


كلمة المؤتمر :
بسم الله الرحمن الرحم
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
منذ منتصف القرن
العشرين ، وبعد ليل طويل نشر أجنحته السوداء على سماء الامة الإسلامية لعدة قرون ،
فلفّها في ظلام حالك من التخلّف والانحطاط والجمود ، بدأت بشائر الحياة الجديدة
تلوح في افق الامّة ، وانطلق الكيان الإسلامي العملاق ـ الذي بات يرزح تحت قيود
المستكبرين والظالمين مدى قرون ـ يستعيد قواه حتى انتصب حيّاً فاعلاً قويّاً
شامخاً بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران تحت قيادة الإمام الخميني قدسسره يقضّ مضاجع المستكبرين ، ويبدّد أحلام الطامعين
والمستعمرين.
ولئن أضحت الامّة
الإسلاميّة مدينة في حياتها الجديدة على مستوى التطبيق للإمام الخميني قدسسره فهي بدون شك مدينة في حياتها الجديدة على المستوى الفكري
والنظري للإمام الشهيد الصدر قدسسره ، فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ
استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجدة والإبداع من جهة ، والعمق
والشمول من جهة اخرى ، أن يمهّد السبيل للُامّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية
إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات الفكرية المستوردة التي تنافست في
الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلاميّة ، وتزاحمت
للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين.
لقد استطاع الإمام
الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدسسره بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع
عمالقة الحضارة الماديّة الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة
عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى ،
زيف الفكر
الإلحادي ، وخواء الحضارة الماديّة في اسسها العقائديّة ودعائمها النظريّة ، وأن
يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظير على حلّ مشاكل المجتمع
الإنساني المعاصر ، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة
السعادة والعدل والخير والرفاه.
ثم إنّ الإبداع
الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر ، لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال
الفكر الإسلامي في مجاله العام ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد
الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلاسيكي أيضاً
، كالفقه والاصول والفلسفة والمنطق والكلام والتفسير والتاريخ ، فأحدث في كل فرع
من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة سواء
في المنهج أو المضمون.
ورغم مضيّ عقدين
على استشهاد الإمام الصدر ، ما زالت مراكز العلم ومعاهد البحث والتحقيق تستلهم
فكره وعلمه ، وما زالت الساحة الفكريّة تشعر بأمسّ الحاجة إلى آثاره العلميّة
وإبداعاته في مختلف مجالات البحث والتحقيق العلمي.
ومن هنا كان في
طليعة أعمال المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر إحياء تراثه العلمي والفكري بشكل
يتناسب مع شأن هذا التراث القيّم.
وتدور هذه المهمّة
الخطيرة ـ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر ـ في محورين :
أحدهما : ترجمته
إلى ما تيسّر من اللغات الحيّة بدقّة وأمانة عاليتين.
والآخر : إعادة
تحقيقه للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً من الأخطاء التي وقعت فيه
بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط ... نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين
لها وأمانتهم ، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية.
ونظراً إلى أنّ
التركة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدر قدسسره شملت العلوم والاختصاصات المتنوّعة للمعارف الإسلاميّة
وبمختلف المستويات الفكريّة ، لذلك
أوكل المؤتمر
العالمي للشهيد الصدر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت إشراف علماء متخصّصين
في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم ، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا
التراث بمستوى رفيع من الاتقان والأمانة العلميّة ، ولخصت منهجيّة عملها بالخطوات
التالية :
١ ـ مقابلة النسخ
والطبعات المختلفة.
٢ ـ تصحيح الأخطاء
السارية من الطبعات الاولى أو المستجدة في الطبعات اللاحقة ، ومعالجة موارد السقط
والتصرّف.
٣ ـ تقطيع النصوص
وتقويمها دون أدنى تغيير في الاسلوب والمحتوى ، أمّا الموارد النادرة التي تستدعي
إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى فيوضع المضاف بين معقوفتين.
٤ ـ تنظيم
العناوين السابقة ، وإضافة عناوين اخرى بين معقوفتين.
٥ ـ استخراج
المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها إلى مرامه وأكثرها مطابقة
مع النصّ ؛ ذلك لأنّ المؤلّف يستخدم النقل بالمعنى ـ في عددٍ من كتبه وآثاره ـ معتمداً
على ما اختزنته ذاكرته من معلومات أو على نوع من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع
متفرّقة من المصدر المنقول عنه ، وربما يكون بعض المصادر مترجماً وله عدة ترجمات ؛
ولهذا تُعدّ هذه المرحلة من أشقّ المراحل.
٦ ـ إضافة بعض
الملاحظات في الهامش للتنبيه على اختلاف النسخ أو تصحيح النصّ أو غير ذلك ، وتُختم
هوامش السيّد الشهيد بعبارة : (المؤلف قدسسره) تمييزاً لها عن هوامش التحقيق.
وكقاعدة عامّة ـ لها
استثناءات في بعض المؤلّفات ـ يُحاول الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض
مطالب إضافيّة أو شرح وبيان فكرةٍ ما أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها.
٧ ـ تزويد كلّ
كتاب بفهرس موضوعاته ، وإلحاق بعض المؤلفات بثبت خاص لفهرس المصادر الواردة فيها.
وقد بسطت الجهود
التحقيقيّة ذراعيها على كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل ،
فشملت : كتبه ، وما جاد به قلمه مقدمةً أو خاتمةً لكتب غيره ثم طُبع مستقلاًّ في
مرحلة متأخرة ، ومقالاته المنشورة في مجلّات فكريّة وثقافيّة مختلفة ، ومحاضراته
ودروسه في موضوعات شتّى ، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهيّة ، ونتاجاته المتفرّقة
الاخرى ، ثمّ نُظّمت بطريقة فنيّة واعيد طبعها في مجلّدات أنيقة متناسقة.
ونقدّم بين يدي
القارئ كتابين من الكتب التي شملته الجهود التحقيقيّة المذكورة ، وهما :
١ ـ «المعالم
الجديدة للُاصول» الذي ألّفه الإمام الشهيد قدسسره في سنة ١٣٨٥ الهجريّة كحلقةٍ اولى من سلسلة «دروس تمهيديّة
في علم الاصول» وكان يقدّر وقتئذٍ ضرورة تكميل هذه الحلقة بحلقتين اخريين على
غرارها ضمن هذه السلسلة لتكون بمجموعها كتباً دراسيّةً معدّةً لثلاث مراحل دراسيّة
لعلم الاصول ، ولكنّه لم يوفّق لذلك إلى حين مضيّ اثنتي عشرة سنة تقريباً من
تأليفه لهذا الكتاب.
وفي عام ١٣٩٧
الهجري حالفه التوفيق الربّاني لاستئناف النظر في هذه الاطروحة ، وإدخال تعديلات
أساسيّة فيها ، وإكمالها وإخراجها في ثلاث حلقات تحت عنوان «دروس في علم الاصول» ،
وهي السلسلة المعروفة اليوم ب «الحلقات».
ولا يخفى أنّ كتاب
«المعالم الجديدة للُاصول» وإن انتهى أمره ـ في التطوّر التكاملي المذكور ـ إلى
الصياغة المطروحة في الحلقة الاولى من حلقات «دروس في علم الاصول» ، لكن قد بقي
لهذا الكتاب بعض المميّزات الخاصّة به ، من قبيل تميّزه بلغة عصريّة بعيدة عن
التعقيدات اللفظيّة والمعنويّة بدرجةٍ أعلى وأرفع ممّا التزم به المؤلّف قدسسره في كتاب الحلقات ، وتميّزه أيضاً بالشرح والتفصيل وكثرة
الأمثلة
التوضيحيّة لجملة من المطالب المندرجة فيه.
ومن المميّزات
المهمّة لهذا الكتاب أيضاً اشتماله على فصل مهمّ جدّاً في دراسة وتحليل تأريخ علم
الاصول لم يسبقه في ذلك غيره ، وقد حذفه السيّد الشهيد رحمهالله في كتاب الحلقات حرصاً منه على الاحتفاظ بالطابع العلمي
والدراسي للكتاب بالنحو المقبول في أوساط الحوزة العلميّة.
ولعلّه بهذه
المميّزات وغيرها بقي الكتاب ـ بصورته السابقة ـ أكثر تناسباً وائتلافاً مع حاجة
الأوساط العلميّة في الجامعات والمعاهد العلميّة غير الحوزويّة ، بالإضافة إلى
قيمته التأريخيّة المعبّرة عن النشاط العلمي للمؤلّف في ذلك العهد.
٢ ـ «غاية الفكر»
وهو كتاب علمي تخصّصي رفيع المستوى في علم الاصول ، رتّبه المؤلّف قدسسره في عشرة أجزاء ـ كما جاء في مقدّمة الكتاب ـ ولم يطبع منه
سوى هذا الجزء الذي هو الجزء الخامس منه ، ولا يعرف مصير باقي الأجزاء ، لذا فلم
نستطع استخراج ما ورد في هذا الجزء من إحالاتٍ أو إرجاعات ؛ لعدم توفّر تلك
الأجزاء.
وهذا الكتاب على
صغر حجمه يعبّر عن مستوى العمق الفكري الذي كان يتمتّع به الإمام الشهيد الصدر قدسسره وهو في ريعان الشباب ، فقد طبع هذا الجزء من الكتاب في سنة
١٣٧٤ الهجريّة ، وصرّح المؤلّف في مقدّمته بأنّه بدأ بتأليف الكتاب قبل ثلاث سنوات
تقريباً ، وهو يساوي سنة ١٣٧١ الهجريّة ، وبمقارنة هذا التأريخ مع تأريخ ولادته (١٣٥٣
ه) يعرف أنّ عمره الشريف عند شروعه بتأليف هذا الكتاب لم يكن يتجاوز ثماني عشرة
سنة ، ولا شكّ أنّ صدور مثل هذا الكتاب المشتمل على أعقد المطالب العلميّة الرفيعة
في مجال هذا العلم على يد شابّ مراهق في مثل هذا العمر يعتبر رقماً قياسيّاً بين
العلماء والمجتهدين في العصر الأخير.
ولا يخفى أنّ هذا
الكتاب ـ رغم أنّه خالف المشهور في جملة من الآراء والنظريّات العلميّة ـ قد جرى
فيه المؤلّف قدسسره على مسايرة الأصحاب ومجاراتهم في
بعض ما لا يتّفق
معهم فيه من رأي ، ظنّاً منه بأنّ التصريح بمخالفتهم في ذلك ممّا لا يمكن استيعابه
في الوسط العلمي السائد وقتئذٍ ، فبنى في محاوراته العلميّة مع المشهور على
التسليم ببعض المباني السائدة بينهم وإن لم يتّفق معهم في ذلك منذ عهد تأليفه لهذا
الكتاب ، وقد صرّح بمخالفته لهم بعد ذلك في كتبه المتأخّرة.
فليس تسليمه
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان مثلاً في هذا الكتاب مع رفضه لها في كتبه الاخرى من
أجل تبدّلٍ له في الرأي ، بل إنّما هو من أجل ما ذكرناه من التزامه رحمهالله بمجاراة الأصحاب في بعض المباني في هذا الكتاب.
ولمّا كان الكتاب
المذكور قد طبع في حياة المؤلّف قدسسره طبعة واحدة فحسب بالطريقة القديمة فاقدةً للعناوين
المناسبة للمواضيع العلميّة المطروحة فيه وخاليةً عن الضوابط الفنّية الاخرى
المتداولة اليوم ، لهذا اضطرّت لجنة التحقيق إلى بذل جهود خاصّة في تحقيق هذا
الكتاب ، ومن جملة ما صنعته فيه وضع العناوين المناسبة لمواضيع الكتاب بصورة كاملة
من العناوين الرئيسيّة والفرعيّة ، ولمّا كانت هذه العناوين كلّها جديدة وصادرة من
قبل لجنة التحقيق لم تجد اللجنة حاجةً إلى وضعها بين المعقوفتين على خلاف ما حصل
في باقي مؤلّفات الشهيد الصدر حيث وضعت العناوين الجديدة فيها بين المعقوفتين.
ولا يفوتنا أن
نشيد بالموقف النبيل لورثة السيّد الشهيد كافّة سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة
السيّد جعفر الصدر حفظه الله) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء
التراث العلمي للشهيد الصدر قدسسره.
وأخيراً نرى
لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام
الشهيد ، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه
بالاسلوب العلمي اللائق ، سائلين المولى عزوجل أن يتقبّل جهدهم ، وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعاً بالأجر
والثواب ، إنّه سميع مجيب.
|
المؤتمر العالمي
للإمام الشهيد الصدر قدسسره
أمانة الهيئة
العلميّة
|

كلمة
المؤلّف :
والصلاة والسلام
على أشرف الخلق محمدٍ وآله المعصومين الطاهرين.
وبعد : فإنّي لم
أضع هذا الكتاب ليعبِّر عن بحوث علم اصول الفقه كما تعالج في الدراسات الخاصّة ،
ولا ليبرهن على وجهات نظري في المسائل الاصولية بالصورة الكافية لإبرازها إبرازاً
دقيقاً والاستدلال عليها ومقارنتها الواسعة بسائر الآراء والاتّجاهات القائمة في
علم الاصول ، كما هي الطريقة المتّبعة في الكتب التي تُصنَّف على مستوى الدراسات
العالية وبحوث الخارج.
وإنّما الهدف الذي
أتوخّاه من هذا الكتاب هو تقديم علم الاصول بصورةٍ بدائيةٍ ومبسَّطةٍ للمبتدءين في
دراسة هذا العلم ، ولهذا راعيت في كلّ جوانب الكتاب أن يكون في مستوى هذا الهدف.
وقد حاولت إضافةً إلى
ذلك أن امكِّن الهواة الراغبين في معلوماتٍ عامّةٍ عن العلم من الحصول عليها في
هذا الكتاب ، ولأجل هذا لاحظت في درجة التوضيح ما يحقّق ذلك.
ويعبِّر هذا
الكتاب عن حلقةٍ من حلقاتٍ ثلاثٍ تتدرّج في عرض علم الاصول وتمهيده ، وتشكِّل كلّ
واحدةٍ منها دراسةً كاملةً لعلم الاصول وإن اختلفت في مستوى العرض والدرجة العلمية
للبحث.
ففي هذه الحلقة
تَوفَّرنا على إيجاد تصوّراتٍ علميةٍ عامّةٍ عن النظريات الاصولية ، وتجنّبنا في
الغالب الخوض في المناقشات والاحتجاج.
ويتهيّأ الطالب
عند إكمال هذه الحلقة لدراسة تلك النظريات بصورةٍ تصديقيةٍ في الحلقة الثانية التي
سوف نعمِّق فيها التصوّرات المعطاة في الحلقة الاولى مع بحثٍ تصديقيٍّ مجملٍ عن
كلّ نظرية.
وأمّا الحلقة
الثالثة فهي تعرض المستوى الثالث من الدروس التمهيدية لعلم الاصول ، ويمارس فيها
الطالب دراسة النظريات الاصولية في إطارٍ من الأقوال ووجهات النظر المتخالفة
والأدلّة المتقابلة.
وأمّا الهيكل
العامّ والتصميم المشترك الذي وضعتُه للحلقات الثلاث فله مبرّراته التي ترتبط بما
أشرت إليه من الأهداف المتوخّاة من وضع هذه الحلقة وما يليها ، كما سنتحدّث عنه في
الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
|
النجف الأشرف ـ ١٤ جمادى الثانية ١٣٨٥ ه
محمد باقر الصدر
|
المعالم الجديدة
للُاصول
القسم الأوّل
|
|
المدخل
إلى علم الاصول
تعريف علم الاصول.
جواز عمليّة
الاستنباط.
الوسائل الرئيسيّة
للإثبات في علم الاصول.
تأريخ علم الاصول.
مصادر الإلهام
للفكر الاصولي.
الحكم الشرعي
وتقسيمه.
تعريف علم الاصول
تمهيد :
بعد أن آمن
الإنسان بالله والإسلام والشريعة ، وعرف أنّه مسئول ـ بحكم كونه عبداً لله تعالى ـ
عن امتثال أحكام الله تعالى يُصبح ملزَماً بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات
الحياة والشريعة الاسلامية ، ومدعوّاً بحكم عقله إلى بناء كلّ تصرّفاته الخاصّة
وعلاقاته مع الأفراد الآخرين على أساسها ، أي اتّخاذ الموقف العملي الذي تفرضه
عليه تبعيّته للشريعة بوصفه عبداً للمشرِّع سبحانه الذي أنزل الشريعة على رسوله.
ولأجل هذا كان
لزاماً على الإنسان أن يعيِّن الموقف العملي الذي تفرضه هذه التبعية عليه في كلّ
شأنٍ من شئون الحياة ويحدّده ، فهل يفعل أو يترك؟ وهل يتصرّف بهذه الطريقة أو بتلك؟
ولو كانت أحكام
الشريعة وأوامرها ونواهيها في كلّ الأحداث والوقائع واضحةً وضوحاً كاملاً بديهياً
للجميع لكان تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة في كلّ واقعةٍ أمراً ميسوراً لكلّ
أحد ؛ لأنّ كلّ إنسانٍ يعرف أنّ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة في
الواجبات هو «أن يفعل» ، وفي المحرّمات هو «أن يترك» ، وفي المباحات هو «أنّه
بالخيار إن شاء فعل وإن شاء ترك». فلو
كانت الواجبات
والمحرّمات وسائر الأحكام الشرعية محدّدةً ومعلومةً بصورةٍ عامةٍ وبدهية لكان
الموقف العملي المحتّم على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة واضحاً في كلّ واقعة ،
ولَما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة إلى بحثٍ علميٍّ ودراسةٍ واسعة.
ولكنّ عوامل
عديدةً ـ منها بُعدنا الزمني عن عصر التشريع ـ أدّت إلى عدم وضوح عددٍ كبيرٍ من
أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض ، فنشأ نتيجةً لذلك غموض في الموقف العملي الذي
تفرضه على الإنسان تبعيته تجاه الشريعة في كثيرٍ من الوقائع والأحداث ؛ لأنّ
الإنسان إذا لم يعلم نوع الحكم الذي تقرِّره الشريعة في واقعةٍ ما ، أهو وجوب أو
حرمة أو إباحة؟ فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتّم عليه أن يتّخذه تجاه
الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة.
وعلى هذا الأساس
كان من الضروري أن يوضَع علم يتولّى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في
كلّ واقعةٍ بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته
للشريعة وتحديده.
وهكذا كان ، فقد
انشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمّة ، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة تحديداً استدلالياً. والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين
الموقف العملي في كلّ حدثٍ من أحداث الحياة وناحيةٍ من مناحيها ، وهذا ما نطلق
عليه في المصطلح العلمي اسم «عملية استنباط الحكم الشرعي» ، فاستنباط الحكم الشرعي
في واقعةٍ معناه إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي للإنسان تجاه الشريعة في
تلك الواقعة ، أي تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً. ونعني
بالموقف العملي تجاه الشريعة : السلوك الذي يفرض على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة
أن يسلكه تجاهها ؛ لكي يفي
بحقّها ويكون
تابعاً مخلصاً لها.
فعلم الفقه إذن هو
العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كلِّ واقعة ، والموقف العملي
من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده هو «السلوك الذي تفرضه على
الإنسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقّها» ، وتحديد
الموقف العملي بالدليل هو ما نعبِّر عنه ب «عملية استنباط الحكم الشرعي». ولأجل
هذا يمكن القول بأنّ علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية ، أو علم عملية
الاستنباط بتعبيرٍ آخر.
وتحديد الموقف
العملي بدليلٍ يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف يتمّ في علم الفقه بأُسلوبين :
أحدهما : الاسلوب
غير المباشر ، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة عن
طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذي قرّرته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه
، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي ، وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي
تجاه الشريعة. فنحن إذا أقمنا الدليل على أنّ الحكم الشرعي في واقعةٍ ما هو الوجوب
استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتِّم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها ، وهو «أن
نفعل».
والاسلوب الآخر
لتحديد الموقف العملي هو : الاسلوب المباشر الذي يقام فيه الدليل على تحديد الموقف
العملي ؛ لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة ـ كما في الاسلوب
الأول ـ بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرةً ، وذلك في حالة ما إذا
عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك ، فلم
ندرِ ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة؟ أهو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ ففي هذه
الحالة لا يمكن استعمال الاسلوب الأول ؛ لعدم توفّر الدليل على نوع الحكم الشرعي ،
بل يجب أن نلجأ إلى
أدلّةٍ تحدّد
الموقف العملي بصورةٍ مباشرةٍ وتوجّهنا كيف نفعل ونتصرّف في هذه الحالة؟ وأيّ
موقفٍ عمليٍّ نتّخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكّن من اكتشافه؟ وما هو
السلوك الذي تحتّم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحقّ التبعية ونكون
تابعين مخلصين وغير مقصِّرين؟
وفي كِلا
الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي ، أي يحدّد بالدليل
الموقف العملي تجاه الشريعة بصورةٍ غير مباشرةٍ أو مباشرة.
ويتّسع علم الفقه
لعمليات استنباطٍ كثيرةٍ بقدر الوقائع والأحداث التي تزخر بها حياة الإنسان ، فكلّ
واقعةٍ لها عملية استنباطٍ لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الاسلوبين
المتقدِّمين.
وعمليات الاستنباط
تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعدّدها وتنوّعها تشترك في عناصر
موحّدةٍ وقواعد عامةٍ تدخل فيها على تعدّدها وتنوّعها ، ويتشكّل من مجموع تلك
العناصر المشتركة الأساس العام لعملية الاستنباط.
وقد تطلّبت هذه
العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علمٍ خاصٍّ بها لدراستها وتحديدها
وتهيئتها لعلم الفقه ، فكان علم الاصول.
تعريف علم الاصول :
وعلى هذا الأساس
نرى أن يُعرَّف علم الاصول بأنّه «العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم
الشرعي». ولكي نستوعب هذا التعريف بفهمٍ يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط؟
ولنذكر لأجل ذلك
نماذج بدائيةً من هذه العملية في صيغٍ مختصرة ؛ لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج
والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة
في عملية
الاستنباط.
افرضوا أنّ فقيهاً
واجه هذه الأسئلة :
١ ـ هل يحرم على
الصائم أن يرتمس في الماء؟
٢ ـ هل يجب على
الشخص إذا ورث مالاً من أبيه أن يؤدّي خمسه؟
٣ ـ هل تبطل
الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟
وأراد الفقيه أن
يجيب على هذه الأسئلة فإنّه سوف يجيب على السؤال الأول مثلاً : «نعم ، يحرم
الارتماس على الصائم».
