبضة الذين يؤوّلونه يميناً وشمالاً بينا الآخرون في حسرة


الفرصة التي يثبتون بها لياقاتهم وقدراتهم الفائقة ، إلامَ يزداد هؤلاء نعمةً ونفوذاً وثراءً ويزداد هؤلاء عسراً وانحساراً وفقراً ، إلامَ تنطلي مهارات المظاهر وخُدَع القشور على الناس ولا تجد الاُصول حيّزها الحقيقي فيهم؟!

لقد رسم الدين في مخيلتي وذهني وأفكاري وثقافتي إيقونةً مشرقةً من الأمل ولوحة جميلة من القيم والأخلاق والمبادئ. وحقّ الدين هو ذا لا غير .. لكنّي ومذ قرّرت الالتزام بكوني رجلاً مسلماً لازلت أبحث عن ذلك النموذج العملي ـ في مَن حوالي وبقربي أو يمكنني الوصول إليه ـ المبلور للقيم والأخلاق والمبادئ ، التي شاد الدين عليها وجوده وبنيانه ، لكنّي إلى الآن لم أهتد إلى هذا المورد ، اُريد أن أعرفه واُعايشه كي أتعلّم منه واستلهم منه وأجعله مناراً أهتدي به في ظلمات الانحراف والوسواس ، ولا ريب أنّ لنا في الرسول الأكرم والأئمّة الهداة والصلحاء من العلماء وسائر الناس المؤمنين ، اُسوة حسنة .. لكنّي أحتاج إلى من اُشافهه ويشافهني ، أشكو له لواعجي وآلامي ، أكشف له مواطن الضعف والخلل في ذاتي كي يرشدني ويعلّمني ، أفتقر الملاذ الآمن والكهف المطَمْئن الذي يحميني ويضمّني ويرعاني ويأخذ بيدي صوب مراتب المعرفة والكمال.

هل لي من طريق وسبيل إلى مولاي الغائب المنتظر روحي فداه؟ لا شكّ أنّي لست كفوءاً لذلك.


هل لي من طريق وسبيل إلى نائبه بالحقّ؟ على فرض معرفته والوصول إليه فإنّه قد لا يعيرني الاهتمام المطلوب ، ولا يمنحني مزيد المؤن التي احتاجها لفهم مبادئ وأخلاق وقيم الدين والعمل بها ، لكثرة المشاغل وازدحام الأفكار.

كيف لي العثور إذن على من يتبنّاني دينيّاً ، أعترف أنّه ليس بالأمر السهل لكنّه ليس بالمستحيل ، فالأرض لا تخلو من الصلحاء والنجباء والأخيار من العلماء وسائر الناس.

* * *

لا أجد تفسيراً مقنعاً لأن نحيا في بروج مشيّدة ونعيش عيشةً منعّمة بالأموال التي تصلنا بعناوين مختلفة والأعجب أنّنا نؤكّد والدين قبلها أكّد على وجوب الاستفادة منها استفادةً صحيحة. فهل التنعّم بتلك الأموال مصداق الاستفادة الصحيحة ، وهل الموائد الفاخرة والمظاهر الباذخة والسفرات الترفيهيّة والهدايا النفيسة من مصاديق ذلك ، وهل استعمال هذه الأموال أوراق قدرة ونفوذ وضغط وتركيع وإذلال وتمشية الكثير من القضايا على حساب الحقّ والقانون ـ الذي ترفض مراجعنا العظام تجاوزه حتى في بلاد الكفر ـ من موارد الاستفادة الصحيحة؟! وهكذا تستمرّ سلسلة الاستفهامات الاستنكاريّة مادامت المظاهر والقشور والشعارات حاكمة ، والأصل والجوهر والعمق محكوم.

إنّ أغلب الأفواه تصمت ولا تنبس ببنت شفة ذوداً عن الحقّ والقيم


والأخلاق حين تجد النطق يزلزل مصالحها ، وكم من الأرقام والنماذج التي تمارس النفاق والملق والعبوديّة والصنميّة والببغائيّة والحربائيّة بأرقى مصاديقها وأشكالها ، كي تحفظ رزقها وحظوتها.

إنّ عيون الناس وعقولهم مجهر وميكرسكوب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وأحصاها ، والاستهانة بتذمّرهم خطأ كبير.

* * *

إنّني حين أروم البحث عن ذلك المتديّن الحقيقي كنت قد وضعت سلفاً نصب عيني معنى العبادة وكونها ارتباطاً خاصّاً بين العبد ومولاه ضمن شروط ومقرّرات معروفة.

كما أدرك المفهوم من «ثبات اليقين بلا حاجة إلى كشف الغطاء» مثلما أعرف معالم الطريق وسبيل النجاة .. لكنّي أحوم حول نقطة محوريّة ومسألة جوهريّة ربما اتّضحت للقارئ من خلال استجماع البحث.

ليس من السهل جدّاً التخلّي عن أدوات العزّ والنعمة والحياة الناعمة الفاخرة ولذائذها ، كما ليس من السهل جدّاً أن تمرّ الاُمور والأعمال بلا حساب عاجل أم آجل (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) ، وأيضاً ليس من السهل جدّاً أن ترضى العيون الغائرة والبطون الجائعة والأكباد الحرّى وتقنع بأن يزداد هؤلاء تخمةً ويزدادون هم فقراً وجوعاً ومسكنةً «أَأَبِيتُ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى» :


بين الأسف والألم تذكرةٌ وتحذير

كلّ كلمة ، لوحة ، نغم ، فكرة ، أثر ... لا تفرزها الحاجة ولا يصنعها الألم ، فهي كالضرب على خابية جوفاء الفوهتين.

وكلّ حُبٍّ لا تصنعه المفاعلة فإنّه آيلٌ إلى الزوال قطعاً ، فكما اليد الواحدة لا تحدث صوتاً فهذا الحبّ ميّت الإحساس أساساً.

وكلّ شيء يفيض عن حدّه يصعب وقف مدّه.

الإفراط والتفريط مرفوضان ، والتوازن والوسطيّة مقبولان ; إذ يجعلان الاُمور تجري على نصابها الصحيح وفي مسيرها السليم. ومن المنطقي أن يدرك كلّ واحد منّا مقدار وزنه وأبعاد حجمه ومساحاته ; كي يُريح ويستريح.

لذا فإنّه من المؤسف حقّاً :

أن نمنح الحبّ فلا نحصل على المفاعلة الحقيقية غير التصنّعية.

أن نثق بمن لا يثق بنا.

أن نحمي من لا يحمينا ، ناهيك عن طعنة الظهر التي هي قاسية


مؤلمة تؤذينا ، والأدهى من كلّ ذلك حين يحسبك العاذل من الأبلهينا ، متغافلاً عن كونك تسعى تجنّب ما لا يُحمَد عقباه سعي الصابرينا.

أن نُظهِر صادق الودّ لمن يضمر لنا الحقد والبغضاء.

أن نذبّ بصفاء عمّن يسلمنا حين الوثبة بأسهل من رشف الماء.

أن نحفر في الأعماق منزلاً لمن لا يمنحنا على السطح موطئاً وغطاء.

أن يصادَر العطاء ويتسنّم سلّم الفخر والمجد من لا عهد له بالوفاء.

أن يُستغَلّ سكوتنا ، فهذا السكوت نارٌ تحت الرماد ، والإنسان يبقى يكادح من أجل نيل المراد.

أن نرى المؤخَّر مقدَّماً والمقدَّم مؤخّراً ; لتحكّم الرغبة الذاتية التي تتنافي مع الموازين طرّاً.

أن يُغمَز حقُّنا ولا يؤخذ بعين الاعتبار ما لنا من الخصائص والمميّزات والأنظار.

أن نلمس التمييز والتفرقة لأجل اُمور تختصّ بالذوق الخاصّ ، إذ غريب المقياس أن «تكون خاضعاً ذليلاً خيرٌ من أن تكون عزيزاً كريماً».

أن نفكر جدّيّاً بالعزلة أوالرحيل ، حيث صبرنا ـ بأن نرى ونسمع ونلاحظ ثم نصمت ـ محدود ، لا كما قال الإمام الرؤوف (عليه السلام) :

«يأتي على الناس زمانٌ تكون العافية فيه عشرة أجزاء : تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت».

وهكذا يزدحم الأسف والألم ويتراكم ، ويتكرّر الحزن والسدم


ويتعاظم ، إلاّ أنّ لكلّ شيء حدّاً وحدوداً ، وأشدّ ما يُخشى منه غضبُ الحليم ، ناهيك عمّن سواه ، الذي قد يُحدِث ما لا ينفع معه الندم ولا مساعي كسر الفجوة وردم الهوّة وعلاج الألم ، فما يدرينا؟! فلعلّ البعض له من خزين الموارد والأدوات ما لم يكن بالنظر والحسبان ، غفلةً منّا أو نسياناً ، فلو ضاق ذرعاً وتقطّعت به الأسباب قد يلجأ إلى هذا المورد وتلك الأداة ; لتصفية الحساب وإشفاء الغليل ، سواء اعتبرنا ذلك عيناً بالعين وسنّاً بالسنّ ، أو ما ناظرهما ممّن يتشبّث بهذا الطريق وذاك السبيل لبلوغ المرام والنيل من الرقيب.

إنّ ديننا دين العقل والحيطة والحذر ، والأيام دُولة بين هذا وذاك ، والفطن اللبيب مَن يتعامل على ضوء أسوأ الظروف ، وبما أنّه لا تضمين ولا ضمان للغد ، فعلينا أن نُحسن استخدام العقل والقدرة والفرصة بحيث نبني ونشيّد رصيداً واعتباراً حقيقيين صادقين ، نكسب بهما قلوب الناس وأذهانهم ، فنستطيع آنذاك دفع أو مواجهة الملفّات التي قد ينتظرها بنا مَن ينتظر.

إنّها قاعدة كلّية لا تختصّ بشخص ومجموعة وكيان. وليس المعنيّ بها سوى كلّ من يوالف بين الماضي والحاضر لأجل المستقبل الآمن.

ولا فرار من قواعد الحياة وحوادثها واحتمالاتها ، والنادر منّا من هو مصداق قول أبي نوّاس :

تغطّيتُ من دهري بظلّ جناحه


فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت

وأين مكاني ما عرفن مكاني

بالطبع على اختلاف الرواية والألفاظ.

وإذا ما ظنّ أحدٌ أنّه مصداقٌ ومشمولٌ ومبتلىً ـ بنحو من الأنحاء ـ بما ورد أعلاه ، فلربما هي تذكرة والتذكرة تنفع المؤمنين.

وأوّل ما اُذكّر نفسي الجانية المذنبة عساني أنتفع وأستفيد.


متى نصحو؟

في ليال مقدّسة معهودة ، ما أروع ازدحام المقاطع التي تنشد إبراء الذمّة وتحكي جمالية التحلّل من الذنب وأشباهه اللائي ارتكبت بالفعل أو الفرض إزاء الغير من الناس ، حيث تتعدّى في كثير من الأحيان حدّ الرجاء وتبلغ مستوى التوسّل والإلحاح المثير للمشاعر والإحساس ..

إنّها محطّات ما أعظمها إذ تنقلنا إلى فضاءات نكران الذات ومعاقل الفطرة السليمة بكلّ صفائها ونقائها المعطّر بعبير الإخلاص وأريج التواضع ، فترسم بأنامل الإيمان وريشة الذائب الفنّان لوحة الآئب إلى رياض الخالق المنّان ، الكادح لها كدحاً لا يرضيه سوى حرّ اللقاء بربّ الأرض والسماء.

فليت العمر بأسره ليال قدسية وأيّامٌ روحانية حتى نبقى وتبقى لوحة العشق الإلهي حيّةً نضِرَةً تسوقنا أبداً صوب مراتع العدل ومرابع الهداية والرضوان ..

ليتها لا تتصرّم ولا تنصرف كي لا ننصرف إلى ذاكرتنا التعبى


وأوهامنا السقمى ، حيث تعودان بنا إلى دهاليز النسب والعشيرة والقبيلة والسوق والمسرح ، إلى : أنا .. أنا .. أنا الأعلم ، الأثقف ، الأفهم ، الأقوى ، الأثرى ، الأرأس ، كلّ ما يهمّني : شأني ، اعتباري ، غلبتي ، كلمتي ... ودونها ما سواها ، حقّاً كان أم باطلاً ، إيلاماً كان أو إيذاءً أو هتكاً أو ظلماً ، فلا أعتني ..

هنا تنهزم الذات المراقبة المعترضة المنتقدة ، فيأفل نجمها ويخفت صوتها وتشحب صورتها ويضمحلّ وجودها .. حينها إمّا أن تموت أو تقاوم بانتظار أن تستفيق وتصحو وتينع في ليال وأيّام مقدّسة اُخرى ، وكأنّ الله تبارك وتعالى قد حصر التوبة والندم ونظائرهما وجعلها وقفاً على ذلك المقطع الزماني دون سواه ، وكأنّ الأوبة المذكورة إفاقةٌ مرحلية تزول بزوال تلك الأيّام والليالي.

متى نصحو ونستفيق على الدوام ، متى لا نحيا على هامش هذه الليالي والأيّام حياة ذوي الأسقام والذنوب العظام ، متى تجعلنا أيّام الله ولياليه من أهلها وذويها مدّ سنّي العمر وكلّ الأعوام؟!


من وحي التجربة

«حالةٌ قد يشعر بها الكثير منّا إزاء بعض القرارات والسلوكيات الحادثة» ولسانها هو ذا غالباً :

أعلم أنّي أتحمّل وزري دون غيري ، فلقد كان الأجدر بي إعمال مزيد الفحص والاستقراء والمقارنة والتحليل بقدر كاف من الدقّة والتأ نّي والاستشارة.

إلى ذلك : فإنّي كنت أفتقر القراءة الواعية ، فلربما ولجت فضاءً أو اتّخذت موقفاً سحبتني إليه بعض ضرورات أجدها الآن لا تستحقّ كلّ ذلك العناء ، ثم ذبتُ في هذه الفضاءات ـ بحلوها ومرّها ـ ذوباناً أفقدني الكثير من الإرادة والتصميم ، وعلق بها قلبي وعقلي ، فصرت لا أرى سواها ، والأنكى من ذلك طرّاً غدوت اُحسّ التيه دونها ..

صحيحٌ أنّني اُردّد في حناياي : لست نادماً أبداً ; إذ تعلّمت فيها الكثير ، إلاّ أنّ معاناتي هي في استحالة تصوّر الديمومة وأنا منفكٌّ عنها ، اُكابد القلق والاضطراب والانقسام الذاتي ، اُحسّ وكأنّ قلبي منشطرٌ


نصفين ، فلاقرار هنا ولا هناك .. وهذا هو عين الضعف ، فلكم وددت الانطلاق في الاُفق الرحيب كي أكون أنا بما هو أنا بلا تشظٍّ ولا إثنينية ، ولازلت اُكادح ; حيث المعنى الحرفي قاس جرحه في الصميم أليم ، رغم ما بذلته من جهد ليس بالقليل للخروج من وهم التبعية المملّ ، جهد ربما تعسّر على الآخرين إنجازه ; لِما فيه من خسائر وعواقب وآثار لازالت تلاحق نوعي إلى يومنا هذا ، لكنّي وأنا المتطلّع إلى كسر القيود أعدّها بكلّ اعتزاز من أرقى وأشجع القرارات التي اتّخذتها طيلة حياتي ; إنّها منحتني شعوراً وإحساساً لا يوصف بالاستقلالية والكرامة الإنسانية واحترام الذات ، من خلال رفض كلّ الصفات الدنيئة والممارسات الهابطة كالنفاق والصنمية والتزلّفية والحربائية والغطرسة والرغبات الشخصية.

على أنّنا جميعاً عرضة للخطأ والسهو والغفلة.

وبالمراجعة العلمية السليمة باستخدام المناهج المعرفية الصحيحة يمكننا اغتنام فرصة التكفير عن الذنب وردم الهوّة ومعالجة الأخطاء ، ممّا يمهّد السبيل نحو الارتقاء إلى الأرفع.

نسأله تبارك وتعالى الصفح عنّا والأخذ بنا صوب مرابع المعرفة ومراتع الفلاح ; ليلج العقل فضاء الهداية النقي ويلتذّ القلب بالعشق الأبدي ، فتتناغم الروح ثانيةً مع الفطرة ثم يندكّا معاً في بوتقة واحدة كما كانا آنذاك.


شيخنا الجليل ، السلام عليكم

دع عنك ما نشرتُه تحت عنوان «من وحي التجربة» حيث رمتُ طرحاً بإطار عام لا عهدية فيه وإن استعرضت هناك اُموراً قد تُفسَّر هكذا.

راجياً قراءة هذا ، فأقول :

حتى في ذروة الصراع الذاتي أجدني منتصراً لهذا المعهود الكبير وذابّاً عنه ; لقناعتي وحبّي له .. لستُ الرقم الأوّل لكنّي أعدّني لذاتي هكذا ; إذ أرفض إلاّ أن أكون صادقاً في حياتي ، ولعلّ الغد سيزيح الستار عن أشياء أستبق البعضُ أحداثَه فراموا صوب التشكيك والتهم الظالمة بحقّي وحقّك وحقّ أصحابي ، واختبئوا خلف أسوار النفاق والتزلّف والصنمية والحربائية. ولكلّ شيء ثمن وما الإنسان إلاّ موقفٌ ودونه فالموت أولى به.

لا زلتُ كأقراني قائماً على جبل جليد لا أدري هل يذوب وأهوي .. رغم ذلك أحببتكم وأحببت هذا الفضاء الرحِب .. لا أعتني كثيراً إن هويتُ أو حُذفتُ بمقدار ما أعتني بالإفصاح عمّا ينبغي الإفصاح عنه.


طالما هتفتُ ببعض الأصحاب : إيّاكم والهروب من عزّ الشفّافية إلى ذلّ النفاق والازدواجية ; فالإنسان قد يخسر أحياناً لكنه لن يُهزَم ; إذ الهزيمة تعني كلّ شيء.

أحببت هذا المعهود الكبير ; لأ نّه يعشق المبادئ الحقّة ويذبّ عنها ; لأ نّه بإمكانه صنع المتاعب لي ولم يفعل.

لستُ مطمئنّاً إن كان هذا المتميّز الألق يحبّني ، أم يجاملني من باب «الجذب أولى من الطرد» ، وإن أحبّني فلعلّي أرى حبّه مقروناً بالثواب والعقاب.

أقول : هناك تساؤلات عريضة تنتظر الجواب رفعاً للغموض والالتباس.

لكلّ هذا أشعر أحياناً أنّي عبء على ذاتي وغيري فيراودني التفكير بالعزلة والصمت أو الرحيل ، ثم أكرّ بحناياي لهفةً فيهفو قلبي إلى فضائي وأحبّتي.

أخشى إن دارت الأيام وسألتنا الناس عن أشياء إبّان قدرتنا ، فماذا عسانا أن نقول لهم.

دمتم.


غربة الروح

يُروى أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) سأله سفيانُ الثوري سببَ اعتزاله الناس وهم بحاجة لفوائد أنفاسه ، فقال (عليه السلام) : «لأ نّي أشمّ رائحة فساد الزمان وتغيّر الإخوان» ، ثم أنشأ هذين البيتين :

ذهب الوفاءُ ذهابَ أمس الدابر

والناسُ بين مُخايل ومحارب

يفشون بينهمُ المودّة والوفا

وقلوبُهم محشوّةٌ بالعقارب (١)

قال الإمام الرضا (عليه السلام) :

«يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء ، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت» (٢).

* * *

ليس منّا من يأنس بمخالفة قوانين العقل والمنطق والعرف ، أو يرغب

__________________

١. تذكرة الأولياء / فريدالدين العطّار (ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام)).

٢. تحف العقول : ٣٣٣ وعنه في البحار ٧٨ : ٣٤٥ / ٣.


في الاتّصاف بالعناوين الشاذّة الذميمة ، ولاسيّما أنّ الأصل في أعمال الإنسان الصحّة والسلامة والبراءة والنقاء.

إنّما رحلة المتاعب تبدأ لمّا يُفترَض الحفاظ على سجلّ الروح الأبيض الخالي من الشوائب والأدران ، ففي المواضع التي ينبغي بها الإقدام يأتي الترك وفي المواضع التي ينبغي بها الترك يأتي الإقدام .. والاستصغار والاحتقار اللذان يؤلمان ويجرحان العزّ والنفس والكرامة يولدان باستصغار واحتقار دنايا الذنوب وقصارها ، وتكبر الخطايا بمقدار ما تكبر معها اللاّمبالاة ، والإنسان عقلٌ وعينٌ وسمعٌ ولمسٌ وحسٌّ ومشاعر ، يراقب ويلتقط ويصوّر ويحفظ ويحلّل ويستنسخ ويقارن ويرجع ويبعثر ويحفر ويستقرئ ويستنتج ، وغالباً ما تكون النتائج تابعة لأخسّ المقدّمات كما يقول المنطقيّون ، فإن كانت خيراً فخيراً ، وإلاّ فالشرّ لا محالة حاصل وقادم ومستقرّ ، وأخطره ما يعلق في الحنايا ويقبع في الأعماق ، فإنّها المصيبة الكأداء التي تدمّر وتسحق وتخلط كلّ قوانين العقل والمنطق والعرف ; إذ تضرب أصل الإنسان وتستهدف الصميم ، تصادر الفطرة وتهدم أسوار الصحّة والسلامة والبراءة والنقاء.

في خضمّ أمواج التيه والضياع تبحث الروح الخيّرة ـ أو التي تنشد الخير ـ عن كهف وملجأ وملاذ لتصون وتحافظ أو لتهتدي وتؤوب ، ممّا يعني أنّها تبحث عن الحقيقة ، فتركب الوسائط التي توصلها برّ الأمان وشاطئ الاطمئنان ، ترتمي في أحضان من ترى أنّهم المحاور والأقطاب وسبل الهداية ، فمرّة تخطئ واُخرى تصيب ، فإن أصابت فلا تجد في ذلك


مايدعو إلى العجب والاستغراب كونها استقرأت وتفحّصت ونالت المقصد ; إلاّ أنّ فاجعة الخطأ في إصابة الهدف تكلّفها الكثير ; إذ تجد في من آمنت به معبراً إلى الخير والفلاح سوى أخاديد من الضلال والضياع والانحراف ، مصداق الخذلان وتمام البعد عن الأصل والجوهر.

ومن الطبيعي أن تمتلك الذات الطامحة ـ التي مازالت تبحث عن مخرج ـ رغبة عارمة في المواصلة والمثابرة لبلوغ الحقيقة ، فلا يصيبها القنوط واليأس والتراجع ، بل نجدها أكثر عزماً وحزماً ، وقد يستدعي الأمر تقديم خسائر مختلفة ، فلربما أخرجت من قوائم حساباتها عناصر العشرة الواسعة والرفقة الطويلة والصحبة المديدة إثر تلك الفاجعة والانتكاسة المعهودة ، فاجعة الانتخاب الخاطئ وانتكاسته الأليمة فترتمي في أحضان العزلة والوحدة كردّ فعل أوّلي على ذلك ، ولا شكّ أنّ الروح تعاني بذلك الغربة والوحدة والفراق معاناةً مرّة مؤلمة ، وإن هانت فإنّها تهون إزاء ما فعلته العشرة والرفقة والصحبة من خذلان وتثبيط وتحبيط لا يمكن معه التجاوز والنسيان.

إنّ عناصر الموضوع الأساسيّة تفتح اُفقاً حيويّاً نحو فضاءات من الحوار أو الصدام تقود إلى اكتشاف نقاط الضعف والخلل ، الأمر الذي يعدّ بحدّ ذاته فتحاً كبيراً ; فالوقوف على اُسّ المشكل يكوّن الانطلاقة الصحيحة تجاه إنهائه وإزالته طرّاً ، وهذه كبرى منطقيّة عقليّة تجد في موردنا مصداقاً صغرويّاً قابلاً للانطباق والتطبيق.


إنّنا إذن نعاني أزمةً حقيقيّةً على صعيد تشخيص ومعرفة الأدوات والآليّات والوسائط التي تصيب المراد.

فهل نكتفي بالنصّ؟ فإنّه اكتفاء تخصّصي نخبوي محدود لا يمنح النتائج المرجوّة.

أم نكتفي بالعقلانيّة؟ فإنّها هي الاُخرى بحاجة لمؤن لا تقلّ تخصّصاً عن الأوّل بل أشدّ محدوديّةً ودقّةً.

هل نتّجه صوب الأفهام؟ فرغم أنّها المادّة النابضة بالحركة والمعرفة لكنّها تبقى في إطار النسبي إزاء المطلق ، وللنسبي مشكلاته من حيث الشموليّة والإحاطة والاستيعاب ونظائرها.

إنّنا اذن لابدّ أن نستفاد من جميع المحاور والفرص السليمة لبلوغ المقصد ، استفادة قائمة على المعايير العلميّة والمنطقيّة الصحيحة ، فلابدّ أن نقرأ ونستقرئ ونراجع ونقارن ونوازن ونحلّل ونحفر ونبعثر ... كي نستنتج ونقرّر أيّ الطرق أسلم وأصوب .. حينها نجد الثوابت والاُصول بما لها من عمق وجوهر هي اللاعب الشامخ في ميادين الوسائط المؤدّية للغرض ، أمّا القشور فإنّها تذهب جُفاءً.

ومع ما للجمع بين الوسائط الآنفة الذكر ـ النصّ ، العقلانيّة ، الفهم ـ من فوائد جمّة لكنّ إشكاليّة التخصّص والنخبويّة والمحدوديّة لازالت قائمة ، والسواد الأعظم من الناس ليس بإمكانه التوفّر على أدوات التعامل مع المحاور الثلاث لأسباب قد تبدو واضحةً للجميع ، لذا فنحن لم نستطع حلّ الأزمة.


بعبارة اُخرى : لم نستطع خلق فرص مناسبة للتعامل وفهم النصّ فهماً يهيّئ العقل الجمعي لفضاء الممارسة السليمة ، لم نتمكّن من إيجاد مدّ معرفي ثقافي عارم يأخذ على عاتقه مهمّة تحريك الناس تحريكاً فهمويّاً استيعابيّاً تجسيديّاً ; إذ لا يخفى أنّ صياغة الأنساق والمناهج التي تنجح في تحريك العقل الجمعي تحريكاً ميدانياً تصنع أرقى مراتب الثقة والاطمئنان بالقيم والمبادئ الداعية إلى الطاعة والإيمان بما لها من أدوات وآليات ، فإنّ نبل القيم والمبادئ وشرف الأدوات والآليات ينتج فضاءات شريفةً وأجواءً نبيلة.

وإذا ما وجد العقل الجمعي فرصة التكوّن والظهور والنمو والتفاعل فإنّ تلك الروح تهجر غربتها وتترك حريم وحدتها وأسوار عزلتها ; حيث الباعث والداعي إلى ذلك قد ارتفع ، ولاسيّما أنّ مقتضي الوصول إلى الحقيقة موجود والمانع مفقود.

ولابدّ لي أن اُذكّر أنّني لمّا اخترت عنوان «غربة الروح» لموضوعي هذا ما كنت اُفكّر قط أن أنتهي إلى النتيجة التي خرجت بها ; إذ كنت قد عزمت على حصر الفكرة في إطار ممارسة ذاتيّة وتجربة شخصيّة كي اُنفّس عن آهاتي وآلامي وأحزاني جرّاء ما قاسيته من جفاء وخذلان ممّن منحتهم الحبّ والاحترام والوفاء والدعم ، جفاء وخذلان كلّفاني جرحاً عميقاً في الصميم وإحباطاً كبيراً عمدت على إثرهما انتخاب الوحدة والعزلة رغم مرارتهما وصعوبتهما ; فحيث لا أرى ولا أسمع فهذا


أمرٌ يحفظ لي راحة العقل والمشاعر ..

لا أكاد اُصدّق أنّ مثلي يألف يوماً العزلة والوحدة!! لا أدري هل كلّ شيء على ما يرام؟ هل أرى وأسمع وأعقل بالخطأ؟ هل القيم والمبادئ وموازين الأخلاق جارية على النسق الصحيح في قلوب وأذهان الناس ، وإنّما أنا الذي لا يعي ولا يفهم بالشكل السليم؟

لا أعلم حقيقة الجواب ، إلاّ أنّي صرت أسعى إلى تخفيف الظلّ وتقليل الكلام علّني اُوفّق في محاصرة أخطائي وتحجيمها ; لا للشيء سوى لكي يرتاح لي ضمير وتستقرّ لي أحاسيس ، فشمّرت عن ساعد الجدّ لأعتزل العشرة والرفقة والصحبة رغم حجم التضحيات وصعوبتها ، فوجدت في غربة الروح عنواناً مناسباً لمعاناة ذاتيّة لكنّه استشرى خلاف إرادتي ورغبتي ليكون عنواناً لموضوع يعالج أكثر من معاناة ذاتيّة وآلام شخصيّة.

ولا أدري ، فلعلّ المعاناة الذاتيّة قد تكون أحياناً بوّابة تطلّ على آفاق واسعة من المعاناة والآلام والأحزان الاُخرى ، في نفس الوقت الذي تمثّل فيه مصداقاً من مصاديق الأزمات الأخلاقيّة والاجتماعيّة والدينيّة التي لابدّ من التعامل معها تعاملاً منهجيّاً علميّاً للوصول إلى النتائج الكفيلة برفعها وتجاوزها.


وقفة أخلاقيّة

من القوانين الفيزيائيّة والميكانيكيّة الطبيعيّة : لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في القوّة ومعاكس له في الاتّجاه.

ولست في مقام ضبط المتن لغويّاً ; إذ قد يعتقد البعض أنّه يضبط هكذا : لكلِّ فعل ردٌّ فعلٌ مساو له ... بجعل «ردٌّ» مبتدأ مؤخّر ، و «فعلٌ» صفة أو بدل عن «ردٌّ» ; لأ نّني أحوم حول معنى أخلاقي قيَمي كي أجد المنفذ المناسب للولوج في أعماقه ما استطعت ، فلا أنا بصدد الحسابات الفيزيائيّة والرياضيّة البحتة التي تشرح وتحلّل وتجزّئ القانون ، ولا بصدد الضبط اللغوي له.

أقول : إنّ تطبيق هذا القانون على المستوى الفكري والأخلاقي والاجتماعي قد يخلق فجوات وثغرات لا يمكن معها ردم الهوّة ورأب الصدع .. فليس قانون : العين بالعين والسنّ بالسنّ ، عمليّاً دائماً ، ففي الكثير من المواطن ترجح الحلول العقلانيّة الاُخرى كالمراجعة والمداراة ، بل هناك ما يخرق القانون كلّيّاً مثل : جواب الإساءة بالإحسان والبخل بالكرم ، خرقاً ينتج حلولاً سامية وآثاراً راقية ، بخلاف ممارسة القانون


الفيزيائي الميكانيكي التي قد تؤدّي إلى نتائج خطيرة وآثار سلبيّة لا تحمد عقباها. لذا فالتفصيل هو الراجح في المقام ; فقد تحتاج بعض الموارد إلى تطبيق القانون ، وموارد اُخر قد تسكت عنه ، وثالثة تباينه تماماً.

وهذا التفصيل يخفي وراءه منهجاً فكريّاً متكاملاً ونسقاً معرفيّاً متوازناً ينهض من رحم المعايير العلميّة السليمة المستندة إلى القيم والمبادئ الأصيلة .. وأهمّ خصائصه توفّره على العقل الجمعي ، حيث فقدان العقل الجمعي يعني شلل التفصيل المذكور وعدم فاعليّته واهتزاز وانتفاء موضوعيّته ، ولابدّ من الاعتراف بعدم تحقّق هذا العقل عندنا ، ولاسيّما فيما نحن بصدده ، وهذا ما يجعل التفصيل المذكور مركوناً على رفوف الإهمال أو معلّباً محفوظاً في ثلاّجات التجميد .. من هنا تروج ثقافة الانتقام والكيل بمكيالين رواجاً مطلقاً ، الأمر الذي أوجد حالةً من النفور والكراهيّة وانعدام الأمن والاستقرار وتصدّع العلاقات وفقدان الثقة والاطمئنان حتى في أصغر خليّة من خلايا المجتمع ، بل يفقد الفرد الراحة والثبات ، فتهدّد الطاقات وتضيع فرص النمو ويفقد الوقت حرمته ; حيث يكون شغل العقول الشاغل ومهنة الأفكار الرئيسة كيفيّة الردّ والمقابلة بالمثل ، استعادةً للاعتبار والشأن والحيثيّة والكرامة والعزّة الفرديّة والجماعيّة والوطنيّة والاُمميّة والدينيّة.

إنّ لنا في محاورنا وأقطابنا اُسوة حسنة : بدءاً بالرسل والأنبياء والأئمّة الهداة وانتهاءً بالأولياء والمؤمنين الأبدال من العلماء والفقهاء


والصالحين ; تسلسلاً تاريخيّاً يمنحنا محتوىً وضّاءً يعكس الممارسة الواعية لذلك التفصيل المعهود ، الممارسة التي عبّرت عن حكمة وفراسة وتدبير جنّب المجتمع والاُمم ويلات الحروب الطاحنة والدماء النازفة وقادت إلى فضاءات من الحب والسلام والازدهار.

لا شكّ أنّ حسّ الانتقام والردّ بالمثل أو أشدّ موجود في ذات الأحاسيس والمشاعر ، لكنّ العقل السليم هو الذي يدير المعادلة كما هو المفروض ، وإدارة المعادلة يعني سوق المشاعر نحو مرابع التهدئة ومراتع الاسترخاء كخطوة اُولى ، ثم اتّخاذ القرار المناسب في مواجهة ذلك الفعل الموجّه ضدّ الذات ، سواء كانت الذات الفرديّة أو الجماعيّة. وباستنفاد كافّة الحلول العقليّة واستحالة أرسائها على واقع الأمر يحصل الردّ على ذلك الفعل الضدّي بضوء أخضر يدعو إلى التحرّك لدرء الخطر أيّاً كان الخطر : أخلاقيّاً أو اجتماعيّاً أو دينيّاً أو اقتصاديّاً أو حتى عسكريّاً.

ذاتياً وفرديّاً ـ وهذه نقطة الانطلاق الهامّة السارية على خلايا المجتمع الواحدة تلو الاُخرى ـ تحتفظ ذاكرة الإنسان بقاموس ومجموعة من الأفعال التي استهدفت وتستهدف شتّى جوانب الحياة لديه ، منها ما أخذ نصيبه من الردّ بقدرات مختلفة ، ومنها ما ناله السكوت تعقّلاً أو صبراً أو ضعفاً أو انتظاراً للفرصة المناسبة .. ولكنّ المعيار والملاك الصحيح والضابط والميزان السليم يتمثّل بالتفصيل المشار إليه ، فإنّه دأب الأنبياء والأوصياء والأئمّة والصلحاء ، مدركين حجم الصعوبات المرّة


والتضحيات الكبيرة التي تبذل على جادّة الالتزام بهذا النهج الشريف والنسق النبيل ، الذي يعني الانتماء الأخلاقي الشامخ والهويّة القيَميّة المبدأيّة التي نادت بها السماء ودعت إليها الرسالات الإلهيّة السمحة الغرّاء.


ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم

ليس من المعقول أن تُسمّى الأشياء عبثاً ، فلا يكون الفكر ولا الثقافة والأخلاق وما سواها كذلك إن لم تستند إلى قيم ومعايير وأنظمة وأنساق تبرز محتواها واُطرها وخصائصها وأدواتها وأساليبها.

ويبقى الإنسان هو المقصود الأوّل والأخير ، به البداية وإليه النهاية ; إذ ينحصر المراد من كلّ هذه الصنعة والخلق والتكوين والشريعة في «الاستقامة» التي لا تجب ـ بفعل الشروط الموجودة والمسؤوليّة المعهودة ـ إلاّ على الإنسان (إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمواتِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١).

وللمسؤوليّة شروط ولوازم لابدّ من احترامها والتقيّد بها ، وبذلك سُنَّت الشريعة والقوانين والمناهج وانطلقت الأفكار لتصوغ وتؤسّس وتوضّح وتستدرك وتستكمل ...

__________________

١. سورة الأحزاب : ٧٢.


وإذا ما كان الإنسان جادّاً منضبطاً معتقداً فإنّه يلتزم بنهج ونسق يدير به الحياة ، وهذا ما يفرض عليه الواجبات والقوانين ولوازمها.

وإذا ما التزمت بشيء فإنّي ألتزم بلوازمه أيضاً ، إلى ذلك : فالعقل والمنطق والمجتمع يلزمني بما ألزمت به نفسي.

ولابدّ لي من ذلك الالتزام رغم الألم والمعاناة وتحمّل المشاق ، هذا إذا بقيت شروط الالتزام متوفّرة وبقي الموضوع على حاله ، وإلاّ فأنا في حلٍّ من ذلك ، فإذا ما انتفى الموضوع انتفى الحكم معه.

لذا فأنا باق على العهد الذي قطعته على نفسي ، عهد وفاء وشرف ومبادئ أن أخدم الدين والقيم المقدّسة ، فلن اُفكّر بالنكوص والتراجع والتوقّف ولا أدع مجالاً للوهم والتخاذل والخيانة ، رغم كلّ الآلام والأحزان والمشاهد والمواقف التي ينبئ عنها حتى السكوت والخفاء.

نعم ، إن علمت يقيناً أنّ الآلية والأداة التي اتّخذتها لخدمة الدين والقيم المقدّسة قد تزلزلت أو تآكلت أو كان فيها خللٌ ونقصٌ فلن أتردّد في اتّخاذ قرار المراجعة ثم المراجعة حتى أقف على مواطن النقص والضعف وأعمل بالصحيح الذي يقودني مجدّداً لخدمة الدين والقيم والمبادئ الحقّة.


