
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقصد الثالث ـ في
التكفين
ولا خلاف فيه
نصا وفتوى من كافة المسلمين ، وفيه فضل جزيل ، فروى في الكافي في الصحيح عن سعد بن
ظريف عن الباقر (عليهالسلام) قال : «من كفن مؤمنا كان كمن ضمن كسوته الى يوم القيامة».
ورواه الشيخ والصدوق مثله. ويستحب إعداد الإنسان كفنه لما رواه في الكافي عن
السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أعد الرجل كفنه فهو مأجور كلما نظر اليه». وعن
محمد بن سنان عمن أخبره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من كان كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين
وكان مأجورا كلما نظر اليه». وروى الصدوق في الأمالي عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق
عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : إذا أعد الرجل كفنه كان مأجورا كلما نظر اليه».
وفي هذا المقصد
مسائل (المسألة الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب ان الكفن المفروض ثلاثة أثواب :
مئزر وقميص وإزار. والمراد بالمئزر عندهم ـ وهو بكسر الميم ثم الهمزة الساكنة ـ ما
يستر ما بين السرة والركبة ويجوز كونه الى القدم بإذن الورثة أو
__________________
وصية الميت النافذة ، قالوا ويحتمل الاكتفاء فيه بما يستر العورة لأنه موضع
ابتداء سترها ويستحب ان يكون يستر ما بين صدره وقدمه. والمراد عندهم بالقميص ما
يصل الى نصف الساق لانه المتعارف ويجوز الى القدم بمراعاة ما تقدم ، ويحتمل جوازه
مطلقا. والمراد بالإزار بكسر الهمزة ثوب شامل لجميع البدن ، قالوا ولا بد من
زيادته على ذلك بحيث يمكن شده من قبل رأسه ورجليه ، والواجب فيه عرضا ان يشمل
البدن ولو بالخياطة ، وينبغي زيادته بحيث يمكن جعل أحد جانبيه على الآخر كما تشهد
به الأخبار. ونقل عن سلار الاكتفاء بثوب واحد اختيارا.
وأنت خبير بان
ما ذكره الأصحاب من هذه الأثواب الثلاثة المعينة لم يوجد له مستند ظاهر من الاخبار
الواردة في المسألة وانما الموجود ثوبان وقميص أو ثلاثة أثواب والمتبادر منها
كونها شاملة للبدن كملا ، ولهذا صرح جملة من متأخري المتأخرين ان الكفن المفروض
انما هو هذا وان ما ذهب إليه الأصحاب من المئزر الذي يربط من السرة أو الصدر إلى
الركبة أو الى القدم لا مستند له في الأخبار ، قال في المدارك بعد البحث في
المسألة : «واما المئزر فقد ذكره الشيخان وأتباعهما وجعلوه أحد الأثواب الثلاثة
المفروضة ولم أقف في الروايات على ما يقتضي ذلك بل المستفاد منها اعتبار القميص
والثوبين الشاملين للجسد أو الثواب الثلاثة» وعلى هذه المقالة تبعه من تأخر عنه من
محققي متأخري المتأخرين.
وعندي فيه نظر
يحتاج بيانه الى تقديم كلام في المقام لينجلي به غياهب الإبهام ، وهو ان الظاهر ان
الإزار شرعا ولغة انما هو عبارة عما يشد في وسط الإنسان وان المئزر بمعناه وربما
أطلق في اللغة على الشامل للبدن ، قال في مجمع البحرين : وقد تكرر في الحديث ذكر
الإزار بالكسر وهو معروف يذكر ويؤنث ، ومعقد الإزار من الحقوين. وفي كلام البعض من
أهل اللغة الإزار بالكسر ثوب شامل لجميع البدن. وفي الصحاح وغيره المئزر والإزار
يلتحف به ، وفي كتب الفقه يذكرون المئزر مقابل الإزار ويريدون به غيره ، وحينئذ لا
بعد في الاشتراك ويعرف المراد بالقرينة ، وفي الخبر «أزره المؤمن الى نصف
الساق ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين» الازرة بالكسر الحالة والهيئة
الاتزار كالركبة والجلسة انتهى ملخصا. واما الاخبار الدالة على ان الإزار شرعا
عبارة عما ذكرناه فهي كثيرة وأكثرها في باب الحمام وما ورد من الأمر بالإزار متى
دخله ، ومنها ـ ما رواه في الكافي مسندا الى الصادق (عليهالسلام) قال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وفي الفقيه مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا
بمئزر». وروى في الكافي عن علي بن الحكم عن رجل من بني هاشم ثم ساق الخبر عن ابي
الحسن (عليهالسلام) الى ان قال : «قلت ما تقول في الحمام؟ قال لا تدخل
الحمام إلا بمئزر. الحديث». وعن حمزة بن احمد عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام؟ قال ادخله بمئزر.».
وروى في التهذيب عن مسمع عن الصادق عن أمير المؤمنين (عليهماالسلام) : «أنه نهى ان يدخل الرجل الماء إلا بمئزر». وعن حماد
ابن عيسى عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «قيل له ان سعيد بن عبد الملك يدخل مع جواريه
الحمام؟ قال وما بأس إذا كان عليه وعليهن الأزر لا يكونون عراة كالحمير. الحديث». وفي
التهذيب والفقيه عن سعدان بن مسلم قال : «كنت في الحمام في البيت الأوسط فدخل علي أبو
الحسن (عليهالسلام) وعليه النورة وعليه إزار فوق النورة. الحديث». وروى في
الكافي في الموثق عن حنان بن سدير عن أبيه قال : «دخلت انا وابي وجدي وعمي حماما بالمدينة فإذا
رجل في بيت المسلخ فقال لنا ممن القوم؟ فقلنا من أهل العراق. فقال واي العراق؟
فقلنا كوفيون.
__________________
فقال مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار ، ثم قال ما يمنعكم
من الأزر؟ فإن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال فبعث الى أبي
كرباسة فشقها بأربعة ثم أخذ كل واحد منا واحدا ، ثم ساق الخبر الى ان قال : سألنا
عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين ومعه ابنه محمد بن علي (صلوات الله عليهما)». الى
غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي يقف عليها المتتبع. وبالجملة فالمستفاد من
الأخبار على وجه لا يزاحمه الشك ولا الريب اتحاد الإزار والمئزر وان المراد من كل
منهما هو ما ذكرناه لا ما شمل البدن ، وحينئذ فما اشتهر في كلام متأخري أصحابنا ـ من
الفرق بين المئزر والإزار وان الأول عبارة عما يشد في الوسط والثاني ما يكون شاملا
لجميع البدن ـ لا اعرف له وجها لا من الاخبار ولا من كلام أهل اللغة كما عرفت.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الواجب بمقتضى ما قلناه انه حيثما وجد المئزر والإزار في شيء من اخبار
الكفن أو كلام متقدمي الأصحاب حمله على ما ذكرناه الا مع قرينة صارفة عن معناه
الحقيقي ، واما ما لم يشتمل على لفظ الإزار والمئزر وانما اشتمل على الثوب فهو ظاهر
في الإجمال القابل للاحتمال على ما ذكروه من الشمول للبدن وما ذكرناه من معنى
الإزار ، وبالجملة فهو مجمل وقضية الحمل على الروايات المفصلة تساعد ما ذكرناه ،
وها أنا أسوق لك ما وقفت عليه من اخبار المسألة مذيلا كلا منها بالبيان الساطع
البرهان والله الموفق الهادي لمن يشاء.
فمنها ـ ما
رواه الكليني والشيخ عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يكفن الميت في خمسة أثواب : قميص لا يزر عليه
وإزار وخرقة يعصب بها وسطه وبرد يلف فيه وعمامة يعمم بها ويلقى فضلها على صدره».
أقول : هذا
الخبر ـ كما ترى ـ واضح الظهور في القول المشهور لا يعتريه نقص ولا قصور وقد اشتمل
على واجب الكفن ومستحبه ، فالواجب القميص والإزار الذي
__________________
يشد في وسطه كما عرفت من الاخبار وكلام أهل اللغة وعليه العرف العام والبرد
الذي يلفه والباقي مستحب.
ومنها ـ موثقة
سماعة قال : «سألته عما يكفن به الميت؟ قال ثلاثة أثواب وانما كفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وثوب حبرة ـ والصحارية
تكون باليمامة ـ وكفن أبو جعفر (عليهالسلام) في ثلاثة أثواب».
وعن يونس عن
بعض رجاله عن الصادق والباقر (عليهماالسلام) قالا :«الكفن فريضته للرجال ثلاثة أثواب ، والعمامة
والخرقة سنة. الحديث».
وعن زرارة في
الموثق عن الباقر (عليهالسلام) قال : «كفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين وثوب يمنة عبري أو
أظفار».
وعن محمد بن
سهل عن أبيه قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الثياب التي يصلي فيها الرجل ويصوم أيكفن فيها؟ قال
أحب ذلك الكفن يعني قميصا. قلت يدرج في ثلاثة أثواب؟ قال لا بأس به والقميص أحب
الي».
وروى في الفقيه
قال : «سئل موسى بن جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يموت أيكفن في ثلاثة أثواب بغير قميص؟ قال لا
بأس بذلك والقميص أحب الي».
الى غير ذلك من
الأحاديث المشتملة على لفظ الأثواب الثلاثة أو ثوبين وقميص
وأنت خبير بأنه
لا منافاة في حمل الثوب الذي هو أحد هذه الأثواب على الإزار بالمعنى الذي ذكرناه ،
ودعوى كون الثوب انما يطلق على ما يشمل البدن ممنوعة لصدق الثوب على السراويل
وثوبي الإحرام اللذين أحدهما الإزار ، ولا ينافي ذلك لفظ الإدراج في بعضها لصدقه
في الإزار أيضا بالمعنى المذكور.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) كيف اصنع بالكفن؟ قال تأخذ خرقة فتشد على مقعدته
ورجليه. قلت
__________________
فالإزار؟ قال انها لا تعد شيئا إنما تصنع لتضم ما هناك لئلا يخرج منه شيء
وما يصنع من القطن أفضل منها ثم يخرق القميص إذا غسل وينزع من رجليه ، قال ثم
الكفن قميص غير مزرور ولا مكفوف وعمامة يعصب بها رأسه ويرد فضلها على رجليه».
أقول : الظاهر
ان لفظ «رجليه» هنا وقع سهوا عن «صدره» وهذا الخبر ظاهر فيما دل عليه الخبر الأول
إلا انه لم يذكر فيه الثوب الثالث وهو الذي يلف فيه وانما اشتمل على الإزار
والقميص وكأنه لظهوره استغنى عن ذكره ، وقد عرفت معنى الإزار. بقي الكلام في قوله
: «قلت فالإزار؟ قال انها لا تعد شيئا» والمعنى فيه ان الظاهر انه لما أمر (عليهالسلام) بالخرقة المذكورة توهم الراوي انها تغني عن الإزار
لحصول ستر العورة بها فأجابه (عليهالسلام) بأنها لا تعد من اجزاء الكفن الواجب وانما تصنع لهذه
الفائدة والإزار من اجزاء الكفن الواجب لا بد منه فلا تغني هذه عنه.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة إذا كانت
عظيمة في خمسة : درع ومنطق وخمار ولفافتين».
أقول : وهذه
الرواية ايضا ظاهرة الدلالة على القول المشهور لأنها وان أجملت في كفن الرجل ثلاثة
أثواب إلا انها فصلت في كفن المرأة في الأثواب الخمسة ، ولا ريب في تساوي المرأة
والرجل في الواجب ، والواجب هنا من هذه الخمسة القميص المعبر عنه بالدرع ، والإزار
المعبر عنه بالمنطق فإنه بكسر الميم الإزار ، ولفافة ، والخمار واللفافة الأخرى
مما انفردت به المرأة.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي أيضا عن يونس عنهم (عليهمالسلام) في تحنيط الميت وتكفينه قال : «ابسط الحبرة بسطا ثم
ابسط عليها الإزار ثم ابسط القميص
__________________
عليه وترد مقدم القميص عليه ، ثم اعمد الى كافور مسحوق فضعه على جبهته موضع
سجوده ، وامسح بالكافور على جميع مفاصله من قرنه الى قدمه ، وفي رأسه وعنقه ومنكبه
ومرافقه وفي كل مفصل من مفاصله من اليدين والرجلين وفي وسط راحتيه ، ثم يحمل فيوضع
على قميصه ويرد مقدم القميص عليه ويكون القميص غير مكفوف ولا مزور ، وتجعل له
قطعتين من جريد النخل رطبا قدر ذراع ، تجعل له واحدة بين ركبتيه نصفا مما يلي
الساق ونصفا مما يلي الفخذ وتجعل الأخرى تحت إبطه الأيمن ، ولا تجعل في منخريه ولا
في بصره ولا مسامعه ولا على وجهه قطنا ولا كافورا ، ثم يعمم فيؤخذ وسط العمامة
فيثنى على رأسه بالتدوير ثم يلقى فضل الشق الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن
ثم يمد على صدره».
وهذه الأجزاء
الثلاثة هي المذكورة في كلام الأصحاب وان غيروا العبارة فإنه متى حمل الإزار على
المعنى الذي عرفته من كلام أهل اللغة والأخبار فإنه منطبق على القول المشهور بما
هو أوضح واضح في الظهور ، ومقتضى ما ذكره أولئك الأفاضل من المناقشة حمل الإزار في
هذه الأخبار المشتملة عليه على الشامل للبدن ، وقد عرفت انه لا مستند له من
الأخبار بل الأخبار كلها متفقة على المعنى الذي ذكرناه ، وبعض أهل اللغة وان ذكره
الا ان المشهور في كلامهم انما هو المعنى الذي ذكرناه والعرف العام مؤيد لما قلناه
، ويؤيده تأييدا ما ورد دالا على استحباب التكفين بما أحرم فيه كما رواه الصدوق في
الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان ثوبا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اللذان أحرم فيهما يمانيين عبري وأظفار وفيهما كفن». ورواه
في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار مثله. وروى في الكافي عن يونس بن يعقوب عن
ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول اني كفنت أبي في ثوبين مطويين كان
يحرم فيهما وفي قميص من قمصه. الحديث».
__________________
أقول : من
الظاهر البين الظهور أن ثوبي الإحرام ـ كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في
كتاب الحج ـ إزار يتزر به ورداء يتردى به ، ومن اخبار الإحرام قوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد الله بن سنان : «والتجرد في إزار ورداء
أو عمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء». وبذلك يثبت ان أحد أجزاء كفنه (صلىاللهعليهوآله) الإزار ، وعلى هذا الخبر يحمل إجمال اخبار تكفينه (صلىاللهعليهوآله) في ثلاثة أثواب بأن يقال ان من جملتها الإزار ، ومنه
يعلم انه لا يشترط في الثوب الشمول للبدن كما توهموه.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) في تكفين الميت وتحنيطه بعد ذكر ما تقدم منها في
التغسيل قال : «ثم تغسل يديك الى المرافق ورجليك الى الركبتين ثم تكفنه : تبدأ
وتجعل على مقعدته شيئا من القطن وذريرة وتضم فخديه ضما شديدا وجمر ثيابه بثلاثة
أعواد ثم تبدأ فتبسط اللفافة طولا ثم تذر عليها شيئا من الذريرة ثم الإزار طولا
حتى يغطى الصدر والرجلين ثم الخرقة عرضها قدر شبر ونصف ثم القميص تشد الخرقة على
القميص بحيال العورة والفرج حتى لا يظهر منه شيء ، واجعل الكافور في مسامعه واثر
سجوده منه وفيه وأقل من الكافور واجعل على عينيه قطنا وفيه وأذنيه شيئا قليلا ثم
عممه والق على وجهه ذريرة وليكن طرف العمامة متدليا على جانبه الأيسر قدر شبر ترمي
بها على وجهه ، وليغتسل الذي غسله. وكل من مس ميتا فعليه الغسل وان كان الميت قد
غسل ، والكفن يكون بردا وان لم يكن بردا فاجعله كله قطنا فان لم تجد عمامة قطن
فاجعل العمامة سابريا ، وقال : تحتاج المرأة من القطن لقبلها قدر نصف من ، وقال :
التكفين ان تبدأ بالقميص ثم بالخرقة فوق القميص على ألييه وفخذيه وعورته وتجعل طول
الخرقة ثلاثة أذرع ونصفا وعرضها شبرا ونصفا ثم تشد
__________________
الإزار أربعة أذرع ثم اللفافة ثم العمامة وتطرح فضل العمامة على وجهه وتجعل
على كل ثوب شيئا من الكافور وتطرح على كفنه ذريرة.».
أقول : وهذا
الخبر قد تضمن ما تضمنته الأخبار المتقدمة من ان اجزاء الكفن الواجب هي الإزار
والقميص واللفافة إلا ان ظاهر كلامه في الإزار لا يخلو من خلل في المقام نسبته إلى
الراوي المذكور اولى من نسبته الى الامام (عليهالسلام) حيث ان المعهود من الإزار شرعا ولغة وعرفا هو ما عرفت
وهو ما يشد من تحت السرة ومنتهاه الى نصف الساق الى القدم ، وهذا الخبر قد اشتمل
صدره على ان الإزار يبسط طولا حتى يغطى الصدر والرجلين مع ان المعروف من شد الإزار
انما هو بالعرض لا بالطول وفي آخره ان الإزار أربعة أذرع وهذا مما ينافي الكلام
الأول لأنه متى كان طوله أربعة أذرع وبسط طولا فإنه يتجاوز الصدر الى ما فوق الرأس
، وهذا التهافت في المقام مما يجعل عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام ، وقد وقع
للراوي المذكور مثله في الخبر وهو قوله : «وكل من مس ميتا فعليه الغسل وان كان
الميت قد غسل» فإنه مخالف للإجماع واتفاق الأمة فضلا عن هذه الفرقة الناجية.
وبالجملة فإني لا اعرف لما اشتمل عليه هذا الخبر في هذا المقام وجه استقامة يبنى
عليه الكلام.
ومنها ـ ما
ذكره مولانا الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه من قوله :«ثم يكفن بثلاث قطع وخمس وسبع ، فاما الثلاث
فمئزر وعمامة ولفافة ، والخمس مئزر وقميص وعمامة ولفافتان ، الى ان قال : وروي انه
لا يقرب الميت من الطيب شيئا ولا البخور ، وساق (عليهالسلام) جملة من الأحكام بطريق الرواية الى ان قال : وقال يأخذ
خرقة فيشدها على مقعدته ورجليه. قلت الإزار؟ قال انها لا تعد شيئا وانما أمر بها
لكي لا يظهر منه شيء ، وذكر ان ما جعل من القطن أفضل وقال : ويكفن بثلاثة أثواب
لفافة وقميص وإزار. إلى آخر كلامه». وظاهر صدر هذا الكلام يشعر بإفتائه
__________________
بالثلاث أو الخمس أو السبع ، ولا يخفى ما فيه من الإجمال ، إلا ان ما نقله
أخيرا بطريق الرواية واضح فيما ادعيناه ، والظاهر ان هذه الرواية التي ذكرها عن
الصادق (عليهالسلام) بقرينة حديث الخرقة التي ذكر انها لا تعد شيئا فإنه قد
تقدم بهذه الصورة في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) .
ومنها ـ ما
رواه في الكافي عن الحلبي قال أبو عبد الله (عليهالسلام) في حديث : «ان ابي كتب في وصيته ان أكفنه في ثلاثة
أثواب أحدها رداء له حبرة. وثوب آخر وقميص. الحديث». والتقريب فيه حمل الثوب الآخر
على الإزار لذكره في تلك الأخبار المتقدمة فيحمل إطلاق هذا الخبر على تلك الأخبار.
نعم ربما دل
على ما ذكروه ما رواه الشيخ في الحسن على الظاهر عن حمران بن أعين عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «قلت فالكفن؟ قال يأخذ خرقة فيشد بها
سفلية ويضم فخذيه بها ليضم ما هناك وما يصنع من القطن أفضل ثم يكفن بقميص ولفافة
وبرد يجمع فيه الكفن».
فان ظاهر لفظ
اللفافة الاختصاص بما يشمل البدن والبرد من حيث انه يجمع الكفن كما ذكره يجب ان
يكون شاملا. والجواب عنه انه إذا ثبت بما قدمناه من الأخبار كون الإزار أحد أجزاء
الكفن وان الإزار شرعا ولغة وعرفا انما يطلق على ما يشد في الوسط فالواجب تأويل
هذه الرواية بما ترجع به الى تلك الاخبار وهو بحمل اللفافة على الإزار فإنه يلف ما
يقع عليه من أسافل البدن ومثله في تأويل الأخبار غير عزيز.
أقول : وبما
ذكرناه مما أشارت إليه هذه الاخبار صرحت عبائر جملة من متقدمي علمائنا الأبرار
الذين عليهم المعتمد في الإيراد والإصدار : منهم ـ شيخنا المفيد (عطر الله مرقده)
في المقنعة حيث قال : «ويعد الكفن وهو قميص ومئزر وخرقة يشد بها
__________________
سفله الى وركيه ولفافة وحبرة وعمامة ، الى ان قال في صفة التكفين : وصار
الى الأكفان التي كان أعدها له فبسطها على شيء طاهر يضع الحبرة أو اللفافة التي
تكون بدلا منها وهي الظاهرة وينشرها وينثر عليها شيئا من الذريرة التي كان أعدها
ثم يضع اللفافة الأخرى عليها وينثر عليها شيئا من الذريرة ثم يضع الإزار ويضع
القميص على الإزار وينثر عليه شيئا من الذريرة ويكثر منه ثم يرجع الى الميت فينقله
من الموضع الذي غسله فيه حتى يضعه في قميصه ويأخذ شيئا من القطن فيضع عليه شيئا من
الذريرة ويجعله على مخرج النجو ويضع شيئا من القطن وعليه الذريرة على قبله ويشده
بالخرقة التي ذكرناها شدا وثيقا الى وركيه لئلا يخرج منه شيء ويأخذ الخرقة التي
سميناها مئزرا فيلفها عليه من سرته الى حيث تبلغ من ساقيه كما يأتزر الحي فتكون
فوق الخرقة التي شدها على القطن» وعلى هذا النهج كلام الشيخ في النهاية. وقال ابن
ابي عقيل : «الفرض إزار وقميص ولفافة ، والسنة ثوبان عمامة وخرقة وجعل الإزار فوق
القميص ، وقال : السنة في اللفافة ان تكون حبرة يمانية فإن أعوزهم فثوب بياض» وقال
علي بن بابويه في رسالته : «ثم اقطع كفنه تبدأ بالنمط وتبسطه وتبسط عليه الحبرة
وتبسط الإزار على الحبرة وتبسط القميص وتكتب على قميصه وإزاره وحبرته» وقال الجعفي
: «الخمسة لفافتان وقميص وعمامة ومئزر ، وقال وقد روى سبع : مئزر وعمامة وقميصان
ولفافتان ويمنية ، وليس تعد الخرقة التي تجعل على مخرجه من الكفن ، قال وروي ليس
العمامة من الكفن المفروض» وقال أبو الصلاح : «يكفنه في درع ومئزر ولفافة ونمط
ويعممه ، قال : والأفضل ان تكون الملاف ثلاثا إحداهن حبرة يمنية وتجزيء واحدة»
وقال الصدوق في الفقيه : «وغاسل الميت يبدأ بكفنه فيقطعه يبدأ بالنمط فيبسطه ويبسط
عليه الحبرة وينثر عليه شيئا من الذريرة ويبسط الإزار على الحبرة وينثر عليه شيئا
من الذريرة ويبسط القميص على الإزار وينثر عليه شيئا من الذريرة ، ثم ساق الكلام
الى ان قال في صفة التكفين ما ملخصه : ثم يضع الميت في أكفانه ، ثم ذكر موضع
الجريدتين وقال : ثم يلفه في إزاره وحبرته ، الى ان قال : وقبل ان يلبسه قميصه
يأخذ شيئا من القطن وينثر عليه ذريرة ويحشو به دبره ويجعل من القطن
شيئا على قبله ويضم رجليه جميعا ويشد فخذيه الى وركيه بالمئزر شدا جيدا
لئلا يخرج منه شيء فإذا فرغ من تكفينه حنطة ، الى ان قال بعد ذكر جملة من الأحكام
: والكفن المفروض ثلاثة : قميص وإزار ولفافة سوى العمامة والخرقة فلا يعدان من
الكفن» انتهى أقول : وهذا الكلام كله ما ذكرناه وما حذفناه مأخوذ من كتاب الفقه
الرضوي.
فهذه جملة من
عبائر المتقدمين متفقة الدلالة على ان الكفن المفروض هو القميص واللفافة والإزار ،
وربما عبر بعضهم بالمئزر وهو المطابق لما قدمناه من الأخبار. ثم انه بالتأمل فيما
نقلناه عن الصدوق هنا يظهر لك بطلان ما توهمه جملة من الاعلام الذاهبين الى ما ذهب
اليه السيد في هذا المقام من الاستناد الى كلام الصدوق في الفقيه في التأييد لما
ذهبوا اليه من ان المئزر الذي ذكره الأصحاب من جملة أجزاء الكفن الواجب الذي لا
وجود له في الأخبار ، وان الصدوق قد فسره في الفقيه بالخرقة التي يشد بها الفخذان
قال الأمين الأسترآبادي ـ وهو من جملة تلامذة السيد صاحب المدارك في تعليقاته على
الفقيه ـ ما صورته : «أقول : وقد وقع من جمع من المتأخرين سهو عظيم حيث زعموا ان
من جملة الكفن الواجب المئزر وفسروه بثوب يكون من السرة إلى الركبة مع انه لا
دلالة في الأحاديث على ذلك. وكلام المصنف في هذا الباب صريح بخلاف قولهم وصريح بان
المراد بالمئزر ما يشد به فخذاه ، وهو الحق» انتهى. أقول : بل السهو العظيم انما
وقع منه وممن حذا حذوه في هذا المقام كما لا يخفى على من تأمل ما تلوناه وما
سنذكره في المقام ، ونسبة ما زعمه من السهو لجمع من المتأخرين مع انه من كلام
المتقدمين ـ كما عرفت وستعرف ـ سهو آخر منه ، وبيان ذلك انك قد عرفت مما قدمناه
ترادف لفظ المئزر والإزار لغة وشرعا وان المراد منه ما يشد من الوسط كما عرفته من
عبارة الشيخ المفيد المتقدمة وتعبيره عن ذلك تارة بالإزار وتارة بالمئزر ، وكلام
الصدوق هنا في صدره صريح بأن أجزاء الكفن الواجب هو الحبرة والإزار والقميص ، اما
النمط فالظاهر انه ذكره استحبابا كما سيأتي بيان القول فيه ان شاء الله تعالى ،
وكذا قوله : «يلفه في إزاره
وحبرته» فإنه صريح في كون الإزار من اجزاء الكفن ، وكلامه الأخير أصرح صريح
في ذلك ايضا كما لا يخفى ، وإذا ثبت ان أحد أجزاء الكفن الإزار والإزار ـ كما عرفت
لغة وشرعا ـ انما هو عبارة عما يربط من الوسط فقد ثبت المطلوب ، غاية الأمر ان
الأصحاب عبروا عن الإزار الذي ذكره الصدوق هنا بالمئزر وقد عرفت ترادفهما فأي فساد
يلزم من ذلك؟ وكلام الصدوق هنا وان سمى الخرقة التي يشد بها المقعدة مئزرا فإنه لا
دلالة فيه على انه المئزر الذي ذكره الأصحاب في اجزاء الكفن ، وغاية الشبهة نشأت
هنا من شيئين : (أحدهما) ـ تعبير الأصحاب بالمئزر. و (ثانيهما) ـ تعبير الصدوق عن
الخرقة المستحبة لشد المقعدة بالمئزر ، وأنت إذا تأملت ما ذكرناه ظهر لك ان
المطلوب والمدعى من كون الكفن عبارة عن اللفافة والإزار والقميص ظاهر من كلام
الصدوق في الفقيه ، وبتقريب ما قدمناه ـ من ان الإزار لغة وشرعا هو ما يشد من
الوسط ـ يظهر انطباق كلام الصدوق والمفيد ونحوهما على كلام متأخري الأصحاب وان
عبروا عن الإزار الذي ذكره هؤلاء بالمئزر فإنهما مترادفان فلا حرج.
بقي الكلام في
تعبير الأصحاب عن اللفافة الشاملة لجميع البدن بالإزار وقد عرفت ما فيه وكان
الاولى تعبيرهم بما عبر به متقدموهم كالشيخين المشار إليهما ونحوهما من الحبرة أو
اللفافة أو نحوهما ، وكذا بقي الكلام في تعبير الصدوق عن هذه الخرقة بالمئزر فإنه
وان كان غريبا إلا انك قد عرفت ان عبارته هذه وما قبلها وما بعدها إنما أخذت من
الفقه الرضوي ، ومع كونها من عنده فإنه لا مشاحة في العبارة بعد ظهور المراد ،
فعليك بالتأمل التام فيما حققناه في المقام.
وتمام القول في
المقام يتوقف على بيان أمور (الأول) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
انه لو تعذرت الأثواب الثلاثة ولم يوجد إلا ثوب واحد فإنه يكفن فيه ، قالوا لأن
الضرورة تبيح دفنه بغير كفن فببعضه أولى. أقول : غاية ما يستفاد من هذا الكلام
الجواز ولا ريب فيه ، واما الوجوب فمحل إشكال لأن الواجب انما
هو الثلاثة المتقدمة ومع فقد بعضها فهل يجب ما أمكن من الباقي أم لا؟ وجهان
، للأول مفهوم جملة من الأخبار الدالة على ان حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا . ونحوها من الأدلة العامة ، وللثاني عدم وجود نص في المسألة
والاحتياط ظاهر.
واما مع وجود
الجميع فقد عرفت انه لا مخالف في المسألة إلا سلار حيث اكتفى بثوب واحد اختيارا
مستندا ـ كما نقل عنه ـ الى الأصل وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة
ومحمد بن مسلم قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليهالسلام) العمامة للميت من الكفن؟ قال لا انما الكفن المفروض
ثلاثة أثواب وثوب تام لا أقل منه يواري جسده كله. فما زاد فهو سنة الى ان يبلغ
خمسة أثواب. فما زاد فهو مبتدع ، والعمامة سنة.».
أقول : هذا
الخبر رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح ، وفيه «انما الكفن المفروض ثلاثة أثواب
تام لا أقل منه. الى آخر الخبر» وذكر جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا البهائي في
الحبل المتين ان في بعض نسخ التهذيب كما في الكافي ، وظاهر الخبر على رواية
الكليني يعطي أن الكفن أربعة أثواب ولا قائل به ، ويحتمل التخيير ـ بجعل الواو
بمعني «أو» ـ بين الثلاثة والثوب الواحد وبه يصلح الاستدلال به للقول المذكور.
واحتمل جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيدان في الذكرى والروض كونه بيانا لأحد
الأثواب الثلاثة فيكون من باب عطف الخاص على العام وان المراد بذلك الواحد الإزار
بناء على ما فسروه به من انه الساتر لجميع البدن. واحتمل في الذكرى حمل الخبر
المذكور على التقية فإن معظمهم على الاجتزاء بالثوب الواحد وهذا كله على تقدير رواية الكافي
__________________
واما على تقدير رواية التهذيب فلا حجة فيها إلا ان الأظهر هو سقوط لفظة
الثوب من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له انس بما وقع له من التحريف والسهو
والزيادة والنقصان في متون الاخبار وأسانيدها. وبالجملة فالأظهر عندي هو طرح هذه
الرواية من البين لما هي عليه من الاحتمالات وبذلك تصير من المتشابهات التي يجب
الوقوف فيها. وكيف كان فالقول المذكور ضعيف لا يلتفت إليه في مقابلة الأخبار
المتكاثرة وبها يجب الخروج عن الأصل الذي استند اليه. وما ذكره بعض متأخري
المتأخرين من ضعف الاخبار المشار إليها وان المسألة محل اشكال فهو مما لا يلتفت
إليه ، فإنها مع الإغماض عن المناقشة في هذا الاصطلاح قد تلقاها أصحابه بالقبول
واتفقوا على العمل بها وهو جابر عندهم لضعفها.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب تعين القميص وضمها إلى الإزار واللفافة ، وقيل بالتخيير بينها وبين
لفافة ثانية مع أفضلية القميص ، وهو مذهب ابن الجنيد ومال اليه المحقق في المعتبر
وجملة من متأخري المتأخرين ، وهو الظاهر ، ويدل عليه ما تقدم في رواية محمد بن سهل
عن أبيه ومرسلة الفقيه قال المحقق الشيخ علي «ويراعى في جنس هذه الأثواب
التوسط باعتبار اللائق بحال الميت عرفا فلا يجب الاقتصار على أدون المراتب وان
ماكس الورثة أو كانوا صغارا حملا لإطلاق اللفظ على المتعارف» واستحسنه في الروض
بعد نقله عنه قال : «لان العرف هو المحكم في أمثال ذلك مما لم يرد له تقدير شرعي»
انتهى. وهو جيد لان الخطابات الشرعية انما تتعلق بالمكلفين باعتبار أحوالهم
__________________
التي هم عليها من قوة وضعف وعسر ويسر ونحو ذلك فلكل تكليف باعتبار حاله ،
ألا ترى ان استطاعة الحج تتفاوت بتفاوت الأحوال والصلاة كيفية وكمية تتفاوت
بتفاوتها ايضا سفرا وحضرا وصحة ومرضا ونحو ذلك.
(الثالث) ـ قال
شيخنا الشهيد الثاني في الروض : «والمفهوم من خبر زرارة المتقدم الاكتفاء بمواراة
البدن بالثلاثة فلو كان بعضها رقيقا بحيث لا يستر العورة ويحكى البدن لم يضر مع
حصول الستر بالمجموع ، والأحوط اعتبار الستر في كل ثوب لانه المتبادر وليس في
كلامهم ما يدل عليه نفيا ولا إثباتا» انتهى. أقول : الظاهر ان مراده بخبر زرارة
المذكور هو ما تقدم في الأمر الأول وقد عرفت اختلاف روايتي الكافي والتهذيب له والظاهر
عندي من قوله : «يوارى جسده» انما هو باعتبار شمول الثوب البدن وإتيانه عليه بحيث
لا يبقى شيء من البدن عاريا لا مواراة البشرة بمعنى ان لا يكون رقيقا حاكيا
للبشرة ، ويؤيده التأكيد بقوله «كله» وحينئذ فيكون قوله «يواري جسده» مؤكدا لقوله «تام
لا أقل منه» وان لم يكن ما ذكرناه أظهر لا أقل ان يكون مساويا لما ذكره وبه لا يتم
الاستدلال ، وحينئذ تبقى المسألة عارية عن النص ، وأصالة العدم ترجح الجواز مطلقا
وبالجملة فالظاهر ان ما ذكره شيخنا المذكور لا يخلو من البعد ، ولو كانت الرواية
المذكورة دالة على الحكم المذكور لما خفي على محدثي أصحابنا المتأخرين ولا سيما
بعد الوقوف على كلامه ولنبهوا على ذلك في تصانيفهم سيما شيخنا البهائي في الحبل
المتين وأمثاله ممن عادتهم تتبع هذه الدقائق والتنبيه عليها. والله العالم.
(الرابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف في عدم جواز التكفين بالحرير المحض ، قال في المعتبر : وهذا الحكم
ثابت بإجماعنا ويدل عليه ما رواه في الكافي عن الحسن بن راشد قال : «سألته عن ثياب تعمل بالبصرة على عمل العصب
اليماني من قز وقطن هل يصلح ان يكفن فيها الموتى؟ قال : إذا كان القطن أكثر من
القز فلا بأس».
__________________
ورواه في الفقيه مرسلا قال : «سئل أبو الحسن الثالث (عليهالسلام) عن ثياب تعمل بالبصرة. الحديث». أقول : ويشير الى ذلك
جملة من الأخبار الدالة على النهي عن التكفين بكسوة الكعبة فإن الظاهر انه ليس إلا
من حيث كونها حريرا محضا كما استظهره شيخنا الشهيد في الذكرى وإلا كان الأنسب الاستحباب
للتبرك ، ومن تلك الأخبار ما رواه في التهذيب عن الحسين بن عمارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل اشترى من كسوة البيت شيئا هل
يكفن به الميت؟ قال : لا». ونحوها رواية عبد الملك بن عتبة الهاشمي وقال في الفقه
الرضوي : «لا تكفنه في كتان ولا ثوب إبريسم وإذا كان ثوب معلم
فاقطع علمه ولكن كفنه في ثوب قطن ولا بأس في ثوب صوف». انتهى. وقال في الفقيه : «ولا
يجوز ان يكفن الميت في كتان ولا إبريسم ولكن في القطن» والظاهر انه مأخوذ من هذه
العبارة كما عرفت في غير مقام.
والشيخ قد روى
عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : نعم الكفن الحلة ونعم الأضحية الكبش الأقرن». ثم
حمله على التقية لموافقته لمذهب العامة قال : لان الكفن لا يجوز ان يكون من
__________________
الإبريسم. وقيل عليه انه لا يعتبر في الحلة أن تكون من الإبريسم فإنها ربما
تطلق على البرد وغيره ايضا وان لم يكن إبريسما ، قال في القاموس : «الحلة إزار
ورداء برد أو غيره ولا يكون إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة» فينبغي ان تحمل الحلة
على البرد الذي لا يكون إبريسما. وقيد الحرير بالمحض احترازا عن الممتزج بغيره على
وجه لا يستهلكه الحرير فإنه يجوز التكفين فيه كما يجوز الصلاة فيه. والظاهر انه لا
فرق بين الرجل والمرأة في الحكم المذكور. وقال في الذكرى وعليه اتفاقنا ، ونقل عن
العلامة في النهاية انه احتمل كراهته للمرأة للإباحة لها في حال الحياة. والظاهر
ضعفه.
وفي جوازه
بالجلود تردد لأصالة الجواز وعدم صدق الثوب عليها عرفا فان المتبادر منه انما هو
المنسوج ، وبه صرح جملة من الأصحاب ، وأيدوا ذلك بوجوب نزعه عن الشهيد قالوا فهنا
أولى.
أما المتخذ من
الشعر والوبر فالظاهر المشهور الجواز لصدق الثوب عليه وانتفاء المانع كما صرح به
في المعتبر ، ونقل عن ابن الجنيد المنع منه ، وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه نفى
البأس عن ثوب الصوف ، وجعل في المدارك اجتنابه اولى.
ولا يجوز
التكفين بالنجس إجماعا كما في الذكرى ولوجوب إزالة النجاسة العارضة من الكفن. وكذا
لا يجوز التكفين في المغصوب أيضا إجماعا كما نقله في الكتاب المشار اليه وللنهي عن
إتلاف مال الغير.
هذا كله مع
الاختيار اما مع الضرورة فظاهر هم الاتفاق على عدم الجواز بالمغصوب واما غيره من
الحرير والجلد والنجس فأوجه ثلاثة : المنع لإطلاق النهي ، والجواز لئلا يدفن عاريا
مع وجوب ستره ولو بالحجر ، ووجوب ستر العورة لا غير حالة الصلاة ثم ينزع
__________________
(الخامس) ـ المفهوم
من كلام أكثر الأصحاب في كيفية التكفين انه يبدأ بخرقة الفخذين فيشدها بعد وضع
القطن في دبر الميت وقبل المرأة ثم يؤزره عليها كما يؤزر الحي ثم يلبسه القميص ثم
يلفه في اللفافة ثم الحبرة التي هي مستحبة عندهم ، فمن ذلك عبارة المفيد المتقدمة ومنها عبارة الشيخ في النهاية حيث قال ما هذا ملخصه :
فإذا فرغ منه ـ يعنى من الغسل ـ عمد الى القطن ، ثم ذكر شد القطن بالخرقة الى ان
قال : فيأخذ الإزار فيؤزره ، ثم ساق الكلام في صفة الإزار ووضع الحنوط الى ان قال
: ثم يرد القميص عليه ، ثم ساق الكلام في العمامة الى ان قال : ثم يلفه في
اللفافة. ونحوه عبارته في المبسوط وبذلك صرح ابن إدريس في السرائر فقال ما ملخصه :
فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ، ثم ذكر شد فخذيه بها الى ان قال : ثم يؤزره ويلبسه
القميص وفوق القميص الإزار وفوق الإزار الحبرة. ومراده بالإزار الذي فوق القميص هو
اللفافة وهي الثوب الثالث من الكفن الواجب ، فإنك قد عرفت ان الفقهاء يطلقون على
هذا الثوب الإزار ، ومراده بالحبرة هي المستحبة عندهم. وهكذا عبارة العلامة في
المنتهى حيث قال ما ملخصه في كيفية التكفين من انه يحشو دبره بالقطن ثم يشده بخرقة
الفخذين ثم يؤزره بالمئزر ثم يلبسه القميص ثم يضعه في الإزار ثم في الحبرة. وعلى
هذا النهج عبارة الذكرى والدروس والبيان إلا انه في البيان لم يتعرض لذكر الخرقة
هنا وانما ذكرها سابقا قبل ذلك. وبالجملة فالذي حضرني من عبائرهم كلها على هذه
الكيفية إلا عبارة الصدوق فإنه لا تخلو من الإجمال ، وعبارة ابن ابي عقيل المتقدمة
فإن ظاهرها البدأة بالقميص وان يكون الإزار فوقها. وكيف كان ففي فهم ما ذكره
الأصحاب واشتهر بينهم من الأخبار خفاء وغموض. والذي وقفت عليه من الأخبار المتضمنة
لذلك رواية يونس وموثقة عمار وعبارة كتاب الفقه الرضوي وقد تقدم الجميع فإما رواية يونس فان ظاهرها انه يلبسه القميص أولا ثم
يؤزره بالإزار المذكور فيها ثم يلفه بالحبرة المذكورة. ولم يذكر الخرقة هنا وانما
ذكرها في موضع آخر.
__________________
وقد عرفت مما حققناه آنفا ان المراد بالإزار في الأخبار هو الذي يشد على
الوسط وظاهرها انه يشد فوق القميص ، ومخالفتها لما ذكروه ظاهرة ، نعم هي موافقة
لظاهر عبارة ابن ابي عقيل. واما موثقة عمار فإنها قد اشتملت على شد الخرقة فوق
القميص ثم الإزار فوق الخرقة ثم اللفافة ، والمخالفة فيها هنا في موضعين : (أحدهما)
ـ شد الخرقة فوق القميص. و (الثاني) ـ جعل الإزار فوق القميص والخرقة ، مضافا الى
ما عرفت آنفا من المناقضات الأخر ، قال في الذكرى : «وفي خبر عمار عن الصادق (عليهالسلام) «وتبدأ بالقميص ثم بالخرقة فوق القميص ثم تشد المئزر
ثم اللفافة ثم العمامة» وهو مخالف للمشهور من جعل الخرقة تحت المئزر والقميص فوقه
، قال الأصحاب ونقل الشيخ فيه الإجماع» انتهى. واما عبارة كتاب الفقه فالذي تقدم
منها لا دلالة فيه على ما نحن فيه إلا انه قال في موضع آخر ما لفظه : «وقبل ان
يلبسه القميص يأخذ شيئا من القطن ويجعل عليه حنوطا يحشو به دبره ، الى ان قال :
ويضم رجليه ويشد فخذيه الى وركيه بالمئزر شدا جيدا لئلا يخرج منه شيء» وظاهر هذه
العبارة هو انه يلبسه القميص بعد شد الخرقة ، ولم يتعرض هنا لباقي اجزاء الكفن وان
ذكرها في موضع آخر كما تقدم من ان اجزاء الكفن ثلاثة : لفافة وقميص وإزار ، إلا
انها لا يستفاد منها في هذا المقام أزيد مما قلناه. والجميع ـ كما ترى ـ ظاهر
المنافاة لما ذكره الأصحاب مما عرفت من عباراتهم المتقدمة حيث ان ظاهر الجميع
البدأة بالقميص. ولم أقف على خبر يدل على ما ذكروه من هذه الكيفية ولا على كلام
لأحد من الأصحاب في هذا الباب يدفع هذا الاشكال والارتياب. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ في التحنيط والكلام هنا في مقامين (الأول) ـ في بيان المواضع التي يوضع
الكافور عليها ، فالمشهور بين الأصحاب انه يوضع على المساجد السبعة وعن الشيخ في
الخلاف دعوى إجماع الفرقة عليه ، وأضاف الشيخ المفيد طرف الأنف الذي يرغم في
السجود ، وأضاف الصدوق السمع والبصر والفم والمغابن ، واحدها مغبن كمسجد وهي
الآباط وأصول الأفخاذ ، قال في الفقيه : «ويجعل الكافور على بصره
وانفه وفي مسامعه وفيه ويديه وركبتيه ومفاصله كلها وعلى اثر السجود منه فإن
بقي منه شيء جعل على صدره» ومال في المختلف الى هذا القول.
والأخبار في
المسألة مختلفة ، ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد الى الكافور فامسح
به آثار السجود منه ومفاصله كلها ورأسه ولحيته وعلى صدره من الحنوط ، وقال : حنوط
الرجل والمرأة سواء ، وقال : أكره أن يتبع بمجمرة». وما في رواية يونس المتقدمة من قوله : «ثم اعمد الى كافور مسحوق فضعه على جبهته
موضع سجوده وامسح بالكافور على جميع مفاصله من قرنه الى قدمه وفي رأسه وعنقه
ومنكبه ومرافقه وفي كل مفصل من مفاصله من اليدين والرجلين وفي وسط راحتيه ، الى ان
قال : ولا تجعل في منخريه ولا في بصره ولا مسامعه ولا على وجهه قطنا ولا كافورا». وفي
موثقة سماعة «وتجعل شيئا من الحنوط على مسامعه ومساجده وشيئا على ظهر الكفين». وفي
موثقة عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحنوط للميت؟ فقال اجعله في مساجده». وفي رواية
عثمان النوا المتقدمة «ولا تمس مسامعه بكافور». وفي حسنة حمران ابن أعين المتقدمة «قلت فالحنوط كيف اصنع به؟ قال : يوضع في منخره وفي موضع سجوده ومفاصله». وفي
موثقة عمار المتقدمة «واجعل الكافور في مسامعه واثر سجوده منه وفيه وأقل من الكافور». وفي رواية
الحسين بن المختار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يوضع الكافور من الميت على موضع المساجد وعلى
اللبة وباطن
__________________
القدمين وموضع الشراك من القدمين وعلى الركبتين والراحتين والجبهة واللبة».
وفي صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تجعل في مسامع الميت حنوطا». وفي صحيحة عبد
الله بن سنان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) كيف اصنع بالحنوط؟ قال : تضع في فمه ومسامعه وآثار
السجود من وجهه ويديه وركبتيه». وفي رواية زرارة عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) قال : «إذا جففت الميت عمدت الى الكافور فمسحت به آثار
السجود ومفاصله كلها واجعل في فيه ومسامعه ورأسه ولحيته من الحنوط وعلى صدره وفرجه
، وقال : حنوط الرجل والمرأة سواء». وفي الفقه الرضوي «فإذا فرغت من كفنه حنطته بوزن ثلاثة عشر درهما وثلث من الكافور ، وتبدأ
بجبهته وتمسح مفاصله كلها به وتلقي ما بقي منه على صدره وفي وسط راحتيه ، ولا تجعل
في فمه ولا منخره ولا في عينيه ولا في مسامعه ولا على وجهه قطنا ولا كافورا ، فان
لم تقدر على هذا المقدار فأربعة دراهم ، فان لم تقدر فمثقال لا أقل من ذلك لمن
وجده».
أقول : المشهور
بين الأصحاب هو الجمع بين هذه الروايات فيما اختلفت فيه بحمل أخبار النهي على
الكراهة ، والشيخ جمع بينها بحمل «في» الدالة على الوضع في سمعه وبصره وفيه على
معنى «على» كما في قوله تعالى : «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» ومرجعه الى حمل أخبار النهي على النهي من إدخاله فيها
وحمل اخبار الجواز على جعله فوقها. والأظهر ـ كما صرح به جملة من متأخري أصحابنا ـ
هو حمل الروايات الدالة على استحبابه في هذه المواضع على التقية لشهرة الاستحباب
عند العامة.
بقي الكلام في
بعض المواضع الزائد على المساجد السبعة مما لم يدل على النهي عنه دليل مثل مفاصله
ووسط راحتيه ورأسه ولحيته وصدره وعنقه واللبة وهي النحر وموضع
__________________
القلادة ، والظاهر دخولها تحت الصدر في الرواية الأخرى ، وباطن القدمين
ونحوها مما اشتملت عليه الأخبار مما لا معارض له ، والظاهر استحبابه لدلالة
الأخبار عليه مع عدم المعارض.
وهل يجب
استيعاب كل المسجد بالمسح أو يكفي المسمى؟ وجهان جزم بأولهما الشهيد الأول في
الذكرى وبالثاني الثاني في الروض.
(المقام الثاني)
ـ في مقدار الكافور ، قال في المعتبر : «أقل المستحب من الكافور للحنوط درهم وأفضل
منه أربعة دراهم وأكمل منه ثلاثة عشر درهما وثلث ، كذا ذكره الخمسة واتباعهم ثم لا
أعلم للأصحاب فيه خلافا» وقال الصدوق في الفقيه «والكافور السائغ للميت وزن ثلاثة عشر درهما وثلث ، والعلة في ذلك ان
جبرئيل (عليهالسلام) اتى النبي (صلىاللهعليهوآله) بأوقية كافور من الجنة ـ والأوقية أربعون درهما ـ فجعلها
النبي ثلاثة أثلاث : ثلثا له وثلثا لعلي (عليهالسلام) وثلثا لفاطمة ، ومن لم يقدر على وزن ثلاثة عشر درهما
وثلث كافورا حنط الميت بأربعة مثاقيل ، فان لم يقدر فمثقالا لا أقل منه لمن وجده»
وأكثر الأصحاب ـ ومنهم الشهيد في كتبه ـ نقلوا عن الشيخين ان الأقل مثقال وأوسطه
أربعة دراهم ، وفي الذكرى عن الجعفي ان أقله مثقال وثلث قال : ويخلط بتربة الحسين (عليهالسلام) ونقل شيخنا المجلسي (رحمهالله) عن ابن الجنيد ان أقله
مثقال وأوسطه أربعة مثاقيل ، وعن ابن البراج انه قدر الأكثر بثلاثة عشر درهما
ونصف.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه قال : «السنة في الحنوط ثلاثة عشر درهما وثلث ، وقال :
ان جبرئيل نزل على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بحنوط وكان وزنه أربعين درهما فقسمها
__________________
رسول الله ثلاثة أجزاء : جزء له وجزء لعلي وجزء لفاطمة (عليهماالسلام)». وعن ابن ابي نجران عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أقل ما يجزئ من الكافور للميت مثقال». قال في
الكافي بعد نقل هذا الخبر : وفي رواية الكاهلي وحسين بن المختار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «القصد من ذلك أربعة مثاقيل». والمراد بالقصد
يعني الحد الوسط بين الأقل والأكثر ، والاقتصاد في الأمور سلوك سبيل الوسط. وروى
الشيخ في الحسن عن عبد الله بن يحيى الكاهلي والحسين بن المختار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «القصد من الكافور أربعة مثاقيل». وعن عبد الرحمن
بن ابي نجران عن بعض رجاله عن الصادق (عليهالسلام) قال قال : «أقل ما يجزئ من الكافور للميت مثقال ونصف». وقد
تقدم في عبارة كتاب الفقه التحنيط بوزن ثلاثة عشر درهما وثلث وان لم يقدر على هذا
المقدار فأربعة دراهم وان لم يقدر فمثقال لا أقل من ذلك لمن وجده. إلا انه قال في
موضع آخر من الكتاب أيضا : «إذا فرغت من غسله حنطته بثلاثة عشر درهما وثلث درهم
كافورا تجعل في المفاصل ولا تقرب السمع والبصر وتجعل في موضع سجوده وادنى ما يجزئ
من الكافور مثقال ونصف».
إذا عرفت ذلك
فالكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ ظاهر هذه الروايات ان هذه التقديرات قلة وكثرة
ووسطا على جهة الوجوب وانه لا يصار إلى المرتبة الوسطى إلا مع تعذر العليا ولا إلى
الأقل إلا مع تعذر الوسط. والمفهوم من كلام الأصحاب هو الحمل على الأفضلية ،
والظاهر من كلام المحقق في المعتبر ان الحامل لهم على الخروج عن ظاهر هذه الروايات
انما هو ضعف إسنادها ، قال في الكتاب المذكور بعد ذكر رواية ابن ابي نجران
المشتملة على المثقال ورواية الحسين بن المختار ومرفوعة علي بن إبراهيم : «وفي
الروايات كلها ضعف لان سهلا ضعيف والحسين بن المختار واقفي ورواية علي بن إبراهيم
مقطوعة فاذن الواجب الاقتصار على ما يحصل به الامتثال ويحمل ما ذكر على الفضيلة»
وقد تبعه
__________________
من تأخر عنه في هذه المقالة ، وهو مشكل سيما ورواية الحسين بن المختار
مروية عنه وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي الذي لا خلاف بينهم في عد حديثه في الحسن
وان كان هو انما نسبها الى الحسين بن المختار خاصة ، ورد الاخبار مع ظهورها في
الوجوب وعدم المعارض لها فيه بمجرد ضعف السند خال عندنا من الدليل والمستند
المعتمد. وبالجملة فإن المشهور عندهم الاكتفاء بالمسمى لما ذكر ، والعمل بالاخبار
سبيل النجاة كما لا يخفى.
(الثاني) ـ لا
يخفى ان الحد الأوسط في هذه التقديرات اما أربعة مثاقيل كما وقع في عبارة ابن
بابويه وعليه تدل حسنة الكاهلي والحسين بن المختار أو أربعة دراهم كما يدل عليه
كتاب الفقه ، وبه يندفع ما أورده بعض أفاضل متأخري المتأخرين على الشيخين
وأتباعهما من انه لم يعرف للتحديد بالأربعة دراهم دليل ، نعم ما ذكره في المعتبر
في الأقل من انه درهم لم أقف له على دليل ، والذي في الاخبار انما هو مثقال كما في
عبارة كتاب الفقه ومرسلة ابن ابي نجران الأولى ، أو مثقال ونصف كما في مرسلته
الثانية وعبارة كتاب الفقه الثانية ، وبالمثقال في جانب الأقل عبر الصدوق كما تقدم
، واما ما نقل عن الجعفي من المثقال وثلث فلم أقف على دليله ، وقول ابن الجنيد في
الأقل والوسط موافق لكلام الصدوق وقد عرفت مستنده ، واما قول ابن البراج في تحديد
الأكثر بثلاثة عشر درهما ونصف فخال ايضا من المستند.
(الثالث) ـ نقل
عن ابن إدريس انه فسر المثاقيل الواقعة في الروايات بالدراهم نظرا الى قول الأصحاب
، وهو ضعيف ، ولهذا نقل ان ابن طاوس طالبه بالمستند ، وهو كذلك فان المتبادر من
المثقال حيث يطلق في كلام الشارع انما هو المثقال الشرعي الذي هو عبارة عن الدينار
وهو ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي فالصيرفي مثقال وثلث من الشرعي.
(الرابع) ـ المشهور
بين الأصحاب ان كافور الغسل خارج عن هذا المقدار الذي ورد للحنوط ، وقيل انه داخل
فيه واليه مال في الوافي ، وظني بعده فان ظواهر
الأخبار المذكورة انما تساعد على القول المشهور ، فان قوله (عليهالسلام) : «السنة في الحنوط ثلاثة عشر درهما وثلث». يقتضي تخصيص
هذا المقدار بالحنوط ، وباقي الأخبار وان كانت مطلقة إلا انه يجب حمل إطلاقها على
هذا الخبر المقيد ، وأصرح منه قوله (عليهالسلام) في عبارة كتاب الفقه الرضوي الثانية : «إذا فرغت من غسله حنطته بثلاثة عشر درهما وثلث درهم
كافورا». وترجيح هذا القول بالاحتياط ظاهر ، والخلاف المذكور في المسألة لم يستند
الى معين وانما نقلوا عن ابن إدريس انه حكى عن بعض الأصحاب المشاركة وقال ان
الأظهر عنهم خلافه.
(الخامس) ـ ينبغي
ان يعلم ان ثلاثة عشر درهما وثلثا الذي هو القدر الأعلى من الحنوط يكون بالمثاقيل
الشرعية التي هي عبارة عن الدنانير الرائجة التي لم تتغير في جاهلية ولا إسلام
تسعة مثاقيل وثلث وبالمثاقيل الصيرفية المعروفة بين الناس سبعة مثاقيل ، لما تقدم
تحقيقه من ان المثقال الشرعي درهم وثلاثة أسباع درهم والدرهم نصف المثقال الشرعي
وخمسه ، فيكون مقدار عشرة دراهم سبعة مثاقيل شرعية وبموجب ذلك تصير الثلاثة عشر
درهما وثلث تسعة مثاقيل وثلثا بإضافة الثلث من كل منهما الى الأصل واما كونها
بالمثاقيل الصيرفية سبعة فلما عرفت من ان المثقال الصيرفي مثقال وثلث من الشرعي
والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي ولا ريب ان سبعة أربعة أثلاث تسعة وثلث.
(السادس) ـ قد
تعارضت الروايات في جانب الأقل من المثقال ومثقال ونصف وفي الوسط بين أربعة مثاقيل
وأربعة دراهم ، والجمع بالحمل على التخيير في كل من الموضعين.
(السابع) ـ قال
في الوافي : «والحنوط يقال لكل طيب يحنط به الميت إلا ان السنة جرت ان يحنط
بالكافور كما ورد عن أهل البيت (عليهمالسلام) وهو طيب
__________________
معروف يكون في أجواف شجر بجبال الهند خشبه أبيض هش يظل خلقا كثيرا وهي
أنواع ولونها احمر وانما تبيض بالتصعيد ، كذا في القاموس. وقال بعض فقهائنا : الكافور
صمغ يقع من شجر فكلما كان جلالا وهو الكبار من قطعه لا حاجة له الى النار ويقال له
الكافور الخام وما يقع من صغار ذلك الصمغ من الشجر في التراب يؤخذ بترابه ويطرح في
قدر فيها ماء يغلي ويميز من التراب فذلك لا يجزئ في الحنوط. انتهى كلامه. وما قاله
من عدم اجزاء المطبوخ غير واضح بل الظاهر من إطلاق الأخبار وكلام الأصحاب اجزاؤه.
وما يقال ان مطبوخه يطبخ بلبن الخنزير ليشتد بياضه لم يثبت ، وكذا ما قيل انه لبن
دويبة كالسنور تسمى بالزباد» انتهى كلام المحدث المشار إليه.
(المسألة
الثالثة) ـ قد عرفت مما تقدم اجزاء الكفن الواجبة واما المستحبة فمنها ـ ما ذكره
جمع من المتأخرين من انه يستحب ان يزاد الرجل حبرة ومع تعذرها ثوب آخر يقوم مقامها
في لف الكفن ، والحبرة كعتبة برد يماني ، وزاد بعضهم في وصفه عبرية بكسر العين
نسبة الى بلد في اليمن أو جانب واد ، وقال في المختلف : «ويستحب ان يزاد في أكفان
الرجل حبرة بكسر الحاء وفتح الباء ولفافة غيرها وتزاد المرأة لفافة أخرى ونمطا ،
قاله الشيخ الطوسي ، وقال المفيد يستحب ان تزاد المرأة في الكفن ثوبين وهما
لفافتان أو لفافة ونمط ، وقال سلار تزاد لفافتان ، وقال ابن إدريس تزاد لفافة أخرى
لشد ثدييها وروى نمط ، والصحيح الأول وهو مذهب الشيخ في الاقتصاد ، لان النمط هو
الحبرة وقد زيدت على أكفانها لان الحبرة مشتقة من التزيين والتحسين ، وكذلك النمط
وهو الطريقة وحقيقته الأكسية والفرش ذات الطرائق ومنه سوق الأنماط ، ثم استدل الشيخ
في التهذيب على ما قاله المفيد بما رواه عن سهل بن زياد عن بعض أصحابنا رفعه قال : «سألته كيف تكفن المرأة؟ فقال كما يكفن الرجل غير
انه يشد على ثدييها خرقة تضم الثدي إلى الصدر وتشد الى ظهرها.». وعن محمد بن مسلم
عن ابي جعفر (عليه
__________________
السلام) قال : «يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة إذا كانت
عظيمة في خمسة أثواب : درع وخمار ومنطق ولفافتين». وعن عبد الرحمن بن ابي عبد الله
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تكفن المرأة في خمسة أثواب أحدها الخمار». وليس
فيه دلالة على مطلوب الشيخ هنا. وقول ابن إدريس ان النمط هو الحبرة فيه نظر لان
علي بن بابويه قال في أعداد الكفن للميت في رسالته : «ثم اقطع كفنه تبدأ بالنمط
فتبسطه وتبسط عليه الحبرة وتنثر عليها شيئا من الذريرة وتبسط الإزار على الحبرة
وتنثر عليه شيئا من الذريرة وتبسط القميص على الإزار» انتهى كلامه في المختلف.
وقال الصدوق في الفقيه : «والكفن المفروض ثلاثة : قميص وإزار ولفافة سوى العمامة
والخرقة فلا يعدان من الكفن فمن أحب ان يزيد ثوبين حتى يبلغ العدد خمسة أثواب فلا
بأس» انتهى. وقد تقدم نقل عبارة الجعفي وابي الصلاح الدالتين على زيادة لفافتين
ايضا. وبالجملة فالظاهر ان المشهور بين متقدمي الأصحاب استحباب لفافتين زائدتين
على الأثواب الثلاثة المفروضة ، والشيخ المفيد خصهما بكفن المرأة واما الرجل
فلفافة واحدة كما قدمناه آنفا من عبارته. ولم نقف في الاخبار التي وصلت إلينا على
ما يدل على ما ذكروه من زيادة لفافتين على الكفن المشهور سوى عبارة كتاب الفقه.
وجملة من
متأخري المتأخرين قد استدلوا لمن ذكر استحباب زيادة الرجل حبرة أو مع المرأة
بالأخبار المشتملة على عد الحبرة من جملة أجزاء الكفن الواجب ثم ردوها بذلك ، إذ
غاية ما يفهم من الأخبار كون الحبرة أحد الثواب الثلاثة لا مستحبة زائدة عليها.
أقول : قد روى
الشيخان الكليني والطوسي بسنديهما عن يونس بن يعقوب عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : اني كفنت أبي في ثوبين شطويين كان
يحرم فيهما وفي قميص من قمصه وعمامة كانت لعلي بن الحسين (عليهماالسلام) وفي
__________________
برد اشتريته بأربعين دينارا لو كان اليوم لساوى أربعمائة دينار». وظاهر هذا
الخبر ـ كما ترى ـ الدلالة على ما ذكره متأخر والأصحاب من زيادة الحبرة التي أشار
إليها هنا بالبرد على الأثواب الثلاثة الواجبة. إلا ان ظاهر ما رواه في الكافي في
الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) ـ قال : «كتب أبي في وصيته ان أكفنه في ثلاثة أثواب
أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص ، فقلت لأبي ولم تكتب
هذا؟ فقال أخاف ان يغلبك الناس فان قالوا كفنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل وعممني
بعمامة وليس تعد العمامة من الكفن انما يعد ما يلف به الجسد». ونحو هذه الرواية
نقل في الفقه الرضوي عن العالم والظاهر ان مراده الصادق (عليهالسلام) كما أشرنا إليه آنفا ، قال في الكتاب المذكور : «وقال العالم : وكتب أبي في وصيته ان أكفنه في ثلاثة
أثواب أحدها رداء له حبرة وكان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص فقلت لأبي لم
تكتب هذا؟ فقال انى أخاف ان يغلبك الناس يقولون كفنه بأربعة أثواب أو خمسة فلا
تقبل قولهم. وعصبته بعد بعمامة ، وليس تعد العمامة من الكفن انما يعد ما يلف به
الجسد ، وشققنا له القبر شقا من أجل انه كان رجلا بدينار وأمرني أن أجعل ارتفاع
قبره أربع أصابع مفرجات» انتهى ـ هو ان ما زاد على الثلاثة من الأثواب الشاملة
للبدن انما خرج مخرج التقية فيجب حمل الخبر المذكور على ذلك ويؤيده
__________________
ما تقدم في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم أو حسنتهما من قوله (عليهالسلام) بعد ذكر الثلاثة المفروضة : «وما زاد فهو سنة الى ان
يبلغ خمسة أثواب فما زاد فهو مبتدع والعمامة سنة». واما احتمال ان يراد ان ما زاد
على الثلاثة المفروضة من اللفائف فهو سنة الى ان يبلغ خمسة وان المراد بالخمسة ما
عدا العمامة وخرقة الفخذين فالظاهر بعده بل المراد بالخمسة انما هو الثلاثة
المفروضة مع العمامة والخرقة ولذا اشتهر تسمية الخرقة بالخامسة ، ومقتضى كلام
الصدوق ـ وهو قوله : «ومن أحب ان يزيد ثوبين حتى يبلغ العدد خمسة أثواب فلا بأس» ـ
إمكان حمل الخبر المذكور عليه ، ونحوه عبارة الجعفي المتقدمة أيضا وعبارة ابن
البراج في الكامل حيث قال : «تسن لفافتان زيادة على الثلاثة المفروضة إحداها حبرة
يمنية فإن كان الميت امرأة كانت احدى اللفافتين نمطا ، فهذه الخمس هي الكفن ولا
يجوز الزيادة عليها ، ويتبع ذلك وان لم يكن من الكفن خرقة وعمامة وللمرأة خرقة
الثديين» ونحوه قال في التهذيب ، ويشير الى ذلك ما تقدم في عبارة كتاب الفقه من
قوله (عليهالسلام) : «ويكفن بثلاث قطع وخمس وسبع». فان الظاهر ان السبع
انما هو بإضافة اللفافتين إلى الخمسة الحاصلة من الواجب والمستحب ، وبالجملة فإن
إطلاق لفظ الخمس على غير العمامة وخرقة الفخذين شائع في كلام كثير منهم. ولا يخفى
انه مع الحمل على ما دلت عليه هذه العبارات يكون معارضا بما تقدم من صحيحة الحلبي
ورواية كتاب الفقه الرضوي الدالتين على وصية الباقر (عليهالسلام) بعدم الزيادة على الثلاثة المفروضة من تلك الأثواب ،
وان مذهب العامة يومئذ زيادتها الى ان تكون أربعة أو خمسة. وبالجملة فإنه بالنظر
الى اشتهار هذا الحكم بين المتقدمين كما عرفت ربما أمكن حمل الخبر المذكور عليه ،
فإنه من البعيد كل البعد انهم يذهبون الى ذلك من غير
__________________
دليل يصل إليهم ولا سيما مثل الشيخ الصدوق الذي هو من أرباب النصوص وأبوه
من بينهم بالخصوص. والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال.
ثم انه على
تقدير الخمس المذكورة قد اختلفت عبائرهم في اشتراك المرأة والرجل فيها كما يظهر من
إطلاق جملة من عبائرهم أو اختصاص المرأة بها دون الرجل أو زيادة المرأة عليها.
ومنها ـ النمط
للمرأة صرح به جمع من الأصحاب ، قالوا : وتزاد المرأة نمطا وهو لغة ضرب من البسط
أو ثوب فيه خطط مأخوذ من الأنماط وهي الطريق ، وفسره ابن إدريس بالحبرة لدلالة
الاسمين على الزينة ، وقد تقدم في كلام المختلف رده ، والمشهور مغايرة النمط
للحبرة ، واستدلوا على استحبابه للمرأة بقول الباقر (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة إذا كانت عظيمة
في خمسة : درع ومنطق وخمار ولفافتين». قال في المدارك : «وليس فيها دلالة على
المطلوب بوجه فان المراد بالدرع القميص والمنطق بكسر الميم ما يشد به الوسط ولعل
المراد به هنا ما يشد به الثديان والخمار القناع لانه يخمر به الرأس ، وليس فيها
ذكر للنمط بل ولا دلالة على استحباب زيادة المرأة لفافة عن كفن الرجل ، لما بيناه
فيما سبق من ان مفاد الاخبار اعتبار الدرع واللفافتين أو الثلاث لفائف في مطلق
الكفن» انتهى. أقول : اما ما ذكره ـ من عدم دلالة الرواية على ما ادعوه ـ ففيه ان
مبنى الاستدلال بالرواية انما هو على ان الكفن الواجب قميص وإزار ولفافة كما هو
المشهور بين المتقدمين والمتأخرين ولا مخالف فيه إلا هو ومن تبعه ، وقد عبر في
الرواية عن القميص بالدرع وعن الإزار بالمنطق كما أوضحناه فيما تقدم ، وبه صرح
شيخنا الشهيد في الذكرى والشيخ البهائي في الحبل المتين فإنهما فسرا المنطق في
الرواية ـ بعد ذكرهما معناه لغة وعدم مناسبة المعنى اللغوي للمقام ـ بالإزار ، وهو
الحق ، واحدى اللفافتين هي أحد أجزاء الكفن الواجب واللفافة الأخرى هي
__________________
أحد أجزاء الكفن الواجب واللفافة الأخرى هي النمط وان لم يعبر عنها بالنمط
أو انها لفافة أخرى عوض النمط ، فإنهم صرحوا بالنسبة إلى الحبرة المستحبة في الكفن
بأنه لو لم يجدها جعل عوضها لفافة فكذا النمط ، وبه يتم الاستدلال بالرواية
المذكورة. واما ما ذكره من حمل المنطق على خرقة الثديين فبعيد غاية البعد كما لا
يخفى ، قال في الحبل المتين : «والمنطق كمنبر شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم
ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة والأسفل ينجر على الأرض ، قاله صاحب القاموس.
ولعل المراد به هنا المئزر كما قاله شيخنا في الذكرى. وقال بعض الأصحاب لعل المراد
ما يشد به الثديان. وهو كما ترى» انتهى كلام شيخنا المذكور. ولا يخفى ان هذا البعض
الذي أشار إليه هو صاحب المدارك كما نقلناه عنه ، والظاهر ان السيد السند لا يخفى
عليه بعد هذا المعنى ولكنه انما ارتكبه فرارا عما أنكره من وجود الإزار والمئزر في
الأخبار مع انا قد بينا وجوده في غير هذا الخبر ايضا كما قدمنا بيانه.
بقي الكلام في
ان كلام الأصحاب مضطرب في اختصاص زيادة هذا الثوب بالمرأة أو مشاركة الرجل لها.
واما وجود هذا الثوب للمرأة بلفظ النمط فلم يصل إلينا في الأخبار وان ذكره شيخنا
المفيد ونحوه كما قدمنا ذكره ، إلا انك قد عرفت من صحيحة الحلبي أو حسنته ومن
رواية كتاب الفقه ان ما زاد على الثلاثة المفروضة فهو من سنن العامة وبموجبه يجب
حمل كل ما تضمن الزيادة على التقية. وبالجملة فالاحتياط في ترك الزيادة على
الثلاثة المفروضة من الأثواب التي يلف فيها البدن. والله العالم.
ومنها ـ الخرقة
التي يشد بها الفخذان وتسمى عند الأصحاب بالخامسة كما ذكره في الذكرى ، وهي للرجال
والنساء كما يفهم من الأخبار وما ذكر فيها من التعليل بعدم خروج شيء منه مع
التصريح في بعضها بالقبل ، واستحبابها ثابت بالروايات المستفيضة كما في رواية عبد
الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الميت يكفن في ثلاثة
__________________
أثواب سوى العمامة والخرقة يشد بها وركيه كيلا يبدو منه شيء». وقد تقدم في
رواية عمار وقال «تحتاج المرأة من القطن لقبلها قدر نصف من ، وقال
: التكفين ان تبدأ بالقميص ثم بالخرقة فوق القميص على ألييه وفخذيه وعورته وتجعل
طول الخرقة ثلاثة أذرع ونصفا وعرضها شبرا ونصفا ثم يشد الإزار. الحديث». وفي رواية
يونس المتقدمة في كيفية الغسل «وخذ خرقة طويلة عرضها شبر فشدها من
حقويه وضم فخذيه ضما شديدا ولفها في فخذيه ثم اخرج رأسها من تحت رجليه الى الجانب
الأيمن وأغرزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة وتكون الخرقة طويلة تلف فخذيه من
حقويه الى ركبتيه لفا شديدا». وفي رواية الكاهلي المتقدمة نحوه ، ولا منافاة في تقدير العرض بين روايتي عمار
ويونس ، إذ الظاهر ان المراد انما هو التقريب في ذلك لا ان يكون حدا شرعيا. قال في
المدارك بعد ذكر جملة من هذه الأخبار : «وهذه الروايات وان كانت ما بين ضعيف ومرسل
إلا انها مؤيدة بعمل الأصحاب فلا تقصر عن إثبات حكم مستحب» أقول : لا يخفى ما فيه
من الوهن والمجازفة وذلك فان الاستحباب حكم شرعي والقول به بغير دليل واضح قول على
الله بغير علم كما في الوجوب ولا فرق بينهما في وجوب الدليل ، وحينئذ فإن صلح
العمل بالخبر الضعيف المؤيد بعمل الأصحاب فيجب ان يقف عليه في جميع الأبواب مع ان
كلامه في ذلك مضطرب غاية الاضطراب ، على انا نقول ايضا انه لا وجه للعمل بالخبر
الضعيف المؤيد بعمل الأصحاب كما يكررونه ويتسترون به عن إلزامهم بالخروج عن
اصطلاحهم المشار إليه. فإنه ان كان الخبر الضعيف دليلا شرعيا وجب العمل عليه مطلقا
وإلا وجب رميه وإلغاؤه مطلقا ، فيرجع العمل فيما ذكروه إلى متابعة الأصحاب من غير
دليل في المقام إذ المفروض رمي الضعيف من البين وعدم الاعتداد به بالكلية ، ولا
أراه يلتزمه ولا يقول به : ثم قال (قدسسره) : «وقد يظهر من مجموعها ان صورة وضع هذه الخرقة ان
تربط أحد طرفيها في وسط الميت اما بان يشق رأسها أو يجعل فيها خيط ونحوه ثم تدخل
الخرقة من بين فخذيه وتضم بها
__________________
عورته ضما شديدا وتخرجها من تحت الشداد الذي على وسطه ثم تلف حقويه وفخذيه
بما بقي لفا شديدا فإذا انتهت ادخل طرفها تحت الجزء الذي انتهت عنده منها» انتهى. وهو
جيد.
ومنها ـ العمامة
للرجل وتحنيكه بها. والحكمان مجمع عليهما والاخبار بهما كثيرة قد تقدم بعضها وانما
يبقى الكلام في كيفية ذلك ، ففي رواية معاوية بن وهب المتقدمة «وعمامة يعمم بها ويلقى فضلها على صدره». وفي رواية يونس عنهم (عليهمالسلام) «ثم يعمم يؤخذ وسط العمامة فيثنى على رأسه بالتدوير ثم يلقى فضل الشق
الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ثم يمد على صدره». وفي رواية عثمان النوا عن
الصادق (عليهالسلام) «وإذا عممته فلا تعممه عمة الأعرابي. قلت كيف اصنع؟ قال خذ العمامة من
وسطها وانشرها على رأسه ثم ردها الى خلفه واطرح طرفيها على صدره». وفي بعض النسخ «على
ظهره» وفي حسنة حمران بن أعين «ثم خذوا عمامة وانشروها مثنية على رأسه واطرح طرفيها من خلفه وابرز جبهته».
وفي صحيحة ابن ابي عمير أو حسنته عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) «في العمامة للميت قال حنكه». وفي صحيحة عبد الله بن سنان «وعمامة تعصب بها رأسه وترد فضلها على رجليه». هكذا في التهذيب والظاهر انه
تحريف وفي الكافي «ويرد فضلها على وجهه». وفي موثقة عمار «وليكن طرف العمامة متدليا على جانبه الأيسر قدر شبر ترمى بها على وجهه». وفي
الفقه الرضوي
__________________
«ثم تعممه وتحنكه فتثني على رأسه بالتدوير وتلقي فضل الشق الأيمن على
الأيسر والأيسر على الأيمن ثم تمد على صدره ثم تلفه باللفافة ، وإياك ان تعممه عمة
الأعرابي وتلقي طرفي العمامة على صدره». وهذه الرواية عين ما في رواية يونس وهي
الصورة المشهورة في كلام الأصحاب. واما عمة الأعرابي المنهي عنها فالظاهر انها غير
مشتملة على التحنيك وانما هي ان يلف وسط العمامة على رأسه ويلقى طرفها الأيمن على
جانب الصدر الأيمن والأيسر على الأيسر من غير ان يمد كل منهما إلى الجهة الثانية
كما في الخبرين المذكورين ، قال في المبسوط : «عمة الأعرابي بغير حنك» ويمكن حمل
رواية معاوية بن وهب على ما دلت عليه الروايتان المذكورتان. ولا تقدير لطول
العمامة شرعا فيعتبر فيها ما يؤدي هذه الهيئة وفي العرض ما يطلق معه عليها اسم
العمامة كما صرح به الأصحاب.
ومنها ـ الخمار
للمرأة عوض العمامة للرجل ، ذكره الأصحاب ، ويدل عليه صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة
وقوله (عليهالسلام) فيها : «وتكفن المرأة إذا كانت عظيمة في خمسة : درع
ومنطق وخمار. الخبر». وسمي به لانه يخمر الرأس اي يستره.
ومنها ـ خرقة
الثديين ويدل عليها ما رواه في الكافي عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه رفعه قال : «سألته كيف تكفن المرأة؟ فقال كما يكفن الرجل غير
انها تشد على ثدييها خرقة تضم الثدي إلى الصدر وتشد الى ظهرها ويوضع لها القطن
أكثر مما يوضع للرجال ويحشى القبل والدبر بالقطن والحنوط ثم تشد عليها الخرقة شدا
شديدا».
(المسألة
الرابعة) ـ من المستحبات في هذا المقام زيادة على ما تقدم انه بعد الفراغ من غسله
ينشفه بثوب طاهر وكأنه صونا للكفن عن البلل ، ففي خبر يونس المتقدم «ثم نشفه بثوب طاهر». وفي خبر عمار «ثم تجففه بثوب نظيف». وفي
__________________
خبر الحلبي «إذا فرغت من غسله جعلته في ثوب نظيف جففته». وفي كتاب الفقه «فإذا فرغت من الغسلة الثالثة فاغسل يديك من المرفقين إلى أطراف أصابعك
والق عليه ثوبا تنشف به عنه الماء».
ومنها ـ ما
ذكره الأصحاب من انه يستحب اغتسال الغاسل قبل تكفينه أو الوضوء ، وممن ذكر ذلك
الصدوق في الفقيه فقال بعد ذكر الغسل والتنشيف : «ثم يغتسل الغاسل يبدأ بالوضوء ثم
يغتسل ثم يضع الميت في أكفانه» واعترضهم جملة من متأخري المتأخرين بعدم المستند في
هذا الحكم بل ربما كان الظاهر من الروايات خلافه ، وهو كذلك فان في صحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت له : الذي يغمض الميت ، الى ان قال : فالذي
يغسله يغتسل؟ قال : نعم. قلت فيغسله ثم يلبسه أكفانه قبل ان يغتسل؟ قال يغسله ثم
يغسل يديه من العاتق ثم يلبسه أكفانه ثم يغتسل». وفي صحيحة يعقوب بن يقطين
المتقدمة «ثم يغسل الذي غسله يده قبل ان يكفنه الى المنكبين ثلاث مرات ثم إذا كفنه
اغتسل». وفي حديث عمار عن الصادق (عليهالسلام) «ثم تغسل يديك الى المرافق ورجليك الى الركبتين ثم تكفنه». وقد تقدم في
عبارة كتاب الفقه نحو ذلك ايضا وهي كالصريحة في استحباب تقديم التكفين على الغسل
وانما المأمور به غسل اليدين من العاتق كما اشتمل عليه بعضها أو من المرفق كما
اشتمل عليه الآخر ، والأحوط الأول ، وكذلك الأحوط ان يكون ثلاثا كما دل عليه صحيح
يعقوب ، وظاهر شيخنا في الذكرى حمل هذه الأخبار على خوف تضرر الميت بالتأخير ، قال
(قدسسره) بعد ذكر كيفية التكفين : «وليكن ذلك بعد غسل الغاسل من
المس أو بعد وضوئه الذي يجامع الغسل ، فان خيف على الميت فليغسل الغاسل يديه الى
المنكبين كما رواه
__________________
يعقوب بن يقطين عن العبد الصالح (عليهالسلام) ، ثم ذكر خبر محمد بن مسلم وقال بعده : ويمكن حمله على
الضرورة» وليت شعري أي معارض لهذه الاخبار في المقام يوجب تأويلها بما ذكره؟ مع
انهم لم ينقلوا مستندا لما ذكروه وانما علله العلامة في التذكرة بأن الغسل من المس
واجب فاستحب الفورية به. ولا يخفى ما فيه.
ومنها ـ وضع
جريدتين خضراوين ، وهذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب ، والجريدة هي العود الذي
يجرد عنه الخوص وما دام الخوص فيه فإنه يسمى سعفا ، قال شيخنا المفيد في المقنعة : «والأصل في وضع الجريدة مع الميت ان الله تعالى لما
اهبط آدم من الجنة إلى الأرض استوحش في الأرض فسأل الله تعالى ان ينزل إليه شيئا
من أشجار الجنة يأنس به فأنزلت عليه النخلة فلما رآها عرفها وانس بها وأوى إليها.
فلما جمع الله بينه وبين زوجته حواء واقام معها ما شاء الله تعالى ان يقيم وأولدها
ثم حضرته الوفاة جمع ولده وقال : يا بني اني كنت قد استوحشت عند نزولي هذه الأرض
فآنسني الله تعالى بهذه النخلة المباركة وانا أرجو الأنس بها في قبري فإذا قضيت
نحبي فخذوا منها جريدة فشقوها باثنين وضعوها معي في أكفاني ، ففعل ذلك ولده بعد موته
وفعلته الأنبياء بعده ثم اندرس أثره في الجاهلية فأحياه النبي (صلىاللهعليهوآله) وشرعه ووصى أهل بيته باستعماله فهو سنة الى ان تقوم
الساعة» انتهى. وقال في التهذيب : «سمعت ذلك مرسلا من الشيوخ ومذاكرة ولم يحضرني الآن
إسناده وجملته ان آدم (عليهالسلام) لما أهبطه الله تعالى من الجنة ، وساق الكلام المذكور
ثم قال : وقد روي ان الله عزوجل خلق النخلة من فضله الطينة التي خلق منها آدم (عليهالسلام) فلأجل ذلك تسمى النخلة عمة الإنسان». انتهى.
أقول :
والأخبار بفضل الجريدتين في هذا المقام مستفيضة من طرق الخاصة
__________________
والعامة ، قال الشيخ في التهذيب : «وقد روي من طريق العامة في أصل التخضير
شيء كثير» . إلا ان العامة لمزيد تعصبهم على الشيعة والسعي في
خلافهم قد عدلوا عن كثير من السنن مراغمة للشيعة حيث انهم يواظبون عليها ويؤكدون
العمل بها ، ومنها هذا الموضع كما سيظهر لك من الأخبار ، ومنها تسطيح القبور عدلوا
عنه الى التسنيم مع اعترافهم بأن السنة انما هو التسطيح وانما صاروا الى التسنيم
مراغمة للشيعة ، ومنها التختم باليمين ، ومنها ترك الصلاة على الأئمة المعصومين ،
ونحو ذلك مما أوضحنا الكلام فيه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد.
ومن الاخبار
الواردة في فضلهما وفيما يتعلق بهما في هذا المقام ما رواه في الفقيه في الصحيح عن
زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) أرأيت الميت إذا مات لم تجعل معه الجريدة؟ فقال يتجافى
عنه العذاب والحساب ما دام العود رطبا ، انما العذاب والحساب كله في يوم واحد في
ساعة واحدة قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم ، وانما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبه
عذاب ولا حساب بعد جفوفها ان شاء الله تعالى». ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن
يعقوب مثله. وبإسناده عن الحسن بن زياد «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الجريدة التي تكون مع الميت فقال تنفع المؤمن
__________________
والكافر». وعن يحيى بن عبادة المكي انه قال : «سمعت سفيان الثوري يسأل أبا جعفر (عليهالسلام) عن التخضير فقال ان رجلا من الأنصار هلك فأوذن رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) بموته فقال لمن يليه من قرابته خضروا صاحبكم فما أقل
المخضرين يوم القيامة. قال وما التخضير؟ قال جريدة خضراء توضع من أصل اليدين إلى
أصل الترقوة». قال : «وسئل الصادق (عليهالسلام) عن علة الجريدة فقال يتجافى عنه العذاب ما دامت رطبة» . قال في الوافي : «انما كان المخضرون قلائل يوم القيامة
لأن المخالفين للشيعة لا يخضرون موتاهم وهم الأكثرون مع انهم رووا في فضله أخبارا
كثيرة كما قاله في التهذيب» وروى في الكافي عن رجل عن يحيى بن عبادة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع وتوضع ـ وأشار بيده من
عند ترقوته الى يده ـ تلف مع ثيابه». وروى الصدوق في معاني الأخبار هذا الخبر في
الصحيح بزيادة في أوله عن يحيى بن عبادة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول ان رجلا مات من الأنصار فشهد رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) فقال خضروه فما أقل المخضرين يوم القيامة. فقلت لأبي
عبد الله (عليهالسلام) وأي شيء التخضير؟ قال تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع فتوضع
ـ وأشار بيده الى عند ترقوته ـ تلف مع ثيابه». قال الصدوق بعد إيراده الخبر : «جاء
هذا الخبر هكذا والذي يجب استعماله ان يوضع للميت جريدتان من النخل خضراوان رطبتان
طول كل واحدة قدر عظم الذراع تجعل إحداهما من عند الترقوة تلصق بجلده وعليه القميص
والأخرى عند وركه ما بين القميص والإزار فان لم يقدر على جريدة من النخل فلا بأس
ان يكون من غيره من بعد ان يكون رطبا» انتهى.
وروى في الكافي
في الصحيح الى الحسن بن زياد الصيقل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «توضع للميت جريدتان واحدة في اليمين
__________________
والأخرى في الأيسر ، قال وقال : الجريدة تنفع المؤمن والكافر». الى غير ذلك
من الاخبار الآتية ان شاء الله تعالى في المقام.
ومما يدل على
اشتراط كونهما خضراوين زيادة على ما تقدم فلا تجزئ اليابسة ما رواه في التهذيب عن
محمد بن علي بن عيسى قال : «سألت أبا الحسن الأول عن السعفة اليابسة إذا
قطعها بيده هل يجوز للميت توضع معه في حفرته؟ فقال لا يجوز اليابس».
وتمام البحث
هنا يقع في مواضع (الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف في استحباب كون الجريدتين من النخل
، انما الخلاف في بدلهما لو تعذرتا ، فقيل كل شجر رطب ونقل عن ابن بابويه والجعفي
والشيخ في الخلاف وابن إدريس واستجوده في الذكرى ، وقيل من الخلاف وإلا فمن السدر
وإلا فمن شجر رطب ونسب الى الشيخ المفيد وسلار ، وقيل بتقديم السدر على الخلاف
ذكره المحقق في الشرائع وهو مذهب الشيخ في النهاية والمبسوط وقال في المدارك وهو
المشهور ، وزاد الشهيد في الدروس والبيان الرمان بعد الخلاف ، وقيل الشجر الرطب.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل عن غير واحد من
أصحابنا قالوا : «قلنا له جعلنا فداك ان لم نقدر على الجريدة؟ فقال
عود السدر. قيل فان لم نقدر على السدر؟ فقال عود الخلاف». وظاهر هذه الرواية
الدلالة على القول الثالث الذي هو المشهور وروى في الفقيه قال : «كتب علي بن بلال الى ابي الحسن الثالث (عليهالسلام) : الرجل يموت في بلاد ليس فيها نخل فهل يجوز مكان
الجريدة شيء من الشجر غير النخل؟ فإنه قد روي عن آبائكم (عليهمالسلام) انه يتجافى عنه العذاب ما دامت الجريدتان رطبتين
وانهما تنفع المؤمن والكافر. فأجاب (عليهالسلام) يجوز من شجر آخر رطب». وهذه الرواية ظاهرة في الدلالة
على القول
__________________
الأول ، ونحوها روي في الكافي عن علي بن بلال : «انه كتب إليه يسأله عن الجريدة إذا لم نجد نجعل
بدلها غيرها في موضع لا يمكن النخل؟ فكتب : يجوز إذا أعوزت الجريدة والجريدة أفضل
وبه جاءت الرواية». أقول : ومراده (عليهالسلام) بالرواية يعني عن الرسول (صلىاللهعليهوآله) قال في الكافي بعد هذه الرواية : وروى علي بن إبراهيم
في رواية أخرى قال : «يجعل بدلها عود الرمان» . وظاهر هذا الخبر الأخير انه مع فقدها من النخل تبدل
بشجر الرمان من غير ترتيب. والظاهر ان ما ذهب اليه الشهيد في الدروس والبيان ناشىء
من الجمع بين هذه الروايات بتقديم الخلاف على الرمان وتقييد إطلاق روايتي علي بن
بلال برواية الرمان فيكون الرمان مقدما على الشجر الرطب ، وفي كتاب الفقه الرضوي «فان لم تقدر على جريدة من النخل فلا بأس بأن يكون من غيره بعد ان يكون
رطبا». وهي في معنى رواية علي بن بلال. والجمع بين الاخبار المذكورة بالتخيير جيد.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب في مقدار الجريدة ، فالمشهور ـ وهو مذهب الشيخين ومن تبعهما وعلي بن
بابويه ـ انه قدر عظم الذراع ، وقال الصدوق في الفقيه : «طول كل واحدة قدر عظم
الذراع وان كانت قدر ذراع فلا بأس أو شبر فلا بأس» وقال ابن ابي عقيل : «مقدار كل
واحدة أربع أصابع إلى ما فوقها».
ومنشأ اختلاف
هذه الأقوال اختلاف الرواية بذلك ، ففي روايتي يحيى بن عبادة المتقدمتين انها قدر ذراع ، وفي الكافي في الصحيح أو الحسن عن جميل
بن دراج قال قال : «ان الجريدة قدر شبر توضع واحدة من عند الترقوة
الى ما بلغت مما يلي الجلد والأخرى في الأيسر من عند الترقوة الى ما بلغت من فوق
القميص». وقد تقدم
__________________
في رواية يونس الواردة في كيفية التكفين انها قدر ذراع ، وفي الفقه
الرضوي «روي ان الجريدتين كل واحدة بقدر عظم الذراع». أقول : ان هذه الرواية هي
مستند المشهور فانا لم نقف في الاخبار المشهورة بين الأصحاب على ما يدل على هذا
القول مع شهرته ، والظاهر ان الجماعة تبعوا فيه علي بن الحسين بن بابويه حيث انه
ذكر ذلك في رسالته كما نقلوه عنه ، وقد عرفت وستعرف ان عباراته وجل رسائله مأخوذة
من هذا الكتاب ، والصدوق في الفقيه جمع بين الروايات الثلاث بالتخيير كما قدمنا في
عبارته ، والعجب ان المتأخرين تلقوا هذا القول بالقبول مع عدم إتيانهم عليه بدليل
حتى قال الشهيد في الذكرى وتبعه من تأخر عنه فيه : «والمشهور قد عظم الذراع وفي
خبر يونس قدر ذراع وروى الصدوق قدر الذراع أو الشبر وفي خبر جميل بن دراج قدر شبر
وابن ابي عقيل قدر أربع أصابع فما فوقها ، والكل جائز لثبوت الشرعية مع عدم القاطع
على قدر معين» وفيه انه لا ريب وان كان الشرعية حاصلة بوضع الجريدة بأي قدر كان
لان الغرض تعلق بدفعها العذاب عنه ما دامت خضراء إلا ان السنة المطهرة قدر حددتها
بحد وان اختلفت الرواية في ذلك الحد ، ومقتضى ما تلوناه من اخبار المسألة ان ذلك
دائر بين الشبر والذراع ، والواجب ـ كما هو قضية الاختلاف بين الأخبار ـ اما
الترجيح بين الخبرين أو التخيير جمعا ، ومن ذلك يظهر سقوط القول بعظم الذراع
والقول بأربع أصابع. وقوله : «مع عدم القاطع على قدر معين» لا معنى له بعد وصول
الخبرين المذكورين فان الحد المعين دائر بين هذين الحدين المذكورين. ومقتضى
قواعدهم واصطلاحهم في الاخبار هو ترجيح رواية جميل لأنها حسنة عندهم وحسنها انما
هو بإبراهيم بن هاشم الذي لا يقصر حديثه عندهم عن الصحيح بل عده في الصحيح جمع
منهم والأخبار الباقية ضعيفة باصطلاحهم. هذا ان عملوا بمقتضى هذا الاصطلاح وإلا فالواجب
الجمع بالتخيير بين الروايتين وبه يظهر سقوط القولين الآخرين ، فقوله : «والكل
__________________
جائز إلا وجه له كما عرفت ، ولو تم هذا الكلام في هذا المقام لانجر الى
غيره من الأحكام وهم لا يقولون بذلك بل يدورون مدار الأدلة والاخبار ولا سيما
متأخري المتأخرين. وبالجملة فكلامهم هنا لا يخلو من مسامحة. وكيف كان فبما أوضحناه
من رواية عظم الذراع فالوجه هو التخيير بين الروايات الثلاث كما صرح به في الفقيه
ورد القول بالأربع أصابع لعدم الوقوف على مستنده ، وتعليل شيخنا المشار إليه في
قبوله عليل كما عرفت.
(الثالث) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في محلهما فالمشهور انه يجعل إحداهما من الجانب الأيمن
من ترقوتة يلصقها بجلده والأخرى من الجانب الأيسر كذلك بين القميص والإزار ، ذهب
اليه الصدوق في المقنع والشيخان وجمهور المتأخرين وذهب علي بن بابويه والصدوق في
غير المقنع الى جعل اليمنى مع ترقوته يلصقها بجلده ويمد عليه قميصه واليسرى عند
وركه بين القميص والإزار ، وعن الجعفي ان إحداهما تحت الإبط الأيمن والأخرى نصف
مما يلي الساق ونصف مما يلي الفخذ ، وعن ابن ابي عقيل انها واحدة تحت إبطه الأيمن.
والروايات في
ذلك لا تخلو من الاختلاف ، ففي صحيحة جميل أو حسنته المتقدمة قريبا ما يدل على القول المشهور ، وفي رواية يونس المتقدمة «تجعل له واحدة بين ركبتيه نصفا مما يلي الساق ونصفا مما يلي الفخذ وتجعل
الأخرى تحت إبطه الأيمن». وهذه الرواية دالة على ما ذهب إليه الجعفي ، وفي روايتي يحيى
بن عبادة المتقدمتين قريبا «تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع ـ وأشار بيده من عند
ترقوته ـ تلف مع ثيابه». وظاهرهما ان الموضوع جريدة واحدة ، وقد تقدم كلام الصدوق
في معاني الأخبار الدال على إنكار ذلك ، ونحو هاتين الروايتين رواية يحيى
بن عبادة المكي المتقدمة أيضا وفيها «جريدة خضراء توضع من أصل اليدين إلى أصل الترقوة».
وفي رواية الحسن بن زياد الصيقل المتقدمة أيضا «واحدة في اليمين والأخرى في الأيسر».
وهي مجملة
قابلة للانطباق
__________________
على كل من القولين ، ونحوها رواية الفضيل بن يسار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «توضع للميت جريدتان واحدة في الأيمن والأخرى في
الأيسر». وفي صحيحة جميل أو حسنته بإبراهيم بن هاشم قال : «سألته عن الجريدة توضع من دون الثياب أو من
فوقها؟ قال فوق القميص ودون الخاصرة. فسألته من اي جانب؟ قال من الجانب الأيمن». وهذه
الرواية المعتبرة الاسناد قد دلت ايضا على ما دلت عليه الروايات الثلاث المتقدمة
من كون الجريدة واحدة ، وقد عين موضعها في هذه الرواية بأنه قرب الخاصرة فوق
القميص من الجانب الأيمن ، وفي الروايات المشار إليها آنفا توضع عند الترقوة ، وقد
تقدم ان مذهب ابن ابي عقيل ان الموظف هنا جريدة واحدة ، فهذه الروايات مما تشهد له
وان أنكره الصدوق فيما تقدم من كلامه إلا ان المنقول عنه انه جعل موضعها تحت إبطه
وهذه الروايات قد عينت موضعا آخر واختلفت فيه. وأنت خبير بأنه لم ينقل أحد منهم
دليلا على ما ذهب اليه الصدوقان بل اعترف في المدارك بأنه لم يقف على مأخذهما ،
وفي المختلف تكلف الاستدلال على ذلك برواية يونس ولا يخفى ما فيه من عدم الانطباق بل الرواية المذكورة
انما تنطبق على مذهب الجعفي ، والظاهر ان مستنده انما هو الفقه الرضوي على الطريقة
التي عرفت وستعرف ، حيث قال في الكتاب المذكور : «ثم تضعه في أكفانه واجعل معه جريدتين إحداهما عند
ترقوته تلصقها بجلده ثم تمد عليه قميصه والأخرى عند وركه ، وروى ان الجريدتين كل
واحدة بقدر عظم ذراع تضع واحدة عند ركبتيه تلصق الى الساق والى الفخذين والأخرى
تحت إبطه الأيمن ما بين القميص والإزار». انتهى. أقول : وبصدر هذه العبارة عبر
الصدوق في الفقيه بتغيير ما ومنه يعلم ان مستند هما انما هو الكتاب المذكور ، واما
الكيفية التي نقلها (عليهالسلام) وأسندها إلى الرواية فهي مطابقة لما دلت عليه رواية يونس
__________________
فيكون ايضا مستندا للجعفي فيما قدمنا نقله عنه ، قال في المعتبر ـ بعد ذكر
الخلاف في المسألة ونقل رواية جميل الاولى ورواية يحيى بن عبادة المرسلة ـ ما لفظه : «والروايتان ضعيفتان لأن القائل في الأولى
مجهول والثانية مقطوعة السند ، ومع اختلاف الأقوال والروايات يجب الجزم بالقدر
المشترك بينها وهو استحباب وضعها مع الميت في كفنه أو في قبره بأي هذه الصور شئت»
انتهى. واستحسنه في المدارك. أقول : اما ما ذكره من الجزم بالقدر المشترك الى آخره
فمرجعه الى التخيير بين ما دلت عليه هذه الاخبار وهو وجه حسن في الجمع بينها. ولقد
كان يغنيه التعبير بذلك عن الطعن فيها ، فان من جملة الأخبار المذكورة ـ كما عرفت
ـ صحيحتي جميل أو حسنتيه اللتين لا يقصر وصفهما بالحسن عن الإلحاق بالصحيح وليس
فيهما إلا الإضمار الذي قد صرح هو وغيره من المحققين بأنه غير مضر ولا موجب للطعن.
وبالجملة فالوجه في الجمع بينها هو التخيير. والله العالم.
(الرابع) ـ إطلاق
الأخبار وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في استحباب وضعهما مع الميت بين كونه صغيرا
أو كبيرا عاقلا أو مجنونا اقامة للشعار وان كان ظاهر التعليل يوهم خلاف ذلك إلا ان
علل الشرع ـ كما أوضحناه في غير مقام ـ ليست عللا حقيقية يدور المعلول مدارها
وجودا وعدما وانما هي معرفات. ألا ترى انه ورد تعليل وجوب العدة على المطلقة
بالاستبراء من الحمل مع انه لا يطرد ذلك في كل مطلقة ولا متوفي عنها ، وورد في
تعليل استحباب غسل الجمعة بأن الأنصار كانت تعمل في نواضحها فإذا حضروا الصلاة يوم
الجمعة تأذى الناس بريح آباطهم فشكوا ذلك اليه (صلىاللهعليهوآله) فأمر بالغسل للجمعة ونحو ذلك ، وممن صرح بجواز وضع الجريدتين مع الصغير والمجنون
الشهيد في البيان ، وهو جيد.
__________________
(الخامس) ـ قد
صرح الأصحاب بأنه لو كانت الحال حال تقية وضعها حيث يمكن ، ويدل عليه مرفوعة سهل
بن زياد قال : «قيل له جعلت فداك ربما حضرني من أخافه فلا يمكن
وضع الجريدة على ما رويتنا؟ فقال أدخلها حيث ما أمكن». قال الشيخ في التهذيب :
وروى هذا الحديث محمد بن احمد مرسلا وزاد فيه قال : «فان وضعت في القبر فقد أجزأه». وفي
مكاتبة أحمد بن القاسم «واما الجريدة فليستخف بها ولا يرونه وليجهد في ذلك جهده». وفي الفقه
الرضوي «وان حضرك قوم مخالفون فاجهد ان تغسله غسل المؤمن وأخف عنهم الجريدة». أقول
: ويعضده ما رواه في الكافي في الموثق عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجريدة توضع في القبر؟ قال : لا بأس».
قال في الفقيه بعد نقل الخبر المذكور مرسلا : «يعنى ان لم توجد إلا بعد حمل الميت
الى قبره أو يحضره من يتقيه فلا يمكنه وضعها على ما روي فيجعلها معه حيث أمكن» ولو
نسيها فذكرها بعد الدفن وضعها على القبر. ويؤيده ما رواه الصدوق مرسلا قال : «مر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على قبر يعذب صاحبه فدعا بجريدة فشقها نصفين فجعل
واحدة عند رأسه والأخرى عند رجليه. قال : وروي ان صاحب القبر كان قيس بن فهد
الأنصاري وروى قيس بن نمير ، وانه قيل له لم وضعتهما؟ فقال انه يخفف عنه العذاب ما
كانتا خضراوين».
(السادس) ـ إطلاق
الأخبار عدا الحديث النبوي المتقدم وكذا إطلاق كلام أكثر الأصحاب يقتضي أن تكون
الجريدة غير مشقوقة ، وصرح بعض باستحباب الشق للحديث النبوي ، والأظهر الأول ،
واستظهره في المدارك ايضا نظرا الى التعليل واستضعافا لرواية الشق.
__________________
ثم انه قد ذكر
بعض الأصحاب أيضا استحباب وضع القطن على الجريدتين. ولم أقف فيه على نص ، ولعله
الاستبقاء الرطوبة ، وفيه ان الخبر المتقدم يدل على ان العذاب والحساب انما هو
ساعة رجوع المشيعين للميت وجفا هما في هذا الوقت بعيد جدا.
ومنها ـ ان
يطوي جانب اللفافة الأيسر على الأيمن والأيمن على الأيسر ، قال في الفقيه في كيفية
التكفين : «ثم يلفه في إزاره وحبرته ويبدأ بالشق الأيسر فيمده على الأيمن ثم يمد
الأيمن على الأيسر وان شاء لم يجعل الحبرة معه حتى يدخله قبره فيلقيه عليه» وهذه
الكيفية مشهورة بين الأصحاب واعترف كثير منهم بعدم النص عليها ، قال في المدارك : «ولعل
وجهه التيمن والتبرك» أقول : لا ريب ان الصدوق إنما أخذ هذا الحكم من الفقه الرضوي
على ما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى. وربما كان أيضا في رسالة أبيه إليه إلا انه
لا يحضرني الآن نقل ذلك عن الرسالة ، والظاهر ان الأصحاب تبعوا الصدوق في ذلك كما
ذكرنا مثله في غير موضع ، قال (عليهالسلام) في كتاب الفقه : «وتلفه في إزاره وحبرته وتبدأ بالشق الأيسر وتمد على
الأيمن ثم تمد الأيمن على الأيسر وان شئت لم تجعل الحبرة معه حتى تدخله القبر
فتلقيه عليه». وعبارة الصدوق عين هذه العبارة كما ترى. واما ما ذكره (عليهالسلام) هنا ـ من التخيير في تأخير الحبرة عن التكفين فيها وان
تجعل معه بعد إدخاله القبر فتلقى عليه ـ فقد ورد مثله في صحيحة عبد الله بن سنان
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «البرد لا يلف به ولكن يطرح عليه طرحا فإذا أدخل
القبر وضع تحت خده وتحت جنبه». إلا ان هذه الصحيحة دلت على انه يوضع تحت جنبه ،
قال في الذكرى : «وذهب بعض الأصحاب الى ان البرد لا يلف ولكن يطرح عليه طرحا وإذا
أدخل القبر وضع تحت خده وتحت جنبه وهو رواية ابن سنان» انتهى. قال بعض مشايخنا
المحققين من متأخري المتأخرين ولا يبعد القول بالتخيير.
__________________
ومنها ـ ما
رواه أبو كهمس : «ان الصادق (عليهالسلام) كتب في حاشية الكفن : إسماعيل يشهد ان لا إله إلا الله».
والأصحاب ذكروا استحباب ذلك على الحبرة واللفافة والقميص والعمامة والجريدتين ،
وزاد ابن الجنيد «وان محمدا رسول الله (صلىاللهعليهوآله)» وزاد الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف وابن البراج
أسماء النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) وظاهره في الخلاف دعوى الإجماع عليه.
وذكروا ان الكتابة بتربة الحسين (عليهالسلام) ومع عدمها بطين وماء ومع عدمه بالإصبع ، وفي المسائل
الغرية للشيخ المفيد (قدسسره) بالتربة أو غيرها من الطين ، وابن الجنيد بالطين
والماء ، ولم يعين ابن بابويه ما يكتب به. واشترط جملة من الأصحاب التأثير في
الكتابة لأنه المعهود. أقول : وما ذكروه من زيادة ما يكتب وما يكتب به وما يكتب
عليه وان كان خاليا من النص على الخصوص إلا ان التيمن والتبرك بأسمائهم كاف في
أمثال ذلك. ومما يستأنس به للكتابة بالتربة الحسينية ما رواه الطبرسي في الاحتجاج
في التوقيعات الخارجة من الناحية المقدسة في أجوبة مسائل الحميري «انه سأله عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) يوضع مع الميت في قبره ويخلط بحنوطه ان شاء الله
تعالى. وسأل فقال روي لنا عن الصادق (عليهالسلام) انه كتب على إزار إسماعيل ابنه : إسماعيل يشهد ان لا
إله إلا الله. فهل يجوز لنا ان نكتب مثل ذلك بطين القبر أو غيره؟ فأجاب يجوز
والحمد لله».
أقول : ومما
يستحب ان يكتب على الكفن وان لم اطلع على من قال به من الأصحاب دعاء الجوشن الكبير
كما نقله الكفعمي في كتاب جنة الأمان رواه عن السجاد (عليهالسلام) والقرآن بتمامه إن أمكن وإلا فيما تيسر منه لما رواه
الصدوق في العيون
__________________
بسنده عن الحسن بن عبد الله الصيرفي عن أبيه في حديث «ان موسى بن جعفر (عليهالسلام) كفن بكفن فيه حبرة استعملت له بمبلغ ألفين وخمسمائة
دينار وكان عليها القرآن كله».
ومنها ـ ان
يكون الكفن قطنا وان يكون أبيض إلا الحبرة ، أما استحباب كونه قطنا ففي المعتبر
انه مذهب العلماء كافة ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن ابي خديجة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الكتان كان لبني إسرائيل يكفنون به والقطن لامة
محمد (صلىاللهعليهوآله)». ورواه الصدوق مرسلا واما ما يدل على كونه أبيض
فأخبار عديدة : منها ـ ما رواه في الكافي في الموثق عن ابن القداح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) البسوا البياض فإنه أطيب واطهر وكفنوا فيه موتاكم». وعن
جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) ليس من لباسكم شيء أحسن من البياض فالبسوه وكفنوا فيه
موتاكم». واما ما يدل على الحبرة وانها ليست ببياض فروايات عديدة قد تقدم بعضها ،
ومنها ـ ما رواه أبو مريم الأنصاري في الصحيح قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول كفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في ثلاثة أثواب :
__________________
برد أحمر حبرة وثوبين أبيضين صحاريين ، ثم قال : وقال ان الحسن بن علي (عليهماالسلام) كفن أسامة بن زيد في برد أحمر حبرة وان عليا (عليهالسلام) كفن سهل بن حنيف في برد أحمر حبرة» .
ومنها ـ ان
يخاط الكفن بخيوط منه ، قاله الشيخ في المبسوط والأصحاب على ما نقله في الذكرى ،
وقال في المدارك : «ذكره الشيخ واتباعه ولا اعرف مستنده» انتهى. وهو كذلك.
ومنها ـ ان
يسحق الكافور بيده ويجعل ما يفضل من مساجده على صدره كذا ذكره الأصحاب ، اما الحكم
الأول فقال في المعتبر بعد نقله عن الشيخين : ولم أتحقق مستنده ، قال : واما وضع
ما يفضل من المساجد على صدره فقد ذكره جماعة من الأصحاب. قال في المدارك : «ويمكن
ان يستدل عليه بحسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد الى الكافور فامسح
به آثار السجود منه ومفاصله كلها ورأسه ولحيته وعلى صدره من الحنوط». ثم قال : لكن
لا يخفى ان هذه الرواية إنما تضمنت الأمر بوضع شيء من الكافور على الصدر لا
اختصاصه بالفاضل» أقول : ومثل حسنة الحلبي المذكورة رواية زرارة المتقدم ذكرها في مسألة وضع الحنوط حيث قال فيها : «واجعل في فيه
ومسامعه ورأسه ولحيته من الحنوط وعلى صدره وفرجه». الا ان الظاهر ان من قال بهذا
الحكم انما تبع فيه الصدوق في الفقيه حيث ذكر ذلك ، وقد قدمنا عبارته في صدر
المسألة الثانية ، والصدوق
__________________
انما أخذه من الفقه الرضوي حيث ذكر (عليهالسلام) ذلك وقد تقدمت عبارته في صدر المسألة المشار إليها ومنه يعلم وجود المستند كما في جملة من الأحكام التي
اختص هذا الكتاب بمستنداتها.
ومنها ـ ان
ينثر على الحبرة واللفافة والقميص ذريرة. قال في المعتبر : «وقد اتفق العلماء كافة
على استحباب تطييب الكفن بالذريرة» أقول : ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه في
الكافي في الموثق عن سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كفنت الميت فذر على كل ثوب شيئا من ذريرة
وكافور». وقد تقدم في موثقة عمار «ويطرح على كفنه ذريرة». واما الذريرة فقد تقدم الكلام في بيان معناها في
مستحبات الغسل.
ومنها ـ تجويد
الكفن لما روي من انهم يتباهون يوم القيامة بأكفانهم ،. قال في
المنتهى : ويستحب اتخاذ الكفن من أفخر الثياب وأحسنها ثم قال في مسألة أخرى :
ويستحب ان يكون بالجديد بلا خلاف.
أقول : ومن
الأخبار الدالة على ذلك ما رواه الشيخ في الموثق عن يونس بن يعقوب قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان ابي أوصاني عند الموت يا جعفر كفني في ثوب كذا وكذا
واشتر لي بردا واحدا وعمامة وأجدهما فإن الموتى يتباهون بأكفانهم». وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أجيدوا أكفان موتاكم فإنها زينتهم». وعن ابي
خديجة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «تنوقوا في الأكفان فإنكم تبعثون بها». وقد تقدم في
حديث يونس بن يعقوب عن ابي الحسن الأول «انه سمعه يقول كفنت أبي في برد اشتريته بأربعين دينارا لو كان اليوم لساوى
أربعمائة
__________________
دينار». وفي العلل بسنده عن احمد بن محمد عن بعض أصحابنا يرفعه الى الصادق (عليهالسلام) قال : «أجيدوا أكفان موتاكم فإنها زينتهم». وفي كتاب
العلل بسنده عن يونس بن يعقوب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أوصاني أبي بكفنه فقال لي يا جعفر اشتر لي بردا
وجوده فان الموتى يتباهون بأكفانهم». ويؤيد ذلك ما تقدم من الخبر الدال على ان موسى بن جعفر (عليهالسلام) كفن في حبرة استعملت بمبلغ ألفين وخمسمائة دينار
وعليها القرآن كله.
ومنها ـ وضع
التربة الحسينية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام والتحية في حنوط الميت ، لما رواه
الشيخ بإسناده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري قال : «كتبت الى الفقيه اسأله عن طين القبر يوضع مع
الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) وقرأت التوقيع ومنه نسخت : يوضع مع الميت في قبره ويخلط
بحنوطه ان شاء الله تعالى». ورواه الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن
جعفر الحميري عن أبيه عن صاحب الزمان (عليهالسلام). والمراد بالطين هو طين قبر الحسين (عليهالسلام) كما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى في باب الدفن.
(المسألة
الخامسة) ـ من المكروهات في هذا المقام ان يكفن بالسواد ، قال في المنتهى : «لا
نعرف فيه خلافا» ويدل على ذلك ما رواه الشيخ عن الحسين بن المختار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يكفن الميت في السواد». وعن الحسين ابن
المختار قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) يحرم الرجل في ثوب اسود؟ قال لا يحرم في الثوب الأسود
ولا يكفن به». وربما عدي الحكم إلى كل صبغ كما يفهم من الذكرى حيث قال : ويكره في
السواد بل وكل صبغ على الأصح ، قال : وعليه تحمل رواية الحسين بن المختار «لا يكفن الميت في السواد». وظاهره حمل السواد
__________________
هنا على ما يعم كل صبغ ، والظاهر بعده. ثم انه (قدسسره) نقل عن ابن البراج انه منع من المصبوغ ونقل الكراهة في
الأسود وكذا منع الممتزج بالحرير وبما فيه اوله طراز من حرير ومن القميص المبدأ
للكفن إذا خيط ، ثم قال : والأقرب الكراهية للأصل ولصحة الصلاة ولخبر الحسين بن
راشد. انتهى. وأشار بخبر الحسين بن راشد الى ما قدمناه عنه من سؤاله عن الثياب التي تعمل بالبصرة على عمل العصب
اليماني من قز وقطن هل يصلح ان يكفن فيها الموتى؟ قال : «إذا كان القطن أكثر من
القز فلا بأس».
ومن ذلك ـ الكتان
ايضا لما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يكفن الميت في كتان».
ومنها ـ الطيب ،
والمشهور بين الأصحاب كراهته مسكا كان أو غيره وظاهر الصدوق جوازه بل استحبابه ،
قال في الفقيه بعد ذكر حديث تكفين النبي (صلىاللهعليهوآله) : «وروي انه حنط بمثقال من مسك سوى الكافور». وروى في
خبر آخر قال : «سئل أبو الحسن الثالث (عليهالسلام) هل يقرب الى الميت المسك والبخور؟ قال نعم».
أقول :
والأخبار في المقام مختلفة كما سيظهر لك ولكن لما كان استحباب الطيب للميت مشهورا
عند العامة فإنه يجب حمل ما دل على ذلك على التقية ، فمما يدل على
ما ذكره الصدوق ما نقله من الروايتين المذكورتين ، وما رواه في التهذيب عن مغيرة
مؤذن بني عدي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «غسل علي بن ابي طالب (عليه
__________________
السلام) رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بدأ بالسدر والثانية بثلاثة مثاقيل من كافور ومثقال من
مسك ودعا بالثالثة قربة مشدودة الرأس فأفاضها عليه ثم أدرجه».
ومما يدل على
القول المشهور ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا تجمروا الأكفان ولا تمسحوا موتاكم بالطيب إلا
بالكافور فان الميت بمنزلة المحرم». ورواه الصدوق في العلل والخصال عن ابي بصير
ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) مثله. وما رواه الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن عبد
الله الجعفري قال : «رأيت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) ينفض بكمه المسك على الكفن ويقول ليس هذا من الحنوط في
شيء». وما رواه في الكافي عن يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يسخن للميت الماء لا يعجل له النار ولا يحنط
بمسك». ومما يؤيد ما ذكرناه من حمل الأخبار الأولة على التقية ما رواه في الكافي
عن داود بن سرحان قال : «مات أبو عبيدة الحذاء وانا بالمدينة فأرسل الي
أبو عبد الله (عليهالسلام) بدينار وقال اشتر بهذا حنوطا واعلم ان الحنوط هو
الكافور ولكن اصنع كما يصنع الناس. قال فلما مضيت اتبعني بدينار وقال اشتر بهذا
كافورا». أقول : الظاهر ان الدينار الأول للحنوط الذي يحنط به الناس وهو ما يتخذه
العامة من الكافور المخلوط بأنواع الطيب والدينار الثاني للكافور خاصة ليكون جامعا
بين السنة والتقية. ويؤكد ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن داود بن
سرحان قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) في كفن ابي عبيدة الحذاء انما الحنوط الكافور ولكن
اذهب فاصنع كما يصنع الناس». وقال في الفقه الرضوي : «وروي انه لا يقرب الميت من الطيب شيئا ولا البخور
إلا الكافور فان سبيله سبيل المحرم. وروي إطلاق المسك فوق الكفن وعلى الجنازة لأن
في ذلك
__________________
مكرمة الملائكة فما من مؤمن يقبض روحه إلا تحضر عنده الملائكة. وروي ان
الكافور يجعل في فيه وفي مسامعه وبصره ورأسه ولحيته وكذلك المسك وعلى صدره وفرجه».