ويستنبط الفقيه
هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية : قد دلّت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام
الصادق عليهالسلام على حرمة الارتماس على الصائم ، فقد جاء فيها : أنّ الصادق
عليهالسلام قال : «لا يرتمس المحرِم في الماء ولا الصائم» . والجملة بهذا التركيب تدلّ في العرف العام ـ أي لدى أبناء
اللغة بصورةٍ عامةٍ ـ على الحرمة ، وراوي النصّ يعقوب بن شعيب ثقة ، والثقة وإن
كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً ، ولكنّ الشارع أمرنا بعدم اتّهام الثقة بالخطإ
والشذوذ ، واعتبر روايته دليلاً وأمرنا باتّباعها ، دون أن نُعِير احتمال الخطأ أو
الشذوذ بالاً.
والنتيجة هي : أنّ
الارتماس حرام على الصائم ، والمكلَّف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته
للشريعة.
ويجيب الفقيه على
السؤال الثاني بالنفي ، أي لا يجب على الولد أن يدفع الخمس من تركة أبيه ؛ لأنّ
رواية علي بن مهزيار التي حدّد فيها الإمام الصادق عليهالسلام نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها ذكرت : أنّ الخمس
ثابت في «الميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن» . والعرف العامّ يفهم من
__________________
هذه الجملة أنّ
الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه ، والراوي وإن كان
من المحتمل وقوعه في خطإٍ أو شذوذٍ بالرغم من وثاقته ، ولكنّ الشارع أمرنا باتّباع
روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخطأ والشذوذ ، فالمكلّف إذن غير ملزمٍ بحكم
تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه.
ويجيب الفقيه على
السؤال الثالث بالإيجاب : «القهقهة تبطل الصلاة» بدليل رواية زرارة عن الإمام
الصادق عليهالسلام أنّه قال : «القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة» . والعرف العام يفهم من النقض أنّ الصلاة إذا وقعت فيها
القهقهة اعتبرت لغواً ووجب استئنافها ، وهذا يعني بطلانها. ورواية زرارة هي من تلك
الروايات التي أمرنا الشارع باتّباعها وجعلها أدلّةً كاشفة ، فيتحتّم على المصلِّي
بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته ؛ لأنّ ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلّبه
الشريعة منه.
وبملاحظة هذه
المواقف الفقهية الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ
شتّى ، فالحكم الأول يرتبط بالصوم والصائم ، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام
المالي في الإسلام ، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدّد بعض حدودها.
كما نرى أيضاً أنّ
الأدلّة التي استند إليها الفقيه مختلفة ، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى
رواية يعقوب بن شعيب ، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار
، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكلٍّ من الروايات الثلاث
نصّها وتركيبها اللفظي الخاصّ الذي يجب أن يدرس بدقّةٍ
__________________
ويحدّد معناه ،
ولكن توجد في مقابل هذا التنوّع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة
أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعاً.
فمن تلك العناصر
المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النصّ ، فإنّ الفقيه اعتمد في فهمه للنصّ في كلّ موقفٍ على طريقة
فهم العرف العام للنصّ ، وذلك يعني أنّ العرف العام حجّة ومرجع في تعيين مدلول
اللفظ. وهذا ما يطلق عليه في علم الاصول اسم «حجية الظهور» ، فحجّية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط
الثلاث.
وكذلك أيضاً يوجد
عنصر مشترك آخر ، وهو أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ؛ لأنّ الفقيه في كلّ
عمليةٍ من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصّاً يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ
والشذوذ ؛ لعدم كونه معصوماً ، ولكنّه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه
استناداً إلى أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ، وهو ما نطلق عليه اسم «حجّية
الخبر». ومعنى هذا أنّ حجّية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث ، ولو
لا هذا العنصر المشترك لَما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأول
، ولا عدم وجوب الخمس من رواية عليّ بن مهزيار في الموقف الثاني ، ولا بطلان
الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.
__________________
وهكذا نستنتج :
أنّ عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصّة ، كما تشتمل على
عناصر مشتركة ، ونعني بالعناصر الخاصّة : تلك العناصر التي تتغيّر من مسألةٍ إلى
مسألة ، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاصّ في عملية استنباط حرمة الارتماس ؛ لأنّها
لم تدخل في عمليات الاستنباط الاخرى ، بل دخل بدلاً عنها عناصر خاصّة اخرى ،
كرواية عليّ بن مهزيار ورواية زرارة.
ونعني بالعناصر
المشتركة : القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكامٍ عديدةٍ على مواضيع
مختلفة ، كعنصر حجّية الظهور ، وعنصر حجّية الخبر.
وفي علم الاصول
تُدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألةٍ
فقهيةٍ خاصّةٍ بالذات. وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة بكلّ عمليةٍ من عمليات
الاستنباط في المسألة التي ترتبط بتلك العملية.
وهكذا يترك للفقيه
في كلّ مسألةٍ أن يفحص بدقّةٍ الروايات الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس
قيمة تلك الروايات ، ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام. بينما
يتناول الاصولي البحث عن حجّية العرف العام بالذات والبحث عن حجّية الخبر ، ويطرح
أسئلة ليجيب عليها ، من هذا القبيل : هل العرف العام حجّة؟ وما هو مدى النطاق الذي
يجب الرجوع فيه إلى العرف العام؟ وبأيِّ دليلٍ نثبت حجّية الخبر؟ وما هي الشروط
العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجّية واعتبره دليلاً؟ إلى غير ذلك من
الأسئلة التي تتّصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
وعلى هذا الضوء
نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الاصول ، إذ
قلنا : إنّ علم
الاصول «هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط» ، أي أنّه علم يبحث عن
العناصر التي تدخل في عمليات استنباطٍ متعدّدةٍ لأحكام مواضيع متنوعة ، كحجّية
الظهور العرفي وحجّية الخبر ، العنصرين المشتركين اللذَين دخلا في استنباط أحكام
الصوم والخمس والصلاة.
ولا يحدّد علم
الاصول العناصر المشتركة فحسب ، بل يحدّد أيضاً درجات استعمالها في عملية
الاستنباط والعلاقة القائمة بينها ، كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى
، وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العامّ الكامل.
ونستخلص من ذلك :
أنّ علم الاصول وعلم الفقه مرتبطان معاً باستنباط الحكم الشرعي ، فعلم الفقه هو
علم نفس عملية الاستنباط ، وعلم الاصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ،
والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصّة
للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدّها من علم الاصول.
والاصولي يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة
الفقيه.
موضوع علم الاصول :
لكلِّ علمٍ ـ عادةً
ـ موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله ، وتستهدف الكشف عمّا يرتبط بذلك
الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين ، فالفيزياء ـ مثلاً ـ موضوعها الطبيعة ، وبحوث
الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. والنحو
موضوعه الكلمة ؛ لأنّه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها ، فما هو
موضوع علم الاصول الذي يتوفّر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله؟
ونحن إذا لاحظنا
التعريف الذي قدّمناه لعلم الاصول استطعنا أن نعرف أنّ علم الاصول يدرس في الحقيقة
نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه ، وتتعلّق بحوثه كلّها
بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة ، وعلى هذا الأساس تكون عملية
الاستنباط هي موضوع علم الاصول باعتباره علماً يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في
تلك العملية ، من قبيل حجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر.
علم الاصول منطق الفقه :
ولا بدّ أنّ
معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثالٍ لعلم الاصول ، فإنّ
علم المنطق ـ كما تعلمون ـ يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان لونها ومجالها
وحقلها العلمي ، ويحدّد النظام العام الذي يجب أن تتّبعه عملية التفكير لكي يكون
التفكير سليماً. مثلاً : يعلّمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه
عملية تفكيرٍ لكي يكون الاستدلال صحيحاً؟ كيف نستدلّ على أنّ سقراط فانٍ؟ وكيف
نستدلّ على أنّ نار الموقد الموضوع أمامي محرقة؟ وكيف نستدلّ على أنّ مجموع زوايا
المثلّث تساوي قائمتين؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخطّ الممتدّ بدون نهايةٍ مستحيل؟
وكيف نستدلّ على أنّ الخسوف ينتج عن توسّط الأرض بين الشمس والقمر؟
كلّ هذا يجيب عليه
علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال ، كالقياس والاستقراء التي تطبّق في
مختلف هذه الحقول من المعرفة ، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقاً ، إذ يضع
المناهج والعناصر العامة فيها.
وعلم الاصول يشابه
علم المنطق من هذه الناحية ، غير أنّه يبحث عن نوعٍ خاصٍّ من عملية التفكير ، أي
عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الأحكام ،
ويدرس العناصر
المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط ، وتتكيّف وفقاً لها لكي يكون
الاستنباط سليماً والفقيه موفّقاً في استنتاجه. فهو يعلّمنا : كيف يجب أن ننهج في
استنباط الحكم الشرعي؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ كيف نستنبط
الحكم باعتصام ماء الكرّ؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد؟ كيف نستنبط الحكم
بحرمة تنجيس المسجد؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه؟ كلّ هذا
يوضّحه علم الاصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها
المشتركة.
وعلى هذا الأساس
قد نطلق على علم الاصول اسم «منطق علم الفقه» ؛ لأنّه يلعب بالنسبة الى علم الفقه
دوراً إيجابياً مماثلاً للدور الإيجابي الذي يؤدّيه علم المنطق للعلوم والفكر
البشري بصورةٍ عامة ، فهو على هذا الأساس «منطق علم الفقه» ، أو «منطق عملية
الاستنباط» بتعبيرٍ آخر.
ونستخلص من ذلك
كلّه : أنّ علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط ، وعلم الاصول هو منطق تلك
العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها العام الذي يجب على علم الفقه
الاعتماد عليه.
أهمّية علم الاصول في
عملية الاستنباط :
ولسنا بعد ذلك
بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمّية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ؛ لأنّه
ما دام يقدِّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام ، فهو عصب
الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجّهة ، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في
الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة
منها في الاستنباط ، كإنسانٍ يواجه أدوات النجارة
ويعطى منشاراً
وفأساً وما إليهما من أدوات دون أن يملك أفكاراً عامةً عن عملية النجارة وطريقة
استخدام تلك الأدوات.
وكما أنّ العناصر
المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الاصول ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك
العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى اخرى ، كمفردات الآيات والروايات
المتناثرة التي تشكِّل العناصر الخاصّة والمتغيّرة في عملية الاستنباط ، فإنّها
الجزء الضروريّ الآخر فيها الذي لا تتمّ العملية بدونه ، ولا يكفي في إنجاحها
مجرّد الاطّلاع على العناصر المشتركة التي يمثّلها علم الاصول واستيعابها.
ومن يحاول
الاستنباط على أساس الاطّلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلوماتٍ نظرية عامة عن
عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما إليهما من أدوات النجارة ، فكما
يعجز هذا الشخص عن صنع سريرٍ خشبيٍّ ـ مثلاً ـ فكذلك يعجز الاصولي عن الاستنباط
إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصر الخاصّة المتغيّرة.
وهكذا نعرف أنّ
العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ، ولا غنى
للعملية عنهما معاً ، ولهذا يتحتّم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة
ويحدّدها في علم الاصول ، ثمّ يضيف إليها في بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة
لتكتمل لديه عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.
الاصول والفقه يمثّلان
النظرية والتطبيق :
ونخشى أن نكون قد
أوحينا إليكم بتصوّرٍ خاطئ حين قلنا : إنّ المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر
المشتركة ويحدّدها ، ويتناول في بحوث علم
الفقه العناصر
الخاصّة ليكمل بذلك عملية الاستنباط ؛ إذ قد يتصور البعض أنّا إذا درسنا في علم
الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وعرفنا ـ مثلاً ـ حجّية الخبر وحجّية
الظهور العرفي وما إليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أيّ جهدٍ
علمي ، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلّا إلى مجرّد استخراج الروايات
والنصوص من مواضعها ، نظير مَن يستخرج تأريخ غزوة خيبر أو روايات الهجرة من تأريخ
السيرة النبوية ، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصراً على مجرّد التفتيش
عن العناصر الخاصّة من الروايات والنصوص ؛ لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط
منها الحكم الشرعي ، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهدٍ علمي ، ونتيجة
ذلك أنّ الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثّل في وضع
العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الاصول ، لا في جمع العناصر الخاصّة من
النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه.
ولكنّ هذا التصوّر
خاطئ إلى درجةٍ كبيرة ؛ لأنّ المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط
وحدّدها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب
الأحاديث والروايات مثلاً ، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر
المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصّة. والتطبيق مهمّة فكرية بطبيعتها
تحتاج إلى درسٍ وتمحيص ، ولا يغني الجهد العلمي المبذول اصوليّاً في دراسة العناصر
المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق.
ولا نستطيع الآن
أن نضرب الأمثلة المتنوّعة لتوضيح دقّة التطبيق ؛ لأنّ فهم الأمثلة يتوقّف على
اطّلاعٍ مسبقٍ على النظريات الاصولية العامة. ولهذا نكتفي بمثالٍ واحدٍ بسيط ،
فنفرض أنّ المجتهد آمن في علم الاصول بحجّية الظهور
العرفي بوصفه
عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط ، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع إصبعه على رواية
عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ـ مثلاً ـ ليضيفها إلى العنصر المشترك
ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟ أَوَليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق
مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كلّ ما يرتبط
بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأماراتٍ داخل إطار النصّ أو خارجه ؛ لكي يتمكّن
بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي؟!
فهناك إذن بعد
اكتشاف العنصر المشترك والإيمان بحجّية الظهور مشكلة تعيين نوع الظهور في النصّ
ودراسة جميع ملابساته ، حتّى إذا تأكّد المجتهد من تعيين الظهور في النصّ ودلالته
على عدم وجوب الخمس في الميراث طبّق على النصّ النظرية العامة التي يقرّرها العنصر
المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي ، واستنتج من ذلك أنّ الحكم الشرعي هو عدم
وجوب الخمس.
وفي هذا الضوء
نعرف أنّ البحث الفقهي عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية
تجميع ، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقرّرها العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط ، وتطبيق النظريات العامة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته ،
ومجرّد الدقّة في النظريات العامة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها. ألا ترون أنّ مَن
يدرس بعمقٍ النظريات العامة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مَرَضيةٍ
إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟
فالبحث الاصولي عن
العناصر المشتركة وما تقرّره من نظرياتٍ عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات
العامة في الطبّ ، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصّة في مجال تطبيق تلك النظريات
العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض
في مجال تطبيق
النظريات العامة في الطبّ عليه ، وكما قد يحتاج الطبيب الى قدرٍ كبيرٍ من الدقّة
والجهد لكي يوفَّق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقاً صحيحاً يمكِّنه
من شفائه ، فكذلك الفقيه بعد أن يخرج من دراسة علم الاصول بالعناصر المشتركة
والنظريات العامة ويواجه مسألةً في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو
غيرهما فهو يحتاج أيضاً إلى دقّةٍ وتفكيرٍ في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة
على العناصر الخاصّة بالمسألة تطبيقاً صحيحاً.
وهكذا نعرف أنّ
علم الاصول الذي يمثّل العناصر المشتركة هو «علم النظريات العامة» ، وعلم الفقه
الذي يشتمل على العناصر الخاصّة هو «علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر
الخاصّة» ، ولكلٍّ منهما دقّته وجهده العلمي الخاصّ.
واستنباط الحكم
الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق ، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصّة ،
وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط ، والدقّة في وضع النظريات العامة لا تغني عن
الدقّة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.
وقد أشار الشهيد
الثاني إلى أهمّية التطبيق الفقهي وما يتطلّبه من دقّة ، إذ كتب في قواعده يقول : «نعم
، يشترط مع ذلك ـ أي مع وضع النظريات العامة ـ أن تكون له قوة يتمكّن بها من ردِّ
الفروع إلى اصولها واستنباطها منها ، وهذه هي العمدة في هذا الباب ... ، وإنّما
تلك القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة
المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها» .
__________________
التفاعل بين الفكر الاصولي
والفكر الفقهي :
عرفنا أنّ علم
الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه ، والعلاقة بينهما علاقة النظرية
بالتطبيق ؛ لأنّ علم الاصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط ، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر
المشتركة على العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى اخرى.
وهذا الترابط
الوثيق بين علم الاصول وعلم الفقه يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية
الاصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية ، وبين الذهنية الفقهية
ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ توسّع بحوث التطبيق
يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع
النظريات العامة لحلولها. كما أنّ دقّة البحث في النظريات تنعكس على صعيد التطبيق
، إذ كلّما كانت النظريات أدقَّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقةً وعمقاً واستيعاباً
أكبر.
وهذا التفاعل
المتبادل بين الذهنيّتين والمستويين الفكريّين لعلم الاصول وعلم الفقه يؤكّده
تأريخ العِلمين على طول الخطّ ، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مرّ بها البحث
الفقهي والبحث الاصولي في تأريخ العلم. فقد كان علم الاصول يتّسع ويُثري تدريجاً
تبعاً لتوسّع البحث الفقهي ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار
الممارسين إلى مشاكل جديدة ، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة ، وتتّخذ الحلول صورة
العناصر المشتركة في علم الاصول.
كما أنّ تدقيق
العناصر المشتركة في علم الاصول وتحديد حدودها بشكلٍ صارمٍ كان ينعكس على مجال
التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات العامة موضوعةً
في صيغٍ أكثر
صرامةً وبدقّةٍ أكبر كانت أكثر غموضاً وتطلّبت في مجال التطبيق التفاتاً أكبر
وانتباهاً أكمل.
ولا نستطيع الآن ـ
ونحن في الحلقة الاولى ـ أن نقدِّم النماذج من العِلمين على هذا التفاعل ؛ لأنّ
الطالب لا يملك حتّى الآن خبرةً واسعةً ببحوث علم الاصول ، ولكن يكفينا أن يعرف
الطالب الآن أنّ التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الاصولي هو مصداق لخطٍّ عريضٍ
يعبِّر عن التفاعل المتبادل في كثيرٍ من الأحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها.
أَوَليس ممارسة
العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مَرضاهُ في نطاقٍ واسعٍ يوحي إليه بمشاكل
جديدةٍ باستمرار ، فيتولّى بحث النظريات العامة العلمية في الطبّ حلّ تلك المشاكل
، ويتعمّق تدريجاً وينعكس بالتالي على التطبيق؟! إذ كلّما ازداد الرصيد النظري
للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملاً واسعاً. وكلّنا نعلم أنّ طبيب الأمس كان
يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات ، بينما يظلّ طبيب
اليوم يدرس حالة المريض في عمليةٍ معقّدةٍ واسعةِ النطاق.
ونفس ظاهرة
التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة
إلى الفقه نجدها بين الفكر العلمي إطلاقاً والفكر المنطقي العام الذي يدرس النظام
الأساسي للتفكير البشري ، إذ كلّما اتّسع نطاق المعرفة البشرية وتنوّعت مجالاتها
تجدّدت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر ، فيتولّى المنطق تذليل تلك
المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم
العليا للفكر البشري.
وعلى أيِّ حالٍ
فإنّ فكرة التفاعل هذه ـ سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاصّ المتمثّل في
الاصول ، أو بين العلوم كلّها ومنطقها العام ، أو بين بحث أيِ
نظريةٍ وبحث
تطبيقها ـ تحتاج إلى توضيحٍ وشرحٍ أوسع. ولا نستهدف الآن من الإشارة إلى الفكرة
إلّا أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الإجمال.
نماذج من الأسئلة التي
يجيب عليها علم الاصول :
ويحسن بنا أن
نقدِّم قائمةً تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم
الاصول ؛ لنجسِّد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرةً ببحوث هذا العلم أهمّية
الدور الذي يلعبه علم الاصول في عملية الاستنباط :
١ ـ ما هو الدليل
على حجّية خبر الثقة؟
٢ ـ لما ذا يجب أن
نفسِّر النصّ الشرعي على ضوء العرف العام؟
٣ ـ ما ذا نصنع في
مسألةٍ إذا لم نجد فيها دليلاً يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها؟
٤ ـ ما هي قيمة
الأكثرية في المسألة الفقهية؟ وهل يكتسب الرأي طابعاً شرعياً ملزماً بالقبول إذا
كان القائلون به أكثر عدداً؟
٥ ـ كيف نتصرّف
إذا واجهنا نصَّين لا يتّفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر؟
٦ ـ ما هو الموقف
إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ شرعيٍّ معيَّنٍ ثمّ شككنا في استمراره؟
٧ ـ ما هي الألفاظ
التي تدلّ مباشرةً على الوجوب والإلزام؟ وهل يعتبر منها فعل الأمر ، من قبيل : «اغتسل»
، «توضّأ» ، «صلِّ»؟
إلى عشراتٍ من
الأسئلة التي يتولّى علم الاصول الجواب عليها ، ويحدّد بذلك العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط ، ويملأ كلّ الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه
للحكم الشرعي.
جواز عمليّة الاستنباط
في ضوء ما تقدّم
عرفنا أنّ علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط ؛ لأنّه يشتمل
على عناصرها المشتركة ، ويمدّها بقواعدها العامة ونظامها الشامل ، ولهذا لا يتاح
للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الاصول.
وما دام علم
الاصول مرتبطاً بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ
موقف الشريعة من هذه العملية ، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها ، أوْ لا؟ فإن كان
الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم «علم الاصول» لدراسة عناصرها
المشتركة ، وأمّا إذا كان الشارع قد حرّمها فيلغو الاستنباط ، وبالتالي يلغو علم
الاصول رأساً ؛ لأنّ هذا العلم إنّما وُضِع للتمكين من الاستنباط ، فحيث لا
استنباط لا توجد حاجة الى علم الاصول ؛ لأنّه يفقد بذلك مبرّرات وجوده ، فلا بدّ
إذن أن تُدرس هذه النقطة بصورةٍ أساسية.
والحقيقة : أنّ
هذه النقطة ـ أي مسألة جواز الاستنباط ـ حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا
يبدو أنّها جديرة بالتأمّل والبحث العلمي ؛ لأنّنا حين نتساءل : هل يجوز لنا
ممارسة عملية الاستنباط ، أوْ لا؟
يجيء الجواب على
البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط هي ـ كما عرفنا سابقاً ـ عبارة عن «تحديد
الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً
استدلالياً» ، ومن
البديهي أنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد
موقفه العملي منها ، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجةٍ
تغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف
العملي تحديداً استدلالياً ، ويحجر عليهم النظر في الأدلّة التي تحدِّد موقفهم
تجاه الشريعة ، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزةً فحسب ، بل من الضروري أن تمارس.
وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة ، والنزاع في ذلك على مستوى
النزاع في البديهيات.
ولكن لسوء الحظ
اتّفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغةً اخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش ، فأصبحت مَثاراً
للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش ، فقد استخدمت كلمة «الاجتهاد» للتعبير عن
عملية الاستنباط ، وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة ، أوْ لا؟
وحينما دخلت كلمة «الاجتهاد» في السؤال ـ وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في
تأريخها ـ أدّت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث ، ونتج عن ذلك أن
تقدَّم جماعة من علمائنا المحدّثين ليجيبوا على السؤال بالنفي ، وبالتالي ليشجبوا
علم الاصول كلّه ؛ لأنّه إنّما يراد لأجل الاجتهاد ، فإذا الغي الاجتهاد لم تعدْ
حاجة إلى علم الاصول.
وفي سبيل توضيح
ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة «الاجتهاد» ؛ لكي نتبيّن كيف أنّ
النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي اثيرت ضدّها لم يكن إلّا
نتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي ، وغفلةٍ عن التطورات التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد»
في تأريخ العلم.
الاجتهاد في اللغة
مأخوذ من الجهد ، وهو «بذل الوسع للقيام بعملٍ ما» ، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأوّل
مرّةٍ ـ على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدةٍ من القواعد التي قرّرتها بعض
مدارس الفقه السنّي وسارت على أساسها ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ الفقيه إذا
أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدلّ
عليه في الكتاب أو
السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ».
والاجتهاد هنا
يعني التفكير الشخصي ، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاصّ ويستلهمه
ويبنى على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع ، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضاً.
والاجتهاد بهذا
المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره ، فكما أنّ الفقيه قد
يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدلّ بهما ، كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ
إلى الاجتهاد الشخصي ويستدلّ به.
وقد نادت بهذا
المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي ، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة ، ولقي
في نفس الوقت معارضةً شديدةً من أئمّة أهل البيت عليهمالسلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم ، كما سنرى في البحث
المقبل.
وتَتَبُّع كلمة «الاجتهاد»
يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة
إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام تذمّ الاجتهاد ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتّخذ من التفكير
الشخصي مصدراً من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهي دور
التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل
كلمة «الاجتهاد» غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات
، فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً أسماه «الاستفادة في الطعون على
الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس» وصنّف هلال بن إبراهيم ابن أبي الفتح
المدني كتاباً في الموضوع باسم كتاب «الرد على من ردَّ آثار
الرسول واعتمد على نتائج العقول» ، وصنّف في عصر
__________________
الغيبة الصغرى أو
قريباً منه إسماعيل بن عليّ بن إسحاق ابن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على
عيسى بن أبان في الاجتهاد ، كما نصّ على ذلك كلّه النجاشي صاحب الرجال في ترجمة
كلّ واحدٍ من هؤلاء .
وفي أعقاب الغيبة
الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة ، ونذكر له ـ على سبيل
المثال ـ تعقيبه في كتابه على قصّة موسى والخضر ، إذ كتب يقول : «إنّ موسى مع كمال
عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر
حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، .... فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس
والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك ... فإذا
لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة لاختيار الإمام؟ وكيف
يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟» .
وفي أواخر القرن
الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد ، وهو يعبّر
بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ، ويكتب كتاباً في ذلك باسم «النقض
على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي» .
ونجد المصطلح نفسه
لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ويقول :
«إنّ الاجتهاد باطل ، وإنّ الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا
الاجتهاد» . وكتب في كتابه الفقهي
__________________
«الانتصار» ـ معرّضاً
بابن الجنيد ـ قائلاً : «إنّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضربٍ من الرأي
والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر» . وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب
الانتصار : «إنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به» .
واستمرّ هذا
الاصطلاح في كلمة «الاجتهاد» بعد ذلك أيضاً ، فالشيخ الطوسي الذي توفّي في أواسط
القرن الخامس يكتب في كتاب العدّة قائلاً : «أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما
ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما» .
وفي أواخر القرن
السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين من كتابه «السرائر» عدداً من
المرجّحات لإحدى البيّنتين على الاخرى ، ثمّ يعقّب ذلك قائلاً : «ولا ترجيح بغير
ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا» .
وهكذا تدلّ هذه
النصوص بتعاقبها التأريخي المتتابع على أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت تعبيراً عن ذلك
المبدأ الفقهي المتقدّم إلى أوائل القرن السابع ، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة
لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية ؛
نتيجةً لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانه.
ولكنّ كلمة «الاجتهاد»
تطوّرت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ، ولا يوجد لدينا الآن نصّ شيعي يعكس هذا التطور
أقدم تأريخاً من كتاب المعارج للمحقّق
__________________
الحلّي المتوفّى
سنة (٦٧٦ ه) ، إذ كتب المحقّق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : «وهو في عرف
الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج
الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً ؛ لأنّها تبتني على اعتباراتٍ نظريةٍ ليست
مستفادةً من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره ، فيكون
القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون
الإمامية من أهل الاجتهاد. قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث أنّ القياس
من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام
بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» .
ويلاحظ على هذا
النصّ بوضوحٍ أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت لا تزال في الذهنية الإمامية مثقلةً بتبعة
المصطلح الأول ، ولهذا يلمح النصّ إلى أنّ هناك مَن يتحرّج من هذا الوصف ويثقل
عليه أن يسمّى فقهاء الإمامية مجتهِدين.
ولكنّ المحقّق
الحلّي لم يتحرّج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوّره أو تطوّر في عرف الفقهاء تطويراً
يتّفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي ، إذ بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه
يصدر عنه ودليلاً يستدلّ به كما يصدر عن آيةٍ أو روايةٍ أصبح في المصطلح الجديد
يعبّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلّته ومصادره ،
فلم يعدْ مصدراً من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي
يمارسها الفقيه.
والفرق بين
المعنيين جوهريّ للغاية ، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح الأول للاجتهاد أن
يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاصّ في حالة عدم توفّر النص ، فإذا قيل له : ما
هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدلّ بالاجتهاد ، وقال : الدليل هو اجتهادي وتفكيري
الخاصّ. وأمّا المصطلح الجديد فهو
__________________
لا يسمح للفقيه أن
يبرّر أيَّ حكمٍ من الأحكام بالاجتهاد ؛ لأنّ الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً
للحكم ، بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها ، فإذا قال الفقيه : «هذا اجتهادي»
كان معناه أنّ هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلّة ، فمن حقّنا أن نسأله ونطلب
منه أن يدلّنا على تلك المصادر والأدلّة التي استنبط الحكم منها.
وقد مرّ هذا
المعنى الجديد لكلمة «الاجتهاد» بتطوّرٍ أيضاً ، فقد حدّده المحقّق الحلّي في نطاق
عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص ، فكلّ عملية استنباطٍ لا تستند
إلى ظواهر النصوص تسمّى اجتهاداً دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعلّ الدافع إلى
هذا التحديد أنّ استنباط الحكم من ظاهر النصّ ليس فيه كثير جهدٍ أو عناء علمي
ليسمّى اجتهاداً.
ثمّ اتّسع نطاق
الاجتهاد بعد ذلك ، فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ أيضاً ؛ لأنّ
الاصوليّين بعد هذا لاحظوا بحقٍّ أنّ عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ تستبطن
كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجّية الظهور العرفي.
ولم يقف توسّع الاجتهاد كمصطلحٍ عند هذا الحدّ ، بل شمل في تطوّرٍ حديثٍ عملية
الاستنباط بكلّ ألوانها ، فدخلت في الاجتهاد كلّ عمليةٍ يمارسها الفقيه لتحديد
الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي ، أو على تعيين
الموقف العملي مباشرة.
وهكذا أصبح
الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط ، وبالتالي أصبح علم الاصول العلم الضروري
للاجتهاد ؛ لأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
وهذه التطورات
التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» كمصطلحٍ ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي إلى حدٍّ
ما ، وهذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا لتأريخ علم الاصول.
على هذا الضوء
يمكننا أن نفسِّر موقف جماعةٍ من المحدّثين عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم
الاصول ، فإنّ هؤلاء استفزّتهم كلمة «الاجتهاد» ؛ لِمَا تحمل من تراث المصطلح
الأول الذي شنَّ أهل البيت عليهمالسلام حملةً شديدةً عليه ، فحرّموا الاجتهاد الذي حمل المجتهدون
من فقهائنا رايته ، واستدلّوا على ذلك بموقف الأئمّة عليهمالسلام ومدرستهم الفقهية ضدّ الاجتهاد ، وهم لا يعلمون أنّ ذلك
الموقف كان ضدّ المعنى الأول للاجتهاد ، والفقهاء من الأصحاب قالوا بالمعنى الثاني
للكلمة.
وهكذا واجهت عملية
الاستنباط هجوماً مريراً من هؤلاء باسم الهجوم على الاجتهاد ، وتحمّلت التبعات
التأريخية لهذه الكلمة ، وبالتالي امتدّ الهجوم إلى علم الاصول لارتباطه بعملية
الاستنباط والاجتهاد.
ونحن بعد أن
ميَّزنا بين معنَيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى المسألة بداهتها ، ونتبيّن بوضوحٍ
أنّ جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط من البديهيات.
وما دامت عملية
استنباط الحكم الشرعي جائزةً بالبداهة فمن الضروري أن يحتفظ بعلم الاصول لدراسة
العناصر المشتركة في هذه العملية.
ويبقى علينا ـ بعد
أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الإسلام ـ أن ندرس نقطتين :
إحداهما هي : أنّ
الإسلام هل يسمح بهذه العملية في كلّ عصرٍ ولكلّ فرد ، أو لا يسمح بها إلّا لبعض
الأفراد وفي بعض العصور؟
والنقطة الاخرى هي
: أنّ الاسلام كما يسمح للشخص أن يستنبط حكمه هل يسمح له باستنباط حكم غيره
وإفتائه بذلك؟ وسوف ندرس هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها
لمراحل أعلى من دراسة هذا العلم.
الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الاصول
عرفنا أنّ عملية
الاستنباط تتألّف من عناصر مشتركةٍ وعناصر خاصّة ، وأنّ علم الاصول هو علم العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط ، ففيه تدرس هذه العناصر وتحدّد وتنظّم.
وما دام علم
الاصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال
الأساسي : ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الاصول لكي يثبت بها حجّية الخبر
أو حجّية الظهور العرفي ، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟
ونظير هذا السؤال
يواجهه كلّ علم ، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلاً :
ما هي وسائل
الإثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة وإثباتها؟
والجواب هو : أنّ
وسيلة الإثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة.
وبالنسبة إلى علم
النحو يسأل أيضاً : ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين
إعراب الكلمة وتحديد حالات رفعها ونصبها؟
والجواب هو : أنّ
الوسيلة الرئيسية للإثبات في علم النحو هي النقل عن
المصادر الأصليّة
للّغة وكلمات أبنائها الأوّلين.
فلا بدّ لعلم
الاصول إذن أن يواجه هذا السؤال ، وأن يحدّد منذ البدء وسائل الإثبات التي ينبغي
أن يستخدمها لإثبات العناصر المشتركة وتحديدها.
وفي هذا المجال
نقول : إنّ الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الاصول أن يستخدمها مردّها إلى
وسيلتين رئيسيّتين ، وهما :
١ ـ البيان الشرعي
(الكتاب والسنّة).
٢ ـ الإدراك
العقلي.
فلا تكتسب أيّ
قضيةٍ طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط ، ولا يجوز إسهامها في العملية إلّا
إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيّتين ، فإذا حاول الاصولي ـ مثلاً
ـ أن يدرس حجّية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط ـ إذا كان حجّةً ـ يطرح على
نفسه هذين السؤالين :
هل ندرك بعقولنا
أنّ الخبر حجّة وملزم بالاتّباع ، أمْ لا؟
وهل يوجد بيان
شرعيّ يدلّ على حجّيته؟
ويحاول الاصولي في
بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقاً للمستوى الذي يتمتّع به من الدقّة والانتباه
، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك
أنّه لا يملك وسيلةً لإثبات حجّية الخبر ، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق
الاستنباط. وأمّا إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدّى هذا
إلى إثبات حجّية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصراً اصوليّاً
مشتركاً.
وسوف نرى خلال
البحوث المقبلة أنّ عدداً من العناصر المشتركة قد تمّ إثباتها بالوسيلة الاولى ـ أي
البيان الشرعي ـ وعدداً آخر ثبت بالوسيلة الثانية ، أي الإدراك العقلي. فمن قبيل
الأول : حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي ، ومن
نماذج الثاني
القانون القائل : «إنّ الفعل لا يمكن أن يكون واجباً وحراماً في وقتٍ واحد».
وعلى ضوء ما تقدّم
نعرف أنّ من الضروري ـ قبل البدء في بحوث علم الاصول لدراسة العناصر المشتركة ـ أن
ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر ،
ونتكلّم عن حدودها ؛ لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقاً لتلك الحدود.
البيان الشرعي
البيان الشرعي :
هو إحدى الوسيلتين الرئيسيّتين لإثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط.
ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي :
١ ـ الكتاب الكريم
، وهو القرآن الذي انزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٢ ـ السُنّة ، وهي
كلّ بيانٍ صادرٍ من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أحد الأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
١ ـ البيان
الإيجابي القولي ، وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليهالسلام.
٢ ـ البيان
الإيجابي الفعلي ، وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليهالسلام.
٣ ـ البيان السلبي
، وهو تقرير المعصوم عليهالسلام ، أي سكوته عن وضعٍ معيَّنٍ بنحوٍ يكشف عن رضاه بذلك الوضع
وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الأخذ بكلّ
هذه الأنواع من البيان الشرعي ، وإذا دلَّ شيء منها على عنصرٍ مشتركٍ من عناصر
عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي.
وفي هذا المجال
توجد عدّة بحوثٍ نتركها للحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
الإدراك العقلي
الإدراك العقلي :
هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لإثبات العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط ، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط ممّا
ندركه بعقولنا دون حاجةٍ إلى بيانٍ شرعيٍّ لإثباته ، من قبيل القانون القائل : «إنّ
الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقتٍ واحد» ، فإنّنا لا نحتاج في إثبات
هذا القانون إلى بيانٍ شرعيٍّ يشتمل على صيغةٍ للقانون من هذا القبيل ، بل هو ثابت
عن طريق العقل ؛ لأنّ العقل يدرك أنّ الوجوب والحرمة صفتان متضادّتان ، وأنّ الشيء
الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادّتين ، فكما لا يمكن أن يتّصف الجسم
بالحركة والسكون في وقتٍ واحدٍ كذلك لا يمكن أن يتّصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً.
والإدراك العقلي
له مصادر متعدّدة ودرجات مختلفة.
فمن ناحية المصادر
ينقسم الإدراك العقلي إلى أقسام :
منها : الإدراك
العقلي القائم على أساس الحسِّ والتجربة. ومثاله : إدراكنا أنّ الماء يغلي إذا
بلغت درجة حرارته مائة ، وأنّ وضعه على النار إلى مدّةٍ طويلة يؤدّي إلى غليانه.
ومنها : الإدراك
العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله : إدراكنا جميعاً أنّ الواحد نصف الاثنين
، وأنّ الضدّين لا يجتمعان ، وأنّ الكلّ أكبر من الجزء. فإنّ هذه الحقائق بديهية
ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناءٍ أو تأمّل.
ومنها : الإدراك
القائم على أساس التأمّل النظري. ومثاله : إدراكنا أنّ المعلول يزول إذا زالت علّته
، فإنّ هذه الحقيقة ليست بديهية ، ولا ينساق إليها
الذهن بطبيعته ،
وإنّما ندرك بالتأمّل عن طريق البرهان والاستدلال.
ومن ناحية الدرجات
ينقسم الإدراك العقلي إلى درجات :
فمنه : الإدراك
الكامل القطعي ، وهو : أن ندرك بعقولنا حقيقةً من الحقائق إدراكاً لا نحتمل فيه
الخطأ والاشتباه ، كإدراكنا أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين ، وأنّ الضدّين لا
يجتمعان ، وأنّ الأرض كرويّة ، وأنّ الماء يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.
ومن الإدراك
العقلي ما يكون ناقصاً ، والإدراك الناقص هو : اتّجاه العقل نحو ترجيح شيءٍ دون
الجزم به لاحتمال الخطأ ، كإدراكنا أنّ الجواد الذي سبق في مناوراتٍ سابقةٍ سوف
يسبق في المرّة القادمة أيضاً ، وأنّ الدواء الذي نجح في علاج أمراضٍ معيَّنةٍ سوف
ينجح في علاج أعراضٍ مَرَضيةٍ مشابهة ، وأنّ الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه
يشاركه في الحرمة.
والسؤال الأساسي
في هذا البحث : ما هي حدود العقل أو الإدراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة
الرئيسية لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك
العقلي كوسيلةٍ للإثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته ، أوْ لا يجوز استخدام
الإدراك العقلي كوسيلةٍ للإثبات إلّا ضمن حدودٍ معيَّنةٍ من ناحية المصدر أو
الدرجة؟
وقد اتّجه البحث
حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتّجاهه نحو معالجة المصدر ، فاتّسعت
الدراسات الاصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة ، واختلفت الاتّجاهات
حول مدى شمول العقل وحدوده ـ بوصفه وسيلة إثباتٍ رئيسية ـ فهل يشمل الإدراكات
الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح ، أو يختصّ بالادراك الكامل المنتج للجزم؟
ولهذا البحث
تأريخه الزاخر في علم الاصول وفي تأريخ الفكر الفقهي ،
كما سنرى.
الاتّجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي :
وقد شهد تاريخ
التفكير الفقهي اتّجاهين متعارضين في هذه النقطة كلّ التعارض ، يدعو أحدهما إلى
اتّخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل الإدراكات الناقصة وسيلة رئيسية للإثبات
في مختلف المجالات التي يمارسها الاصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرّده
إطلاقاً عن وصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات ، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة
الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط.
ويقف بين هذين
الاتّجاهين المتطرِّفَين اتّجاه ثالث معتدل يتمثّل في جُلِّ فقهاء مدرسة أهل البيت
عليهمالسلام ، وهو الاتّجاه الذي يؤمن ـ خلافاً للاتّجاه الثاني ـ بأنّ
العقل أو الإدراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي ، ولكن
لا في نطاقٍ منفتحٍ كما زعمه الاتّجاه الأول ، بل ضمن النطاق الذي تتوفّر فيه
للإنسان القناعة التامّة والإدراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ ،
فكلّ إدراكٍ عقليٍّ يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات ،
وأمّا الإدراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفّر فيه عنصر
الجزم فلا يصلح وسيلة إثباتٍ لأيِّ عنصرٍ من عناصر عملية الاستنباط.
فالعقل في رأي
الاتّجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة ، وجديرة بالاعتماد عليها والإثبات بها إذا
أدّت إلى إدراك حقيقةٍ من الحقائق إدراكاً كاملاً لا يشوبه شكّ. فلا كفران بالعقل
كأداةٍ للمعرفة ، ولا إفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.
وقد تطلّب هذا
الاتّجاه المعتدل الذي مثّله جُلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهمالسلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين :
إحداهما : المعركة
ضدّ أنصار الاتّجاه الأول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبنّاه بقيادة جماعةٍ
من أقطاب علماء العامّة.
والاخرى المعركة
ضدّ حركةٍ داخليةٍ نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميّين ؛ متمثّلةٍ في المحدثين
والأخباريّين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادّعوا أنّ البيان الشرعي هو
الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات ، وهكذا نعرف أنّ المعركة الاولى
كانت ضدّ استغلال العقل ، والاخرى كانت إلى صفّه.
١ ـ المعركة ضدّ
استغلال العقل :
قامت منذ أواسط
القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة «الرأي والاجتهاد» بالمعنى
الأول الذي تقدّم في البحث السابق ، وتطالب باتّخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي
يشمل الترجيح والظنّ والتقدير الشخصي للموقف أداةً رئيسيةً للإثبات إلى صفّ البيان
الشرعي ، ومصدراً للفقيه في الاستنباط ، وأطلقت عليه اسم «الاجتهاد».
وكان على رأس هذه
المدرسة أو من روّادها الأوّلين أبو حنيفة المتوفّى سنة (١٥٠ ه) ، والمأثور عن
رجالات هذه المدرسة أنّهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعياً يدلّ على الحكم يدرسون
المسألة على ضوء أذواقهم الخاصّة ، وما يدركون من مناسبات ، وما يتفتّق عنه
تفكيرهم الخاصّ من مرجّحاتٍ لهذا التشريع على ذاك ، ويفتون بما يتّفق مع ظنّهم
وترجيحهم ، ويسمّون ذلك «استحساناً» أو «اجتهاداً».
والمعروف عن أبي
حنيفة أنّه كان متفوّقاً في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي ، فقد روي عن تلميذه
محمد بن الحسن : أنّ أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه ، حتى إذا
قال : استحسن لم يلحقه أحد . وجاء في كلام له وهو يحدِّد نهجه العام في الاستنباط : «إنّي
آخذ بكتاب الله إذا وجدته ، فما لم أجده أخذت بسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخذت بقول أصحابه مَن شئت وأَدَع من شئت ، ثم لا أخرج من
قولهم إلى غيرهم ، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن
أجتهد كما اجتهدوا» .
والفكرة الأساسية
التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبنّي العقل المنفتِح بوصفه وسيلةً رئيسيةً
للإثبات ومصدراً لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت
تقول : «إنّ البيان الشرعي المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصر لا يشتمل إلّا على
أحكام قضايا محدودة ، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعي في كثيرٍ من القضايا والمسائل».
وقد ساعد على شيوع
هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتّجاههم المذهبي السنّي ، إذ كانوا يعتقدون أنّ
البيان الشرعي يتمثّل في الكتاب والسنّة النبوية المأثورة عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقط ، ولمّا كان هذا لا يفي إلّا بجزءٍ من حاجات الاستنباط
اتّجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدإ
الاجتهاد.
وأمّا فقهاء
الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي ؛
__________________
لأنّهم كانوا
يؤمنون بأنّ البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة عليهمالسلام ، فلم يوجد لديهم أيّ دافعٍ نفسيٍّ للتوسّع غير المشروع في
نطاق العقل.