الصيام قانونٌ وأخلاق

لا اختلاف في كون صياغة القوانين عمليّة شاقّة تخصّصيّة دقيقة ، ولابدّ لها أن تستمدّ شرعيّتها من المصادر والمراجع الموثوقة جدّاً ; إذ المفروض أنّ كلّ قانون بفروعه وجزئيّاته وموادّه وملحقاته يحمل دليله معه ، بل حتى الدليل بذاته تناقش دليليّته وتخضع للبحث العميق ، ناهيك عن القانون الذي يأخذ وجوده من ذاك الدليل.

نحن المسلمون ، قوانينا مأخوذة ومستنبطة من الأدلّة الاجتهاديّة وهي : القرآن الكريم والسنّة والإجماع والعقل ، وإن أعوزنا الدليل أخذناها من الأدلّة الفقاهتية وهي : الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير ، وللضرورة والعناوين الثانويّة وأقرانها مكانها وحيّزها في الشرع والقانون ، ولعلّ النقاش في العناوين الثانويّة يطول من حيث التوسعة والتضييق ومدى تأثير المصالح والمفاسد فيهما. وهناك من المسلمين من يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة و... كأدلّة تستقى منها التشريعات والقوانين.

إنّ منظومتنا الدينيّة تفرض علينا قوانين وتشريعات ، أحكاماً


شرعيّة ووضعيّة ، واجبات ومحرّمات ، مستحبّات ومكروهات ومباحات ... تعتمد الدليل ـ قَوِيَ أو ضَعُفَ ـ في التأسيس.

ويجب علينا ـ كحدٍّ أدنى ـ الالتزام بما أراده الدين منّا كلٌّ حسب انتمائه المذهبي ، بل حتى في الإطار المذهبي حينما يزاول المكلّف ما أمر به الدين ترى الاختلاف موجوداً في كيفيّة التعامل مع قوانينه وأحكامه ومفاهيمه.

واُركّز بحثي على «فريضة الصوم» كمصداق لاختلاف النفوس والأفراد في ممارستها ، قد يسري مثالها على سائر الأحكام والقوانين أيضاً.

الصيام فريضةٌ أوجبها الله تعالى على المسلمين في شهر رمضان المبارك بنصّ القرآن الصريح ، إلاّ من كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر ، فالله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ; لذا بات واجباً على كلّ إنسان مسلم صومُ شهر رمضان بأكمله.

وبحلول شهر رمضان المبارك تتغيّر مظاهر الحياة وبرامجها لدى المسلمين وتخرج من منطقها الروتيني المعتاد ; حيث الامتناع عن الأكل والشرب والإمساك عن كلّ المحرّمات المادّيّة والمعنويّة من أذان الصبح حتى أذان المغرب ، فتسنح الفرصة العباديّة المناسبة كي يوثّق المسلم ارتباطه بخالقه وقيمه ومبادئه ، وبالصيام يتذكّر معاناة الفقراء والمساكين والمحتاجين مثلما يتذكّر جوع وعطش الآخرة ، فيعمل على تهذيب


النفس وتحصينها من الذنوب والآثام كي يلقى الإله قرير العين مطمئنّ النفس.

إنّنا إزاء القانون والأحكام متفاوتون من جهة كيفيّة التعامل معها والإفادة منها ، والذين يخضعون لها أيضاً متفاوتون فيها ، ففي المسألة تفصيلٌ لا يمكن التغافل عنه ; فمنّا من يعمل بها عملاً ميكانيكيّاً صرفاً ، ومنّا من يفكّر بمقدار النفع والضرر منها .. أمّا الذي جعل منهج المراجعة والتحليل والاستقراء والمقارنة والاستنطاق طريقه في التعامل مع القوانين والأحكام عموماً ، والإلهيّة خصوصاً ، فإنّه لا شكّ ينوي بناءً علميّاً معرفيّاً ، بناء الذات التي تروم الحقيقة والكمال الإنساني.

إنّ تطبيق القوانين الإلهيّة بقدر ما هو خضوع لإرادة الباري سبحانه وتعالى فإنّه منشأ العزّة والكرامة والسموّ الإنساني ، هكذا يتعامل الفرد المؤمن ، منهجاً ومعرفةً ، كي ينال المطلوب.

فالصيام قانون وحكم إلهي وتطبيقه يمنح الإنسان الإرادة والأناة والتحمّل ... هذه الخصائص والمزايا والصفات هي التي توفّر له غطاءً قويّاً وسدّاً منيعاً إزاء ما قد يعرّضه للبلاء وفتنة المظاهر والمغريات ، التي لا شكّ أنّها تنافي العزّة والكرامة والسموّ الإنساني.

إنّ الإنسان الذي جعل من الصيام أداةً لغرس القيم والمبادئ من عمق العقل والمشاعر لن يخضع لأساليب الابتزاز والاستبداد والمصادرة والانحراف ، فإذا ما قويت البذرة وصلب العود أورقت الأغصان وأينعت


الثمار وانتشر الخير وعمّت البركة وانحسر الشرّ وتراجع القفر والجدب.

والإنسان مخيّر بعقله وأحاسيسه أيّ النجدين يسلك ، إنّها حرّيّة الانتخاب التي منحها الباري عزّوجلّ لعباده ، كي يستفيدوا من مختلف الأدوات المتاحة استفادةً منهجيّةً معرفيّةً حتى يكون الإيمان إيماناً عن بيّنة ، والكفر كفراً لا حجّة ولا إعذار معه.

ووقوع الاختيار على «فريضة الصيام» كمصداق للبحث ، ليس لسبب خاصّ ، إنّما للفضاء الذي يحدثه شهر رمضان في مجتمعنا الإسلامي من تبدّل وتحوّل في شتّى مجالات الحياة الماديّة والمعنويّة والاجتماعيّة والثقافيّة ... وتلعب الذكريات وأيّام الطفولة دوراً هامّاً في حفظ هذا الشهر الكريم على شريط التاريخ الشخصي لكلّ فرد مسلم حفظاً خاصّاً ، فأنا المسلم لست أنسى جلسات السحر والسحور والدعاء والصلاة وقراءة القرآن ثم تحمّل الجوع والعطش والامتناع عن كلّ المحرّمات المادّيّة والمعنويّة التي ذكرت في الكتب والرسائل العمليّة لمراجعنا نحن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وفرحة الإفطار والجلوس الجماعي على سفرة رمضان الكريم والبرامج الليليّة ، هذا الشهر الذي يكون النوم فيه عبادة والأنفاس تسبيحاً ، بركاته المتواصلة التي تشعر الإنسان بحلاوة الإيمان والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى. أمّا فرحة العيد فإنّها لا توصف والحديث عنها يطول.

والواضح أنّ أحكام الدين مكلّف بها الإنسان ولابدّ من امتثالها ، لكنّ


الامتثال شيء والفوائد المترتّبة على الامتثال شيءٌ آخر ، فربّ شخص امتثل وصام الشهر الكريم ولمجرّد أداء الواجب والتكليف الشرعي وكفى ، ولكنّ الآخر صام أيضاً إلاّ أنّه استفاد من الشهر المبارك في ترويض النفس وتهذيبها وتربيتها وتقوية اُسس الإيمان فيها ، إنّه رفع في ذاته شأن الكرامة والعزّة الانسانيّة وخلق الإرداة الصلبة في مواجهة التحدّيات وتحقيق الطموحات ، وما طموح المؤمن إلاّ بلوغ مراتب الكمال وكشف الحقيقة النورانيّة والعودة إلى فطرة الله التي فطر الإنسان عليها ، لا تبديل لخلق الله.

إنّ تجربة الصيام الناجحة تمنح ثقة عالية بالنفس وتفتح آفاقاً نحو محاولات أكبر ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر العبادات إن استثمرت استثماراً صحيحاً كاملاً.

لقد صدّقتُ إمكان تطبيق نظام غذائي صارم نسبيّاً عبر تصديقي إمكان صيام شهر رمضان ، وحينما مارست النظام الغذائي ممارسةً مستمرّة امتلكت إرادةً لم أشعر بها من قبل ، إنّها إرادة الصبر والتحمّل والمقاومة وعدم الخضوع والمساومة ، ممّا منح شخصيّتي قوةً وصلابةً استطعت بها تحقيق جملة أهداف طالما كانت أحلاماً يصعب حصولها على أرض الواقع ، وأصبحت أشعر بلذّة امتلاك التصميم والقرار والاختيار ، وما عدت أكترث كثيراً بالمغريات التي تصادر حرّيّتي واستقلالي وتبتزّ عزّتي وكرامتي ، فانفتحت أمامي فضاءات من التحوّل والتطوّر والنموّ على صعيد الفكر والثقافة والمعرفة التي ساعدتني كثيراً


في إيجاد الآليات والأدوات اللازمة على طريق الاكتفاء الذاتي وعدم الاتّكاء على كلّ من بإمكانه مصادرة استقلاليّتي وكرامتي وحقوقي.

وأنا الآن أجني حصاد الدرس الذي تعلّمته واستفدته من شهر رمضان وقانون الصيام ، إنّه حقّاً شهر الخير والبركة والرضوان.


بمَ اُفكّر وماذا اُريد؟

لا مفرّ عن قانون الحياة الحاكم بسلسلة واجبات ومنهيّات ومباحات ومكروهات ومستحبّات ، ولا أعني بها الأحكام الخمسة الشرعيّة التي نتداولها فقهيّاً ، بل الأحكام المتعلّقة بالإنسان على نحو لا بشرط ، فإنّه كي يبقى لابدّ أن يلتزم جملة اُمور ويمتنع عن اُخرى ويتخيّر في ثالثة ويحبّذ رابعة ويكره خامسة.

ولا نقصد بهذا النظام والقانون مسائل الحلال والحرام والطاعة والعصيان والكفر والإيمان ; إنّه نسق الاستمرار ونهج الدوام ، وبما أنّه نسقٌ فهو بحاجة إلى أدوات ومؤن وآليات أوّلها العقل ثم المشاعر والأحاسيس ، ووجود المشاعر والأحاسيس هنا وجود فاعل ومؤثّر في دفع العقل إلى جدولة الأولويّات ورسم خارطة طريق منطقيّة للوصول إلى المطلوب ، ولاسيّما أنّ الغريزة تشكّل عامل ضغط كبير كي ينشط العقل وينتج الأفكار المثمرة ; على أنّ ثمار الأفكار مرتبطة ارتباطاً عضويّاً بخلفيّات التكوّن البيئي والثقافي والاجتماعي والايديولوجي.


كلّ «أنا» هي واحدةٌ لا غير ، «أنا» التي تعقل وتشعر وتحسّ ، حالها حال كلّ «أنا» سواها.

بناءً على ذلك : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد أنا؟ علماً بعدم إمكان استبدال الأنا العائدة لي بأنا الغير ، ولا أستطيع أن أحلّ محلّها في التفكير والإحساس والشعور ; وفرقٌ بين إدراكي ومشاطرتي وتفهّمي لفكر وأحاسيس الغير ، وبين حلولي محلّ الغير في التفكير والإحساس أو استبدالي لأناه بأناي ; فلكلّ إنسان عقل وأحاسيس منحصرة به فقط كما هي بصمات الأصابع والعين ونظائرهما.

انطلاقاً من ذلك أعود ثانيةً فاُكرّر : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد أنا؟ لا شكّ حينئذ أنّ الإجابة ستكون تعبيراً عن مكنونات ذاتيّة مكوّناتها جملة آراء وتصوّرات وطموحات وأحاسيس ومشاعر يخالطها الكثير من القضايا والمسائل التي تدور في أروقة العقل والقلب.

لا أدري قد أحمل في فضاءات العقل بعض ابتكارات وإبداعات واكتشافات ، وقد لا أحمل ذلك ، لا أدّعي شيئاً ، لكنّي كأيّ إنسان أنبعث من زاويتي ، هي الزاوية بما تحمل معها من انتماء وهويّة وثقافة وتاريخ ومتابعات وآلام ومعاناة وطموحات وآمال ومشاهدات ومواقف وأفكار وتجارب وخصائص.

ولا شكّ أنّ التناسب طردي بين نوعيّة الأداء ـ أعني به الجواب عن السؤال المطروح أعلاه ـ وبين طبيعة الثقافة والمعرفة والهويّة التي تعرّفني


واُعرَّف بها ، بما في ذلك مزايا الضبط والدقّة والإحاطة والاتّزان والموضوعيّة والعمق والتأثير والواقعيّة.

وقد يصعب عليّ الجواب بشفّافيّة تميط اللثام عن حقيقة ما اُفكّر به وماذا اُريد ، فإنّنا ـ نوعاً ـ نحتفظ بحقائق ما يدور في أعماق ذواتنا احتفاظاً محاطاً بحراسة مشدّدة مع مراعاة كافّة الجوانب الأمنيّة التي تحول دون الفجوات والثغرات وارتكاب الأخطاء ـ أعني الأمنيّة ـ فنحاول دوماً التمويه والمناورة لإغواء وإغفال الغير وإفشال مساعيه الرامية إلى كشف الحقيقة ; فكيف لي إذن كشفها على الورق الذي سيبقى ويكون وثيقةً وسنداً قد يستعمل كدليل إدانة ضدّي في يوم من الأيّام.

إلاّ أنّني سأقول الحقيقة يوماً ما عبر أيّة آليّة كانت ، الحقيقة ذاتها ، وربما ليس كلّ الحقيقة ، لكنّ الذي اُدوّنه اُريد له أن لا يخرج عن نطاق الحقيقة أبداً ، وسأبقى حريصاً على قول الحقيقة وإن لم تكن كلّ الحقيقة ; لأ نّني إن مُنعت ذاتيّاً أو خارجيّاً عن الإدلاء بالحقيقة فهذا لا يعني أنّني سأتوقّف بل سأستمرّ في بيان الحقيقة ولو بعضها ; فقول الحقيقة ولو ليست كاملةً أفضل من دثرها وطمسها ، بل وأفضل من قول غيرها.

نعم ، إنّما البحث في : كيف لي إصابة الحقيقة وأنا أسلك خلافها ، كيف لي فهم الحقيقة وأنا اُجافيها ، كيف لي قول الحقيقة وأنا أسمع غيرها ، كيف لي كتابة الحقيقة وأنا أقرأ غيرها ... لذا بات عليّ معرفة سبيل الحقيقة كي ألج فضاءها فأسمعها ثم أفهمها كي لا أقول ولا أكتب غيرها ..


إنّه مسلكٌ وعرٌ صعبٌ مرير يقتضي مقدّمات وشروطاً على ذات السنخيّة.

بعبارة اُخرى : إنّه منهج تهذيب النفس والتسلّح بمزايا العقل العملي المصطلح عليها «حالة الوعي» حيث يتّحد العلم والعالِم والمعلوم ، وحيث يتميّز الحسن عن القبيح تميّزاً إدراكيّاً ، ممّا يعني العثور على جواب لسؤال الحياة الكبير ، واستيعاب مفهوم التوحيد استيعاباً تكامليّاً ، والانتفاض والخروج والتمرّد على صفات وعوامل النفي كالشهوة والشهرة والقدرة والثروة .. إنّه الدين الذي يقود إلى الحقيقة ، حقيقة الإنسان بما له وعليه وما ينبغي وما لا ينبغي له.

إنّ «الوعي» المشار إليه ـ الحاصل بعد تحقّق شروطه ـ يعني التسليم والقبول الواعي الناشئ عن قناعة اشترك في تحصيلها العقل والحواس .. إنّها إغارة بصائريّة حسّيّة معرفيّة في ثنايا الذات استدعت بحثاً وتنقيباً واستقراءً ومراجعةً وتحليلاً ومقارنةً وحفراً واستنتاجاً .. إنّها حركة تمرّد على الخضوع والخنوع والكسل المنبعث عن التسليم بدين الآباء ، ففي كذا تسليم وإن كان «المسلَّم به» صحيحاً سليماً لكنّ «المسلِّم» يفتقد غالباً مقوّمات «الوعي» المعهود ، ممّا يمهّد للتزلزل والانحراف والضلال بفعل تحرّك عوامل النفي ـ الشهوة والشهرة والثروة والقدرة ـ تحرّكاً يبعد الذات الإنسانيّة عن فضاء التوحيد ; إذ لا علم ولا عالِم ولا معلوم ، فلا وعي ; وبذلك يفتقد مفهوم الغيب موضوعيّته في الذات ، فتنفتح آفاق الرفض والإلحاد على مصراعيها بعد انغلاق الروح ، تلك الروح التي تعقل وتحسّ وتتأمّل وتتدبّر ، فإذا ما أفلت هذه الروح


أو ماتت مات الباعث على تحريك الذات صوب معايير الوعي والتوحيد والإيمان.

بناءً على ذلك : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد؟ فعلى القاعدة المألوفة : اُفكّر بما تمليه عليّ ثقافتي وانتمائي وطموحاتي ; والحوادث المشاهدة والمسموعة والمقروءة ـ مضافاً إلى الحاجة النوعيّة ـ ذات الأثر الهامّ في تفكيري ..

أمّا الإرادة فإنّها على ارتباط وثيق بالتفكير ، بل هي من نتائجه وثماره ; فالباعث والمحرّك والداعي إلى الشيء هو العقل أوّلاً ثم الحسّ ـ ويرى آخرون العكس ـ ; ذلك على ضوء النسق والمنهج العلمي والمعرفي ، وهذا ما يوفّر فضاءً طردياً تجانسيّاً ابتداءً من مرحلة الثبوت إلى آخر مرحلة الإثبات ..

أمّا إذا غلب الحسُّ العقلَ فلا ضمان للتجانس والتناسب الطردي. نعم ، قد يتحقّق ذلك ، لكنّه تجانس وتناسب السلب مع السلب لا الإيجاب مع مثيله.

إلى ذلك : فإنّ الرقيّ الفكريّ ينقل الإنسان من فضاء السلب إلى فضاء الإيجاب ، بفعل المعايير المعرفيّة وأدواتها العلميّة التي تجرّده شيئاً فشيئاً من عوامل السلب وتهيّئ له وسائط الانتقال إلى آفاق الإيجاب رغم ثقافة الانتماء المعاكسة ونوع الطموح الآني ، فإنّه ينهض حينئذ بذاته أوّلاً ثم بانتمائه وثقافته إلى ممارسة واعية قائمة على التفكير المعياري المستند إلى تلقٍّ وفهم وإثبات سليم ، ولاسيّما إن كان على علاقة طيّبة


ووثيقة بالاُصول والثوابت ، فإنّه ـ بما يمتاز به من فكر معياري نسقي ـ متمكّن من تجاوز مختلف الإشكاليّات الزمانيّة والمكانيّة وما سواها.

الإنسان مركّب عقلي حسّي ، مادّي روحي .. اُولى نقاط الحركة فيه ووسائطها ومقاصدها تبدأ بالمصالح ، «فيمَ يرى صالحه وطالحه» رؤية تستخدم كلّ مكوّناته وتستنهض جميع قواه لأجل البلوغ .. ولكي يفهم الصالح والطالح ونيل المراد فإنّه يحفر في ذاته جدولاً ، يقارن فيه ويحلّل ويستقرئ ويفترض ويراجع ويحفر ويستنتج ، والاستنتاج السليم متوقّف أساساً على المقدّمات السليمة ، على الصدق مع الذات والواقعيّة في الفهم والتلقّي العقلي والشعوري ، ونعني بالاستنتاج السليم ألاّ يستوي يوماه فيغبن ذاته ، وغبن الذات أوّل ما يبدأ بغياب الجدول والمنهج والنسق المشار إليه ، فإذا ما افتقد النظم الفكري في ذاته افتقد كلّ شيء ، وكان التراجع سمته على الدوام.

إنّنا جميعاً نبدأ بطفولة وننشأ على رغبات وطموحات بحجم تلك الطفولة ، لكنّها تأخذ محتوىً وقالباً آخر كلّما بدأ الجدول المعهود فاعليّته على صفحات العقل ، وهذا الجدول بذاته يتغيّر محتواه بين الفينة والاُخرى تبعاً للتطوّر الحاصل ، أعني به الاستنتاج المترشّح عن تلك الأدوات والآليّات المعرفيّة المشار إليها ، لكنّه يبقى معنا باستمرار حيث يتغذّى على نتائج الفكر والحسّ ، التي تأخذ مكانها الموضوعي كلّ مرّة لتخضع كسالفها لعمليّات المراجعة والاستقراء والمقارنة ...


إنّ جدول الفكر أو الفكر الجدولي يمنحنا فضاءً مترامياً من الحركة والفاعليّة والنشاط ، ويوفّر فرصاً أكثر للتلاقح والحوار والتقارب والاندماج ، ويفتح أبواباً عمليّة لممارسة قائمة على العدل والإنصاف ، ويؤسّس لحياة ملؤها الأمن والحبّ والسلام ، ويجعل «الصالح» مستنداً إلى القيم والمبادئ السليمة ، فيكوّن فهماً كافياً لمعنى «الطالح» ، الأمر الذي يبني أساساً واعياً لمحاور الطاعة ـ حيث يجب العمل ـ والعصيان

ـ حيث يجب الترك ـ ويقود إلى الفلاح ; وتلك هي غاية الإنسان في الحياة ، غايته مهما اختلفت الأذواق والمشارب والانتماءات (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) (١).

إنّني ـ إذن ـ حينما اُفكّر إنّما أبحث عن ذاتي أوّلاً ، فإذا وجدت ذاتي فقد عثرت على كلّ شيء صغيره وكبيره.

ولابدّ لي من الإقرار بأنّ التفكير وإن كان عمليّة عقليّة ذهنيّة ، لكنّها توظّف وجود الإنسان ـ مادّيّه ومعنويّه ـ لأجلها ، مقترنةً بسلسلة مخاضات وآلام وتضحيات ، فالروح الحبلى باللذّة والشهرة والقدرة والثروة إن لم تُجْهَض بنواقضها كان الوليدُ ضالاًّ لا محال ; أمّا الروح الحبلى بذاك الوعي المترشّح عن اتّحاد العلم والعالِم والمعلوم فإنّها تلد الفلاح لا غبار.

لا غموض ولا إبهام في ذلك ، إنّما المشكلة في الروح التي تتأرجح

__________________

١. سورة الإسراء : ٨٤.


بين النقيضين ، فلابدّ من الحسم آنذاك ; فلا منطقة وسطى بين الفلاح والضلال ، بين الإيمان والكفر ، بين الجنّة والنار ، وبتعير الاُصوليّين : لا إجماع مركّب في المسألة ، حيث لا قول ثالث فيها. فلا فرار من الانتخاب : إمّا هذا وإمّا ذاك ، وليس الانتخاب إلاّ انتخاب البحث عن الذات ، فإن كان كما ينبغي له أن يكون كان الفلاح المبين وإلاّ فالضلال والخسران المشين.


أتمنّى

أتمنّى لو أعيش كما اُريد أنا لا كما يريد الآخرون منّي.

أتمنّى لو اُعبّر عن مشاعري وأحاسيسي دون قيود وشروط.

أتمنّى لو أحيا السعادة التي أنشدها أنا لذاتي.

أتمنّى إرضاء نفسي لا إرضاء الآخرين.

أتمنّى الاستمتاع بحياتي طبق ما اُحبّ لا كما يحبّ الآخرون.

أتمنّى لو تتحقّق رغباتي التي لازالت مجرّد أمانيّ وأحلام.

أتمنّى مقابلة أصدقائي القدامى بين الحين والآخر.

أتمنّى ... وما أكثر التمنّي.

كثيرةٌ هي الأشياء التي منعتُ نفسي عنها أو لم أستطع بلوغها ونيلها ، فأعدّ حياتي ناقصةً دونها ، وأغبط الآخرين ـ ولربما أحسدهم ـ كونهم بلغوها ونالوا منها.

وكثيرةٌ هي المزايا التي تمنّيت لو كانت متوفّرة بي لأستفدت منها في تحقيق هذا المراد أو ذاك المقصود.


غالباً ما ألمس أنّي أعيش لغيري ، لإرضاء الآخرين ، غير مكثرت بذاتي ، ولا مهتمّاً بإرضائها ، أليس حركة الحياة بمختلف مفاصلها تبدأ من الذات ثم إلى خارجها؟! فلماذا نبدأ بالغير وننتهي بذواتنا؟! أليس الوهم والشكّ والظنّ واليقين تبدأ كلّها من الذات ثم تنطلق إلى خارجها؟! فلِمَ العكس؟!

الأجدر بي : بناء ذاتي وتوفير احتياجاتها كي تتماسك وتتكامل وتسمو ، ثم أتحرّك صوب الآخر ليؤثّر به ما أثّر بعقلي وقلبي وروحي ، وإلاّ فحركتنا ما هي إلاّ عبث وهراء ، بل السكون أفضل ، فلعلّ في السكون لا يحصل التراجع ، بخلاف حركتنا الطائشة التي ستخلق مزيداً من احتمالات الفشل والانتكاسات المريرة.

أتمنّى لو أعيش كما اُريد أنا لا كما يريد الآخرون .. أن تكون القناعة قناعتي ذاتيّاً وإلاّ فكلّ شيء في مهبّ الريح .. لستُ عبداً سوى له تبارك وتعالى ولا إيمان إلاّ به وبرسله وأنبيائه وأوليائه المنتجبين (عليهم السلام) ، وما عدا ذلك «فَذَرْهُ في بقعة الإمكان».

إنّنا محاصرون ، مكبّلون ، مرغَمون ، محاطون بشواهق التعبّد والاستبداد والاستغلال والظواهر والقشور والرغبات والتسلّط والعنف .. الجور يصول بنا ويجول ، كبت الأفكار قائم ، مصادرة الأفكار واضحة كشمس النهار ، هذا حال اُمّتنا ومجتمعنا ، أمّا المناوئ فهو يعدّك تارة إنساناً من الدرجة الثانية واُخرى كافراً ضالاًّ ينبغي حذفك .. وليس لدينا


من خيارات سوى أن نلبس لباس النفاق والببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّفيّة ، متذرّعين غالباً بيافطة «التقيّة» التي اُسيء فهمها على مرّ السنين والأيّام .. أو أن نصمت ونصبر ونتحمّل .. أمّا أن نلج ميدان الصراع فلابدّ أن نلبس جلباب الخطر والمجازفة بكلّ شيء.


معنى العشق

كثيراً ما اعتقدت أنّي أفهم العشق ومعناه وأعيشه في حناياي عمقاً واعياً .. لكنّي مخدوعٌ كما يبدو لي ، مخدوعٌ بسلسلة تصوّرات بدائيّة لا تفهم منه ولا تعي من قيمه إلاّ اليسير.

إنّ جَسْر الهوّة الفاصلة بين الادّعاء والحقيقة يفتقر إلى كمٍّ هائل من الموطّئات الإنسانيّة والشعوريّة والمعرفيّة التي لا يمكن لها التبلور بين ليلة وضحاها ، بل قد تستنزف العمر كلّه ..

إنّه إشراقة نورانيّة تملأ القلب وتضيء الباطن وتفعّل العقل فترشح عطاءً وهاجّاً يملأ آفاق الروح وصلاً وذوباناً وإيمانا ...

إنّ العشق يعني الحياة ، الحياة التي تتدفّق شوقاً وهياماً وولهاً إلى المحبوب الذي رسى على ضفاف الجنان بكلّ جمال وعنفوان ; إنّها حالة الحبيب لمّا يندكّ في المحبوب ، لحظة الكمال الإنساني المنشود ، لحظةٌ ما أعبق أريجها وأسنى وهجها ..

فهلاّ من سبيل لبلوغ ذلك العشق السرمدي؟! فنرقص على أنغامه وترانيمه رقصَ الثمالى ، ثمالى العشق الإلهي؟! أم للعشق أُناسه ، أمّا نحن


فمتطفّلون لا تزيدهم الحيرة سوى حيرةً وضياعاً؟ اُناسه الذين صاغوا من موطّئاته سبيلاً إلى شامخ اليقين بنهج العارفين فنالوا وفازوا .. اللّهمّ احشرنا فيهم.


الفنّ الإلهي

قفر الصحراء الكئيب وشموخ الرواسي المخيف وغور الوديان العميق وترامي البحار الرهيب وصور الرحيل الأليم وحال المدن المرئي بما فيها من حركة وضجيج ... تثير فيَّ حسّاً من الرجوع والعودة إلى الذات ، تمنحني فرصة اللوذ بمفاهيم القناعة والهدوء والاسترخاء ; إنّها ارتجاجة أعماق تبدأ بهالة من الحزن المطرّز بالكآبة الخانقة التي سرعان ما تتلاشى وتضمحلّ ليفور بدلها شعورٌ بالطمأنينة والحاجة إلى الارتماء في أحضان ناعمة دافئة ، إلى ملاذ وملجأ يحميني من غربتي ووحدتي ، لا أدري علّها مرتبة من مراتب العشق ، إذ الحبيب يعني كلّ ذلك ، بل أجمع وأمنع .. شحنات العشق تمنحنا الأمان والسلام والوثوق بخطى الانطلاق صوب المعشوق ، المعشوق المقصد ، المعشوق المراد.

الإنسان ذروة الفنّ الإلهي ، والفنّ عشق ، فهلاّ كنّا في أدنى مراحل الوفاء والإخلاص إزاء صانع الفنّ المطلق؟! إنّنا نغرق في محيط الأحاسيس الجاهلة ، في بحار الأحلام الزائفة ، في أنهر الصور الزائلة ... إذ غاية ما فهمناه من العشق هو الدوران حول امرأة جميلة المفاتن رائعة


المشاعر ، أو حول سائر النظائر .. دون أن نعرف المعشوق المقصد الذي لابدّ أن تهفو له كلّ القلوب والألباب .. إنّها معرفةٌ ستظلّ حتى في أعماق أغلب المدّعين مجرّد التزام نظري يفتقد الإنجاز.


مكمن السرّ

لا أعلم مكمن السرّ أين ، فلمّا أطلب حاجتي من السماء أطلبها بضغط مثير على جسدي ، أشدّ على دماغي ، على جوارحي ، اُحسّ أنّ كلّ دمي يتجمّع في هامتي فيكاد يتدفّق من أنفي ، تكاد عيناي تخرجان من رأسي ، بهذا الحال أعتقد أنّ حضور القلب والعقل والروح قد حصل ، حينها أطلب حاجتي ، أيّاً كانت : استغفار ، توبة ، طلب أمان ، قضاء أمر مستعصي .. والأهمّ هو ذلك الشعور الذي اعتدت عليه ، الشعور الذي يرافق تلك الحالة ، الشعور الذي يؤكّد طلب حاجتي بصفاء وحضور قلب وعقل منقطع النظير ، الشعور الذي يهتف في أعماقي أنّ حاجتي سيقضيها المولى القدير. لا أدري لعلّ الجميع لمّا يتفاعل ، أعني الجسم والروح والعقل ، تحصل النتائج المرجوّة ; إذ الإنسان خُلِقَ على الفطرة ، ولعلّ المعهود نوع من الرجوع إلى الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها ، لذا تراني أشعر بالأمن والطمأنينة وأنّ هاتفاً يناديني : أبشر ، فَلَكَ من السماء منحةٌ ولك من ربّ العلى قرائنُ وإشاراتُ خير سغبى.


أيّ ملاذ أروم؟

حينما تفتقد ظلاًّ يحميك وملاذاً يؤويك وقلباً يحنو عليك وسنداً تتّكئ عليه وصدراً تودعه الأسرار وعقلاً تستشيره فيشير عليك .. تلمس الوحدة بأمرّ صورها ومصاديقها وتعيش الغربة بأقسى حالاتها ، فتودّ لو أنّك تبكي بكلّ الدموع وتصرخ أشدّ الصراخ كي تخفّف الضغط الرهيب الذي يكاد يهشّم عظام صدرك ويفتّت قلبك وفؤادك .. إنّك والحال هذه تحترق بلهيب الزفير فلا تجد ما يكفيك من هواء الشهيق كي توازن به ذلك الاحتراق ، وكلّما تنفّست ضاق بك الفضاء الرحيب ، تتمنّى لو أن كلّ هواء العالم لك كي تهرب من هذا الاختناق المميت.

ما أشدّ اشتياقي واحتياجي إلى أُمّي وأهلي ، إلى تلك الصحبة البعيدة ، إلى تلك الشريكة النائية ، إلى ذلك الحكيم القاصي ، إلى ذلك المكان الذي ضمّهم والزمان الذي عاشوا فيه ، وهل تولد الأشياء ثانيةً بعد موتها؟!

ليتني نائماً كي أستيقظ من هذا الحلم الحزين ، لاُزيح عن جبهتي طيفاً أليماً أفقدني أثمن ما أملك وأغلى ما أُحب وأشدّ ما أحتاج.


من يدري ، لعلّني أنا الذي اخترت لنفسي هذا المقام وتلك الرؤيا الحزينة ، فلا ألومنّ إلاّ إيّاها ولا اُقرّع سواها ..

ومن يدري ، لعلّ غيري هو الذي فعل بي ذلك ، لكنّ الفرض الأوّل أصلح بحالي ; حيث أحصل به على فرصة إصلاح الذات وتنقيتها ممّا أصابها من الأدران والآثام ، فينفتح لي من سبل المعرفة ما أعثر فيه على موطئ قدم ، يأخذ بي إلى مرابع الأمان أو أصنع جناحاً اُحلّق به في فضاءات الفلاح والإيمان ..

ومن يدري ، فلعلّي بعدها أسمو فأبلغ الآفاق العالية ; فالطموح يبقى طموحاً ، والمقاصد النبيلة تبقى هدفاً مشروعاً مازال هناك قلب ينبض بالإحساس وعقل يعمل بحكمة وتدبّر وعرفان.


أرحل أم أبقى

اُغادر أم لا ، أرحل أم أبقى ، كلاهما ذوا حزن وكآبة ، إن غادرتُ فكأ نّي خلّفت قلبي وكلّ كياني مع من بقي ، وإن بقيت تودّ الأعماق لو أنّني مع من رحلوا ... إنّها الحيرة التي لا أفهمها ولا اُدرك سببها ومصدرها ; فالنفس منقسمة لا تعلم أيّهما تروم وتختار.

ديار الحبيب أعشقها إلاّ أنّي لا أبلغ ذلك التفاعل المقصود وأنا بين ظهرانيها ، تكبّلني الآلية التي أنا عليها في تلك الأحوال ، فلا اُيمّم صوب المعشوق بعشقي ورغبتي وشوقي ، بل ألمسها حركات وتمتمات رتيبة لا تحفر في حناياي أيّ أثر كالنادر والمعدوم.

بُعد الأحبّة أنّى كانوا يؤلمني ، برحيلي يذلّني البعد مذلّةً أتوسّل بها الإياب ، ببقائي أندب وأتوق وأنثر تراب المسافات ريحاناً لمن غادروا .. أبقى ، أرحل ، ماذا أفعل .. الرتابة هناك مملّة ; أضف لها الملق الصارخ والترقّب المشدود والتوتّر الدائم والطاعة العمياء وهمّ الجيوب المتأهّبة بانتظار إغداق هذا المتموّل وذاك ، تأهّباً بعيون محدقة وألسن ناطقة مادحة بانتخاب أنجع آلية توصل لذلك الرزق المنشود ..


مشاهد تهتف بي : لِمَ غادرت؟ ومشاهد تناديني : لِمَ تخلّفت؟ تبقى الروح في دوّامة الانقسام والحيرة ، حيرةٌ مريرة مؤلمة محزنة تمزّق الأحشاء وتنتج اضطراب الحسّ والذهن واعتصار القلب. إنّها معضلة لا أجد لها مخرجاً سوى بترويض الذات على نهج يشمخ بها فوق كلّ هذه التردّدات ، نهجٌ يضمن لها تناغم القلب والفكر ، وليس الأمر باليسير ولكنّه أيضاً ليس بالصعب والعسير ; إنّه اللطف الإلهي والفيض الربّاني الذي لا يناله إلاّ من بلغ مراحل عالية من العشق الحقيقي أو بذل الجهد في سبيله.


طموحي

اُفكّر وأحلم واُخطّط وأسعى كي أستمتع بحياتي ، أن اُمارس حرّيتي في حقوقي ، حقّ التفكير وحقّ التصميم وحقّ الانتخاب ، إنّها لذّة الشعور بالوجود أن أسلك الدرب الذي أرغب وأقرأ الكتاب الذي اُحبّ ، متى أنام وأستيقظ ، أنّى يستقرّ بي المقام ، كيف أعبد ربّي طبق اعتقادي وشوقي ولهفتي وتعلّقي ، أن أكون أو لا أكون ، ألاّ اُلزَم بمفاهيم التقليد والتبعية الرخيصة ; فلستُ اُلعوبةً كوكيّةً ولا كياناً آلياً ، ولا قالباً جامداً ، أنا فكرة ، أنا رغبة ، أنا عشق ، أنا حركة ، أنا خطوة إلى الأمام ، أنا الذي يجهز على عدوّه ، على جهله ، بسيف الفطرة ونداء الحنايا السليم.

طموحي : أن أكتب رشحات الفكر وسخاء العقل وجود الضمير ، أن أكتب من الصميم عشق المعرفة ، معرفة الارتباط وكنه الالتزام وحقيقة الرؤى بصادق القناعة ويقين الرسوخ ; لعلّها أساطير ألفاظ ليّنة الرسم سهلة النطق ، لكنّها شاقّة التبلور صعبة التجسّد ، خطرة هامّة بمقدار كلّ الحياة ومصيرها ; إنّها حصيلة الجهد والكدح الفكري المعرفي الشعوري بكلّ خطوطه البيانيّة الهابطة والصاعدة ; إنّها علامة الفشل أو النجاح ، وأيّ فشل وأيّ نجاح؟!