أقول : لا يبعد ان يكون اقتصاره (عليهالسلام) على نقل الروايات في المقام من غير ان يفتي بشيء منها
خرج ايضا مخرج التقية. قال في الذكرى : واما المسك ففي خبرين أرسلهما الصدوق :
أحدهما ان النبي (صلىاللهعليهوآله) حنط بمثقال من مسك سوى الكافور ، والآخر عن الهادي (عليهالسلام) انه سوغ تقريب المسك والبخور الى الميت ، ويعارضهما
مسند محمد بن مسلم ثم ساق الرواية المتقدمة ثم قال : وخبر غياث ابن إبراهيم عن
الصادق (عليهالسلام) «ان أباه كان يجمر الميت بالعود». ضعيف السند. انتهى. أقول : لا حاجة الى
الطعن بضعف السند بل ولو كان صحيح السند فان سبيله التقية التي هي في الأحكام
الشرعية أصل كل بلية ، ويؤيد ما ذكرنا تأكيدا ما رواه في الكافي في الصحيح أو
الحسن عن عبد الله بن المغيرة عن غير واحد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الكافور هو الحنوط». وبالجملة الظاهر عندي هو
القول المشهور للأخبار المذكورة ونحوها ، وما عارضها هنا محمول على التقية. والله
العالم.
ومنها ـ التجمير
وأصحابنا جميعا عدا الصدوق على الكراهة ، قال في المنتهى : «ذهب أكثر علمائنا إلى
كراهية تجمير الأكفان ، وقال ابن بابويه يجمر الكفن ، وهو قول الجمهور» أقول :
والأخبار هنا أيضا مختلفة ولكن سبيل هذه المسألة سبيل سابقتها في حمل ما دل على
جواز ذلك على التقية فمن الأخبار الدالة على الجواز ما رواه الشيخ عن غياث
بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) «انه كان يجمر الميت بالعود فيه المسك وربما جعل على النعش الحنوط وربما لم
يجعله وكان يكره ان يتبع الميت بالمجمرة». وعن عبد الله بن سنان في الحسن عن الصادق
(عليهالسلام)
__________________
قال : «لا بأس بدخنة كفن الميت وينبغي للمرء المسلم ان يدخن ثيابه إذا كان
يقدر». ومما يدل على النهي عنه ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي
عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يجمر الكفن». وما تقدم في سابق هذه المسألة
من رواية محمد بن مسلم وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان تتبع جنازة بمجمرة». وبهذا الاسناد عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان يوضع على النعش الحنوط». وفي الصحيح عن أبي
حمزة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) : لا تقربوا موتاكم النار يعني الدخنة». وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أردت أن تحنط الميت ، الى ان قال : وقال
أكره أن يتبع بمجمرة».
ومنها ـ اتخاذ
الأكمام للقميص المبتدأ فاما إذا كان لبيسا فلا بأس ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ
عن محمد بن سنان عمن أخبره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له الرجل يكون له القميص ا يكفن فيه؟ فقال
اقطع أزراره. قلت وكمه؟ قال انما ذاك إذا قطع له وهو جديد لم يجعل له كما فاما إذا
كان ثوبا لبيسا فلا تقطع منه إلا الأزرار». ورواه في الفقيه مرسلا. وروى في
التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل ابن بزيع قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) ان يأمر لي بقميص أعده لكفني فبعث به الي فقلت كيف
اصنع؟ قال انزع أزراره». وروى الصدوق مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) ينبغي ان يكون القميص للميت غير مكفوف ولا مزرور».
__________________
وروى الصدوق في العلل بسنده عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «ان فاطمة بنت أسد أوصت الى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقبل وصيتها فلما ماتت نزع قميصه وقال كفنوها فيه». وروى
في الكتاب المذكور بسنده فيه عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده في حديث : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) دفن فاطمة بنت أسد وكفنها في قميصه ونزل في قبرها
وتمرغ في لحدها». وروى في المجالس بسنده عن عباية بن ربعي عن عبد الله بن عباس في
حديث وفاة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي خذ عمامتي هذه وخذ ثوبي هذين فكفنها فيهما ومر
النساء فليحسن غسلها». وربما دلت هذه الاخبار الثلاثة بإطلاقها على جواز الكفن في
القميص الملبوس بأزراره حيث لم يتعرض فيها لذكر قطع الأزرار ، ولا يبعد ان يكون
لخصوصية من الطرفين ، إلا انه يمكن ان يقال ان الغرض من سياقها انما هو بيان
تشريفه (صلىاللهعليهوآله) لها (رضياللهعنها) بتكفينها في قميصه لا بيان جواز التكفين في القميص حتى
يكون الإخلال بذكر ذلك موجبا لعدمه من حيث ان المقام مقام البيان ، وحينئذ فيكون
إطلاقها مقيدا بما مر من تلك الأخبار.
ومنها ـ ما
ذكره الأصحاب من انه يكره جعل الحنوط في سمعه وبصره للأخبار المتقدمة الدالة على
النهي عن ذلك ، حيث انهم (رضوان الله عليهم) ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ قد جمعوا بين
الاخبار الدالة على جواز وضع الحنوط في هذه المواضع والاخبار الدالة على النهي
بالجواز على كراهة ، واما على ما قدمنا ذكره من ان الأظهر حمل اخبار الجواز على
التقية فإنه تبقى أخبار النهي سالمة عن المعارض والنهي حقيقة في التحريم ولا موجب
لإخراجه عن حقيقته. قال في المدارك ـ بعد قول المصنف : وان يجعل في سمعه وبصره شيء
من الكافور ـ ما ملخصه : هذا قول الأكثر ويدل عليه
قوله (عليه
__________________
السلام) في رواية يونس : «ولا تجعل في منخريه.». ثم ذكر تمام الرواية وقد
تقدمت ثم قال وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «لا تجعل في مسامع الميت حنوطا». ثم قال وفي
الرواية الأولى إرسال وفي الثانية قطع ، ثم نقل كلام الصدوق في الفقيه وقال : ولعل
مستنده صحيحة عبد الله بن سنان ثم ساق الرواية كما قدمنا ثم نقل موضع الاستدلال من موثقة سماعة المتقدمة وخبر
عمار الدالين على مذهب الصدوق ثم قال : وحمل المصنف هذه الروايات في المعتبر
على الجواز وتلك على الكراهة وهو بعيد لأن الأمر ظاهر في الوجوب أو الاستحباب.
انتهى. أقول : فيه (أولا) ان ما طعن به في صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله ـ من
انها مقطوعة حيث نقلها في كتابه عارية الإسناد الى الامام (عليهالسلام) ـ عجيب فإنها في كتب الأخبار مسندة إلى الصادق (عليهالسلام) كما قدمنا ذكره. و (ثانيا) ـ ان مقتضى القاعدة
المنصوصة في مقام اختلاف الأخبار هو العرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه والعامة
هنا متفقون على استحباب وضع الحنوط في هذه المواضع التي اختلفت فيها الأخبار فكيف يمكن التمسك بالأمر فيها في الدلالة على وجوب أو
استحباب؟ ولكنه (قدسسره) انما يدور مدار السند فمتى صح سند الرواية جمد عليه
ولا ينظر الى ما في ذلك من العلل الأخر ولا ما يترتب عليه من الضرر من مخالفة
القواعد المأثورة أو علة أخرى في متن ذلك الخبر.
ومنها ـ ما
ذكره جمع من الأصحاب من انه يكره ان يكتب على الكفن بالسواد ، قال في المعتبر : «ذكر
ذلك الشيخ في المبسوط والنهاية وهو حسن لأن في ذلك نوع استبشاع وان وظائف الميت
متلقاة من الشارع فتقف على الدلالة».
ومنها ـ بل
الخيوط التي يخاط بها الكفن بالريق ، قال في المعتبر : «ذكره
__________________
الشيخ ورأيت الأصحاب يجتنبونه ولا بأس بمتابعتهم لازالة الاحتمال ووقوفا
على موضع الوفاق» قال في الذكرى : «اما بلها بغير الريق فالظاهر عدم الكراهة للأصل
ولإشعار التخصيص بالريق اباحة غيره» أقول : لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة
الظاهرة ، فإن الاستحباب حكم شرعي يتوقف الحكم به والفتوى على الدليل الواضح ، مع
انهما (قدسسرهما) ولا سيما المحقق كثيرا ما يخرجون عما عليه الأصحاب مع
وجود الأدلة لكلام الأصحاب بزعم ان الرواية التي هي مستند الأصحاب ضعيفة فكيف
يوافقونهم هنا مع اعترافهم بعدم الدليل بالمرة؟ وحينئذ فإن أراد المحقق المذكور
بقوله : «ولا بأس بمتابعتهم» يعني في العمل بذلك بان لا يبل الخيوط بالريق فلا بأس
به وان أراد في الحكم بالكراهة والفتوى بها فهو محل الاشكال لما عرفت. واما قوله
في الذكرى : «ولإشعار التخصيص بالريق اباحة غيره» فان فيه ان هذا الإشعار انما
يكون حجة لو كان الدليل المشعر بذلك دليلا شرعيا والأمر هنا ليس كذلك ، وقضية
الأصل الذي يتمسكون به في غير مقام هو الإباحة مطلقا الى ان يقوم الدليل على
المنع.
ومنها ـ ما
ذكروه من قطع الكفن بالحديد ، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة
والرسالة الغرية ، وقال في التهذيب : «سمعنا ذلك مذاكرة من الشيوخ وكان عملهم عليه»
قال في المعتبر بعد نقل ذلك : «قلت ويستحب متابعتهم تخلصا من الوقوع فيما يكره»
أقول : والكلام في هذه المسألة كما في سابقتها ، ثم أقول ونحن في الموضعين نعمل
على مقالتهم ونجري على منوالهم وان لم نحكم بما حكموا به من الكراهة وخطابنا غير
خطابهم.
خاتمة تشتمل على مسائل :
(الاولى) ـ لو
خرج من الميت نجاسة بعد الغسل فههنا صور (الاولى) ـ ان تلاقي جسده خاصة ، والمشهور
انه يجب إزالتها خاصة ولا يجب اعادة الغسل ، وذهب ابن
ابي عقيل الى وجوب اعادة الغسل ، وهو ضعيف مردود بالأخبار ، وقد تقدم القول
في ذلك في آخر المسألة التاسعة في مستحبات الغسل .
(الثانية) ـ ان
تلاقي مع ذلك كفنه قبل وضعه في القبر ، والمنقول عن الصدوقين وأكثر الأصحاب وجوب
غسلها ما لم يطرح في القبر وقرضها بعده ، والمنقول عن الشيخ وجوب قرضها مطلقا ،
ويدل عليه ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا خرج من الميت شيء بعد ما يكفن فأصاب الكفن
قرض منه». وما رواه الشيخ في الحسن عن الكاهلي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا خرج من منخر الميت الدم أو الشيء بعد ما
يغسل فأصاب العمامة أو الكفن قرض منه». ورواه الكليني عن الكاهلي أيضا مثله وما رواه الشيخ
في الصحيح عن ابن ابي عمير واحمد بن محمد عن غير واحد من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا خرج من الميت شيء بعد ما يكفن فأصاب الكفن
قرض من الكفن». والأصحاب انما استدلوا هنا للقول المشهور ـ كما في المدارك
والذخيرة ـ بان في القرض إتلافا للمال وهو منهي عنه فيقتصر في ذلك على محل الاتفاق
، قال في المدارك بعد نقل القول بالتفصيل : «وهو حسن لأن في القرض. الى آخر ما
ذكرناه» واعترضه في الذخيرة بجواز
__________________
تخصيص ما دل على تحريم إتلاف المال بعموم الأخبار الدالة على القرض ، قال
في الذخيرة بعد ذكر اخبار الغسل في الرد على ابن ابي عقيل في الصورة الاولى واخبار
القرض التي في هذه الصورة : «ولا يخفى ان الجمع بين هذه الأخبار والأخبار السابقة
الدالة على الغسل ممكن بوجهين : (أحدهما) ـ تخصيص الأخبار السابقة بصورة لم تصب
النجاسة الكفن حملا للمطلق على المقيد. و (ثانيهما) ـ الحمل على التخيير. واما
التفصيل بما قبل الدفن وما بعده فغير مستفاد من الأدلة» أقول : لا يخفى ان المستند
فيما ذهب اليه الصدوق في هذا المقام انما هو الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) فيه : «فان خرج منه شيء بعد الغسل فلا تعد غسله ولكن اغسل
ما أصاب من الكفن الى ان تضعه في لحده فإن خرج منه شيء في لحده لم تغسل كفنه ولكن
قرضت من كفنه ما أصاب من الذي خرج منه ومددت أحد الثوبين على الآخر». وبهذه
العبارة عبر الصدوق في الفقيه بتغيير ما. ونقل في المعتبر عن علي بن بابويه القول
بذلك في الرسالة إلا انه لا يحضرني الآن عبارته والأصحاب قد اقتفوا أثرهما كما عرفت في غير موضع مما
نبهنا عليه ، وبذلك يزول الاشكال ويجمع بين اخبار الغسل واخبار القرض ويظهر ما في
كلام صاحب الذخيرة ، إلا ان عذره ظاهر حيث لم يقف على دليل التفصيل. والله الهادي
إلى سواء السبيل.
(الثالثة) ـ ان
تلاقي كفنه بعد وضعه في قبره ، وقد عرفت الاتفاق هنا
__________________
على القرض من الكفن. بقي الكلام في نجاسة الجسد ، والظاهر من كلامهم
اغتفارها في هذه الصورة فإنه من الظاهر ان النجاسة لا تتعدى الى الكفن حتى ينجس
بها الجسد مع انهم لم يتعرضوا للكلام فيها ، وكذا عبارة الفقه الرضوي التي هي
المستند في التفصيل انما دلت على قرض الكفن خاصة واما تطهير جسد الميت في قبره أو
إخراجه منه وتطهيره فلا تعرض فيها له ، والروايات الدالة على الغسل كأنها محمولة
عندهم على ما قبل الوضع في القبر كما هو ظاهر سياقها. وبما حققناه في المقام يظهر
ما في كلام صاحب المدارك في هذا المقام من المجازفة التي لا تخفى على ذوي الأفهام
، حيث قال بعد نقل حسنة الكاهلي وردها بعدم توثيق الكاهلي ونقل صحيحة ابن ابي عمير
واحمد بن محمد وطعنه فيها بالإرسال : «ولو لا تخيل الإجماع على هذا الحكم لأمكن
القول بعدم وجوب القرض والغسل مطلقا تمسكا بمقتضى الأصل واستضعافا للرواية الواردة
بذلك» انتهى. أقول : لا يخفى انه قد رد الإجماع في غير موضع مع التصريح به فكيف
يستند هنا الى مجرد تخيله على ان الروايات المذكورة من أقوى الأدلة وأمتنها ، أما
رواية الكاهلي فهي معدودة في الحسن عند أصحاب هذا الاصطلاح والقسم الحسن معمول
عليه بينهم واما رواية ابن ابي عمير فهي صحيحة وإرساله لها غير مناف للصحة عند
أرباب هذا الاصطلاح ، ومثلها مرسلته بمشاركة أحمد بن محمد بن ابي نصر الذي قد عد
ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، مع ان هذه العبارة وهو قولهما «عن غير
واحد» مما ينادي باستفاضة النقل المذكور وشهرته ، وهذه العبارة أقوى دلالة على
الصحة من التعبير برجل ثقة ، ولهذا ان صاحب الذخيرة الذي من عادته اقتفاء أثره
تنظر في كلامه هنا. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان كفن المرأة على زوجها بل ادعى
عليه الشيخ في الخلاف الإجماع ، وعلله العلامة في التذكرة بثبوت الزوجية إلى حين
الوفاة وبان من وجبت نفقته وكسوته حال الحياة وجب تكفينه كالمملوك فكذا الزوجة.
وعلله المحقق في المعتبر بأن الزوجية باقية الى حين الوفاة ومن ثم حل
تغسيلها ورؤيتها وجاز ميراثها فتجب مؤنتها لأنها من أحكام الزوجية والكفن من جملة
ذلك. ولا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من عدم الصلاح لتأسيس الأحكام الشرعية
وان أدعوها أدلة عقلية وقدموها على السمعية. ويرد على ما ذكروه هنا من ثبوت
الزوجية إلى حين الوفاة من عدم دلالة ما قبل الوفاة على ما بعدها ، أما المطابقة
والتضمن فظاهر ، واما الالتزام فلعدم الملازمة فيما ذكر لاستلزام الموت عدم كثير
من أحكام الزوجية ولهذا جاز له تزويج أختها والخامسة. وما ذكره في التذكرة ـ من ان
من وجبت نفقته وكسوته حال الحياة وجب تكفينه ـ منقوض بواجب النفقة من الأقارب فإنه
لا يجب تكفينهم على القريب وان وجبت نفقتهم حال الحياة ، على انه لو تم لاقتضى
اختصاص الحكم بالزوجة الدائمة الممكنة فلا يجب للمتمتع بها ولا الناشز مع ان
ظاهرهم خلافه ، فالواجب الرجوع الى الاخبار :
ويدل عليه منها
ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : على الزوج كفن امرأته إذا ماتت». وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا قال : «قال (عليهالسلام) : كفن المرأة على زوجها إذا ماتت». وصاحب المدارك لما
أورد رواية السكوني تنظر فيها من حيث ضعف السند ، ثم قال : والأجود الاستدلال على
ذلك بما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ثمن الكفن من جميع المال ، وقال كفن المرأة على
زوجها إذا ماتت». والظاهر ان قوله «وقال عليهالسلام» انما هو رواية مرسلة لا تعلق لها بالصحيحة المذكورة
كما هي قاعدته في الكتاب المذكور ، ويؤيده أن الكليني رواها في الكافي عن محمد بن
يحيى عن احمد بن محمد
__________________
عن الحسن بن محبوب الى آخر السند خالية من هذه الزيادة ، والشيخ رواها في
التهذيب تارة عن أحمد إلى آخر السند وتارة أخرى عن الحسن بن محبوب الى آخر السند
خالية من ذلك ايضا ، والعجب هنا انه قد سرى هذا الوهم إلى جملة من المتأخرين
كشيخنا البهائي في الحبل المتين وصاحب الوسائل اغترارا بكلام صاحب المدارك ، ولا
يخفى على من عرف عادة الصدوق في الكتاب المذكور انه ان لم يكن ما ذكرناه أقرب فلا
أقل ان يكون مساويا في الاحتمال وبه لا يتم الاستدلال ، ولم أر من تفطن لما ذكرناه
إلا الفاضل الخراساني في الذخيرة مع اقتفائه غالبا اثر صاحب المدارك.
فروع
(الأول) ـ قد
صرح جمع من الأصحاب بوجوب مؤنة التجهيز ايضا على الزوج كالحنوط والسدر والكافور
وماء الغسل وغيره من الواجب ، قال في المبسوط : «يلزم زوجها كفنها وتجهيزها ولا
يلزم ذلك في مالها» وبه صرح ابن إدريس والعلامة في النهاية وغيرهم ، وتوقف في هذا
الحكم في المدارك ، وهو في محله.
(الثاني) ـ إطلاق
الخبر وكلام الأصحاب يقتضي انه لا فرق في الزوجة بين الدائم والمستمتع بها ولا بين
المطيعة والناشز ولا بين الحرة والأمة ، واحتمل في المدارك اختصاصه بالدائم لأنها
التي ينصرف إليها الذهن عند الإطلاق ، وقال في الذكرى : «لا فرق بين الحرة والأمة
في ذلك وكذا المطلقة الرجعية ، اما الناشز فالتعليل بالإنفاق ينفي وجوب الكفن
وإطلاق الخبر يشمله وكذا المستمتع بها».
(الثالث) ـ قالوا
ولا يلحق بالزوجة غيرها من واجبي النفقة إلا المملوك فان كفنه على مولاه للإجماع
عليه وان كان مدبرا أو مكاتبا مشروطا أو مطلقا لم يتحرر منه شيء أو أم ولد ، ولو
تحرر منه شيء فبالنسبة.
(الرابع) ـ ما
ذكر من وجوب الكفن أو المؤنة كملا على الزوج مشروط
بيساره ولو بإرثه من تركتها فلو أعسر بان لا يفضل ماله عن قوت يوم وليلة
وما يستثني في الدين كفنت من تركتها ان كان لها مال ، صرح به العلامة وغيره ، ولو
أعسر عن البعض أكمل من تركتها ، كل ذلك مع عدم وصيتها به ، اما لو أوصت بالكفن
الواجب كانت الوصية من ثلثها وسقط عنه ان نفذت.
(الخامس) ـ قال
في المنتهى : «لو أخذ السيل الميت أو أكله السبع وبقي الكفن كان للورثة دون غيرهم
إلا ان يكون قد تبرع به رجل فإنه يعود اليه» انتهى. وهو جيد. وانما الإشكال فيما
لو كفن الرجل زوجته ثم ذهبت وبقي الكفن فهل يعود الى الزوج أو يكون ميراثا لورثتها؟
إشكال ينشأ من ثبوت استحقاقها له فيرجع الى ورثتها ومن عدم الجزم بخروجه عن ملك
الزوج فيكون له.
(المسألة
الثالثة) [كفن الرجل يؤخذ من أصل تركته ولو لم يكن له مال] ـ قد صرح الأصحاب بأن
كفن الرجل يؤخذ من أصل تركته مقدما على الدين والوصايا ، والمستند فيه روايات
عديدة : منها ـ ما تقدم من صحيحة عبد الله ابن سنان وما رواه
المشايخ الثلاثة عن زرارة في الصحيح قال : «سألته عن رجل مات وعليه دين بقدر ثمن كفنه؟ قال
يجعل ما ترك في ثمن كفنه الا ان يتجر عليه بعض الناس فيكفنونه ويقضى ما عليه مما
ترك». وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أول شيء يبدأ به من المال الكفن ثم الدين ثم
الوصية ثم الميراث».
ولو لم يكن له
مال دفن عاريا ولا يجب على المسلمين بذل الكفن له وان استحب كما تقدمت الأخبار
الدالة عليه في صدر المقصد ، ويجوز تكفينه من الزكاة كما نص عليه جمع من الأصحاب.
ويدل عليه ما رواه الشيخ عن الفضل بن يونس الكاتب في الموثق قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليهالسلام) فقلت له ما ترى في رجل
__________________
من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفن به اشترى له كفنه من الزكاة؟ فقال أعط
عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه فيكونون هم الذين يجهزونه. قلت فان لم يكن له ولد
ولا أحد يقوم بأمره فأجهزه انا من الزكاة؟ فقال كان ابي يقول ان حرمة بدن المؤمن
ميتا كحرمته حيا فوار بدنه وعورته وجهزه وكفنه وحنطه واحتسب بذلك من الزكاة وشيع
جنازته. قلت فان اتجر عليه بعض إخوانه بكفن آخر وكان عليه دين ا يكفن بواحد ويقضى
دينه بالآخر؟ قال لا ليس هذا ميراثا تركه انما هذا شيء صار اليه بعد وفاته
فليكفنوه بالذي اتجر عليه ويكون الآخر لهم يصلحون به شأنهم».
ويستحب ان يكون
الكفن من خالص الأموال وطهورها لما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وفي العيون مسندا «ان السندي بن شاهك قال لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهالسلام) أحب ان تدعني ان أكفنك؟ فقال انا أهل بيت حج صرورتنا
ومهور نسائنا وأكفاننا من طهور أموالنا». ورواه المفيد في إرشاده وزاد فيه «وعندي كفني».
(المقصد الرابع)
في الدفن ، قال
في المنتهى : «وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر وان لم
يقم به أحد لحق جميع من علم به الإثم والذم بلا خلاف بين العلماء في ذلك» انتهى.
والفرض منه مواراته في الأرض على وجه تكتم رائحته عن السماع وجثته عن السباع على
جنبه الأيمن موجها إلى القبلة ، قال في المعتبر : «وعليه إجماع المسلمين ولأن
النبي (صلىاللهعليهوآله) أمر بذلك ووقف على القبور وفعله ، والكيفية المذكورة ذكرها
الشيخ في النهاية والمبسوط والمفيد في الرسالة الغرية وابنا
__________________
بابويه ولأن النبي (صلىاللهعليهوآله) دفن كذلك وهو عمل الصحابة والتابعين».
أقول : اما
وجوب الدفن على الوجه الذي ذكرناه فهو مستفيض في الأخبار كما سيمر بك ان شاء الله
تعالى كثير منها ، ولأن فائدة الدفن انما تتم بالوصفين المذكورين والوصفان
متلازمان غالبا ، ولو فرض وجود أحدهما دون الآخر وجب مراعاة الآخر كما صرح به
الأصحاب أيضا. وظاهر الأصحاب تعين الحفر اختيارا فلا يجزئ التابوت والأزج الكائنان
على وجه الأرض تحصيلا للبراءة اليقينية من التكليف الثابت ، وبه قطع في الذكرى
لأنه مخالف لما أمر به النبي من الحفر ولانه (صلىاللهعليهوآله) دفن ودفن كذلك وهو عمل الصحابة والتابعين. انتهى. وهو
جيد. ولو تعذر الحفر لصلابة الأرض أو أكثرية الثلج أو نحو ذلك جاز مواراته بحسب
الإمكان مراعيا للوصفين المتقدمين مهما أمكن ، قال في الذكرى : «لو تعذر الحفر
لصلابة الأرض أو تحجرها وأمكن نقله الى ما يمكن حفره وجب ، وان تعذر أجزأ البناء
عليه بما يحصل به الوصفان المذكوران لأنه في معنى الدفن ، ولو فعل ذلك اختيارا
فالأقرب المنع لانه مخالف لما أمر به النبي (صلىاللهعليهوآله) من الحفر» انتهى. وهو جيد. ولو دفن بالتابوت في الأرض
جاز إلا ان الشيخ نقل الإجماع في الخلاف على كراهته.
واما الكيفية
المذكورة فلم ينقل فيها خلاف إلا عن ابن حمزة حيث ذهب الى الاستحباب لأصالة
البراءة.
حجة المشهور ـ على
ما ذكره جمع من المتأخرين ومتأخريهم ـ التأسي بالنبي (صلىاللهعليهوآله) والأئمة (عليهمالسلام) وما رواه معاوية بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان البراء بن معرور التميمي الأنصاري بالمدينة
وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بمكة وانه حضره الموت وكان رسول الله والمسلمون يصلون
الى بيت المقدس فاوصى البراء إذا دفن ان يجعل وجهه الى رسول الله
__________________
(صلىاللهعليهوآله) إلى القبلة فجرت به السنة. وانه اوصى بثلث ماله فنزل
به الكتاب وجرت به السنة».
قال في الذخيرة
بعد ان نقل ذلك : «وفي الحجتين تأمل». أقول : الظاهر ان الحجة في ذلك انما هو كتاب
الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) فيه : «ثم ضعه في لحده على يمينه مستقبل القبلة». والصدوقان
قد ذكرا ذلك أخذا من الكتاب المذكور ، ومن تأخر عنهما فقد تبعهما في ذلك كما أشرنا
إليه في غير موضع مما هو من هذا القبيل ، ويعضده ما رواه في دعائم الإسلام عن علي (عليهالسلام) «انه شهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جنازة رجل من بني عبد المطلب فلما أنزلوه في قبره قال
أضجعوه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه لظهره.».
وحيث قد عرفت
وجوب الاستقبال بالميت في حال الدفن فإنه يستثني من ذلك مواضع : (منها) ـ ما لو
التبست القبلة. و (منها) ـ ما لو تعذر ذلك كما لو مات في بئر ونحوه وتعذر إخراجه
وصرفه إلى القبلة. و (منها) ـ ان يكون امرأة غير مسلمة حاملة من مسلم فيستدبر بها
ليكون وجه الولد إلى القبلة بناء على ما قيل ان وجه الولد الى ظهر امه ، والمقصود
بالذات دفنه وهي كالتابوت له ولذا دفنت في مقبرة المسلمين إكراما له ، وهذا الحكم
مجمع عليه بينهم كما في التذكرة ، والأصل فيه الشيخان وأتباعهما ، واستدل عليه في
التهذيب بما رواه احمد بن أشيم عن يونس قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل تكون له الجارية اليهودية والنصرانية
فيواقعها فتحمل ثم يدعوها الى ان تسلم فتأبى عليه فدنا ولادتها فماتت وهي تطلق
والولد في بطنها ومات الولد أيدفن معها على النصرانية أو يخرج منها ويدفن على فطرة
الإسلام؟ فكتب يدفن معها». قال في المعتبر : «ولست أرى في هذا حجة (أما أولا) ـ فلان
ابن أشيم ضعيف
__________________
جدا على ما ذكره النجاشي في كتاب المصنفين والشيخ. و (اما ثانيا) ـ فلان
دفنه معها لا يتضمن دفنها في مقبرة المسلمين بل ظاهر اللفظ يدل على دفن الولد معها
حيث تدفن هي ولا إشعار في الرواية بموضع دفنها ، والوجه ان الولد لما كان محكوما
له بأحكام المسلمين لم يجز دفنه في مقابر أهل الذمة وإخراجه مع موتهما غير جائز
فتعين دفنه معها كما قلناه» انتهى. والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال حيث انه لا
مستند للحكم المذكور سوى ما يدعى من الإجماع ، وما ذكره في المعتبر من التعليل وان
كان لا يخلو من قرب إلا انه لا يصلح لتأسيس حكم شرعي نعم يصلح ان يكون وجها للنص
لو وجد و (منها) ـ راكب البحر إذا مات ، فقد قطع الشيخ وأكثر الأصحاب بأنه يغسل
ويحنط ويكفن ويصلى عليه وينقل الى البر ان أمكن ، وان تعذر لم يتربص به بل يوضع في
خابية ونحوها ويشد رأسها ويلقى في البحر أو يثقل ليرسب في الماء ثم يلقى فيه ، قيل
وظاهر المفيد في المقنعة والمحقق في المعتبر جواز ذلك وان لم يتعذر البر ، والظاهر
ان وجه هذه الظاهرية هو انهما ذكرا الحكم المذكور مطلقا فإنه قال في المعتبر : «إذا
مات في السفينة في البحر غسل وكفن وصلى عليه وثقل ليرسب في الماء أو جعل في خابية
وشد رأسها وألقي في البحر» ونحوها عبارة المقنعة. أقول : والأخبار قد وردت
بالأمرين المذكورين ، فمما يدل على الوضع في الخابية ما رواه في الكافي والتهذيب
في الصحيح عن أيوب بن الحر قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن رجل مات وهو في السفينة في البحر كيف يصنع به؟ قال
يوضع في خابية ويوكأ رأسها ويطرح في الماء». وذكره الصدوق مرسلا مقطوعا ، واما ما
يدل على التثقيل فهو ما رواه في الكافي عن ابان عن رجل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «في الرجل يموت مع القوم في البحر؟ فقال يغسل ويكفن ويصلى عليه ويثقل
ويرمى به في البحر». وعن سهل رفعه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا مات الرجل في السفينة ولم يقدر على الشط؟
قال
__________________
يكفن ويحنط في ثوب ويلقى في الماء». وروى الشيخ في التهذيب عن أبي البختري
وهب ابن وهب القرشي عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) إذا مات الميت في البحر غسل وكفن وحنط ثم يوثق في
رجليه حجر ويرمى به في الماء». وفي الفقه الرضوي «وان مات في سفينة فاغسله وكفنه وثقل رجليه وألقه في البحر». والأصحاب (رضوان
الله عليهم) قد جمعوا بين روايات المسألة بالتخيير ، وهو جيد. وإطلاق أكثر الأخبار
بالنسبة إلى تقديم البر ان أمكن مقيد بما دلت عليه مرسلة سهل من ذلك والحكم حينئذ
مما لا يعتريه الاشكال. وقد ذكر جملة من الأصحاب انه ينبغي استقبال القبلة به حال
الإلقاء ، وأوجبه ابن الجنيد والشهيدان لانه دفن حيث يحصل به مقصود الدفن ، وهو
تقييد لإطلاق النص من غير دليل والتعليل المذكور عليل.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن للدفن آدابا وسننا متقدمة ومقارنة ومتأخرة ، وتحقيق الكلام في المقام
يتوقف على بسطه في مطالب ثلاثة :
(الأول) ـ في
الآداب المتقدمة وهي أمور (الأول) ـ التشييع ، وقد ورد في استحبابه أجر عظيم وثواب
جسيم ، فروي في الكافي عن ابي بصير قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول من مشى مع جنازة حتى يصلى عليها ثم رجع كان له
قيراط من الأجر فإذا مشى معها حتى تدفن كان له قيراطان ، والقيراط مثل جبل أحد». وعن
جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «من شيع ميتا حتى يصلى عليه كان له قيراط من
الأجر ومن بلغ معه الى قبره حتى يدفن كان له قيراطان من الأجر ، والقيراط مثل جبل
أحد». وعن الأصبغ بن نباتة قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) من تبع جنازة كتب الله له أربعة قراريط : قيراط
باتباعه إياها وقيراط بالصلاة عليها وقيراط
__________________
بالانتظار حتى يفرغ من دفنها وقيراط بالتعزية». وعن ابي الجارود عن الباقر (عليهالسلام) قال : «كان فيما ناجى به موسى (عليهالسلام) ربه ان قال يا رب ما لمن شيع جنازة؟ قال أوكل به
ملائكة من ملائكتي معهم رايات يشيعونهم من قبورهم الى محشرهم». وعن جابر عن الباقر
(عليهالسلام) قال : «إذا أدخل المؤمن قبره نودي ألا ان أول حبائك
الجنة ألا وأول حباء من تبعك المغفرة». وعن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أول ما يتحف به المؤمن في قبره ان يغفر لمن تبع
جنازته». وعن داود الرقي عن رجل من أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من شيع جنازة مؤمن حتى يدفن في قبره وكل الله به
سبعين ملكا من المشيعين يشيعونه ويستغفرون له إذا خرج من قبره الى الموقف». وعن
ميسر قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول من تبع جنازة مسلم اعطي يوم القيامة أربع شفاعات
ولم يقل شيئا إلا قال الملك ولك مثل ذلك». وفي الفقه الرضوي : «وقد روى ابي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ان المؤمن إذا أدخل قبره ينادي الا ان أول حبائك الجنة
وأول حباء من تبعك المغفرة ، الى ان قال ولا تترك تشييع جنازة المؤمن فإن فيه فضلا
كثيرا».
والمعروف من
مذهب الأصحاب ـ كما صرح به جمع منهم ـ ان سنة التشييع هو المشي وراء الجنازة أو
الى أحد جانبيها ، ونص المحقق في المعتبر على ان تقدمها ليس بمكروه بل هو مباح ،
وحكى الشهيد في الذكرى كراهة المشي أمامها من كثير من الأصحاب ، وقال ابن ابي عقيل
: يجب التأخر خلف المعادي لذي القربى لما ورد من استقبال ملائكة العذاب إياه . وقال ابن الجنيد : يمشي صاحب الجنازة بين يديها
__________________
والباقون وراءها لما روي من «ان الصادق (عليهالسلام) تقدم سرير ابنه إسماعيل بلا حذاء ولا رداء» .
أقول : والذي
وقفت عليه في المسألة من الأخبار ما رواه في الكافي في الموثق عن إسحاق بن عمار عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «المشي خلف الجنازة أفضل من المشي بين يديها». ورواه
في التهذيب عن محمد بن يعقوب وزاد فيه «ولا بأس بأن يمشي بين يديها». ورواه في
الفقيه مرسلا كذلك. وعن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «مشى النبي (صلىاللهعليهوآله) خلف جنازة فقيل يا رسول الله ما لك تمشي خلفها؟ فقال
ان الملائكة رأيتهم يمشون امامها ونحن تبع لهم». وعن سدير عن الباقر (عليهالسلام) قال : «من أحب ان يمشي مشي الكرام الكاتبين فليمش جنبي
السرير ،. وروى الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «سمعت النبي (صلىاللهعليهوآله) يقول اتبعوا الجنازة ولا تتبعكم خالفوا أهل الكتاب». وروى
في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن المشي مع الجنازة فقال بين يديها وعن
يمينها وعن شمالها وخلفها». وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «امش بين يدي الجنازة وخلفها». وعن السكوني عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل كيف أصنع إذا خرجت مع الجنازة أمشي أمامها
أو خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها؟ فقال : ان كان مخالفا فلا تمش امامه فان
ملائكة العذاب يستقبلونه بألوان العذاب». وروى الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن
الصادق (عليهالسلام) مثله. وروى في الكافي عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليهالسلام) قال :
__________________
«امش أمام جنازة المسلم العارف ولا تمش أمام جنازة الجاحد فإن أمام جنازة
المسلم ملائكة يسرعون به الى الجنة وان امام جنازة الكافر ملائكة يسرعون به الى
النار». وفي الفقه الرضوي «وإذا حضرت جنازة فامش خلفها ولا تمش امامها وانما يؤجر من تبعها لا من
تبعته ، وقد روى ابي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ان المؤمن. الحديث». وقد تقدم ثم قال وقال (عليهالسلام) : «اتبعوا الجنازة ولا تتبعكم فإنه من عمل المجوس وأفضل المشي في اتباع الجنائز ما بين جنبي الجنازة وهو
مشي الكرام الكاتبين». انتهى.
أقول :
والمفهوم من هذه الاخبار بعد ضم بعضها إلى بعض ان الأفضل في التشييع هو المشي خلف
الجنازة أو الى أحد جنبيها مع زيادة الأول في الفضل ، واما المشي امامها فان كان
مؤمنا فلا بأس به ولا كراهة فيه وان كان ليس فيه ثواب الفردين الأولين وان كان
مخالفا فهو مكروه للعلة المذكورة في الاخبار. وجمع بعض بحمل أخبار النهي عن التقدم
بالحمل على ما إذا كان مخالفا. وفيه ان خبر السكوني ورواية كتاب الفقه الدالان على
تعليل النهي بكونه عمل أهل الكتاب والمجوس يدلان على أعم من المؤمن والمخالف. واما
حديث تقدم الصادق (عليهالسلام) جنازة ابنه إسماعيل فاحتمال الحمل على التقية فيه قريب
فان المشهور بينهم أفضلية المشي أمامها وقد نسبوا القول بأفضلية المشي خلفها الى
أهل البيت (عليهمالسلام) قال بعض شراح صحاح مسلم على ما نقله شيخنا
__________________
المجلسي (عطر الله مرقده) في البحار : كون المشي وراء الجنازة أفضل من
المشي أمامها قول علي بن ابي طالب (عليهالسلام) ومذهب الأوزاعي وابي حنيفة ، وقال جمهور الصحابة
والتابعين ومالك والشافعي وجماهير العلماء المشي قدامها أفضل ، وقال الثوري وطائفة
هما سواء .
وفي المقام
فوائد (الأولى) ـ ينبغي للمشيع ان يحضر قلبه ذكر الموت والتفكر في مآله وما يصير
إليه عاقبة حاله ويكره له الضحك واللهو ، ففي الكافي عن عجلان ابي صالح قال : «قال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) يا أبا صالح إذا أنت حملت جنازة فكن كأنك أنت المحمول
وكأنك سألت ربك الرجوع الى الدنيا ففعل فانظر ما ذا تستأنف ، قال ثم قال عجب لقوم
حبس أولهم عن آخرهم ثم نودي فيهم الرحيل وهم يلعبون». قال في الذكرى : ويكره له
الضحك واللهو لما روي «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) أو عليا (عليهالسلام) شيع جنازة فسمع رجلا يضحك فقال كأن الموت فيها على غيرنا
كتب. الحديث».
__________________
أقول : هذا الكلام قد ذكره أمير المؤمنين (عليهالسلام) كما نقله السيد الرضي في كتاب نهج البلاغة قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) وقد تبع جنازة فسمع رجلا يضحك فقال كأن الموت فيها على
غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب.». وساق الكلام ثم قال السيد : ومن الناس
من ينسب هذا الكلام الى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أقول : ورواه الكراجكي في كنز الفوائد عن النبي (صلىاللهعليهوآله) .
(الثانية) ـ قال
في المعتبر : «قال علي بن بابويه في الرسالة : وإياك ان تقول ارفقوا به أو ترحموا
عليه أو تضرب يدك على فخذك فيحبط أجرك. وبذلك رواية عن أهل البيت (عليهمالسلام) نادرة لكن لا بأس بمتابعته تفصيا من الوقوع في المكروه»
انتهى. أقول : لا ريب ان ما ذكره علي بن بابويه (قدسسره) هنا مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وإياك ان تقول ارفقوا به وترحموا عليه أو تضرب يدك
على فخذك فإنه يحبط أجرك عند المصيبة». والظاهر ان اختلاف آخر العبارة نشأ من غلط
في أحد الطرفين. واما ما أشار إليه المحقق من الرواية النادرة فالظاهر انها ما
رواه السكوني عن الصادق عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرما : الذي يمشي مع الجنازة
بغير رداء أو الذي يقول قفوا أو الذي يقول استغفروا له غفر الله لكم». وروى في
الخصال بسنده فيه عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ثلاثة لا ادري أيهم أعظم جرما : الذي يمشي خلف
جنازة في مصيبة غيره بغير رداء والذي يضرب يده على فخذه عند المصيبة والذي يقول ارفقوا
به وترحموا عليه رحمكم الله تعالى». أقول : ما دلت عليه هذه الاخبار من النهي عن
القول بما تضمنته من الأمر
__________________
بالرفق أو الأمر بالاستغفار لا يحضرني الآن له وجه وجيه ولا وقفت فيه على
كلام لأحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) إلا ما ذكره شيخنا المجلسي في البحار ،
حيث قال بعد ذكر خبري عبد الله بن الفضل أولا والسكوني ثانيا : «قوله مع الجنازة
أي مع عدم كونه صاحب المصيبة كما مر في الخبر الأول وهو اما مكروه أو حرام كما
سيأتي ، واما قوله «ارفقوا به» فلتضمنه تحقير الميت وإهانته ، وفي التهذيب «أو
الذي يقول قفوا» ولعله تصحيف وعلى تقديره الذم لمنافاته لتعجيل التجهيز أو يكون
الوقوف لإنشاد المراثي وذكر أحوال الميت كما هو الشائع وهو مناف للتعزي والصبر ،
والفقرة الثالثة أيضا لاشعارها بكونه مذنبا وينبغي ان يذكر الموتى بخير. ويمكن ان
تحمل الفقرتان على ما إذا كان غرض القائل التحقير والاشعار بالذنب. ويحتمل ان يكون
الضميران في الأخيرتين راجعين إلى الذي يمشى بغير رداء اي هو بسبب هذا التصنع لا
يستحق أن يأمر بالرفق به ولا الاستغفار له. وقال العلامة في المنتهى : وكره ان
يقول قفوا واستغفروا له غفر الله تعالى لكم لانه خلاف المنقول بل ينبغي ان يقال ما
نقل عن أهل البيت (عليهمالسلام)» انتهى كلام شيخنا المشار إليه.
(الثالثة) ـ قد
ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ المحقق والعلامة وابن ابي عقيل وابن حمزة انه يكره
للمشيع الجلوس حتى يوضع الميت في قبره لما رواه عبد الله بن سنان في الصحيح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لمن شيع جنازة ان لا يجلس حتى يوضع في
لحده فإذا وضع في لحده فلا بأس بالجلوس». وظاهر الشيخ وابن الجنيد انتفاء الكراهة
، قال في المدارك : بعد ذكر الصحيحة المذكورة «وهو ضعيف» وقال في الذكرى : «اختلف
الأصحاب في كراهة جلوس المشيع قبل الوضع في اللحد فجوزه في الخلاف ونفي عنه البأس
ابن الجنيد للأصل ولرواية عبادة بن الصامت «كان
__________________
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا كان في جنازة لم يجلس حتى يوضع في اللحد فقال
يهودي إنا لنفعل ذلك فجلس وقال خالفوهم». وكراهة ابن ابي عقيل وابن حمزة والفاضلان
وهو الأقرب لصحيح ابن سنان عن الصادق (عليهالسلام) ثم ساق الخبر ، ثم قال : والحديث حجة لنا لان «كان»
تدل على الدوام والجلوس لمجرد إظهار المخالفة ، ولان الفعل لا عموم له فجاز وقوع
الجلوس تلك المرة خاصة ، ولان القول أقوى من الفعل عند التعارض ، والأصل مخالف
للدليل» انتهى كلامه وأجاب شيخنا البهائي عنه بعد نقل ملخص هذا الكلام بان لابن
الجنيد ان يقول ان احتجاجي ليس بمجرد الفعل بل بقوله (صلىاللهعليهوآله) خالفوهم. انتهى. أقول : يمكن ان يحتج لابن الجنيد أيضا
بحسنة داود ابن النعمان قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول ما شاء الله لا ما شاء الناس فلما انتهى الى
القبر تنحى فجلس فلما ادخل الميت لحده قام فحثا عليه التراب ثلاث مرات بيده».
(الرابعة) ـ قال
في الذكرى : نقل الشيخ الإجماع على كراهية الإسراع بالجنازة لقول النبي (صلىاللهعليهوآله) : «عليكم بالقصد في جنائزكم». لما رأى ان جنازة تمخض
مخضا ، وقال ابن عباس في جنازة ميمونة «ارفقوا بها فإنها أمكم» ولو خيف على الميت فالاسراع اولى ، قال المحقق : أراد
الشيخ كراهة ما زاد على المعتاد وقال الجعفي السعي بها أفضل ، وقال ابن الجنيد
يمشي بها جنبا. قلت : السعي العدو والجنب ضرب منه ، فهما دالان على السرعة ، وروى
الصدوق عن الصادق (عليه
__________________
السلام) «ان الميت إذا كان من أهل الجنة نادى عجلوا بي وان كان من أهل
النار نادى ردوني». انتهى. أقول ما أشار إليه في كلام الشيخ من الحديث النبوي هو ما
رواه ابنه (قدسسره) في المجالس عن أبيه بسنده فيه عن ليث بن ابي بردة عن
أبيه قال : «مروا بجنازة تمخض كما يمخض الزق فقال النبي (صلىاللهعليهوآله) عليكم بالسكينة عليكم بالقصد في المشي بجنائزكم».
(الخامسة) ـ يكره
ان يركب المشيع دابة حال تشييعه ولا بأس بذلك بعد الرجوع ، ويدل عليه ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري عن الصادق (عليهالسلام) ورواه في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «مات رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فخرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى جنازته يمشي فقال له بعض أصحابه ألا تركب يا رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) فقال اني لأكره أن أركب والملائكة يمشون». وزاد في
الكافي «وابى ان يركب» وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض
أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «رأى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قوما خلف جنازة ركبانا فقال ما استحى هؤلاء ان يتبعوا
صاحبهم ركبانا وقد أسلموه على هذه الحالة». وروى في التهذيب عن غياث بن إبراهيم عن
الصادق عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) «انه كره ان يركب الرجل مع الجنازة في بداية الا من عذر ، وقال يركب إذا
رجع». قوله : «في بداية» أي حال الذهاب حين يبدأ بالمشي.
(السادسة) ـ ويستحب
الدعاء بالمأثور عند رؤية الجنازة وحملها فروى في
__________________
الكافي عن عنبسة بن مصعب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من استقبل جنازة أو رآها فقال : «الله أكبر هذا ما
وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله اللهم زدنا ايمانا وتسليما الحمد لله الذي
تعزز بالقدرة وقهر العباد بالموت» لم يبق في السماء ملك إلا بكى رحمة لصوته». وروى
الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجنازة إذا حملت كيف يقول الذي يحملها؟
قال يقول : بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآل محمد اللهم اغفر للمؤمنين
والمؤمنات». وعن ابي الحسن النهدي رفعه قال : «كان أبو جعفر (عليهالسلام) إذا رأي جنازة قال : الحمد لله الذي لم يجعلني من
السواد المخترم». وقد ذكر غير واحد من الأصحاب انه يستحب لمن شاهد الجنازة ان يقول
: «الحمد لله الذي لم يجعلني من السواد المخترم» والمستند فيه ما ذكرناه من رواية
النهدي وحسنة أبي حمزة قال :«كان علي بن الحسين (عليهماالسلام) إذا رأى جنازة قد أقبلت قال : الحمد لله الذي لم
يجعلني من السواد المخترم». قيل والسواد يطلق تارة على الشخص واخرى على عامة الناس
، وزاد بعض إطلاق السواد على القرية ، والمخترم الهالك والمستأصل ، والظاهر هو
المعنى الثاني ، والمعنى الشكر لله سبحانه انه لم يجعله من الهالكين فيكون شكرا
لنعمة الحياة. ولا ينافي ذلك حب لقاء الله تعالى فان معناه حب الموت وعدم الامتناع
منه على تقدير رضاء الله تعالى به فلا ينافي لزوم شكر نعمة الحياة والرضاء بقضاء
الله في ذلك ، وقيل ان حب لقاء الله سبحانه انما يكون عند معاينة منزلته في الجنة
كما ورد في الخبر ، أو المراد الهلاك على غير بصيرة فيكون الشكر لله سبحانه على
انه لم يجعله من عامة الناس الهالكين على غير بصيرة في الدين ولا استعداد للموت ،
وحينئذ فالشكر يرجع الى التوفيق في المعرفة والهداية في الدين ، قال في الذكرى بعد
نقل حديث علي بن الحسين (عليهالسلام) : «قلت السواد الشخص والمخترم الهالك أو المستأصل
والمراد به هنا
__________________
الجنس ، ومنه قولهم السواد الأعظم أي لم يجعلني من هذا القبيل ، ولا ينافي
هذا حب لقاء الله تعالى لانه غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يجب
كما رويناه عن الصادق (عليهالسلام) ورووه في الصحاح عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه ومن
كره لقاء الله سبحانه كره الله لقاءه. فقيل له انا لنكره الموت؟ فقال ليس ذلك ولكن
المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب
لقاء الله تعالى واجب الله لقاءه ، وان الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله
تعالى فليس شيء أكره إليه مما امامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه». الى ان قال
: ويجوز ان يكنى بالمخترم عن الكافر لانه الهالك على الإطلاق بخلاف المؤمن ، أو
المراد بالمخترم من مات دون أربعين سنة» انتهى كلامه.
(السابعة) ـ روى
في الكافي عن البرقي رفعه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أميران وليسا بأميرين : ليس لمن تبع جنازة ان يرجع حتى
يدفن أو يؤذن له ، ورجل يحج مع امرأة فليس له ان ينفر حتى تقضي نسكها». ورواه
الصدوق في الخصال والمقنع. أقول : ظاهر الخبر انه ليس لمن شيع الجنازة الرجوع قبل
الدفن إلا بإذن الولي ، وبذلك صرح ابن الجنيد على ما نقله عنه في الذكرى فقال : من
صلى على جنازة لم يبرح حتى يدفن أو يأذن اهله بالانصراف إلا من ضرورة لرواية
الكليني ، ثم ساق الرواية المذكورة. ثم انه مع فرض اذن الولي في الرجوع فإنه
__________________
لا يدل على عدم استحباب إتمام التشييع بعد الاذن بل الاستحباب باق ، ويدل
على ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة قال : «حضر أبو جعفر (عليهالسلام) جنازة رجل من قريش وانا معه وكان فيها عطاء فصرخت
صارخة فقال عطاء لتسكتن أو لنرجعن قال فلم تسكت فرجع عطاء فقلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان عطاء قد رجع ، قال ولم؟ قلت صرخت هذه الصارخة فقال
لها لتسكتن أو لنرجعن فلم تسكت فرجع ، فقال امض بنا فلو انا إذا رأينا شيئا من
الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم ، قال : فلما صلى على الجنازة قال
وليها لأبي جعفر (عليهالسلام) ارجع مأجورا رحمك الله تعالى فإنك لا تقوى على المشي
فأبى ان يرجع ، قال فقلت له : قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسألك عنها
فقال امض فليس بإذنه جئنا ولا باذنه نرجع وانما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع
الجنازة الرجل يؤجر على ذلك».
(الثامنة) ـ المشهور
ـ وبه صرح الشيخ وجمع من الأصحاب ـ انه يكره حمل ميتين على سرير رجلين كانا أم
امرأتين أو رجلا وامرأة ، وقال في النهاية لا يجوز وهو بدعة ، وكذا ابن إدريس في
سرائره فإنه قال : ولا يجوز حمل ميتين على جنازة واحدة مع الاختيار لان ذلك بدعة.
وممن صرح بالكراهة أيضا ابن حمزة. وقال الجعفي لا يحمل ميتان على نعش واحد. وهو
محتمل لكل من القولين.
والذي وقفت
عليه من الأخبار هنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار قال : «كتبت الى ابي محمد (عليهالسلام) أيجوز ان يجعل الميتين على جنازة واحدة في موضع الحاجة
وقلة الناس ، وان كان الميتان رجلا وامرأة يحملان على سرير واحد ويصلى عليهما؟
فوقع (عليهالسلام) لا يحمل الرجل والمرأة على سرير واحد».
__________________
واستدل بهذه الرواية للحكم المذكور ، ورده جمع من المتأخرين بأنها أخص من
المدعي. وظاهر الخبر المذكور عدم الجواز ولو مع الحاجة. وما ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال : «ولا تجعل ميتين على جنازة واحدة». وهذه
العبارة أوردها الصدوق في الفقيه نقلا عن أبيه في رسالته اليه ، ومنه يعلم ان
مستند الأصحاب في هذا الحكم انما هو كلام الصدوقين ومستند الصدوقين انما هو كتاب
الفقه المذكور كما عرفت في غير مقام مما تقدم وستعرف ان شاء الله تعالى. بقي
الكلام في العبارة المذكورة مترددا بين التحريم والكراهة وقضية النهي حقيقة الأول.
والله العالم.
(التاسعة) ـ قال
في الذكرى : يكره الاتباع بنار إجماعا وهو مروي عن النبي (صلىاللهعليهوآله) وعن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان يتبع بمجمرة» رواه السكوني . ورواه الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) ولو كان ليلا جاز المصباح ـ لقول الصادق (عليهالسلام) «ان ابنة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أخرجت ليلا ومعها مصابيح». أقول : قد تقدم في صحيحة
الحلبي أو حسنته عن الصادق (عليهالسلام) «واكره أن يتبع بمجمرة». وروى الشيخ عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان تتبع جنازة بمجمرة». وعن غياث بن إبراهيم عن
الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) «انه كان يكره ان يتبع الميت بالمجمرة». والرواية التي أشار إليها في إخراج
فاطمة (عليهاالسلام) ليلا بالمصابيح قد رواها الصدوق في الفقيه مرسلة قال : «سئل الصادق (عليهالسلام) عن الجنازة يخرج معها بالنار؟ فقال ان ابنة رسول الله (صلىاللهعليهوآله). الحديث». وروى في العلل عن الصادق (عليه
__________________
السلام) في حديث طويل يتضمن مرض فاطمة (عليهاالسلام) ووفاتها الى ان قال : «فلما قضت نحبها وهم في جوف
الليل أخذ علي (عليهالسلام) في جهازها من ساعته وأشعل النار في جريد النخل ومشى مع
الجنازة بالنار حتى صلى عليها ودفنها ليلا.». وحينئذ فيكون الموت ليلا مستثنى من
الكراهة. ويفهم من هذين الخبرين ان قبرها (عليهاالسلام) ليس في البيت كما هو أحد الأقوال بل ربما أشعرت بكونه
في البقيع كما قيل أيضا
(العاشرة) ـ قال
في الذكرى : يكره اتباع النساء الجنازة لقول النبي (صلىاللهعليهوآله) : «ارجعن مأزورات غير مأجورات». ولقول أم عطية : «نهينا
عن اتباع الجنازة» ولانه تبرج. انتهى. أقول : اما الحديث النبوي المشار اليه فهو ما
رواه الشيخ في المجالس عن عباد بن صهيب عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) عن ابن الحنفية عن علي (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) خرج فرأى نسوة قعودا فقال ما أقعدكن ههنا؟ قلن لجنازة
: قال أفتحملن مع من يحمل؟ قلن لا. قال : أفتغسلن مع من يغسل؟ قلن لا. قال أفتدلين
في من يدلي؟ قلن لا. قال فارجعن مأزورات غير مأجورات». واما حديث أم عطية فالظاهر
انه من روايات العامة كما يشعر به كلام العلامة في المنتهى فاني لم أقف بعد التتبع
عليه في شيء من أصولنا. وفي المنتهى : ويكره للنساء اتباع الجنائز ذكره الجمهور
لأنهن أمرن بترك التبرج والحبس في البيوت ، وروت أم عطية فقالت : «نهينا عن اتباع
الجنائز ولم يعزم علينا» . ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «ليس ينبغي للمرأة الشابة ان تخرج إلى
الجنازة وتصلي عليها إلا ان تكون امرأة دخلت في
__________________
السن». وفي رواية غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) «قال لا صلاة على جنازة معها امرأة». قال الشيخ : المراد بذلك نفي الفضيلة
لأنه يجوز لهن ان يخرجن ويصلين ، فإنه روى يزيد بن خليفة عن الصادق (عليهالسلام) «ان زينب بنت النبي (صلىاللهعليهوآله) توفيت وان فاطمة (عليهاالسلام) خرجت في نسائها فصلت على أختها». انتهى. أقول : ومثل
حديث يزيد بن خليفة المذكور حديثه الآخر وهو ما رواه الكليني في الصحيح عن يزيد بن
خليفة ـ وهو ممدوح فيكون حديثه حسنا ـ قال : «سأل عيسى بن عبد الله أبا عبد الله
(عليهالسلام) وانا حاضر فقال تخرج النساء إلى الجنازة؟ فقال ان
الفاسق آوى عمه المغيرة بن ابي العاص ، ثم ذكر حديث وفاة زوجة عثمان بطوله الى ان
قال : وخرجت فاطمة (عليهاالسلام) ونساء المؤمنين والمهاجرين فصلين على الجنازة». أقول :
ويفهم من خبري يزيد بن خليفة أن خروجها (عليهاالسلام) مع النساء كان مرتين مرة في موت أختها زينب زوجة أبي
العاص الأموي ومرة أخرى في زوجة عثمان. وكيف كان فهذان الخبران ظاهران في الجواز
بغير كراهة ، وأخلق بهذا القول ان يكون أصله من العامة وتبعهم فيه أصحابنا لرواية
الشيخ التي أشار إليها في الذكرى ، وراويها ـ كما عرفت ـ عباد بن صهيب وهو بتري
عامي لا يبلغ قوة في معارضة هذه الاخبار ، ورواية أم عطية قد عرفت انها ليست من
طرقنا بل الظاهر انها من طرقهم ، ويشير الى ما ذكرناه صدر عبارة المنتهى ، واما
خبر ابي بصير فليس فيه أزيد من استثناء الشابة ولعله لخصوص مادة ، واما خبر غياث
بن إبراهيم فيحمل على التقية لكون راويه عاميا بتريا. وبالجملة فعموم اخبار
التشييع مضافا الى خصوص هذه الاخبار أوضح واضح في الجواز من غير كراهة.
(الحادية عشرة)
ـ قال في المنتهى : يكره ان يمشي مع الجنازة بغير رداء
__________________
لرواية السكوني أما صاحب المصيبة فإنه ينبغي له ان يضع رداءه ليتميز عن
غيره فيقصده الناس للتعزية. روى الشيخ عن الحسين بن عثمان قال : «لما مات إسماعيل ابن ابي عبد الله (عليهالسلام) خرج أبو عبد الله بغير رداء ولا حذاء». أقول : قال
الشيخ في المبسوط يجوز لصاحب المصيبة أن يتميز عن غيره بإرسال طرف العمامة وأخذ
مئزر فوقها على الأب والأخ فاما على غير هما فلا يجوز على حال. وقال ابن إدريس :
لم يذهب الى هذا سواه والذي تقتضيه أصولنا انه لا يجوز اعتقاد ذلك وفعله سواء كان
على الأب أو الأخ أو غيرهما ، لان ذلك حكم شرعي يحتاج الى دليل شرعي ولا دليل عليه
، فيجب طرحه لئلا يكون الفاعل له مبدعا لانه اعتقاد جهل. ورده الفاضلان بأحاديث
الامتياز الآتية في المقام ان شاء الله تعالى. وفيه ان الأحاديث المشار إليها لا
دلالة فيها على ما ذكره الشيخ هنا من هذه الكيفية ولا الاختصاص بالأب والأخ. نعم
ظاهر ابن الجنيد القول بما قاله الشيخ حيث ذكر التميز بطرح بعض زيه بإرسال طرف
العمامة أو أخذ مئزر من فوقها على الأب والأخ ولا يجوز على غيرهما ، فقول ابن
إدريس ـ انه لم يذهب الى هذا سواه ـ ليس في محله. وابن حمزة منع هنا مع تجويزه
الامتياز فكأنه يخص التميز في غير الأب والأخ بهذا النوع من الامتياز. وعن ابي
الصلاح انه يحتفي ويحل أزراره في جنازة أبيه وجده خاصة.
أقول : والذي
وقفت عليه من اخبار المسألة زيادة على رواية الحسين بن عثمان المتقدمة ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لصاحب المصيبة أن يضع رداءه حتى يعلم
الناس انه صاحب المصيبة». والمراد بوضع الرداء نزعه ان كان ملبوسا وعدم لبسه ان
كان منزوعا ، وهذا مبني على ما هو المتعارف قديما من المداومة على الرداء كالعباءة
ونحوها في زماننا هذا ، وحينئذ فلا يبعد ان يستنبط من التعليل تغيير الهيئة في
__________________
مثل هذه البلدان التي لا يتعارف فيها الرداء بتغيير ما هو قائم مقامه من
عباءة ونحوها مما ليس فوق الثياب. وما رواه في الكافي مسندا والفقيه معلقا عن ابي
بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لصاحب المصيبة ان لا يلبس رداء وان يكون
في قميص حتى يعرف». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) ملعون ملعون من وضع رداءه في مصيبة غيره». وقد تقدم
قريبا في الفائدة الثانية قوله (عليهالسلام) في رواية السكوني : «ثلاثة لا ادري أيهم أعظم جرما.». وعد
منهم الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء. وفي المحاسن عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لصاحب الجنازة ان يلقي رداءه حتى يعرف
وينبغي لجيرانه ان يطعموا عنه ثلاثة أيام». وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ انما
دلت على التميز بلبس المشيع للجنازة الرداء وخلع صاحب المصيبة له ، وبذلك يظهر ما
في الأقوال الخارجة عن مضمون هذه الاخبار. واما ما ورد عن النبي (صلىاللهعليهوآله) ـ «انه مشى في جنازة سعد بن معاذ بلا حذاء ولا رداء
فسئل عن ذلك فقال اني رأيت الملائكة يمشون بلا حذاء ولا رداء». ـ فالظاهر انه
مخصوص بمورده للخصوصية الظاهرة فيه فلا يتأسى به
(الثانية عشرة)
ـ قد صرح جملة من أصحابنا بأنه لا يستحب القيام لمن مرت به الجنازة إلا ان يكون
مبادرا الى حملها وتشييعها ، ويدل عليه ما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة قال : «كنت عند ابى جعفر (عليهالسلام) وعنده رجل من الأنصار فمرت به جنازة فقال الأنصاري ولم
يقم أبو جعفر (عليهالسلام) فقعدت معه ولم يزل الأنصاري قائما حتى مضوا بها ثم جلس
فقال له أبو جعفر (عليهالسلام) ما أقامك؟ قال رأيت الحسين بن علي (عليهماالسلام) يفعل ذلك. فقال أبو جعفر
__________________
(عليهالسلام) والله ما فعله الحسين (عليهالسلام) ولا قام لها أحد منا أهل البيت قط. فقال الأنصاري
شككتني أصلحك الله تعالى قد كنت أظن انى رأيت». وعن مثنى الخياط عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان الحسين بن علي (عليهماالسلام) جالسا فمرت به جنازة فقام الناس حين طلعت الجنازة فقال
الحسين (عليهالسلام) مرت جنازة يهودي وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على طريقها جالسا فكره ان تعلو رأسه جنازة يهودي فقام
لذلك». وروي في قرب الاسناد هذا الخبر عن مولانا الحسن (عليهالسلام) بما هو واضح دلالة ، قال فيه : «ان الحسن بن علي (عليهماالسلام) كان جالسا ومعه أصحاب له فمر بجنازة فقام بعض القوم
ولم يقم الحسن فلما مضوا بها قال بعضهم ألا قمت عافاك الله تعالى؟ فقد كان رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) يقوم للجنازة إذا مروا بها عليه. فقال الحسن (عليهالسلام) انما قام رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مرة واحدة وذلك انه مر بجنازة يهودي وكان المكان ضيقا
فقام رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وكره ان تعلو رأسه». وربما يفهم من الخبرين المذكورين
استحباب القيام لمرور جنازة الكافر بل المخالف الذي هو عندنا من افراده ، واحتمال
الاختصاص به (صلىاللهعليهوآله) لمزيد شرفه ـ ونحوه الأئمة المعصومون (عليهمالسلام) ـ ممكن إلا ان الاحتياط في القيام بالشرط المذكور في
رواية الحميري من كون الطريق ضيقا فيلزم بالقعود أشرافها على الرأس ، وللعامة هنا
اختلاف في ذلك وجوبا أو استحبابا أو لإذا ولإذا واخبارهم فيه مختلفة أيضا.
__________________
(الثالثة عشرة)
ـ صرح جملة من الأصحاب بأنه يستحب النعش ، وهو لغة سرير الميت إذا كان عليه سمي
بذلك لارتفاعه فإذا لم يكن عليه ميت فهو سرير ، ويتأكد للنساء لسترهم ، والأصل فيه
الأخبار المروية في عمله لفاطمة (عليهاالسلام) ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن أول من جعل له النعش؟ فقال فاطمة (عليهاالسلام)». وروى في التهذيب عن سليمان بن خالد عن الصادق (عليهالسلام) وفي الفقيه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن أول من جعل له النعش؟ قال فاطمة بنت
رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». وعن ابي عبد الرحمن الحذاء عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أول نعش أحدث في الإسلام نعش فاطمة (عليهاالسلام) انها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها وقالت لأسماء إني
نحلت وذهب لحمي ألا تجعلين لي شيئا يسترني؟ قالت أسماء إني إذ كنت بأرض الحبشة
رأيتهم يصنعون شيئا أفلا اصنع لك فإن أعجبك صنعت لك؟ قالت نعم. فدعت بسرير فأكبته
لوجهه ثم دعت بجرائد فشدته على قوائمه ثم جللته ثوبا فقالت هكذا رأيتهم يصنعون.
فقالت اصنعي لي مثله استريني سترك الله تعالى من النار». وحديث أسماء مروي أيضا من
طرق العامة بروايات عديدة إلا انه روى الصدوق في العلل عن عمرو بن ابي المقدام
وزياد بن عبيد الله قالا : «اتى رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال يرحمك الله تعالى هل تشيع الجنازة بنار ويمشى
معها بمجمرة أو قنديل أو غير ذلك مما يضاء به؟ قال : فتغير لون ابي عبد الله (عليهالسلام) من ذلك. ثم ساق الحديث ـ وهو طويل ـ فيما جرى بين
فاطمة وبين الظالمين الملعونين الى ان قال : فلما نعي إلى فاطمة نفسها أرسلت إلى
أم أيمن ـ وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها ـ فقالت يا أم أيمن إن نفسي نعيت
__________________
الي فادعي لي عليا. فدعته لها فلما دخل عليها قالت له يا ابن العم أريد أن
أوصيك بأشياء فاحفظها علي. فقال لها قولي ما أحببت قالت له تزوج امامة تكون لولدي
بعدي مثلي واعمل نعشي رأيت الملائكة قد صورته لي. فقال لها : اريني كيف صورته؟
فأرته ذلك كما وصف لها وكما أمرت به. ثم قالت فإذا أنا قضيت نحبي فأخرجني من ساعتك
أي ساعة كانت من ليل أو نهار ولا يحضرن من أعداء الله تعالى وأعداء رسوله للصلاة
علي قال علي (عليهالسلام) افعل. فلما قضت نحبها (صلى الله عليها) وهم في جوف
الليل أخذ علي في جهازها من ساعته كما أوصته. فلما فرغ من جهازها اخرج علي (عليهالسلام) الجنازة وأشعل النار في جريد النخل ومشى مع الجنازة
بالنار حتى صلى عليها ودفنها ليلا. الحديث». ويمكن حمل الخبر الأول على التقية
لاشتهار حديث أسماء بين العامة أو ان الملائكة صورت لها ذلك وفق ما ذكرته أسماء.
ولم أقف في الاخبار على ما يتعلق بذكر النعش غير هذه الاخبار الدالة على أمر فاطمة
(عليهاالسلام) به لنفسها ، والأصحاب قد فهموا منها العموم للرجال
والنساء ، وبعضهم خصه بالنساء. قال ابن الجنيد بعد ذكر النعش للنساء : ولا بأس
بحمل الصبي على أيدي الرجال والجنازة على ظهر الدواب. إلا ان الاخبار قد تكاثرت
بذكره وانه هو المعمول عليه والمحمول عليه كما ستمر بك ان شاء الله تعالى.
(الرابعة عشرة)
ـ لو دعي إلى جنازة ووليمة قدم الجنازة ذكره الأصحاب ، وعليه تدل رواية إسماعيل بن
ابي زياد عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) سئل عن رجل يدعى الى وليمة والى جنازة فأيهما أفضل
وأيهما يجيب؟ قال : يجيب الجنازة فإنها تذكر الآخرة وليدع الوليمة فإنها تذكر
الدنيا».
(الخامسة عشرة)
ـ يستحب إعلام المؤمنين بذلك لما في الكافي في الصحيح
__________________
أو الحسن عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لأولياء الميت منكم ان يؤذنوا إخوان الميت
بموته فيشهدون جنازته ويصلون عليه ويستغفرون له فيكتب لهم الأجر ويكتب للميت
الاستغفار ويكتسب هو الأجر فيهم وفيما اكتسب لميتهم من الاستغفار». وعن ذريح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجنازة يؤذن بها الناس؟ قال نعم». وعن
القاسم بن محمد عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الجنازة يؤذن بها الناس». أقول : وفي ذلك من
الفوائد الجليلة : ما يترتب من الثواب الجزيل على السنن الموظفة في التشييع من
الحمل والتربيع والصلاة والتعزية. وما في ذلك من الاتعاظ والتذكرة لأمور الآخرة
وتنبيه القلب القاسي وزجر النفس الامارة ، ونحو ذلك ، قال الشيخ في الخلاف : لا نص
في النداء. وفي المعتبر والتذكرة لا بأس به. وقال الجعفي : يكره النعي إلا ان يرسل
صاحب المصيبة الى من يختص به. أقول : الظاهر من اخبار المسألة هو استحباب الإعلام
بأي وجه اتفق لكن لم يعهد فيما مضى عليه السلف من أصحابنا من الصدر الأول النداء
بذلك ولو وقع لنقل ولو كان المراد من هذه الأخبار ذلك لعملوا به ، والظاهر حينئذ انما
هو الإرسال إليهم واعلام الناس بعضهم بعضا بذلك. والله العالم.
(الأمر الثاني)
ـ التربيع ، والواجب الحمل كيف اتفق وأفضله ان يكون في نعش كما تقدم ، وحمل النعش
جائز كيف اتفق وليس فيه دنو ولا سقوط مروة كما ربما يتوهم فقد حمل النبي (صلىاللهعليهوآله) جنازة سعد بن معاذ كما رواه الأصحاب ومعظم الصحابة
والتابعون من غير تناكر لما فيه من البر والكرامة للميت ، وهو وظيفة الرجال لا
النساء وان كان الميت امرأة إلا لضرورة ، وأفضله التربيع وهو الحمل بأربعة رجال من
جوانبه الأربعة ، وأكمله دوران الحامل على الجوانب الأربعة ، وفيه فضل
__________________
عظيم وثواب جسيم ، فروى في الكافي في الصحيح عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «من حمل جنازة من اربع جوانبها غفر الله له
أربعين كبيرة». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) من حمل أخاه الميت بجوانب السرير الأربعة محا الله
تعالى عنه أربعين كبيرة من الكبائر». وروى في الكافي مسندا عن سليمان ابن خالد عن
رجل عن الصادق (عليهالسلام) وفي الفقيه مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من أخذ بقائمة السرير غفر الله تعالى له خمسا
وعشرين كبيرة وإذا ربع خرج من الذنوب». وروى في الفقيه مرسلا قال : قال (عليهالسلام) لإسحاق بن عمار : «إذا حملت جوانب السرير سرير الميت
خرجت من الذنوب كما ولدتك أمك». وروى في الكافي عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «السنة ان يحمل السرير من جوانبه الأربع وما كان
بعد ذلك من حمل فهو تطوع».
بقي الكلام في
الكيفية التي هي أفضل صور التربيع ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك. فقيل : السنة ان
يبدأ بمقدم السرير الأيمن ثم يمر عليه إلى مؤخره ثم بمؤخر السرير الأيسر ويمر عليه
الى مقدمه دور الرحى ، ذكر ذلك الشيخ في النهاية والمبسوط وادعى عليه الإجماع وهو
المشهور بين الأصحاب على ما ذكره جملة من المتأخرين ، وقال في الخلاف : يحمل
بميامنه مقدم السرير الأيسر ثم يدور حوله حتى يرجع الى المقدم. وأنت خبير بان
المراد بميامن السرير ومياسره انما هو بالنسبة إلى المشيع والماشي خلفه فعلى هذا
يكون يمين السرير مما يلي يسار الميت ويساره مما يلي يمين الميت ، فعلى القول
المشهور ينبغي ان يبدأ أولا ويضع مقدم السرير الأيمن الذي يلي يسار الميت على كتفه
الأيسر ثم يدور عليه من خلفه الى ان يأخذ مقدمه الأيسر الذي عليه يمين الميت على
كتفه الأيمن ، وعلى تقدير قول الشيخ في الخلاف بعكس ذلك فيبدأ بمقدم السرير الأيسر
الذي عليه يمين الميت فيأخذه على كتفه الأيمن ثم يدور من خلفه الى مقدمه الأيمن
__________________
وعبارات
الأصحاب لا تخلو هنا من إجمال واضطراب ، قال العلامة (قدسسره) في المنتهى : «التربيع المستحب عندنا ان يبدأ الحامل
بمقدم السرير الأيمن ثم يمر معه ويدور من خلفه الى الجانب الأيسر فيأخذ رجله
اليسرى ويمر معه الى ان يرجع الى المقدم كذلك دور الرحى ، وحاصل ما ذكرناه ان يبدأ
فيضع قائمة السرير التي تلي اليد اليمنى للميت فيضعها على كتفه الأيسر ثم ينتقل
فيضع القائمة التي تلي رجله اليمنى على كتفه الأيسر ثم ينتقل فيضع القائمة التي
تلي رجله اليسرى على كتفه الأيمن ثم ينتقل فيضع القائمة التي تلي يده اليسرى على
كتفه الأيمن» وصدر عبارته (قدسسره) وان كان مجملا إلا ان تفصيله ظاهر في مذهب الشيخ في
الخلاف ولكن مقتضاه ان يكون الحامل داخلا بين يدي السرير ورجليه لا بارزا عنه ،
وهو خلاف المفهوم من كلام الأصحاب ، والعجب ان شيخنا الشهيد الثاني في الروض جعل
مذهب العلامة في المنتهى موافقا للقول المشهور والأمر كما ترى. وقال الشهيد في
الدروس : «وأفضله التربيع فيحمل اليد اليمنى بالكتف اليمنى ثم الرجل اليمنى كذلك
ثم الرجل اليسرى بالكتف اليسرى ثم اليد اليسرى كذلك» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ ظاهر
في مذهب الشيخ في الخلاف ، والعجب أن شارحه الفاضل الشيخ الجواد الكاظمي ادعى ان
هذا القول هو المشهور وانه قول الشيخ في النهاية والمبسوط الذي ادعى عليه الإجماع
، قال (قدسسره) : اما استحبابه على الوجه الذي ذكره المصنف فهو
المشهور بين الأصحاب وادعى الشيخ عليه الإجماع في النهاية والمبسوط. وظاهر الذخيرة
اختيار هذا القول ودعوى انه هو المشهور كما ذكره الفاضل المشار اليه بزعم ان كلام
الشيخ في النهاية والمبسوط وكذا من تبعه غير ظاهر فيما فهموه فان اعتبار اليمنة
واليسرة للسرير كما يمكن باعتبار المشيعين يمكن باعتبار الميت فينبغي ان يحمل عليه
حتى يوافق الروايات ويوافق كلامه في الخلاف.
وكيف كان
فالواجب الرجوع إلى النصوص وبيان ما هو المفهوم منها بالعموم
أو الخصوص ، فمنها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن الفضل بن يونس قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن تربيع الجنازة؟ قال : إذا كنت في موضع تقية فابدأ
باليد اليمنى ثم بالرجل اليمنى ثم ارجع من مكانك الى ميامن الميت لا تمر خلف رجليه
البتة حتى تستقبل الجنازة فتأخذ يده اليسرى ثم رجله اليسرى ثم ارجع من مكانك لا
تمر خلف الجنازة البتة حتى تستقبلها تفعل كما فعلت أولا ، وان لم تكن تتقي فيه فان
تربيع الجنازة الذي جرت به السنة ان تبدأ باليد اليمنى ثم بالرجل اليمنى ثم بالرجل
اليسرى ثم باليد اليسرى حتى تدور حولها». وما رواه في الكافي عن العلاء بن سيابة
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «تبدأ في حمل السرير من جانبه الأيمن ثم تمر عليه
من خلفه الى الجانب الآخر ثم تمر حتى ترجع الى المقدم كذلك دوران الرحى عليه». وما
رواه الكليني والشيخ عن علي ابن يقطين عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : السنة في حمل الجنازة ان تستقبل
جانب السرير بشقك الأيمن فتلزم الأيسر بكفك الأيمن ثم تمر عليه الى الجانب الآخر
وتدور من خلفه الى الجانب الثالث من السرير ثم تمر عليه الى الجانب الرابع مما يلي
يسارك». وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي عن ابن ابي
يعفور عن الصادق (عليهالسلام) قال : «السنة ان تستقبل الجنازة من جانبها الأيمن وهو
مما يلي يسارك ثم تصير الى مؤخره وتدور عليه حتى ترجع الى مقدمه». وما في الفقه
الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وربع الجنازة فإن من ربع جنازة مؤمن حط الله تعالى
عنه خمسا وعشرين كبيرة ، فإذا أردت أن تربعها فابدأ بالشق الأيمن فخذه بيمينك ثم
تدور إلى المؤخر فتأخذه بيمينك ثم تدور إلى المؤخر الثاني فتأخذه بيسارك ثم تدور
الى المقدم الأيسر فتأخذه بيسارك ثم تدور على الجنازة كدور كفى الرحى».
__________________
هذا ما وقفت
عليه من روايات المسألة ، والكلام فيها اما في رواية الفضل بن يونس فإن الأصحاب قد
استدلوا بها على المذهب المشهور ، والذي يظهر عندي انها تدل على قول الشيخ في
الخلاف ، وذلك فان الظاهر من اليد اليمنى واليد اليسرى والرجل اليمنى والرجل
اليسرى انما هو يد الميت ورجلاه لان ظاهر الخبر ان الابتداء في حال التقية وعدم
التقية واحد ، وهو ان يبدأ بيد الميت اليمنى التي تلي يسار السرير بالتقريب الذي
قدمناه ، ولا فرق بينهما الا انه بعد حمل ما يلي يد الميت اليمنى ثم رجله اليمنى
فان كان مقام تقية رجع الى ميامن الميت ومر من وجه الجنازة ولا يدور من خلفها حتى
يأخذ يد الميت اليسرى التي تلي يمين السرير بيده اليسرى أو على كتفه الأيسر ثم الى
الرجل اليسرى وان لم تكن تقية فإنه يمر خلف الميت. والظاهر ان الإشارة بدور الرحى
في الرواية انما هو للرد على العامة فيما ذكره (عليهالسلام) عنهم في هذا الخبر وحينئذ فلا تأييد فيه للقول المشهور
كما ذكره جمع من الأصحاب من ان الرحى انما تدور من اليمين إلى اليسار لا بالعكس ،
فان الظاهر ان الغرض من التشبيه انما هو مجرد الدوران وعدم الرجوع في الأثناء كما
تفعله العامة مما نقله (عليهالسلام) في الخبر المذكور ، ومما يؤكد كون فعل العامة كما نقله
(عليهالسلام) ما ذكره في كتاب شرح السنة وهو من كتب العامة المشهورة ، قال : «حمل الجنازة من
الجوانب الأربع فيبدأ بياسرة السرير المتقدمة فيضعها على عاتقه الأيمن ثم بياسرته
المؤخرة ثم بيامنته المتقدمة فيضعها على عاتقه
__________________
الأيسر ثم بيامنته المؤخرة» انتهى. وهو عين ما ذكره (عليهالسلام) وبذلك يظهر صحة ما ذكرنا من ان الخبر من أدلة قول
الشيخ في الخلاف لا القول المشهور كما هو مما ذكرناه واضح الظهور. واما رواية
العلاء بن سيابة فهي لا تخلو من إجمال فإن الضمير في «جانبه» يحتمل رجوعه الى «السرير»
كما هو الظاهر فيكون الخبر ظاهرا في القول المشهور سيما مع قراءة الأفعال الأربعة
على صيغة الخطاب ، ويحتمل رجوعه الى الميت فيكون موافقا لقول الشيخ في الخلاف إلا
ان الظاهر هو الأول. واما رواية علي بن يقطين فهي ظاهرة في مذهب الشيخ في الخلاف
وحملها على خلافه تعصب واعتساف. واما رواية السرائر فهي ظاهرة في القول المشهور
لان جانب الجنازة الأيمن هو الذي يلي يسار الميت. وقوله : «مما يلي يسارك» يعني في
حال الحمل لان يمين الجنازة يلي يسار الحامل ، والحديث صحيح باصطلاح المتأخرين لأن
الكتاب المأخوذ منه من الأصول المشهورة المأثورة. وصاحبه وكذا المروي عنه وهو ابن
ابي يعفور ثقتان جليلان ، وبذلك يظهر ما في كلام السيد السند (قدسسره) في المدارك حيث قال بعد ذكر الروايات الثلاث الأولة :
والروايات كلها قاصرة من حيث السند ، مع ان ابن بابويه روى في الصحيح عن الحسين بن
سعيد : «انه كتب الى ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) يسأله عن سرير الميت يحمل أله جانب يبدأ به في الحمل
من جوانبه الأربع أو ما خف على الرجل من اي الجوانب شاء؟ فكتب من ايها شاء». وروى
جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «السنة ان يحمل السرير من جوانبه الأربع وما كان
بعد ذلك من حمل فهو تطوع». انتهى. وفيه زيادة على ما عرفت ـ وان كان العذر له
ظاهرا في عدم وقوفه على الخبر المذكور ـ انه لا منافاة بين ما دلت عليه هذه
الاخبار وما دلت عليه الصحيحة المذكورة حتى انه يتمسك بهذه الصحيحة في رد تلك
الاخبار لضعفها بزعمه ،
__________________
فان الظاهر ان السؤال في الصحيحة المذكورة عن جانب يتعين العمل به ولا يجوز
العدول الى غيره فأجابه (عليهالسلام) بأنه ليس كذلك بل تتأدى السنة أي سنة التربيع
بالابتداء بأي جانب ، ولا ينافيه كون الأفضل ان يكون على الكيفية التي تضمنتها هذه
الاخبار وان اختلفت فيها ، ويدل على ما ذكرناه قوله (عليهالسلام) في الخبر الثاني الذي أورده : «السنة ان يحمل السرير
من جوانبه الأربع وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع». أي زيادة فضل واستحباب واما
رواية كتاب الفقه فهي ظاهرة ايضا في مذهب الشيخ في الخلاف بان يراد بالشق الأيمن
يعني يمين الميت وهو يسار السرير كما ينادي به الحمل بيمينه ، فان الحمل باليمين
مع خروج الحامل عن السرير انما يكون مما يلي يمين الميت ويسار السرير. وكيف كان
فالظاهر التخيير بين الصورتين جمعا بين الأخبار المذكورة.
واما ما تكلفه
في الذكرى ومثله في الروض ـ من إرجاع كلام الشيخ في الخلاف الى ما في النهاية
والمبسوط حيث انه ادعى الإجماع على ما ذهب إليه في الكتابين المذكورين ، قال في
الذكرى ـ بعد الاستدلال على القول المشهور بروايتي العلاء بن سيابة والفضل بن يونس
ـ ما صورته : والشيخ في الخلاف عمل على خبر علي بن يقطين ، ثم ساق الخبر ثم قال :
ويمكن حمله على التربيع المشهور لان الشيخ ادعى عليه الإجماع وهو في المبسوط
والنهاية وباقي الأصحاب على التفسير الأول فكيف يخالف دعواه؟ ولانه قال في الخلاف
يدور دور الرحى كما في الرواية وهو لا يتصور إلا على البدأة بمقدم السرير الأيمن
والختم بمقدمه الأيسر والإضافة هنا قد تتعاكس ، والراوندي حكى كلام النهاية
والخلاف وقال معناهما لا يتغير. انتهى. فلا يخفى ما فيه (اما أولا) ـ فلما أوضحناه
من معنى الأخبار المذكورة وبينا دلالة أكثر روايات المسألة على مذهب الشيخ في
الخلاف ، وتطبيق أحد القولين على الآخر اعتساف ظاهر واي اعتساف. و (اما ثانيا) ـ فان
كلام العلامة في المنتهى كما قدمناه وكلامه هو (قدسسره) في الدروس صريحان في مذهب الشيخ
في الخلاف. و (اما ثالثا) ـ فان الاستناد الى دوران الرحى في الرواية لا
وجه له بعد ما أوضحناه. و (اما رابعا) ـ فان استبعاد مخالفة الشيخ لنفسه سيما فيما
يدعي عليه الإجماع مما يقضى منه العجب من مثل هذين الفاضلين المحققين ، وأي مسألة
من مسائل الفقه من أوله الى آخره لم تختلف أقواله فيها ولا فتاواه حتى يستغرب في
هذا المقام؟ وكيف لا وهذا القائل اعني شيخنا الشهيد الثاني قد صنف رسالة جمع فيها
المسائل التي ادعى فيها الشيخ الإجماع في موضع وادعى الإجماع على عكسه في موضع آخر
وهي تبلغ سبعين مسألة ، وكانت الرسالة المذكورة عندي فتلفت في بعض الوقائع التي
مرت علي ، وبالجملة فما ذكرناه أشهر من ان ينكر.
(الثالث) ـ ان
يحفر له القبر قدر قامة أو الى الترقوة ، صرح به الشيخان والصدوق في كتابه وجملة
من تأخر عنهم من الأصحاب ، والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام ما رواه في
الكافي عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان يعمق القبر فوق ثلاثة أذرع». وما رواه الشيخ في
الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «حد القبر إلى الترقوة وقال بعضهم إلى الثدي وقال
بعضهم قامة الرجل حتى يمد الثوب على رأس من في القبر ، واما اللحد فبقدر ما يمكن
فيه الجلوس ، قال ولما حضر علي بن الحسين (عليهالسلام) الوفاة أغمي عليه فبقي ساعة ثم رفع عنه الثوب ثم قال :
الحمد لله الذي أورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشأ فنعم أجر العاملين. ثم قال احفروا
لي حتى تبلغوا الرشح قال ثم مد الثوب عليه فمات (عليهالسلام)». ورواه في الكافي عن سهل قال روى أصحابنا : «ان حد القبر إلى الترقوة. الحديث». وروى
في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) حد القبر إلى الترقوة وقال بعضهم الى الثديين وقال
بعضهم قامة الرجل حتى يمد الثوب على رأس من في القبر ، واما اللحد فيوسع
__________________
بقدر ما يمكن الجلوس فيه». قال في الذكرى بعد نقل مرسلة ابن ابي عمير : «والظاهر
ان هذا من محكي ابن ابي عمير لأن الإمام لا يحكي قول أحد» أقول : يمكن ان يكون قول
الامام ويكون حكاية لأقوال العامة وإلا فحمل هذين البعضين القائلين على الشيعة
بعيد جدا فإن الشيعة لا يقولون إلا عن الأئمة (عليهمالسلام) لأنهم لا يتخذون مذهبا غير مذهب أئمتهم (عليهمالسلام) ثم قال في معنى قول زين العابدين (عليهالسلام) : «احفروا لي حتى تبلغوا الرشح» : «يمكن حمله على
الثلاثة لأنها قد تبلغ الرشح في البقيع» أقول : والرشح الندى في أسفل الأرض. أقول
: لا يخفى ان النهي عن ان يعمق القبر فوق ثلاثة أذرع لا يجامع استحباب القامة الذي
ذكروه ، فإن الثلاثة اذرع انما تصل إلى الترقوة فيكون مرجع حديثي الثلاثة والترقوة
إلى أمر واحد ، واما القامة فإنما وردت في حكاية ابن ابي عمير على ما أشار إليه في
الذكرى أو النقل عن العامة كما احتملناه ، فالأولى الاقتصار على الثلاث كما لا
يخفى.
ثم انه قد ذكر
جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى ان اللحد أفضل من
الشق في غير الأرض الرخوة ، قال في المعتبر : «ويستحب ان يجعل له لحد ومعناه ان
الحافر إذا انتهى الى أرض القبر حفر مما يلي القبلة حفرا واسعا قدر ما يجلس فيه
الجالس ، كذا ذكره الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وابن بابويه في كتابه»
وقال في الذكرى : اللحد أفضل من الشق عندنا في غير الأرض الرخوة لما روي عن النبي (صلىاللهعليهوآله) : «اللحد لنا والشق لغيرنا». واحتج به أيضا في المعتبر
، ثم قال : ومن طريق الأصحاب ما رواه الحلبي ثم ذكر ما رواه في الكافي في الصحيح
أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي
__________________
(صلىاللهعليهوآله) لحد له أبو طلحة الأنصاري». وهذه الرواية هي دليل
الأصحاب على الأفضلية ، واما الرواية الأولى فالظاهر انها عامية كما يشير اليه
كلام المعتبر إلا انه قد ورد أيضا في رواية إسماعيل بن همام عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) حين احتضر إذا أنا مت فاحفروا لي وشقوا لي شقا فان قيل
لكم ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لحد له فقد صدقوا». وفي حديث الحلبي قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان ابي كتب في وصيته ، الى ان قال وشققنا له الأرض من
أجل انه كان بادنا». وقد تقدم في رواية فقه الرضا نحوه حكاية عنه (عليهالسلام) وفي العيون في الصحيح أو الحسن عن ابي الصلت الهروي عن
الرضا (عليهالسلام) في حديث انه قال : «سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن
يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل وان يشق لي ضريحة فإن أبوا إلا ان يلحدوا فتأمرهم أن
يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا فان الله تعالى سيوسعه ما شاء. الحديث». ورواه في الأمالي.
وظاهر هذه الأخبار انما هو أرجحية الشق على اللحد ، وحديث التلحيد لرسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا ظهور فيه في الأفضلية لأنه لا يدل على امره (صلىاللهعليهوآله) بذلك ولا أمر أمير المؤمنين (عليهالسلام) ، ولعل فعله انما هو من حيث كونه أحد الفردين المخير
بينهما ، وبالجملة فعدول الإمامين (عليهماالسلام) عن ذلك ووصيتهما بالشق وجوابهما عن الاحتجاج عليهما
فيما اختاراه من الشق بتلحيد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ظاهر المنافاة ، وظاهر حديث الرضا (عليهالسلام) يشير الى ان اللحد انما هو من سنن هؤلاء ، إلا ان
العدول عما عليه اتفاق ظاهر كلام الأصحاب مشكل ، قال شيخنا المجلسي في البحار بعد
نقل حديث تعليل الشق للباقر (عليهالسلام) بكونه بدينا : «انما كان يمنع من اللحد لعدم إمكان
توسيع اللحد
__________________
بحيث يسع جثته (عليهالسلام) لرخاوة أرض المدينة» أقول : لا يخفى ما فيه فإنه لو
كان كذلك كيف يلحد لرسول الله (صلىاللهعليهوآله) وليس بين قبر الرسول (صلىاللهعليهوآله) وبين البقيع ما يقتضي اختلاف الأرض شدة ورخاوة. وعندي
ان هذا التعليل انما خرج مسامحة ومجاراة وإلا فالأصل انما هو أفضلية الشق ، ثم قال
(قدسسره) في الكتاب المذكور بعد نقل حديث وصية الرضا (عليهالسلام) : «لعل اختيار الشق هنا لأمر يخصه (عليهالسلام) أو يخص ذلك المكان كما ان الحفر سبع مراقي كذلك ويدل
على استحباب توسيع اللحد» واما حديث إسماعيل بن همام فرده في المنتهى بضعف السند.
وصرح المحقق في المعتبر بناء على ما اختاره من أفضلية اللحد بأنه لو كانت الأرض
رخوة لا تحمل اللحد يعمل له شبه اللحد من بناء تحصيلا للافضلية.
(الرابع) ـ ان
يضع الجنازة على الأرض إذا وصل الى القبر مما يلي رجليه والمرأة مما يلي القبلة
وأن ينقله في ثلاث دفعات ، كذا صرح به الأصحاب.
أقول : اما
الحكم الأول فقد نقله في المعتبر عن الشيخ في النهاية والمبسوط وابن بابويه في
كتابه ، وقال في المدارك انه لم يقف فيه على نص ، قال : وانما علل ذلك بأنه أيسر
في فعل ما هو الاولى من إرسال الرجل سابقا برأسه والمرأة عرضا ، واختيار جهة
القبلة لشرفها. أقول : ما ذكره من عدم وجود النص في المسألة مسلم بالنسبة إلى
المرأة حيث اني بعد التتبع التام لم أقف على ما يدل على ما ذكروه من وضعها مما يلي
القبلة بل ظاهر النصوص وضع الجنازة رجلا كان أو امرأة مما يلي الرجلين ومن ذلك خبر
محمد بن عجلان الأول ومرسلة محمد بن عطية فإن المراد فيهما بأسفل القبر ما يلي الرجلين ، وأوضح
منهما دلالة ما ورد في عدة اخبار «ان لكل بيت بابا وان باب القبر من قبل الرجلين». ومنها
ـ موثقة عمار وفيها «لكل شيء باب وباب القبر مما يلي الرجلين إذا
وضعت الجنازة فضعها مما يلي الرجلين. الخبر». وهذه الأخبار ـ كما ترى ـ
__________________
شاملة بإطلاقها للرجل والمرأة ، وبذلك يظهر ان ما ذكره في المدارك ـ من انه
لم يقف على نص في وضع الرجل مما يلي الرجلين ـ ليس في محله بل النصوص ـ كما ترى ـ ظاهرة
فيه ، ويمكن ان يستفاد ما ذكره الأصحاب بالنسبة إلى المرأة أيضا والفرق بينها وبين
الرجل من عبارة الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وان كانت امرأة فخذها بالعرض من قبل اللحد وتأخذ
الرجل من قبل رجليه تسله سلا». فان ظاهر العبارة ان جنازة المرأة توضع من قبل
اللحد واللحد انما يكون في القبلة كما تقدم في عبارة المعتبر وجنازة الرجل تؤخذ من
قبل رجلي القبر ، وقضية الأخذ من ذلك المكان كون هذا المكان المأخوذ منه هو الذي
وضعت فيه الجنازة لما وصلت الى القبر ، وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه ايضا ،
وحينئذ فيجب تخصيص تلك الاخبار بالرجل وبه يدفع الإيراد على الأصحاب بعدم وجود
المستند لما ذكروه من التفصيل ، وقد عرفت نظير ذلك في غير موضع ، ومثل عبارة كتاب
الفقه المذكورة رواية الأعمش الآتية قريبا ان شاء الله تعالى ، والتقريب فيهما معا واحد.
واما الحكم
الثاني فقد ذكره الصدوق في الفقيه فقال : «وإذا حمل الميت الى قبره فلا يفاجأ به القبر
لان للقبر أهوالا عظيمة ، ويتعوذ حامله بالله من هول المطلع ويضعه قرب شفير القبر
ويصبر عليه هنيئة ثم يقدمه قليلا ويصبر عليه هنيئة ليأخذ أهبته ثم يقدمه الى شفير
القبر ويدخله القبر من يأمره ولي الميت ان شاء شفعا وان شاء وترا ، ويقال عند
النظر الى القبر : اللهم اجعله روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار»
انتهى. قال في المدارك بعد نقل الثلاث دفعات عن الصدوق في الفقيه والشيخ في
المبسوط والمحقق في المعتبر : والذي وقفت عليه في هذه المسألة من الروايات صحيحة
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ينبغي ان يوضع الميت دون
__________________
القبر هنيئة ثم واره». ومرسلة محمد بن عطية قال : «إذا أتيت بأخيك إلى القبر فلا تفدحه به ضعه أسفل
من القبر بذراعين أو ثلاثة حتى يأخذ أهبته ثم ضعه في لحده.». ورواية محمد بن عجلان
قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لا تفدح ميتك بالقبر لكن ضعه أسفل منه بذراعين أو
ثلاثة ودعه حتى يأخذ أهبته». ولا يخفى انتفاء دلالة هذه الروايات على ما ذكره
الأصحاب بل انما تدل على استحباب وضعه دون القبر هنيئة ثم دفنه. وبمضمونها افتى
ابن الجنيد والمصنف في المعتبر في آخر كلامه ، وهو المعتمد. انتهى. أقول : ومن
روايات المسألة مما هو من هذا القبيل ما رواه ثقة الإسلام عن يونس قال : «حديث سمعته عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) ما ذكرته وانا في بيت إلا ضاق علي ، يقول إذا أتيت
بالميت الى شفير القبر فأمهله ساعة فإنه يأخذ أهبته للسؤال». وما رواه الشيخ عن
محمد بن عجلان قال : «سمعت صادقا يصدق على الله تعالى ـ يعني أبا عبد
الله (عليهالسلام) ـ قال : إذا جئت بالميت الى قبره فلا تفدحه بقبره ولكن
ضعه دون قبره بذراعين أو ثلاثة أذرع ودعه حتى يتأهب للقبر ولا تفدحه به. الحديث».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ما ذكره الصدوق مما قدمنا نقله عنه فإنما أخذه من الفقه الرضوي على النهج
الذي عرفت سابقا وستعرف مثله ان شاء الله تعالى ، قال (عليهالسلام) في الكتاب المذكور : «وإذا حملت الميت الى قبره فلا تفاجئ به القبر فان
للقبر أهوالا عظيمة ونعوذ بالله من هول المطلع ولكن ضعه دون شفير القبر واصبر عليه
هنيئة ثم قدمه قليلا واصبر عليه ليأخذ أهبته ثم قدمه الى شفير القبر ، ويدخله
القبر من يأمره ولي الميت ان شاء شفعا وان شاء وترا ، وقل إذا نظرت الى القبر :
اللهم اجعله روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار». انتهى. ومنه يعلم
ان مستند الصدوق في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور ومن تأخر عنه أخذ ذلك منه أو
من
__________________
الكتاب المذكور ، ومنه يعلم مستند القول المشهور وان خفي على الأكثر من
أصحابنا المتأخرين والجمهور لعدم وصول الكتاب إليهم. وقال الصدوق في العلل بعد نقل رواية محمد بن عجلان المتقدمة : «وروى في حديث
آخر : إذا أتيت بالميت القبر فلا تفدح به القبر فان للقبر أهوالا عظيمة ونعوذ
بالله من هول المطلع ولكنه ضعه قرب شفير القبر واصبر عليه هنيئة ثم قدمه قليلا
واصبر عليه ليأخذ أهبته ثم قدمه الى شفير القبر». انتهى. والظاهر ان هذه الرواية
المرسلة مأخوذة من الكتاب المذكور كما ترى فإن العبارة واحدة. بقي الكلام في الجمع
بين هذه الروايات وبين ما ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي ، والظاهر حمل كلامه (عليهالسلام) على مزيد الفضل والاستحباب فإنه أبلغ في الأهبة
والاستعداد وان تأدى أصل الحكم بما في تلك الأخبار ، قوله (عليهالسلام) : «فلا تفجأ به القبر» قال في المصباح المنير : «فجأت
الرجل افجأه مهموز من باب تعب وفي لغة بفتحتين : جئته بغتة» وحينئذ يكون المعنى هنا
لا تأت بميتك القبر بغتة ، واما على رواية «تفدح به القبر» فقال في القاموس : «فدحه
الدين كمنعه : أثقله» ولعل المراد لا تجعل القبر ودخوله ثقيلا على ميتك بإدخاله
فيه بغتة ، واما هول المطلع فقال في النهاية : «هول المطلع يريد به الموقف يوم
القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه
من موضع عال» انتهى قوله : «ويدخله القبر. الى آخره» فيه دلالة على عدم تعين عدد
مخصوص وبه قال الأصحاب ، قال في المنتهى : «لا توقيت في عدة من ينزل القبر وبه قال
احمد ، وقال الشافعي يستحب ان يكون وترا » وفي الخبر المذكور دلالة على ان الاختيار في ذلك للولي
، وهو كذلك من غير خلاف يعرف. والله العالم.
__________________
(المطلب الثاني)
ـ في الآداب المقارنة وهي أمور (منها) ـ ان يرسل الميت الى القبر سابقا برأسه ان
كان رجلا والمرأة عرضا ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الصمد بن
هارون رفع الحديث قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : إذا أدخلت الميت القبر ان كان رجلا يسل سلا والمرأة
تؤخذ عرضا فإنه أستر». وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «يسل الرجل سلا وتستقبل المرأة استقبالا ويكون
اولى الناس بالمرأة في مؤخرها». وما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن الأعمش عن
جعفر بن محمد (عليهماالسلام) في حديث شرائع الدين قال : «والميت يسل من قبل رجليه
سلا والمرأة تؤخذ بالعرض من قبل اللحد والقبور تربع ولا تسم». وما ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال : «وان كانت امرأة فخذها بالعرض من قبل اللحد
وتأخذ الرجل من قبل رجليه تسله سلا». هذا ، وجملة من الاخبار قد تضمنت السل مطلقا
: منها ـ صحيحة الحلبي أو حسنته عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أتيت بالميت القبر فسله من قبل رجليه فإذا
وضعته في القبر فاقرأ آية الكرسي. الحديث». ورواية محمد بن مسلم قال : «سألت أحدهما (عليهماالسلام) عن الميت؟ فقال تسله من قبل الرجلين وتلزق القبر
بالأرض إلا قدر أربع أصابع مفرجات وتربع قبره». ونحوهما غيرهما ايضا من الاخبار
الآتية ، وقد ظهر من هذه الاخبار مضافا الى ما قدمناه قريبا ان السنة في الرجل هو
وضع جنازته من جهة رجلي القبر وانه ينقل في دفعات ثلاث وانه يسل سلا ويبدأ برأسه ،
واما المرأة فإن موضع جنازتها مما يلي القبلة وتؤخذ عرضا وتوضع دفعة ، وبذلك صرح
الأصحاب أيضا كما عرفت ، وطريق الجمع حمل إطلاق هذه الاخبار على الاخبار السابقة
حمل المطلق على المقيد فلا منافاة.
__________________
ومنها ـ ما
اشتملت عليه هذه الاخبار التي انا ذاكرها ثم افصل ما اشتملت عليه ذيلها ان شاء
الله تعالى : منها ـ ما رواه في الكافي عن ابن ابي يعفور عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا ينبغي لأحد ان يدخل القبر في نعلين ولا خفين
ولا عمامة ولا رداء ولا قلنسوة». وعن علي بن يقطين في الصحيح أو الحسن قال : «سمعت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول لا تنزل في القبر وعليك العمامة والقلنسوة ولا
الحذاء ولا الطيلسان وحل أزرارك وبذلك سنة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جرت ، وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وليقرأ فاتحة
الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي ، وان قدر ان يحسر عن خده ويلصقه
بالأرض فليفعل وليشهد وليذكر ما يعلم حتى ينتهي الى صاحبه». وعن ابي بكر الحضرمي
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تنزل القبر وعليك العمامة ولا القلنسوة ولا
رداء ولا حذاء وحل أزرارك. قال : قلت والخف؟ قال لا بأس بالخف في وقت الضرورة
والتقية». ورواه في التهذيب وزاد «وليجهد في ذلك جهده». وما رواه في التهذيب عن
محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) دخل القبر ولم يحل أزراره». وعن سيف بن عميرة عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تدخل القبر وعليك نعل ولا قلنسوة ولا رداء
ولا عمامة. قلت فالخف؟ قال : لا بأس بالخف فان في خلع الخف شناعة». وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أتيت بالميت القبر فسله من قبل رجليه فإذا
وضعته في القبر فاقرأ آية الكرسي وقل : بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة
رسول الله اللهم افسح له في قبره والحقه بنبيه (صلىاللهعليهوآله) وقل كما قلت في الصلاة عليه مرة واحدة من عند «اللهم
ان كان محسنا فزد في إحسانه وان كان مسيئا فاغفر له وارحمه وتجاوز عنه» واستغفر له
ما استطعت
__________________
قال وكان علي بن الحسين (عليهماالسلام) إذا أدخل الميت القبر قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيه
وصاعد عمله ولقه منك رضوانا». وعن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا سللت الميت فقل : بسم الله وبالله وعلى ملة
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اللهم الى رحمتك لا الى عذابك. فإذا وضعته في اللحد
فضع يدك على اذنه وقل : الله ربك والإسلام دينك ومحمد (صلىاللهعليهوآله) نبيك والقرآن كتابك وعلي (عليهالسلام) امامك». ورواه في التهذيب ايضا وفيه «فضع فمك على اذنه». كما في الاخبار الآتية. وعن
محمد بن عجلان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سله سلا رفيقا فإذا وضعته في لحده فليكن اولى
الناس مما يلي رأسه ، وليذكر اسم الله تعالى ويصل على النبي (صلىاللهعليهوآله) ويتعوذ من الشيطان ، وليقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين
وقل هو الله أحد وآية الكرسي ، وان قدر ان يحسر عن خذه ويلزقه بالأرض فعل ، وليشهد
ويذكر ما يعلم حتى ينتهي الى صاحبه». وما رواه في التهذيب عن محمد بن عجلان قال : «سمعت صادقا يصدق على الله ـ يعني أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ قال إذا أدخلته إلى قبره فليكن اولى الناس به عند
رأسه وليحسر عن خده وليلصق خده بالأرض. وليذكر اسم الله تعالى وليتعوذ من الشيطان
وليقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد والمعوذتين وآية الكرسي ثم ليقل ما يعلم ،
ويسمعه تلقينه : شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ويذكر له ما يعلم واحدا واحدا». وعن محفوظ الإسكاف عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أردت بأن تدفن الميت فليكن اعقل من ينزل في
قبره عند رأسه وليكشف عن خده الأيمن حتى يفضي به الى الأرض ويدنى فمه الى سمعه
ويقول اسمع وافهم (ثلاث مرات) الله ربك ومحمد نبيك (صلىاللهعليهوآله) والإسلام دينك وفلان إمامك اسمع وافهم ، وأعدها عليه
ثلاث مرات هذا التلقين». ورواه في الكافي. وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح
في الأول والموثق في
__________________
الثاني عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا وضع الميت في لحده فقل : بسم الله وفي سبيل
الله وعلى ملة رسول الله عبدك وابن عبدك نزل بك وأنت خير منزول به اللهم افسح له
في قبره والحقه بنبيه اللهم انا لا نعلم منه إلا خيرا وأنت اعلم به منا. فإذا وضعت
عليه اللبن فقل : اللهم صل وحدته وآنس وحشته واسكن إليه من رحمتك رحمة تغنيه بها
عن رحمة من سواك. فإذا خرجت من قبره فقل : انا لله وانا إليه راجعون والحمد لله رب
العالمين اللهم ارفع درجته في أعلى عليين واخلف على عقبه في الغابرين وعندك نحتسبه
يا رب العالمين». وما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما أقول إذا دخلت الميت منا قبره؟ قال قل : اللهم هذا
عبدك فلان وابن عبدك قد نزل بك وأنت خير منزول به وقد احتاج الى رحمتك اللهم ولا
نعلم منه إلا خيرا وأنت اعلم بسريرته ونحن الشهداء بعلانيته اللهم فجاف الأرض عن
جنبيه ولقنه حجته واجعل هذا اليوم خير يوم اتى عليه واجعل هذا القبر خير بيت نزل
فيه وصيره الى خير مما كان فيه ووسع له في مدخله وآنس وحشته واغفر ذنبه ولا تحرمنا
اجره ولا تضلنا بعده». وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح والموثق عن ابن ابي
عمير عن غير واحد من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يشق الكفن من عند رأس الميت إذا أدخل قبره». وعن
أبي حمزة قال : «قلت لأحدهما (عليهماالسلام) يحل كفن الميت؟ قال : نعم ويبرز وجهه». وعن ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن عقد كفن الميت؟ قال إذا أدخلته القبر فحلها». وعن
إسحاق بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا نزلت في قبر فقل بسم الله وبالله وعلى ملة
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثم تسل الميت سلا ، فإذا وضعته في قبره فحل عقدته وقل
: اللهم يا رب
__________________
عبدك ابن عبدك نزل بك وأنت خير منزول به اللهم ان كان محسنا فزد في إحسانه
وان كان مسيئا فتجاوز عنه وألحقه بنبيه محمد (صلىاللهعليهوآله) وصالح شيعته واهدنا وإياه إلى صراط مستقيم اللهم عفوك
عفوك. ثم تضع يدك اليسرى على عضده الأيسر وتحركه تحريكا شديدا ثم تقول : يا فلان
بن فلان إذا سئلت فقل الله ربي ومحمد نبيي والإسلام ديني والقرآن كتابي وعلي امامي
حتى تستوفي الأئمة (عليهمالسلام) ثم تعيد عليه القول ثم تقول أفهمت يا فلان؟ قال فإنه
يجيب ويقول نعم ، ثم تقول ثبتك الله بالقول الثابت هداك الله الى صراط مستقيم عرف
الله بينك وبين أوليائك في مستقر من رحمته ثم تقول : اللهم جاف الأرض عن جنبيه
واصعد بروحه إليك ولقه منك برهانا اللهم عفوك عفوك. ثم تضع الطين واللبن فما دمت
تضع اللبن والطين تقول : اللهم صل وحدته وآنس وحشته وآمن روعته واسكن إليه من
رحمتك رحمة تغنيه بها عن رحمة من سواك فإنما رحمتك للظالمين. ثم تخرج من القبر
وتقول : انا لله وانا إليه راجعون اللهم ارفع درجته في أعلى عليين واخلف على عقبه
في الغابرين وعندك نحتسبه يا رب العالمين». وروى في الكافي عن زرارة «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القبر كم يدخله؟ قال ذلك الى الولي ان شاء ادخل
وترا وان شاء شفعا». وفي الفقه الرضوي قال (عليهالسلام) «وقل إذا نظرت الى القبر : اللهم اجعلها روضة من رياض
الجنة ولا تجعلها حفرة من حفر النيران. فإذا دخلت القبر فاقرأ أم الكتاب
والمعوذتين وآية الكرسي ، فإذا توسطت المقبرة فاقرأ اللهم التكاثر واقرأ : «مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» وإذا تناولت الميت فقل بسم الله وبالله وفي سبيل الله
وعلى ملة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثم ضعه في لحده على يمينه مستقبل القبلة وحل عقد كفنه
وضع خده على التراب وقل : اللهم جاف الأرض عن جنبيه وصعد إليك روحه ولقه منك
رضوانا.
__________________
ثم تدخل يدك اليمنى تحت منكبه الأيمن وتضع يدك اليسرى على منكبه الأيسر
وتحركه تحريكا شديدا وتقول : يا فلان بن فلان الله ربك ومحمد نبيك والإسلام دينك
وعلي وليك وامامك ، وتسمي الأئمة واحدا واحدا الى آخرهم (عليهمالسلام) ثم تعيد عليه التلقين مرة أخرى ، فإذا وضعت عليه اللبن
فقل : اللهم آنس وحشته وصل وحدته برحمتك اللهم عبدك ابن عبدك ابن أمتك نزل بساحتك
وأنت خير منزول به اللهم ان كان محسنا فزد في إحسانه وان كان مسيئا فتجاوز عنه
واغفر له انك أنت الغفور الرحيم». وهذه العبارة نقلها في الفقيه متفرقة فبعض منها
نقله عن أبيه في رسالته اليه وبعض منها ذكره هو مفتيا به كما عرفت من عادته وعادة
أبيه في غير موضع.
أقول : يستفاد
من هذه الاخبار عدة أحكام (منها) ـ انه يستحب للملحد وهو الولي أو من يأذن له شفعا
أو وترا ـ كما تقدم الدليل عليه ـ ان يكون مكشوف الرأس محلول الأزرار حافيا إلا
لضرورة أو تقية ، وابن الجنيد أطلق نفي البأس عن الخفين ، والأظهر تقييده كما دلت
عليه هذه الاخبار ، داعيا هو وغيره من المشيعين عند معاينة القبر بقوله : اللهم
اجعلها روضة من رياض الجنة كما تقدم من كتاب الفقه ،. وعند تناول الميت : بسم الله
وبالله الى آخر ما في رواية أبي بصير. المتقدمة أو بسم الله
وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كما في كتاب الفقه . ، وعند وضعه في اللحد : بسم الله وبالله الى آخر ما في
رواية الحلبي. أو ما تضمنته رواية محمد بن مسلم أو موثقة سماعة قارئا بعد وضعه في اللحد السور المذكورة في الاخبار
وآية الكرسي ، كاشفا عن وجهه مفضيا بخده الأيمن إلى الأرض ، والاولى حل عقد الكفن
كما اشتملت عليه روايات أبي حمزة وابي بصير وإسحاق بن عمار وعبارة كتاب الفقه دون شقه كما اشتملت عليه مرسلة ابن ابي عمير المتقدمة ومثلها ما رواه
__________________
في التهذيب في الصحيح عن حفص بن البختري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يشق الكفن إذا أدخل الميت في قبره من عند رأسه».
قال في المعتبر بعد ذكر هذه الرواية : «وهذه الرواية مخالفة لما عليه الأصحاب ولان
ذلك إفساد للمال على وجه غير مشروع ، الى ان قال : والصواب الاقتصار على حل عقده»
قال في الذكرى بعد نقل كلام المعتبر : «قلت : يمكن ان يراد بالشق الفتح ليبدو وجهه
فان الكفن كان منضما فلا مخالفة ولا إفساد» انتهى. وهو في مقام الجمع غير بعيد.
ملقنا له الشهادتين وأسماء الأئمة (عليهمالسلام) الى ان يبلغ الى صاحب العصر (عليهالسلام). وما ذكره في كتاب الفقه الرضوي ـ من انه يدخل يده
اليمنى تحت منكب الميت الأيمن. إلخ ـ غريب لم يوجد في غيره ، نعم ذكره في الفقيه
والظاهر انه مأخوذ من الكتاب المذكور إلا انه ذكره في كلام طويل في ذيل رواية سالم
بن مكرم الآتية ، وقد توهم جمع انه من الرواية المذكورة والظاهر بعده. وهذا
التلقين هو التلقين الثاني وبعضهم جعله ثالثا باعتبار استحباب التلقين عند
التكفين. ولم أقف على مستنده.
ومنها ـ ان
يجعل له وسادة من تراب ويجعل خلف ظهره مدرة وشبهها لئلا يستلقي رواه الصدوق في
الفقيه عن سالم بن مكرم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يجعل له وسادة من تراب ويجعل خلف ظهره مدرة
لئلا يستلقي». وللصدوق في الفقيه بعد هذه الرواية كلام طويل أكثره مأخوذ من الفقه
الرضوي ، وصاحب الوافي وكذا صاحب الوسائل أضافاه إلى الرواية المذكورة ، والظاهر
عدمه كما استظهره ايضا شيخنا المجلسي (قدسسره) في البحار.