وعلى أيِّ حالٍ
فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنّة لإشباع حاجات الاستنباط ، ولعبت دوراً
خطيراً في عقلية كثيرٍ من فقهاء العامة ، ووجّهتهم نحو الاتّجاه العقلي المتطرِّف.
وتطوّرت هذه
الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج ، إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة ـ أي
البيان الشرعي ـ بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام
نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شئون الحياة ، فلم تعد المسألة مسألةَ
نقصانٍ في البيان والتوضيح ، بل في التشريع الإلهي بالذات. ودليلهم على النقص
المزعوم في الشريعة هو : أنّها لم تُشرَّع لتبقى في ضمير الغيب محجوبةً عن
المسلمين ، وإنّما شُرِّعت وبُيِّنت عن طريق الكتاب والسنّة ؛ لكي يعمل بها وتصبح
منهاجاً للُامّة في حياتها ، ولمّا كانت نصوص الكتاب والسنّة ـ في رأي العامة ـ لا
تشتمل على أحكام كثيرٍ من القضايا والمسائل فيدلّ ذلك على نقص الشريعة ، وأنّ الله
لم يشرِّع في الإسلام إلّا أحكاماً معدودة ، وهي الأحكام التي جاء بيانها في
الكتاب والسنّة ، وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء
من الناس بتعبيرٍ أخصّ ؛ ليشرّعوا الأحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان ، على شرط
أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرّعة في الكتاب
والسنّة النبوية.
وقد رأينا أنّ
الاتّجاه العقلي المتطرّف كان نتيجةً لشيوع فكرة النقص وانعكاسها ، وحين تطوّرت
فكرة النقص من اتّهام البيان إلى اتّهام نفس الشريعة انعكس هذا التطور أيضاً على
مجال الفكر السنّي ، ونتج عنه القول بالتصويب الذي
وصل فيه ذلك
الاتّجاه العقلي المتطرّف إلى قصارى مداه ، ولتوضيح ذلك لا بدّ من إعطاء فكرةٍ عن
القول بالتصويب.
القول بالتصويب :
بعد أن استباح
فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات
وفقاً للاتّجاه العقلي المتطرّف كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصّلون
إليها عن طريق الاجتهاد تبعاً لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي
يهتمّون بها. فهذا يرجِّح في رأيه الحرمة ؛ لأنّ الفعل فيه ضرر. وذاك يرجّح
الإباحة ؛ لأنّ في ذلك توسعة على العباد ، وهكذا.
ومن هنا نشأ
السؤال التالي : ما هو مدى حظّ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون
جميعاً مصيبين ما دام كلّ واحدٍ منهم قد عبّر عن اجتهاده الشخصي ، أو أنّ المصيب
واحد فقط والباقون مخطئون؟
وقد شاع في صفوف
مدرسة الرأي القول بأنّهم جميعاً مصيبون ؛ لأنّ الله ليس له حكم ثابت عامّ في
مجالات الاجتهاد التي لا يتوفّر فيها النصّ ، وإنّما يرتبط تعيين الحكم بتقدير
المجتهد وما يؤدّي إليه رأيه واستحسانه ، وهذا هو القول بالتصويب.
وفي هذا الضوء
نتبيَّن بوضوحٍ ما ذكرناه آنفاً من أنّ القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحوّلها
إلى اتّهامٍ مباشرٍ للشريعة بالنقص وعدم الشمول ، الأمر الذي سوّغ لهؤلاء الفقهاء
أن ينفوا وجود حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ في مجالات الاجتهاد ويصوّبوا المجتهدين المختلفين
جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ
فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتّجاه العقلي
المتطرّف تعويضاً
عن النقص المزعوم في البيان الشرعي ، وحينما تطورت فكرة النقص إلى اتّهام الشريعة
نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدّى ذلك إلى تمخّض الاتّجاه العقلي المتطرّف عن القول
بالتصويب.
وهذا التطور في
فكرة النقص ـ الذي أدّى إلى اتّهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين
جميعاً ـ أحدث تغييراً كبيراً في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار
الاتّجاه العقلي المتطرّف ، فحتّى الآن كنّا نتحدّث عن العقل والإدراك العقلي
بوصفه وسيلة إثبات ، أي كاشفاً عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو
السنّة ، ولكنّ فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل
عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملاً تشريعياً لا اكتشافياً ، فالعقل بمعناه
المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتّجاه العقلي المتطرّف لم يعدْ ـ على أساس فكرة
النقص في الشريعة ـ كاشفاً عن الحكم الشرعي ؛ إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات
الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد ، وإنّما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقاً
لِمَا يؤدّي إليه رأيه. وهكذا يتحوّل الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر
تشريع ، ويصبح الفقيه مشرّعاً في مجالات الاجتهاد ومكتشفاً في مجالات النصّ.
ولسنا نريد الآن
أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه ، وإنّما نستهدف الكشف عن خطورة الاتّجاه العقلي
المتطرّف ، وأهمّية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ضدّ هذا الاتّجاه ، إذ لم تكن معركةً ضدّ اتّجاهٍ اصوليٍّ
فحسب ، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها
وشمولها لمختلف مجالات الحياة ، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام في عصر تلك المعركة تؤكّد اشتمال الشريعة على كلّ ما تحتاج
إليه الإنسانية من أحكامٍ وتنظيمٍ في شتّى مناحي حياتها ، وتؤكّد أيضاً وجود
البيان الشرعي
الكافي لكلّ تلك الأحكام متمثّلاً في الكتاب والسنّة النبوية وأقوالهم عليهمالسلام. وفي ما يلي نذكر جملةً من تلك الأحاديث عن اصول الكافي :
١ ـ عن الإمام
الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء
، حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد ؛ حتّى لا يستطيع عبد أن يقول :
لو كان هذا انزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه» .
٢ ـ عنه عليهالسلام أيضاً أنّه قال : «ما من شيءٍ إلّا وفيه كتاب أو سنّة» .
٣ ـ وعن الإمام
موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه قيل له : أكلّ شيءٍ في كتاب الله وسنّة نبيّه أو
تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيءٍ في كتاب الله وسنّة نبيّه» .
٤ ـ وفي حديثٍ عن
الإمام الصادق عليهالسلام يصف فيه الجامعة التي تضمّ أحكام الشريعة ، فيقول : «فيها
كلّ حلالٍ وحرامٍ ، وكلّ شيءٍ يحتاج إليه الناس حتّى الأرش في الخدش» .
ردّ الفعل المعاكس في النطاق السنّي :
ولا يعني خوض
مدرسة أهل البيت معركةً حاميةً ضدّ الاتّجاه العقلي المتطرّف أنّ هذا الاتّجاه كان
مقبولاً على الصعيد السنّي بصورةٍ عامة ، وأنّ المعارضة كانت تتمثّل في الفقه
الإمامي خاصّة ، بل إنّ الاتّجاه العقلي المتطرّف قد لقي معارضةً في النطاق السنّي
أيضاً ، وكانت له ردود فعلٍ معاكسة في مختلف حقول الفكر.
__________________
فعلى الصعيد
الفقهي تمثّل ردّ الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد داود ابن عليّ بن خلف
الأصبهاني في أواسط القرن الثالث ، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنّة ،
والاقتصار على البيان الشرعي ، ويشجب الرجوع إلى العقل.
وانعكس ردّ الفعل
على البحوث العقائدية والكلامية متمثّلاً في الاتّجاه الأشعري الذي عطّل العقل
وزعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي. فبينما كان
المقرّر عادةً بين العلماء : أنّ وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكماً شرعياً ،
وإنّما هو حكم عقلي ؛ لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوة دفعٍ وتأثير في حياة الإنسان
إلّا بعد أن يعرف الإنسان ربّه وشريعته ، فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة
ذلك من نوعٍ آخر غير نوع الحكم الشرعي ، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي ، أقول :
بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين خالف في ذلك الأشعري ، إذ عزل
العقل عن صلاحية إصدار أيِّ حكم ، وأكّد أنّ وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب
الصوم والصلاة.
وامتدَّ ردّ الفعل
إلى علم الأخلاق ـ وكان وقتئذٍ يعيش في كنف علم الكلام ـ فأنكر الأشاعرة قدرة
العقل على تمييز الحُسن من الأفعال عن قبيحها حتّى في أوضح الأفعال حُسناً أو
قبحاً ، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما ، وإنّما صار الأول قبيحاً
والثاني حسناً بالبيان الشرعي ، ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل
لم يكن للعقل أيّ حقٍّ للاعتراض على ذلك.
وردود الفعل هذه
كانت تشتمل على نكسةٍ وخطرٍ كبيرٍ قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان الاتّجاه العقلي
المتطرّف يستبطنه ؛ لأنّها اتّجهت إلى القضاء على العقل بشكلٍ مطلق ، وتجريده عن
كثيرٍ من صلاحياته ، وإيقاف النموّ العقلي في الذهنية الإسلامية بحجّة التعبّد
بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنّة. ولهذا
كانت تختلف
اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت عليهمالسلام التي كانت تحارب الاتّجاه العقلي المتطرّف ، وتؤكّد في نفس
الوقت أهمّية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة ، واعتباره ضمن تلك
الحدود أداةً رئيسيةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي ، حتى جاء في نصوص أهل البيت عليهمالسلام : «أنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ،
فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» .
وهذا النصّ يقرّر
بوضوحٍ وضع العقل إلى صفّ البيان الشرعي أداةً رئيسيةً للإثبات.
وهكذا جمعت مدرسة
أهل البيت عليهمالسلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص ، وحماية العقل من مصادرة
الجامدين.
وسوف نعود إلى
الموضوع بصورةٍ علميةٍ موسّعةٍ في الحلقات المقبلة.
٢ ـ المعركة إلى صفّ
العقل :
وأمّا الاتّجاه
الآخر المتطرّف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل نطاق الفكر الإمامي فقد تمثّل
في جماعةٍ من علمائنا اتّخذوا اسم «الأخباريّين والمحدّثين» ، وقاوموا دور العقل
في مختلف الميادين ، ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط ؛ لأنّ العقل عرضة
للخطإ ، وتأريخ الفكر العقلي زاخر بالأخطاء ، فلا يصلح لكي يستعمل أداةَ إثباتٍ في
أيّ مجالٍ من المجالات الدينية.
وهؤلاء الأخباريون
هم نفس تلك الجماعة التي شنّت حملةً ضدّ الاجتهاد ،
__________________
كما أشرنا في
البحث السابق.
ويرجع تأريخ هذا
الاتّجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر ، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذٍ
في المدينة باسم «الميرزا محمد أمين الاسترابادي» المتوفّى سنة (١٠٢٣ ه) ، ووضع
كتاباً أسماه «الفوائد المدنية» بلور فيه هذا الاتّجاه وبرهن عليه ومذهبه ، أي
جعله مذهباً.
ويؤكّد
الاسترابادي في هذا الكتاب أنّ العلوم البشرية على قسمين : أحدهما العلم الذي
يستمدّ قضاياه من الحسّ ، والآخر العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحسّ ،
ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسّي.
ويرى المحدّث
الاسترابادي أنّ من القسم الأول الرياضيات التي تستمدّ خيوطها الأساسية ـ في زعمه
ـ من الحسّ ، وأمّا القسم الثاني فيمثّل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا
بعيدةً عن متناول الحسّ وحدوده ، من قبيل تجرّد الروح ، وبقاء النفس بعد البدن ،
وحدوث العالم.
وفي عقيدة المحدّث
الاسترابادي أنّ القسم الأول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة ؛ لأنّه
يعتمد على الحسّ ، فالرياضيات ـ مثلاً ـ تعتمد في النهاية على قضايا في متناول
الحسّ ، نظير أنّ (٢+ ٢ / ٤). وأمّا القسم الثاني فلا قيمة له ، ولا يمكن الوثوق
بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم ؛ لانقطاع صلته بالحسّ .
وهكذا يخرج
الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحسّ معياراً أساسياً لتمييز قيمة المعرفة
ومدى إمكان الوثوق بها.
ونحن في هذا الضوء
نلاحظ بوضوحٍ اتّجاهاً حسّياً في أفكار المحدّث
__________________
الاسترابادي يميل
به إلى المذهب الحسّي في نظرية المعرفة القائل : بأنّ الحسّ هو أساس المعرفة ،
ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الأخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب
التي تسرَّب منها الاتّجاه الحسّي إلى تراثنا الفكري.
وقد سبقت
الأخبارية ـ بما تمثّل من اتّجاهٍ حسّيٍّ ـ التيار الفلسفي الحسّي الذي نشأ في
الفلسفة الاوروبية على يد «جون لوك» المتوفّى سنة (١٧٠٤ م) ، و «دافيد هيوم»
المتوفّى سنة (١٧٧٦ م) ، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة «جون لوك» بمائة سنةٍ
تقريباً ، ونستطيع أن نعتبره معاصراً ل «فرنسيس بيكون» المتوفّى سنة (١٦٢٦ م) ،
الذي مهّد للتيار الحسّي في الفلسفة الاوروبية.
وعلى أيِّ حالٍ
فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الأخبارية والمذاهب الحسّية
والتجريبية في الفلسفة الاوروبية ، فقد شنّت جميعاً حملةً كبيرةً ضدّ العقل ،
وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ.
وقد أدّت حركة
المحدّث الاسترابادي ضدّ المعرفة العقلية المنفصلة عن الحسّ إلى نفس النتائج التي
سجّلتها الفلسفات الحسّية في تأريخ الفكر الاروبي ، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط
مدعوّةً ـ بحكم اتّجاهها الخاطئ ـ إلى معارضة كلّ الأدلّة العقلية التي يستدلّ بها
المؤمنون على وجود الله سبحانه ؛ لأنّها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة
عن الحس.
فنحن نجد مثلاً
محدّثاً ـ كالسيّد نعمة الله الجزائري ـ يطعن في تلك الأدلّة بكلّ صراحةٍ وفقاً
لاتّجاهه الأخباري ، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر
النجفية ، ولكنّ ذلك لم يؤدِّ بالتفكير الأخباري الى الإلحاد كما
أدّى بالفلسفات الحسّية الاوروبية ؛ لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على
__________________
نشوء كلٍّ منهما ،
فإنّ الاتّجاهات الحسّية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر
العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهمّيتها ، فكان لديها الاستعداد لنفي كلّ
معرفةٍ عقلية منفصلةٍ عن الحسّ.
وأمّا الحركة
الأخبارية فكانت ذات دوافع دينية ، وقد اتّهمت العقل لحساب الشرع ، لا لحساب
التجربة ، فلم يكن من الممكن أن تؤدّي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدين.
ولهذا كانت الحركة
الأخبارية تستبطن ـ في رأي كثيرٍ من ناقديها ـ تناقضاً ؛ لأنّها شجبت العقل من
ناحيةٍ لكي تُخلِي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي ، وظلّت من ناحيةٍ اخرى
متمسّكةً به لإثبات عقائدها الدينية ؛ لأنّ إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون
عن طريق البيان الشرعي ، بل يجب أن يكون عن طريق العقل.
تأريخ علم الاصول
مولد علم الاصول :
نشأ علم الاصول في
أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث ؛ تبعاً للمراحل التي
مرَّ بها علم الشريعة.
ونريد بعلم
الشريعة : العلم الذي يحاول التعرّف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند الله
تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثّلاً في الحملة التي قام بها عدد
كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام وجمعها ، ولهذا كان علم الشريعة
في مرحلته الاولى قائماً على مستوى علم الحديث ، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن
يكون مقتصراً على جمع الروايات وحفظ النصوص. وأمّا طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك
النصوص والروايات فلم تكن ذات شأنٍ في تلك المرحلة ؛ لأنّها لم تكن تعدو الطريقة
الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعضٍ في المحاورات الاعتيادية.
وتعمّقت بالتدريج
طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص ، حتّى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية
عملاً لا يخلو عن دقّة ، ويتطلّب شيئاً من العمق والخبرة ، فانصبّت الجهود وتوافرت
لاكتساب تلك الدقّة التي أصبح فهم
الحكم الشرعي من
النصّ واستنباطه من مصادره بحاجةٍ إليها ، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي
وولد علم الفقه ، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط
والاستدلال العلمي الدقيق.
ومن خلال نموِّ
علم الفقه والتفكير الفقهي وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط ،
وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلّبها من الدقّة والعمق
، أقول : من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط
تبدو وتتكشّف ، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في
عناصر عامةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد
التفكير الاصولي وعلم الاصول ، واتّجاه الذهنية الفقهية اتّجاهاً اصوليّاً.
وهكذا ولد علم
الاصول في أحضان علم الفقه ، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون
العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعيٍ كاملٍ بطبيعتها وحدودها وأهمّية
دورها في العملية أصبحوا بعد تغلغل الاتّجاه الاصولي في التفكير الفقهي يَعُونَ
تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها.
ولا نشكّ في أنّ
بذرة التفكير الاصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة عليهمالسلام منذ أيام الصادقَين عليهماالسلام على مستوى تفكيرهم الفقهي ، ومن الشواهد التأريخية على ذلك
ما ترويه كتب الحديث من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط وجَّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق عليهالسلام وغيره من الأئمّة عليهمالسلام وتلقَّوا جوابها منهم . فإنّ تلك الأسئلة
__________________
تكشف عن وجود بذرة
التفكير الاصولي عندهم ، واتّجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر
المشتركة. ويعزّز ذلك : أنّ بعض أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ألّفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية ، كهشام بن الحكم من
أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام الذي ألّف رسالةً في الألفاظ .
وبالرغم من ذلك
فإنّ فكرة العناصر المشتركة وأهمّية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح
والعمق الكافيَين في أول الأمر ، وإنّما اتّضحت معالمها وتعمّقت بالتدريج خلال
توسّع العمل الفقهي ونموّ عمليات الاستنباط ، ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة
بوصفها دراسةً علميةً مستقلّةً عن البحوث الفقهية وتصبح قائمةً بنفسها إلّا بعد
مضيِّ زمنٍ منذ ولادة البذور الاولى للتفكير الاصولي ، فقد عاش البحث الاصولي
ردحاً من الزمن ممتزجاً بالبحث الفقهي غير مستقلٍّ عنه في التصنيف والتدريس ، وكان
الفكر الاصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحاً وتحديداً ، حتّى بلغ في ثرائه
ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.
ويبدو أنّ بحوث
الاصول حتّى حين وصلت إلى مستوى يؤهِّلها للاستقلال بقيت تتذبذب بين علم الفقه
وعلم اصول الدين ، حتّى أنّها كانت أحياناً تُخلَط
__________________
ببحوثٍ في اصول
الدين والكلام ، كما يشير إلى ذلك السيّد المرتضى في كتابه الاصولي «الذريعة» ، إذ
يقول : «قد وجدت بعض من أفرد لُاصول الفقه كتاباً ـ وإن كان قد أصاب في سرد معانيه
وأوضاعه ومبانيه ـ ولكنّه قد شرد عن اصول الفقه واسلوبها وتعدّاها كثيراً وتخطّاها
، فتكلّم على حدّ العلم والنظر ، وكيف يولِّد النظر العلم؟ ووجوب المسبّب عن السبب
... إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في اصول الدين دون اصول
الفقه» .
وهكذا نجد أنّ
استقلال علم اصول الفقه بوصفه علماً للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم
الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقهٍ وكلامٍ لم ينجزْ إلّا بعد أن
اتّضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظامٍ عامٍّ
لها ، الأمر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الاصولي وطبيعة البحوث الفقهية
والكلامية ، وأدّى بالتالي إلى قيام علمٍ مستقلٍّ باسم «علم اصول الفقه».
وبالرغم من تمكّن
علم الاصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام «علم اصول الدين» فقد
بقيت فيه رواسب فكرية يرجع تأريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام ، وظلّت
تلك الرواسب مصدراً للتشويش ، فمن تلك الرواسب ـ على سبيل المثال ـ الفكرة القائلة
بأنّ أخبار الآحاد «وهي الروايات الظنّية التي لا يعلم صدقها» لا يمكن الاستدلال
بها في الاصول ؛ لأنّ الدليل في الاصول يجب أن يكون قطعياً.
فإنّ مصدر هذه
الفكرة هو علم الكلام ، ففي هذا العلم قرّر العلماء أنّ اصول الدين تحتاج إلى
دليلٍ قطعي ، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد
__________________
ـ مثلاً ـ بأخبار
الآحاد ، وقد أدّى الخلط بين علم اصول الدين وعلم اصول الفقه واشتراكهما في كلمة «الاصول»
إلى تعميم تلك الفكرة إلى اصول الفقه ، ولهذا نرى الكتب الاصولية ظلّت إلى زمان
المحقّق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط
بخبر الواحد انطلاقاً من تلك الفكرة.
ونحن نجد في كتاب
الذريعة لدى مناقشة الخلط بين اصول الفقه واصول الدين تصوّراتٍ دقيقةً نسبياً
ومحدّدةً عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد كتب يقول : «اعلم : أنّ
الكلام في اصول الفقه إنّما هو على الحقيقة كلام في أدلّة الفقه ... ، ولا يلزم
على ما ذكرناه أن تكون الأدلّة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب
الفقهاء اصولاً ؛ لأنّ الكلام في اصول الفقه إنّما هو كلام في كيفية دلالة ما يدلّ
من هذه الاصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل ، وأدلّة الفقهاء إنّما هي
على نفس المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل» .
وهذا النصّ في
مصدرٍ من أقدم المصادر الاصولية في التراث الشيعي يحمل بوضوحٍ فكرة العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط ، ويسمّيها أدلّة الفقه على الإجمال ، ويميِّز بين
البحث الاصولي والفقهي على أساس التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية
، أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة في تعبيرنا ، وهذا يعني أنّ فكرة
العناصر المشتركة كانت مختمرةً وقتئذٍ الى درجةٍ كبيرة ، والفكرة ذاتها نجدها بعد
ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهرة
__________________
والمحقّق الحلّي وغيرهم ، فإنّهم جميعاً عرّفوا علم الاصول بأنّه «علم
أدلّة الفقه على وجه الإجمال» وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.
ففي كتاب العدّة قال
الشيخ الطوسي : «اصول الفقه هي أدلّة الفقه ، فإذا تكلّمنا في هذه الأدلّة فقد
نتكلّم فيما يقتضيه من إيجابٍ وندبٍ وإباحة ، وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة
، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلّة الموصلة إلى فروع الفقه ؛ لأنّ هذه الأدلّة
أدلّة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل» .
ومصطلح الإجمالية
والتفصيلية يعبّر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة.