جرح الصميم

الناسٌ أحجامٌ وألوانٌ وأوزانٌ وأفكارٌ وأحاسيسٌ متفاوتة ، فيهم الطفل والشابّ والكبير ، اليافع والمراهق والهرم ، القوي والضعيف ، الجميل والقبيح ، ذو الحسّ المرهف واللاّاُبالي ، اليقظ والثاقب النظر والبليد والغبي ، وللوسطية مجالٌ على كلّ حال .. هكذا هي تركيبة البشر منذ أن قامت الساعة حتى نهاية المطاف ، والمحصّلة النهائيّة إمّا صالح أو طالح رغم كلّ شيء.

مع كلّ ذلك التفاوت فالجميع يتأ لّم ويشدو ، يأمل وييأس ، يفوز ويخسر ... يثيره المديح فيطير في اُفق الاعتزاز شامخاً ويزعجه الذمّ والحطّ فيغور في وادي الصميم مجروحاً منكسراً.

حتى الطفل لا يسمح بمزاح ينال من شخصيّته وكيانه ، ما زحتُ ولدي الصغير يوماً مزاحاً غامقاً نوعاً ما ، شعرت أنّه اُصيب في أعماقه ، جرحٌ أصابه في الصميم ، أرّقني ذلك الموقف ، لم ينفع بكائي ، نعم بكائي على نفسي ، نفسي الضعيفة التي استهانت بطفل حسّاس طَموح كولدي ، ومع أنّي لم أقصد الإهانة لكنّ الحصيلة هكذا كانت ، وكم حاولت


ـ ولازلت ـ جبران سوء سلوكي ذاك لكنّي لازلت أشعر بالألم المرير من اُسلوب غريب عن نسقي ، عمل بعيد عن منهجي واعتقادي وتصوّراتي.

الكلّ يعتز بكيانه ، صغيراً كان أم كبيراً ، صالحاً أم طالحاً.

إلاّ أنّ المؤسف حقّاً أن لا يستثمر هذا الاعتزاز بالشكل الأنسب ، الاعتزاز الذي يخلق فرصة السموّ والرقيّ شطر المراتب العليا ، الاعتزاز الذي يخلق الحفر والمراجعة والمسح القيَمي والأخلاقي ، الاعتزاز الذي يجيب عن سؤال الحياة الكبير : من أين وفي أين وإلى أين ، لا الاعتزاز الذي يقهقر ويتلف ويحرق ويجفّف طراوة الفطرة ونبض الحياة الطاهرة.


أنا هنا

قرأتُ عقيدة جاك لوغوف في كتابة «التاريخ الجديد» لمّا يراها أرقى من اصطفاف الأحداث مكانيّاً وزمانيّاً ، بل هي نقد ومراجعة وبحث في الأسباب وتحليل علمي أعمّ ...

وفي عقيدة هويزبام لمّا يخوض غمار تاريخ اُوربّا إبّان النهضة ...

وفي تصوّرات مارتن ليفن في القومية الأميركية ذات الردّ العنيف تجاه الأحداث والقضايا ...

وفي فلسفة أمانئل كَنْت في نقد ملكة الحكم وتداعي مقولته الشهيرة التي أستحضرُ منها : مهما يكون فإنّ أمرين يتلألآن أبداً : تلك النجوم في السماء وهذا القانون الأخلاقي في الصدر والضمير ...

تأمّلتُ في أهلي وقبيلتي وأصحابي ومجتمعي وكلّ الناس فوجدت أنّ القناعة لا ترسو على ضفاف الضمير ولا تسكن أعماق القلب ولا تُخضِع العقل إلاّ بالوعي والتجربة.

أعني بالوعي : التجرّد التامّ عن كلّ انتماء قومي وديني وافتراش


ساحة الفكر ومحاكاة كلّ ما أمكن من الرؤى والقيم والاُسس بآلية الحقيقة لا الخيال ، بالدليل والإثبات القاطع ، بالنقد والمراجعة والتمسّح والبعثرة والمقارنة ; لا بالخلسة والخوف ، بل بالعلن والجرأة.

وأعني بالتجربة : ميدان الممارسة ومختبرات الفكر وحركة القيم ديناميكيّاً وتفاعلها في إطار المجتمع والناس ، في إطار التاريخ والثقافة والفنّ وشتّى العلوم.

إنّ عجينة الوعي والتجربة تخمّر قناعةً أو قد تصنع مفترق طريق على أدنى تقدير. ولكنّي أراها بصيغتها الموضوعيّة وبنسقها المعرفي تصنع فلاحاً واطمئناناً ورضىً.

وجدتُ أيضاً أنّ النقد الواعي يصنع ولا يهدم ، يصنع الرقابة والمراجعة والدقّة والمنافسة والتغيّر والنموّ والخير والرفاه والإيمان والنجاح.

كما وجدتُ أنّ الذين يخشون النقد ينعتونه تارةً بالهدّام واُخرى بالحسد والأغراض الدنيئة ، وجدتهم لا يطيقونه بالمرّة ، لذا أزاحوا من حولهم كلّ صوت واع حريص وقيّضوه بأدوات طائعة سامعة ، همّها علفها ، ترومه بأيّ ثمن كان. فأسقطت أدوات الوعي والنموّ والفلاح بأدوات الجهل والفشل والخسران.

كما وجدتُ أن بناء الفكر والكرامة لا يتمّ إلاّ بتحمّل وعثائهما ، ولا شكّ أنّ فيهما من المرارة والمعاناة ما لا ينكر ، إنّه مخاض عسير


يستدعي الخسائر الجسام والآلام العظام ..

دموعٌ وحرقةٌ ووحدةٌ وغربةٌ وانكماشٌ وضيقٌ ومخاطر وتضحيات ولومٌ وعقابٌ وتجريح ... إن اخترقتها لاحت في اُفق الضمير والقلب والأعماق والعقل بشائر الفلاح والطمأنينة والخير ، لذّةٌ ما أروع طعمها ونشوةٌ ما أرحب اُفقها ، مجدٌ لا يساوقه مجد ، وعزّةٌ لا ترقاها عزّة .. أعناقٌ تشرئبّ ورؤوسٌ تُطأطئ وأصابع تربت .. فتصرخ في ذاتك بكلّ عنفوان : إنّني أنا ، هاهنا ، في كلّ مكان وزمان ، أنا امثولة النوع الذي أراد فظفر ، الذي رفض قيم الإسكات والصنميّة والتفرّد والمراهقة المتواصلة والعُجُب ، فشمخ ورقى ..

أنا هنا لأ نّي قد ذاب كبدي وفؤادي واستعرت أحشائي ألماً وحرقةً وجُرّح إحساسي وحناياي.

أنا هنا لأ نّي بكيت بغالي الدموع.

أنا هنا لأ نّي ما اشتكيت إلاّ إلى معالي القيم وأسباب الفيوضات الربوبيّة.

أنا هنا لأ نّي قد ارتاب في أمري البعض وهماً وظلماً.

أنا هنا لأ نّي كابدت الألم والمعاناة ومرارة الغربة والوحدة.

أنا هنا لأ نّي منحت وفائي وكلّ ما تعلّمته على طبق من ذهب.

أنا هنا لأ نّي كادحت وصارعت كي يسمو الفضاء الذي أنتمي ويسمق.


أنا هنا لأ نّي سقاني صاحبي زهر المنّة كراراً وراح يشدو ويتشدّق.

أنا هنا لأ نّي قد حطّ من قدري ومرتبتي صاحبي وغالي عمري ، صاحبي الذي هجرت الديار لأجله ، صاحبي الذي لامني مَن لامني في رفقته وصحبته ، صاحبي الذي أعشق.

أنا هنا لأ نّي ـ مع كلّ الذي كان ويكون ـ سأبقى ناهداً طامحاً لا يهوى إلاّ الناس والحبّ والجمال والأحاسيس المرهفة والعلم والمعرفة وقيم الحقّ.


همسة شوق

أشعر بالحزن على نفسي إثر تدنّي القيم وهبوط الالتزام. بضياء القلب ونور العقل كنت ألمس هناك لذّة العبادة والدعاء والاستغفار واُحسّ أنّي أقرب خطوةً إلى ربّي ، كانت المبادئ راجحة ; حيث أفتقد مقوّمات الفتنة والغرور ، كيّفتُ حياتي مع صعوبة المأكل والمشرب والمأوى ، تكيّفاً أثمر عن تحرير الذات والفكر من سلطة ترافة تركناها بعيدا.

كانت لي في بقعة العصمة الرضوية أوّل تجربة روحيّة دينيّة ولائيّة ، بقعة منحتني إحياء الجذور وإنعاش الحنايا وتفعيل الفكر نحو معرفة وعلم وثقافة ترسّخ الهويّة وتعمّق الانتماء بفضاء الحقّ والمبادئ الصادقة.

لم أكن أملك شيئاً ، لذا كان مؤشّر الحرام والذنب قليلاً نسبيّاً ، لقمةُ عيش اُوفّرها من جهد ثقافي علمي تحقيقي دراسي ، كان فيها الكفاف ولله الحمد.

كنت أشعر بلذّة الحبّ والتكاتف الاُسري الاجتماعي أكثر فأكثر ، رغم حسرة امتلاك المأوى تحت ظلّ ذلك التهديد المستمرّ بوجوب


مغادرة السقف الذي كان يحمينا من برد الشتاء وحرّ الصيف.

كنت أعود لاُسرة ألمس فيها حبّاً متبادلاً ، اُسرة أعود إلى كنفها وألجأ إليها وألوذ بها بعد يوم من العمل والدراسة المرهقين ، أعود كي أحميها واُوفّر لها ما يجب عليّ توفيره بوجود امرأة صابرة همّها كيان بيتها والتطلّع لمستقبل أفضل بلا غيرة وحسد للآخرين ; إذ القريبين كانوا أحسن حالاً منّا ونحن بالكاد نمتلك وسائل العيش الأوّليّة ، لكنّا كنّا نحيا حياتنا ونسعى للتكيّف مع الموجود بنظرة أمل وخير إلى الغد.

كثيرٌ من الناس يمتلكون الحياة الفاخرة الناعمة ، وكنت أتمنّاها لاُسرتي ، اُسوة بكلّ رجل يطمح إلى إسعاد اُسرته وتوفير العيش الرغيد الشريف لهم.

واصلت دراستي بجدّ والتزام ومنحني الله سبحانه نعمة التفوّق في المجالين الدراسي والتحقيقي ، ممّا وفّر لي مخزوناً علميّاً وأرضيّة ثقافيّة وظّفتهما خير توظيف للمعقل الذي احتضنني وضمّني حينما اعتذر عن قبولي الآخرون ، فلم أدّخر جهداً في دعم وتطوير وتفعيل مشاريع هذا المعقل المبارك الذي أغدق عليّ بسوابغ الأفضال وجاد بروائع المكرمات بعدما منحته صبري ورغبتي وشوقي وإخلاصي.

إنّ الانتقال الذي حصل بعد تأمّل وتوقّف وتردّد يطول بيانه أحدث في بادئ الأمر حسّاً يهتف بالأعماق ، حسّاً يرفض جفائي لسيّدي ومولاي الرضا (عليه السلام) ، ولعلّ الأيّام كانت كفيلة بترويض هذا الحسّ الذي


لا زال يشمخ بين الفينة والاُخرى.

أقبلتْ عليّ الدنيا هنا ، تبدّلت الأحوال وتغيّرت الأوضاع وصرت أعيش الحياة الرغيدة المترفة التي كنت أتمنّاها لي ولاُسرتي ، إلى ذلك : الاُمور الاعتباريّة والاجتماعيّة وغيرهما ، ولازال الحال على هذا المنوال.

لكنّي أشعر بتزلزل في إيماني واعتقادي والتزامي مع ضعف رغبة العبادة والدعاء في روحي ، فابتعدتُ عن ربّي ، هاجس الحرام والذنب يؤرّقني ، خمدت نار الحبّ في قلبي فعدتُ أغبط ذوي الحياة البسيطة الذين يعيشون رغبةً بغد أفضل ويعودون إلى مأواهم وكلّهم شوق وشدو لملاذ يحميهم وعيون بريئة وقلوب نقيّة تجلس بالانتظار ، فعاد لي من جديد الشعور الذي كان يرافقني آنذاك.

أشعر بحاجة ملحّة إلى الحبّ ، إلى صدر يضمّني بلهفة وقلب يحنو عليّ كاُمٍّ رؤوم ، فأنا لم أغترف بعدُ من كأس العشق والحبّ ما به اُروّي مضمأي وأسدّ رمقي ، غير منكر بالمرّة قلب شريكة العمر ورفيقة الدرب التي منحتني ولا زالت تمنحني الكثير من قلبها وإخلاصها ، وكذا أبنائي فلذة كبدي وثمرة عمري الذين أعتزّ بهم وأفخر بوجودهم ، لكنّي طمّاع حبٍّ شَرِه نَهِم ، حبّ اُعوّض به خواء أعوام من فقر العاطفة والحنين ودفء الأحضان الشابحة لها أحاسيسي لهفةً وشوقاً.


لِمَن الشوق؟

مَنْ منّا لا يهزّه الشوق إلى ما يعشق ويحبّ ، إلى الأمس واليوم والغدّ ، إلى الأشياء بحلوها ومرّها ... ولكن هلاّ تساءلنا : لِمَ نشتاق؟ أفي ما نحن عليه خللٌ ونقص وفي ما سواه إحاطة وتكامل ... هل الشوق فعل القلب أم العقل أم كليهما؟

أنشتاق لأ نّنا حركة في حركة ، لا استقرار ولا سكون فيها ، وهل عدم الاستقرار هذا يولّد فينا ـ ولو زحفاً ـ الحركة بجميع الاتّجاهات إلى جميع الأزمان ، فتولد من هذه الحركة صورٌ ومصاديق سواء كانت محفورة في الذاكرة كملفّات من الماضي أو نعايشها من الحاضر أو نستشرفها من الآتي؟

يقولون : لولا الشوق لما حصل الطموح ، ولولا الطموح لما حصل النمو ، شرط الآصرة الخيّرة التي تجمع بين العقل والقلب ، ولو لا هذا الاتّحاد لكانت النتائج وخيمة ، فقد يجرّ الشوق إلى الخراب والمآسي والآلام ، كما قد يسمو بالإنسان إلى مراتب العزّ والكمال.


أأشتاق إلى أيّام صباي وطفولتي وذاك بيتنا الجميل ، إلى مدرستي ورفاق صفّي ، إلى حارتي وصحبتي ، إلى مدينتي ، إلى بلدي ، إلى أُمّي وأبي وأهلي وعشيرتي ، إلى شريكة حياتي وأبنائي ، وفي شوقي هذا يمرّ كلّ شيء حلواً حتى المرير منه؟

وهل أنسى ـ مثلاً ـ مرارة أنّي كنت حزيناً خائفاً من غد لا أعرفه ولاسيّما أنّ البعض كان يُسمعُني ما يدلّ على يأسه من مستقبل مشرق لي .. تلك المرارة التي صنعتُ منها إصراراً في أعماقي وتحدّياً قاداني إلى الكفاح من أجل إزالة ذينك الحزن والخوف ، فاستطعت بحمده تعالى أن أنضمّ إلى من يشار لهم بغد أفضل؟ وهلمّ جرّا ...

يقولون : إنّ الحركة إلى الوراء إن كانت لتحليل الماضي والحفر فيه ثم الحركة الحاضرة إن كانت هي الاستقراء والقراءة الواعية والمقارنة فلا شكّ أنّ الحصيلة مثمرةٌ تنذر بآت مشرق.

كما قالوا : نشتاق إلى الماضي شوقاً نشحن به الحاضر لنشتاق إلى مستقبل أرقى ، شريطة أن يكون هذا الشوق شوقاً منهجيّاً ، فلا مندوحة إذن من تلاقي العقل والقلب ، كلٌّ يشدّ من عزم الآخر لتكون الثمرة حركة وخطوة معرفيّة إلى الإمام.

قيل : الشوق لغةً : نزاع النفس إلى الشيء ، والجمع أشواق ، والشَّوق : حركة الهوى ، والشُّوق : العُشّاق وشاقَني شَوقاً وشَوَّقَني : هاجني فتشوّقت


إذا هيّج شوقك ، ويقال منه : شاقني حُسْنُها وذِكْرُها يشُوقني أي هيّج شوقي (١).

قال التهانوي في كشّافه ص١٠٤٧ : حدّه ـ أي الشَّوق ـ عند أهل السلوك هيجانُ القلب عند ذكر المحبوب. وقال بعض أهل الرياضة : الشوق في قلب المُحبّ كالفتيلة في المصباح ، والعشق كالدهن في النار. وقال : عالَم الشوق جوهر المحبّة والعشقُ جسمُها.

قيل : مَن اشتاق إلى الله أنَسَ الله ومن أنِسَ طَرِبَ ، ومَن طَرِبَ وَصَل ، ومَن وصل اتّصل ، ومن اتّصل طوبى له وحسن مآب.

وسُئل أبو علي : ما الفرق بين الشوق والاشتياق؟ فقال : الشوق يسكن باللقاء ، والاشتياق لا يزول باللقاء بل يزيد ويتضاعف ، كذا في خلاصة السلوك.

وأورد في مجمع السلوك : الشوق هو أحد أحوال المحبّة ويحصل لدى المحبّ. وحدوث الشوق بعد المحبّة من المواهب الإلهيّة ، لا علاقة له بالكسب.

والشوق من المحبّة كالزهد من التوبة ، فمتى استقرّت التوبة يصبح الزهد ظاهراً ، وحين تتمكّن المحبّة يظهر الشوق.

يقول صدرالدين الشيرازي :

إنّ معنى الشوق هو طلب كمال ما هو حاصل بوجه ، فإنّ العادم

__________________

١. لسان العرب ، مادّة «شوق».


لأمر ما رأساً لا يشتاقه ولا يطلبه ; إذ الشوق للمعدوم المحض والطلب للمجهول المطلق مستحيل ، وكذا الواجد لأمر ما لا يشتاقه ولا يطلبه لاستحالة تحصيل الحاصل ، فالواجب سبحانه إذ هو من فضيلة الوجود في غاية التمام ، وهو بريء من أنحاء النقص مقدّس عن شوائب القصور في الوجود والذات ، فمحال أن يلحقه تشوّق إلى شيء ويعتريه طلب وحركة إلى تمام وكمال ، بل لكونه تامّ الوجود وفوق التمام يليق به أن يُشتاق إليه ويعشقه كلّ من سواه ، وكذا العقول الفعّالة لكونها مفطورة على كمالاتها ، مجبولة على فضائلها التي تليق بمرتبة كلّ منها ، ماثلة بين يدي قيّومها ، مشاهدة لجمال مبدعها وجاعلها (١).

وقال في تفسير القرآن (١ : ٤٥ ، ١٨) : ممّا يدلّ على أنّ الشوق يستلزم الوصول : أنّ الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال ، وما من وجود إلاّ وله ضرب من الخيريّة والكمال ; إذ له حظّ من الوجود ، والوجود قد ثبت أنّه خير ومؤثّر ، ففي كلّ موجود عشق إلى ذاته. وما من موجود في عالم الإمكان إلاّ ولوجوده غاية كماليّة وشوق إلى تحصيل تلك الغاية كما بيّن في مباحث الغايات في العلم الإلهي.

وفي التفسير أيضاً (٤ : ٢١٩ ، ١٥) : الشوق وهو توجّه نفساني جبلّي إلى الشيء المرغوب فيه طلباً وهرباً ، مبدؤه قوّة حيوانيّة ذات شعبيتين ، إحداهما شهويّة للطلب ، والاُخرى غضبيّة للهرب.

__________________

١. الأسفار ١ / ٢ : ٢٣٧ ، ١٢.


وفي مفاتيح الغيب (: ٢١٤ ، ٢١) :

ما يرد على القلب أوّلاً هو المسمّى بالخاطر ، وهو صورة علميّة ، كما لو خطر له مثلاً صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت لرآها.

والثاني : هيجان الرغبة إلى النظر ، وهو حركة الشهوة التي في الطبع المسمّاة بالشوق ، فهذا يتولّد من الخاطر الأوّل ، ويسمّى ميل الطبع أيضاً ، ويسمّى الأوّل حديث النفس ; إذ قلّما ينفكّ الإنسان في مثل ذلك الحالة عن المحادثة مع نفسه.

والثالث : حكم القلب بأنّ هذا ينبغي أن يفعل ، أي ينبغي أن ينظر إليها ، فإنّه الطبع إذا مال لم تنبعث الهمّة والنيّة ما لم تندفع الصوارف ، فإنّه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات ، وعدم الصوارف ربما يكون بتأمّل ، وهو على كلّ حال حكم من جهة العقل ، ويسمّى هذا اعتقاداً ، وهو يتبع الخاطر والميل.

والرابع : تصميم العزم على الالتفات وجزم النيّة فيه ، وهذا نسمّيه همّاً وقصداً ، وهذه الهمّة قد يكون لها مبدأ ضعيف ، ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأوّل حتى طالت محادثته للنفس ، تأكّدت هذه الهمّة وصارت إرادة مجزومة ، فإذا انجزمت فربما يقدم على الجزم فيرتكب العمل ، وربما يقف بعارض ولا يعمل به ولا يلتفت إليه ، وربما يعوقه عائق فيتعذّر عليه العمل.


وقال في المبدأ والمعاد (: ١٥٢ ، ١٣) : الشوق يصحبه قصور ، وأمّا العشق فقد يتقدّس ويتعالى عن الشوائب. فالأوّل عاشق لذاته معشوق لذاته ، عُشِق أو لم يُعشَق. لكنّه معشوق لذاته من ذاته ومن غيره ، وهو جميع الموجودات المفتقرة إليه ; إذ ما من موجود إلاّ وله عشق غريزي وشوق طبيعي إلى الخير المطلق والنور المحض ، بلا شوب شرّيّة وظلمة ونقص وآفة.

قال الطوسي في اللمع (: ٩٤ ، ١١) : الشوق هو لعبد تبرّم ببقائه شوقاً إلى لقاء محبوبه ، وسُئل بعضهم عن الشوق فقال : هيمان القلب عند ذكر المحبوب ، وقال آخر : الشوق نار الله تعالى أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات.

قال القشيري في رسالته (: ١٦١ ، ٣٤) : سُئل بن عطاء عن الشوق فقال : احتراق الأحشاء وتلهّب القلوب وتقطّع الأكباد. وسُئل : الشوق أعلى أم المحبّة؟ فقال : المحبّة ; لأنّ الشوق منها يتولّد ..

وقال أيضاً (: ١٦٢ ، ٢٦) : سمعت السري يقول : الشوق أجلّ مقام للعارف إذا تحقّق فيه وإذا تحقّق في الشوق لها عن كلّ شيء يشغله عمّن يشتاق إليه. وقال أبو عثمان الحيري في قوله عزّوجلّ : (فَإِنَّ أَجَلَ اللهَ لاَت) (١) : هذا تعزية للمشتاقين ، معناه : إنّي أعلم أنّ اشتياقكم إليّ غالب وأنا أجّلت للقائكم أجلاً ، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.

__________________

١. سورة العنكبوت : ٥.


قال السهروردي في آداب المريدين (٢١ ، ١١) : الأحوال فإنّها معاملات القلوب ، وهو ما يحلّ بها من صغار الأذكار.

قال الجنيد : الحال نازلة تنزل بالقلب ولا تدوم ، فمن ذلك المراقبة وهو النظر بصفاء اليقين إلى المغيّبات. ثم القرب وهو جمع الهمّ بين يدي الله تعالى بالغيبة عمّا سواه. ثم المحبّة وهي موافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه. ثم الرجاء وهو تصديق الحقّ في ما وعد. ثم الخوف وهو مطالعة القلب بسطوات الله ونقماته. ثم الحياء وهو حصر القلب عن الانبساط ; وذلك لأنّ القرب يقتضي هذه الأحوال. فمنهم من ينظر في حال قربه إلى عظمه وهيبته فيغلب عليه الخوف والحياء ، ومنهم من ينظر إلى لطف الله وقديم إحسانه فيغلب على قلبه المحبّة والرجاء. ثم الشوق وهو هَيَمان القلب عند ذكر المحبوب. ثم الاُنس وهو السكون إلى الله تعالى والاستعانة به في جميع الاُمور. ثم الطمأنينة وهي السكون تحت مجاري الأقدار. ثم اليقين وهو التصديق مع ارتفاع الشكّ. ثم المشاهدة وهي فصل بين رؤية اليقين ورؤية العيان لقوله (صلى الله عليه وآله) : «اعبد الله كأ نّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». وهو آخر الأحوال. ثم تكون فواتح ولوائح ومنائح تجفو العبارة عنها (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) (١).

قال لسان الدين الخطيب في روضة التعريف بالحبّ الشريف (: ٦٣٩ ، ٣) :

__________________

١. سورة إبراهيم : ٣٤.


الشوق حركة النفس إلى تتميم ابتهاجها ، بتصوّر حضرة محبوبها ، وهو من لوازم المحبّة وذاتيّاتها ; إذ النفس أبداً تحنّ إلى من تحبّ ، ولا يكون إلاّ لمن علم من طرف وجهل من آخر ، فتحرّك المحبّة لذّة ما أدركه إلى طلب ما لم يدرك. ولا ينقطع الشوق إلى الاستكمال بالله في الدنيا ولا في الآخرة.

قال أحمد الكمشخانوي النقشبندي في جامع الاُصول (٦٢ ، ٣) :

الشوق وهو على ثلاثة أقسام : شوق العامّ وهو إلى الدنيا ، وشوق الخاصّ وهو إلى العقبى ، وشوق الأخصّ وهو إلى المولى ، فمن اشتاق إلى الدنيا اشتاقت النار إليه ، ومن اشتاق إلى العقبى اشتاقت الجنّة إليه ، ومن اشتاق إلى المولى اشتاق المولى إليه.

وقال في ص ٢٧١ ، ١٩ : الشوق ففي اللغة احتياج القلب إلى لقاء المحبوب ، وكذلك هو في اصطلاح أهل الحقيقة ، حتى قال بعضهم : هو احتراق الأحشاء وتلهّب القلوب وتقطّع الأكباد ، وقيل : علامته قطع الجوارح عن الشهوات ، وقيل : علامته حبّ الموت مع كون الإنسان في العافية والراحة.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف (٣٠٩ ، ٨) : الشوق إلى لقاء الله تعالى إنّما يكون بمحبّة الموت ، وذلك لا يقع غالباً إلاّ عند خوف ضرّاء مضرّة في الدنيا أو فتنة مضلّة في الدين ، فأمّا إذا خلا عن ذلك كان شوقاً إلى لقاء الله عزّوجلّ.


قال أبو حامد الغزالي في إحياء علم الدين (ج٢ ص٣٤١ ، ٢٤) : كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال : قلت ذات يوم : يا ربّ! إن أعطيت أحداً من المحبّين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضرّ بي القلق. قال : فرأيت في النوم أنّه أوقفني بين يديه وقال : يا إبراهيم! أما استحييت منّي أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه ، فقلت : يا ربّ ، تهتُ في حبّك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلّمني ما أقول ، فقال : قل : اللهمّ رضّني بقضائك وصبّرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك. فإنّ هذا الشوق يسكن في الآخرة.

نقول : من الحيف أن يكون الشوق شرّاً وفيه من المدارج ما تسمو بها النفس إلى حيث لقاء المحبوب ، وأيّ محبٍّ هذا الذي انطبع بالشرّ وانسلخ عن الخير؟! فلابدّ للشوق إذن أن يكون خيراً تتحرّك به النفس إلى معشوقها ، وهل معشوق أجمل وأجلّ منه جلّ جلاله؟!

وأجمل ما في الشوق معرفة غايته ، وللمعرفة اُصول ومناهج واُسس إن حصلنا عليها أدركنا معنى الشوق الحقيقي وأ نّه إليه تبارك وتعالى ذلك الاشتياق الذي لا تهدأ به النفس بعد اللقاء ، بل يتضاعف ويزداد إليه جلّ وعلا ..

إنّه لا يتخلّى عنّي أبداً يجرّني إليه وأنا أبتعد عنه ، تبعدني عنه شهوتي وجهلي ، فأعتقد واهماً أنّي أطلب شيئاً من دنياي غافلاً عن كوني أطلبه


بالفطرة ونداء العقل ، وهكذا أعدو فأنال الشيء تلو الشيء لكنّي لازلت طالباً ... إنّني أطلبه غير أنّي غارقٌ ببحر لذّتي وحضيض بهيميّتي فلا اُدرك حقيقة طلبي ... ويظلّ بانتظاري إلى الرمق الأخير ، وأظلّ اُكابر ; لأ نّي لم أعرف معنى الحبّ والشوق والعشق والاشتياق والخاطر والميل والاعتقاد والهمّة والعزم ، فأحبس عنّي لطفه وعنايته بجرمي وجريرتي ، باختياري وعنادي ، وهو لم يزل أرحم عليّ من كلّ شيء.

إن فهمنا المقصد النهائي وأ نّنا لا محالة سائرون إليه ، وأ نّه الجمال المطلق والمراد المطلق وغاية الغايات ومنتهى الطلبات والباقي بعد فناء الأشياء ، فأيّ حبيب حينئذ أحبّ منه وأيّ معشوق أعشق منه وأيّ جميل أجمل منه وأيّ مراد أنول منه وأيّ غاية أغيى منه وأيّ طلبة أطلب منه وكلّها زائلة دونه؟! فهلاّ سرنا إليه وقصدناه سيرَ معرفة وقصدَ علم ويقين ...


يا صاحبي

يا صاحبي ، قف هنيهة وتأمّلني ، فلقد جئتك أسعى رغم همومي ، أسعى والحبّ مركبي ، الحقيقة رغبتي ، الصدق هدفي ، لا شكّ أنّ لي من الأوزار ما تكفيني ، إنّها تؤرّقني وتؤلمني وتمثّل كابوساً لا ينفكّ عنّي أبداً ، فأنا أعرف خطاياي ، فمهما كدحت لتطهير ذاتي أو استعضت بطرق الخير كي أنجو منها يبقى «هاجسي» رفيقي الذي لا يفارقني.

جئتك لا كمن جاءُوك حينما حمل أحدهم لواء الاستقلال لكنّه ازداد ذيليّةً فوق ذيليّته وتبعيّةً فوق تبعيّته.

ولا الثاني الذي أراد أن يصنع منك صنماً ليعبده فلا يقبل بك الخطأ أبداً.

ولا الثالث الذي يسبّح بحمدك علناً ويبثّ شكواه منك سرّاً.

ولا الرابع الذي يعني له السكوت : الطاعة والقفز إلى منصّة العزّ التي طالما حلم بها.


ولا الخامس الذي اشترى منك ـ بل أخذ جلّ ما لديه مجاناً ـ ليبيع عليك بغالي الثمن.

ولا السادس الذي همّه وغمّه تقمّصك في صغيرتك وكبيرتك.

جئتك لأكون لك أخاً وصديقاً وسنداً وعمداً ، عارفاً بجميلك أبد ما حييت ، واقفاً على مواطن الشيمة والمروءة والوفاء والصدق والالتزام لديك ، شفّافاً يكشف ما يجول في ذهنه وصدره وحناياه من تساؤلات وآهات وآلام ، هكذا جئتك ..

لكنّك يا صاحبي فهمتني فهماً آخر أنا بريءٌ منه براءة الذئب من دم يوسف ..


خذلان الصاحب الرفيق

حينما لا تجد من تلوذ به وتشتكي له لواعجك وآلامك ، حينما تبحث عن القلب الذي ينبض بالحبّ فلا تعثر عليه ، والصدر الذي يضمّك ويحميك فلا أثر له ، حينما تكتوي بمرارة المعاناة والأحزان فلا معين أو مواسي ، حينما ترى وأنت تكابد الوحدة ألاّ شريك ولا أنيس ، حينما يقطّع ا لهجران أحشاءك وأوصالك فلا وصل ولا قرب ، حينما تفتقد من يهتمّ بك وتبدو شيئاً مهملاً لا جدوى منه ، حينما تكون عبئاً ثقيلاً على كلّ من أحببت وأجللت ، حينما ينفر منك الأحباب والأصحاب وأنت تحفر لهم على صفحات القلب رسم العشق والإكبار ، حينما تبدو مُعدياً وتخشى الناس الدنوّ منك وما سواك تختار ...

حينها تبغض نفسك وتنفر من كلّ ما فيها ، وتودّ لو تغادر بلا كرّة وإياب ، إلى حيث لا ذكر لك ولا أثر ، لتريح وتستريح ، لتغمض جفنيك وأنت منسلخ عن كلّ الأشياء التي أودت بك إلى هذا الحال ، لتبكي وتنهمر الدموع على خدّيك وأنت تعلم ألاّ ناصر لك ولا معين ، فتستسلم ذلك الاستسلام المحض إلى ربّ الرحمة والحنان ، علّه يشفق بك ويرأف


بحالك فينتشلك من حضيض ما أنت فيه إلى حيث يقرّك ويُهدي منك العقل والجنان.

لا ألوم إلاّ نفسي لمّا أوردتها هذا المورد وأقحمتها هذا الفضاء ليتشاركا في ما أنا به من الخيبة والحزن والهموم.

إنّما خيبتي إذ وجدت أنّ سوق العزّة والكرامة الإنسانيّة لا رونق فيه واُناسه قليلون ، فالغالب منهم قد اختاروا مهن التزلّف والنفاق والصنميّة والببغائيّة والذيليّة ... ففيها من الأرباح والمنافع ما يسيل معها اللعاب ، فلا ضير أن تركع الجباه ويجفّ ماء الوجوه ، ويصادَر الكبرياء ، وتُنتهَك القيم والمبادئ ... مادامت النفوس طيّبة طربة بما يغدق عليها السلطان ويتصدّق!!

أنا أعلم أنّ الطريق الذي اخترته فيه كثير من الآلام والتضحيات والأضرار ، إلاّ أنّ ذاكرتي بقدر ما تسعفني أجدني أرفض الذلّ والخضوع بمختلف ألوانه وأدواته ، ولا اُساوم على شخصيّتي مهما تمكّنت ، وبقدر ما أحمل في قلبي وعقلي وحناياي من حبٍّ وإجلال واحترام للناس فإنّي أنتظر منهم المثل ولا أطلب المزيد ; أمّا أن تُختبَر كرامتي أو يزايَد عليها فلا يجدوني إلاّ ذلك المقاوم العنيد.

سأبقى بفكري وأحاسيسي وضميري رهين مبادئ لا أنفكّ عنها أبداً ، مفاهيم ومعاني لا ترتضي لي الذلّ والخنوع ، وتشحذ بي همّة الشموخ الإنساني الرفيع ، فأنا عبد إله وربيب مدرسة ترفض فيّ الضعف والهوان


وتدعوني إلى حفظ الشأن وتدعيم التماسك الذاتي الديني ، ونحن إذ نخلّد رموزنا وأعلامنا إنّما نخلّد فيهم حفظ العزّة والشأن الإنساني والمبادئ الحقّة لا غير ، فلنا بهم ـ من هذا المنطلق ـ خير اُسوة وأرقى انموذج.

إنّما خيبتي أن وجدتُ في الناس الذين شغفت بحبّهم وذدتُ عنهم وعانيتُ لأجلهم وقطعتُ لهم ميثاق الوفاء محفوراً على صفحات القلب وأعماق الضمير ، وجدتهم حين وحدتي وغربتي وآلامي أبعد من الثريّا منالاً وأشدّ من الصخر قسوةً ومن الظبية خذلاناً. ينقل العطّار النيسابوري في تذكرة الأولياء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه لمّا سُئل عن سبب اعتزاله الناس وهم بحاجة إليه شكى من الإخوان ... ثم أنشد (عليه السلام) هذين البيتين :

ذهب الوفاء ذهاب أمس الدابر

والناس بين مخايل ومحارب

يبدون بينهم المودّة والوفى

وقلوبهم محشوّة بالعقارب

إنّما خيبتي : أنّ الذي طالما كنت أخشاه وأخاف وقوعه قد حصل ، أن تمنح اُناساً صادق الحبّ والوفاء على طبق القيم والمبادئ الدينيّة التي تؤمن بها وتعمل لأجلها ، فلا ترى في اللحظات الحاسمة نفسك إلاّ وحيداً فريداً تتنازعك الآلام والأحزان من كلّ حدب وصوب.

اُناسٌ جعلتَ منهم ملاذاً وملجأً وكهفاً تأوي إليه كلّما عصفت بك نائبات الدهر وانهالت عليك الهموم وصبّت الدنيا غضبها ، وثقت بهم واطمأ نّت لهم الحنايا وهتف بهم العقل والقلب سيّا ، اُناسٌ ... «أسلموك


حين الوثبة» ولم يرعوا فيك حرمة كلّ شيء ، اُناسٌ أزاحوا الستر عمّا في أعماقهم من حقائق وكشفوا عن هويّتهم وما فيها من دوافع.

لست نثّاراً ولا سجّاعاً ، ولكن لواعجي فرضت عليّ سبكاً من الصياغة كهذا.

كنت ـ وإلى وقت قريب ـ أعتقد بشموخ من بنيتُ لهم في الأعماق صرحاً ، شموخاً ورُقِيّاً معرفيّاً ودينيّاً وأخلاقيّاً ، لكنّ لحظات الحسم أذهلتني وأقضّت مضجعي لمّا وجدتهم أدنى من الشموخ وأقلّ من الرقي المعهود ، حسبتهم وأنا المتواضع في معارفي وديني وأخلاقي ركناً ومتّكأً ومسنداً ألوذ به حين الملمّات ، خاب السعي وخسرت الصفقة واختلّت الحسابات ، فلابدّ من إعادة الانتشار وجدولة الآراء وتنظيم الأفكار من جديد ; إنّها فعلاً تجربة نافعة مؤلمة مؤسفة.