ومنها ـ وضع
التربة الحسينية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام والتحية معه ، وهذا الحكم مشهور
في كلام المتقدمين ولكن مستنده خفي على المتأخرين ومتأخريهم ، قال في المدارك
وقبله الشهيد في الذكرى والعلامة وغيرهما : «ذكر ذلك الشيخان ولم نقف لهما على
مأخذ
__________________
سوى التبرك بها ولعله كاف في ذلك ، واختلف قولهما في موضع جعلها فقال
المفيد في المقنعة توضع تحت خده. وقال الشيخ تلقاء وجهه ، وقيل في كفنه ، قال في
المختلف : والكل عندي جائز لأن التبرك موجود في الجميع ، ونقل «ان امرأة قذفها
القبر مرارا لأنها كانت تزني وتحرق أولادها وان أمها أخبرت الصادق (عليهالسلام) بذلك فقال انها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله تعالى
اجعلوا معها شيئا من تربة الحسين (عليهالسلام) فاستقرت» . قال الشيخ نجيب الدين في درسه : يصلح ان يكون هذا
متمسكا. حكاه في الذكرى ولا يخفى ما فيه» انتهى ما ذكره في المدارك ، وبنحوه صرح
من تقدمه.
أقول : العجب
من استمرار الغفلة عن دليل هذه المسألة من المتأخرين حتى من مثل السيد المشار اليه
وانما استندوا في ذلك الى هذه الحكاية أو الى قضية التبرك مع انه قد روى الشيخ في
أبواب المزار من التهذيب في الصحيح عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري قال : «كتبت الى الفقيه اسأله عن طين القبر يوضع مع
الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت : يوضع مع الميت
في قبره ويخلط بحنوطه ان شاء الله تعالى» ورواه في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله
عن أبيه عن صاحب الزمان (عليهالسلام). وروى الشيخ في المصباح عن جعفر بن عيسى «انه سمع أبا الحسن (عليهالسلام) يقول ما على أحدكم إذا دفن الميت ووسده التراب ان يضع
مقابل وجهه لبنة من الطين؟ ولا يضعها تحت رأسه». والمراد بالطين في الخبرين هو
تربة الحسين (عليهالسلام) ولعل اختيار هذه العبارة المجملة لنوع من التقية أو
لشيوع هذا الإطلاق يومئذ ومعلومية المراد منه ، والشيخ قد فهم من الرواية الأخيرة
ذلك فنظمها في جملة أخبار تربة الحسين (عليهالسلام) التي ذكرها في الكتاب المشار اليه. وفي الفقه الرضوي «ويجعل معه في أكفانه شيء من طين القبر وتربة الحسين (عليهالسلام)».
__________________
والعطف فيها تفسيري كما لا يخفى. وأنت خبير بأن رواية المصباح قد تضمنت
تعيين موضع التربة بأنه مقابل وجهه وهو دليل ما تقدم نقله عن الشيخ ، والأفضل مع
ذلك ان تخلط بحنوطه كما دلت عليه الرواية الاولى وان تجعل في أكفانه كما في كتاب
الفقه ، وبذلك يصدق الوضع معه في قبره كما دلت عليه الرواية الاولى.
ومنها ـ انه ان
كان الميت امرأة فالأفضل نزول الزوج في قبرها أو المحارم وان كان رجلا فالأفضل
الأجانب ، ذكر ذلك شيخنا الشهيد في الذكرى.
اما الحكم
الأول فيدل عليه ما رواه في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) مضت السنة من رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان المرأة لا يدخل قبرها إلا من كان يراها في حياتها».
وعن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها». وقال في
الفقه الرضوي : «فإذا أدخلت المرأة القبر وقف زوجها من موضع ينال
وركها». وفي حديث زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «يكون اولى الناس بالمرأة في مؤخرها». قال في
الذكرى : الزوج اولى من المحرم بالمرأة لما تقدم في الصلاة ولو تعذر فامرأة صالحة
ثم أجنبي صالح وان كان شيخا فهو اولى ، قاله في التذكرة.
واما الحكم
الثاني فالروايات لا تساعد عليه على إطلاقه ، والذي وقفت عليه من الأخبار في
المسألة ما رواه في الكافي عن عبد الله بن راشد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الرجل ينزل في قبر والده ولا ينزل الوالد في قبر
ولده». وفي الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري وغيره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يكره للرجل ان ينزل في قبر ولده». وما رواه في
التهذيب
__________________
عن عبد الله بن محمد بن خالد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الوالد لا ينزل في قبر ولده والولد ينزل في قبر
والده». ونحو ذلك في خبرين آخرين عن عبد الله بن راشد ومورد هذه الاخبار كلها انما هو كراهة نزول الأب في قبر
ابنه دون العكس ، ولعل السر فيه انه لا يؤمن على الأب ان يجزع على ابنه حين يكشف
عن وجهه ويوضع خده على التراب بخلاف الابن فإنه ليس بهذه المثابة ، وحينئذ فتعدية
الحكم الى غير الأب مشكل. نعم قد ورد في الدفن وإهالة التراب عليه ـ كما سيأتي ان
شاء الله تعالى ـ ما يدل على الكراهية من ذي الرحم مطلقا وهو مشعر بالكراهة فيما
نحن فيه ، إلا ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على الحكم المذكور ، وتأولوا الروايات
المذكورة بزيادة الكراهة في جانب الأب في دخول قبر ابنه وان كان العكس ايضا
مكروها.
ومنها ـ تغطية
قبر المرأة حال الدفن ، وقيل بذلك في الرجل ايضا ، وبالأول صرح المفيد وابن الجنيد
واليه مال في المعتبر ، وبالثاني قال الشيخ في الخلاف وجمع ممن تأخر عنه بل الظاهر
انه المشهور ، قال في المختلف : «قال الشيخ في الخلاف إذا نزل الميت القبر يستحب
ان يغطى القبر بثوب ، واستدل بالإجماع على جوازه وبالاحتياط على استعماله. وقال
ابن إدريس ما وقفت لأحد من أصحابنا في هذه المسألة على مسطور فأحكيه عنه ، والأصل
براءة الذمة من واجب أو ندب ، وهذا مذهب الشافعي ولا حاجة بنا الى موافقته على ما
لا دليل عليه ، قال وقد يوجد في بعض نسخ أحكام النساء للشيخ المفيد ان المرأة يجلل
قبرها عند دفنها بثوب والرجل لا يمد عليه ثوب فان كان ورد ذلك فلا نعديه الى قبر
الرجل فليلحظ ذلك. وقال ابن الجنيد وان كانت امرأة مد على القبر ثوبا ولم يرفعه
الى ان يغيبها باللبن. وكل من القولين عندي جائز وان كان الستر في قبر المرأة أولى
لما فيه من الستر لها ولما رواه جعفر بن سويد من بني جعفر بن كلاب قال :
__________________
«سمعت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) يقول يغشى قبر المرأة بثوب ولا يغشى قبر الرجل ، وقد
مد على قبر سعد بن معاذ ثوب والنبي (صلىاللهعليهوآله) شاهد ولم ينكر ذلك». فإنكار ابن إدريس لا معنى له ،
ولانه يخشى حدوث أمر من الميت من تغير بعض أعضائه أو أمر منكر فاستحب الستر لقبره
عند دفنه طلبا لاخفاء حاله» انتهى. أقول : قوله «وقد مد على قبر سعد بن معاذ ثوب. الى
آخر الخبر» يحتمل ان يكون من أصل الخبر كما نقله المحدثان في الوافي والوسائل ،
ولا يبعد أن يكون ذلك من كلام الشيخ في التهذيب فإضافة المحدثان المذكوران إلى أصل
الخبر فان هذه العبارة بكلام الشيخ انسب. ونقل في الذكرى الاحتجاج على ما ذهب اليه
المفيد وابن الجنيد قال : ولما روي «ان عليا (عليهالسلام) مر بقوم دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال
انما يصنع هذا بالنساء». ولم أقف عليه فيما حضرني من كتب الأخبار وكيف كان فالظاهر
الاقتصار في هذا الحكم على النساء للخبرين المذكورين.
ومنها ـ الوضوء
للملحد ، قال في الذكرى : «قال الفاضلان يستحب ان يكون متطهرا لقول الصادق (عليهالسلام) : «توضأ إذا أدخلت الميت القبر». أقول هذه الرواية قد
رواها الشيخ في الموثق عن عبيد الله الحلبي ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «توضأ إذا أدخلت الميت القبر». وفي الفقه
الرضوي قال : «تتوضأ إذا أدخلت الميت القبر». إلا انه روى في
الكافي في الصحيح عن محمد ابن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت : الرجل يغمض عين الميت عليه غسل؟ قال إذا
مسه بحرارته فلا ولكن إذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل ، وساق الحديث
__________________
الى ان قال : قلت له فمن حمله عليه غسل؟ قال : لا. قلت فمن ادخله القبر
عليه وضوء؟ قال : لا إلا ان يتوضأ من تراب القبر ان شاء». قال شيخنا المجلسي (قدسسره) في البحار في شرح حديث الفقه الرضوي : قوله (عليهالسلام) : «يتوضأ» لعل المراد بالتوضؤ غسل اليد كما روي
الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم ثم ذكر الرواية كما ذكرناه ، ثم قال : فان
الظاهر منه ايضا ان المراد انه يغسل يده مما أصابها من تراب القبر واما الحمل على
التيمم بتراب القبر فلا يخلو من بعد إذ إطلاق الوضوء على التيمم غير مأنوس ، وايضا
فلا ثمرة للتخصيص بتراب القبر.
أقول : هنا
شيئان : (أحدهما) الوضوء لأجل إدخال الميت قبره بمعنى انه يستحب ان يكون الملحد
على طهارة كما نقل عن الفاضلين المذكورين ، وحينئذ فالمراد بقوله (عليهالسلام) في موثقة الحلبي ومحمد بن مسلم : «توضأ إذا أدخلت
الميت القبر». أي إذا أردت إدخاله ، وكذا قوله (عليهالسلام) في كتاب الفقه ، وهذا التجوز في التعبير شائع في
الكتاب العزيز والسنة النبوية كقوله عزوجل : «إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... الآية» وقوله : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ ...» و (ثانيهما) الوضوء بمعنى الغسل عما يلاقيه من بدن الميت
أو ثيابه أو نحو ذلك ، وهذا هو المسؤول عنه في صحيحة محمد بن مسلم على الظاهر فإن
السؤالات المذكورة فيها عن الغسل في تلك المواضع المذكورة فيها مبنية على توهم
تعدى نجاسة الميت في تلك الصورة فنفي (عليهالسلام) فيها ما نفي واثبت ما اثبت ومن جملتها السؤال عمن
ادخله القبر هل عليه الوضوء ـ يعني غسل يده بسبب إدخاله القبر ـ أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) بأنه لا يوجب وضوء يعني غسلا إلا ان يريد ان يغسل يده
من تراب القبر للتنظيف ان شاء. وبذلك يظهر ان تأويل شيخنا المشار إليه لرواية كتاب
الفقه بالحمل على الغسل استنادا الى ما دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم ـ وكذلك جمع
صاحب الوسائل بين موثقة الحلبي
__________________
ومحمد بن مسلم وبين صحيحة محمد بن مسلم بحمل الوضوء في الموثقة المذكورة
على الاستحباب ونفيه في الصحيحة المشار إليها على نفي الوجوب بقرينة قوله «عليه»
وهو لا ينافي الاستحباب ـ ليس في محله ، فان مورد إحداهما غير مورد الأخرى كما أوضحناه
والعجب من شيخنا المشار إليه في ارتكابه التأويل في عبارة كتاب الفقه مع وجود
القائل باستحباب الوضوء ووجود الرواية الدالة عليه كما عرفت ، وكأنه لم يخطر بباله
ذلك يومئذ. والله العالم.
ومنها ـ فرش
القبر بالساج مع الضرورة والكراهة مع عدمها ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن علي
بن محمد القاساني قال : «كتب علي بن بلال الى ابي الحسن (عليهالسلام) : انه ربما مات الميت عندنا وتكون الأرض ندية فيفرش
القبر بالساج أو يطبق عليه فهل يجوز ذلك؟ فكتب : ذلك جائز». وروى في الفقيه مرسلا قال : «وقد روى عن ابي الحسن الثالث (عليهالسلام) إطلاق في ان يفرش القبر بالساج ويطبق على الميت الساج».
والشيخ قد روى الحديث مضمرا ولم يصرح بابي الحسن (عليهالسلام) ومن ثم قال في الذكرى بعد نقل الرواية من طريق الشيخ :
«والظاهر ان المسؤول الامام مع الاعتضاد بفتوى الأصحاب» وكأنه غفل عن الرواية
بطريق الشيخين الآخرين فإنهما صرحا ـ كما ترى ـ به. قيل : وتطبيق الساج عليه جعله
حواليه كأنه وضع في تابوت. أقول : والساج خشب معروف والطيلسان الأخضر كما في
الصحاح وغيره والمراد هنا الأول ، قال في الوافي بعد نقل رواية الصدوق : وأريد
بالإطلاق الجواز فلا ينافي تقييد الحديث بالأرض الندية مع ان هذا القيد ليس إلا في
السؤال. قال في الذكرى : اما وضع الفرش عليه والمخدة فلا نص فيه ، نعم روى ابن
عباس من طريقهم انه جعل في قبر النبي (صلىاللهعليهوآله) قطيفة حمراء ،
__________________
والترك أولى لأنه إتلاف للمال فيتوقف على اذن الشارع ولم يثبت ، ثم نقل عن
ابن الجنيد انه لا بأس بالوطاء في القبر واطباق اللحد بالساج. أقول اما رواية وضع
القطيفة في قبره (صلىاللهعليهوآله) فقد ذكرها في الكافي ورواها بسنده عن يحيى بن ابي
العلاء عن الصادق (عليهالسلام) قال : «القى شقران مولى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في قبره القطيفة». وبذلك يظهر انها غير مختصة
برواياتهم كما ذكره ، وقد تقدم أيضا في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «البرد لا يلف به ولكن يطرح عليه طرحا فإذا أدخل
القبر وضع تحت خده وتحت جنبه». وهو مؤيد لحديث القطيفة ، والحمل على ضرورة نداوة
الأرض ونحوها بعيد ، على ان قيد كون الأرض ندية في مكاتبة علي بن بلال انما هو في
كلام السائل وهو لا يوجب تقييد عموم الجواب ، وكيف كان فالظاهر حمل ذلك على الجواز
وان كان الأفضل الإفضاء به الى الأرض لأنه أبلغ في التذلل والخضوع ورجاء الرحمة
والمغفرة في تلك الحال الضيقة المجال ، إلا ان صاحب دعائم الإسلام روى عن علي (عليهالسلام) «انه فرش في لحد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قطيفة لأن الموضع كان نديا سبخا». وفيه تأييد لمن قيد
ذلك بالنداوة.
ومنها ـ الخروج
من قبل رجلي القبر ، فروى في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من دخل القبر فلا يخرج إلا من قبل الرجلين». وعن
سهل رفعه قال : قال «يدخل الرجل القبر من حيث شاء ولا يخرج إلا
من قبل رجليه». قال في الكافي : وفي رواية أخرى «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله)
__________________
ان لكل بيت بابا وان باب القبر من قبل الرجلين». وروى في التهذيب عن جبير
بن نقير الحضرمي قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان لكل بيت بابا وباب القبر من قبل الرجلين». وعن عمار
الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لكل شيء باب وباب القبر مما يلي الرجلين فإذا
وضعت الجنازة فضعها مما يلي الرجلين ويخرج الميت مما يلي الرجلين.». وفرق ابن
الجنيد بين الرجل والمرأة فوافق في الرجل وقال في المرأة يخرج من عند رأسها
لإنزالها عرضا وللبعد عن العورة. والاخبار ـ كما ترى ـ مطلقة. أقول : ظاهر هذه
الأخبار باعتبار ضم بعضها الى بعض ان الداخل للقبر يدخل من أي جهة شاء وان الخروج
لا يكون إلا من قبل الرجلين ، وظاهر العلامة في المنتهى استحباب الدخول ايضا من
قبل الرجلين حيث قال : يستحب له ان يخرج من قبل الرجلين لانه قد استحب الدخول منه
فكذا الخروج ، ولقوله (عليهالسلام) : «باب القبر من جهة الرجلين». ولم أقف على ذلك في كلام
غيره ، ولعله لم يطلع على خبر السكوني ومرفوعة سهل المتقدمين أو غفل عنهما يومئذ
وإلا فالثاني منهما صريح والأول ظاهر في ان الدخول من أي جهة شاء.
ومنها ـ تشريج
اللحد باللبن والطين وهو بناؤه وتنضيده على وجه يمنع دخول التراب اليه ، والدعاء
في تلك الحال ، روى الصدوق في العلل بسنده عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «اتى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقيل له ان سعد بن معاذ قد مات فقام رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وقام أصحابه معه فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة
الباب فلما ان حنط وكفن وحمل على سريره تبعه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بلا حذاء ولا رداء ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة
السرير مرة حتى انتهى به الى القبر فنزل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) حتى
__________________
لحده وسوى اللبن عليه وجعل يقول ناولني حجرا ناولني ترابا رطبا ، يسد به ما
بين اللبن فلما ان فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اني لا علم انه سيبلى ويصل اليه البلى ولكن الله عزوجل يحب عبدا إذا عمل عملا فأحكمه. الحديث». وفي الكافي في
الصحيح عن ابان بن تغلب قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول جعل علي (عليهالسلام) على قبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) طينا فقلت أرأيت ان جعل الرجل عليه آجرا هل يضر الميت؟
قال : لا». وقد تقدم في رواية إسحاق بن عمار «ثم تضع الطين واللبن فما دمت تضع اللبن والطين تقول اللهم صل وحدته.
الدعاء». وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه «فإذا وضعت عليه اللبن فقل : اللهم آنس
وحشته. الدعاء». وقد تقدم قال في المنتهى : «إذا وضعه في اللحد شرج عليه اللبن
لئلا يصل التراب اليه ولا نعلم فيه خلافا ، ويقوم مقام اللبن مساوية في المنع من
تعدى التراب اليه كالحجر والقصب والخشب إلا ان اللبن اولى من ذلك كله لانه المنقول
عن السلف والمعروف في الاستعمال ، وينبغي ان يسد الخلل بالطين لأنه أبلغ في المنع
وروى ما يقاربه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار» انتهى.
ومنها ـ ان
يهال عليه التراب ويطم القبر إذا فرغ من تشريج اللبن ولا يطرح فيه من تراب غيره
داعيا بالمأثور ، روى في الكافي في الصحيح عن داود بن النعمان قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول : «ما شاء الله لا ما شاء الناس» فلما انتهى الى
القبر تنحى فجلس فلما ادخل الميت لحده قام فحثا عليه التراب ثلاث مرات بيده». وعن
عمر بن أذينة في الصحيح قال : «رأيت أبا عبد الله (عليهالسلام)
__________________
يطرح التراب على الميت فيمسكه ساعة في يده ثم يطرحه ولا يزيد على ثلاثة أكف
، قال فسألته عن ذلك فقال يا عمر كنت أقول : «إيمانا بك وتصديقا ببعثك هذا ما
وعدنا الله ورسوله. الى قوله وتسليما» هكذا كان يفعل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وبه جرت السنة». وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا حثوت التراب على الميت فقل «ايمانا بك
وتصديقا ببعثك هذا ما وعدنا الله ورسوله» قال وقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) سمعت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يقول من حثا على ميت وقال هذا القول أعطاه الله تعالى
بكل ذرة حسنة». وعن محمد بن مسلم قال : «كنت مع ابي جعفر (عليهالسلام) في جنازة رجل من أصحابنا فلما ان دفنوه قام الى قبره
فحثا عليه مما يلي رأسه ثلاثا بكفه ثم بسط كفه على القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض
عن جنبيه واصعد إليك روحه ولقه منك رضوانا واسكن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن
رحمة من سواك. ثم مضى». وروى الشيخ عن محمد بن الأصبغ عن بعض أصحابنا قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) وهو في جنازة فحثا التراب على القبر بظهر كفيه». وفي
الفقه الرضوي «ثم احث التراب عليه بظهر كفيك ثلاث مرات وقل : «اللهم ايمانا بك وتصديقا
بكتابك (هذا ما وَعَدَنَا
اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ)» فإنه من فعل ذلك وقال هذه الكلمة كتب الله له بكل ذرة
حسنة». ويستفاد من الخبرين الأخيرين كون الإهالة بظهر الكفين وبه صرح جملة من
الأصحاب أيضا ، وظاهر الاخبار الأخر كونها ببطن الكفين ولا سيما صحيحة عمر بن
أذينة المتضمنة لأنه (عليهالسلام) كان يمسكه في يده ساعة ، والظاهر التخيير جمعا. ثم ان
ظاهر الاخبار المذكورة ان الثلاث أقل المراتب المستحبة.
واما ما يدل
على كراهية الدفن بغير تراب القبر فهو ما رواه في الفقيه مرسلا
__________________
قال : «قال الصادق (عليهالسلام) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر فهو ثقل على
الميت». وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) نهى ان يزاد على القبر تراب لم يخرج منه». وعن ابن
الجنيد لا يزاد من غير ترابه وقت الدفن ولا بأس بذلك بعد الدفن.
ويكره إهالة ذي
الرحم لما في الكافي في الموثق عن عبيد بن زرارة قال : «مات لبعض أصحاب ابي عبد الله (عليهالسلام) ولد فحضر أبو عبد الله فلما الحد تقدم أبوه فطرح عليه
التراب فأخذ أبو عبد الله (عليهالسلام) بكفيه وقال لا تطرح عليه التراب ومن كان منه ذا رحم
فلا يطرح عليه التراب فان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نهى ان يطرح الوالد أو ذو رحم على ميته التراب ، فقلنا
يا ابن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أتنهانا عن هذا وحده؟ فقال انها كم من ان تطرحوا
التراب على ذوي أرحامكم فإن ذلك يورث القسوة في القلب ومن قسا قلبه بعد من ربه». قال
في الوافي : «عن هذا وحده اي عن هذا الميت وحده ان نطرح عليه التراب أو عن طرح
التراب وحده دون سائر ما يتعلق بالتجهيز فأجاب (عليهالسلام) بالتعميم في الأول والتخصيص في الثاني فصار جوابا لكلا
السؤالين أراد السائل ما أراد» انتهى.
(المطلب الثالث)
ـ في الآداب المتأخرة ، ومنها ـ ان يكون القبر مربعا مسطحا ، وان يرفع عن الأرض
قدر أربع أصابع مفرجات كما في بعض الأخبار أو مضمومات كما في آخر ، وفي بعضها قدر
شبر وهو يؤيد الأول ، ومن ذلك اختلفت كلمة الأصحاب أيضا فالمفيد (قدسسره) أربع أصابع مفرجات لا أزيد من ذلك ، وابن ابي عقيل
مضمومات ، وابن زهرة وابن البراج خيرا بين أربع أصابع مفرجات وبين شبر ، وان يرشه
بالماء.
__________________
ومما يدل على
استحباب التربيع ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم قال : «سألت أحدهما (عليهماالسلام) عن الميت؟ فقال يسل من قبل الرجلين ويلزق القبر بالأرض
إلا قدر أربع أصابع مفرجات ويربع قبره». إلا ان في الكافي روى هذه الرواية وفيها بعد قوله «مفرجات» «ترفع قبره» وما تقدم في خبر
الأعمش من قوله (عليهالسلام) : «. والقبور تربع ولا تسنم». وما رواه في العلل عن
الحسين بن الوليد عمن ذكره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت لأي علة يربع القبر؟ قال لعلة البيت لانه
نزل مربعا».
وأما التسطيح
فقال في الذكرى : «وليكن مسطحا بإجماعنا نقله الشيخ ، لان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) سطح قبر ابنه إبراهيم وقال القاسم بن
محمد : «رأيت قبر النبي (صلىاللهعليهوآله) والقبرين عنده مسطحة لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء
العرصة الحمراء» . ولان التربيع يدل على التسطيح ، ولان قبور المهاجرين
والأنصار بالمدينة مسطحة وهو يدل على انه أمر متعارف ، واحتج الشيخ أيضا في
الخلاف بما رواه أبو الهياج قال : «قال علي (عليهالسلام) أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا ترى قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته». وفيه
أيضا دلالة على عدم رفعه كثيرا ، وفي خبر زرارة وجابر عن الباقر (عليهالسلام) «وسوى قبره» «وسوى عليه» دليل على التسطيح» انتهى. أقول : الظاهر ان
__________________
التسطيح لما كان مجمعا عليه بين الإمامية (نور الله تعالى مراقدهم) حتى ان
جمعا من العامة صرحوا بنسبته إليهم وعدلوا عنه مراغمة لهم كما في المنتهى وأوضحناه بما لا مزيد عليه في سلاسل الحديد ، والشيخ
ومن تبعه لم يقفوا عليه في نصوص أهل البيت (عليهمالسلام) تكلفوا له بهذه الأدلة التي لفقها شيخنا المشار اليه
هنا ، والأصل فيها بعد الإجماع المذكور انما هو ما ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال «والسنة ان القبر يرفع أربع
أصابع مفرجة من الأرض وان كان أكثر فلا بأس ويكون مسطحا لا مسنما». انتهى. والظاهر
ان علي بن بابويه ذكر ذلك في الرسالة على الطريقة المعهودة آنفا وتبعه الجماعة في
ذلك كما عرفت في غير موضع مما تقدم ويأتي ان شاء الله تعالى ، والظاهر ان المراد
من قوله (عليهالسلام) : «وان كان أكثر» أي إلى شبر كما ورد مما سيأتي ذكره
في المقام ان شاء الله تعالى.
واما رفعه عن
الأرض بالقدر المذكور من الاختلاف فيه فالذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك
ما في رواية محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «. ويرفع القبر فوق الأرض أربع أصابع». وموثقة
سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال :
__________________
«. ويرفع قبره من الأرض أربع أصابع مضمومة وينضح عليه الماء ويخلى عنه». ورواية
إبراهيم بن علي عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان قبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) رفع شبرا من الأرض وان النبي (صلىاللهعليهوآله) أمر برش القبور». ورواية محمد بن مسلم المتقدمة وفيها «أربع
أصابع مفرجات». ورواية عقبة بن بشير عن مولانا الباقر (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي : يا علي ادفني في هذا المكان وارفع قبري من
الأرض أربع أصابع ورش عليه الماء». وصحيحة حماد ابن عثمان أو حسنته عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان ابي قال لي ذات يوم في مرضه إذا أنا مت
فغسلني وكفني وارفع قبري أربع أصابع ورشه بالماء.». ورواية الحلبي في حديث قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان ابي أمرني ان ارفع القبر من الأرض أربع أصابع
مفرجات وذكر ان رش القبر بالماء حسن». وصحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أمرني ابي ان أجعل ارتفاع قبره أربع أصابع
مفرجات وذكر ان الرش بالماء حسن. الحديث». وقد تقدمت عبارة كتاب الفقه وفيها «أربع
أصابع مفرجة» وحمل في الذكرى اختلاف الاخبار على التخيير ، وهو جيد ، ثم قال ولما
كان المقصود من رفع القبر ان يعرف ليزار ويحترم كان مسمى الرفع كافيا. واما الرش
فقد عرفته مما دلت عليه الاخبار المذكورة ، بقي الكلام في كيفيته والأفضل فيها ما
ورد في رواية موسى بن أكيل ـ بضم الهمزة وفتح الكاف ـ النميري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «السنة في رش الماء على القبر ان يستقبل القبلة
ويبدأ من عند الرأس إلى عند الرجل ثم يدور على القبر من الجانب الآخر ثم يرش على
وسط القبر فكذلك السنة». قال مولانا الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه الرضوي «فإذا استوى قبره فصب عليه ماء وتجعل القبر امامك وأنت مستقبل القبلة وتبدأ
__________________
بصب الماء من عند رأسه وتدور به على القبر من اربع جوانب القبر حتى ترجع
إلى الرأس من غير ان تقطع الماء فان فضل من الماء شيء فصبه على وسط القبر». وبهذه
العبارة عبر الصدوق في الفقيه من غير اسناد الى أحد. وروى في الكافي في الصحيح أو
الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) «في رش الماء على القبر؟ قال يتجافى عنه العذاب ما دام الندى في التراب».
ومنها ـ ان يضع
يده على القبر بعد ذلك مستقبل القبلة داعيا بالمأثور ، روى في الكافي في الصحيح عن
زرارة قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا فرغت من القبر فانضحه ثم ضع يدك عند رأسه وتغمز
كفك عليه بعد النضح». وقد تقدم في رواية محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ثم بسط كفه على القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض
عن جنبيه. الى آخر الدعاء». وفي كتاب الفقه الرضوي على اثر العبارة المتقدمة في الرش «ثم ضع يدك على القبر
وأنت مستقبل القبلة وقل : اللهم ارحم غربته وصل وحدته وآنس وحشته وآمن روعته وأفض
عليه من رحمتك واسكن إليه من برد عفوك وسعة غفرانك ورحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة
من سواك واحشره مع من كان يتولاه. ومتى ما زرت قبره فادع له بهذا الدعاء وأنت
مستقبل القبلة ويداك على القبر». وروى في التهذيب عن إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي الحسن الأول (عليهالسلام) ان أصحابنا يصنعون شيئا : إذا حضروا الجنازة ودفن
الميت لم يرجعوا حتى يمسحوا أيديهم على القبر أفسنة ذلك أم بدعة؟ فقال ذلك واجب
على من لم يحضر الصلاة عليه». وعن محمد بن إسحاق قال : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليهالسلام) شيء يصنعه الناس عندنا : يضعون أيديهم على القبر إذا
دفن الميت؟ قال انما ذلك لمن لم يدرك الصلاة عليه فاما من أدرك الصلاة عليه فلا». وفي
الكافي
__________________
في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئا لا يصنعه بأحد من
المسلمين كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين فكان الغريب
يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه اثر كف رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فيقول من مات من آل محمد؟». وعن عبد الرحمن بن ابي عبد
الله قال : «سألته عن وضع الرجل يده على القبر ما هو ولم يصنع؟ فقال صنعه رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) على ابنه بعد النضح. قال وسألته كيف أضع يدي على قبور
المسلمين. فأشار بيده الى الأرض ووضعها عليها ثم رفعها وهو مقابل القبلة». قال
شيخنا في الذكرى بعد إيراد خبر زرارة الثاني ومحمد بن إسحاق : «وليس في هاتين
مخالفة للأول لأن الوجوب على من لم يحضر الصلاة لا ينافي الاستحباب لغيره ،
والمراد به انه يستحب مؤكدا لغير الحاضر للصلاة عليه ولهذا لم يذكر الوجوب في
الخبر الآخر فهو وان كان مستحبا للحاضر لكنه غير مؤكد. واخبار الراوي عن عمل
الأصحاب حجة في نفسه وتقرير الامام (عليهالسلام) يؤكده ، وفعل النبي (صلىاللهعليهوآله) حجة فليتأس به وتخصيص بني هاشم لكرامتهم عليه» انتهى.
وهو جيد. إلا انه نقل شيخنا المجلسي في البحار عن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم
بن هاشم قال : «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان إذا مات رجل من أهل بيته يرش قبره ويضع يده على
قبره ليعرف انه قبر العلوية وبني هاشم من آل محمد فصارت بدعة في الناس كلهم ولا
يجوز ذلك». وهو غريب ، والعجب ان شيخنا المشار اليه نقله ولم ينبه على ما فيه ،
والظاهر ان حكمه بالبدعية لما يفعله الناس وعدم جواز ذلك ناشىء عن فهمه من الخبر
الاختصاص وغفل عن ملاحظة باقي أخبار المسألة الدالة على العموم كما لا يخفى.
__________________
أقول :
والمستفاد من هذه الاخبار ان السنة تتأدى بمجرد وضع اليد على القبر وان الدعاء مع
ذلك أبلغ في الفضل وكذلك استقبال القبلة ، وسنن الوضع المذكور لم تجتمع في خبر من
هذه الأخبار إلا خبر كتاب الفقه ، والظاهر انه هو مستند المتقدمين فيما ذكروه من
هذه السنن الثلاث حسبما ذكرنا في أمثال هذا المقام.
ومنها ـ التلقين
وهو التلقين الثالث ولا خلاف فيه بين أصحابنا ، وأنكره الفقهاء الأربعة مع وروده
في رواياتهم والأصل فيه عندنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله
مراقدهم) عن يحيى بن عبد الله قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول ما على أهل الميت منكم ان يدرأوا عن ميتهم لقاء
منكر ونكير؟ قلت كيف يصنع؟ قال إذا أفرد الميت فليتخلف عنده اولى الناس به فيضع
فمه عند رأسه ثم ينادي بأعلى صوته : يا فلان بن فلان أو يا فلانة بنت فلان هل أنت
على العهد الذي فارقتنا عليه من شهادة ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان
محمدا عبده ورسوله سيد النبيين وان عليا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وان ما جاء به
محمد (صلىاللهعليهوآله) حق وان الموت حق وان البعث حق وان الله يبعث من في
القبور؟ قال فيقول منكر لنكير انصرف بنا عن هذا فقد لقن حجته». وروى في التهذيب عن
جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ما على أحدكم إذا دفن ميته وسوى عليه وانصرف عن
قبره ان يتخلف عند قبره ثم يقول : يا فلان بن فلان أنت على العهد الذي عهدناك به
من شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وان عليا أمير المؤمنين (عليهالسلام) امامك وفلان وفلان حتى يأتي على آخرهم (عليهمالسلام)؟ فإنه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه قد كفينا
الوصول اليه ومسألتنا إياه فإنه قد
__________________
لقن حجته فينصرفان عنه ولا يدخلان عليه». وفي الفقه الرضوي «ويستحب ان يتخلف عند رأسه أولى الناس به بعد انصراف الناس عنه ويقبض على
التراب بكفيه ويلقنه برفيع صوته فإنه إذا فعل ذلك كفى المسألة في قبره». وقد روى
هذه العبارة بأدنى تغيير الصدوق في العلل بسنده عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه
رفعه الى الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي ان يتخلف عند قبر الميت اولى الناس به بعد
انصراف الناس عنه ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه ويرفع صوته فإذا فعل ذلك كفى
الميت المسألة في قبره».
فوائد : (الأولى)
ـ قال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل هذا الخبر الأخير : «لا يبعد ان يكون
اشتراط انصراف الناس ووضع الفم عند الرأس ـ كما ورد في اخبار أخر ـ للتقية ،
والأولى مراعاة ذلك كله».
(الثانية) ـ ظاهر
الاخبار المذكورة اختصاص التلقين بالولي ، وقد عرفت معناه فيما تقدم من انه اولى
الناس بميراثه كما هو المشهور ، وظاهر كلام الأصحاب انه الولي أو من يأذن له الولي
، وحينئذ فتجوز الاستنابة فيه ، وادعى في الذكرى الإجماع عليه وهل يعتبر اذن الولي
في ذلك؟ ظاهر العلامة في المنتهى العدم ، وكأنه يحمل التخصيص في الاخبار على
الأولوية ، والظاهر بعده كما تقدمت الإشارة اليه. وقال ابن البراج انه مع التقية
يقول ذلك سرا. وهو جيد.
(الثالثة) ـ لم
يتعرض الشيخان ولا الفاضلان لكيفية وقوف الملقن ، وقال ابن إدريس انه يستقبل
القبلة والقبر ، وقال أبو الصلاح وابن البراج والشيخ يحيى بن سعيد يستدبر القبلة
والقبر امامه. ولم أقف فيما وصل إلينا من الأخبار على ما يقتضي شيئا مما ذكره
هؤلاء الفضلاء من الأمرين المذكورين ، وقال في الذكرى : «وكلاهما جائز لإطلاق
الخبر الشامل لذلك ولمطلق النداء عند الرأس على اي وضع كان المنادي» وهو جيد.
__________________
(الرابعة) ـ هل
يستحب تلقين الأطفال ونحوهم؟ ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض ذلك حيث قال : «ولا
فرق في هذا الحكم بين الصغير والكبير كما في الجريدتين لإطلاق الخبر ، ولا ينافيه
التعليل بدفع العذاب كما في عموم كراهة المشمس وان كان ضرره انما يتولد على وجه
مخصوص ، واقامة لشعائر الإيمان» انتهى. أقول : مرجع كلامه (قدسسره) الى ان علل الشرع ليست عللا حقيقة يدور المعلول مدارها
وجودا وعدما وانما هي أسباب معرفات أو لبيان وجه المصلحة والحكمة فلا يجب اطرادها.
وهو جيد كما أوضحناه في غير موضع مما تقدم. وقال في الذكرى : «واما الطفل فالتعليل
يشعر بعدم تلقينه ، ويمكن ان يقال يلقن اقامة للشعار وخصوصا المميز كما في
الجريدتين».
في تجصيص
القبور والبناء عليها ومنها ـ انه قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة تجصيص القبور
والبناء عليها بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه ، قال الشيخ في النهاية : يكره
تجصيص القبور وتظليلها. وفي المبسوط تجصيص القبر والبناء عليه في المواضع المباحة
مكروه إجماعا. وقال ابن الجنيد : ولا أحب ان يقصص ولا يجصص لان ذلك زينة ولا بأس
بالبناء عليه وضرب الفسطاط لصونه ومن يزوره. وظاهره تخصيص الكراهة بالتجصيص دون
البناء ، والأصل في هذا الحكم ما رواه في التهذيب في الموثق عن علي بن جعفر قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليهالسلام) عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال لا
يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه». وعن جراح المدائني عن الصادق
(عليهالسلام) قال : «لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت فان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كره ذلك». وعن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه». ورواه
الصدوق في المقنع مرسلا. وفي حديث
__________________
المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه «ونهى ان تجصص القبور». وروى في معاني الأخبار بسند رفعه
في آخره إلى النبي (صلىاللهعليهوآله) «انه نهى عن تقصيص القبور». قال وهو التجصيص. وما دلت عليه هذه الاخبار من
النهي عن البناء والتجصيص ظاهر في رد ما ذكره ابن الجنيد من تخصيص الكراهة
بالتجصيص وان البناء عليه لا بأس به.
وهل كراهة
التجصيص مخصوص بما بعد الاندراس أو ما هو أعم من الابتداء وبعد الاندراس؟ قال في
المدارك : وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في كراهة التجصيص بين وقوعه
ابتداء أو بعد الاندراس ، وقال الشيخ لا بأس بالتجصيص ابتداء وانما المكروه
إعادتها بعد اندراسها لما روى من «ان الكاظم (عليهالسلام) أمر بعض مواليه بتجصيص قبر ابنة له ماتت يفيد وهو قاصد
إلى المدينة وكتابة اسمها على لوح وجعله في القبر».
أقول : ما ذكره
من الجمع بين الاخبار ـ من الجواز ابتداء عملا بهذه الرواية وحمل الأخبار المتقدمة
على ما بعد الاندراس ـ ليس ببعيد في مقام الجمع. واحتمل بعض مشايخنا من متأخري
المتأخرين حمل تلك الاخبار على تجصيص بطن القبر وهذه على ظاهره. وجمع في المعتبر
بين الاخبار بحمل الرواية المذكورة على الجواز والروايات الأخر على الكراهة مطلقا.
وفي المنتهى حمل رواية الكاظم (عليهالسلام) على التطيين دون التجصيص بناء على جواز التطيين
التفاتا إلى إشعار رواية السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تطينوا القبر من غير طينه». فان فيه إشعارا
بالرخصة في التطيين. ويمكن ان يقال باختصاصهم (عليهمالسلام) وأولادهم بجواز التجصيص
__________________
والبناء على القبور كما قال في المدارك.
والمراد
بالبناء على القبر المنهي عنه في هذه الاخبار هو ان يتخذ عليه بيت أو قبة كما ذكره
في المنتهى ، قال لأن في ذلك تضييقا على الناس ومنعا لهم عن الدفن ، ثم قال : وهذا
مختص بالمواضع المباحة المسبلة أما الأملاك فلا.
وكيف كان
فيستثنى من ذلك قبور الأنبياء والأئمة (عليهمالسلام) لإطباق الناس على البناء على قبورهم (عليهمالسلام) من غير نكير واستفاضة الروايات بالترغيب في ذلك بل لا
يبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء ايضا استضعافا لخبر المنع والتفاتا الى ان في
ذلك تعظيما لشعائر الإسلام وتحصيلا لكثير من المصالح الدينية كما لا يخفى ، صرح
بذلك السيد في المدارك ، وهو جيد.
تنبيه
روى الشيخ في
التهذيب بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أمير المؤمنين من جدد
قبرا أو مثل مثلا فقد خرج من الإسلام». قال في الفقيه : «اختلف مشايخنا في هذا
الحديث فقال محمد بن الحسن الصفار هو «جدد» بالجيم لا غير. وكان شيخنا محمد بن
الحسن بن احمد بن الوليد (رضياللهعنه) يحكى عنه انه قال لا يجوز تجديد القبر وتطيين جميعه
بعد مرور الأيام عليه وبعد ما طين في الأول ولكن إذا مات ميت وطين قبره فجائز أن
يرم سائر القبور من غير ان تجدد. وذكر عن سعد بن عبد الله (رحمهالله) انه كان
يقول انما هو «من حدد قبرا» بالحاء المهملة غير المعجمة يعني به من سنم قبرا. وذكر
عن احمد بن ابي عبد الله البرقي انه قال انما هو «من جدث قبرا» وتفسير الحدث القبر
فلا يدرى ما عني به. والذي اذهب اليه أنه «جدد» بالجيم ومعناه نبش قبرا لان من نبش
قبرا فقد
__________________
جدده وأحوج إلى تجديده وقد جعله جدثا محفورا ، وأقول ان التجديد على المعنى
الذي ذهب اليه محمد بن الحسن الصفار والتحديد بالحاء غير المعجمة الذي ذهب اليه
سعد بن عبد الله والذي قاله البرقي من انه جدث كله داخل في معنى الحديث وان من
خالف الإمام في التجديد والتسنيم والنبش واستحل شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. والذي
أقوله في قوله (عليهالسلام) : «من مثل مثالا» انه يعني به من أبدع بدعة ودعا إليها
أو وضع دينا فقد خرج من الإسلام ، وقولي في ذلك «قول أئمتي (عليهمالسلام) فإن أصبت فمن الله على ألسنتهم وان أخطأت فمن عند نفسي»
انتهى كلامه.
وقال الشيخ (رحمهالله)
في التهذيب بعد ذكر هذا الاختلاف في معنى قول البرقي : «ويمكن ان يكون المعنى في
هذه الرواية ـ يعني رواية «الحدث» ـ ان يجعل القبر دفعة اخرى قبرا لإنسان آخر لان
الحدث هو القبر فيجوز ان يكون الفعل مأخوذا منه قال وكان شيخنا محمد بن محمد بن
النعمان (رحمهالله) يقول ان الخبر بالخاء والدالين وذلك مأخوذ من قوله تعالى «قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ» والخد هو الشق يقال خددت الأرض خدا اي شققتها شقا ،
وعلى هذه الرواية يكون النهي يتناول شق القبر اما ليدفن فيه أو على جهة النبش على
ما ذهب اليه محمد بن علي يعني الصدوق ، قال وكل ما ذكرناه من الروايات والمعاني
محتمل والله اعلم بالمراد والذي صدر عنه الخبر».
قال في المدارك
بعد نقل ملخص كلام الصدوق : هذا كلامه (رحمهالله) وفيه نظر من وجوه ، ولقد أحسن
المصنف في المعتبر حيث قال : «وهذا الخبر قد رواه محمد بن سنان عن ابي الجارود عن
الأصبغ عن نباتة عن علي (عليهالسلام) ومحمد بن سنان ضعيف وكذا أبو الجارود فاذن الرواية
ساقطة فلا ضرورة إلى التشاغل بتحقيق متنها» انتهى ما ذكره في المعتبر.
وقد اعترضه في
الذكرى بان اشتغال هؤلاء الأفاضل بتحقيق هذه اللفظة مؤذن
__________________
بصحة الحديث عندهم وان كان طريقة ضعيفا كما في أحاديث كثيرة اشتهرت وعلم
موردها وان ضعف سندها ، فلا يرد ما ذكره في المعتبر من ضعف محمد بن سنان وابي
الجارود ، على انه ورد نحوه من طريق ابي الهياج وقد نقله الشيخ في الخلاف وهو من
صحاح العامة ، وهو يعطي صحة الرواية بالحاء المهملة لدلالة الاشراف والتسوية عليه
، ويعطي ان المثال هنا هو التمثال هناك ، وقد ورد في النهي عن التصوير وازالة
التصاوير أخبار مشهورة ، اما الخروج من الإسلام بهذين فاما على طريقة المبالغة
زجرا عن الاقتحام على ذلك واما لانه فعل ذلك مخالفة للإمام (عليهالسلام) انتهى.
وقال الفاضل
الخراساني في الذخيرة بعد نقل كلام الذكرى : «ولا يخفى ان مجرد بحث هؤلاء العلماء
عن تحقيق لفظ الخبر لا يدل على قبولهم إياه وتصحيحهم له لجواز ان كل واحد منهم
يذكر ما وصل اليه من الطريق الذي ينسب اليه وان كان في الطريق خلل ، نعم فيه اشعار
ما بذلك لكن مجرد ذلك لا يكفي في صحة الاستدلال به» انتهى.
وفيه نظر ،
وذلك (اما أولا) فإن تضعيف الحديث بهذا الاصطلاح المحدث في تنويع الاخبار الى
الأربعة المشهورة انما حدث من عصر المحقق ومن تأخر عنه وإلا فالأخبار عند
المتقدمين كلها محكوم عليها بالصحة إلا ما نبهوا عليه وظهر لهم ضعفه من جهة أخرى. و
(اما ثانيا) فان ما ذكره من ان اشتغالهم بتحقيق هذا اللفظ لا يدل على قبول الخبر
ضعيف ، لانه لو لم يكن كذلك كان جاريا مجرى العبث الذي لا فائدة فيه بالمرة وينجر
الأمر إلى أمثال ذلك مما بحثوا فيه من الاخبار واختلفوا فيه من الآثار وهو مما لا
يلتزمه محصل ، وبالجملة فكلام شيخنا الشهيد هو الأقرب.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المشهور بين الأصحاب ـ كما عرفت ـ كراهة التجديد بعد الاندراس وقد
استدلوا بهذا الخبر على ذلك وهو غير بعيد وان أشعر ظاهره بالتحريم فإنه لا يخفى
على من له أنس بالاخبار انهم (عليهمالسلام) كثيرا ما يردفون المكروهات
بما يكاد يلحقها بالمحرمات تأكيدا في الزجر عنها والمستحبات بما يكاد
يدخلها في حيز الواجبات حثا على القيام بها ، والظاهر ان الحامل للصدوق بعد
اختياره رواية التجديد بالجيم على تفسيره بالنبش هو ترتب الخروج من الإسلام على
ذلك مع عدم حرمة التجديد بالمعنى المتبادر فلا يصح ترتب الخروج من الإسلام عليه.
وفيه ما عرفت.
ثم لا يخفى ان
كلامه (قدسسره) في هذا المقام لا يخلو من نظر من وجوه : (منها) ـ ان
تفسيره التجديد بالنبش بعيد غاية البعد من ظاهر اللفظ ولا قرينة تؤذن بالحمل عليه
في المقام فإرادته من هذا اللفظ انما هو من قبيل المعميات والألغاز. و (منها) ـ ان
استلزام النبش للتجديد لا يتم كليا بل قد يكون للتخريب. و (منها) ـ ان كلامه هذا
مبني على تحريم النبش وهو محل كلام كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى قريبا. و (منها)
ـ ان حكمه بالخروج من الإسلام في مخالفة الإمام في التجديد والنبش والتسنيم غير
مستقيم ، فإنه (عليهالسلام) انما رتب الخروج من الإسلام على أمر واحد لكن هؤلاء
الأجلاء قد اختلفوا فيه باعتبار اختلافهم في رواية الخبر ، فالمرتب عليه أمر واحد
لكنه باعتبار هذا الاختلاف غير معلوم على التعيين بل هو دائر بين هذه الأفراد
المذكورة فكيف يصح ترتبه على الجميع؟ اللهم إلا ان يريد باعتبار ثبوت تحريم هذه
الأشياء بأدلة من خارج. وفيه مع الإغماض عن المناقشة في هذه الدعوى انه لا خصوصية
لهذه الأشياء المعدودة تستوجب الافراد بالذكر ، إذ كل من فعل فعلا غير مشروع
واعتقد استحلاله فإنه مشروع مبدع. وكيف كان فاختلاف هؤلاء الأجلاء في هذه اللفظة
مما يضعف الاعتماد على الخبر بأي معنى اعتبر. و (منها) ـ قوله في «من مثل مثالا» بعد
تفسيره له بما ذكره : ان أصبت فمن الله وان أخطأت فمن نفسي. فإن فيه انه قد روى في
معاني الأخبار عنهم (عليهمالسلام) تفسير هذا اللفظ في حديث آخر بما ذكره هنا حيث انه روى
في الكتاب المذكور بسنده فيه عن النهيكي بإسناد رفعه الى
الصادق (عليهالسلام) قال : «من مثل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام
فقلت هلك إذا كثير من الناس؟ فقال انما عنيت بقولي من مثل مثالا من نصب دينا غير
دين الله تعالى ودعا الناس اليه ، وبقولي من اقتنى كلبا مبغضا لأهل البيت (عليهمالسلام) اقتناه فأطعمه وأسقاه ، من فعل ذلك فقد خرج عن الإسلام».
وحينئذ فلا وجه لهذا الترديد هنا بين كون تفسيره صوابا أو خطأ. اللهم إلا ان يكون
مراده بالنسبة الى هذا الحديث ، وفيه ما فيه فإنه متى ورد تفسير هذا اللفظ عنهم (عليهمالسلام) بمعنى من المعاني فإنه يجب الحمل على ذلك حيثما وجد
ذلك اللفظ متى كان المقام لا يأباه كما هو القاعدة الجارية في سائر الألفاظ ، نعم
يمكن حمله على الغفلة عن الخبر المذكور. ولم أقف لمن تعرض للكلام على كلامه (قدسسره) في المقام سوى ما أشار إليه السيد في المدارك من قوله
: «وفيه نظر من وجوه» ولم يبين شيئا من تلك الوجوه.
بقي هنا شيء
ينبغي التنبيه عليه وهو ان الظاهر ان مراده بقوله : «قولي في ذلك قول أئمتي. إلخ»
اني لا أقول بالرأي في ذلك وانما قولي فيه قول أئمتي (عليهمالسلام) بناء على ما فهمته من كلامهم وادى اليه نظري ، فإن
طابق فهمي ما هو مرادهم ـ وهو الحكم الواقعي الذي هو الحق والصواب ـ فهو من توفيق
الله عزوجل لي بواسطتهم حيث اني ناقل عنهم وتابع لهم ، وان أخطأت
ولم يطابق فهمي مرادهم فالخطأ مني لا منهم (عليهمالسلام) فإنهم قالوا ما هو الحق ولكن لم يصل فهمي اليه فالخطأ
من عند نفسي. وما ذكره في هذا المقام مشترك بينه وبين جملة العلماء الاعلام في
استنباط الأحكام من اخبارهم (عليهمالسلام) لا كما زعمه بعض المحققين من كون هذا فرقا بين
المجتهدين والأخباريين اشارة منه الى ان المجتهدين انما يقولون بالرأي ، فإنه مما
لا ينبغي ان يلتفت اليه ولا يعول في مقام التحقيق عليه لاستلزامه الطعن في أجله
العلماء الاعلام بل تفسيقهم كما لا يخفى على ذوي الأفهام. نعم يبقى الكلام في انه
هل يعاقب على مثل هذا الخطأ أم لا؟
__________________
ظاهر كلامه (قدسسره) ـ وهو الذي حققناه في جملة من زبرنا ولا سيما كتاب
الدرر النجفية ـ هو العدم ، وربما يفهم من بعضهم العقاب كما هو ظاهر المحدث
الأسترآبادي في الفوائد المدنية أو استحقاقه ولكن يتجاوز الله تعالى عنه لاضطراره
، والأظهر هو ما ذكرناه وذلك فان الفقيه الجامع للشرائط إذا بذل وسعه في استنباط
الحكم الشرعي بعد تحصيل جميع أدلته والاطلاع على جميع ما يتعلق به من الكتاب
والسنة وادى فهمه الى حكم فهو الواجب عليه في حقه وحق مقلده وان فرضناه خطأ ، لأنه
أقصى تكليفه ، والسر في ذلك ان العقول والافهام المفاضة من الملك العلام متفاوتة
زيادة ونقصانا كما هو مشاهد بالوجدان بين العلماء الأعيان ، فمنهم من فهمه وأدركه
كالبرق الخاطف ومنهم كالماء الراكد الواقف وبينهما مراتب لا تخفي على الفطن العارف
، ويؤكده ما ورد في الاخبار «بان الله سبحانه انما يداق العباد على حسب ما أفاض
عليهم من العقول» . ومن أراد تحقيق الحال زيادة على ما ذكرناه فليرجع الى
الدرر النجفية.
ومنها ـ انه
يستحب وضع الحصباء وهي صغار الحصى على القبر وواحدها حصبة كقصبة ، وقد روى في
الكافي عن ابان عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) محصب حصباء حمراء». ونقل في الذكرى انه روى «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) فعله بقبر إبراهيم ولده» . ونقل في المنتهى من طريق الجمهور في حديث القاسم بن
محمد «ان قبر رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) وصاحبيه مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء».
__________________
ومنها ـ ما
ذكره الأصحاب من انه يستحب ان يوضع عند رأسه لبنة أو لوح يعلم به. واستدلوا على
ذلك بما رواه الشيخ عن يونس بن يعقوب قال : «لما رجع أبو الحسن موسى (عليهالسلام) من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت ابنة له يفيد فدفنها
وأمر بعض مواليه ان يجصص قبرها ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر». أقول : ويعضده
ما رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين بإسناده عن ابي علي الخيراني عن جارية لأبي
محمد (عليهالسلام) «ان أم المهدي ماتت في حياة أبي محمد (عليهالسلام) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمد (عليهالسلام)». وروى في المنتهى من طريق الجمهور عن النبي (صلىاللهعليهوآله) : «لما دفن عثمان بن مضعون أمر رجلا ان يأتيه بصخرة فلم
يستطع حملها فقام إليها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال اعلم
بها أخي وادفن اليه من مات من أهلي». قال في الذكرى : يستحب ان يوضع عند رأسه حجر
أو خشبة علامة ليزار ويترحم عليه كما فعل النبي (صلىاللهعليهوآله) حيث أمر رجلا بحمل صخرة ليعلم بها قبر عثمان بن مضعون
ثم ساق تمام الحديث. أقول : هذا الحديث قد نقله في دعائم الإسلام عن علي (عليهالسلام) قال : «ان رسول (صلىاللهعليهوآله) لما دفن عثمان بن مظعون دعا بحجر فوضعه عند رأس القبر
وقال يكون علما ليدفن اليه قرابتي». والكتاب وان لم يصلح للاعتماد والاستدلال إلا
انه يصلح للتأييد في أمثال هذا المجال.
ومنها ـ ما صرح
به جملة من الأصحاب من كراهة الجلوس على القبر والمشي عليه والصلاة عليه واليه
والاستناد اليه ، اما الجلوس عليه فادعى عليه في الخلاف الإجماع
__________________
واستدل بقوله (صلىاللهعليهوآله) : «لان يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثيابه فتصل النار الى
بدنه أحب الي من ان يجلس على قبر». وبقول الكاظم (عليهالسلام) فيما قدمناه من موثقة علي بن جعفر : «لا يصلح البناء على القبر ولا الجلوس». أقول : ان
الرواية الأولى عامية كما نبه عليه ايضا بعض متأخري أصحابنا ولكن الثانية ظاهرة
الدلالة على ذلك ونحوها رواية يونس بن ظبيان المتقدمة حيث تضمنت النهي عن القعود عليه ، إلا انه قد روى
الصدوق في الفقيه عن الكاظم (عليهالسلام) «إذا دخلت المقابر فطأ القبور فمن كان مؤمنا استروح الى ذلك ومن كان منافقا
وجد ألمه». ويمكن حمله على القاصد زيارتهم بحيث لا يتوصل الى قبر إلا بالمشي على
آخر كما ذكره في الذكرى أو يقال تختص الكراهة بالقعود لما فيه من اللبث المنافي
للتعظيم ، ولعله الأقرب. واما الاستناد اليه والمشي عليه فقد صرح الشيخ بكراهتهما
مدعيا في الخلاف الإجماع على ذلك في الأول ، ولم أقف في الأخبار على ما يدل على ما
ذكره بل دلت مرسلة الفقيه على عدم كراهة المشي وان تأولها في الذكرى بما قدمناه
ذكره ، واما الصلاة عليه فقد تقدم في رواية يونس بن ظبيان ما يدل على ذلك ، واما الصلاة إليه فلما سيأتي ان شاء
الله تعالى في بحث المكان من كتاب الصلاة.
تتمة مهمة تشتمل على مسائل :
(الأولى) ـ قال
شيخنا الشهيد في الذكرى بعد ذكر جملة من الاخبار الدالة على ان البناء على القبور
والقعود عليها والتجصيص والصلاة عليها مكروه : وروى الصدوق عن سماعة «انه سأله عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها فقال زيارة القبور لا بأس
بها ولا يبنى عندها مساجد». قال الصدوق : «وقال النبي (صلىاللهعليهوآله) : لا تتخذوا
__________________
قبري قبلة ولا مسجدا فان الله تعالى لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد» . قلت : هذه الاخبار رواها الشيخان والصدوقان وجماعة
المتأخرين في كتبهم ولم يستثنوا قبرا ، ولا ريب ان الإمامية مطبقة على مخالفة
قضيتين من هذه إحداهما البناء والأخرى الصلاة في المشاهد المقدسة ، فيمكن القدح في
هذه الاخبار بأنها آحاد وبعضها ضعيف الاسناد وقد عارضها أخبار أخر أشهر منها ،
وقال ابن الجنيد لا بأس بالبناء عليه وضرب الفسطاط لصونه ومن يزوره ، أو تخصص هذه
العمومات بإجماعهم في عهود كانت الأئمة (عليهمالسلام) ظاهرة فيهم وبعدهم من غير نكير وبالأخبار الدالة على
تعظيم قبورهم وعمارتها وأفضلية الصلاة عندها وهي كثيرة ، ثم ساق بعض الاخبار
الدالة على ذلك.
أقول : والحق
ان أكثر هذه الاخبار المذكورة فيها هذه الأحكام لا ظهور لها في التعلق بهم (عليهمالسلام) وانما ذكر ذلك في القليل منها وهو الذي يحتاج إلى
تأويل لمعارضته بما هو أشهر وأظهر مثل خبر الصدوق عنه (صلىاللهعليهوآله) بالنهي عن اتخاذ قبره قبله ومسجدا ، فاما الأحاديث
الأولة التي اجملنا النقل فيها فقد عرفت الكلام فيها في الدلالة على ما استدل بها
عليه ، واما حديث سماعة المتضمن للنهي عن بناء المساجد في المقابر فالوجه فيه انه
لا خلاف بين الأصحاب في أن الأراضي المحبوسة على المنافع العامة كالشوارع والمشارع
والمساجد والمقابر والرباطات والمدارس والأسواق لا يجوز لأحد التصرف فيها على وجه
يمنع الانتفاع بها فيما هي متخذة له وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث
قال : بقاع الأرض اما مملوكة أو محبوسة على الحقوق العامة كالشوارع والمساجد
والمقابر والرباطات أو منفكة عن الحقوق الخاصة والعامة وهي الموات. الى آخر كلامه
، ثم ساق الكلام في المحبوسة على المنافع العامة وبين عدم جواز الانتفاع بها
والتصرف فيها على وجه يمنع من تحصيل الغرض المطلوب منها ، وهذا الخبر صريح في ذلك
باعتبار بعض هذه الأراضي وهي المقابر حيث منع من بناء المساجد
__________________
فيها ، إذ من المعلوم منع ذلك من الدفن الذي هو الغرض المترتب عليها كما
صرح به الأصحاب في نظائرها وحينئذ فيكون النهي للتحريم ، واما مجرد الصلاة في
المقابر فحيث انها لا توجب منعا من التصرف فهي صحيحة وان كانت مكروهة من حيثية
أخرى. ثم لا يخفى ان المراد بهذه الأراضي المذكورة ما هو أعم من ان تكون موقوفة
على تلك الجهة الخاصة أو انها وجدت في تصرف المسلمين كذلك وان لم يعلم أصلها ولا
كيفية أمرها ، فإن تصرف المسلمين واستمرار يدهم عليها موجب لكونها ملكا لهم من هذه
الجهة فلا يجوز التصرف فيها بما ينافي الغرض المطلوب المترتب عليها ، اما لو كانت
الأرض معلومة بأنها موات مباحة أو مملوكة قد أباحها المالك للمسلمين يتصرفون فيها
بما أرادوا أو وقفها عليهم كذلك أو نحو ذلك فإنه خارج عن محل البحث.
واما ما يدل
على جواز البناء بل استحبابه على قبور الأئمة (عليهمالسلام) وجواز الصلاة بل استحبابها عند قبورهم فهي كثيرة
مذكورة في كتاب المزار من كتاب البحار ، وعسى ان نبسط الكلام في ذلك في كتاب
الصلاة ان شاء الله تعالى.
(الثانية) ـ المشهور
بين الأصحاب كراهية دفن اثنين في قبر واحد ابتداء ، واحتج عليه في المبسوط بقولهم (عليهمالسلام) : «لا يدفن في قبر واحد اثنان». ولأن النبي (صلىاللهعليهوآله) أفرد كل واحد بقبر قالوا ومع الضرورة تزول الكراهة بأن يكثر الموتى ويعسر
الافراد ، لما روى «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال للأنصار يوم أحد : احفروا ووسعوا وعمقوا واجعلوا
الاثنين والثلاثة في القبر الواحد وقدموا أكثرهم قرانا». هذا كله في الابتداء كما
قدمناه ذكره.
واما لو دفن
ميت في قبر فهل يجوز نبشه ودفن آخر معه؟ ظاهرهم التحريم ، قالوا لان القبر صار حقا
للأول بدفنه فيه ، ولاستلزام النبش والهتك المحرمين ، قال في
__________________
الذكرى : وعلى التحريم إجماع المسلمين قال : وقول الشيخ في المبسوط «يكره»
الظاهر انه أراد التحريم لانه قال بعده «ولو حفر فوجد عظاما رد التراب ولم يدفن
فيه شيئا» وناقش في هذا الحكم جملة من أفاضل متأخري المتأخرين منهم السيد السند (قدسسره) في المدارك مجيبا عما احتجوا به من تحريم النبش بان
الكلام في إباحة الدفن نفسه لا النبش وأحدهما غير الآخر. وزاد في الذخيرة ان
الظاهر ان مستند تحريم النبش الإجماع وإجراؤه في محل النزاع مما لا وجه له. وأجاب
في المدارك ومثله في الذخيرة عن الدليل الآخر بالمنع من ثبوت حقية الأول بالدفن
فيه على وجه يوجب منع دفن آخر ، ثم قال في المدارك بعد المناقشة المذكورة : هذا
كله في غير السرداب اما فيه فيجوز مطلقا اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق.
أقول : وعندي
في هذه المسألة بجميع شقوقها توقف إذ لم أقف على حديث يتعلق بشيء من ذلك ، وما
نقلوه من الاخبار لم أقف عليه في كتب الأخبار الواصلة إلينا ، والشيخ (رضوان الله
عليه) وكذا الجماعة كثيرا ما يستندون في كتب الفروع الى الاخبار العامية ويبنون
عليها ، وظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في الوسائل التشبث هنا في حكم دفن ميتين في
قبر واحد بحديث الأصبغ المتقدم بناء على بعض الاحتمالات المتقدمة فيه ، وقد عرفت ما في
الخبر المذكور من الاشكال وتعدد الاحتمال الموجب لسقوطه عن درجة الاستدلال ، نعم
ربما يستنبط من الدليل المتقدم الدال على النهي عن حمل ميتين على سرير واحد المنع ايضا
من جعل ميتين في قبر واحد بل ربما كان هذا اولى لطول المقام في ذلك المكان ، ويؤيد
ذلك باستمرار الأعصار من زمنه (صلىاللهعليهوآله) الى يومنا هذا بالوحدة ابتداء واستدامة إلا إذا صار
الميت رميما. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل
حال.
ثم ان جملة من
أصحابنا (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الشهيدان في الذكرى
__________________
والروض تبعا للشيخ قد فرعوا على قوله في حديث أهل أحد : «وقدموا أكثرهم
قرانا» فروعا لا فائدة في التطويل بذكرها مع عدم ثبوت أصل الحديث كما أشرنا إليه.
(الثالثة) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم النبش ، وقد ادعى على ذلك
الإجماع جمع منهم كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والتذكرة والشهيد في
الذكرى وقد استدل في كتاب الوسائل على تحريم النبش بالأخبار الواردة بقطع يد
النباش وفيه ان الظاهر من تلك الاخبار بحمل مطلقها على مقيدها
ان القطع انما هو من حيث سرقة الكفن لا من حيث النبش ، ومنها ـ ما رواه في الكافي
عن عبد الله بن محمد الجعفي قال : «كنت عند ابي جعفر (عليهالسلام) وجاءه كتاب هشام بن عبد الملك في رجل نبش امرأة فسلبها
ثيابها ثم نكحها فان الناس قد اختلفوا علينا فطائفة قالوا اقتلوه وطائفة قالوا
أحرقوه؟ فكتب إليه أبو جعفر (عليهالسلام) : ان حرمة الميت كحرمة الحي تقطع يده لنبشه وسلبه
الثياب ويقام عليه الحد في الزنا : ان أحصن رجم وان لم يكن أحصن جلد مائة». وفي
رواية أبي الجارود عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء». ونحوهما
غيرهما ، وعليهما يحمل ما أطلق مثل صحيحة حفص ابن البختري قال «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : حد النباش حد السارق». وفي رواية إسحاق بن عمار
«ان عليا (عليهالسلام) قطع نباش القبر فقيل له أتقطع في الموتى؟ فقال انا
لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا». وهو ظاهر في كون القطع انما هو للسرقة.
وبالجملة فإني لا اعرف لذلك غير ما يدعى من الإجماع.
ثم ان الأصحاب
قد استثنوا هنا صورا منها ما اتفق عليه ومنها ما اختلف فيه :
(الأولى) ـ إذا
وقع في القبر ما له قيمة فإنهم صرحوا بجواز النبش للنهي عن إضاعة المال ، قالوا
ولا يجب على مالكه قبول القيمة ، ولا فرق في ذلك بين القليل
__________________
والكثير وان كره النبش لأجل القليل ، قال في الذكرى : وروى «ان المغيرة بن
شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثم طلبه ففتح موضع منه فأخذه فكان يقول انا آخركم عهدا
برسول الله (صلىاللهعليهوآله)». أقول : لا ريب ان هذه الرواية عامية وقد ورد في بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها عن
علي (عليهالسلام) تكذيبه في دعواه ذلك ، وهو الصواب فإن المغيرة بن شعبة
وأمثاله من المنافقين في السقيفة يومئذ واين هم من حضور دفنه (صلىاللهعليهوآله)؟ ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) يستلقون أمثال هذه
الاخبار في مثل هذه الأحكام العارية عن نصوصهم (عليهمالسلام).
(الثانية) ـ إذا
دفن في الأرض المغصوبة أو المشتركة بغير اذن الشريك ، قالوا فان للمالك والشريك
قلعه لتحريم شغل مال الغير وان ادى الى هتك الحرمة لأن حق الحي أولى وان كان
الأفضل للمالك تركه خصوصا القرابة ، ولو دفن باذن المالك جاز له الرجوع ما لم يطم
لا بعده.
(الثالثة) ـ إذا
كفن في ثوب مغصوب جاز نبشه لتخليص المغصوب مع طلب المالك ، ولا يجب عليه أخذ
القيمة. وفرق في المنتهى بين الأرض والكفن فقال بعد ان ذكر جواز النبش في الأرض
المغصوبة : «اما لو غصب كفنا فكفن به ودفن لم يكن لصاحب الكفن قلعه وأخذ كفنه بل
يرجع الى القيمة ، والفرق بينهما بتعذر
__________________
تقويم موضع الدفن وحصول الضرر به بخلاف الكفن» انتهى. ورده في الذكرى بضعف
هذا الفرق قال : لإمكانه بإجارة البقعة زمانا يعلم بلى الميت فيه ، قال وأضعف منه
الفرق بإشراف الثوب على الهلاك بالتكفين بخلاف الأرض لأن الفرض قيام الثوب. ثم
احتمل في الذكرى في كل من الأرض والكفن تحريم النبش إذا ادى الى هتك الميت وظهور
ما ينفر منه لما روي «ان حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا». ولو كفن في حرير قيل هو كالمغصوب ، وقيل
ان الاولى هنا المنع لان حق الله تعالى أوسع من حق الآدمي.
(الرابعة) ـ إذا
بلي الميت وصار رميما قالوا فإنه يجوز نبشه لدفن غيره أو لمصلحة المالك المعير ،
ويختلف ذلك باختلاف الترب والأهوية فلو ظنه رميما فنبش فوجد عظاما دفنها وجوبا ،
قالوا ومتى علم صيرورته رميما لم يجز تصويره بصورة المقابر في الأرض المسبلة لأنه
يمنع من الهجوم على الدفن فيها.
(الخامسة) ـ نبشه
للشهادة على عينه وإثبات الأمور المترتبة على موته من اعتداد زوجته وقسمة تركته
وحلول ديونه التي عليه ، قال في الذكرى : وهذا يتم إذا كان محصلا للعين ولو علم
تغير الصورة حرم.
(السادسة) ـ إذا
دفن بغير كفن أو صلاة أو غسل أو الى غير القبلة ، وقطع الشيخ في الخلاف بعدم النبش
لأجل الغسل قال لانه مثلة ، ورجحه في المعتبر قال لان النبش مثلة فلا يستدرك الغسل
بالمثلة ، ومال العلامة في التذكرة إلى نبشه إذا لم يؤد الى فساد لان الغسل واجب
فلا يسقط بذلك وكذا في الدفن الى غير القبلة ، والى ما اختاره العلامة من النبش في
الصورتين المذكورتين مال الفاضل الخراساني في الذخيرة ، وظاهرهم الاتفاق على عدم
النبش في الكفن والصلاة ، قالوا لأن الصلاة تستدرك بالصلاة على قبره والكفن اغنى
عنه الدفن لحصول الستر به.
__________________
(السابعة) ـ إذا
دفن في أرض ثم بيعت قال في المبسوط جاز للمشتري نقل الميت منها والأفضل تركه. ورده
الفاضلان بتحريم النبش إلا ان تكون الأرض مغصوبة فيبيعها المالك. واعترضهما الفاضل
الخراساني في الذخيرة بأن التعويل في تحريم النبش انما هو على الإجماع وهو لا يتم
في محل النزاع. أقول : لقائل أن يقول ان خلاف معلوم النسب لا يقدح في الإجماع كما
هو مذكور في قواعدهم. والمسألة بجميع شقوقها وفروعها لا تخلو عندي من الاشكال لعدم
الدليل الواضح من اخبارهم (عليهمالسلام) والله العالم.
(الرابعة) ـ قد
صرحوا (رضوان الله عليهم) بأنه يحرم نقل الميت بعد دفنه الى موضع آخر ، لتحريم
النبش واستدعائه الهتك ولو الى أحد المشاهد المشرفة ، ونقل العلامة في التذكرة
جوازه إليها عن بعض علمائنا ، قال الشيخ (قدسسره) في النهاية «وإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله من
موضعه ، وقد وردت رواية بجواز نقله الى بعض مشاهد الأئمة (عليهمالسلام) سمعناها مذاكرة والأصل ما قدمناه» وقال ابن إدريس انه
بدعة في شريعة الإسلام سواء كان النقل الى مشهد أو الى غيره ، وعن ابن حمزة القول
بالكراهة ، ونقل بعض مشايخنا المتأخرين عن الشيخ وجماعة انهم جوزوا نقله الى
المشاهد المشرفة. أقول : وبذلك يشعر كلامه في المبسوط حيث قال بعد الإشارة إلى
ورود الرواية كما ذكره في النهاية : «والأول أفضل» فإن ظاهره الجواز وان كان خلاف
الأفضل كما يدل عليه قول ابن حمزة ، وقال ابن الجنيد انه لا بأس بتحويل الموتى من
الأرض المغصوبة ولصلاح يراد بالميت. وظاهره الجواز من غير كراهة في الصورتين
المذكورتين.
أقول : والظاهر
عندي هو الجواز (اما أولا) فلان مستند التحريم انما هو الإجماع لى تحريم النبش وهو
غير ثابت في محل النزاع. و (اما ثانيا) فلما رواه الصدوق
في الفقيه قال : «قال الصادق (عليهالسلام) ان الله تبارك وتعالى اوحى الى موسى ابن عمران (عليهالسلام) ان أخرج عظام يوسف (عليهالسلام) من مصر ووعده طلوع القمر فأبطأ طلوع القمر عليه فسأل
عمن يعلم موضعه فقيل له هنا عجوز تعلم علمه فبعث إليها فاتي بعجوز مقعدة عمياء
فقال تعرفين قبر يوسف (عليهالسلام)؟ قالت : نعم. قال فاخبريني بموضعه قالت لا افعل حتى
تعطيني خصالا : تطلق رجلي وتعيد الي بصري وترد الي شبابي وتجعلني معك في الجنة.
فكبر ذلك على موسى (عليهالسلام) فأوحى الله عزوجل اليه انما تعطى علي فأعطاها ما سألت ففعل فدلته على قبر
يوسف فاستخرجه من شاطئ النيل في صندوق مرمر فلما أخرجه طلع القمر فحمله الى الشام
فلذلك يحمل أهل الكتاب موتاهم الى الشام». ومثله الأخبار الواردة في نقل نوح لعظام
آدم (عليهماالسلام) في تابوت إلى الغري ودفنه فيه والتقريب فيها ان الظاهر من نقلهم ذلك لشيعتهم وتقريرهم
عليه جواز ذلك كما وقع في مواضع ، مثل حديث «ذكري حسن على كل حال» المروي عن موسى (عليهالسلام) . ومنها جعل المهر اجارة الزوج نفسه مدة كما حكاه الله
تعالى عن موسى (عليهالسلام) في تزويجه ابنة شعيب ، فإن أكثر الأصحاب على القول
بذلك للآية الشريفة ونحو ذلك مما يقف عليه المتتبع ، وبذلك يظهر ما في قول
بعض أفاضل متأخري المتأخرين من ان وقوع ذلك في شرع من قبلنا لا يدل على جوازه في
شرعنا ، وبما ذكرناه ايضا صرح الفاضل المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه
حيث قال : «والظاهر
__________________
ان الغرض من نقل هذا الخبر جواز نقل الميت الى المشاهد المشرفة بل استحبابه
كما ذهب إليه الأصحاب وعليه عملهم من زمان الأئمة إلى زماننا هذا» انتهى. وان كانت
العبارة لا تخلو من سهو وتساهل في التعبير فان جواز النقل واستحبابه الذي ذهب إليه
الأصحاب انما هو قبل الدفن كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى لا بعد الدفن لما
عرفت من ان المشهور بينهم هو التحريم ، ومورد الخبر انما هو النقل بعد الدفن ،
ولهذا ان بعضهم أنكر الاستدلال بالخبر المذكور وجعله مقصورا على شرع من قبلنا كما
عرفت و (اما ثالثا) فلما نقل عن جملة من علمائنا من انهم دفنوا ثم نقلوا مثل الشيخ
المفيد فإنه دفن في داره مدة ثم نقل الى جوار الإمامين الكاظمين (عليهماالسلام) والسيد المرتضى فإنه دفن في داره ثم نقل الى جوار
الحسين (عليهالسلام) ونقل ايضا ان شيخنا البهائي دفن بأصبهان ثم نقل الى
المشهد الرضوي على مشرفه السلام ، ومن الظاهر ان وقوع ذلك في تلك الأوقات المملوءة
بالفضلاء لا يكون إلا بتجويزهم. و (اما رابعا) فإن الأصل هنا الجواز بل الاستحباب
، وبه يجب التمسك الى ان يقوم دليل المنع ، وليس إلا الإجماع المدعى على تحريم
النبش وهو غير جار فيما نحن فيه.
هذا كله فيما
لو كان بعد الدفن اما قبله فالظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في
كراهة نقل الميت الى غير بلده إلا الى المشاهد المشرفة ، قال في المعتبر : «يكره
نقل الميت الى غير بلد موته وعليه العلماء اجمع ، وقال علماؤنا خاصة يجوز نقله الى
مشاهد الأئمة (عليهمالسلام) بل يستحب ، اما الأول فلقول النبي (صلىاللهعليهوآله) «. عجلوهم الى مضاجعهم.». وهو دليل على الاقتصار على
المواضع القريبة المعهودة بالدفن ، واما الثاني فعليه عمل الأصحاب من زمن الأئمة (عليهمالسلام) الى الآن وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه ، ولانه يقصد
بذلك التمسك بمن له أهلية الشفاعة وهو حسن بين الأحباء توصلا إلى فوائد الدنيا
فالتوصل إلى فوائد
__________________
الآخرة أولى» انتهى. وعليه اقتصر في المدارك في الاستدلال على الحكم
المذكور ونحوه في الذكرى ايضا وغيره في غيرها. أقول : وظاهر كلماتهم في هذا المقام
يدل على عدم وقوفهم على دليل من الاخبار وإلا لنقلوه ولو تأييدا لهذه الأدلة
العقلية باصطلاحهم كما هم عادتهم في جميع الأحكام.
والذي وقفت
عليه مما يدل على النقل الى المواضع الشريفة للتبرك والتيمن لشرفها روايات : منها
ـ ما رواه في الكافي بسنده عن علي بن سليمان قال : «كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات يدفن
بعرفات أو ينقل الى الحرم أيهما أفضل؟ فكتب يحمل الى الحرم ويدفن فهو أفضل». وما
رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن سليمان قال : «كتبت الى ابي الحسن (عليهالسلام) اسأله عن الميت يموت بمنى أو بعرفات (الوهم منى).». ثم
ذكر مثل الأول. وما رواه الديلمي في إرشاد القلوب والسيد عبد الكريم بن السيد احمد بن طاوس في كتاب فرحة
الغري من حديث اليماني الذي قدم بأبيه على ناقة إلى الغري ، قال في الخبر : «انه
كان أمير المؤمنين (عليهالسلام) إذا أراد الخلوة بنفسه ذهب الى طرف الغري فبينما هو
ذات يوم هناك مشرف على النجف فإذا رجل قد اقبل من اليمن راكبا على ناقة قدامه جنازة
فحين رأى عليا (عليهالسلام) قصده حتى وصل اليه وسلم عليه فرد عليه وقال من اين؟
قال من اليمن. قال وما هذه الجنازة التي معك؟ قال جنازة أبي لادفنه في هذه الأرض.
فقال له علي (عليهالسلام) لم لا دفنته في أرضكم؟ قال اوصى بذلك وقال انه يدفن
هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال (عليهالسلام) أتعرف ذلك الرجل؟ قال : لا. قال : انا والله ذلك الرجل
(ثلاثا) فادفن مقام فدفنه». وفي مجمع البيان عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) في حديث قال : «لما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت الى
__________________
ارض الشام فدفنه في بيت المقدس». ورواه الراوندي في كتاب قصص الأنبياء
بإسناده الى الصدوق بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) مثله ويعضده ما تقدم من حديثي نقل آدم ويوسف فإنه متى جاز
بعد الدفن فقبله بطريق اولى.
وقال في الذكرى
: ولو كان هناك مقبرة بها قوم صالحون أو شهداء استحب النقل إليها أيضا لتناله
بركتهم. وهو حسن. أقول : ويؤيده ما رواه الكشي في كتاب اختيار الرجال عن العياشي قال : «سمعت علي بن الحسن يقول مات يونس بن
يعقوب بالمدينة فبعث إليه أبو الحسن الرضا (عليهالسلام) بحنوطه وكفنه وجميع ما يحتاج اليه وأمر مواليه وموالي
أبيه وجده ان يحضروا جنازته وقال لهم هذا مولى لأبي عبد الله (عليهالسلام) كان يسكن العراق ، وقال لهم احفروا له في البقيع فان
قال لكم أهل المدينة انه عراقي ولا ندفنه في البقيع فقولوا لهم هذا مولى لأبي عبد
الله (عليهالسلام) وكان يسكن العراق فان منعتمونا ان ندفنه في البقيع
منعناكم ان تدفنوا مواليكم في البقيع فدفن في البقيع.».
واما ما رواه
في دعائم الإسلام عن علي (عليهالسلام) ـ «انه رفع اليه ان رجلا مات بالرستاق فحملوه إلى
الكوفة فأنهكهم عقوبة وقال ادفنوا الأجساد في مصارعها ولا تفعلوا كفعل اليهود تنقل
موتاهم الى بيت المقدس ، وقال انه لما كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاها الى
دورها فأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مناديا فنادى ادفنوا الأجساد في مصارعها». ـ فأول ما
فيه ان الكتاب المذكور غير معتمد ولا مشهور ، قال شيخنا المجلسي في البحار : «كتاب
دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف الصدوق وقد ظهر لنا انه
تأليف أبي حنيفة النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية
وكان مالكيا أولا ثم اهتدى وصار إماميا
__________________
واخبار هذا الكتاب أكثرها موافق لما في كتبنا المشهورة لكن لم يرو عن
الأئمة بعد الصادق (عليهالسلام) خوفا من الخلفاء الإسماعيلية ، وتحت سر التقية أظهر
الحق لمن نظر فيه متعمقا ، واخباره تصلح للتأييد والتأكيد. إلى آخر كلامه» و (ثانيا)
ـ انه يمكن حمله على حصول النقل من مسافة يوجب تغير الميت وانفجاره ، فقد صرح
الشهيد الثاني بأنه يجب تقييد الحكم المذكور بما إذا لم يخف هتك الميت بانفجاره
ونحوه لبعد المسافة أو غيرها. وهو جيد. ويمكن ان يقال ان الكوفة من حيث هي ليست من
الأماكن التي يستحب النقل إليها مع منافاته للتعجيل المأمور به. وكيف كان فهذا
الخبر ليس له قوة المعارضة لما ذكرناه. واما ما تضمنه من نهي الرسول (صلىاللهعليهوآله) عن نقل قتلي أحد فهو مما صرح به الأصحاب أيضا فإنهم
استثنوا من هذا الحكم الشهداء كما صرح به شيخنا المشار اليه وغيره ، قالوا فإن
الأولى دفنه حيث قتل لقوله (صلىاللهعليهوآله) : «ادفنوا القتلى في مصارعهم». وهذا الحديث ايضا شاهد
به.
(الخامسة) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب بتحريم شق الثوب الا على الأب والأخ فإنه جائز ، وظاهر إطلاق
كلامهم يقتضي عدم الفرق بين الرجال والنساء ، وقيل بجواز ذلك للنساء مطلقا ، قال
في الذكرى : وفي نهاية الفاضل يجوز شق النساء الثوب مطلقا وفي الخبر إيماء اليه. وأراد
بالخبر ما يأتي من شق الفاطميات على الحسين (عليهالسلام) وذهب ابن إدريس إلى التحريم مطلقا ولم يستثن أحدا ،
قال في المدارك : «وفي رواية الحسن الصيقل «لا ينبغي الصراخ على الميت ولا شق الثياب». وهو ظاهر في الكراهة ومقتضى
الأصل الجواز ان لم يثبت النهي عن إضاعة المال على وجه العموم» انتهى. وربما أشعر
هذا الكلام بأنه لا دليل على التحريم من النصوص في خصوص هذا المقام إلا ان يثبت
دليل على إضاعة المال على وجه العموم.
__________________
والذي وقفت
عليه من النصوص المتعلقة بهذا المقام بالخصوص منها ما تقدم نقله عن المدارك من
رواية الحسن الصيقل رواها في الكافي وفي الذكرى رواها عن الحسن الصفار والظاهر انه
سهو من قلمه. ومنها ـ ما رواه في التهذيب قال : وذكر احمد بن محمد بن داود القمي
في نوادره قال روى محمد بن عيسى عن أخيه جعفر بن عيسى عن خالد بن سدير أخي حنان بن
سدير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل شق ثوبه على أبيه أو على امه أو على أخيه أو
على قريب له؟ قال لا بأس بشق الجيوب فقد شق موسى بن عمران على أخيه هارون (عليهماالسلام) ولا يشق الوالد على ولده ولا زوج على امرأته وتشق
المرأة على زوجها ، وإذا شق الزوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين
ولا صلاة لهما حتى يكفرا أو يتوبا من ذلك ، وإذا خدشت المرأة وجهها أو جزت شعرها
أو نتفته ففي جز الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وفي
الخدش إذا دميت وفي النتف كفارة حنث يمين ، ولا شيء في اللطم على الخدود سوى
الاستغفار والتوبة ، ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهماالسلام) وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». ومنها ـ ما رواه
في الكافي بسنده عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس «أنهم حضروا يوم توفى محمد بن علي بن محمد باب ابي الحسن (عليهالسلام) يعزونه ، الى ان قال إذ نظر الى الحسن بن علي (عليهماالسلام) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه. الحديث». وقال
الصدوق «لما قبض علي بن محمد العسكري رؤي الحسن بن علي (عليهماالسلام) قد خرج من الدار وقد شق قميصه من خلف ومن قدام». وروى
الوزير السعيد علي بن عيسى الإربلي في كتاب كشف الغمة من كتاب الدلائل لعبد الله
بن جعفر الحميري
__________________
عن ابي هاشم الجعفري قال : «خرج أبو محمد في جنازة أبي الحسن (عليهماالسلام) وقميصه مشقوق فكتب اليه ابن عون من رأيت أو بلغك من
الأئمة (عليهمالسلام) شق قميصه في مثل هذا؟ فكتب إليه أبو محمد (عليهالسلام) : يا أحمق وما يدريك ما هذا؟ قد شق موسى بن عمران على
هارون». وروى مثل ذلك الكشي في كتاب الرجال إلا ان فيه «فكتب إليه أبو عون الأبرش».
أقول : لا يخفى
ان الظاهر من قوله (عليهالسلام) في رواية الحسن الصيقل : «لا ينبغي» بمعونة ما نقلناه
عن التهذيب انما هو التحريم (اما أولا) فلان استعمال هذا اللفظ في التحريم شائع في
الأخبار كما عرفت في غير موضع من هذا الكتاب. و (اما ثانيا) فلان الظاهر من
الأخبار وكلام الأصحاب ان الصراخ محرم وانما الجائز النوح بالصوت المعتدل والقول
بحق ، فكذا يجب القول في الشق والا لزم استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو حقيقته
ومجازه وهم لا يقولون به ، ويخرج خبر خالد بن سدير المتضمن لإيجاب الكفارة على
الزوج في الشق على زوجته والوالد على ولده شاهدا على ذلك ، وبه يظهر صحة ما ذكره
الأصحاب من الحكم المذكور وان حمله في المدارك الرواية المشار إليها على الكراهة
من حيث ان لفظ «لا ينبغي» في عرف الناس بمعنى الكراهة ليس بجيد. نعم قد دلت رواية
خالد بن سدير على استثناء شق المرأة على زوجها زيادة على ما ذكره الأصحاب من الشق
على الأب والأخ فيجب القول به. واما ما يدل على الشق على الأب والأخ فهو فعل
الامام الحسن العسكري على أبيه وأخيه (عليهمالسلام) وفعل موسى بن عمران على أخيه هارون (عليهماالسلام) وفي استدلاله (عليهالسلام) واحتجاجه على من لأمه في الشق بشق موسى على أخيه هارون
ما يؤيد ما قدمناه من ان ما يحكونه عن الأنبياء السابقين يكون حجة ودليلا للحكم في
شريعتنا ما لم يعلم الاختصاص ، ومثله حديث خالد بن سدير واستدلال الصادق (عليهالسلام)
__________________
بشق موسى بن عمران على أخيه هارون. والله العالم.
(المقصد الخامس)
في التعزية وما
يتبعها ، والعزاء ممدودا : الصبر ، والتعزية تفعلة من العزاء ، وعزيته تعزية قلت
له أحسن الله تعالى عزاءك اي رزقك الصبر الجميل ، والمراد بها طلب التسلي عن
المصيبة بإسناد الأمر إلى قضاء الله وقدره وذكر ما وعد الله تعالى على ذلك من
الأجر والثواب ، وأقل مراتبها ان يراه صاحب المصيبة لما رواه في الفقيه مرسلا قال : وقال (عليهالسلام) : «كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة».
والبحث في هذا
المقصد يقع في مقامات : (الأول) ـ قد استفاضت الاخبار باستحباب التعزية ، فروى في
الكافي عن وهب بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من عزى مصابا كان له مثل اجره من غير ان ينتقص من أجر
المصاب شيء». وعن ابي الجارود عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «كان فيما ناجى به موسى ربه قال يا رب ما لمن عزى
الثكلى؟ قال أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي». وعن علي بن عيسى بن عبد الله العمري
عن أبيه عن جده عن أبيه قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) من عزى الثكلى اظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله».
وعن إسماعيل الجزري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبى بها». وعن
السكوني عن الصادق عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبر بها». وروى هذين
__________________
الخبرين الأخيرين الصدوق في الفقيه مرسلين قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الى آخرهما». وروى الصدوق في المجالس والعيون بسنده عن
محمد بن علي عن أبيه الرضا عن موسى بن جعفر (عليهمالسلام) قال : «رأى الصادق (عليهالسلام) رجلا قد اشتد جزعه على ولده فقال يا هذا جزعت للمصيبة
الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى لو كنت لما صار اليه ولدك مستعدا لما اشتد عليه
جزعك فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك». وروى المشايخ الثلاثة في
أصولهم والصدوق في ثواب الأعمال عن رفاعة بن موسى النخاس عن الصادق (عليهالسلام) «انه عزى رجلا بابن له فقال له الله خير لابنك منك وثواب الله خير لك منه
فلما بلغه جزعه عليه عاد اليه فقال له قد مات رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فما لك به أسوة؟ فقال انه كان مراهقا فقال ان امامه
ثلاث خصال : شهادة ان لا إله إلا الله ورحمة الله وشفاعة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فلن تفوته واحدة منهن ان شاء الله تعالى» قال شيخنا
المجلسي (عطر الله مرقده) في البحار : قوله (عليهالسلام) : «الله خير لابنك منك». أقول : لما كان الغالب ان
الحزن على الأولاد يكون لتوهم أمرين باطلين : (أحدهما) انه على تقدير وجود الولد
يصل النفع من الوالد اليه وان هذه النشأة خير له من النشأة الأخرى والحياة خير له
من الموت فأزال (عليهالسلام) وهمه بان الله سبحانه ورحمته خير لابنك منك ومما
تتوهمه من نفع توصله اليه على تقدير الحياة والموت مع رحمة الله خير من الحياة. و
(ثانيهما) ـ توقع النفع منه مع حياته أو الاستئناس به فأبطل (عليهالسلام) ذلك بان ما عوضك الله تعالى من الثواب على فقده خير لك
من كل نفع توهمته أو قدرته في حياته. قوله : «فعاد اليه» يفهم منه استحباب
المعاودة وتكرار التعزية
__________________
مع بقاء الجزع. قوله : «انه كان مراهقا» في بعض النسخ كما في الكافي «مرهقا»
فهو على بناء المجهول من باب التفعيل أو من الأفعال ، قال في النهاية : الرهق :
السفه وغشيان المحارم وفيه فلان مرهق اي متهم بسوء وسفه. وفي القاموس الرهق محركة
: السفه والنوك والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم ، والمرهق كمكرم : من
أدرك ، وكمعظم : الموصوف بالرهق أو من يظن به السوء. انتهى. والمراد ان حزني ليس
بسبب فقده بل بسبب انه كان يغشى المحارم. انتهى ملخصا. وروى في الكافي عن علي بن
مهزيار قال : «كتب أبو جعفر (عليهالسلام) الى رجل ذكرت مصيبتك بعلي ابنك وذكرت انه كان أحب ولدك
إليك وكذلك الله انما يأخذ من الولد وغيره ازكى ما عند اهله ليعظم به أجر المصاب
بالمصيبة فأعظم الله تعالى أجرك وأحسن عزاءك وربط على قلبك انه قدير وعجل الله
تعالى عليك بالخلف وأرجو ان يكون الله تعالى قد فعل ان شاء الله تعالى». وروى في
الفقيه مرسلا قال : «اتى أبو عبد الله (عليهالسلام) قوما قد أصيبوا بمصيبة فقال : جبر الله وهنكم وأحسن
عزاءكم ورحم متوفا كم ثم انصرف».
وفي المقام
فوائد (الأولى) ـ قد عرفت معنى التعزية فيما تقدم وهي جائزة قبل الدفن وبعده لما
رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن هشام بن الحكم قال : «رأيت موسى بن جعفر (عليهالسلام) يعزى قبل الدفن وبعده». ويحتمل انه (عليهالسلام) جمع بين الأمرين في مصيبة واحدة. والأفضل كونها بعد
الدفن كما هو المشهور لما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض
أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن». وعن احمد بن
محمد بن خالد عن أبيه عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «التعزية
__________________
الواجبة بعد الدفن». أقول : الوجوب هنا اما بالمعنى اللغوي أو لتأكيد
الاستحباب. وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال (عليهالسلام) التعزية الواجبة بعد الدفن ، وقال كفاك من التعزية أن
يراك صاحب المصيبة». وروى في الكافي عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون لا يحدث
في الميت حدث فيسمعون الصوت». قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : «يعني ان التعزية
تحصل بالاجتماع الذي يقع عند القبر فينبغي للناس بعد ما فرغوا من الدفن ان يعجلوا
في الانصراف ولا يلبثوا هناك للتعزية لئلا يحدث في الميت حدث في قبره من عذاب أو
صيحة فيسمعوا الصوت ويفزعوا من ذلك ويكرهوه» انتهى.
(الثانية) ـ هل
لها حد معين أم لا؟ قال في المبسوط : الجلوس للتعزية يومين أو ثلاثة أيام مكروه
إجماعا. وأنكر هذا القول ابن إدريس فقال بعد نقل كلام الشيخ المذكور : «قال محمد
بن إدريس لم يذهب أحد من أصحابنا المصنفين الى ذلك ولا وصفه في كتابه وانما هذا من
فروع المخالفين وتخريجاتهم ، وأي كراهة في جلوس الإنسان في داره للقاء إخوانه
والدعاء لهم والتسليم عليهم واستجلاب الثواب لهم في لقائه وعزائه» انتهى وانتصر في
المعتبر للشيخ فقال بعد نقل ملخص كلام ابن إدريس : «والجواب ان الاجتماع والتزاور
من حيث هو مستحب اما لو جعل لهذا الوجه واعتقد شرعيته فإنه يفتقر إلى الدلالة ،
والشيخ استدل بالإجماع على كراهيته إذ لم ينقل عن أحد من الصحابة والأئمة (عليهمالسلام) الجلوس لذلك فاتخاذه مخالفة لسنة السلف لكن لا يبلغ ان
يكون حراما» انتهى. وظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى الانتصار لابن إدريس حيث قال :
ولا حد لزمانها عملا بالعموم نعم لو أدت التعزية إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها
اولى ، ويمكن القول بثلاثة أيام لنقل الصدوق عن الباقر (عليهالسلام)
__________________
«يصنع للميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات». ونقل عن الصادق (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) أمر فاطمة (عليهاالسلام) ان تأتي أسماء بنت عميس ونساؤها وان تصنع لهم طعاما
ثلاثة أيام فجرت بذلك السنة». قال وقال الصادق (عليهالسلام) «ليس لأحد ان يحد أكثر من ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها حتى تقضي عدتها».
قال : «واوصى أبو جعفر (عليهالسلام) بثمانمائة درهم لمأتمه وكان يرى ذلك من السنة لأن رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) أمر باتخاذ الطعام لآل جعفر». وفي كل هذا إيماء الى
ذلك. والشيخ أبو الصلاح قال : من السنة تعزية أهله ثلاثة أيام وحمل الطعام إليهم.
ثم نقل كلام الشيخ في المبسوط وملخص كلام ابن إدريس عليه وكلام المعتبر على ابن
إدريس ، ثم قال في الرد على كلام المعتبر : قلت الأخبار المذكورة مشعرة به فلا
معنى لاعتراضه حجة التزاور وشهادة الإثبات مقدمة ، إلا ان يقال لا يلزم من عمل
المأتم الجلوس للتعزية بل هو مقصور على الاهتمام بأمور أهل الميت لاشتغالهم بحزنهم
، لكن اللغة والعرف بخلافه ، قال الجوهري : «المأتم : النساء يجتمعن قال وعند
العامة المصيبة» وقال غيره «المأتم : المناحة» وهما مشعران بالاجتماع. انتهى ما
ذكره في الذكرى في هذا المقام. وهو جيد. والى هذا القول مال جملة من متأخري
المتأخرين بل الظاهر انه هو المشهور.
(الثالثة) ـ قال
في المنتهى : «ويستحب التعزية لجميع أهل المصيبة كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم
عملا بالعموم ، وينبغي ان يخص أهل العلم والفضل والخير والمنظور إليهم من بينهم
يميز به ليتأسى به غيره والضعيف عن تحمل المصيبة لحاجته إليها ، ولا ينبغي ان يعزى
النساء الأجانب خصوصا الشواب بل تعزيهم نساء مثلهم» انتهى.
__________________
أقول : وفي الفقه الرضوي قال : «وعز وليه فإنه روى عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : من عزى أخاه المؤمن كسي في الموقف حلة ، الى
ان قال (عليهالسلام) وان كان المعزى يتيما فامسح يدك على رأسه فقد روي ان
النبي (صلىاللهعليهوآله) قال من مسح يده على رأس يتيم ترحما له كتب الله له بكل
شعرة مرت عليها يده حسنة. وان وجدته باكيا فسكته بلطف ورفق فاني اروي عن العالم (عليهالسلام) انه قال إذا بكى اليتيم اهتز له العرش فيقول الله
تبارك وتعالى من ذا الذي أبكى عبدي الذي سلبته أبويه في صغره وعزتي وجلالي
وارتفاعي في مكاني لا يسكته عبد مؤمن إلا وجبت له الجنة».
(الرابعة) ـ الأفضل
في التعزية ما هو المأثور عن أهل العصمة (عليهمالسلام) مما تقدم في رواية رفاعة بن موسى ورواية علي بن مهزيار
ومرسلة الفقيه وروى شيخنا الشهيد الثاني في كتاب مسكن الفؤاد عن ابي
عبد الله جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده (عليهمالسلام) قال : «لما توفي رسول الله (صلىاللهعليهوآله) جاء جبرئيل والنبي مسجى وفي البيت علي وفاطمة والحسن
والحسين (عليهمالسلام) فقال السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة «كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية» ألا ان في الله عزوجل عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا لما فات
فبالله عزوجل فثقوا وإياه فارجوا فان المصاب من حرم الثواب وهذا آخر
وطئي من الدنيا». وعن جابر بن عبد الله (رضياللهعنه) قال : «لما توفي رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالوا
السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ان في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا عن
كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا وانما المحروم من حرم الثواب والسلام
__________________
عليكم ورحمة الله وبركاته». وروى الخبر الأول في الكافي عن الحسين بن
المختار عنه (عليهالسلام) والخبر الثاني عن زيد الشحام عنه (عليهالسلام) .
(المقام الثاني)
ـ لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في استحباب الإطعام عن أصحاب المصيبة
ثلاثة أيام ، وعلى ذلك دلت جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح
أو الحسن عن هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لما قتل جعفر بن ابي طالب أمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فاطمة ان تتخذ طعاما لأسماء بنت عميس ثلاثة أيام وتأتيها
ونساؤها وتقيم عندها ثلاثة أيام فجرت بذلك السنة ان يصنع لأهل المصيبة طعام ثلاثا».
ورواه الصدوق مرسلا الى قوله «فجرت بذلك السنة». وفي الصحيح أو الحسن عن
زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «يصنع لأهل الميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات». ورواه
البرقي في المحاسن في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) وفي متنه قال : «يصنع للميت الطعام للمأتم ثلاثة أيام
بيوم مات فيه». وعن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يطعموا الطعام عنه
ثلاثة أيام». ورواه الصدوق بإسناده عن ابي بصير مثله وروى البرقي في
المحاسن في الصحيح عن مرازم قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول لما قتل جعفر بن ابي طالب دخل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على أسماء بنت عميس ، الى ان قال فقال اجعلوا لأهل
جعفر طعاما فجرت السنة إلى اليوم». وعن العباس بن موسى بن جعفر عن أبيه (عليهالسلام) «انه سأله عن المأتم فقال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال ابعثوا الى أهل جعفر طعاما فجرت السنة إلى اليوم».
وعن عمر بن علي بن الحسين (عليهالسلام) قال :
__________________
«لما قتل الحسين (عليهالسلام) لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح وكن لا يشتكين من حر
ولا برد وكان علي بن الحسين (عليهماالسلام) يعمل لهن الطعام للمأتم». أقول : الظاهر ان ذلك بعد رجوعه
(عليهالسلام) الى المدينة. وفي الكافي في الصحيح أو الحسن عن حريز
أو غيره قال : اوصى أبو جعفر (عليهالسلام) والفقيه مرسلا قال : «اوصى أبو جعفر بثمانمائة درهم
لمأتمه وكان يرى ذلك من السنة لأن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال اتخذوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا». قال في الذكرى
: «لو اوصى الميت بذلك نفذت وصيته لانه نوع من البر ويلحقه ثوابه بعد موته ولكن لو
فوض الى غير اهله لكان انسب لاشتغالهم بمصابهم عن ذلك» أقول : يمكن ان يكون (عليهالسلام) في وصيته بهذا المبلغ قد وكل مؤنته إلى غيرهم لئلا
يزاحم اشتغالهم.
فروع
(الأول) ـ يكره
الأكل من طعام أهل المصيبة لما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا قال : «وقال الصادق (عليهالسلام) الأكل عند أهل المصيبة من عمل أهل الجاهلية والسنة
البعث إليهم بالطعام كما أمر به النبي (صلىاللهعليهوآله) في آل جعفر بن ابي طالب لما جاء نعيه». وقيده بعضهم
بما كان من عندهم لا ما يهدى إليهم من الأقرباء والجيران على السنة المذكورة. وهو
حسن.
(الثاني) ـ قال
في المنتهى : «لا يستحب لأهل الميت ان يصنعوا طعاما ويجمعوا الناس عليه لأنهم
مشغولون بمصابهم ، ولأن في ذلك تشبها بأهل الجاهلية على ما قال الصادق (عليهالسلام)» أقول : أشار بما قاله الصادق (عليهالسلام) الى ما تقدم من مرسلة الفقيه.
__________________
(الثالث) ـ قال
في الكتاب المذكور ايضا : «لو دعت الحاجة الى ذلك جاز كما لو حضرهم أهل القرى
والأماكن البعيدة واحتاجوا الى المبيت عندهم فإنه ينبغي ضيافتهم» وهو جيد.
(الرابع) ـ الظاهر
من الاخبار وكلام الأصحاب ان الأمر بالإطعام في الثلاثة يتوجه لجيران الميت
وأقرباؤه ، والظاهر تقييده بما إذا لم يوص الميت بما يصرف لذلك من ماله وإلا سقط
الحكم المذكور ، إلا انه ينبغي للوصي ـ كما تقدمت الإشارة اليه ـ ان يفوض ذلك الى
غير أهل المصيبة لاشتغالهم بالحزن وبالناس القادمين عليهم عن ذلك.
(المقام الثالث)
ـ الظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في جواز البكاء على الميت قبل الدفن وبعده ، ويدل
على ذلك الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما رواه الصدوق في الخصال والمجالس بسنديه
فيهما الى محمد بن سهل البحراني يرفعه الى الصادق (عليهالسلام) قال : «البكاءون خمسة : آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وعلي بن الحسين ، اما آدم فبكى على الجنة حتى صار في
خديه أمثال الأودية ، واما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له : «... تَفْتَؤُا
تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» واما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا
اما ان تبكي الليل وتسكت بالنهار واما ان تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على
واحد منهما ، واما فاطمة فبكت على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها قد آذيتنا بكثرة
بكائك ، وكانت تخرج الى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف ،
واما علي بن الحسين فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام
إلا بكى حتى قاله له مولى له اني أخاف عليك ان تكون من الهالكين. قال إنما أشكو
بثي وحزني الى الله واعلم من الله
__________________
ما لا تعلمون ، اني لم اذكر مصرع بني فاطمة (عليهاالسلام) إلا خنقتني لذلك عبرة». وروى في الكافي عن ابي بصير عن
أحدهما (عليهماالسلام) قال : «لما ماتت رقية بنت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه ، قال
وفاطمة (عليهاالسلام) على شفير القبر تنحدر دموعها في القبر. الحديث». وعن
محمد بن منصور الصيقل عن أبيه قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليهالسلام) وجدا وجدته على ابن لي هلك حتى خفت على عقلي فقال إذا
أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك فإنه يسكن عنك». وعن ابن القداح عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) هملت عين رسول الله بالدموع ثم قال النبي (صلىاللهعليهوآله) تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وانا بك
يا إبراهيم لمحزونون.». وروى الصدوق في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال رسول الله حزنا عليك يا إبراهيم وانا لصابرون ،
يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب. قال وقال (عليهالسلام) من خاف على نفسه من وجد بمصيبة فليفض من دموعه فإنه
يسكن عنه. قال وقال ان النبي (صلىاللهعليهوآله) حين جاءته وفاة جعفر بن ابي طالب وزيد بن حارثة كان
إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جدا ويقول كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعا». وفي
التهذيب بسنده الى محمد بن الحسن الواسطي عن الصادق (عليهالسلام) «ان إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه ان يرزقه ابنة تبكيه بعد موته». والاخبار
في هذا الباب كثيرة بل ورد بكاء الملائكة وبقاع الأرض على المؤمن كما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن
__________________
عن علي بن رئاب قال : «سمعت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) يقول إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض
التي كان يعبد الله تعالى عليها وأبواب السماء التي كان يصعد اعماله فيها. وثلم
ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء لأن المؤمنين حصون الإسلام كحصون سور المدينة لها».
واما رواية الحسن بن الشيخ الطوسي في أماليه عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع
والبكاء لقتل الحسين (عليهالسلام)». فالظاهر ان المراد بالكراهة هنا عدم ترتب الثواب
والأجر عليه مجازا لا الكراهة الموجبة للذم ، وذلك فإنه ليس في شيء من افراد
البكاء ما يوجب الثواب الجزيل والأجر الجميل مثل البكاء عليه والبكاء على آبائه
وأبنائه (عليهمالسلام) وقصارى البكاء على غيرهم ان سبيله سبيل المباحات. واما
ما روي من ان الميت يعذب ببكاء اهله. فهو من روايات العامة ، قال شيخنا في الذكرى
: الثالثة ـ لا يعذب الميت بالبكاء عليه سواء كان بكاء مباحا أو محرما كالمشتمل
على المحرم ، لقوله تعالى : «...
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...» وما في البخاري ومسلم في خبر عبد الله بن عمر ـ «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال ان الميت ليعذب ببكاء اهله». ويروى «ان حفصة بكت على عمر فقال مهلا يا بنية ألم تعلمي ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال ان الميت يعذب ببكاء اهله عليه؟». ـ مأول ، قيل
وأحسنه إن
__________________
الجاهلية ، ثم أطال في بيان أجوبة ذكروها وقد أوضح فسادها ولا حاجة بنا الى
التطويل بنقلها. وبالجملة فإنه لا اشكال ولا خلاف عندنا في جواز البكاء كما صرح به
الأصحاب
انما الخلاف
نصا وفتوى في جواز النوح فالمشهور بين الأصحاب جوازه ما لم يستلزم محرما من كذب أو
صراخ عال أو لطم الوجوه وخمشها ونحو ذلك ، وفي الذكرى عن المبسوط وابن حمزة
التحريم وان الشيخ ادعى عليه الإجماع.
واما الاخبار
فمنها ما دل على الجواز ومن ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح عن يونس بن يعقوب عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «قال لي أبي يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا
لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى». قال في الذكرى بعد ذكر الخبر : والمراد
بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدى بها ويعلم ما كان عليه أهل هذا البيت
ليقتفى آثارهم لزوال التقية بعد الموت. ومنها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن
الثمالي عن الباقر (عليهالسلام) قال : «مات الوليد بن المغيرة فقالت أم سلمة للنبي (صلىاللهعليهوآله) ان آل المغيرة أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها
فلبست ثيابها وتهيأت ، وكانت من حسنها كأنها جان وكانت إذا قامت وأرخت شعرها جلل
جسدها وعقدت طرفيه بخلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالت :
أنعى الوليد
بن الوليد
|
|
أبا الوليد
فتى العشيرة
|
حامي الحقيقة
ماجدا
|
|
يسمو الى طلب
الوتيرة
|
قد كان غيثا
في السنين
|
|
وجعفرا غدقا
وميرة
|
فما عاب عليها
النبي (صلىاللهعليهوآله) ذلك ولا قال شيئا». ومنها ـ ما رواه الشيخان المذكوران
عن حنان بن سدير قال : «كانت امرأة معنا في الحي ولها جارية نائحة فجاءت
الى ابي فقالت يا عم أنت تعلم أن معيشتي من الله عزوجل ثم من
__________________
هذه الجارية النائحة وقد أحببت أن تسأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن ذلك فان كان حلالا وإلا بعتها وأكلت من ثمنها حتى
يأتي الله تعالى بالفرج. فقال لها ابي والله اني لأعظم أبا عبد الله ان أسأله عن
هذه المسألة قال فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال (عليهالسلام) أتشارط؟ قلت والله ما ادري تشارط أم لا. فقال قل لها
لا تشارط وتقبل كل ما أعطيت». وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح عن ابي بصير قال «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميت». وفي الفقيه
مرسلا قال : «وسئل (عليهالسلام) عن أجر النائحة قال لا بأس به قد نيح على رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». ثم قال روي : «انه لا بأس بكسب النائحة إذا قالت
صدقا». وفي خبر آخر «تستحله بضرب احدى يديها على الأخرى» وروى في الكافي عن عذافر قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن كسب النائحة فقال تستحله بضرب احدي يديها على
الأخرى». قال بعض مشايخنا المحدثين بعد ذكر هذا الخبر : لعل المراد انها تعمل
أعمالا شاقة فيها تستحق الأجرة ، واشارة إلى انه لا ينبغي ان تأخذ الأجرة على
النياحة بل على ما يضم إليها من الأعمال. وقيل هو كناية عن عدم اشتراط الأجرة. ولا
يخفى ما فيه. انتهى. وروى في إكمال الدين بسند صحيح الى الحسين بن زيد قال : «ماتت ابنة لأبي عبد الله (عليهالسلام) فناح عليها سنة ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة ثم
مات إسماعيل فجزع عليه جزعا شديدا فقطع النوح ، فقيل لأبي عبد الله (عليهالسلام) أيناح في دارك؟ فقال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال لما مات حمزة لكن حمزة لا بواكي عليه». وروى
الشهيد الثاني في مسكن الفؤاد «ان فاطمة ناحت على أبيها وانه أمر بالنوح على حمزة». وروى في الكافي بسنده
عن
__________________
خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليهمالسلام) في حديث طويل : «انها قالت سمعت عمي محمد بن علي يقول
انما تحتاج المرأة في المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها ولا ينبغي لها ان تقول هجرا
فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح». وقال الصدوق في الفقيه : «لما انصرف رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من وقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها
قتيل نوحا ولم يسمع من دار عمه حمزة فقال (صلىاللهعليهوآله) لكن حمزة لا بواكي عليه فآلى أهل المدينة ان لا ينوحوا
على ميت ولا يبكوه حتى يبدأوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه فهم الى اليوم على ذلك». فهذه
جملة من الاخبار ظاهرة في الجواز.
واما ما يدل
على القول الآخر فجملة من الاخبار ايضا : منها ـ ما رواه في الكافي عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قلت له ما الجزع؟ فقال : أشد الجزع الصراخ
بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي ، ومن اقام النواحة فقد
ترك الصبر وأخذ في غير طريقة. الحديث». وقال الصدوق : من ألفاظ رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الموجزة التي لم يسبق إليها «النياحة من عمل الجاهلية».
وروى في حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه عن الحسين بن زيد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ونهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الرنة عند المصيبة ونهى عن النياحة والاستماع إليها».
وروى في معاني الأخبار بسنده عن عمرو بن ابي المقدام قال : «سمعت أبا الحسن وأبا جعفر (عليهماالسلام) يقول في قول الله عزوجل «وَلا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» قال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : لفاطمة إذا أنا مت فلا تخمشي علي وجها ولا ترخي
علي شعرا ولا تنادي بالويل ولا
__________________
تقيمن علي نائحة ، قال ثم قال هذا المعروف الذي قال الله عزوجل : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ)». وروى علي بن جعفر في كتاب المسائل عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن النوح على الميت أيصلح؟ قال يكره». وفي
الخصال بسنده عن عبد الله ابن الحسين بن زيد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة : الفخر
بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة ، وان النائحة إذا لم تتب
قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من حرب».
وظاهر كلام
أكثر الأصحاب الاعراض عن هذه الأخبار وتأويلها بل تأويل كلام الشيخ ايضا بالحمل
على النوح المشتمل على شيء من المناهي كما هو ظاهر سياق الحديث الأول ، قال في
الذكرى بعد نقل القول بالتحريم عن الشيخ وابن حمزة : والظاهر انهما أرادا النوح
بالباطل أو المشتمل على المحرم كما قيده في النهاية ، ثم نقل جملة من اخبار النهي
، وقال : وجوابه الحمل على ما ذكرناه جمعا بين الاخبار ، ولأن نياحة الجاهلية كانت
كذلك غالبا ، ولأن أخبارنا خاصة والخاص مقدم. أقول : من المحتمل قريبا حمل الأخبار
الأخيرة على التقية فإن القول بالتحريم قد نقله في المعتبر عن كثير من أصحاب
الحديث من الجمهور ونقل جملة من رواياتهم المطابقة لما روى عندنا ومنه
تفسير آية «...
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ...» بالنوح ، قال في المنتهى : النياحة بالباطل محرمة
إجماعا اما بالحق فجائزة إجماعا. وروى الجمهور عن فاطمة (عليهاالسلام) انها قالت :
__________________
يا أبتاه من ربه ما أدناه يا أبتاه الى جبرئيل أنعاه يا أبتاه أجاب ربا
دعاه.
وعن علي (عليهالسلام) ان فاطمة أخذت قبضة من تراب قبر النبي (صلىاللهعليهوآله) فوضعتها على عينها فقالت شعرا :
ما ذا على من
شم تربة احمد
|
|
ان لا يشم
مدى الدهور غواليا
|
صبت علي
مصائب لو انها
|
|
صبت على
الأيام صرن لياليا
|
ومن طريق
الخاصة ما رواه الصدوق ، ثم نقل بعضا من الاخبار التي قدمناها في جواز النياحة.
وقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ صاحب المنتهى والذكرى بجواز الوقف على النوح
لخبر يونس بن يعقوب المتقدم ، قالوا ولانه فعل مباح فجاز صرف المال اليه. وبالجملة
فالظاهر هو القول بالجواز ما لم يستلزم امرا آخر مما قدمنا ذكره.
(المقام الرابع)
ـ في زيارة القبور ، وهي مستحبة إجماعا نصا وفتوى إلا ان المحقق في المعتبر وجمعا
ممن تأخر عنه خصوا ذلك بالرجال وكرهوه للنساء ، وسيأتي ما فيه في المقام ان شاء
الله تعالى ، روى الجمهور عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها
تذكر كم الموت». ومن طريق الخاصة ما رواه الصدوق في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الموتى نزورهم؟ قال نعم. قلت فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟
قال اي والله انهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم». وما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح أو الحسن عن جميل ابن دراج عن الصادق (عليهالسلام) «في زيارة القبور قال : إنهم يأنسون بكم فإذا غبتم عنهم استوحشوا». وعن
إسحاق بن عمار عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت له المؤمن يعلم من يزور قبره؟ قال نعم لا
يزال مستأنسا به ما زال عند
__________________
قبره فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة». وعن مفضل بن
عمر عن الصادق وعن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) زوروا موتاكم فإنهم يفرحون بزيارتكم ، وليطلب أحدكم
حاجته عند قبر أبيه وعند قبر امه بما يدعو لهما». وما رواه الصدوق بإسناده عن
صفوان بن يحيى قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليهالسلام) بلغني ان المؤمن إذا أتاه الزائر أنس به فإذا انصرف
عنه استوحش؟ فقال لا يستوحش». أقول : يمكن الجمع بين هذا الخبر وما تقدمه بالفرق
بين ما إذا كان الزائر من أهل الميت وأقاربه وعدمه فتحمل الأخبار المتقدمة على
الأول وهذا على الثاني.