ونستخلص ممّا
تقدّم : أنّ ظهور علم الاصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط كان يتوقّف على وصول عملية الاستنباط إلى درجةٍ من الدقّة والاتّساع
وتفتّح الفكر الفقهي وتعمّقه ، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخّر ظهور علم
الاصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن
نَما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها
بأساليب البحث العلمي ، ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضاً أن تختمر فكرة العناصر
المشتركة تدريجاً وتدقّ على مرّ الزمن ؛ حتّى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها
الصحيحة ، وتتميّز عن بحوث الفقه وبحوث اصول الدين.
__________________
الحاجةُ إلى علم الاصول
تأريخيةٌ :
ولم يكن تأخّر
ظهور علم الاصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ناتجاً عن ارتباط العقلية
الاصولية بمستوى متقدّمٍ نسبياً من التفكير الفقهي فحسب ، بل هناك سبب آخر له
أهمّية كبيرة في هذا المجال ، وهو : أنّ علم الاصول لم يوجد بوصفه لوناً من ألوان
الترف الفكري ، وإنّما وجد تعبيراً عن حاجةٍ ملحَّةٍ شديدةٍ لعملية الاستنباط التي
تتطلّب من علم الاصول تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها ، ومعنى هذا
: أنّ الحاجة إلى علم الاصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة
التي تدرس في هذا العلم وتحدّد ، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الاصولية
هي في الواقع حاجة تأريخية ، وليست حاجة مطلقة ، أي أنّها حاجة توجد وتشتدّ بعد أن
يبتعد الفقه عن عنصر النصوص ، ولا توجد بتلك الدرجة في الفقه المعاصر لعصر النصوص.
ولكي تتّضح الفكرة
لديك : افرض نفسك تعيش عصر النبوّة على مقربةٍ من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تسمع منه الأحكام مباشرةً ، وتفهم النصوص الصادرة منه بحكم
وضوحها اللغوي ومعاصرتك لكلّ ظروفها وملابساتها ، أَفكنت بحاجةٍ ـ لكي تفهم الحكم
الشرعي ـ أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ اصوليٍّ كعنصر حجّية الخبر وأنت تسمع النصّ
مباشرةً من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو ينقله لك اناس تعرفهم مباشرةً ولا تشكّ في صدقهم؟ أَوَكنت
في حاجةٍ إلى أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ اصوليٍّ كعنصر حجّية الظهور العرفي وأنت
تدرك بسماعك للنصّ الصادر من النبيّ معناه الذي يريده إدراكاً واضحاً لا يشوبه شكّ
في كثيرٍ من الأحيان بحكم اطّلاعك على جميع ملابسات النصّ وظروفه؟ أَوَكنت بحاجةٍ
إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبيّ وأنت قادر على
سؤاله والاستيضاح منه
بدلاً عن التفكير في
تلك القواعد؟
وهذا يعني : أنّ
الإنسان كلّما كان أقرب إلى عصر التشريع وأكثر امتزاجاً بالنصوص كان أقلّ حاجة إلى
التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة ؛ لأنّ استنباط الحكم الشرعي يتمّ
عندئذٍ بطريقةٍ ميسّرةٍ دون أن يواجه الفقيه ثغراتٍ عديدةً ليفكِّر في ملئها عن
طريق العناصر الاصولية. وأمّا إذا ابتعد الفقيه عن عصر النصّ واضطرّ إلى الاعتماد
على التأريخ والمؤرّخين والرواة والمحدّثين في نقل النصوص فسوف يواجه ثغراتٍ
كبيرةً وفجواتٍ تضطرّه إلى التفكير في وضع القواعد لملئها ، فهل صدر النصّ المرويّ
من المعصوم حقيقةً أو كَذِبَ الراوي أو أخطأ في نقله؟ وما ذا يريد المعصوم بهذا
النصّ؟ هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلاً من النصّ حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما
يوضّحه من الظروف والملابسات التي عاشها النصّ ولم نعِشْها معه؟ وما ذا يصنع
الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نصٍّ في المسألة؟
وهكذا يصبح
الإنسان بحاجةٍ إلى عنصرٍ كحجّية الخبر ، أو حجّية الظهور العرفي ، أو غيرهما من
القواعد الاصولية.
وهذا هو ما نقصده
من القول بأنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية
الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها ؛ لأنّ
الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط.
وهذه الثغرات هي التي توجِد الحاجةَ الملحَّةَ إلى علم الاصول والقواعد الاصولية.
وارتباط الحاجة
إلى علم الاصول بتلك الثغرات ممّا أدركه الرّوّاد الأوائل لهذا العلم ، فقد كتب
السيد الجليل حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي ـ المتوفّى سنة ٥٨٥ ه ـ في
القسم الأول من كتابه الغنية يقول : «لمّا كان الكلام في
فروع الفقه يبنى
على اصولٍ له وجب الابتداء باصوله ثمّ اتباعها بالفروع ، وكان الكلام في الفروع من
دون إحكام أصله لا يثمر ، وقد كان بعض المخالفين سأل فقال : إذا كنتم لا تعملون في
الشرعيات إلّا بقول المعصوم فأيّ فقرٍ بكم إلى اصول الفقه؟ وكلامكم فيها كأنّه عبث
لا فائدة فيه» .
ففي هذا النصّ
يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الاصول والثغرات في عملية الاستنباط ، إذ يجعل
التزام الإمامية بالعمل بقول الإمام عليهالسلام فحسب سبباً لاعتراض القائل بأنّهم ما داموا كذلك لا حاجة
لهم بعلم الاصول ؛ لأنّ استخراج الحكم إذا كان قائماً على أساس قول المعصوم
مباشرةً فهو عمل ميسَّر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلّب التفكير في وضع القواعد
والعناصر الاصولية لملئها.
ونجد في نصٍّ
للمحقّق السيّد محسن الأعرجي ـ المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه) ـ في كتابه الفقهي «وسائل
الشيعة» وعياً كاملاً لفكرة الحاجة التأريخية لعلم الاصول ، فقد تحدّث عن اختلاف
القريب من عصر النصّ عن البعيد منه في الظروف والملابسات ، وقال في جملة كلامه : «أين
مَن حَظِيَ بالقرب ممّن ابتلي بالبعد حتّى يدّعى تساويهما في الغنى والفقر؟ كلّا
إنّ بينهما ما بين السماء والأرض ، فقد حدث بطول الغيبة وشدّة المحنة وعموم
البليّة ما لو لا الله وبركة آل الله لردّها جاهلية ، فسدت اللغات ، وتغيّرت
الاصطلاحات ، وذهبت قرائن الأحوال ، وكثرت الأكاذيب ، وعظمت التقية ، واشتدّ
التعارض بين الأدلّة ، حتّى لا تكاد تعثر على حكمٍ يسلم منه ، مع ما اشتملت عليه
من دواعي الاختلاف ، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال. وكفاك مائزاً بين الفريقين
قرائن الأحوال ، وما يشاهد في المشافهة من الانبساط والانقباض ... ، وهذا بخلاف من
لم يصب
__________________
إلّا أخباراً
مختلفةً وأحاديث متعارضةً يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب والسنّة المعلومة ... ،
فإنّه لا بدّ له من الإعداد والاستعداد والتدرّب في ذلك كي لا يزلّ ، فإنّه إنّما
يتناول من بين مشتبك القنا» .
وفي هذا الضوء
نعرف أنّ تأخّر علم الاصول تأريخياً لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطوّر الفكر الفقهي
ونموّ الاستنباط ، بل هو ناتج أيضاً عن طبيعة الحاجة إلى علم الاصول فإنّها حاجة
تأريخية توجد وتشتدّ تبعاً لمدى الابتعاد عن عصر النصوص.
التصنيف في علم الاصول :
وعلى الضوء
المتقدِّم الذي يقرّر أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية نستطيع أن نفسِّر
الفارق الزمني بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهي السنّي وازدهاره في
نطاق تفكيرنا الفقهي الإمامي ، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر
نسبياً في نطاق الفقه السنّي قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الإمامي ، حتّى
أنّه يقال : إنّ علم الاصول على الصعيد السنّي دخل في دور التصنيف في أواخر القرن
الثاني ، إذ ألّف في الاصول كلّ من الشافعي ـ المتوفّى سنة ١٨٢ ه ـ ومحمد بن الحسن الشيباني ـ المتوفّى
__________________
سنة ١٨٩ ه ـ بينما
قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الاصول على الصعيد الشيعي إلّا في أعقاب الغيبة
الصغرى ـ أي في مطلع القرن الرابع ـ بالرغم من وجود رسائل سابقةٍ لبعض أصحاب
الأئمّة عليهمالسلام في مواضيع اصوليةٍ متفرّقة .
وما دمنا قد عرفنا
أنّ نموّ التفكير الاصولي ينتج عن الحاجة إلى الاصول في عالم الاستنباط ، وأنّ هذه
الحاجة تأريخية تتّسع وتشتدّ بقدر الابتعاد عن عصر النصوص فمن الطبيعي أن يوجد ذلك
الفارق الزمني وأن يسبق التفكير الاصولي السنّي الى النموّ والاتّساع ؛ لأنّ المذهب
السنّي كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فحين اجتاز التفكير الفقهي السنّي القرن الثاني كان قد
ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات في
عملية الاستنباط ؛ الأمر الذي يوحي بالحاجة الشديدة إلى وضع القواعد العامة
الاصولية لملئها.
وأمّا الإمامية
فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمام عليهالسلام امتداد لوجود النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط
أقلَّ بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم
الاصول.
ولهذا نجد أنّ
الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة
الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت ذهنيتهم الاصولية وأقبلوا على
__________________
درس العناصر
المشتركة ، وحقّقوا تقدّماً في هذا المجال على يد الروّاد النوابغ من فقهائنا ، من
قبيل الحسن بن عليّ بن أبي عقيل ، ومحمد بن أحمد ابن الجنيد الإسكافي في القرن الرابع.
ودخل علم الاصول
بسرعةٍ دور التصنيف والتأليف ، فألّف الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقّب
بالمفيد ـ المتوفّى سنة ٤١٣ ه ـ كتاباً في الاصول ، واصل فيه الخطّ الفكري الذي سار عليه ابن أبي عقيل وابن
الجنيد قبله ، ونَقَدهما في جملةٍ من آرائهما.
وجاء بعده تلميذه
السيّد المرتضى ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ه ـ فواصل تنمية الخطّ الاصولي ،
وأفرد لعلم الاصول كتاباً موسّعاً نسبياً سمّاه «الذريعة» ، وذكر في مقدّمته : أنّ هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتّجاهات
الاصولية التي تميِّز الإمامية باستيعابٍ وشمول.
ولم يكن السيّد
المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف
فيه ، بل صنَّف فيه أيضاً عدد آخر من تلامذة المفيد ، منهم سلّار بن عبد العزيز
الديلمي ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ه ـ إذ كتب كتاباً باسم «التقريب في اصول الفقه» .
__________________
ومنهم الشيخ
الفقيه المجدِّد محمد بن الحسن الطوسي ـ المتوفّى سنة ٤٦٠ ه ـ الذي انتهت إليه
الزعامة الفقهية بعد استاذيه الشيخ المفيد والسيّد المرتضى ، فقد كتب كتاباً في
الاصول باسم «العدّة في الاصول» ، وانتقل علم الاصول على يده إلى دورٍ جديدٍ من
النضج الفكري ، كما انتقل الفقه أيضاً إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسّع.
وكان يقوم في هذا
العصر إلى صفّ البحث الاصولي عمل واسع النطاق في جمع الأحاديث المنقولة عن أئمّة
أهل البيت عليهمالسلام ودمج المجاميع الصغيرة في موسوعاتٍ كبيرة ، فما انتهى ذلك
العصر حتّى حصل الفكر العلمي الإمامي على مصادر أربعةٍ موسّعةٍ للحديث ، وهي :
الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ المتوفّى سنة ٣٢٩ ه ـ ومن لا يحضره
الفقيه للصدوق محمد بن عليّ بن الحسين ـ المتوفّى سنة ٣٨١ ه ـ والتهذيب للشيخ
الطوسي ألّفه في حياة الشيخ المفيد ، والاستبصار له أيضاً. وتسمّى هذه الكتب في
العرف الإمامي بالكتب الأربعة.
تطوّر علم النظرية وعلم
التطبيق على يد الشيخ الطوسي :
لم تكن مساهمة
الشيخ الطوسي في الاصول مجرّد استمرار للخطّ ، وإنّما كانت تعبِّر عن تطورٍ جديدٍ
كجزءٍ من تطورٍ شاملٍ في التفكير الفقهي والعلمي كلّه اتيح لهذا الفقيه الرائد أن
يحقّقه ، فكان كتاب «العدّة» تعبيراً عن الجانب الاصولي من التطور ، بينما كان
كتاب «المبسوط» في الفقه تعبيراً عن التطور العظيم في البحث الفقهي على صعيد التطبيق
بالشكل الذي يوازي التطور الاصولي على صعيد النظريات.
والفارق الكيفي
بين اتّجاهات العلم التي انطلقت من هذا التطور الجديد
واتّجاهاته قبل
ذلك يسمح لنا باعتبار الشيخ الطوسي حدّاً فاصلاً بين عصرين من عصور العلم ؛ بين
العصر العلمي التمهيدي والعصر العلمي الكامل ، فقد وضع هذا الشيخ الرائد حدّاً
للعصر التمهيدي ، وبدأ به عصر العلم الذي أصبح الفقه والاصول فيه علماً له دقّته
وصناعته وذهنيته العلمية الخاصّة.
ولعلّ أفضل طريقةٍ
ممكنةٍ في حدود إمكانات هذه الحلقة لتوضيح التطور العظيم الذي أحرزه العلم على يد
الشيخ الطوسي أن نلاحظ نصَّين ، كتب الشيخ أحدهما في مقدّمة كتاب «العدّة» ، وكتب
الآخر في مقدّمة كتاب «المبسوط».
أمّا في كتاب «العدّة»
فقد كتب في مقدِّمته يقول : «سألتم ـ أيّدكم الله ـ إملاء مختصرٍ في اصول الفقه
يحيط بجميع أبوابه على سبيل الإيجاز والاختصار على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه
اصولنا ، فإنّ من صنَّف في هذا الباب سلك كلّ قومٍ منهم المسلك الذي اقتضاه اصولهم
، ولم يعهد من أصحابنا لأحدٍ في هذا المعنى إلّا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمهالله في «المختصر» الذي له في اصول الفقه ولم يستقصه ، وشذّ منه
أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حرّرها ، وإنّ سيّدنا الأَجَلّ المرتضى
ـ أدام الله علوّه ـ وإن أكثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك فلم يصنِّف في هذا
المعنى شيئاً يرجع إليه ويجعل ظهراً يستند إليه ، وقلتم : إنّ هذا فنّ من العلم لا
بدّ من شدّة الاهتمام به ؛ لأنّ الشريعة كلّها مبنيّة عليه ، ولا يتمّ العلم بشيءٍ
منها دون إحكام اصولها ، ومن لم يُحكم اصولَها فإنّما يكون حاكياً ومعتاداً ، ولا
يكون عالماً» .
وهذا النصّ من
الشيخ الطوسي يعكس مدى أهمّية العمل الاصولي الذي
__________________
أنجزه قدسسره في كتاب «العدّة» وطابعه التأسيسي في هذا المجال ، وما
حقّقه من وضع النظريات الاصولية ضمن الإطار المذهبي العام للإمامية.
ويعزّز هذا النصّ
من الناحية التأريخية أوّلية الشيخ المفيد في التصنيف الاصولي على الصعيد الشيعي ،
كما أنّه يدلّ على أنّ الشيخ الطوسي كتب كتاب «العدّة» أو بدأ به في حياة السيّد
المرتضى ، إذ دعا له بالبقاء. ولعلّه لأجل ذلك لم يكن يعرف وقتئذٍ شيئاً عن كتاب
الذريعة للمرتضى ، إذ نفى وجود كتابٍ له في علم الاصول. وهذا يعني أنّ الطوسي بدأ
بكتابه قبل أن يكتب المرتضى الذريعة ، أو أنّ الذريعة كانت مؤلّفةً فعلاً ولكنّها
لم يعلن عنها ولم يطّلع عليها الشيخ الرائد حين بدأ تصنيفه للكتاب.
وكتب الشيخ الطوسي
في كتابه الفقهي العظيم «المبسوط» يقول : «إنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من
المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفّون بفقه أصحابنا الإمامية ، وينسبونهم
إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل ، ويقولون : إنّهم أهل حَشوٍ ومناقصة ، وإنّ من
ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول ؛ لأنّ
جُلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين ، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّلٍ
لُاصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنّ جُلَّ ما ذكروه من المسائل
موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمّتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا خصوصاً ، أو عموماً ، أو تصريحاً ، أو تلويحاً.
وأمّا ما كثَّروا
به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلّا وله مدخل في اصولنا ومخرج على
مذاهبنا ، لا على وجه القياس ، بل على طريقةٍ توجب علماً يجب العمل عليها ، ويسوغ
المصير إليها من البناء على الأصل ، وبراءة الذمة ، وغير ذلك. مع أنّ أكثر الفروع
لها مدخل في ما نصّ عليه أصحابنا ، وإنّما كثر
عددها عند الفقهاء
؛ لتركيبهم المسائل بعضها على بعضٍ ، وتعليقها والتدقيق فيها ، حتى أنّ كثيراً من
المسائل الواضحة دقّ لضربٍ من الصناعة وإن كانت المسألة معلومةً واضحة.
وكنتُ على قديم
الوقت وحديثه متشوِّق النفس إلى عمل كتابٍ يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه ، فيقطعني
عن ذلك القواطع ، وتشغلني الشواغل ، وتضعِّف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه
الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ؛ لأنّهم ألّفوا الأخبار وما رَوَوه من صريح
الألفاظ ، حتّى أنّ مسألةً لو غيِّر لفظها وعبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد
لهم لَعجبوا منها وقصر فهمهم عنها.
وكنتُ عملت على
قديم الوقت كتاب «النهاية» ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأَصَّلُوها
من المسائل وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه ، وجمعت بين النظائر ، ورتّبت
فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على
المسائل ، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها ، بل
أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة ؛ حتّى لا يستوحشوا من ذلك ، وعملت
بآخره مختصر «جمل العقود» في العبادات ، سلكت فيه طريق الإيجاز والاختصار وعقود
الأبواب في ما يتعلّق بالعبادات ، ووعدت فيه أن أعمل كتاباً في الفروع خاصّةً يضاف
إلى كتاب النهاية ويجتمع معه يكون كاملاً كافياً في جميع ما يحتاج إليه ، ثمّ رأيت
أنّ ذلك يكون مبتوراً يصعب فهمه على الناظر فيه ؛ لأنّ الفرع إنّما يفهمه إذا ضبط
الأصل معه ، فعدلت إلى عمل كتابٍ يشتمل على عددٍ بجميع كتب الفقه التي فصّلها
الفقهاء ، وهي نحو من ثلاثين كتاباً ، أذكر كلّ كتابٍ منه على غاية ما يمكن تلخيصه
من الألفاظ ، واقتصرت على مجرّد الفقه دون الأدعية والآداب ، وأعقد فيه الأبواب ،
واقسِّم فيه المسائل ، وأجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء ،
وأذكر أكثر الفروع
التي ذكرها المخالفون ، وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه اصولنا بعد أن
أذكر اصول جميع المسائل ... ، وهذا الكتاب إذا سهّل الله تعالى إتمامه يكون كتاباً
لا نظير له ، لا في كتب أصحابنا ، ولا في كتب المخالفين ، لأنى إلى الآن ما عرفت
لأحدٍ من الفقهاء كتاباً واحداً يشتمل على الاصول والفروع مستوفياً مذهبنا ، بل
كتبهم وإن كانت كثيرةً فليس يشتمل عليهما كتاب واحد. وأمّا أصحابنا فليس لهم في
هذا المعنى ما يشار إليه ، بل لهم مختصرات» .
وهذا النصّ يعتبر
من الوثائق التأريخية التي تتحدّث عن المراحل البدائية من تكوّن الفكر الفقهي التي
مرّ بها علم الشريعة لدى الإمامية ونما من خلالها حتى أنتج أمثال الشيخ الطوسي من
النوابغ الذين نقلوه إلى مستوى أوسع وأعمق.
ويبدو من هذا
النصّ أنّ البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي وأدركه هذا الفقيه العظيم وضاق به
كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص ، وهي ما
سمّاها الشيخ الطوسي باصول المسائل ، ويتقيّد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ
التي جاءت في مصادرها من تلك الأحاديث. ومن الطبيعي أنّ البحث الفقهي حين يقتصر
على اصول المسائل المعطاة بصورةٍ مباشرةٍ في النصوص ويتقيّد بصيغتها المأثورة يكون
بحثاً منكمشاً لا مجال فيه للإبداع والتعمّق الواسع النطاق.
وكتاب المبسوط كان
محاولةً ناجحةً وعظيمةً في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه
الضيِّق المحدود في اصول المسائل إلى نطاقٍ واسعٍ
__________________
يمارس الفقيه فيه
التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام ، وتطبيق القواعد العامة ، ويتتبّع أحكام
مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص.
وبدرس نصوص الفقيه
الرائد ـ رضوان الله عليه ـ في العدّة والمبسوط يمكننا أن نستخلص الحقيقتين
التاليتين :
إحداهما : أنّ علم
الاصول في الدور العلمي الذي سبق الشيخ الطوسي كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي
الذي كان يقتصر وقتئذٍ على اصول المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص ، ولم يكن
بإمكان علم الاصول في تلك الفترة أن ينمو نموّاً كبيراً ؛ لأنّ الحاجات المحدودة
للبحث الفقهي الذي حصر نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص لم تكن تساعد على
ذلك ، فكان من الطبيعي أن ينتظر علم الاصول نموّ التفكير الفقهي واجتيازه تلك
المراحل التي كان الشيخ الطوسي يَضيق بها ويشكو منها.
والحقيقة الاخرى
هي : أنّ تطوّر علم الاصول الذي يمثّله الشيخ الطوسي في كتاب «العدّة» كان يسير في
خطٍّ موازٍ للتطوّر العظيم الذي انجز في تلك الفترة على الصعيد الفقهي. وهذه
الموازاة التأريخية بين التطورين تعزِّز الفكرة التي قلناها سابقاً عن التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي ، أي بين بحوث
النظرية وبحوث التطبيق الفقهي ، فإنّ الفقيه الذي يشتغل في حدود التعبير عن مدلول
النصّ ومُعطاهُ المباشر بنفس عبارته أو بعبارةٍ مرادفةٍ ويعيش قريباً من عصر صدوره
من المعصوم لا يحسّ بحاجةٍ شديدةٍ إلى قواعد ، ولكنّه حين يدخل في مرحلة التفريع
على النصّ ودرس التفصيلات وافتراض
__________________
فروضٍ جديدةٍ
لاستخراج حكمها بطريقةٍ ما من النصّ يجد نفسه بحاجةٍ كبيرةٍ ومتزايدةٍ إلى العناصر
والقواعد العامة ، وتنفتح أمامه آفاق التفكير الاصولي الرحيبة.