خلوة الليل

كثيراً ما تضايقتُ من الليل ، ولازلت ; إذ يأخذني بعتمته فلا ألتذّ براحة الوسن ، هكذا اعتقدت به مؤرِّقاً يسلبني حقّي واسترخائي ، فجنيتُ عليه دون أن أقف متريّثاً متأمّلاً متفحّصاً مستخلصاً أنّ الذي يفعل بي كلّ هذا ليس سوى أعماقي وحناياي ، أفكاري ورؤياي ، آهاتي وبلواي ، أحاسيسي ونجواي ، آمالي ورجواي ، آثامي وشهواي ، همومي وشكواي ، غربتي ولوعتاي ، وحدتي وحنيناي ...

فلولا الليل والأرق لما استقام ما اعوجّ منّي من خُلُق وعود وفهم وإحساس ، إن استقامت حقّاً ، فآناء الليل حيث تنام العيون وتهدأ الأصوات ويأوي كلٌّ إلى عشّه وعرينه وملاذه ، ويعجّ المعجّ إلى ما يسائله ويناغمه ويلهيه ويرويه ، أعجّ أنا إلى مناطق النقص في ذاتي ومواطن الضعف في روحي وفجوات أفعالي وفلتات أقوالي وهفوات تقريري ، فلا أعثر على كهف يضمّني منها ويحميني سوى دموع الندم ومرارة الآه.

وكم فعلت ذلك كراراً ومراراً لكني أعود بجهلي وغفلتي وغروري وطغواي ورغبتي فأقترف الذنب وأرتكب الخطأ وأفعل المحرّم مستصحباً


معي دوماً سلاح التبرير وذراع التوجيه لأغرس في ذاتي قناعةً مزيّفة ظنّاً منّي بنجاح تمريرها على الناس والمجتمع ، فإن نجحت فعلاً فهل أنجح مع ربّي ومن قبله أعماقي وضميري؟! فأنا المتشدّق بالقيم والمبادئ والموازين ، إلامَ أسحقها وأدوس عليها عابراً أقصى المسافات لأنال صيدي ومغنمي؟!

وهكذا يبقى الليل والأرق وسهر العيون ورهق الجفون فرصةً تتشكّل كي ينبض القلب نبض الحبّ بنقاء ويرشح العقل بأفكار ملؤها الخير والصفاء.


اعلموا

إلى الذين اُحبّهم إلى كلّ الناس :

اعلموا أنّي لم أكره إنساناً قطّ ، ربما تأ لّمت وأتأ لّم من هذا الفعل وذاك القول ونظائرهما لكنّي لم ولن أكره من الناس أحداً.

لستُ رجلاً هامّاً ولا شخصاً كبيراً بل مجرّد إنسان يودّ لو يكون إنساناً حقّاً .. أعرف بأ نّي اُخطئ الحسابات وأجهل الكثير ويقودني الغرور والكبر إلى ارتكاب الحماقات ، إلاّ أنّي اُحبّ أن اُحشر في زمرة الصالحين.

كم أدعو الله أن يصلح ما فسد بيني وبين الآخرين ، على أساس العزّ والكرامة.

وأسأله كثيراً أن يسمو بي ويشمخ بذاتي فوق مواطن الذلّة والتبعيّة التي تصادر شخصيّتي وتخدش حرّيّتي.

وكم أدعوه غفرانه خطيئتي تجاه اُمّي وأبي ، فلم يستقرّ لي بال حتى


علمتُ بفرصة رضاهما عنّي إن أنا عملتُ الخير لأجلهما حتى بعد مماتهما.

كما أدعوه أن لا تظلّ في عنقي أمانةٌ لأحد أبداً ، فما ليس لي يعود لأهله.

ولطالما ابتهلت إليه تبارك وتعالى أن يمنحني توفيق المعرفة.

وإنّي إذ أصرّ في التوسّل به جلّ شأنه أن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ، وأن لا يفضحني بخفيّ ما اطّلع عليه من سرّي ، وأن يغنيني بحلاله عن حرامه وبفضله عمّن سواه وبطاعته عن معصيته ... تراني ـ للأسف ـ أشتاق إليه قليلاً وأفتر عنه كثيراً ; لدوام تفريطي وغفلتي وكثرة شهواتي وعثرتي.


ماذا يعني لنا الحبّ؟

إنّنا نسقط بفخّ اللفظ لمّا نفهم معنى الشيء بالتبادر فقط ، مثلما يتبادر إلى الذهن والقلب معنى الحبّ من حدود اللفظ المرسوم.

فللحبّ ـ مثلما لكثير من القيم والصفات والحالات والأحاسيس ـ أبوابٌ واسعة من التصوّرات والتصديقات والمؤشّرات والأدوار والأوجه. فليس من الضرورة بمكان أن نمارس ذهنيّاً وشعوريّاً الوجه المليح من الحبّ فقط ، فبما أنّ من لوازمه الحرص والوفاء للمحبوب ، بات العناء والألم والمشقّة ونظائرها داخلة في أدوات الحبّ ، أدواته التي تحميه وتذود عنه.

لذا صار الحبّ أسمى من مفهوم الموافقة القطعيّة الصبيانيّة العمياء ; حيث بها يسقط الحبّ وتسقط قيَمه ودواعيه ويهتزّ كيانه وينهار.

إنّ الخالق تبارك وتعالى أحبّ خلقه ولاسيّما الإنسان أيّ حبّ ; حينما كرّمه وعظّمه وفضّله على سائر مخلوقاته. لكنّه عزّ شأنه حازمٌ شفّاف معهم لمّا عرّفهم النجدين وعواقب كلّ واحد منهما ، فهو الناصح


الأمين والصادق الوفي ، وبذلك فقد جسّد المعنى المقدّس للحبّ بأرقى صوره وحقائقه.

إنّ مَن أحبّ امرأةً أو فكرةً أو شيئاً لابدّ له أن يعي المعنى الصحيح للحبّ ، لا المعنى الصبياني المراهق.

نعم ، أنا اُحبّ وأعشق .. اُحبّ وأعشق أهلي وناسي واُسرتي وانتمائي وأصحابي ووطني وأشيائي حبّاً متأسيّاً بحبّ الله لعباده ، حبّاً تمرّ به مختلف خطوط الوفاء والالتزام ، المتباينة والمتوازية والمتقاطعة منها ، حبّاً يغور في الأعماق والحنايا كي يحفر ويبعثر ويراجع ويتأمّل ويستشرف ويقارن ويحلّل ويستنتج ، حبّاً تمازجه الحركة الناشطة بأدوات المعرفة والأنساق العلميّة ، حبّاً يقصد الأمان والنموّ والطمأنينة الراسية على مرافئ الحقيقة التي ترفض كلّ ما هو ضبابي هلامي ، الحقيقة التي تهتزّ طرباً لمبادئ الخير والفلاح.


حبّ الناس / ١

أشعر أحياناً أنّ الشخص الوحيد الذي يحبّني في هذا العالم هي ابنتي ذات الربيع السابع من العمر .. لكنّه مجرّد شعور ربما مصدره سوء الظنّ أو فرط الحساسيّة أو الجهل ...

نعم ، فأنا اُعاني الجهل ، لطالما قادني جهلي إلى ارتكاب الأخطاء والولوج في حسابات غير دقيقة .. فكم حاولت معرفة الناس ـ ولاسيّما القريبين منهم لي ـ لكنّي فشلت ، وجرّني فشلي إلى الوقوع في أزمات ومشاكل لازلت اُعاني منها .. فما هي حقيقة هذا وذاك؟ الأمر بحاجة إلى أدوات أنا عاجز عنها ; لضعفي ...

ويبقى هاجس جهلي بالآخرين يؤرّقني أرقاً اُحاول أن أصنع منه الحركة والباعثيّة نحو ردم الهوّة وجسر الفجوة ..

أعترف أنّ المشكلة فيّ أنا لا في غيري ، ومجرّد الطموح والأماني لا تغيّر من الواقع شيئاً ، إنّما الجهد وبذل السعي القائمان على الآليّات الصحيحة هما الكفيلان بالوصول إلى النتائج المطلوبة ، وهذا يعني :


مجانبة المحاولات السطحيّة التي تفتقد العزم والإرادة والمعرفة وولوج المختبرات المنهجيّة المتمثّلة بالبحث والتمحيص والاستقراء والمقارنة والتسجيل والمراجعة ... ، فالقضيّة ليست بالأمر اليسير لكنّها تثمر النتائج الباهرة والمحصّلة الراقية.

ولعلّ التسلّح بـ «الموضوعيّة» خير ما نبلغه جرّاء الخطوات المعهودة ، فمن خلالها يمكن معالجة الإشكاليّات وتجاوز العقبات ، فالموضوعيّة تدعم المحاولات التي تجدّ في الوقوف على موارد النقص والضعف فتوجد الباعث والمحرّك والداعي نحو معالجتها أو الوقاية منها.

آنذاك تكون الفرصة سانحة لتغيّر العقل والإحساس نحو مزيد من الانفتاح والقبول ، فنجد أنّنا نحبّ الناس والناس تحبّنا ، إنّها سعادةٌ شامخةٌ ضمن موسوعة السعادة الإنسانيّة المنشودة.


حبّ الناس / ٢

وطّنت النفس على مفهوم لا أعلم تخومه ونهاياته وأجهل به المصير والمقصد ، ولعلّ الحقيقة ما كانت تحتاج التوطين حتى ، نعم «ليس هامّاً أن أكون أو لم أكن» سواء حضرتُ أم غبت. هذا المفهوم ذو جزأين :

أحدهما : أن أعرف نفسي وقدرها ولا أزجّها في ما ليس يعنيها ، فلا أطير بكبريائي في اُفق الوهم والغرور ، ولا أشمخ بأنفي فرحاً مستبشراً بخيال لا واقع له .. وهذا ما يسمح لي بورود فضاء الاتّزان والعقلانيّة والاطمئنان الذاتي والقناعة وسلامة التفكير والاستنتاج.

ثانيهما : أن أتكيّف على آلام الوحدة والغربة ومعاناة الإهمال ، حيث لا أنيس ولا همسة حبّ وحنان ، فحتى الذي كنت تتوسّم فيه دفء المشاعر والأحاسيس ـ فافترشتَ له القلبَ دربَ انتظار والعيونَ غطاءَ ذود واحتراس ـ لمّا جاء بعثر بجفائه صور الماضي الجميل ، فاغتال أنفاس الذكريات وعنفوان الخاطرات. أمّا الذي نخت برحلك عنده بعد ذاك الانتظار ووهبته الحبّ وكلّ الوفاء فلم يرفدك بالذي كنت تحلم فيزيل عنك الشقو والعناء.


هذا ، رغم أنّك تعيش شعوراً طيلة حياتك حملته برفق بين ضلوعك وحناياك ، شعوراً خالط الدم واللحم والعظم ونما عليه العقل والقلب وكلّ خلاياك ، مفاده : أنّك تحبّ الناس كلّهم ولا تكره فيهم أحدا. وإن رفضت أو توقّفت أو انتقدت منهجاً أو فكرةً أو فعلاً أو نصّاً أو تقريراً فلا يعني الكره أبدا.

إنّ الشعور بحبّ جميع الناس ألذّ ما فيه أنّه يمنح العقل والضمير والقلب هدوءاً واطمئناناً ورغبةً غامرةً في الاستمرار مع كلّ الآلام والأحزان.


القلب والعقل كلاهما يريد

إيه من قلب لا يرحم ، طوراً يقودني إلى العزلة فيرسمها بريشة الفنّان الأريب الألمعي ، وطوراً يدفعني إلى العشرة فيجعلها متنفّسي وراحتي من ألمي وشقائي .. يثنيني عن السفر والرحيل مرّة ، ويشوّقني لهما أُخرى .. يحبّب لي الأشياء حيناً ويبغّضها حيناً آخر .. أعيش الكابة والحزن بلا سبب تارةً والسرور والفرح تارةً اُخرى ..

هكذا يرميني في أحضان الحيرة وظُلَم المتاهات ، فلا أدري ماذا أصنع وبأيّ الطريقين أمشي وأسير ، أأترك عزلتي وفيها سكوني وهدوء أعماقي ، أم أهجر عشرتي وفيها صحبتي ورفاقي؟! أاُسافر وفي السفر قلقي وابتعادي ومشاهداتي ، أم أبقى وفي البقاء توقٌ إلى الرحيل شديد ، إلى حيث أرى وأطّلع واستفيد ...

وعلى هذا المنوال تتقاذفني أهواء القلب.

أمّا العقل فلطالما أخفق في مماحكة القلب .. كلاهما يريد ، فالحنايا تريد ونار الشوق تكوي الضلوع ، والعقل بما عنده من الحجّة والدليل


يريد ، وأنا متذبذب بينهما تتجاذبني الأحاسيس حيناً والفِكَر حيناً آخر.

ما ذنبي أن خُلقت إنساناً يشقى كي يمسك الوسط من العصا ، يخوض الكفاح المرير كي لا يعصى ، يجمع بين العقل والشعور ليخطف كأس الخلاص الأوفى.

اللهمّ أعنّي على نفسي ، فإنّها إذ تشتاق إلى قربك ولقائك طوراً أراها تأمرني بالسوء طوراً لأنأى عنك وعن عظيم برّك وجميل عطائك.


إشارتان

لابدّ من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : الكثيرون يفسّرون الحبّ تفسيراً عاطفيّاً مقروناً بالسذاجة وقلّة النضج. فللحبّ محاوره العاطفيّة والشعوريّة والرومانسية والعلقة الشديدة التي تُعدّ بحدّ ذاتها ذوداً عن حريمه وكيانه ومحتواه ، لكنّها ليس كلّ الذود عنه ، بل إنّها الوجه الحلو للحبّ ، إنّها المظهر المعروف والجميل للحبّ حيث تتجلّى الترافة والنعومة والحنان.

أمّا الوجه الآخر للحبّ الذي ينتهي إلى ذات القيم والسبل التي تكوّن مفهوم الذود عنه ، فهو الوجه الحازم القاطع الصلب الذي يتجلّى بالنصح والتذكير والإرشاد والتوعية والإيقاظ وما سانخها.

إنّ السكوت عن نسق الحبيب إذا ما مال أو اضطرب أو تراجع أو انقلب بداعي الحبّ ، ليس حبّاً أبداً ، إنّه عداءٌ غير مقصود ، عداءٌ بجهل وقلّة نضج وسذاجة وضعف ; حيث خُلق الإنسان والخطأ والغفلة والنسيان والشهوة تمازج روحه وعقله وقلبه ، ولا يرتقي سلّم المجد والكمال إلاّ


بالمعرفة والعلم والإيمان ، وإن كان الحبيب الذي هو إلى قلب وعقل محبوبه أقرب لا يعينه في الوصول إلى المرام بالنصح والتذكير والإرشاد والتوعية فكيف بغير الحبيب؟! بل هل يُعدّ حبيباً حقّاً؟!

الثاني : لازلنا نصرّ على مقترح مفاده : الجلوس بين فترة واُخرى جلسة شفّافة صريحة نتداول بها شتّى الغوامض والمبهمات والتساؤلات التي لا نعرف لها جواباً دقيقاً ، فكثيراً ما نتعرّض لتساؤلات لا نهرب منها إلاّ بالأجوبة الكلّيّة التي تُسكت المخاطب ولا أظنّها تمنحه القناعة والرضى.


ترويض الأحاسيس

كلّ فائض إن لم يجد السبيل إلى احتوائه واستيعابه فإنّه ينقلب آفةً خطيرةً تهدّد وتنذر بعواقب غير محمودة .. بل كلّ نتاج أيضاً ، أيّ نتاج كان حتى إن كان بلا فائض فيه ، إن لم يجد السبيل إلى معاقله فإنّه لن يتقهقر ويتآكل بذاته فحسب بل تصاب المنظومة والشبكة والكيان الذي أنتجه بأضرار فادحة وخسائر كبيرة.

ولا يشذّ الإنسان بأحاسيسه وعواطفه حينما ينتابه الحزن والألم وتعصف به المصائب بألوانها فتكبر المعاناة وتتجاوز حدودها فتولّد فائضاً من الغمّ والهموم لابدّ من تسريبها ، وإلاّ فإنّ اختناق الأعماق والحنايا بالكمّ الهائل من الخطوب قد يحدث انفجاراً لا تُعرَف حدود تأثيراته المدمّرة .. ولا يشذّ الإنسان عن القاعدة المشار إليها أعلاه.

لذا يسعى الإنسان قدر الإمكان إلى خلق الفرص المناسبة لتفريغ شحنات الألم والحزن التي جاوزت الحدّ وفاضت على ظرفها ، بل حتى التي لم تخترق الحدّ وبقيت في دائرة الظرف فإنّها لابدّ وأن تجد المخرج كي تطلق عنانها خارج المحيط والحيّز الذي يؤطّرها ; فإنّها إن تسرّبت


بحصولها على المتنفّس المناسب فالفرصة مؤاتية كي تستعيد الأحاسيس توازنها ، ممّا يفتح آفاقاً جديدة للحركة والفاعليّة والإبداع ، بخلاف الكبت والاختناق والاحتباس التي تنذر بانفجار وعاصفة من الأفعال غير المتوازنة بما يشبه إلى حدٍّ كبير مياه السيول التي تقتلع كلّ شيء يعترض تقدّمها ، أو المواد الشديدة الانفجار التي لا تميّز بين هذا وذاك لمّا تنفجر ، وهكذا البراكين والزلازل التي تحرق وتدمّر مساحات شاسعة بأدنى زمن ممكن.

إنّ الغضب وليد المعاناة بمختلف عناصرها وأجزائها وموادها ، وكيف نعالج الغضب دون النظر والخوض في أسبابه ودواعيه ، وإنّنا إذ نعلم أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج ، فإنّ غالب الاُمور تسقط في دائرة العلاج عندنا ; ذلك لضعف مناهجنا وركاكة أنساقنا ومحدوديّة آلياتنا ، ولا ريب أنّ المناهج والأنساق والآليّات التي فشلت في خلق فضاءات الوقاية فإنّها عاجزة عن العلاج كذلك ، فلا مناص من المراجعة والاستقراء والحفر والتحليل والمقارنة والاستنطاق ... للخروج من مأزق «مطلقيّة الأفهام» إلى أجواء الاعتراف «بنسبيّة الأفهام» وهذا ما يمكّننا من خلق أو استعادة الفاعليّة والإبداع من جديد ، بمعنى : أنّنا نغيّر ما بأنفسنا وما يحيط بنا تلبيةً للحاجة الملحّة ، نغيّر انطلاقاً من قانون (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) آنذاك نخرج من عباءة التقليد والتبعيّة العمياء ، نخرج من التوقّف على الأفهام النسبيّة التي أكل الدهر عليها وشرب ، نخرج إلى حيث نغترف من نمير الاُصول ، فتنمو أفهامٌ ومعاني جديدة تتجاوز عقبة المكان


والزمان ، وتشاد فضاءات من الوقاية توفّر لنا عناء العلاج المؤلم وباهض الأثمان.

إنّ البناء إذا قدّر له أن يشاد بهكذا تغيير فإنّ الإنسان أولى وأسبق بالتغيير من غيره ، فإن تغيّر تغيّرت سائر الأشياء ; إذ (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) وفي الحقيقة إنّ التغيير الذي يحصل للإنسان هو عودةٌ للاُصول والثوابت (فِطْرَةَ اللهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، فهذه العودة تمكّنه من التعامل السليم مع الثابت والمتغيّر بفعل سلامة العقل وسلامة الأدوات المعرفيّة والمناهج والأنساق التي يستخدمها في ميادين المواجهة والصراع هذه. إنّه بواقع الأمر يزيل عن عقله وقلبه كلّ ما بُني عليهما من أدران وأجرام ، فيعيد صقلهما وتعود أصالتهما ويتلألأ جوهرهما ، ذلك الجوهر وتلك الأصالة المخلوقان لغاية واحدة مقدّسة ، فإذا ما ارتفع الإنسان بذاته عن حضيض الروح البهيميّة وتسامى بجوهره وأصالته فإنّ كلّ الآلام والأحزان والمعاناة تهون ، فلا يغضب آنذاك إلاّ بنظام ولا يشدو إلاّ بنظام ، ولا نقصد بالنظام حذف الأحاسيس والمشاعر وتحوّل الإنسان إلى كتلة من الجمود والانقياد ، بل هي عمليّة منهجة الأحاسيس والمشاعر ضمن الاُطر الاعتقاديّة ، فإنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد طاله الغضب لحظة بصق عمرو بن عبدودّ في وجهه المبارك وكان بإمكانه النيل منه ، إلاّ أنّه ترك غضبه الشخصي لصالح غضبه العقائدي ، فقتله لكفره ومحاربته الدين والرسول (صلى الله عليه وآله) ، لذا فإنّ الإنسان متمكّن من برمجة أحاسيسه ومشاعره وترويضها وصهرها في بوتقة النظام العقائدي


حتى في أصعب الحالات وأخطرها ، على أنّنا لا يحقّ لنا منعه من الحزن والغضب والفرح و... إذ إنّه عملٌ خارج نطاق قدرتنا ، إنّها مجرّد دعوة للعودة إلى الاُصول والثوابت والتعمّق في القيم والمبادئ ، ولا شكّ أنّ العودة المشار إليها إن جرت بنسق وأدوات صحيحة فإنّها تهب الإنسان الأمان والاطمئنان وتفتح له آفاقاً من التفكّر والتأمّل والتدبّر ، وفضاءات من الراحة والخير والفلاح.


الصنميّة

(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (١)

الشاخص الحقيقي للنموّ الأخلاقي هو الالتزام العملي بالمُثل والقيم والمبادئ ، فليس الأمر مجرّد ظاهرة صوتيّة أو تصويريّة وانتهى كلّ شيء ، بل ممارسة جوهريّة سليمة عبر آليات وأدوات مسانخة ، وهكذا ممارسة لا شكّ أنّها تفتقر النضج والفهم والتلقّي الصحيح ; فكيف يمكن تصوّر نجاح العمليّة المذكورة بلا وعي معرفي وعلمي وثقافي؟! كيف يمكن فهم ماهيّة وحدود العقل العملي ، العقل الثاني ، الحكمة العمليّة ، الحسن ، القبح ، طول الانتماء ، عرض الانتماء ، فوارق العقل الأوّل والثاني والاختلاف في تداخل مواردهما ، آراء المدارس القديمة والحديثة ... بلا محاور واُصول وثوابت وقواعد ومعايير تفتح المغاليق وتوضّح الغوامض وترسم الحدود وتضع الفواصل وتعرّف المبهم وتفصّل المجمل؟!

ولسنا عابثين أو لاهثين خلف الحلقات المفرغة إذا رمنا التوقّف عند

__________________

١. سورة الحجّ : ٧١.


نقطة النضج الصوري الثبوتي ، إنّنا نعتقد بالتصديق والإثبات كونهما الفرصة الناجعة لبروز القيم والمبادئ كلاعب أساس في بناء الشخصيّة الفرديّة والجماعيّة ، القيم والمبادئ التي بإمكانها ـ عبر التأ لّق والاستمرار في الأداء تصاعديّاً ـ أن تتسامى وتغدو «حالة أبويّة» تنظّم وتنسّق وتشرف وتحسم وتفصل وتحكم وتقرّر ...

إذن الملاك والضابط منحصرٌ في ممارسة القيم والمبادئ السليمة بأدوات سليمة تحفظ لها البقاء والدوام والنموّ المضطرد ، ولا نعني بالنموّ المضطرد تشكيلَ تعارض مع القيم وأصالتها ; فالنموّ حركةٌ والقيم ثوابت ، فكيف تتلاءم الحركة مع الثابت؟ نعم ، تتلاءم بقراءة وفهم الثوابت فهماً متناغماً مع حاجة الظرف بلا أدنى قفز على هذه الاُصول والاُسس ، ولاسيّما أنّ كلّ الأفهام المنجزة إلى يومنا هذا تبقى في إطار النسبي إزاء المطلق ، أي هي ناقصة بنقص ما ، وهذا ما يفتح الاُفق دوماً لقراءات جديدة تضع الثابت دوماً في الصدارة من حيث تلبيته لحاجة الآن ، وهذا ما يجعله نابضاً حيويّاً متدفّقاً بالحركة والفاعليّة ، طريّاً في الطرح والممارسة والاستمرار والتأقلم والنمو ; ولا يمكنه أن يكون كذلك لو لا خصائصه ومميّزاته التي منحته عمقاً وتجّذراً ضارباً في أغوار الوجود البشري الفكري المعرفي.

لقد منح الله تبارك وتعالى الكون نظاماً دقيقاً قائماً على المعادلات والحسابات والمعايير العلميّة الصحيحة كما منح الإنسان كلّ الفرص المريحة السهلة التي تجعله يركب أجنحة الفلاح والهداية ليبلغ المقصد


والمراد ; إنّه سبحانه وتعالى خلق الكون ، خلق الانسان وأهداه نعمة العقل وعزّزه بالرسل والأنبياء والرسالات والحجج البالغة ، فأتمّ الحجّة عليه ، وبعد أن أتمّ الحجّة عليه تركه مخيّراً غير مسيَّر (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١) فلا جبر ولا تفويض ، بل هو أمرٌ بين الأمرين ـ كما قال الصادق (عليه السلام) ـ (فَمِنْهُم مَن آمَنَ وَمِنْهُم مَن كَفَرَ) (٢).

لقد أثبت النزاع التاريخي الكبير عقم كلّ المحاولات التي سعت إلى حذف «الله» من دائرة الحياة ، ولا أعظم من الجهد الخارق والتقنيات المهيبة والأفكار العملاقة التي أسّست للنهضة الاُوربيّة الحديثة منهجاً ونسقاً ينفي «الله» من ساحة العمل والفكر ويحلّ محلّه التجربة والطبيعة كبديل نهائي عنه تبارك وتعالى ، وازدهرت الوجوديّة وطغى المدّ الإلحادي طغياناً حمل معه كلّ صفات الرفض والتمرّد والحرب على «الله» بالاستفادة ممّا توفّر من الأدوات والآليّات المعرفيّة والعلميّة والتقنيّة .. إلاّ أنّ الأدوات والآليّات والتقنّيات والمعايير العلميّة ذاتها أثبتت مرّة اُخرى فشل محاولة حذف «الله» من الحياة لمّا قالت : لابدّ للكون من قوّة عليا مسيطرة ، فأفَلَتِ الميكانيكا وتبخّرت أحلام نيوتن وراسل وبيكون وسارتر ... وها هم الأقطاب يفخرون بانتمائهم المسيحي ، وها هو فوكوياما يعلن فشل نظريّة نهاية التاريخ.

«الله» هو الحقيقة التي غلبت الإنكار والإلحاد ، وقد أعلمنا تبارك

__________________

١. سورة الإنسان : ٣.

٢. سورة البقرة : ٢٥٣.


وتعالى بمختلف الوسائط والإرساليّات أنّه خالقنا ويوجب علينا طاعته وعبادته وأن لا نشرك بعبادته شيئاً وأ نّه يغفر كلّ شيء إلاّ الشرك به.

الله تبارك وتعالى بهذه الصورة والمصداقيّة فرض نظاماً واسع الأبواب والفصول والمسائل والفروع ، استنبطنا منه لوائح من القيم والمبادئ والأخلاق ، هي لا تثمر شيئاً إن لم تبلور بالممارسة والتطبيق السليم.

لكنّ حياتنا العمليّة الواقعيّة تصنع وتُوجد الشريك له تبارك وتعالى في أغلب المراحل والظروف ، والنادر كالمعدوم ، الشريك له سبحانه وتعالى فاعلٌ ومتواجدٌ حتى في أدقّ خلايا المجتمع ناهيك عن الأوسع والأكبر منها. وجعْلُ الشريك متحقّقٌ سواء في مرحلة الوعي أو في مرحلة اللاوعي ، سواء أدرك الإنسان أنّه يفعل ويمارس ويفكّر شركاً ويرتّب الآثار واللوازم طبق ذلك أو لم يدرك.

وللشرك بالله تبارك وتعالى صورٌ وحالاتٌ وممارساتٌ تختلف باختلاف الأفراد والظروف :

فهناك من يرى في شخص صفات وشروطاً هي بذاتها مختصّة بالخالق سبحانه وتعالى وحده ، أو من مزايا الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) ، سواء كانت هذه الرؤية ـ كما أشرنا ـ عن وعي أو عدم وعي ، عن غفلة أو عن عمد.

بل قد يرى البعض في ذاته ذلك الأمر ، أي أنّه يرى في ذاته وجود


تلك المقوّمات المذكورة من الصفات والشروط.

ولا يمكن إهمال الترابط العميق والآصرة الشديدة بين الشرك بالله عزّوجلّ وبين الأنا والفردانيّة ; فالأنا والفردانيّة تفتحان الاُفق الأوسع وتوطّئ المقدّمات الأساسيّة للشرك ، وذلك من خلال انتحال صفات ومزايا وخصائص هي في الأصل منحصرة بذات الباري أو بأنبيائه وأوليائه الخاصّين ، ممّا يسحب الآخرين إلى جعله مقصداً وموضع طلب الحاجات ، فيتّخذونه مرجعاً ومصدراً لقضائها ـ ولاسيّما الدنيويّة ـ في بادئ الأمر ، ثم تنمو الحالة وتستشري بجعله مصدراً لسائر القضايا والمسائل ، فإنّه إذن قاضي الحاجات ، ذوالعقائد والأفكار الصحيحة ، بل فيه من المزايا ما هي مفقودة في غيره ، الخطأ معدوم في قاموس ممارساته وأفعال ورؤاه!! تنمو الحالة أكثر فيصبح صنماً يُعبَد بوعي أو بلا وعي.

حينما تتحوّل الصنميّة والشرك بالله تعالى إلى ثقافة فإنّها بمرور الزمن تصبح عادة وممارسة طبيعيّة ; لكثرة استعمالها في الاُسرة ومحلّ العمل وسائر خلايا المجتمع ، وكثرة الاستعمال تنقل الشيء من معناه المجازي والافتراضي والهامشي إلى حقيقة ، وهذا ما يكشف عنه التحليل الواقعي لأفعال وممارسات الإنسان وردود فعله ومقاصده ومراميه وأهدافه ، فإنّها على الأعمّ الغالب تحمل معها آثاراً لها معنى ومفهوم الشرك والصنميّة.


إنّ الحلّ الأساسي لهذه المشكلة الكبيرة ـ التي تعدّ أخطر آفة تصادر قيمة الإنسان وتسلبه كلّ الفرص المؤدّية إلى الهداية والفلاح ـ يكمن في بناء الشخصيّة ، وبناء الشخصيّة عمليّة أخلاقيّة تعتمد نظاماً ومعايير واضحة ، عمليّة فكريّة تستدعي معرفةً بمناهج وأنساق تعيد الإنسان إلى المربّع العقائدي الأوّل ، لذا فإنّ اللبنة الاُولى في إطار إعادة الانتشار الإنساني السليم تعني إحكام محاور مرحلة الثبوت للإنطلاق إلى مرحلة الإثبات بثبوت ورسوخ ، إنّه انتقال من عالم التصوّر إلى عالم التصديق ، من النظريّة إلى التطبيق .. والإنسان إذا ما طوى مراحل بلوغ الحقيقة طيّاً منهجيّاً نسقيّاً ـ أعني به الوعي والفهم ـ فإنّ مزلّ القدم منخفِضُ النسبة لديه ، بخلاف الطيّ المشاعري العاطفي فإنّه ـ على العموم ـ في معرض الأخطار والمنخفضات المخيفة.

لابدّ من قراءة وفهم وممارسة اُصول ومفردات الاعتقاد بشكل مستوعب شامل من أجل تجاوز العثرات والمطبّات : من شبهات وخيالات واغراءات ونظائرها ، والتفرّغ علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً وتطبيقيّاً لتسلّق سلالم الكمال الإنساني .. لا شكّ أنّها عمليّة شائكة صعبة لكنّها ممتعة لمن عزم حازماً على فهم الحقيقة وفهم أنّه من أين وفي أين وإلى أين.

* * *


نقول : تختلف الرؤى والمطامح باختلاف شخصيّة أصحابها ، فهناك من يمارس وظائفه فقط ولا تهمّه الأشياء الاُخر ، وهناك من لا يمارس وظائفه بالشكل الصحيح وتهمّه الأشياء الاُخر ، وثالثٌ يمارسها وتهمّه الأشياء الاُخر ، ورابع لا يمارسها ولا تهمّه الأشياء الاُخر ..

إنّ وجود هذه الثقافة ورواجها في أنظمتنا المعرفيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة يعني وجود اللوازم والتأثيرات التي تعدّ نتائج طبيعيّة لسريان كذا ثقافة وممارسات .. ومن هنا تنشأ اللبنة الاُولى للشرك والصنميّة ; فترى القلوب والعقول والحناجر في ذلك الرأس الصنم موضعَ طلب الحاجات ومحقّق الاُمنيات ودافع الصعاب والمشكلات وفاتح الآفاق نحو القفز والنموّ والازدهار.

ومنهم من يعبد الرأس الصنم عبادة عمليّة دون وعي وشعور ; باعتقاد أنّه الحكيم ، القوي ، المدبّر ، الذي لا يخطأ ، واجب الطاعة ومحرّم العصيان ; فيذود عنه ذوداً غريباً ، ولا يرى في أقواله وأفعاله وتقريراته إلاّ الصواب.

وهناك من يفعل هذه الاُمور ولكن بوعي وشعور ، ولا دافع له سوى تحقيق الطموحات والرغبات والوصول إلى مراتب النموّ والتطوّر والازدهار الدنيوي.

وثالث يرى في الرأس الصنم مجموعة من الممارسات الخاطئة ، لكنّه لا ينكر عليه جهوده ومساعيه في الميادين المختلفة.


ورابع لا تهمّه كلّ هذه الاُمور سوى أنّه ينجز وظائفه المحوّلة إليه.

وخامسٌ انتقاديٌّ بحت.

وسادسٌ تشاؤميٌّ لا يرى بصيص أمل ...

إنّ أخطر ما في هذه الطوائف تلك التي عبدته وصنّمته وجعلت منه ربّاً ، سواء بوعي منها أو بلا وعي ، فإنّها بؤرة التخلّف الأخلاقي الإيماني التي تنشر أضرارها ويستشري ضلالها كلّما تمادت في ممارساتها المذكورة ، فهي تغوي معها الآخرين وتعمل على ترسيخ ثقافة الانحراف والفساد ; بل تغوي الرأس الصنم أكثر فأكثر وتتركه يتهاون في فردانيّته وكبريائه وغروره فتنأى به رويداً رويداً عن القيم والمبادئ الأخلاقيّة والدينيّة الصحيحة ، فلمّا يكون الكلّ يسبّح ويحمد ويلهج باسمه فكيف لا يركبه الشيطان وتوسوس له نفسه بفعل ما لا يحقّ له فعله من المحظورات وترك الضرورات مادام الفضاء مهيّاً لذلك؟!

من رواشح ذلك القضاء : أنّ الكلّ ـ إلاّ ما ندر ـ في معرض الإهانة والحطّ من الكرامة والانتقاص والاتّهام والتشكيك. أمّا الرأس الصنم فمنزّه عن الخطأ ، فالذي ينال منه قيد أنملة فقد ارتكب إثماً وباء بغضب وسخط كبيرين ، فإن لم يستغفر ويتوب ويعلن الولاء باليمين المغلّظة فإنّه سينال حظّه الأوفر من العقاب الذي يختلف باختلاف الأفراد وطبيعة شخصيّاتهم.

ومن رواشحه أيضاً التدثّر بعباءة الدين والعقيدة ، ولاسيّما أنّ الجوهر


والأصالة مصادرَتان والقشور ذات حضور فاعل.

إنّنا نعيش في زمن يكبر فيه الصغير ويصغر فيه الكبير ، لا لشيء سوى لأنّ الكبير الحقيقي مارس أدوات العزّة وآليات الكرامة بمحتواها الصحيح ، فلابدّ أن يصغر إذن ، أمّا الصغير الحقيقي فقد مارس لعبة الشرك والصنميّة ممارسةً نالت رضى الرأس الصنم ، فقد كبر ونما وانتفخ وازدهر.

للأسف وللألم ، فإنّ الحضور المعرفي العلمي الثقافي لا يرقى إلى الحضور الفيزيائي المقرون بالشرك والصنميّة أبدا ، ولاسيّما أنّنا نحمل شعاريّاً يافطة العلم والثقافة والمعرفة ونعلن رياءً واستعراضاً مسرحيّاً نشر القيم والمبادئ السامية التي جاهدت دونها مدرسة العصمة والطهارة (عليهم السلام).


آفة الشهرة

مادمتَ مغموراً فالناس لا تكترث لأمرك ، هم في راحة منك وأنت في راحة منهم ، فلا رقابة ولا تربّص ولا متابعة ولا ملاحقة ولا أضواء ولا شهرة ولا انتظارات ولا حسد ولا غبطة ولا افتراء ولا نقد ولا تزلّف ولا مراء ولا صحف ولا إعلام ولا كلّ شيء .. فأنت إنسانٌ لك وما عليك بحجمك وبما يتناسب مع وجودك الطبيعي ، وأنت ملْكُ ذاتك غالباً والباقي سهم الآخرين فيك كاُسرتك ومجتمعك والتزاماتك الخاصّة كأيّ فرد يواصل حياته بشكلها الاعتيادي.

نعم ، كلّما اتّسع نطاق وجودك اجتماعيّاً وسياسيّاً ودينيّاً وفكريّاً ... قصرت المسافة بينك وبين الناس ، آنذاك تنشط الأدوات المشار إليها من رقابة وأضواء وانتظارات وافتراءات وانتقادات وتزلّفات وغيرها ، كما أنّ «ملْكَ الذات» يبدأ بالمضمور ويحلّ محلّه «ملْكُ الناس والمجتمع والاُمّة والعالم» كلٌّ حسب دوره ومنزلته وكيانه. آنذاك تتمثّل الاُسرة والمجتمع والاُمّة والعالم بك أنت ، فصرت الشخص والنوع بل الجنس في آن واحد.