ويتأكد ذلك يوم
الاثنين وعشية الخميس وغداة السبت ، فروى ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن هشام
بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول عاشت فاطمة (عليهاالسلام) بعد أبيها خمسة وسبعين يوما لم تر كاشرة ولا ضاحكة
تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس فتقول : ههنا كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ههنا كان المشركون». أقول : المراد بالجمعة الأسبوع
كما هو أحد إطلاقاته في الاخبار. وما رواه الشيخ عن يونس عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان فاطمة (عليهاالسلام) كانت تأتى قبور الشهداء في كل غداة سبت فتأتي قبر حمزة
وتترحم عليه وتستغفر له». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : «لعل هذا كان في حياة
أبيها (صلىاللهعليهوآله) وما تقدمه بعد وفاته فلا تنافي» وهو جيد. وروى ابن
قولويه في المزار عن صفوان الجمال قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يخرج في ملأ من الناس من أصحابه كل عشية خميس الى بقيع
المدنيين فيقول السلام عليكم يا أهل الديار (ثلاثا)
__________________
رحمكم الله (ثلاثا). الحديث».
ويستحب وضع
الزائر يده على القبر مستقبل القبلة وقراءة القدر سبعا والدعاء بالمأثور ، فروى في
الكافي عن محمد بن احمد قال : «كنت يفيد فمشيت مع علي ابن بلال الى قبر محمد بن
إسماعيل بن بزيع فقال لي علي بن بلال قال لي صاحب هذا القبر عن الرضا (عليهالسلام) قال من اتى قبر أخيه ثم وضع يده على القبر وقرأ إنا
أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات أمن يوم الفزع الأكبر أو يوم الفزع». ورواه الكشي
في كتاب الرجال نقلا من كتاب محمد بن الحسين بن بندار بخطه قال حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن احمد بن يحيى قال : «كنت
يفيد ، وذكر نحوه الى ان قال : أخبرني صاحب هذا القبر ـ يعني محمد بن إسماعيل بن
بزيع ـ انه سمع أبا جعفر (عليهالسلام) يقول من زار قبر أخيه المؤمن فجلس عند قبره واستقبل
القبلة ووضع يده على القبر فقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات أمن من الفزع
الأكبر». ورواه النجاشي في كتاب الرجال مثله إلا ان فيه «انه سمع أبا جعفر (عليهالسلام) يقول من زار قبر أخيه المؤمن ووضع يده عليه وقرأ إنا
أنزلناه. الحديث». وروى في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) كيف أضع يدي على قبور المسلمين؟ فأشار بيده الى الأرض
فوضعها عليها وهو مقابل القبلة». وروى الصدوق مرسلا قال : «قال الرضا (عليهالسلام) ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عليه انا أنزلناه في ليلة
القدر سبع مرات إلا غفر الله تعالى له ولصاحب القبر». وقد تقدم في بحث الدفن نقلا
عن الفقه الرضوي قوله : «ثم ضع يدك على القبر وأنت مستقبل القبلة وقل اللهم ارحم غربته.
الدعاء كما تقدم الى ان قال (عليهالسلام) ومتى ما زرت قبره فادع له بهذا الدعاء وأنت مستقبل
القبلة ويداك على القبر».
__________________
وروى الصدوق في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الموتى نزورهم؟ فقال نعم.» وقد تقدم في صدر هذا المقام
الى ان قال : «فأي شيء نقول إذا أتيناهم؟ قال قل : اللهم جاف الأرض عن جنوبهم
وصاعد إليك أرواحهم ولقهم منك رضوانا واسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم وتؤنس
به وحشتهم انك على كل شيء قدير». وفي الكافي في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن
سنان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) كيف التسليم على أهل القبور؟ فقال نعم تقول السلام على
أهل الديار من المؤمنين والمسلمين أنتم لنا فرط ونحن ان شاء الله بكم لاحقون». وعن
منصور بن حازم في الصحيح قال : «تقول : السلام عليكم من ديار قوم مؤمنين وانا ان
شاء الله تعالى بكم لاحقون». (وقال في الفقيه : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا مر على القبور قال السلام عليكم. الحديث». وفي
الكافي والفقيه عن جراح المدائني قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) كيف التسليم على أهل القبور؟ قال تقول : السلام على
أهل الديار من المسلمين والمؤمنين رحم الله المستقدمين. منا والمستأخرين وانا ان
شاء الله تعالى بكم لا حقون». أقول : مورد هذه الاخبار الأخيرة زيارة المقبرة
والدعاء لمن فيها من المؤمنين والسلام عليهم ومورد الأخبار الأولة زيارة قبر
المؤمن وحده وقراءة السورة المذكورة والدعاء المذكور عنده. وفي كتاب تنبيه الخاطر
لو رام قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا قرأ المؤمن آية الكرسي وجعل ثواب قراءته لأهل
القبور جعل الله تعالى له من كل حرف ملكا يسبح له الى يوم القيامة».
فروع : (الأول)
ـ الظاهر من كلام المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى
__________________
تخصيص استحباب الزيارة بالرجال وكراهتها للنساء ، قال في المعتبر : «واما
الكراهة لهن فلان الستر والصيانة اولى بهن» وفيه ما عرفت من الاخبار الدالة على
زيارة فاطمة (عليهاالسلام) لقبور الشهداء ، قال في الذكرى بعد نقل كلام المعتبر
وتعليله الكراهة : «وهو حسن إلا مع الأمن والصون لفعل فاطمة (عليهاالسلام)» وهو جيد ، وحينئذ فالكراهة بالنسبة الى النساء انما
هو باعتبار أمر آخر لا من حيث الزيارة كما أطلقه في المعتبر ، إذ ليس مجرد الزيارة
مستلزما لهتك الستر والصيانة والا لاستلزم كراهة خروجهن من البيوت مطلقا ولا قائل
به.
(الثاني) ـ المفهوم
من خبر محمد بن أحمد الأول وكذا من عبارة كتاب الفقه ان المستحب وضع اليدين معا
ولا اعلم به قائلا ، وأكثر الروايات انما هي بذكر اليد مفردة وهو الظاهر من عبارات
الأصحاب كما لا يخفى على من راجعها ، والظاهر انها اليمين لأنها هي المعدة للسنن
والمستحبات لشرفها كما بين في غير موضع.
(الثالث) ـ المفهوم
من الاخبار المتقدمة تأكد الاستحباب في الأيام الثلاثة المتقدمة وان جازت في سائر
الأيام ، وقال في المنتهى : ويستحب تكرار ذلك في كل وقت ، ثم استدل بما رواه ابن
بابويه عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) عن المؤمن يزور اهله؟ فقال نعم. فقال في كم؟ فقال على
قدر فضائلهم : منهم من يزور في كل يوم.». أقول : لا يخفى ان الخبر وان أوهم ما
ذكره إلا ان تتمة الخبر صريحة في ان مورده انما هي زيارة الأرواح لأهلها بعد الموت
لا زيارة الأحياء للقبور ، وهذه تتمة الخبر المذكور «ومنهم من يزور في كل يومين
ومنهم من يزور في كل ثلاثة أيام ، قال ثم رأيت في مجرى كلامه انه يقول : أدناهم
منزلة يزور كل جمعة : قال قلت في أي ساعة؟ قال عند زوال الشمس أو قبيل ذلك». ورواه
في الكافي وزاد فيه : «قال قلت في أي صورة؟ قال في صورة العصفور
أو أصغر من ذلك». ثم
__________________
اشترك الكتابان في قوله : «فيبعث الله تعالى معه ملكا فيريه ما يسره ويستر
عنه ما يكرهه فيرى ما يسره ويرجع الى قرة عين» فالاستدلال به غفلة ظاهرة كما لا
يخفى.
(الرابع) ـ قال
في المنتهى : «ويستحب خلع النعال إذا دخل المقابر ولو لم يفعله لم يكن مكروها لأن
النبي (صلىاللهعليهوآله) روي عنه انه قال : «إذا وضع الميت في قبره وتولى عنه
أصحابه انه يسمع قرع نعالهم» . ولا ريب ان خلع النعال أقرب الى الخشوع وأبعد من
الخيلاء ، ولو كان هناك مانع من خلع النعلين لم يستحب خلعهما» وقال في الذكرى : «لا
يستحب لمن دخل المقبرة خلع نعليه للأصل وعدم ثبت قالوا : «رأى النبي (صلىاللهعليهوآله) رجلا يمشي في المقبرة وعليه نعلان فقال يا صاحب
السبتيتين التي سبتيتيك فرمى بهما» . قلنا حكاية حال فلعله لما في هذا النوع من الخيلاء
لانه لباس أهل التنعم لا لأجل المقبرة» أقول : الذي يلوح من هذا الكلام ان القائل
بالاستحباب انما هو من العامة كما ينادي به الاستدلال بهذا الخبر الذي لا اثر له
في أصولنا فيما اعلم ، ولا يبعد ان العلامة في المنتهى قد تبع القوم في ذلك ، وكيف
كان فلم أقف على مستند لهذا الحكم الذي ادعاه في المنتهى وكلام الذكرى هنا هو
الأقوى.
(الخامس) ـ ظاهر
أكثر الأخبار الأولة انه يستحب في زيارة قبر المؤمن قراءة القدر سبع مرات خاصة ،
وظاهر عبارة الفقه استحباب الدعاء المذكور خاصة ، والجمع بين الاخبار بالتخيير
ممكن والجمع بين السورة المذكورة والدعاء أفضل :
(السادس) ـ يكره
الضحك بين القبور لما رواه الصدوق في المناهي المذكورة في آخر الكتاب عن النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «ان الله تعالى كره لأمتي
__________________
الضحك بين القبور والتطلع في الدور ، قال : وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله تعالى كره لي ست خصال وكرهتهن للأوصياء من
ولدي واتباعهم من بعدي : العبث في الصلاة والرفث في الصوم والمن بعد الصدقة وإتيان
المساجد جنبا والتطلع في الدور والضحك بين القبور».
ونحوه روى في
المجالس ومثله في الخصال وفي بعضها أربعا وعشرين خصلة وعد منها الضحك بين القبور
والتطلع في الدور.
(السابع) ـ قال
في المنتهى : «يكره المشي على القبور قاله الشيخ» أقول : قد قدمنا الكلام في ذلك
وبينا انا لم نقف له على دليل من أخبارنا بل ظاهر بعضها خلافه.
(المقام الخامس)
ـ قد استفاضت الاخبار باستحباب احتساب موت الأولاد والصبر على ذلك وما فيه من
الأجر في الآخرة ، ففي الكافي عن أبي إسماعيل السراج عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ولد يقدمه الرجل أفضل من سبعين ولدا يخلفهم بعده
كلهم قد ركبوا الخيل وجاهدوا في سبيل الله تعالى». وعن ابن مهزيار في الصحيح قال : «كتب رجل الى ابي جعفر (عليهالسلام) يشكو اليه مصابه بولده وشدة ما دخله فكتب اليه : أما
علمت ان الله تعالى يختار من مال المؤمن ومن ولده أنفسه ليأجره على ذلك؟». وعن
جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «دخل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على خديجة حيث مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها ما
يبكيك؟ فقالت درت دريرة فبكيت. فقال يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم القيامة ان
تجيء الى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك ويدخلك الجنة وينزلك أفضلها؟ وذلك لكل
مؤمن ، ان الله عزوجل احكم وأكرم من ان يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه
بعدها ابدا». وعن ابي بصير قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : ان الله تعالى إذا أحب عبدا قبض أحب ولده اليه».
وعن ابن بكير في الموثق عن الصادق
__________________
(عليهالسلام) قال : «ثواب المؤمن من ولده إذا مات الجنة صبر أو لم
يصبر». ورواه الصدوق مرسلا وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا قبض ولد المؤمن ـ والله تعالى اعلم بما قال العبد
ـ قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد فلان المؤمن؟ فيقولون نعم ربنا. فيقول ما ذا
قال عبدي؟ قالوا حمدك واسترجع. فيقول الله لملائكته أخذتم ثمرة قلبه وقرة عينه
فحمدني واسترجع ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». وعن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «مات طاهر ابن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فنهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) خديجة عن البكاء فقالت بلى يا رسول الله ولكن درت علي
دريرة فبكيت فقال أما ترضين ان تجديه قائما على باب الجنة فإذا رآك أخذ بيدك
فأدخلك الجنة أطهرها مكانا وأطيبها؟ فقالت وان ذلك كذلك؟ قال الله أعز وأكرم من ان
يسلب عبدا ثمرة قلبه فيصبر ويحتسب ويحمد الله عزوجل ثم يعذبه». قولها (رضياللهعنها) : «درت علي دريرة» كناية عن سيلان الدموع. وبالإسناد
عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «من قدم من المسلمين ولدين يحتسبهما عند الله
تعالى حجباه من النار باذن الله تعالى». وروى الصدوق مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) من قدم ولدا كان خيرا له من سبعين يخلفهم بعده كلهم قد
ركب الخيل وقاتل في سبيل الله تعالى». وروى في ثواب الأعمال عن ميسر عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين ولدا يبقون
بعده يدركون القائم (عليهالسلام)». وفي المجالس بسنده عن انس بن مالك قال : «توفي ولد لعثمان بن مظعون فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب أفلا يسرك ان
لا تأتي بابا منها إلا وجدت ابنك الى جنبك أخذ بحجزتك يشفع لك الى ربك؟
__________________
فقال بلى. فقال المسلمون : ولنا يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في فرطنا ما لعثمان؟ قال نعم لمن صبر منكم واحتسب.
الحديث».
أقول : ينبغي
ان يعلم انه لا منافاة بين هذه الاخبار وما دلت عليه من استحباب احتساب الولد
والصبر على مصيبة فقده وبين ما تقدم من جواز البكاء ، فان البكاء لا ينافي الصبر
والتسليم لله عزوجل وانما هو رحمة ورقة بشرية جبلية لا يملك الإنسان منعها
كما تقدم ذكره في بعض الاخبار المتقدمة والإشارة إليه في آخر ، واما منعه (صلىاللهعليهوآله) خديجة من البكاء هنا فلعله لغرض اخبارها بالفائدة
المذكورة في الخبر أو ان النهي عن إكثاره ، ويؤيد ما ذكرناه ما رواه في الكافي عن
جابر عن الباقر (عليهالسلام) في حديث قال : «من صبر واسترجع وحمد الله عزوجل فقد رضي بما صنع الله تعالى و (وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط الله
تعالى اجره». وبالجملة فإنه لما ثبت جواز البكاء كما تقدم ووقع ذلك من النبي
وفاطمة والأئمة من بعده (صلوات الله عليهم) فلا بد من الجمع بينه وبين هذه الاخبار
ولا وجه في الجمع إلا ما ذكرناه.
(المقام السادس)
ـ قد تكاثرت الاخبار بما يلحق الميت بعد موته من الثواب وتخفيف العقاب بما قدمه من
بعض الأعمال وما يهدى اليه من الأهل والاخوان ، قال في المنتهى : كل قربة تفعل
ويجعل ثوابها للميت المؤمن فإنها تنفعه ، ولا خلاف في الدعاء والصدقة والاستغفار
وأداء الواجب التي يدخلها النيابة ، قال الله تعالى : «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا
بِالْإِيمانِ ...» وقال : «... وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...» أقول : ومن الأخبار التي أشرنا إليها ما
__________________
رواه في الكافي في الصحيح عن هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال
: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته ، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته
، وولد صالح يدعو له». وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال
: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وصدقة مقبولة لا تورث ، أو سنة هدى يعمل
بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له». قال المحدث الكاشاني في الوافي : «لعل
المراد بالصدقة الجارية ما يعم نفعه عامة الناس كبناء المساجد والرباطات واحداث
الآبار والقنوات في الطرق ونحوها ، وبالصدقة المقبولة التي لا تورث تحبيس الأصل
وتسبيل المنفعة على طائفة مخصوصة ، ولعل المراد بقبولها ان لا يشترط فيها ما يخالف
الشرع والمروة ، ولما اشتركتا في كونهما صدقة جعلتا خصلة واحدة» انتهى. وعن معاوية
بن عمار في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما يلحق الرجل بعد موته؟ قال سنة يسنها يعمل بها بعد
موته فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شيء ، والصدقة
الجارية تجري بعد موته ، والولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما ويحج ويتصدق ويعتق
عنهما ويصلى ويصوم عنهما. فقلت أشركهما في حجي؟ قال نعم». أقول : المراد بالحج
المستحب كما صرح به غير هذا الخبر. وعن ابي كهمس عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ستة تلحق الميت بعد وفاته : ولد يستغفر له ومصحف
يخلفه وغرس يغرسه وقليب يحفره وصدقة يجريها وسنة يؤخذ بها من بعده». ورواه مرة
أخرى مرسلا وفيه «وصدقة ماء يجريه». وروى في الفقيه عن عمر بن يزيد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أيصلى عن الميت؟ قال نعم حتى انه ليكون في ضيق فيوسع
الله تعالى عليه ذلك الضيق
__________________
ثم يؤتى فيقال له خفف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك. قال فقلت له
فأشرك بين رجلين في ركعتين؟ قال نعم ، فقال (عليهالسلام) ان الميت ليفرح بالترحم عليه والاستغفار له كما يفرح
الحي بالهدية تهدى اليه». وفي الفقيه مرسلا قال : «قال (عليهالسلام) يدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة
والبر والدعاء ويكتب أجره للذي يفعله وللميت». وفي التهذيب عن عمر بن يزيد قال : «كان أبو عبد الله (عليهالسلام) يصلي عن ولده في كل ليلة ركعتين وعن والديه في كل يوم
ركعتين. قلت له جعلت فداك كيف صار للولد الليل؟ قال لان الفراش للولد. قال وكان
يقرأ فيهما انا أنزلناه في ليلة القدر وانا أعطيناك الكوثر». أقول : الظاهر ان
المراد بالسنة التي سنها في حياته وعمل بها بعد موته بعض الأعمال الصالحة المستحبة
المهجورة بين الناس فيفعلها هو ويقتدى به فيها بعد موته ، وذلك فإن أصل تسنين
السنن وتشريعها انما هو للنبي والأئمة (صلوات الله عليهم) والمراد بالصلاة والصوم
ونحوهما الذي يعمل له ما هو أعم من ان يأتي بذلك الفعل نيابة عنه أو انه يهديه له
أو يهبه بعد ان يأتي به لا على طريقة النيابة ، وكل منهما مما دلت عليه الاخبار.
والله العالم.
المطلب الثاني في الأغسال المسنونة
روى الشيخ في
التهذيب في الموثق عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجمعة؟ فقال واجب في السفر والحضر إلا انه رخص
للنساء في السفر لقلة الماء ، وقال غسل الجنابة واجب وغسل الحائض إذا طهرت واجب
وغسل الاستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف فجاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين
وللفجر غسل فان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة والوضوء لكل صلاة ،
وغسل
__________________
النفساء واجب وغسل المولود واجب وغسل الميت واجب وغسل من غسل ميتا واجب
وغسل المحرم واجب وغسل يوم عرفة واجب وغسل الزيارة واجب إلا من علة وغسل دخول
البيت واجب وغسل دخول الحرم يستحب ان لا يدخله إلا بغسل وغسل المباهلة واجب وغسل
الاستسقاء واجب وغسل أول ليلة من شهر رمضان يستحب وغسل ليلة احدى وعشرين سنة وغسل
ليلة ثلاث وعشرين سنة لا تتركها لانه يرجى في إحداهما ليلة القدر وغسل يوم الفطر
وغسل يوم الأضحى سنة لا أحب تركها وغسل الاستخارة مستحب». ورواه الصدوق بإسناده عن
سماعة بن مهران نحوه إلا انه قال : «وغسل دخول الحرم واجب يستحب ان لا يدخله
إلا بغسل». ورواه الكليني أيضا إلا انه أسقط غسل من مس ميتا وغسل المحرم وغسل يوم عرفة
وغسل دخول الحرم وغسل المباهلة. وروى الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «الغسل في سبعة عشر موطنا : ليلة سبع عشرة من شهر
رمضان وهي ليلة التقى الجمعان ، وليلة تسع عشرة وفيها يكتب الوفد وفد السنة ،
وليلة احدى وعشرين وهي الليلة التي أصيب فيها أوصياء الأنبياء وفيها رفع عيسى بن
مريم وقبض موسى ، وليلة ثلاث وعشرين يرجى فيها ليلة القدر ، ويومي العيدين وإذا
دخلت الحرمين ويوم تحرم ويوم الزيارة ويوم تدخل البيت ويوم التروية ويوم عرفة وإذا
غسلت ميتا وكفنته أو مسسته بعد ما يبرد ويوم الجمعة ، وغسل الجنابة فريضة. وغسل
الكسوف إذا احترق القرص كله فاغتسل». وروى ثقة الإسلام في الصحيح عن معاوية بن
عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول الغسل من الجنابة ويوم الجمعة
والعيدين وحين تحرم وحين تدخل مكة والمدينة ويوم عرفة ويوم تزور البيت وحين تدخل
الكعبة وفي ليلة تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين من شهر رمضان ومن غسل ميتا». وروى
في التهذيب عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الغسل
__________________
من الجنابة وغسل الجمعة والعيدين ويوم عرفة وثلاث ليال في شهر رمضان وحين
تدخل الحرم وإذا أردت دخول البيت الحرام وإذا أردت دخول مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) ومن غسل الميت». وفي الفقه الرضوي «والغسل ثلاثة وعشرون : من الجنابة والإحرام وغسل الميت ومن غسل الميت وغسل
الجمعة وغسل دخول المدينة وغسل دخول الحرم وغسل دخول مكة وغسل زيارة البيت ويوم
عرفة ، وخمس ليال من شهر رمضان : أول ليلة منه وليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة
وليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ، ودخول البيت والعيدين وليلة النصف من شعبان
وغسل الزيارات وغسل الاستخارة وغسل طلب الحوائج من الله تعالى وغسل يوم غدير خم ،
الفرض من ذلك غسل الجنابة والواجب غسل الميت وغسل الإحرام والباقي سنة ، وقد روي
ان الغسل أربعة عشر وجها : ثلاث منها واجب مفروض متى ما نسيه ثم ذكره بعد الوقت
اغتسل فان لم يجد الماء تيمم ثم ان وجدت الماء فعليك الإعادة ، وأحد عشر غسلا سنة
: غسل العيدين والجمعة وغسل الإحرام ويوم عرفة ودخول مكة ودخول المدينة وزيارة
البيت وثلاث ليال في شهر رمضان : ليلة تسع عشرة وليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث
وعشرين ، ومتى ما نسي بعضها أو اضطر أو به علة تمنعه من الغسل فلا اعادة عليه. وادنى
ما يكفيك ويجزيك من الماء ما تبل به جسدك مثل الدهن. وروي انه يستحب غسل ليلة احدى
وعشرين لأنها الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم ودفن أمير المؤمنين علي (عليهالسلام) وهي عندهم ليلة القدر ، وليلة ثلاث وعشرين هي التي
ترجى فيها وكان أبو عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا صام الرجل ثلاثة وعشرين من شهر رمضان جاز له
ان يذهب ويجيء في أسفاره ، وليلة تسع عشرة من شهر رمضان هي التي ضرب فيها جدنا
أمير المؤمنين (عليهالسلام) ويستحب فيها الغسل». انتهى كلامه.
أقول : والكلام
في هذه الاخبار يقع في مواضع (الأول) ـ لا ريب ان
__________________
الواجب من الأغسال على الأشهر الأظهر انما هي الستة التي تقدم البحث عنها
واما ما عداها فهو مستحب ، وحينئذ فما دل عليه جملة من هذه الاخبار من الوجوب فيما
وقع الاتفاق من الأصحاب على استحبابه فهو محمول عندهم على تأكد الاستحباب ،
والتعبير بذلك مجاز شائع في الاخبار ، وقد وقع في موثقة سماعة التعبير في بعض
بالوجوب وفي بعض بالسنة وفي بعض بالاستحباب والمرجع أمر واحد ، الا ان الظاهر ان
الوجه في في تغيير التعبير هو آكدية بعض على بعض فما عبر فيه بالوجوب فهو الآكد
ودونه السنة ودونه الاستحباب. وقد تطلق السنة في مقابلة الفرض وهو ما كان دليل
وجوبه الكتاب فيراد بها حينئذ ما كان وجوبه بالسنة. وما دل عليه أكثر هذه الاخبار
من عدم عد غسل الحيض والاستحاضة والنفاس فلعله محمول على ذكر الأغسال بالنسبة إلى
الرجال.
(الثاني) ـ قوله
(عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «وإذا غسلت ميتا وكفنته أو
مسسته». وكذا قوله (عليهالسلام) في صحيحة معاوية بن عمار : «ومن غسل الميت». يحتمل
حمله على غسل المس فيكون بعد التغسيل والتكفين في الرواية الأولى أو بعد التغسيل
كما في الرواية الثانية ، ويحتمل حمله على استحباب الغسل لأجل تغسيل الميت بتقدير
الإرادة فيكون قبل التغسيل ، قال شيخنا المجلسي في البحار بعد ذكر الرواية الاولى
من كتاب الخصال ـ وفيها عطف التكفين على التغسيل بأو لا بالواو كما في هذه الرواية
ـ ما لفظه : «وقوله (عليهالسلام) «أو كفنته» قيل المراد ارادة التكفين اي يستحب إيقاع
غسل المس قبل التكفين ، وقيل باستحباب الغسل لتغسيل الميت وتكفينه قبلهما وان لم
يمسه» وقال بعد نقل خبر فيه هكذا «وغسل من مس الميت بعد ما يبرد وغسل من غسل الميت»
ما صورته : «وغسل من غسل الميت تخصيص بعد التعميم ان حملناه على الغسل بعده ،
ويحتمل ان يكون المراد استحباب الغسل لتغسيل الميت قبله كما عرفت بل هو الظاهر
للمقابلة» انتهى. وهو مشعر بتقويته
للقول باستحباب الغسل للتغسيل ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مستحبات
التغسيل
(الثالث) ـ الظاهر
من غسل الزيارة في هذه الروايات زيارة البيت كما صرح به (عليهالسلام) في صحيحة معاوية بن عمار وفي عبارة كتاب الفقه ، وظاهر
الأصحاب تعميمه لما يشمل غسل زيارة النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) وظني انه لا
حاجة الى ذلك لان هذه الأخبار لم تستوف الأغسال المستحبة كملا كما سيظهر لك ان شاء
الله تعالى مع وجود روايات على حدة بأغسال زياراتهم كما اشتملت عليه اخبار
زياراتهم.
(الرابع) ـ لا
يخفى ان هذه الأخبار لم تستكمل الأغسال المسنونة وانما اشتملت على ما هو المهم
منها ، وتفصيل القول في هذا المقام بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام ان
يقال ان ما اشتملت عليه هذه الاخبار من الأغسال هو آكدها وأفضلها وإلا فهي كثيرة
زائدة على هذه الأعداد المذكورة في هذه الاخبار ، ولنفصلها في المقام واحدا واحدا
فنقول :
اما الأغسال
المتعلقة بالحج فمنها ـ غسل الإحرام وأوجبه ابن ابي عقيل ونقله المرتضى عن كثير من
الأصحاب ، والمشهور الاستحباب حتى قال المفيد على ما نقل عنه في المختلف غسل
الإحرام للحج سنة ايضا بلا خلاف وكذا غسل إحرام العمرة. وقال في التهذيب انه سنة
بغير خلاف. واستدل في المدارك على الاستحباب بما رواه معاوية ابن عمار في الصحيح
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا انتهيت الى العقيق من قبل العراق أو الى وقت
من هذه المواقيت وأنت تريد الإحرام ان شاء الله تعالى فانتف إبطيك وقلم أظفارك
واطل عانتك وخذ من شاربك ، الى ان قال استك واغتسل والبس ثوبيك». قال : والظاهر ان
الغسل للاستحباب كما تشعر به الأوامر المتقدمة عليه فإنها للندب بغير خلاف. أقول :
فيه ان الاستدلال بذلك لا يخلو من اشكال فإن مجرد عده في قرن المستحبات لا يوجب
كونه كذلك لخروج ما عداه بدليل من خارج فيبقى
__________________
ما لم يدل عليه دليل على أصل مقتضى الأمر وهو الوجوب ، نعم هو ظاهر في
التأييد كما لا يخفى. قال في المعتبر : «ولعل القائل بالوجوب استند الى ما رواه
محمد بن عيسى عن يونس عن بعض رجاله عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال «الغسل في سبعة عشر موطنا ، الفرض ثلاثة : الجنابة
وغسل من غسل ميتا والغسل للإحرام». ومحمد بن عيسى ضعيف وما يرويه عن يونس لا يعمل
به ابن الوليد كما ذكره ابن بابويه مع انه مرسل فيسقط الاحتجاج به» انتهى. وفيه
نظر فان ضعف الخبر عنده لا يوجب ضعفه عند من تقدمه ، وما نقله عن ابن الوليد قد
رده جملة من أفاضل محدثي متأخري المتأخرين وهو الظاهر ، ونظير هذا الخبر ما تقدم
في عبارة الفقه الرضوي حيث قال «والغسل ثلاثة وعشرون ، ثم عدها كما قدمناه الى ان قال : والفرض من ذلك غسل
الجنابة والواجب غسل الميت وغسل الإحرام والباقي سنة». وهذان الخبران ظاهران في
الوجوب كما ترى ، والتأويل وان أمكن ولو على بعد إلا انه فرع وجود المعارض وليس
إلا الرواية المتقدمة وقد عرفت ما فيها ، واما ما في موثقة سماعة من قوله : «وغسل المحرم واجب». فلا دلالة فيه كما سيأتي
تحقيقه في غسل الجمعة ، وبالجملة فالقول بالوجوب لا يخلو من قوة والاحتياط يقتضي
المحافظة عليه.
ومنها ـ الغسل
لدخول الحرم والغسل لدخول مكة والغسل لدخول المسجد والغسل لدخول البيت وهو غسل
الزيارة وغسل يوم عرفة ويوم التروية ، وسيأتي الكلام في هذه الأغسال في كتاب الحج
ان شاء الله تعالى ونقل الأخبار المتعلقة بها ، فهذه سبعة من الأغسال المستحبة.
ومنها ـ غسل
دخول المدينة كما دل عليه صحيح معاوية بن عمار وصحيح محمد بن مسلم المتقدمان وغسل دخول مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) كما تضمنته رواية
__________________
محمد بن مسلم المتقدمة وغسل زيارته (صلىاللهعليهوآله) والظاهر التداخل والاكتفاء بغسل دخول المدينة ما لم
يحدث مع احتمال الاجتزاء وان أحدث كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في كتاب
الحج ، وهذه ثلاثة أغسال للمدينة مضافا الى ما قدمناه في مكة فتكون عشرة.
ومنها ـ غسل
يومي العيدين ويدل عليه ـ زيادة على ما تقدم في موثقة سماعة من انه سنة وصحيحة
محمد بن مسلم وصحيحة معاوية بن عمار وكتاب الفقه ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي
بن يقطين قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الغسل في يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال سنة وليس
بفريضة». وعن علي بن أبي حمزة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل العيدين أواجب هو؟ فقال هو سنة. قلت : فالجمعة؟
قال : هو سنة». قال في الذكرى : «الظاهر ان غسل العيدين ممتد بامتداد اليوم عملا
بإطلاق اللفظ ويتخرج من تعليل الجمعة أنه إلى الصلاة أو الى الزوال الذي هو وقت
صلاة العيد وهو ظاهر الأصحاب» أقول : لا يخفى ضعف هذا التخريج إلا انه يمكن ان
يؤيد ما نسبه الى ظاهر الأصحاب بما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل ينسى ان يغتسل يوم العيد حتى يصلي؟ قال ان
كان في وقت فعليه ان يغتسل ويعيد الصلاة وان مضى الوقت فقد جازت صلاته». أقول :
ويستفاد من هذا الخبر ان الغسل انما هو للصلاة لا لليوم كما اشتهر بينهم وان وقته
يمتد بامتداد وقتها فيكون الحكم فيه كغسل الجمعة ، إلا ان في امتداد وقت صلاة العيد
الى الزوال ما سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى في باب صلاة العيد. ومن هذا
الخبر ايضا يستفاد استحباب الإعادة بنسيان الغسل كما ذكره الشيخ حيث حمل الخبر على
ذلك. ووقت هذا الغسل بعد الفجر لما رواه عبد الله بن جعفر
__________________
الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه
موسى بن جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته هل يجزئه ان يغتسل قبل طلوع الفجر هل يجزئه
ذلك من غسل العيدين؟ قال ان اغتسل يوم الفطر والأضحى قبل الفجر لم يجزئه وان اغتسل
بعد طلوع الفجر أجزأه».
ومنها ـ أغسال
شهر رمضان ، والمشهور في الأخبار وكلام الأصحاب هو الغسل في الليالي الثلاث
المشهورة ، روى في الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «الغسل في ثلاث ليال من شهر رمضان : في تسع عشرة
واحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قال والغسل في أول الليل وهو يجزئ الى آخره». وعن
سليمان بن خالد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) كم اغتسل في شهر رمضان ليلة؟ قال ليلة تسع عشرة وليلة
احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين.». ويستحب في ليلة ثلاث وعشرين مرتين في أول الليل
وآخره ، رواه الشيخ عن بريد قال : «رأيته اغتسل في ليلة ثلاث وعشرين مرتين مرة من
أول الليل ومرة من آخر الليل». ورواه ابن طاوس في كتاب الإقبال بإسناده إلى بريد
بن معاوية مثله «وفيه ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان». ونحوهما رواية محمد بن مسلم وصحيحة
معاوية بن عمار المتقدمتان في الباب وهو محمول على الأغسال المؤكدة ودونه في الفضل غسل أول
ليلة من شهر رمضان كما تقدم في موثقة سماعة ، وليلة سبع عشرة منه كما تقدم في
صحيحة محمد بن مسلم ، وقد جمع غسل هذه الخمس الليالي في كتاب الفقه كما تقدم في
عبارته من قوله : «وخمس ليال من شهر رمضان. الى آخره».
__________________
ودون هذه
الأغسال الخمسة في الفضل أغسال أخر ذكرها السيد العابد الزاهد المجاهد رضي الدين
بن طاوس في الإقبال ، قال : روى ابن أبي قرة في كتاب عمل شهر رمضان بإسناده الى
ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «يستحب الغسل في أول ليلة من شهر رمضان وليلة
النصف منه». قال وقد ذكره جماعة من أصحابنا الماضين. أقول : قد ذكر الغسل في ليلة
النصف من شهر رمضان جملة من المتأخرين تبعا لما وجدوه في كلام من تقدمهم ولم يقفوا
على نص فيه ، قال في المعتبر بعد ان نقل القول بذلك ونسبه الى الثلاثة : «ولعله
لشرف تلك الليلة واقترانها بالطهر حسن» ثم قال السيد (رضياللهعنه) على اثر الكلام المتقدم : وقد روي ان الغسل أول الليل.
وروي بين العشاءين وروينا ذلك عن الأئمة الطاهرين (عليهمالسلام) . ورأيت في كتاب اعتقد انه تأليف أبي محمد جعفر بن أحمد
القمي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من اغتسل أول ليلة من شهر رمضان في نهر جار ويصب
على رأسه ثلاثين كفا من الماء طهر الى شهر رمضان من قابل». قال ومن الكتاب المشار
اليه عن الصادق (عليهالسلام) «من أحب ان لا تكون به الحكة فليغتسل أول ليلة من شهر رمضان فلا تكون به
الحكة إلى شهر رمضان من قابل». قال ومن كتاب الأغسال لأحمد بن محمد بن عياش
الجوهري بإسناده عن علي (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان إذا دخل العشر من شهر رمضان شمر وشد المئزر وبرز
من بيته واعتكف وأحيا الليل كله وكان يغتسل كل ليلة منه بين العشاءين». قال وروينا
بإسنادنا إلى سعد بن عبد الله عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن
الصادق عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال «من اغتسل أول يوم من السنة في ماء جار وصب على
رأسه ثلاثين غرفة كان دواء السنة ، وان أول كل سنة أول يوم من شهر رمضان». قال ومن
كتاب جعفر بن سليمان عن الصادق (عليهالسلام) قال :
__________________
«من ضرب وجهه بكف من ماء ورد أمن ذلك اليوم من الذلة والفقر ، ومن وضع على
رأسه ماء ورد أمن تلك السنة من البرسام.». قال وروينا عن الشيخ المفيد في المقنعة
في رواية عن الصادق (عليهالسلام) «انه يستحب الغسل ليلة النصف من شهر رمضان». قال وروينا بإسنادنا الى محمد
بن ابي عمير من كتاب علي بن عبد الواحد النهدي عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يغتسل في شهر رمضان في العشر الأواخر في كل ليلة». قال
وروى علي بن عبد الواحد في كتابه بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الغسل في شهر رمضان؟ فقال كان ابي
يغتسل في ليلة تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين». قال ومن الكتاب
المذكور بإسناده عن ابن ابي يعفور عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الغسل في شهر رمضان؟ فقال اغتسل ليلة
تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين».
أقول : وقد ظهر
من مجموع هذه الاخبار بضم بعضها إلى بعض ان الأغسال في شهر رمضان في الليلة الاولى
وليلة النصف وليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة والعشرة الأخيرة وان ترتبت في الفضل
كما أشرنا إليه آنفا ، فهذه أربعة عشر غسلا في شهر رمضان. واما ما ذكره بعض
الأصحاب من الاستحباب في فرادى شهر رمضان فلم أقف فيه على نص زيادة على ما أوردته
إلا ان ابن طاوس قال في سياق اعمال الليلة الثالثة وفيها يستحب الغسل على مقتضى
الرواية التي تضمنت ان كل ليلة مفردة من جميع الشهر يستحب فيها الغسل فإنه يؤذن
بوصول الرواية إليه بذلك.
ومنها ـ غسل
الزيارة للنبي (صلىاللهعليهوآله) وقد تقدم ولزيارة أمير المؤمنين والحسين والرضا (عليهمالسلام) والاخبار به في زياراتهم كثيرة وظاهر الأصحاب
__________________
طرده في زيارة جميع الأئمة (عليهمالسلام) قال شيخنا صاحب رياض المسائل : «لم نقف عليه عموما نعم
ورد بخصوص بعض المواد كزيارة علي والحسين والرضا (عليهمالسلام) أحاديث كثيرة وعسى الله تعالى ان يمن بدليل على
التعميم أو التنصيص في زيارة كل واحد من الأئمة ان شاء الله تعالى» أقول : ومما
يدل على التعميم ما رواه الشيخ في التهذيب عن العلاء بن سيابة عن الصادق (عليهالسلام) «في قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال الغسل عند لقاء كل امام». وهو دال بعمومه على
استحباب الغسل للدخول عليهم احياء وأمواتا. وعلى التخصيص ما رواه ابن قولويه في
كامل الزيارة في زيارة الكاظم والجواد (عليهماالسلام) عن محمد بن عيسى بن عبيد عمن ذكره عن ابي الحسن (عليهالسلام) وفيه قال : «إذا أردت زيارة موسى بن جعفر ومحمد بن علي (عليهماالسلام) فاغتسل وتنظف والبس ثوبيك الطاهرين. الحديث». وما رواه
أيضا في الكتاب المذكور في زيارة أبي الحسن وابي محمد (عليهماالسلام) قال : «روي عن بعضهم (عليهمالسلام) انه قال إذا أردت زيارة قبر ابي الحسن علي بن محمد
وابي محمد الحسن بن علي (عليهماالسلام) تقول بعد الغسل ان وصلت الى قبريهما وإلا أومأت
بالسلام من عند الباب الذي على الشارع. الحديث». وأمثال ذلك يقف عليه المتتبع
ولكنه لعدم الشهرة لم يصل الى نظر شيخنا المشار اليه (قدسسره).
ومنها ـ غسل
المولود حين الولادة لما تقدم في موثقة سماعة من قوله : «وغسل المولود واجب». وذهب شذوذ من أصحابنا
إلى القول بالوجوب لظاهر الخبر المذكور ، والمشهور الاستحباب وحمل الوجوب على مزيد
التأكيد كما في غيره (فان
__________________
قيل) : ان الخبر المذكور لا معارض له يوجب تأويله وإخراج اللفظ عن ظاهره (قلت)
: الذي حققناه في غير موضع من زبرنا ان لفظ الوجوب عند أهل الأصول وان كان حقيقة
فيما لا يجوز تركه إلا انه في الأخبار ليس كذلك فإنه كما ورد استعماله في هذا
المعنى ورد ايضا استعماله في تأكيد الاستحباب وبالمعنى اللغوي مما لا يحصى كثرة ،
فهذا اللفظ عندنا من الألفاظ المشتركة لا يحمل على معنى من هذه المعاني إلا مع
القرينة ، وحينئذ فلا ينهض الخبر المذكور حجة في الوجوب سيما مع تكرر التعبير
بالوجوب في هذه الرواية في جملة من الأغسال التي لا خلاف في استحبابها ، وحينئذ
فالاستحباب هو الأظهر. ولا بد فيه من النية ، وقصد القربة كما في العبادات ، وليس
المراد به غسل النجاسة كما توهمه بعض الأصحاب. واستدل صاحب الوسائل على هذا الغسل
ايضا بما رواه الصدوق في العلل بسنده فيه عن ابي بصير عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «اغسلوا صبيانكم من الغمر فان الشيطان يشم الغمرة
فيفزع الصبي في رقاده ويتأذى به الكاتبان». وهذا من جملة غفلاته فان الغمر هنا
بمعنى دسومة اللحم ومورد الخبر انما هو استحباب غسل الدسومة عن الصبي إذا أكل شيئا
فيه دسومة وكذا الرجل أيضا بقرينة قوله : «يتأذى به الكاتبان» واين هذا من غسل
المولود؟
ومنها ـ غسل
المباهلة كما تضمنته موثقة سماعة أيضا ، والظاهر من كلام الأصحاب ان المراد هو
الغسل يوم المباهلة وهو اليوم الرابع والعشرون من ذي الحجة أو الخامس والعشرون منه
على الخلاف ، ورأيت في بعض الحواشي المنسوبة إلى المولى محمد تقي المجلسي مكتوبا
على الحديث المشار اليه ما صورته : «ليس المراد بالمباهلة اليوم المشهور وهو
الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون من ذي الحجة حيث بأهل النبي (صلىاللهعليهوآله) مع نصارى نجران بل المراد به الاغتسال لإيقاع المباهلة
مع الخصوم في كل حين كما في الاستخارة ، وقد وردت به رواية صحيحة في الكافي وكان
ذلك
__________________
مشتهرا بين القدماء على ما لا يخفى» انتهى. أقول : وما ذكره وان كان خلاف
ما هو المفهوم من كلام الأصحاب كما أشرنا اليه إلا ان الخبر ـ كما عرفت ـ مجمل لا
تخصيص فيه باليوم كما ذكروه بل ظاهره انما هو ما ذكره الفاضل المشار اليه ، وما
ذكروه يحتاج الى تقدير في اللفظ والأصل عدمه ، وفهم الأصحاب منه ذلك ليس بحجة.
واما الحديث الذي أشار إليه بأنه في الكافي وانه مشتمل على الغسل فهو ما رواه فيه عن ابي مسروق عن الصادق (عليهالسلام) ثم ساق الخبر الى ان قال : «فقال لي إذا كان ذلك
فادعهم إلى المباهلة. قلت وكيف اصنع؟ قال أصلح نفسك ثلاثا ، وأظنه قال وصم واغتسل
وابرز أنت وهو الى الجبان فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه. الحديث».
ويظهر ذلك ايضا
من كلام الشيخ المفيد الآتي نقله ان شاء الله تعالى في المقام. وكيف كان فالأحوط
العمل بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم).
ومنها ـ غسل
الاستسقاء كما تضمنته الموثقة المشار إليها.
ومنها ـ غسل
ليلة الفطر لما رواه في الكافي عن الحسن بن راشد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان الناس يقولون ان المغفرة تنزل على من صام شهر رمضان
ليلة القدر؟ فقال يا حسن ان القاريجار انما يعطى أجرته عند فراغه وذلك ليلة العيد. قلت فما
ينبغي لنا ان نعمل فيها؟ فقال إذا غربت الشمس فاغتسل. الحديث».
ومنها ـ غسل
التوبة لما رواه في الكافي عن مسعدة بن زياد قال : «كنت عند ابي عبد الله (عليهالسلام) فقال له رجل اني ادخل كنيفا ولي جيران وعندهم جوار
يتغنين ويضربن بالعود فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهن؟ فقال (عليهالسلام)
__________________
لا تفعل. فقال الرجل والله ما اتيتهن وانما هو سماع أسمعه بأذني؟ فقال
بالله أنت ما سمعت الله يقول (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فقال الرجل بلى والله كأني لم اسمع بهذه الآية من عربي
ولا عجمي لا جرم اني لا أعود ان شاء الله تعالى واني استغفر الله تعالى. فقال له
قم فاغتسل وصل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان اسوأ حالك لو متّ على
ذلك ، احمد الله واسأله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره إلا كل قبيح والقبيح
دعه لأهله فإن لكل أهلا». ونقل في الذكرى عن الشيخ المفيد (قدسسره) انه قيده بالتوبة عن الكبائر. أقول : لعله (قدسسره) وقف في ذلك على حديث آخر زيادة على هذا الخبر.
وظاهر كلام
صاحب المعتبر الاعتماد في هذا الحكم على فتوى الأصحاب دون الخبر المذكور لضعفه
عنده ، قال بعد ذكر هذه الرواية نقلا عن التهذيب ـ انه قال : «روي عن الصادق (عليهالسلام) انه قال لمن ذكر انه يسمع الغناء من جوار يتغنين : قم
فاغتسل وصل ما بدا لك واستغفر الله تعالى واسأله التوبة». ـ ما صورته : وهذه مرسلة
وهي متناولة صورة معينة فلا تتناول غيرها. والعمدة فتوى الأصحاب منضما الى ان
الغسل خير فيكون مرادا ، ولانه تفأل بغسل الذنب والخروج من دنسه. انتهى. والعجب من
صاحب المدارك هنا حيث تبعه على هذا الاستدلال واعتضد بما ذكره في هذا المجال من
هذا الكلام المزيف الظاهر الاختلال.
وفيه (أولا) ـ ما
عرفت من ان الخبر المذكور وان رواه الشيخ كما ذكره إلا انه رواه في الكافي كما
نقلناه عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد ، وهو ـ كما ترى ـ في
أعلى مراتب الصحة ، اما علي بن إبراهيم فحاله في الوثاقة ظاهرة ، واما هارون بن
مسلم فقال النجاشي انه ثقة وجه ، واما مسعدة بن زياد فقال فيه ايضا انه ثقة عين ،
وحينئذ فالرواية في أعلى مراتب الصحة.
__________________
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره ـ من أنها متناولة صورة معينة فلا تتناول غيرها ـ مردود بأنه لا يخفى ان
مورد الرواية وان كان استماع الغناء إلا ان استدلال الإمام بالآية وسياق الرواية
مشعران بالعموم لكل معصية حصل الإصرار عليها ، على انه لو تم ما ذكره من قصر
الأحكام على موضع السؤال في الاخبار لضاق المجال في استنباط الأحكام ولزم خلو
أكثرها من الدليل ، وظاهر الأصحاب هو التعدية الى ما عدا موضع السؤال من باب تنقيح
المناط القطعي ما لم يعلم الاختصاص بموضع السؤال وهو المستند في أكثر الأحكام في
كل مقام ، ومن أجل ما ذكرناه حكم الأصحاب هنا بالعموم في هذا الخبر ولم يخالف فيه
إلا هو ومن تبعه.
و (ثالثا) ـ ان
ما ذكره من ان العمدة فتوى الأصحاب ففيه ان فتوى الأصحاب متى كان لا عن دليل
فالمتابعة فيه سيما من مثله من المحققين غير جائز ولا واضح السبيل ، فإنه مأخوذ
على الفقيه ان لا يفتي ولا يعتمد إلا على الدليل الشرعي والبرهان القطعي في وجوب
أو استحباب أو غيرهما لا على الفتاوى العارية عن الدليل كما عليه العلماء جيلا بعد
جيل ، ومن الظاهر ان فتوى الأصحاب بهذا الحكم انما هو عن هذه الرواية المذكورة ،
وضعفها عنده لا يوجب ضعفها عندهم لأنهم لا يرون العمل بهذا الاصطلاح المحدث ،
وحينئذ فالعمل بفتواهم عمل بالرواية البتة ، فالتستر بالعمل بفتواهم كما ذكره مع
صراحة الرواية لا معنى له بالكلية.
و (رابعا) ـ ان
ما ذكره من ان الغسل خير. إلخ فيه انه لا ريب ايضا انه قد ورد «ان الصلاة خير موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر». إلا انه لو صلى المكلف
نافلة في وقت مخصوص أو مكان مخصوص أو على هيئة مخصوصة معتقدا شرعية تلك الخصوصيات
واستحبابها من غير دليل في المقام فإنه تشريع محرم وعبادته باطلة بل موجبة للعقاب
فضلا عن عدم الثواب ، ومن ثم خرجت الاخبار ناعية على المخالفين
__________________
بدعية صلاة الضحى باعتبار اعتقاد الاستحباب في هذا الوقت من غير نص ولا
دليل على ذلك ، وكذلك جملة من الأذكار التي تعملها الصوفية وان كان أصل الصلاة
وأصل الذكر مستحبا ، والحكم في هذا الغسل كذلك مع عدم قيام الدليل على استحبابه
ومشروعيته. وبالجملة فإن ما ذكره (قدسسره) كلام شعري مزيف لا ينبغي ان يعمل عليه وان تابعه في
المدارك عليه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الأصحاب قد صرحوا بأن التوبة التي يستحب معها الغسل أعم من ان تكون توبة
عن فسق أو عن كفر وان كان ارتدادا. وعلله في المنتهى بان الكفر أعظم من الفسق وقد
ثبت استحباب الغسل للفاسق فالكافر اولى ، ولان تعليله (عليهالسلام) امره بالاغتسال يدل عليه من حيث المفهوم ، ولأن النبي (صلىاللهعليهوآله) أمر قيس بن عاصم لما أسلم بالاغتسال بماء وسدر وأنت خبير بما في هذه الأدلة من الوهن ، والتعليلان
الأولان لا يخرجان عن القياس ، والثالث موقوف على ثبوت الرواية والظاهر انها ليست
من طرقنا ، ومع هذا فقد أجيب عنها بأنه يجوز ان يكون امره (صلىاللهعليهوآله) بالغسل انما هو لحدث الجنابة في حال الكفر إذ قل ما
يخلو الإنسان منه. والجواب الحق منع ثبوت الخبر لما قدمناه في بحث غسل الجنابة من
ان الكافر غير مخاطب بالفروع حال كفره وان كان خلاف المشهور عندهم. وظاهر الأكثر
انه للتوبة عن الذنب مطلقا وقيده الشيخ المفيد بالكبائر وظاهر الخبر يساعده وقول
المحقق الثاني في شرح القواعد ـ ان ظاهر الخبر يدفع التقييد بالكبيرة ـ غير ظاهر ،
فان ظاهر الخبر ان الرجل كان مصرا على الذنب وان كان صغيرة و «لا صغيرة مع الإصرار»
. ويشهد به قوله (عليهالسلام) : «كنت مقيما على أمر عظيم ما كان
__________________
اسوأ حالك لو متّ على ذلك».
ومنها ـ غسل من
قتل وزغا لما رواه في الكافي عن عبد الله بن طلحة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الوزغ؟ فقال هو رجس وهو مسخ كله فإذا قتلته فاغتسل».
ورواه الصفار في بصائر الدرجات وروى الصدوق مرسلا قال : «روي ان من قتل وزغا فعليه الغسل». وظاهره الوجوب
إلا انه محمول على الاستحباب عند الأصحاب ، قال في الفقيه : «وقال بعض مشايخنا ان
العلة في ذلك انه يخرج من ذنوبه فيغتسل منها» أقول : يعني انه كما كانت التوبة
سببا للخروج من الذنوب كذلك قتل الوزغ سبب للخروج منها فيغتسل من قتله كما يغتسل
للتوبة.
ثم انه لا يخفى
ان حديث عبد الله بن طلحة المذكور مقتطع من حديث طويل نقله في الكافي في ذكر أحوال بني أمية قال في تتمة الخبر المذكور : «وقال
(عليهالسلام) ان ابي كان قاعدا في الحجر ومعه رجل يحدثه فإذا هو
بوزغ يولول بلسانه فقال ابي للرجل أتدري ما يقول هذا الوزغ؟ قال لا علم لي بما
يقول. قال فإنه يقول والله لئن ذكرتم عثمان بشتيمة لأشتمن عليا (عليهالسلام) حتى يقوم من ههنا ، قال : وقال ابي ليس يموت من بني
أمية ميت إلا مسخ وزغا ، قال وقال ان عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ
وزغا فذهب من بين يدي من كان عنده وكان عنده ولده فلما ان فقدوه عظم ذلك عليهم فلم
يدروا كيف يصنعون ثم اجتمع أمرهم على ان يأخذوا جذعا فيضعوه كهيئة الرجل قال
ففعلوا ذلك والبسوا الجذع درع حديد ثم لفوه في الأكفان فلم يطلع عليه أحد من الناس
إلا انا وولده». أقول : ومما أوردناه من تتمة الخبر يعلم ما تضمنه صدره من ان
الوزغ رجس وهو مسخ كله وما ذكره ذلك البعض الذي نقل عنه الصدوق من العلة المذكورة
في الغسل من قتله. وروى في الكافي عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال :
__________________
«سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من حجرته ومروان وأبوه يستمعان الى حديثه فقال له
الوزغ ابن الوزغ ، قال أبو عبد الله (عليهالسلام) فمن يومئذ يرون ان الوزغ يستمع الحديث». وروى فيه عن
زرارة قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول لما ولد مروان عرضوا به لرسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان يدعو له فارسلوا به الى عائشة فلما قربته منه قال
أخرجوا عني الوزغ ابن الوزغ ، قال زرارة ولا أعلم إلا انه قال ولعنه». أقول : نقل
بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) ورود مثل هذه الاخبار من طرق العامة أيضا كما في
كتاب حياة الحيوان وفي مستدرك الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف انه قال : «كان لا يولد لأحد
مولود إلا اتي به النبي (صلىاللهعليهوآله) فيدعو له فادخل عليه مروان بن الحكم فقال هو الوزغ ابن
الوزغ الملعون ابن الملعون».
__________________
وقال في
المعتبر بعد نقل مرسلة الصدوق دليلا على الحكم المذكور والتعليل الذي نقله عن بعض
مشايخه ما صورته : «وعندي ان ما ذكره ابن بابويه ليس حجة وما ذكره المعلل ليس
طائلا لانه لو صحت علته لما اختص الوزغة» انتهى. وفيه ان المعتمد في الاستدلال
انما هو الرواية المسندة في الكافي وان كانت هذه المرسلة أيضا صالحة للدلالة لان
إرسال الصدوق لا يقصر عن مثل ابن ابي عمير وغيره ممن عملوا على مراسيلهم ، وما
ذكره من المناقشة في التعليل المذكور ففيه ان العلل الشرعية ليس سبيلها سبيل العلل
العقلية التي يجب دوران المعلول مدارها وجودا وعدما ليرد ما ذكره بل الغرض منها
أمور أخر ، والمراد من العلة هنا هو بيان نكتة مناسبة كما في جملة منها في غير هذا
الموضع.
ومنها ـ السعي
إلى رؤية مصلوب ليراه عامدا وقيده بعضهم بكونه بعد ثلاثة أيام ، والأصل في ذلك ما
رواه في الفقيه مرسلا قال : «وروي ان من قصد الى مصلوب فنظر اليه وجب عليه
الغسل عقوبة». ونقل عن ابي الصلاح انه حكم بوجوب هذا الغسل نظرا الى ظاهر لفظ
الوجوب هنا ، وظاهر الخبر المذكور ان مجرد السعي غير كاف بل لا بد من الرؤية مع
ذلك ، وقيده جملة من الأصحاب بكونه بعد الثلاثة من صلبه أو موته ، والخبر ـ كما
ترى ـ مطلق ، قالوا ولا فرق بين المصلوب الشرعي وغيره ولا بين كونه على الهيئة
المعتبرة شرعا وعدمه ، كل ذلك لإطلاق الدليل ، وهو كذلك وأول وقته الرؤية.
والمحقق في
المعتبر ومثله في المدارك ردا روايتي غسل المولود وغسل رؤية المصلوب بضعفهما سندا
عن إثبات الوجوب وأثبتا بهما الاستحباب.
وفيه ان
الاستحباب حكم شرعي يتوقف ثبوته على الدليل وإلا كان قولا على الله تعالى بغير
دليل وهو منهي عنه آية ورواية ، فإن كانت الروايات الضعيفة باصطلاحهم
__________________
أدلة شرعية ثبت بها ما دلت عليه من وجوب أو استحباب وإلا فلا يثبت بها حكم
شرعي مطلقا.
والقول بأن
أدلة الاستحباب مما يتسامح فيها ضعيف ، وبذلك صرح في المدارك ايضا حيث قال في أول
الكتاب في شرح قول المصنف بعد عد أسباب الوضوء الموجبة له : «والندب ما عداه» فذكر
في هذا المقام جملة الوضوءات المستحبة المستفادة من الاخبار وطعن في جملة منها بان
في كثير منها قصورا من حيث السند ، قال : «وما قيل من ان أدلة السنن يتسامح فيها
بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه لان الاستحباب حكم شرعي فيتوقف على الدليل
الشرعي كسائر الأحكام» هذا كلامه ثمة وان خالفه في جملة من المواضع كهذا الموضع
وغيره وكل ذلك ناشىء من ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي هو الى الفساد أقرب من
الصلاح.
أقول : لا يخفى
انه قد وقع لنا تحقيق نفيس في هذه المسألة لا يحسن ان يخلو عنه كتابنا هذا ، وهو
انه قد صرح جملة من الأصحاب في الاعتذار عن جواز العمل بالأخبار الضعيفة في السنن
بان العمل في الحقيقة ليس بذلك الخبر الضعيف وانما هو بالأخبار الكثيرة التي فيها
الصحيح وغيره الدالة على ان من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله ابتغاء ذلك
الثواب كان له وان لم يكن كما بلغه ، ومن الاخبار الواردة بذلك ما رواه في الكافي
في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء من العمل فصنعه
كان له وان لم يكن على ما بلغه». وفي بعضها «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وان كان
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لم يقله». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المذكورة في
مظانها.
وقد اعترضهم في
هذا المقام بعض فضلاء متأخري المتأخرين فقال بعد ذكر جملة
__________________
من تلك الاخبار والاستدلال بها على جواز العمل بالخبر الضعيف ـ ما صورته : «قد
اعتمد هذا الاستدلال الشهيد الثاني وجماعة من المعاصرين ، وعندي فيه نظر إذ
الأحاديث المذكورة انما تضمنت ترتب الثواب على العمل وذلك لا يقتضي طلب الشارع له
لا وجوبا ولا استحبابا ، ولو اقتضى ذلك لاستندوا في وجوب ما تضمن الحديث الضعيف
وجوبه الى هذه الاخبار كاستنادهم إليها في استحباب ما تضمن الخبر الضعيف استحبابه
، وإذا كان الحال كذلك فلقائل أن يقول لا بد من شرعية ذلك العمل وخيريته بطريق
صحيح ودليل مسلم صريح جمعا بين هذه الاخبار وبين ما دل على اشتراط العدالة في
الراوي ، وأيضا الآية الدالة على رد خبر الفاسق وهي قوله تعالى : «... إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...» أخص من هذه الاخبار إذ الآية مقتضية لرد خبر الفاسق
سواء كان مما يتعلق بالسنن أو غيره وهذه الاخبار تقتضي ترتب الثواب على العمل
الوارد بطريق عن المعصوم (عليهالسلام) سواء كان المخبر عدلا أو غير عدل طابق الواقع أم لا ،
ولا ريب ان الأول أخص من الثاني فيجب تخصيص هذه الاخبار بالآية جريا على القاعدة
من العمل بالخاص في مورده وبالعام فيما عدا مورد الخاص ، فيجب العمل بمقتضى الآية
وهو رد خبر الفاسق سواء كان على عمل يتضمن الثواب أو غيره ويكون معنى قوله (عليهالسلام) : «وان لم يكن كما بلغه»
ونحوه إشارة
الى ان خبر العدل قد يكذب إذ الكذب والخطأ جائزان على غير المعصوم والخبر الصحيح
ليس بمعلوم الصدق. انتهى كلامه. وأورد عليه بعض مشايخنا المعاصرين حيث أورد أولا
جملة الأخبار الدالة على ان من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله كان له ذلك وان لم
يكن كما بلغه ، ثم أورد اعتراض هذا الفاضل ثم قال : وأنت خبير بما فيه (اما الأول)
ـ فقد ظهر بما حررناه ضعفه ، على ان الحكم بترتب الثواب على عمل يساوق رجحانه جزما
إذ لا ثواب على
__________________
غير الواجب والمستحب كما لا يخفى. (واما الثاني) فمرجعه بعد التحرير الى ان
الثواب كما يكون للمستحب كذلك يكون للواجب فلم خصوا الحكم بالمستحب؟ كذا قرر
السؤال بعض مشايخنا المعاصرين. وجوابه ان غرضهم (قدس الله أرواحهم) ان تلك
الأحاديث انما تثبت ترتب الثواب على فعل ورد فيه خبر يدل على ترتب الثواب لا انه
يعاقب على تركه وان صرح به في الخبر الضعيف ، لقصوره في حد ذاته عن إثبات ذلك
الحكم وتلك الأحاديث لا تدل عليه ، فالحكم الثابت لنا من هذا الخبر بانضمام تلك
الاخبار ليس إلا الحكم الاستحبابي. أقول : قد يقال ان اللازم مما حررناه كون الحكم
الثابت بانضمام تلك الاخبار هو مطلق الرجحان الشامل للوجوب والندب لا الحكم
الاستحبابي بخصوصه. إذ كما ان قيد العقاب على تركه مما لا تدل عليه تلك الاخبار
فكذلك جواز تركه لا الى بدل لا تدل عليه ايضا ولا سيما مع تصريح الخبر الضعيف بضده
اعني العقاب على تركه ، نعم قد يخص الحكم الاستحبابي باعتبار ضميمة أصالة عدم
الوجوب وأصالة براءة الذمة منه ، فتأمل. ولو لم يحرر السؤال الثاني على الوجه الذي
قررناه كان بطلانه أظهر وفساده أبين كما لا يخفى. و (اما السؤال الثالث) ـ ففيه (أولا)
ـ ان التحقيق ان بين تلك الروايات وبين ما دل على عدم العمل بقول الفاسق من الآية
المذكورة ونحوها عموما من وجه ، فلو قرر السؤال ـ على حد ما حرره بعض المحققين ـ هكذا
: لما كان بينهما عموم من وجه كما أشرنا إليه فلا ترجيح لتخصيص الثاني بالأول بل
ربما رجح العكس لقطعية سنده وتأيده بالأصل إذ الأصل عدم التكليف وبراءة الذمة ،
كان أقرب الى الاعتبار والاتجاه ، مع ما فيه من النظر والكلام إذ يمكن ان يقال ان
الآية الكريمة انما تدل على عدم العمل بقول الفاسق بدون التثبت ، والعمل به فيما
نحن فيه بعد ورود الروايات المعتبرة المستفيضة ليس عملا بلا تثبت كما ظنه السائل
فلم تتخصص الآية الكريمة بالأخبار بل بسبب ورودها خرجت تلك الأخبار الضعيفة عن
عنوان الحكم المثبت في الآية الكريمة ، فتأمل. انتهى كلامه.
أقول : لا يخفى
ما في جواب شيخنا المشار اليه من التكلف والشطط والخروج عن حاق كلام ذلك الفاضل
الموجب للوقوع في مهاوي الغلط ، وعندي ان جميع ما أطال به هو ومن أشار اليه انما
هو تطويل بغير طائل وخروج عن صريح مقتضى كلام ذلك الفاضل ، وذلك فان ذلك الفاضل
ادعى ان غاية ما تضمنته تلك الاخبار هو ترتب الثواب على العمل ومجرد هذا لا يستلزم
أمر الشارع وطلبه لذلك العمل ، فلا بد ان يكون هناك دليل أخر على طلب الفعل والأمر
به ليترتب عليه الثواب بهذه الاخبار وان لم يكن موافقا للواقع ونفس الأمر ، وهذا
الكلام جيد وجيه لا مجال لإنكاره ، وحينئذ فقول المجيب ـ ان ترتب الثواب على عمل
يساوق رجحانه. إلخ ـ كلام شعري لا معنى له عند التأمل الصادق ، فان العبادات
توقيفية من الشارع واجبة كانت أو مستحبة فلا بد لها من دليل صريح ونص صحيح يدل على
مشروعيتها ، وهذه الاخبار لا دلالة فيها على الثبوت والأمر بذلك وانما غايتها ما
ذكرناه. واما قول ذلك الفاضل : ولو اقتضي ذلك لاستندوا. إلخ فمعناه ـ كما هو ظاهر
سياق كلامه ـ انه لو اقتضى ترتب الثواب في هذه الاخبار طلب الشارع لذلك الفعل
وجوبا أو استحبابا لكان الواجب عليهم الاستناد الى هذه الاخبار في وجوب ما تضمن
الخبر الضعيف وجوبه كما جروا عليه بالنسبة الى ما تضمن الخبر الضعيف استحبابه مع
انهم لم يجروا هذا الكلام في الواجب. وحاصل الكلام الإلزام لهم بأنه لا يخلو اما
ان يقولوا ان ترتب الثواب في هذه الاخبار يقتضي الطلب والأمر بالفعل أم لا ، فعلى
الأول يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما التزموه في جانب الاستحباب مع انهم لا
يلتزمونه ، وعلى الثاني فلا بد من دليل آخر يقتضي ذلك ويدل عليه ، والى هذا أشار
تفريعا على هذا الكلام بقوله : فلقائل أن يقول. إلخ ، وبذلك يتبين لك ما في تطويل
شيخنا المشار اليه ومن نقل عنه واعتمد عليه من الخروج عن كلام هذا الفاضل الى مقام
آخر لا تعلق له بما ذكره وهو تطويل بغير طائل. واما دعوى ذلك الفاضل ان الآية أخص
مطلقا فصحيح لا ان بينها وبين تلك الأخبار عموما من وجه ، فان
الأخبار دلت على ترتب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم (عليهالسلام) سواء كان المخبر عدلا أم لا طابق خبره الواقع أم لا من
الواجبات كان أم من المستحبات ومورد الآية رد خبر الفاسق تعلق بالسنن أو بغيرها ،
ولا ريب ان هذا العموم أخص من ذلك العموم مطلقا لا من وجه ، ومن العجب قول المجيب
بناء على زعمه العموم والخصوص من وجه وتقريبه السؤال بما ذكره : «وحينئذ فالجواب
ان يقال ان الآية الكريمة انما تدل. إلخ» فإن فيه خروجا عن كلام ذلك الفاضل لان
هذه الاخبار لا تدل عنده على مشروعية العمل وانما تدل على مجرد ترتب الثواب بعد
ثبوت المشروعية بدليل آخر ، فكيف يحصل التثبت بها في العمل وهل هذا إلا أول
المسألة ومحل النزاع؟
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الظاهر ان الكلام في هذه المسألة سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما انما ابتنى
على هذا الاصطلاح المحدث الذي جعلوا فيه بعض الاخبار ـ وان كانت مروية في الأصول
المعتمدة المعتضدة بالقرائن المتعددة ـ ضعيفة ورموا بها من البين ، وصاروا مع
الحاجة إليها لضيق الخناق في هذا الاصطلاح يتسترون تارة بأنها مجبورة بالشهرة
وتارة بما ذكروه في هذه المسألة من ان العمل في الحقيقة انما هو بهذه الاخبار
وأمثال ذلك مما أوضحناه ، وإلا فمتى قلنا بصحة الأخبار المروية في أصولنا المعتبرة
وانها معتبرة معتمدة في ثبوت الأحكام كما عليه متقدمو علمائنا الاعلام وجم غفير من
متأخريهم فإنه لا مجال لهذا البحث بالكلية ، إذ العامل انما عمل على ذلك الخبر
لكونه معتبرا معتمدا ، وهذا هو الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فإن
الاستحباب والكراهة أحكام شرعية كالوجوب والتحريم لا تثبت إلا بالدليل الواضح
والمنار اللائح ، ومتى كان الحديث الضعيف ليس بدليل شرعي كما زعموه فلا يثبت به
الاستحباب لا في محل النزاع ولا غيره ، والتستر بان ثبوت الاستحباب انما حصل
بانضمام هذه الأخبار كما ادعوه يؤدي الى ثبوت الاستحباب بمجرد رؤية حديث يدل على
ترتب الثواب على عمل ولو في ظهر كتاب أو في ورقة ملقاة أو بخبر عامي لصدق البلوغ
بكل
من هذه الأمور كما دلت عليه تلك الأخبار ، والتزام ذلك لا يخلو من مجازفة.
هذا. وقد نقل بعض مشايخنا عن بعض الأصحاب نظم اخبار المخالفين في هذا السلك فجوز
الرجوع إليها في المندوبات ، ثم قال (قدسسره) : «ولا ريب ان الأخبار المذكورة تشملهم إلا انه قد ورد
النهي في كثير من الاخبار عن الرجوع إليهم والعمل بأخبارهم ، وحينئذ فيشكل الحكم
بالرجوع إليها لا سيما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة مخترعة وصورة مبتدعة لم
يعهد مثلها في الأخبار» انتهى. وهو مؤيد لما ذكرناه. وبالجملة فالقدر المعلوم
المقطوع به من هذه الأخبار هو مجرد ترتب الثواب على عمل قد ثبت مشروعيته ووردت
النصوص به سواء كان الخبر الوارد به مطابقا للواقع أم لا. والله سبحانه أعلم
بحقائق أحكامه.
ومنها ـ الغسل
عند صلاة الحاجة وصلاة الاستخارة ، قيل وليس المراد أي صلاة أوقعها المكلف لأحد
هذين الأمرين بل المراد بذلك صلاة مخصوصة ورد النص باستحباب الغسل قبلها أو بعدها
وهي مذكورة في مظانها.
والذي وقفت
عليه من الاخبار بذلك ما رواه في الكافي عن عبد الرحيم القصير قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) فقلت جعلت فداك اني اخترعت دعاء ، فقال دعني من
اختراعك إذا نزل بك أمر فافزع الى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وصل ركعتين تهديهما الى رسول الله. قلت كيف اصنع؟ قال
تغتسل وتصلي ركعتين ، ثم ساق الخبر مشتملا على كيفية العمل الى ان قال : قال أبو
عبد الله (عليهالسلام) فانا الضامن على الله تعالى ان لا يبرح حتى تقضى حاجته».
وعن مقاتل بن مقاتل قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) جعلت فداك علمني دعاء لقضاء الحوائج ، فقال إذا كانت
لك حاجة الى الله تعالى مهمة فاغتسل والبس أنظف ثيابك وشم شيئا من الطيب ثم ابرز
تحت السماء فصل ركعتين. الحديث». وروى الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «في الأمر يطلبه الطالب من ربه؟ قال تصدق
__________________
في يومك على ستين مسكينا على كل مسكين صاع بصاع النبي (صلىاللهعليهوآله) فإذا كان الليل اغتسلت في الثلث الباقي ولبست ادنى ما
يلبس من تعول من الثياب ، الى ان قال ثم إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استخرت الله
تعالى مائة مرة تقول اللهم إني أستخيرك ، ثم تدعو الله تعالى بما شئت. الحديث». وروى
الصدوق في الفقيه عن مرازم عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا فدحك أمر عظيم فتصدق في نهارك على ستين
مسكينا على كل مسكين نصف صاع بصاع النبي (صلىاللهعليهوآله) من تمر أو بر أو شعير فإذا كان الليل اغتسلت في ثلث
الليل الأخير ثم لبست ادنى ما يلبس من تعول من الثياب إلا ان عليك في تلك الثياب
إزار ثم تصلي ركعتين ، الى ان قال فإذا وضعت جبينك في السجدة الثانية استخرت الله
مائة مرة تقول : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، ثم تدعو الله تعالى بما شئت. الحديث». وما
رواه في الكافي عن جميل بن دراج قال : «كنت عند ابي عبد الله (عليهالسلام) فدخلت عليه امرأة وذكرت انها تركت ابنها وقد قالت
بالملحفة على وجهه ميتا ، فقال لها لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك فاغتسلي
وصلي ركعتين وادعي وقولي : يا من وهبه لي ولم يك شيئا جدد هبته لي ، ثم حركيه ولا
تخبري بذلك أحدا. قال ففعلت فحركته فإذا هو قد بكى». وما رواه الصدوق في الفقيه
والشيخ في التهذيب عن صفوان بن يحيى ومحمد بن سهل عن أشياخهما عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا حضرت لك حاجة مهمة الى الله عزوجل فصم ثلاثة أيام متوالية الأربعاء والخميس والجمعة ،
فإذا كان يوم الجمعة ان شاء الله تعالى فاغتسل والبس ثوبا جديدا ثم اصعد إلى أعلى
بيت في دارك وصل ركعتين وارفع يديك الى السماء ثم قل. الحديث».
أقول :
المستفاد من الاخبار الكثيرة الواردة في صلاة الحوائج انهم (عليهم
__________________
السلام) ربما أمروا بالصلاة والدعاء خاصة وربما أمروا مع ذلك بالغسل في
أوقات مخصوصة وربما أمروا بالصوم ايضا ، والمفهوم من ذلك هو استحباب هذه الأشياء
لكل حاجة أراد المكلف طلبها الى الله عزوجل. وتتفاوت هذه الأعمال قلة وكثرة بتفاوت الحوائج
بضروريتها وعدمها وشدة الحاجة إليها وعدمها فما ذكره بعضهم ـ من اختصاص الاغتسال
بصلاة مخصوصة كما تقدمت الإشارة إليه ـ الظاهر انه لا وجه له ، ويؤيد ما ذكرناه قوله
(عليهالسلام) في عبارة كتاب الفقه المتقدمة : «وغسل طلب الحوائج من الله تعالى». واما ما ورد
بالنسبة إلى صلاة الاستخارة فما تقدم في موثقة سماعة من قوله (عليهالسلام) : «وغسل الاستخارة مستحب». وجملة من الأصحاب قد
استدلوا على استحباب الغسل لصلاة الاستخارة بصحيحة زرارة المتقدمة لقوله في آخرها
: «ثم إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استخرت الله تعالى مائة مرة». ونحوها رواية
مرازم. وأنت خبير بان سياق الروايتين المذكورتين انما هو في طلب الحاجة والصلاة
انما هي لها. والمراد بالاستخارة في آخر الروايتين المذكورتين انما هو طلب ان يجعل
الله تعالى له الخيرة في هذا الأمر الذي يطلبه وان يختاره له فإنه أحد معاني
الاستخارة لا بمعنى المشاورة كما هو المتبادر من لفظ الاستخارة ، وظاهر كلامهم ان
الغسل لصلاة الاستخارة وظاهر موثقة سماعة ان الغسل للاستخارة وان كانت بغير صلاة
والمتبادر من الاستخارة انما هو معنى المشاورة ، ولكن لم أقف في اخبار الاستخارة
على ما يدل على وجوب الغسل في شيء من إفرادها ، وحينئذ فيمكن ان يقال باستحباب
الغسل للاستخارة مطلقا بهذا الخبر أو يخص بصلاة الاستخارة كما هو المشهور فيقال
باستحباب الغسل للصلاة المروية في الاستخارة بهذا الخبر ، وكيف كان فالظاهر ان
الاستدلال لذلك بصحيحة زرارة المشار إليها ونحوها رواية مرازم ليس في محله لما
عرفت.
ومنها ـ غسل
يوم الغدير ، قال في التهذيب : «والغسل في هذا اليوم مستحب
__________________
مندوب اليه وعليه إجماع الفرقة» أقول : ويدل عليه قوله (عليهالسلام) في عبارة كتاب الفقه المتقدمة : «وغسل يوم غدير خم». وما نقله ابن طاوس في الإقبال
قال من كتاب محمد بن علي الطرازي قال روينا بإسنادنا الى عبد الله بن جعفر الحميري
عن هارون بن مسلم عن ابي الحسن المثنى عن الصادق (عليهالسلام) في حديث طويل ذكر فيه فضل يوم الغدير ، الى ان قال : «فإذا
كان صبيحة ذلك اليوم وجب الغسل في صدر نهاره. الحديث». وما رواه الشيخ عن علي بن
الحسين العبدي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا ، الى ان
قال ومن صلى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس من قبل ان تزول مقدار نصف ساعة.
الحديث».
ومنها ـ غسل
ليلة النصف من شعبان ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «صوموا شعبان واغتسلوا ليلة النصف منه. الحديث». وما
رواه في المصباح عن سالم مولى أبي حذيفة عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : «من تطهر ليلة النصف من شعبان فأحسن الطهر ، وساق
الحديث الى قوله : قضى الله تعالى له ثلاث حوائج. ثم ان سأل الله ان يراني في
ليلته رآني». أقول : الظاهر ان هذا الخبر من طريق الجمهور ذكره الشيخ هنا تأكيدا.
ومنها ـ غسل
ليلة النصف من رجب ويوم المبعث وهو اليوم السابع والعشرون منه ، وقد ذكرهما الشيخ
في المصباح والجمل والمبسوط ، وقال الشهيد في الذكرى انه لم يصل إلينا خبر فيهما.
وقال المحقق في المعتبر : ربما كان لشرف الوقتين والغسل مستحب
__________________
مطلقا ولا بأس بالمتابعة فيه. أقول : ما ذكره في المعتبر محل تأمل فإن
استحباب الغسل مطلقا لا دليل عليه بل هو عبادة موقوفة على التشريع وورود الأمر بها
من الشارع ، والعجب منه في قوله : «ولا بأس بالمتابعة فيه» مع خروجه عما عليه
الأصحاب في جملة من المواضع التي قامت فيها الأدلة على ما ذهبوا اليه بزعم انها
ضعيفة السند فكيف يوافقهم هنا من غير دليل؟ أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار مما
يتعلق بهذا المقام ما في الإقبال قال وجدت في كتب العبادات عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «من أدركه شهر رجب فاغتسل في اوله ووسطه
وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه».
ومنها ـ الغسل
لقضاء صلاة الكسوف مع تركها عمدا واحتراق القرص ، صرح به الشيخ وابن إدريس وابن
البراج وأكثر الأصحاب ، وذهب المرتضى في المسائل المصرية الثالثة وأبو الصلاح
وسلار الى وجوبه في الصورة المذكورة ، وعن الشيخ في النهاية القول بالوجوب ايضا ،
وعن المفيد والمرتضى في المصباح القول بالاستحباب والاقتصار على تركها متعمدا من
غير اشتراط لاستيعاب الاحتراق ، قال في المختلف : «وللشيخ قولان كالمذهبين ففي
النهاية والجمل والخلاف يجب القضاء مع الغسل وفي موضع من الخلاف انه مستحب ، ولم
يتعرض في المبسوط لوجوبه بل قال يقضيها مع الغسل وكذلك قال ابن بابويه ، ولم يتعرض
ابن ابي عقيل لهذا الغسل بوجوب ولا استحباب» انتهى. أقول : لا يخفى ان الشيخ في
المبسوط صرح بالاستحباب في ضمن تعداد الأغسال المستحبة قال : «وغسل قاضي صلاة
الكسوف إذا احترق القرص كله وتركها متعمدا» ولكن العلامة غفل عنه وقت التصنيف ولم
يراجعه ، هذا ما حضرني من الأقوال في المسألة.
واما الأخبار
المتعلقة بالمسألة المذكورة فقال في المدارك : «والذي وقفت عليه
__________________
من الاخبار في هذه المسألة روايتان ، روى إحداهما حريز عمن أخبره عن الصادق
(عليهالسلام) قال : «إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل ولم يصل فليغتسل
من غد وليقض الصلاة ، وان لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء
بغير غسل». والثانية رواها محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهماالسلام) وهي طويلة قال في آخرها : «وغسل الكسوف إذا احترق القرص
كله فاغتسل». وليس في هذه الرواية إشعار بكون الغسل للقضاء بل المستفاد من ظاهرها
ان الغسل للأداء ، والرواية الأولى قاصرة من حيث السند وخالية من قيد الاستيعاب
ولكن سيجيء ان شاء الله ان القضاء انما يثبت مع ذلك ، والأحوط الغسل للقضاء مع
تعمد الترك أخذا بظاهر الرواية المتقدمة وان ضعف سندها ، اما الغسل للأداء مع
استيعاب الاحتراق فلا ريب في استحبابه والاولى ان لا يترك بحال لصحة مستنده وتضمنه
الأمر بالغسل مع انتفاء ما يقتضي الحمل على الاستحباب» انتهى. وهو ظاهر في عدم
وقوفه على دليل يقتضي الدلالة على القول المشهور ، وقد تبعه في ذلك الفاضل
الخراساني في الذخيرة فأورد الروايتين المذكورتين لكنه لم يطعن في الأولى بضعف
السند بل زيف لها وجوها تجبر ضعفها واختار العمل بظاهرها إلا انه حمل الأمر فيها
على الاستحباب كما سيأتي ان شاء الله تعالى نقل كلامه في المقام ، واما الرواية
الثانية فإنه اعترف ايضا بما ذكره في المدارك من ان ظاهرها وجوب الغسل في الأداء
مع الاحتراق إلا انه عدل عنه ، قال : لانه غير معمول عليه بين الأصحاب فينبغي حمله
على الاستحباب. والمحقق الخوانساري في شرح الدروس قد نقل زيادة على الروايتين
المذكورتين ما رواه في الفقيه مرسلا عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) الغسل في سبعة عشر موضعا الى ان قال في آخرها : وغسل
الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل
__________________
فعليك ان تغتسل وتقضي الصلاة.». ثم أطال الكلام في المقام بما لا يخلو من
التردد وعدم الانسجام.
أقول : والذي
يظهر لي من النظر في روايات المسألة والتأمل فيها ان صحيحة محمد بن مسلم التي
قدمنا ذكرها في صدر المطلب برواية الشيخ في التهذيب هي بعينها ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا عن الباقر (عليهالسلام) من قوله : «الغسل في سبعة عشر موضعا. الى آخره». والصدوق
وان رواها في الفقيه مرسلة إلا انه رواها في الخصال مسندة عن أبيه عن علي بن
إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الغسل في سبعة عشر موضعا ، ثم ساق الخبر الى ان
قال : وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل فعليك ان تغتسل وتقضي
الصلاة». وهي ـ كما ترى ـ صحيحة صريحة في القول المشهور ولكنه في المدارك وكذا في
الذخيرة لما لم يقفا إلا على ذينك الخبرين المجملين توقفا فيما ذكراه ، ومن الظاهر
الذي لا يكاد يختلجه الشك ان هذه الرواية هي الرواية التي نقلها الشيخ في التهذيب
لكنه أسقط منها هذه العبارة سهوا وزاد عوضها قوله «فاغتسل» والرواية كما ذكرناه من
الزيادة موجودة في كتب الصدوق : الفقيه والخصال والهداية ، والظاهر ان هذه الزيادة
سقطت من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته سيما في التهذيب وما وقع له
فيه من التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان في الأسانيد والمتون بحيث انه قلما
يخلو حديث من ذلك في متنه أو سنده كما هو ظاهر للممارس ، وبذلك يظهر ضعف الاستناد
الى روايته في المسألة وضعف ما استنبطه في المدارك منها بناء على نقله لها مع صحة
سندها من الغسل للأداء.
بقي الكلام في
مرسلة حريز من حيث انها مطلقة في الكسوف من غير تقييد بالاحتراق ، ولكن الظاهر
تقييدها بصحيحة محمد بن مسلم التي ذكرناها واعتمدناها وبه
__________________
تجتمع الأخبار في الدلالة على القول المشهور. ومما يؤيد ما ذكرناه من حمل
الرواية المذكورة على الاحتراق قوله (عليهالسلام) في آخرها : «وان لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر
فليس عليه إلا القضاء بغير غسل». فإنه لو حمل على ظاهره للزم منه وجوب القضاء في
صورة عدم العلم مطلقا احترق أو لم يحترق مع ان الأخبار وكلام الأصحاب على تخصيص
ذلك بصورة الاحتراق واما مع عدم الاحتراق فلا قضاء. واما ما ذكره الفاضل الخراساني
في الذخيرة ـ حيث قال يعد ذكر مرسلة حريز : «فان قلت : ظاهر هذه الرواية وهو
القضاء في صورة عدم العلم مطلقا غير معمول عليه بين أكثر الأصحاب وتنفيه الأخبار
المعتمدة الآتية في محله فينبغي ان يخص بصورة احتراق الجميع ، قلت : الذي يستفاد
من الروايات عدم وجوب القضاء إلا في الصورة المذكورة لا عدم الاستحباب ، نعم لو
ثبت الإجماع على عدم الاستحباب تعين المصير الى تخصيص الخبر بصورة احتراق الجميع
لكن الإجماع غير ثابت ولا ادعاه أحد» انتهى ـ ففيه ان الاستحباب ايضا حكم شرعي
يتوقف على الدليل والحال انه لم يقل به هنا أحد ولم يدل عليه دليل ، فحمل الرواية
عليه مع إمكان حملها وتقييدها بصورة الاحتراق ـ كما هو القاعدة المطردة من حمل
المطلق على المقيد ـ ترجيح من غير مرجح بل الترجيح في جانب ما ذكرناه لما عرفت.
إلا انه يبقى
الكلام في ان ظاهر الاخبار المذكورة هو الوجوب كما هو قول جماعة من فضلاء الأصحاب على
ما قدمناه ولا اعرف عنه صارفا إلا مجرد مناقشات لا يخفى وهنا على المصنف ، قال في
المختلف بعد نقل الخلاف في المسألة : «والحق الاستحباب ، لنا ـ الأصل براءة الذمة وقوله
(عليهالسلام) : «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته». وكما لا يجب في
الأداء الغسل بل هو مستحب فكذلك القضاء ، ولحديث سعد عن الصادق (عليهالسلام) وقد تقدم» انتهى. أقول : اما ما ذكره من الأصل فإنه
يجب الخروج عنه بالدليل وهو واضح فيما ذكرناه من الاخبار لقوله (عليهالسلام) في مرسلة
__________________
حريز «فليغتسل». وهو أمر والأصل فيه الوجوب ، وقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم التي في كتب الصدوق «فعليك ان
تغتسل». وظهوره في الوجوب لا ينكر ، وقوله (عليهالسلام) فيها برواية الشيخ «فاغتسل» والأمر فيه كما في الأول
واما ما ذكره من حديث «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» فإنما هو بمعنى الكيفية
التي عليها الصلاة مما هو داخل في حقيقتها لا باعتبار ما كان خارجا عنها ، واما
حديث سعد المشار اليه ـ وهو ما قدمه من حديث سعد بن ابي خلف عن الصادق (عليهالسلام) «ان الأغسال أربعة عشر واحد فريضة والباقي سنة». ـ ففيه ان لفظ السنة لا
ظهور له في الاستحباب لاستعماله فيما وجب بالسنة كما لا يخفى على من له أنس
بالاخبار ، على انه متى أريد به هنا الاستحباب فلا بد من تقييده البتة لظهور وجوب
جملة من الأغسال اتفاقا ، والحق ان المراد بالسنة ما هو أعم من المعنيين المذكورين
وان منع استعماله كذلك أصحاب الأصول لتصريحهم بعدم جواز استعمال اللفظ في معنييه
اشتراكا أو حقيقة ومجازا الا ان ما منعوه موجود في الاخبار كثيرا كهذا الموضع
وغيره. واما ما تمسك به الفاضل الخراساني في الذخيرة من عدم دلالة الأمر في
أخبارنا على الوجوب فقد عرفت فساده فيما تقدم.
واما ما ذكره
جملة من الأصحاب في هذا المقام ـ من ان ظاهر اخبار المسألة الاختصاص بالقمر حتى
لجأ بعضهم في الاستدلال على الشمس الى عدم القائل بالفصل فينسحب الحكم فيها ـ ففيه
ان ذلك وان لم يذكر في هذه الأخبار المشهورة لكنه مذكور في الفقه الرضوي الذي قد
عرفت وستعرف انه معتمد المتقدمين حيث قال (عليهالسلام) : «وان انكشفت الشمس أو القمر ولم تعلم به فعليك ان
تصليها إذا علمت ، فان تركتها متعمدا حتى تصبح فاغتسل وصل وان لم يحترق القرص
فاقضها
__________________
ولا تغتسل». وسيأتي مزيد كلام في هذه العبارة ان شاء الله تعالى في كتاب
الصلاة. والله العالم.
ومنها ـ الغسل
لأخذ التربة ، روى ذلك في البحار عن مؤلف كتاب المزار الكبير بإسناده عن جابر الجعفي قال
: «دخلت على مولانا ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهالسلام) فشكوت اليه علتين متضادتين إذا داويت إحداهما انتقضت
الأخرى وكان بي وجع الظهر ووجع الجوف فقال لي عليك بتربة الحسين بن علي (عليهماالسلام) فقلت كثيرا ما استعملها ولا تنجع في؟ قال جابر فتبينت
في وجه سيدي ومولاي الغضب فقلت يا مولاي أعوذ بالله من سخطك ، فقام فدخل الدار وهو
مغضب فاتى بوزن حبة في كفه فناولني إياها ثم قال لي استعمل هذه يا جابر فاستعملتها
فعوفيت لوقتي ، فقلت يا مولاي ما هذه التي استعملتها فعوفيت لوقتي؟ قال هذه التي
ذكرت انها لم تنجع فيك شيئا. فقلت والله يا مولاي ما كذبت فيها ولكن قلت لعل عندك
علما فأتعلمه منك يكون أحب الي مما طلعت عليه الشمس ، فقال لي إذا أردت أن تأخذ من
التربة فتعمد لها آخر الليل واغتسل لها بماء القراح والبس أطهر أطهارك وتطيب بسعد
وادخل فقف عند الرأس فصل اربع ركعات تقرأ ، ثم ساق الخبر في بيان الصلاة وكيفيتها
والاذن في أخذ التربة الى ان قال : وتأخذ بثلاث أصابع ثلاث مرات وتدعها في خرقة
نظيفة أو قارورة من زجاج وتختمها بخاتم عقيق عليه «(ما شاءَ اللهُ لا
قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ) استغفر الله» فإذا علم الله تعالى منك صدق النية لم
يصعد معك في الثلاث قبضات إلا سبعة مثاقيل وترفعها لكل علة فإنها تكون مثل ما رأيت».
ومنها ـ الغسل
يوم النيروز لما رواه الشيخ في المصباح عن المعلى بن خنيس عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كان يوم النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك.
الحديث».
__________________
تتمة
قال الفاضل ابن
فهد في المهذب : «تنبيه : يوم النيروز يوم جليل القدر وتعيينه من السنة غامض مع ان
معرفته أمر مهم من حيث انه تتعلق به عبادة مطلوبة للشارع والامتثال موقوف على
معرفته ، ولم يتعرض لتفسيره أحد من علمائنا سوى ما قاله الفاضل محمد ابن إدريس ،
وحكايته : والذي حققه بعض محصلي أهل الحساب وعلماء الهيئة وأهل هذه الصنعة في كتاب
له ان يوم النيروز يوم العاشر من أيار. وقال الشهيد وفسر بأول سنة الفرس أو حلول
الشمس برج الحمل أو عاشر أيار. فالثالث إشارة إلى قول ابن إدريس والأول إشارة الى
ما هو مشهور عند فقهاء العجم في بلدهم فإنهم يجعلونه عند نزول الشمس الجدي وهو
قريب مما قاله صاحب الأنواء ، وحكايته : اليوم السابع عشر من كانون الأول هو صوم
اليهود وفيه ترجع الشمس مصعدة الى الشمال ويأخذ النهار من الليل ثلاث عشرة ساعة وهو
مقدار ما يأخذ في كل يوم وتنزل الشمس برج الجدي قبله بيومين ، وبعض العلماء جعله
رأس السنة وهو النيروز ، فجعله حكاية عن بعض العلماء وقال بعد ذلك : اليوم التاسع
من شباط وهو يوم النيروز ويستحب فيه الغسل وصلاة أربع ركعات لما رواه المعلى بن
خنيس عن الصادق (عليهالسلام) ثم ذكر الخبر فاختار التفسير الأخير وجزم به. والأقرب
من هذه التفاسير انه نزول الشمس برج الحمل لوجوه : (الأول) ـ انه اعرف بين الناس
وأظهر في استعمالهم ، وانصراف الخطاب المطلق الشامل لكل مكلف الى معلوم في العرف
وظاهر في الاستعمال اولى من انصرافه الى ما كان على الضد من ذلك ، ولانه المعلوم
من عادة الشرع وحكمته ، ألا ترى كيف علق أوقات الصلوات بسير الشمس الظاهر وصوم
رمضان برؤية الهلال وكذا أشهر الحج؟ وهي أمور ظاهرة يعرفها عامة الناس بل
الحيوانات. فان قلت : استعماله في نزول الشمس برج الحمل غير ظاهر الاستعمال في
بلاد العجم حتى انهم لا يعرفونه
وينكرونه على معتقده فلم خصصت ترجيح العرف الظاهر في بعض البلاد دون بعض؟
وأيضا فإن ما ذكرته حادث ويسمى النيروز السلطاني والأول أقدم حتى قيل انه منذ زمان
نوح (عليهالسلام) ، فالجواب عن الأول ان العرف إذا تعدد انصرف الى العرف
الشرعي فان لم يكن فإلى أقرب البلاد واللغات الى الشرع فينصرف إلى لغة العرب
وبلادها لأنها أقرب الى الشرع ، وعن الثاني بأن التفسيرين معا متقدمان على الإسلام
(الثاني) ـ انه مناسب لما ذكره صاحب الأنواء من ان الشمس خلقت في الشرطين وهما أول
الحمل ، فيناسب ذلك إعظام هذا اليوم الذي عادت فيه الى مبدإ كونها (الثالث) ـ انه
مناسب لما ذكره السيد رضي الدين بن طاوس (قدسسره) ان ابتداء العالم وخلق الدنيا كان في شهر نيسان ولا شك
ان نيسان يدخل والشمس في الحمل ، وإذا كان ابتداء العالم في هذا اليوم يناسب ان
يكون يوم عيد وسرور ، ولهذا ورد استحباب التطيب فيه بأطيب الطيب ولبس أنظف الثياب
ومقابلته بالدعاء والشكر والتأهب لذلك بالغسل وتكميله بالصوم والصلاة المرسومة له
حيث كان فيه ابتداء النعمة الكبرى وهي الإخراج من حيز العدم الى الوجود ثم تعريض
الخلق لثوابه الدائم ولهذا أمرنا بتعظيم يوم المبعث والغدير حيث كان فيهما ابتداء
منصب النبوة والإمامة وكذا المولدين. (فان قلت) : نسبته الى الفرس تؤيد الأول
فإنهم واضعوه والثاني وضعه قوم مخصوصون ولم يوافقهم الباقون (قلنا) : يكفي في
نسبته إليهم ان يقول به طائفة منهم وان قصروا في العدد عمن لم يقل به ، ألا ترى
الى قوله تعالى : «وَقالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ...» وليس القائل بذلك كل اليهود ولا كل النصارى ، ومثل قوله
: «وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...» وليس الإشارة الى أهل الكتاب بأجمعهم بل الى عبد الله
بن سلام وأصحابه (زيادة) ـ ومما ورد في فضله ويعضد ما قلناه ما حدثني المولى السيد
المرتضى
__________________
العلامة بهاء الدين علي بن عبد الحميد النسابة دامت فضائله رواه بإسناده
إلى المعلى بن خنيس عن الصادق (عليهالسلام) «ان يوم النيروز هو اليوم الذي أخذ فيه النبي (صلىاللهعليهوآله) لأمير المؤمنين (عليهالسلام) العهد بغدير خم فأقروا له بالولاية فطوبى لمن ثبت
عليها والويل لمن نكثها ، وهو اليوم الذي وجه فيه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عليا (عليهالسلام) الى وادي الجن فأخذ عليهم العهود والمواثيق ، وهو
اليوم الذي ظفر فيه بأهل النهروان وقتل ذا الثدية ، وهو اليوم الذي يظهر فيه
قائمنا أهل البيت وولاة الأمر ويظفره الله تعالى بالدجال فيصلبه على كناسة الكوفة
، وما من يوم نيروز إلا ونحن نتوقع فيه الفرج لانه من أيامنا حفظه الفرس وضيعتموه
، ثم ان نبيا من أنبياء بني إسرائيل سأل ربه ان يحيى القوم «الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» فأماتهم الله تعالى فأوحى الله تعالى اليه ان صب عليهم
الماء في مضاجعهم فصب عليهم الماء في هذا اليوم فعاشوا وهم ثلاثون ألفا فصار صب
الماء في يوم النيروز سنة ماضية لا يعرف سببها إلا الراسخون في العلم ، وهو أول
يوم من سنة الفرس ، قال المعلى : واملى علي ذلك فكتبته من إملائه». وعن المعلى
ايضا قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) في صبيحة يوم النيروز فقال يا معلى أتعرف هذا اليوم؟ قال
: قلت لا ولكنه يوم تعظمه العجم وتتبارك فيه ، قال كلا والبيت العتيق الذي ببطن
مكة ما هذا اليوم إلا لأمر قديم أفسره لك حتى تعلمه. قلت تعلمي هذا من عندك أحب
الى من ان تعيش أترابي ويهلك الله عدوكم ، قال يا معلى يوم النيروز هو اليوم الذي
أخذ الله تعالى فيه ميثاق العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وان يدينوا برسله
وحججه وأوليائه ، وهو أول يوم طلعت فيه الشمس وهبت فيه الرياح اللواقح وخلقت فيه
زهرة الأرض ، وهو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح (عليهالسلام) على الجودي
__________________
وهو اليوم الذي أحيا الله تعالى فيه القوم «الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ» وهو اليوم الذي هبط فيه جبرئيل (عليهالسلام) على النبي (صلىاللهعليهوآله) وهو اليوم الذي كسر فيه إبراهيم (عليهالسلام) أصنام قومه ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أمير المؤمنين (عليهالسلام) على منكبه حتى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام
وهشمها. الخبر بطوله». والشاهد في هذين الحديثين من وجوه : (الأول) ـ قوله (عليهالسلام) «هو اليوم الذي أخذ الله تعالى فيه العهد بغدير خم» وهذا
تأريخ وكان ذلك سنة عشر من الهجرة وحسب فوافق نزول الشمس الحمل في التاسع عشر من
ذي الحجة على حساب التقويم ولم يكن الهلال رؤي في مكة ليلة الثلاثين فكان الثامن
عشر على الرؤية (الثاني) ـ كون صب الماء في ذلك اليوم سنة شائعة ، والظاهر ان مثل
هذه السنة العامة الشاملة لعامة المكلفين انما يكون صب الماء في وقت لا ينفر منه
الطبع ويأباه ولا يتصور ذلك مع كون الشمس في الجدي لأنه في غاية القر في غالب
البلاد الإسلامية (الثالث) ـ قوله (عليهالسلام) في الحديث الثاني : «وهو أول يوم طلعت فيه الشمس» وهو
مناسب لما قيل ان الشمس خلقت في الشرطين (الرابع) ـ قوله : «وخلقت فيه زهرة الأرض»
وهذا انما يكون في الحمل دون الجدي وهو ظاهر» انتهى ما ذكره في المهذب.
ولا يخفى ما
فيه على الفطن النبيه فإن إثبات الأحكام الشرعية بأمثال هذه الوجوه التخريجية
الوهمية لا يخلو من مجازفة سيما مع ما فيها من الاختلال الذي لا يخفى على من خاض
بحار الاستدلال وليس في التعرض لنقضها كثير فائدة مع ظهور الحال فيما ذكرناه ولا
اعرف لذلك دليلا شرعيا ولا مستندا مرعيا غير مجرد اتفاق الناس على ذلك ، وقد أطال
شيخنا المجلسي في البحار في بيان ما في جملة هذه الأقوال من الاختلال واعترض
__________________
كلام المهذب ايضا بوجوه ليس هذا موضع ذكرها. والعلم عند الله سبحانه.
ومنها ـ غسل
الجمعة ، وقد اختلف فيه الأصحاب (رضوان الله عليهم) فالمشهور استحبابه ، وقال
الصدوق في الفقيه : غسل يوم الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر ، ثم
قال وغسل يوم الجمعة سنة واجبة. وقال في الكافي : باب وجوب الغسل يوم الجمعة ، ثم
أورد الأخبار المتضمنة للوجوب ، وبذلك نسب إليهما القول بالوجوب وفيه ما سيأتي
بيانه في المقام ان شاء الله تعالى ، والى هذا القول مال شيخنا البهائي في الحبل
المتين ونقل القول بالوجوب ايضا عن والد الصدوق ، والى هذا القول ذهب شيخنا الشيخ
سليمان بن عبد الله البحراني وأيده ونصره وصنف فيه رسالة.
ومنشأ هذا
الخلاف اختلاف الاخبار ظاهرا ، وها نحن نبدأ أولا بذكر أخبار المسألة كملا كما هي
قاعدتنا في الكتاب ثم نعطف الكلام ان شاء الله تعالى على تحقيق القول فيما يستفاد
منها وما تجتمع عليه بوجه لا يزاحمه الاشكال ولا يتطرق اليه ان شاء الله تعالى
الاختلال.
فمنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن محمد بن عبد الله بن المغيرة عن ابي الحسن الرضا
(عليهالسلام) قال : «سألته عن الغسل يوم الجمعة فقال واجب على كل ذكر
وأنثى من عبد أو حر». ورواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن
المغيرة عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) مثله وما رواه ثقة الإسلام عن منصور بن حازم في الصحيح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «الغسل يوم الجمعة على الرجال والنساء في الحضر
وعلى الرجال في السفر». ورواه في موضع آخر كذلك وزاد عليه «وليس على النساء في السفر». وقال : وفي رواية أخرى «ورخص للنساء في السفر لقلة الماء». وعن
زرارة في الصحيح عن الباقر (عليهالسلام)
__________________
في حديث قال : «الغسل واجب يوم الجمعة». ورواه الصدوق في الخصال في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الغسل في يوم الجمعة واجب. الى تمام الخبر». وروى الصدوق في
العلل في الصحيح عن محمد بن احمد بن يحيى رفعه قال : «غسل الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر
والحضر إلا انه رخص للنساء في السفر لقلة الماء». وما رواه الكليني عن حريز في
الحسن أو الصحيح عن بعض أصحابنا عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا بد من الغسل يوم الجمعة في السفر والحضر ومن
نسي فليعد من الغد» قال «وروي فيه رخصة للعليل». وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم
في الصحيح عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «اغتسل يوم الجمعة إلا ان تكون مريضا أو تخاف على
نفسك». وعن علي بن يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن النساء أعليهن غسل الجمعة؟ قال نعم». وما رواه
الشيخ والصدوق عن سماعة بن مهران في الموثق «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجمعة فقال واجب في السفر والحضر إلا انه رخص
للنساء في السفر لقلة الماء». وهذه الاخبار هي أدلة القول بالوجوب كما ينادي به
ظاهرها ، ومنها ـ ما رواه الشيخ عن علي بن يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الغسل في يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال سنة وليس
بفريضة». وعن زرارة في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن غسل يوم الجمعة؟ قال هو سنة في السفر
والحضر إلا ان يخاف المسافر على نفسه القر». وعن علي ـ والظاهر انه ابن
__________________
أبي حمزة ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل العيدين أواجب هو؟ قال هو سنة. قلت فالجمعة؟
قال هو سنة». وروى المفيد (رحمهالله) في المقنعة مرسلا قال : «روي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : غسل الجمعة والفطر سنة في السفر والحضر».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان من ذهب من أصحابنا إلى الوجوب أخذ بظاهر الأخبار الأولة وأجاب عن الاخبار
الأخيرة بحمل السنة فيها على ما ثبت وجوبه بالسنة ، قال شيخنا البهائي في الحبل
المتين حيث اختار هذا القول : «وأنت خبير بان الجمع بينها بحمل السنة على ما ثبت
وجوبه بالسنة والفريضة على ما ثبت وجوبه بالكتاب غير بعيد ، وهو اصطلاح الصدوق في
الفقيه كما يشعر به قوله : «الغسل كله سنة ما خلا غسل الجنابة» وهذا الذي اصطلح
عليه ليس من مخترعاته بل ورد في كثير من الاخبار عن أئمتنا (عليهمالسلام) كما رواه في التهذيب عن الرضا (عليهالسلام) بطرق عديدة «ان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة».
قال الشيخ يريد ان فرضه عرف من جهة السنة لأن القرآن لا يدل على فرض غسل الميت ، وكما
رواه عن سعد بن ابي خلف قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : الغسل في أربعة عشر موطنا واحد فريضة والباقي
سنة». قال العلامة في المختلف : المراد بالسنة ما ثبت من جهة السنة لا من طريق
القرآن. ولا حاصل ان إطلاق السنة على ذلك المعنى غير عزيز وحمل السنة عليه ليس
بأبعد من حمل الوجوب في قوله (عليهالسلام) : «الغسل واجب يوم الجمعة». وقوله (عليهالسلام) «انه واجب على كل ذكر وأنثى من عبد أو حر». على
المبالغة في الاستحباب ، ومنع كون الوجوب حقيقة شرعية في المعنى المصطلح عليه بين
الفقهاء يأتي مثله في السنة ، وبهذا يظهر ان قول الصدوقين غير بعيد عن الصواب»
انتهى. واما من ذهب الى القول
__________________
بالاستحباب كما هو المشهور عملا بظاهر الأخبار الأخيرة من حمل السنة على
معنى المستحب فإنه حمل الوجوب في الاخبار التي استند إليها الخصم على المعنى
اللغوي أو تأكد الاستحباب لعدم ثبوت كون الوجوب عندهم (عليهمالسلام) حقيقة في المعنى الاصطلاحي ، قال المحقق الشيخ حسن (قدسسره) في المنتقى ـ بعد ان نقل عن الشيخ حمل لفظ الوجوب في
الاخبار على تأكد الاستحباب ـ ما صورته : «وكثيرا ما يذكر الشيخ هذا الكلام في
تضاعيف ما يستعمل فيه هذا اللفظ وهو مطابق لمقتضى أصل الوضع وان كان المتبادر في
العرف الآن خلافه ، فان العرف المقدم على اللغة هو الموجود في زمن الخطاب باللفظ
ولا دليل على ان المعنى العرفي لهذا اللفظ كان متحققا في ذلك الوقت فيحمل على
المعنى اللغوي. ويبقى الكلام في الخبر المتضمن للأمر بالاغتسال يوم الجمعة ولو
قلنا بان الأمر في مثله يفيد الوجوب لاقتضت رعاية الجمع بينه وبين ما تضمن كون
الغسل سنة ان يحمل على الندب» انتهى.
أقول : لا يخفى
ان ما ذكره شيخنا البهائي في الحبل المتين من استعمال السنة فيما ثبت وجوبه بالسنة
أكثر كثير في الاخبار ، ومنه ـ زيادة على ما ذكره من الخبرين ـ ما ورد في صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «ان الله عزوجل فرض الركوع والسجود والقراءة سنة فمن ترك القراءة
متعمدا أعاد صلاته ومن نسي القراءة فقد تمت صلاته». ورواية الحسين بن النضر
الأرمني الواردة في اجتماع الميت مع الجنب في السفر وفيها قال : «يغتسل الجنب ويترك الميت لان هذا فريضة
وهذا سنة». ورواية التفليسي الواردة في ذلك ايضا حيث قال فيها «إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض». ومرسلة
محمد بن عيسى الواردة في ذلك ايضا وفيها «لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة». وكذا
ما ذكره المحقق المشار اليه من ان الوجوب
__________________
في عرفهم (عليهمالسلام) كما استفاضت به أخبارهم أعم من هذا المعنى الاصطلاحي
فإنه حق لا ريب فيه. وقد تقدم في الاخبار المذكورة في صدر المطلب عد جملة من تلك
الأغسال المتفق على استحبابها بلفظ الوجوب ، وبالجملة فإن المتدرب في الاخبار لا
يخفى عليه صحة الأمرين المذكورين. والحق الحقيق بالاتباع ـ كما حققناه في جملة من
المواضع ـ ان هذين اللفظين من الألفاظ المتشابهة في الاخبار ولا يجوز الحمل على
أحد المعنيين فيها إلا مع القرينة ، ومدعى دلالة لفظ الوجوب في أخبارهم (عليهمالسلام) على الوجوب بهذا المعنى الاصطلاحي وهكذا لفظ السنة
بمعنى المستحب خاصة مكابر مباهت ، وبذلك يظهر سقوط استدلال كل من هذين القائلين
بهذه الاخبار في البين بل الواجب على من يدعي الوجوب تحصيل دليل آخر غير هذه
الاخبار المتقدمة وكذا من يدعي الاستحباب تحصيل دليل آخر غير ما ذكر.
وأنت خبير بان
مع إلقاء هذين الدليلين من البين فإن الذي يظهر من الاخبار هو الاستحباب وذلك من
وجوه :
(الأول) ـ أصالة
البراءة من الوجوب حتى يقوم دليل يوجب الخروج عنها وليس فليس ، وهو أقوى دليل في
المقام إذ الاخبار الواردة التي استند إليها الخصم لا دلالة فيها على ما ادعاه ،
لما عرفت من ان الوجوب في كلامهم (عليهمالسلام) أعم من هذا المعنى المصطلح عليه وهو الذي لا يجوز تركه
فلا تنهض حجة في الخروج عن هذا الأصل.
(الثاني) ـ رواية
علي بن أبي حمزة المتقدمة فإنه لا مجال لحمل السنة فيها على ما ثبت وجوبه بالسنة
كما ادعاه الخصم ، لأن أصل السؤال تردد بين كونه واجبا أو سنة والسنة متى قوبلت
بالواجب تعين حملها على معنى المستحب وانما يحصل الشك فيما إذا قوبلت بالفرض أو
أطلقت ، وأصل السؤال وان كان عن غسل العيدين لكن قضية العطف إجراؤه في المعطوف
عليه ايضا.
(الثالث) ـ صحيحة
علي بن يقطين المتقدمة أيضا حيث عد غسل الجمعة فيها
في قرن غسل الضحى والفطر فأجاب (عليهالسلام) عن الجميع بأنه سنة ، ومن المتفق عليه عند الخصم ان
غسل العيدين مستحب فيكون غسل الجمعة أيضا كذلك والا لزم استعمال اللفظ في حقيقته
ومجازه أو المشترك في معنييه وهم لا يقولون به.
(الرابع) ـ ما
نقله شيخنا المجلسي في البحار عن كتاب جمال الأسبوع لابن طاوس في حديث رواه فيه
بسنده عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلىاللهعليهوآله) «انه قال لعلي (عليهالسلام) في وصيته يا علي على الناس في كل يوم من سبعة أيام
الغسل فاغتسل في كل جمعة ، ولو أنك تشترى الماء بقوت يومك وتطويه فإنه ليس شيء من
التطوع بأعظم منه». وهو صريح الدلالة كما ترى
(الخامس) ـ رواية
الحسين بن خالد الصيرفي قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) كيف صار غسل الجمعة واجبا؟ فقال ان الله تبارك وتعالى
أتم صلاة ، الفريضة بصلاة النافلة وأتم صيام الفريضة بصيام النافلة وأتم وضوء
الفريضة بغسل الجمعة ما كان في ذلك من سهو أو تقصير أو نسيان». والتقريب فيها ظاهر
من النظائر المذكورة ، وحينئذ فالوجوب في صدر الرواية مراد به المعنى اللغوي.
ويؤيد ذلك عده
في قرن المستحبات في جملة من الأخبار كقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة هشام بن الحكم : «ليتزين أحدكم يوم الجمعة يغتسل ويتطيب ويسرح لحيته
ويلبس أنظف ثيابه». وكقول الباقر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة «لا تدع الغسل يوم الجمعة فإنه سنة وشم الطيب والبس صالح ثيابك. الحديث». وقول
الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه «وعليكم بالسنن يوم الجمعة وهي سبعة : إتيان النساء وغسل الرأس واللحية
بالخطمي وأخذ الشارب وتقليم الأظافير وتغيير
__________________
الثياب ومس الطيب ، فمن أتى بواحدة من هذه السنن ثابت عنهن وهي الغسل ،
وأفضل أوقاته قبل الزوال ولا تدع في سفر ولا حضر ، وان كنت مسافرا وتخوفت عدم
الماء يوم الجمعة اغتسل يوم الخميس فان فاتك الغسل يوم الجمعة قضيت يوم السبت أو
بعده من أيام الجمعة ، وانما سن الغسل يوم الجمعة تتميما لما يلحق الطهور في سائر
الأيام من النقصان». انتهى كلامه. وفي قوله (عليهالسلام) : «وانما سن الغسل. إلخ» إشارة الى ما تضمنته رواية
الحسين بن خالد المذكورة. ويؤيده أيضا الرخصة في تركه للنساء في السفر كما تقدم في
صحيحة منصور بن حازم ، إذ لا شيء من الأغسال بل الأفعال الواجبة كذلك بل ورد جواز
تركها له في الحضر كما رواه الصدوق في الخصال عن جابر الجعفي عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ليس على المرأة غسل الجمعة في السفر ويجوز لها
تركه في الحضر». وهو أظهر ظاهر في الاستحباب.
هذا وعندي في
اسناد القول بالوجوب الى الصدوق في الفقيه بمجرد الكلام المتقدم نظر : (أما أولا)
ـ فلما علم من عادة المتقدمين ـ كما صرح به ايضا غير واحد من أصحابنا المتأخرين ـ أنهم
يعبرون غالبا بمتون الأخبار ، والوجوب في الاخبار كما يحتمل المعنى المشهور كذلك
يحتمل المعنى اللغوي أو تأكيد الاستحباب فعين ما يقال في الاخبار يقال في كلامهم ،
ولم يثبت كون الواجب عندهم حقيقة في المعنى المصطلح حتى يجب حمل كلامهم عليه ،
وعلى هذا يحمل ايضا كلام ثقة الإسلام في الكافي حيث عنون الباب بلفظ الوجوب.
(واما ثانيا) ـ
فلما ذكره في الفقيه في الباب المذكور من قوله : «وروي ان الله تعالى أتم
صلاة الفريضة بصلاة النافلة وأتم صيام الفريضة بصيام النافلة وأتم الوضوء بغسل يوم
الجمعة». وهو مضمون رواية الحسين بن خالد المتقدمة الظاهرة كما عرفت في
__________________
الاستحباب ، وما وقع له في هذا المقام وقع مثله في الفقه الرضوي أيضا حيث
قال : (عليهالسلام) أولا : «واعلم ان غسل الجمعة سنة واجبة لا تدعه في
السفر ولا في الحضر» ثم قال (عليهالسلام) في الكلام المتقدم نقله قريبا «وانما سن الغسل يوم
الجمعة تتميما لما يلحق الطهور في سائر الأيام من النقصان».