ويجب أن لا نفهم
من النصوص المتقدّمة التي كتبها الشيخ الطوسي أنّ نقل الفكر الفقهي من دور
الاقتصار على اصول المسائل والجمود على صيغ الروايات إلى دور التفريع وتطبيق
القواعد قد تمّ على يد الشيخ فجأةً وبدون سابق إعداد ، بل الواقع أنّ التطوّر الذي
أنجزه الشيخ في الفكر الفقهي كان له بذوره التي وضعها قبله استاذاه السيّد المرتضى
والشيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد ، كما أشرنا سابقاً ، وكان لتلك البذور أهمّيتها من الناحية العلمية ، حتى نقل
عن أبي جعفر بن معد الموسوي ـ وهو متأخّر عن الشيخ الطوسي ـ أنّه وقف على
كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه «التهذيب» ، فذكر أنّه لم يرَ لأحدٍ من الطائفة
كتاباً أجود منه ، ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ، ولا أرقّ معنىً منه ، وقد استوفى فيه
الفروع والاصول ، وذكر الخلاف في المسائل ، واستدلّ بطريق الإمامية وطريق مخالفيهم.
فهذه الشهادة تدلّ
على قيمة البذور التي نمت حتّى آتت اكُلها على يد الطوسي.
وقد جاء كتاب «العدّة»
للطوسي ـ الذي يمثّل نموّ الفكر الاصولي في أعقاب تلك البذور ـ تلبيةً لحاجات
التوسّع في البحث الفقهي. وعلى هذا الضوء نعرف أنّ من الخطأ القول بأنّ كتاب «العدّة»
ينقض العلاقة بين تطور الفقه وتطور
__________________
الاصول ، ويثبت
إمكانية تطور الفكر الاصولي بدرجةٍ كبيرةٍ دون أن يحصل أدنى تغييرٍ في الفكر الفقهي
؛ لأنّ الشيخ صنَّف «العدّة» في حياة السيد المرتضى والفكر الفقهي وقتئذٍ كان يعيش
مستواه البدائي ولم يتطور إلّا خلال كتاب «المبسوط» الذي كتبه الشيخ في آخر حياته.
ووجه الخطأ في هذا
القول : أنّ كتاب «المبسوط» وإن كان متأخّراً تأريخياً عن كتاب «العدّة» ولكنّ
كتاب «المبسوط» لم يكن إلّا تجسيداً للتوسّع والتكامل للفكر الفقهي الذي كان قد
بدأ بالتوسّع والنموّ والتفريع على يد ابن الجنيد والسيد المرتضى وغيرهما.
الوقوف النسبي للعلم :
ما مضى المجدِّد
العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدسسره حتى قفز بالبحوث الاصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزةً
كبيرةً ، وخلَّف تراثاً ضخماً في الاصول يتمثّل في كتاب «العدة» ، وتراثاً ضخماً
في التطبيق الفقهي يتمثّل في كتاب «المبسوط». ولكنّ هذا التراث الضخم توقّف عن
النمو بعد وفاة الشيخ المجدِّد طيلة قرنٍ كاملٍ في المجالين الاصولي والفقهي على
السواء.
وهذه الحقيقة
بالرغم من تأكيد جملةٍ من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والاستغراب ؛ لأنّ الحركة
الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة التي حقّقها
في هذه المجالات كان من المفروض والمترقّب أن تكون قوةً دافعةً للعلم ، وأن تفتح
لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقاً رحيبةً للإبداع والتجديد ، ومواصلة السير في
الطريق الذي بدأه الشيخ ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في
الدفع والإغراء بمواصلة السير؟
هذا هو السؤال
الذي يجب التوفّر على الإجابة عنه ، ويمكننا بهذا الصدد أن نشير إلى عدّة أسبابٍ
من المحتمل أن تفسِّر الموقف :
١ ـ من المعلوم
تأريخياً أنّ الشيخ الطوسي هاجر إلى النجف سنة ٤٤٨ ه نتيجةً للقلاقل والفتن التي
ثارت بين الشيعة والسنّة في بغداد ، أي قبل وفاته ب (١٢) سنة ، وكان يشغل في بغداد
قبل هجرته مركزاً علمياً معترفاً به من الخاصّة والعامة ، حتّى ظفر بكرسيّ الكلام
والإفادة من الخليفة القائم بأمر الله الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلّا لكبار
العلماء الذين يتمتّعون بشهرةٍ كبيرة ، ولم يكن الشيخ مدرِّساً فحسب ، بل كان
مرجعاً وزعيماً دينياً ترجع إليه الشيعة في بغداد وتلوذ به في مختلف شئونها منذ
وفاة السيد المرتضى عام ٤٣٦ ه ، ولأجل هذا كانت هجرته إلى النجف سبباً لتخلّيه عن
كثيرٍ من المشاغل وانصرافه انصرافاً كاملاً إلى البحث العلمي ، الأمر الذي ساعده
على إنجاز دوره العلمي العظيم الذي ارتفع به إلى مستوى المؤسِّسين ، كما أشار إلى ذلك
المحقّق الشيخ أسد الله التستري في كتاب «مقابس الأنوار» ، إذ قال : «ولعلّ الحكمة
الإلهية في ما اتّفق للشيخ تجرّده للاشتغال بما تفرّد به من تأسيس العلوم الشرعية
، ولا سيّما المسائل الفقهية» .
فمن الطبيعي على
هذا الضوء أن يكون للسنين التي قضاها الشيخ في النجف أثرها الكبير في شخصيته
العلمية التي تمثّلت في كتاب «المبسوط» ، وهو آخر ما ألّفه في الفقه ، كما نصّ على
ذلك ابن إدريس في بحث الأنفال من السرائر ، بل آخر ما ألّفه في حياته كما جاء في كلام مترجميه .
__________________
وإلى جانب هذا
نلاحظ أنّ الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في ـ أكبر الظنّ ـ عن تلامذته وحوزته
العلمية في بغداد ، وبدأ ينشئ في النجف حوزةً فتيةً حوله من أولاده أو الراغبين في
الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف ، أو أبناء البلاد القريبة منه
، كالحلّة ونحوها ، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج ، وبرز فيها العنصر المشهدي ـ نسبةً
إلى المشهد العلوي ـ والعنصر الحلّي ، وتسرّب التيار العلمي منها إلى الحلّة.
ونحن حين نرجِّح
أنّ الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية وأنشأ في مهجره حوزةً جديدةً
نستند إلى عدّة مبرّرات :
فقبل كلِّ شيءٍ
نلاحظ أنّ مؤرّخي هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف لم يشيروا إطلاقاً إلى أنّ تلامذة
الشيخ الطوسي في بغداد رافقوه أو التحقوا به فور هجرته إلى النجف ، وإذا لاحظنا ـ إضافةً
إلى ذلك ـ قائمة تلامذة الشيخ التي يذكرها مؤرّخوه نجد أنّهم لم يشيروا إلى مكان
التلمذة إلّا بالنسبة إلى شخصين جاء النصّ على أنّهما تلمّذا على الشيخ في النجف ،
وهما : الحسين بن المظفّر بن عليّ الحمداني ، والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه
القمّي وأقرب الظنّ فيهما معاً أنّهما من التلامذة المحدثين للشيخ الطوسي.
أمّا الحسين بن
المظفّر فقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ترجمته من الفهرست : أنّه قرأ على الشيخ جميع تصانيفه في الغري ، وقراءته
لجميع تصانيف الشيخ عليه في النجف يعزِّز احتمال أنّه من تلامذته المحدثين الذين
التحقوا به بعد هجرته إلى النجف ، إذ لم يقرأ عليه شيئاً منها قبل ذلك التأريخ ،
ويعزّز ذلك أيضاً أنّ أباه المظفّر كان يحضر درس الشيخ الطوسي أيضاً ، ومن قبله
__________________
السيد المرتضى ،
كما نصّ على ذلك منتجب الدين في الفهرست ، وهذا يعزز احتمال كون الابن من طبقةٍ
متأخّرةٍ عن الطبقة التي يندرج فيها الأب من تلامذة الشيخ.
وأمّا الحسن بن
الحسين البابويهي القمّي فنحن نعرف من ترجمته أنّه تلمّذ على عبد العزيز بن
البرّاج الطرابلسي أيضاً ، وروى عن الكراجكي والصهرشتي ، وهؤلاء الثلاثة هم من
تلامذة الشيخ الطوسي ، وهذا يعني أنّ الحسن الذي تلمّذ على الشيخ في النجف كان من
تلامذته المتأخّرين ؛ لأنّه تلمّذ على تلامذته أيضاً.
ومما يعزِّز
احتمال حداثة الحوزة التي تكوّنت حول الشيخ في النجف الدور الذي أدّاه فيها ابنه
الحسن المعروف بأبي عليّ ، فقد تزعّم الحوزة بعد وفاة أبيه ، ومن المظنون أنّ أبا
عليٍّ كان في دور الطفولة أو أوائل الشباب حين هاجر أبوه إلى النجف ؛ لأنّ تأريخ
ولادته ووفاته وإن لم يكن معلوماً ولكنّ الثابت تأريخياً أنّه كان حيّاً في سنة (٥١٥
ه) كما يظهر من عدّة مواضع من كتاب بشارة المصطفى ، أي أنّه عاش بعد هجرة أبيه إلى النجف قرابة سبعين عاماً
، ويذكر عن تحصيله : أنّه كان شريكاً في الدرس عند أبيه مع الحسن بن الحسين القمّي
الذي رجّحنا كونه من الطبقة المتأخّرة ، كما يقال عنه : إنّ أباه أجازه سنة (٤٥٥ ه)
، أي قبل وفاته بخمسين سنة ، وهو يتّفق مع حداثة تحصيله.
فإذا عرفنا أنّه
خلف أباه في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف بالرغم من كونه من تلامذته
المتأخّرين في أغلب الظنّ استطعنا أن نقدِّر المستوى العلمي العامّ لهذه الحوزة ،
ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة التكوّن.
والصورة التي
تكتمل لدينا على هذا الأساس هي : أنّ الشيخ الطوسي
__________________
بهجرته إلى النجف
انفصل عن حوزته الأساسية في بغداد ، وأنشأ حوزةً جديدةً حوله في النجف ، وتفرّغ في
مهجره للبحث وتنمية العلم ، وإذا صدقت هذه الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن
بصدد تعليلها ، فإنّ الحوزة الجديدة التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الطبيعي
أن لا ترقى إلى مستوى التفاعل المبدِع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر
العلمي ؛ لحداثتها.
وأمّا الحوزة
الأساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ ؛ لأنّه كان يمارس عمله
العلمي في مهجره منفصلاً عن تلك الحوزة ، فهجرته إلى النجف وإن هيّأته للقيام
بدوره العلمي العظيم لِمَا أتاحت له من تفرّغٍ ولكنّها فصلته عن حوزته الأساسية ،
ولهذا لم يتسرّب الإبداع الفقهي العلمي من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج
ويبدع بعيداً عنها ، وفرق كبير بين المبدِع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق
الحوزة ويتفاعل معها باستمرارٍ وتواكب الحوزة إبداعه بوعيٍ وتفتّحٍ ، وبين المبدِع
الذي يمارس إبداعه خارج نطاقها وبعيداً عنها.
ولهذا كان لا بدّ
ـ لكي يتحقّق ذلك التفاعل الفكري الخَلَّاق ـ أن يشتدّ ساعد الحوزة الفتية التي
نشأت حول الشيخ في النجف حتّى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية
، فسادت فترة ركودٍ ظاهريٍّ بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى ، وكلَّف
ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عامٍ ليتحقّق ذلك ، ولتحمل الحوزة الفتية أعباء
الوارثة العلمية للشيخ حتّى تتفاعل مع آرائه وتتسرّب بعد ذلك بتفكيرها المبدع
الخلّاق إلى الحلّة ، بينما ذوت الحوزة القديمة في بغداد وانقطعت عن مجال الإبداع
العلمي الذي كانت الحوزة الفتية في النجف ـ وجناحها الحلّي بصورةٍ خاصّةٍ ـ الوريثة
الطبيعية له.
٢ ـ وقد أسند
جماعة من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظي به الشيخ الطوسي من تقديرٍ عظيمٍ
في نفوس تلامذته رفعه في أنظارهم عن مستوى النقد ،
وجعل من آرائه
ونظرياته شيئاً مقدّساً لا يمكن أن ينال باعتراضٍ أو يخضع لتمحيص.
ففي المعالم كتب
الشيخ حسن بن زين الدين ناقلاً عن أبيه قدسسره : أنّ أكثر الفقهاء الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتّبعونه
في الفتوى تقليداً له ؛ لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به . وروي عن الحِمصي ـ وهو ممّن عاصر تلك الفترة ـ أنّه قال :
«لم يبقَ للإمامية مُفتٍ على التحقيق ، بل كلّهم حاكٍ» .
وهذا يعني أنّ ردّ
الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثّلاً في تلك النزعة التقديسية على ردّ
الفعل الفكري الذي كان ينبغي أن يتمثّل في درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ
والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي.
وقد بلغ من
استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الأصحاب أنَّا نجد فيهم من يتحدّث عن رؤيا
لأمير المؤمنين عليهالسلام شهد فيها الإمام عليهالسلام بصحة كلّ ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي «النهاية» ، وهو يشهد عن مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في
أعماق نفوسهم.
ولكنّ هذا السبب
لتفسير الركود الفكري قد يكون مرتبطاً بالسبب الأول ، إذ لا يكفي التقدير العلمي
لفقيهٍ في العادة مهما بلغ لكي يغلق على الفكر الفقهي للآخرين أبواب النموّ
والتفاعل مع آراء ذلك الفقيه ، وإنّما يتحقّق هذا عادةً حين لا يكون هؤلاء في
المستوى العلمي الذي يؤهِّلهم لهذا التفاعل ، فيتحوّل التقدير إلى إيمانٍ وتعبّد.
__________________
٣ ـ والسبب الثالث
يمكننا أن نستنتجه من حقيقتين تأريخيّتين :
إحداهما : أنّ
نموّ الفكر العلمي والاصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلاً عن العوامل الخارجية التي
كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي ، ومن تلك العوامل : عامل الفكر السنّي
؛ لأنّ البحث الاصولي في النطاق السنّي ونموّ هذا البحث وفقاً لُاصول المذهب
السنّي كان حافزاً باستمرارٍ للمفكِّرين من فقهاء الإمامية لدراسة تلك البحوث في
الإطار الإمامي ، ووضع النظريات التي تتّفق معه في كلّ ما يثيره البحث السنّي من
مسائل ومشاكل ، والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين.
ويكفي للاستدلال
على دور الإثارة الذي كان يقوم به التفكير الاصولي السنّي هذان النصّان لشخصين من
كبار فقهاء الإمامية :
١ ـ قال الشيخ
الطوسي في مقدّمة كتاب «العدّة» يبرّر إقدامه على تصنيف هذا الكتاب الاصولي : «إنّ
من صنّف في هذا الباب سلك كلّ قومٍ منهم المسلك الذي اقتضاه اصولهم ، ولم يعهد من
أصحابنا لأحدٍ في هذا المعنى» .
٢ ـ وكتب ابن زهرة
في كتابه الغنية ـ وهو يشرح الأغراض المتوخّاة من البحث الاصولي ـ قائلاً : «على
أنّ لنا في الكلام في اصول الفقه غرضاً آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : بيان فساد كثيرٍ
من مذاهب مخالفينا فيها وكثيرٍ من طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منها ، وأنّه لا يمكنهم تصحيحها وإخراجهم بذلك عن العلم بشيءٍ
من فروع الفقه ؛ لأنّ العلم بالفروع من دون العلم بأصله محال ، وهو
__________________
غرض كبير يدعو إلى
العناية باصول الفقه ويبعث على الاشتغال بها» .
هذه هي الحقيقة
الاولى.
والحقيقة الاخرى
هي : أنّ التفكير الاصولي السنّي كان قد بدأ ينضب في القرن الخامس والسادس ،
ويستنفد قدرته على التجديد ، ويتّجه إلى التقليد والاجترار ، حتّى أدّى ذلك إلى
سدِّ باب الاجتهاد رسمياً.
ويكفينا لإثبات
هذه الحقيقة شهادةٌ معاصرةٌ لتلك الفترة من عالمٍ سنّيٍّ عاشها ، وهو الغزَّالي
المتوفّى سنة (٥٠٥ ه) ، إذ تحدّث عن شروط المناظر في البحث ، فذكر منها : «أن
يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه ، لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما ، حتى إذا
ظهر له الحقّ من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له ،
فأمّا من لم يبلغ رتبة الاجتهاد ـ وهو حكم كلّ أهل العصر ـ فأيّ فائدةٍ له في
المناظرة» .
ونحن إذا جمعنا
بين هاتين الحقيقتين ، وعرفنا أنّ التفكير الاصولي السنّي الذي يشكِّل عامل إثارةٍ
للتفكير الاصولي الشيعي كان قد أخذ بالانكماش ومُنِيَ بالعُقم استطعنا أن نستنتج
أنّ التفكير العلمي لدى فقهائنا الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ قد فقد أحد
المثيرات المحرِّكة له ، الأمر الذي يمكن أن نعتبره عاملاً مساعداً في توقّف
النموّ العلمي.
ابن إدريس يصف فترة التوقّف :
ولعلّ من أفضل
الوثائق التأريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره الفقيه
__________________
المبدع محمد بن
أحمد بن إدريس ، الذي أدرك تلك الفترة ، وكان له دور كبير في مقاومتها ، وبثّ
الحياة من جديدٍ في الفكر العلمي ، كما سنعرف بعد لحظات ، فقد كتب هذا الفقيه في
مقدّمة كتابه «السرائر» يقول : «إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة
المحمدية والأحكام الإسلامية ، وتثاقلهم عن طلبها ، وعداوتهم لِمَا يجهلون ،
وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السنّ من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه
مضيِّعاً لِمَا استودعته الأيام ، مقصِّراً في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتّى
كأنّه ابن يومه ومنتج ساعته ... ، ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان ، وميدانه قد
عطِّل منه الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفساً بلغت التراقي» .
تجدّد الحياة والحركة في
البحث العلمي :
ما انتهت مائة
عامٍ حتّى دبَّت الحياة من جديدٍ في البحث الفقهي والاصولي على الصعيد الإمامي ،
بينما ظلّ البحث العلمي السنّي على ركوده الذي وصفه الغزَّالي في القرن الخامس.
ومردّ هذا الفرق
بين الفكرين والبحثين إلى عدّة أسبابٍ أدّت إلى استئناف الفكر العلمي الإمامي
نشاطه الفقهي والاصولي دون الفكر السنّي ، ونذكر من تلك الأسباب السببين التاليين
:
١ ـ إنّ روح
التقليد وإن كانت قد سرت في الحوزة التي خلّفها الشيخ الطوسي ، كما تغلغلت في
أوساط الفقه السني ، ولكنّ نوعية الروح كانت تختلف ؛ لأنّ الحوزة العلمية التي
خلّفها الشيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد ؛ لأنّها كانت
__________________
حوزةً فتية ، فلم
تستطع أن تتفاعل بسرعةٍ مع تجديدات الشيخ العظيمة ، وكان لا بدّ لها أن تنتظر
مدّةً من الزمن حتّى تستوعب تلك الأفكار ، وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير
فيها ، فروح التقليد فيها موقّتة بطبيعتها.
وأمّا الحوزات
الفقهية السنّية فقد كان شيوع روح التقليد فيها نتيجةً لشيخوختها بعد أن بلغت
قصارى نموّها ، أو بعد أن استنفدت أغراضها ، الأمر الذي لا يمكننا التوسّع في شرحه
الآن على مستوى هذه الحلقة ، فكان من الطبيعي أن يتفاقم فيها روح الجمود والتقليد.
٢ ـ إنّ الفقه
السنّي كان هو الفقه الرسمي الذي تتبنّاه الدولة وتستفتيه في حدود وفائها
بالتزاماتها الدينية ، ولهذا كانت الدولة تشكِّل عامل دفعٍ وتنميةٍ للفقه السنّي ،
الأمر الذي يجعل الفقه السنّي يتأثّر بالأوضاع السياسية ، ويزدهر في عصور
الاستقرار السياسي ، وتخبو جذوته في ظروف الارتباك السياسي.
وعلى هذا الأساس
كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السنّي شيئاً مهمّاً من جذوته في القرن السادس
والسابع وما بعدهما ؛ تأثّراً بارتباك الوضع السياسي ، وانهياره أخيراً على يد
المغول الذين عصفوا بالعالم الإسلامي وحكوماته.
وأمّا الفقه
الإمامي فقد كان منفصلاً عن الحكم دائماً ، ومغضوباً عليه من الأجهزة الحاكمة في
كثيرٍ من الأحايين ، ولم يكن الفقهاء الإماميون يستمدّون دوافع البحث العلمي من
حاجات الجهاز الحاكم ، بل من حاجات الناس الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم
الصلاة والسلام ، ويرجعون إلى فقهاء مدرستهم في حلّ مشاكلهم الدينية ومعرفة
أحكامهم الشرعية ، ولأجل هذا كان الفقه الإمامي يتأثّر بحاجات الناس ، ولا يتأثّر
بالوضع السياسي كما يتأثّر الفقه السنّي.
ونحن إذا أضفنا
إلى هذه الحقيقة عن الفقه الإمامي حقيقةً اخرى ، وهي أنّ
الشيعة
المتعبِّدين بفقه أهل البيت كانوا في نموٍّ مستمرٍّ كمّياً ، وكانت علاقاتهم
بفقهائهم وطريقة الإفتاء والاستفتاء تتحدّد وتتّسع ، استطعنا أن نعرف أنّ الفقه
الإمامي لم يفقد العوامل التي تدفعه نحو النموّ ، بل اتّسعت باتّساع التشيّع وشيوع
فكرة التقليد بصورةٍ منظّمة.
وهكذا نعرف أنّ
الفكر العلمي الإمامي كان يملك عوامل النموّ داخلياً باعتبار فتوّته وسيره في طريق
التكامل ، وخارجياً باعتبار العلاقات التي كانت تربط الفقهاء الإماميّين بالشيعة
وبحاجاتهم المتزايدة.