ومهما سموت وألقتَ وذاع صيتك وثنت لك الدنيا وسادتها تبقى ذلك الإنسان الذي يحبّ ويكره وله من الأحاسيس والمشاعر والعقل


كسائر الناس ، لكنّك بحكم كيانك الحالي لا يمكن لك استخدام الأدوات المتاحة لبلوغ رغباتك الخاصّة ومطامحك الذاتيّة ، بنحو من الحرّيّة ; خشية إثارة التساؤلات وإن كانت ضعيفةً ، ناهيك عن التي تثير استفهامات عريضة .. أنت الآن في شامخ المرتبة والجلالة فلا يمكن لك إلاّ أن تُبقي ـ ولو ظاهراً ـ على التصوّر المقبول فيك لدى عموم الناس بتجاوزك عن كلّ ما يخدش كيانك ورفعتك ; إذ أنت ثروة نوعيّة وملك للجميع ، ومثال الاُمّة ونموذجها الراقي ; فلا يعقل حالئذ أن تتجاهر أو تصرّ على المجاهرة برغباتك الذاتيّة غير مكترث بمشاعر الجمهور ولا مهتمّ بالنقد بشطريه ، ولا آبه بخدش القيم والمبادئ.

إنّك وبهذا الحال ، عليك بالدقّة والتأمّل والضبط ، فحتى الثغرة التي تفتح اُفقاً ونافذةً على مطامحك الخاصّة يجب أن تردم وتقفل. وبدون ذلك فالكارثة كبيرة والألم عظيم والإحباط هائل والعواقب وخيمة ، ليس عليك فقط ، فهذا ليس هامّاً جدّاً ، بل على الاُمّة والمجتمع وكلّ الناس .. والأنكى أنها تُلقي بظلالها المعتمة على المفاهيم والاُسس التي آمنت بها الاُمّة وجعلتك نموذجاً ومثالاً تصديقيّاً لها ، فإذا ما حصلت النكسة وبدأت الردّة وشاع الانتقام وتفشّى الانحراف وحلّ الاستهزاء بالقيم التي جاهدت الأنبياء والأوصياء الشرفاء والصالحون من أجل ترسيخها في أعين ومشاعر وعقول الناس ، فما الذي بإمكانه أن يوقف هذا الإعصار والسيل الجارف؟! إنّها الفتنة بذاتها التي لا تصيب الذين ظلموا خاصّة ، بل ستحرق الكلّ بنارها الرهيبة.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً).


الغاية والغرض

هل أنا إلى لا غاية ولا غرض؟ أو من لا غاية ولا غرض؟ هل المبدأ الأوّلي ومبدأ النظام الكلّي خَلَقَ الكون بلا غاية ولا غرض؟ هل نسير إلى العبث وفي العبث؟ أين نضع الاعتبار والمواضعة وفكرة العناية ، ماالذي يهمّنا أكثر : أحكام الواقع أم أحكام الواجب ، أحكام الكائن أو ما ينبغي أن يكون ، هل الحسن والقبح من الأحكام العقليّة أم من المشهورات والقضايا المحمودة؟ أين نضع الثواب والعقاب ومدى ارتباطهما بإثبات النبوّة والتشريع وقواعد الحياة الأساسيّة ، أين وهل ومتى وكيف و...؟

تزدحم أسئلة الفتاوى ثم أيٍّ نختار من المدن الفاضلة؟ كيف نؤسّس لنظام أخلاقي؟ وعلامَ يقوم هكذا نظام : بمقوّمات الحكمة العمليّة أم بالدليل العقلي والبرهان والقياس المنطقي؟ أيّ المناهج يوصلنا إلى المرام؟ كم تمكّنت نظريّات المعرفة من إيصال الإنسان إلى معرفة سليمة حقيقيّة؟ هل نلهث وراء الفلاسفة ويقيناتهم الذهنيّة أم نبقى على دفء الظاهر ونقنع به؟ الشعور واللاشعور ، ما قبل الطبيعة «الميتافيزيقيا» وبعدها ... ألا يكفي : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ألا يكفي :


(فِطْرَةَ اللهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهَ) ألا تكفي سهولة الملّة والشريعة السهلة السمحة؟ لِمَ لا يقنع الفكر بالسبل الواضحة الدالّة وينبذ الوعرة الشاقّة الخطرة المخيفة منها؟ ألا تكفي لحظات تدبّر وتأمّل حقيقيّة كي تعيد النصاب إلى واقعه؟ كي يتأ لّق المعشوق في قلب العاشق وعقله بلا وعورة ولا إرهاق وخطر وخوف ومجازفة؟ وهل من يقين أرقى من هذا اليقين أم يشبح أمامنا سارتر ورسل وهيغل ... كي يطوف بنا ويصلّي ويسعى ويرمي ويحيا ويموت بالمادّة لا غير ، فيرمينا بذنب الهروب إلى ربٍّ موهوم حينما تنسدّ المنافذ ويضعف العزم وتسقط الحجّة؟ لِمَ لا نتركهم يعيشون لدنياهم كما يريدون ونعيش نحن لدنيانا وآخرتنا كما نحن نريد؟


الضمان والأمان

تعلّمت في الفضاءات الدينيّة على وجه الخصوص التدابير الاحتياطيّة والبحث عن البدائل الممكنة ، وتعود بي التجربة الاُولى إلى أكثر من خمسة وعشرين عاماً إذ وجدت أنّ المدرسة التي أدرس فيها العلوم الدينيّة تترنّح وتتأرجح بين البقاء والاستمرار ، فأحسست الخطر وقرّرت الفحص عن الاحتياط أو البديل ، وهكذا فعلت.

والقضيّة خاضعة لتصوّرين :

أحدهما : أنّ الدراسات الدينيّة تربّي الطالب وتغذّيه ثقافة التدبّر والتأمّل والاحتياط ، فتشحن عقله وذهنه بها ، فيسعى قدر المكنة إلى بلورتها وممارستها عمليّاً في شتّى شؤون الحياة.

ثانيهما : افتقار الأمان والضمان ، فتجربتي في تلك المدرسة تؤيّد ذلك ; حيث انحلّت وانتهى أمرها إلى الزوال وخرجنا صفر اليدين ، إلاّ مقدار ما تعلّمناه ودرسناه من المقدّمات خلال ست أو سبع سنوات ، فما كانوا ـ إدارة المدرسة ـ يسمحون بتلقّي الدروس التقليديّة ، فإنّها خارج


المنهج المقرّر عندهم.

أمّا تجربتي الاُخرى فأيضاً ـ إثر الضوابط والنظام الحاكم على الهيكل الإداري ـ لا ضمان ولا تأمين ، سوى ما يُتقاضى قبال الأعمال المنجزة ، يضاف إليها بعض الاُمور التي لا يمكن برمجة الحياة عليها. ولسنا منكرين بعض الخصائص والمزايا ، إنّما القضيّة هي نوعيّة مفادها افتقاد الضمان والاطمئنان والقلق من الآتي المجهول.

إنّ الجهد والسعي الحثيث والمواظبة الجادّة والإخلاص والحبّ والوفاء ، الاُمور التي تترك لمسات مؤثّرة على الأعمال العلميّة والتحقيقيّة لا يستطيع أيّ شخص إنكارها أو تغافلها أو حذفها.

إنّها دليلٌ حيّ وحجّة لا تقبل النقض على مدى العطاء الذي بُذِلَ ويُبْذَل من أجل قيم الدين والولاية والمبادئ الإنسانيّة ، ولا شكّ أنّ العلم هو أفضل سبيل لإرساء المفاهيم وترسيخها ونشرها ودونه سائر الأشياء طرّاً.

لا نقصد من فقدان الأمان والضمان معناه المتبادر إنّما نعني به الوقوف على الجهد المبذول والعطاء الموجود وقوفاً تحليليّاً يقود إلى ترتّب آثار أخلاقيّة واعتباريّة عمليّة لا ينكرها العقل ولا الشعور ، إلى شحذ الهمم من جديد نحو تقديم المزيد. وأشدّ ما نخشاه ألاّ نلمس أثراً لهذه الاُمور ، وأنّ خلافها هو المتحقّق فيُغمَض عن مساعي العمر.

إنّ الذي يثلج الصدور ويخفف المعاناة كون العطاء لم يعد متوقّفاً


على تجليل هذا واحترام ذاك ; فقد عمّ وانتشر وأفاد وذاع صيته وثبت فى صفحات التاريخ ، فلا يمكن لأيّ قدرة مصادرته أو حذفه والتقليل من شأنه.

هذا أحد طرفي المعادلة ، أمّا طرفها الآخر فهو أنا النوعي أيضاً ولكن بنحو آخر ; ففي الطرف الأوّل أنا الذي وقع عليّ انتفاء الأمان والضمان ، أي افتقدته ولم أجده عند من كنت أعتقد وجوده لديه ; وعلى هذا ففي الطرف الثاني سأجعل الآخر ـ كنتيجة طبيعيّة ـ يفتقد الأمان والضمان بي ، وهذا الآخر حاضرٌ في كلا القضيّتين مثلما أنا حاضرٌ في كليهما ولكن باختلاف الأدوار. فاذا ما طبّق برامجه التي تشكّل برادوكساً مع برامجي ، بات الاحتمال واسعاً بتطبيقي برامجي قباله ، ممّا قد يؤدّي إلى تصادم الرؤى والأفكار والممارسات. نعم ، يمكن العمل على نقاط الاشتراك تلافياً للأضرار التي ربما تحصل.

كلّ الذي ننشده : فضاءات قائمة على أساس الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك وحرّيّة إبداء الرأي والوقوف على الجهود المبذولة والعطاء الحاصل ، فضاءات قائمة بشكل حقيقي على القيم والمبادئ الدينيّة بجوهرها واُصولها السليمة الحقّة ، تراعى فيها الموازين الشرعيّة والمفاهيم الأخلاقيّة ، وتغلّب فيها الرغبة الجمعيّة المنبعثة من أساس الدين على الرغبة الفرديّة ، فضاءات تخلو من الاستبداد والظلم والإذلال وامتهان الكرامات والمظاهر المنافية لشأن العقيدة والمذهب ، فضاءات نتعلّم فيها وتتربّى الذات على ممارسة الدين ممارسة حقيقيّة واعية


لا ممارسة شعاريّة قشوريّة جوفاء ، فضاءات كلٌّ يأخذ نصيبه بها بلا تجاوز على حقوق الآخرين أو مصادرة مساعيهم ونتاجهم ، فضاءات لا نشعر في ظلّها بالقلق والخوف والاضطراب واستلاب الأمان والضمان المنطقي ، فيها من المنزلة والاعتبار ما يناسب الشأن بحدّه.


زمرة الكبار

يتوهّم البعض أنّ صِرْفَ الانحشار في زمرة الكبار يصيّره كبيراً ، غافلاً أو متناسياً أو جاهلاً ما لهذا المقام والعنوان من قيود وتمهيدات ومؤهّلات ومساعي وأتعاب.

نعم ، ربما يحصل على المطلوب إذا ما سلك طريق المظاهر والقشور ، لكنّ هذا المسلك أيضاً ـ رغم وضوحه ـ يفتقر إلى جملة مقوّمات وخصائص لا تتوفّر لدى كلّ أحد.

إنّ الكبار كبارٌ بأفكارهم وعقولهم وإبداعاتهم ومزاياهم ، كبارٌ بمعناهم الاستقلالي ، بصفات التسامي فوق كلّ رخيص ، بالحركة والسكون النابضين بالمبادئ الإنسانيّة العليا .. كبارٌ بما تجرّعوا من الغصص والآهات والمصائب والصعوبات ، بما صبروا وجاهدوا كي ترقى القيم والمثل الحقّة.

أمّا الذين يكبرون بسلّة الغير ويحتمون بدرع الآخر وينتفخون بالمعنى الآلي الحرفي ، فحركاتهم وسكناتهم تقليدٌ أعمى وتبعيةٌ حمقاء ، لم


يعرفوا مفهوم المعاناة والويلات ، ولم يبلغوا ما بلغوا إلاّ بالصنميّة والحربائيّة والببغائيّة ... إنّهم ليسوا سوى زبداً يذهب جفاءً ; إذ الحكمة ليست في تراقص الأغصان وتدلّيها غروراً وكبرياءً ، إنّما الحكمة في ثبات الجذور وصلابتها وامتدادها وديمومة عطائها.

وباختلاط الأوراق تتبدّل الملاكات وتتغيّر الضوابط وتنقلب الموازين ، فتصير القيم والمبادئ والأخلاق والدين رهينة المال والسلطة على سبيل المثال ، فالكبار إذن كبار المال والسلطة لا كبار المبادئ والأخلاق ، من هنا يكون الحفاظ على شرف الاستقلال وجلالة العزّة ونبل الالتزام صعباً مرّاً ، والأمرّ ما فيه لو كان النزاع جارياً في ظلّ الفضاء الواحد والانتماء المشترك ، فلا محيد عن كسر العظم أحياناً وربما غالباً ، ولاسيّما إذا انعقدت أركان الاجماع المركّب ، إنّه مفترق طريق خطير. وهذا ما لا يكون لو تعدّدت الفضاءات ، إذ المناوئ والمعارض والعدوّ له شواخصه ومعالمه الواضحة التي تتّضح معها سبل الردّ والمواجهة.

إنّنا بحكم الفضاء المشترك نعاني أحياناً تبايناً في الرؤى والمواقف والأفكار ، هذا التباين الذي يؤسّس ـ نتيجة الحاجة ـ لصراح الحلقات أو حلقات الصراع وتنامي الاستحسانات والاستنباطات البراغماتية والحركات الديماغوجية بالاستفادة من أدوات القدرة والسلطة لبسط النفوذ والهيمنة على حساب المصالح الشرعيّة ثم بلوغ المقاصد المطلوبة ، فيتراجع مفهوم الدين والأخلاق لمّا يُتَّخَذَا درعاً واقياً لذوي التوجّهات المذكورة بعدما كان اللازم أن نكون جميعاً درعاً واقياً وسدّاً منيعاً للدين


والأخلاق ، هنا تختلّ المعادلات وتضطرب الموازين ، فيحضر الفرع ويغيب الأصل ، يبرز العَرَض ويختفي الجوهر ، تتأ لّق الذيليّة والتبعيّة الجوفاء ، تنمو الصنميّة والحربائيّة والببغائية ، تتراجع العقلانيّة والمنهجيّة والأصالة ...

والمؤسف أنّها محسوبة طرّاً على خانة الدين ، مثلما عُدّت حركة معاوية بن أبي سفيان في توريث الخلافة ووأد الديمقراطيّة الإسلاميّة ـ حسب تعريف الغرب لها ـ قرّة عين المناوئ الشامت بديننا ، الذي راح يصنّفها من أدبيّات الدين ومفهوماً من مفاهيمه ، وغيرها من الموارد الكثيرة ، التي منحتهم الحجّة للتشهير بنا وبقيمنا ومبادئنا ، وآخرها ثقافة التكفير والقتل والترويع والإرهاب ، حيث وضعت النقاط على الحروف ليعلن المناوئ موقفه القاسي تجاه الدين ويشنّ حملته المنهجيّة لحذف الشريعة من قاموس الحياة ، وبذلك بهت لون العقلانيّة والحوار اللذين نادينا بهما طويلاً.

ولسنا أحسن حظّاً من غيرنا ونحن نعاني داخل الفضاء المشترك بمعناه الأخصّ من اجتهادات وتصوّرات وقناعات خاضعة لمشارب مختلفة مقبولة أو مرفوضة ، فمنها ما يكتفي بالشعارات والمظاهر والقشور ، ومنها ما يعالج الاُمور بطريقة راديكاليّة ، وثالث يحاول الجمع بين التراث والحداثة ، بين الأصالة والتجديد ، ورابع ارثوذكسي تقليدي بمعنى الكلمة ، وخامس يستخدم الأدوات والآليات العلميّة لقراءة الدين قراءةً تحفظ الاُصول والثوابت وتتكيّف مع الحاضر بلا خضوع وتبعيّة


للحضارات الواردة والقيم التي تشكّل برادوكساً مع قيم الدين والأخلاق ...

إنّ أهمّ ما نفتقده في فضائنا الخاصّ ـ كونه مورد عنايتنا هنا حالياً ـ الثقافة الواعية التي تقود إلى سلامة التشخيص واتّخاذ المواقف المناسبة والتعامل مع الأحداث ـ صغيرها وكبيرها ، جزئيّها وكلّيّها ـ تعاملاً منهجيّاً عقلانيّاً يتسامى فوق العواطف والأحاسيس ، ويخضع لملاكات الدين الحقيقيّة وضوابطه المدوّنة ، ولاسيّما أنّ حركة العقل ـ رغم الترويج لها عندنا وبلوغها مبلغ الأدلّة الأربعة الكبرى ـ لا تخرج عن سياق النصّ بحال من الأحوال.

إذن لا مجال لكلّ ما هو خارج عن قانون الدين ، فكلّ القضايا والمشاريع والرغبات والأهداف والنوايا يجب أن تكون خاضعة للنصّ ، فهو الحكم والحاكم والمرخّص والمانع.

ولا مجال للخنق والاختناق ومصادرة الحرّيّات وتحريم التمتّع بالحياة الدنيا والنموّ والازدهار إذا ما قرأنا النصّ قراءةً صحيحةً مستندةً إلى الأدوات المنهجيّة العلميّة السليمة ، فالدين منظّم الفكر والحركة والنتاج ورقيبها والناظر عليها كي لا تحيد عن الخطّ القويم والصراط المستقيم ، ولا منافاة بين الدنيا والآخرة بالجمع بينهما طبق الشروط المعهودة والمواثيق المنصوصة.


أساس العلاقات

مخطئٌ من يعتقد أنّ نوع العلاقات مستند إلى القيم الأخلاقيّة ومبادئ الحبّ والإخلاص والوفاء ، إنّما هي علاقات محكومة بالمنافع غالباً ، والنادر كالمعدوم ، فالأكثر يدور حول فلك فرد ونقطة واحدة ومنطقة ارتكاز يتيمة ، وأهمّ ما يميّزها أنّها تستقطب الآخرين بشتّى إنتماءاتهم وفئاتهم وأعمارهم استقطاباً قائماً أساساً على البذل والعطاء بمختلف ألوانه وأساليبه ومقاديره.

نعم ، إنّه العطاء الذي لولاه لانفضّ الناس ، إنّه الملاك والميزان والضابط المتكفّل لبقاء هذا ومجيء ذاك ، لذا ترى الجهد كبيراً والسعي حثيثاً كي يبقى الحال على ما هو عليه ، فالباذل مستجمع الناس التي تطلب وتريد ، والقابض مستأنس ومستريح ، فارتبط الطرفان بآصرة مصيريّة وعلقة وثيقة تحكمها البراغماتية المتبادلة.

تلك الأيّام حيث كانت تفعم بالحبّ والإخلاص والوفاء ويعجّ بها فضاء التخصّص ، الذي جَعَلنا آنذاك ـ رغم المصاعب والعقبات ـ نضاعف الجهد إعلاءً لراية القيم ومضامين المبادئ الحقّة ، والنتاج الموجود دليلٌ


بيّنٌ على المدّعى ، كنّا ذائبين ذوباً لا مثيل له في عالم المهامّ المناطة بنا ، منهمكين انهماكاً رائعاً كي تبلغ المثابرة محلّها ونقطف ثمار الأتعاب عبر انتشار الجهد ، فنكون قد ساهمنا في الذود عن ديننا واُصولنا ، لا شكّ أنّها أجمل مقاطع العمر وألذّ مراحل الحياة .. سنون البذل والعطاء العلمي التي لم تدنّسها الرغبات الخاصّة والأهداف الذاتيّة ، وما كان في خاطرنا أبداً أنّها مرحلة قد تكون ذراعاً ومنصّة انطلاق لهذا وذاك كي يحقّق مآرب ومقاصد اُخرى ، إلاّ أنّنا بحكم النسق والمنهج لا نحكم على الاُمور ابتداءً ، بل نهاية المطاف هي التي تكشف الكثير من الحقائق التي قد تغيب عنّا بدايته.

وما نجده حاصلاً الآن قد يجعلنا نعيد القراءة من جديد ، ونراجع ونستقرئ ونقابل ونقارن ونحلّل ، كما نحفر ونبعثر ونتمسّح كي نستنتج المُعطى النهائي.

لا يمكننا التغافل عن التعاطي مع الاحتمالات التي يذهب بعضها إلى كون المشروع الذي أخلص بعطائه وجهده للقيم والمبادئ لم يكن سوى ذراعاً ونقطة انطلاق لتحقيق مآرب ومقاصد اُخرى ، مآرب ومقاصد نجد مصاديقها جليّةً واضحةً ، فالحربائيّون والببغائيّون والصنميّون والمتزلّفون ... ينشطون بشكل لافت ، فهذه الفرصة لا تعوّض ، مادام الطرفان تجمعهما نقاط اشتراك .. أمّا الذين يرون في القيم والمبادئ أنّها الضابط والملاك فلا نقول : إنّ اللعبة قد انطلت عليهم ; إذ مهما كانت النوايا والمرامي فإنّهم قد أخلصوا للدين والاُصول ، وهذا كاف بحدّ ذاته. نعم


يحتاجون إلى مزيد من الصبر والأناة حين يرون أنّهم على كلا الحالين باقون وإن لم يصبهم من الخير الدنيوي ما أصاب الحربائيين والببغائيين والصنميّين والمتزلّفين ...

ونحن أيضاً ـ رغم ادّعائنا ـ قد تدنّسنا ظاهراً أو دنّسنا ذواتنا بما لا يليق بشأننا وعزّتنا وكرامتنا ، فجنحنا ـ سواء في واقع الشعور أو اللاشعور ـ إلى رغباتنا وحاجاتنا ، وربما صرنا كما صار النوع نلهث خلف الباذل المعطي ، حتى استيقظ بعضنا النادر وانتبه إلى ما يدور حوله من قضايا واُمور قد يكون السكوت عنها عملاً مخالفاً للتكليف ، فشمّر عن ساعد المسؤوليّة وأماط اللثام عن جملة نقاط نظام ومداخلات علّها تسهم في إصلاح الواقع وتصحيح المسار وتفضي إلى فضاء أكثر روحانيّة وأقلّ تشبّثاً بالمظاهر والقشور والرغبات الذاتيّة ، إلى فضاء يحترم العلم والمعرفة والثقافة والأخلاق والمبادئ احتراماً حقيقيّاً لا استعراضيّاً.

إنّ التعاطي مع الاحتمالات المشار إلى بعضها يجب أن يكون تعاطياً خاضعاً لاُصول المنهج العلمي المعرفي السليم القائم على اُسس منطقيّة مقبولة لدى الجميع ، ممّا يعني عدم استباق النتائج بدون الخوض والمناقشة في الأدلّة والشواهد والقرائن المختلفة ، بغية بلوغ الحقيقة ، حقيقة العدل والإنصاف ومراعاة القيم الأخلاقيّة والموازين الشرعيّة ، ممّا يعني هذا : أنّ ليس كلّ احتمال مرفوضاً ابتداءً أو مقبولاً كذلك ، وإنّما المناط ما تستقرّ عليه مراحل البحث من نتائج ، مخالفة كانت أو موافقة.


تماماً كما هي القضيّة من طرف المعادلة الآخر الذي يذهب إلى عكس ذلك ويصرّ على ترسيخ أكثر للقيم والمبادئ ونموٍّ لافت على شتّى الأصعدة وعطاء مضاعف وخدمات جليلة بحقّ الدين والمذهب لا يمكن إغفالها والتقليل من شأنها.

المنهج العلمي السليم يضع جميع الاحتمالات والآراء والأدلّة والقرائن في ميزان العدل والإنصاف كي يعلن المحصّلة النهائيّة.

إذن لابدّ من إخضاع التجربة برمّتها إلى البحث والمناقشة والمطالعة ، تجربة مشروع لا يمكن اغفاله تاريخيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً وحتى سياسيّاً ، مشروع له من المحتوى الثرّ ما يجعله طوداً شامخاً وعلماً خفّاقاً ومعلماً رائداً ; وهكذا مشروع لابدّ أن ينال نصيبه الوافر من الاهتمام وتسليط الأضواء والخضوع لمجهر المراقبة والملاحظة والمتابعة التي قد تنتج إطراءً وثناءً كما قد تنتج نقداً وذمّاً ، كلاهما لابدّ أن نتعامل معهما تعاملاً نسقيّاً من أجل المواصلة القائمة على التفهّم المشترك والفضاء المؤمن بالعقل الجمعي بما فيه حرّيّة إبداء الرأى وممارسة الحقوق والواجبات ممارسة سليمة ، بعيداً كلّ البعد عن الإفراط والتفريط ، حتى تتحرّك عجلة النموّ أسرع نحو تحقيق الأهداف وبلوغ المرام.


سحر المظاهر

تخطف المظاهر قلوبنا وتشوّش عقولنا وتوسوس فينا كي نعمل الممكن والمستحيل لنصل إليها ، أموال وأملاك وترفيه وشهرة ونساء وسَفَر وموائد وتذلّلات وتخضّعات وتملّقات وتزلّفات وخصائص ومزايا ونفوذ وقدرة ... كلّها أو بعضها تجعل الغالب سابحاً في أعماقها محلّقاً في فضاءاتها ، مهووساً بها ، ضائعاً بين نشواتها ; إذ هي السعادة بذاتها والعزّ والكرامة والشموخ وليذهب الكلّ إلى الجحيم!!

والذي يرسّخ فينا هذا الاعتقاد والشعور أكثر إغواء الآخرين لنا بصنميّتهم وحربائيّتهم وببغائيّتهم ودفعهم لنا نحو المزيد من الانغماس في عالم المظاهر والشهرة والاستعراضيّات والقشور كي ينالوا وننال بهم المبغى.

مكمن المشكلة في هجران الجوهر والأصل والتشبّث بالغلاف والقشر ، في هجران القيم والمبادئ والأخلاق ومفاهيم الشريعة وأحكامها والتشبّث بالتأويلات المهزوزة والأفهام المغلوطة والتلقّيات المرفوضة والاستيعابات السطحيّة والانتقاءات البراغماتية والتضليلات الانحرافيّة ،


وعلى هذا المنوال جرت الاُمور منذ زمن بعيد وأخذها نوع الناس ـ للأسف ـ أخذ الدين عن الآباء والأجداد بلا زحمة القراءة والمراجعة والمقارنة والاستقراء والبحث والحفر والتمسّح والتحليل والاستنطاق والاستنتاج ، أخذوها دوغمائيّة محضة رهيبة قضت على الأخضر واليابس وجعلتنا نحيا في غياهب الذاكرة ، ذاكرة الكهف والقبيلة والمسرح والسوق ، متجاهلين أنّ الذاكرة الحقّة فقط هي الذاكرة التي تبقينا أو تعود بنا إلى الفطرة السليمة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها.


حينما تحلّ الصدمة

حينما تحلّ الصدمة تلعب العاطفة دوراً محوريّاً في إدارة الأحداث ; إذ هول المصاب وعظم الفاجعة يستثيران القلب والأحاسيس أكثر من سواهما.

ولا شكّ أنّه خللٌ وإن كان لا إراديّاً ; فغالب الناس يفقد السيطرة على الأوضاع فتهيمن عليه المشاعر وتقوده نحو لوازمها وتوابعها.

ولمعالجة الأمر لابدّ من السعي إلى الحصول على الهدوء ، ففي فضاءاته يمكن اتّخاذ القرارات الأكثر صواباً وحكمة ، فتقلّ الأضرار والخسائر وتلوح بالاُفق الحلول المنطقيّة لاحتواء الصدمة والتعامل معها منهجيّاً وعلميّاً.

لا شكّ أنّ الأمر في غاية الصعوبة لكنّنا أمام خيارين :

إمّا استخدام الأساليب العاطفيّة في المعالجة ولا يخفى أنّها تمتاز بالفوريّة والسرعة والحماسة المفرطة وعدم الدقّة والتهوّر ، الأمر الذي يزيد من نسبة الخطأ ويضاعف النتائج الخطيرة.

وإمّا أن نتمكّن من السيطرة على الأوضاع بالكياسة والتدبير


والوقوف على جوهر المشكلة وهذا ما يوفّر فرصة التفكير العقلاني السليم ، فتزداد نسبة النجاح وتنحسر الأخطاء.

ويلعب الوعي والنضج دوراً هامّاً في الانتخاب ، فكلّما ازداد الوعي كلّما كان الانتخاب سليماً والعكس بالعكس.

إنّ الألم والمرارة لا يمكن إغفالهما أبداً إلاّ أنّ خيار العقل يبقى الخيار الأسلم دوماً.

إنّنا بانتخابنا حكم العقل نكون قد طوينا شوطاً طويلاً من طريق الوصول إلى النتائج المطلوبة ، بما في ذلك الوقوف على الأسباب والدواعي التي أوجدت أو ساهمت في إيجاد المشكلة ، الأمر الذي يهوّن الخطب ويسهّل مناقشة وبحث الأسباب والدواعي والمقتضيات التي صنعت ذلك الحدث.

لذا فخيار العقل ليس فقط هو الخيار الناجع لمعالجة المشكلة وحلّها فحسب ، بل يحفر في خلفيّاتها بالمراجعة والمقارنة والاستقراء والاستنطاق والتحليل فتكون النتيجة علميّة استدلاليّة توطّئ لخلق فضاءات تعمل على تشخيص ومعالجة الخلل والخطأ.

إنّ الحلول العاطفيّة بإمكانها أن تهدّد كيان الاُمّة برمّتها ; حيث تبدأ بأصغر خليّة وحلقة فيها وهو الفرد ثم الاُسرة فتسري إلى الأكبر فالأكبر ، على خلاف الحلول العقليّة التي بإمكانها بناء الاُمّة وترسيخ قيمها ومبادئها ; لارتكازها على الوعي والنضج والفهم السليم والممارسة الصحيحة.


محطّتان

يرى بعض الفضلاء أنّ حوزتي النجف وقم العلميّتين تكمل إحداهما الاُخرى.

كما يرى أنّ الجهود التي بذلت وتبذل ـ في ظلّ الأوضاع الجديدة ـ لإعادة الحيويّة والنشاط والاعتبار لحوزة النجف غير كافية لسببين :

أحدهما : محدوديّة كفاءة النجف والطاقات التي تنهض بهذه المسؤوليّة ، ولولا وجود الرموز الكبيرة التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة لكان لنا مع حوزة النجف حديث آخر.

ثانيهما : إنّ الرجال الذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمّة ليسوا امتداداً علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً لحوزة النجف ، فلابدّ من الوقوف بعمق على الواقع النجفي اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً وقوفاً معرفيّاً يتناسب ومكانة الحوزة وحاجتها للنهوض والانطلاق مرّة اُخرى نحو مراتب الرفعة والسمو.

وأبدى هذا البعض تحفّظاً شديداً من الفضاءات الحاكمة هنا وهناك ،


الأمر الذي جعله يأخذ جانب الحيطة والنأي النسبي كي لا يُستَغل ولا يلج في مواجهات هو في غنىً عنها.

كما أظهر نوعاً من النقد ، بل النقد الواضح لآليّة التعامل مع بعض الإشكاليّات الموجودة في الساحة ، وذهب إلى أنّ ارتكاب الأخطاء بسبب عدم الإحاطة الدقيقة بالواقع الاجتماعي الحاكم هنا ، ولاسيّما ما يختصّ بجانب السرّيّة وعدم مراعاته ، ويرى أنّ إثارة حفيظة طرف المشكلة بنحو غير مناسب ليست مجدية ، وأخيراً ـ كما استحسنه هو ـ وجد في العودة إلى المربّع الأوّل دليلاً على عدم فائدة الحركة من أساسها.

أقول :

يرد على رؤيته بكون حوزتي النجف وقم مكمّلتين إحديهما للاُخرى ما يلي :

أوّلاً : ما المراد بالمكمّل؟ إن كان يقصد به الجامعيّة والكمال المتبادر لغويّاً ، فإنّه تصوّر غير دقيق ، فلو افترضنا جمع خصائص ومميّزات الحوزتين في إطار واحد وقارنّا بينه وبين الحوزة النموذجيّة الشيعيّة المطلوبة التي تلبّي الحاجة العلميّة والمعرفيّة والدينيّة والاجتماعيّة لوجدناه مفتقراً لكثير من الخصائص والعناصر التي تشكّل النموذج المرجو ، مع وجود العديد من مناطق الفراغ والفجوات في كليهما أو إحديهما ، الحائلة دون النهوض الجادّ الحقيقي ، والتي من أبرزها :


١ ـ غياب أو محدوديّة فاعليّة العقلانيّة عن فضائيهما ، الأمر الذي أكسبهما عنواناً ومحتوىً لازالا يبعدانهما عن المراد المحوري.

٢ ـ قلّة الاعتناء بالتجديد والإبداع والابتكار الذي يجيب على سؤال الظرف ، من حيث المناهج والأساليب وشبكات الإدارة وغيرها.

٣ ـ الاستعلائيّة الملحوظة ، ولاسيّما تلك النظرة التي ترى في سائر الناس «عواماً» ، ومصطلح «العوام» يعني في العرف الحوزوي : الذين لا يفقهون.

٤ ـ القبائليّة والاُسريّة والانتماءات الجغرافيّة التي تقف شاهقاً طويلاً أمام طموحات طالب العلوم الدينيّة الناهدة وآماله الواعدة في بلوغ مراتب العلم الرفيعة.

٥ ـ التشبّث بالظواهر والقشور والاستعراضيّات والشأنيّات والابتعاد عن الأصل والجوهر ، عبر التمسّك بالدوغمائيّة المتشنّجة ; خشيةً من ولوج مناهج الاستدلال العلمي : بدءاً من المراجعة المتكرّرة للنصّ والقراءة الدائمة والاستنطاق والمقارنة والاستقراء والحفر والبعثرة والتحليل ، إلى صياغة النتائج المترشّحة من الاستدلال والبرهان.

٦ ـ عوامل الضغط المختلفة التي تحول أحياناً كثيرة دون حصول الحركة المطلوبة نحو الأمام ، سواء كانت عوامل ضغط ذاتيّة أو غير ذاتيّة.

٧ ـ هيمنة «البراغماتيّة» على كثير من أفكار ونتاجات وقرارات الحوزتين.


ثانياً : إنّهما تختلفان مبنائيّاً اختلافاً يكاد يكون مفصليّاً ، فحوزة النجف لا تتبنّى ـ مثلاً ـ مبدأ ولاية الفقيه المطلقة ، بخلاف حوزة قم التي تحمل راية هذا المبدأ ، الأمر الذي ترك آثاراً وانعكاسات واسعة على شتّى المحاور العلميّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة.

وللحديث عن الحوزتين مجالات أوسع يضيق موردنا عن ولوجها والخوض فيها بإطناب.

ولعلّي اُوافقه الرأي في ما أبداه من تحفّظات على الفضاءات الحاكمة هنا وهناك واختياره الابتعاد والعزلة النسبيّة لأسباب أجد أغلبها واقعيّة ومنطقيّة.

أمّا انتقاده لآليّة التعامل مع بعض الإشكاليّات ، فالظاهر منه أنّه يرى وجود هذه الإشكاليّات لكنّه يختلف في اُسلوب بيانها وكيفيّة التعامل معها ، ويعتقد بأ نّنا قد لا نمتلك الرؤية الدقيقة والإحاطة الكافية بالواقع الاجتماعي الحاكم علينا.

بحكم كوني مسؤولاً عن ذاتي لا عن غيري ، لذا أنطلق من زوايتي فأقول :

لست جديد عهد بالواقع الاجتماعي الحاكم هنا ، إلى ذلك : عايشتُ طرف الإشكاليّة المعهودة معايشة الظلّ للظلّ ، وأقدمتُ على خطوات مشهودة ومدوّنة ومثبّتة على الأجهزة السمعيّة والبصريّة ، وتابعت الاُمور الثقافيّة والاجتماعيّة والإداريّة متابعة توثّقها مئات القصاصات والصفحات


التي اُدوّنها يوماً بيوم ، اُسجّل فيها ملاحظاتي ومشاهداتي ومسموعاتي ...

نعم ، وقفت على ما لم يقف عليه إلاّ النادر من الناس.

ولم يكن ما طرحته من إشكاليّات شخصنةً لموضوع أو موضوعات معيّنة ، أو وليد لحظته ، أو رشحاً من رواشح الغضب والانزعاج الموضعي ، إنّما هي رؤية تكوّنت لدى الفضاء الجمعي العامّ وكنت أنا أحد السبل في تسريتها وإيصالها إلى طرف الإشكاليّة عبر المكتوبة تارةً والمشافهة تارةً اُخرى ، ولم أتبنّاها أبداً ، وصرّحت بأ نّها انتقادات وملاحظات وإشكالات مطروحة اُريد إيصالها لطرف الإشكاليّة كي نعمل على مناقشتها وإيجاد المخارج والحلول اللازمة لها ، وكنت قد ذكرت أنّ الساحة يتجاذبها تياران : أحدهما يبارك ويدعم ، والآخر يخالف ويستشكل ، ونحن ما بينهما لابدّ من سلوك طريق عقلاني للوصول إلى النتائج المطلوبة ..

هذه الحركة هي مشروع وحصيلة سنين طوال يُطرَح فيها الرأي الآخر الذي لا يعني بالضرورة موافقتي له ، وأكّدت مراراً عميق قناعتي وحبّي لطرف الإشكاليّة.