واما ما ذكره
شيخنا المشار اليه آنفا ـ من حمل اخبار الاستحباب على التقية لأنه مذهب أكثر
الجمهور ـ ففيه ان الحمل على التقية فرع تعارض الاخبار صريحا
والاخبار هنا ـ كما عرفت مما حققناه في الاخبار التي هي مناط الاستدلال من الطرفين
ـ متشابهة لما ذكره من معنى الوجوب والسنة وانه لا يمكن الحمل على معنى مخصوص بل
الأخبار المذكورة قابلة للانطباق على كل من القولين ، ولو كان الوجوب ظاهرا في
المعنى المصطلح والسنة ظاهرة في معنى الاستحباب لأمكن الحمل على التقية لظهور
التقابل بين المعنيين وعدم إمكان حمل أحدهما على الآخر لكن الأمر ليس كذلك لما
عرفت ، فالواجب حينئذ ـ كما قدمنا ذكره ـ هو إغماض النظر عن هذه الاخبار وعدم
الاستدلال بها في البين والنظر في تحصيل دليل آخر ، وقد عرفت بما ذكرناه من الوجوه
المتقدمة ان الظاهر هو الاستحباب ، وحينئذ فيجب حمل تلك الاخبار المتشابهة عليه
وكذا حمل ما ورد بالأمر بالغسل. ويؤيده زيادة على ما قدمناه شهرة القول به بل ادعى
الإجماع عليه في الخلاف ، وقد عرفت ان الخلاف في هذه المسألة غير واضح لما قدمنا
ذكره.
وكيف كان فإنه
وان كان الظاهر هو الاستحباب إلا ان الاحتياط في الدين والخروج من العهدة بيقين
الموجب الدخول في زمرة المتقين يقتضي المحافظة على الإتيان به وعدم التهاون به ،
لما في جملة من الاخبار من مزيد التأكيد فيه على وجه يكاد ان يلحقه بالواجبات كما
في جملة من السنن المؤكدة ، فمنها ـ ما يدل على إعادة الصلاة في
__________________
الوقت بتركه كما ورد في موثقة عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل ينسى الغسل يوم الجمعة حتى صلى؟ قال : ان كان
في وقت فعليه ان يغتسل ويعيد الصلاة وان مضى الوقت فقد جازت صلاته». وروى الشيخ في
الموثق عن سهل بن اليسع «انه سأل أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل يدع غسل الجمعة ناسيا أو غير ذلك؟ قال ان كان
ناسيا فقد تمت صلاته وان كان متعمدا فالغسل أحب الي وان هو فعل فليستغفر الله ولا
يعد». وروى أبو بصير «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل يدع غسل يوم الجمعة ناسيا أو متعمدا؟ فقال ان
كان ناسيا فقد تمت صلاته وان كان متعمدا فليستغفر الله تعالى ولا يعد». وظواهر هذه
الاخبار ـ كما ترى ـ دالة على ان تركه يوجب نقصا وخللا في الصلاة ولو في نقصان
ثوابها ونقصا في الدين والأمر بالاستغفار الذي لا يترتب إلا على الذنب ، فالاحتياط
في الدين يقتضي المحافظة على الإتيان به ، هذا مع ما فيه من مزيد الطهارة كما رواه
في الكافي والتهذيب عن الأصبغ قال : «كان أمير المؤمنين (عليهالسلام) إذا أراد ان يوبخ الرجل يقول والله لأنت أعجز من تارك
الغسل يوم الجمعة فإنه لا يزال في طهر إلى الجمعة الأخرى». وروى الشيخ عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «من اغتسل يوم الجمعة فقال : اشهد ان لا إله إلا
الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله اللهم صل على محمد وآل محمد واجعلني
من المتطهرين ، كان له طهرا من الجمعة إلى الجمعة».
تنبيهات
(الأول) ـ قد
صرح الأصحاب بأن وقت الغسل المذكور ما بين الفجر الى الزوال وانه كلما قرب الى
الزوال كان أفضل ، وعن الشيخ في الخلاف الى ان يصلي الجمعة
__________________
أقول : اما ان
وقته من طلوع الفجر فيدل عليه ان الغسل وقع مضافا الى اليوم ولا ريب ان مبدأ اليوم
هو طلوع الفجر شرعا ولغة وعرفا فلا يجزئ قبله ، وما رواه في الكافي عن زرارة
والفضيل في الحسن قالا : «قلنا له أيجزئ إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة؟
فقال : نعم». ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز ابن عبد الله
عن الفضيل وزرارة عن الباقر (عليهالسلام) مثله وحينئذ فيندفع عنه غشاوة الإضمار وان كان إضمار مثل
هذين المعتمدين غير ضائر لأنه من المعلوم انهما وأمثالهما لا يعتمدون على غير
الامام (عليهالسلام) وفي الفقه الرضوي «ويجزيك إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر
وكلما قرب من الزوال فهو أفضل». وفي رواية زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة. الحديث». والظاهر
ان الحكم إجماعي.
واما ان آخر
وقته الزوال فقال في المعتبر ان عليه إجماع الناس ، وهو يؤذن بدعوى الاتفاق عليه
من الخاصة والعامة ، ويدل عليهحسنة زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا تدع الغسل يوم الجمعة فإنه سنة ، وقد تقدم
الى ان قال : وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال فإذا زالت فقم وعليك السكينة
والوقار. الحديث». وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه الرضوي «وأفضل أوقاته قبل الزوال».
ويؤيده أيضا ما رواه الشيخ عن محمد بن عبد الله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كانت الأنصار تعمل في نواضحها وأموالها فإذا كان
يوم الجمعة جاؤا فتأذى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم فأمرهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بالغسل يوم الجمعة فجرت بذلك
__________________
السنة». ورواه في الفقيه أيضا في باب غسل يوم الجمعة ، ويدل عليه ايضا ما
رواه الشيخ عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار؟ قال يقضيه في آخر النهار فان
لم يجد فليقضه يوم السبت». والمتبادر من القضاء هو فعل الشيء الموقت خارج وقته ،
واحتمال مجرد الفعل وان أمكن إلا ان الظاهر بعده إذ الظاهر ان لفظ القضاء في
الموضعين بمعنى واحد ، واللازم من هذا الاحتمال جعل الأول بمعنى مجرد الفعل
والثاني مع التخصيص بخارج الوقت ولا يخلو من منافرة ، وبهذا الخبر استدل في
المعتبر على ذلك بعد عبارته المتقدمة وهو مبني على ما ذكرناه ، وبذلك يظهر ان ما
ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من انه لو لا الإجماع على الحكم لأمكن القول
بامتداده الى الليل لإطلاق اليوم في الروايات وجواز حمل الأمر في رواية زرارة على
الفضلية ـ بعيد عن ظاهر هذه الأخبار فإنها بضم بعضها الى بعض ظاهرة الدلالة على
الامتداد الى الزوال خاصة وبها تقيد اخبار اليوم التي ادعى إطلاقها ، نعم روى
شيخنا المجلسي في البحار عن قرب الاسناد انه روى فيه عن احمد بن محمد بن عيسى عن
احمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليهالسلام) قال : «كان ابي يغتسل الجمعة عند الرواح». وهو ظاهر في
اغتساله آخر النهار لانه معنى الرواح لغة ، وقال شيخنا المشار اليه بعد نقل الخبر
المذكور : «الرواح العشي أو من الزوال الى الليل ذكره الفيروزآبادي» ولم يتعرض
للجواب عن الخبر المذكور بشيء وهو مشكل.
واما ما نقل عن
الشيخ من ان غايته صلاة الجمعة فاستحسنه في المدارك قال : «وقال الشيخ في الخلاف
يمتد الى ان تصلى الجمعة. وهو حسن تمسكا بمقتضى الإطلاق ، والتفاتا الى ان ذلك
محصل للغرض المطلوب من الغسل ، وحملا للأمر بإيقاعه قبل الزوال في الرواية السابقة
على تأكد الاستحباب» انتهى.
__________________
أقول : فيه (أولا)
ـ ان مقتضى الإطلاق المذكور الامتداد الى آخر النهار لا الى هذا الحد بخصوصه ، وهو
لا يقول به.
و (ثانيا) ـ ان
هذا الإطلاق يجب تقييده بما ذكرنا من الاخبار ولا سيما حسنة زرارة المذكورة الدالة
صريحا على الأمر بإيقاعه قبل الزوال ، وتأويل الرواية المذكورة سيما مع وجود
المعاضد لها بما ذكره فرع وجود المعارض وليس إلا إطلاق تلك الأخبار ، وقضية حمل
المطلق على المقيد توجب الوقوف على ظاهر الحسنة المذكورة ، على انك قد عرفت ان
العمل بذلك الإطلاق لا قائل به ، والقول به في هذه الصورة المخصوصة تخصيص بلا
مخصص.
و (ثالثا) ـ ان
صريح الحسنة المشار إليها كون الغاية الزوال ، وحينئذ فالقول بان غايته الصلاة ان
أريد به وقتها فهو أول الزوال كما دلت عليه صحاح الاخبار وصراحها فيجب ان يكون
الغسل قبله ، وان أريد به وقوعها بالفعل فإنه يلزم على هذا انه لو لم تصل الجمعة
لم يكن غسل ، وهو مما لا يقول به أحد مع ظهور الاخبار في خلافه ، وبه يظهر ان
الواجب حمل كلام الشيخ على ما يوافق المشهور بجعل صلاة الجمعة كناية عن وقتها وهو
الزوال.
واما انه كلما
قرب من الزوال كان أفضل فقد اعترف جملة من أفاضل متأخري المتأخرين بعدم الوقوف على
مستنده ، وهو كذلك فاني لم أقف عليه إلا في كلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه كما أسلفنا نقله في عبارته ، وهذا من
جملة خصوصيات الكتاب المذكور ، والمتقدمون قد ذكروا هذا الحكم والظاهر ان المستند
فيه هو الكتاب المذكور ولكن خفي ذلك على المتأخرين لعدم وصول الكتاب إليهم ،
وبعبارة الكتاب المتقدمة عبر الصدوق في الفقيه ، والظاهر ان أباه في الرسالة كذلك
ايضا وان لم تحضرني الآن عبارته. والله العالم.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب انه لو فاته الغسل قبل الزوال قضاه بعد
الزوال أو في يوم السبت عمدا كان أو نسيانا لعذر أو لا لعذر ، وظاهر الصدوق
في الفقيه اشتراطه بالنسيان أو العذر قال : «ومن نسي الغسل أو فاته لعلة فليغتسل
بعد العصر أو يوم السبت» ويدل على ما ذكره مرسلة حريز عن بعض أصحابنا عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا بد من غسل يوم الجمعة في السفر والحضر فمن
نسي فليعد من الغد». ويدل على القول المشهور موثقة سماعة عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار؟ قال يقضيه في آخر النهار فان
لم يجد فليقضه يوم السبت». وموثقة ابن بكير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل فاته الغسل يوم الجمعة؟ قال يغتسل
ما بينه وبين الليل فان فاته اغتسل يوم السبت». وفي الفقه الرضوي «وان نسيت الغسل ثم ذكرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل ثم قال (عليهالسلام) بعد كلام في البين : وأفضل أوقاته قبل الزوال ، الى ان
قال : وان فاتك الغسل يوم الجمعة قضيت يوم السبت أو بعده من أيام الجمعة». وظاهره
ـ كما ترى ـ جواز القضاء في أيام الأسبوع ، فإن المراد بالجمعة هنا الأسبوع كما
وقع الإطلاق بذلك في جملة من الاخبار ، ولم أقف على من قال بذلك ولا على خبر غيره
يدل عليه ، وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور.
واما ما رواه
ذريح عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل هل يقضي غسل الجمعة؟ قال لا». فان الظاهر حمله على نفي الوجوب
جمعا ، قال في المدارك : بعد ذكر موثقتي سماعة وابن بكير دليلا للقول المشهور : «ومقتضى
الروايات استحباب قضائه من وقت فوات الأداء الى آخر السبت فلا وجه لإخلال المصنف
بذلك. ويمكن المناقشة في هذا الحكم بضعف مستنده وبأنه معارض بما رواه في التهذيب
عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين عن معاوية بن حكيم عن عبد الله بن المغيرة
عن ذريح عن
__________________
ابي عبد الله (عليهالسلام) ثم أورد الرواية المذكورة قال : ومقتضاه عدم مشروعية
القضاء وهو أوضح سندا من الخبرين السابقين الا ان عمل الأصحاب عليهما» انتهى. أقول
: اما ما ذكره من ان مقتضى الروايات استحباب قضائه من وقت فوات الأداء الى آخر
السبت فإنه يعطي بظاهره ان الاخبار دلت على القضاء ليلة السبت ايضا مع انه ليس
كذلك ، فان المستفاد من صريحها تخصيص القضاء بما بعد الزوال الى آخر النهار ويوم
السبت ، وحينئذ فما يشعر به كلامه من ادعاء القضاء ليلة السبت محل نظر ، وقد صرح
بذلك جملة من الأصحاب فاعترفوا بعدم وجود النص على القضاء فيها ، قال شيخنا
المجلسي في البحار : «وظاهر الأكثر استحباب القضاء ليلة السبت ايضا والاخبار خالية
عنه وان أمكن ان يراد بيوم السبت ما يشمل الليل لكن لا يمكن الاستدلال به ،
والأولوية ممنوعة لاحتمال اشتراط المماثلة» انتهى. والى ذلك أشار أيضا في الذخيرة
فقال : «وهل يلحق بما ذكر ليلة السبت؟ قيل نعم وهو خروج عن النصوص» واما ما ذكره
من قوله : «ويمكن المناقشة. إلخ» ففيه ايضا ان الظاهر ان هذا من جملة المناقشات
الواهية (أما أولا) ـ فلان معاوية بن حكيم الذي في سند هذا الخبر وان وثقة النجاشي
إلا ان الكشي قد صرح بكونه فطحيا في موضعين أحدهما في ترجمته وثانيهما في ترجمة
محمد بن الوليد عده مع جماعة من الفطحية وان وصفهم بالعدالة فحديثه لا يخرج عن
الموثق الذي لا يزال يعده في الضعيف ، وترجيحه على عبد الله بن بكير والحسن بن علي
بن فضال الذين قد ورد في حقهما من المدح ما هو مذكور في محله مما لا يخفى ما فيه ،
وفي سند هذا الخبر ايضا ذريح المحاربي وهو ليس بموثق والأخبار متعارضة في مدحه
وذمه كما لا يخفى على من لاحظ كتب الرجال وان كان لمدحه نوع رجحان ، وبالجملة فإن
ترجيحها على ما ذكره من الأخبار فضلا عما نقلناه ممنوع أتم المنع. و (ثانيا) ـ ان
كافة الأصحاب من أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم قد أعرضوا عن هذه الرواية كما اعترف به
وهو أظهر ظاهر في سقوطها وان سلمنا صحة سندها واعتباره
كما ادعاه ، وهو دليل على ضعف اصطلاحه الذي لا يزال يحامي دونه. وبالجملة
فالأظهر كما عرفت هو حمل الخبر المذكور على ما قدمناه ذكره ، وربما حمل على عدم
العذر بناء على ما ذكره الصدوق من تخصيص القضاء بصورة النسيان والعذر فمع عدمهما
لا قضاء. وهو جيد لو ثبت ما ادعاه وإلا فالحمل عليه بعيد. والله العالم.
(الثالث) ـ لا
خلاف بين الأصحاب في جواز تعجيله يوم الخميس لمن خاف عوز الماء يوم الجمعة ،
والأصل فيه ما رواه الشيخ عن محمد بن الحسين عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال لأصحابه إنكم تأتون غدا منزلا ليس فيه ماء
فاغتسلوا اليوم لغد ، فاغتسلنا يوم الخميس للجمعة». وما رواه ايضا عن الحسين بن
موسى بن جعفر عن امه وأم أحمد بن موسى بن جعفر (عليهالسلام) قالتا : «كنا مع ابي الحسن (عليهالسلام) بالبادية ونحن نريد بغداد فقال لنا يوم الخميس :
اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة فإن الماء غدا بها قليل ، فاغتسلنا يوم الخميس ليوم
الجمعة». وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه «وان كنت مسافرا وتخوفت عدم الماء يوم
الجمعة اغتسلت يوم الخميس. الحديث». وجوز الشيخ وجماعة : منهم ـ الشهيد الثاني
التقديم مع خوف الفوات مطلقا ومورد الخبرين التقديم لخوف إعواز الماء خاصة لا
التعذر مطلقا ، قال في المدارك : «والظاهر ان ليلة الجمعة كيوم الخميس فلا يجوز
تقديمه فيها إلا إذا خاف عوز الماء وبه قطع في الخلاف مدعيا عليه الإجماع» أقول :
وهذا من قبيل ما تقدم له من قوله بالقضاء ليلة السبت مع عدم الدليل عليه بل ظهور
الدليل في عدمه ، وليت شعري من اين حصلت له هذه الظاهرية مع اختصاص موارد النصوص
بيوم الخميس والتعدي عنه يحتاج الى دليل؟ ولو تمكن من قدمه يوم الخميس من الماء
يوم الجمعة فقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الصدوق باستحباب الإعادة ، ولم أقف
فيه على نص ولعل المستند فيه عموم الأدلة ، ويمكن ان يقال ان جواز التقديم على
خلاف الأصل فيقتصر فيه على
__________________
مورده من عدم الماء ومع وجود الماء يرجع الى أصل الحكم في المسألة وعموم
الأدلة الدالة على استحباب الغسل يوم الجمعة أو وجوبه.
فائدة
قال الصدوق في
الفقيه : «ويجزئ الغسل للجمعة كما يكون للزواج والوضوء فيه قبل الغسل» أقول : قد
اختلفت نسخ الكتاب في ضبط هذه الكلمة أعني قوله «للزواج» ففي بعضها بالزاي المعجمة
والجيم ويؤيده ما حكاه الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قال : قال بعض الاعلام
سمعت الشيخ العالم الصالح الشيخ علي بن سليمان البحراني انه كانت عند شيخنا
العلامة البهائي نسخة قديمة مصححة وفيها «للزواج» بالزاي والجيم وهو الذي ضبطه
الفاضل المحدث الكاشاني في المحجة البيضاء ، ويؤيد ذلك ايضا ما ذكره المحقق العماد
مير محمد باقر الداماد في تعليقاته على الكتاب ، قال : الصواب ضبط هذه اللفظة
بالزاي قبل الواو والجيم بعد الالف وهو الذي سمعناه من الشيوخ ورأيناه في النسخ.
انتهى. وظاهر هذا الكلام إنكار ما عدا هذه النسخة. وفي بعض النسخ بالراء والحاء
المهملتين ، وارتضاه بعض المحققين وقال ان هذه هي النسخة المعتبرة ، قال لان
الرواح على ما في القاموس من الزوال الى الليل أو الى العشي ، فمراده حينئذ ان
الغسل يجزئ للجمعة من طلوع الفجر كما يجزئ من الزوال. قيل وفيه رد على مالك حيث
ذهب الى انه لا يعتد بالغسل إلا ان يتصل بالرواح إلى صلاة الجمعة مستدلا بقول
النبي (صلىاللهعليهوآله) «من جاء بالجمعة فليغتسل» . ولا يخفى انه ليس فيه دلالة على اتصال الغسل بصلاة
الجمعة. قيل وحينئذ فاللام بناء على هذه النسخة لام التوقيت
__________________
والمقارنة كما يقال كتبته لخمس خلون لا لأم العاقبة كما ظن. وكيف كان فإنه
لا يخفى ما في توجيه هذه النسخة من البعد بل السخافة وركاكة النظم والأسلوب ، واما
على تقدير النسخة الأولى فقيل ان المعنى ان غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة وهو
الذي جزم به المحدث الكاشاني في المحجة البيضاء حيث قال : اما قوله : «ويجزئ الغسل
للجمعة كما يكون للزواج» فمعناه انه يجزئ لهما غسل واحد ، وهذا حق فان الصحيح
تداخل بعضها بعضا إذا اجتمعت أسبابها كالوضوء ، ويدل على ذلك الروايات الصحيحة عن
أهل البيت (عليهمالسلام) انتهى وقيل ان المعنى ان الغسل من الجنابة كما يكون
للجنابة على قصد رفع الحدث ونية الوجوب أو مطلقا يكون بعينه مجزئا عن الغسل للجمعة
ومسقطا للجنابة على أسبغ الوجوه ، لما روي صحيحا عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل
واحد». ولا ينعكس اي لا يكون الغسل للجمعة بما هو غسل للجمعة مجزئا عن الغسل
للجنابة ومسقطا للتكليف به على قصد نية الوجوب وقصد رفع الحدث أو استباحة العبادة
المشروطة به. والى هذا ذهب بعض المحققين في تعليقاته على الكتاب. ولا يخفى بعده.
أقول : هذا كله بناء على قطع جملة قوله : «والوضوء فيه قبل الغسل» عن هذا الكلام
وجعلها جملة مستأنفة في بيان وجوب الوضوء مع غسل الجمعة كما هو المشهور من وجوب
الوضوء في جميع الأغسال ما عدا غسل الجنابة ، واما مع ارتباط هذه الجملة بهذا
الكلام كما فهمه المحقق خليفة سلطان في حواشيه على الكتاب فالوجه فيه ما ذكره (قدسسره) حيث قال : كذا في أكثر النسخ والظاهر ان المراد انه
يجزئ الغسل للجمعة بكيفية غسل الجنابة فالمراد بالزواج الجنابة والغرض من التشبيه
بيان كيفية غسل الجمعة واعماله بأنه مثل الجنابة إلا ان فيه الوضوء قبل الغسل.
وقيل ان المراد انه يجزئ نية غسل الجنابة عن غسل الجمعة ويترتب أثره عليه. وفي بعض
النسخ بالراء المهملة والحاء والمراد منه ما بعد الزوال مقابل الصباح ، وغاية
توجيهه ان يكون المراد انه يجزئ الغسل في يوم
__________________
السبت للجمعة كما يكون في رواح يوم الجمعة للجمعة. انتهى. أقول : وأقرب هذه
الوجوه المذكورة عندي ما ذكره هذا المحقق من ان الغرض من هذا الكلام بيان كيفية
غسل الجمعة وانه مثل غسل الجنابة إلا ان فيه الوضوء قبل الغسل ، وما عداه من الوجوه
فإنه يحتاج الى مزيد تكلف وان كان بعضها أقل من بعض. هذا ، وقد روى الحميري في قرب
الاسناد عن احمد بن محمد عن البزنطي عن الرضا (عليهالسلام) قال : «كان ابي يغتسل يوم الجمعة عند الرواح». وفي
القاموس «الرواح العشي أو من الزوال الى الليل» ولعل المراد من الخبر المذكور انما
هو الرواح إلى صلاة الجمعة ولعله يكون قبيل الزوال فيكون فيه دلالة على ما تقدم من
ان أفضله ما قرب من الزوال. والله العالم.
ختام يحصل به
الإكمال لابحاث هذا المطلب والإتمام ، وفيه مسائل :
(الأولى) ـ المشهور
بين الأصحاب وجوب الوضوء في جميع هذه الأغسال ما عدا غسل الجنابة متى ما أراد
الدخول في مشروط بالطهارة كالصلاة ونحوها ، وقد تقدم البحث في هذه المسألة مستوفى
في المقصد الخامس من مقاصد فصل غسل الجنابة .
(الثانية) ـ اختلف
الأصحاب في التداخل وعدمه بين هذه الأغسال وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة
مستوفى في بحث نية الوضوء .
(الثالثة) ـ قد
قسم الأصحاب ما ذكروه من الأغسال في هذا المقام الى ما يكون للزمان وما يكون للفعل
وما يكون للمكان إلا انهم لم يستوفوا الأغسال التي ذكرناها ، والذي يكون للزمان
مما ذكرناه أغسال شهر رمضان وهي أربعة عشر غسلا وغسل يوم الجمعة وغسل ليلة الفطر
وغسل يومه وغسل عيد الأضحى وغسل ليلة النصف من شعبان ويوم النيروز ويوم الغدير
ويوم المباهلة بناء على المشهور وثلاثة أغسال في رجب كما تقدم وغسل يوم عرفة ويوم
التروية ، فهذه سبعة وعشرون غسلا للزمان ،
__________________
وقد تقدم في غسل العيدين ان ظاهر موثقة عمار الساباطي ان الغسل انما هو
للصلاة ، فعلى هذا يكون هذا الغسل من الأغسال للفعل. واما الغسل للفعل فغسل
الإحرام وغسل الزيارة بجميع أنواع الزيارات التي روي فيها الغسل من زيارة النبي (صلىاللهعليهوآله) أو أحد الأئمة (عليهمالسلام) وغسل قضاء صلاة الكسوف وغسل التوبة وغسل صلاة الحاجة
وصلاة الاستخارة وغسل السعي إلى رؤية المصلوب وغسل قتل الوزغ وغسل أخذ التربة وغسل
المولود وغسل الاستسقاء ، فهذه أحد عشر غسلا للفعل. واما الغسل للمكان فالغسل
لدخول الحرم والغسل لدخول مكة ولدخول المسجد ولدخول البيت ودخول المدينة ودخول
مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) فهذه ستة أغسال للمكان ، يكون مجموع هذه الأغسال أربعة
وأربعين غسلا. وزاد في الدروس الغسل يوم دحو الأرض ، وقال في الذكرى : وذكر
الأصحاب لدحو الأرض الخامس والعشرين من ذي القعدة. انتهى. وهو مؤذن بعدم النص عليه
، قال الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بعد نقل ذلك عن الذكرى «ولا بأس به» أقول :
بل البأس أظهر ظاهر فإنها عادة تتوقف مشروعيتها على دليل من الشارع إلا ان يجعل
مجرد ذكر الأصحاب دليلا شرعيا ، ولا أراه يلتزمه. وذكر ايضا يوم المبعث وهو اليوم
السابع والعشرون من رجب وذكره غيره ايضا ، وقد اعترف جملة من الأصحاب بعدم الوقوف
فيه على نص ، وقال في الذكرى : وليلة نصف رجب والمبعث مشهوران ولم يصل إلينا نص
فيهما. وقال في المعتبر بعد نقله عنهم الغسل ليلة النصف من رجب ويوم المبعث :
وربما كان لشرف الوقتين والغسل مستحب مطلقا فلا بأس بالمتابعة فيه. انتهى. وفيه
انا لم نقف على ما ادعاه من استحباب الغسل مطلقا ليتم له التقريب في هذا المقام
وأمثاله ، نعم ذلك في الوضوء خاصة ، والذي وصل إلينا من الأغسال في رجب ما قدمناه
وان ضعف سنده باصطلاحهم وليلة النصف من جملته. وذكر في الدروس يوم مولد النبي (صلىاللهعليهوآله) والأمر فيه كما في هذه المذكورات من عدم الوقوف على
مستنده. وذكر
ايضا الطواف ورمي الجمار ، والأمر فيه كذلك فاني لم أقف له على مستند إلا
انه قد ورد في رواية علي بن أبي حمزة عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «قال لي ان اغتسلت بمكة ثم نمت قبل ان تطوف فأعد
غسلك». وربما أشعر بكون الغسل للطواف إلا انه يمكن حمله على طواف الزيارة فإنه
بالدخول للطواف تحصل زيارة البيت ، وقد ورد استحباب الغسل لزيارة البيت كما تقدم
والغسل لدخول المسجد ، والظاهر ان غسل دخول المسجد هو غسل زيارة البيت ، واما غسل
دخول البيت فهو زائد عليهما. وقال ابن الجنيد يستحب لكل مشهد أو مكان شريف أو يوم
وليلة شريفة وعند ظهور الآثار في السماء وعند كل فعل يتقرب فيه الى الله تعالى
ويلجأ فيه اليه. وقال المفيد في الغرية يستحب الغسل لرمي الجمار ، والعلامة
للإفاقة من الجنون لما قيل انه يمني ، قال في الذكرى بعد نقل ذلك عنه : والحكم لا
نعرفه والتعليل لا نثبته ، نعم روى العامة «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان يغمى عليه في مرض موته فيغتسل». فيكون الجنون
بطريق اولى ، وظاهر ضعف هذا التمسك ، ولو صح الأول كان غسلا وينوي به رفع الجنابة
وخصوصا عنده لاشتراطه في نية الطهارة كما ينوي في غسل واجدي المني على الفراش
المشترك. انتهى. وذهب في التهذيب الى استحباب الغسل لمن مس ميتا بعد الغسل لخبر
عمار عن الصادق (عليهالسلام) واستحب فيه الغسل لمن مات جنبا مقدما على غسل الميت
لخبر العيص عن الصادق (عليهالسلام) واستحبه ابن زهرة لصلاة الشكر ، والمفيد في الإشراف لمن
أهرق عليه ماء غالب النجاسة ، والشيخ الحر في الوسائل
__________________
لطيب المرأة لغير زوجها مستندا الى ما رواه الكليني عن سعد بن عمر الجلاب قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق لم تقبل منها
صلاة حتى يرضى عنها ، وأيما امرأة تطيبت لغير زوجها لم يقبل الله منها صلاة حتى
تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها». أقول : الظاهر ان المراد بالاغتسال في الخبر
انما هو غسل الطيب وإزالته عن بدنها بان تبالغ فيه كما تبالغ في غسلها من جنابتها
بإيصال الماء الى جميع بدنها وشعرها. والله العالم.
(الرابعة) ـ قال
في الذكرى : وروى بكير بن أعين عنه (عليهالسلام) قضاء غسل ليالي الافراد بعد الفجر لمن فاته ليلا. وقال
في الدروس ويقضى غسل ليالي الافراد الثلاث بعد الفجر لرواية بكير عن الصادق (عليهالسلام). والظاهر انه أشار بالرواية المذكورة الى ما رواه
الشيخ في التهذيب عنه قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) في أي الليالي اغتسل في شهر رمضان؟ قال في تسع عشرة
وفي احدى وعشرين وفي ثلاث وعشرين ، والغسل في أول الليل. قلت فان نام بعد الغسل؟
قال هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأك». وأنت خبير بان هذا الخبر
لا دلالة فيه على ما ذكره بوجه فان معناه الظاهر لكل ناظر انما هو ان الغسل من أول
الليل يجزئ الى آخره وان نام بعده كما ان غسل الجمعة مجزئ متى اغتسل بعد الفجر وان
نام أو أحدث بعد ذلك ، ولم نقف على رواية في الباب غير هذه ، فما ذكره من دعوى
قضاء غسل هذه الليالي لا اعرف له وجها ، على ان ما قدمنا نقله من الرواية التي
أشار إليها (عليهالسلام) في كتاب الفقه ظاهرة في عدم القضاء ، حيث قال : «وروي ان الغسل أربعة عشر وجها ، الى ان قال : وأحد
عشر سنة ، ثم عدها وعد منها ليلة تسع عشرة وليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ،
ثم قال : ومتى ما نسي بعضها أو
__________________
اضطر أو به علة تمنعه من الغسل فلا اعادة عليه». وروى في قرب الاسناد الخبر
المذكور عن محمد بن الوليد عن ابن بكير : «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الغسل في شهر رمضان ، الى ان قال والغسل أول الليل.
قلت فان نام بعد الغسل؟ قال فقال أليس هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر
كفاك؟». وهو ظاهر في المعنى الذي ذكرناه.
(الخامسة) ـ قال
في الذكرى : كل غسل لزمان فهو ظرفه ولمكان أو فعل فقبله إلا غسل التوبة والمطلوب ،
وفي التقديم لخائف الإعواز والقضاء لمن فاته نظر ، ولعلهما أقرب ، وقد نبه عليه في
غسل الإحرام وفي رواية بكير السالفة ، وذكر المفيد قضاء غسل عرفة. انتهى. أقول :
اما ما ذكره من ان الغسل الزماني ظرفه ذلك الزمان فلا اشكال فيه ، وعلى هذا فمتى
اتى به فيه فقد خلت العهدة من الخطاب باستحبابه وان أحدث أو نام بعده ، وقد تقدم
في رواية بكير ما يدل على ذلك بالتقريب الذي أشرنا اليه ، ومثلها أيضا صحيحة محمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) انه قال : «الغسل في ثلاث ليال من شهر رمضان : في تسع
عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، وقال والغسل في أول الليل وهو يجزئ الى آخره». وهو
في معنى رواية بكير المتقدمة بالنسبة إلى الليالي الثلاث المذكورة ، وحاصلها انه
متى اغتسل في أول الليل فإنه مجزئ في أداء سنة الغسل في هذه الليلة إلى آخرها وان
نام أو أحدث بعد ذلك. واما ما ذكره من ان الغسل للمكان والفعل قبله إلا ما استثناه
فهو جيد أيضا ، لأن المقصود من الغسل هو الإتيان بالأفعال المذكورة أو دخول تلك
الأمكنة الراجع إلى الأفعال في الحقيقة بطهارة الغسل وان يكون متطهرا لمزيد
احترامها وفضلها ، ومقتضاه حينئذ انه لو أحدث أو نام بعد الغسل وقبل تلك الغاية
فإنه يستحب له الإعادة
__________________
وبذلك صرح شيخنا المشار إليه في الذكرى ايضا فقال : الأقرب إعادة غسل الفعل
بتخلل الحدث ، وقد ذكر في دخول مكة وفي النوم في الإحرام ، ولو أحدث في الأثناء
فالإعادة أولى. انتهى. واما ما أشار به الى ما ورد في دخول مكة فالظاهر انه ما
رواه عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن الرجل يغتسل لدخول مكة ثم ينام فيتوضأ قبل ان يدخل أيجزيه
ذلك أو يعيد؟ قال لا يجزيه لانه إنما دخل بوضوء». ونحوها غيرها مما سيأتي ان شاء
الله تعالى في كتاب الحج ونحو ذلك ما ورد في غسل الإحرام وانتقاضه بالنوم كما أشار
إليه من صحيحة النضر بن سويد عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يغتسل للإحرام ثم ينام قبل ان
يحرم؟ قال عليه اعادة الغسل». واما ما روي في جملة من الاخبار من ان من اغتسل بعد
طلوع الفجر أجزأه إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل . وكذا ما ورد من ان غسل يومه يجزيه لليلته وغسل ليلته
يجزيه ليومه . فالظاهر تقييده بعدم تخلل الحدث لما رواه الشيخ عن
إسحاق بن عمار عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن غسل الزيارة يغتسل بالنهار ويزور
بالليل بغسل واحد؟ قال يجزيه ان لم يحدث فإن أحدث ما يوجب وضوء فليعد غسله». وروى
في الكافي عن إسحاق بن عمار في الموثق عن ابي الحسن (عليهالسلام) مثله إلا انه قال : «يغتسل الرجل بالليل ويزور بالليل الى ان
قال في آخر الخبر : فليعد غسله بالليل». وبما ذكرناه من اعادة الغسل بتخلل الحدث
مطلقا صرح الشهيدان إلا أنهما جعلا ما عدا النوم ملحقا به مع دلالة روايتي إسحاق
بن عمار على مطلق الحدث كما ترى ، والمشهور في كلام الأصحاب الاكتفاء بالغسل الأول
وان أحدث بعده ، وسيأتي في كتاب الحج ان شاء الله تعالى
__________________
ما يفي بتحقيق المقام. واما ما استثناه في الكلام المتقدم بالنسبة إلى
تقديم الغسل من غسل التوبة والمصلوب فالظاهر ان الوجه فيه هو ان ما عدا موضع
الاستثناء قد جعل في الاخبار غاية للغسل بمعنى انه يستحب ان يوقعه عن غسل فهو
يقتضي تقديم الغسل البتة ، ولهذا تستحب الإعادة لو أحدث قبل إيقاعه كما تقدم ،
واما موضع الاستثناء فالظاهر منها انه سبب في الغسل وقضية السببية تأخير الغسل عنه
، إلا انه يدخل في ذلك ايضا قتل الوزغ فإنه سبب في استحباب الغسل فكان الواجب
ذكره.
بقي هنا شيء
وهو ان استثناء غسل التوبة من الضابطة المذكورة مبني على كون التوبة سببا في الغسل
لوجوب الفورية فيها ، ومن المحتمل قريبا ان الغسل انما هو لصلاة التوبة كما هو
ظاهر الخبر المتقدم ، وعلى هذا فيكون الغسل متقدما وداخلا في الضابطة المذكورة ،
ويأتي مثله أيضا في غسل الكسوف فإنه يحتمل ان يكون لقضاء صلاة الكسوف فيدخل في
الضابطة المذكورة ، ويحتمل ان يكون لتركه الصلاة وهو الأقرب الى ظاهر النص ، وعلى
هذا فيحتاج الى الاستثناء كهذه المستثنيات ، ومقتضى ذلك اما ذكره مع غسل التوبة في
الاستثناء أو عدم استثناء غسل التوبة من الضابطة ، فإن الحال في المقامين واحد كما
شرحناه. واما ما قربه من التقديم لخائف الإعواز والقضاء لمن فاته فالظاهر بعده لان
الغسل عبادة شرعية يتوقف فعله على ما رسمه صاحب الشريعة من الزمان والمكان ونحوهما
من الخصوصيات ووروده في موضع لا يستلزم اطراده ، والذي ورد في الأخبار قضاء غسل
الجمعة وجواز تقديمه لخوف الإعواز وغسل الإحرام ، وما عداهما فلم نقف له على مستند
، وما أشار إليه من خبر بكير بالنسبة إلى قضاء غسل فرادى شهر رمضان الثلاث فقد
عرفت ما فيه. والله العالم.
الباب الرابع في التيمم
ولنبدأ هنا
بتحقيق قد سبق لنا في معنى الآية الشريفة التي هي الأصل في فرض
التيمم اعني قوله عزوجل : «وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» أقول : صدر هذه الآية هكذا : «(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ... الى آخر ما تقدم» ولما قدم سبحانه بيان حكم واجد الماء
في الطهارتين من الحدث الأصغر والأكبر عطف عليه بيان حكم من لم يجد ماء أو لم
يتمكن من استعماله بالنسبة إليهما أيضا فقال : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» ـ اي مرضا يضر معه استعمال الماء أو يوجب العجز عن
السعي إليه ، قال في مجمع البيان : وهو المروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهماالسلام) وقيل انه لا حاجة الى التقييد لان قوله تعالى : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» متعلق بالجمل الأربع وهو يشمل عدم التمكن من استعماله
لان الممنوع منه كالمفقود ـ «أَوْ
عَلى سَفَرٍ» اي متلبسين به إذا الغالب فقدان الماء في أكثر الصحاري ـ «أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» وهو كناية عن الحدث إذ الغائط لغة المكان المنخفض من
الأرض وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة لتغيب فيه أشخاصهم عن أعين الناظرين كما هو
السنة في ذلك فكنى سبحانه عن الحدث بالمجيء من مكانه ، قيل و «أو» هنا بمعنى
الواو كقوله تعالى : «وَأَرْسَلْناهُ
إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» والمراد أو كنتم مسافرين وجاء أحد منكم من الغائط ، وبه
يحصل الجواب عن الاشكال المشهور الذي أورد على ظاهر الآية وهو انه سبحانه جمع بين
هذه الأشياء في الشرط المترتب عليه جزاء واحد هو الأمر بالتيمم مع ان المجيء من
الغائط ليس من قبيل المرض والسفر حتى يصح عطفه عليهما بأو المقتضية لاستقلال كل
منهما في ترتب الجزاء عليه ، فان كلا من المرض والسفر سبب لإباحة التيمم والرخصة
فيه والمجيء من الغائط
__________________
وما عطف عليه سبب لوجوب الطهارة ، ومتى لم يجتمع أحد الآخرين مع واحد من
الأولين لم يترتب الجزاء وهو وجوب التيمم. وأجيب عن هذا الاشكال بوجوه أخر في
تفسيري البيضاوي والكشاف ـ «أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ» والمراد جماعهن كما ورد في الأخبار ففي الكافي والعياشي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «هو الجماع ولكن الله ستير يجب الستر ولم يسم كما
يسمون». وعن الباقر (عليهالسلام) «. وما يعنى بهذا «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» إلا المواقعة في الفرج». ونظير هذه الآية قوله تعالى :
«وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» والمس واللمس بمعنى واحد كما صرح به أهل اللغة ، فلا
يلتفت الى تفسير جملة من المخالفين بمطلق المس لغير محرم كما هو منقول عن الشافعي
، وقيل انه مذهب عمر ، وخصه مالك بما كان عن شهوة ـ «فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً» راجع الى المرضى والمسافرين جميعا : مسافر لا يجد الماء ومريض لا يجد من
يوضئه أو يخاف الضرر من استعماله لان وجدانه مع عدم التمكن من استعماله لخوف الضرر
في حكم العدم ، ولو كان المراد من وجدانه ما هو أعم من ذلك بحيث يصدق على من يتضرر
به انه واجد للماء للزم مثله في من وجد الماء في بئر يتعذر وصوله اليه أو يباع
ولكن لا يقدر على شرائه أنه واجد للماء مع انه ليس كذلك إجماعا ، فالمراد بوجدانه
في الحقيقة ما هو عبارة عن إمكان استعماله ، والوجه في هذا الإطلاق ان حال المرض
يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء وحال السفر يغلب فيها عدم وجدان الماء ،
وقيل ان المراد من الآية ـ كما هو ظاهرها الذي لا يحتاج الى ارتكاب تجوز ولا تأويل
ـ انما هو كون المكلف غير واجد للماء بان يكون في موضع لا ماء فيه ، فيكون ترخيص
من وجد الماء ولم يتمكن من استعماله في
__________________
التيمم لمرض ونحوه مستفادا من السنة المطهرة ، ويكون المرضى ونحوهم غير
داخلين في خطاب «فَلَمْ
تَجِدُوا» لأنهم
يتيممون وان وجدوا الماء ، والظاهر انه الأقرب كما لا يخفى. بقي الكلام في انه لو
وجد الماء إلا انه لا يكفي للطهارة الواجبة غسلا كانت أو وضوء ، والمفهوم من كلام
جمهور أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو وجوب التيمم لأن الطهارة لا تتبعض ، قالوا
فان الظاهر من الآية عدم وجدان الماء الذي يكفي لكمال الطهارة ، وأيدوا ذلك بقوله عزوجل في كفارة اليمين «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيّامٍ» أي من لم يجد إطعام عشرة مساكين ففرضه الصيام ، وقد
اتفقوا على انه لو وجد إطعام أقل من عشرة لم يجب عليه ذلك وانتقل فرضه الى الصوم.
وعن بعض العامة القول بالتبعيض ونقله شيخنا الشهيد الثاني عن الشيخ في بعض أقواله ،
وعن شيخنا البهائي انه قال وللبحث فيه مجال. وأنت خبير بأن الآية في هذا المقام لا
تخلو من الإجمال الموجب لتعدد الاحتمال إلا ان المفهوم من الاخبار الواردة في
الجنب يكون معه من الماء بقدر ما يتوضأ به وانه يتيمم مما يؤيد القول المشهور ، إذ
لو كان التبعيض واجبا لامروا به (عليهمالسلام) ـ «فَتَيَمَّمُوا» اي اقصدوا وتحروا وتعمدوا ، والتيمم لغة القصد ومنه
قوله تعالى : «وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» اي لا تقصدوا الردي من المال تنفقون منه ، وشرعا قصد
الصعيد لمسح الوجه واليدين على الكيفية الواردة في النصوص قال في المدارك :
والطهارة الترابية التيمم وهو لغة القصد قال عزوجل «فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» اي اقصدوا ، ونقل في الشرع الى الضرب على الأرض والمسح بالوجه واليدين
على وجه القربة ، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ
__________________
مَرْضى
أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ ... الآية» انتهى. أقول : لا يخفى ان الآية الأولى التي استدل بها على المعنى
اللغوي هي عين الآية الثانية التي استدل بها على المعنى الشرعي إلا أن إحداهما في
سورة النساء والأخرى في سورة المائدة وصورتهما معا هكذا : وان كنتم مرضى الى قوله
وأيديكم ففي إحداهما بعد ذلك «إِنَّ
اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» وفي الأخرى التي ذكرناها هنا «(مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ ... الى آخرها» ولا ريب ان لفظ التيمم في الآيتين إنما أريد
به المعنى الشرعي لا اللغوي وحمله إحداهما على المعنى اللغوي والأخرى على الشرعي
لا اعرف له وجها مع ان تتمة الآية في الموضعين اعني قوله عزوجل فيهما معا «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» ينادي على صحة ما ذكرنا وحينئذ فالمراد في الآيتين معا
اقصدوا صعيدا لمسح الوجه واليدين ، فالمعنى اللغوي للتيمم هو القصد مطلقا والشرعي
هو القصد للصعيد لاستعماله في مسح الوجه واليدين على الكيفية المخصوصة وظاهر كلامه
في المدارك ان المعنى الشرعي انما هو الضرب على الأرض ومسح الوجه واليدين على
الوجه المعلوم شرعا ، والأظهر ما قلناه وهو الذي صرح به أمين الإسلام الطبرسي في
مجمع البيان ، وعلى ما ذكرنا فالتيمم في الآيتين إنما أريد به المعنى الشرعي لا
اللغوي كما ذكره. واما الصعيد فقد اختلف كلام أهل اللغة فيه ، فبعضهم كالجوهري قال
هو التراب ووافقه ابن فارس في المجمل ، ونقل ابن دريد في الجمهرة عن ابي عبيدة انه
التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل ، وعلى هذه الأقوال اعتمد المرتضى حيث
خص التيمم بالتراب الخالص بناء على تفسير الصعيد به في كلام هؤلاء ، الا ان المفهوم
من كلام الأكثر لا يساعد عليه ، فنقل في مجمع البيان عن الزجاج انه قال : لا اعلم
خلافا بين أهل اللغة في ان الصعيد وجه الأرض. ثم قال : وهذا يوافق مذهب أصحابنا في
ان التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن. وقال في المصباح المنير :
الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ، ثم قال ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على
وجوه : على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه
الأرض وعلى الطريق. وفيه ـ كما ترى ـ دلالة على ان الأصل هو المعنى الأول ،
وفي الأساس وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها. وقال المطرزي في
المغرب الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره. وفي القاموس الصعيد التراب أو وجه
الأرض. ومثل ذلك نقله في المعتبر عن الخليل ونقله ثعلب عن ابن الأعرابي ، ويؤيد
ذلك قوله عزوجل «...
فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)» أي أرضا ملساء تزلق عليها باستئصال شجرها ونباتها ، وقوله
(صلىاللهعليهوآله) «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد». أي أرض واحدة ، وبذلك
يظهر ما في الاستناد الى الآية في هذا المقام من الاشكال ولا سيما وقد ورد الخبر
بتفسير الصعيد في الآية بالمكان المرتفع من الأرض كما رواه الصدوق في معاني
الاخبار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الصعيد الموضع المرتفع والطيب الموضع الذي ينحدر
عنه الماء». ومثله في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «قال الله تعالى (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) ، والصعيد الموضع المرتفع عن الأرض والطيب الذي ينحدر
عنه الماء». وحينئذ فالأظهر الرجوع الى الاخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى
في موضعه ـ «طَيِّباً» اختلف المفسرون في المراد بالطيب هنا ، فبعضهم على انه
الطاهر وهو مختار مفسري أصحابنا ، وقيل هو الحلال وقيل انه الذي ينبت دون ما لا
ينبت كالسبخة وأيدوه بقوله سبحانه : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...» وقد عرفت تفسيره بما في الخبرين المتقدمين ، الا ان
الظاهر
__________________
انه محمول على الفرد الأكمل منهما ولهذا صرح أصحابنا باستحباب التيمم من
الربى والعوالي ـ «فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» الباء للتبعيض هنا كما سيأتيك التصريح به ان شاء الله
تعالى في صحيحة زرارة الآتية ، وحينئذ فتدل الآية على ان الواجب المسح ببعض الوجه
وبعض اليدين كما هو القول المشهور المعتضد بالأخبار الكثيرة ، خلافا لمن أوجب مسح
الجميع كعلي بن بابويه أو خير بين الاستيعاب وبين التبعيض كما ذهب إليه في المعتبر
وتبعه صاحب المدارك أو استحباب الاستيعاب كما مال إليه في المنتهى ، فان الجميع ـ كما
ترى ـ مخالف لظاهر الآية ، والقول بالاستيعاب وان دل عليه بعض الاخبار ولهذا
اضطربوا في الجمع بينها وبين اخبار القول المشهور إلا انه قد تقرر في القواعد
المروية عنهم (عليهمالسلام) عرض الأخبار المختلفة على الكتاب العزيز والأخذ بما
وافقه وطرح ما خالفه ، وهذه الاخبار الدالة على الاستيعاب مخالفة للآية فيجب طرحها
، وبذلك يظهر لك بطلان هذه الأقوال المتفرعة عليها ـ «منه» اختلفوا في معنى «من»
هنا فقيل انها لابتداء الغاية والضمير عائد إلى الصعيد والمعنى ان المسح يبتدئ من
الصعيد أو من الضرب عليه ، وقيل انها للسببية وضمير «منه» للحدث المفهوم من الكلام
السابق كما يقال تيممت من الجنابة وكقوله سبحانه «مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ...» وقول الشاعر «وذلك من نبإ جاءني» وقول الفرزدق «يغضي
حياء ويغضى من مهابته» وقيل انها للتبعيض والضمير للصعيد كما يقال أخذت من الدراهم
وأكلت من الطعام ، وهذا هو المنصوص في صحيحة زرارة الآتية ، وقيل إنها للبدلية كما
في قوله تعالى : «أَرَضِيتُمْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ» وقوله سبحانه : «... لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي
الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» وحينئذ فالضمير يرجع الى الماء والمعنى فلم تجدوا ماء
فتيمموا بالصعيد بدل الماء ، وهذا المعنى لا يخلو من بعد ، والمعتمد منها ما ورد
به النص الصحيح عنهم (عليهمالسلام)
__________________
فإن القرآن نزل عليهم ومعانيه منهم تؤخذ ـ «ما يُرِيدُ اللهُ» بفرض الطهارات وإيجابها «لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» ضيق «وَلكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» من الأحداث والذنوب فإن الطهارة كما انها رافعة
للاحداث فهي أيضا مكفرة للذنوب «وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» بهذا التطهير وإباحته لكم التيمم وتصييره الصعيد الطيب طهورا لكم رخصة مع
سوابغ نعمه التي أنعمها عليكم «لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ» نعمته بإطاعتكم إياه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان تحقيق الكلام في هذا الباب يقتضي بيان الأسباب المسوغة للتيمم من الأعذار
المانعة من استعمال الماء وما يجوز به التيمم وما لا يجوز وبيان كيفية التيمم
ووقته وبيان أحكامه المتعلقة به وحينئذ فههنا مطالب خمسة :
(المطلب الأول)
ـ فيما يسوغ معه التيمممن الأسباب الموجبة لذلك ، وانها ها في المنتهى الى ثمانية
وهي فقد الماء والخوف من استعماله والاحتياج اليه للعطش والمرض والجرح وفقد الآلة
التي يتوصل بها الى الماء والضعف عن الحركة وخوف الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة
وضيق الوقت عن استعمال الماء ، ويمكن إرجاع هذه الثمانية إلى ثلاثة كما اقتصر عليه
في الشرائع وهي عدم الماء وعدم الوصلة اليه والخوف ، بل يمكن إرجاع الجميع إلى أمر
واحد كما ذكره في الذكرى وهو العجز عن الماء ، وله أسباب يتوقف تفصيلها على رسم
مسائل :
(الاولى) ـ في
عدم وجوده ، ويدل عليه مضافا الى الآية المتقدمة الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما
رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن حمران وجميل بن دراج قالا : «قلنا لأبي عبد الله (عليهالسلام) امام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه ماء يكفيه
للغسل أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم؟ قال لا ولكن يتيمم الجنب ويصلي بهم فان الله تعالى
قد جعل التراب طهورا» وزاد في التهذيب «كما جعل
__________________
الماء طهورا». وما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا يجد الماء أيتيمم لكل صلاة؟ فقال لا هو
بمنزلة الماء». وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من
الأرض وليصل فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى». وما رواه في الكافي
عن ابي عبيدة الحذاء قال «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من
الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ قال إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها
فتغسله ثم تتيمم وتصلي. الحديث». الى غير ذلك من الاخبار الآتية ان شاء الله تعالى
في مطاوي الأبحاث الآتية. وفي المدارك عن بعض العامة ان الصحيح الحاضر إذا عدم
الماء كالمحبوس ومن انقطع عنه الماء يترك التيمم والصلاة لأن التيمم مشروط بالسفر
كما يدل عليه قوله تعالى : «وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ...» ثم قال : وبطلانه ظاهر لان ذكر السفر في الآية خرج مخرج
الغالب لان عدم الماء في الحضر نادر ، وإذا خرج الوصف مخرج الغالب انتفت دلالته
على نفي الحكم عما عدا محل الوصف كما حقق في محله. انتهى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه لا خلاف بين الأصحاب ـ كما نقله غير واحد منهم ـ في انه لا يشرع التيمم
إلا بعد طلب الماء ، قال في المنتهى : «ويجب الطلب عند إعواز الماء فلو أخل به مع
التمكن لم يعتد بتيممه ، وهو مذهب علمائنا اجمع» أقول : ويشير اليه
__________________
قوله عزوجل : «فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً» وعدم الوجدان لا يتحقق إلا بعد الطلب لإمكان قرب الماء منه ولا يعلمه ،
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الحسن عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في
الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا
قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وعن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «يطلب الماء في السفر ان كانت الحزونة فغلوة وان
كانت سهولة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك». ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ عن داود
الرقي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أكون في السفر وتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال ان
الماء قريب منا فاطلب الماء وانا في وقت يمينا وشمالا؟ فقال لا تطلب الماء ولكن
تيمم فإني أخاف عليه التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع». وعن يعقوب بن سالم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق أو
يساره غلوتين أو نحو ذلك؟ قال لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع». وعن علي
بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «فقال له داود الرقي أفاطلب الماء يمينا
وشمالا؟ فقال لا تطلب الماء يمينا ولا شمالا ولا في بئر ، إن وجدته على الطريق فتوضأ
وان لم تجده فامض». فإنها محمولة على الخوف كما هو ظاهر الخبرين الأولين وإطلاق
الثالث محمول على قيد الخوف المذكور فيهما.
وقد اختلف
الأصحاب في حد الطلب ، فقال الشيخ في المبسوط : والطلب واجب قبل تضيق الوقت في
رحله وعن يمينه وعن يساره وسائر جوانبه رمية سهم أو سهمين إذا لم يكن هناك خوف.
وقال في النهاية : ولا يجوز له التيمم في آخر الوقت إلا بعد طلب الماء
__________________
في رحله وعن يمينه وعن يساره بقدر رمية أو رميتين إذا لم يكن هناك خوف. ولم
يفرق في الأرض بين السهلة والحزنة ، وقال المفيد : ومن فقد الماء فلا يتيمم حتى
يدخل وقت الصلاة ثم يطلب امامه وعن يمينه وعن شماله رمية سهمين من كل جهة ان كانت
الأرض سهلة وان كانت حزنة طلبه في كل جهة مقدار رمية سهم. وقال ابن زهرة : ولا
يجوز فعله إلا بعد طلب الماء رمية سهم في الأرض الحزنة وفي الأرض السهلة رمية
سهمين يمينا وشمالا واماما ووراء بإجماعنا. وقال ابن إدريس وحده ما وردت به
الروايات وتواتر به النقل في طلبه إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين وإذا كانت حزنة
فغلوة سهم واحد. وقال في المنتهى بعد ان نقل طرفا من عبائر الأصحاب : ولم يقدره
المرتضى في الجمل ولا الشيخ في الخلاف والجمل بقدر وقال المحقق في المعتبر :
والتقدير بالغلوة والغلوتين رواية السكوني وهو ضعيف غير ان الجماعة عملوا بها ،
والوجه ان يطلب من كل جهة يرجو فيها الإصابة ولا يكلف التباعد بما يشق ، ورواية
زرارة تدل على انه يطلب دائما ما دام في الوقت حتى يخشى الفوات ، وهو حسن ،
والرواية واضحة السند والمعنى. انتهى. وقال في المدارك بعد نقله ذلك : وهو في محله
لكن سيأتي ان شاء الله تعالى ان مقتضى كثير من الروايات جواز التيمم مع السعة
فيمكن حمل ما تضمنته رواية زرارة من الأمر بالطلب الى ان يتضيق الوقت على
الاستحباب ، والمعتمد اعتبار الطلب من كل جهة يرجو فيها الإصابة بحيث يتحقق عرفا
عدم وجدان الماء. انتهى. أقول : لا شك ان رواية السكوني وان كانت ضعيفة السند
باصطلاحهم إلا ان ضعفها مجبور بعمل الأصحاب قديما وحديثا بها ، إذ لا راد لها سوى
المحقق وبعض من تبعه ، والرد بضعف السند قد عرفت انه خال من المستند سوى هذا
الاصطلاح الغير المرضى ولا المعتمد ، وعلى تقدير تسليمه فيكفي في صحتها عمل الطائفة
بها كما عرفت ، وحينئذ فالمعارضة بينها وبين حسنة زرارة المتقدمة ظاهرة ، ويمكن
الجمع بينهما بحمل الطلب الى ان يتضيق الوقت في الحسنة المذكورة على رجاء الحصول
كما يشعر به سياقها وحمل الاقتصار على الغلوة والغلوتين ـ كما
في رواية السكوني ـ على عدم الرجاء مع تجويز الحصول. واما حمل حسنة زرارة
كما ذكره في المدارك على الاستحباب ـ كما هي قاعدتهم في جميع الموارد والأبواب ـ فقد
بينا ما فيه في غير موضع من الكتاب ، بل الوجه عندي في الجمع بينهما هو ما ذكرناه
واليه يشير كلامه في المدارك وكذا في المعتبر من اعتبار رجاء الإصابة في الطلب
سواء كان في جميع الوقت أو بعضه (فان قلت) : ما الفرق بين رجاء الإصابة الذي حملت
عليه الحسنة المذكورة وتجويز الحصول الذي حملت عليه رواية السكوني؟ (قلت) : الفرق
بينهما هو حصول الظن بالحصول في جانب الرجاء وعدمه في مجرد التجويز ، فمتى ظن
الحصول وجب عليه الطلب الى ان يتضيق الوقت ولو لم يظنه بل جوز الحصول وعدمه على
وجه يتساويان عنده فليس عليه إلا طلب الغلوة والغلوتين باعتبار السهولة والحزونة
كما في رواية السكوني. وهو وجه حسن في الجمع بينهما وبه يزول الإشكال في هذا
المجال. واما قوله في المدارك ـ إشارة إلى الطعن في حسنة زرارة وما دلت عليه من
وجوب التأخير إلى آخر الوقت ـ ان مقتضى كثير من الروايات جواز التيمم مع السعة حتى
انه اضطر بسبب ذلك الى حملها على الاستحباب جمعا بينها وبين تلك الاخبار ـ ففيه ان
القول بوجوب التأخير إلى آخر الوقت مدلول جملة من الاخبار كما سيأتي بيانه ان شاء
الله في محله فبعين ما يقال في الجواب عن تلك الاخبار يجاب عن هذه الحسنة المذكورة
، وليس الدلالة على هذا القول مخصوصا بهذه الرواية كما يشير اليه كلامه وسيصرح به
ايضا فيما يأتي حتى انه بحملها على الاستحباب ينسد الكلام في هذا الباب.
بقي الكلام في
ان الأصحاب ذكروا وجوب الطلب بالغلوة والغلوتين كما هو المذكور في رواية السكوني
من الجهات الأربع والرواية خالية من ذلك ، ولعل الوجه في تقييدهم إطلاق الرواية
بالأربع الجهات انه مع التجويز في الجهات الأربع يجب الطلب في الأربع ، إذ الموجب
للطلب هو تجويز الوجود ولهذا لو علم وتيقن انتفاء الوجود في جهة أو جهتين مثلا سقط
وجوب الطلب فيهما اتفاقا.
فروع
(الأول) ـ قال
في المدارك : قال في المنتهى لو طلب قبل الوقت لم يعتد به ووجب إعادته لأنه طلب
قبل المخاطبة بالتيمم فلم يسقط فرضه ، ثم اعترف بان ذلك انما هو إذا أمكن تجدد
الماء في موضع الطلب والا لم يجب عليه الطلب ثانيا. وهو جيد ان قلنا ان الطلب انما
هو في الغلوات كما رواه السكوني اما على رواية زرارة فيجب الطلب ما أمل الإصابة في
الوقت سواء كان قد طلب قبل الوقت أم لا. انتهى. أقول : لا ريب ان عمل الأصحاب في
هذا الباب انما هو على خبر السكوني المذكور وجميع ما يذكرونه من فروع هذه المسألة
انما هو على تقديره ، ولم يذكر أحد منهم حسنة زرارة في المقام سوى صاحب المعتبر
ومثله السيد المذكور ، ولهذا قال العلامة في المنتهى بعد نقل الأقوال في حد الطلب
مع اقتفائه كلام المعتبر غالبا : ولم نقف في ذلك إلا على حديث واحد وفي سنده قول
ويمكن العمل به لاعتضاده بالشهرة. إلى آخر كلامه.
(الثاني) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب بأنه انما يجب الطلب مطلقا أو في الجهات الأربع مع احتمال
الظفر فلو تيقن عدم الإصابة في جهة من الجهات أو مطلقا فلا طلب لانتفاء الفائدة ،
والظاهر انه لا خلاف فيه بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) حتى من القائلين بوجوب
التأخير في التيمم كالشيخ واتباعه ، فإن وجوب التأخير عندهم لدليل اقتضاه ودل عليه
لا لرجاء الحصول ، ولهذا أنهم أوجبوا التأخير مطلقا وان قطع بعدم الماء كما سيجيء
بيانه ان شاء الله تعالى في موضعه. ونقل عن بعض العامة القول بوجوب الطلب وان قطع
بعدم الماء ورد بان الطلب مع تيقن عدم الإصابة عبث لا يقع
__________________
الأمر به من الشارع. وهو جيد. ولو غلب على ظنه العدم فهل يكون حكمه حكم
اليقين في عدم وجوب الطلب أم لا؟ قولان ، نقل الأول منهما عن ابن الجنيد واختاره
بعض أفاضل متأخري المتأخرين ، نظرا الى قيام الظن مقام العلم في الشرعيات ، ولعدم
تناول أدلة وجوب الطلب لظان العدم ، وقيل بالثاني وبه صرح في المنتهى واختاره في
المدارك وعللوه بجواز كذب الظن. وهو الأظهر. وما احتج به الفاضل المتقدم ذكره ـ من
قيام الظن مقام العلم في الشرعيات ـ على إطلاقه ممنوع بل هو موقوف على الدليل ،
وما ادعاه من عدم تناول أدلة الطلب لظان العدم أشد منعا ، وكيف لا وهي مطلقة كما
عرفت من حسنة زرارة ورواية السكوني ، خرج من ذلك تيقن عدم وجود الماء لاستلزامه
العبث كما عرفت وبقي الباقي.
(الثالث) ـ لو
تيقن وجود الماء لزمه السعي إليه ما دام الوقت والمكنة حاصلة سواء كان قريبا أو
بعيدا ، وهل يجوز الاستنابة في الطلب اختيارا؟ ظاهر شيخنا في الروض ذلك لكنه اشترط
عدالة النائب ، وعندي فيه إشكال لأن ظاهر الأخبار توجه الخطاب الى فاقد الماء نفسه
فقيام غيره مقامه في ذلك يتوقف على الدليل نعم لو كان المراد من النيابة نقله
وحمله اليه فلا إشكال في جوازه لانه من قبيل طلب الماء في منزله من خادمه أو زوجته
وحينئذ فلا وجه لاشتراط العدالة كما ذكره ، واما لو كان المراد انما هو الاعتماد
عليه والوثوق به في وجود الماء وعدمه حتى انه يقبل قوله في عدم الماء فالظاهر هو
ما ذكرناه ، ويأتي ما ذكره مع تعذر الطلب بنفسه فإنه لا بأس بالاستنابة بل يجب ذلك
، وفي اشتراط عدالة النائب وجهان أظهرهما ذلك مع الإمكان ، ويحسب لهما على
التقديرين لو قلنا به في الأول. ولو فات بالطلب غرض مطلوب يضر بحاله كالحطاب
والصائد ففي وجوب الطلب عليه لقدرته على الماء أو سقوطه والانتقال الى التيمم دفعا
للضرر وجهان ، اختار أولهما في المدارك وثانيهما في المعتبر ، وظاهر الروض التوقف
وهو
كذلك لعدم النص في المسألة ، هذا كله فيما إذا كان يمكن حصول الماء قبل
ذهاب الوقت والا سقط الطلب قولا واحدا لعدم الفائدة. وهل يقوم الظن هنا مقام
اليقين فيجب الطلب مع ظنه؟ قيل نعم والظاهر ان وجهه ما تقدم في سابق هذا الموضع ،
والظاهر العدم بناء على رواية السكوني التي عليها مدار كلام الأصحاب في هذه
المسألة وفروعها كما أشرنا إليه آنفا لتخصيصها الطلب بالغلوة والغلوتين فيما إذا
ظن الماء أو جوزه ، وان خصصناها بالتجويز بناء على ما قدمناه آنفا فهو أظهر ، واما
مع تيقن وجود الماء فإنه خارج عن مورد الرواية لدخوله تحت الواجد للماء ، واما على
تقدير حسنة زرارة فالأمر ظاهر لإيجابها الطلب في الوقت مطلقا.
(الرابع) ـ لو
خاف على نفسه أو ما له بمفارقة رحله لم يجب عليه الطلب دفعا للحرج اللازم من وجوب
الطلب والحال هذه ، وعلى ذلك يدل ما تقدم من روايتي داود الرقي ويعقوب بن سالم ،
ويؤيده ما رواه الحلبي في الصحيح «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان
يدخل الركية لأن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم».
(الخامس) ـ المشهور
بين الأصحاب انه لو أخل بالطلب حتى ضاق الوقت ثم تيمم وصلى فإنه قد أخطأ وصح تيممه
وصلاته ، أما الخطأ فظاهر لإخلاله بما وجب عليه من الطلب ، واما صحة تيممه وصلاته
فالوجه ان الطلب يسقط مع ضيق الوقت ويجب على المكلف في تلك الحال التيمم لانه غير
واجد للماء كما هو المفروض وأداء الصلاة بتلك الطهارة وقد فعل وامتثال الأمر يقتضي
الاجزاء. وعن المبسوط والخلاف عدم صحة تيممه والحال هذه قال في المعتبر : قال
الشيخ لو أخل بالطلب لم يصح تيممه ويلزم على قوله لو تيمم وصلى ان يعيد. وفيه
إشكال لأن مع ضيق الوقت يسقط الطلب ويتحتم التيمم فيكون مجزئا وان أخل بالطلب وقت
السعة لأنه يكون مؤديا فرضه بطهارة
__________________
صحيحة وصلاة مأمور بها ، وأبلغ منه من كان معه ماء فوهبه أو اراقه. انتهى. أقول
: ممن تبع الشيخ في هذه المقالة الشهيد في الدروس حيث قال : ولو وهب الماء أو
اراقه في الوقت أو ترك الطلب وصلى أعاد. لكن لا يخفى ان كلام الشيخ المتقدم ذكره
وكذا كلام الدروس لا تقييد فيهما بالضيق وان كان إطلاقهما يقتضي الشمول لذلك إلا
انه مع الحمل عليه يشكل بما ذكره في المعتبر فإنه جيد وجيه ، ولو حمل ذلك على
السعة توجه ما ذكروه من الإعادة لأنه مأمور بالطلب مع السعة فلو تيمم وصلى والحال
هذه كان ما اتى به باطلا ووجب عليه الإعادة بعد الطلب ان كان في الوقت سعة وإلا
تيمم وصلى مرة أخرى ، قال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر المذكور : ويمكن ان
يحمل كلام الشيخ على ما إذا أخل بالطلب وتيمم مع السعة فإن تيممه لا يصح قطعا.
انتهى. واما ما ذكره في الدروس من انه لو وهب الماء أو اراقه في الوقت وصلى أعاد
فلعل الوجه فيه ان الصلاة قد وجبت عليه واستقرت في ذمته بطهارة مائية لوجود الماء
معه في الوقت وتمكنه من استعماله وتفويت الواجب من قبل نفسه لا يكون عذرا مسوغا
للتيمم فيجب الإعادة في الوقت وخارجه. إلا انه على إطلاقه مشكل بل الظاهر ان الحكم
فيه يصير كفاقد الماء من جواز التيمم في السعة بعد الطلب أو وجوب التأخير إلى ضيق
الوقت. واولى بعدم الإعادة ما لو تيمم وصلى آخر الوقت فإنه مأمور بالصلاة والطهارة
وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء ، واما مع السعة فيحتمل القول فيما إذا وجد الماء بعد
ان صلى بتيممه في السعة بأنه يجب عليه الإعادة لتوجه الخطاب إليه في أول الأمر
بالصلاة بطهارة مائية والحال انه قد وجد الماء في الوقت اما مع الضيق فإنه لا يتجه
هذا الاحتمال ونقل في المدارك عن المنتهى انه لو كان بقرب المكلف ماء وتمكن من
استعماله وأهمل حتى ضاق الوقت فصار لو مشى اليه ضاق الوقت فإنه يتيمم وفي الإعادة
قولان أقربهما الوجوب ، ثم اعترضه بأنه يتوجه عليه ما سبق وأشار به الى ما قدمه في
مسألة المخل بالطلب حتى ضاق الوقت حيث اختار فيه ما ذكره المحقق. وهو جيد. بقي
الكلام
في انه هل يأثم بإراقته الماء أو هبته في الوقت مع علمه بعدم الماء وان
فرضه ينتقل الى التيمم؟ ظاهر الأصحاب ذلك وهو كذلك كمن أخل بالطلب مع كونه مأمورا
به وهذا قد أخل بالطهارة بالماء مع كونه مأمورا بذلك ، وكيف كان فحيث ان الحكم غير
منصوص وان كان القول المشهور أوفق بالقواعد الشرعية فلا ينبغي ترك الاحتياط في
المسألة.
(السادس) ـ لو
أخل بالطلب وضاق الوقت فتيمم وصلى ثم وجد الماء في محل الطلب من الغلوات أو مع
أصحابه الباذلين له أو في رحله فهل يحكم بصحة ما فعل من التيمم والصلاة أو يجب
عليه القضاء؟ قولان أحدهما العدم وهو اختيار السيد في المدارك وقبله المحقق
الأردبيلي ، ووجهه ظاهر مما تقدم في سابق هذه المسألة فإنها من جزئياتها ،
والمشهور وجوب القضاء استنادا الى ما رواه الشيخ عن ابي بصير قال : «سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء فنسيه
وتيمم وصلى ثم ذكر ان معه ماء قبل ان يخرج الوقت؟ قال عليه ان يتوضأ ويعيد الصلاة».
وأنت خبير بان ظاهر الخبر المذكور (أولا) ـ انما هو النسيان وهو أخص من المدعى. و
(ثانيا) ـ ان تيممه وقع في السعة وهو خلاف المفروض في كلامهم ، والعجب ان شيخنا
الشهيد الثاني في الروض حيث قيد إطلاق عبارة المصنف بضيق الوقت قال وانما قيدنا
المسألة بالضيق تبعا للرواية وفتوى الأصحاب. والرواية ـ كما ترى ـ صريحة في السعة
وليس غيرها في المسألة. و (ثالثا) ـ انه قد صرح بأنه لو تيمم في الصورة المذكورة
حال السعة بطل تيممه وصلاته وان لم يجد الماء بعد ذلك ، قال لمخالفته الأمر وان
جوزنا التيمم مع سعة الوقت بعد الطلب. انتهى. ولا ريب ان هذا مدلول الخبر المذكور
كما عرفت. ثم قال : واعلم ان الأصل يقتضي عدم وجوب إعادة الصلاة مع مراعاة التضيق
وان أساء بترك الطلب لإيجابه الانتقال إلى طهارة الضرورة ، لكن لا سبيل الى رد
الحديث المشهور ومخالفة الأصحاب. وفيه
__________________
ما عرفت من ان الخبر ظاهر بل صريح في السعة ، وبه يظهر ان الأظهر هو القول
بعدم الإعادة في المسألة المذكورة ، وما ادعاه ايضا من التقييد في كلام الأصحاب
محل نظر لما عرفت في عبارة الشيخ من الإطلاق وكذا عبارة العلامة التي ارتكب
التقييد فيها. والله العالم.
(السابع) ـ قال
في المعتبر : لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم أجزأه وهو اختيار علم الهدى. وقال
الشيخ ان اجتهد وطلب لم يعد وإلا أعاد ، لنا ـ انه صلى بتيمم مشروع فلا يلزمه
الإعادة ، ولان النسيان لا طريق إلى إزالته فصار كعدم الوصلة ، الى ان قال : وفي
رواية أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) «يتوضأ ويعيد». وفي سندها عثمان بن عيسى وهو ضعيف فهي إذن ساقطة. انتهى.
وقال في الذكرى : ولو نسي الماء أجزأ عند المرتضى لعموم «رفع عن أمتي الخطأ» . والشيخ يعيد ان لم يطلب ، لهذا الخبر ، وضعف بعثمان بن
عيسى. وقول الشيخ أقرب للتفريط. والشهرة تدفع ضعف السند. انتهى. أقول : التحقيق
عندي ان ظاهر الخبر المشار اليه هو الإعادة في صورة النسيان مع سعة الوقت مطلقا
طلب أو لم يطلب ، والواجب العمل به وضعفه باصطلاحهم مجبور بالشهرة كما ذكره في
الذكرى واخبار الطلب يجب تخصيصها بالخبر المذكور ، وبه يظهر ضعف ما اختاره في
الذكرى ايضا كما ضعف ما اختاره في المعتبر ، نعم لو كان الذكر حال الضيق فالمتجه
الاجتزاء بما فعل كما تقدم وهو خارج عن مورد الخبر كما عرفت. واما قوله في المعتبر
: لنا ـ انه صلى بتيمم مشروع ، فإن أراد ولو في حال السعة فهو مجرد مصادرة ، وان
أراد في حال الضيق فهو صحيح لما سلف.
(الثامن) ـ لو
كان معه ماء فأراقه قبل الوقت أو مر بماء فلم يتطهر قبل الوقت والحال انه لا ماء
ثمة تيمم وصلى ولا اعادة عليه إجماعا كما في المنتهى ، ولو كان ذلك
__________________
بعد دخول الوقت فقد عرفت مما تقدم انه كذلك وان علم باستمرار الفقدان ،
لانه صلى صلاة مأمورا بها بتيمم مشروع وقضية امتثال الأمر الاجزاء ، والمحقق في
المعتبر ذكر الحكم المذكور ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن العامة وهو مؤذن بدعوى الإجماع عليه ، وقطع الشهيد في الدروس
والبيان بوجوب الإعادة هنا للتفريط وقد سبق نقل عبارته من الدروس ، واحتمل ذلك في
التذكرة.
(التاسع) ـ اختلف
الأصحاب فيما لو كان الماء موجودا عنده فأخل باستعماله حتى ضاق الوقت عن استعماله
فهل ينتقل الى التيمم ويؤدي أو يتطهر بالماء ويقضي؟ قولان ، اختار أولهما العلامة
في المنتهى لقوله (عليهالسلام) في صحيحة حماد بن عثمان «هو بمنزلة الماء». وانما يكون بمنزلته لو ساواه في أحكامه ، ولا ريب في
انه لو وجد الماء وتمكن من استعماله وجب عليه الأداء فكذا ما لو وجد ما سواه ، قال
في المدارك بعد نقل ذلك : قلت ويد عليه فحوى قوله (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي : «ان رب الماء هو رب الأرض». وفي صحيحة جميل «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وهذا القول لا يخلو من
رجحان ، ولا ريب ان التيمم والأداء ثم القضاء بالطهارة المائية أحوط. انتهى واختار
ثانيهما المحقق في المعتبر حيث قال : من كان الماء قريبا منه وتحصيله ممكن لكن مع
فوات الوقت أو كان عنده وباستعماله يفوت لم يجز التيمم وسعى إليه لأنه واجد.
انتهى. وهو اختيار السيد في المدارك حيث قال بعد فرض المسألة : فهل يتطهر ويقضي أو
يتيمم ويؤدي؟ قولان ، أظهرهما الأول وهو خيرة المصنف في المعتبر لأن الصلاة مشروطة
بالطهارة والتيمم انما يسوغ مع العجز عن استعمال الماء والحال ان المكلف واجد
للماء متمكن من استعماله غاية الأمر ان الوقت لا يتسع لذلك ولم يثبت كون ذلك مسوغا
للتيمم. انتهى. قال في الروض : وفرق المحقق الشيخ علي بين
__________________
ما لو كان الماء موجودا عنده بحيث يخرج الوقت لو استعمله وبين من كان الماء
بعيدا عنه بحيث لو سعى اليه لخرج الوقت فأوجب الطهارة المائية على الأول دون
الثاني ، مستندا الى انتفاء شرط التيمم وهو عدم وجدان الماء في الأول وعدم صدق
الوجدان في الثاني ، ثم اعترضه فقال : وأنت خبير بان المراد بوجدان الماء في باب
التيمم وفي الآية فعلا أو قوة ، ولهذا يجب على الفاقد الطلب والشراء لصدق الوجدان
، ولو كان المراد الوجدان بالفعل لم يجب عليه ذلك لانه تعالى شرط في جواز التيمم
عدم الوجدان ، فلا يتم حينئذ ما ذكره من الفرق لصدق الوجدان في الصورتين بالمعنى
المعتبر شرعا ، فلا بد من الحكم باتفاقهما اما بالتيمم كما ذكره المصنف أو
بالطهارة المائية كما ذكره المحقق. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه.
أقول :
والتحقيق عندي في هذه المسألة هو ما ذهب إليه العلامة من وجوب التيمم والأداء فإنه
هو الأقرب الى الانطباق على القواعد الشرعية (أما أولا) ـ فلظواهر الأخبار التي
احتج بها العلامة ولهذا قال في المدارك بعد ان ايدها بما ذكره : وهذا القول لا
يخلو من رجحان. و (اما ثانيا) ـ فلانه لا يخفى ان المكلف مأمور بالصلاة في وقتها
آية ورواية ، غاية الأمر أنها مشروطة بالطهارة المائية إن أمكنت وإلا فبالترابية
لما دلت عليه الآية والاخبار المستفيضة ، وحيث انه لم يتمكن من المائية هنا
لاستلزام استعمالها خروج الوقت تعينت الترابية ، كما لو وجد ماء يستلزم السعي إليه
خروج الوقت فإنه يتيمم اتفاقا كما تقدم. و (اما ثالثا) ـ فلانه لا ريب أن مشروعية
التيمم انما هو للمحافظة على إيقاع الصلاة في وقتها وإلا كان الواجب مع فقد الماء
أو تعذر استعماله تأخير الصلاة عن وقتها الى ان يتمكن من استعماله فيقضي الصلاة
كما هو مقتضى كلام هذا القائل والمعلوم من الشرع خلافه ، وحينئذ فمجرد وجود الماء
في الصور المفروضة مع استلزام استعماله خروج الوقت في حكم العدم ، وبذلك يظهر ان
قوله في المدارك انه لم يثبت كون عدم اتساع الوقت مسوغا للتيمم ليس في محله ، وكيف
لا ونظر الشارع أولا
وبالذات انما هو الى الصلاة والإتيان بها في وقتها ونظره الى الطهارة
بالماء انما هو ثان وبالعرض حيث انها شرط لها فكيف يقدم ما هو بالعرض على ما هو
بالذات مع ان الشارع قد جعل له عوضا عنه تأكيدا للمحافظة عليها في وقتها؟ وكيف لا
يكون عدم اتساع الوقت مسوغا للتيمم والعلة في مشروعيته انما هو المحافظة على الإتيان
بالصلاة في وقتها كما عرفت؟ ولعله لهذا الوجه لم يعد في المسوغات فإنه حيث كان هو
الأصل في مشروعية التيمم اكتفي بذلك عن عده في المسوغات ، وكيف كان فإنه وان كان
ما اخترناه هو الأنسب بالقواعد الشرعية المؤيدة بما تقدم من تلك الأخبار المروية
إلا انه حيث كانت المسألة عارية عن النصوص على الخصوص فالأحوط بعد الصلاة بالتيمم
أداء إعادة الصلاة بالطهارة المائية قضاء.
ثم انه لا يخفى
عليك ان هذا البحث كما يجري في هذه المسألة يجري أيضا في مسألة عدم اتساع الوقت
لإزالة النجاسة عن الساتر الذي لا يجد غيره. وكذا تحصيل الساتر إذا توقف على زمان
يفوت به الوقت ، فهل يصلي بالنجاسة في الاولى وعاريا في الثانية في الوقت أداء أو
يقدم إزالة النجاسة أولا وكذا تحصيل الساتر ثم يصلي قضاء؟ القولان المتقدمان ،
واما ما ذكره المحقق الثاني من التفصيل فقد عرفت بما قدمنا نقله عن الروض انه غير
واضح السبيل.
(العاشر) ـ لو
وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته فالظاهر انه في حكم العدم وضوء كان أو غسلا ،
ونسبه في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ونحوه في التذكرة ، ولم
ينقل الخلاف في المعتبر والمنتهى والتذكرة في هذه المسألة إلا عن العامة وقال في الروض : وربما حكي عن الشيخ في بعض أقواله
التبعيض وهو مذهب العامة. وقطع العلامة في النهاية بأن المحدث لو وجد من الماء ما
لا يكفيه لطهارته لم يجب عليه استعماله بل يتيمم ، واحتمل في الجنب مساواته للمحدث
ووجوب صرف الماء الى بعض
__________________
أعضائه لجواز وجود ما تكمل به الطهارة ، قال والموالاة ساقطة هنا بخلاف
المحدث واحتمل ذلك شيخنا البهائي في الحبل المتين أيضا.
أقول : والظاهر
هو القول المشهور للأخبار المتكاثرة ، واستدل على ذلك ايضا بقوله عزوجل «فَلَمْ
تَجِدُوا» وقد تقدم الكلام
في ذلك في صدر الباب في تفسير الآية المذكورة ، والأظهر الرجوع في ذلك الى الاخبار
فإنها صريحة الدلالة في المدعى ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم
عن أحدهما (عليهماالسلام) «في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به؟ قال يتيمم ولا يتوضأ». وما
رواه في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجنب ومعه قدر ما يكفيه من الماء لوضوء
الصلاة أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال لا بل يتيمم ألا ترى انه انما جعل عليه نصف
الوضوء». وعن محمد بن حمران وجميل بن دراج في الصحيح «أنهما سألا أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء
ما يكفيه للغسل أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم؟ فقال لا ولكن يتيمم الجنب ويصلي بهم فان
الله عزوجل جعل التراب طهورا». ورواه الشيخ في الصحيح مثله إلا انه ترك «بعضهم» وهو أظهر في الاستدلال ، وما رواه الشيخ عن الحسين بن
ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجنب ومعه من الماء بقدر ما يكفيه لوضوء
الصلاة أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال يتيمم ألا ترى انه جعل عليه نصف الطهور». وربما
لاح من خبري الحلبي والحسين بن ابي العلاء ان من أحدث بالأصغر بعد تيممه عن
الجنابة فان الواجب عليه هو التيمم بدلا عن الجنابة كما هو المشهور لا عن الأصغر
كما هو قول المرتضى ، إلا انه يمكن تخصيص الخبرين المذكورين بكون السؤال فيهما عن
هذا الحكم بعد الجنابة كما يؤنس به التعليل المذكور من قوله (عليهالسلام) «ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الوضوء» كما في الأولى
أو «الطهور» كما
__________________
في الثانية ، فإن الظاهر ان منشأ هذا السؤال ان السائل توهم أفضلية الوضوء
على التيمم لكونه طهارة مائية مقدورة للجنب سابغة على الأعضاء فيحصل بها استباحة
ما يحصل بالتيمم الذي هو مخصوص بعدم وجود الماء أو عدم إمكان استعماله ، فأجابه (عليهالسلام) بان الواجب عليه شرعا لرفع حدث الجنابة في الحال
المذكورة انما هو التيمم لانه سبحانه بعد تعذر الماء للغسل وجودا أو استعمالا نقله
الى التيمم لطفا به وكرما كما دلت عليه آية التيمم المتقدمة وقوله تعالى : «ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ... الآية» ألا ترى انه لمزيد لطفه وعنايته انما جعل عليه
نصف الوضوء يعني مسح المغسول منها وهي ثلاثة دون الممسوح منها وهي الثلاثة الأخرى
والوضوء مركب من أعضاء ثلاثة مغسولة وأعضاء ثلاثة ممسوحة. وأنت خبير بان ما ذكرنا
من الكلام في هذه المسألة متجه فيما إذا كان مكلفا بطهارة واحدة فلو كان مكلفا
بطهارتين كالوضوء والغسل بناء على المشهور في غسل الحيض والنفاس ونحوهما من وجوب
الوضوء معه فإنها لو وجدت ما يكفي للوضوء دون الغسل توضأت عن الأصغر وتيممت بدلا
من الغسل ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب ، ولو وجدت ما يكفي للغسل خاصة قدمته وتيممت
عن الحدث الأصغر ، ويحتمل التخيير هنا لأنهما فرضان مستقلان إلا ان الأحوط الأول.
ثم انه لا يخفى ايضا ان هذا الحكم آت فيما لو تضرر بعض أعضائه بالغسل أو كان بعض
أعضائه نجسا ولا يقدر على طهارته بالماء فإنه يتيمم ولا يجزئه تيمم بعض وغسل بعض ،
لأن الطهارة عبادة شرعية موقوفة على التوظيف من الشارع والذي علم منه اما الماء في
الجميع أو التراب في الجميع ولم يرد عنه التبعيض ، ونقل في المعتبر عن الشيخ في
المبسوط والخلاف انه قال : ولو غسلها وتيمم كان أحوط. وهو ضعيف لما عرفت.
(الحادي عشر) ـ
اختلف الأصحاب في من وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة إلا بمزجه بالمضاف على وجه
لا يسلبه الإطلاق فهل يجب المزج والطهارة به أم يجوز له ترك المزج والانتقال الى
التيمم؟ فذهب جمع من المتأخرين : منهم ـ العلامة
واتباعه إلى الأول ، ونقل عن جمع من المتقدمين كالشيخ واتباعه الميل الى
الثاني ، وربما بني الخلاف هنا على الخلاف المتقدم في معنى الآية ، فإن فسرنا عدم
وجود الماء بالقول الثاني المتقدم وهو كون المكلف غير واجد للماء بان يكون في مكان
لا ماء فيه فالمتجه قول الشيخ بالانتقال الى التيمم ، فإنه يصدق على هذا من حيث ان
الماء لا يكفيه للطهارة انه غير واجد للماء فيصير فرضه التيمم ، وان قلنا ان
المراد بعدم وجدان الماء انما هو عدم التمكن منه كما تقدم في القول الأول فالمتجه
ما ذكره العلامة لصدق التمكن بالمزج كصدقه بالسعي والطلب وبعض المحققين بنى
القولين المذكورين على ان الطهارة بالماء في الصورة المفروضة هل هو من قبيل الواجب
المطلق فيجب المزج إذ ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور فهو واجب أو انها
واجب مشروط بوجود الماء وتحصيل مقدمة الواجب المشروط غير واجب؟ وقد تقدم البحث في
هذه المسألة مستوفى في باب الماء المضاف وبيان ما هو الحق المختار من القولين
المذكورين.
(الثاني عشر) ـ
قد صرح الأصحاب بأنه لو كان على بدن المصلى أو ثوبه نجاسة ومعه من الماء ما لا
يكفيه إلا لإزالة النجاسة أو الطهارة فإنه يجب تقديم إزالة النجاسة والظاهر ان
الحكم بذلك اتفاقي عندهم كما صرح به في المعتبر والمنتهى والتذكرة ، وعلل بأن
الطهارة المائية لها بدل وهو التيمم بخلاف إزالة النجاسة فيجب صرفه إليها والتيمم
جمعا بين الحقين. وأنت خبير بأن لقائل أن يقول ان الشارع قد قيد جواز التيمم بعدم
وجدان الماء والماء في الصورة المفروضة موجود ، وزعم البدلية على إطلاقه ممنوع إذ
غاية ما يفهم من الأخبار ثبوت البدلية مع فقد الماء بالكلية أو التضرر باستعماله
وكل منهما مفقود في محل النزاع ، على ان دعوى البدلية معارض بتجويز الشارع الصلاة
في النجاسة مع تعذر إزالتها أو عاريا على الخلاف في المسألة. وتقديم أحدهما في
استعمال هذا الماء الموجود على الآخر يحتاج إلى دليل ، ولا اعلم لهم دليلا وراء
الإجماع المدعى والاعتماد عليه لا يخلو من مجازفة كما قدمنا القول فيه في مقدمات
الكتاب ، وهؤلاء
المدعون له قد طعنوا فيه في غير موضع من كتبهم الاستدلالية وان استسلقوه في
أمثال هذه المقامات ، نعم لو علم دخول أقوال متقدمي الأصحاب من أرباب النصوص في
هذا الإجماع لم يبعد الاعتماد عليه. وبالجملة فالمسألة لعدم النص لا تخلو من اشكال
والاحتياط فيها واجب عندي على كل حال بان يتطهر بالماء ويصلي بالنجاسة ثم يعيد في
الوقت أو خارجه بعد التمكن من الماء لإزالة النجاسة. ثم انهم قد صرحوا أيضا بان ما
ذكر من الحكم المذكور وهو وجوب تقديم إزالة النجاسة والتيمم مخصوص بوجود ما يتيمم
به وإلا وجب الوضوء بذلك الماء والصلاة بالنجاسة. وهو مما لا اشكال فيه على القول
المذكور. وصرحوا ايضا بتقييد الحكم بالنجاسة الغير المعفو عنها وبكون الثوب لو
كانت النجاسة فيه مما يضطر الى لبسه. والجميع مما لا اشكال فيه. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ في عدم الوصلة اليه والتمكن منه والبحث هنا يقع في مواضع ثلاثة :
(الأول) ـ قد
صرح الأصحاب بان من عدم الثمن فهو كمن عدم الماء ، وكذا ان وجده بثمن يضر بحاله
بمعنى انه ليس للمكلف مال يقوم بذلك من غير تطرق ضرر اليه ونقصان في ماله ، وقيل
ان المراد ضرره في الحال يعني حال الشراء وان لم يضر به في المآل ، واما لو لم
يترتب عليه الضرر بأي المعنيين اعتبر فإنه يجب الشراء عندهم وان زاد على قيمة
المثل أضعافا إذ المناط انما هو الضرر وعدمه كما عرفت. ونقل عن ابن الجنيد
الانتقال الى التيمم هنا وعدم وجوب الشراء متى كان غاليا وانه يصلي بتيممه ثم يعيد
بعد وجود الماء.
أقول : (اما
الأول) من هذه المذكورات فلا اشكال فيه إذ صدق عدم الوجدان فيه ظاهر. و (اما
الثاني) فأسنده في المعتبر الى فتوى الأصحاب ، واستدل عليه بان من خشي من نص أخذ
ما يجحف به لم يجب عليه العي وتعريض المال للتلف
وإذا ساغ التيمم هناك دفعا للضرر ساغ له هنا ، وبرواية يعقوب بن سالم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق
ويساره غلوتين أو نحوهما؟ قال لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع». قال في
المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن ويؤيده عموم قوله تعالى : «وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وقوله عزوجل : «يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» و (اما الثالث) فاستدلوا عليه بصحيحة صفوان قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجل احتاج الى الوضوء للصلاة وهو لا يقدر على الماء
فوجد قدر ما يتوضأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها يشتري ويتوضأ أو يتيمم؟
قال لا بل يشتري قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضأت وما يشترى بذلك مال كثير». ورواه
في الفقيه مرسلا عن الرضا (عليهالسلام) أقول : والذي وقفت عليه زيادة على هذا الخبر ما رواه
العياشي في تفسيره عن الحسين بن أبي طلحة قال : «سألت عبدا صالحا عن قول الله عزوجل : «أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» ما حد ذلك فان لم تجدوا بشراء أو بغير شراء ان وجد قدر
وضوء بمائة ألف أو ألف وكم بلغ؟ قال : ذلك على قدر جدته». وما في دعائم الإسلام حيث قال : «وقالوا (عليهمالسلام) في المسافر إذا لم يجد الماء إلا بموضع يخاف على نفسه
ان مضى في طلبه من لصوص أو سباع أو ما يخاف منه التلف والهلاك يتيمم ويصلي. وقالوا
(عليهمالسلام) في المسافر يجد الماء بثمن غال ان يشتريه إذا كان
واجدا لثمنه فقد وجده إلا ان يكون في دفعه الثمن
__________________
ما يخاف منه على نفسه التلف ان عدمه والعطب فلا يشتريه ويتيمم بالصعيد
ويصلي».
أقول : لا يخفى
ان ما استدل به المحقق في المعتبر على القسم الثاني لا يخلو من نظر وان استحسنه في
المدارك ، اما قوله : «من خشي من لص أخذ ما يجحف به. إلخ» فهو مع كونه لا دليل
عليه لا يخرج عن القياس ، فان ورود ذلك على تقدير تسليمه في السعي إلى تحصيل الماء
لا يوجب انسحابه الى الشراء سيما مع عموم الصحيحة المنقولة في كلامهم والخبرين
اللذين اردفناهما بها ، واما الاستناد إلى الرواية فكذلك أيضا ، لأن موردها طلب
الماء في الغلوات وهو خارج عن محل المسألة وحمل ما نحن فيه على ذلك لا يخرج عن
القياس ، وبالجملة فإن الأخبار التي نقلناها في المسألة عامة للصورة الثانية
والثالثة ، حيث ان ظاهرها وجوب الشراء ما وجد الثمن قليلا كان أو كثيرا ، والظاهر
انه الى ما ذكرنا ذهب المرتضى على ما نقله في المعتبر حيث قال : «وإذا لم يوجد إلا
ابتياعا وجب مع القدرة وان كثر الثمن ، كذا قال علم الهدى ، وقيل ما لم يتضرر به
في الحال وهو أشبه» ثم استدل على الأول بأنه واجد للماء ضرورة قدرته عليه بالثمن
الموجود ، ثم أورد رواية صفوان إلى ان قال : واما الثاني وهو اشتراط عدم الضرر
الحالي فهو اختيار الشيخ ، ثم نقل قول ابن الجنيد الآتي الى ان قال : وقال الشيخ
في كتبه كلها لا يجب شراؤه إذا كان مضرا في الحال وهو فتوى فضلائنا وفتوى فقهاء
الجمهور ، وانما قلنا انه أشبه لان من خشي. إلى آخر ما قدمناه من نقل دليله. وأنت
خبير بان ظاهر إطلاق المرتضى هو ما ذكرناه ، وتقييدهم بالضرر المذكور في مقابلة
إطلاقه شاهد لما ندعيه. وهذا الضرر الذي قيدوا به لا يخلو من إجمال ، نعم يمكن
التقييد بما دلت عليه رواية الدعائم من انه متى استلزم دفع المال خوف التلف على
نفسه والعطب فإنه يجب الانتقال الى التيمم ، ويؤيده ما دل على نفي الحرج في الدين
وارادة اليسر دون العسر وسعة الحنيفية
__________________
ونحو ذلك ، وحينئذ فإن أريد بالضرر المذكور في كلامهم هو ما ذكرناه فالحق
ما ذكره في المعتبر ونقله عن الشيخ واتباعه ، وان أراد غير ذلك فالحق ما ذكره
المرتضى. وبالجملة فإن هذا الضرر المذكور في كلامهم الذي سوغوا معه التيمم دون
الشراء غير منقح ولا مبين ، فربما ظهر من بعض العبارات انه عبارة عن خوف قلة المال
خصوصا عند من يقيد بالحال الحاضرة ، قال في الذكرى بعد الإشارة إلى مضمون صحيحة
صفوان : هذا مع عدم الضرر الحالي أو المتوقع في زمان لا يتجدد له مال عادة أما معه
فلا ، وكذا لو أجحف بماله للحرج. وظاهر إطلاق جملة من العبارات يقتضي عدم الفرق
بين المجحف وغيره فإنه ينتقل الى الشراء ، وقيده في الذكرى كما سمعت ومثله العلامة
في التذكرة بعدم الإجحاف بالمال وان كان مقدورا للحرج. وفيه منع فان ظواهر الأخبار
المتقدمة ترده ، وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال لعموم النصوص المتقدمة
وغاية ما يمكن استثناؤه منها بالأدلة العامة من خارج هو الصورة التي ذكرناها ودل
عليها الخبر المتقدم.
واما ما نقل عن
ابن الجنيد من الانتقال الى التيمم في الصورة الثانية وعدم الشراء فقيل في
الاحتجاج له : ان خوف فوات المال اليسير بالسعي إلى الماء مجوز للتيمم فكيف يجب
بذل الكثير على هذا الوجه فيه؟ ولتساوي الحكم في تضييع المال القليل والكثير وكفر
مستحله وفسق غاصبه وجواز الدفع عنه. وأجيب عن ذلك بالفرق بين جميع ما ذكر وموضع
النزاع بالنص ، وبالمنع من مساواة ما يبذله المكلف باختياره وبين ما ينهب منه قهرا
لما في الثاني من لزوم الغضاضة والإهانة الموجبة للضرر بخلاف الأول لأن الفرض
انتفاء الضرر فيه. وربما أجيب بالفرق بين الأمرين بالعوض والثواب بمعنى ان اللازم
من الفرع انما هو الثواب لأنه عبادة اختيارية مطلوبة
__________________
للشارع وهو أضعاف ما دفع واللازم في الأصل انما هو العوض وهو مساو لما أخذ
منه فلا يتم القياس واستضعفه في الذكرى استنادا إلى انه إذا ترك المال لابتغاء
الماء دخل في حيز الثواب ، وزاد عليه في الروض بعد استحسانه بأنه يجمع له حينئذ
بين العوض والثواب وهو أعظم من الثواب وحده. وبالجملة فالأولى هو الاستناد في
الفرق الى النص مع قطع النظر عن الطعن فيما ذكره بأنه لا يخرج عن القياس كما قدمنا
ذكره في الكلام على كلام المعتبر.
(الموضع الثاني)
ـ فقد الآلة التي يتوصل بها الى الماء كما إذا مر ببئر أو شفير نهر ولم يتمكن من
الوصول الى الماء إلا بمشقة أو تغرير بنفسه ولا آلة معه للاغتراف فإنه يتيمم ، قال
في المنتهى : وهو قول علمائنا اجمع. أقول : ويدل عليه مضافا الى الإجماع المذكور
المؤيد ايضا بنفي الحرج في الدين ما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسين ابن سعيد عن عبيد
الله بن علي الحلبي : «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان
يدخل الركية لأن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم». وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد
الله بن ابي يعفور وعنبسة بن مصعب جميعا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب ولم تجد دلوا ولا شيئا
تغرف به فتيمم بالصعيد فان رب الماء هو رب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد على
القوم ماءهم». وما رواه ثقة الإسلام في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان
ينزل الركية ان رب الماء هو رب الأرض فليتيمم».
(الموضع الثالث)
ـ قد صرح الشيخ بان من منعه الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة عن الخروج للوضوء تيمم
وصلى ثم أعاد ، والأصل في الحكم المذكور ما رواه
__________________
الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) «انه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع
الخروج من المسجد من كثرة الناس؟ قال يتيمم ويصلي معهم ويعيد إذا انصرف». وعن
سماعة في الموثق عن الصادق عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) «انه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة فأحدث أو ذكر
انه على غير وضوء ولا يستطيع الخروج من كثرة الزحام؟ قال يتيمم ويصلى معهم ويعيد
إذا انصرف». والحكم بالانتقال الى التيمم في الصورة المذكورة مما لا خلاف فيه فيما
اعلم وانما الكلام في الإعادة ، وظاهر كلام الشيخ ومن تبعه وجوبها وكذا نقل عن ابن
الجنيد ، وقد استشكله جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم بان الأمر يقتضي الاجزاء
وقد أدى الصلاة بتيمم صحيح حسبما أمر فلا تتعقبه الإعادة ، ومن أجل ذلك حملوا
الأمر بالإعادة على الاستحباب كما هي القاعدة المطردة عندهم في جميع الأبواب.
أقول :
والتحقيق عندي في هذه المسألة هو ان يقال لا ريب ان الجمعات والجماعات في وقتهم (عليهمالسلام) انما كانت للمخالفين والصلاة المذكورة في الخبرين انما
هي معهم وذلك المحدث لا يمكنه الخروج للزحام ولا ترك الصلاة معهم للتقية فلذا يعيد
حينئذ والوقت غير مضيق ، وذلك لان هذا الزحام المانع انما هو باجتماعهم في الجامع
فمتى فرغوا من الصلاة وتفرقوا وخرج هو معهم أعاد صلاته ، وهذا لا اشكال فيه. واما
ما ذكره في المعتبر ـ حيث قال : من أحدث في الجامع يوم الجمعة ومنعه الزحام عن
الخروج تيمم وصلى لان وقت الجمعة ضيق والتقدير تقدير عدم التمكن من الخروج ومن
الماء فيجزيه التيمم ، وهل يعيد؟ الوجه لا ، لانه صلى صلاة مأمورا بها مستجمعة
الشرائط حال أدائها فتكون مجزئة ، وقال الشيخ يعيد وكذا قال ابن الجنيد ، وربما
__________________
كان تعويله على رواية السكوني ، ثم ساق الرواية وردها بضعف السند ـ ففيه ان
الروايتين اللتين هما المستند في هذه المسألة قد اشتملتا على يوم الجمعة ويوم عرفة
، وفرضه المسألة على ما قرره من ضيق وقت يوم الجمعة وان تم له في يوم الجمعة إلا
انه لا يتم له في يوم عرفة لان المراد بالزحام يوم عرفة يعني في صلاة الظهرين في
مسجد عرفة ووقت الظهرين غير مضيق فلا يتمشى ما ذكره فيه ، على ان الحق ـ كما عرفت
ـ ان الصلاة انما هي مع جماعة المخالفين الذين هم أرباب الجمعات والجماعات في
الصدر السابق سيما في المواضع الظاهرة المكشوفة كعرفات ونحوها ، ولا ريب أن
المقتدي بهم من الشيعة لا يصليها جمعة وانما يصليها ظهرا ، فلا يتم التقريب الذي
ذكره من ان وقت الجمعة ضيق ، وبالجملة فإنه على ما ذكرنا لا اشكال بحمد الملك
المتعال (فان قيل) : ان مقتضى ما ذكرتم من الصلاة تقية مع سعة الوقت هو عدم صحة
الصلاة فلما ذا أمر (عليهالسلام) بالتيمم والحال ان الصلاة غير صحيحة ويجب إعادتها بعد
خروجهم وتفرقهم؟ (قلنا) يمكن ان يكون لوجه في هذا التيمم ما رواه الصدوق عن مسعدة
بن صدقة «ان قائلا قال لجعفر بن محمد (عليهالسلام) اني أمر بقوم ناصبية قد أقيمت لهم الصلاة وانا على غير
وضوء فان لم ادخل معهم قالوا ما شاءوا ان يقولوا فأصلي معهم ثم أتوضأ إذا انصرفت؟
قال سبحان الله أما يخاف من يصلي على غير وضوء ان تأخذه الأرض خسفا». والتقريب
فيها انه (عليهالسلام) منع من الإتيان بصورة الصلاة وان كانت باطلة باعتقاد
صاحبها ومريدا للإعادة لها بغير طهارة ، والحال في الصورتين واحدة ، والوضوء هنا
متعذر فلا بد من الانتقال الى التيمم ، فالأمر بالتيمم انما هو لما دل عليه هذا
الخبر كما عرفت (فان قيل) : يمكن ان يكون مراده (عليهالسلام) من الخبر المذكور انما هو الأمر بالوضوء والصلاة معهم
على حسب الصلاة خلف المخالفين فتكون صلاة صحيحة ، فيكون المنع والتهديد المذكور
انما تعلق بالصلاة الصحيحة (قلنا) : هذا المعنى بعيد عن ظاهر الخبر
__________________
بمراحل فان السائل إنما سأل عن الصلاة معهم بما هو صورة الصلاة من مجرد
الإتيان بهذه الأفعال من غير ان يقصدها صلاة ويعتد بها والجواب انما وقع بإزاء السؤال
المذكور ، وظاهر السؤال المذكور ان الرجل غير متمكن من الوضوء في تلك الحال
والصلاة معهم ليدفع عن نفسه خوف الشنعة منهم ، وحينئذ فحاصل جوابه (عليهالسلام) انك لا تأتي بالصلاة وان كنت لا تعتقدها صلاة بغير
وضوء بل ان أمكنك الوضوء والصلاة معهم فافعل وإلا فامض ولا تصل. ويجب التنبيه هنا
على فوائد
(الأولى) ـ قال
المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه بعد ذكر صحيحة صفوان : «الظاهر من
الخبر لزوم الشراء ولو كان بأضعاف ثمن المثل ، وقيل يجب ما لم يجحف ، والقول
بالوجوب مشكل لان استعمال الوجوب في الاستحباب المؤكد شائع والقرينة «قد أصابني
فاشتريت» والترغيب ، فإنه يكون غالبا في المستحبات والترهيب في الواجبات» انتهى.
أقول : لا يخفى ما فيه من الغفلة فإن استعمال لفظ الوجوب في الاستحباب المؤكد انما
هو فيما إذا ورد في الخبر التعبير بلفظ الوجوب فإنه غير صريح في المعنى الأصولي
المشهور كما عرفت في غير موضع بل كما يستعمل في المعنى المشهور يستعمل أيضا في
الاستحباب المؤكد ، لا ما إذا ورد الخبر بلفظ الأمر الدال على الوجوب أو بعبارة
أخرى من الألفاظ الدالة على الوجوب فإنه يجب الحمل على الوجوب البتة عملا باستعمال
اللفظ في حقيقته ، والخبر المذكور هنا لم يشتمل على لفظ الوجوب حتى يتم تأويله
المذكور وانما اشتمل على النهي عن التيمم والأمر باشتراء الماء والنهي حقيقة في
التحريم والأمر حقيقة في الوجوب ، ولا يجوز العدول عن الحمل على الحقيقة إلا مع
وجود الصارف عن ذلك. وليس فليس ، ومجرد استبعاده ذلك لا يكفي في رد الحكم الصريح
من هذا الخبر وأمثاله كما عرفت ، واستناده الى ما ذكره ضعيف لا يعول عليه.
(الثانية) ـ قد
اختلفت نسخ الحديث في قوله في آخر صحيحة صفوان
«وما يشترى به مال كثير». ففي بعضها كما ذكرنا ، وعلى هذا تكون «ما» حينئذ
موصولة و «يشترى» يجوز قراءته بالبناء للفاعل والبناء للمفعول ، والمعنى ان الماء
الذي يشترى للوضوء بتلك الدراهم مال كثير لما يترتب عليه من الثواب العظيم والأجر
الجسيم وربما تقرأ بالمد «ماء» والمعنى يرجع الى ما ذكر ، وفي بعضها «يسوءني» من
المساءة ضد المسرة وعليه فيحتمل ان تكون «ما» نافية أي ما يسوءني بذلك الماء إعطاء
مال كثير في الثمن ، ويحتمل ان تكون استفهامية ، وعلى هذا يكون «مال كثير» خبر
مبتدأ محذوف أي الذي اشترى به مال كثير ، وفي بعضها «ما يسرني» من المسرة ضد
المساءة ، وعلى هذا تكون «ما» موصولة والمال الكثير كناية عن الثواب. والمعنى ان
الذي يوجب لي السرور بهذا الشراء هو الثواب العظيم المترتب عليه ، وأكثر المحدثين
اعتمدوا على نقل الحديث بما ذكرنا.
(الثالثة) ـ ما
تقدم من البحث بالنسبة إلى الماء يأتي مثله بالنسبة الى آلة تحصيله من الدلو
والرشاء حيث يتوقف تحصيله عليهما فيجب الشراء على التفصيل المتقدم في شراء الماء ،
فمتى تمكن وانتفى الضرر على الخلاف المتقدم وجب لوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق
بحسب الإمكان ، والقادر على شد الثياب بعضها بعض والتوصل الى الماء بها ولو بشق
بعضها وان نقصت أثمانها متمكن مع عدم التضرر بذلك الداخل تحت الحرج المنفي آية
ورواية .
(الرابعة) ـ قد
أشرنا سابقا الى اختلافهم في الحال المعتبرة في الضرر بدفع الثمن الموجب للانتقال
الى التيمم هل هي عبارة عن الحال الحاضرة التي هي عبارة عن وقت الشراء ، وهذا هو
صريح عبارة المعتبر المتقدمة ، وعلى هذا لا عبرة بخوف ضرره في المآل لإمكان تجدد
ما يندفع به الضرر ولعدم التضرر بذلك حينئذ ، أو انها عبارة عن حال المكلف؟ وهو
صريح عبارة الذكرى المتقدمة ، وهو الظاهر من كلام
__________________
الشهيد الثاني في الروض فيعم الضرر الحالي والمتوقع حيث يحتاج الى المال
المبذول في مستقبل الزمان الذي لا يتجدد له فيه مال عادة ، فمتى لم يضره بذلك
الثمن في الحال والمآل على الوجه المذكور وجب الشراء. وأنت خبير بأن الأخبار
المتقدمة وهي أخبار المسألة مطلقة في هذا الحكم كما ذكرناه آنفا ، وتقييدها بالضرر
المستفاد من الأدلة العامة يقتضي الاقتصار على الحال الحاضرة لإناطة الحكم بها
وصدق عدم الضرر يومئذ وإمكان تجدد ما يندفع به الضرر في المآل ، ومنه يظهر قوة ما
ذهب إليه في المعتبر.
(الخامسة) ـ لو
بذل له الماء بثمن إلى أجل يقدر عليه عند الحلول فقد صرح العلامة وجملة من الأصحاب
بوجوب الشراء لان له سبيلا الى تحصيل الماء ، واستشكل بعض في ذلك بان شغل الذمة
بالدين الموجب للذلة ـ مع عدم الوثوق بالوفاء وقت الحلول وتعريض نفسه لضرر
المطالبة وإمكان عروض الموت وهو مشغول الذمة ـ ضرر عظيم ، وفي حكمه الاقتراض
للشراء. أقول : والمسألة لعدم النص محل توقف.
(السادسة) ـ لو
وهبه الماء وإعارة الآلة فظاهر الأصحاب وجوب القبول هنا بخلاف ما إذا وهبه الثمن ،
وعللوا الأول بأنه لا منة في هبة الماء ولا إعارة الآلة فلا يسوغ له التيمم لانه
قادر على استعمال الماء بقبول ذلك فيكون كواجده ، وهذا بخلاف هبة الثمن فإنها
لاشتمالها على المنة عادة الموجبة للغضاضة والامتهان لا يجب تحملها ولا قبولها وان
قل الثمن ، هذا هو المشهور ، ونقل عن الشيخ انه أوجب القبول لوجوب تحصيل شرط
الواجب المطلق ، وكذا يجري الكلام في هبة الآلة أيضا ، ويأتي على ما ذكره الشيخ
هنا ايضا وجوب القبول ، وظاهر المدارك الميل الى ما ذكره الشيخ (قدسسره) حيث قال بعد نقل قول الشيخ : «واستشكله المصنف في
المعتبر بان فيه منة بالعادة ولا يجب تحمل المنة. وهو ضعيف لجواز انتفاء المنة
ومنع عدم وجوب تحملها إذا توقف الواجب عليه. ولو امتنع من قبول الهبة لم يصح تيممه
ما دام الماء أو الثمن باقيا في يد المالك المقيم على البذل» انتهى كلامه (رحمهالله)
وهو جيد ، ويؤيده انهم صرحوا أيضا في
كتاب الحج بعدم حصول الاستطاعة بما يهبه له لعدم وجوب قبول الهبة لاشتمالها
على المنة ، مع ان ظواهر الأخبار ـ كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى ـ دالة على
وجوب القبول ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذهب اليه الشيخ (قدسسره) سيما مع موافقته الاحتياط المطلوب في المقام ، حيث ان
المسألة عارية عن النص فيجب الوقوف فيها على جادة الاحتياط.
(المسألة
الثالثة) ـ في الخوف والمراد به ما هو أعم من خوف لص أو سبع أو نحو ذلك أو خوف
المرض وحدوثه أو زيادته أو خوف العطش ، فههنا مقامات ثلاثة :
(الأول) ـ في
خوف السبع واللص ونحوهما ، وقد صرح الأصحاب بأنه لا فرق في جواز التيمم بين ان
يخاف لصا أو سبعا على نفسه أو ماله ، قال العلامة في المنتهى : السبب الثاني ان
يخاف على نفسه أو ماله لصا أو سبعا أو عدوا أو حريقا أو التخلف عن الرفقة وما أشبه
فهو كالعادم ، لا نعرف فيه خلافا لانه غير واجد إذ المراد بالوجدان ان يمكن
الاستعمال لاستحالة الأمر بما لا يطاق ، ثم استدل على ذلك برواية يعقوب بن سالم
ورواية داود الرقي. أقول : والروايتان قد قدمناهما في صدر المسألة الاولى ،
وظاهرهما بل صريحهما تخصيص العذر بالخوف على النفس ، واما الخوف على المال فلم أقف
فيه على مستند إلا انه اتفاقي بينهم. وصريح الروض ـ وهو ظاهر غيره ايضا ـ انه لا
فرق في المال بين كونه له أو لغيره ، وهو أشد. إشكالا. واما ما في المسالك ـ حيث
قال بعد ذكر العموم في الخوف للنفس والمال : «ولا فرق بين كثير المال وقليله ،
والفارق بينه وبين الأمر ببذل المال الكثير لشراء الماء النص لا يكون الحاصل في
مقابلة المال في الأول هو الثواب لبذله في عبادة اختيارا وفي الثاني العوض وهو
منقطع ، لان تارك المال للص وغيره طلبا للماء داخل في موجب الثواب ايضا» انتهى ـ ففيه
انا لم نقف على نص يدل على وجوب الانتقال الى التيمم للخوف على المال سوى
الروايتين المشار إليهما ، وظاهرهما بل صريحهما ينادي بأن المراد انما هو الخوف
على النفس كما عرفت لقوله في الاولى «لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع».
ومن الظاهر ان التغرير بالنفس انما هو عبارة عن تعريضها لما يوجب الهلاك ،
وفي الثانية «فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع» . وهي ظاهرة ايضا فيما ذكرناه. نعم قد ورد النص ببذل
المال الكثير في الشراء كما تقدم من صحيحة صفوان وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا على وجوب الانتقال الى
التيمم لخوف ضياع المال إلا ما في المدارك من دعوى عموم ما يدل على رفع الحرج
والعسر ، قال : ولا ريب ان تعريض المال للصوص حرج عظيم ومهانة على النفس بخلاف بذل
المال اختيارا فإنه لا غضاضة فيه على أهل المروة بوجه ، قال ولعل ذلك هو الفرق بين
الموضعين. انتهى وزاد بعضهم الاستناد الى ما دل على وجوب حفظ المال وصيانته. أقول
: وفيه انه معارض بما دل على وجوب الوضوء والغسل من الآية والروايات المستفيضة وهو
أصرح واضح فيجب تقديم العمل به وإرجاع ما خالفه اليه بالحمل على غير الصورة
المذكورة على ان دعوى لزوم الحرج بتعريض المال للصوص ووجوب الحفظ وصيانة المال في
هذه الحالة ممنوعة سيما الثاني فإنه مصادرة ظاهرة ، ومع التسليم فنقول عامان
تعارضا وتقييد ما ذكرناه من العموم ليس اولى من تقييد ما ذكروه وبذلك لا يتم
الاستدلال ، وعلى كل تقدير فهذه الأدلة مع تسليمها لا تشمل مال الغير ومدعاهم كما
تقدم حفظ المال مطلقا له ولغيره وهو أظهر فسادا ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لمن
عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.
وألحق الأصحاب
بالخوف على النفس والمال الموجب للانتقال الى التيمم الخوف ايضا على العرض والبضع
والخوف من الفاحشة سواء في ذلك الرجل والمرأة ، وكذا لو خاف على اهله ان مضى الى
الماء لصا أو سبعا. وجزم في المعتبر بان الخوف الحاصل بسبب الجبن كذلك ، وتنظر فيه
العلامة في المنتهى مع ان المنقول عنه في غيره القول بالأول وهو المشهور بينهم ،
وأيده بعضهم بأنه ربما ادى الجبن الى ذهاب العقل الذي
__________________
هو أقوى من كثير مما يسوغ التيمم لأجله.