ولم يكن التوقّف
النسبي له بعد وفاة الشيخ الرائد إلّا لكى يستجمع قُواه ويواصل نموّه عند الارتفاع
إلى مستوى التفاعل مع آراء الطوسي.
وأمّا عنصر
الإثارة المتمثّل في الفكر العلمي السنّي فهو وإن فقده الفكر العلمي الإمامي
نتيجةً لجمود الحوزات الفقهية السنّية ولكنّه استعاده بصورةٍ جديدة ، وذلك عن طريق
عمليات الغزو المذهبي التي قام بها الشيعة ، فقد أصبحوا في القرن السابع وما بعده
في دور الدعوة إلى مذهبهم ، ومارس علماؤنا ـ كالعلّامة الحلّي وغيره ـ هذه الدعوة
في نطاقٍ واسع ، فكان ذلك كافياً لإثارة الفكر العلمي الشيعي للتعمّق والتوسّع في
درس اصول السنّة وفقهها وكلامها ، ولهذا نرى نشاطاً ملحوظاً في بحوث الفقه المقارن
قام به العلماء الذين مارسوا تلك الدعوة من فقهاء الإمامية كالعلّامة الحلّي.
[من] صاحب السرائر إلى
صاحب المعالم :
وكانت بداية خروج
الفكر العلمي عن دور التوقّف النسبي على يد الفقيه المبدِع محمد بن أحمد بن إدريس
المتوفّى سنة (٥٩٨ ه) ، إذ بثَّ في الفكر العلمي روحاً جديدة ، وكان كتابه الفقهي
«السرائر» إيذاناً ببلوغ الفكر العلمي في مدرسة
الشيخ إلى مستوى
التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها وتمحيصها.
وبدراسة كتاب
السرائر ومقارنته بالمبسوط يمكننا أن ننتهي إلى النقاط التالية :
١ ـ إنّ كتاب
السرائر يبرز العناصر الاصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورةٍ أوسع ممّا يقوم
به كتاب المبسوط بهذا الصدد ، فعلى سبيل المثال نذكر : أنّ ابن إدريس أبرزَ في
استنباطه لأحكام المياه ثلاث قواعد اصوليةٍ وربط بحثه الفقهي بها ، بينما لا نجد شيئاً منها في أحكام
المياه من كتاب المبسوط وإن كانت بصيغتها النظرية العامة موجودةً في كتب الاصول
قبل ابن إدريس.
٢ ـ إنّ الاستدلال
الفقهي لدى ابن إدريس أوسع منه في كتاب المبسوط ، وهو يشتمل في النقاط التي يختلف
فيها مع الشيخ على توسّعٍ في الاحتجاج وتجميع الشواهد ، حتّى أنّ المسألة التي لا
يزيد بحثها في المبسوط على سطرٍ واحدٍ قد تبلغ في السرائر صفحةً مثلاً ، ومن هذا
القبيل مسألة طهارة الماء المتنجِّس إذا تُمِّم كرّاً بماءٍ متنجِّسٍ أيضاً ، فقد
حكم الشيخ في المبسوط ببقاء الماء على النجاسة ، ولم يزد على جملةٍ واحدةٍ في
توضيح وجهة نظره. وأمّا ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة ، وتوسّع
في بحث المسألة ، ثمّ ختمه قائلاً : «ولنا في هذه المسألة منفردةً نحو من عشر
ورقاتٍ قد بلغْنا فيها أقصى الغايات ، وحججنا القول فيها والأسئلة والأدلّة
والشواهد من الآيات والأخبار» .
__________________
ونلاحظ في النقاط
التي يختلف فيها ابن إدريس مع الشيخ الطوسي اهتماماً كبيراً منه باستعراض الحجج
التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها ، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفنِّدها
: إمّا أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضاً ثمّ يبطلها لكي لا يبقي مجالاً
لشبهةٍ في صحة موقفه ، أو أنّها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن
إدريس الجديدة. أي أنّ الفكر السائد استفزَّته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء
الطوسي ، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفنِّدها. وهذا يعني أنّ آراء ابن إدريس
كان لها ردّ فعلٍ وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطرّه ابن إدريس
للمبارزة.
ونحن نعلم من كتاب
السرائر أنّ ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ، ولم يكن منكمشاً في
نطاق تأليفه الخاصّ ، فمن الطبيعي أن يثير ردود الفعل ، وأن تنعكس ردود الفعل هذه
على صورة حججٍ لتأييد رأي الشيخ.
فمن مجابهات ابن
إدريس تلك : ما جاء في المزارعة من كتاب السرائر ، إذ كتب عن رأيٍ فقهيٍّ يستهجنه
ويقول : «والقائل بهذا القول : السيّد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي ، شاهدته
ورأيته وكاتبته وكاتبني وعرَّفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر رحمهالله بأعذارٍ غير واضحة» .
كما نلمح في بحوث
ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلِّدة الذين تعبّدوا بآراء الشيخ الطوسي ، وكيف
كان يضيق بجمودهم ، ففي مسألة تحديد المقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها
كافر يرى ابن إدريس : أنّ الواجب نزح جميع ما في البئر ، بدليل أنّ الكافر إذا
باشر ماء البئر وهو حيّ وجب نزح جميعها اتّفاقاً ، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها
أولى. وإذا كان هذا الاستدلال
__________________
ـ الاستدلال
بالأولوية ـ يحمل طابعاً عقلياً جريئاً بالنسبة إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن
إدريس فقد علّق عليه يقول : «وكأنّي بمَن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول
: من قال هذا؟ ومن ينظره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفنّ الذين هم القدوة في
هذا إليه؟» .
وأحياناً نجد أنّ
ابن إدريس يحتال على المقلّدة فيحاول أن يثبت لهم أنّ الشيخ الطوسي يذهب إلى نفس
رأيه ولو بضربٍ من التأويل ، فهو في مسألة الماء المتنجّس المتمَّم كرّاً بمثله
يفتي بالطهارة ، ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضاً ،
فيقول : «فالشيخ أبو جعفر الطوسي الذي يتمسّك بخلافه ويقلَّد في هذه المسألة ويجعل
دليلاً يُقوِّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثيرٍ من أقواله. وأنا ابيِّن ـ
إن شاء الله ـ أنّ أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلّية إذا
تؤمِّل كلامه وتصنيفه حقّ التأمّل وابصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي» .
٣ ـ وكتاب السرائر
من الناحية التأريخية يعاصر إلى حدٍّ ما كتاب الغنية الذي قام فيه حمزة بن عليّ بن
زهرة الحسيني الحلبي بدراسةٍ مستقلّةٍ لعلم الاصول ؛ لأنّ ابن زهرة هذا توفّي قبل
ابن إدريس ب (١٩) عاماً ، فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية.
ونحن إذا لاحظنا
اصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرةً مشتركةً بينه وبين فقه ابن إدريس تميِّزهما عن عصر
التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ ، والأخذ
بوجهات نظرٍ تتعارض مع موقفه الاصولي أو
__________________
الفقهي ، وكما
رأينا ابن إدريس يحاول في السرائر تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّةٍ كذلك نجد
ابن زهرة يناقش في الغنية الأدلّة التي جاءت في كتاب العدّة ، ويستدلّ على وجهات
نظرٍ معارضة ، بل يثير أحياناً مشاكل اصوليةً جديدةً لم تكن مُثارةً من قَبل في
كتاب العدّة بذلك النحو .
وهذا يعني أنّ
الفكر العلمي كان قد نما واتّسع بكلا جناحيه الاصولي والفقهي ، حتّى وصل إلى
المستوى الذي يصلح للتفاعل مع آراء الشيخ ومحاكمتها إلى حدٍّ ما على الصعيدين
الفقهي والاصولي ، وذلك يعزِّز ما قلناه سابقاً من أنّ نموّ الفكر الفقهي ونموّ الفكر الاصولي يسيران في
خطّين متوازيين ، ولا يتخلّف أحدهما عن الآخر تخلّفاً كبيراً ؛ لِمَا بينهما من
تفاعلٍ وعلاقات.
واستمرّت الحركة
العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتّسع وتزداد ثراءً عبر الأجيال ، وبرز
في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الاصول
__________________
والفقه وأبدعوا ،
فمن هؤلاء : المحقّق نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الحلّي المتوفّى سنة (٦٧٦
ه) ، وهو تلميذ تلامذة ابن إدريس ، ومؤلِّف الكتاب الفقهي الكبير «شرائع الإسلام»
، الذي أصبح بعد تأليفه محوراً للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة بدلاً عن كتاب «النهاية»
الذي كان الشيخ الطوسي قد ألّفه قبل المبسوط.
وهذا التحوّل من
النهاية إلى الشرائع يرمز إلى تطورٍ كبيرٍ في مستوى العلم ؛ لأنّ كتاب «النهاية»
كان كتاباً فقهياً يشتمل على امّهات المسائل الفقهية واصولها ، وأمّا الشرائع فهو
كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج الأحكام وفقاً للمخطّط الذي وضعه الشيخ في
المبسوط ، فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب النهاية في الحوزة واتّجاه حركة
البحث والتعليق إليه يعني أنّ حركة التفريع والتخريج قد عمَّت واتّسعت حتّى أصبحت
الحوزة كلّها تعيشها.
وقد صنَّف المحقّق
الحلّي كتباً في الاصول ، منها كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاصول» ، وكتاب «المعارج».
ومن اولئك النوابغ
تلميذ المحقّق وابن اخته المعروف بالعلّامة ، وهو الحسن ابن يوسف بن عليّ بن مطهّر
المتوفّى سنة (٧٢٦ ه) ، وله كتب عديدة في الاصول ، من قبيل «تهذيب الوصول إلى علم
الاصول» و «مبادئ الوصول إلى علم الاصول» وغيرهما.
وقد ظلّ النموّ
العلمي في مجالات البحث الاصولي إلى آخر القرن العاشر ، وكان الممثّل الأساسي له
في أواخر هذا القرن الحسن بن زين الدين المتوفّى سنة (١٠١١ ه) ، وله كتاب في
الاصول باسم «المعالم» مثَّل فيه المستوى العالي لعلم الاصول في عصره بتعبيرٍ سهلٍ
وتنظيمٍ جديد ، الأمر الذي جعل لهذا الكتاب شأناً كبيراً في عالم البحوث الاصولية
، حتى أصبح كتاباً دراسياً في هذا العلم ،
وتناوله
المعلِّقون بالتعليق والتوضيح والنقد.
ويقارب المعالم من
الناحية الزمنية كتاب «زبدة الاصول» الذي صنّفه عَلم من أعلام العلم في أوائل
القرن الحادي عشر ، وهو الشيخ البهائي المتوفّى سنة (١٠٣١ ه).
الصدمة التي مُنِيَ بها
علم الاصول :
وقد مُنِيَ علم
الاصول بعد صاحب المعالم بصدمةٍ عارضت نموّه وعرّضته لحملةٍ شديدة ، وذلك نتيجةً
لظهور حركة الأخبارية في أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمد أمين
الاسترابادي المتوفّى سنة (١٠٢١ ه) ، واستفحال أمر هذه الحركة بعده ، وبخاصّةٍ في
أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر.
وكان لهذه الحملة
بواعثها النفسية التي دفعت الأخباريّين من علمائنا رضوان الله عليهم ـ وعلى رأسهم
المحدِّث الاسترابادي ـ إلى مقاومة علم الاصول ، وساعدت على نجاح هذه المقاومة
نسبياً ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ عدم استيعاب
ذهنية الأخباريّين لفكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد جعلهم ذلك
يتخيّلون أنّ ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة والقواعد الاصولية يؤدّي إلى
الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من أهمّيتها.
ولو أنّهم
استوعبوا فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كما درسها الاصوليون لعرفوا
أنّ لكلٍّ من العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة دورها الأساسي وأهمّيتها ، وأنّ
علم الاصول لا يستهدف استبدال العناصر الخاصّة بالعناصر المشتركة ، بل يضع القواعد
اللازمة لاستنباط الحكم من العناصر
الخاصّة.
٢ ـ سبق السنّة
تأريخياً إلى البحث الاصولي والتصنيف الموسَّع فيه ، فقد أكسب هذا علم الاصول
إطاراً سنّياً في نظر هؤلاء الثائرين عليه ، فأخذوا ينظرون إليه بوصفه نتاجاً
للمذهب السنّي. وقد عرفنا سابقاً أنّ سبق الفقه السنّي تأريخياً إلى البحوث الاصولية لم
ينشأ عن صلةٍ خاصّة بين علم الاصول والمذهب السنّي ، بل هو مرتبط بمدى ابتعاد
الفكر الفقهي عن عصر النصوص التي يؤمن بها ، فإنّ السنّة يؤمنون بأنّ عصر النصوص
انتهى بوفاة النبي صلىاللهعليهوآله. وبهذا وجدوا أنفسهم في أواخر القرن الثاني بعيدين عن عصر
النصّ بالدرجة التي جعلتهم يفكّرون في وضع علم الاصول ، بينما كان الشيعة وقتئذٍ
يعيشون عصر النصّ الذي يمتدّ عندهم إلى الغيبة.
ونجد هذا المعنى
بوضوحٍ ووعيٍ في نصٍّ للمحقّق الفقيه السيد محسن الأعرجي المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه) ،
إذ كتب في وسائله ردّاً على الأخباريّين يقول : «إنّ المخالفين لمّا احتاجوا إلى
مراعاة هذه الامور قبل أن نحتاج إليها سبقوا إلى التدوين ؛ لبعدهم عن عصر الصحابة
، وإعراضهم عن أئمّة الهدى ، وافتتحوا باباً عظيماً لاستنباط الأحكام ، كثير
المباحث ، دقيق المسارب ، جمّ التفاصيل ، وهو القياس. فاضطرّوا إلى التدوين أشدّ
ضرورة ، ونحن مستغنون بأرباب الشريعة وأئمّة الهدى ، نأخذ منهم الأحكام مشافهةً ،
ونعرف ما يريدون بديهةً ، إلى أن وقعت الغيبة ، وحيل بيننا وبين إمام العصر عليهالسلام ... ، فاحتجنا إلى تلك المباحث ، وألَّف فيها متقدِّمونا
كابن الجنيد وابن أبي عقيل ، وتلاهما من جاء بعدهما ، كالسيّد والشيخين ، وأبي
الصلاح ، وأبي المكارم ، وابن إدريس ،
__________________
والفاضلين ،
والشهيدين إلى يومنا هذا. أترانا نعرض عن مراعاتها مع مَسيسِ الحاجة لأنّه سبقنا
إليها المخالفون ، وقد قال صلىاللهعليهوآله : الحكمة ضالّة المؤمن؟! وما كنّا في ذلك تبعاً ، وإنّما
بحثنا عنها أشدّ البحث ، واستقصينا أتمّ الاستقصاء ، ولم نحكم في شيءٍ منها إلّا
بعد قيام الحجّة وظهور المحجّة» .
٣ ـ ومما أكّد في
ذهن هؤلاء الإطار السنّي لعلم الاصول أنّ ابن الجنيد ـ وهو من روّاد الاجتهاد
وواضعي بذور علم الاصول في الفقه الإمامي ـ كان يتّفق مع أكثر المذاهب الفقهية
السنّية في القول بالقياس. ولكنّ الواقع أنّ تسرّب بعض الأفكار من الدراسات
الاصولية السنّية إلى شخصٍ كابن الجنيد لا يعني أنّ علم الاصول بطبيعته سنّي ،
وإنّما هو نتيجة لتأثّر التجربة العلمية المتأخّرة بالتجارب السابقة في مجالها.
ولمّا كان للسنّة تجارب سابقة زمنياً في البحث الاصولي فمن الطبيعي أن نجد في بعض
التجارب المتأخّرة تأثّراً بها ، وقد يصل التأثّر أحياناً إلى درجة تبنّي بعض
الآراء السابقة غفلةً عن واقع الحال ، ولكنّ ذلك لا يعني بحالٍ أنّ علم الاصول قد
استورده الشيعة من الفكر السنّي وفرض عليهم من قبله ، بل هو ضرورة فرضتها على
الفقه الإمامي عملية الاستنباط وحاجات هذه العملية.
٤ ـ وساعد على
إيمان الأخباريّين بالإطار السنّي لعلم الاصول تسرّب اصطلاحاتٍ من البحث الاصولي
السنّي إلى الاصوليّين الإماميّين وقبولهم بها بعد تطويرها وإعطائها المدلول الذي
يتّفق مع وجهة النظر الإمامية. ومثال ذلك : كلمة «الاجتهاد» كما رأينا في بحثٍ
سابق ، إذ أخذها علماؤنا الإماميون من الفقه
__________________
السنّي وطوّروا
معناها ، فتراءى لعلمائنا الأخباريّين الذين لم يدركوا التحوّل الجوهري في مدلول
المصطلح أنّ علم الاصول عند أصحابنا يتبنّى نفس الاتّجاهات العامة في الفكر العلمي
السنّي ، ولهذا شجبوا الاجتهاد وعارضوا في جوازه المحقِّقين من أصحابنا.
٥ ـ وكان الدور
الذي يلعبه العقل في علم الاصول مثيراً آخر للأخباريّين على هذا العلم نتيجةً
لاتّجاههم المتطرّف ضدّ العقل ، كما رأينا في بحثٍ سابق .
٦ ـ ولعلّ أنجح
الأساليب التي اتّخذها المحدِّث الأسترآبادي وأصحابه لإثارة الرأي العام الشيعي
ضدّ علم الاصول هو استغلال حداثة علم الاصول لضربه ، فهو علم لم ينشأ في النطاق
الإمامي إلّا بعد الغَيبة ، وهذا يعني أنّ أصحاب الأئمّة وفقهاء مدرستهم مضوا بدون
علم اصول ، ولم يكونوا بحاجةٍ إليه. وما دام فقهاء تلامذة الأئمّة ـ من قبيل زرارة
بن أعين ومحمد بن مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم ـ كانوا في
غنىً عن علم الاصول في فقههم فلا ضرورة للتورّط في ما لم يتورّطوا فيه ، ولا معنى
للقول بتوقّف الاستنباط والفقه على علم الاصول.
ويمكننا أن نعرف
الخطأ في هذه الفكرة على ضوء ما تقدم سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة
تأريخية ، فإنّ عدم إحساس الرواة والفقهاء الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى
تأسيس علم الاصول لا يعني عدم احتياج الفكر الفقهي إلى علم الاصول في العصور
المتأخّرة التي يصبح الفقيه فيها بعيداً عن جوِّ النصوص ويتّسع الفاصل الزمني بينه
وبينها ؛ لأنّ هذا الابتعاد يخلق فجواتٍ
__________________
في عملية
الاستنباط ، ويفرض على الفقيه وضع القواعد الاصولية العامّة لعلاج تلك الفجوات.
الجذور المزعومة للحركة الأخبارية :
وبالرغم من أنّ
المحدِّث الأسترآبادي كان هو رائد الحركة الأخبارية فقد حاول في فوائده المدنية أن
يرجع بتأريخ هذه الحركة إلى عصر الأئمّة ، وأن يثبّت لها جذوراً عميقةً في تأريخ
الفقه الإمامي لكي تكتسب طابعاً من الشرعية والاحترام ، فهو يقول : إنّ الاتّجاه
الأخباري كان هو الاتّجاه السائد بين فقهاء الإمامية إلى عصر الكليني والصدوق
وغيرهما من ممثّلي هذا الاتّجاه في رأي الأسترآبادي ، ولم يتزعزع هذا الاتّجاه
إلّا في أواخر القرن الرابع وبعده ؛ حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن
الخطّ الأخباري ويعتمدون على العقل في استنباطهم ، ويربطون البحث الفقهي بعلم
الاصول تأثّراً بالطريقة السنّية في الاستنباط ، ثمّ أخذ هذا الانحراف بالتوسّع
والانتشار .
ويذكر المحدّث
الأسترآبادي بهذا الصدد كلاماً للعلّامة الحلّي ـ الذي عاش قبله بثلاثة
قرون ـ جاء فيه التعبير عن فريقٍ من علماء الإمامية بالأخباريّين ، ويستدلّ بهذا
النصّ على سبق الاتّجاه الأخباري تأريخياً.
ولكنّ الحقيقة أنّ
العلّامة الحلّي يشير بكلمة «الأخباريّين» في حديثه إلى مرحلةٍ من مراحل الفكر الفقهي ، لا إلى حركةٍ
ذات اتّجاهٍ محدّد في
__________________
الاستنباط ، فقد
كان في فقهاء الشيعة منذ العصور الاولى علماء أخباريون يمثّلون المرحلة البدائية
من التفكير الفقهي ، وهؤلاء هم الذين تحدّث عنهم الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط ، وعن ضيق افقهم ، واقتصارهم في بحوثهم الفقهية على اصول
المسائل ، وانصرافهم عن التفريع والتوسّع في التطبيق. وفي النقطة المقابلة لهم
الفقهاء الاصوليون الذين يفكّرون بذهنيةٍ اصوليةٍ ويمارسون التفريع الفقهي في
نطاقٍ واسع. فالأخبارية القديمة إذن تعبِّر عن مستوى من مستويات الفكر الفقهي ، لا
عن مذهبٍ من مذاهبه.
وهذا ما أكّده
المحقّق الجليل الشيخ محمد تقي ـ المتوفّى سنة ١٢٤٨ ه ـ في تعليقته الضخمة على
المعالم ، إذ كتب بهذا الشأن يقول :
«فإن قلت : إنّ
علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين : أخباري واصولي ، كما أشار إليه
العلّامة في النهاية وغيره.
قلت : إنّه وإن
كان المتقدِّمون من علمائنا على صنفين وكان فيهم أخبارية إلّا أنّه لم تكن طريقتهم
ما زعمه هؤلاء ، بل لم يكن الاختلاف بينهم وبين الاصولية إلّا في سعة الباع في
التفريعات الفقهية ، وقوة النظر إلى القواعد الكلّية والاقتدار على تفريع الفروع
عليها ، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار ، ولم تكن طريقتهم
التعدّي عن مضامين الروايات وموارد النصوص ، بل كانوا يفتون غالباً على طبق ما
يروون ويحكمون على وفق متون الأخبار ، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمّق في
المسائل العلمية ... ، وهؤلاء لا يتعرّضون غالباً للفروع غير المنصوصة ، وهم
المعروفون بالأخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل ، وأصحاب
التحقيق والتدقيق في استعلام الأحكام من
__________________
الدلائل ، ولهم
الاقتدار على تأصيل الاصول والقواعد الكلّية عن الأدلّة القائمة عليها في الشريعة
، والتسلّط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها ، وهم الاصوليون منهم ،
كالعماني ، والإسكافي ، وشيخنا المفيد ، وسيّدنا المرتضى ، والشيخ ، وغيرهم ممّن
يحذو حذوهم.