لم ولن أندم على هذا المشروع النقدي البنّاء لأ نّي أقدم على أمر لابدّ من شخص يقوم به نهاية المطاف ، ولا شكّ أنّ آثار تلك الحركة ستظهر آجلاً أم عاجلاً ولاسيّما وأ نّي لم اُبيّت منها في أعماقي سوى نوايا الخير والله العالم ، وممّا يعزّز ذلك أنّي باق على تلك القناعة وذاك الحبّ ، ولا أهدف سوى الوقوف على قاعدة مشتركة من الحوار البنّاء للوصول


إلى النتائج المناسبة ، وبمنتهى الشفّافيّة اُصرّح بأ نّي لا أعتذر عمّا أقدمت عليه ولست نادماً على ذلك ، مع علمي بأنّ تلك الحركة كلّفتني ولا زالت تكلّفني الكثير ; إذ لكلّ شيء ثمن ، وثمن الكلمة الحرّة نفيس جدّاً.


ماذا نفهم؟

أنا مسلم شيعي ، أتراني أفشل في أوّل اختبار عَقَدَي يتناول عنواناً من عنوان هويّتي وانتمائي؟ نعم ، الاختبار هنا ليس مجرّد أحاسيس ومشاعر وعواطف ، إنّها مواجهة حضاريّة بين النور والظلام ، بين الحقّ والباطل ، وقُلْ حداثويّاً : حوار حضاري ، هم سمّوه : صراعاً حضاريّاً.

ماذا عندي ، ماذا أمتلك من الأدلّة المعرفيّة والبراهين العلميّة التي أتفوّق بها على غريمي ، أيّاً كان الغريم : الإلحادي ، الموحّد غير المسلم ، المسلم غير الشيعي ، الشيعي المنحرف ...

أليست قضيّة الذبّ عن حريم الولاية والدين قضيّةً مقدّسةً وواجباً من الواجبات ، ولاسيّما من تصدّى وتحمّل عب المسؤوليّة في بيان أحكام الشريعة وعقائدها ، أترانا جميعاً بمستوى المسؤوليّة مع لحاظ الظرف وحاجته؟

ماذا نفهم في أصل الولاية ، العصمة ، الغَيْبة ، المعاجز ...؟ كيف نوفّق بين النصّ والعقلانيّة ، بين العقلانيّة وبين ثوابتنا واُصولنا؟ ما الذي جعلنا


متخلّفين علميّاً وثقافيّاً؟ لماذا تتّسع الهوّة أكثر فأكثر بيننا وبين غريمنا ، يوماً بعد آخر ، فهو يجدّ الخطى بسرعة وثبات ونحن نزحف بقلق واهتزاز ، ثم الحصيلة : أنّه هو الذي يعمل بقيم الحبّ والسلام والعدل ، ونحن متّهمون بترويج الكراهيّة والعنف والظلم. أهذا الذي نصّ عليه كتابنا الكريم وسنّة نبيّه العظيم وأولياؤنا الطاهرين ، أم هذا الذي افترى به علينا الغريم؟

لِمَ ينهش بعضنا البعض ، بالحسد تارةً والتضليل اُخرى والافتراء ثالثةً؟

تعلو بيننا الصنميّة والحربائيّة والببغائيّة والنفاق والتزلّف والبراغماتيّة بأرقى حالاتها ومراتبها ...

تجاوزنا المبادئ وصرنا إلى حضيض الحذف والنفي والتضليل ، إمّا أنا أو أنت ، فلا حلّ وسط أبداً رغم أنّه تبارك وتعالى قد جعلنا أُمّةً وسطاً لنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيداً.

انعدمت الثقة بيننا وصار الأصل هو الشكّ والريبة بعد ما كان الأصل الصحّة والبراءة.

نعمل بالقياس وترفضه تنظيراتنا.

نغترف من صلاحيّات المعصوم عليه السلام قدر ما نستطيع دون أيّ دليل قطعي وبرهان تامّ ، اعتماداً على مؤيّدات وقرائن ونصوص ضعيفة.

نسمّي غيرنا «عوامّ الناس» ونحن العوام.


نستصغرُ غيرنا ونحن ـ نتيجة واقع الحال ـ أحقّ أن نُستصغَر.

كلّ ذلك دون أن نتأمّل ظاهرنا ، وهل يغذّينا ظاهرنا هذا ويرفدنا بالعلوم والمعارف وألوان الثقاقات؟!

مأساتنا أنّنا نختبئ بظاهرنا علّه يُخفي عيوبنا وموارد الضعف فينا ، متناسين متغافلين متجاهلين أنّ العمق والجوهر هما خير ملجأ وملاذ ينقذنا من حالنا ويدفع بنا إلى حيث ينبغي أن نكون في أرقى مراحل العلم والعمل والإيمان والاخلاق.

لقد تحوّلنا إلى صنف من أصناف المجتمع كسائر الأصناف ، ذلك بدل أن نذوب في المجتمع ويذوب المجتمع فينا ، نقوده إلى برّ الأمان وسواحل الاطمئنان ، لا أن يزداد بغضه وكرهه لنا يوماً بعد الآخر ويعلو الشاهق بيننا وبينه ساعةً بعد اُخرى ; فلقد بدأ المجتمع منذ زمن ليس بالقصير يفقد ثقته بنا إثر ظواهرنا ومظاهرنا واستعراضاتنا ومسرحيّاتنا الفاشلة ..

أما آنَ لنا أن نعيد حساباتنا ونتعامل بكلّ وفاء وإخلاص مع مبادئنا ومجتمعنا ، أم أنّ تيّار القشريّات والمنافع باق على حاله ينخر بنا شيئاً فشيئا؟


الطاعة والعصيان

لا اُريدها بأيّ ثمن.

عزيزٌ عليّ أن أفوج مع التيّار فيقذفني أنّى شاء وأراد.

الانقياد والطاعة أو التمرّد والعصيان لا يعنيان بالضرورة تماهياً طرديّاً مع محمولاتهما ، فلعلّ الانقياد والطاعة شرٌّ بمقدار ما يكون التمرّد والعصيان خيرٌ ، ولعلّ في التفصيل قولاً ثالثاً. وهكذا تتكامل الأنساق وتأخذ المناهج إطاراً ومحتوىً ناضجاً.

مَنْ يقودني وإلامَ يقودني؟ من أعصي ولِمَ أعصيه؟ حرّيّة الانتخاب كيف تُعَقْلَن وبأيّ أدوات تُهذَّب وتنقَّح؟

هذا هو السؤال الهامّ ، إنّه سؤال الحياة الكبير الذي باختلاف الإحابات عنه حلّق الفكر واختلفت الرؤى وتضاربت الملاكات وتلوّنت الانتماءات وتنوّعت الحضارات وتناغمت فعال الإنسان وتباينت طبق القناعة والميل وربما الفطرة ودين الآباء والأجداد ، وكما يقول ميرتشيا إلياده : إنّ البينوية والخلفيّة التاريخيّة الركنان الأساسيّان في دراسة تاريخ


كلّ انتماء ودين ، فالفينوميولوجيا والحقيقة التاريخيّة هما العجينة التي بها نفهم جذور الانتماء وأسبابه ومضامينه.

إنّها الكبرى العظيمة التي تصرخ في وجه الذين ينكرون علميّة تاريخ الفكر والهويّة الدينيّة ، الدين المطلق ، سواء وحّد أم أشرك. وصغراها التي تتصاغر ثم تتصاغر فتمنح لنا أشكالاً ومحتويات متباينة ، كأن تتباين المشاعر والأحاسيس والخفايا والظواهر بتباين البنية والحقيقة والمؤشّرات النوعيّة ، لذا أنت تطيع وأنا أعصي أو العكس ، وهكذا. ولكن ما الثمن؟ إن كانت الذلّة هي الوجه الآخر للعزّة فلا ضير ، أمّا أن كانت ذلّة يراد بها ذلّة أو عزّة يراد بها ذلّة ، فلا.


مفهوم التكريم

يطرح البُعد السوسيو ـ انثروبولوجي مناقشات مثيرة وواسعة ـ ملاحظةً ومراجعةً ومقارنةً وتسجيلاً ـ في مختلف الظواهر والحالات والانفعالات والخصائص ، الثابت منها والمتغيّر ، مع الأخذ بعين الاعتبار الانتماء الزمكاني الحضاري.

ويؤدّي العامل السيكولوجي دوراً هامّاً في بناء الإنسان ورفد البُعد المشار إليه بمؤن معرفيّة علميّة لا غنى له عنها في تكامل تكوينه بل نموّه واضطراده.

والاُمم التي نالت حظّاً وافراً من الرقيّ والازدهار لا شكّ أنّها قد نهلت من خزائن هذا البُعد كثيراً رغم أنّ الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة ـ اهتماماً علميّاً نموذجيّاً تطبيقيّاً ـ جاء بفترة متأخّرة وطويلة نسبيّاً قياساً إلى الانهماك العظيم في العلوم الطبيعيّة التجريبيّة ، الذي صنع النهضة المادّيّة المعاصرة.

وبناؤنا السوسيو ـ انثروبولوجي ، كفكر يؤمن بالقيم والمبادئ الحقّة واللاهوت والغيب والحياة بعد الموت ، ويمنح العوامل السيكولوجيّة مكانةً أساسيّة في التأثير بصنع الإنسان المؤمن الجادّ الملتزم ، وبصنع


الرموز والطاقات والكوادر ، التي تشيد مجتمعاً ذا مكانة حضاريّة وكيان معرفي مرموق .. بناؤنا هذا قد منح مفهوم التكريم بُعداً خاصّاً ، ولاسيّما أنّ النصّ والعقل والإجماع سائرة بهذا الاتّجاه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (فَأَمَّا الاْنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ... بفعل علوّ المرتبة والتفوّق.

لكنّنا بسبب عوامل التراجع القيَمي والديني والحضاري وتسلّط الضوابط الخاطئة الخاضعة للمنافع الخاصّة والاندفاعات الرغبويّة الضيّقة ، قد زلزلنا الموضوع من أصله وذاته ، ممّا ولّد انتكاسات كبيرة تركت لمساتها على المسار السوسيو ـ انثروبولوجي في مجتمعنا واُمّتنا ، فصار الشعور بالإحباط واليأس والألم من أخطر دواعي التراجع العلمي والفتور المعرفي ، ولاسيّما أنّ مناهجنا وأنساقنا وأدواتنا التي تنهض لتشخيص الخلل والنقص والحاجة هي بذاتها تفتقر المراجعة والتقويم والتحليل ، ذلك بسبب هروبنا إلى السطح والقشور المؤمّنة لشهواتنا ومرامينا.

إنّنا نأكل عظماءنا وفضلاءنا وطاقاتنا الذي هو أكلٌ للقيم والمفاهيم الصحيحة ، إنّنا لا نكرّم سوى رغباتنا وأهواءنا وميولنا ومناطق نفوذنا وعوامل هيمنتنا ، كي نبقى وتبقى لنا الأشياء فنفعل ما نشاء ، فلا كرامة للقيم والمبادىء والعلم والمعارف وذويها ، ويا بئس الفضاء الذي تحلّق به الشهوة وتهوي به المفاهيم النبيلة إلى القاع والحضيض.


فيلم جديد

بالأمس ، نعم بالأمس القريب لا النوعي ، الأمس الواقعي الحقيقي ، أصابني الرفيق بجرح في الصميم ، آلمني وآذاني ومزّق أحشائي وعصر قلبي وشتّت ذهني وأفكاري. بكيت ، أجل بكيت بدموع مرّة حارقة وقصدت الزهراء عليها السلام أبثّ لها حزني ، فخاطبتها انطلاقاً من إيماني بها واعتقادي الراسخ بأ نّها تسمع وتشاهد : اُنظري ماذا فعل بي ابنك ، اُنظري دموعي وشجني ووجدي واسمعي آهاتي ، أيرضيك هذا؟ أيرضيك أن تكون ضريبة الحبّ والوفاء تجريحاً وإيلاماً وإيذاءً؟! فأنتِ كما عهدتكِ تضعين النقاط على الحروف ، أطلب منكِ أن يعلم ابنك : أنّه أحزنني وجرّعني كأس الغصّة التي حفرتْ جرحاً عميقاً في قلبي وعقلي وجوارحي وأعماقي وحناياي. فلا تخيّبي ظنّي سيّدتي فإنّه لا يخيب من تمسّك بكم .. فالغريب حتى الغريب إذا شكوته ابنه فإنّه يطيّب الخاطر ويخفّف المعاناة ، فكيف بكم وأنتم باب الله الذي يؤتى ويرتجى. لذا أطلب بإصرار أن يظهر منكِ شيئاً سيّدتي يطيّب خاطري ويخفّف معاناتي ، لئلاّ


يشمت بنا الأعداء ; إذ بقدر ما نؤمن بالغيب نؤمن أنّكم عدل القرآن ، أحياءٌ شاهدون ناظرون.

إنّ نعت الرفيق لعمل واقعي قمتُ به لأجله بإخلاص كسابق عهدي معه بشهادة الآخرين وبالقرائن الحيّة المقاليّة والمقاميّة ـ بـ «الفيلم الجديد» ، إضافةً إلى ما حمّلني من الآلام والأذى ما لا تفي به المفردات والألفاظ ; عكس مفهوماً من تزلزل الثقة وربما انعدامها كلّيّاً ، الأمر الذي تترتّب عليه عواقب ونتائج غير محمودة.

ولا شكّ أنّني أمتلك من الأجوبة الحلّيّة والنقضيّة ما لا يسعه المقام حقيقةً ; إذ كيف يخفى عليّ وأنا الذي عشت أعواماً طوال قريباً جدّاً ولي من الجوارح والجوانح ترى وتسمع وتفكّر وتوازن وتقارن وتراجع وتبعثر وتحفر وتستقرئ وتخترق وتغوص في مساحات وأعماق يصعب على الآخرين ولوجها والفوج فيها ; ولاسيّما أدلّتي وشواهدي معي لا تفارقني ...

لكنّي آثرت الحبّ والتقدير والسكوت عن فعل رفيق له من الفضل عليّ ما لا ينسى .. كما أنّني لا اُبرّئ نفسي ، فإنّ لي من الخطايا والذنوب ما لا يستهان بها. إنّه اتّهمني بغير حقّ فالموضوع واضح. والله يعلم أنّي اُحبّ هذا الرفيق وأكنّ له غاية التقدير والإجلال ، وسعيي أن أكون مخلصاً واقعيّاً معه ، لا محض المستسلم ولا ذي الرغبتين والصورتين ولا الصنمي ولا النفعي ولا ... إلاّ أنّه قد أساء الفهم وأخطأ التقدير وظلّ معتقداً أنّ


القرب المكاني لا الروحي والفكري هو المناط والميزان ، ممّا قاده إلى سلسلة من أدوات الضغط آخرها مفهومه «الفيلم الجديد» الذي كشف عن معاني وتصوّرات وتصديقات لابدّ من التعامل معها بتدبير وعقلانيّة ومتانة ; إذ يبقى هذا الرفيق محلّ الحبّ والاحترام.

كان بودّي ـ ولو أنّي اُرجّح السكوت ـ أن أهمس في حنايا الرفيق : الإنسان فيه الماضي والحاضر والمستقبل. ماذا كنت وكيف الآن وغد؟ ماذا سيقال فيك ، وفي ما تُخَلِّفْ من آثار قيميّة ومبادئيّة وأخلاقيّة؟ مظاهر الحياة ومراتبها لا تبقى لأحد ، سواء عاجلاً أم آجلاً ...

أن أقول للرفيق : ادّعاؤك معرفة الناس فراسةً ، فيه مبالغة وتفخيم ; إذ كم أشدتَ بهذا وذاك لكنّه بالدليل على خلاف ما ترى أنت وتعتقد ، لقد ثُنيت لك الوسادة فتهافتت عليك أنواع أدوات الإطراء والمديح ، فهلاّ فعلوا ذلك يوم كنت تعاني وتألم وتديرها يميناً وشمالاً فلا تصل إلى شيء ويزداد الأمر سوءاً بعد سوء .. إلى أن أخذ بك المولى القدير إلى برّ الأمان وشاطئ النجاة ، فما عندك لا شكّ أنّه منه وإلاّ فالأمس لناظره لقريب ..

رويداً رويدا ، تأمّلاً وتدبّرا ، فكم كانوا ثم زالوا والحياة لا تتوقّف إلاّ بأمر ربّها.


زعلة العصفور على بيدر الدخن

كلّما يطرق سمعي هذا المثل المرّ تشمخ في ذهني وأحاسيسي آية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) فكيف بالذي لا ينفق من أمواله وإنّما هو واسطة في الإنفاق ليس إلاّ؟! هذا المثل تفوح منه رائحة المنّة النتنة ، التي تقوّض الإنفاق بمختلف معانيه وتتركه خاوياً بلا مفهوم وتسلبه لوازمه الحسّيّة والحدسيّة ، بل تقلب الطاولة عليه وتصنع منه شيئاً بلا نكهة ولا طعم ولا رائحة إن لم يكن مرّاً علقما.

إنّه تضييع جهود وتفريطٌ بمساعي أنتجت ثماراً من العطاء الثرّ ، تضييعٌ وتفريطٌ له أسبابه ودواعيه :

منها : قصر النظر وضيق الاُفق.

منها : الاعتقاد بكون الناس لا يفقهون شيئاً.

منها : ضعف الشخصيّة ومكوّناتها الذاتيّة ، فيلحق بها العجب والغرور والمباهاة ونظائرها.


منها : غموض المنهج والنسق ، وغياب التخطيط الواعي المستند إلى الاُسس والمعايير العلميّة ، الأمر الذي يجعل الوجود الشخصي ومنافعه راجحاً على الوجود النوعي ومصالحه.

منها : الحطّ من الكرامة الإنسانيّة مع سبق النيّة أو بدونها.

منها : هشاشة القيم والمبادئ وتزلزل الموازين الأخلاقيّة.

إنّه بلا شكّ تراجعٌ بكلّ معانيه ، ولقد سرت هذه الآفة في أروقتنا سريان النار في الهشيم ، وباتت مؤشّراً خطراً يهدّدنا وينسف ما شيّدناه بالجهد والصبر والمعاناة.

نعم ، الرغبة في بسط النفوذ وتوسيع آفاقه بمختلف الأدوات والآليّات دون الالتفات إلى الضوابط والملاكات العلميّة قد مهّد الأرضيّة الخصبة لنموّ مثل هذه الأفكار والسلوكيّات الهدّامة ، ولاسيّما أنّ هذه الرغبة تمنح صاحبها إحساساً غريباً ونشوةً خاصّة تجعله يرى كلّ شيء له وملكاً متعلّقاً به ، لذا فحينما يصرّح بالمثل المذكور أعلاه إنّما يصرّح به عن قناعة واعتقاد مترشّحين عن طبيعة التكوين الذاتي والنظرة الأخلاقيّة للناس والقيم والمبادئ.

إنّ المنّة التي يسأمها العقل والأخلاق بالإجماع ، وأساليب الإسكات بلا إقناع ، والتشبّث بمرجوح الحقّ على حساب الحقّ الراجح ، وتغليب الرغبات النفسيّة وإيجاد المبرّرات لها ، وإجهاض الرأي الآخر ، وغياب التخطيط المستقبلي ، وافتقار الطاقات والنخب ، وضبابيّة الهيكل النظمي


والإداري ، والتأثيرات الاُسريّة ، وتقفيز ذوي المصالح ، ورفض النقد البنّاء ، والفرديّة ، وفقدان الجرأة الموضوعيّة ، واضمحلال الاستقلاليّة ، وتنامي التبعيّة والذيليّة ، وازدواجيّة المواقف ... آفاتٌ من شأن كلّ واحد منها تعطيل فرص النموّ والازدهار في شتّى الآفاق والمجالات ، بل يلغي مشاريع بإمكانها رفد المعرفة والثقافة بجديد البصائر والأفكار ..

ولا شكّ أنّ هذه الموارد مناشئ قويّة لتفشّي الإحباط وخيبة الأمل ، ومدعاة تثبيط لذوي كفاءات واختصاصات وخبرات بإمكانها قلب العديد من المعادلات والقيم السائدة نحو الأفضل الأرقى.

كما لا ريب أنّ الكلّ ـ بلا استثناء ـ تحت المجهر ، بل مكبّرات الصوت والصورة تعمل وتتربّص ليل نهار لتنال مآربها ، فحذاري التمادي في ما يؤدّي إلى كثير من الغفلة والضياع والميل عن القيم والمبادئ الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة.


من جاء بالحسنة

لأجل البقاء والاستمرار والمنافسة وبسط النفوذ ، كعناصر فاعلة مؤثّرة في سَوق الإنسانيّة إلى الحقيقة والفلاح ، تحاول اللغة والتأريخ والفكر استجماع القوى والمؤن والأدوات والأنساق لتكون ضالّة الإنسان وجسر الوصول ومنصّة بلوغ المرام.

ومفروض التحقيق أن يكون التمسّح الفكري والتاريخي واللغوي شاملاً مستوعباً عناصر النفي والإثبات ، السلب والإيجاب ، المحتملات والمفترضات ، الموهمات والمغلقات ، كي يكون استخدام أدوات البحث المعروفة كالمراجعة والاستنطاق والاستقراء والاستنباط والقياس المنطقي والمقارنة والحفر والبعثرة والتحليل والاستنتاج ، استخداماً خاضعاً للمعايير العلميّة السليمة ، وكي تكون الإجابة عن سؤال الحياة الكبير كافيةً تحقّق الغرض وتؤمّن سبل الوصول والبلوغ.

ولا يخفى أنّ الأقطاب الثلاثة لا تغفل بأيّ حال من الأحوال وارد الجوارح ، متعاملةً معه ـ على المفترض ـ تعاملاً توازنيّاً منهجيّاً لنيل أفضل النتائج.


إنّ حكم القضاء حاضر فاعل بالدليل والمؤيّد والقرينة ، فصياغة المشروع شيء وتنفيذه شيء وملاحقة المخالف شيء ، لدينا إذن ثلاثة أقطاب بثلاثة محاور ، لكنّها لابدّ أن تنسجم جميعاً نهاية المطاف كي يحصل المطلوب ، وإلاّ فما قيمة الفكر بلا تاريخ ولغة وهكذا الإثنين بدل الأوّل وإحداهما بدل البقيّة ، كما لا قيمة للتشريع بلا إجراء وتنفيذ ولا لهما بدون حكم وقضاء ، وهكذا كلّ واحد منها نسبةً إلى البقيّة.

كيف لنا العيش في حياة لا تضع نصب عينيها (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) (١) فكراً وتأريخاً ولغةً بأرفع حالات الضبط والاستيعاب والتكيّف على مستوى الخطاب والقراءة ، تشريعاً وتنفيذاً ومراقبةً ، ممّا يعني طرح مثل (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) (٢) على طاولة البحث والنقاش ; لإقرار التوازن المنطقي العقلاني بعد الفهم الصحيح للآية ، ولاسيّما أنّ الآية الاُولى واضحة المعنى ابتداءً.

قال الطبري في التفسير ج١٠ ص٣٦ تحقيق الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي ، طبعة دار عالم الكتب ١٤٢٤هـ ـ ٢٠٠٣م ، في معرض بيانه لآية (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ...) :

يقول تعالى ذكره : من وافى ربّه يوم القيامة في موقف الحساب ، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً ، بالتوبة والإيمان ، والإقلاع عمّا

__________________

١. سورة الكهف : ٤٩.

٢. سورة الأنعام : ١٦٠.


هوعليه مقيمٌ من ضلاله ، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال : من جاء بها فله عشرُ أمثالها.

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان ج٨ ص٣٩٠ طبعة إسماعيليان ، الثانية ، ١٣٩٠هـ ـ ١٩٧١م :

... لكنّها ـ أعني الآية ـ باتّصالها بما تقدّمها وانتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر ، كأ نّه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتّفاق والاجتماع على الحقّ والتفرّق فيه : فهاتان خصلتان حسنة وسيّئة يجزى فيهما ما يماثلهما ولا ظلم ، فإنّ الجزاء يماثل العمل ، فمن جاءبالحسنة فله مثلها ويضاعف له ، ومن جاء بالسيّئة وهي الاختلاف المنهجي عنه فلا يُجزى إلاّ سيّئة مثلها ولا يطمعنّ في الجزاء الحسن ، وعاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (١) أنّ المراد به بيان مماثلة جزاء السيّئة لها في كونها سيّئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة ونفي المضاعفة.

لسنا بصدد نقل المزيد من الموارد التفسيريّة والبيانيّة وإنّما نحوم حول حقيقة تبدّد الأوهام وتجرّد النصّ من التحميلات البراغماتيّة التي تهبط به بدل أن تقرأه بما يتناسب مع علوّ شأنه ورفعة محتواه الإلهي المقدّس.

وما هاتان الآيتان إلاّ انموذج الكلّيّة وفرد الطبيعة التي نروم التمحور حولها ..

__________________

١. سورة الشورى : ٤٠.


وهي : أن يُتعامَل مع النصّ تعاملاً حَرْفياً ظاهريّاً ـ على افتراض الجهلين ـ بلا جهد معرفي علمي يستوعب القراءات المعمّقة التي تعني الأخذ به إلى حيث يأخذ موقعه الطبيعي كصادر سماوي يلفظ العبث واللغو ويفتح باباً واسعاً وفضاءً رحباً للتطوّر الدلالي والعقلانيّة اللتين هما ـ ثبوتاً وإثباتاً ـ معلمين من معالم التكيّف والتواصل الدائم مع الحدث زمكانيّاً ... هذا التعامل لا يمكن له أن يوقف ديناميكيّة النصّ وحركته الموّاجة وجاهزيّته الدائمة للإجابة عن سؤال الحياة الكبير.

لذا باتت التفسيرات التي تشلّ النصّ وتسلبه الحيويّة والنشاط معروفة النوايا والمقاصد ، وما عادت تنطوي على فضاءات الفكر والثقافة ، فالحسابات الرياضيّة البحتة فيما يتعلّق بآية (مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ ...) التي استُحسِنت من النصّ ما هي إلاّ محاولات لتبرير وتوجيه الرغبة الذاتيّة المتحرّكة بالأهواء والميول الدنيويّة المتنافية مع رغبة الشريعة وحقيقة النصّ ; إذ الحسنة في الآية ـ كما تبيّن وكما هو شأن النصّ ـ يراد بها : التوبة والإيمان ، اللذان لا يجتمعان مع السيّئة والمعصية والانحراف ، لا أن تُعقَد معادلات مادّيّة بنسبة واحد إلى عشرة ، تفتح باب التسيّب والترهّل والانحطاط على مصراعيه ، وتؤسّس لقراءات تجافي الجوهر والاُصول ويستشري عبرها النمط القشري النفعي الضاغط باتّجاه تلبية المرامي الذاتيّة على حساب المصالح النوعيّة.


وهل يجدي الإسكات نفعاً؟

الكثيرون يعدّون «الإسكات» نوعاً من الإرغام والاستبداد والإذلال ومصادرة حرّية الرأي والاعتقاد ، لوناً من ألوان الظلم والاستبعاد ، فإنّ اضطرار الآخر على القبول لم ولن يكون ناشئاً من الرضى والتسليم التام ، فلربما أخضعته الحاجة والضعف والمداراة والخوف. إنّه الخلل بعينه أن تبقى المشكلة قائمة كأ نّها النار تحت الرماد.

بخلاف «الإقناع» الذي يعني الإرضاء بالحجّة والدليل والبرهان ، ورغم أنّ رضى الناس غايةٌ لا تُدرَك إلاّ أنّ الفضاء الذي يتنفّس نسيم القناعة من الصعب جدّاً إرغامه على قبول هذه الفكرة وذاك المعتقد.

ممّا نستشهد به في هذا الإطار مقولة «نحن أهل الدليل حيثما مال نميل» والحقّ والإنصاف أنّ آثار علمائنا وفقهائنا ومختصّينا تعجّ بالمناهج المعرفية الساعية إلى منح «الدليل» و «الاستدلال» غاية الفرصة والمكانة ، حتى أخذ «العقل» منزلته أيضاً في مضمار «الإقناع» ، بل أدّى التطوّر المذهل في علم الاُصول عبر مراحله المختلفة التي بلغت «التكامل» عهد الشيخ الأعظم الأنصاري ـ ونحن لازلنا عيال مدرسته ـ إلى خلق مناخ


تهبّ منه رياح التغيير ، تغيير الأنساق والتحليق في آفاق الإبداع والابتكار ، فكان أن رُفِدت الأوساط المعرفية والمعاقل الثقافية بروائع الآثار والمصنّفات التي تعكس النموّ الهائل الذي طرأ على مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً في علمي الفقه والاُصول ، وبعض النتاجات في علم التفسير وخطوات دون مستوى الطموح في علمي الكلام والتاريخ ، أمّا في ميدان مواجهة المناهج الفلسفية والفكرية والإنسانيّة ـ كالبنيونيّة والحداثوية والبنيوية المحدثة والعولمة والأنسنة وما يشوبها من مفاهيم كنهاية التاريخ وأصل الأنواع وفلسفة الدلالة والحكمة العملية والعقلانية ونظائرها ـ فلازلنا في أوّل الطريق.

إنّنا في صراع دائم ، سواء على صعيد الذات بمعنييها الأخصّ والأعمّ ، أم على صعيد الآخر أيضاً بمعنييه الأخصّ والأعمّ.

إلى ذلك : إنّ صراع اليوم يختلف تماماً بأساليبه وإمكاناته ومضامينه عن صراع الأمس ، إنّها «العقلانية» ـ مثلاً ـ التي إن لم نحسن الغور في أعماقها السحيقة وبطونها العميقة ، ستهدّدنا وتغزونا في عقر دارنا ، بل قد فعلت ذلك بنا ، وللمثال فقط : لو تابعنا وقرأنا حجم الفضاء الذي يشغله الخطاب الأميركي عبر الأقمار الصناعية ومواقع الانترنت ، الذي غزا حتى فرنسا الكبرى بأكثر من ٥٠% ، لعرفنا كم نحن تحت رحمة ثقافة الآخر دون أن نشعر بذلك حتى ، إلاّ من خلال التيه الملحوظ الذي يمرّ به الكثير من أبناء أمّتنا وديننا ومذهبنا.


إنّ فاعليّة الطقوس الدينية والمناسبات المذهبية والنشاطات الفكرية والثقافية عبر الأدوات السليمة والتقنيات الحديثة لها الدور المؤثّر في خلق التوازن المناسب والإمساك بزمام المبادرة في مواجهة مدّ الآخر الذي يعيش معنا وفينا ، وهنا لابدّ من التأكيد على المناهج العقلانية تأكيداً مضاعفاً ; حيث لها الكلمة الفصل في ظلّ الظروف الراهنة ، وهذا يستدعي بطبيعة الحال جهداً معرفياً هائلاً ونتاجاً علمياً راقياً وممارسةً منهجيةً رفيعةً بمستوى الحدث على أدنى تقدير.

إنّ ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا في خطر حقيقي ، فإن لم نستطع إرساء ثقافة «الإقناع» إرساءً واقعياً تؤمن به ذاتنا إيماناً واعياً بحيث تتمكّن حتى من التعبير عنه تعبيراً عقلانياً ، وأبقينا من جهة اُخرى على ثقافة «الإسكات» حاكمةً تتلاعب بعقولنا وأحاسيسنا ، فلانلومنّ إلاّ أنفسنا.

وممّا يثلج الصدر ويبعث الأمل : أنّهم كم حاولوا إسكاتنا وترويعنا ونفينا وحذفنا لكنّا بقينا إلى اليوم نحيا بكلّ فخر وإباء ; إذ علّمنا قادتُنا أنّ الوئام خيرٌ من الخصام والحرب مرجوح إزاء السلام والحوار ديدن الإسلام ودم الإنسان أفضل من كعبة الخالق المنّان. وهذا منهج راق ومصداق نابض من مناهج الإقناع.


حلقات الصراع

خطورة مفهوم «حلقات الصراع» ناشئةٌ من حضوره في كافّة خلايا ومجالات الحياة ، ولا يمكن التكوّن ذهنياً وتصديقياً لسلسلة المناهج والأنساق والأنظمة وميزان القوى والسلطة وعوامل النفوذ والسيطرة ثم الهزائم والانتصارات بمعزل عن حلقات الصراع.

وكما لا يمكن ذلك فلا يمكن أيضاً فصل هذا المفهوم وإخراجه من فضاء «العقل الثاني» أي العقل العملي المسمّى بالأخلاق أو الحكمة العملية ، من باب فاعلية ودخول الحسن والقبح والعدل والظلم في ممارسات هذا المفهوم حدّ التماهي ، وبما أنّ العقل العملي في طول العقل الأوّل طبق القانون العقلي فإنّه يعني ديمومة الحضور والتماهي بدوام الحياة.

ولا يخفى أنّ مثل «حقّ الطاعة» و «الولاء» و «شكر المنعم» رغم كونها معركة الآراء إلاّ أنّ الغالب عدّها في طول الشريعة لاعرضها ، وثمرة النزاع تتجلّى في حلقات الصراع حينما تؤدّي هي ونظاهرها دوراً مفصلياً في حسم نتائج أي صراع.


من هنا ذاع صيت حلقات الصراع وحيوية نقاشاتها في فضاءات العقل والفكر والمعرفة والوجدان الإنساني ، وتأثيراتها المباشرة في مصير الاُمم والشعوب عَقَدياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ...

كما لا يغيب عنّا : أنّ حلقات الصراع تعني في جملة من مراحلها : الإقصاء والحذف والتضليل ، كما تعني التعويض والتبديل والاستغناء والاستخدام المشروط غالباً بالطاعة والولاء ..

من هنا فكلّ حلقة متصارع معها ليست شيئاً ثابتاً لا يمكن إزاحته وتغييره ، بل هي ـ في طول الوصول إلى المراد ـ قد تكون مشروعَ تهميش ونفي وتشويه مادامت عائقاً دون الهدف ، مادامت مصدر إزعاج ومنافسة ورقابة.

ثم مادامت حلقتنا حلقة إنسانية فهي غير ميكانيكية ، نعني : هي حلقة بشرية روحية متحرّكة بوحي العقل والشعور لا بوحي القانون الميكانيكي النيوتني الثابت ، القانون الذي اُطيح به بظهور «مبدأ الاحتمال» الذي يمنح فرصةً أكبر للعودة إلى القوّة المهيمنة العليا ، قوّة الخالق تبارك وتعالى ، ومن ظرافة هذا المبدأ : أنّ الكون إذا لم يخضع لقانون نيوتن الميكانيكي فبالأولى عدم خضوع الإنسان له ; لكونه كتلة جوانح وجوارح وأحاسيس نابضة بالحركة والتغيّر والتقلّب آناً بعد آن ، التي بدونها لا يبقى للعقل العملي أيّ معنى ومفهوم.

نعم ، وُلِد ابن آدم وولدت معه غريزة حبّ التملّك والحزن والألم


والغضب والفرح ... التي تكبر معه طردياً ، فهو يروم ويقصد ويطمح ويكادح دون البلوغ والوصول وقطف الثمار ، تارةً بالسبل المشروعة واُخرى بالسبل المرفوضة ، وعلى كلا الحالين لابدّ من العقل الثاني ومؤنه ، سواء السليمة منها أم السقيمة ، وهذا هو قانون الصراع الذي تتفرّع منه حلقات الصراع ، وإلاّ ما كان الخير ولا كان الشرّ ، ولا كان العدل ولا كان الظلم ، وما عرفنا معنى الحسن والقبح.

ذهب العديد منّا ومن غيرنا في مبحث «حلقات الصراع» إلى تحقّق الإجماع المركّب ، أي أنّها معادلة لا تحتمل أكثر من طرفين : إمّا النفي أو الإثبات ولا ثالث. بعبارة اُخرى : إمّا الطرد والحذف أو الإبقاء بشرط الطاعة العمياء والولاء المطلق.

لكنّا نقول : ـ استناداً إلى المفهوم القرآني المبارك : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١) ـ الإجماع المركّب باطلٌ وغير متحقّق هنا ; بدليل إمكان الجمع العقلاني والوجداني بين الأمرين نصّاً وعقلاً ، بإبقاء ما كان وضمّ الجديد باعتماد آلية الحلّ الوسط طبق منهج وقانون ونظام محكّم باُصول الدين.

__________________

١ ـ سورة البقرة : ١٤٣.


صراعات الحلقات

إنّه الصراع الحاضر في أروقة الحياة كلّها ، وكما لا يمكن الاقتناع بمناهج وأنساق وأنظمة وموازين وتعدّد قوى وسلطات وعوامل هيمنة ونفوذ ومنافسات وهزائم وانتصارات تكون بمعزل عن الصراع النوعي .. كذلك لا يمكن الاقتناع بفصل الصراع عن العقل الثاني ، أي العقل العملي المسمّى بالأخلاق ، حيث مدخليّة الحسن والقبح والعدل والظلم والصدق والكذب ... محرزة فيه بلا ريب ، ولاسيّما أنّ القانون العقلي يضع العقل العملي في طول العقل الأوّل لا في عرضه ، وعلى هذا ساد اعتقاد الغالب بوقوع مثل الاجتهاد والتقليد وحقّ الطاعة والولاء وشكر المنعم ... في طول الشريعة لا عرضها ، بلا نكران لمعركة الآراء واختلافها هنا.

وحيث لا شائبة في وجود الصراع ودوامه بدوام الحياة البشريّة وأ نّه من منتجات العقل العملي ، ومن مصاديق الأخلاق ، فلا شائبة في كون الولاء والطاعة من مصاديق الأخلاق من جهة ومن آثار الصراع وإفرازاته ونتائجه من جهة اُخرى.