(المقام الثاني)
ـ في خوف المرض الشديد باستعمال الماء اما بخوف حدوثه أو زيادته أو بطوء برئه سواء
كان عاما لجميع البدن أو مختصا بعضو ، ويدل على ذلك من الآيات عموما قوله عزوجل : «وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «ما
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» «يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها» والوسع دون الطاقة ، روى العياشي في تفسير هذه الآية عن
أحدهما (عليهماالسلام) «(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً) فيما افترض عليها إلا وسعها أي إلا ما يسعه قدرتها فضلا
ورحمة». وقوله تعالى : «وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» وخصوصا قوله عزوجل فيما تقدم من الآية التي في صدر الباب «وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى ...» وقد تقدم تفسيره عنهم (عليهمالسلام) اي مرضا يضر معه استعمال الماء أو يوجب العجز عن السعي
اليه ، ومن الاخبار عموما قوله (صلىاللهعليهوآله) : «بعثت بالحنيفية السمحة». وقوله (صلىاللهعليهوآله) «لا ضرر ولا ضرار». وقولهم (عليهمالسلام) : «ان دين محمد أوسع مما بين السماء والأرض ان الخوارج
ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك». وخصوصا الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم قال :
__________________
«سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجنب تكون به القروح؟ قال لا بأس بان لا يغتسل
يتيمم». وعن احمد بن محمد بن ابي نصر في الصحيح عن الرضا (عليهالسلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ قال
لا يغتسل يتيمم». وفي الكافي عن محمد بن سكين وغيره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قيل له ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه
فمات؟ فقال قتلوه ألا سألوا ألا يمموه ان شفاء العي السؤال». قال : «وروي ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل». ورواه
ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن ابن ابي عمير مثله
إلا انه قال : «قيل يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله...» وذكر الحديث ، ورواه الصدوق مرسلا عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وعن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات؟ فقال
قتلوه ألا سألوا فإن دواء العي السؤال». وعن جعفر بن إبراهيم الجعفري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر
بالغسل فاغتسل فكز فمات؟ فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قتلوه قتلهم الله تعالى انما كان دواء العي السؤال». وروى
الصدوق في الصحيح عن محمد ابن مسلم «انه سأل الباقر (عليهالسلام) عن الرجل يكون به القروح والجراحات فيجنب؟ قال لا بأس
بأن يتيمم ولا يغتسل». قال «وقال الصادق (عليهالسلام) المبطون والكسير يؤممان ولا يغسلان».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم الفرق في تجويز التيمم بين
متعمد الجنابة وغيره ، وأسند المحقق في المعتبر الى الشيخين ان من
__________________
أجنب نفسه مختارا لم يجز له التيمم وان خاف التلف أو الزيادة في المرض.
أقول : لا ريب ان عبارة المفيد على ما في المختلف صريحة في ذلك حيث قال : من أجنب
مختارا وجب عليه الغسل وان خاف منه على نفسه ولم يجزه التيمم ، بهذا جاء الأثر عن
أئمة آل محمد (عليهمالسلام). وفي المختلف عن ابن الجنيد ايضا انه قال : ولا اختار
لأحد ان يتلذذ بالجماع اتكالا على التيمم من غير جنابة اصابته فان احتلم أجزأه.
واما الشيخ فالذي نقله عنه في المختلف ان خائف التلف على نفسه يتيمم ويصلي ويعيد
الصلاة إذا وجد الماء واغتسل ، وهذا القول منقول عنه في النهاية والمبسوط واما في
التهذيب فإنه جعل الاولى ان يغتسل على كل حال وظاهر المعتبر ان القول الذي نقله
عنه موافقا لمذهب المفيد هو قوله في الخلاف ، وحينئذ فيختص خلافه في المسألة بقوله
في الخلاف. ثم لا يخفى ان الصدوق في الفقيه قال : «وسئل الصادق (عليهالسلام) عن مجدور أصابته جنابة فقال ان كان أجنب هو فليغتسل
وان كان احتلم فليتيمم». وظاهر نقله الرواية والجمود عليها أنه يفتي بمضمونها بناء
على قاعدته في أول الكتاب التي بنوا عليها مذاهبه فيه ، ولم أعثر على من نسب ذلك
اليه مع ان الأمر كما ترى ، إلا انه قال بعد هذه الرواية المذكورة : «والجنب إذا
خاف على نفسه من البرد يتيمم» وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه وان تكون من
الخبر ، ويؤيد الأول ان هذا الخبر الذي نقله عن مرفوعة علي بن أحمد الآتية وهي
عارية عن هذه الزيادة ، وكيف كان فإنه لا يخفى مدافعة هذه الزيادة للخبر الذي ذكره
وان كان التأويل ولو بتمحل ممكنا ، والى هذا القول ذهب في الوسائل.
وها انا اذكر
جملة ما وقفت عليه من أدلة القول المذكور وأبين ـ بحمد الله سبحانه ـ ما فيها من
الضعف والقصور ومنه يظهر قوة القول المشهور وانه هو المؤيد المنصور ، فمن ذلك ما
رواه ثقة الإسلام عن عدة من أصحابنا عن علي بن احمد رفعه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة؟ قال ان أجنب
__________________
هو فليغتسل وان كان احتلم فليتيمم». وعن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه قال : «ان أجنب نفسه فعليه ان يغتسل على ما كان منه وان
احتلم فليتيمم». وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى
ان يكون الماء جامدا؟ فقال يغتسل على ما كان حدثه رجل انه فعل ذلك فمرض شهرا من
البرد فقال اغتسل على ما كان فإنه لا بد من الغسل. وذكر الصادق (عليهالسلام) انه اضطر اليه وهو مريض فأتوه به مسخنا وقال لا بد من
الغسل». وصحيحة سليمان بن خالد عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف ان هو اغتسل ان يصيبه عنت من الغسل
كيف يصنع؟ قال يغتسل وان اصابه ما اصابه ، قال وذكر انه كان وجعا شديد الوجع
فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح باردة فدعوت الغلمة فقلت
لهم احملوني فاغسلوني فقالوا انا نخاف عليك فقلت لهم ليس بد فحملوني ووضعوني على
خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني».
هذا ما وقفت
عليه من أدلة القول المذكور وتطرق الطعن إليها ظاهر من وجوه (أحدها) ـ ان ظاهر
المرفوعتين المتقدمتين ـ وهو ايضا ظاهر عبارتي شيخنا المفيد وابن الجنيد ـ ان
الجماع في حال عدم الماء أو التضرر به الموجب للتيمم غير جائز ولا مشروع ، ومن ثم
وجب على من تعمد ذلك في الحال المذكورة الغسل وان اصابه ما أصابه عقوبة له بخلاف
ما لو احتلم فإنه يجزئه التيمم لعدم التعمد والتقصير ، والقول بذلك مع كونه مخالفا
للإجماع كما نقله في المعتبر مردود بما رواه في الكافي في الصحيح أو الموثق عن
إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يكون معه أهله في السفر لا يجد الماء أيأتي
أهله؟ قال ما أحب ان يفعل إلا ان يخاف على نفسه. قال قلت طلب بذلك اللذة أو يكون
شبقا الى النساء؟ قال ان الشبق يخاف على
__________________
نفسه. قلت طلب بذلك اللذة؟ قال هو حلال. قلت : فإنه يروى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) ان أبا ذر سأله عن هذا فقال : ائت أهلك تؤجر. فقال يا
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) آتيهم واؤجر؟ فقال رسول الله كما انك إذا أتيت الحرام
وزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ألا ترى انه إذا خاف على نفسه فاتى الحلال أجر؟». وما
رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن إسحاق بن
عمار قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي
أهله؟ فقال ما أحب ان يفعل ذلك إلا ان يكون شبقا أو يخاف على نفسه. قلت يطلب بذلك
اللذة؟ قال هو حلال قلت فإنه روي عن النبي (صلىاللهعليهوآله) ان أبا ذر سأله عن هذا فقال ائت أهلك تؤجر. فقال يا
رسول الله واؤجر؟ فقال كما انك إذا أتيت الحرام وزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت ،
فقال ألا ترى انه إذا خاف على نفسه فاتى الحلال أجر؟». وهذان الخبران مع صحتهما
ظاهران في المراد عاريان عن وصمة الإيراد. وما رواه في التهذيب عن السكوني عن جعفر
عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) عن ابي ذر والصدوق في الفقيه عن ابي ذر (رضياللهعنه) «انه اتى النبي (صلىاللهعليهوآله) فقال يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء. قال فأمر
النبي (صلىاللهعليهوآله) بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت انا وهي ، ثم قال يا
أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين». والتقريب فيه ان النبي (صلىاللهعليهوآله) أقرّه على ما فعل ولم ينكر عليه ، ومقتضى المرفوعتين
المذكورتين وكلام الفاضلين المذكورين لو صح ما ذكروه تغريره لفعله امرا محرما ،
ونحوها صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل
__________________
أجنب في سفر ولم يجد إلا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال هو بمنزلة الضرورة يتيمم
ولا ارى ان يعود الى هذه الأرض التي توبق دينه». والتقريب فيها ان الجنابة فيها
أعم من الاحتلام وقد امره بالتيمم والحال هذه ولم ينكر عليه ذلك.
و (ثانيها) ـ ما
عرفت من استفاضة الآيات والروايات بعدم تكليفه سبحانه بما يؤدي الى الحرج والضرر ،
وقد استفاضت الاخبار عنهم (عليهمالسلام) بان ما خالف كتاب الله يضرب به عرض الحائط وانه زخرف ولا ريب في مخالفة هذه الأخبار لظاهر الكتاب والسنة
المستفيضة فيجب الاعراض عنها وإرجاعها إلى قائلها.
و (ثالثها) ـ انه
لا يخفى على من نظر في التكاليف الشرعية بعين التحقيق وتأمل فيها بالفكر الصائب
الدقيق انه يعلم منها علما جازما لا يخالجه الريب ولا يتطرق اليه العيب ان اعتناء
الشارع بالأبدان ورعايته لها مقدمة على رعاية الأديان ، وانه لا يكلف العبد إلا ما
يدخل تحت قدرته ووسعه بل دون ذلك ، ألا ترى انه أوجب على المسافر القصر رعاية
لمشقة السفر وأوجب على المتضرر بالماء الانتقال الى التيمم وأوجب على المتضرر
بالقيام في الصلاة القعود وبالقعود الاضطجاع وعلى المتضرر بالصيام الإفطار ، الى
غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع ، وكل ذلك منه عن شأنه رعاية للبدن ومحافظة
عليه من الضرر ، وجميع هذه الحالات التي نقلهم إليها ربما يطيقون القيام بالحالات
التي قبلها إلا انه لما فيها من المشقة والعسر نقلهم عنها الى ما لا مشقة فيه أو
ما هو أهون مشقة لطفا بهم وعناية لهم ، ويعضد ما ذكرناه من هذه المقالة جملة من
الأخبار الواضحة المنار الساطعة الأنوار ، ومنها ـ موثقة محمد بن علي الحلبي
المروية في كتاب التوحيد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما أمر العباد إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر
الناس بأخذه فهم متسعون له وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن
__________________
الناس لا خير فيهم». وهو صريح في المقام ، وما رواه ثقة الإسلام في الكافي
عن حمزة بن الطيار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال لي اكتب فاملى علي ان من قولنا ان الله يحتج
على العباد بما آتاهم ، ثم ساق الخبر الى ان قال : ولا أقول انهم ما شاءوا صنعوا ،
ثم قال ما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم متسعون له وكل شيء لا
يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم». وما رواه الصدوق في كتاب
الاعتقادات عن الصادق (عليهالسلام) مرسلا قال : «والله ما كلف الله تعالى العباد إلا دون ما
يطيقون لانه كلفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات وكلفهم في السنة صوم ثلاثين يوما
وكلفهم في كل مائتي درهم خمسة دراهم وكلفهم في العمر حجة واحدة وهم يطيقون أكثر من
ذلك». وما في المحاسن في الصحيح عن هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله تعالى أكرم من ان يكلف الناس ما لا
يطيقون.». وعن هشام بن سالم في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما كلف الله تعالى العباد إلا ما يطيقون ، انما
كلفهم في اليوم والليلة خمس صلوات وكلفهم من كل مائتي درهم خمسة دراهم وكلفهم صيام
شهر رمضان في السنة وكلفهم حجة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك وانما كلفهم دون ما
يطيقون». أقول : فانظر إلى صراحة هذه الاخبار وتطابقها فيما ذكرناه مع تأيدها
بالدليل العقلي المجمع عليه بين كافة العقلاء من وجوب دفع الضرر عن النفس وعدم
جواز التغرير بها.
و (رابعها) ـ الأخبار
الدالة على خلاف ما دلت عليه اخبار الخصم في الصورة المذكورة ، ومنها ـ صحيحة عبد
الله بن سنان المروية في الفقيه «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ويخاف على
نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة». وما
رواه الشيخ عن
__________________
جعفر بن بشير عمن رواه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل أصابته جنابة في ليلة باردة يخاف
على نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة». ورواية
محمد بن سكين وقد تقدمت في صدر المقام ونحوها من الروايات المتقدمة مما دل بإطلاقه على ان من
اصابته جنابة وتضرر بالغسل يتيمم أعم من ان تكون الجنابة من احتلام أو تعمد ، وما
في الوسائل ـ من تقييد هذه الأخبار بالاخبار التي استند إليها وهي التي قدمناها ـ مردود
بان تلك الأخبار قد أسقطناها لمخالفتها الكتاب العزيز والسنة المطهرة المستفيضة
المعتضدة بأدلة العقل ، إذ ذلك قضية العرض على كتاب الله تعالى كما استفاضت به
الاخبار عنهم (عليهمالسلام) وإلا لزم طرح اخبار العرض مع استفاضتها وإجماع الطائفة
على العمل بها وفيه من الشناعة ما لا يلتزمه محصل ، وقد روى هذا القائل في كتابه
المشار اليه من اخبار العرض ما يكاد يبلغ التواتر المعنوي ، وقد عضد الجميع في ذلك
الأخبار التي ذكرناها في المقام الثالث مضافا الى ما سنبينه ان شاء الله تعالى من
الطعن في مضامينها وحينئذ فلم يبق لها وجود بالكلية فضلا ان يرتكب بها التخصيص لما
ذكرناه من الاخبار.
و (خامسها) ـ توجه
الطعن الى الروايات المذكورة ، اما المرفوعتان فلا صراحة فيهما بل ولا ظاهرية سيما
الاولى بحصول ضرر بالغسل يوجب الانتقال الى التيمم وحينئذ فلا تنطبقان على محل
النزاع ، ويمكن حملهما على ان وجه الفرق فيهما بين الجماع عن تعمد فيجب عليه الغسل
والاحتلام فيتيمم ان ذلك المريض لم يتعمد الجنابة إلا حيث كان قادرا على الاغتسال
من غير ضرر ولا مشقة شديدة فأوجب عليه الغسل حينئذ واما الاحتلام فليس كذلك ،
وحاصله ان المرض المذكور موجب للتيمم لكن صاحبه متى جامع متعمدا فهو قرينة على
قدرته على الاغتسال ، وهذا الوجه كاف في قبول الخبرين وانطباقهما على الأخبار وعدم
خروجهما عن موافقة الكتاب والسنة ، ولعل في
__________________
قول الصدوق في الفقيه بعد نقل مضمون مرفوعة علي بن احمد : «والجنب إذا خاف
على نفسه من البرد يتيمم» ما يشير الى ما ذكرناه ، فان الظاهر انه فهم من الخبر
عدم التضرر بالغسل فاردفه بهذا الكلام لدفع ما فيه من الإجمال وبيان انه من تضرر
بالغسل انتقل الى التيمم ، وبه يزول ما أوردناه عليه آنفا من الاشكال ويرتفع عن
كلامه الاختلال. واما الخبران الآخران فليس فيهما تصريح بالفرق بين كون الجنابة
عمدا أو احتلاما بل ظاهرهما وجوب الغسل مطلقا فلا يقومان حجة على التفصيل المدعى
في المسألة. وبالجملة فما فيه تفصيل ليس فيه تصريح بالضرر وما فيه تصريح بالضرر
فليس فيه تفصيل. ولو قيل ان صحيحة سليمان بن خالد دلت على كونه (عليهالسلام) قد أصابته جنابة فتحمل ذلك الضرر العظيم في الغسل
وجنابته (عليهالسلام) لا يجوز ان تكون من احتلام لعدم جوازه على المعصوم.
قلنا نعم الأمر كذلك ولكن الحمل ايضا على تعمد الجنابة في تلك الحال المحكية في
الخبر لا يقصر في البعد عن الأول ، فإن ظاهر الخبر انه (عليهالسلام) كان في سفر وانه كان وجع وجعا شديدا يمنعه من الحركة
والمشي وصب الماء على نفسه فاحتمال انه يجامع على هذه الحال ويتحمل هذه المشقة
الشديدة لا يكاد يتصور في عقل عاقل ولا يدخل في فهم فاهم ، واحتمال عروض هذه الحال
بعد الجنابة يرده سياق الخبر ، والتعلق بمثل هذا الخبر على ما فيه من التهافت
والخروج عن مقتضى العقول السليمة في مقابلة تلك الأخبار المعتضدة بما عرفت لا يخلو
من مجازفة. وفيما ذكرناه في المقام كفاية واضحة لذوي الأفهام. والله العالم.
وتمام الكلام
في المقام يتوقف على رسم فوائد (الاولى) ـ المشهور بين الأصحاب القائلين بالتيمم
في هذه الصورة عدم وجوب الإعادة بعد وجود الماء ، وذهب الشيخ في النهاية والمبسوط
الى الوجوب كما تقدم نقله عنه ، والذي يدل على المشهور روايات مستفيضة سيأتي ذكرها
في الباب ، واستدل في التهذيب على ما ذهب إليه برواية جعفر ابن بشير المتقدمة في
الوجه الرابع من وجوه الطعن ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان
المروية في الفقيه ، والأصحاب قد أجابوا عنهما بالحمل على الاستحباب ،
وسيأتي تحقيق المسألة المذكورة ان شاء الله تعالى في الموضع المشار إليه.
(الثانية) ـ لا
يخفى انه قد دلت هذه الاخبار التي قدمناها في صدر هذا المقام على ان من به القروح
والجروح ينتقل فرضه الى التيمم مع انه قد تقدم في المسألة الحادية عشرة من المسائل
الملحقة بالوضوء جملة من الروايات الدالة على وجوب الوضوء وغسل ما حول القرح
والجرح إذا لم يكن عليه جبيرة وإلا فغسل الجبيرة أو المسح عليها على التفصيل
المتقدم في تلك المسألة ، وقد ذكرنا ثمة وجه الجمع بين أخبار المسألتين بما يرفع
عنها التنافي والتدافع في البين. بقي الكلام هنا في الرمد الذي يتضرر صاحبه بغسل
عينيه كلتيهما أو إحداهما هل يكون من قبيل مسألة القروح والجروح الموجبة للوضوء
بان يغسل ما حول العين ان لم يكن عليها دواء وإلا فيمسح على الدواء الذي عليها أو
انه ينتقل فرضه الى التيمم؟ وجهان ، للأول المشاركة في المعنى للقرح المختص بموضع
مخصوص من الجسد ، وللثاني الاقتصار على مورد النصوص مما يسمى قرحا ووجع العين
ومرضها لا يسمى قرحا لغة ولا عرفا ولا شرعا ، ولم أقف على كلام لأصحابنا (رضوان
الله عليهم) في هذه المسألة ، والذي يقرب عندي في ذلك هو انه ان كان يتضرر بغسل
وجهه فإنه ينتقل الى التيمم وان كان لا يتضرر بغسل ما عدا العين فالواجب الوضوء أو
الغسل وغسل ما حول العين ولو بنحو الدهن ، وبالجملة فحكمها حكم القروح والجروح وذكر
القروح والجروح في بعض الاخبار انما وقع في كلام السائلين فالاعتبار بعموم الجواب
وفي بعض يحمل على مجرد التمثيل ، ويزيده تأكيدا ان الواجب شرعا هو الوضوء ولا يجوز
الانتقال عنه الى بدله إلا بدليل واضح ، ومجرد تضرر العين خاصة لم يثبت كونه ناقلا
شرعيا سيما مع وجود النصوص في نظائره من القرح والجرح وان الحكم فيها هو الوضوء
وعدم جواز الانتقال عنه وان الحكم في ذلك الموضع الذي يتضرر بالماء هو تركه بغير
غسل ان كان مكشوفا أو المسح على الدواء ان لم يكن
كذلك على التفصيل المتقدم في المسألة ، ويؤيده أيضا وجه الجمع الذي قدمناه
في المسألة المشار إليها من مسائل توابع الوضوء من ان التيمم مخصوص بالبدلية عن
الغسل باعتبار ما على البدن من القروح والجروح التي يتضرر بكشفها الى الهواء
وبملاقاتها البرودة أو الوضوء إذا حصل التضرر على الوجه المذكور وإلا فالوضوء أو
الغسل دون التيمم والعمل في موضع القرح بما تقدم من التفصيل.
(الثالثة) ـ الظاهر
ان المراد بالمرض الموجب للتيمم هو ما يشق معه استعمال الماء بخوف حدوثه أو زيادته
أو بطوء برئه ويصعب على وجه لا يتحمل عادة ، لأن التكليف ـ كما عرفت من الروايات
المتقدمة ـ انما تعلق بالوسع دون الطاقة بمعنى انه وان أطاقه وأمكن الإتيان به
بمشقة فإنه لا يكلف به وانما يكلف بوسعه يعني ما لا مشقة فيه وان كان فيه نوع أذى
مثل وجع الرأس في الجملة أو الضرس أو نحو ذلك فإنه لا يوجب الانتقال الى التيمم ،
وليس له حد شرعي بل الإنسان على نفسه بصيرة ، وفي موثقة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) ما حد المرض الذي يفطر فيه الرجل ويدع الصلاة من قيام؟
فقال (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) هو اعلم بما يطيقه». قال في المعتبر : يستبيح المريض
التيمم مع خوف التلف ولا يستبيحه مع خوف المرض اليسير كوجع الرأس والضرس ، وهل
يستبيحه بخوف الزيادة في العلة أو بطئها أو الشين؟ مذهبنا نعم ، ثم نقل الخلاف من
العامة وفي الشرائع قال لو خشي المرض
__________________
الشديد أو الشين باستعمال الماء جاز له التيمم. وبذلك صرح العلامة في جملة
من كتبه ، وظاهر كلامه في النهاية وكذا في الإرشاد تعليق الجواز على مطلق المرض ،
وهو ظاهر الذكرى حيث قال : اما الضرر اليسير كصداع أو وجع ضرس فغير مانع ، قاله
الفاضلان لانه واجد للماء. ويشكل بالعسر والحرج وبقول النبي (صلىاللهعليهوآله) «لا ضرر ولا ضرار» . مع تجويزهما التيمم للشين ، ونقل عن الشيخ علي انه
قواه وزاد في الاحتجاج انه لا وثوق في المرض بالوقوف على الحد اليسير ، قال في
الذخيرة : «وربما كان الخلاف مرتفعا في المعنى ، فإنه مع الضرر والمشقة الشديدة
يجوز التيمم عند الجميع لان المرض والحال هذه لا يكون يسيرا ومع انتقاء المشقة
وسهولة المرض لا يسوغ التيمم عند الجميع ايضا وهو غير ثابت» انتهى. أقول : قد عرفت
مما قدمناه ان الأظهر هو ما ذكره الفاضلان ، ويؤيده ايضا ان الظاهر من اخبار
التضرر بالصيام الموجب للإفطار والتضرر بالصلاة قائما الموجب للجلوس وهكذا بالنسبة
إلى الاضطجاع ونحو ذلك هو الضرر الذي لا يتحمل مثله عادة بأن يحصل له مشقة في تحمل
ذلك لا مجرد الضرر وحصول الوجع مثلا الذي يمكن تحمله والصبر عليه ، ويدل عليه ما
تقدم في موثقة زرارة «هو اعلم بما يطيقه» يعني بما يتمكن من الإتيان به ولا ريب ان
التمكن حاصل مع الضرر اليسير. واما جعله في الذخيرة النزاع هنا لفظيا ففيه ان كلام
الفاضلين صريح في ان اليسير من الوجع كوجع الرأس والضرس لا يستبيح به التيمم ،
وصريح كلام الذكرى فيما طويناه من نقل عبارته الاستشكال فيما ذكراه هنا ودعوى لزوم الحرج والعسر بذلك
وانه ضرر منفي بقوله (صلىاللهعليهوآله) : «لا ضرر ولا ضرار» فكيف يكون النزاع لفظيا والحال كما عرفت.
(الرابعة) ـ قد
صرح العلامة وغيره من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان المرجع في معرفة الضرر
باستعمال الماء الى الوجدان الحاصل بالتجربة أو غيرها أو
__________________
اخبار عدل ، ولو حصل الظن باخبار فاسق أو صبي أو امرأة أو مخالف غير متهم
في دينه قال في التذكرة الأقرب القبول لأنه يجري مجرى العلامات كما يقبل قول
القصاب الفاسق في التذكية ، وبذلك ايضا صرح جملة ممن تأخر عنه. وأيده بعضهم بأن
غاية ما تفيده الآية الشريفة اعتبار ظن الضرر فيكفي حصوله بأي وجه اتفق ، وظاهره
في المنتهى انه لا يقبل هنا قول الذمي وان كان عارفا وقصر الحكم على قول العارف
المسلم والعارف الفاسق أو المراهق لحصول الظن بالضرر. وفيه انه خلاف ما صرحوا به
في غير هذا الموضع من الرجوع الى قول الكافر متى أفاد الظن إذ المراد انما هو على
حصوله بأي نوع اتفق.
(الخامسة) ـ لو
كان الحكم هو التيمم وخالف المكلف فتوضأ أو اغتسل والحال انه لم يجز له شرعا فهل
يجزئ؟ قيل فيه نظر ، من امتثال أمر الوضوء أو الغسل ومن عدم الإتيان بالمأمور به
الآن فيبقى في عهدة التكليف ، والنهي عن استعماله في الطهارة المقتضي للفساد في
العبادة. أقول : لا ريب ان الوجه هو الثاني ، والأول ضعيف فإنه غير مكلف في هذه
الحال بالوضوء أو الغسل حتى يستند الى امتثال الأمر.
(السادسة) ـ إذا
أمكن تسخين الماء للمتضرر بالبرودة واستعماله على وجه يأمن الضرر وجب ولم يجز له
التيمم ، ولو احتاج الى شراء حطب أو استيجار من يسخنه وجب مع المكنة ، ولو احتاج
تحصيل الماء إلى حركة عنيفة لا يمكن تحملها عادة لكبر أو مرض جاز له التيمم ، ولو
وجد من يناوله الماء بأجرة وجب مع المكنة ، وأدلة الجميع ظاهرة.
(السابعة) ـ الظاهر
انه لا فرق في الجبائر والقروح التي يجب معها الوضوء بين ان تكون في موضع يسير أو
في أكثر العضو ، فإنه يغسل الباقي ويعمل في موضع الجبر أو الجراحة ما تقدم في حكم
الجبائر ، بخلاف ما إذا استوعبت العضو المغسول أو الممسوح فإنه ينتقل الى التيمم ،
مع احتمال غسل الأعضاء الصحيحة أو مسحها والعمل في هذا
العضو كملا بما هو حكم الجبائر والقروح على التفصيل المتقدم في تلك المسألة
، ولم أقف على من تعرض لهذه المسألة ، والاحتياط فيها عندي بالعمل بالكيفية
المذكورة والتيمم بعد ذلك لعدم النص الظاهر ، وان أمكن اندراجها في عموم اخبار
القروح والجروح المشتملة على الوضوء.
(المقام الثالث)
ـ في خوف العطش ، الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الانتقال
الى التيمم لو لم يكن معه من الماء إلا ما يضطر اليه لشربه ويخاف العطش ان استعمله
في طهارته ، قال في المعتبر : وهو مذهب أهل العلم كافة. أقول : ويدل عليه مضافا
الى الإجماع المذكور جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد
الحلبي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الجنب يكون معه الماء القليل فان هو اغتسل به خاف
العطش أيغتسل به أو يتيمم؟ قال بل يتيمم وكذلك إذا أراد الوضوء». وعن سماعة في
الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته؟ قال
يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء فان الله عزوجل جعلهما طهورا : الماء والصعيد». وعن ابن سنان ـ والظاهر
انه عبد الله ـ في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) «انه قال في رجل أصابته جنابة في السفر وليس معه إلا ماء قليل يخاف ان هو
اغتسل ان يعطش؟ قال : ان خاف عطشا فلا يهرق منه قطرة وليتيمم بالصعيد فان الصعيد
أحب الي». ورواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن ابن سنان مثله وما رواه في الكافي
في الحسن عن ابن ابي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجنب ومعه من الماء قدر ما يكفيه لشربه أيتيمم
أو يتوضأ؟ قال يتيمم أفضل ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الطهور». والأخبار
المذكورة ظاهرة في المراد مؤيدة بما تقدم قريبا من دلالة الاخبار في جملة من
الأحكام على ان عنايته سبحانه بالأبدان أشد من الأديان ، ولا ينافي ذلك لفظ «أحب
الي» ولفظ «أفضل» فإن
__________________
الواجب أحب إليه (عليهالسلام) وهو الذي فيه الفضل ، وافعل التفضيل ليس على بابه هنا
كما هو شائع في الاخبار وغيرها.
بقي الكلام هنا
في مواضع (الأول) ـ لو خشي العطش على رفيقه أو على دوابه فالذي صرح به جملة من
الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى انه يجب التيمم ايضا ،
مستندين في الأول إلى أن حرمة أخيه المسلم كحرمته وان حرمة المسلم آكد من حرمة
الصلاة ، وفي الثاني الى ان الخوف على الدواب خوف على المال ومعه يجوز التيمم.
أقول : اما ما علل به الأول فجيد ، ويؤيده جواز قطع الصلاة لحفظ المسلم من الغرق
أو الحرق وان كان في ضيق الوقت ، وان حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة
الى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة الدالة بعمومها على هذا الحكم. واما الثاني فمحل
نظر ، وما استند اليه من جواز التيمم للخوف على المال ممنوع لعدم الدليل عليه بل
هي بالدلالة على خلافه أشبه كما تقدم بيانه ، على ان مطلق ذهاب المال غير مسوغ
للتيمم ولهذا وجب صرف المال الكثير في شراء الماء كما تقدم ذكره ، مع انه يمكن ذبح
الدابة أو بيعها أو إتلافها ، وبالجملة فإن صدق الوجدان بالنسبة إليه حاصل وعدم
الاضطرار اليه ظاهر فجواز التيمم والحال كما عرفت غير جيد ، نعم ينبغي ان يستثني
من ذلك ما لو كان محتاجا إلى الدابة بحيث يضره فوتها كما إذا كان في سفر لا يمكن
قطعه إلا بها أو يحتاج إليها لنقل أثقاله وأحماله فإنه يجوز ان يصرف الماء إليها
لما عرفت
(الثاني) ـ لو
كان معه ماءان طاهر ونجس وخشي العطش فالذي صرح به في المعتبر انه يتيمم ويستبقي
الطاهر لشربه ، لانه قادر على شرب الطاهر فلا يستبيح النجس فجرى وجود النجس مجرى
عدمه ، قال : ويستوى الحكم بذلك في الوقت وقبله لما ذكرناه. لا يقال بعد دخول وقت
الصلاة يصير استعمال الماء مستحقا للطهارة ، لأنا نمنع الاستحقاق وانما نسلمه لو
استغنى عن شربه وليس مستغنيا بالنجس لتحقق التحريم في شربه مع وجود الطاهر. انتهى.
قال في المدارك بعد نقل ملخص ذلك :
«وهو جيد ان ثبت تحريم شرب النجس مطلقا» وهو مؤذن بالمناقشة في تحريم
المأكولات والمشروبات النجسة.
أقول : وحيث
كان الحكم بتحريم المأكولات والمشروبات النجسة مجمعا عليه بين الأصحاب كما لا يخفى
على من لاحظ كلامهم في كتاب الأطعمة والأشربة وظاهر السيد السند (قدسسره) المناقشة في ذلك فلا بأس بذكر ما وقفت عليه من الدليل
على صحة ما أجمعوا عليه وان كان خارجا عن محل البحث ، فمن ذلك ما ورد في تحريم
الأكل من أواني الكفار التي علم تنجيسهم لها كما رواه الصدوق في الصحيح عن سعيد
الأعرج «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل ويشرب؟ قال : لا». وعن
زرارة في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) «انه قال في آنية المجوس إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء». وما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال لا تأكلوا في آنيتهم
ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». وما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن آنية أهل الكتاب فقال لا تأكلوا في
آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير». وعن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) «في آنية المجوس؟ فقال إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء». الى غير ذلك من
الاخبار التي من هذا الباب ، ولا يخفى انه لا وجه للنهي فيها الذي هو حقيقة في
التحريم إلا تحريم شرب المتنجس واكله ، ومن ذلك ما ورد في تحريم السمن والزيت
ونحوهما إذا ماتت فيه الفأرة وكان مائعا وهي أخبار كثيرة ومن ذلك الأخبار المستفيضة الواردة بإراقة
__________________
الركوة والتور إذا وقعت فيهما الإصبع القذرة ولو جاز شرب الماء لما كان للأمر بالإراقة وجه ، وما
ورد من اراقة مرق اللحم إذا وجدت في القدر فأرة ميتة وأكل اللحم بعد غسله الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع للاحكام
، ومن الظاهر انه لا خصوصية لهذه المعدودات وأمثالها تقتضي قصر الحكم عليها بل
الحكم بهذه الاخبار وأمثالها جار في كل نجس كما في غير هذا المقام من الأحكام
الشرعية ، إذ الأحكام الشرعية لم ترد بقواعد كلية وانما تستفاد القواعد بها بتتبع
الجزئيات كالقواعد النحوية ، وبالجملة فالظاهر ان هذه المناقشة انما وقعت غفلة عن
ملاحظة الأدلة وإلا فهي بعد المراجعة في الدلالة على المراد كالشمس المشرقة على
جميع البلاد. والله العالم.
(الثالث) ـ قد
تكرر في عبارات الأصحاب عد خوف حدوث الشين من أسباب الخوف الموجبة للانتقال الى
التيمم ، قال في المنتهى : «لو خاف الشين باستعماله الماء جاز له التيمم قاله
علماؤنا اجمع» وهو ظاهر في دعوى الإجماع على ذلك ، ولم أجد له في اخبار التيمم مع
كثرة نصوصه واخباره ذكرا ولا أثرا ، والشين ـ على ما ذكره في الروض ـ ما يعلو
البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة وربما بلغت تشقق الجلد وخروج الدم ، ونقل عن
العلامة في النهاية انه قد صرح بأنه لا فرق بين شدته وضعفه ، وهو ظاهر الروض ايضا
حيث قال : «ولا فرق في الشين بين شدته وضعفه للإطلاق وصرح به المصنف (قدسسره) في النهاية وقيده في المنتهى بكونه فاحشا لقلة ضرر ما
سواه» وأنت خبير بأنه حيث لا نص على الشين بخصوصه في الأخبار. فلا معنى لجعله سببا
مستقلا بل الظاهر كونه كسائر الأمراض ، فإن بلغ الأمر فيه الى ان يكون مرضا لا
يتحمل
__________________
مثله عادة كما في سائر الأمراض فالحكم فيه هو الانتقال الى التيمم والحاقه
بالأمراض التي يشق تحملها لدخوله تحت أدلتها وإلا فلا ، ودعوى شيخنا فيما تقدم من
عبارته الإطلاق بعدم الفرق بين شدته وضعفه مع عدم وجود النص عليه بخصوصه لا اعرف
له وجها ، ويؤيد ما ذكرنا ما نقل عن الشيخ في الخلاف من انه قال : إذا لم يخف
التلف ولا الزيادة في المرض غير انه يشينه استعمال الماء ويؤثر في خلقته ويغير
شيئا منه ويشوه به يجوز له التيمم لأن الآية عامة في كل خوف وكذلك الأخبار ،
وللشافعي فيه قولان ، فاما إذا لم يشوه خلقته ولا يزيد في علته ولا يخاف التلف وان
اثر قليلا فلا خلاف انه لا يجوز له التيمم. انتهى. والله العالم.
(المطلب الثاني)
ـ فيما يجوز به التيمم وما لا يجوز ، وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا
المقام في مواضع (الأول) ـ هل يكفي مجرد ما صدق عليه اسم الأرض أو يشترط خصوص
التراب؟ قولان ، فقال الشيخ لا يجوز إلا بما يقع عليه اسم الأرض إطلاقا سواء كان
عليه تراب أو كان حجرا أو حصى أو غير ذلك ، وبذلك صرح في المبسوط والجمل والخلاف ،
كذا نقله عنه في المعتبر ، وهو مذهب ابن الجنيد والمرتضى في المصباح واختاره
المحقق والعلامة ، وهو المشهور بين المتأخرين ، وعن المرتضى في شرح الرسالة انه
قال لا يجزئ في التيمم إلا التراب الخالص أي الصافي من مخالطة ما لا يقع عليه اسم
الأرض كالزرنيخ والكحل وأنواع المعادن ، كذا نقله عنه في المعتبر ايضا ، والظاهر
ان قوله : «أي الصافي» من كلام المحقق تفسيرا لعبارة السيد (قدسسره) ونقل هذا القول عن ابي الصلاح وظاهر المفيد ، ومنشأ
الخلاف في هذا المقام هو الخلاف بين أهل اللغة في تفسير الصعيد في الآية وقد تقدم
ذكره في صدر الباب ، فالمرتضى (رضياللهعنه) ومن قال بمقالته تمسكوا بأحد القولين والآخرون تمسكوا
بالقول الآخر ، وقد قدمنا ان الحق في هذا المقام هو عدم الرجوع الى الآية في ذلك (اما
أولا) فلاختلاف أهل اللغة كما عرفت وان كان كلام الأكثر هو الموافق
للقول المشهور. (وثانيهما) وهو المعتمد انه قد ورد تفسير الصعيد في الخبرين
المتقدمين بأنه الموضع المرتفع من الأرض ، وحينئذ فإذا كان مراده سبحانه من هذا
اللفظ انما هو هذا المعنى كما ورد عن نوابه (عليهمالسلام) وحملة كتابه الذين يجب اتباعهم فيما به أخبروا وعنه
عبروا فلا ينبغي العدول عنه الى كلام أهل اللغة وان اتفقوا ولا غيرهم لأنهم (صلوات
الله عليهم) اعرف الناس بما فيه وما يراد بباطنه وخافية وحينئذ فالواجب الرجوع في
هذا المقام الى الاخبار الواردة في هذا المضمار :
ومما يدل على
القول المشهور جملة من الاخبار ، ومنها قول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة ابن سنان «إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من الأرض وليصل.». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي «ان رب الماء هو رب الأرض فليتيمم». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم «فان فاتك الماء لم تفتك الأرض». فإنه لو لم يرتب الحكم على الأرض بقول
مطلق لما رتب عليها في هذه الاخبار وكذا في الاخبار الواردة في كيفية التيمم كما
ستمر بك ان شاء الله تعالى ، فقد عبر عما يتيمم به بلفظ الأرض في عدة منها ،
ويؤيده أيضا تفسير أهل اللغة الصعيد بالأرض في غير هذه الآية وهو قوله سبحانه : «فَتُصْبِحَ صَعِيداً
زَلَقاً» أي أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال شجرها ونباتها ، وقوله
(صلىاللهعليهوآله) : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد». اي
على أرض واحدة.
إلا انه يمكن
معارضة هذه الاخبار بما ورد من هذا القبيل بلفظ التراب كما في
__________________
صحيحة جميل بن دراج عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله عزوجل جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة رفاعة «إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم
منه.». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد الله بن المغيرة قال : «إذا كانت الأرض مبتلة وليس فيها تراب ولا ماء
فانظر أجف موضع تجده فتيمم من غباره أو شيء مخبر.». وفي رواية علي بن مطر عن
الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم
بالطين؟ قال نعم. الحديث». وفي رواية معاوية بن ميسرة «يمضي على صلاته فان رب الماء هو رب التراب».
وبالجملة
فالروايات في هذا الباب قد اشتمل بعضها على الأرض وبعضها على التراب وبعضها على
الصعيد المحتمل لكل منهما ، والأقرب حمل الأرض على التراب توسعا في الإطلاق حيث
انه هو الفرد الأكمل الأكثر دورانا ، ويؤيده ما في التيمم بسائر افراد الأرض غير
التراب مثل الحجر وما فيه من الخلاف والاشكال كما سيأتي في مسألة اشتراط العلوق ،
وكذا الأرض السبخة وارض الجص والنورة والغبار ونحو ذلك من أقسام الأرض الذي لا
ينتقل اليه إلا مع فقد التراب ، فهو في المرتبة الثانية عن التراب فلا ينصرف إليه
إطلاق الأرض في هذه الأخبار ، وهذا واضح بحمد الله سبحانه.
وعن المرتضى
الاحتجاج بعد الآية بقوله (صلىاللهعليهوآله) «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا». قال : ولو كانت الأرض طهورا وان لم
تكن ترابا لكان لفظ ترابها لغوا. وأجاب عنها في المعتبر بان التمسك بها تمسك
بدلالة الخطاب
__________________
وهي متروكة في معرض النص إجماعا. وقيل عليه ان قوله (صلىاللهعليهوآله) : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا». لا ريب انه مذكور
في معرض التسهيل والتخفيف وبيان امتنان الله سبحانه على هذه الأمة المرحومة وهو من
قبيل قوله (صلىاللهعليهوآله) «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة». وظاهر انه لو كان غير التراب من اجزاء
الأرض طهورا ايضا لكان ذكر التراب لغوا صريحا وتوسيطه في البين مخلا بانطباق
الكلام على ما يقتضيه المقام وكان مقتضى الحال ان يقول : «جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا» فإنه أدخل في الامتنان ، وليس هذا استدلالا بمفهوم الخطاب بل أمر آخر وهو
لزوم خروج الكلام النبوي عن قانون البلاغة على ذلك التقدير ، عن ان دلالة الخطاب
إذا اعتضدت بالقرائن الحالية أو المقالية فلا كلام في اعتبارها ولذلك يعزر من قال
لخصمه انا لست زانيا ، وبهذا يظهر ان كلام السيد في أعلى مراتب السداد. انتهى. وهو
جيد. والجواب الحق انما هو ان ما نقله السيد من لفظ الحديث بقوله «وترابها» وان
تناقلوه في كتب الفروع كذلك إلا ان متن الحديث في كتب الأخبار خال من هذه الزيادة
، وقد نقل في الوسائل اربع روايات واحدة من الكافي والثانية من الفقيه واثنتان من
الخصال والجميع خال من هذه الزيادة ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور وضعف المعارض
المذكور ، الا انه سيجيء ان شاء الله تعالى في مسألة اشتراط العلوق وعدمه ما يوضح
الحال زيادة على ما ذكرناه في هذا المجال.
(الثاني) ـ ذهب
ابن ابي عقيل ـ كما تكاثر النقل عنه بذلك في كتب الأصحاب ـ إلى جواز التيمم بالأرض
وبكل ما كان من جنسها كالكحل والزرنيخ لانه يخرج من الأرض ، وهو مذهب أبي حنيفة كما ذكره في المعتبر ، والمشهور العدم
__________________
وهو المستفاد من الأخبار لتصريحها بالأرض فيكون الحكم تابعا لما صدق عليه
إطلاق الأرض وهذه الأشياء لا تسمى أرضا ، وما علله به من ان يخرج من الأرض لا يجدي
طائلا إذ مورد النصوص هو ما يسمى أرضا لا ما يخرج منها وان لم يسم بذلك ، وربما
يستدل له بما رواه الراوندي في نوادره بسنده فيه عن علي (عليهالسلام) قال : «يجوز التيمم بالجص والنورة ولا يجوز بالرماد
لانه لم يخرج من الأرض. فقيل له أيتيمم بالصفا البالية على وجه الأرض؟ قال : نعم».
ومثلها رواية السكوني كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، والمنافاة منهما غير
ظاهرة لان محل توهم المنافاة هو قوله (عليهالسلام) «لانه لم يخرج من الأرض». بدعوى ان فيه إشارة الى ان
ما خرج من الأرض وان لم يصدق عليه اسم الأرض يجوز التيمم به ، ومن الجائز والمحتمل
قريبا ان مراده (عليهالسلام) انما هو بيان ان الرماد لا تعلق له بالأرض بالكلية ،
ويؤيده قوله في رواية السكوني بعد هذا الكلام : «وانما يخرج من الشجر» والمراد
المبالغة في نفي الأرضية عنه بالكلية ، فكيف يجوز التيمم به مع دلالة الأخبار
المستفيضة على الاختصاص بالأرض؟ وكيف كان فالخروج بهما عن صراحة تلك الصحاح
المستفيضة مما لا يتجشمه من له أدنى معرفة.
(الثالث) ـ الحجر
الخالي من الغبار ، وقد اختلف فيه كلامهم ، فقيل بجواز التيمم به مطلقا وهو قول
الشيخ في المبسوط والخلاف ، وقيل بالعدم مطلقا وهو منقول عن ظاهر ابن الجنيد حيث
قال : ولا يجوز من السبخ ولا مما أحيل عن معنى الأرض المخلوقة بالطبخ والتحجير
خاصة. وهذا القول لازم للمرتضى ومن يقول بمقالته من التخصيص بالتراب ايضا كما لا
يخفى وان لم أعثر على من نسب ذلك اليه ، وقيل بالتفصيل بين حالي الاختيار والضرورة
فيمتنع على الأول ويجوز على الثاني ، قال الشيخ في النهاية : ولا بأس
__________________
بالتيمم بالأحجار وارض النورة وارض الجص إذا لم يكن يقدر على التراب. ويقرب
منه كلام المفيد في المقنعة حيث قال : وان كان في أرض صخر وأحجار ليس عليها تراب
وضع يديه عليها ومسح بهما وجهه وكفيه كما ذكرنا في تيممه بالتراب وليس عليه حرج في
الصلاة بذلك لموضع الاضطرار. وقال ابن إدريس ولا يعدل الى الحجر والمدر إلا إذا
فقد التراب. وحجة القول المشهور واضحة لصدق الأرض على الحجر فيدخل تحت الأخبار
المتقدمة. واما القول بالتفصيل فقد رده جملة من الأصحاب بأنه مع كونه لا دليل عليه
لا وجه له فان الحجر ان صدق عليه اسم الأرض جاز التيمم به مع وجود التراب وعدمه
وان لم يصدق عليه امتنع كذلك كما صرح به ابن الجنيد فلا وجه للتفصيل المذكور. واما
ما ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين في الجواب عن ذلك ـ حيث قال : وفيه نظر إذ
يجوز ان يكون التيمم عند فقد التراب للإجماع عليه لا لدخوله في الصعيد كما جاز
التيمم بالوحل وان لم يكن داخلا في الصعيد إجماعا لنص خاص دل عليه ـ ففيه ان
الإجماع عليه انما هو من حيث دخوله تحت اسم الأرض لما نقله العلامة من الإجماع على
ان التيمم لا يقع إلا بالتراب أو الأرض فالإيراد بحاله ، واما تعلقه بجواز التيمم
بالوحل وان لم يكن داخلا في الصعيد فهو مردد بأن الأخبار قد صرحت بدخوله في الصعيد
، ففي رواية زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء وفيها طين ما
يصنع؟ قال يتيمم فإنه الصعيد. الحديث». ومرسلة علي بن مطر عن بعض أصحابنا قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال
نعم صعيد طيب وماء طهور». دل الخبران على ان الطين داخل في الصعيد الذي تضمنته
الآية ، ويؤيد ما ذكرناه ان المحقق في المعتبر استدل على جواز التيمم بالوحل بعد
فقد الصعيد والغبار فقال : «لنا ـ انه بممازجة الماء لا يخرج عن كونه أرضا وصعيدا»
ومع الإغماض عن ذلك فان الفرق بين ما نحن فيه وبين
__________________
التيمم بالوحل ظاهر فان النص لما دل على جواز التيمم بالوحل وان لم يكن
صعيدا صار مستثنى بالنص ، وما ادعاه من استثناء التيمم بالحجر بالإجماع ممنوع (أولا)
ـ بما عرفت من قول ابن الجنيد بالمنع من ذلك مطلقا وقول المرتضى من التخصيص
بالتراب ومثله قول ابي الصلاح كما تقدم. و (ثانيا) ـ انه انما يتم لو كان الإجماع
على صحة التيمم به في الصورة المذكورة وان لم يكن أرضا ، وهو غير مسلم لدعوى
العلامة الإجماع على عدم التيمم إلا بالتراب أو الأرض ، وحينئذ فالقول بالتيمم به
انما هو من حيث كونه أرضا فلا يجدي ما أجاب به. ويمكن ان يقال في الجواب ان ظاهر
كلام المفصلين ان مذهبهم في هذه المسألة هو وجوب التيمم بالتراب كما ذهب اليه
المرتضى إلا انهم يجعلون بعده مرتبة ثانية مع فقده وهو الأرض التي من جملتها الحجر
، ولعل وجهه الجمع بين الآية بناء على تفسير الصعيد فيها بالتراب كما هو أحد قولي
اللغويين والأخبار الدالة على التيمم بالأرض كما قدمناها فيحملون الأخبار على فقد
التراب ويخصونها بالآية ، وهو وجه وجيه. واما المعارضة بقول جملة من اللغويين أيضا
بأن الصعيد هو الأرض فلا يرد عليهم لأنهم ربما ترجح عندهم المعنى الذي اختاروه
بوجوه لم ندركها. وبالجملة فهذا الوجه في حد ذاته لا يخلو من حسن وقوة سيما مع
أوفقيته بالاحتياط المطلوب في الدين.
بقي هنا شيء
وهو ان صحيحة زرارة الآتية ان شاء الله تعالى في بيان كيفية التيمم قد دلت على
اشتراط العلوق وهو مما يمنع من جواز التيمم بالحجر الخالي من التراب وهو لازم لكل
من اشترط العلوق ، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها ان شاء الله تعالى. والله
العالم.
(الرابع) ـ المشهور
بين الأصحاب جواز التيمم بأرض الجص والنورة قبل الإحراق ، ومنع ابن إدريس من ذلك
مدعيا انها معدن ، واعتبر الشيخ في النهاية في جواز التيمم بها فقد التراب كما
تقدم في الحجر ، وردهما الأصحاب (رضوان الله عليهم) بالضعف لصدق الأرضية ومنع
المعدنية ، وردوا تفصيله في النهاية هنا بما ردوه به في الحجر
وقد عرفت بما حققناه ثمة إمكان الجواب عما أوردوه عليه وانه لا يخلو من وجه
وجيه واما بعد الإحراق فذهب الشيخان الى المنع من التيمم بهما والظاهر انه المشهور
لخروجهما بالإحراق عن اسم الأرض ، وعن المرتضى في المصباح وسلار (رضياللهعنهما) الجواز ، قال في المعتبر : وما ذكره علم الهدى هو رواية
السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) «انه سئل عن التيمم بالجص؟ فقال نعم. فقيل بالنورة؟ فقال نعم. فقيل
بالرماد. فقال لا انه لا يخرج من الأرض إنما يخرج من الشجر». وهذا السكوني ضعيف
لكن روايته حسنة لأنه أرض فلا يخرج باللون والخاصية عن اسم الأرض كما لا تخرج
الأرض الصفراء والحمراء. قال في المدارك بعد نقله : والاولى اعتبار الاسم كما
اختاره في المنتهى. أقول : قد تلخص ان في المسألة أقوالا ثلاثة : (ثالثها) ـ ما
اختاره في المدارك ونقله عن المنتهى ومرجعه الى التوقف في الحكم لان حاصل كلامه
انه ان صدق عليه اسم الأرض جاز التيمم به وإلا فلا ، وهو مؤذن بعدم معلومية الصدق
وعدمه عنده وهذا الكلام بظاهره مناف لما يأتي منه في كتاب الصلاة في السجود على
الخزف حيث قال ثمة : «ويمكن ان يستدل على الجواز بما رواه الشيخ وابن بابويه في
الصحيح عن الحسن بن محبوب عن ابي الحسن (عليهالسلام) «انه سأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد
عليه؟ فكتب اليه بخطه : ان الماء والنار قد طهراه». وجه الدلالة انها تدل بظاهرها
على جواز السجود على الجص ، والخزف في معناه» وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في قوله بجواز
السجود على الجص بعد الإحراق ، ومسألتا السجود والتيمم من باب واحد لاشتراط
الأرضية فيهما وان كانت دائرة السجود أوسع بالنسبة إلى الكاغد وما أنبتت الأرض.
وقد ظهر مما حققناه ان الأظهر هو الجواز لهذه الصحيحة المذكورة بالتقريب الذي
ذكرناه ولرواية السكوني
__________________
ومثلها رواية الرواندي المتقدمة في الموضع الثاني ، والى القول بالجواز مال
الشهيد في الذكرى ايضا. والله العالم.
(الخامس) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في التيمم بالخزف ، فعن ابن الجنيد انه لا يجوز التيمم
به وبذلك قال في المعتبر لخروجه بالطبخ عن اسم الأرض ، وقيل بالجواز للشك في خروجه
بالطبخ عن اسم الأرض ، ولأن الأرض المحترقة يقع عليها اسم الأرض حقيقة ، كذا ذكره
في المدارك. أقول : قد قطع جملة من الأصحاب بجواز السجود عليه من غير نقل خلاف حتى
ان العلامة في التذكرة استدل على عدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض بجواز السجود عليه
، وهو مؤذن بكون السجود عليه امرا متفقا عليه ومسلما بينهم ، وقد عرفت ان الأمر في
التيمم والسجود واحد ، ومنه يظهر ان المشهور هو جواز التيمم به والسجود عليه ، ومن
الظاهر ان تجويزهم ذلك انما هو من حيث عدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرضية.
وهذه المسألة
عندي محل توقف واشكال لعدم النص والشك عندي في الخروج وعدمه فتدخل بذلك في الشبهات
«حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك» . والحكم فيها عندي وجوب الاحتياط ، والتعليلان
المتقدمان للقول بالجواز عليلان ، اما الشك في خروجه بالطبخ عن اسم الأرض فهو
بالدلالة على المنع اولى منه بالدلالة على الجواز ، لان جعله دليلا على الجواز
مبني على القول بالاستصحاب ، وهو باطل عندنا كما حققناه في مقدمات الكتاب بل عند
هذا القائل أيضا كما صرح به في غير موضع من كتابه ، وجواز التيمم والسجود متوقف
على صدق الأرضية ومعلوميته وهو هنا غير معلوم للشك المذكور ، واما ان الأرض
المحترقة يصدق عليها اسم الأرض حقيقة ففيه ان الظاهر المتبادر من الاحتراق بالنار
هو الاستحالة بها الى الفحم أو الرماد ، وصدق
__________________
الاحتراق على الأجسام الصلبة التي لا تكون كذلك ممنوع ، ومع صدق الاحتراق
وحصوله بان تصير رمادا فصدق الأرضية ممنوع.
ثم ان العجب
هنا من المحقق حيث قال في المعتبر بعد ان قطع بخروج الخزف بالطبخ عن اسم الأرض كما
قدمنا نقله عنه : «ولا يعارض بجواز السجود عليه لانه قد يجوز السجود على ما ليس
بأرض كالكاغذ» فان فيه ان الكاغذ قد خرج بالنص عن قاعدة السجود فوجب استثناؤه واما
الخزف فلم يرد نص بجواز السجود عليه ، ومتى اعترف بخروجه بالطبخ عن اسم الأرض مع
قوله ـ كما هو مقتضى النصوص الصحيحة الصريحة ـ بأنه لا يجوز السجود إلا على الأرض
أو ما أنبتت مما ليس بمأكول ولا ملبوس فإنه يلزمه المنع من السجود عليه حتى يقوم على
الجواز دليل ، وخروج الكاغد من هذه القاعدة بنص خاص لا يوجب إلحاق الخزف به فإنه
مجرد قياس ، وبذلك يظهر ايضا ما في قول صاحب المدارك في سابق هذا الموضع في ذيل
صحيحة الحسن بن محبوب المتضمنة لجواز السجود على الجص : «والخزف في معناه» فإنه
محض قياس لا يوافق أصولنا كما لا يخفى. والله العالم.
(السادس) ـ رتب
الشيخ في النهاية للتيمم مراتب ، فأولها التراب فان فقده فالحجر فان فقده تيمم
بغبار عرف دابته أو لبد سرجه فان لم تكن معه دابة تيمم بغبار ثوبه فان لم يكن معه
شيء من ذلك تيمم بالوحل. وقال المفيد إذا حصل في أرض وحلة وهو محتاج الى التيمم
ولم يجد ترابا فلينفض ثوبه أو عرف دابته ان كان راكبا أو لبد سرجه أو رحله ، فان
خرج من شيء من ذلك غبرة تيمم بها وان لم تخرج منه غيرة فليضع يديه على الوحل ثم
يرفعهما فيمسح إحداهما بالأخرى حتى لا يبقى فيهما نداوة وليمسح بهما وجهه وظاهر
كفيه. قال في المختلف بعد نقل هذين الكلامين : فقد وقع الخلاف بين الشيخين في هذا
المقام في موضعين : (الأول) ـ ان المفيد (رحمهالله) خير بين الثوب وعرف الدابة
والطوسي رتب بينهما (الثاني) ـ ان المفيد شرط خروج
غبار من الثوب أو العرف والطوسي أطلق. وقال المرتضى يجوز التيمم بالتراب
وغبار الثوب وما أشبهه إذا كان الغبار من التراب وأطلق ، وظاهره كون الغبار
والتراب في مرتبة واحدة وانه لا ترتيب بينهما. وقال ابن إدريس ولا يعدل الى الحجر
والمدر إلا إذا فقد التراب ولا يعدل الى غبار ثوبه إلا إذا فقد الحجر والمدر ولا
يعدل عن غبار ثوبه الى عرف دابته ولبد سرجه إلا بعد فقدان غبار ثوبه ولا يعدل الى
الوحل إلا بعد فقدان ذلك. وقال ابن الجنيد كل غبار علا جسما من الأجسام غير النجسة
وغير الحيوان أو كان ذلك كامنا فيه فاستخرج منه عند عدم وجوده مفردا جاز التيمم
منه. وقال سلار إذا وجد الثلج والوحل والحجر نفض ثوبه وسرجه ورحله فان خرج منه
التراب تيمم منه إذا لم يمكنه التوضؤ من الثلج فان لم يكن في ثيابه ورحله تراب ضرب
بيده على الوحل أو الثلج أو الحجر وتيمم منه. وقال المحقق في المعتبر إذا فقد
الصعيد تيمم بغبار الثوب أو عرف الدابة أو لبد السرج أو غير ذلك مما فيه غبار وهو
مذهب علمائنا ، الى ان قال مسألة : إذا فقد الصعيد والغبار ووجد وحلا أطبق فقهاؤنا
على جواز التيمم به. ونحو ذلك في الشرائع. وبالجملة فإن ظاهر عباراتهم الاتفاق على
تقديم الغبار على الوحل.
والروايات في
المسألة لا تخلو من تصادم وربما دل بعضها على خلاف ذلك ، وها أنا أسوق لك ما وقفت
عليه من الاخبار في المقام ، فمنها ـ صحيحة زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) أرأيت المواقف ان لم يكن على وضوء كيف يصنع ولا يقدر
على النزول؟ قال يتيمم من لبد سرجه أو عرف دابته فان فيها غبارا ويصلي». ورواه في
مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز مثله أقول : المواقف كمقاتل لفظا ومعنى ، وظاهر الخبر
المذكور انه لا يجد إلا الغبار في الحال المذكورة ولا ريب في صحة التيمم به ، وصحيحة
رفاعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «فان كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من
غباره أو شيء مغبر وان كان في حال
__________________
لا يجد إلا الطين فلا بأس ان يتيمم منه». وموثقة زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «ان كان الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره
أو من شيء معه وان كان في حال لا يجد إلا الطين فلا بأس ان يتيمم منه». وموثقة
الأخرى عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا كنت في حال لا تجد إلا الطين فلا بأس ان
تتيمم به». وما رواه في الكافي عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كنت في حال لا تقدر إلا على الطين فتيمم به
فان الله تعالى اولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر ان تنفضه وتتيمم
به». قال : وفي رواية أخرى «صعيد طيب وماء طهور». دلت صحيحة
رفاعة وموثقة زرارة على انه إذا لم يجد إلا الثلج والغبار فالغبار مقدم على الثلج
، وهو من المقطوع به في كلام الأصحاب والاخبار ، ودل الجميع على انه إذا لم يجد
إلا الطين وهو الوحل المذكور في عبارات الأصحاب فإنه يتيمم به ، وهو ظاهر فيما
ذكره الأصحاب من تقديم الغبار عليه ، فان المراد من هذا الإطلاق انه إذا لم يجد
ماء ولا ترابا ولا غبارا مما هو من المراتب السابقة فإنه يتيمم به ويكشف عن ذلك قوله
(عليهالسلام) في صحيحة أبي بصير : «إذا لم يكن معك ثوب جاف. إلخ». ومنها
ـ رواية زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء وفيها طين ما
يصنع؟ قال يتيمم فإنه الصعيد. قلت فإنه راكب ولا يمكنه النزول من خوف وليس هو على
وضوء؟ قال ان خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوت الوقت فليتيمم يضرب بيده على
اللبد أو على البرذعة ويتيمم ويصلي». ورواية علي بن مطر عن بعض أصحابه قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال
نعم صعيد طيب وماء طهور». وظاهر الخبرين المذكورين تقديم الطين على الغبار ،
والتقريب فيهما من وجهين : (الأول) ـ دلالتهما على ان الطين صعيد فيكون مقدما على
الغبار الذي قد
__________________
اعترفوا بأنه غير داخل في الصعيد (الثاني) ـ تصريح رواية زرارة بالأمر
بالطين أولا وانه انما أمره بالتيمم بالغبار مع تعذر النزول عليه وعدم إمكان
التيمم بالطين ، وهو ظاهر الرواية الثانية حيث انه أمره بالطين مع فقد الماء
والتراب الشامل بإطلاقه لوجود الغبار يومئذ وهو الأوفق بالتعليل المذكور فيها.
وأجاب في المنتهى عن رواية زرارة المذكورة بضعف السند ثم قال : ومع ذلك فهي غير
منافية لما قلناه لانه لم يتعرض لنفي التراب بل لنفي الماء وهو لا يستلزم ذلك ولا
قوله «وفيها طين» ايضا. ولا يخفى ما فيه من البعد والتمحل الظاهر. وبالجملة
فالروايتان ظاهرتان فيما ذكرنا ولا يحضرني الآن وجه للجمع بينهما وبين الأخبار
المتقدمة. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ اختلف
كلام الأصحاب في كيفية التيمم بالوحل ، وقد تقدم في عبارة المفيد انه يضع يديه على
الوحل ثم يرفعهما فيمسح إحداهما بالأخرى حتى لا يبقى فيهما نداوة وليمسح بهما وجهة
وظاهر كفيه. وقال الشيخ يضع يديه على الوحل ثم يفركهما ويتيمم به. ونقل في المعتبر
بعد نقل قول الشيخ انه قال آخر : يضع يديه على الوحل ويتربص فإذا يبس تيمم به ، ثم
قال والوجه ما ذكره الشيخ عملا بظاهر الروايات. أقول : لا ريب ان ما ذكره الشيخ
يرجع الى ما ذكره المفيد ، واما القول الآخر فاستوجهه العلامة في التذكرة ، وحكى
عن ابن عباس انه قال : يطلى بالطين فإذا جف تيمم به. وقال في المنتهى لو لم يجد
إلا الوحل تيمم به وهو مذهب علمائنا إلا انه إذا تمكن من أخذ شيء من الوحل يلطخ
به جسده حتى يجف وجب عليه ذلك ليتيمم بتراب وان لم يتمكن لضيق الوقت أو لغيره وجب
عليه التيمم به. أقول : وهذا التفصيل قول ثالث في المسألة ، وأنت خبير بان ظواهر
الأخبار المتقدمة انما هو التيمم بالطين يعني الوحل المركب من الماء والطين ،
والتقييد بالتجفيف كما ذكروه لا اثر له في شيء منها ، ولو كان
الحكم فيه ذلك لوقع التنبيه عليه ولو في بعضها لان المقام مقام البيان ،
ويعضد ما قلناه قوله (عليهالسلام) في مرسلة علي بن مطر : «صعيد طيب وماء طهور». واستبعاد
ذلك من حيث الخروج عن قاعدة التيمم مدفوع باستثناء الموضع المذكور كما سيأتي نظيره
في الثلج ان شاء الله تعالى.
(الثاني) ـ قد
اختلف كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الترتيب في مواضع الغبار وعدمه ، فظاهر
الأكثر التخيير بين المواضع التي يوجد فيها من ثوب أو لبد أو بساط أو نحوها ، وهو
ظاهر كلام المفيد كما نبه عليه في المختلف فيما قدمناه من نقل كلامه ، وقد تقدم في
عبارة الشيخ تقديم غبار عرف الدابة أو لبد السرج ثم مع فقده غبار ثوبه ، وعكس ابن
إدريس كما تقدم في عبارته حيث قدم غبار الثوب وانه لا يعدل عنه الى غبار عرف دابته
ولبد سرجه إلا مع عدمه ، والمستفاد من الأخبار المتقدمة هو القول المشهور كقوله (عليهالسلام) في صحيحة رفاعة : «فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره
أو شيء مغبر». وقوله (عليهالسلام) في موثقة زرارة : «فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره
أو من شيء معه». ورواية أبي بصير «إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر ان تنفضه
وتتيمم به».
(الثالث) ـ هل
يجب نفض الثوب ونحوه ليخرج الغبار على وجهه ثم يتيمم منه بعد ذلك أم يضرب عليه كما
هو؟ صريح عبارة المفيد المتقدمة الأول وبه صرح سلار ايضا وهو ظاهر عبارة ابن
الجنيد المتقدمة ، وتدل عليه صحيحة أبي بصير المتقدمة ، وعبارات أكثر الأصحاب
مطلقة حيث قالوا يتيمم بغبار ثوبه ونحو ذلك ، وأكثر النصوص مطلقة أيضا ويمكن
تقييدها بالصحيحة المذكورة.
(الرابع) ـ قد
عرفت ان المشهور بل ادعي عليه الإجماع ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ انه لا يجوز
الانتقال الى الغبار إلا مع فقد الصعيد ، وتقدم ان ظاهر كلام المرتضى جوازه مع
وجود التراب ، والأظهر القول المشهور لرواية أبي بصير المتقدمة وأمثالها
من الأخبار المتقدمة ، وقال في المدارك بعد نقل قول المرتضى : «وهو بعيد
جدا لانه لا يسمى صعيدا بل يمكن المناقشة في جواز التيمم به مع إمكان التيمم
بالطين لضعف الرواية الاولى واختصاص الرواية الثانية بالمواقف الذي لا يمكنه
النزول إلى الأرض والثالثة بحالة الثلج المانعة من الوصول إلى الأرض إلا ان
الأصحاب قاطعون بتقديم الغبار على الوحل وظاهرهم الاتفاق عليه» انتهى. أقول : أراد
بالرواية الأولى رواية أبي بصير وبالثانية صحيحة زرارة وبالثالثة صحيحة رفاعة.
(الخامس) يشترط
في الغبار ان يكون مما يتيمم به من تراب ونحوه ، وهو ظاهر كلام السيد المتقدم ذكره
حيث قيد الغبار بكونه من التراب ، ونقل ذلك عن ابن إدريس أيضا واستوجهه العلامة ،
وهو الظاهر حملا لإطلاق الاخبار على ما هو الغالب فلا يجوز التيمم بغبار الأشنان
والدقيق ونحوهما.
(السادس) ـ المشهور
في كلام الأصحاب تقديم الحجر على الغبار كما تقدم لانه من الأرض الواجب تقديمها
على الغبار ، وقال سلار إذا وجد الثلج والوحل والحجر نفض ثوبه وسرجه ورحله فان خرج
منه تراب تيمم منه إذا لم يمكنه التوضؤ من الثلج فان لم يكن في ثيابه ورحله تراب
ضرب بيده على الوحل والثلج والحجر وتيمم به.
والظاهر ضعفه
لما ذكرناه.
(الموضع السابع)
ـ اختلف الأصحاب فيما لو لم يوجد إلا الثلج فقيل بسقوط فرض الصلاة ونقله في
المدارك عن أكثر الأصحاب ، وقيل بالتيمم به وهو ظاهر المرتضى وابن الجنيد وسلار ،
وقيل بالوضوء أو الغسل به وهو مذهب الشيخين واختاره العلامة في المختلف والتحرير ،
وظاهره في القواعد وجوب تقديم الثلج على التراب ان حصل منه من الماء ما يسمى به
غاسلا وإلا تيمم به مع فقد التراب وما في معناه ، وهو راجع الى قول المرتضى ، وذهب
الشيخ في كتابي الاخبار الى تقديم الثلج على التراب وان كان الحاصل منه كالدهن
استنادا إلى صحيحة علي بن جعفر الآتية.
ولا بأس بذكر بعض عباراتهم في المقام ، فنقول قال في المختلف : «لو لم يوجد
إلا الثلج وتعذر عليه كسره وإسخانه قال الشيخان وضع يديه عليه باعتماد حتى تتنديا
ثم يتوضأ بتلك الرطوبة بأن يمسح يده على وجهه بالنداوة وكذا بقية أعضائه ، وكذا في
الغسل ، فإن خشي من ذلك أخر الصلاة حتى يتمكن من الطهارة المائية أو الترابية.
وقال المرتضى : إذا لم يجد إلا الثلج ضرب بيده وتيمم بنداوته وكذا قال سلار. ومنع
ابن إدريس من التيمم به والوضوء أو الغسل منه وحكم بتأخير الصلاة الى ان يجد الماء
أو التراب. والوجه ما قاله الشيخان ، لنا ـ ان المغتسل أو المتوضئ يجب عليه مماسة
أعضاء الطهارة بالماء وإجراؤه عليها فإذا تعذر الثاني وجب الأول إذ لا يلزم من
سقوط أحد الواجبين لعذر سقوط الآخر».
أقول : والأصل
في الاختلاف هنا هو اختلاف ظواهر الأخبار الواردة في المقام وها أنا أتلوها عليك
مذيلا لها ان شاء الله تعالى بما يقشع عنها غشاوة الإبهام ، فأقول : من الاخبار
المشار إليها ما قدمناه من صحيحة رفاعة وموثقة زرارة ، ومدلولهما انه لا يجوز
استعمال الثلج مع وجود الغبار ، وهو وان كان كذلك في ظاهر كلام أكثر الأصحاب بل
ظاهرهم الاتفاق عليه إلا انه سيأتي ما فيه ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق
(عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل أجنب في سفر ولم يجد إلا الثلج أو
ماء جامدا؟ قال هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا ارى ان يعود الى هذه الأرض التي توبق
دينه». وقوله في هذه الرواية «ولم يجد إلا الثلج» يحتمل ان يراد به انه لم يجد ماء
ولا ترابا إلا الثلج وحينئذ فيكون دليلا لما نقل عن المرتضى وسلار وابن الجنيد ،
والظاهر انه لما ذكرناه احتج بها لهم في المختلف ، ويحتمل ان يكون المراد ولم يجد
ماء وحينئذ فيكون التيمم المأمور به بالتراب ، وبهذا الاحتمال أجاب في المختلف عن
الرواية المذكورة ، واحتمل ايضا التجوز بإطلاق اسم التيمم على مسح الأعضاء جميعها
بالثلج
__________________
والظاهر بعده ، بقي الكلام في الاحتمالين الباقيين والظاهر ان الأول أقرب
فتكون هذه الرواية حجة للمرتضى ومن قال بمقالته.
ومنها ـ رواية
محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلا الثلج؟ قال يغتسل
بالثلج أو ماء النهر». وهذا الخبر يدل بظاهره على ما ذهب اليه الشيخان من الوضوء
أو الغسل بالثلج ، وبه استدل في المختلف على ما ذهب اليه الشيخان حيث اختاره كما
عرفت ، ثم قال : (لا يقال) لا دلالة في هذا الحديث على مطلوبكم وهو الاجتزاء
بالمماسة لأن مفهوم الاغتسال اجراء الماء الجاري على الأعضاء لا نفس المماسة (لأنا
نقول) نمنع أولا دخول الجريان في مفهوم الاغتسال ، سلمنا لكن الاغتسال إذا علق بشيء
اقتضى جريان ذلك الشيء على العضو اما حقيقة الماء فنمنع ذلك ، ونحن نقول هنا
بموجبه فان الثلج يجب إجراؤه هنا على الأعضاء لتحصل الرطوبة عليها أو يعتمد على
الثلج بيده كما قاله الشيخان. انتهى. ويحتمل حمل الخبر المذكور على اذابة الثلج
ولعل في التخيير بينه وبين ماء النهر ما يؤنس بذلك فإن السائل ذكر انه لا يجد إلا
الثلج ووقع الجواب بالتخيير له بين الثلج وماء النهر وانهما سواء ، ويمكن ان يكون
التخيير ليس باعتبار وجودهما معا بل باعتبار البدلية يعني الثلج ان لم يكن إلا
الثلج وماء النهر الجامد مثلا ان لم يكن إلا هو وكل منهما يحمل الاغتسال به على
الذوبان ، ومنها ـ رواية معاوية بن شريح قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده قال يصيبنا الدمق والثلج ونريد أن نتوضأ ولا
نجد إلا ماء جامدا فكيف أتوضأ ادلك به جلدي؟ قال نعم». وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه
(عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون
معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا أيهما أفضل أيتيمم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال الثلج
إذا بل رأسه وجسده أفضل وان لم يقدر على ان يغتسل به فليتيمم». وروايته الأخرى
المروية في قرب
__________________
الاسناد عن أخيه (عليهالسلام) في من تصيبه الجنابة فلا يقدر على الماء في خبر ساقه
الى ان قال : «قلت أيهما أفضل أيتيمم أم يمسح بثلج وجهه وجسده ورأسه؟ قال الثلج
إذا بل رأسه وجسده أفضل وان لم يقدر على ان يغتسل يتيمم».
وعلى هذه
الأخبار عمل الشيخ في كتابي الأخبار فذهب الى تقديم الثلج على التراب وان كان
الحاصل منه كالدهن كما قدمنا نقله عنه ، ولا تنافيه الروايات المتقدمة الدالة على
انه مع حصول الثلج والغبار كما في صحيحة رفاعة وموثقة زرارة أو الثلج والتراب كما
في صحيحة محمد بن مسلم على أحد الاحتمالين يقدم التيمم على استعمال الثلج ، لإمكان
حمل إطلاقها على ما فصلته هذه الأخبار فإنها دلت على انه مع إمكان الغسل بالثلج أو
الوضوء فهو الواجب المتعين ومع عدمه يتيمم فتحمل تلك الأخبار على عدم الإمكان جمعا
، وعلى هذا فيقدم استعمال الثلج على التيمم بتراب كان أو بغبار وان لم يحصل منه
الجريان بل يكفي الدلك على وجه تحصل منه النداوة ومع تعذر ذلك ينتقل منه الى
التيمم وان خالف ذلك مقتضى ظاهر اتفاقهم المتقدم ذكره.
وما ربما يقال
ـ من ان الغسل مأخوذ في معناه الجريان فلا يصدق إلا به كما هو ظاهر المعتبر
والمدارك وغيرهما في هذا المقام ـ فالجواب عنه (أولا) ـ انه مسلم لكنه مخصوص عندنا
بحال الاختيار والإمكان دون الضرورة. و (ثانيا) ـ ان الروايات الثلاث التي استندنا
إليها في الحكم صريحة في الاكتفاء بمجرد البلل الذي هو النداوة وفيها الصحيح
باصطلاحهم فلا وجه لردها ، واما دعوى دلالة صحيحة علي بن جعفر على التمكن من
الاغتسال بحيث يصدق على الماء اسم الجريان على العضو كما أجاب به في المختلف فعجيب
كيف والرواية إنما تضمنت البلل الذي هو عبارة عن مجرد مماسة الماء ورطوبة الجسد به
واين هذا من الجريان؟ وهو ظاهر. و (ثالثا) ـ ما استفاض في اخبار الدهن من الدلالة
على الاكتفاء بمجرد البلل مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة
__________________
زرارة : «إذا مس جلدك الماء فحسبك». وفي أخرى : «كل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته». وقوله (عليهالسلام) في بعضها : «يجزيك ما بللت يدك». وحملها على أقل الجريان كما
تأولوها به بعيد عن مناطيقها كما قدمنا الكلام في ذلك مفصلا في باب الوضوء ، وقد
وافق على ذلك في المدارك في باب الوضوء فإنه قد اختار ثمة إبقاء الأخبار المذكورة
على ظاهرها وان ناقض نفسه هنا وهو ظاهر في تأييد ما قلناه ههنا ، وقد قدمنا ثمة ان
بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) حمل اخبار الدهن على الضرورة ، وهو جيد ومؤيد لما
ذكرناه في هذه المسألة أيضا من اختصاص الحكم هنا بالضرورة.
وبالجملة
فالأظهر عندي هو مذهب الشيخ في كتابي الأخبار عملا بهذه الروايات الظاهرة في ذلك
وحملا لما نافاها ظاهرا على ما قلناه ، ومما حققناه في المقام يظهر انه لا وجه للقول
بالتيمم بالثلج كما ذهب اليه المرتضى (رضياللهعنه) وغيره ، ويؤيده زيادة على ما ذكرناه ان التيمم لا يكون
إلا بالتراب أو الأرض والثلج لا يدخل في شيء منهما فالواجب اما الغسل به أو
الوضوء ان أمكن وإلا فوجوده كعدمه. والله العالم.
وتمام البحث في
هذا المطلب يتوقف على بيان أمور (الأول) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه
لا يجوز التيمم بالنجس ، قال في المنتهى ولا نعرف فيه خلافا ، واستدل عليه بقوله
تعالى : «فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» والطيب الطاهر ، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : «وهو
جيد ان ثبت كون الطيب هو الطاهر بالمعنى الشرعي لكن يبقى الكلام في إثبات ذلك».
انتهى.
أقول : الأظهر
عندي هو الاستدلال بما ورد في جملة من الأخبار «جعلت لي
__________________
الأرض مسجدا وطهورا» وهو مروي في عدة اخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في
الصحيح عن ابان بن عثمان عمن ذكره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله تعالى اعطى محمدا (صلىاللهعليهوآله) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، الى ان قال : وجعل
له الأرض مسجدا وطهورا.». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا ونصرت بالرعب وأحل لي المغنم وأعطيت جوامع الكلم وأعطيت الشفاعة». وروى
الصدوق في الخصال بسنده فيه عن أبي امامة قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فضلت بأربع : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من
أمتي أراد الصلاة فلم يجد ماء ووجد الأرض فقد جعلت له مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب
مسيرة شهر وأحلت لأمتي الغنائم وأرسلت إلى الناس كافة». وما رواه فيه في الصحيح عن
محمد بن سنان عن زياد بن المنذر ابي الجارود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا ونصرت بالرعب وأحل لي المغنم وأعطيت جوامع الكلم وأعطيت الشفاعة». وما رواه
في المحاسن عن أبي إسحاق الثقفي عن محمد بن مروان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله اعطى محمدا (صلىاللهعليهوآله) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، الى ان قال وجعل له
الأرض مسجدا وطهورا».
والتقريب فيها
ان الطهور لغة كما حققناه في صدر باب المياه هو الطاهر المطهر ، ومن ذلك يعلم ان
كل موضع دل النص على التطهير بالأرض من حدث كان أو خبث يجب ان تكون طاهرة حسبما
يقال في الماء ايضا كما دلت عليه الآيات لاشتراك الجميع في الوصف بالطهورية. واما
ما ذكره في الذخيرة ـ حيث قال في هذا المقام بعد ان جرى على ما ذكره في المدارك
كما هي عادته غالبا «وقد يستدل بقوله (صلى الله عليه
__________________
وآله) «وترابها طهورا» والنجس لا يعقل كونه مطهرا لغيره. وفيه أيضا مناقشة»
ـ فهو من جملة مناقشاته الواهية اللهم إلا ان يريد المناقشة في ثبوت الخبر بذلك
حيث انه تبع صاحب المدارك أيضا في تضعيف الخبر المذكور بناء على نقله في كتب
الفروع بقوله «وترابها طهورا» والخبر ـ كما عرفت ـ موجود في جملة من الأصول
المعتمدة ومتكرر فيها وهو خال من لفظ «وترابها» كما استدل به المرتضى (رضى الله
عنه) كما قدمنا ذكره في تلك المسألة. والله العالم.
(الثاني) ـ قد
صرحوا أيضا بأنه لا يصح التيمم بالمغصوب للنهي عنه المقتضى للفساد في العبادة ،
قالوا : والمراد بالمغصوب ما ليس بمملوك ولا مأذون فيه صريحا أو ضمنا كالمأذون في
التصرف فيه أو فحوى كالمأذون في دخوله وجلوسه ونحوهما عموما أو خصوصا أو بشاهد
الحال كالصحاري المملوكة حيث لا ضرر على المالك ، ومثله جدار الغير من خارج حيث لا
ضرر يتوجه عليه ، نعم لو ظن الكراهة أو صرح بها المالك امتنع. أقول : لا يخفى ان
ما عللوا به عدم صحة التيمم بالمغصوب من النهي المقتضي للفساد وان كان هو المشهور
بينهم بل ربما ادعي الاتفاق عليه إلا انه سيأتي الكلام في هذه المسألة في كتاب
الصلاة ان شاء الله تعالى ونقل خلاف الفضل بن شاذان في ذلك وبيان حجج الطرفين وذكر
ما سنح لنا من التحقيق في البين. واما العمل على هذه الدلالات المذكورة بأنواعها
فينبغي تقييده بإفادتها العلم برضا المالك ولا يكفي مجرد الظن كما يعطيه ظاهر
كلامهم. قالوا ولو حبس المكلف في مكان مغصوب ولم يجد ماء مباحا أو وجد ولزم من
استعماله إضرار بالمالك فهل يجوز التيمم بترابه الطاهر مع عدم وجود غيره كما جازت
له الصلاة فيه لخروجه بالإكراه عن النهى فصارت الأكوان مباحة له لامتناع التكليف
بما لا يطاق أم لا يجوز لافتقاره الى التصرف في المغصوب زائدا على أصل الكون؟ وجهان
، ورجح بعض أفاضل متأخري المتأخرين الأول لما ذكر ، واستبعد الثاني لمنع عدم جواز
ذلك التصرف ، قالوا وهذا بخلاف الطهارة بالماء المغصوب لما فيه من الإتلاف
فكان غير جائز قطعا. أقول : والمسألة عندي محل توقف.
(الثالث) ـ صرح
الأصحاب بجواز التيمم بالسبخة والرمل على كراهة ، والمراد بالسبخة الأرض المالحة
النشاشة ، اما الحكم بالجواز في السبخة فهو المشهور بينهم وعن ابن الجنيد المنع من
السبخ حكى ذلك عنه المحقق في المعتبر والشهيد في البيان ، ويدل على الجواز فيهما
صدق اسم الأرض عليهما فان الرمل اجزاء ارضية اكتسبت حرارة أوجبت لها التشتت
والسبخة ارض اكتسبت حرارة أوجبت لها تغييرا في الكيفية لا تخرج به عن حقيقة
الأرضية ، ومتى ثبت صدق الأرضية عليهما جاز التيمم بهما تمسكا بظاهر الآية والنصوص
المتقدمة ، واما ما ذكروه من الكراهة فلم أقف له على دليل ، قيل وربما كان الوجه
فيها التفصي من احتمال خروجهما بتلك الحرارة المكتسبة عن الحقيقة الأرضية أو
الخروج من خلاف ابن الجنيد في السبخ وخلاف بعض العامة في الرمل. أقول : ويمكن
تأييد الوجه الأول بما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن الحسين «ان بعض أصحابنا كتب الى ابي الحسن الماضي (عليهالسلام) يسأله عن الصلاة على الزجاج قال فلما نفذ كتابي إليه تفكرت
وقلت هو مما أنبتت الأرض وما كان لي ان أسأله عنه فكتب الي : لا تصل على الزجاج
وان حدثتك نفسك انه مما أنبتت الأرض ولكنه من الملح والرمل وهما ممسوخان». قال بعض
مشايخنا المحدثين يعني حولت صورتهما ولم يبقيا على صرافتهما. واما الوجه الثاني
فهو ضعيف.
أقول : ومما
يكره التيمم به تراب الطريق والتراب الذي يوطأ عليه كما رواه في الكافي عن غياث بن
إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا وضوء من موطإ». قال النوفلي يعني ما تطأ عليه
برجلك. وعن غياث ابن إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «نهى أمير المؤمنين (عليهالسلام) ان
__________________
يتيمم الرجل بتراب من اثر الطريق». والأصحاب قد ذكروا في هذا المقام انه
يستحب التيمم من ربى الأرض وعواليها واستدلوا بهذين الخبرين ، والأظهر في
الاستدلال على ما ذكروه انما هو بالخبرين المتقدمين في تفسير الآية من كتاب معاني الأخبار والفقه الرضوي
حيث انهما قد فسرا الصعيد في الآية بأنه المرتفع من الأرض والطيب الذي ينحدر عنه
الماء.
(الرابع) ـ يجوز
التيمم بالأرض المبتلة وليتخير أخفها بللا كما رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب ولا ماء
فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه فان ذلك توسيع من الله عزوجل.». أقول : قوله (عليهالسلام) : «ليس فيها تراب» يعني جاف ، وقوله «فان ذلك توسيع»
اي التيمم بالمبتل مع تعذر الجاف توسيع ، ويمكن ان يستفاد منه انه مع وجود الجاف
لا يجوز الانتقال منه الى الرطب وان ذلك مخصوص بحال الضرورة إلا ان ظاهر المحقق في
المعتبر خلافه حيث قال : يجوز التيمم بالأرض الندية كما يجوز بالتراب لما ذكرناه
من الحجة ولما رواه رفاعة ، ثم ساق الخبر ، وأشار بما ذكره من الحجة إلى صدق
الصعيد عليه. وهو جيد إلا انه يبقى قوله في الخبر «فان ذلك توسيع» عاريا عن
الفائدة وان أمكن ان يتكلف لوجهه.
وقد ذكر
الأصحاب هنا انه يجوز التيمم بتراب القبر سواء كان منبوشا أو غير منبوش إلا ان
يعلم ان فيه نجاسة لتناول اسم الصعيد له وعدم تحقق المانع ، ولا أعرف لخصوصية ذكر
هذا الفرد وجها يوجب ذكره دون غيره من أنواع التراب ، وكأن الوجه فيه مباشرة الميت
فربما يتوهم عدم الجواز لذلك ، وفي المعتبر يجوز وان تكرر نبشه لانه عندنا طاهر ،
نعم لو كان الميت نجسا منع.
قالوا : ويجوز
التيمم بالتراب المستعمل ، وفسر المستعمل بالممسوح به أو
__________________
المتساقط عن محل الضرب لا المضروب عليه فإنه ليس بمستعمل إجماعا لأنه
كالإناء يغترف منه.
وإذا امتزج
التراب بشيء من المعادن أو غيرها اعتبر الاسم فان صدق اسم التراب لاستهلاكه
الخليط واضمحلال الخليط فيه صح التيمم به لصدق التراب عرفا ولغة وشرعا ، وعن الشيخ
في الخلاف انه قال لا يجوز التيمم به سواء غلب على الخليط أو لم يغلب.
ووجهه غير ظاهر
مع انه قال في المبسوط يجوز إذا كان مستهلكا.
(الخامس) ـ لا
خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم جواز التيمم بالرماد كما حكاه في
المنتهى ، والظاهر انه لا فرق بين رماد التراب وغيره ، واستقرب العلامة في النهاية
جواز التيمم بالرماد المتخذ من التراب ، وقال في التذكرة لو احترق التراب حتى صار
رمادا فان كان خرج عن اسم الأرض لم يصح التيمم به. وظاهره الشك في الخروج وعدمه ،
قال في المدارك بعد نقل العبارة : وهذا أولى إذ المعتبر ما يقع عليه اسم الأرض.
وظاهره ايضا التوقف كما في عبارة التذكرة أقول : لا يخفى ان الرماد الحاصل من
احتراق الشجر ونحوه لا يصير رمادا ولا يصدق عليه هذا الاسم إلا باعتبار إعدام
النار للحقيقة الأولية واضمحلالها وانقلابها الى النوع المسمى بالرماد ، ولهذا
جعلت النار من جملة المطهرات من حيث الإحالة من الحقائق الأولية إلى حقيقة الرماد
أو الدخان ، فقد حصل التغيير في الحقيقة والتسمية ، وحينئذ فإن كان النار بإحراقها
التراب قد عملت فيه مثل ما تعمل في تلك الأجسام من إذهاب الحقيقة الأولية إلى
حقيقة أخرى بحيث انه انما يسمى في العرف رمادا فلا ريب في ان حكمه حكم الرماد
الحاصل من غير الأرض في عدم صدق التراب عليه ، وان لم تعمل فيه النار على هذا
الوجه المذكور وان غيرت لونه فإنه لا يسمى رمادا بل هو تراب وان تغير لونه ،
وحينئذ ففرضه في التذكرة وكذا في المدارك ايضا انه احترق حتى صار رمادا ثم الشك في
خروجه بذلك عن اسم الأرض لا اعرف له وجها وجيها ، فإنه متى صار رمادا بان عملت فيه
النار كما عملت في غيره من الأجسام التي إحالتها فلا ريب في خروجه عن اسم
الأرضية وهو ليس بموضع شك كما في نظائره المذكورة ، وان لم يسم رمادا فهو باق على
ما كان عليه ، وبذلك يظهر ايضا انه لا وجه لما استقر به في النهاية من جواز التيمم
برماد التراب وبالجملة فإنه متى صدق عليه اسم الرماد فقد خرج عن اسم الأرض كما خرج
نظائره مما احالته النار عن حقيقته الاولى الى حقيقة الرمادية. والله العالم.
(السادس) ـ لو
فقد هذه الأشياء التي يجوز التيمم بها لقيد أو حبس في مكان نجس أو نحو ذلك فقد
اختلف أصحابنا في حكمه ، فقيل انه يجب الصلاة أداء وقضاء ، وهذا القول لم نظفر
بقائله صريحا وانما نقله في الشرائع ، قال في المدارك : ولعله أشار بذلك الى ما في
المبسوط من تخييره بين تأخير الصلاة أو الصلاة والإعادة ، قال وهو مع ضعفه لا يدل
على تعين الأداء ، وعن المفيد (قدسسره) في رسالته الى ولده انه قال : وعليه ان يذكر الله
تعالى في أوقات الصلاة ولم يتعرض للقضاء ، وما ذكره من الأمر بالذكر لم نقف له على
مستند. وقيل بسقوط الأداء والقضاء وهو اختيار المحقق في الشرائع والمعتبر ونقل عن
المفيد في أحد قوليه وهو قول العلامة أيضا في كتبه ، واحتج عليه في المعتبر بأنها
صلاة سقطت بحدث لا يمكن إزالته فلا يجب قضاؤها كصلاة الحائض ، وبان القضاء فرض
مستأنف فيتوقف على الدلالة ولا دلالة. وقيل بوجوب القضاء وهو اختيار المفيد في
المقنعة والمرتضى في المسائل الناصرية وابن إدريس واختاره في المدارك وهو المشهور
بين المتأخرين. وقيل بالتخيير بين الصلاة والإعادة والتأخير كما تقدم نقله عن
عبارة المبسوط. احتج القائلون بوجوب القضاء بعموم ما دل على وجوب قضاء الفوائت كقول
الباقر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة «ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صليتها». وفي صحيحة أخرى لزرارة «أربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة : صلاة اتتك
__________________
فذكرتها أديتها. الحديث».
أقول ـ وبالله
سبحانه الثقة لبلوغ المأمول ـ : الظاهر انه لا ريب في سقوط الأداء لأن الطهارة شرط
في الصلاة مطلقا لقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة «لا صلاة إلا بطهور.». وقد تعذر الطهور فيسقط التكليف به ويلزم من سقوط
التكليف به سقوط التكليف بالمشروط وإلا فإن بقي الاشتراط لزم التكليف بما لا يطاق وان
انتفى خروج المشروط المطلق عن كونه مشروطا وهو باطل. إلا ان في المقام اشكالا يجب
التنبيه عليه وهو ان ظاهرهم الاتفاق على ان الطهارة من شروط الصحة كالقبلة وستر
العورة وطهارة الساتر ونحوها لا من شروط الوجوب وانما شرط الوجوب فيها الوقت خاصة
، وقد قرروا في شروط الصحة ان وجوبها انما هو مع الإمكان وان الصلاة تصح بدونها مع
التعذر ، ولذا قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة ما صورته : «والاولى
ان لم ينعقد الإجماع على خلافه وجوب الصلاة أداء من غير إعادة لأن الطهارة شرط في
صحة الصلاة لا في وجوبها فهي كغيرها من الساتر والقبلة ، وباقي شروط الصحة انما
تجب مع إمكانها وإلا لكانت الصلاة من قبيل الواجب المقيد كالحج والأصوليون على
خلافه» انتهى. وهو جيد. إلا انه يمكن ان يقال ان الطهارة وان كانت من شروط الصحة
كما ذكروا إلا ان تعميم الحكم في شروط الصحة بما ذكروه ـ من عدم وجوبها إلا مع
الإمكان الموجب لعدم شرطيتها مع عدم إمكانها فتجوز الصلاة بدونها ـ محل نظر ،
وقيام الدليل فيما عدا الطهارة من تلك الشروط لا يستلزم إجراءه فيها من غير دليل
سيما وظاهر الصحيحة المتقدمة عدم صحة الصلاة إلا بطهور فهي بدونه باطلة مطلقا
أمكنت الطهارة أم لا والباطل يمتنع التكليف به. واما القضاء فقد عرفت انه هو
المشهور بين المتأخرين لعموم الأخبار المتقدمة ، ويمكن تطرق القدح اليه بما أشرنا
إليه في غير موضع وبه صرح جملة من المحققين من ان الأحكام المودعة في الأخبار إنما
__________________
تنصرف الى الافراد المتكررة الكثيرة الدوران فهي التي يتبادر إليها الإطلاق
دون الفروض النادرة التي ربما لا توجد بالكلية في زمان من الأزمان ، فشمول الأخبار
المذكورة لهذا الفرد الذي هو محل البحث لا يخلو من بعد وبذلك يتأيد مذهب المحقق
ومن تبعه. وكيف كان فحيث كانت المسألة عارية عن النص بالخصوص سيما مع تدافع هذه
الأدلة فالأحوط الصلاة أداء وقضاء بعد وجود الطهارة مائية أو ترابية. والله
العالم.
(المطلب الثالث)
ـ في بيان كيفية التيمم المشتملة على النية والضرب باليدين على الأرض ومسح الجبهة
وظاهر الكفين والترتيب وما يلحق به فالكلام هنا يقع في مقامات خمسة ، إلا أنه
ينبغي أولا تقديم الأخبار الواردة في كيفية التيمم ثم عطف الكلام على البحث في هذه
المقامات الخمسة واستعلام أحكامها من الاخبار المذكورة فنقول :
(الأول) ـ من
الاخبار المشار إليها ما رواه في الكافي في الصحيح عن أبي أيوب الخزاز عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن التيمم؟ فقال ان عمار بن ياسر أصابته
جنابة فتمعك كما تتمعك الدابة فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يا عمار تمعكت كما تتمعك الدابة؟ فقلت له كيف التيمم؟
فوضع يده على المسح ثم رفعها فمسح وجهه ثم مسح فوق الكف قليلا».
(الثاني) ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن النعمان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن التيمم؟ قال ان عمارا أصابته جنابة فتمعك كما تتمعك
الدابة فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وهو يهزأ به : يا عمار تمعكت كما تتمعك الدابة؟ فقلنا
له فكيف التيمم؟ فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكف قليلا». قوله
: «وهو يهزأ به» اي يمزح معه فان حمل الهزء على معناه الذي هو السخرية غير مناسب
في حقه (صلىاللهعليهوآله) خصوصا بمثل عمار
__________________
الجليل المنزلة عنده والمقدار لقوله عزوجل كناية عن بني إسرائيل في قولهم لموسى (عليهالسلام) : «...
أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» : «قالَ أَعُوذُ بِاللهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» .
(الثالث) ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة «قال سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول وذكر التيمم وما صنع عمار فوضع أبو جعفر (عليهالسلام) كفيه على الأرض ثم مسح وجهه وكفيه ولم يمسح الذراعين
بشيء».
(الرابع) ـ ما
رواه في الفقيه في الصحيح عن زرارة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ذات يوم لعمار في سفر له يا عمار بلغنا أنك أجنبت فكيف
صنعت؟ قال تمرغت يا رسول الله في التراب. قال فقال له كذلك يتمرغ الحمار أفلا صنعت
كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينه بأصابعه وكفيه
إحداهما بالأخرى ثم لم يعد ذلك».
(الخامس) ـ ما
رواه في الكافي في الحسن عن الكاهلي قال : «سألته عن التيمم؟ قال فضرب بيده على البساط فمسح
بها وجهه ثم مسح كفيه إحداهما على ظهر الأخرى».
(السادس) ـ ما
رواه في التهذيب في الموثق عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن التيمم؟ فضرب بيديه على الأرض ثم رفعهما فنفضهما ثم
مسح بهما جبهته وكفيه مرة واحدة». هكذا نقله في الوافي عن الكتابين والموجود في
الكافي «جبينه» عوض لفظ «جبهته» وكذا رواه الشيخ في التهذيب في موضع آخر من طريق
محمد بن يعقوب بلفظ الجبين دون الجبهة.
(السابع) ـ ما
رواه في التهذيب في الحسن عن عمرو بن ابي المقدام عن الصادق (عليهالسلام) «انه وصف التيمم فضرب بيديه على الأرض ثم رفعهما
__________________
فنفضهما ثم مسح على جبينه وكفيه مرة واحدة».
(الثامن) ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) «في التيمم؟ قال : تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك».
(التاسع) ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا (عليهالسلام) قال : «التيمم ضربة للوجه وضربة للكفين».
(العاشر) ـ ما
رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن التيمم؟ فقال مرتين مرتين للوجه
واليدين».
(الحادي عشر) ـ
ما رواه في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قلت له كيف التيمم؟ قال هو ضرب واحد للوضوء
والغسل من الجنابة : تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما نفضة للوجه ومرة لليدين ، ومتى
أصبت الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا والوضوء ان لم تكن جنبا».
(الثاني عشر) ـ
ما رواه في التهذيب والفقيه في الموثق عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن التيمم من الوضوء ومن الجنابة ومن
الحيض للنساء سواء؟ فقال نعم».
(الثالث عشر) ـ
ما رواه في الكافي في الموثق عن ابي بصير قال : «سألته عن تيمم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا
ماء؟ فقال نعم».
(الرابع عشر) ـ
ما رواه في الكافي والتهذيب عن حماد بن عيسى في الصحيح أو الحسن عن بعض أصحابنا عن
الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية : «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما» وقال : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
__________________
إِلَى
الْمَرافِقِ» قال فامسح على كفيك من حيث موضع القطع وقال (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)» .
(الخامس عشر) ـ
ما رواه في التهذيب عن ليث المرادي عن الصادق (عليهالسلام) «في التيمم؟ قال تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك
وذراعيك».
(السادس عشر) ـ
ما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة قال : «سألته كيف التيمم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها
وجهه وذراعيه الى المرفقين».
(السابع عشر) ـ
ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن التيمم؟ فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بهما وجهه ثم ضرب
بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها
ثم ضرب بيمينه الأرض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه ، ثم قال هذا التيمم على ما كان
فيه الغسل وفي الوضوء الوجه واليدين الى المرفقين والقى ما كان عليه مسح الرأس
والقدمين فلا يؤمم بالصعيد».
(الثامن عشر) ـ
ما نقله ابن إدريس في آخر كتاب السرائر من كتاب نوادر احمد بن محمد بن ابي نصر عن
عبد الله بن بكير عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «اتى عمار بن ياسر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقال يا رسول الله اني أجنبت الليلة ولم يكن معي ماء؟
قال : كيف صنعت؟ قال طرحت ثيابي وقمت على الصعيد فتمعكت فيه. فقال هكذا يصنع
الحمار انما قال الله عزوجل «فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» فضرب بيديه على الأرض ثم ضرب إحداهما على الأخرى ثم مسح
بجبينيه
__________________
ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى مسح اليسرى على اليمنى واليمنى على
اليسرى».
(التاسع عشر) ـ
ما في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وصفة التيمم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل
واحد وهو ان تضرب بيديك على الأرض ضربة واحدة ثم تمسح بهما وجهك موضع السجود من
أحد الحاجبين الى الذقن ، وروي انه موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف ، ثم
تضرب بهما اخرى فتمسح بها اليمنى الى حد الزند وروي من أصول الأصابع تمسح باليسرى
اليمنى وباليمنى اليسرى على هذه الصفة ، واروي إذا أردت التيمم اضرب كفيك على
الأرض ضربة واحدة ثم تضع احدى يديك على الأخرى ثم تمسح بأطراف أصابعك وجهك من فوق
حاجبيك وبقي ما بقي ثم تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصل الأصابع من فوق
الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف ثم تضع أصابعك اليمنى على أصابعك اليسرى
فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى على اليمنى مرة واحدة ، فهذا هو التيمم وهو
الوضوء التام الكامل في وقت الضرورة».
أقول : هذا ما
حضرني من روايات المسألة وسيأتي الكلام ان شاء الله فيها في كل حكم مما يتعلق به
في موضعه ، فلنرجع الى ما وعدنا من الكلام في المقامات الخمسة فنقول :
(المقام الأول)
ـ في النية وهي وان كانت عندنا غنية عن البيان كما سلف لك تحقيقه في غير مكان ولا
سيما في بحث نية الوضوء وما أودعناه فيه من التحقيق الساطع البرهان ، وقد عرفت
فيما سبق في باب الوضوء بعد تحقيق الكلام في النية الكلام في قيودها التي ذكروها
وما الذي يجب منها وما لا يجب ، إلا انه بقي الكلام هنا في مواضع لم يتقدم لها ذكر
فيما سبق :
(الأول) ـ ان
المشهور في كلامهم بناء على وجوب نية الرفع أو الاستباحة
__________________
في الطهارة انه لا يجوز نية الرفع في التيمم وانما ينوي فيه الاستباحة خاصة
، وذلك للفرق بينهما فإن الاستباحة عبارة عن رفع المنع ورفع الحدث عبارة عن رفع
المانع ، فعلى هذا يمتنع نية الرفع من المتيمم ودائم الحدث لاستمرار المانع وعدم
إمكان رفعه ولهذا وجب على دائم الحدث تجديد الوضوء لكل صلاة والمتيمم فإنه ينتقض
تيممه برؤية الماء مع انه ليس بحدث ، وانما ينويان الاستباحة لأنهما بالطهارتين
المذكورتين أبيح لهما الدخول في العبادة وان كان الحدث باقيا.
وتفصيل هذه
الجملة ببيان ابسط ان يقال يجب ان يعلم ان الحدث لفظ مشترك يطلق على معنيين : (أحدهما)
نفس الخارج الناقض للطهارة و (الثاني) أثره وهو المانع من الدخول في العبادة
المتوقف رفعه على الطهارة ، والمعنى الأخير هو محل البحث في المسألة لا الأول
لامتناع رفع الواقع فإنه قد وقع والواقع لا يرتفع ، وانما المراد رفع المانع أي
الأثر الحاصل بسبب الخارج على ما عرفت ، فنية الرفع يقصد بها ازالة المانع
المستلزم لازالة المنع كما في طهارة المختار ، ولهذا ان الرفع والاستباحة بالنسبة
إليه متلازمان ، ونية الاستباحة يقصد بها ازالة المنع وهو أعم من رفع المانع إذ قد
يرتفع المنع ولا يرتفع المانع بالكلية ، كما في المتيمم فإنه يستبيح الصلاة مع عدم
ارتفاع حدثه ومن ثم يجب عليه الطهارة المائية عند التمكن منها ، ولو كان الحدث
مرتفعا بالتيمم لم تجب الطهارة المائية بذلك الحدث السابق فهو دليل على عدم زوال
المانع ، وكما في دائم الحدث فإن الإباحة تحصل له بوضوئه للصلاة الواحدة مع بقاء
اثر الحدث المتأخر عن الطهارة والمقارن فلم يحصل فيه سوى زوال المنع ، فان المانع
مقارن للطهارة وانما حصل له بالطهارة إباحة الصلاة خاصة وبذلك يظهر الفرق بينهما
بالنسبة إلى الطهارة الاضطرارية ودائم الحدث.
قال في المعتبر
: التيمم لا يرفع الحدث وهو مذهب العلماء كافة ، ثم احتج عليه بان المتيمم يجب
عليه الطهارة عند وجود الماء بحسب الحدث السابق فلو لم يكن الحدث السابق باقيا
لكان وجوب الطهارة بوجود الماء إذ لا وجه غيره ، ووجود الماء ليس
حدثا بالإجماع ، ولانه لو كان حدثا لوجب استواء المتيممين في موجبه ضرورة
استوائهم فيه ، لكن هذا باطل لان المحدث لا يغتسل والمجنب لا يتوضأ ، ثم أورد خبرا
من طرق العامة يتضمن تسمية النبي (صلىاللهعليهوآله) لمن تيمم عن الغسل وصلى جنبا ثم قال : فرع : لو تيمم ونوى رفع الحدث لم يستبح به
الصلاة لأن النية تابعة للمشروع وحيث لا مشروعية فلا نية. انتهى.
وذهب جمع من
محققي متأخري المتأخرين ـ وهو الحق الحقيق بالاتباع ـ الى عدم الفرق بين الرفع
والاستباحة بل هما بمعنى واحد مطلقا ، وذلك فان الحدث بالمعنى الثاني المتقدم وهو
الذي يمكن رفعه لا يعقل له معنى في الشرع سوى الحالة التي لا يسوغ للمكلف الدخول
في العبادة بها ، ومتى جوز الشارع له الدخول بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب فإنه
يجب القطع بزوال تلك الحالة وهو معنى الرفع ، غاية الأمر ان زوالها يتفاوت بتفاوت
أحوال المكلفين فقد يحصل زوالها مطلقا كما في الطهارة الاختيارية لغير دائم الحدث
وقد يحصل إلى غاية كما في المتيمم ودائم الحدث ، وهذا القدر لا يوجب تخصيص كل قسم
باسم بحيث لا ينصرف الى غيره ، ونقل هذا القول عن الشهيد (قدسسره) في قواعده ومال اليه الشهيد الثاني في شرح الألفية مع
زيادة تصلبه في العمل بالقول المشهور في الروض ، قال في شرح الألفية بعد الكلام في
المسألة : وذهب المصنف (رضياللهعنه) في بعض تحقيقاته الى الاكتفاء بنية رفع الحدث بناء على
ان المراد منه هو المانع ولولا ارتفاعه لما أبيحت الصلاة أو بجملة على الحدث
__________________
السابق ، والمتأخر من الحدث معفو عنه وان لم ينو إباحته بل لا يكاد يعقل
نية الإباحة منه قبل وقوعه وانما هو عفو من الله ، وهذا القول ليس بعيدا عن الصواب
فانا لا نعقل من الحدث إلا الحالة التي لا يصح معها الدخول في الصلاة ، فمتى أبيحت
الصلاة زالت تلك الحالة فارتفع الحدث بالنسبة الى هذه الصلاة بمعنى زوال المانع
وان بقي في غيرها ، وأيضا فإن النية إنما تؤثر في الإباحة من الحدث السابق عليها
كما قلناه لا المتأخر إذ لم يعهد ذلك شرعا ، والمتأخر مغتفر في هذه الصلاة والسابق
لا مانع من رفعه بالنية. إلى آخر كلامه.
ويمكن ان يقال
في المقام انه لا يخفى على المتأمل في كلامهم بالنظر الدقيق والناظر فيه بعين
التحقيق انه لا منافاة بين القولين المذكورين ، وذلك بان يحمل ما ادعى عليه المحقق
الإجماع من ان التيمم لا يرفع الحدث وانه لو تيمم ونوى رفع الحدث لم يستبح الصلاة
على معنى انه لا يرفعه على نحو ما يرفعه الماء من رفعه مطلقا وإزالته بالكلية حتى
انه لا يؤثر في بطلانه إلا الحدث كما في الطهارة المائية التي لا ينقضها إلا الحدث
وان التمكن من الماء لا يؤثر في بطلانه ونقضه ، ومن الظاهر انه بهذا المعنى مجمع
عليه إذ لا قائل بأنه يرفع الحدث كرفع الماء وانه لا ينتقض بالتمكن من الماء ، فما
ادعاه من الإجماع صحيح لا شك فيه ، واما كونه يرفع الحدث الى وقت التمكن من الماء
أو طرو أحد النواقض ـ كما صرح به الشهيد في قواعده وقال به أصحاب القول الثاني ـ فلا
مانع منه بالتقريب المتقدم ، إلا انه ربما أشكل بأن المتبادر من معنى الرفع انما
هو زوال ذلك المانع بكليته فلا يعود إلا بسبب موجب له كما في الطهارة المائية
الرافعة فإنه لا يعود الحدث إلا بسبب آخر ، واما في التيمم فإنه ليس كذلك إذ لو
كان رافعا للحدث على الوجه المذكور لما انتقض بالتمكن من الماء لان التمكن من
الماء ليس حدثا إجماعا كما سمعت من كلام المحقق ، قولكم : انه رافع إلى غاية هي
وجود التمكن من الماء أو حصول الحدث. قلنا : لا ريب انه بالتمكن من الماء أو طرو
حدث يعود الأول بعينه حتى كأنه
لم يزل لا انه يحصل له سبب آخر يوجب التيمم ، فهو ظاهر في انه انما ارتفع
المنع المترتب على ذلك المانع لا أصل المانع فإنه باق على حاله في جميع الحالات
الى ان يتطهر بالماء ، وبالجملة فإنه متى أحدث ولم يكن ثمة ماء فإنه تحصل له تلك
الحالة المانعة من الصلاة المسماة بالحدث وهذه الحالة ثابتة معه الى ان يزيلها
بالماء خاصة ، والتيمم إنما أفاده جواز الدخول في المشروط بالطهارة ورفع المنع عنه
، ولهذا لو تيمم بدلا من الجنابة فإن الجنابة باقية الى ان يزيلها بالغسل وان
ارتفع المنع عنه في الدخول فيما يشترط بالطهارة بالتيمم.
وكيف كان
فالمسألة على المشهور من وجوب نية هذه القيود لا تخلو من الاشكال لما عرفت من عدم
النص وتدافع هذه الأقوال والعلل العقلية لا تنتهي إلى ساحل ولو طويت لها المراحل ،
واما عندنا فحيث لم يثبت عندنا دليل على وجوب هذه القيود سوى القربة فلا اشكال ،
هذا.
واما ما ذكره
في شرح الألفية من ان النية انما تؤثر في الحدث السابق. إلخ فإن أريد به بالنسبة
إلى دائم الحدث فالوجه فيما ذكره ظاهر لان حدثه مستمر كما هو المفروض فإن النية
إنما تؤثر في السابق دون المقارن للنية والمتأخر عنها وحينئذ يكون ذلك عفوا منه
سبحانه ، واما بالنسبة إلى المتيمم فلا يخلو من اشكال إذ الظاهر انه بتيممه ترتفع
عنه تلك الحالة التي هي عبارة عن المانع ويصح منه كل ما يتوقف على الطهارة غاية
الأمر ان ذلك الى غاية مخصوصة ، اللهم إلا ان يقال ان المراد ان ذلك المانع
بالنسبة الى ما تقدم على التيمم قد ارتفع بالتيمم مطلقا وزوال بالكلية وبالنسبة
الى ما تأخر يرتفع إلى الغاية المذكورة ، إلا ان هذا المعنى بعيد عن سوق العبارة
المذكورة بالنسبة إلى التيمم. والله العالم.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب في وجوب نية البدلية في التيمم وعدمه ، فقيل بالوجوب ونقل عن الشيخ في
الخلاف كما سيأتي من نقل كلامه في ذلك ، حيث انه يقع أحيانا بدلا من الغسل وأحيانا
بدلا من الوضوء مع اختلاف حقيقتهما فاعتبر في النية التعرض
للبدلية ليتميز أحدهما عن الآخر. ويشكل بان الاحتياج الى التمييز انما يكون
في موضع اجتماعهما معا والخطاب بهما كذلك اما لو كان المخاطب به انما هو التيمم عن
أحدهما فلا ضرورة إلى التمييز. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الجواب ـ من
ان التمييز يعتبر بالنسبة الى ما يصح وقوع التيمم عنه مطلقا من غير التفات الى ما
في الذمة ـ مجرد دعوى عارية عن الدليل بل هو نوع مصادرة كما لا يخفى. وقيل بالعدم
مطلقا والظاهر انه المشهور بين المتأخرين كما ذكره بعض الأفاضل. وقيل بالتفصيل وهو
وجوب نية البدلية ان قلنا باختلاف صورتي التيمم بدلا عن الحدث الأصغر وعن الأكبر
يعني وجوب الضربة في البدل عن الأصغر والضربتين فيما هو بدل عن الأكبر ، وان قلنا
باتحاد صورتي التيمم بالضربة فيهما أو الضربتين فلا ، وهو مذهب الشهيد في الذكرى
حيث قال : الأقرب اشتراط نية البدلية عن الأكبر أو الأصغر لاختلاف حقيقتهما فيتميزان
بالنية وبه صرح الشيخ في الخلاف ، وعليه بنى ما لو نسي الجنابة فتيمم للحدث انه لا
يجزئ لعدم شرطه ، وهذا بناء على اختلاف الهيئتين ولو اجتزأنا بالضربة فيهما أو
قلنا فيهما بالضربتين أمكن الاجزاء وبه افتى في المعتبر مع ان الشيخ في الخلاف قال
في المسألة : فإن قلنا انه متى نوى بتيممه استباحة الصلاة من حدث جاز له الدخول في
الصلاة كان قويا قال والأحوط الأول يعني عدم الاجزاء ، وذكر ان لا نص للأصحاب فيها
أي في مسألة النسيان. انتهى ما ذكره في الذكرى. أقول : عبارة المعتبر في هذا
المقام هكذا : «لو نسي الجنابة فتيمم للحدث فان قلنا بالضربة الواحدة فيهما أجزأ
لأن الطهارتين واحدة وان قلنا بالتفصيل لم يجزئه ، وقال الشيخ في الخلاف والذي
يقتضيه المذهب انه لا يجوز لانه يشترط ان ينويه بدلا من الوضوء أو بدلا من الجنابة
ولم ينو ذلك» انتهى. وأنت خبير بأن غاية ما تدل عليه هذه العبارة هو ان عدم
الاجزاء على القول بالتفصيل انما هو من حيث ان الواجب في بدل الجنابة الضربتان وهو
لم يأت إلا بواحدة حيث انه انما تيمم بقصد البدلية عن الوضوء لا ان عدم الاجزاء من
حيث الإخلال بنية البدلية ،
وبذلك يظهر انه لا دلالة في عبارة المعتبر على ما ادعاه من التفصيل. وكيف
كان فالظاهر هو القول بالعدم مطلقا كما هو المشهور لعدم الدليل وصدق الامتثال بما
اتى به لأنه الذي تعلق به الخطاب.
ومما ينبغي
التنبيه له انه يجب ان يستثني من وجوب نية البدلية على القول به مطلقا أو على
التفصيل المتقدم تيمم الصلاة على الجنازة والتيمم للنوم ، لان كلا منهما جائز بدون
الطهارة ولان التيمم فيهما جائز مع وجود الماء ، وكذلك التيمم للخروج من المسجدين
بناء على مذهب من يجعل غايته الخروج من المسجدين وان أمكن الغسل فإنه لا وجه لنية
البدلية بل صرحوا بأنه لا يجوز النية كذلك ، واما على القول الآخر من ان التيمم
انما يشرع مع عدم إمكان الغسل فيكون كغيره مما تقدم.
(الثالث) ـ انه
قد اختلف الأصحاب في محل النية في التيمم ، فالمشهور ان محلها عند الضرب على الأرض
لأنه أول التيمم وبه قطع في المنتهى ، قالوا فعلى هذا يجب مقارنة النية الضرب على
الأرض حيث انه أول أفعاله كما في غيره من العبادات التي يجب مقارنة النية لأول
أفعالها ، ولو تأخرت عن ذلك الى مسح الوجه بطل التيمم لخلو بعض أفعاله عن النية ،
وقطع العلامة في النهاية بالاجزاء بتأخيرها إلى مسح الجبهة وجعل الضرب خارجا عن
حقيقة التيمم ونزله منزلة أخذ الماء في الطهارة المائية حيث لا تحتم النية عنده
لعدم كونه أول الأفعال الواجبة بل تؤخر عنه الى غسل الوجه. واعترضه في الذكرى
بوجهين : (أحدهما) ـ ان تنزيله منزلة أخذ الماء للطهارة المائية فيه منع ظاهر لأن
الأخذ غير معتبر بنفسه ولهذا لو غمس الأعضاء في الماء أجزأ بخلاف الضرب. و (ثانيهما)
ـ انه لو أحدث بعد أخذ الماء لم يضر بخلاف الحدث بعد الضرب أقول : وتوضيحه ان
الواجب في الوضوء غسل الأعضاء كيف اتفق من غير تقييد بنحو خاص بخلاف التيمم فان
الواجب فيه الضرب بنفسه كما دلت عليه الأخبار حتى لو تعرض لهبوب الريح أو وضع
جبهته على الأرض ناويا لم يجزئه اتفاقا ، وتخلل الحدث بين أخذ الماء
وغسل الوجه غير مضر بخلاف تخلله بين الضرب ومسح الجبهة. وقيل عليه اما على
الوجه الأول فإن عدم اجزاء وضع الجبهة على الأرض لا يقدح فيما ذهب إليه العلامة بل
هو قائل بموجبه إلا انه يجعل نقل التراب على الوجه المخصوص شرطا لصحة التيمم فكأنه
واجب خارج. واما الثاني فبان العلامة في النهاية قائل بذلك ومصرح بالتزامه حيث قال
: ولو أحدث بعد أخذ التراب لم يبطل ما فعل كما لو أحدث بعد أخذ الماء في كفه. أقول
: والتحقيق بناء على ما ذكروه ضعف ما ذهب إليه العلامة في النهاية لاستفاضة
الروايات ـ كما مرت بك ـ بالأمر بالضرب ثم المسح ، وهي ظاهرة في ان الضرب أحد
واجبات التيمم التي تعلق بها الأمر في تلك الأخبار كمسح الجبهة واليدين ، ومنه
يظهر ان التزام العلامة (قدسسره) بعدم بطلان التيمم بالحدث بعد الضرب ليس بجيد سيما وقد
صرح في الكتاب المذكور ـ على ما نقله عنه جملة من الأصحاب ـ بأن أول أفعال التيمم
المفروضة الضرب باليدين على الأرض وهو تدافع ظاهر بين الكلامين.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان جميع هذا الكلام يدور مدار النية المشهورة التي قدمنا نقلها عنهم في غير
موضع التي هي عبارة عن التصوير الفكري والحديث النفسي الذي يترجمه قول القائل :
أتيمم بدلا من الغسل أو الوضوء لرفع الحدث أو استباحة الصلاة قربة الى الله تعالى
، وقد عرفت مما حققناه في بحث نية الوضوء ان هذا ليس من النية في شيء وان الأمر
فيها أوسع من ذلك وان جميع هذا الكلام لا وجه له ولا حاجة إليه في المقام. والله
العالم.
(الرابع) ـ انه
يجب استدامة حكمها حتى الفراغ بمعنى انه لا ينوي نية تنافي النية الاولى ، وقد
تقدم تحقيق البحث في هذه المسألة مستوفى في باب نية الوضوء والكلام في المقامين
واحد.
(المقام الثاني)
ـ في الضرب باليدين على الأرض ، وقد أجمع الأصحاب على وجوبه وشرطيته في التيمم ،
فلو استقبل العواصف حتى لصق صعيدها بوجهه ويديه لم
يجزئه ذلك ، لان العبادات الشرعية مبنية على التوقيف والتوظيف من الشارع
ولم يرد عنه ما يدل على صحة التيمم بذلك فيكون فعله تشريعا محرما وانما استفاضت
الأخبار بما ذكرناه. بقي الكلام في الاكتفاء بمجرد الوضع أو لا بد من الضرب الذي
هو عبارة عن الوضع المشتمل على اعتماد؟ قال في الذكرى : «معظم الروايات وكلام
الأصحاب بعبارة الضرب وفي بعضها الوضع والشيخ في النهاية والمبسوط عبر بالأمرين ،
وتظهر الفائدة في وجوب مسمى الضرب باعتماد ، والظاهر انه غير شرط لان الغرض قصد
الصعيد وهو حاصل بالوضع» انتهى. وما اختاره هنا من الاكتفاء بمجرد الوضع قد صرح به
في الدروس ايضا ، وحاصل استدلاله الاستناد إلى إطلاق الآية وهو قوله تعالى «فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» اي اقصدوا وهو حاصل بالوضع. وفيه ان الآية يمكن تقييدها
بالأخبار الكثيرة الدالة على الضرب الذي هو ـ كما عرفت ـ عبارة عن الوضع المشتمل
على الاعتماد ، وحينئذ فيجب حمل القصد الذي في الآية على هذا القصد المخصوص جمعا
بين الآية والأخبار ، وكذا يجب تقييد بعض الأخبار الدالة على مجرد الوضع بهذه
الأخبار ايضا ، وبه يظهر ان الأظهر اعتبار الضرب سيما مع أوفقيته بالاحتياط ،
والظاهر ان من قال بالوضع حمل جملة أخبار الضرب على الاستحباب كما هي أحد قواعدهم
التي بنوا عليها في كثير من الأحكام في الجمع بين المطلق والمقيد ، والأظهر ما
قلناه وان احتمل الجمع بينهما بالتخيير إلا ان الظاهر هو الأول مع أوفقيته
بالاحتياط كما عرفت.
وتمام تحقيق
الكلام في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) ـ يعتبر في الضرب ان يكون بباطن
الكفين لانه المعهود المعروف فينصرف إليه الإطلاق كما في سائر الأحكام ، ويعضده
انه المعلوم من صاحب الشرع فيكون خلافه تشريعا محرما نعم لو تعذر الضرب بالباطن
لعذر فالظاهر الجواز بالظاهر ، وربما دل عليه عموم بعض أدلة المسألة.
__________________
(الثانية) ـ ينبغي
ان يعلم انه لا يعتبر فيما يضرب عليه كونه على الأرض ، فلو كان التراب على بدنه أو
ثوبه أو بدن غيره أو ثوبه وضرب عليه أجزأ كل ذلك لإطلاق الأخبار وتخرج الأخبار
المتقدمة في التيمم من لبد سرجه وثوبه ونحو ذلك شاهدة وان كان موردها أخص مما نحن
فيه ، قال في المدارك : ولو كان على وجهه تراب صالح للضرب فضرب عليه ففي الإجزاء
تردد أقربه العدم لتوقف الطهارة على النقل والمنقول خلافه. وقال في الذخيرة : لا
يبعد ان يكون مجزيا في الضرب لحصول الامتثال ثم قال وربما يقال بعدم الاجزاء لان
ذلك غير المعهود من صاحب الشرع. أقول : الظاهر انه ان كان المراد من هذه العبارة
أنه يضرب على هذا التراب الذي في موضع المسح ويجتزئ بذلك فالظاهر انه غير مجزئ
والحق فيما ذكره في المدارك ، وان كان المراد انه يضرب يده عليه ثم يرفع يده ويمسح
به فالظاهر انه لا مانع منه كما في سائر البدن إذا أراد التيمم من التراب الذي
عليه فالحق فيما ذكره في الذخيرة ، وبما ذكرنا صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال :
لو كان على وجهه تراب صالح للضرب وضرب عليه أجزأ في الضرب لا في مسح الوجه فيمسح
بعد الضرب.
(الثالثة) ـ ظاهر
الأخبار وكلام الأصحاب انه يشترط في وضع اليدين ان يكون دفعة فلو ضرب بإحدى يديه
ثم أتبعها بالأخرى لم يجزئ ففي صحيحة زرارة «ثم أهوى بيديه فوضعهما على الصعيد». وفي حسنة الكاهلي «فضرب بيديه على البساط». وفي صحيحة أخرى لزرارة «فوضع أبو جعفر (عليهالسلام) كفيه على الأرض». وفي موثقة له ايضا قال : «تضرب بكفيك الأرض». الى غير ذلك من الأخبار التي
مرت بك قريبا.
(الرابعة) ـ المشهور
بين الأصحاب انه لا يجب علوق شيء من التراب باليدين بل يضرب بهما ويمسح وان لم
يعلق بهما شيء ، وعن ظاهر ابن الجنيد وجوب المسح بالتراب المرتفع على
__________________
اليدين وهو مؤذن بالقول بوجوب العلوق ، والى هذا القول مال جملة من أفاضل
متأخري المتأخرين : منهم ـ شيخنا البهائي في الحبل المتين ونقله فيه عن والده ايضا
والمحدث الكاشاني وشيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ، وهو المختار عندي
كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.
واستدل في
المدارك على القول المشهور ـ حيث مال اليه ـ بوجوه : (الأول) ـ عدم الدليل على
العلوق (الثاني) ـ إجماع علمائنا على استحباب نفض اليدين بعد الضرب وورود الأخبار
الصحيحة به ، ولو كان العلوق معتبرا لما أمر الشارع بفعل ما كان عرضة لزواله (الثالث)
ـ ان الصعيد وجه الأرض لا التراب فسقط اعتباره جملة (الرابع) ـ ان الضربة الواحدة
كافية مطلقا على ما سنبينه ولو كان المسح بالتراب معتبرا لما حصل الاكتفاء بها إذ
الغالب عدم بقاء الغبار من الضربة الواحدة في اليدين.
أقول : اما
الجواب عن الأول فبان الدليل على ما ندعيه من اعتبار العلوق هو صحيحة زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ألا تخبرني من اين علمت وقلت ان المسح ببعض الرأس وبعض
الرجلين؟ فضحك ثم قال يا زرارة قاله رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ونزل به الكتاب من الله لان الله عزوجل يقول (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ) ، الى ان قال ثم قال (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل
مسحا لانه قال : «بِوُجُوهِكُمْ» ثم وصل بها «وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» اي من ذلك التيمم لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على
الوجه لانه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها».
والتقريب في
الخبر المذكور ان المراد بالتيمم المفسر به الضمير هو التيمم به ، لان حاصل معنى
الخبر انه سبحانه إنما أثبت بعض الغسل مسحا ولم يوجب مسح الجميع ، لانه لما علم ان
ذلك الصعيد
__________________
لا يأتي على الوجه كله من جهة أنه يعلق ببعض الكف ولا يعلق بالبعض الآخر
قال سبحانه «فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» وحينئذ فقوله : «لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على
الوجه» اي علم ان ذلك الصعيد المضروب عليه وهو المدلول عليه في الرواية بالتيمم
بمعنى المتيمم به ، ولا يخفى ما فيه من الاشعار بالعلوق بل الدلالة الصريحة حيث
جعل العلوق بالبعض دون البعض علة للعلم بان ذلك لا يجري بأجمعه على الوجه ، وهذا
الوجه الذي ذكرناه مبني على كون «من» في الآية للتبعيض وان قوله (عليهالسلام) «لانه علم ان ذلك أجمع. إلخ» تعليل لقوله : «اثبت بعض
الغسل مسحا» كما اختاره شيخنا البهائي في الحبل المتين اي جعل بعض المغسول ممسوحا
حيث اتى بالباء التبعيضية لأنه تعالى علم ان ذلك الصعيد العالق بالكف لا يجري على
الوجه كله لانه يعلق ببعض الكف ولا يعلق ببعضها ، وبذلك يظهر لك دلالة الرواية على
اشتراط العلوق ، ومنه يعلم ايضا عدم جواز التيمم بالحجر الخالي كما هو مذهب ابن
الجنيد ايضا ، والقائلون بالقول المشهور من عدم اشتراط العلوق وجواز التيمم بالحجر
يحملون «من» في الآية على ابتداء الغاية والضمير راجع الى التيمم بالمعنى المصدري
كما هو المعبر به في الرواية أو الى الصعيد المضروب عليه كما تقدم ، ولهذا أجاب
العلامة في المنتهى وكذا الشهيد في الذكرى عن الاستدلال بالرواية بأن لفظ «من» في
الآية مشترك بين التبعيض وابتداء الغاية فلا أولوية في الاحتجاج بها. ولا يخفى ان
ظاهر التعليل لا يساعده إذ الإشارة في قوله : «لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على
الوجه» انما هي إلى التيمم بمعنى المتيمم به لا بالمعنى المصدري ولا الصعيد
المضروب عليه كما ذكروه. وبالجملة فإن ظاهرية كون «من» في الآية للتبعيض بالنظر
الى ما ذكرناه مما لا يتجشم إنكاره إلا مع عدم إعطاء النظر حقه من التأمل في
المقام ، ولهذا ان صاحب الكشاف مع كونه حنفي المذهب ومذهب أبي حنيفة عدم اشتراط
العلوق خالف الحنفية في ذلك واختار في تفسيره هذا الوجه ، وقال
__________________
انه الحق بل ادعى انه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل «مسحت برأسي من
الدهن أو من الماء أو من التراب» إلا معنى التبعيض وحكم بان القول بأنها لابتداء
الغاية تعسف.
واما الجواب عن
الثاني فهو ما ذكره جملة من القائلين بهذا القول في المسألة ، والظاهر ان أولهم في
ذلك شيخنا المحقق المدقق الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي كما نقله عنه
في الحبل المتين ، حيث قال : «وأقوى ما استدل به الأصحاب على عدم اشتراط العلوق هو
استحباب نفض اليدين بعد الضرب كما نطقت به الأخبار ، ولو كان العلوق معتبرا لما
أمر الشارع بفعل ما هو عرضة لزواله. وأجاب عن ذلك والدي (قدسسره) في شرح الرسالة بأن الأخبار الدالة على استحباب النفض
لا دلالة فيها على عدم اعتبار العلوق بل ربما دلت على اعتباره كما لا يخفى ، ولا
منافاة بينهما لان الاجزاء الصغيرة الغبارية اللاصقة لا تتخلص بأجمعها من اليدين
بمجرد حصول مسمى النفض ، وليس في الاخبار ما يدل على المبالغة فيه بحيث لا يبقى شيء
من تلك الاجزاء لاصقا بشيء من اليدين البتة ، ولعل النفض لتقليل ما عسى ان يصير
موجبا لتشويه الوجه من الاجزاء الترابية الكثيرة اللاصقة باليدين ، قال : وبالجملة
فالاستدلال باستحباب النفض على عدم اشتراط العلوق محل نظر ، واما الاستدلال عليه
بمنافاته لجواز التيمم بالحجر ففيه ان ابن الجنيد وكل من يشترط العلوق لا يجوزون
التيمم بالحجر. انتهى كلامه. وهو كلام سديد ومن تأمل الآية والحديث حق التأمل
وأصغى الى ما تلوناه لا يرتاب في كون القول باشتراط العلوق أوضح دليلا وأحوط سبيلا»
انتهى كلام شيخنا البهائي ، وهو مع كلام والده جيد متين وجوهر ثمين.
واما الجواب عن
الثالث فقد علم مما ذكرناه في الجواب عن الثاني ، فإنه لما دلت الآية بمعونة
الصحيحة المذكورة على اعتبار العلوق وجب القول به وتخصيص ما دل من الاخبار على
مطلق الأرض بذلك ، واما الآية فقد عرفت مما قدمنا اختلاف اللغويين في تفسير الصعيد
فيها وقد عرفت ما ورد في تفسيرها عن أهل البيت (عليهم
السلام) وقد قدمنا انه لا وجه للتعلق بها في المقام ، على ان الاخبار فيها
ما هو بلفظ الأرض وفيها ما هو بلفظ التراب وفيها ما هو بلفظ الصعيد وقضية حمل
مطلقها على مقيدها هو التخصيص بالتراب.
واما الجواب عن
الرابع فبالمنع مما ادعاه من ان الضربة الواحدة لا يبقى منها غبار يمسح به الوجه
واليدين كما هو ظاهر. والله العالم.
(الخامسة) ـ ينبغي
ان يعلم ان وجوب الضرب باليدين معا انما هو مع الإمكان ، فلو قطعت إحداهما بحيث لم
يبق من محل الفرض شيء سقط الضرب بها واقتصر على الضرب بالأخرى ومسح الوجه بها ،
ولو بقي من محل الفرض شيء ضرب به ، ولو قطعتا معا فإن بقي من محل الفرض شيء فهو
كما تقدم وان لم يبق شيء بالكلية سقط الضرب بهما ، والمفهوم من كلام الأصحاب ان
الواجب حينئذ هو مسح الجبهة بالتراب لان سقوط أحد الواجبين لعذر لا يستلزم سقوط ما
لا عذر فيه ، وظاهر المبسوط سقوط التيمم والصلاة في الصورة المفروضة ، قال في
المختلف : قال الشيخ في المبسوط : إذا كان مقطوع اليدين من الذراعين سقط عنه فرض
التيمم. وهذا على إطلاقه ليس بجيد ، فإنه ان أراد سقوط فرض التيمم على اليدين أو
سقوط جملة التيمم من حيث هو فهو حق ، وان عنى به سقوط جميع اجزائه فليس بجيد لانه
يجب عليه مسح الجبهة لأنه متمكن من مسحها فيجب لوجود المقتضى وانتفاء المانع. احتج
الشيخ بان الدخول في الصلاة انما يسوغ مع الطهارة المائية فإن تعذرت فمع مسح الوجه
والكفين لقوله تعالى : «فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» وإذا كان المنع انما يزول بفعل المجموع ولم يتحقق بفعل
البعض لم يزل المنع. والجواب ان التكليف بالصلاة غير ساقط عنه هنا وإلا سقط مع
الطهارة المائية إذا قطع أحد الأعضاء وليس كذلك إجماعا ، وإذا كان التكليف ثابتا
وجب فعل الطهارة ولا يمكن استيفاء الأعضاء وليس البعض شرطا في الآخر فيجب الإتيان
بما يتمكن منه ، والظاهر ان مراد الشيخ ما قصدناه. انتهى. أقول : الظاهر ان هذه
الحجة انما هي
من كلامه (قدسسره) لا من كلام الشيخ ، لعدم انطباقها على الترديد بين
الاحتمالين الذي ذكره في عبارة الشيخ. ولقوله أخيرا : والظاهر ان مراد الشيخ ما
قصدناه. وبالجملة فإن تعليله ينافي ترديده وتأويله الذي حمل كلام الشيخ عليه.
وربما استدل
على وجوب التيمم بما بقي والصلاة في الصورة المذكورة بما روي من قوله (عليهالسلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور». وقوله (صلىاللهعليهوآله) : «إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم». وفيه خدش
فان هذين الخبرين وان تناقلهما الأصحاب في كتب الاستدلال إلا اني لم أقف عليهما في
شيء من الأصول.
وبالجملة
فالمسألة عندي هنا لا تخلو من شوب الاشكال لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وكذا
في الوضوء لو قطعت يداه في فوق المرفقين بحيث لم يبق من محل الغسل شيء ، اما لو
بقي شيء ولو طرف العضد الذي هو أحد جزئي المرفق فإن صحيحة علي بن جعفر قد دلت على الاكتفاء بما بقي في عضده ، ومثل ذلك ما لو
كان في كفه قروح أو جروح تمنع من الضرب أو كان كفه نجسا بنجاسة تتعدى الى التراب
متى ضرب عليه ، ومع تعذر الإزالة ينتقل الى الضرب بظهر الكف ان لم يكن كذلك وإلا
اقتصر على مسح الجبهة. والاحتياط في أمثال هذه المواضع مما لا ينبغي الإخلال به
(السادسة) ـ اختلف
الأصحاب في عدد الضربات في التيمم ، فقال الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط
ضربة للوضوء وضربتان للغسل ، وهو اختيار الصدوق في الفقيه وسلار وابي الصلاح وابن
إدريس وأكثر المتأخرين. وقال السيد المرتضى في شرح الرسالة الواجب ضربة واحدة في
الجميع ، وهو اختيار ابن الجنيد وابن ابي عقيل
__________________
والمفيد في المسائل الغرية ، واختاره جمع من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد
في المدارك وهو الظاهر. ونقل عن المفيد في الأركان الضربتان في الجميع ، وحكاه
المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والمختلف عن علي بن بابويه ، ومقتضى كلامه
في الرسالة على ما نقل عنه في الذكرى اعتبار ثلاث ضربات ، فإنه قال : إذا أردت ذلك
فاضرب بيديك على الأرض مرة واحدة وانفضهما وامسح بهما وجهك ثم اضرب بيسارك الأرض فامسح
بها يمينك من المرفق إلى أطراف الأصابع ثم اضرب بيمينك الأرض فامسح بها يسارك من
المرفق إلى أطراف الأصابع. ولم يفرق بين الوضوء والغسل ، ونقل في المعتبر القول
بالثلاث عن قوم منا بعد ان نقل عن علي بن بابويه المرتين في الجميع. ورجح المحقق
الشيخ حسن في المنتقى القول بالمرتين ونقل انه مذهب جماعة من قدماء الأصحاب.
والأصل في
الاختلاف بين هذه الأقوال اختلاف الروايات كما عرفت ، فمنها ما تضمن المرة ومنها
ما تضمن المرتين ومنها ما تضمن الثلاث ، والظاهر ان مستند القول المشهور هو الجمع
بين أخبار المرة والمرتين بحمل ما دل على المرة على الوضوء وما دل على المرتين على
الغسل ، وبذلك جمع الشيخ في كتابيه بين الأخبار وتبعه الأصحاب كما هي عادتهم في
أكثر الأبواب واحتجوا على هذا التفصيل بالخبر العاشر ولا يخفى ان الخبر المذكور محتمل لمعنيين : (أحدهما) ـ ان
المراد بقوله : «ضرب واحد للوضوء والغسل» اي نوع واحد للطهارتين المذكورتين كما
يقال الطهارة على ضربين مائية وترابية ثم بين ان الضرب على الأرض مرتين ، وعلى هذا
يكون الخبر من الاخبار الدالة على المرتين مطلقا. و (ثانيهما) ـ ان يكون الضرب
بمعنى الضربة وقوله : «والغسل من الجنابة» مبدأ كلام آخر ، وحاصله ان ضربة واحدة
للوضوء والغسل له ضربتان وعلى هذا الاحتمال يتم الاستدلال ، إلا انه باعتبار قيام
الاحتمال الأول ومساواته لما ذكر فالحمل
__________________
على أحدهما ترجيح من غير مرجح ، وقد تقرر في قواعدهم ايضا انه إذا قام
الاحتمال بطل الاستدلال. واستدل العلامة في المنتهى على ذلك ايضا بعد هذا الخبر
قال : وروى ـ يعني الشيخ ـ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) «ان التيمم من الوضوء مرة واحدة ومن الجنابة مرتان». ولا يخفى ان هذا الخبر
مما لم نقف له على وجود في كتب الأخبار ولا نقله ناقل غيره ومن تبعه كالشهيدين في
كتب الاستدلال بل هو وهم محض كما نبه عليه المحققان السيد السند في المدارك والشيخ
حسن في المنتقى وبذلك يظهر لك انه لا مستند لهذا القول مع ان ظواهر جملة من روايات
الغسل ترده ولا سيما رواية عمار المشتملة على تعليمه التيمم بدلا من الغسل فإنها
إنما اشتملت على الضربة ، وأظهر من ذلك دلالة الحديث الحادي عشر على ان تيمم
الوضوء والجنابة والحيض سواء ، وبالجملة فضعف هذا القول مما لا ينبغي ان يستراب
فيه. واما ما يدل على القول بالضربة الواحدة فالخبر الأول من الاخبار المتقدمة
والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع . واما ما يدل على القول بالضربتين فالثامن والتاسع
والرابع عشر والثامن عشر. واما ما يدل على الثلاث فالسادس عشر. وأنت خبير بأنه لا
ريب في ضعف القول بالثلاث لندرته وان صح مستنده بهذا الاصطلاح فإنه محمول على
التقية كما صرح به جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) فهو قول
مرغوب عنه.
وانما يبقى
الكلام في الجمع بين روايات المرة وروايات المرتين ولا يخلو من أحد وجوه : (الأول)
ـ ما هو المشهور من الجمع بالتفصيل ، وقد عرفت ما فيه (الثاني) ـ ما ذهب إليه في
المنتقى حيث اختار العمل بأخبار التثنية من حمل أخبار المرة على ارادة بيان كيفية
المسح دفعا لتوهم شموله لأعضاء الطهارة التي ينوب عنها التيمم كما وقع لعمار.
__________________
والظاهر بعده لكثرة الأخبار الواردة بذلك وتعددها في موارد وقلة ما يدل على
هذا القول الذي اختاره ، والمتبادر منها انما هو قصد التعليم وارادة بيان كيفية
التيمم كما في اخبار الوضوء البياني (الثالث) ـ ما ذهب اليه المرتضى ومن تبعه من
متأخري المتأخرين من حمل أخبار التثنية على الاستحباب. وفيه ما عرفت مما قدمناه في
غير باب (الرابع) ـ وهو الأظهر عندي ما ذكره شيخنا المجلسي في البحار من حمل اخبار
المرتين على التقية ، قال (قدسسره) : «والأقرب عندي حمل اخبار المرتين على التقية لأنه
قال الطيبي في شرح المشكاة في شرح حديث عمار : ان في الخبر فوائد : منها ـ ان في
التيمم تكفي ضربة واحدة للوجه والكفين وهو مذهب علي (عليهالسلام) وابن عباس وعمار وجمع من التابعين ، وذهب عبد الله بن
عمر وجابر من التابعين والأكثرون من فقهاء الأمصار الى ان التيمم ضربتان انتهى. فظهر من هذا ان القول المشهور بين المخالفين
الضربتان وان الضربة مشهورة عندهم من مذهب أمير المؤمنين (عليهالسلام) وعمار التابع له في جميع الأحكام وابن عباس الموافق
لهما في أكثرها ، فتبين ان اخبار الضربة أقوى واخبار الضربتين حملها على التقية
أولى وان كان الأحوط الجمع بينهما فيهما» انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو المختار ،
ومنه يعلم الوجه في الخبر الخامس عشر الذي يدل على مذهب علي بن بابويه فإنه لا محمل له إلا
التقية ولا سيما مع اشتماله على مسح الوجه كملا واليدين من المرفقين المخالف
للقرآن كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى بأوضح بيان.
تنبيه
قال في الذكرى
: «ظاهر الأصحاب ان الأغسال سواء في كيفية التيمم ، قال في المقنعة بعد ذكر تيمم
الجنب وكذلك تصنع الحائض والنفساء والمستحاضة بدلا من الغسل ، وروى أبو بصير ثم
ساق الخبر الثاني عشر من الاخبار المتقدمة ثم أشار الى الخبر الحادي
__________________
عشر بأنه مثله ، ثم قال وخرج بعض الأصحاب وجوب تيممين على غير الجنب بناء
على وجوب الوضوء هنا لك ولا بأس به والخبران غير مانعين منه لجواز التسوية في
الكيفية دون الكمية» انتهى. قال في المدارك : «وما ذكره أحوط وان كان الأظهر
الاكتفاء بالتيمم الواحد بناء على ما اخترناه من اتحاد الكيفية وعدم اعتبار نية
البدلية فيكون جاريا مجرى أسباب الوضوء أو الغسل المختلفة ، ولو قلنا باجزاء الغسل
مطلقا عن الوضوء كما ذهب اليه المرتضى (رضى الله عنه) ثبت التساوي مطلقا من غير
اشكال» انتهى. أقول : لا ريب انه على تقدير القول بوجوب الوضوء مع كل غسل عدا
الجنابة فإن الأوفق بقواعدهم وما قرروه في غير مقام من ان تعدد الأسباب يقتضي تعدد
المسببات ان الواجب في التيمم بدلا من الغسل غير الجنابة هو التعدد فيتيمم بدلا من
الوضوء وآخر بدلا من الغسل ، فقولهم بمساواة الأغسال ان أريد به في الكمية بمعنى
الاكتفاء بتيمم واحد فهو خروج عن مقتضى أصولهم وقواعدهم إلا ان كلامهم غير صريح في
ذلك ، وان أريد في الكيفية فلا منافاة إذ المراد ان كيفية التيمم عن سائر الأغسال
مثل كيفية التيمم عن غسل الجنابة وان وجب تيمم آخر عن الوضوء ، واما على تقدير
مذهب المرتضى ـ وهو الأظهر كما تقدم تحقيقه في باب غسل الجنابة ـ فلا إشكال في
اجزاء تيمم واحد. واما ما ذكره في المدارك بناء على القول المشهور من وجوب الوضوء
مع الأغسال ـ من انه يكفي تيمم واحد بناء على القول باتحاد الكيفية وعدم اعتبار
نية البدلية ـ فظني عدم استقامته لان وجوب التعدد على القول المذكور انما استند
الى تعدد الأسباب ، فإن سبب الوضوء هو الحدث الأصغر وسبب الغسل هو الحدث الأكبر
وهكذا في بدليهما يجب تعددهما لذلك ، والقول باتحاد الكيفية على هذا التقدير لا
مدخل له في ذلك بل يجب الإتيان بتيممين بمقتضى السببين المتعددين وان كانا على
كيفية واحدة ، اللهم إلا ان يريد الاكتفاء بتيمم واحد على تقدير القول بالتداخل.
وفيه ان قيام الدليل على التداخل في الأغسال لا يقتضي انسحابه هنا من غير
دليل. واما عدم اعتبار نية البدلية فهو هنا غير مسلم ، إذ محل البحث
المتقدم في اعتبارها وعدمه انما هو في غير هذه الصورة مما لا يحتاج الى التمييز
مما لا اشتراك فيه ، واما هنا فقد استقر في ذمته تيمم بدلا عن الوضوء وآخر بدلا عن
الغسل فلا ينصرف واحد منهما إلى البدلية عما هو بدل عنه الا بنية البدلية عما هو
بدل عنه بعين ما صرحوا به فيما إذا اشتغلت الذمة بفروض واجبة متعددة أداء وقضاء ،
فإنه يجب الإتيان بنية الأداء مع قصد الأداء والقضاء مع قصد القضاء كما لا يخفى
والله العالم.
(المقام الثالث)
ـ في مسح الجبهة ، وقد اختلف الأصحاب في هذا المقام ايضا فالمشهور بين الأصحاب انه
يجب مسح الجبهة من قصاص شعر الرأس إلى طرف الأنف الأعلى وهو العرنين لا الأعلى
باعتبار النتو كما ربما يتوهمه من لا تحصيل له ، وقال الصدوق في الفقيه : «وإذا
تيمم الرجل للوضوء ضرب يديه على الأرض مرة واحدة ثم نقضهما ومسح بهما جبينيه
وحاجبيه ومسح على ظهر كفيه. الى آخره» ونقل عن علي بن بابويه مسح الوجه بأجمعه كما
تقدم في عبارته ، والصدوق في المجالس اختار مذهب أبيه ونسب مذهبه في الفقيه إلى
الرواية ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب : منهم ـ صاحب المدارك وغيره في نقل مذهب
الصدوق أنه أضاف الجبينين والحاجبين إلى الجبهة وعبارته في الفقيه ـ كما ترى ـ ظاهرة
في اختصاص المسح بالموضعين المذكورين ولا ادري من اي موضع نقلوا عنه هذا القول؟
ولعل الوجه في هذا النقل هو انه حيث كان المسح على الجبهة متفقا عليه وانما الخلاف
فيما زاد عليها حملوا كلامه على ذلك ، وقال في المدارك بعد نقل الخلاف في المسألة
: والمعتمد وجوب مسح الجبهة والجبينين والحاجبين خاصة ، ثم أورد الآية وساق جملة
من الأخبار المشتمل بعضها على الجبين وبعضها على الجبهة وأكثرها على الوجه ، الى
ان قال : وبهذه الروايات أخذ علي بن بابويه (قدسسره) ويمكن الجواب عنها بالحمل على الاستحباب أو على ان
المراد بمسح الوجه مسح بعضه ، قال في المعتبر : والجواب الحق العمل بالخبرين فيكون
مخيرا بين مسح الوجه
وبعضه لكن لا يقتصر على أقل من الجبهة. وهو حسن. اما مسح الحاجبين بخصوصهما
فلم أقف على مستنده. انتهى كلامه.
أقول : وأنت
خبير بأن الاخبار في هذا المقام لا تخلو من اشتباه وإشكال ، فإن جملة منها قد
تضمنت لفظ الوجه كالخبر الأول والثاني والثالث والخامس والثامن والتاسع والعاشر
والحادي عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والتاسع عشر وجملة منها قد تضمنت
لفظ الجبين مفردا وهو الخبر الرابع والسابع والثامن عشر إلا ان فيه بلفظ التثنية ،
ومنها ما تضمن لفظ الجبهة وهو الخبر السادس على إحدى روايتي الشيخ في التهذيب واما
في رواية الكافي ورواية الشيخ الأخرى التي نقلها بطريق صاحب الكافي انما هو «جبينه»
مفردا ، ومن هنا ينقدح الإشكال في انه لا دليل على القول المشهور من وجوب مسح
الجبهة إلا على رواية واحدة على تقدير إحدى روايتي الشيخ لها ، واما على تقدير
الروايتين الأخريين فلا دليل بالكلية على القول المذكور وتكون هذه الرواية من قبيل
الروايات المتضمنة للجبين ، والظاهر في الجمع بين هذه الاخبار هو رد اخبار الوجه
والجبين إلى الجبهة وان عبر عنها بهذين اللفظين توسعا وتجوزا فان باب المجاز واسع
، وإلا لاضطربت الاخبار ولزم خلو القول بالجبهة الذي هو المشهور بل المجمع عليه
ظاهرا من دليل أو ضعف دليله وندرته بل دلالة الأخبار الكثيرة على خلافه.
وتفصيل هذه
الجملة على وجه ابسط ان يقال ان لفظ الجبين الواقع في هذه الاخبار لا يخلو من أحد
معان ثلاثة : (الأول) ان يراد معناه لغة وعرفا وهو ما اكتنف الجبهة من جانبيها
مرتفعا عن الحاجبين الى قصاص الشعر ، وحينئذ فوروده في مقام البيان في جملة من
الاخبار ـ كما عرفت ـ يقتضي الاقتصار عليه دون الجبهة ، وفيه من البعد ما لا يخفى
سيما مع استلزامه ترك الجبهة المتفق على تخصيصها بالمسح. و (ثانيها) ان يراد به ما
يشمل الجبهة والجبين معا مجازا. وفيه انه خلاف ما عليه الأصحاب من التخصيص
بالجبهة ويوجب ان يكون ما ذهب إليه الأصحاب من التخصيص خاليا من المستند أو
نادر المستند بناء على ما عرفت آنفا ، وهذا الوجه وان كان أقل اشكالا من الأول إلا
انه بعيد أيضا غاية البعد. و (ثالثها) وهو الظاهر ان يراد به الجبهة خاصة لمجاز
المجاورة ويؤيده ورود الجبين في الاخبار بلفظ الافراد ، وعلى هذا الوجه يتم كلام
الأصحاب والظاهر انه هو الذي فهموه من الاخبار المشار إليها واتفقوا على القول به
، وبذلك يظهر انه لا وجه لضم الجبينين إلى الجبهة وجوبا أو استحبابا إذ لا دليل
عليه ، ويؤيده هذا الوجه أيضا إطلاق لفظ الجبين على الجبهة في اخبار السجود كما ـ في
حسنة عبد الله بن المغيرة وموثقة عمار الدالتين على انه «لا صلاة لمن لا يصيب انفه
ما يصيب جبينه» . وعلى هذا ايضا تحمل اخبار الوجه فإنه إنما أريد منها
الجبهة خاصة ، كما وقع نظيره من اخبار السجود ايضا المختص بالجبهة نصا وفتوى ، كما
في صحيحة أبي بصير وحسين بن حماد الدالتين على استواء موضح السجود وموضع القيام ،
حيث قال في الأولى : «اني أحب ان أضع وجهي في موضع قدمي». وفي الثانية : «في من سجد على موضع مرتفع قال : جر وجهك على الأرض
من غير ان ترفعه».
وبالجملة فالمراد
في جميع هذه الاخبار انما هو الجبهة خاصة وان اختلفت عبارتها توسعا باعتبار ظهور
الحال ومعلومية الحكم يومئذ ، فعبر في بعض بلفظ الجبهة وفي آخر بلفظ الجبين وفي
ثالث بلفظ الوجه نظير ما عرفت في باب السجود ، ويوضح ما ذكرناه كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي مما قدمنا نقله من الخبر التاسع عشر
وقوله : «تمسح بهما وجهك موضع السجود». فعبر بالوجه وأبدل منه موضع السجود وهو
الجبهة. وعلى هذا تجتمع الاخبار في الانطباق على كلام الأصحاب (رضوان الله
__________________
عليهم) ويسقط القول بضم الجبينين وجوبا أو استحبابا كما ذكره السيد في
المدارك ومن تبعه ، والظاهر ان الحامل له على هذا القول هو انه قد ذكر في
الاستدلال على ما قدمنا نقله عنه الخبر الرابع المشتمل على الجبين ثم عقبه بالسادس
الدال على الجبهة بإحدى روايتي الشيخ ثم نقل جملة من اخبار الوجه ، فحمل روايات
الوجه على مذهب الشيخ علي بن بابويه يعني مسح الوجه كملا وجمع بينها وبين ما
اختاره بالحمل على الاستحباب فبقي عنده التعارض بين خبري الجبهة والجبين فجمع
بينهما بوجوب مسح الجميع.
وفيه (أولا) ـ ان
موثقة زرارة ـ وهي الخبر السادس ـ المشتملة على مسح الجبهة قد عرفت انها بعينها قد
رواها في الكافي بلفظ الجبين والشيخ قد رواها عنه أيضا في موضع آخر بلفظ الجبين ،
ولا ريب ان الترجيح للروايتين بلفظ الجبين لتعددها من الشيخين في الكتابين ، مضافا
الى ما قدمنا في غير موضع من التنبيه على ما وقع للشيخ في الكتاب المذكور من
التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في الأخبار متونها وأسانيدها كما هو ظاهر لمن
تتبع اخباره ، وبالجملة فالموثقة المذكورة باعتبار اختلاف روايتها لا بد في
الاستدلال بها من النظر في الراجح من النقلين ليكون العمل عليه في البين ، ولا ريب
في ترجيح نقل صاحب الكافي المتأيد بنقل الشيخ لها كذلك دون ما انفرد هو بنقله لما
عرفت من احتمال تطرق السهو اليه ، ولكنه (قدسسره) معذور حيث انه لم يراجع الكافي ولم يطلع على رواية
الشيخ لها في ذلك الموضع الآخر.
و (ثانيا) ـ ان
ما ادعاه من ان روايات الوجه التي نقلها هي مستند الشيخ علي ابن بابويه فالظاهر
انه ليس كذلك ، فإنها وان تضمنت ذكر الوجه إلا انها قد تضمنت مسح الكفين خاصة كما
هو القول المشهور وابن بابويه قال بمسح الذراعين ، بل دل بعضها وهو الخبر الثالث
مما قدمناه من الأخبار بعد ذكر مسح الوجه على انه مسح كفيه ولم يمسح الذراعين بشيء
، والعجب انه قد ذكر هذا الخبر في جملة ما أورد ومع هذا يزعم انها مستند ابن
بابويه. والتحقيق ان الوجه في هذه الأخبار انما هو حمل الوجه على
الجبهة كما قدمنا تحقيقه ، واخبار علي بن بابويه انما هي الخبر الخامس عشر
والسادس عشر والسابع عشر المشتملة على مسح الوجه كملا والذراعين من المرفقين لا
هذه الأخبار التي توهمها ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
و (ثالثا) ـ ان
ما نقله عن المعتبر في كلامه المتقدم من التخيير بين مسح الوجه وبعضه واستحسنه فهو
بعيد من الحسن بمراتب كما لا يخفى على ذي الفهم الصائب ، ومثله ما وقع له في مسح
اليدين من المرفقين كما دلت عليه اخبار علي بن بابويه المشار إليها فإنه جوز ذلك
جمعا بين الأخبار وهو من الفساد بوجه لا يخفى على ذوي الأفكار ، وذلك فإنه قد تقدم
في صحيحة زرارة الواردة في تفسير الآية التنصيص بالنص الصريح الذي ليس عنه محيص في الآية
والخبر المذكور على التبعيض في الوجه واليدين ، وقد استفاض في الاخبار ان ما خالف
كتاب الله فهو زخرف وانه يضرب به عرض الحائط والاخبار المذكورة محمولة عند محققي أصحابنا على التقية
التي هي في اختلاف الأخبار أصل كل بلية فلا ينبغي ان يلتفت إليها ولا يعرج
عليها.
و (رابعا) ـ ان
قوله ايضا : «واما مسح الحاجبين خاصة فلم أقف على مستنده» موجب للطعن عليه في ذكره
له بالخصوص دون سائر أجزاء الوجه بقوله : «والمعتمد وجوب مسح الجبهة والجبينين
والحاجبين» بقي الكلام في ذكر الصدوق له في عبارته التي قدمنا نقلها عنه في الفقيه
والظاهر ان كلامه هذا مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي فإني لم أعثر عليه في غيره ، حيث
انه (عليهالسلام) بعد ان ذكر ما قدمنا نقله عنه قال في آخر البحث «وقد
روى انه يمسح الرجل على جبينيه وحاجبيه ويمسح على ظهر كفيه» أو ان هذه الرواية
التي ذكرها (عليهالسلام) وصلت الى الصدوق (قدسسره) ولم
__________________
تصل إلينا ، وعبارة الصدوق المتقدمة عين هذه العبارة وظاهرها هو تخصيص
المسح بهذين الموضعين دون الجبهة. وكيف كان فالأحوط ضم الجبينين والحاجبين الى مسح
الجبهة لهذه الرواية سيما مع عمل الصدوق بها.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني في الروض بعد ذكر مسح الجبهة وتحديدها : وهذا القدر متفق عليه وزاد
الصدوق مسح الحاجبين ايضا وفي الذكرى لا بأس به ، وزاد بعضهم مسح الجبينين وهما
المحيطان بالجبهة يتصلان بالصدغين لوجوده في بعض الاخبار والزيادة غير المنافية
مقبولة ، ولا بأس به. ولا يجب استيعاب الوجه على المشهور لدلالة أكثر الاخبار على
مسح الجبهة ونقل المرتضى (رضياللهعنه) في المسائل الناصرية إجماع الأصحاب (رضوان الله عليهم)
عليه ، ويدل عليه الباء في قوله تعالى : «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» لما تقرر من انها إذا دخلت على المتعدي تبعضه كما
اختاره جماعة من الأصوليين وأهل العربية وقد نص على ذلك أبو جعفر محمد بن علي
الباقر (عليهالسلام) في حديث زرارة المتقدم في الوضوء ثم ذكر مذهب علي بن بابويه وطعن في اخباره بضعف السند ،
ثم قال ويمكن حملها على الاستحباب.
أقول : لا يخفى
ما في كلماتهم هنا من البعد عن ساحة الأخبار الواردة في المسألة كما عرفت مما
قدمنا ذكره ومما في كلامه هنا (أولا) نسبته الى الصدوق مسح الحاجبين مع انه ذكر
الحاجبين والجبينين مخصصا للمسح بهما لا زائدا لهما على الجبهة. و (ثانيا) ما
ادعاه من دلالة أكثر الاخبار على مسح الجبهة مع انه لا وجود له كما عرفت إلا في
رواية واحدة على تقدير أحد الطريقين وإلا فلا وجود لها بالكلية. و (ثالثا) ما
ادعاه من حمل روايات علي بن الحسين على الاستحباب الذي اتخذوه ذريعة في جميع
الأبواب ولا دليل عليه من سنة ولا كتاب مع مخالفته هنا لنص القرآن العزيز والخبر
الصحيح الصريح في الباب.
__________________
فروع : (الأول)
ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الابتداء في المسح بالأعلى وعلله في الذكرى اما لمساواة
الوضوء واما تبعا للتيمم البياني. ورده في المدارك بان ضعفهما ظاهر. أقول : اما
التعليل الأول فلا ريب في ضعفه لانه لا يخرج عن مجرد القياس ، واما الثاني فهو جيد
لو ثبت ذلك في التيمم البياني كما ذكره إلا انه لا وجود له في شيء منها على
تعددها وكثرتها كما عرفت مما قدمناه وهو اخبار المسألة كملا لم يشذ منها شاذ ،
وانما تضمنت الأمر أو الاخبار بمسح الوجه أو الجبين أو الجبهة كيف اتفق من غير
تعرض لبيان الكيفية بالكلية ، ولو دلت على ما ذكره كلا أو بعضا لكان القول بذلك
جيدا كما حققناه في مسألة الابتداء بالأعلى في غسل الوجه. وحيث ان صاحب المدارك
ممن ناقش ثمة في وجوب الابتداء بالأعلى مع اشتمال الوضوء البياني عليه نسب القول
بذلك هنا بناء على وجود ذلك في التيمم البياني إلى الضعف ، وهو غير جيد لما عرفت
ثمة وكان الطريق الأليق له هنا في المناقشة انما هو منع وجود ذلك في التيمم
البياني كما ذكرنا ، نعم قد ورد ذلك في عبارة الفقه الرضوي كما قدمناه ولعلها هي
المستند في الحكم المذكور عند المتقدمين كما عرفت في غير موضع وان غفل عنه
المتأخرون لعدم ظهور الكتاب المذكور عندهم.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب وجوب المسح بالكفين معا دفعة فلو مسح بإحداهما لم يجزئ ، ونقل عن ابن
الجنيد انه اجتزأ باليد اليمنى لصدق المسح ، وهو ضعيف مردود بالأخبار المتقدمة
لاشتمالها فعلا وقولا على المسح بهما معا.
(الثالث) ـ الظاهر
ان المراد من المسح باليدين أو بالكفين هو الاكتفاء بجزء من كل من اليدين بحيث
يمره على الممسوح وان يستوعب الممسوح بالمسح بهما ، واما استيعاب الماسح فالظاهر
عدمه لعدم إمكانه كما لا يخفى ، ويشير الى ما ذكرنا قوله (عليهالسلام) في الحديث الرابع حكاية عن الرسول (صلىاللهعليهوآله) : «ثم مسح جبينه بأصابعه» واما ما ذكره في المدارك بعد
ذكر الرواية المذكورة ـ من ان الاولى المسح
بمجموع الكفين عملا بجميع الاخبار ـ فلا اعرف له وجها ، فإنه ان أراد
استيعاب الماسح حال المسح كما هو ظاهر كلامه فهو متعذر ، إذ لا يخفى أن الجبهة لا
يزيد قدرها على مقدار إصبعين أو ثلاث أصابع مضمومة فكيف ينطبق على هذا المقدار مجموع
الكفين مع ما هما عليه من السعة والانتشار عرضا وطولا؟ نعم لو كان الممسوح مجموع
الوجه لربما أمكن ذلك اما في الجبهة فهو غير ممكن ، وان أراد بمجموع الكفين يعني
بجزء من كل منهما بحيث يحصل استيعاب الجبهة بهما معا فهو ما نقوله وهو الذي دل
عليه الخبر فلا معنى لهذه الأولوية بعد ذكر الخبر الدال على ذلك ، والظاهر انه تبع
في ذلك ما ذكره في الذكرى بقوله : «الأقرب وجوب ملاقاة بطن الكفين للجبهة» وفيه ما
عرفت. وبالجملة فإن غاية ما يفهم من الاخبار المتقدمة انه يمسح بيديه جبهته أو
جبينه مع انطباق الماسح على الممسوح أعم من ان يكون كلا أو بعضا ، وحينئذ فيحمل
إطلاقها على ما دلت عليه الصحيحة المذكورة من الاكتفاء بجزء من كل منهما لا
المجموع ، مع انهم قد صرحوا في مسألة السجود على الكفين بالاكتفاء بالمسمى بل نقل
في المدارك ثمة انه لا يعرف خلافا في ذلك ، وسؤال الفرق متجه إذ لا مستند للجميع
إلا الإطلاق ، هذا مع إمكان الانطباق كما ذكرناه ، واما مع عدمه كما عرفت فالأمر
أهون من ذلك.
(المقام الرابع)
ـ في مسح الكفين وهو المشهور بين الأصحاب وحدهما من الزند إلى أطراف الأصابع ،
والزند مفصل الكف والذراع ويسمى الرسغ بضم الراء ثم السين المهملة ثم الغين
المعجمة ، وفي المسألة قولان آخران : (الأول) قول علي ابن بابويه وابنه في المجالس
بمسح اليدين من المرفقين الى رؤوس الأصابع. و (الثاني) ـ ما نقله ابن إدريس عن بعض
الأصحاب ان المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رؤوسها.
ويدل على القول
المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ الأخبار الكثيرة المؤيدة بظاهر الآية ، ثم لا يخفى
ان الأخبار المذكورة أكثرها قد صرح بالكفين وبعض بلفظ اليدين وقضية حمل المطلق على
المقيد التخصيص بالكفين ، وهي ظاهرة في رد القولين الآخرين
للتخصيص بالكفين كما عرفت ولا سيما الخبر الثالث وقوله (عليهالسلام) : «ولم يمسح الذراعين بشيء» فإنه صريح في رد ما ذهب
اليه ابن بابويه ، وقوله (عليهالسلام) في الخبر الأول والثاني : «ومسح يديه فوق الكف قليلا»
إشارة إلى إدخال جزء من الذراع من باب المقدمة فإنه صريح في رد القول الثاني.
ومما يدل على
مذهب ابن بابويه الخبر الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر ، وهي ـ كما عرفت ـ مطروحة
عندنا مردودة إلى قائلها لمخالفتها لظاهر القرآن المأمور بعرض الأخبار عليه والأخذ
بما وافقه ورد ما خالفه ، وقد عرفت مما أوضحناه في سابق هذا المقام مخالفتها لظاهر
الآية المفسرة في الرواية الصحيحة بالتبعيض في كل من الوجه واليدين فلا مسح على
اليدين كملا لا تخييرا ولا استحبابا كما صار إليه أصحابنا (رضوان الله عليهم) جمعا
بين أخبار المسألة ، والعجب منهم كيف الغوا هذه القواعد الشرعية التي استفاضت
اخبار أئمتهم (عليهمالسلام) بها ونبذوها وراء ظهورهم ، فليت شعري لمن ألقيت هذه
القواعد ومن خوطب بها سواهم؟ وهم قد ألغوها في جميع أبواب الفقه وعكفوا على الجمع
بين الأخبار بالكراهة والاستحباب مع ظهور الحمل على التقية في مواضع ومخالفة
القرآن في مواضع كما حققناه في أبواب هذا الكتاب وسنشير اليه فيما يأتي ان شاء
الله تعالى في غير هذا الباب ، ما هذا إلا عجب عجاب.
واما القول
الثاني فيدل عليه الحديث الرابع عشر ، وهو مع ضعفه وشذوذه لا يبلغ قوة المعارضة
لما عرفت من الأخبار المجمع على العمل بها قديما وحديثا بين الطائفة المحقة فيجب
إطراحه وإرجاعه إلى قائله (عليهالسلام) والظاهر انه الى هذه الرواية أشار مولانا الرضا (عليهالسلام) في الفقه الرضوي بقوله : «وروي من أصول الأصابع. إلخ».
واعلم انه قد
استدل في المدارك على القول المشهور بعد نقل الأقوال المتقدمة واختياره المشهور
هنا فقال : لنا قوله تعالى «فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» والباء للتبعيض كما بيناه ، وأيضا فإن اليد هي الكف
الى الرسغ يدل عليه قوله تعالى : «وَالسّارِقُ
وَالسّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» والإجماع منا ومن العامة منعقد على انها لا تقطع من فوق
الرسغ وما ذاك إلا لعدم تناول اليد له حقيقة ، ثم قال : ويدل عليه أيضا الأخبار
المستفيضة.
أقول : لا يخفى
ما في كلامه هنا من النظر الظاهر (اما أولا) ـ فإن الآية إنما تنفي مذهب ابن
بابويه خاصة دون القول بالمسح من أصول الأصابع إلى رؤوسها لصدق البعضية هنا ، فلا
يتم استدلاله مطلقا على المدعى. و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره من ان اليد هي الكف
الى الرسغ على إطلاقه ممنوع ، فان اليد لها إطلاقات ومعان عديدة : منها ـ يد
السارق وهي من أصول الأصابع. ومنها ـ يد المتيمم وهي من الزند على الأشهر الأظهر
رواية وفتوى ، ومنها ـ يد المتوضئ وهي من المرفقين ، ومنها اليد عرفا وهي من
الكتف. و (اما ثالثا) ـ وهو أعجبها وأغربها ، فإن استدلاله على ما ادعاه ـ من كون
اليد من الرسغ بآية «وَالسّارِقُ
وَالسّارِقَةُ ... الآية» مع ان يد السارق كما عرفت اتفاقا وبه اعترف في آخر كلامه وبحثه
بقوله : وموضع القطع من أصول الأصابع عند الأصحاب ـ عجيب غريب من مثل هذا المحقق
الأريب. وبالجملة فكلامه هنا مختبط لا اعرف له وجها وجيها ، والأظهر هو الرجوع
فيما ادعاه الى الاخبار خاصة كما ذكره بقوله : ويدل عليه الاخبار المستفيضة. إلخ.
فروع : (الأول)
ـ المشهور وجوب الابتداء بالمسح من الزند الى رؤوس الأصابع فلو نكس بطل ، ولم أقف
لهم على دليل إلا ما ذكره بعضهم من المساواة للوضوء وهي لا تنهض بالدلالة.
والمسألة محل اشكال والاحتياط يقتضي ما قالوه سيما مع ترجحه بظاهر الرواية
المنقولة في كتاب الفقه وقوله (عليهالسلام) : «ثم تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصول الأصابع
من فوق الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف» فإنه ظاهر في الابتداء من الزند ،
وقوله : «من فوق الكف» بدل من قوله «من أصول الأصابع».
__________________
(الثاني) ـ المشهور
ان محل المسح في الكفين ظهورهما لا بطونهما. بل ظاهر كلامهم ان هذا الحكم مجمع
عليه بين القائلين بتخصيص المسح بالكف ، وأكثر الأخبار المتقدمة وان كانت مطلقة في
الحكم المذكور إلا ان الخبر الخامس والثامن عشر قد صرحا بان الممسوح عليه ظهر الكف
لا بطنها وعليهما يحمل إطلاق غيرهما من الاخبار.
(الثالث) ـ يجب
تقديم اليمنى على اليسرى ، وربما علل بأنه بدل مما يجب فيه التقديم. وهو ضعيف.
والروايات المتقدمة أكثرها مطلق إلا ان خبر السرائر وهو الثامن عشر قد تضمن انه
مسح اليسرى على اليمنى واليمنى على اليسرى ، والظاهر انه وان كان العطف فيه بالواو
التي لا تفيد الترتيب وانما تفيد لغة مجرد الجمع إلا ان المراد هو الترتيب بينهما
، فإنه كثيرا ما يقع العطف بها كذلك في مقام الترتيب توسعا واعتمادا على ظهور
الحكم ، ألا ترى انه مع وجوب تقديم المسح على الجبهة على مسح الكفين فجملة من
الاخبار انما اشتملت على العطف بينهما بالواو ، وكل ذلك توسعا لظهور الحكم وشهرته
، وأمثال ذلك مواضع لا تحصى يقف عليها المتتبع ، وأصرح منها في ذلك قوله (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «ثم تضرب بهما اخرى فتمسح بها
اليمنى» فان عطف المسح بالفاء على الضرب يقتضي تقديم اليمنى ، والظاهر ان لفظ «بها»
في العبارة غلط من الناسخ ، وقوله في الرواية التي نقلها «ثم تضع أصابعك اليسرى
على أصابعك اليمنى من أصول الأصابع من فوق الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف
ثم تضع أصابعك اليمنى على أصابعك اليسرى فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى
على يدك اليمنى مرة واحدة» فإنه ظاهر بل صريح في الترتيب وتقديم اليمنى ، وبالجملة
فالعمل على وجوب تقديم اليمنى على اليسرى كما عليه الأصحاب وان كانت أبواب
المناقشة مفتوحة إلا انها عند التأمل والإنصاف غير متجهة.
(الرابع) ـ الظاهر
وجوب المسح بباطن الكف دون ظاهرها لانه هو المتبادر
والمتكرر الذي ينصرف إليه الإطلاق ، إلا ان يحصل العذر من المسح به فيجوز
بالظهر مع احتمال التولية.
(الخامس) ـ لو
كان له يد زائدة فالكلام فيها كما تقدم في الوضوء.
(السادس) ـ لو
كان على بعض أعضائه جبائر من الوجه أو اليدين مسح على الجبائر كما تقدم في الوضوء
إذا لم يتمكن من حلها ، والنصوص وان كانت خالية من خصوص ذكر هذا الفرع إلا ان
المفهوم من عمومها الدلالة على ان الجبيرة قائمة مقام الجسد عند تعذر حلها فيجب
الغسل فيها في موضع الغسل والمسح في موضعه مع تعذره وكذا المسح في التيمم ، ولأن
اللازم من عدم المسح عليها ترك الصلاة وسقوطها في الصورة المذكورة إذ لا تصح بدون
طهارة ، ومن المعلوم بطلانه ، فليس إلا ما قلناه ، والظاهر انه لا خلاف فيه. ولو
كانت مكشوفة مسح عليها.
(السابع) ـ لو
كانت مواضع المسح نجسة يتعذر تطهيرها فالظاهر وجوب المسح عليها ، إذ اشتراط
طهارتها مخصوص بصورة الإمكان ومع التعذر يسقط ، ويدل عليه إطلاق الأخبار المتقدمة
، والظاهر انه لا خلاف فيه فيما اعلم. وكذا لو كانت النجاسة في الأعضاء الماسحة
فإنه يضرب بها على الأرض ويمسح إلا ان تكون نجاستها متعدية فتتعدى الى التراب
المضروب عليه وينجس بذلك فيشكل الحكم لما عرفت سابقا من اشتراط طهارة التراب الذي
يمسح به ، والظاهر هنا سقوط الفرض ويدخل تحت مسألة فاقد الطهورين وقد تقدم الكلام
فيها ، ويحتمل التولية.
(الثامن) ـ يجب
استيعاب الممسوح من الجبهة وظهر الكفين بالمسح بلا خلاف يعرف بل في المنتهى انه
قول علمائنا وأكثر العامة ثم علله بأن الإخلال بمسح البعض إخلال بالكيفية المنقولة
فلا يكون الآتي بذلك آتيا بالتيمم المشروع ، وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين ان
يكون الإخلال بمسح البعض عمدا أو نسيانا ولا في البعض بين القليل والكثير وبذلك
صرح في المعتبر ، وهو كذلك لصدق الإخلال
بالكيفية الشرعية فيبطل ، واما الماسح فلا ، اما الأول فلظواهر الأخبار
المتقدمة بأنه يمسح جبهته وظهر كفيه والمتبادر استيعابهما. واما الثاني فلصدق
المسح المأمور به بدون ذلك وتخرج صحيحة زرارة الدالة على مسح النبي (صلىاللهعليهوآله) جبينه بأصابعه شاهدة على ذلك.
(المقام الخامس)
في بيان جملة من الواجبات : (الأول) ـ الترتيب ، والظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب
في انه يجب الضرب أولا ثم مسح الجبهة ثم ظهر الكف الأيمن ثم ظهر الكف الأيسر ، وقد
صرح بالإجماع على الحكم المذكور في المنتهى والتذكرة ، واحتج عليه في التذكرة
بقوله تعالى : «فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» فإن الواو للترتيب عند الفراء ، وبان التقديم لفظا
يستدعي سببا لاستحالة الترجيح من غير مرجح ولا سبب إلا التقديم وجوبا ، وبأنه (عليهالسلام) رتب في مقابلة الامتثال فيكون واجبا. ولا يخفى ما في
الجميع من القصور وعدم الصلوح لتأسيس حكم شرعي.
وقال المرتضى (رضياللهعنه) : كل من أوجب الترتيب في المائية أوجبه هنا والتفرقة
منفية بالإجماع وقد ثبت وجوبه هناك فيثبت هنا. وفيه ما في سابقه. أقول : اما وجوب
الضرب أولا ثم مسح الجبهة ثانيا ثم اليدين ثالثا فإنه مدلول جملة من الأخبار
المتقدمة كالأول والخامس والثامن عشر والتاسع عشر وعليها يحمل ما أطلق من باقي
الاخبار ، وانما يبقى الكلام في اليد اليمنى واليسرى وترتب إحداهما على الأخرى ،
وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الثالث من الفروع المتقدمة.
(الثاني) ـ المباشرة
بنفسه ، ويدل عليه مضافا الى إجماع الأصحاب على ذلك قوله عزوجل «فَتَيَمَّمُوا» فان الخطاب فيه للمكلفين المأمورين بالتيمم والصلاة ،
وحقيقة الأمر طلب الفعل من المأمور. نعم لو تعذر ذلك منه لمرض ونحوه فالظاهر جواز
التولية ، لكن هل يضرب المتولي بيدي العليل على الأرض ثم يرفعهما ويمسح بهما وجهه
ويديه أو ان المتولي يضرب بيدي نفسه ويمسح بهما وجه العليل ويديه؟ لم أقف
في ذلك على نص ، ويحتمل ان يقال انه ان أمكن الوجه الأول فهو الاولى
بالتقديم وإلا فالثاني ، والأمر بالتولية في التيمم في الجملة مع العذر قد ورد في
جملة من الأخبار لكن كونها على اي من الوجهين المتقدمين لم أقف على نص يدل عليه.
(الثالث) ـ أوجب
الأصحاب هنا أيضا الموالاة وأسنده في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع
عليه ، واحتج عليه بقوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا» أوجب علينا التيمم عقيب ارادة القيام إلى الصلاة ولا
يتحقق إلا بمجموع اجزائه فيجب فعلها عقيب الإرادة بقدر الإمكان. ورده في المدارك
بأنه غير جيد إذ من المعلوم ان المراد بالتيمم هنا المعنى اللغوي وهو القصد لا
التيمم بالمعنى الشرعي. أقول : فيه ما تقدم في صدر الباب في تفسير الآية المذكورة
من ان التيمم فيها إنما أريد به المعنى الشرعي وهو القصد الى التراب للمسح على
الوجه واليدين على الوجه المأمور به شرعا ، ولا ريب ان مراده عزوجل هنا بقرينة ما قبل هذه الكلمة وما بعدها ليس مجرد القصد
وانما هو القصد المخصوص وهو عبارة عن قصد الصعيد والمسح به كما ذكر عز شأنه ، وبه
يتم الاستدلال الذي ذكره العلامة (قدسسره) من انه أوجب علينا التيمم الذي هو القصد المخصوص عقيب
ارادة القيام إلى الصلاة. الى آخر ما ذكره. ثم نقل في المدارك عن الذكرى انه استدل
عليه أيضا بأن التيمم البياني عن النبي (صلىاللهعليهوآله) وأهل بيته توبع فيه فيجب للتأسي ، ثم اعترض عليه بان
فيه نظرا إذ التأسي انما يجب فيما يعلم وجوبه وهو منتف هنا إذ من الجائز ان تكون
المتابعة إنما وقعت اتفاقا لا لاعتبارها بخصوصها. أقول : التحقيق ان هنا شيئين : (الأول)
ـ ان يفعل النبي (صلىاللهعليهوآله) أو الإمام (عليهالسلام) فعلا لبيان ما أمر الله سبحانه من الأوامر المجملة المطلقة
المحتملة الوقوع على أنحاء متعددة ووجوه متكثرة وفي هذه الحال يجب ان يقيد بفعله (عليهالسلام) إطلاق تلك الأوامر ويحكم به على مجملها ويكون موضحا
لها ومبينا فيجب العمل عليه كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في باب الوضوء في
مسألة الابتداء بغسل الوجه من الأعلى (الثاني) ـ ان يفعله (عليهالسلام)
اتفاقا كسائر أفعاله لا بخصوص ما تقدم ، وهذا هو الذي يتجه فيه المناقشة
بما ذكره (قدسسره) وان كان قد خالف نفسه فيه في غير موضع من شرحه كما
أوضحنا ذلك في شرحنا على الكتاب حيث استدل بالتأسي على الوجوب في مواضع عديدة ، إلا
أن الحق انه لا دلالة فيه ، وما ذكره شيخنا الشهيد هنا انما هو من قبيل الأول لأن
التيمم الذي أمر الله به سبحانه مجمل وبيانهم (عليهمالسلام) كمية وكيفية موجب لتفسير ذلك الإجمال ورافع لتعدد
الاحتمال في ذلك المجال فيجب الأخذ به بغير اشكال.
(الرابع) ـ ذكر
جمع من الأصحاب ايضا ان من الواجب هنا طهارة مواضع المسح من النجاسة ، واستدل عليه
في الذكرى بان التراب ينجس بملاقاة النجاسة فلا يكون طيبا ، وبمساواته أعضاء
الطهارة المائية. واعترضه في المدارك بان الدليل الأول أخص من المدعى ، والثاني
قياس محض ، وان مقتضى الأصل عدم الاشتراط والمصرح باعتبار ذلك قليل من الأصحاب.
أقول : وهو جيد ، ويؤيده عموم الأدلة أو إطلاقها لعدم التصريح أو الإشارة في شيء
منها الى هذا الشرط. ثم ذكر ان الاحتياط يقتضي المصير الى ما ذكروه. وهو كذلك.
والله العالم.
(المطلب الرابع)
ـ في بيان وقته ، اتفق الأصحاب على انه لا يصح التيمم للفريضة قبل الوقت
وانه يصح مع تضيقه ، وانما الخلاف في انه يصح مع السعة أم لا؟ فقيل بالصحة مطلقا
وهو مذهب الصدوق وقواه في المنتهى والتحرير ونقله الشهيد عن ظاهر الجعفي واستقربه
في البيان ، وقيل انه لا يجوز إلا في آخر الوقت ذهب اليه الشيخ في أكثر كتبه
والمرتضى وأبو الصلاح وسلار وابن إدريس وهو ظاهر المفيد ، وهو المشهور كما نقله في
المختلف حيث قال : المشهور ان تضيق الوقت شرط في صحة التيمم فلو تيمم في أول الوقت
لم يصح تيممه وان كان آيسا من الماء في آخر الوقت. وقيل بالتفصيل بأنه ان علم أو
ظن عدم وجود الماء الى آخر الوقت جاز التقديم وإلا فلا ، ونقل عن ابن الجنيد حيث
قال على ما نقله عنه في المختلف : طلب الماء قبل التيمم مع الطمع في وجوده والرجاء
للسلامة واجب على كل أحد إلى آخر الوقت مقدار رمية سهم في الحزونة وفي
الأرض المستوية رمية سهمين ، فان وقع اليقين بفوته الى آخر الوقت أو غلب الظن كان
تيممه وصلاته في أول الوقت أحب الي. والى هذا القول ذهب العلامة في جملة من كتبه
واستجوده المحقق في المعتبر ، وعليه تجتمع الأخبار كما سيظهر لك ان شاء الله
تعالى.
ويدل على القول
الأول الأخبار المستفيضة الدالة على ان من تيمم وصلى ثم وجد الماء والوقت باق فإنه
لا اعادة عليه ، وكثير منها يدل بإطلاقه ومنها ما يدل بصريحه ، ومن الصريح في ذلك رواية
علي بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له أتيمم وأصلي ثم أجد الماء وقد بقي علي
وقت؟ فقال لا تعد الصلاة فإن رب الماء هو رب الصعيد.». ورواية معاوية بن ميسرة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل في السفر لا يجد الماء تيمم وصلى ثم اتى
الماء وعليه شيء من الوقت أيمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد الصلاة؟ قال : يمضي على
صلاته فان رب الماء هو رب التراب». وموثقة علي بن أسباط عن عمه عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر». وموثقة
أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل تيمم وصلى ثم بلغ الماء قبل ان يخرج الوقت؟
فقال ليس عليه إعادة الصلاة». ورواية يعقوب بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر». وصحيحة
زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) فإن أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال تمت
صلاته ولا اعادة عليه». وأجاب الشيخ عن صحيحة زرارة وما في معناها بحمل قوله : «وهو
في وقت» على انه صلى في وقت لا على اصابة الماء. ولا يخفى ما فيه من البعد الظاهر
لكل ناظر ، وموثقة أبي بصير صريحة فيما ادعيناه غير قابلة لتأويله بوجه. وأجيب
__________________
عنها ايضا بالحمل على ما إذا ظن المكلف الضيق وانكشف فساد ظنه. وهو بعيد
أيضا غاية البعد. وصحيحة العيص قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى؟ قال يغتسل ولا
يعيد الصلاة». وهذه الرواية مما تدل بإطلاقها على ذلك وان لم تكن صريحة كما قبلها
، ونحوها صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء؟ فقال لا
يعيد ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». وصحيحة عبيد الله بن علي الحلبي
«انه سأل أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء؟ قال يتيمم بالصعيد
فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة». وحسنة الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من
الأرض ويصلى فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى». وفي معناها صحيحة
عبد الله بن سنان .
والتقريب في
الروايات المذكورة ان بعضها قد رتب فيه التيمم على عدم وجود الماء فلا يتقيد بغيره
إلا بدليل ، وبعضها ظاهر كالصريح في انه لو تيمم في السعة وصلى ثم وجد الماء والوقت
باق فلا اعادة عليه ، وتأويل الشيخ قد عرفت ما فيه ، وبعضها دل بإطلاقه على ذلك
ايضا.
واما ما رواه
الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن يقطين ـ قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجل تيمم وصلى فأصاب بعد صلاته ماء أيتوضأ ويعيد
الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال إذا وجد الماء قبل ان يمضي الوقت توضأ وأعاد فان مضى
الوقت فلا اعادة عليه». وموثقة منصور بن حازم عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء؟ قال اما انا فكنت فاعلا اني كنت أتوضأ
وأعيد».
__________________
فقد حملهما الأصحاب على الاستحباب ، والثاني منهما ظاهر في ذلك فان تخصيصه (عليهالسلام) الإعادة بنفسه مشعر بذلك ولو كان حكما كليا عاما لما
حسن هذا التخصيص كما لا يخفى ، وسيأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الخامس مزيد
بيان في هذه المسألة.
واستدل جملة من
الأصحاب (رضوان الله عليهم) لهذا القول بالآية وهي قوله عزوجل : «إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... الى ان قال فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» فإنه سبحانه أوجب التيمم على المكلف عند ارادة القيام
إلى الصلاة إذا لم يجد الماء فلا يتقيد بضيق الوقت وأجاب المرتضى في الانتصار بان
الاستدلال بها يتوقف على إثبات أن للمكلف ان يريد الصلاة في أول الوقت ونحن نخالفه
فيه ونقول ليس ذلك له. وأجيب عنه بأنه مع تسليم تحريم الإرادة في أول الوقت عند
العلم بالحكم فإنه لا يلزم منه عدم وجودها فإذا وجدت وجب المشروط وهو إيجاب التيمم
، وايضا ليس المراد الإرادة المتصلة بفعل الصلاة لشرعية الطهارة في أول الوقت لمن
أراد الصلاة في آخره فإذا أراد الصلاة المتأخرة عن زمان الإرادة والحال انه لا
مانع من ذلك فقد تحقق الشرط. أقول : والأظهر هو الرجوع الى ما قدمناه من الأخبار
فإنها مكشوفة القناع لا يداخلها الجدال والنزاع.
ويدل على القول
الثاني جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : «سمعته يقول إذا لم تجد ماء وأردت التيمم فأخر
التيمم الى آخر الوقت فان فاتك الماء لم تفتك الأرض». وحسنة زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في
الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا
قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وموثقة ابن بكير عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «فإذا تيمم الرجل فليكن ذلك في آخر
الوقت فإن
__________________
فاته الماء فلن تفوته الأرض». ورواية محمد بن حمران وقوله (عليهالسلام) في آخرها : «واعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في
آخر الوقت». وموثقة ابن بكير المروية في قرب الاسناد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أجنب فلم يصب الماء أيتيمم ويصلي؟ قال لا حتى
آخر الوقت انه ان فاته الماء لم تفته الأرض». وقوله (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «وليس للمتيمم ان يتيمم إلا في آخر الوقت أو الى ان
يتخوف خروج وقت الصلاة».
ولا يخفى على
المتأمل ما في دلالة هذه الاخبار على القول المذكور من الصراحة والظهور ، فإنها قد
اشتملت على الأمر بالتأخير في بعض والأمر حقيقة في الوجوب والنهي عن التقديم في
بعض وهو حقيقة في التحريم. واما ما ذكره في المدارك ـ من المناقشة في ان لفظ «لا
ينبغي» ظاهر في الكراهة ـ فهو مبني على العرف الجاري بين الناس وإلا فهي في
الاخبار قد استفاض ورودها بمعنى التحريم ، وقد عرفت في غير موضع مما قدمنا ان لفظ «ينبغي
ولا ينبغي» في الاخبار من جملة الألفاظ المتشابهة لاستعمالها في الاخبار في الوجوب
والتحريم تارة ولعله الأكثر كما لا يخفى على المتدبر ، وفي الاستحباب والكراهة
أخرى ، فلا يحملان على أحد المعنيين إلا مع القرينة ، والقرينة هنا في حمله على
التحريم الروايات المذكورة مع هذا الخبر بالتقريب المتقدم. واما المناقشة في حسنة
زرارة ـ بأنها متروكة الظاهر إذ لا يعلم قائلا بوجوب الطلب في مجموع الوقت سوى
المحقق في المعتبر ـ فهو مردود (أولا) ـ بأنه لا مانع من العمل بالخبر إذا دل على
الحكم وان لم يكن به قائل ومن ثم قد عمل المحقق بذلك كما نقله عنه. و (ثانيا) ـ انه
لا يلزم من رد الخبر من هذه الجهة لعدم القائل به رده في الحكم الآخر وهو وجوب
التأخير مع وجود القائل به ودلالة النصوص عليه. و (ثالثا) ـ انه قد صرح هو وغيره
بحمل الأمر بالطلب في الخبر على الاستحباب حيث
__________________
انه لا قائل بالوجوب وهو كاف في قبول الخبر وعدم رده ، وحينئذ فيجب التأخير
إلى آخر الوقت طلب أو لم يطلب وان كان الأفضل له الطلب ، فلا منافاة في الرواية
للقول المذكور.
بقي الكلام في
ان المفهوم من كلام القائلين بالمضايقة وجوب التأخير وان علم بعدم حصوله الى آخر
الوقت والمفهوم من هذه الأخبار لا يساعد عليه بل ربما أشعرت برجاء الحصول كما يشير
اليه قوله (عليهالسلام) في جملة منها : «فان فاته الماء لم يفته الصعيد» ولانه
مع العلم بعدم وجود الماء يصير التأخير عبثا محضا ومن الظاهر ان الشارع لا يكلف
بذلك.
قال في الروض :
«وعلى كل حال فالقول باعتبار التضيق مطلقا أقوى للنص والإجماع والشهرة والاحتياط ،
وما ورد من الأخبار التي استدل بها لجواز التقديم لم يدل نصا على جواز التقديم بل
على إمكان وقوعه ونحن نقول به ، فان المعتبر في الضيق الظن فلو انكشف خلافه أجزأ
للامتثال ولمفهوم الأخبار المذكورة ، وحملها على ما إذا علم أو ظن عدم الماء انما
يتم لو دلت على جواز التقديم نصا والتقدير عدمه بخلاف اخبار التضيق ، وقد تقرر في
الأصول ان ما دل نصا مرجح على غيره مع التعارض وعلى ما حققناه لا تعارض ، ومنه يظهر
ضعف حمل اخبار التضيق على الاستحباب ترجيحا لجانب التوسعة والقول بالتفصيل بالعلم
وعدمه متوجه لعدم الفائدة في التأخير على تقديره لكن قوة الدليل النقلي لا تساعد
عليه» انتهى.
أقول : فيه (أولا)
ـ ان دعوى الإجماع والشهرة والاحتياط مما لا يسمن ولا يغني من جوع ، اما الإجماع
فهو وان نقل هنا عن الشيخ والمرتضى إلا ان شيخنا المشار إليه في مسالكه وغيره من
محققي الأصحاب المتأخرين قد طعنوا فيه بما لا يسع المقام ذكره كما لا يخفى على من
وقف على كتبهم ، بل الشيخ والمرتضى اللذان هما الأصل في الإجماع قد كفيانا مؤنة
القدح فيه بمناقضتهما في اجماعاتهما في المسألة الواحدة اما بان
يدعي أحدهما الإجماع ولا قائل به سواه أو يدعيه ويناقض نفسه في موضع آخر
بدعوى الإجماع على خلافه في ذلك الحكم كما هو ظاهر للمتتبع البصير ولا ينبئك مثل
خبير ، واما الاحتياط فهو عندهم ليس بدليل شرعي ، نعم بقي النص المذكور إلا انك قد
عرفت ان الظاهر من تلك النصوص هو الإشعار بأن التأخير انما هو لرجاء حصول الماء
وبذلك لا يتم ما ذكروه كليا ولا ينطبق على ما ادعوه جليا ، وبه ترجع هذه النصوص
الى القول بالتفصيل كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ، وبذلك يظهر لك ما في قوله
أخيرا : «ان قوة الدليل النقلي لا تساعد عليه» وكيف لا تساعد عليه والظاهر منها
انما هو ذلك كما عرفت من قوله (عليهالسلام) في جملة من تلك الأخبار : «فإن فاته الماء لم تفته
الأرض». فإن مرمى هذه العبارة أظهر ظاهر فيما قلناه ، إذ المراد منها كما هو
الظاهر من سياقها انه يؤخر التيمم الى آخر الوقت لعله يحصل له الماء فان اتفق عدم
حصوله فالأرض قائمة مقامه فدلالتها على الرجاء أظهر ظاهر ، نعم لو اشتملت على مجرد
الأمر بالتأخير من غير هذا التعليل تم ما ذكره ، وحينئذ فلو كان الماء مقطوعا
بعدمه لم يكن لذكر هذه العبارة معنى بالكلية كما لا يخفى على ذي الذوق الصائب
والفهم الثاقب.
و (ثانيا) ـ ان
حمله الأخبار الدالة على التوسعة على ظن الضيق ثم انكشاف خلافه بعيد غاية البعد عن
سياقها ، إذ لا إشعار في شيء منها بذلك فضلا عن الظاهرية بل ربما أشعر بعضها
بخلافه مثل موثقة أبي بصير وقوله فيها : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل تيمم وصلى ثم بلغ الماء قبل ان يخرج الوقت؟.». فان
عطف بلوغ الماء المقيد بقبلية خروج الوقت على التيمم والصلاة مشعر بكونه قد تيمم
في السعة وظن الضيق لا يجامع هذا العطف ب «ثم» الدال بإطلاقه على تراخي مسافة
وزمان بين الأمرين ، فإن ظهور السعة في مقام ظن الضيق انما يكون سعة يسيرة ربما لا
تسع الطهارة والصلاة كما لا يخفى على المتأمل ، وبه يظهر ان حمله أخبار السعة على
ما ترجع
__________________
به الى اخبار التضيق تعسف محض لا تقبله ظواهر ألفاظها ولا نظام سياقها.
و (ثالثا) ـ ان
ما ذكره ـ من منع حمل أخبار السعة على ما إذا علم أو ظن عدم الماء مستندا الى ان
ذلك انما يتم لو دلت على جواز التقديم نصا ـ ممنوع فإنها وان لم تدل نصا لكن تدل
عليه ظاهرا فإنه هو الظاهر منها وما تكلفه من حملها على ما ذكره بعيد غاية البعد
كما ذكرنا ، وحينئذ فلا طريق الى الجمع بينها وبين اخبار التضيق إلا حملها على ذلك
وحمل اخبار التضيق على ظن حصول الماء ، وما ادعاه ـ من دلالة أخبار التضيق على ذلك
نصا فلا يعارضها دلالة أخبار السعة على ذلك ـ مردود بما عرفت من ان مدعاهم هو وجوب
التأخير وان علم عدم الماء الى آخر الوقت والنصوص المذكورة انما تدل على التأخير
مع الرجاء كما عرفت ، وحينئذ فلا دلالة لها على ما ادعوه بل ترجع بذلك الى القول
بالتفصيل كما سيأتي بيانه ، ومنه يظهر عدم الدليل على القول المشهور كما صرح به
السيد السند في المدارك ايضا ، ويجمع بين اخبار الطرفين بما ذكرنا.
واما القول
الثالث فلم نقف فيه على خبر صريح يدل عليه إلا ان ظواهر الأخبار المتقدمة في أدلة
القول المشهور تساعده ، فان قوله (عليهالسلام) في حسنة زرارة : «فليطلب ما دام في الوقت». مما يؤذن
بإمكان حصول الماء ورجاء الظفر به وإلا لكان عبثا محضا ، وكذلك قوله (عليهالسلام) في جملة منها «فان فاتك الماء لم تفتك الأرض» مما يؤذن
بالشك في الفوات وان اليأس من حصول الماء غير متحقق ، وبه يجمع بين اخبار القولين
المتقدمين بحمل الأخبار الدالة على عدم وجوب الإعادة بعد وجود الماء في الوقت على
اليأس من حصول الماء في الوقت ثم تيقن حصوله في الوقت فإنه لا اعادة عليه لان
تيممه مع السعة وقع صحيحا ، والاخبار الدالة على وجوب التأخير إلى آخر الوقت على
رجاء حصوله كما يشير اليه التعليل ب «ان فاتك الماء لم يفتك الصعيد» وبما ذكرنا
يظهر ان هذا القول هو الأظهر في المسألة وان كان القول الأول لا يخلو من قوة أيضا.
والله العالم.
وتنقيح البحث
في هذا المطلب يتوقف على رسم مسائل (الأولى) ـ لو دخل
وقت الصلاة وهو متيمم فهل يجوز له ان يصلي في سعة الوقت بناء على القول
بالمضايقة؟ الظاهر نعم وفاقا للشيخ في المبسوط حيث قال : «لو تيمم لنافلة في غير
وقت فريضة أو لقضاء فريضة في غير وقت حاضرة جاز ذلك فإذا دخل وقت الفريضة جاز ان
يصلي بذلك التيمم» انتهى ، مع ان مذهبه القول بالمضايقة ، وما ذكره (قدسسره) قد مال إليه جملة من أفاضل متأخري المتأخرين لأن
الظاهر من الاخبار المتقدمة الدالة على التأخير إلى آخر الوقت اختصاصها بالمحدث
فلا تتناول المتيمم في الصورة المفروضة فيجوز له الصلاة في أول الوقت عملا
بالعمومات الدالة على الجواز في أول الوقت بل الأفضلية لعدم معلومية المعارض ،
ويزيد ذلك تأييدا صحيحة زرارة قال «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار كلها؟ قال :
نعم ما لم يحدث أو يصب ماء.». وصحيحته الأخرى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في رجل تيمم؟ قال يجزيه ذلك الى ان يجد الماء». وقيل بوجوب التأخير لأن
المقتضي للتأخير إمكان وجود الماء في الوقت وهو متحقق. ونقله في الروض عن ظاهر
العلامة والمحقق. أقول : بل هو صريح كلام العلامة في المختلف وقد أطال الكلام في
ذلك إلا ان ظاهره في آخر كلامه الاستشكال في ذلك حيث لم يجد فيها نصا عن الأئمة (عليهمالسلام) وان قول الجماعة يصلي بالتيمم الواحد صلوات الليل
والنهار لا يعطي مطلوب الشيخ وضعفه ظاهر مما قدمناه ، ويزيده تأكيدا صحيحة حماد بن
عثمان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا يجد الماء أيتيمم لكل صلاة؟ قال لا هو
بمنزلة الماء». ورواية السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «لا بأس ان يصلي الرجل صلاة الليل والنهار بتيمم
واحد ما لم يحدث أو يصب الماء». ويؤيده أيضا ما ورد من قوله (صلىاللهعليهوآله) لأبي ذر «يكفيك
__________________
الصعيد عشر سنين». وقول الصادق (عليهالسلام) «هو بمنزلة الماء». و «ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا»
. واولى بالصحة ما لو تيمم لصلاة فريضة فإنه يجوز له الدخول في الأخرى بذلك
التيمم والظاهر انه لا خلاف فيه ، واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابي همام عن
الرضا (عليهالسلام) قال : «يتيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء». وعن السكوني عن
جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «لا يتمتع بالتيمم إلا صلاة واحدة ونافلتها». فقد
حملهما الشيخ في التهذيب بعد الطعن بما لا وجه له على استحباب التجديد أو على ما
إذا قدر على الماء بين الصلاتين. والتحقيق ان الخبر الأول لا صراحة فيه في
المنافاة بل الظاهر ان مراده انما هو انه يتيمم لكل صلاة دخل وقتها وهو محدث حتى
يجد الماء ، وهو نظير قوله (صلىاللهعليهوآله) «يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين». واما الثاني فهو محمول على التقية
لموافقته لمذهب العامة وكون الراوي منهم.
(الثانية) ـ ظاهر
الأصحاب القائلين بوجوب التأخير إلى آخر الوقت كما هو المشهور القول بذلك أعم من
ان يكون السبب في التيمم عدم وجود الماء أو عذر المرض ونحوه ، وهو مشكل لان ظاهر
اخبار المضايقة وقوله (عليهالسلام) في جملة منها كما عرفت «فان فاته الماء فلن تفوته
الأرض» . هو التخصيص بالأول ، وكذا قوله (عليهالسلام) في حسنة زرارة «فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان
يفوته الوقت فليتيمم». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم «إذا لم تجد ماء فاخر التيمم الى آخر الوقت». وإطلاق رواية محمد بن حمران وكذا عبارة كتاب
__________________
الفقه يجب حمله على هذه الروايات المصرحة بذلك ، وبالجملة فإن مورد أخبار
المسألة مما دل على السعة أو الضيق انما هو عدم وجود الماء واما عذر المرض ونحوه
فلا تعرض له في شيء منها فيبقى عموم اخبار التيمم ـ من قوله (صلىاللهعليهوآله) «يكفيك الصعيد عشر سنين». وقوله (عليهالسلام) : «ان رب الماء هو رب الصعيد». وقوله (عليهالسلام) : «هو بمنزلة الماء». وقوله (عليهالسلام) : «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». ونحو
ذلك ـ سالما من المعارض في الدلالة على جواز التيمم في السعة بعذر المرض ونحوه ،
وكذا الأخبار الدالة على أفضلية الوقت وهي كافية في الدلالة على الجواز مع السعة
بل أفضليته ، والظاهر انه لا مستند لهم فيما نقلنا عنهم إلا الإجماع ، قال في
الروض : «فان قيل ما ذكرتم من النصوص انما دلت على وجوب التأخير لفاقد الماء فلا
دلالة لها على وجوب تأخير غيره من ذوي الأعذار فيرجع الى الأدلة الأخرى خصوصا مع
عدم رجاء زوال العذر فلم قلتم بوجوب التأخير مطلقا؟ قلنا الإجماع منعقد على عدم
التفصيل بالتأخير للفاقد دون المريض خائف الضرر بل اما الجواز مطلقا أو وجوب
التأخير مطلقا مع الرجاء أو بدونه فالقول بالتفصيل على هذا الوجه احداث قول مبطل
لما حصل لنا الإجماع عليه ، وتحقيق المسألة في الأصول» انتهى. وفيه ما لا يخفى
فإنه قد طعن في هذه الإجماعات في شرحه على الشرائع في غير موضع فاستسلاقه هنا
والاعتماد عليه مجازفة محضة.
(الثالثة) ـ قد
صرح جمع من فضلاء الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان من عليه فائتة فالأوقات كلها
صالحة لتيممه لعموم قوله (عليهالسلام) : «ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صليتها». أقول : ويؤيده
ايضا ان الظاهر من روايات المضايقة
__________________
والتأخير إلى آخر الوقت الاختصاص بالتيمم لصاحبة الوقت كقوله (عليهالسلام) في بعضها : «إذا لم تجد ماء فاخر التيمم الى آخر الوقت
فان فاتك الماء لم تفتك الأرض». ونحوها غيرها ، ولا عموم فيها على وجه يتناول محل
البحث ، وبالجملة فإن أصل الخلاف في مسألة الوقت ضيقا وسعة فتوى ورواية إنما ينطبق
على اليومية المؤداة في الوقت فإنه قد اختلف الأصحاب والأخبار في ان وقت التيمم
لها هل هو في أول وقتها أو آخره؟ واما الصلاة المقضية فلا تدخل في هذا المقام
بالكلية ، وحينئذ فيجب التيمم لها في أي وقت أراد إيقاعها فيه بالأخبار الدالة على
بدلية التراب من الماء وقيامه مقامه عند تعذره أو تعذر استعماله ، ولا سيما على
القول بالمضايقة في القضاء كما هو المشهور المنصور فإنه يجب المسارعة إليه متى
ذكره وفي أي ساعة ذكره يتيمم له ويأتي به ، ومثل الصلوات المقضية فيما ذكرنا من
عدم الدخول تحت هذا المقام لا في اخباره ولا في كلام الأصحاب سائر الصلوات الواجبة
كالآيات والعيدين والجمعة والنذر فإنه يتيمم لكل منها في حال إيقاعها ويأتي بها ،
والظاهر انه ليس محل خلاف ولا اشكال ، ومتى تيمم لاحداها واتى بها صح دخوله بذلك
التيمم في الصلاة اليومية بعد دخول وقتها حسبما تقدم بيانه في المسألة الأولى
لعموم الأدلة الدالة على البدلية كما تقدم ، إذ الظاهر منها انه يثبت له أحكام
الماء إلا ما خرج بدليل. وظاهر الذكرى التوقف في الدخول بتيمم الصلاة المقضية حيث
قال بعد ذكر صحة التيمم للقضاء : فإذا دخل الوقت ربما بني على السعة والضيق في
التيمم. والأظهر ما ذكرناه لما عرفت.
(الرابعة) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) منهم ـ المحقق في المعتبر والشهيد في
الذكرى وغيرهما ممن تأخر عنهما بأنه يجوز التيمم لصلاة النافلة الراتبة بدخول
وقتها كصلاة الليل وكذا المبتدأة عند ارادة فعلها ، وتردد في المعتبر في جواز
التيمم للنافلة المبتدأة ثم قال : والجواز أشبه لعدم التوقيت والمراد بها تعجيل
الأجر في كل وقت وفواته بالتأخير متحقق. قال في الذخيرة بعد نقل ذلك عنه : «وهو
حسن لعموم
__________________
الأدلة» وظاهرهم الجواز وان كان في الأوقات المكروهة ، وبعضهم فصل بين
الأوقات المكروهة وغيرها فقطع بعدم جواز التيمم في أوقات النهي وبه صرح في المعتبر
والتذكرة ورده في المدارك بأن الكراهة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء لا تنافي
الانعقاد ثم قال ويصح الدخول به في الفرائض لما قدمناه. أقول : ويمكن تأييد أصل
الحكم بان الظاهر من الأخبار المانعة من التيمم إلا في آخر الوقت الاختصاص
بالفريضة وعدم الشمول للنافلة ، وإطلاق الأخبار الدالة على استحباب الإتيان بها مع
إطلاق أخبار البدلية المتقدمة كاف في صحة التيمم لها لعدم المعارض. الا ان يقال
انه متى دلت الاخبار على المنع من الفريضة إلا في آخر الوقت مع ما استفاض من
أفضلية أول الوقت على آخره فكيف تشرع النافلة؟ وفيه ان مرجع ما ذكر الى الاستدلال
بطريق الأولوية وهي غير معتبرة عندنا في الأحكام الشرعية إلا في نادر الصور كما
تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب وانما العمل عندنا على الأدلة الواضحة من الكتاب
والسنة. والله العالم.
(الخامسة) ـ لو
ظن ضيق الوقت لامارة فتيمم وصلى ثم انكشف فساد ظنه فهل تجب الإعادة أم لا؟ قولان
والأول منهما ظاهر الشيخ في كتب الاخبار وبالثاني صرح المحقق والشهيد ، قال في
المعتبر بعد ان نقل القول الأول عن الشيخ في كتبه الاخبارية : «ويقوى عندي انه لا
إعادة لانه تطهر طهارة شرعية وصلى صلاة مأمورا بها فتكوية مجزئة. لا يقال شرط
التيمم التضيق ، لأنا نقول لا نسلم بل لم لا يكون شرطه ظن الضيق؟ وظاهر انه كذلك
لان الشرع لما لم يجعل على الضيق دلالة دل على احالته على الظن ، ويمكن ان يستدل
على ذلك برواية زرارة ومعاوية بن ميسرة ويعقوب بن سالم عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) «في رجل تيمم وصلى ثم بلغ الماء قبل خروج الوقت؟ فقال ليس عليه اعادة ان رب
الماء ورب التراب واحد». ولا وجه لها على القول
__________________
بالتضيق إلا ما ذكرناه ، وما تأولها به الشيخ (قدسسره) في التهذيب بعيد عن الظاهر» انتهى كلامه. أقول : ظاهر
كلامه (قدسسره) ان الكلام في هذه المسألة مبني على ان ضيق الوقت
المعتبر في صحة التيمم على تقدير القول بالمضايقة هل هو عبارة عن ظنه أو العلم به
، فان جعل عبارة عن العلم به فالمتجه هو ما ذكره الشيخ (قدسسره) من وجوب الإعادة ، لتبين وقوع الصلاة في غير وقتها
ولان انكشاف السعة بعد الصلاة دليل عدم حصول العلم بالضيق. والقول هنا بأنه صلى
صلاة مأمورا بها فتكون مجزئة مسلم مع استمرار الاشتباه اما مع ظهور الحال وانكشاف
وقوعها قبل وقتها فهو ممنوع ، وان جعل عبارة عن ظن الضيق فالمتجه ما ذكره في
المعتبر لانه تعبد بظنه ، والقول بأنه صلى صلاة مأمورا بها متجه لانه مكلف بالبناء
على ظنه وقد فعل فيقتضي الاجزاء. والمسألة محل توقف لعدم النص الواضح في ذلك. واما
ما استدل به في المعتبر من الروايات الثلاث التي عدها رواية واحدة فالظاهر انها
ليست من محل البحث في شيء ، فان هذه الروايات وأمثالها إنما وردت في التيمم في
سعة الوقت ثم يجد الماء بعد ذلك وهي من أدلة جواز التيمم في السعة كما قدمنا ذكره
، وحملها على التيمم في ضيق الوقت كما ذكره تعسف محض كما لا يخفى على من تأمل
مضامينها. وما أطال به في الذخيرة فالظاهر انه لا طائل تحته.
(السادسة) ـ قال
في الذكرى : «يتيمم للآية كالكسوف بحصولها ، وللجنازة بحضورها لانه وقت الخطاب
بالصلاة ، ويمكن دخول وقتها بتغسيله لإباحتها حينئذ وان لم يهيأ للصلاة بل يمكن
دخول وقتها بموته لانه الموجب للصلاة وغيرها من أحكام الميت ، وللاستسقاء باجتماع
الناس في المصلى ولا يتوقف على اصطفافهم ، والأقرب جوازه بإرادة الخروج الى
الصحراء لانه كالشروع في المقدمات بل يمكن بطلوع الشمس في اليوم الثالث لان السبب
الاستسقاء وهذا وقت الخروج فيه ، اما النوافل الرواتب فلاوقاتها وغير الرواتب
فلارادة فعلها فلو تيمم قبل هذه الأسباب لم يعتد به لعدم الحاجة إليه» انتهى. وفي
أكثره توقف والأقرب اما بالنسبة إلى صلاة الآيات فهو ما ذكره ،
واما بالنسبة إلى صلاة الجنازة فحصورها كما هو المستفاد من اخبار التيمم
لها وان كان مع وجود الماء ، واما بالنسبة إلى صلاة الاستسقاء فعند ارادة فعلها ،
واما النوافل راتبة أو مبتدأة فقد تقدم الكلام فيه.
(السابعة) ـ لو
تيمم لمس المصحف أو قراءة القرآن أو نحوهما فالظاهر استباحة ما يتوقف على الطهارة
صحة أو كمالا حتى الدخول في الصلاة ، قال في المنتهى : «لو نوى استباحة دخول
المساجد وكان جنبا أو قراءة العزائم أو مس الكتاب أو الطواف فالأقرب انه يصح له
الدخول في الصلاة لأنه نوى الطهارة لتوقف هذه الأفعال عليها فيجب حصولها فساغت له
الصلاة ، وكذا لو نوى نفل الطواف استباح فرضه وبالعكس» أقول : وقد تقدم في المقام
العاشر من مقامات البحث في نية الوضوء ما فيه مزيد بيان لهذا المقام. والله
العالم.
(المطلب الخامس)
ـ في الأحكام وفيه مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من
غير خلاف يعرف ان التيمم مبيح لما تبيحه الطهارة المائية مطلقا من الصلاة والطواف
ومس كتابة القرآن ونحو ذلك مما الطهارة شرط في حصوله أو كماله ، ويدل عليه عموم
الاخبار من قوله (صلىاللهعليهوآله) لأبي ذر «يكفيك الصعيد عشر سنين». وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة حماد «هو بمنزلة الماء». وفي صحيحة جميل «فان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي صحيحة محمد بن مسلم
وغيرها «ان رب الماء هو رب الصعيد». كما في بعض «أو رب الأرض» كما في آخر وقوله (عليهالسلام) في كتاب الفقه «ان التيمم غسل المضطر ووضوؤه وهو نصف الوضوء في غير ضرورة إذا لم يوجد
الماء». ونحو ذلك مما يدل على قيامه مقام الماء في كل موضع تعذر استعماله.
__________________
وقد وقع الخلاف
هنا في موضعين (الأول) ـ ما نقل عن فخر المحققين ابن العلامة (طاب ثراهما) من انه
منع من استباحة اللبث بالتيمم في المساجد لقوله تعالى : «إِلّا عابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» حيث جعل نهاية التحريم الغسل فلا يستباح بغيره وإلا لم
تكن الغاية غاية ، والحق به مس كتابة القرآن لعدم فرق الأمة بينهما ، ويلزم على
كلامه تحريم الطواف على الجنب لاستلزامه دخول المسجد وان لم يقل به. وأجاب في
المدارك عن الآية ـ بعد الاستدلال على أصل المسألة ببعض الأخبار التي قدمناها ـ بالمنع
من دلالتها على ما ذكره ، قال : لأن إرادة المساجد من الصلاة مجاز لا يصار اليه
إلا مع القرينة ، مع احتمالها لغير ذلك المعنى احتمالا ظاهرا وهو ان يكون متعلق
النهي الصلاة في أحوال الجنابة إلا في حال السفر لجواز تأديتها حينئذ بالتيمم ،
وأيضا فإن ذلك لا ينافي حصول الإباحة بدليل من خارج وهو ثابت كما بيناه. انتهى.
أقول : لا يخفى انه قد ذكر المفسرون لهذه الآية معنيين (أحدهما) ـ ان المراد لا
تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا ان تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم ، وعلى
هذا المعنى بناء كلام المدارك ومرجعه إلى النهي عن الصلاة حال الجنابة ، وحينئذ
فتكون الصلاة هنا مرادا بها معناها الشرعي والمراد بقوله سبحانه «عابِرِي سَبِيلٍ» يعني مسافرين كما ذكره. و (ثانيهما) ـ ان المراد لا
تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا بقصد المرور فيها
والعبور ، وعلى هذا المعنى بناء الاستدلال بالآية ، وهذا المعنى هو الذي دلت عليه
الأخبار المتضمنة لتفسير الآية ، فروى الصدوق في العلل في الصحيح عن زرارة ومحمد
بن مسلم عن مولانا الباقر (عليهالسلام) قالا : «قلنا له الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟
قال الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين ان الله تبارك وتعالى يقول (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... الحديث».
__________________
ونحوه روى العياشي في تفسيره عنه (عليهالسلام) وعلي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق (عليهالسلام) ونقله في مجمع البيان عن الباقر (عليهالسلام) وهو الذي رجحه واختاره في تفسيره ايضا بعد ذكره المعنى
الأول ، قال (قدسسره) : «وهذا القول الأخير أقوى لأنه سبحانه بين حكم الجنب
في آخر الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا ، وانما أراد سبحانه
ان يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية وبين حكمه في الصلاة عند عدم
الماء في آخر الآية» انتهى. أقول : واستعمال الصلاة هنا في مواضعها جرى على طريق
الاستخدام كما ذكره بعض البارعين في علم البلاغة من علمائنا الأعلام في كتاب ألفه
في الصناعات البديعية عند ذكر الاستخدام بعد ان عرفه بأنه عبارة عن أن يأتي
المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين مقرونة بقرينتين يستخدم كل قرينة منهما معنى من
معاني تلك اللفظة ، قال : وفي الآية الكريمة استخدام لفظ الصلاة لمعنيين : أحدهما
إقامة الصلاة بقرينة قوله عزوجل «حَتّى
تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» والآخر مواضع الصلاة بقرينة قوله عزوجل : «وَلا
جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ» انتهى. وهذا هو الحق الموافق لما ذكرناه من الأخبار ،
وبذلك يتبين لك ما في كلام المدارك من النظر الظاهر لبنائه على ما في تفاسير
العامة وغفلته عن اخبار أهل البيت (عليهمالسلام) التي هي المرجع في مفاد معاني القرآن وصحة استدلال فخر
المحققين (طاب ثراه) بالآية ، وحينئذ فالجواب عما ذكره القائل المشار إليه انه وان
كان معنى الآية ما ذكره إلا انها مخصوصة بالأخبار المتقدمة ، واليه يشير آخر كلام
السيد في المدارك بقوله «وأيضا فإن ذلك لا ينافي. إلخ».
(الثاني) ـ ما
ذكره السيد في المدارك حيث أورد على ما ذكره الأصحاب ـ مما ظاهرهم الاتفاق عليه من
ان التيمم يبيح كل ما تبيحه الطهارة المائية وبعبارة اخرى ان التيمم يجب لما تجب
له الطهارتان ـ بان ذلك مشكل لانتفاء الدليل عليه ، قال : والأظهر
__________________
ان التيمم يبيح كل ما تبيحه الطهارة المائية لقوله (عليهالسلام) في صحيحة جميل «ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي صحيحة حماد «هو بمنزلة الماء». وفي صحيحة محمد بن مسلم «قد فعل أحد الطهورين». فما ثبت توقفه على مطلق الطهارة من العبادات يجب له
التيمم وما ثبت توقفه على نوع خاص منها كالغسل في صوم الجنب فالأظهر عدم وجوب
التيمم له مع تعذره إذ لا ملازمة بينهما فتأمل. انتهى.
أقول : وتوضيح
كلامه ان غاية ما يستفاد من الأخبار ان التيمم مبيح لما تبيحه الطهارة المائية
بمعنى انما ورد في الشرع انه لا يباح بدون الطهارة أو لا يفعله بدون الطهارة أو
انه مشروط بها كالصلاة مثلا ومس كتابة القرآن واللبث في المساجد من حيث تحريمها
على المحدث وانها لا تباح إلا بالطهارة فالتيمم مبيح لها لكونه طهارة كما دلت عليه
الأخبار التي ذكرها ، واما ما ورد في الشرع بأنه لا يباح إلا بالوضوء مثلا أو
الغسل مثلا أو مشروط بأحدهما أو نحو ذلك من العبارات فاباحة التيمم له غير ثابتة
إلا إذا دل دليل خاص من خبر أو إجماع أو نحوهما كالغسل من الجنابة للصوم مثلا
لتوقف صحة الصوم عليه على المشهور وكذا غسل الحيض والنفاس والاستحاضة بناء على
القول بوجوبها للصوم ، فقيام التيمم في ذلك مقام الغسل يحتاج الى دليل.
أقول : والى
ذلك ايضا يشير كلام الشهيد في الألفية حيث نسب التيمم بدلا من الغسل للصوم إلى
الأولى ، قال الشهيد الثاني في الشرح : ووجه عدم الوجوب أصالة عدمه إذ لا دليل
عليه ظاهر فإن الآية في سياق الصلاة ولا نزاع في وجوب التيمم بدلا من الغسل لها.
انتهى ، والظاهر هو القول المشهور لعموم الأخبار التي قدمناها في صدر المسألة
فإنها مكشوفة الدلالة واضحة المقالة في قيامه مقام الماء في كل موضع مشروط به سواء
كان بلفظ الطهارة أو بلفظ الوضوء أو الغسل. والله العالم.
__________________
(المسألة
الثانية) ـ المشهور في كلام الأصحاب بل ادعي عليه الإجماع ان من تيمم تيمما صحيحا
وصلى به فإنه لا يجب عليه الإعادة لو وجد الماء بعد خروج الوقت قال في المعتبر :
كل موضع حكمنا فيه بصحة التيمم والصلاة لا نوجب قضاءها مع وجود الماء ، قال الشيخ
وهو مذهب جميع الفقهاء إلا طاوس . وقال في المنتهى : قال علماؤنا إذا تيمم وصلى ثم خرج
الوقت لم يجب عليه الإعادة وعليه إجماع أهل العلم ، ثم نقل الخلاف عن طاوس خاصة
بأنه يعيد ما صلى بالتيمم لان التيمم بدل فإذا وجد الأصل نقض حكم البدل.
أقول : ويدل
على ما ذكروه (رضوان الله عليهم) جملة من الأخبار ، ومنها ـ صحيحة عبيد الله بن
علي الحلبي «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء؟ قال يتيمم بالصعيد
فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة». وحسنة زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في
الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا
قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وحسنة الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من
الأرض ويصل فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى». ومثلها صحيحة عبد
الله بن سنان وصحيحة العيص قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى؟ قال يغتسل ولا
يعيد الصلاة». وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد
__________________
وصلى ثم وجد الماء؟ قال لا يعيد ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد
الطهورين». وصحيحة زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) فإن أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال تمت
صلاته ولا اعادة عليه». وموثقة علي بن أسباط عن عمه عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر».
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه قد وقع الخلاف هنا في مواضع : (الأول) ـ انه على تقدير المشهور من جواز
التيمم مع السعة فلو تيمم وصلى فإنه لا يعيد ، وهو المشهور وعليه دلت الأخبار
المتقدمة ، وعن ابن ابي عقيل وابن الجنيد القول هنا بوجوب الإعادة وربما كان
مستندهما صحيحة يعقوب بن يقطين قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجل تيمم وصلى فأصاب بعد صلاته ماء أيتوضأ ويعيد
الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال إذا وجد الماء قبل ان يمضي الوقت توضأ وأعاد فان مضى
الوقت فلا اعادة عليه». وموثقة منصور بن حازم عن الصادق (عليهالسلام) : «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء؟ قال اما انا فكنت
فاعلا إني كنت أتوضأ وأعيد».
(الثاني) ما
نقل عن المرتضى (رضياللهعنه) في شرح الرسالة ان الحاضر إذا تيمم لفقد الماء وجب
عليه الإعادة إذا وجده ، ولم نقف له على دليل وبذلك اعترف أيضا جملة من الأصحاب ،
ولعله استند الى الخبرين المذكورين ، وهو بعيد.
(الثالث) ـ ما
ذهب اليه الشيخ (قدسسره) من ان من تعمد الجنابة وخشي على نفسه من استعمال الماء
تيمم وصلى ثم يعيد إذا وجد الماء ، واحتج على ذلك بما رواه عن جعفر بن بشير عمن
رواه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل أصابته جنابة في ليلة باردة يخاف
على نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة».
__________________
(الرابع) ـ ما
ذهب اليه الشيخ في النهاية والمبسوط من ان من منعه الزحام في الجمعة عن الخروج
فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد لما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) «انه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع
الخروج من المسجد من كثرة الناس؟ قال يتيمم ويصلي معهم ويعيد إذا انصرف». ومثلها
موثقة سماعة ، وقد قدمنا ذكر هذه المسألة .
(الخامس) ـ إذا
لم يكن معه إلا ثوب واحد نجس ولم يتمكن من نزعه قال الشيخ انه يصلي فيه فإذا تمكن
من الماء نزعه وغسله وأعاد الصلاة استنادا الى ما رواه في الموثق عن عمار الساباطي
عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله
كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة».
(السادس) ـ ما
ذهب اليه ابن الجنيد من ان من فقد الماء ولم يجده إلا بثمن غال فإنه يتيمم ويعيد ،
ولم نقف له على دليل.
(السابع) ـ ما
تقدم من ان من أخل بالطلب حتى ضاق الوقت فتيمم وصلى ثم وجد الماء في محل الطلب
فالمشهور انه يجب عليه الإعادة استنادا إلى رواية أبي بصير قال : «سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء فنسيه
فتيمم وصلى ثم ذكر ان معه ماء قبل ان يخرج الوقت؟ قال عليه ان يتوضأ ويعيد الصلاة».
وقد تقدم البحث في هذه المسألة وجمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد حملوا الأمر
بالإعادة فيما عدا الصورة الأخيرة على الاستحباب ، لمعارضتها بما تقدم من الاخبار
، ولأن الأمر بالأداء والقضاء معا خارج عن مقتضى الأصول المقررة فإنه متى كان
مأمورا بالتيمم والصلاة
__________________
فلا ريب ان قضية الأمر الاجزاء فلا يتعقبه القضاء وإلا فلا وجه للتيمم
والصلاة أداء قال في المعتبر في الموضع الثالث : والوجه عندي انه لا إعادة لأن
التيمم عند الخوف على النفس اما ان يكون مبيحا للصلاة أم لا يكون ، فان كان مبيحا
سقط القضاء لانه اتى بصلاة مستكملة للشرائط ، وان لم يكن مبيحا لم يجب الأداء ،
فالقول بوجوب الأداء مع وجوب القضاء مما لا يجتمعان لكن الأداء كان واجبا فالقضاء
غير واجب. انتهى. وبالجملة فإن الوجه هو العمل على الأخبار المتقدمة. بقي الكلام
في حمل هذه الأخبار على الاستحباب كما هي القاعدة المطردة في كلام الأصحاب في جميع
الأبواب ، فإن فيه ما عرفت مما قدمناه في غير موضع ، وهو وان أمكن في بعض لما يلوح
من القرائن على ذلك إلا انه يمكن حمل ما عداه على التقية التي هي في اختلاف
الأحكام أصل كل بلية وإلا فارجاعها إلى قائلها لضعفها عن النهوض بمعارضة ما
قابلها. والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ لو وجد المتيمم الماء وتمكن من استعماله فله صور :
(الاولى) ـ ان
يجده قبل دخوله في الصلاة ، والظاهر انه لا خلاف في انتقاض تيممه ووجوب استعمال
الماء حتى انه لو فقده بعد التمكن من ذلك أعاد التيمم ، قال في المعتبر : وهو
إجماع أهل العلم. قال في المدارك : «وإطلاق كلامهم يقتضي انه لا فرق في ذلك بين ان
يبقى من الوقت مقدار ما يسع الطهارة والصلاة وعدمه ، وهو مؤيد لما ذكرناه فيما سبق
من ان من أخل باستعمال الماء حتى ضاق الوقت يجب عليه الطهارة المائية والقضاء لا
التيمم والأداء» انتهى. أقول : فيه ان الظاهر انه لا ريب في ان المتبادر من كلامهم
وكذا من اخبار المسألة ان التقسيم إلى الأقسام المذكورة في هذه المسألة انما هو في
الوقت خاصة والبحث ومحل الخلاف انما هو في وجوب المضي في الصلاة بعد وجود الماء
مطلقا أو الرجوع ما لم يركع ، واما كون ذلك يؤدي الى فوات الوقت أم لا وانه هل
يشترط مضي زمان يسع الطهارة أم لا؟ فهاتان مسألتان على حدة وكل من قال بقول في
تينك المسألتين فرع عليه ما اندرج تحته من هذه المسألة أو غيرها ، ولا يخفى ان من
قال في
تلك المسألة التي أشار إليها بأنه مع ضيق الوقت عن استعمال الماء يتيمم
ويصلي أداء لا يوافق هنا على التمكن من استعمال الماء ، لان استعماله على وجه يؤدي
الى فوات الوقت والصلاة قضاء غير جائز عنده فوجود الماء في هذه الصورة عنده في حكم
العدم كما تقدم تحقيقه.
(الثانية) ـ ان
يجده بعد الفراغ من الصلاة ، والمشهور انه لا اعادة عليه ولكن ينتقض تيممه ، قال
في المعتبر : وهو موضع وفاق ايضا. وقد تقدم في سابق هذه المسألة ما في ذلك من
الخلاف لذهاب ابن ابي عقيل وابن الجنيد الى وجوب الإعادة.
(الثالثة) ـ ان
يجده بعد الدخول في الصلاة ، وقد اختلف في هذه الصورة كلام الأصحاب ، فقال الشيخ (قدسسره) في النهاية انه يرجع ما لم يركع ، وهو اختيار ابن ابي
عقيل وابي جعفر بن بابويه والمرتضى في شرح الرسالة ، وللشيخ قول آخر في المبسوط
والخلاف وهو انه متى كبر للافتتاح لم يجز له الرجوع ومضى في صلاته بتيممه وهو
اختيار المفيد والمرتضى في مسائل الخلاف وقواه ابن البراج واختاره ابن إدريس
والمحقق في المعتبر والسيد في المدارك والعلامة في جملة من كتبه والظاهر انه
المشهور ، وقال سلار يرجع إلا ان يقرأ ، وقال ابن الجنيد : ان وجد الماء بعد دخوله
في الصلاة قطع ما لم يركع الركعة الثانية فإن ركعها مضى في صلاته ، فان وجده بعد الركعة
الاولى وخاف من ضيق الوقت ان يخرج ان قطع رجوت ان يجزئه ان لا يقطع صلاته ، فاما
قبله فلا بد من قطعها مع وجود الماء. انتهى. ونقل في الذكرى عن ابن حمزة في
الوسيلة قولا غريبا وهو وجوب القطع بعد الشروع مطلقا إذا غلب على ظنه سعة الوقت
بقدر الطهارة والصلاة وعدم وجوب القطع ان لم يمكنه ذلك واستحباب القطع ما لم يركع
، فهذه خمسة أقوال في المسألة.
أقول : والأصل
في الخلاف في هذه المسألة اختلاف الأخبار فيها فها أنا أسوق ما وقفت عليه من
الأخبار في المقام وأبين ما ظهر لي من ذلك بتوفيق الملك العلام بما
ينكشف عنه نقاب الإبهام ويصير ظاهرا لجملة الافهام.
فمنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة في حديث قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان أصاب الماء وقد دخل في الصلاة؟ قال فلينصرف وليتوضأ
ما لم يركع فان كان قد ركع فليمض في صلاته فان التيمم أحد الطهورين». ورواه
الكليني بسندين أحدهما في الصحيح والثاني في الحسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم
والصحيح عندي .
وما رواه الشيخ
عن عبد الله بن عاصم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا يجد الماء فيتيمم ويقوم في الصلاة فجاء
الغلام وقال هو ذا الماء؟ فقال ان كان لم يركع فلينصرف وليتوضأ وان كان قد ركع
فليمض في صلاته». ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن
محبوب مثله ورواه الكليني مثله .
وما رواه الشيخ
عن محمد بن حمران عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له رجل تيمم ثم دخل في الصلاة وقد كان طلب
الماء فلم يقدر عليه ثم يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة؟ قال يمضي في الصلاة ،
واعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في آخر الوقت».
وما رواه أيضا
في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم قال : «قلت في رجل لم يصب الماء وحضرت الصلاة فتيمم
وصلى ركعتين ثم أصاب الماء أينقض الركعتين أو يقطعهما ويتوضأ ثم يصلي؟ قال لا
ولكنه يمضي في صلاته فيتمها ولا ينقضها لمكان انه دخلها وهو على طهور بتيمم.
الحديث».
وعن زرارة عن
الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل صلى ركعة
__________________
على تيمم ثم جاء رجل ومعه قربتان من ماء؟ قال يقطع الصلاة ويتوضأ ثم يبني
على واحدة». ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب .
وعن الحسن
الصيقل قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل تيمم ثم قام يصلي فمر به نهر وقد صلى ركعة؟ قال
فليغتسل وليستقبل الصلاة. قلت انه قد صلى صلاته كلها؟ قال لا يعيد».
وفي الفقه
الرضوي «فإذا كبرت في صلاتك تكبيرة الافتتاح وأوتيت بالماء فلا تقطع الصلاة ولا
تنقض تيممك وامض في صلاتك».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الذي يدل على القول الأول من هذه الأخبار صحيحة زرارة ورواية عبد الله بن
عاصم ، والذي يدل على الثاني رواية محمد بن حمران وعبارة كتاب الفقه ، ولعل مستند
ابن الجنيد هو رواية زرارة وهي الأخيرة إلا ان في دلالتها على ما ذكره من التفصيل
اشكالا. وبالجملة فهذه روايات المسألة التي وصلت إلينا ومنها يعلم عدم الدليل على
ما عدا القولين الأولين المشهورين.