وقد اشتهر «صراع الحلقات» شهرة فائقة لما له من انعكاسات


وإشارات ومخاطر وخسائر وانقسامات ومسالك مجهولة العواقب ، فالإقصاء والتهميش والحذف والنفي والتشويه مؤن أساسيّة في هكذا صراع ; إذ الحلقة الواحدة المعهودة لا يمكن لها بالضرورة أن تبقى حلقةً إلى الأبد ، فهي ليست شكلاً هندسيّاً معماريّاً يتّخذ البناء قوامه وكيانه ورسوخه برسوخ الشكل الذي يعكس حسابات علميّةً معيّنة تمنح النجاح أو الفشل له .. فالجماد خارج عن نطاق المعادلات الأخلاقيّة ، وإن تمرّد ففي الحقيقة هو تمرّد الإنسان بخطأ مقاييسه ومعادلاته ... بخلاف الحلقة الإنسانيّة التي قد تتّخذ شكلاً هندسيّاً أو معماريّاً في مناهجها وأنساقها لكنّها تبقى إنسانيّة المحتوى والحركة والسكون والشكل ، وبذلك فإنّها لا تخضع لنظريّة «الميكانيكا» التي جاهد نيوتن وأقرانه لأجل تحميلها على القوانين الكونيّة والطبيعيّة ، ممّا يعني شطب القوّة المهيمنة العليا ـ الخارجة عن نطاق المادّة ـ من الحسابات العلميّة والإنسانيّة وتفريغ الحياة عن محتواها الروحي والعيني ; النظريّة التي كادت أن تلعب بمقدّرات البشريّة وتقلبها رأساً على عقب لو لا المشيئة الإلهيّة التي أجبرت ذات المعسكر على الإذعان بنظريّة «الاحتمال» التي نعيش ألَقها حالياً ، هذه النظريّة التي أعادت القيم والموازين إلى المربّع الأوّل وقالت بضرورة وجود قوّة مهيمنة عليا خارج نطاق المادّة ، هي التي تنظّم الكون وعمليّاته المختلفة .. فإذا كانت قوانين الطبيعة لم تخضع لنظام ميكانيكي ثابت فالإنسان أولى بعدم الخضوع للنظم الثابتة ، فالاحتمال يملؤه ويملأ ما فيه من عقل وأحاسيس ومشاعر ، وكيف للإنسان أن يصمت ويقف


ويجمد وهو الحركة الدائمة والتغيّر المستمر والتقلّب المثير ، ولولا هذا التغيّر الجاري لَمَا كان للعقل العملي والأخلاق معنىً أو موضوع.

نعم ، وُلِدَ الإنسان وولد معه الطموح والرغبة والحزن والألم والغضب والفرح ... ولكلٍّ منها موطّئات ودواعي وأسباب ، إنّه يروم الغاية وبلوغ المراد ، وهذا ما يكلّفه الكثير ، وقلّما نجده بالغاً أهدافه بلا تجاوز على قوانين ومقرّرات العقل الثاني ، فهو يبذل قصارى الجهد والسعي للوصول إليها ، ولعلّ أشدّ ما يواجهه في رحلته نحو المطلوب ـ إذا كان مطلوباً نوعيّاً يصعب التفريط به والإغماض عنه ـ حضور الرقيب والمنافس والمزاحم العِدْل ، بل الإحساس بوجوده وتصوّره وافتراضه كاف في ترتيب الآثار المتعلّقة به ، وهناتبرز الحاجة إلى إرساء الفضاء السلطوي المنشود بسلسلة إجراءات وخطوات تنتهي بإسقاط العِدْل وإزاحته عن جادّة الوصول بالتزامن مع إيجاد وصنع البدائل التي تجيد لعبة الولاء وتفهم معنى الطاعة ، وهي بلا شكّ عناصر وأدوات وآليات لا ترقى لرتبة العِدْل بأيّ حال من الأحوال ، إنّما وجودها يعني تعبيد الدرب وتسهيل السبيل كي يبلغ «المصارع» المقصد. ومن نتائج بلوغ المقصد : حذف المعارض وإسكات المخالف ونفي الآراء المؤثّرة من خلال ممارسة ألوان الضغط واستخدام شتّى الأدوات المشروعة وغير المشروعة.

وهنا يكون العقل العملي وتكون العدالة والتقوى والإيمان والحسن والقبح والظلم والكذب وسائر النظائر على المحكّ الحقيقي ، وكيف لنا تصوّر افتراض الالتزام بقيم ومبادئ العقل العملي على ضوء ما قرّرناه من


«شروط الفضاء السلطوي» لدى نوع الإنسان؟! فحينما تهتزّ العدالة يهتزّ الموضوع فلا يغدو آنها «الولاء» هو ذلك الولاء المعهود ولا «حقّ الطاعة» ولا نظائرهما. إنّ سريان الاهتزاز لا يمكن التحكّم به آنذاك ولا يعلم متى وكيف يندمل الجرح وتُجَسر الفجوة وتُردَم الهوّة ويرأب الصدع ، فلطالما كان الهدم والإسقاط سهلاً بخلاف البناء والتشييد .. ولعلّ أشدّ ما في الهدم جانبه الروحي ; إذ جروحه وفجواته وتصدّعاته وشقوقه مؤلمة خطرة للغاية ، فهي على طول المدى مناطق بركان لا ندري أنّى تنفجر.

إنّ مناهج «الإسكات» لا يمكن أن تدوم طويلاً ; لضعف ركائزها وخواء محتوياتها ، وهكذا حال أنساق الحذف والتحريف والترويع ، الأمر الذي يستدعي تنشيط ثقافة «الإقناع» بتفعيل المناهج والأنساق السليمة ، ولا تتناغم السلامة مع الإسكات والحذف والتحريف والترويع ، إنّما هي وليدة العقل العملي الذي يؤسّس للقيم والمبادئ والاُصول «خريطة الطريق» ، ممّا يعني تحوّل الصراع إلى حوار ، والنقد إلى فكر ، بتبنّي التقييم البنّاء ، فتتلاقح الأفكار وتتضايف الآراء ، وقد تكوّن نهاية المطاف عجينة مشروع واحد ، فلا حذف ولا إسكات ولا ترويع ولا تحريف.

إلى ذلك ، فإنّنا طبق المعايير العلميّة والأدوات المعرفيّة لو أجرينا مقارنةً مختصّةً بين العناصر التي تتعرّض للحذف والتهميش ضمن الحلقة الواحدة وبين العناصر البديلة ، فالغالب في التقييم والمميّزات أنّ الطائفة الاُولى تمتاز بالخبرة والكفاءة والحصافة وسعة الاُفق .. وتمتاز الثانية


بالحركة والديناميكيّة والولاء والطاعة .. وإن أنصفنا البحث حقّه ورمنا الوصول إلى نتائج بنّاءة لابدّ من مسلك وسط مفاده الجمع بين الطائفتين ; استناداً إلى رؤية منطقيّة معروفة ، ممّا يعني أقلّ الأضرار والخسائر بنفع أكثر وربح أوفر.


«رفسنجنة إيران» بين الواقع وماهيّة النوايا

«رفسنجنة إيران» مقالٌ بقلم محمّد السمّاك ، نُشر في جريدة السفير اللبنانيّة بتاريخ ٦ / ١٢ / ٢٠١٤.

يقوم المقال على أمرين :

١ ـ قطع دابر التطرّف الديني.

٢ ـ تطبيع العلاقات العربيّة الإيرانيّة.

المقال المشار إليه لا يضيف رصيداً جديداً إلى مخزون المثقّف العربيّ والإسلاميّ وغيرهما ، فلا يصنع فكرةً ولا يمتاز بالإبداع والابتكار ، سوى أنّه محاولة غير موفّقة سعت إلى شخصنة وحصر «المنهج المنقذ» في اُخدود وقناة واحدة ، فسجّلت ـ المحاولة ـ على نفسها هروباً واضحاً إلى الأمام ، ناهيك عن مغالطات الألفاظ التي جهد الكاتب على تمريرها بين السطور كي يعكس ما يجول في باطنه من أمانيّ وأحلام ..

إذ نجد ـ مثلاً ـ جملة : «لا إيران قادرة على إلغاء العرب ولا العرب راغبون في إلغاء إيران» تعبّر عن اُمنية الرجل في تصوير مساحات القدرة


والنفوذ التي لا تتّفق مع الواقع الذي إن أنصفناه هو أن يقال فيه : «... ولا العرب قادرون ...» فسواء رغب العرب أو لم يرغبوا فإيران باقية كما غيرها باق ، مثلما أنّ العرب وغيرهم باقون سواء رغبت إيران أم لم ترغب ، حيث الواقع هو الملاك لا الرغبة والتمنّي.

كما نجد جملة : «لا السنّة يحتكرون الإيمان ولا الشيعة يحتكرون الإسلام» هي الاُخرى تعبّر عمّا يدور في خلد الرجل من تصوّر طائفي لمفهوم الإيمان الذي حصره في السنّة وقابله بتصوّر لمفهوم الإسلام الذي يأتي بالدرجة الثانية بعد الإيمان ـ كما هو معروف الفقهاء ـ فنعت الشيعة به.

لم نعقد البحث والنقد لأجل الإشارة إلى نظائر هذه الجزئيّات ونزاعات الألفاظ التي لا جدوى منها ولا طائل لها ، فهي ليست سوى مجرّد عبث بالأوقات وتلاعب بالمفردات لا يغني ولا يسمن أبداً .. إنّما عقدنا البحث والنقد لغرض أسمى وغاية أرقى تتجلّى في التنويه والتذكير بالمنهج العلميّ الذي اعتمده الفكر الشيعيّ منذ البدء ، نعني : منهج الوسطيّة والاعتدال وترجيح منافع الدين ومصالح الرسالة على طرّ ما سواها من المنافع والمصالح الاُخرى ، ولا يهمّنا هنا تغريد بعض المغرّدين خارج السرب ، الذي سعى إلى لصق نهج التكفير والحذف بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ; إذ مخالفة معلوم المدرك لا تضرّ بالإجماع كما هو ثابت في فقه أهل البيت (عليهم السلام).


إنّ سكوت أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ربع قرن من الزمن .. ظلامة الزهراء (عليها السلام) .. صلح الحسن بن عليّ (عليه السلام) .. مقتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) .. وهكذا سائر الأئمّة الهداة (عليهم السلام) ومنهجهم ـ كآبائهم ـ في رفض العنف والحذف والتضليل .. هي مجرّد إضاءات بعناوين كلّية ، بتفاصيل ومصاديق يعجز البيان والمقام عن عدّها وكشفها وخوض غمارها.

على خلاف الآخر الذي لا زال جادّاً موغلاً في حذف التشيّع ونفيه بالعنف والتضليل والتحريف ، بكلّ ما اُوتي من عدّة وعديد.

فالفكر الشيعيّ فكرٌ حواريٌّ استدلاليٌّ قائمٌ على المنهج العلميّ المعرفيّ السليم .. ولعلّ العالم بدأ يدرك رويداً رويداً حقيقة الاُصوليّة الشيعيّة القائمة على منطق الحوار والعقلانيّة ، الاُصوليّة التي طالما وصفها سابقاً خطأً بالتطرّف والراديكاليّة ، ولاسيّما أنّه قد وقف مؤخّراً على ماهيّة الفكر التكفيريّ وكيف وجده لا يتورّع عن إزهاق الأرواح البريئة بأبشع الطرق والأساليب الرهيبة.

لذا لا يمكن شخصنة وحصر «المنهج المنقذ» ، منهج الوسطيّة والاعتدال ، بالاُطر والأفراد والحدود الضيّقة .. إنّه منهج الفكر المستلهم رؤاه واُصوله وثوابته من مدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ويكفي سبر الغور في ثقافة وأدبيّات وممارسات علماء التشيّع والنخب منه والأتباع ليظهر بوضوح صحّة المدّعى.

إنّ خصيصة الحكمة والأساليب العقلانيّة مثالٌ حيٌّ نابضٌ ومصداقٌ


رائعٌ شامخ من مصاديق رؤية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) القائمة على الحبّ والسلام والوئام واحترام الإنسان في انتخاب الحياة الحرّة الكريمة ، هذا المنهج الذي جنّب العالم شرّ الفتن والمخاطر والويلات التي لا تُحمد عقباها ولا يُعرف مداها.

فالكرة في ملعب الآخر الذي عليه إثبات حسن النوايا بالدليل والممارسة الصادقة لمفاهيم الوسطيّة والاعتدال التي تحترم رأي المخالف وتعمل معه في الوفاقيّات وتتحاور في الخلافيّات ، بلا حذف ولا نفي ولا عنف ولا ترهيب ولا ترويع.

إلى ذلك : إنّ إصرار الآخر على تكرار الشبهات والموارد التي تتنافى مع إجماع فقهاء التشيّع لا يسهم في حلّ المشاكل العالقة قطعاً ; حيث الحوار العلميّ المنطقيّ هو السبيل الوحيد لتضييق نقاط الخلاف وحصرها والسعي على التعامل معها بأساليب حضاريّة متطوّرة تعكس الوجه الناصع للدين الإسلاميّ الحنيف.

من هنا بات واضحاً عقم التصوّر القائم على شخصنة «المنهج المنقذ» وحصره بهذا الفرد أو ذاك ; من حيث إنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أنّى كانت وتكون هي مدرسة الاعتدال والوسطيّة بإجماع علمائها وفقهائها ومفكّريها ونخبها .. ذلك رغم تعرّضها مدّ التأريخ لحملات الحذف والتحريف والتضليل ، لكنّها بقيت تنبض بالحياة ، بالقيم والمبادئ الحقّة المستقاة من بصائر أهل بيت العصمة الاُباة.


إلى متى يا عراق؟

أعلمُ أنّ الكثيرين سيختلفون معي في الرأي ، ينتقدون ، يغضبون ; حيث كلّ واحد منّا يحمل في جعبته سبباً وتصوّراً يدعوه لذلك ، فلا مندوحة آنئذ لمّا يكون الاختلاف في الأشياء أمراً طبيعيّاً.

لا أتلو آية اليأس ولا أعتقد بنهاية «فوجي ياما» الإيديولوجيّة ـ التي قيل : إنّه تراجع عنها مؤخّراً ـ لكنّي أنطلق من رحم التاريخ ، بماضيه وحاضره واستشرافاته .. أنبعث من صلب العقلانيّة التي نؤاخَذ ـ نحن المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً ـ بقلّة القناعة والاعتناء والتأقلم معها رغم ما لدينا من الخزين الثرّ والإرث السمين والثوابت القويّة والاُصول الغنيّة .. أنهض من نصوص ساداتنا النجباء (عليهم السلام) ..

فأقول : سيظلّ العراق ـ كما كان وكما هو عليه الآن ـ بلداً على كفّي عفريت ، بلداً تتقاذفه التناحرات والتقلّبات والخلافات ، بلداً لن يهدأ أبداً ، وأسباب ذلك قد تبدو للبعض واضحة شفّافة ، ولا أساس لها من الصحّة عند البعض الآخر ، وغير معروفة لدى طائفة ثالثة .. إلاّ أنّنا جميعاً ربما نتّفق على كون العراق بلداً صعباً معقّداً بامتياز ، قياساً حتى بمن جاوره


وقاربه من الدول التي رغم ما في بعضها من التناقضات والتعاكسات والإشكالات في النظم الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، لكنّها تعيش أيّامها ولياليها أفضل من عراق الخيرات بكثير.

فلو استقرأنا وتفحّصنا وقرأنا وراجعنا وقارنّا وبعثرنا وتمسّحنا وحلّلنا بلاد الرافدين لَمَا استنتجنا سوى أنّه بلدٌ لم يستقرّ إلاّ نادراً ، وهكذا أظنّه سيبقى وطناً مشتّتاً لا تتّحد فيه القلوب ناهيك عن وحدة العقول ، يتقاذفه الفساد من جميع أطرافه ، يعجّ بظاهر القيم وقشور المبادئ بمناسبة هذه الذكرى وتلك الواقعة ، لكنّها على الغالب ليست سوى ظاهرة صوتيّة سرعان ما تخفت وتستكين.

مأساتنا تكمن فينا ، في ذواتنا ، معاناتنا أنّنا نُخِرْنا من داخلنا منذ أمد بعيد ، اختُرِقنا اختراقاً ضرب فينا الأعماق والجذور ، فتداعت الذاكرة وانهارت العلقة المعهودة وتأزّمت الروح ، روح الحبّ والسلام والوئام ، صرنا ننهش بعضنا البعض ، فتضاءلت فرص التواثق وتوسّعت الهوّة بيننا ، حتى غدا الأخ والصديق لا يحمل سنخه إلاّ على ما يرغب من المحامل ويريد ... نجح وفاز وانتصر من أراد بنا ذلك وخسرنا نحن ، وعسى ألاّ تثبت علينا الهزيمة ; إذ قد يخسر الإنسان لكنّه ينبغي ألاّ يُهزَم فالهزيمة تعني كلّ شيء.

سيظلّ العراق هكذا إن لم تشمله العناية الربّانيّة ، إن بقي أهله على هذا الحال لا يغيّرون ما بأنفسهم ، لا يتآزرون لرفع الحيف عن بعضهم


البعض ، لا يعترفون بأ نّهم مخترَقون مستهدَفون مشتّتون متخلّفون عن الركب ، يفصلهم بونٌ شاسعٌ بين القول والعمل الدؤوب ، فليس الوقت وقت المكابرة والتفاخر البائس ، إنّه وقت الثبوت والإثبات.

لقد منّ الله تعالى على أهل العراق عبر طول التاريخ بمنن كثيرة ، لكنّها لم تُستغَلّ بالشكل الكافي والصحيح ، منن وبركات عينيّة وروحيّة ، نلمس منها في حاضرنا : المعادن الثمينة والكنوز النفيسة والأنهار العذبة والتربة الخصبة والمواهب النادرة ...

في العراق أنوار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) والولاة الأبرار والصلحاء والأخيار وحوزات الدين الحنيف ومراجعها العظام.

في العراق نعمة المرجعيّة العليا التي عملت ولا زالت تكدح من أجل خير العراق والدين والبشريّة جمعاء ، مرجعيّة الاُلفة والأمان وكرامة الإنسان أنّى كان ويكون.

فلماذا العراق هكذا يا تُرى؟ لماذا حاله هذا الحال رغم كلّ الذي فيه من الخصائص والخيرات والبركات؟

أما آنَ له نفض غبار الألم والحزن والفساد والتخلّف واللحاق بركب الآخرين الذين ـ وغالبهم ـ هم أدنى منه رتبةً وأقلّ اعتباراً في شتّى الحقول والميادين؟!

أما آن لموازين العلم والمنهج والقيم السليمة ومصلحة الوطن أن تطيح بالواقع المأساوي الذي نتخبّط به ولا نتذوّق إلاّ مرارة رواشحه؟!


أما آن لنا بجلسات وگعدات مطالعة ودراسات مختصرة صادقة حقيقيّة تؤسّس لمراكز استراتيجيّة تنهض بصناعة الفكرة وما يتلوها من مراحل وخطوات؟!

أما آن لنا أن نهتمّ بإخلاص ـ طبق المبادئ التي نتشدّق بها ـ بمعاناة أهلنا ونهمس في ذواتنا : كفانا صخباً ونفاقاً وكذباً وفساداً وشهوانيّةً ...

اللّهمّ انقذ العراق واحفظ دينك وحماة دينك ، إنّك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين.


إليك يا عراق

فسيفساءٌ من الأديان والمذاهب والأعراق ، أمواجٌ متلاطمةٌ من التغيّر والتآلف والافتراق .. خضمٌّ يحكي السطح منه ما في العمق من أشياء ، بحرٌ تروي سواحله ملاحم الجود ومآسي الجفاء ، عراقٌ بلدي ، بلد الأنبياء والأئمّة والشرفاء ، بلد المحن والآهات وميدان الغرباء ...

بلدٌ حملته صفحات التأريخ ، لا ، بل حملها على أكفّ الجراح والآلام ; فحيث كان العراق كان التأريخ وكأ نّهما توأمان تلازما منذ البدء حتى الختام .. فهل أنصف الزمان وأبرّ بأرض السواد ، أم عقّ ونسى اللطف وإحسان الجواد ، أم تغيّر الماء وذاك الهواء فتغيّر العراق وتغيّرت البلاد؟

جاوزتُ فيك يا عراق مفردات الهويّة والأهل والحنين ، ثم اللغة والفكر وتعداد السنين ; علّني أختلي لاُعيد قراءتك من جديد ; إذ قرأتك يومَ كنتُ يافعاً غضّاً غرير ، وها أنا خلّفت ورائي الخمسين : ثلاثون وبضع منها أرقبك من على البُعد دام حزين ... وشتّان ما بين المشهدين.

لن أزيد الغدير بقراءتي قطرةً إزاء ما يغمرني من رواشح العلوم


والمعرفة جرعاً كلّما رشفني بها لازلتُ ذاك الصادي الذي يهتف دوماً : هل من مزيد؟ فما ارتويت منك يا عذب يا غدير .. فهيهات أن تنفكّ أحاسيسي وأفكاري عنه أبد ما حييت ... إنّه يجري في عقلي وعروقي جريان الماء والأثير.

وهل يكفي أن أكون أديباً فناناً مفكّرا .. لاُجمله بقصيدة ولوحة ورؤية تسمو بي جذلانَ ألِقاً سامقا؟

إنّه يوجب علينا ويدعونا لنفهم حقيقة التقاطعات والتباينات والشموخات والكبوات ...

لنعلم كم نحن بحاجة لنعلم ما هو العراق ، فقد اختلف الناس فيه وفي أهله بين ظالم مجحف وعادل منصف ومفرط غال ...

لندرك لِمَ آلَ الحال إلى ما آل ...

أما آنَ أن يهدأ بال وتستقرّ له أحوال ، أم كُتِب عليه الشقاء والعناء وليال من الضيم طوال؟

قصدته آنذاك بعطش الضمآن وعبرة تتكسّر في الصدر ثلاثةً وعشرين عام ، رمته وفي قلبي وذهني مشاعر وأفكار تغلي كالبركان ، إنّه الهيام يا كرام .. أخترقُ المدن والمسافات وكأ نّها أضغاث أحلام ، وزاد الحلم حلماً لمّا وجدتُ مدينتي تغشّيني بالأحضان ، مدينتي حيث لي في كلّ شبر منها ذكرى وعنوان ، مدينتي التي حملتني عقدين من الودّ والحنان حتى رمى بي المستبدّ الشيطان بعيداً عن الأهل والأوطان ، ذقت


بهجرها علقم الفراق والفقدان .. وما إن استقرّ في فؤادي ولبّي (عَسَى أَن تَكْرَهُوا ...) حتى وجدت سبيل الخير يتلألأ قبالي كالشمس في رابعة النهار ، فرحت أقطف من نمير العلم والفكر بما تيسّر لي من همّة ونشاط بفضل بركات سادتي الأطهار الأخيار ، بفضل أنوار ثامن الأئمّة الأبرار ومرابع طوسه ، طوس الخير المدرار ، ثم عشّ آل محمّد قم القيام والانتظار ، وله الحمد تبارك وتعالى أن منحني من اللطف ما أعجز عن شكره بأفصح البيان ، وسأبقى ماشياً على ذات الدرب بخطىً ملؤها الشوق والاطمئنان إعلاءً لكلمة الدين وقيم آل الفلاح والرضوان.

أهلي ، وطني ، عراقي ... ستظلّ أمنيةٌ : أن أعود ونعود كسالف الزمان ، حيث لاقتل ولا ترويع ولا أضغان ، حيث تُبنى للمبادئ صروح من العزّ عالية الأركان ، حيث نستعيد الأخلاق طبق فطرة الله التي فطر عليها الإنسان ... ولنا في قدسيّة النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء خير اُسوة وكهف أمان.

لا ينتعش العراق إلاّ بإرادة التآزر ولمّ الشمل ونبذ العنف وإرساء الحبّ وقيم السلام ، بالعلم والعمل وعقلنة الرؤى وترويض الجنان .. فغاية الأمر جهادان.

ولنا من الذخائر والمواهب والفضاءات ما يجعلنا نواصل المسير بكلّ جدٍّ وعنفوان.

سلامٌ على العراق ، سلامُ القلب من الأعماق التائقة إلى جذور الخير والفروع الباسقة .. شوقٌ مفعمٌ بالحبّ والآمال بأنقى تضرّع وأطهر ابتهال.


اُوباما رسالة الغرب

ماذا يعني لنا أن تنتخب أميركا رئيساً أسوداً مسيحيّاً شابّاً ، من أب مسلم كيني أسود واُمٍّ بيضاء ، رئيساً درس سنتين في مدرسة إسلاميّة بأندونيسيا ، ذا علاقات طيّبة مع الفلسطيني المعروف إدوارد سعيد ...

قيل اسمه : بركة ـ براقُ ـ اسم أبيه : حسين واللقب اُوباما.

نهض من بيئة فقيرة مرتقياً بذكائه الكبير سلالم الدراسة بكلّ جدّ وعنفوان. وأهل شيكاغو ـ موطنه ـ يعرفونه بصفاته التي مكّنته من الوصول إلى الكونجرس قبل الترشّح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي بعد منافسة ماراثونيّة مع هيلاري كلنتون زميلته في الحزب ، ثم الفوز فوزاً تاريخيّاً ساحقاً على خضمه العجوز من الحزب الجمهوري الحاكم جان ماكين ، الذي لم يشفع له تعيين الحسناء «بالين» على بطاقته لمنصب نائب رئيس الجمهوريّة.

ماذا يعني لنا ذلك؟ أيّة رسالة راموا إيصالها لنا ولكلّ العالم ، رسالة مبادئ أم حوار أم تخدير ...؟ هل الاستنطاق والحفر والبعثرة ونظائرها


أدواتنا هنا؟ أدواتنا في جدولة أفكارنا وإعادة انتشار لمناهجنا ، أم أدواتنا في تحليل مناهجهم وأنساقهم.

ما كان بنا أن نستغرب أبداً من مجيء اُوباما ، فهذا ما يتّفق مع ما يعتقدونه من رسالتهم إلى اُمّتهم والدنيا بأسرها : رسالة حرّيّة وعدالة وقيم إنسانيّة متعالية.

ينشدون التغيير وعمل كلّ ما بوسعهم لإعادة مفهوم نهاية التأريخ إلى رونقه وحيويّته ـ المفهوم الذي تبنّاه فوكوياما وتراجع عنه مؤخّراً ـ فلابدّ حالئذ من جرعة مبادئيّه فرضتها الضرورة ، ضرورة صُنع اُوباما النوعي. وغالب التوقّعات واستطلاعات الرأي كانت تشير إلى تحقّق هذه الضرورة وهذا الصنع النوعي.

دبّت الحركة من جديد في مجتمعهم ولاسيّما بعد إعلان النتائج ، الحركة التي ستزيد من رشقاتهم المبادئيّة والقيميّة ، وسيحتلّون بعدها مناطق أكبر من مساحات أذهاننا وأحاسيسنا ، وعلى العادة المألوفة الغالبة فنحن مجتمع يعيش الانتظار على اختلاف معاييره ومعانيه ، انتظار أن ترحمنا المفاهيم الحديثة بآخر إبداعاتها وخوارق أفكارها التي لا تقهر!! نلتهمها لنذوب فيها وتذوب فينا ، نرتشف نشوة الانفتاح والتنوير التي ما فوقها نشوة ولذّة.

وستبقى الاتّكالية والبطالة المعرفيّة والظواهر الصوتيّة أسياد الموقف مادمنا «أموات الأحياء» وهواة الوصفات الجاهزة ومعتنقي مفهوم


«الانتظار السلبي».

لا شكّ أنّ الكلّ بالانتظار ، مجتمعات ومذاهب وأفراد ، فهذا الذي يترقّب على الدروب والطرقات علّ الحبيب يأتي أو يعود ، وذاك الذي تهفو حناياه للحظة تجليل أو إطراء ، وثالث نالت منه الفاقة فراحت عيون الفقر فيه تحدّق في مرآة الجود والكرم ...

وفينا مَن ينتظر مَن طال غيابه ، الذي يظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

حتى هذا الذي ينتظر الغائب العظيم تتفاوت مصاديقه بتفاوت قراءته لمفهوم الانتظار ، فاختلف منتظرو العودة بين ساكت وناطق ، ساكن وفاعل ، كلا الفريقين يرون النصّ والحجّة تحميهم وتسندهم ، فتخبّطت الاُمّه وضاعت ضياع حيرة وتردّد ، وآل واقعنا إلى التقهقر يوماً بعد آخر ، وليس لنا إلاّ أن نسترجع ونحوقل ونهلّل تارةً ، وتارةً نعزف على وتر الانفتاح والإيمان بالعلم والتقنية الحديثة ، تناقضٌ وتهافتٌ لا يحكي سوى حال اُمّة اختارت الراحة والترافة والوصفات الجاهزة .. اُمّة نامت لتحلم بذلك المنقذ الذي يأتي لينتشلها من القعر إلى القمّة دون أن تحرّك ساكناً ، يأتي ويزيل ثلثي أدعياء القيم والعلم والأخلاق من جادّة انطلاقته الكبرى نحو الإصلاح والفلاح .. اُمّة لازالت إلى الآن تبحث وتنقّب في ماء الكرّ هل ينجّسه شيء أم لا ، في حصى المسجد ... دون أن تستفيق من سباتها العميق كي تقف وتقول مقولتها الفاعلة التي تبدّد غيوم الحيرة والضياع


والتقليد والجهل القيَمي المعرفي.

إنّ «اُوباما الفكر» رسالةٌ تجتاح عقولنا وقلوبنا وتزيد من سباتنا ومأساتنا.

أميركا أرسلت بيانها لنا ، سواء كان البيان صادقاً أم خادعاً ، لكنّه حقيقة شفّافة ، أميركا انتخبت الأسود «اُوباما» لتعلن أنّها الأرقى بقيمها وأخلاقها ورسالتها ، فماذا نحن فاعلون يا اُمّة القرآن وخاتمة الرسالات وأساس القيم والأخلاق؟


مات المغنّي

توقّف قلب المعشوق ، رحل محبوب الملايين ، عشرات الاُلوف اصطفّت في تشييع مهيب ، بكاءٌ ودموعٌ وآهاتٌ ونحيب ، محافل تأبين في كلّ مكان ، حزنٌ خيّم على صدور العاشقين ، ثلمةٌ لا يسدّها شيء ، مراثي وأشعارٌ وصرخات : رحلتَ عنّا بعيداً ، تركتَنا وذهبتَ وحيداً ، ما أسرع الفراق ، وهكذا ردّد الجميع بصوت واحد مثير نتاج الراحل الكبير ...

مات مرجع الطائفة ، مات المجتهد الفقيه ، مات العالِم ، مات وليّ الله ... كلاّ.

نعم ، مات المغنّي الشاب ، فاهتزّت الأرض تحت وطأة أقدام الوالهين ، مات فخيّم الوجد على القلوب والأذهان ووسائل الإعلام وسائر المحبّين ، مات المغنّي فبات حديث الساعة ونجم الساحة بلا أيّ منازع قرين.

أيّة رسالة وإشارة ، بل أيّة صراحة وشفّافيّة هذه التي عبّرت عنها الملايين بتعاطفها مع المغنّي الشاب؟


أتراها تحمل خطاباً ومفهوماً واحداً محتواه :

مللناكم ، مللنا أساليبكم ، أتعبتنا مناهجكم ، سئمنا أدواتكم؟ وإذا أحسنّا الظنّ بهم فإنّهم ربما أرادوا القول : لسنا ضدّ الدين ، نحن مسلمون شيعة ، لكنّا نبحث عن فهم متكيّف للدين يحفظ الاُصول ويلبّي الحاجة.

هل يبدو الأمر طبيعيّاً ، أم نحن بحاجة إلى مراجعة جادّة وإعادة قراءة واعية واستقراء علمي وتحليل منطقي ومقارنة دقيقة وبعثرة معرفيّة وتمسّح شامل ، تقود جميعاً إلى استنتاج ونتائج تنطوي على معالجات واقعيّة لواقعنا المأزوم ثقافيّاً؟

أم نبقى نصرّ على التمسّك بالقشور والمظاهر وأوهام المسرح والاستعراض ، نظلّ غاطسين في ترف الموائد ولذائذ الرغبة وشهوات الذات ، ونكون ـ للأسف ـ مصداق المرويّ عن ساداتنا الأطهار (عليهم السلام) حيث نقرّب المتزلّف المتملّق المتلوّن الذليل ونُبعّد الناصح العالم العزيز ..

فإن كان ذاك يقتل ويذبح ويسبي ويحذف ويحرّف بإسم الدين ، فهذا أيضاً يستبدّ ويبرّر ويفعل ما يحلو له بإسم الدين .. كلاهما وجهان لعملة واحدة ، عملة المتاجرة بالدين الحنيف وقيم رسالة ربّ العالمين.

كان المغنّي الشاب مغموراً غير معروف عند أغلب الذين ندبوه وبكوا لأجله ، لكنّ موته أوجد الذريعة وصنع المبرّر كي يعبّروا عن اعتراضهم وسخطهم ، اللذين تعاملت معهما الجهات المختصّة بحكمة وتعقّل.


أمثال هذه الأحداث تحرّك ذاكرتنا فتعود بنا إلى الذي طالما أوصى وأكّد عليه ساداتنا المعصومون (عليهم السلام) وقادتنا ونخبنا من «أنّ الدين هو الحبّ لا غير» .. والحبّ يعني إرساء ثقافة الخير والسلام والوئام إرساءً ميدانيّاً فاعلاً على الدوام.

ولطالما أصرّت الرموز الخيّرة على الأساليب الحضاريّة برفض العنف والتخندق الطائفي والعرقي والعمل على توحيد الصفّ واحترام الرأي الآخر وحقّ الحياة الحرّة الكريمة لكلّ الناس .. ولعلّ فرصة التناغم والانسجام والتقارب والتنسيق المميّز الحاصل مؤخّراً بين حاضرتي التشيّع العظيمتين ، بين الحوزتين ، بين النجف وقم ، بين النجف وطهران ، بفعل المواقف الحكيمة لروّادهما الأجلاّء .. ستفتح أوسع الآفاق نحو بناء فضاءات دينيّة اجتماعيّة فكريّة قائمة على أساس الحبّ والسلام واحترام حرّيّة الإنسان طبق الاُصول السماويّة والقواعد الشرعيّة.

إنّنا إزاء فرصة تاريخيّة تدعونا إلى استثمار فاعليّة الأقطاب الناشطة في ميادين الدين والحياة ، مع توفّر العمق المكاني الزماني المناسب ، فرصة تدعونا للعمل المشترك على نشر ثقافة التشيّع العقلاني الحواري ، ثقافة العلم والاستدلال ، ثقافة نبذ القشور وتفعيل المضامين المقدّسة ، ثقافة الخير والفلاح والسعادة الإنسانيّة ; كي يكون كلّ شيء في موضعه ووقته المناسبين ، كي تسود الملاكات والموازين والضوابط الصحيحة ، كي لا نوجد المبرّر الذي يطرح علامات الاستفهام المثيرة التي تستهدف قيمنا واُصولنا وأخلاقنا.


التفكير وصناعة الفكرة

ليس أمر مراكز ومعاهد الدراسات والأبحاث الاستراتيجية «ثينك تانكس» بالشيء الجديد في قاموس النخب والطاقات وذوي الاختصاص من حيث العنوان والتعريف والمحتوى ، أو من حيث الضرورة والحاجة والأهمّيّة ، ولسنا في مقام الترويج أو التقليد والتبعية لمناهج الآخرين.

إنّما نحن بصدد إثارة عمق الحاجة إلى توفير الفضاءات المناسبة ـ تحت أيّ مسمّى كانت ـ لصناعة الفكرة ، ومن الواضح جدّاً مدى حسّاسية وصعوبة صنع الفكرة ، بل لا شكّ أنّ الفكرة التي تحظى بالقبول إنّما هي التي تحفظ الاُصول وتراعي الظرف ، حينها ينطلق سعي الترويج لها من أجل نيل التأييد الأوسع ثم النزول بها إلى ميدان العمل والتجسيد ..

ولعلّ الفكرة المصنوعة المبتكرة أو المطروحة عموماً قد تكون عبارة عن مشروع كبير أو صغير ، اقتراح ، نصيحة ، تحذير ، تذكير ، معلومة ، إحصائية ... ذلك في ألوان الميادين العلمية والثقافية والأخلاقية والعَقَدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والفنّية وماسواها.

بمعنى : أنّا نفتقر الاستقطاب اللازم والاهتمام الخاصّ والعناية


الفائقة والاستفادة القصوى من ذوي صنّاع الفكرة ، صنّاع الفكرة الذين يرعاهم ـ على سبيل المثال ـ ما يزيد على الألف مركز ومعهد في أميركا ، والتي تغذّي بدورها مركز القرار هناك بأرقى وأخطر الأفكار والمعلومات ، أو ما يقارب الثلاثين مركزاً ومعهداً مماثلاً في إسرائيل بما يزيد ٣٠% على نظائرها مجتمعةً في كلّ الدول العربية.

النخب والطاقات وذوو الاختصاص هم العملة النادرة في كلّ اُمّة وبلد ، هم ـ عندنا أيضاً ـ شحنات هائلة من الرؤى والأفكار التي تنتظر التسريب الإيجابي .. شتّى مرافق الحياة تحتاج الفكر النابض الذي يمنحها مقوّمات البقاء والاستمرار والازدهار.

نحن بحاجة ماسّة إلى كلّ المشاريع والاقتراحات والنصائح والتحذيرات والتذكيرات والمعلومات والإحصائيات التي تحفظ لنا أصولنا وترسّخ قيمنا وتنشر مبادئنا الحقّة بما يتناسب مع متطلّبات الظرف.