وأجاب العلامة
في المنتهى عن روايتي زرارة وعبد الله بن عاصم بالحمل على الاستحباب أو على ان
المراد بالدخول في الصلاة الشروع في مقدماتها كالأذان وبقوله : «ما لم يركع» ما لم
يتلبس بالصلاة وبقوله : «وان كان قد ركع» دخوله فيها إطلاقا لاسم الجزء على الكل.
والأول من محامله وهو الحمل على الاستحباب قد اختاره جملة ممن تأخر عنه ، واما
الحمل الثاني فردوه بالبعد غاية البعد عن الظاهر وبذلك اعترف في الذكرى والمدارك ،
واما الحمل على الاستحباب فسيأتي ما فيه ان شاء الله تعالى.
وقال المحقق في
المعتبر بعد الاحتجاج برواية محمد بن حمران على ما اختاره : فان احتج الشيخ
بالروايات الدالة على الرجوع ما لم يركع فالجواب عنها ان أصلها عبد الله بن عاصم
فهي في التحقيق رواية واحدة وتعارضها روايتنا وهي أرجح من وجوه : (أحدها) ـ ان
__________________
محمد بن حمران أشهر في العدالة والعلم من عبد الله بن عاصم والأعدل مقدم. (الثاني)
ـ انها أخف وأيسر واليسر مراد الله تعالى (الثالث) ـ مع العمل بروايتنا يمكن العمل
بروايته أيضا بأن ننزلها على الاستحباب ومع العمل بروايته لا يمكن العمل بروايتنا.
قال السيد في المدارك بعد نقل ذلك عنه : قلت ويؤيده أيضا مطابقته لمقتضى الأصل
والعمومات الدالة على تحريم قطع الصلاة ، وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد
بن مسلم قال : «قلت في رجل لم يصب الماء. الرواية كما قدمناه». ثم قال : فان
التعليل يقتضي وجوب المضي في الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام. انتهى.
أقول : ظاهر كلام السيد السند (قدسسره) الموافقة للمحقق فيما ذكره من الوجوه المذكورة المرجحة
لرواية محمد بن حمران حيث قد زاده تأييدا بالوجوه التي ذكرها.
والجميع منظور
فيه من وجوه : (الأول) ـ ما ادعاه في المعتبر من الأشهرية في العلم والعدالة لمحمد
بن حمران المؤذن من حيث صيغة التفضيل بعدالة عبد الله بن عاصم ولو في الجملة مع
انا لا نعرف لذلك وجها في واحد منهما ، اما محمد بن حمران فهو في كتب الرجال مشترك
بين النهدي وهو الثقة وغيره ولا قرينة هنا تعين كونه النهدي الثقة ولم يدع هو ايضا
انه النهدي دون غيره ، وهذا مما يوجب ضعف الحديث عند أصحاب هذا الفن بغير خلاف ،
واما عبد الله بن عاصم فهو غير مذكور في كتب الرجال بالكلية. والجواب ـ بأنه لعل
المحقق استفاد توثيقهما من محل آخر وان لم يتعرض له علماء الرجال حتى انه ربما
توهم بعض الحكم بوثاقة عبد الله بن عاصم من هذا الكلام ـ مجازفة لا ينبغي الالتفات
إليها فإن المعتمد في ذلك انما هو على علماء هذا الفن المتصدين لتحقيقه.
(الثاني) ـ ان
ما رواه عبد الله بن عاصم فقد رواه زرارة في الصحيح ولا ريب في أرجحية زرارة في
العدالة والوثاقة وشهرته بذلك على محمد بن حمران لو ثبت أنه النهدي الثقة فبطل هذا
الوجه من أصله. وهذا الوجه الثاني وان أمكن عدم وروده
على المحقق حيث انه لم يورد صحيحة زرارة في هذا المقام ولعله لعدم الاطلاع
عليها حينئذ لكن يرد على السيد الذي قد أوردها في شرحه دليلا للقول المذكور ومع
هذا جمد على كلام المحقق هنا.
(الثالث) ـ ان
الأخفية والايسرية ليست من الأدلة الشرعية التي تصلح لتأسيس الأحكام سيما في
مقابلة النصوص الواردة عنهم (عليهمالسلام) وانما هي وجوه تصلح للتأييد أو بيان وجه الحكمة بعد
ورود النص بما اقتضته وإلا لانتقض ذلك بكثير من الأحكام المشتملة على الأحكام
الشاقة كصوم الهجير والحج في الأوقات الشديدة والجهاد ونحو ذلك ، وبالجملة فالأمر
فيما ذكرناه أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان فبطل هذا الوجه ايضا من أصله.
(الرابع) ـ ان
دعواه انه لا يكون لرواية محمد بن حمران محمل تحمل عليه لو عملنا على رواية عبد
الله بن عاصم مدفوع بإمكان الجمع بين الأخبار بحمل مطلقها على مقيدها ، فإن رواية
محمد بن حمران مطلقة في المضي وصحيحة زرارة ورواية عبد الله بن عاصم قد خصتا المضي
بالركوع فيرجع قبله ، وبهذا يحصل الجمع بين الاخبار وهو أحد قواعدهم التي يجمعون
بها بين الأخبار ، على ان التحقيق عندي ان ظاهر خبر محمد بن حمران ـ كما صرح به في
آخره ـ هو ان التيمم انما وقع في آخر الوقت وهذه الرواية احدى روايات القول بالتضييق
كما هو أحد الأقوال في المسألة كما أوضحناه سابقا ، ولا ريب انه على هذا القول يجب
المضي في الصلاة وعدم قطعها لان المفروض على هذا التقدير انه لم يبق من الوقت إلا
بقدر الصلاة فلو قطعها وتوضأ أو اغتسل ثم صلى لزم وقوعها أو وقوع جزء منها خارج
الوقت ، وحينئذ ففي الخبر المذكور تأييد لما قدمناه في صدر المسألة من الكلام على
كلام السيد المشار اليه فيما تقدم.
(الخامس) ـ ان
ما ذكره السيد في وجوه تأييده من التأييد بمطابقة الأصل فإن فيه انه يجب الخروج
عنه بالدليل متى قام على خلافه كما صرح به هو وغيره وهو هنا موجود
كما عرفت ،
والرواية الدالة عليه صحيحة باصطلاحه صريحة الدلالة لا مجال للقدح في متنها ولا
سندها.
(السادس) ـ ان
ما ذكره من العمومات الدالة على تحريم قطع الصلاة لم نقف عليها في خبر من الأخبار
ولا نقلها ناقل ، وهو من جملة من صرح بذلك في كتاب الصلاة فقال انه لم يقف على
رواية تدل بمنطوقها على ذلك ، ثم قال ـ بعد ان نقل عن جده (قدسسره) تقسيم قطع الصلاة الى الأقسام الخمسة ـ ما صورته : «ويمكن
المناقشة في جواز القطع في بعض هذه الصور لانتفاء الدليل عليه إلا انه يمكن المصير
اليه لما أشرنا إليه من انتفاء دليل التحريم» انتهى وحينئذ فكيف يستند هنا إلى
الأدلة الدالة على تحريم قطع الصلاة مع تصريحه بعدمها؟ ثم العجب كل العجب انهم
يستدلون هنا بتحريم قطع الصلاة وظاهرهم ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب
الصلاة ـ الإجماع على تحريم قطعها ومع هذا يحملون صحيحة زرارة ونحوها على الاستحباب
وهذا من أوضح المناقضات عند ذوي الألباب.
(السابع) ـ قوله
: «فان التعليل يقتضي وجوب المضي في الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام»
فإن فيه ان صحيحة زرارة أيضا قد اشتملت على مثل هذا التعليل وهو قوله في آخرها : «فان
التيمم أحد الطهورين» مع انه (عليهالسلام) صرح في صدرها بأنه يرجع ما لم يركع ، ومنه يعلم ان
التعليل في حد ذاته وان كان ظاهره العموم إلا انه انما وقع تعليلا للنهي بعد
الركوع كما في صحيحة زرارة أو بعد الركعتين كما في الصحيحة التي ذكرها فهو مخصوص
بما وقع تعليلا له وان كان ظاهره في حد ذاته العموم فإن رواية زرارة الأخيرة
ورواية الصيقل قد دلتا على الرجوع بعد صلاة ركعة ، وبذلك يتبين لك قوة القول الأول
وان كلماتهم هنا وتعليلاتهم لا تخلو من مجازفة وضعف.
والعجب من
السيد المشار اليه ـ كما لا يخفى على من مارس كتابه وعرف طريقته فيه ـ انه مع
زيادة مبالغته في التمسك بهذا الاصطلاح المحدث لا يعمل إلا بالخبر الصحيح ويرد في
مقابله الأخبار الموثقة بل الحسنة فضلا عن الضعيفة ويخالف الأصحاب في كثير
مما ظاهرهم الاتفاق عليه تمسكا بهذا الاصطلاح وانه لا يجمع بين الأخبار إلا
مع التكافؤ في صحة السند وإلا فتراه يطرح المرجوح ، فكيف خرج عن مقتضى قواعده في
هذا المقام بعد نقله لصحيحة زرارة المذكورة وجمد على كلام صاحب المعتبر الذي يفهم
من ظاهره انه لم يقف على الصحيحة المشار إليها؟ وإلا فالظاهر انه لو وقف عليها لم
يتفوه بشيء من هذه الوجوه الضئيلة والتعليلات العليلة. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ قد
عرفت انه يجب إتمام الصلاة بعد وجود الماء في أثنائها إما لكونه قد تجاوز محل
القطع أو قلنا بالاكتفاء بمجرد الدخول فيها وان تيممه ذلك لا ينتقض في الحال
المذكورة ، وانما الكلام في انتقاضه بالنسبة الى غير هذه الصلاة ، فالمنقول عن
الشيخ في المبسوط انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى غيرها ، وقواه العلامة في المنتهى
والتذكرة لأنه متمكن عقلا من استعمال الماء ، قال : والمنع الشرعي لا يرفع القدرة
لأنها صفة حقيقية والحكم معلق عليها. وثانيهما منقول عن المحقق حيث قال في المعتبر
بعد نقله عن الشيخ انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى الصلاة المستأنفة : «ولو قيل لا
يبطل تيممه لكان قويا لان وجدان الماء لا يبطل التيمم ما لم يتمكن من استعماله
والاستعمال هنا ممنوع منه شرعا ضرورة وجوب المضي في صلاته لأنا نتكلم على هذا
التقدير فلا يكون الاستعمال ممكنا فلا ينتقض التيمم». انتهى.
وأنت خبير بان
حاصل تعليل القائل بالانتقاض هو صدق التمكن من استعمال الماء عقلا ومنع الشرع من
الابطال لا يخرجه عن التمكن فإنه صفة حقيقية لا يتغير بالأمر الشرعي أو النهي ،
وعدم فساده بالنسبة إلى الصلاة التي كان فيها للإذن في إتمامها حذرا من إبطال
العمل اما غيرها فلا مانع من بطلانه بالنسبة اليه. وضعفه ظاهر فإن الاذن في
إتمامها انما هو من حيث صحة التيمم وعدم انتقاضه وبقاء الإباحة به ولا يجوز
اجتماع الفساد والصحة في طهارة واحدة ، والمنع الشرعي كاف في عدم النقض
كالمرض فهو بمنزلة المنع الحسي بل أقوى ، ولان التيمم لم ينتقض بوجود الماء فبعد
فقده اولى كذا افاده شيخنا الشهيد الثاني في الروض. وهو جيد متين ، ومنه يظهر ان
ظاهره اختيار القول المذكور ، ومثله سبطه في المدارك ، وهو المشهور بين المتأخرين
وعليه العلامة في باقي كتبه ، وهو الأظهر لما سيأتي من ان الانتقاض بوجود الماء
انما يتحقق فيما إذا تمكن من استعمال الماء بمعنى ان لا يمنع منه مانع حسي ولا
شرعي ، وبالجملة فإن إيجاب الشارع إتمام الصلاة والحال ان الماء موجود دليل ظاهر
على صحة التيمم وإلا لأوجب إعادتها وبعد الفراغ منها لم يكن ثمة ماء كما هو
المفروض فأي موجب هنا للنقض؟ وقد تقدم ان موجب النقض اما الحدث أو التمكن من
استعمال الماء وشيء منهما بعد الفراغ من الصلاة غير موجود.
(الثاني) ـ قيل
انه يتفرع على مذهب الشيخ في المبسوط ـ من انتقاض التيمم بالنسبة الى ما عدا هذه
الصلاة ـ انه لا يجوز العدول عن هذه الصلاة الى فائتة سابقة لانتقاض التيمم
بالنسبة الى كل صلاة غير هذه. ورد بان العدول ان كان واجبا فالمعدول اليه بدل مما
هو فيها بجعل الشارع فلا موجب للبطلان ، وان كان مستحبا كما في الحاضرة المعدول
عنها إلى الفائتة على القول بعدم الترتيب بين الفوائت والحواضر فهو ايضا انتقال من
واجب الى واجب غايته ان الانتقال غير واجب متعين ، وبالجملة ان قول الشيخ انما هو
بالنسبة إلى الصلوات المستقبلة المحكوم عليها بالصحة من نوع تلك الصلاة التي شرع
فيها لا شخصها بعينه.
(الثالث) ـ إطلاق
الصلاة في الأخبار المتقدمة يقتضي شمول الحكم المتقدم للنافلة فلو وجد الماء بعد
دخوله فيها جرى فيه الخلاف المتقدم فيها ولم ينتقض تيممه بوجود الماء ، وبه جزم
الشهيدان في البيان والمسالك ، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهما : ويحتمل قويا
انتقاض تيممه بوجود الماء لجواز قطع النافلة اختيارا فينتفي المانع من استعماله
عقلا
وشرعا. والمسألة عندي محل توقف.
(الرابع) ـ لو
وجد الماء في أثناء صلاة يجب قضاؤها بعد وجود الماء كالصلوات المذكورة في المسألة
الثانية عند من قال بذلك فالظاهر انتقاض التيمم وانقطاع الصلاة وبه صرح الشهيد في
الدروس ، لانه يجب عليه العادة عند وجود الماء عند القائل المذكور وان كان قد فرغ
منها فمع وجوده في أثنائها اولى. قيل ويحتمل المنع نظرا الى عموم المنع عن إبطال
العمل. وهو ضعيف (أما أولا) ـ فلانا لم نقف على هذا الدليل الذي يكررونه في كلامهم
من عموم النهي عن إبطال العمل كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محل أليق. و
(اما ثانيا) ـ فلان النهي عن إبطال العمل على تقدير تسليمه انما يتبادر الى العمل
الصحيح وهو غير معلوم في صورة النزاع. والظاهر ان الوجهين آتيان فيما لو قلنا
باستحباب القطع قبل الركوع. فإنه يحتمل عدم الانتقاض لاستمرار الإباحة إلى الفراغ
واستظهره في المدارك ، ويحتمل الانتقاض كما هو قول الشيخ لانتفاء المانع من
الاستعمال عقلا وشرعا.
(الخامس) ـ تفرد
العلامة (قدسسره) بجواز العدول الى النفل مع سعة الوقت جمعا بين عدم
إبطال الفريضة وبين أدائها بأكمل الطهارتين قياسا على من أراد تحصيل فضيلة
الجماعة. وفيه نظر لعدم الدليل على ما ذكره من النقل ، وجواز العدول في بعض
المواضع لدليل اقتضاه لا يقتضي الجواز مطلقا بل هو قياس محض ، على ان العدول الى
النفل في معنى القطع ولو جاز العدول الى النفل لجاز الابطال بغير واسطة وهو لا
يقول به ، وبالجملة فإن المستفاد من الاخبار وكلام الأصحاب هو تحريم الرجوع بعد
فوات محله سواء قلنا ان محله هو الدخول في الصلاة أو الركوع أو غيرهما ، فما ذهب
اليه (قدسسره) ـ مع كونه كما عرفت بمحل من الضعف ـ مخالف لظاهر
الأخبار وكلام الأصحاب.
(المسألة
الرابعة) ـ لو أحدث المتيمم في أثناء الصلاة سهوا ووجد الماء فمذهب الشيخين (قدسسره) انه يتطهر ويبني وقيل بالإبطال ، وتفصيل الكلام في
المسألة
بوجه ابسط ـ وان كان البحث الكامل فيها كما هو حقه موكول الي ذكرها في
محلها ان شاء الله تعالى ـ ان يقال اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحدث
سهوا في الصلاة فالمشهور الابطال به مطلقا وانه لا فرق بين العمد والسهو وعليه يدل
إطلاق جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى عند ذكر المسألة ، وقيل بعدم
الابطال وانه يتطهر ويبني وعليه تدل أيضا جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة ، وحملت
على محامل عديدة أقربها التقية ، وقيل انه ان كان سبقه الحدث في الصلاة وهو متيمم
تطهر وبنى والا وجب عليه الإعادة ، ذهب اليه الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط
وابن ابي عقيل إلا انه لم يشترط النسيان ، وظاهر الصدوق في الفقيه القول بذلك ايضا
حيث نقل فيه صحيحة زرارة الآتية ومن ثم أسنده إليه في الذكرى ، والى هذا القول مال
جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ المحقق في المعتبر والسيد السند في
المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة وهو الأظهر ، إلا انه لما انتهت النوبة إلى
الأمين الأسترآبادي جرد لسان التشنيع على الشيخ المفيد في الفوائد المدنية بذهابه
الى ذلك وحمله الرواية المذكورة عليه ونسب خلافه في هذه المسألة إلى الاستنباطات
الظنية ، قال ـ بعد التشنيع عليه بذهابه الى جواز التمسك بالاستصحاب ـ ما صورته : «وذهابه
الى ان من دخل في الصلاة بتيمم ثم سبقه الحدث فأصاب ماء يتوضأ ويبني بخلاف من دخل
في الصلاة بوضوء وسبقه الحدث فإنه يتوضأ ويستأنف الصلاة مع انه تواترت الأخبار بان
الحدث في أثناء الصلاة ينقضها ، والباعث له على ذلك انه كان في بعض الأحاديث لفظ «أحدث»
فسبق ذهنه الى حمله على وقوع الحدث من المصلي وغفل عن احتمال ان يكون أمطر السماء
بل هذا الاحتمال أظهر معنى كما حققناه في بعض كتبنا ، الى ان قال هذا كله بعد
التنزل عن حمله على التقية والصواب حمله على التقية لأن أبا حنيفة ذهب الى ذلك
ولكن ما خص الحكم بالتيمم» انتهى. واقتفاه في الحمل على هذا المعنى الكاشاني في
الوافي فقال في ذيل
__________________
خبر زرارة الآتي : «ثم أحدث فأصاب ماء» على البناء للمفعول اي أحدث حدث
ووجد سبب وسنح أمر من أمطار السماء ونحوه من أسباب وجدان الماء ، والكناية عن مثله
بالحدث شائعة في كلامهم ، وهذا المعنى أقرب مما فهمه الأكثرون من حمل الحدث على
معناه المتعارف إذ لا رابطة بين الحدث بهذا المعنى واصابة الماء المتفرع عليه.
انتهى.
أقول : اما ما
ذكره المحدث الأمين ففيه (أولا) ان دعواه تواتر الأخبار بان الحدث في أثناء الصلاة
ينقضها مجازفة ظاهرة ، نعم ورد ذلك في جملة من الأخبار إلا ان بإزائها من الأخبار
ايضا ما هو أصح سندا وأكثر عددا وأصرح دلالة مما يدل على عدم النقض وانه يتطهر
ويبني كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في محله ، وباختلاف الأخبار في هذا
المضمار اختلفت كلمة علمائنا الأبرار فذهب الى القول بكل منها قائل وبذلك يظهر لك
ما في كلامه من الإجمال بل الإهمال.
و (ثانيا) ـ ان
ما فهمه الشيخ المفيد (قدسسره) من الخبر المذكور هو الذي فهمه كل من وقف على الخبر
المذكور من عصر الأئمة (عليهمالسلام) الى الآن ممن قال به أو لم يقل إخباري أو مجتهد ما
عداه وعدا المحدث المشار اليه حيث تبعه واقتفاه ، وقد وافق الشيخ المشار اليه على
القول بمضمون الخبر المذكور جملة من الأصحاب المتقدم ذكرهم ومن جملتهم ـ كما عرفت
ـ أستاذه صاحب المدارك ، وحينئذ فالتشنيع الذي ذكره لا يختص بالشيخ المفيد بل
بجملة العلماء الاعلام وكفي به شناعة في المقام.
و (ثالثا) ـ ان
ما فهمه الشيخ المذكور وجملة الأصحاب (رضوان الله عليهم) ليس من قبيل الاستنباطات
الظنية كما زعمه وانما هو المعنى المتبادر من اللفظ عند إطلاقه ، والتبادر امارة
الحقيقة كما صرحوا به ، ولو كان حمل اللفظ على معناه المتبادر منه من قبيل
الاستنباطات الظنية لكان هو ايضا من جملة القائلين بتلك الاستنباطات ، اللهم إلا
ان يدعى في ذلك إلهاما روحانيا ، كما يعطيه بعض تلك المنامات
التي أوردها في ذلك الكتاب بل الخرافات التي لا تليق بمثله من العلماء
الأطياب ، نعم ان ذلك انما يتوجه إليه في استنباطه هذا المعنى الذي اختص به وذهب
اليه واعتمد في المقام عليه بل هو في الحقيقة أشبه شيء بالألغاز الذي هو بمراحل
عن الحقيقة فضلا عن المجاز.
و (رابعا) ـ انه
من الجائز خروج هذا الخبر مخرج التقية كما صرح به في آخر كلامه واستصوبه ، ومن
الظاهر انه لا يتم ذلك إلا بحمل الحدث على المعنى الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ولا ريب ان الخبر الخارج مخرج التقية مما قد رخصوا في العمل به حال التقية
ومطلقا بالنسبة الى من لا يعلم بالتقية حتى يظهر وجه التقية فيه فلم لا حمل كلام
الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) على هذا الحمل الصحيح العاري عن الريب وكف لسان
قلمه عن الطعن عليه والعيب؟ ولكنه قد أولع في هذا الكتاب بتجريد لسان الطعن على
العلماء الاعلام ، ومن أراد الوقوف على ما وقع لنا معه في مثل هذا المقام من
الجواب عن جملة من متفرداته ولا سيما مطاعنه في جملة من فضلائنا الكرام فليرجع الى
كتابنا الدرر النجفية وحواشينا على كتابه.
واما ما ذكره
المحدث الكاشاني ففيه زيادة على ما عرفت انه قد اعترف بان ما حمل عليه الأصحاب
الخبر هو المعنى المتعارف ، ولا ريب ان الواجب هو الحمل عليه لانه المتبادر الى
الفهم والمعنى بالحمل عليه صحيح لا غبار عليه والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة
صارفة عنه. قوله ـ انه لا رابطة بين الحدث بهذا المعنى واصابة الماء المتفرع عليه
ـ فيه ان القائل بذلك لا يجعل الفاء هنا للتفريع بل هي كالفاء في الحديث الآخر في
قوله : «فصلى ركعة فأحدث» فإنه لا ارتباط ايضا بين الصلاة ركعة والحدث بأي
المعنيين اعتبر ، بل حاصل المعنى هو السؤال عن رجل اتفقت له هذه الأمور وهو انه
لما صلى اتفق له سبق حدث منه واتفق وجود ماء في تلك الحالة ، والسؤالات المبنية
على الفروض في الأخبار من هذا القبيل غير عزيز.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الدليل الذي استند اليه الشيخان في هذه المسألة هو
ما رواه الشيخ في تتمة صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة في صدر المسألة
الثالثة قال : «قال زرارة فقلت له دخلها وهو متيمم فصلى ركعة
فأحدث فأصاب ماء؟ قال يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم». وما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت له رجل دخل في الصلاة وهو متيمم فصلى ركعة
ثم أحدث فأصاب الماء؟ قال يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم».
قال المحقق في
المعتبر : «من صلى بتيمم ثم أحدث في أثناء الصلاة ووجد الماء روى محمد بن مسلم عن
أحدهما (عليهماالسلام) «انه يخرج ثم يتوضأ ويبني ما مضى من صلاته التي صلى
بالتيمم». وهذه الرواية متكررة في الكتب بأسانيد مختلفة وأصلها محمد بن مسلم وفيها
اشكال من حيث ان الحدث يبطل الطهارة وتبطل ببطلانها الصلاة واضطر الشيخان بعد
تسليمها الى تنزيلها على المحدث سهوا ، والذي قالاه حسن لأن الإجماع على ان الحدث
عمدا يبطل الصلاة فيخرج من إطلاق الرواية فيتعين حملها على غير صورة العمد لأن
الإجماع لا تصادمه الرواية. ولا بأس بالعمل بها على الوجه الذي ذكره الشيخان فإنها
رواية مشهورة ، ويؤيدها ان الواقع من الصلاة وقع مشروعا مع بقاء الحدث فلا يبطل
بزوال الاستباحة كصلاة المبطون إذا فجأه الحدث ، ولا يلزم مثل ذلك في المصلي
بطهارة مائية لأن حدثه مرتفع فالحدث المتجدد رافع لطهارته فتبطل لزوال الطهارة»
قال في المدارك بعد نقله ملخصا : هذا كلامه (قدسسره) وقوته ظاهرة.
وأنكر ابن
إدريس هذا القول وأوجب الإعادة سواء كان حدثه عمدا أو سهوا قال في المختلف : وهو
الأقوى عندي ، لنا ـ ان صحة الصلاة مشروطة بدوام الطهارة وقد زال الشرط فيزول
المشروط ، ولأن الإجماع واقع على ان ناقض الطهارة مبطل للصلاة ولأن الصلاة لو فعلت
بطهارة مائية انتقضت بالحدث فكذا الترابية لأنها أحد الطهورين ، ولان
__________________
الإجماع واقع على ان الفعل الكثير مبطل للصلاة وهو حاصل هنا بالطهارة
الواقعة في أثناء الصلاة. احتج الثلاثة بما رواه زرارة ومحمد بن مسلم ، ثم أورد
الخبر المتقدم ثم عقبه بخبر زرارة المتقدم ايضا ثم اردفهما برواية زرارة المتقدمة
في المسألة الثالثة المتضمنة للقربتين حيث أمر فيها بالقطع والبناء ايضا ثم قال :
والجواب عن الحديث الأول انا نحمل الركعة على الصلاة كما تقدم إطلاقا الاسم الجزء
على الكل ، وقوله «يخرج ويتوضأ ثم يبنى على ما مضى من صلاته» إشارة إلى الاجتزاء
بتلك الصلوات السابقة على وجدان الماء ، وعن الثاني بذلك ايضا ، ويحتمل انه يرجع
استحبابا إذا صلى ركعة واحدة وقوله : «ويبني على ما مضى من صلاته» لا يشير به الى
تلك الركعة السابقة بل الى الصلوات السابقة على التيمم ، وعن الثالث بالمنع من صحة
السند ، على ان الأحاديث لا تدل على التفصيل الذي ذكره الشيخان من وجوب الوضوء
والإتمام مع النسيان والاستئناف مع العمد فالذي ذهبا اليه لم تدل الأحاديث عليه.
انتهى.
والشهيد في
الذكرى نقل عن ابن إدريس انه رد الرواية للتسوية بين نواقض الطهارتين وان التروك
متى كانت من النواقض لم يفرق بين العامد فيها والساهي ، ثم نقل عنه انه قال :
وانما ورد هذا الخبر فأوله بعض أصحابنا بصلاة المتيمم ، ثم اعترضه فقال قلت :
الأول محل النزاع والرواية مصرحة بالمتيمم فكيف يجعل تأويلا؟ ثم انه في الذكرى نقل
عن المختلف رد الرواية لاشتراط صحة الصلاة بدوام الطهارة ولما قاله ابن إدريس وقال
الطهارة المتخللة فعل كثير ، ثم اعترضه بان كل ذلك مصادرة ، ثم نقل عن المختلف انه
أول الرواية بحمل الركعة على الصلاة تسمية للكل باسم الجزء ، وبان المراد مما مضى
من صلاته ما سبق من الصلوات السابقة على وجدان الماء ، ثم رده فقال : قلت لفظ
الرواية «يبني على ما بقي من صلاته» وليس فيها «ما مضى» فيضعف التأويل مع انه خلاف
منطوق الرواية صريحا. انتهى. أقول : كلام شيخنا المذكور بان لفظ الرواية «يبني على
ما بقي من صلاته» لعله كان هو الموجود في نسخ الكتاب الذي عنده وإلا فإن
الموجود فيما وصل إلينا من كتب الأخبار والمنقول في كتب الفروع أيضا انما
هو «ما مضى من صلاته» كما ذكره العلامة. وكيف كان فإنه قد علم بما ذكره شيخنا
المشار اليه الجواب عما ذكره العلامة في المختلف إلا انه مع وجود الخبر كما ذكره
العلامة (قدسسره) فتأويله بما ذكره في غاية البعد. وأشد بعدا حمل الركعة
على الصلاة كملا.
وللمحقق الشيخ
حسن في المنتقى هنا كلام جيد لا بأس بنقله وان طال به زمام الكلام لما يترتب عليه
من النفع في غير مقام ، قال بعد نقل كلمات القوم التي ذكرناها في هذه المسألة :
والتحقيق عندي في هذا المقام ان الخبرين الصحيحين ليسا بصريحين في إفادة الحكم
المتنازع فيه بل هما محتملان لإرادة البناء على الصلاة التي صلاها تامة بالتيمم
وقوله (عليهالسلام) في آخر الكلام «التي صلى بالتيمم» قرينة قوية على
ارادة هذا المعنى فيكون مفاد الخبرين حينئذ عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بالتيمم
بعد وجدان الماء ، وهو معنى صحيح وارد في اخبار كثيرة مضى بعضها وسيأتي سائرها ،
وإذ قد عرفت اعترافهم بالمضايقة في المعنى الذي وقع فيه النزاع باعتبار مخالفته
لما هو المعهود في قواطع الصلاة فلا بد في المصير اليه من صراحة اللفظ فيه ، وقول
العلامة ان الأحاديث لا تدل على التفصيل ليس بجيد لأنها بتقدير دلالتها على أصل
الحكم لا تخلو من ظهور في الاختصاص بحالة عدم العمد ، وحمله الركعة على الصلاة
تعسف زائد لا حاجة له اليه ، وقول الشهيد ان لفظ الرواية «يبني على ما بقي» عجيب
فإن الرواية مذكورة في التهذيب مرتين كما بيناه وفي الفقيه وكلها متفقة مع تعدد
النسخ على لفظ «ما مضى» وحكاها كذلك ايضا الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر حتى
ان الشهيد (قدسسره) نقلها في مسألة من وجد الماء في أثناء الصلاة في حمله
كلام الشيخ في الخلاف بهذه الصورة ، وفي عبارات القدماء شهادة بهذا ايضا لوقوفهم
في التأدية مع ألفاظ النصوص غالبا. وقد اتفق لوالدي (قدسسره) في شرح الإرشاد مناقشة العلامة بنحو ما قاله الشهيد (قدسسره) حتى انتهى الى هذا الموضع فذكره بصورة ما في الذكرى
اعتمادا على تحقيق الشهيد وحسن ظنه به وهو أعجب
من صنع الشهيد (قدسسره) لكن المعلوم من طريقة والدي في هذا الشرح مشاركة جماعة
المتأخرين في تخفيف المراجعة والاتكال على حكايات السلف وقد عدل عن ذلك فيما بعد
حيث انكشف له حقيقة الحال ، هذا مع ان الفرق بين اللفظين هنا والتفاوت بين
مفاديهما قليل عند التأمل وان الجمع بين كلمة «يبني» وبين كلمة «ما بقي» باقيتين
على ظاهر هما غير متصور ، وليس التجوز في «يبني» حرصا على نفي الاحتمال بأولى من
حمل «ما بقي» على ارادة ما سلم من الحدث المبطل وقوفا مع المعهود واقتصارا على
إثبات الأحكام الشرعية على ما يتضح اليه السبيل وينتفي فيه الاحتمال القادح في
دلالة الدليل. انتهى كلامه.
أقول : وما
ذكره من الاحتمال المذكور وما ذيله به جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ،
وبه تنطبق الروايتان المذكورتان على القواعد الشرعية من غير حاجة الى تخصيصهما
باستثناء الصورة التي جعلوها محل النزاع بناء على ما فهموه من الروايتين
المذكورتين ، هذا ، واحتمال التقية فيهما أقرب قريب كما تقدمت الإشارة اليه. والله
العالم.
(المسألة
الخامسة) ـ إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب وكان من الماء ما يكفي أحدهم خاصة ، فإن كان
ملكا لأحدهم اختص به ولم يجز له بذله لغيره مع مخاطبته باستعماله ووجوب صرفه في
طهارته ، ولو كان مباحا حازه من سبق اليه من المحدث والجنب ولو توافيا عليه دفعة
اشتركا ، وان كان ملكا لهم أو لمالك يسمح به فلا ريب ان لمالكه الخيرة في تخصيص من
شاء به ، انما يبقي الكلام في الاولى من الثلاثة وكذا لو كان منذورا أو موصى به
للأحوج ، فقال الشيخ في النهاية : إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء ما
يكفي أحدهم فليغتسل به الجنب وليتيمم المحدث ويدفن الميت بعد ان يؤمم. وقال في
الخلاف ان كان الماء لأحدهم فهو أحق به وان لم يكن لواحد بعينه تخيروا في التخصيص
، لأنها فروض اجتمعت وليس بعضها اولى من بعض فتعين التخيير ولان الروايات قد
اختلفت على وجه لا ترجيح فتحمل على التخيير. وقال ابن إدريس
ان كان ملكا اختص بالمالك وان كان مباحا فلمن حازه ، وان تعين عليهما تغسيل
الميت ولم يتعين أداء الصلاة لخوف فوات وقتها فعليهما ان يغسلاه بالماء الموجود ،
فان خافا فوات الصلاة فإنهما يستعملان الماء ولا يغسلان به الميت. ونقل المحقق في
الشرائع قولا باختصاص الميت به ، قال في المدارك : ولم أعرف قائله ، وبذلك ظهر ان
في المسألة أقوالا أربعة.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن
ابي نجران «انه سأل أبا الحسن موسى (عليهالسلام) عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب والثاني ميت
والثالث على غير وضوء وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، من يأخذ
الماء وكيف يصنعون؟ قال يغتسل الجنب ويدفن الميت بتيمم ويتيمم الذي هو على غير
وضوء ، لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة والتيمم للآخر جائز».
ورواه الشيخ في
التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي نجران عن رجل حدثه قال : سألت الرضا (عليهالسلام) وذكره نحوه إلا ان الذي فيه «ويدفن الميت» من غير قوله «بتيمم».
وما رواه في
التهذيب عن الحسن التفليسي قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ما يكفي أحدهما أيهما يغتسل؟
قال إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض».
وعن الحسين بن
النضر الأرمني قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب
ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما أيهما يبدأ به؟ قال يغتسل الجنب ويترك الميت
لان هذا فريضة وهذا سنة». ورواه الصدوق في العلل والعيون بسنده عن الحسين بن النضر
مثله .
وعن علي بن
محمد عن محمد بن علي عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام)
__________________
قال : «قلت له الميت والجنب يتفقان في مكان لا يكون فيه الماء إلا بقدر ما
يكتفي به أحدهما أيهما اولى ان يجعل الماء له؟ قال يتيمم الجنب ويغسل الميت بالماء».
وعن ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قوم كانوا في سفر فأصاب بعضهم جنابة وليس معهم من
الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله يتوضأون هم هو أفضل أو يعطون الجنب فيغتسل وهو لا
يتوضأون؟ قال يتوضأون هم ويتيمم الجنب».
إذا عرفت هذا
فاعلم ان جملة من الأصحاب : منهم ـ السيد السند في المدارك رجحوا العمل بصحيحة عبد
الرحمن بن ابي نجران لصحة سندها وضعف ما عارضها من مرسلة محمد بن على وتأيدها
بروايتي التفليسي والأرمني. واستدلوا للقول بتقديم الميت بان الجنب يستدرك طهارته
والميت لا استدراك لطهارته ، وبرواية محمد بن علي المذكورة ورد الأول بأن الاعتبار
لا يعارض النص مع انه معارض بتعبد الجنب بطهارته بخلاف الميت فإنه قد خرج عن
التكليف بالموت ، وبان للجنب غايتين استباحة الصلاة وطهارة بدنه من الحدث وللميت
الثانية لا غير. والثاني بالطعن في الرواية بضعف السند وبالإرسال والإضمار فلا
تصلح لمعارضة الخبر الصحيح.
أقول : والحق
انه مع العمل بهذا الاصطلاح المحدث فلا ريب في قوة ما ذكروه ، واما مع عدم ذلك كما
هو الحق الذي عليه متقدمو الأصحاب (رضوان الله عليهم) فالوجه ان يقال بما ذهب اليه
الشيخ من التخيير مع أولوية الجنب ، وهذا هو الظاهر من كلام المحقق في المعتبر حيث
انه بعد فرض المسألة قال : فالأشهر من الروايتين اختصاص الجنب به ، ثم نقل عبارة
الخلاف الدالة على التخيير ونقل رواية التفليسي وعدها مع رواية الأرمني رواية
واحدة ثم أردفها بمرسلة محمد بن علي ثم رجح رواية التفليسي بأنها متصلة الاسناد
وان العامل بها من الأصحاب كثير والأخرى مقطوعة ، ثم قال : والذي ذكره الشيخ ليس
موضع البحث فانا لا نخالف في ان لهم الخيرة لكن
__________________
البحث في من الأولى أولوية لا تبلغ اللزوم ولا تنافي التخيير. انتهى. وهو
ظاهر في ان المراد بقوله أولا : «ان الأشهر من الروايتين اختصاص الجنب به» انما هو
اختصاص أولوية وبهذا جمع بين الخبرين المذكورين في كلامه ، والظاهر انه لم تحضره
صحيحة عبد الرحمن المذكورة يومئذ وإلا لذكرها ، هذا فيما إذا كان الماء لباذل
أجنبي أو مشترك بين الجميع مع فرض ان حصة كل واحد منهم لا تفي بحاجته فإنه يستحب
له بذلها للأحوج مع عدم رجاء ما يحصل به الإكمال ، واما لو كان منذورا به للأحوج
أو موصى به كذلك فالتخيير غير متجه في المقام بل يحتاج الى النظر في الراجح من
الاخبار الواردة في المسألة ولا ريب في حصوله في جانب القول بتقديم الجنب للصحيحة
المذكورة المعتضدة بالروايتين الأخريين سيما مع تضمنها للعلة المذكورة المصرح بها
في غير موضع ايضا. واما ما ذهب اليه ابن إدريس من التفصيل المتقدم نقله عنه فإنه
مبني على طرح روايات المسألة كما لا يخفى ، وضعفه لذلك أظهر ظاهر.
وينبغي التنبيه
على فوائد (الاولى) ـ لو أمكن الجمع بأن يتوضأ المحدث ثم يجمع الماء ويغتسل به
الجنب الخالي بدنه من النجاسة ثم يجمع ماؤه ويغسل به الميت وجب بناء على القول بان
المستعمل في الحدث الأكبر يكون مطهرا. قيل : ولو جامعهم ذات دم أو ماس ميت فإشكال
والتخيير حسن واستعمال القرعة أولى ، أما العطشان فهو اولى من الجميع قطعا.
(الثانية) ـ قال
في الذكرى بعد الإشارة إلى خبر عبد الرحمن بن ابي نجران : «وفيه إشارة الى عدم
طهورية المستعمل وإلا لأمر يجمعه» وأورد عليه بان جمعه لا يلزم منه ان يجتمع منه
ما يكفي واحدا فإنه أعم من ذلك ولا دلالة للعام على الخاص وجائز ان يعلم (عليهالسلام) منه عدم اجتماع ما يرفع حدثا آخر. وفيه انه يمكن ان
يكون مبنى كلام شيخنا المشار اليه على عدم الاستفصال المفيد عندهم للعموم في
المقال ، لأنهم قد صرحوا في غير مقام بان ترك الاستفصال يفيد العموم في المقال.
نعم يمكن ان يقال ان
الرواية محمولة على ما هو الغالب من عدم إمكان هذا الجمع في مثل هذا الماء
القليل الذي لا يكفي إلا لأحدهم كما هو المفروض في أصل المسألة.
(الثالثة) ـ لو
كان الماء مباحا وجب على كل من الحيين المبادرة إليه فإن سبق أحدهما إلى حيازته
ملكه وان اتفقا جميعا اشتركا ، ولو تغلب أحدهما على الآخر في حيازته بعد استوائهما
في السبق اليه فلا خلاف ولا ريب في انه يأثم ، وهل يملك أم لا؟ فالمحقق في المعتبر
والعلامة في التذكرة على الأول لأن الوصول الى المباحات لا يفيد الملك لافتقار
تملك المباحات إلى الحيازة مع النية ولم يحصل الشرطان إلا للمتغلب واستشكله الشهيد
في الذكرى بإزالة أولوية غيره وهي في معنى الملك ، قال : وهو مطرد في كل أولوية
كالتحجير. وفيه ما عرفت من عدم حصول شرطي الحيازة إلا للمتغلب فيملك وان أثم ، هذا
ما يقتضيه الجري على قواعدهم وإلا فالمسألة لعدم النص لا تخلو من توقف.
(الرابعة) ـ قال
المحقق في المعتبر : هل يجوز لمالك الماء ان يبذله لغيره مع وجوب الصلاة؟ الوجه لا
لأن الطهارة تعينت عليه وهو متمكن من الماء والعدول الى التيمم مشروط بالتعذر
والتقدير عدمه ، ويؤيد ذلك رواية وهب بن حفص عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) ثم ساق الرواية كما قدمناه ، وقال : وذكر النجاشي ان
وهب بن حفص كان واقفيا لكنه ثقة. انتهى. واعترضه في الذكرى بأنه ليس في الخبر
تخصيص باختصاصهم بملكه ولعلهم مشتركون ولكن الجنب لا يكتفي بنصيبه. أقول : الظاهر
ان استناد المحقق إلى الرواية لا يتوقف على اختصاصهم بالملك بل يكفيه تحقق
اشتراكهم فيه ، فان ظاهر سياق الخبر ان الماء مشترك بين القوم كملا إلا ان حصة
الجنب لا تكفيه لغسله وحصة كل منهم تكفي لوضوئه فسأل انه هل يجوز لهم أو يجب عليهم
ان يدفعوا حصصهم من الماء الى الجنب ليغتسل به كملا ويتيممون هم أو يتوضأ كل واحد
بنصيبه ويتيمم الجنب؟ فأجاب (عليهالسلام) بما يدل على ما ذكره المحقق (قدسسره)
من ان مالك الماء الذي يجزئه لطهارته لا يجوز له ان يعطيه غيره بل يتوضأ به
والجنب لعدم وفاء حصته بالغسل ينتقل الى التيمم ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.
(المسألة
السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في انه متى وجد الماء وتمكن من استعماله
انتقض تيممه فلو فقده بعد ذلك وجب عليه اعادة التيمم ، وقد نقل الإجماع على ذلك
المحقق في المعتبر ، والمراد من التمكن من استعماله ان لا يكون له مانع حسي من
تغلب على الماء أو كونه في بئر ولا وسيلة اليه أو كونه في يد من لا يبذله أو يتوقف
بثمن لا يمكنه ونحو ذلك ، ولا شرعي من مرض وخوف عطش ونحو ذلك مما قد تقدم
ومما يدل على
أصل الحكم من الأخبار قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) وقد سأله : «يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار؟
فقال نعم ما لم يحدث أو يصب ماء. قلت فإن أصاب الماء ورجا ان يقدر على ماء آخر وظن
انه يقدر عليه فلما اراده تعسر ذلك عليه؟ قال ينتقض تيممه وعليه ان يعيد التيمم».
وفي رواية
السكوني «لا بأس بان يصلي صلاة الليل والنهار بتيمم واحد ما لم يحدث أو يصب الماء».
وروى الشيخ عن
الحسين العامري عن من «سأله عن رجل أجنب فلم يقدر على الماء وحضرت
الصلاة فتيمم بالصعيد ثم مر بالماء ولم يغتسل فانتظر ماء آخر وراء ذلك فدخل وقت
الصلاة الأخرى ولم ينته الى الماء وخاف فوت الصلاة؟ قال يتيمم ويصلي فان تيممه
الأول انتقض حين مر بالماء ولم يغتسل».
وروى العياشي
في تفسيره عن أبي أيوب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «التيمم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضأ من
غدير ماء ، أليس الله تعالى يقول :
__________________
(فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً.) قال : قلت فإن أصاب الماء وهو في آخر الوقت؟ قال فقال :
قد مضت صلاته. قال قلت فيصلي بالتيمم صلاة أخرى؟ قال إذا رأى الماء وكان يقدر عليه
انتقض التيمم».
وقال (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «وان مر بماء فلم يتوضأ وقد كان تيمم وصلى في آخر
الوقت وهو يريد ماء آخر فلم يبلغ الماء حتى حضرت الصلاة الأخرى فعليه ان يعيد
التيمم لان ممره بالماء نقض تيممه».
وبالجملة فإن
أصل المسألة مما لا خلاف فيه ولا اشكال وانما الإشكال في انه بعد وجود الماء هل
يعتبر في انتقاض التيمم مضى زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة المائية أم لا؟ وجهان
بل قولان : أحدهما نعم لامتناع التكليف بعبادة في وقت لا يسعها فإذا تلف الماء
مثلا قبل مضي زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة تبين عدم التكليف باستعمال الماء
فيلزم بقاء التيمم لان النقض انما يتحقق مع تمكنه من البدل. واليه مال في المدارك
وهو ايضا ظاهر المنتهى ، وثانيهما انه لا يعتبر لصدق التمكن من استعمال الماء بحسب
الظاهر.
أقول : الحق ان
الحكم في المسألة المذكورة لا يخلو من اشكال وذلك فإنه بالنظر الى ظواهر الاخبار
مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «أو يصب ماء» وقوله فيها : «فإن أصاب
ماء» وفي رواية السكوني «أو يصب الماء» يترجح القول الثاني لأنه رتب النقض على
مجرد الإصابة أعم من ان يمضي زمان يتمكن فيه من الإتيان بالطهارة أم لا ، والى هذا
القول يميل كلام الصدوق في الفقيه حيث قال : «ومتى أصاب المتيمم الماء ورجا ان
يقدر على ماء آخر أو ظن انه يقدر عليه كلما أراد فعسر عليه ذلك فان نظره الى الماء
ينقض تيممه» انتهى. وهو ايضا ظاهر شيخنا البهائي في الحبل المتين.
وربما استدل
عليه أيضا بأن الخطاب متوجه الى المكلف بالطهارة المائية وتوجه
__________________
التكليف بالطهارة المائية ينافي بقاء التيمم. وأجيب عنه بان المراد بتوجه
الخطاب بالطهارة المائية ان كان بفعلها في نفس الأمر فممنوع ، وان كان توجه الخطاب
بالاشتغال بها فمسلم لكن الكبرى ممنوعة.
وعندي في هذا
الاستدلال والجواب على الإطلاق نظر ، والتحقيق في ذلك ان يقال ان كان وجدان الماء
بعد التيمم في الوقت وقبل الصلاة فلا ريب انه مكلف باستعمال الماء والخطاب متوجه
اليه بغير اشكال ، وإيجاب الشارع الطهارة المائية عليه في تلك الحال لا يجامع بقاء
التيمم البتة. وقول المجيب هنا على هذا التقدير ـ انه ان كان مكلفا بالطهارة في
نفس الأمر. إلخ يعني ان التكليف بالطهارة كاملة لا يجوز تعلقه بالواقع ونفس الأمر
لتبين خلافه كما هو المفروض ـ فيه انه يكفي في تعلق التكليف ظن بقاء الماء المدة
المذكورة استصحابا للحال فيكون مجرد وجوده ناقضا وان طرأ عليه بعد ذلك التلف قبل
مضي المدة المذكورة ، وان كان وجدان الماء في غير وقت الصلاة كما هو ظاهر إطلاق
الأخبار المتقدمة وغيرها من اخبار المسألة فلا معنى لهذا الاستدلال من أصله ، لأنه
لا يتوجه اليه الخطاب بالكلية ، هذا بالنظر الى ظواهر الاخبار.
وبالنظر الى
انه يلزم من القول بذلك التكليف بعبادة في وقت لا يسعها وهو ممنوع عقلا وشرعا
يترجح القول الأول ، فإن تلف الماء قبل مضي زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة كاشف عن
عدم التكليف باستعماله فيلزم بقاء التيمم لان النقض لا يتحقق إلا بالتمكن من البدل
كما تقدم.
وتنظر فيه
شيخنا البهائي (قدسسره) في الحبل المتين بأنه لا ملازمة بين عدم تكليف المتيمم
باستعمال الماء وبين بقاء تيممه من غير إيجاب تيمم آخر عليه. قال : بل الظاهر ان
يكون نفس وجود الماء المظنون بقاؤه ذلك المقدار استصحابا للحال ناقضا فيجب به تيمم
آخر إذا لم يبق ذلك المقدار بطرو انعدام عليه أو سبق آخر اليه مثلا ، والتزام
القول بأنه يجوز للمتيمم لفقد الماء بعد وجوده فعل مشروط بالطهارة كابتداء
الصلاة ومس خط المصحف مثلا الى ان يمضي ذلك المقدار لا يخلو من اشكال.
انتهى. وهو جيد. والمراد بقوله (قدسسره) والتزام القول. إلخ هو إلزام القائلين بالقول الأول
بأنه يلزم منه إذا كان لا ينتقض التيمم إلا بمضي هذا المقدار من الزمان انه بعد
وجود الماء وقبل مضي المدة المذكورة يجوز له مس خط المصحف والدخول في الصلاة
بتيممه ذلك لأنه طهارة صحيحة لم تنتقض فإذا مضى ذلك المقدار حرم عليه تلك الأشياء
، وهو مشكل فان ظواهر الأخبار تمنعه ، وانما قيد الصلاة بالابتداء احترازا عن
وجدان الماء في أثنائها كما تقدم فإنه لا إشكال في وجوب مضيه في الصلاة على
التفصيل المتقدم ، وهذا الإلزام ظاهر متوجه والتزام القول بصحة الدخول في الصلاة
بهذا التيمم حال وجود الماء لا يخلو من شناعة.
ونظير هذه
المسألة ما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الحج في من استطاع للحج فبادر في عام
الاستطاعة ومات بعد الإحرام أو قبله وقبل دخول الحرم ، فان ظواهر الاخبار دلت على
وجوب القضاء عنه وأكثر الأصحاب حملوها على من استقر الحج في ذمته قبل هذا العام
للعلة المتقدمة ، ونقل عن الشيخين وجوب القضاء عنه عملا بظاهر الاخبار ، ورجحه
الشيخ علي بن سليمان البحراني في حاشيته على المختصر ، وهو مؤيد للقول الثاني في هذه
المسألة. والله العالم.
(المسألة
السابعة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ ان
المحتلم في أحد المسجدين المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) لا يجوز له المرور فيه والخروج منه إلا متيمما ولا بأس
بأن يمر في غيرهما من المساجد.
والأصل في هذا
الحكم صحيحة أبي حمزة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله)
__________________
فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمر في المسجد إلا متيمما ولا بأس بأن
يمر في سائر المساجد ولا يجلس في شيء منها».
ومرفوعة أبي
حمزة قال : «إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمر في المسجد إلا
متيمما حتى يخرج منه ثم يغتسل ، وكذا الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك ، ولا بأس
ان يمرا في سائر المساجد ولا يجلسان فيها».
وفي الفقه
الرضوي : «وإذا احتلمت في مسجد من المساجد فاخرج منه واغتسل
إلا ان تكون احتلمت في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) فإنك إذا احتلمت في أحد هذين المسجدين فتيمم ثم اخرج
ولا تمر بهما مجتازا إلا وأنت متيمم». انتهى.
وعن ابن حمزة
القول باستحباب التيمم في الصورة المذكورة ، وهو ضعيف. وبالجملة فإن أصل الحكم لا
اشكال فيه ولا كلام لما عرفت من الاخبار.
وانما يبقى
الكلام في مواضع (الأول) ـ انه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الغسل
في الصورة المذكورة وعدمه لو وجد الماء في أحد المسجدين فقيل بان الواجب هو التيمم
مطلقا وقوفا على ظاهر النص ، وقيل بأنه إن أمكن الغسل وساوى زمانه زمان التيمم أو
نقص عنه وحصل الأمن من تعدى النجاسة الى المسجد وآلاته وجب وكان مقدما على التيمم
واليه ذهب جملة من المتأخرين ، واحتمل في الذكرى تقديم الغسل مطلقا حيث قال :
وانما قيد جواز الغسل مع إمكانه بمساواة زمانه لزمان التيمم أو قصوره عنه مع ان
الدليل يقتضي تقديمه مطلقا مع إمكانه لعدم العلم بالقائل بتقديمه مطلقا وان كان
القول به متجها. ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الميل اليه. والوجه في
القول الأول ما عرفته من الوقوف على ظاهر النص. واما القول الثاني
__________________
فالجمع بين الأخبار الدالة على وجوب استعمال الماء وعدم مشروعية التيمم
وبين هذه الأخبار بحمل اخبار التيمم على ما إذا زاد زمان الغسل عن زمانه أو أوجب
التلوث بالنجاسة. واما الثالث فهو تخصيص اخبار التيمم بعدم وجود الماء.
ويمكن ترجيح
القول الثاني بما أشرنا إليه في غير موضع وصرح به غير واحد من محققي الأصحاب من ان
الأحكام المودعة في الأخبار انما تبنى على الافراد الشائعة المتكررة الوقوع دون
الفروض النادرة التي ربما لا توجد ، وحيث كان وجود الماء في المسجدين على الوجه
المذكور بالشروط المذكورة من الفروض النادرة التي ربما لا تتفق بالكلية وانما هو
فرض عقلي واحتمال فرضي خرجت الأخبار بالتيمم بناء على ما هو المتعارف المعتاد ،
وحينئذ فلا مانع من العمل بتلك الأخبار المستفيضة في صورة وجود الماء وإمكان
استعماله بالشروط المذكورة.
قال السيد (قدسسره) في المدارك بعد ذكر صحيحة أبي حمزة المذكورة : «وإطلاق
الخبر يقتضي وجوب التيمم مطلقا وان أمكن الغسل في المسجد وساوى زمانه زمان التيمم
أو نقص عنه ، وبه قطع المحقق الشيخ علي في حاشية الكتاب ، ورجح جماعة : منهم ـ جدي
(قدسسره) في جملة من كتبه وجوب الغسل مع مساواة زمانه لزمان
التيمم أو نقصه عنه وعدم استلزامه تنجيس شيء من المسجد وآلاته ، واستدل عليه في
الروض بان فيه جمعا بين ما دل على الأمر بالتيمم مطلقا وهي صحيحة أبي حمزة السابقة
وبين ما دل على اشتراط عدم الماء في جواز التيمم ، قال وانما قيدنا جواز الغسل في
المسجد مع إمكانه بمساواة زمانه لزمان التيمم أو قصوره عنه مع ان الدليل يقتضي
تقديمه مطلقا مع إمكانه لعدم القائل بتقديمه مطلقا وإلا لكان القول به متوجها.
وفيه نظر فانا لم نقف على ما يقتضي اشتراط عدم الماء في جواز التيمم لغير الصلاة ،
وايضا قد ثبت بالنصوص الصحيحة تحريم الكون للجنب في المساجد مطلقا وغاية ما علم استثناؤه
من ذلك حالة التيمم بالنص السابق فيبقى غيره مندرجا تحت العموم ، والأظهر الاقتصار
على التيمم وقوفا مع ظاهر الخبر ، وكما جاز ان يكون الأمر بالتيمم مبنيا
على الغالب من تعذر الغسل في المسجدين فيجوز ان يكون وجهه اقتضاء الغسل فيهما
إزالة النجاسة فإن مورد الخبر المحتلم وهو ملازم للنجاسة ، وقد أطلق جملة من
الأصحاب تحريم إزالتها في المساجد وصرح بعضهم بعموم المنع وان كانت الإزالة في
الكثير» انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : ما ذكره
من النظر منظور فيه ايضا من وجوه : (الأول) ـ قوله : «انا لم نقف على ما يقتضي
اشتراط عدم الماء في جواز التيمم لغير الصلاة» فإن فيه (أولا) ـ انه مردود
بالأخبار المتقدمة الدالة على عموم البدلية مثل قوله (عليهالسلام) «ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وقوله (عليهالسلام) : «هو بمنزلة الماء». ونحو ذلك من الأخبار المتقدمة مما
يقتضي وجوب التيمم مع فقد الماء عند وجوب ما لا يستباح إلا به ، وعليه الأصحاب من
غير خلاف يعرف كما تقدم في المسألة الاولى من مسائل هذا المطلب إلا منه ومن فخر
المحققين كما تقدم بيانه. و (ثانيا) ـ انه قد صرح هو نفسه في كتاب الحج في الطواف
انه يستباح بالطهارة الترابية كما يستباح بالطهارة المائية عملا بالأخبار المشار
إليها ورد على من زعم خلاف ذلك والحال في المسألتين واحدة ، قال (قدسسره) في الموضع المشار اليه : «واعلم ان المعروف من مذهب
الأصحاب استباحة الطواف بالطهارة الترابية كما يستباح بالمائية ويدل عليه عموم قوله
(عليهالسلام) في صحيحة جميل «ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل
الماء طهورا». وفي صحيحة محمد بن مسلم «هو بمنزلة الماء». وذهب فخر المحققين الى ان التيمم لا يبيح للجنب الدخول
في المسجدين ولا اللبث فيما عداهما من المساجد ومقتضاه عدم استباحة الطواف به ايضا
وهو ضعيف» انتهى. ومدافعته
__________________
(قدسسره) لكلامه في هذه المسألة أظهر من ان يخفى.
(الثاني) ـ ان
قوله : «وايضا قد ثبت بالنصوص الصحيحة. إلخ» مردود بانا متى حملنا الخبر على ما
ذكرناه آنفا من الخروج مخرج الغالب كما اعترف به أخيرا لا انه حكم كلي فلنا ان
نعمل بتلك الأخبار المستفيضة في حكم التيمم وانه لا يسوغ التيمم إلا مع العذر كفقد
الماء ، ونقول حينئذ هنا لا ريب في تحريم اللبث كما ذكره إلا ان الخبر لما دل على
جواز اللبث بقدر التيمم لعدم الماء كما حملنا عليه الخبر فلنا ان نجوز اللبث ذلك
المقدار أو أقل منه كما هو المفروض مع وجود الماء للغسل ، وبالجملة فإنا لا نسلم
العمل بالخبر المذكور إلا مع عدم وجود الماء أو لزوم أحد الأشياء المذكورة وإلا
فالواجب هو الغسل بالشرطين المذكورين ، فاستثناء هذا المقدار من الزمان مما لا
نزاع فيه وانما النزاع في ان الواجب في هذا المقدار هو التيمم مطلقا كما يدعيه أو
الغسل على الوجه المذكور.
(الثالث) ـ ان
قوله : «وكما جاز ان يكون الأمر بالتيمم مبنيا على الغالب.» ـ قاصدا بذلك الجواب
عما قدمنا ذكره من حمل الخبر على الخروج مخرج الغالب فلا يكون الحكم كليا ـ فيه (أولا)
ـ ان تحريم إزالة النجاسة في المسجد مما لم يقم عليه دليل كما صرح به هو وغيره ،
وتصريح الأصحاب به مع عدم الدليل عليه لا ينهض حجة ، واليه يشير ايضا كلامه هنا
بقوله : «وقد أطلق جملة من الأصحاب.»
و (ثانيا) ـ انه
مع تسليمه فان كان من حيث التعدي الى المسجد أو آلاته فهو لا يلزمنا لأنا قد
استثنيناه وإلا فهو مبني على تحريم إدخال النجاسة المسجد مطلقا وان لم تتعد ، وهو (قدسسره) ممن نازع في ذلك ورد على الأصحاب في بحث النجاسات من
الكتاب فكيف يحتج هنا بما نازع فيه وأبطله ورده؟ ما هذه إلا مجازفة ظاهرة. وبما
حققناه في المقام يظهر لك قوة القول المذكور وانه عار عن وصمة القصور. والله
العالم.
(الثاني) ـ ظاهر
جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبه صرح
آخرون ايضا انه لا فرق في هذا الحكم بين المحتلم وبين من أجنب في المسجد أو
دخله جنبا لاشتراك الجميع في العلة وهو تحريم قطع شيء من المسجد جنبا مع إمكان
الطهارة وعدم تعقل الفرق بين المحتلم وغيره. ويرد عليه ان مقتضى الأخبار تحريم لبث
الجنب في المسجد خرج منه المحتلم بالنصوص المتقدمة وبقي ما عداه مندرجات تحت عموم
الأخبار المذكورة ، وما ذكر من العلة ليس من قبيل العلة المنصوصة أو مفهوم
الموافقة حتى يجب انسحاب الحكم الى ما ذكروه بناء على القول بذلك فيكون من باب
القياس حينئذ ، وعدم تعقل الفرق كما ذكره لا يدل على العدم واقعا ، ولو أمكن
التيمم في أثناء الخروج من غير استلزام لزيادة الكون قيل لا يبعد وجوبه لقطع بقية
الطريق. وفيه تأمل.
(الثالث) ـ هل
تلحق بالجنب الحائض في هذا الحكم؟ الظاهر نعم وفاقا لجملة من الأصحاب لمرفوعة أبي
حمزة المتقدمة ، وأنكر ذلك المحقق في المعتبر لقطع الرواية ولانه لا سبيل لها إلى
الطهارة بخلاف الجنب ، ثم حكم بالاستحباب. واعترضه في الذكرى بأنه اجتهاد في
مقابلة النص وبالمعارضة باعترافه بالاستحباب. وأجاب عنه في الروض بان المحقق طعن
في الرواية بالقطع فلا حجة فيها فيرجع الى الاجتهاد ويصح استناد الاستحباب إلى
الرواية للتسامح في دلائل السنن.
أقول : ومرجع
هذا الاعتذار الى ان الرواية وان ضعفت بالقطع عن الدلالة على الوجوب إلا انها تصلح
دليلا للاستحباب للتسامح في أدلة السنن. وهذه القاعدة وان اشتهرت في كلامهم إلا
انها لا تخلو من المجازفة في أحكامه سبحانه ، لما علم من ان الاستحباب حكم شرعي
كالوجوب والتحريم فيتوقف على الدليل الواضح وإلا كان من قبيل القول على الله
سبحانه بغير علم ، وقد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالمنع عنه
وحينئذ فالخبر الضعيف ان كان دليلا شرعيا وجب القول بما دل عليه من وجوب أو
استحباب وإلا وجب طرحه والاعراض عنه في جميع الأبواب ، وقد تقدم في بحث الأغسال
المستحبة من هذا الباب ما فيه زيادة تذكرة لاولى الألباب.
(الرابع) ـ الأشهر
الأظهر انه لا يلحق بالمسجدين غيرهما من المساجد في شرعية التيمم للخروج ، لعدم
النص وتوقف العبادة على التوقيف ، وقرب شيخنا الشهيد في الذكرى استحباب التيمم
فيها لما فيه من القرب من الطهارة وعدم زيادة الكون فيها له على الكون له في
المسجدين ، قال في المدارك : «وهو ضعيف ودليله مزيف» أقول : والظاهر ان وجه الضعف
فيه هو ان التيمم انما شرع في المسجدين لعدم جواز المرور فيهما جنبا فأمر بالتيمم
ليكون على طهارة حال خروجه واما سائر المساجد فإنه يجوز المرور فيها جنبا مع تحريم
اللبث فيها ، واما ما ذكره من الدليل ففيه انه لا وجه لارتكاب أمر محرم لأجل
الإتيان بأمر مستحب لما ثبت من تحريم اللبث فارتكابه لأجل حصول القرب من الطهارة
الذي هو أمر مندوب اليه مما لا يكاد يعقل ، وعدم زيادة الكون فيها على الكون له في
المسجدين غير مجد نفعا في المقام لثبوت التحريم مطلقا خرج منه مورد النص في
المسجدين وبقي ما عداه داخلا تحت الإطلاق.
(الخامس) ـ مقتضى
الأخبار الواردة في هذه المسألة وكذا كلام الأصحاب انه لا ينوي بهذا التيمم
البدلية عن الغسل وانما ينوي به استباحة المرور في المسجد خاصة وعلى هذا فلا يكون
مبيحا للصلاة ونحوها ، وعلل ذلك أيضا بأنه يجب عليه الخروج عقيبه بغير فصل متحريا
أقرب الطرق.
ولشيخنا الشهيد
الثاني هنا في الروض تفصيل حسن قال : «والتحقيق ان يقال ان كان الغسل ممكنا في
المسجد ولم نقل بتقديمه على التيمم فلا إشكال في عدم اباحة هذا التيمم للإجماع على
عدم إباحة الصلاة بالتيمم مع إمكان الغسل ، وان لم يكن في المسجد فلا يخلو اما ان
يكون الغسل ممكنا خارجه كما لو كان الماء موجودا ولا مانع لهذا المتيمم من الغسل
من مرض ولا غيره ، وهنا ايضا يتوجه عدم إباحة الصلاة لأن وقوعها في المسجد ممتنع
لوجوب المبادرة إلى الخروج وبعد الخروج يتمكن من الغسل فيفسد التيمم ، وانما شرع
التيمم هنا مع إمكان الغسل خارجا لتحريم المرور في المسجدين من دون الغسل أو
التيمم
فإذا تعذر الغسل داخله فالتيمم قائم مقامه في إباحة قطع مسافته ، وان كان
الغسل متعذرا خارج المسجد فالوجه كون هذا التيمم مبيحا لعدم المانع فان التيمم مع
تعذر الطهارة يبيح ما تبيحه إلا على قول ولد المصنف من عدم اباحة دخول المساجد مطلقا
بالتيمم وسيأتي بطلانه ، ونمنع حينئذ وجوب المبادرة إلى الخروج وتحري أقرب الطرق
لان ذلك مشروط بإمكان الغسل خارج المسجد جمعا بين قولهم هنا كذلك وقولهم في باب
التيمم انه يبيح ما تبيحه المائية ومن جملة ما تبيحه المائية اللبث في المسجدين
وغيرهما فيصح حينئذ اللبث والصلاة» انتهى. وهو جيد.
والظاهر ان
مبنى الأخبار وكذا كلام الأصحاب فيما قدمنا نقله عنهما على ما هو الغالب من وجود
الماء خارج المسجد ، وحينئذ فلا يستبيح بتيممه هذا بعد الخروج من المسجد الصلاة
ولا غيرها ، واما مع تقدير هذا الفرض النادر الوقوع فالظاهر ان الحكم فيه هو ما
ذكره شيخنا المشار اليه لخروجه عن مقتضى الأخبار المذكورة واندراج ذلك في جزئيات
مسائل باب التيمم.
(المسألة
الثامنة) ـ المشهور سيما بين المتأخرين هو تحريم الطهارة وضوء أو غسلا أو تيمما في
المكان المغصوب بل نقل بعض الأفاضل الإجماع عليه جسما يظهر من اتفاقهم على ذلك في
الصلاة ، وممن صرح بالحكم المذكور شيخنا الشهيد في الألفية والذكرى والعلامة في
التذكرة والنهاية والشهيد الثاني في الروض حتى عدوا الحكم في غير الصلاة والطهارة
إلى سائر العبادات الواجبة المشتملة على فعل ، قال في الروض ـ بعد ذكر تحريم الصلاة
في المكان المغصوب مع العلم بالغصب ـ ما صورته : «ولا فرق في الصلاة هنا بين
الفريضة والنافلة ، وكما تبطل الصلاة فيه فكذا ما أشبهها من الأفعال التي من
ضرورتها المكان وان لم يشترط فيها الاستقرار كالطهارة وأداء الزكاة والخمس
والكفارة وقراءة القرآن المنذور ، اما الصوم في المكان المغصوب فقد قطع الفاضل
بجوازه لعدم كونه فعلا فلا مدخل للكون فيه. ويمكن الاشكال فيه باعتبار النية
فإنها فعل فيتوقف على المكان كالقراءة وان افترقا بكون أحدهما فعل القلب
والآخر فعل اللسان» انتهى.
وجزم في
المدارك وقبله المحقق في المعتبر وتبعهما جملة من أفاضل متأخري المتأخرين بالصحة
في الطهارة ونحوها مع جزمهم بالبطلان في الصلاة ، قال في المدارك ـ في باب التيمم
في مسألة التيمم بالتراب المغصوب ـ ما لفظه «ولو تيمم في المكان المغصوب فالأصح
انه لا يبطل تيممه إذا كان التراب المضروب عليه مباحا لتوجه النهي إلى أمر خارج عن
العبادة فإن الكون ليس من أفعال التيمم وانما هو من ضروريات الجسم» انتهى.
وقال في
المعتبر بعد ان ذكر انه لا تصح الصلاة في مكان مغصوب مع العلم بالغصب اختيارا ثم
علل ذلك بأنها صلاة منهي عنها والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، ثم قال : (لا يقال)
: هذا باطل بالوضوء في المكان المغصوب وبإزالة عين النجاسة بالماء المغصوب ، وبان
النهي يدل على الفساد حيث يكون متناولا لنفس العبادة وليس في صورة النزاع كذلك بل
النهي متناول لعارض خارج عن ماهية الصلاة فلا يكون مبطلا (لأنا نقول) : الفرق بين
الوضوء في المكان والصلاة فيه ان الكون بالمكان ليس جزء من الوضوء ولا شرطا فيه
وليس كذلك الصلاة فإن القيام جزء من الصلاة وهو منهي عنه لانه استقلال في المكان
المنهي عن الاستقلال فيه وكذا السجود ، وإذا بطل القيام والسجود وهما ركنان بطلت
الصلاة. وازالة عين النجاسة ليست بعبادة إلا مع نية التقرب وإذا جاز ان تقع غير
عبادة أمكن إزالة النجاسة وان كان المزيل عاصيا بالإزالة كما يصح ازالة عين
النجاسة من الكافر والطفل ، اما الصلاة فإنها لا تقع إلا عبادة فلا تقع صحيحة مع
النهي عنها ، وقوله النهي لم يتناول العبادة قلنا النهي يتناول العبادة بطريق
اللزوم لانه يتناول القيام والسجود ويلزم من بطلانهما بطلان الصلاة. وجرى على
منواله في المنتهى كما هي عادته غالبا من اقتفائه أثر المعتبر إلا فيما شذ وندر.
واعترضه
الشهيدان في الذكرى وشرح الألفية بأن الأفعال المخصوصة من ضرورتها
المكان فالأمر بها أمر بالكون مع انه منهي عنه.
أقول : مرجع
هذا الإيراد الى ما استدلوا به على بطلان الصلاة في المكان المغصوب كما سيأتي ان
شاء الله تعالى في كتاب الصلاة من ان الحكم بصحة الصلاة يوجب اجتماع الأمر والنهي
في شيء واحد وهو محال قطعا وما استلزم المحال باطل كما اعترف به في المدارك ، حيث
قال : لان الحركات والسكنات الواقعة في المكان المغصوب منهي عنها كما هو المفروض
فلا تكون مأمورا بها ضرورة استحالة كون الشيء الواحد مأمورا به ومنهيا عنه. وهذا
الدليل بعينه آت في الطهارة في المكان المغصوب كما ذكره الشهيدان ، فان الكون في
المكان لما كان من ضروريات الجسم وأفعاله فالأمر بتلك الأفعال أمر بالكون مع انه
منهي عنه فيلزم من القول بصحة الطهارة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وظاهرهما
موافقة المعتبر في صحة ما استدل به وفرق به بين الطهارة والصلاة وانما أوردا عليه
من طريق آخر وهو جريان الدليل الذي أبطلوا به الصلاة في المكان المغصوب في الطهارة
أيضا.
وقال شيخنا
المجلسي (قدسسره) في البحار ـ بعد نقل الفرق بين الطهارة والصلاة عن
المعتبر والمنتهى ـ ما لفظه : «والفرق بين الطهارة والصلاة في ذلك مشكل ، إذ الكون
كما انه مأخوذ في مفهوم السكون مأخوذ في مفهوم الحركة وليس الوضوء والغسل إلا
حركات مخصوصة ، وليس المكان منحصرا فيما يعتمد عليه الجسم فقط فان الملك والأحكام
الشرعية لا تتعلق به خاصة بل يعم الفراغ الموهوم أو الموجود فكل منهما عبارة عن
الكون أو مشتمل عليه» ومحصله ان الصلاة كما انها عبارة عن حركات مخصوصة من قيام
وقعود وركوع وسجود وانتقالات من حال إلى أخرى فكذلك الوضوء والغسل عبارة عن حركات
مخصوصة وان كانت هذه الحركات انما هي في المكان الذي هو عبارة عن الفراغ الذي
يشغله الإنسان دون ما يعتمد عليه وإطلاق المكان والكون شامل لكل منهما ، فعين ما
قالاه في الصلاة ـ من ان القيام والسجود ونحوهما
منهي عنها والنهي يقتضي الفساد ـ يقال في حركات الوضوء والغسل من رفع اليد
ووضعها وامرارها على الجسد وقيامه ونحو ذلك أنها منهي عنها لأنها تصرف في المكان
المغصوب ، وهي وان لم تكن جزء من الطهارة إلا انها شرط فيها ولازم لها لا تتم
بدونه والنهي عنها موجب لبطلان الطهارة البتة ، فيكون الحكم في الطهارة والصلاة
واحدا ولا يظهر لهذا الفرق الذي ذكراه معنى محصل.
وسيأتي ان شاء
الله تعالى تمام القول في هذه المسألة في كتاب الصلاة عند تحقيق القول في حكم
الصلاة في المغصوب وما وقع من الخلاف في المقام وما اشتمل عليه من النقض والإبرام
وبيان ما هو المختار عندي في كل من المسألتين. والله العالم.
(المسألة
التاسعة) ـ الظاهر انه لا خلاف في استحباب التيمم للنوم ولو مع وجود الماء ، ويدل
عليه ما رواه الصدوق والشيخ عن الصادق (عليهالسلام) قال : «من تطهر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده فان
ذكر انه على غير وضوء فليتيمم من دثاره كائنا ما كان فان فعل ذلك لم يزل في صلاة
ما ذكر الله تعالى».
والمشهور بين
الأصحاب ـ بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ـ جوازه كذلك للجنازة واحتج عليه بموثقة
سماعة قال : «سألته عن رجل مرت به جنازة وهو على غير طهر كيف يصنع؟ قال يضرب
بيديه على حائط اللبن فيتيمم به». وقيده ابن الجنيد بخوف فوت الصلاة ، وقال في
المعتبر بعد نقل قول الشيخ : «وفيما ذكره الشيخ إشكال ، اما الإجماع فلا نعلمه كما
علمه ، واما الرواية فضعيفة من وجهين : (أحدهما) ـ ان زرعة وسماعة واقفيان. و (الثاني)
ـ ان المسؤول في الرواية مجهول ، فاذن التمسك باشتراط عدم الماء في جواز التيمم
أصل ، ولأن الرواية ليست صريحة في الجواز مع وجود الماء ، لكن لو قيل إذا فاجأته
الجنازة وخشي فوتها مع الطهارة تيمم لها كان حسنا لأن الطهارة لما لم
__________________
تكن شرطا وكان التيمم أحد الطهورين فمع خوف الفوت لا بأس بالتيمم لان حال
المتيمم أقرب الى شبه المتطهرين من الخالي منه» انتهى. وهو راجع الى مذهب ابن
الجنيد في المسألة ، وأجاب عنه الشهيدان في الذكرى والروض انه مردود بحجية الإجماع
المنقول بخبر الواحد ، وضعف الرواية مجبور بعمل الأصحاب بها وهي ظاهرة في المراد.
ومن اخبار
المسألة أيضا ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل تدركه الجنازة وهو على غير وضوء فان ذهب
يتوضأ فاتته الصلاة؟ قال يتيمم ويصلي». ويمكن الاستدلال بهذه الرواية لابن الجنيد
إلا ان التقييد بخوف الفوت انما وقع في كلام السائل.
وبالجملة فإنه
لا ريب في الاستحباب في الموضعين المذكورين للأخبار المتقدمة ، وانما الكلام في
انه هل يستحب في كل موضع يستحب فيه الوضوء أو الغسل مطلقا أم لا؟ قد صرح جملة من
الأصحاب : منهم ـ الشهيدان والمحقق الشيخ علي بأنه لا إشكال في استحبابه إذا كان
المبدل رافعا إنما الإشكال فيما عدا ذلك ، قال في الروض بعد حكمه بالبدلية عن
الرافع : وهل يستحب بدلا عن غير الرافع كنوم الجنب وذكر الحائض؟ يحتمله لحلوله محل
الرافع فغيره اولى ، والعدم لعدم النص. ويستحب ايضا بدلا عن غسل الإحرام مع تعذره
، وهل يستحب بدلا عن غيره؟ وجهان أرجحهما العدم لعدم النص ، وعلى القول برفع الغسل
المندوب الحدث كما ذهب اليه المرتضى لا إشكال في الاستحباب ويكون مبيحا للصلاة.
انتهى. وقال في المدارك : هل يستحب التيمم بدلا عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه
وجهان أظهرهما العدم وان قلنا انه رافع لعدم النص ، وجزم جدي (قدسسره) بالاستحباب على هذا التقدير ، وهو مشكل. انتهى.
أقول : الظاهر
من كلامهم ـ كما أشرنا إليه ـ انه لا إشكال في البدلية عن الرافع غسلا كان أو وضوء
استنادا إلى إطلاق النصوص الدالة على البدلية ، فإن الظاهر ـ من
__________________
قوله (عليهالسلام) في بعضها «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي
آخر «هو بمنزلة الماء». وفي ثالث «هو أحد الطهورين». ونحو ذلك ـ هو انه في كل موضع تكون
الطهارة المائية رافعة مبيحة للصلاة فإن التيمم يقع بدلا عنها فحيثما ثبتت الطهارة
المائية ثبتت البدلية ، إنما الإشكال فيما لو لم يكن كذلك كوضوء الحائض للذكر ونوم
الجنب والأغسال المستحبة على المشهور من عدم كونها رافعة ، وحينئذ فتوقفه في
المدارك في البدلية عن الغسل المستحب على تقدير كونه رافعا لعدم النص لا وجه له ،
لانه وان لم يرد بذلك نص على الخصوص إلا انه داخل تحت إطلاق الأخبار المذكورة وهو
كاف في الاستدلال. وظاهر كلام شيخنا في الروض ورود النص ببدلية التيمم عن غسل
الإحرام خاصة من بين الأغسال المستحبة ، ولم أقف عليه فيما حضرني من كتب الاخبار.
وممن ناقش في
هذا الحكم على إطلاقه أيضا الفاضل الخوانساري في شرحه على الدروس حيث قال ـ بعد
قول المصنف : ويستحب التيمم بدلا من الوضوء المستحب الرافع ـ ما هذا لفظه : «في
هذا الحكم على إطلاقه نظر بل استحباب التيمم انما يكون فيما فيه نص أو إجماع أو
شهرة وليس كذلك كل ما يستحب فيه الوضوء الرافع كما هو الظاهر ، نعم ما ورد فيه
الأمر الاستحبابي بالطهارة مطلقا كما ورد في دخول المساجد لم يبعد ايضا الحكم
باستحباب التيمم حال فقدان الماء لأنه طهور ايضا» انتهى. وملخصه انه ينبغي ملاحظة
الدليل في جزئيات الأحكام فان دل على انه مما يستحب فيه الطهارة فلا إشكال في استحباب
التيمم بدلا عنه لظاهر قوله سبحانه : «وَلكِنْ يُرِيدُ
__________________
لِيُطَهِّرَكُمْ» وإطلاق الأخبار المتقدمة بالتقريب المذكور ذيلها ، وان
دل على انه مما يستحب فيه الوضوء أو الغسل فان التيمم لا يستحب بدلا عنه إلا بدليل
، لعدم الملازمة بين خصوصية هذين الفردين وبين التيمم بخلاف الأول لاشتراكهما في
كلية الطهارة وما يتراءى من حديث ابي ذر وقوله (صلىاللهعليهوآله) : «يجزيك التراب عشر سنين». ونحوه فهو مقصور على مورده
من الطهارة للصلاة.
وهذا الكلام
وان كان بحسب الظاهر وبادئ الرأي مما يتراءى قوته إلا انه بالتأمل فيه بعين
التحقيق لا يخلو من نظر لتطرق المناقشة اليه ، وذلك فان الظاهر من اخبار هذه
الأفراد التي وردت الأخبار باستحباب الوضوء أو الغسل لها انما هو من حيث إرادة
إيقاعها على الوجه الأكمل بالطهارة الموجبة لزوال الحالة الحديثة ، وهذا المعنى لا
يتفاوت فيه التعبير بلفظ الطهارة أو لفظ الوضوء إذ المرجع إلى أمر واحد كما عرفت
وهو ازالة تلك الحالة وإيقاع الفعل أو الكون على تلك الحالة الكاملة ، ولهذا عبر
في اخبار تلك الموارد بلفظ الطهارة في بعض ولفظ الوضوء في بعض ، ففي رواية مرازم ابن
حكيم المروية في المجالس بالنسبة إلى استحباب الوضوء لدخول المساجد قال : «ومن
أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه». وفي مرسلة الفقيه «طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي». ورواية محمد بن الفضيل المروية في قرب الاسناد بالنسبة الى قراءة القرآن قال :
«لا حتى تتوضأ للصلاة». وفي حديث الأربع مائة «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهر حتى يتطهر». وفي رواية محمد بن
كردوس بالنسبة
__________________
الى النوم «من تطهر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده». وفي رواية محمد
بن مسلم المروية في الخصال والعلل «لا ينام المسلم وهو جنب ولا
ينام إلا على طهور فان لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فان روح المؤمن تصعد الى الله
تعالى فيلقاها ويبارك عليها. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ صريح في استحباب التيمم
بدلا عن الغسل المستحب ، الى غير ذلك من الأخبار الواردة باستحباب الوضوء في تلك
المواضع المذكورة في كلام الأصحاب المشتملة على التعبير بلفظ الطهارة أو الوضوء.
وينبغي القول بذلك ايضا فيما كان من الأغسال ـ بناء على كونها رافعة كما هو الأظهر
ـ مقصودا به الرفع كالأغسال الفعلية بالتقريب المتقدم ، ونحوها الأغسال المكانية ،
وفي دخول الأغسال الزمانية بناء على القول المذكور كما يقول الأصحاب احتمال.
وبالجملة فإنه حيث ان هذه الثلاثة أعني الوضوء والغسل والتيمم قد اشتركت في عنوان
الطهارة وان المقصود منها ذلك سواء عبر عن ذلك في كل منها بهذا العنوان أو بخصوصية
ذلك الفرد فحيثما تعذرا كان قائما مقامهما وبدلا منهما ، وتخرج الأخبار المتقدمة
ونحوها شاهدا على ذلك من خبر ابي ذر ونحوه ، فان المعنى المتبادر من قوله (صلىاللهعليهوآله) : «يجزيك الصعيد عشر سنين». انما هو في كل موضع توقف
على الطهارة وجوبا أو استحبابا ، ومن ذلك يظهر قوة القول المشهور. نعم ما ذكروه من
التفصيل والمناقشة جيدة بالنسبة الى ما يجب له الوضوء أو الغسل كما أشار إليه
السيد السند في المدارك وان كان كلامه هنا لا يخلو من خلل وقصور كما أوضحناه في
شرحنا على الكتاب المذكور. والله العالم.
(المسألة العاشرة)
ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبه صرح الشيخ في الخلاف انه إذا تيمم
الجنب بدلا من الغسل ثم أحدث أعاد التيمم بدلا من الغسل سواء كان حدثا أصغر أو
أكبر ، للإجماع المدعى من الشيخ والمحقق في المعتبر على ان التيمم لا يرفع الحدث
ولهذا إنما ينوي به الاستباحة دون الرفع ، وقد تقدم
__________________
الكلام في هذه المسألة في المقام الأول من المطلب الثالث ، وحينئذ فمتى
أحدث زالت الاستباحة وعاد حكم الحدث الأول فيجب التيمم بدلا من الغسل وجد ماء
للوضوء أو لم يجد ، ويدل على بقاء الجنابة وعدم ارتفاعها إلا بالغسل قول ابي جعفر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة «ومتى أصبت الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا والوضوء ان لم تكن جنبا». واستدل
في المختلف لهذا القول بصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام)
«في رجل أجنب
في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به؟ قال يتيمم ولا يتوضأ». وفيه ما أوضحناه في الفرع
العاشر من الفروع المذكورة في المطلب الأول وعن المرتضى في شرح الرسالة ان الجنب إذا تيمم ثم أحدث
حدثا أصغر فوجد ما يكفيه للوضوء توضأ به فان حدثه الأول قد ارتفع وجاء ما يوجب
الصغرى وقد وجد من الماء ما يكفي لها فيجب عليه استعماله ولا يجزئه تيممه. انتهى.
ومقتضاه انه لو لم يجد الماء تيمم بدلا من الصغرى خاصة. ورد هذا القول بناء على
المشهور بدعوى الإجماع ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ على عدم رفع التيمم الحدث ، فقوله
ان الحدث الأول قد ارتفع باطل. واعتذر عنه في الذكرى بأنه يمكن ان يريد بارتفاع
حدثه استباحة الصلاة وان الجنابة لم تبق مانعة فلا ينسب الى مخالفة الإجماع.
واعترضه في الروض بعد تضعيفه لمذهب المرتضى بمخالفته الإجماع بأن هذه الإرادة لا
تدفع الضعف لأن الاستباحة إذا لم تستلزم الرفع فبطلانها بالحدث يوجب تعلق حكم
الحدث الأول. وهو جيد فان مقتضى كلام المرتضى ان حكم هذا الحدث في هذا الموضع حكمه
بعد الطهارة المائية في كونه موجبا للصغرى لا انه موجب لعود الحدث الأول كما
يقولون به ، وهذا لا يتم إلا على تقدير كون التيمم قد رفع الحدث الأول وازاله لا
على انه انما حصلت به الاستباحة وان كان
__________________
الحدث باقيا واي وجه للوضوء في كلامه مع بقاء حدث الجنابة؟ وبالجملة فحمل
الرفع في كلامه على الاستباحة غير جيد.
والسيد السند
في المدارك ـ بناء على ما اختاره من القول بترادف الرفع والاستباحة وانه لا مانع
من نية الرفع بالتيمم بان يراد الرفع إلى غاية وجود الماء كما هو القول الآخر في
المسألة المتقدمة في الموضع المشار اليه آنفا وحمل الرفع في عبارة المرتضى على هذا
المعنى ـ أجاب عن كلام السيد (قدسسره) فقال : وجوابه المنع من ارتفاع الحدث السابق الى ان
يتمكن من الغسل بل القدر المتحقق ارتفاعه الى ان يحصل أحد الأمرين اما التمكن من
الغسل أو الحدث ومع حصول أحدهما ينتهي الرفع ويظهر اثر الحدث السابق انتهى.
أقول : لقائل
أن يقول بناء على ما اختاره من كون التيمم رافعا إلى غاية لا ريب انه قد قام
الدليل على ان وجود الماء موجب لنقض التيمم وعود الحدث السابق كما تدل عليه صحيحة
زرارة المذكورة وحينئذ فالتيمم يكون رافعا إلى غاية وجود الماء ، واما الحدث
الأصغر فلم يقم دليل على انه بهذه المثابة وانما القدر المتحقق هو نقضه للتيمم على
حسب نقضه للطهارة المائية ورفعها وإيجاب مسببه لا عود الحدث الأول حتى كأن لم يكن
ثمة طهارة كما هو المفروض في نقض وجود الماء للتيمم ، ومن ثم أوجب المرتضى هنا
الوضوء إذا وجد الماء لان حدث الجنابة عنده قد ارتفع بالتيمم الى وجود الماء ،
وبالجملة فدعوى ان الحدث حكمه هنا حكم الماء في عود الحدث الأول بعروضه تحتاج الى
دليل وليس فليس ، وبذلك يظهر قوة ما ذهب اليه المرتضى (رضياللهعنه) الا انه لما كانت المسألة عارية عن النص الواضح فالاحتياط
فيها مما لا ينبغي تركه بحال ، والى ما ذكرناه من تقوية قول المرتضى (رضياللهعنه) يميل كلام الفاضل الخراساني في الذخيرة.
وبالجملة
فالظاهر ان الخلاف في هذه المسألة متفرع على الخلاف في المسألة التي قدمناها
في الموضع المشار اليه آنفا والقول المشهور في هذه المسألة جار على القول
المشهور ثمة ، فإن حكمهم بإعادة التيمم بدلا من الغسل متى أحدث انما هو من حيث ان
التيمم انما أفاد رفع المنع خاصة واباحة الدخول في العبادة وان كان الحدث باقيا
وما ذهب اليه المرتضى جار على القول الآخر من الرفع بالتيمم وان كان الرفع انما هو
الى غاية وجود الماء ، وكلام السيد (قدسسره) وان كان مطلقا إلا انه يجب تقييده بما ذكرنا صونا له
عن الخروج عن مقتضى النص الصحيح المتقدم ، وحينئذ فالتيمم عنده رافع الى وجود
الماء. واما الحدث الأصغر بعد التيمم فقد عرفت ان الحكم فيه عنده حكمه مع طروه على
الطهارة المائية.
والمحدث
الكاشاني في المفاتيح ـ بعد ان صرح بان القول المشهور مبني على كون التيمم انما
يحصل به الإباحة دون الرفع ـ قال : «على انه لو قيل ان التيمم انما يفيد الإباحة
دون الرفع فالإباحة بالتيمم الأول ثابتة فيستصحب حكمها حتى يعلم رفعها والمعلوم
قطعا مانعية الأصغر لا عود الأكبر» انتهى. وهو جيد بناء على القول بحجية الاستصحاب
كما عليه جمهور الأصحاب ، واما من لا يراه دليلا شرعيا كما حققناه في مقدمات
الكتاب فلا يتجه عنده هذا الكلام إلا انه صالح للإلزام. والله العالم.
(تم الجزء
الرابع من كتاب الحدائق الناضرة ، ويتلوه الجزء الخامس في الطهارة من النجاسات وما
يتبعها من ذكر النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني والجلود. والحمد لله أولا وآخرا).
فهرس الجزء الرابع
من كتاب الحدائق الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب تكفين الميت
|
٢
|
لا يجوز التكفين بالمغصوب حتى مع الضرورة
|
١٩
|
فضل تكفين الميت
|
٢
|
هل يجوز بالحرير والجلد والنجس في حال
الضرورة؟
|
١٩
|
استحباب اعداد الانسان كفنه
|
٢
|
كيفية التكفين
|
٢٠
|
المشهور ان الكفن مئزر وقميص وازار
|
٢
|
كيفية التكفين
|
٢١
|
الاشكال على المشهور
|
٣
|
هل يجب استيعاب كل المسجد بالمسح؟
|
٢٤
|
دفع الاشكال
|
٣
|
مقدار الكافور للتحنيط
|
٢٤
|
الاخبار الواردة في بيان الكفن
|
٥
|
هل التقديرات الواردة في الاخبار
للكافور على جهة الوجوب؟
|
٢٥
|
عبائر الأصحاب في بيان الكفن
|
١١
|
الحد الأوسط والأقل في الكافور للحنوط
|
٢٦
|
لو لم يوجد إلا ثوب واحد
|
١٤
|
المراد بالمثاقيل الواقعة في الروايات
|
٢٦
|
هل يتعين القيمص أو يتخير بينه وبين
لفافة ثانية؟
|
١٦
|
هل يدخل كافور الغسل في المقدار الذي
ورد للحنوط؟
|
٢٦
|
المعتبر في جنس الأثواب
|
١٦
|
تقدير القدر الاعلى للحنوط بالمثقال
الشرعي والصيرفي
|
٢٧
|
لا يجوز التكفين بالحرير المحض
|
١٧
|
تعارض الروايات في جانب الأقل والوسط
|
٢٧
|
هل يجوز التكفين بالجلد؟
|
١٩
|
|
|
التكفين بالمتخذ من الشعر والوبر
|
١٩
|
|
|
لا يجوز التكفين بالنجس
|
١٩
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
تعريف الكافور
|
٢٧
|
استحباب طي جانب اللفافة الأيسر على
الأيمن والأيمن على الأيسر
|
٤٨
|
استحباب زيادة الحبرة للرجل أو مطلقا
"
|
٢٨
|
استحباب كتابة شهادة الميت بالتوحيد
والرسالة على الكفن
|
٤٩
|
استحباب النمط للمرأة
|
٣٢
|
استحباب كتابة دعاء الجوشن الكبير على
الكفن
|
٤٩
|
استحباب الخرقة لشد الفخذين
|
٣٣
|
استحباب ان يكون الكفن قطنا "
وان يكون أبيض الا الحبرة
|
٥٠
|
استحباب العمامة للرجل وتحنيكه بها
|
٣٥
|
هل يستحب خياطة الكفن بخيوط منه؟
|
٥١
|
استحباب الخمار للمرأة
|
٣٦
|
استحباب سحق الكافور باليد وجعل ما
يفضل من المساجد على الصدر.
|
٥١
|
استحباب الخرقة لشد الثديين في المرأة
|
٣٦
|
استحباب نثر الذريرة على الحبرة
واللفافة والقميص
|
٥٢
|
استحباب تنشف الميت بثوب طاهر
|
٣٦
|
استحباب تجويد الكفن
|
٥٢
|
استحباب اغتسال الغاسل أو توضئه قبل
التكفين
|
٣٧
|
استحباب وضع التربة الحسينية في
الحنوط
|
٥٣
|
استحباب وضع جريدتين خضر أو ين مع
الميت
|
٣٨
|
كراهة التكفين بالسواد
|
٥٣
|
استحباب كون الجريدتين من النخل
|
٤١
|
كراهة التكفين بالكتان
|
٥٤
|
مقدار الجريدة التي توضع مع الميت
|
٤٢
|
هل يكره الطيب للميت؟
|
٥٤
|
محل وضع الجريدتين
|
٤٤
|
هل يكره تجمير الكفن؟
|
٥٦
|
لا فرق في استحباب الجريدة بين افراد
الميت
|
٤٦
|
كراهة اتخاذ الأكمام للقميص المبتدأ
|
٥٧
|
وضع الجريدة في حال التقية حيث يمكن
|
٤٧
|
|
|
هل يستحب شق الجريدة؟
|
٤٧
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
كراهة جعل الحنوط في سمع الميت وبصره
|
٥٨
|
كفن الرجل يؤخذ من أصل تركته
|
٦٦
|
كراهة الكتابة على الكفن بالسواد
|
٥٩
|
لو لم يكن له مال
|
٦٦
|
هل يكره بل الخيوط التي يخاط بها
الكفن بالريق؟
|
٥٩
|
استحباب ان يكون الكفن من خالص المال
وطهوره
|
٦٧
|
هل يكره قطع الكفن بالحديد؟
|
٦٠
|
وجوب دفن الميت
|
٦٧
|
خروج النجاسة من الميت بعد الغسل
وملاقاتها لجسده خاصة
|
٦٠
|
الحد الواجب من الدفن
|
٦٧
|
خروج النجاسة من الميت بعد الغسل
وملاقاتها لكفنه قبل وضعه في القبر
|
٦١
|
وجوب الحفر للدفن اختيارا "
|
٦٨
|
خروج النجاسة من الميت بعد الغسل
وملاقاتها لكفنه بعد وضعه في القبر
|
٦٢
|
وجوب توجيه الميت عند الدفن إلى
القبلة على يمينه
|
٦٨
|
كفن المرأة على زوجها
|
٦٣
|
المواضع المستثناة من وجوب الاستقبال
حال الدفن
|
٦٩
|
هل تجب مؤنة تجهيز المرأة غير الكفن
على الزوج؟
|
٦٥
|
حكم من يموت في البحر
|
٧٠
|
هل يختص الحكم بالزوجة الدائمة وكذا
بالمطيعة؟
|
٦٥
|
فضل تشييع الميت
|
٧١
|
لا يلحق بالزوجة غيرها من واجبي
النفقة إلا المملوك
|
٦٥
|
سنة التشييع المشي وراء الجنازة أو
إلى أحد جانبيها
|
٧٢
|
وجوب الكفن على الزوج مشروط بيساره
|
٦٥
|
ينبغي للمشيع ذكر الموت والتفكر في
مآله
|
٧٥
|
لو ذهب الميت وبقي الكفن
|
٦٦
|
النهي عن قول المشيع : ارفقوا به
وترحموا عليه.
|
٧٦
|
|
|
هل يكره جلوس المشيع حتى يوضع الميت
في قبره؟
|
٧٧
|
|
|
كراهة الاسراع بالجنازة
|
٧٨
|
|
|
كراهة ركوب المشيع حال التشييع
|
٧٩
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
استحباب الدعاء بالمأثور عند رؤية
الجنازة وحملها
|
٧٩
|
والمرأة عرضا
|
١٠٥
|
كراهة رجوع المشيع قبل الدفن إلا بإذن
الولي
|
٨١
|
الاخبار المشتملة على الآداب المقارنة
للدفن
|
١٠٦
|
النهي عن حمل ميتين على سرير
|
٨٢
|
ما يستحب في الملحد من الهيئة
|
١١٠
|
كراهة اتباع الجنازة بنار
|
٨٣
|
استحباب جعل وسادة من تراب للميت
|
١١١
|
هل يكره اتباع النساء الجنازة؟
|
٨٤
|
استحباب وضع التربة الحسينية مع الميت
|
١١١
|
تميز صاحب المصيبة عن غيره
|
٨٥
|
من ينزل مع الميت في القبر
|
١١٣
|
عدم استحباب القيام لمن مرت به جنازة
|
٨٧
|
تغطية القبر حال الدفن
|
١١٤
|
استحباب النعش للميت
|
٨٩
|
استحباب الوضوء للملحد
|
١١٥
|
لو دعي إلى جنازة ووليمة قدم الجنازة
|
٩٠
|
فرش القبور بالساج
|
١١٧
|
استحباب اعلام المؤمنين بموت المؤمن
|
٩٠
|
استحباب الخروج من قبل رجلي القبر
|
١١٨
|
استحباب التربيع في حمل النعش
|
٩١
|
استحباب تشريج اللحد باللبن والطين
|
١١٩
|
الكيفية الراجحة في التربيع
|
٩٢
|
استحباب اهالة التراب عليه وطم القبر
|
١٢٠
|
مقدار ما يحفر القبر
|
٩٨
|
كراهة الدفن بغير تراب القبر
|
١٢١
|
هل اللحد أفضل من الشق؟
|
٩٩
|
كراهة اهالة ذي الرحم التراب
|
١٢٢
|
وضع جنازة الرجل عند الوصول إلى القبر
على الأرض مما يلي رجليه والمرأة مما يلي القبلة
|
١٠١
|
استحباب تربيع القبر وتسطيحه ورفعه عن
الأرض أربع أصابع ورشه بالماء
|
١٢٢
|
نقل الميت إلى القبر في ثلاث دفعات
|
١٠٢
|
كيفية رش الماء على القبر
|
١٢٥
|
ارسال الرجل إلى القبر سابقا "
برأسه
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
استحباب وضع اليد على القبر مستقبل
القبلة والدعاء بالمأثور
|
١٢٦
|
شق الثوب على الميت
|
١٥١
|
استحباب التلقين بعد الدفن
|
١٢٨
|
استحباب التعزية
|
١٥٤
|
هل يعتبر اذن الولي في التلقين؟
|
١٢٩
|
جواز التعزية قبل الدفن وبعده
|
١٥٦
|
كيفية وقوف الملقن
|
١٢٩
|
هل للتعزية حد معين؟
|
١٥٧
|
هل يستحب تلقين الأطفال ونحوهم
|
١٣٠
|
التعزية لجميع أهل المصيبة
|
١٥٨
|
تجصيص القبور والبناء عليها
|
١٣٠
|
الأفضل في التعزية ما هو المأثور
|
١٥٩
|
حديث من جدد قبرا " ...
|
١٣٢
|
استحباب الاطعام عن أهل المصيبة
|
١٦٠
|
النظر في كلام الصدوق في المقام
|
١٣٥
|
الاكل من طعام أهل المصيبة
|
١٦١
|
استحباب وضع الحصباء على القبر
|
١٣٧
|
لا يستحب لأهل الميت ان يضعوا طعاما
" ويجمعوا الناس عليه
|
١٦١
|
استحباب وضع لبنة أو لوح عند رأسه
|
١٣٨
|
لو دعت الحاجة إلى ذلك جاز
|
١٦٢
|
الجلوس على القبر والمشي عليه والصلاة
عليه واليه والاستناد إليه
|
١٣٨
|
الامر بالاطعام في الثلاثة يتوجه إلى
الجيران والأقرباء
|
١٦٢
|
بناء المساجد عند القبور
|
١٣٩
|
جواز البكاء على الميت
|
١٦٢
|
دفن ميتين في قبر واحد ابتداء
|
١٤١
|
هل يجوز النوح على الميت؟
|
١٦٥
|
هل يجوز نبش القبر ودفن الميت آخر مع
الميت الأول؟
|
١٤١
|
استحباب زيارة القبور
|
١٦٩
|
حرمة نبش القبر
|
١٤٣
|
تأكد استحباب زيارة القبور في بعض
الأيام
|
١٧٠
|
الموارد المستثناة من حرمة النبش
|
١٤٣
|
استحباب وضع الزائر يده على القبر
مستقبل القبلة وقراءة القدر سبعا والدعاء بالمأثور
|
١٧١
|
نقل الميت بعد الدفن
|
١٤٦
|
هل يختص استحباب زيارة القبور بالرجال؟
|
١٧٢
|
نقل الميت قبل الدفن
|
١٤٨
|
|
|
نقل الميت إلى المواضع الشريفة
|
١٤٩
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
هل المستحب وضع اليدين معا "؟
|
١٧٣
|
غسل ليلة الفطر
|
١٩١
|
كلام العلامة في المنتهى
|
١٧٣
|
غسل التوبة
|
١٩١
|
هل يستحب خلع النعال عند دخول المقابر؟
|
١٧٤
|
التوبة التي يستحب معها الغسل
|
١٩٤
|
كراهة الضحك بين القبور
|
١٧٤
|
غسل قتل الوزغ
|
١٩٥
|
هل يكره المشي على القبور؟
|
١٧٥
|
غسل رؤية المصلوب
|
١٩٧
|
استحباب احتساب موت الأولاد والصبر
على ذلك
|
١٧٥
|
التسامح في أدلة السنن
|
١٩٨
|
ما يلحق الميت من الثواب وتخفيف
العقاب بما قدمه ويهدى إليه من الأعمال
|
١٧٧
|
الغسل عند صلاة الحاجة وصلاة
الاستخارة
|
٢٠٣
|
الاخبار المشتملة على الأغسال
|
١٧٩
|
غسل يوم الغدير
|
٢٠٥
|
ما هو الواجب من هذه الأغسال
|
١٨٢
|
غسل ليلة النصف من شعبان
|
٢٠٦
|
المراد بالغسل عند تغسيل الميت
وتكفينه في بعض الاخبار
|
١٨٢
|
غسل ليلة النصف من رجب ويوم المبعث
|
٢٠٦
|
المراد من غسل الزيارة في هذه الاخبار
|
١٨٣
|
الغسل لقضاء صلاة الكسوف عند تركها
عمدا " واحتراق القرص
|
٢٠٧
|
الأغسال المتعلقة بالحج
|
١٨٣
|
الغسل لاخذ التربة الشريفة
|
٢١٢
|
غسل يومي العيدين
|
١٨٥
|
الغسل يوم النيروز
|
٢١٢
|
أغسال شهر رمضان
|
١٨٦
|
فضل يوم النيروز
|
٢١٣
|
غسل زيارة النبي (ص) والأئمة
|
١٨٨
|
فضل يوم النيروز
|
٢١٧
|
غسل المولود حين الولادة
|
١٨٩
|
وقت غسل الجمعة
|
٢٢٥
|
غسل المباهلة
|
١٩٠
|
قضاء غسل الجمعة
|
٢٢٨
|
غسل الاستسقاء
|
١٩١
|
تقديم غسل الجمعة
|
٢٣١
|
|
|
تفسير كلام للصدوق في المقام
|
٢٣٢
|
|
|
الغسل أما للزمان أو للفعل أو للمكان
|
٢٣٤
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
ما ذكره الفقهاء من الأغسال غير ما
تقدم
|
٢٣٥
|
من كان الماء موجودا " عنده فأخل
باستعماله
|
٢٥٨
|
هل يقضى غسل ليالي الافراد الثلاث في
شهر رمضان؟
|
٢٣٧
|
من وجد من الماء ما ما لا يكفيه
لطهارته
|
٢٦٠
|
إعادة الغسل وعدمها بوقوع الحدث بعده
|
٢٣٨
|
من وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة
إلا بمزجه بالمضاف
|
٢٦٢
|
تحقيق في آية التيمم
|
٢٤٠
|
دوران الامر بين الطهارة المائية
وإزالة النجاسة
|
٢٦٣
|
من مسوغات التيمم عدم وجود الماء
|
٢٤٧
|
من مسوغات التيمم عدم الوصلة إلى
الماء
|
٢٦٤
|
لا يشرع التيمم إلا بعد طلب الماء
|
٢٤٨
|
من عدم الثمن فهو كمن عدم الماء وكذا
ان وجده بثمن يضر بحاله
|
٢٦٤
|
حد طلب الماء
|
٢٤٩
|
وجدان الثمن لشراء الماء مع عدم الضرر
|
٢٦٤
|
الطلب قبل الوقت
|
٢٥٢
|
فقد الآلة التي يتوصل بها إلى الماء
|
٢٦٨
|
وجوب الطلب مشروط باحتمال الظفر
|
٢٥٢
|
من منعه الزحام يوم الجمعة أو يوم
عرفة من الخروج للوضوء
|
٢٦٨
|
وجوب السعي إلى الماء ما دام الوقت في
فرض اليقين
|
٢٥٣
|
ايراد المجلسي على القول بوجوب شراء
الماء
|
٢٧١
|
عدم وجوب الطلب عند الخوف
|
٢٥٤
|
اختلاف النسخ في صحيحة صفوان الدالة
على وجوب شراء الماء
|
٢٧١
|
صحة الصلاة بالتيمم على تقدير الاخلال
بالطلب
|
٢٥٤
|
جريان حكم الماء في آلة تحصيله من
الدلو والرشاء
|
٢٧٢
|
وجدان الماء بعد الصلاة في ضيق الوقت
والاخلال بالطلب
|
٢٥٦
|
|
|
من نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم
|
٢٥٧
|
|
|
من كان معه ماء فاراقه قبل الوقت أو
مر بماء فلم يتطهر قبل الوقت
|
٢٥٧
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
المراد بالحال المعتبرة في الضرر
|
٢٧٢
|
بالبرودة
|
٢٨٨
|
المراد بالحال المعتبرة في الضرر
|
٢٧٣
|
هل يفرق بين الجبائر والقروح
المستوعبة وغير المستوعبة؟
|
٢٨٨
|
هل يفرق بين هبة الماء واعارته وبين
هبة الثمن في وجوب القبول وعدمه؟
|
٢٧٣
|
هل يفرق بين الجبائر والقروح
المستوعبة وغير المستوعبة؟
|
٢٨٩
|
من مسوغات التيمم الخوف
|
٢٧٤
|
هل يفرق بين الجبائر والقروح
المستوعبة وغير المستوعبة؟
|
٢٩٠
|
من مسوغات التيمم الخوف
|
٢٧٤
|
لو كان معه إناءان طاهر ونجس وخشي
العطش
|
٢٩٠
|
الخوف على العرض والبضع والخوف من
الفاحشة
|
٢٧٥
|
حرمة اكل النجس وشربه
|
٢٩١
|
خوف المرض الشديد
|
٢٧٦
|
هل ينتقل إلى التيمم عند خوف حدوث
الشين؟
|
٢٩٢
|
هل يفرق بين متعمد الجنابة وغيره في
التيمم لخوف المرض؟
|
٢٧٧
|
هل يكفى صدق الأرض فيما يتيمم به أو
يعتبر خصوص التراب؟
|
٢٩٣
|
هل تجب الإعادة على متعمد الجنابة المريض
على القول بالتيمم؟
|
٢٨٤
|
هل يجوز التيمم بكل ما يكون من جنس
الأرض؟
|
٢٩٦
|
هل ينتقل فر ض صاحب الرمد إلى التيمم؟
|
٢٨٥
|
هل يجوز التيمم بالحجر الخالي من
الغبار؟
|
٢٩٧
|
هل ينتقل فر ض صاحب الرمد إلى التيمم؟
|
٢٨٦
|
هل يجوز التيمم بأرض الجص والنورة؟
|
٢٩٩
|
المرجع في معرفة الضرر
|
٢٨٧
|
هل يجوز التيمم بالخزف؟
|
٣٠١
|
هل يجزئ الوضوء أو الغسل إذا كان
الفرض هو التيمم
|
٢٨٨
|
مراتب ما يتيمم به
|
٣٠٢
|
إذا أمكن تسخين الماء للمتضرر
|
|
كيفية التيمم بالوحل
|
٣٠٥
|
|
|
هل يتخير بين مواضع الغبار أو هي
مترتبة؟
|
٣٠٦
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
هل يتخير بين مواضع الغبار أو هي
مترتبة؟
|
٣٠٦
|
في التيمم
|
٣٣٠
|
هل يجوز التيمم بالغبار مع وجود
التراب؟
|
٣٠٦
|
يجب في الضرب ان يكون بباطن الكفين
|
٣٣١
|
يشترط في الغبار ان يكون مما يتيمم به
|
٣٠٧
|
لا يعتبر فيما يضرب عليه كونه على
الأرض
|
٣٣٢
|
الحجر مقدم على الغبار
|
٣٠٧
|
يجب في وضع اليدين ان يكون دفعة
|
٣٣٢
|
حكم المكلف إذا لم يجد إلا الثلج
|
٣٠٧
|
هل يجب علوق شئ من التراب باليدين؟
|
٣٣٢
|
لا يجوز التيمم بالنجس
|
٣١١
|
وجوب الضرب باليدين معا " انما
هو مع الامكان
|
٣٣٦
|
التيمم بالمغصوب
|
٣١٣
|
هل يكتفي غير الجنب بتيمم واحد؟
|
٣٤٠
|
التيمم بالسبخة والرمل وتراب الطريق
|
٣١٤
|
ما يجب مسحه من الوجه في التيمم
|
٣٤٢
|
التيمم بالأرض المبتلة
|
٣١٥
|
هل يجب الابتداء بالأعلى في مسح
الجبهة؟
|
٣٤٨
|
التيمم بتراب القبر
|
٣١٥
|
يجب المسح بالكفين معا دفعه
|
٣٤٨
|
التيمم بالتراب المستعمل
|
٣١٥
|
لا يجب الاستيعاب في الماسح
|
٣٤٨
|
التيمم بالرماد
|
٣١٦
|
ما يجب مسحه من اليدين في التيمم
|
٣٤٩
|
فاقد الطهورين
|
٣١٧
|
هل يجب الابتداء في مسح الكفين من
الزند؟
|
٣٥١
|
الاخبار الواردة في كيفية التيمم
|
٣١٩
|
يجب تقديم اليد اليمنى على اليسرى في
المسح
|
٣٥٢
|
هل تجوز نية الرفع في التيمم؟
|
٣٢٣
|
|
|
هل تجب نية البدلية في التيمم؟
|
٣٢٧
|
|
|
محل النية في التيمم
|
٣٢٩
|
|
|
وجوب استدامة النية حكما حتى الفراغ
|
٣٣٠
|
|
|
وجوب الضرب باليدين على الأرض
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
يجب ان يكون المسح بباطن الكف دون
ظاهرها
|
٣٥٢
|
والمندوبة
|
٣٦٩
|
لو كان له يد زائدة
|
٣٥٣
|
التيمم مبيح لما تبيحه الطهارة
المائية
|
٣٧٠
|
لو كان على بعض أعضائه جبائر
|
٣٥٣
|
هل يستباح بالتيمم اللبث في المساجد؟
|
٣٧١
|
لو كانت مواضع المسح نجسة
|
٣٥٣
|
هل تختلف الموارد في إباحة التيمم
|
٣٧٢
|
يجب استيعاب الممسوح من الجبهة وظهر
الكفين بالمسح
|
٣٥٣
|
لا يعيد من صلى بالتيمم الصحيح بوجدان
الماء بعد الوقت
|
٣٧٤
|
وجوب الترتيب في التيمم
|
٣٥٤
|
موارد الخلاف في إعادة الصلاة بوجدان
الماء
|
٣٧٥
|
وجوب المباشرة في التيمم
|
٣٥٤
|
وجدان المتيمم الماء قبل الدخول في
الصلاة
|
٣٧٧
|
هل تجب الموالاة في التيمم؟
|
٣٥٥
|
وجدان المتيمم الماء بعد الفراغ من
الصلاة
|
٣٧٨
|
هل يصح التيمم في سعة الوقت؟
|
٣٥٦
|
وجدان المتيمم الماء بعد الدخول في
الصلاة
|
٣٧٨
|
هل يجب التأخير مع العلم بعدم حصول
الماء على القول بالمضايقة؟
|
٣٦١
|
حكم التيمم بالنسبة إلى غير الصلاة
التي وجد الماء فيها
|
٣٨٤
|
هل تجوز الصلاة بالتيمم السابق في سعة
الوقت؟
|
٣٦٣
|
هل يجوز العدول عن الصلاة التي وجد
الماء في أثنائها إلى فائتة سابقة على القول بانتقاض التيمم بالنسبة إلى ما
عداها؟
|
٣٨٥
|
هل يعم وجوب التأخير المرض ونحوه؟
|
٣٦٥
|
هل يعم عدم انتقاض التيمم بوجدان
الماء في أثناء الصلاة النافلة؟
|
٣٨٥
|
التيمم للقضاء وسائر الصلوات الواجبة
في وقت الايقاع
|
٣٦٦
|
وجدان الماء في أثناء صلاة يجب
|
|
التيمم للنافلة
|
٣٦٧
|
|
|
الصلاة الواقعة بالتيمم في سعة الوقت
بظن الضيق
|
٣٦٨
|
|
|
وقت التيمم لسائر الصلوات الواجبة
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
قضاؤها بعد وجود الماء
|
٣٨٦
|
المسجدين للخروج
|
٤٠١
|
هل يجوز العدول إلى النفل في سعة
الوقت إذا وجد الماء في أثناء الصلاة؟
|
٣٨٦
|
هل يجب الغسل على المحتلم في الحد
المسجدين إذا وجد الماء في المسجد؟
|
٤٠٢
|
لو أحدث المتيمم في أثناء الصلاة سهوا
" ووجد الماء
|
٣٨٦
|
هل يختص وجوب التيمم بالمحتلم في أحد
المسجدين أو يعم من أجنب فيه أو دخله جنبا "؟
|
٤٠٥
|
اجتماع الميت والمحدث والجنب وعدم
كفاية الماء إلا لأحدهم
|
٣٩٣
|
هل تلحق الحائض بالجنب في الحكم
المذكور؟
|
٤٠٦
|
لو أمكن الجمع وجب على القول بان
المستعمل في الحدث الأكبر يكون مطهرا "
|
٣٩٦
|
هل يلحق بالمسجدين غيرهما في شرعية
التيمم للخروج؟
|
٤٠٧
|
هل يدل عدم الامر بجمع الماء على عدم
طهورية المستعمل؟
|
٣٩٦
|
هل يبيح هذا التيمم الصلاة ونحوها؟
|
٤٠٧
|
هل يدل عدم الامر بجمع الماء على عدم
طهورية المستعمل؟
|
٣٩٧
|
الطهارة في المكان المغصوب
|
٤٠٨
|
هل يجوز لمالك الماء ان يبذله لغيره
مع وجوب الصلاة عليه؟
|
٣٩٧
|
استحباب التيمم للنوم ولصلاة الجنازة
|
٤١١
|
انتقاض التيمم بوجدان الماء واعادته
إذا فقد بعد ذلك
|
٣٩٨
|
هل يستحب التيمم في كل موضع يستحب فيه
الوضوء أو الغسل؟
|
٤١٢
|
هل يعتبر في انتقاض التيمم مضي زمان
تمكن فيه الطهارة المائية؟
|
٣٩٩
|
هل يعيد الجنب المتيمم التيمم بدلا من
الغسل إذا أحدث؟
|
٤١٥
|
وجوب التيمم على المحتلم في أحد
|
|
|
|
|