ولا يمكن بلوغ المرام إلاّ بنفض غبار التفكير القروسطي والتكيّف مع العصر ـ شرط الالتزام بما أسلفناه أعلاه ـ ومفتقراته الضرورية ، وبدون ذلك سنبقى مجرّد اُمّة وشعب وطائفة تتغنّى بماضيها التليد بتراجع تصاعدي مقرون بالذلّ والهوان وعظائم الأخطار والخسائر الجسام.

وكيف لنا دوام الخضوع والاستسلام لهذا الواقع المرير ونحن أتباع رسالة وشريعة ودين ومذهب ندّعي بقوّة أنّه الذي يجيب عن سؤال الحياة الكبير ويمتلك كافّة مقوّمات الرقيّ والشموخ بالإنسان شطر الكمال والسعادة الأبدية؟!


العقل

النفس والعقل والدين والعرض والمال ، أو ما تسمّى بـ : «الضرورات الخمس» ، غير مقتصرة على فرد أو مجموعة أو اُمّة ، إنّها تغطّي الإنسانيّة برمّتها ، ولسنا بصدد البحث في أهمّيّة كلّ واحدة منها ; إذ العنوان يدلّل عليها ، فلا داعي إلى تسليط الضوء حولها ولاسيّما ونحن نروم التمحور حول موضوع ومقصد معيّن.

موضوعنا «العقل» فهو اللاعب الأهمّ بين الخمس ، فلولاه ـ وهو الذي لم يخلق الله قبله شيئاً كما ورد في النصّ ـ لم نفهم شيئاً من كلّ شيء حتى الضرورات ذاتها ، ولم ندرك معنى القبول والرفض ، الحدود والمضامين ، الحركة والسكون ... إنّه الذي يوجّه الجوارح عندنا ويقودها كما ينبغي أن تكون ، وعلى جناح الأولويّة يقود بنا الأفكار ، بل يصنعها وينشؤها ، فلا يمكن تصوّر حياتنا بدونه ولا معنى لها خارجةً عنه.

انّه يحفر دوماً لتدوم الحياة بشكل أفضل ، يحفر في القديم ليستخرج منه الجديد ، كي لا نتخلّف عن ركب الحركة ، فإذا ما تخلّفنا عنها فإنّنا نتراجع ثم نتراجع ، وحصيلة التراجع عزلةٌ وسكونٌ وموت ، ولسنا نروم


الجديد من قديمنا فقط ، بل نرومه لنحصل عليه ونطمئنّ على بقائه واستمراره ، وباستمراره يستمرّ الحفر ، وهكذا.

وإذا ما استمرّ الحفر ، حفر العقل ، فإنّنا أصحاب الخيار والقرار ، نعلم هل نأخذ أم لا نأخذ ، وإذا قرّرنا الأخذ فإنّنا نعلم معايير واُطر وظروف الأخذ ، كي لا نسقط في مهاوي التقليديّة المفجعة ونظائرها.

إنّ العقل علّمنا من الدين بأ نّه ذو محاور ثلاثة : المرسِل ـ بكسر السين ـ والمرسَل ـ فتح السين ـ والمرسَل إليه ، علّمنا بأنّ الدين ناتج الثلاثة ولا يمكن حذف أيّ أحد منها. كما علّمنا أنّ الميتافيزيقيا واللاهوت يمكن تحليلها علمياً بحيث نستطيع التعامل معهما عقلانيّاً ، أعني : إذا ما تمكّن العقل من استخدام الأدوات المتاحة بالشكل والمحتوى السليم فإنّ الغيبيّة تتحوّل شيئاً فشيئاً فيكون الله حاضراً فينا حضور اليقين ، وتصير المعادلة عقلانيّة خاضعة للمعايير الطبيعية ، أي حينما يتحوّل الغيب إلى مادّة بحث عقلانيّة فهذا يعني بلوغ الإيمان مراحله الشاهقة الرفيعة ، ونغدو عبدة من نراه ، وهل من رؤية أدقّ وأثبت وأجمل من رؤية العقل ، فالعقل إذا ما رأى فإنّ رؤية الحسّ لا قيمة لها بإزائه إن رام تخلّفاً أو اعتراضاً ، والمقصود «بالحسّ هذا» حسّ الآخر ، وإلاّ يستحيل للعقل أن يستيقن ويعلم ثم يخالفه الحسّ في ذات الدائرة ، أي في الذات الإنسانيّة الواحدة; إذ العقل حاكم على الحواس ، وحكمه مقدّم وراجح عليها وليس العكس.


بعبارة اُخرى : بإمكان العقل بأدواته العلميّة الصحيحة أن يتعامل مع الغيبيّات تعاملاً عقلانيّاً يقود إلى فتح آفاق راقية من الإيمان قائمة على الرؤية العقليّة ، وبما أنّها أرقى أنواع الرؤية فإنّها تعود إلى نحو آخر من الإيمان بالله قائم على العقلانيّة ، الأمر الذي يدحض أفخم حجّة المنكرين ; حيث عابوا علينا غياب العقلانيّة في أدلّتنا واحتجاجاتنا ونحن الذين نمتلك فضاءً أوسع ومجالاً أرحب كي نسخّر العقل نحو بلوغ العلم واليقين بالله ، نحو تحويل الغيب إلى حضور ، حضور عقلي ، نحو تحويل ما وراء الطبيعة إلى طبيعة ، طبيعة عقليّة ، وهل شيءٌ أقدس وأشمخ وأرقى من العقل في الوجود الإنساني حينذاك؟!

لا ننكر هيمنة ثقافة الوثوقيّة «الدوغمائيّة» على فضاءاتنا وتكبيلها لحركة العقل عندنا رغم تنصيبنا العقل دليلاً من أدلّتنا الأربعة الرئيسة ، ولهذه الهيمنة أسبابها ودواعيها :

منها : سيطرة الفكر الارثوذكسي التقليدي على ثقافتنا ومعارفنا ، وهاجسه : خطر الانجراف نحو الحضارات الاُخرى التي تصادر وجودنا وهويتّنا وانتمائنا.

ومنها : غلبة الشعاريّة والقشريّة والاستعراضيّة على الجوهر والأصل والمحتوى.

ومنها : فشلنا في الحفر في الثوابت والاُصول للحصول على الجديد الذي يتأقلم زمكانياً مع الأحداث والقضايا بشتّى صنوفها ورتبها ...


لا يمكن لهيمنة الدوغمائيّة أن تدوم إلى الأبد ونحن بأمسّ الحاجة إلى فهم وتفسير واستنباط أكمل وأشمخ وأعمق وأحدث ، ولاسيّما أنّ الضعف فينا ضعف الأدوات والآليّات والمناهج لا ضعف الجوهر والأصل والمحتوى.

ولا يجدر بنا خشية المنهج العلمي ، فهو الذي يراجع ويستنطق ويقارن ويستقرئ ويتمسّح ويحلّل ويسجّل ويستنتج ، فيرسم ويثبت نتائجه طبق البرهان والدليل ، بلا استباقيّة ، أي الحكم تابع للدليل. وهذا ما نؤمن به نحن في اُصول مناهجنا وجوهر مضاميننا ، فلِمَ الخشية إذن ولِمَ الانغماس في الدوغمائيّة ونحن الذين رفعنا دوماً شعار «نحن أهل الدليل حيثما مال نميل» وجعلنا العقل ركناً شامخاً وضّاءً من أركان أدلّتنا الأربعة الرئيسة؟!

فإذا ما أردنا النهوض والحركة والنموّ والثبات والفلاح فإنّنا محكومون لا محالة بممارسة المناهج العلميّة السليمة في التعامل سواء مع اُصولنا وثوابتنا أم مع وارد الحضارات الاُخرى ; لنعلم يقيناً ماذا نريد وماذا نختار ، لنعلم متى وأين وكيف.


العقل والشعور

الغالب على العلاقة بين العقل والعاطفة حالةٌ من التجاذب والنزاع ، فكثيراً ما نحتاج إلى الصراخ والعويل والبكاء كي نتجاوز أزمةً عصبيةً ونفسيةً ، الأمر الذي يقترن نوعيّاً بالقرارات العجولة غير المدروسة ، فبات انتصار العاطفة يشكّل منعطفاً خطيراً ذا نتائج سلبيّة تنعكس على الذات بشتّى معانيها ، سواء الذات الإنسانيّة بما هي هي ـ فرد واحد ـ أو ذات الاُمّة والمجتمع والبشريّة بأسرها.

وللحيلولة دون انتصار العاطفة لابدّ من نسق .. ومنهج علمي سليم وثقافة تؤسّس لكلّ ما من شأنه الاحتكام إلى العقل والعقلانيّة والرجوع إلى الذات المفكّرة ، الذات التي تستوعب النزاع وتنأى متعاليةً عن كلّ أنواع الاستفزاز والابتزاز ، آنذاك ترقى المعالجة وتسمو النتائج وينكمش الخطر ويسود الخير ويعمّ الأمن والسلام.

لكنّنا في مشكلة حقيقيّة ; إذ كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى ، فصار الوقوف على النهج الصائب والثقافة الصالحة ثم الارتواء منها وبلورة رؤاها وأنساقها هو شغل البشرية الشاغل ، فتعدّدت المذاهب والنظريّات


والتيّارات بتعدّد الأفكار ورواشحها وأخذ الصراع أساليب وأدوات مختلفة ، وازدادت الإنسانيّة حيرةً وتيهاً وضياعاً ، وتدخّلت الرغبة تدخّلاً سافراً في خلق الأفكار وصياغة المناهج ، بل جالت في أروقة المطلق المقدّس وبقيت تسعى للنيل من جلالته وشموخه ، فصار التأويل البراغماتي سيّد الموقف مسبوقاً بدوغمائيّة بحتة تكادح كلّ محاولة تسعى للفهم الصحيح ، فنتج من ذلك : الارتماء على القشور والتمسّك بالمظاهر وجفاء الجوهر وخشية الولوج فيه.

لقد سئمنا الأفكار والأحكام الجاهزة التي ترفض القراءة المتكرّرة والمراجعة والاستقراء والمقابلة والحفر والتحليل والاستنتاج ، سئمناها كونها تسير بنا إلى جمود وسكون وتعبّديّة محضة وتعطيل لحركة العقل الذي اُريد له أن يكون موّاجاً دوماً وأبداً ، سئمنا لأ نّنا فُطرنا أحراراً ، ومن يخلق حرّاً تبقى الحنايا والأعماق والعقل تهتف به كي يبقى أو يعود إلى حيث فُطر حرّاً ، وإذا ما خُلّي الإنسان وفطرته بلا شوائب فإنّه يرجع إلى حيث ينبغي أن يرجع ، إلى الإيمان الراسخ بوجود المطلق الذي يتحكّم بالكون وبكلّ ما هو نسبي ، حينها ينتفض على فكرة هيمنة النسبي ودعوى أن لا وجود لغيره ، ويتمسّك بالمطلق ، مثلما تمسّك به مجدّداً حين أعلن فشل العقيدة الداروينيّة وعقيدة نهاية التاريخ والايديولوجيا ، وقبلها كان قد دمّر كلّ جهود كوبرينكوس وبيكون ونيوتن وجاليلو وهوك وهيوم وماركس وسارتر ... مثلما دحض الحتميّة الميكانيكيّة واستبدلها بنظريّة الاحتمال التي فتحت اُفقاً جديداً وفضاءً رحباً نحو


العودة إلى الفطرة والإيمان الحقيقي بوجود صانع للكون يدبّر الاُمور وينظّم الحياة.

لقد أخذهم المنهج التجريبي إلى أنأى تخوم الإلحاد والكفر بالمطلق ، ويا للعجب نجد أتراب وتلامذة المنهج ذاته يعودون بالإنسان إلى حيث يجب أن يكون ، يؤمن بالثواب والعقاب وإشراف السماء وإدارتها المذهلة ، فكيف بنا نحن الذين خُلقنا أبناء منهج لا يرى منذ البدء غير رسالة السماء والقرآن معتقداً ومذهباً ، كيف بنا لا نستخدم جناح العقل والعقلانيّة سبيلاً وأداةً وسلاحاً يخلق الترسيخ والإصرار والعزم الأكيد نحو المواصلة الواعية الناضجة ، مواصلة بلوغ الإيمان ، بالمنهجيّة السليمة التي تضمن التعامل الحقّ مع : المطلق والنسبي ، الوحي ، العقل ، الشعور .. حتى نستطيع الوصول إلى حيث يجب أن نصل إليه ، لذا من الضروري بمكان أن نرفض الأغلفة والمظاهر والقشور ونلج العمق والجوهر لندرك معنى الأصل والأصالة ، هذا الإدراك الذي يخلق فينا روحاً جديدة تواقّة إلى الحركة والمثابرة الواعية ، إلى الفهم الصافي والاستيعاب السليم للمبادىء والقيم الإلهيّة ، حينها تسقط صروح وتتلاشى كيانات وتتغيّر رؤى وتشاد على أطلالها شوامخ عزّ وكرامة إنسانيّة قائمة على أركان العقل والعقلانيّة ، فلا تهزّها عواصف الانحراف ولا زلازل الضلال ولا سيول الشبهات.

إنّنا نشجب الفضاءات التي تدعو بشكل وآخر إلى التعبّديّة المحضة وتعطّل حركة العقل والعقلانيّة ، وندعو إلى فضاءات تؤمّن حركة العقل


والعقلانيّة وتمنح فرصة التفكير الحرّ المستند إلى القراءة المتواصلة والمراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل والاستنتاج ، ولا شكّ أن النتائج ستضرّ بكلّ البراغماتيّين والدوغمائيّين وستنفع العقلائيّين والعقلانيّين رافضي الأغلفة والقشور والمظاهر والشعارات والحركات الاستعراضيّة.


مركز الدراسات الاستراتيجيّة

يحدوني الأمل بتأسيس وتشييد معهد أو مركز دراسات استراتيجيّة ، أملاً طالما راود عقلي وأحاسيسي ، أملاً طالما أجد ـ ونجد جميعاً ـ أهمّيّة الحاجة إليه.

طرحت الفكرة أكثر من مرّة لكنّها لم تجد صدىً مؤثّراً في أوساطنا العلميّة والثقافيّة ، مع وقوف الكلّ على الثمار التي يمكن اقتطافها والنتائج الإيجابيّة التي تحصل جرّاء إنجاز مشروع كبير كهذا.

وحسبما أرى فإنّ الإمكانيّات متوفّرة والمقدّمات موجودة لقيام هذا المشروع ، وضروريّ الحال هو العمل والتفكير الجادّ لبناء مركز دراسات استراتيجيّة يلبّي الحاجة ولاسيّما أنّ عالمنا الحضاري محكوم بمناهج وأنساق علميّة ونظم ودقّة خاضعة جميعها لمعاقل معيّنة تغذّيها بالمعلومات الصحيحة والاحصائيّات السليمة والاستشارات الأمينة وتوفّر ما تفتقر إليه من مادّة علميّة ومعرفية وثقافيّة.

إنّها خطوة نحو محاصرة اللاّ نظم والفوضى والإبهام والضعف


المعلوماتي ، ثم الانطلاق نحو صياغة رؤى وأفكار وبرامج تعمل على النهوض الحقيقي بواقعنا المتخلّف.

إنّنا بحاجة إلى العقل الجمعي ، بحاجة إلى الاستشارة الفاعلة الحقيقيّة ، بحاجة كي ننأى بثقافتنا وأساليبنا وأفعالنا عن التفرّد بالقرار ، لنكون أكثر التزاماً ودقّةً ونظماً ونسقيّة ، وأقلّ خطأً ومجازفةً.

إنّ مراكز الدراسات الاستراتيجيّة الجادّة تمنحنا فرصة التحليق في آفاق العقل الجمعي المجافي للاستبداد والديكتاتوريّة والتسلّط الفردي.

نحن نفتقر المراكز والمؤسّسات والمعاهد التي تأخذ على عاتقها كلّ ما بوسعه توفير المعلومة والفكرة والاستشارة والنصيحة والمنهج والآلية والوقاية والعلاج.

ولا ينبغي فهم المراكز المشار إليها على أنّها مجرّد مخازن معلومات وانتهى الأمر ، بل يجب التعامل معها على أنّها مصنع الأفكار وكشّاف الطاقات والمواهب والإبداعات ، وأ نّها التي تستطيع نيل قبول العقل الجمعي ; كونها معقلاً حقيقيّاً لتقييم الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعقائديّة والسياسيّة والثقافيّة ، وهذا ما يوفّر المقدّمات السليمة لتغيير الإنسان والمجتمع طبق القوانين والأحكام والاُصول التي نعتقدها ونؤمن بها.

حينها ندرك «علميّاً» متى وأين وكيف نؤسّس المؤسّسات التي تعني بقضايا الناس واحتياجاتهم ، بقضايا الاُمّة ومشاكلها ، بنقاط الضعف


والقوّة فينا وفي غيرنا.

إنّ الدراسات والبحوث والمطالعات الاستراتيجيّة تمنحنا فرصة الانفتاح والمناورة بفاعليّة أكثر وحركة أدقّ وأسرع ; حيث تساعد على إيجاد أكبر عدد من الخيارات والآليات المنهجيّة ، فتخلق فضاءً مترامياً تصعب معه محاولات التضييق والحصار.

كما توفّر عناء البحث وتختزل زمن بلوغ القرار. إلى ذلك : فإنّها تقف بوجه ثقافة التفرّد والاستبداد وتنشّط الوعي الجماعي الساعي نحو نهضة حضاريّة علميّة شاملة.

ولا شكّ أنّ هذه المراكز تصطدم فكرة إنشائها بعدّة معوّقات وحواجز :

منها : طبيعة بعض النظم الحاكمة والمفاهيم السائدة التي تختلف ثقافتها مع قيام هكذا مراكز.

منها : عدم توفّر الامكانيّات اللازمة سواء الماديّة منها أو افتقاد النخب والطاقات والإدارة الناجحة وما إلى ذلك.

منها : عدم وجود الإرادة والرغبة الحقيقيّة والعزم الجادّ نحو تأسيس هذه المراكز.

منها : بقاء نتاجات هذه المراكز مركونة دون الاستفادة العمليّة والعلميّة منها.

لذا فنحن ندعو إلى دراسات وافية معمّقة تناقش شتّى جوانب


المشروع قبل البدء بتنفيذه ، واستشارات موسّعة تشمل مختلف النخب والطاقات والاختصاصيّين ، ثم البدء بعد كلّ ذلك ببداية مجازية تجريبيّة للوقوف على الفجوات والثغرات والهفوات وردود الفعل المتفاوتة ، مع تسجيل كلّ الظواهر والملاحظات الحاصلة وإخضاعها للمناقشة والتحليل.

وهامّ الأمر هو إيجاد قنوات ارتباط مع شتّى الجهات والمنظّمات والمعاهد والشخصيّات التي بإمكانها الإفادة والاستفادة من نتاج مركز الدراسات الاستراتيجيّة ; إذ كسب المعلومة وتسويقها بالشكل الصحيح والوقت المناسب يفتح اُفقاً رحباً لمجالات الإبداع والابتكار والحركة الدؤوبة نحو بذل المزيد من العطاء والنتاج الذي يخدم مختلف المعاقل العلميّة والمعرفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والدينيّة وغيرها.


معاهد الدراسات والبحوث الاستراتيجيّة حاجةٌ وضرورة

قيادة الاُمّة صوب الخير والازدهار تعني الاستفادة من كلّ الآليات والأدوات والإمكانيّات المشروعة لحفظ الاُصول والثوابت وحماية القيم والمبادئ وتوفير الفضاء المناسب لعمليّة الترسيخ والتفعيل والتوسيع ، ممّا يضمن إرساء السبل الكفيلة بتحقّق العيش الكريم. وهذا يعني تظافر الجهود والطاقات الفكريّة والمادّيّة وتحرّكها بالشكل الصحيح القائم على المنهج العلمي السليم.

وتلعب قيادة الاُمّة دوراً حاسماً في توجيه عمليّة البناء برمّتها توجيهاً يتطابق مع الشروط اللازم حصولها في تشييد المجتمع الصالح ، من حفظ الاُصول والثوابت إلى آلية التفعيل الإبداعي الناجع للثروات الفكريّة والمادّيّة ، إلى التعامل الدقيق البنّاء مع الجديد والحديث بلا تنافر مع الأصالة والتراث ، حين نجد الماضي بخصائصه حاضراً في الحال والمستقبل ، حين نجعل اليوم ـ المفعم بروح الحركة والتطوّر والتغيّر ـ متجانساً مع عنفوان الأمس السامي ، عنفوان الجذور والأصالة والقيم والمبادئ ، عنفوان التكيّف الزمكاني ، انبثاقاً من قاعدة : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ


ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) (١) ; فكما يرى صاحب الميزان ، من أنّ : «الاعتقاد الحقّ الثابت والقول بالوحدانيّة والاستقامة عليه هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغيّر وزوال وبطلان ، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه ، من عقائد حقّة فرعيّة وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيّبة ويعمر بها العالم الإنساني حقّ عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدّى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح .. غير أنّ المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرّع عليه سائر الاعتقادات الحقّة ، وتنمو عليه الأخلاق الزاكية ، وتنشأ منه الأعمال الصالحة» .. فنحن لا نؤسّس لفكر أو نهج جديد في ظلّ السباق الحضاري والازدهار التقني الكبير والتباري المبادئي القيَمي الذي لم يهدأ لحظة أبداً ، حيث التمحور حول التوحيد المعهود أساس وغاية ومنهج الفكر الذي نعتقده.

نعم ، القراءة المطلوبة للنصّ هي القراءة الصحيحة الواعية بما فيها من مراجعات ومقارنات وتحليلات واستقراءات واستنتاجات ، كلّ ذلك بأدوات علميّة معرفيّة كفوءة تأخذ بنا إلى نتائج سليمة ملموسة ، إلى خطط وبرامج وأفكار واستراتيجيّات تمتاز بتسخير الجديد ومعالجة

__________________

١. سورة إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.


المتغيّرات وحلّ إشكاليّة المستحدثات على قاعدة حفظ الثابت وترسيخ الاُصول ، إنّنا ـ في مفروض اعتقادنا ـ على العهد من حفظ العهد والأمانة والتمسّك بخلود ذاكرة واحدة في الذهن ، ذاكرة العبوديّة لله الواحد الصمد ، إلى إثبات تكيّف الدين مع شؤون الحياة رغم التباينيّات الزمانيّة والمكانيّة.

إنّه عهد ثبوتي عرفته الأذهان والمدوّنات وأدبيّات الهويّة والانتماء ، أمّا فضاء التصديق وميدان الممارسة والإثبات فيستدعي التظافر الشامل ، ولا شكّ أنّ الحركة بأنواعها إن كانت ضمن السياق العلمي المنهجي فإنّها حركة مباركة معطاء تمدّ عالم الثبوت بمقوّمات النهوض والسير بإحكام صوب عالم الإثبات ، ومرحلة الانتقال هذه وما بعدها هي من أشدّ المراحل خطورةً وحسّاسيّة ; إذ بإمكانها أن ترسم مصير فكر وقيم اُمّة بأكملها ، فالفشل سيكون وقعه رهيباً والنجاح سيكون وقعه مهيباً ; لذا فلا محلّ للعواطف والقشريّات والزوائف والركائك وعناصر الخلل والضعف والنقص هنا.

انطلاقاً من ذلك ، فإنّ قيادة الاُمّة ومؤسّساتها ومراكزها وسائر عناصرها الرامية إلى نقل القيم من عالم الثبوت إلى عالم الإثبات لا تألو جهداً ولا تدّخر مسعىً بإمكانه المساهمة في بلوغ المرام ، ولا ريب فإنّ الرموز والمحاور والنخب المختصّة والخبراء بإمكانهم توفير البناء واختزال المشاقّ الملقاة على عاتق القيادة والمعاهد المسؤولة من خلال الدراسات والبحوث والمطالعات والاستقراءات والتحليلات والتجارب


والآراء ، الميدانيّة منها والفكريّة ، المسبوقة بالوقوف على نوع الحاجة والخلل والنقص والضعف. إنّ هذا النوع من الجهد سيجعل القيادة ومراكز القرار ذات دعائم استشاريّة وخزائن كافية من الحلول والآراء والاستقراءات والمعلومات التي تختصر العناء الكبير في إطار رفع الخلل وردم الهوّة وإصلاح الخطأ ، على قاعدة الإبداع والابتكار الحافظ للثوابت. ومعلومٌ أنّ القيادة وتلك المعاهد مهما سمت بخصائصها وقدراتها فإنّها غير متمكّنة من القيام بكلّ ذلك الجهد المذكور .. نعم ، ستكون متمكّنةً أكثر في انتخاب الأفضل إذا ما استعانت بتلك الكفاءات التي تضع بين يديها الخيارات العديدة.

إنّنا بحاجة إلى مراكز ومعاهد متخصّصة ترفد الاُمّة وقيادتها ومؤسّساتها بما تفتقر إليه من دراسات ومطالعات وبحوث وتحليلات واستقراءات وآراء وتجارب في شتّى المجالات العلميّة والفنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة وغيرها.

إنّنا بحاجة إلى مراكز إعلام وصحافة مسؤولة تعكس نشاط وجهد الاُمّة والقيادة ، الأمر الذي يوجد فضاءً من الهمّة والاندفاع والتماسك والتآزر وشعوراً مفعماً بالأمل في واقع يسوده الأمان والنموّ والازدهار.

إنّنا بحاجة إلى نظام علمي عملي يربط محاور قيادة الاُمّة ومؤسّساتها في مختلف أرجاء العالم بشبكة ذات برامج ومشاريع معيّنة قائمة على التنسيق والتشاور والتلاقح ، وبمقدار ما هي بعيدة عن المركز


فإنّها قريبة منه بفضل النظام المشار إليه.

إنّ المشاريع والمراكز والمؤسّسات والمجمّعات التي أنشأتها وتنشؤها قيادة الاُمّة وممثليّاتها في شتّى أصقاع الدنيا يجب أن لا تكون مجرّد إسقاط تكليف أو ردّ إشكال أو دفع دخل مقدّر ; فالاكتفاء بالعناوين والمسمّيات لا يتناسب مع شأن قيادة تروم نقل الاُمّة إلى واقع جديد يسوده العدل والصدق والخير والأمان.

إنّ كلّ معقل من هذه المعاقل لابدّ أن يكون مصدر حركة دؤوبة من النشاط والعلم والإنتاج على قاعدة ترسيخ القيم والمبادئ وتفعيلها ونشرها وتوسيع آفاق مخاطبيها ، لا أن تكون مجرّد مكتوبات ـ مثلاً ـ اقتُنيت من شتّى معارض بيع الكتب بأسعار باهضة الثمن فنامت على رفوف الغبار بانتظار ذلك الذي يتصفّحها أو يستفاد منها إذا ما احتاج إليها ، ثم نفاخر بخزين من الكتب لدينا بلغ كذا ألف وألف. وهكذا الحال بالنسبة إلى المخطوطات وغيرها. بل وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المشاريع التي لابدّ أن تخرج من دائرة القشور والمظاهر والتفاخر لتَرِدَ مجال العمل والإنتاج الفاعل. وهل يغنينا بناء الفروع والصروح في هذه الدولة أو تلك ، إن لم تمنح فرصاً وسبلاً عظيمة لنشر قيم الحقّ والعدل والإنسانيّة ، كعظمة الأموال التي اُغدقت عليها.

إنّنا بحاجة إلى فلتر وجهاز رقابة ومحاسبات ، كلٌّ حسب التخصّص والمهامّ والمسؤوليّات المناطة به ، فالتسيّب والفساد في المراكز


والمؤسّسات التابعة يعني أضراراً فادحة على شتّى الأصعدة المادّيّة والاعتباريّة.

إنّنا بحاجة إلى جداول بيانيّة علميّة تكشف ـ بما لا يقبل الغموض واللبس ـ بالأرقام والإحصائيّات مدى صعود هذا المركز أو هبوطه في مختلف المستويات.

إنّنا بحاجة إلى مداولات ونقاشات وتبادل آراء على أرقى المستويات لتشخيص موارد الحاجة وأساليب الوقاية والعلاج والابتكار.

إنّ الخطوات الحكيمة التي اتّخذتها المرجعيّة الدينيّة ـ كمثال لقيادة الاُمّة ـ والآراء السديدة والمواقف الخالدة والدور الأساس في حقن الدماء وإنهاء الصراعات الداخليّة والطائفيّة وإرساء اُسس السلام والأمان ، هي دلالات وقرائن الوفاء والإخلاص والذوبان في القيم والمبادئ والثوابت المقدّسة نتج عنها جميعاً : استقطابها العقول والقلوب على السواء وذياع صيتها واختراق شهرتها الآفاق ; فقد أدرك الجميع مدى الصلابة والحنكة والحكمة والتدبير والعقلانيّة التي تمتاز بها هذه المرجعيّة المباركة ، مضافاً إلى تلك الهيبة والجلال والزهد الربّاني وعلوّ الشأن الإنساني ، التي تجعلها مترفّعةً عن أسواق المتاجرات والمزايدات الرخيصة.

المفترض بنا قراءة خصائص القيادة قراءةً سليمة وفهمها فهماً واعياً والاغتراف من معين رؤاها وقيمها ومبادئها وثوابتها التي تعني التمحور


حول أصل التوحيد والانطلاق من قاعدته لإرساء آليات الهداية والخير والفلاح.

إنّ دراسة خصائص وأفكار وممارسات القيادة عبر البحث والمطالعة والتحليل العلمي المنهجي الموضوعي يمنح الاُمّة فرصاً كبيرة من الفهم المعمّق والدرك المعرفي الصحيح لأفكار قيادتها المباركة ورؤاها السامية.

نعم ، الاُمّة مفتقرة لهكذا مشاريع ، لا القيادة ذاتها ، وإن احتاجت القيادة فإنّها إنّما تحتاج ما يوفّر عنها عناء الخوض في قضايا ومسائل بإمكان الكفاءات من ذوي الخبرة والاختصاص توفيرها ، لتصرف همّتها للأهمّ من القضايا والمسائل.

لذا ـ وكما أسلفنا ـ فإنّ إنشاء المعاهد الاستراتيجيّة ومراكز المطالعات والأبحاث العلميّة ، والمعاقل الإعلاميّة ، ولجان التنسيق والرقابة ، القائمة على المحاسبات العلميّة والجداول الرقميّة والبيانيّة ... كلّ ذلك سيجعل القيادة ماضية بثبات وفراغ بال أكثر للانتقال بالقيم والمبادئ من عالم الثبوت إلى عالم الاثبات ، إلى عالم يحفظ الأصالة والثوابت ويؤمن بالتجدّد والتغيير على قاعدة الآية المباركة المشار إليها آنفاً.



من مقدّمة تحقيق كتاب ذكرى الشيعة............................................... ٥

من مقدّمة تحقيق كتاب نقد الرجال............................................... ٤١

من مقدّمة تحقيق كتاب منتخب الأمثال........................................... ٤٥

من مقدّمة تحقيق كتاب نهاية الوصول إلى علم الاُصول............................... ٤٩

تكامل الاُصول الشيعي....................................................... ٦٥

نهاية الوصول إلى علم الاُصول................................................. ٧٩

مقدّمةٌ على كتاب معجم رجال الشيعة............................................ ٨١

كشف وتقييم المخطوطات.................................................... ٨٨

الفهرسة.................................................................... ٩١

التخصّص في علم الرجال..................................................... ٩٢

معجم أعلام الشيعة.......................................................... ٩٤

مقدّمةٌ على كتاب أهل البيت في المكتبة العربيّة..................................... ٩٦

كلمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) الواردة في كتاب «المحقّق الطباطبائي في ذكراه السنويّة الاُولى»        ٩٩

نعي العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين (رحمه الله).............................. ١٠٥

أربعينيّة العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين (رحمه الله)............................ ١٠٧

مصطفى جمال الدين بين التكريم والتأبين......................................... ١١٢


أبوحسن مجلّة................................................................. ١١٦

ريحانتي...................................................................... ١١٧

ذلك الشيخ الكبير............................................................ ١١٩

قالها ورحل................................................................... ١٢٢

رقابة النقد البنّاء.............................................................. ١٢٦

وقفة نقديّة / ١.............................................................. ١٢٩

وقفة نقديّة / ٢.............................................................. ١٣٤

وقفة نقديّة / ٣.............................................................. ١٣٧

وقفة نقديّة / ٤.............................................................. ١٤١

معنى الذات.................................................................. ١٥٦

حديث الذات................................................................ ١٥٨

حديث القلب................................................................ ١٦٠

نقد الذات / ١............................................................... ١٦٢

نقد الذات / ٢............................................................... ١٦٤

أسَدٌ على غيري نعامةٌ على ذاتي؟!.............................................. ١٦٨

رقابة الذات.................................................................. ١٧١

وقفة الذات.................................................................. ١٧٥

التعارض الذاتي............................................................... ١٧٩

عبٌ ثقيلٌ أنا................................................................. ١٨١

«نفّذْ ثم ناقِش».............................................................. ١٨٤

الأنا......................................................................... ١٨٧


يقول السلطان................................................................ ١٨٩

مصادرة الجهد................................................................ ١٩٢

ماذا أنا؟..................................................................... ١٩٤

أبحث عن ضالّتي.............................................................. ١٩٦

ماذا استفدتُ وأفدت؟........................................................ ١٩٨

من الناس ، إليهم ، فيهم...................................................... ٢٠٢

أخشى من نفسي على نفسي.................................................. ٢٠٥

لاحت آفاق الخمسين......................................................... ٢٠٨

ماذا دهاك يا قلبي؟............................................................ ٢١٢

حلمٌ إيماني................................................................... ٢١٥

آهات الروح.................................................................. ٢١٧

لحظةٌ واحدةٌ تكفي............................................................ ٢١٩

بين البقاء والرحيل قولٌ بالتفصيل................................................ ٢٢٢

قريب الأشياء وبعيده.......................................................... ٢٢٥

القرب والبعد................................................................. ٢٢٩

ماذا تعلّمت؟................................................................. ٢٣١

أتعبني الجمال................................................................. ٢٣٥

مفهوم الجمال................................................................ ٢٣٨

النبتة المغرورة.................................................................. ٢٤٠

هذا ما وصلني من صديق...................................................... ٢٤١

سأبقى بكلمتي فهي سيفي..................................................... ٢٤٤


بمن نلوذ؟.................................................................... ٢٤٧

بمن نحتمي؟.................................................................. ٢٥٠

بين الأسف والألم تذكرةٌ وتحذير................................................. ٢٥٦

متى نصحو؟................................................................. ٢٦٠

من وحي التجربة.............................................................. ٢٦٢

شيخنا الجليل ، السلام عليكم.................................................. ٢٦٤

غربة الروح................................................................... ٢٦٦

وقفة أخلاقيّة................................................................. ٢٧٢

ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.................................................... ٢٧٦

الصيام قانونٌ وأخلاق......................................................... ٢٧٨

بمَ اُفكّر وماذا اُريد؟........................................................... ٢٨٤

أتمنّى........................................................................ ٢٩٢

معنى العشق.................................................................. ٢٩٥

الفنّ الإلهي................................................................... ٢٩٧

مكمن السرّ.................................................................. ٢٩٩

أيّ ملاذ أروم؟............................................................... ٣٠٠

أرحل أم أبقى................................................................ ٣٠٢

طموحي..................................................................... ٣٠٤

جرح الصميم................................................................. ٣٠٥

أنا هنا....................................................................... ٣٠٧

همسة شوق.................................................................. ٣١١


لِمَن الشوق؟................................................................. ٣١٤

يا صاحبي.................................................................... ٣٢٤

خذلان الصاحب الرفيق....................................................... ٣٢٦

خلوة الليل................................................................... ٣٣٠

اعلموا....................................................................... ٣٣٢

ماذا يعني لنا الحبّ؟........................................................... ٣٣٤

حبّ الناس / ١.............................................................. ٣٣٦

حبّ الناس / ٢.............................................................. ٣٣٨

القلب والعقل كلاهما يريد...................................................... ٣٤٠

إشارتان...................................................................... ٣٤٢

ترويض الأحاسيس............................................................ ٣٤٤

الصنميّة..................................................................... ٣٤٨

آفة الشهرة................................................................... ٣٥٧

الغاية والغرض................................................................ ٣٥٩

الضمان والأمان.............................................................. ٣٦١

زمرة الكبار................................................................... ٣٦٥

أساس العلاقات.............................................................. ٣٦٩

سحر المظاهر................................................................. ٣٧٣

حينما تحلّ الصدمة............................................................ ٣٧٥

محطّتان...................................................................... ٣٧٧

ماذا نفهم؟................................................................... ٣٨٣


الطاعة والعصيان.............................................................. ٣٨٦

مفهوم التكريم................................................................ ٣٨٨

فيلم جديد................................................................... ٣٩٠

زعلة العصفور على بيدر الدخن................................................. ٣٩٣

من جاء بالحسنة.............................................................. ٣٩٦

وهل يجدي الإسكات نفعاً؟.................................................... ٤٠٠

حلقات الصراع............................................................... ٤٠٣

صراعات الحلقات............................................................. ٤٠٦

«رفسنجنة إيران» بين الواقع وماهيّة النوايا........................................ ٤١١

إلى متى يا عراق؟............................................................. ٤١٥

إليك يا عراق................................................................ ٤١٩

اُوباما رسالة الغرب............................................................ ٤٢٢

مات المغنّي................................................................... ٤٢٦

التفكير وصناعة الفكرة........................................................ ٤٢٩

العقل....................................................................... ٤٣١

العقل والشعور................................................................ ٤٣٥

مركز الدراسات الاستراتيجيّة.................................................... ٤٣٩

معاهد الدراسات والبحوث الاستراتيجيّة حاجةٌ وضرورة............................. ٤٤٣

المحتويات..................................................................... ٤٥١

نفحات الذات - ٢

المؤلف:
الصفحات: 456