وأنت إذا تأمّلت
لا تجد فرقاً بين الطريقتين إلّا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب ،
وأصحاب النظر الدقيق في استنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد ، ولهذا اتّسعت
دائرتهم في البحث والنظر ، وأكثروا من بيان الفروع والمسائل ، وتعدَّوا عن متون
الأخبار ... ، واولئك المحدّثون ليسوا غالباً بتلك القوة من الملكة وذلك التمكّن
من الفنّ ، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ، ولم يتعدّوا غالباً عن ظواهر
مضامينها ، ولم يوسّعوا الدائرة في التفريعات على القواعد ، وأنّهم لمّا كانوا في
أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح اصول الأحكام التي عمدتها
الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة ، فلم يتمكّنوا من مزيد إمعان النظر في
مضامينها وتكثير الفروع المتفرّعة عليها ، ثمّ إنّ ذلك إنّما حصل بتلاحق الأفكار
في الأزمنة المتأخّرة» .
وفي كتاب الحدائق
يعترف الفقيه الجليل الشيخ يوسف البحراني ـ بالرغم من موافقته على بعض أفكار
المحدّث الأسترآبادي ـ بأنّ هذا المحدّث هو أوّل من جعل الأخبارية مذهباً ، وأوجد
الاختلاف في صفوف العلماء على أساس ذلك ، فقد كتب يقول : «ولم يرتفع صيت هذا
الخلاف ، ولا وقع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى
برحمته المرضية ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ
إسهاب ، وأكثر من التعصّبات
__________________
التي لا تليق
بمثله من العلماء الأطياب» .
اتّجاه التأليف في تلك
الفترة :
وإذا درسنا النتاج
العلمي في الفترة التي توسّعت فيها الحركة الأخبارية في أواخر القرن الحادي عشر
وخلال القرن الثاني عشر وجدنا اتّجاهاً نشيطاً موفّقاً في تلك المدّة إلى جمع
الأحاديث وتأليف الموسوعات الضخمة في الروايات والأخبار ، ففي تلك المدّة كتب
الشيخ محمد باقر المجلسي قدسسره ـ المتوفّى سنة ١١١٠ ه ـ كتاب البحار وهو أكبر موسوعةٍ
للحديث عند الشيعة ، وكتب الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي قدسسره ـ المتوفّى سنة ١١٠٤ ه ـ كتاب «الوسائل» الذي جمع فيه
عدداً كبيراً من الروايات المرتبطة بالفقه ، وكتب الفيض محسن القاساني ـ المتوفّى
سنة ١٠٩١ ه ـ كتاب «الوافي» المشتمل على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة ،
وكتب السيّد هاشم البحراني ـ المتوفّى سنة ١١٠٧ ه أو حوالي ذلك ـ كتاب «البرهان»
في التفسير جمع فيه المأثور من الروايات في تفسير القرآن.
ولكنّ هذا
الاتّجاه العامّ في تلك الفترة إلى التأليف في الحديث لا يعني أنّ الحركة
الأخبارية كانت هي السبب لخلقه ، وإن كانت عاملاً مساعداً في أكبر الظنّ ، بالرغم
من أنّ بعض أقطاب ذلك الاتّجاه لم يكونوا أخباريّين ، وإنّما تكوّن هذا الاتّجاه
العام نتيجةً لعدّة أسباب ، ومن أهمّها : أنّ كتباً عديدةً في الروايات اكتشفت
خلال القرون التي أعقبت الشيخ لم تكن مندرجةً في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة ،
ولهذا كان لا بدّ لهذه الكتب المتفرّقة من موسوعاتٍ جديدةٍ
__________________
تضمّها وتستوعب
كلّ ما كشف عنه الفحص والبحث العلمي من رواياتٍ وكتب أحاديث.
وعلى هذا الضوء قد
يمكن أن نعتبر العمل في وضع تلك الموسوعات الضخمة التي انجزت في تلك الفترة عاملاً
من العوامل التي عارضت نموّ البحث الاصولي إلى صفّ الحركة الأخبارية ، ولكنّه عامل
مبارك على أيِّ حال ؛ لأنّ وضع تلك الموسوعات كان من مصلحة عملية الاستنباط نفسها
التي يخدمها علم الاصول.
البحث الاصولي في تلك الفترة :
وبالرغم من الصدمة
التي مُنِي بها البحث الاصولي في تلك الفترة لم تنطفئ جذوته ، ولم يتوقّف نهائياً
، فقد كتب الملا عبد الله التوني ـ المتوفّى سنة ١٠٧١ ه ـ «الوافية في الاصول» ،
وجاء بعده المحقّق الجليل السيد حسين الخونساري ـ المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه ـ وكان على
قدرٍ كبيرٍ من النبوغ والدقّة ، فأمدَّ الفكر الاصولي بقوةٍ جديدةٍ كما يبدو من
أفكاره الاصولية في كتابه الفقهي «مشارق الشموس في شرح الدروس» ، ونتيجةً لمرانه
العظيم في التفكير الفلسفي انعكس اللون الفلسفي على الفكر العلمي والاصولي بصورةٍ
لم يسبق لها نظير.
ونقول : انعكس
اللون الفلسفي لا الفكر الفلسفي ؛ لأنّ هذا المحقّق كان ثائراً على الفلسفة ، وله
معارك ضخمة مع رجالاتها ، فلم يكن فكره فكراً فلسفياً بصيغته التقليدية وإن كان
يحمل اللون الفلسفي ، فحينما مارس البحث الاصولي انعكس اللون ، وسرى في الاصول
الاتّجاه الفلسفي في التفكير بروحيةٍ متحرّرةٍ من الصيغ التقليدية التي كانت الفلسفة
تتبناها في مسائلها وبحوثها ، وكان لهذه الروح أثرها الكبير في تأريخ العلم فيما
بعد ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
وفي عصر الخونساري
كان المحقّق محمد بن الحسن الشيرواني ـ المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه ـ يكتب حاشيته على
المعالم.
ونجد بعد ذلك
بحثين اصوليين : أحدهما قام به جمال الدين بن الخونساري ، إذ كتب تعليقاً على شرح
المختصر للعضدي ، وقد شهد له الشيخ الأنصاري في الرسائل بالسبق إلى بعض الأفكار الاصولية. والآخر السيد صدر الدين
القمّي الذي تلمّذ على جمال الدين ، وكتب شرحاً لوافية التوني ، ودرس عنده الاستاذ
الوحيد البهبهاني ، وتوفّي سنة [١١٦٥ ه].
والواقع أنّ
الخونساري الكبير ومعاصره الشيرواني وابنه جمال الدين وتلميذ ولده صدر الدين ـ بالرغم
من أنّهم عاشوا فترة زعزعة الحركة الأخبارية للبحث الاصولي وانتشار العمل في
الأحاديث ـ كانوا عوامل رفعٍ للتفكير الاصولي ، وقد مهّدوا ببحوثهم لظهور مدرسة
الاستاذ الوحيد البهبهاني التي افتتحت عصراً جديداً في تأريخ العلم كما سوف نرى ،
وبهذا يمكن اعتبار تلك البحوث البذور الأساسية لظهور هذه المدرسة ، والحلقة
الأخيرة التي أكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصرٍ ثالث.
انتصار علم الاصول وظهور
مدرسةٍ جديدة :
وقد قدّر للاتّجاه
الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتّخذ من كربلاء نقطة ارتكازٍ له ، وبهذا عاصر
ولادة مدرسةٍ جديدةٍ في الفقه والاصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدّد
الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفّى سنة (١٢٠٦ ه) ، وقد نصبت هذه المدرسة
الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم
__________________
الاصول ، حتّى
تضاءل الاتّجاه الأخباري ومُنِي بالهزيمة ، وقد قامت هذه المدرسة إلى صفّ ذلك
بتنمية الفكر العلمي والارتفاع بعلم الاصول الى مستوى أعلى ، حتّى أنّ بالإمكان
القول بأنّ ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة
مدرسته المحقّقون الكبار قد كان حدّاً فاصلاً بين عصرين من تأريخ الفكر العلمي في
الفقه والاصول.
وقد يكون هذا
الدور الإيجابي الذي قامت به هذه المدرسة فافتتحت بذلك عصراً جديداً في تأريخ
العلم متأثّراً بعدّة عوامل :
منها : عامل ردّ
الفعل الذي أوجدته الحركة الأخبارية ، وبخاصّةٍ حين جمعها مكان واحد ككربلاء
بالحوزة الاصولية ، الأمر الذى يؤدّي بطبيعته إلى شدّة الاحتكاك وتضاعف ردّ الفعل.
ومنها : أنّ الحاجة
إلى وضع موسوعاتٍ جديدةٍ في الحديث كانت قد اشبعت ، ولم يبقَ بعد وضع الوسائل
والوافي والبحار إلّا أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيداً من تلك الموسوعات في
عمليات الاستنباط.
ومنها : أنّ
الاتّجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخونساري قد وضع إحدى بذوره الأساسية زوَّد
الفكر العلمي بطاقةٍ جديدةٍ للنموّ وفتح مجالاً جديداً للإبداع ، وكانت مدرسة
البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتّجاه.
ومنها : عامل
المكان ، فإنّ مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربةٍ من المركز الرئيسي
للحوزة ـ وهو النجف ـ فكان قربها المكاني هذا من المركز سبباً لاستمرارها ومواصلة
وجودها عبر طبقاتٍ متعاقبةٍ من الأساتذة والتلامذة ، الأمر الذي جعل بإمكانها أن
تضاعف خبرتها باستمرارٍ وتضيف خبرةَ طبقةٍ من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي
سبقتها ، حتّى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزةً كبيرةً وتعطيه ملامح عصرٍ جديد. وبهذا
كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن
المدارس العديدة
التي كانت تقوم هنا وهناك بعيداً عن المركز وتتلاشى بموت رائدها.
نصّ يصوِّر الصراع مع الحركة الأخبارية :
وللمحقّق
البهبهاني رائد هذه المدرسة كتاب في الاصول باسم «الفوائد الحائرية» نلمح فيه
ضراوة المعركة التي كان يخوضها ضدّ الحركة الأخبارية.
ونقتبس من الكتاب
نصّاً يشير فيه إلى بعض شبهات الأخباريّين وحججهم ضدّ علم الاصول ، ويلمِّح لدى
تفنيدها إلى ما شرحناه سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية.
قال البهبهاني : «لمّا
بَعُد العهد عن زمان الأئمّة عليهمالسلام وخفت أمارات الفقه والأدلّة ـ على ما كان المقرّر عند
الفقهاء والمعهود بينهم بلا خفاءٍ بانقراضهم وخلوّ الديار عنهم إلى أن انطمس أكثر
آثارهم ، كما كانت طريقة الامم السابقة والعادة الجارية في الشرائع الماضية : أنّه
كلّما يبعد العهد عن صاحب الشريعة تخفى أمارات قديمة ، وتحدث خيالات جديدة إلى أن
تضمحلّ تلك الشريعة ـ توهّم متوهّم أنّ شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن
كانوا مجتمعين على الضلالة ، مبدِعين بدعاً كثيرةً ... ، متابعين للعامة ، مخالفين
لطريقة الأئمّة ، ومغيِّرين لطريقة الخاصّة مع غاية قربهم لعهد الأئمّة ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومعارفهم في الفقه
والحديث وتبحرهم وزهدهم وورعهم» .
__________________
ويستمرّ في
استعراض مدى جرأة خصومه على اولئك الكبار ويحاسبهم على تلك الجرأة ، ثمّ يقول : «وشُبهتهم
الاخرى هي : أنّ رواة هذه الأحاديث ما كانوا عالمين بقواعد المجتهدين ، مع أنّ الحديث كان حجّةً لهم ، فنحن أيضاً مثلهم لا
نحتاج إلى شرطٍ من شرائط الاجتهاد ، وحالنا بعينه حالهم ، ولا ينقطعون بأنّ الراوي
كان يعلم أنّ ما سمعه كلام إمامه ، وكان يفهم من حيث إنّه من أهل اصطلاح زمان
المعصوم عليهمالسلام ، ولم يكن مبتلى بشيءٍ من الاختلالات التي ستعرفها ، ولا
محتاجاً إلى علاجها» .
استخلاص :
ولا يمكننا على
مستوى هذه الحلقة أن نتوسّع في درس الدور المهمّ الذي قامت به هذه المدرسة استاذاً
وتلامذةً وما حقّقته للعلم من تطويرٍ وتعميق.
وإنّما الشيء الذي
يمكننا تقريره الآن مع تلخيص كل ما تقدّم عن تأريخ العلم هو : أنّ الفكر العلمي
مرَّ بعصورٍ ثلاثة :
الأول
: العصر التمهيدي ،
وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الاصول ، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن
الجنيد ، وينتهي بظهور الشيخ.
الثاني
: عصر العلم ، وهو
العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور ، وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الاصولي ، وانعكست
على مجالات البحث الفقهي في نطاقٍ واسع ، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ، ومن
رجالاته الكبار : ابن إدريس ، والمحقّق الحلّي ، والعلّامة ، والشهيد الأوّل ،
وغيرهم من النوابغ.
__________________
الثالث
: عصر الكمال
العلمي ، وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في
أواخر القرن الثاني عشر على يد الاستاذ الوحيد البهبهاني ، وبدأت تبني للعلم عصره
الثالث بما قدّمته من جهودٍ متضافرةٍ في الميدانين الاصولي والفقهي.
وقد تمثّلت تلك
الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الاستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا
عمل الرائد حوالي نصف قرن ، حتّى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى
القِمّة.
ففي هذه المدّة
تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة :
ويتمثّل الجيل
الأول في المحقّقين الكبار من تلامذة الاستاذ الوحيد ، كالسيّد مهدي بحر العلوم
المتوفّى سنة (١٢١٢ ه) ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه) ،
والميرزا أبي القاسم القمّي المتوفّى سنة [١٢٣١ ه] ، والسيّد علي الطباطبائي
المتوفّى سنة [١٢٣١ ه] ، والشيخ أسد الله التستري المتوفّى سنة (١٢٣٤ ه).
ويتمثّل الجيل
الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء ، كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم
المتوفّى سنة (١٢٤٨ ه) ، وشريف العلماء محمد شريف ابن حسن بن عليّ المتوفّى سنة (١٢٤٥
ه) ، والسيّد محسن الأعرجي المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه) ، والمولى أحمد النراقي
المتوفّى سنة (١٢٤٥ ه) ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفّى سنة (١٢٦٦ ه) ،
وغيرهم.
وأمّا الجيل
الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري ، الذي
ولد بُعَيد ظهور المدرسة الجديدة عام (١٢١٤ ه) ، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي
في أوج نموّها ونشاطها ، وقدِّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة
التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها اليها.
ولا يزال علم
الاصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي
افتتحته مدرسة الاستاذ الوحيد.
ولا يمنع تقسيمنا هذا
لتأريخ العلم إلى عصورٍ ثلاثةٍ إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى
مراحل من النموّ ، ولكلّ مرحلةٍ رائدها وموجِّهها. وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ
الأنصاري قدسسره ـ المتوفّى سنة ١٢٨١ ه ـ رائداً لأرقى مرحلةٍ من مراحل
العصر الثالث ، وهي المرحلة التي يتمثّل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنةٍ
حتّى اليوم.
مصادر الإلهام للفكر الاصولي
لا نستطيع ـ ونحن
لا نزال في الحلقة الاولى ـ أن نتوسّع في دراسة مصادر الإلهام للفكر الاصولي ،
ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الاصولي وتمدّه بالجديد تلو الجديد من
النظريات ؛ لأنّ ذلك يتوقّف على الإحاطة المسبقة بتلك النظريات ، ولهذا سوف نلخِّص
في ما يلي مصادر الإلهام بصورةٍ موجزة :
١
ـ بحوث التطبيق في الفقه : فإنّ الفقيه تتكشّف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في
عملية الاستنباط ، ويقوم علم الاصول عندئذٍ بوضع الحلول المناسبة لها ، وتصبح هذه
الحلول والنظريات عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على
مجالاتها المختلفة كثيراً ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدةٍ يكون لها أثر في تعديل
تلك النظريات أو تعميقها.
ومثال ذلك : أنّ
علم الاصول يقرّر أنّ الشيء إذا وجب وجبت مقدمته ، فالوضوء يجب ـ مثلاً ـ إذا وجبت
الصلاة ؛ لأنّ الوضوء من مقدمات الصلاة ، كما يقرّر علم الاصول أيضاً أنّ مقدمة
الشيء إنّما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشيء ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب ،
فالوضوء إنّما يجب حين تجب
الصلاة ، ولا يجب
قبل الزوال ، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال ، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجباً قبل
أن يحلّ وقت الصلاة وتجب.
والفقيه حين يكون
على علمٍ بهذه المقرّرات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية
شذوذاً جديراً بالدرس ، ففي الصوم يجد ـ مثلاً ـ أنّ من المقرّر فقهياً أنّ وقت
الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك ، وكذلك من الثابت في الفقه أنّ
المكلَّف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصحّ صومه ؛
لأنّ الغسل من الجنابة مقدمة للصوم فلا صوم بدونه ، كما أنّ الوضوء مقدمة للصلاة
ولا صلاة بدون وضوء.
ويحاول الفقيه
بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقرّرات الاصولية ، فيجد
نفسه في تناقض ؛ لأنّ الغسل وجب على المكلّف فقهياً قبل مجيء وقت الصوم ، بينما
يقرّر علم الاصول أنّ مقدمة كلّ شيءٍ إنّما تجب في ظرف وجوب ذلك الشيء ولا تجب قبل
وقته. وهكذا يُرغِم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديدٍ النظرية الاصولية ،
ويتأمّل في طريقةٍ للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي ، وينتج عن ذلك تولّد أفكارٍ
اصوليةٍ جديدةٍ بالنسبة الى النظرية تحدّدها أو تعمّقها وتشرحها بطريقةٍ جديدةٍ تتّفق
مع الواقع الفقهي.
وهذا المثال
مستمدّ من الواقع ، فإنّ مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشَّفت من خلال
البحث الفقهي ، وكان أول بحثٍ فقهيٍّ استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في
السرائر وإن لم يوفّق لعلاجها.
وأدّى اكتشاف هذه
المشكلة الى بحوثٍ اصوليةٍ دقيقةٍ في طريق التوفيق
__________________
بين المقرّرات
الاصولية السابقة والواقع الفقهي ، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث
المقدمات المفوّتة.
٢
ـ علم الكلام : فقد لعب دوراً مهمّاً في تموين الفكر الاصولي وإمداده ، وبخاصّةٍ في العصر
الأول والثاني ؛ لأنّ الدراسات الكلامية كانت منتشرةً وذات نفوذٍ كبيرٍ على
الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الاصول يشقّ طريقه الى الظهور ، فكان
من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه.
ومثال ذلك : نظرية
الحسن والقبح العقليّين ، وهي النظرية الكلامية القائلة بأنّ العقل الإنساني يدرك
بصورةٍ مستقلّةٍ عن النصّ الشرعي قبح بعض الأفعال ، كالظلم والخيانة ، وحسن بعضها
، كالعدل والوفاء والأمانة ، فإنّ هذه النظرية استخدمت اصوليّاً في العصر الثاني
لحجّية الإجماع ، أي أنّ العلماء إذا اتّفقوا على رأيٍ واحدٍ فهو الصواب ، بدليل
أنّه لو كان خطأً لكان من القبيح عقلاً سكوت الإمام المعصوم عنه وعدم إظهاره
للحقيقة ، فقبح سكوت الإمام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه.
٣
ـ الفلسفة : وهي لم تصبح
مصدراً لإلهام الفكر الاصولي في نطاقٍ واسعٍ إلّا في العصر الثالث تقريباً ،
نتيجةً لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام ، وانتشار
فلسفاتٍ كبيرةٍ ومجدّدة ، كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفّى سنة (١٠٥٠ ه) ،
فإنّ ذلك أدّى إلى إقبال الفكر الاصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة
واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام ، وبخاصّةٍ التيار الفلسفي الذي أوجده صدر
الدين الشيرازي. ومن أمثلة ذلك : ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في
مسائل اصوليةٍ متعدّدة ، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة تعلّق الأوامر
بالطبائع والأفراد ، الأمر الذي لا يمكننا فعلاً توضيحه.
٤
ـ الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكّر الاصولي : فإنّ الاصولي قد يعيش في ظرفٍ معيّنٍ فيستمدّ من طبيعة
ظرفه بعض أفكاره ، ومثاله : اولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأول
ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسراً لهم في جُلِّ ما يواجهونه من حاجاتٍ وقضايا ،
نتيجةً لقرب عهدهم بالأئمّة عليهمالسلام ، وقلّة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبياً ، فقد ساعد ظرفهم
ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوّروا أنّ هذه الحالة حالة مطلقة ثابتة
في جميع العصور. وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ من اللطف الواجب على الله أن يجعل على
كلِّ حكمٍ شرعيٍّ دليلاً واضحاً ما دام الإنسان مكلّفاً والشريعة باقية.
٥
ـ عامل الزمن : وأعني بذلك أنّ الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلّما اتّسع
وازداد تجدّدت مشاكل وكلّف علم الاصول بدراستها ، فعلم الاصول يُمنى نتيجةً لعامل
الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوانٍ من المشاكل ، فينمو بدراستها والتفكير
في وضع الحلول المناسبة لها.
ومثال ذلك : أنّ
الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ
تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور ، ولا يتيسّر الاطّلاع
المباشر على صحتها كما كان ميسوراً في كثيرٍ من الأحيان لفقهاء العصر الأول ،
فبرزت أهمّية الخبر الظنّي ومشاكل حجّيته ، وفرضت هذه الأهمّية واتّساع الحاجة إلى
الأخبار الظنّية على الفكر العلمي أن يتوسّع في بحث تلك المشاكل ويعوِّض عن قطعية
الروايات بالفحص عن دليلٍ شرعيٍّ يدلّ على حجّيتها وإن كانت ظنّية ، وكان الشيخ
الطوسي رائد العصر الثاني هو أول من توسّع في بحث حجّية الخبر الظنّي وإثباتها.
ولمّا دخل العلم
في العصر الثالث أدّى اتّساع الفاصل الزمني إلى الشكّ حتّى في مدارك حجّية الخبر
ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهلّ العصر
الثاني ، فإنّ
الشيخ استدلّ على حجّية الخبر الظّني بعمل أصحاب الأئمّة به ، ومن الواضح أنّا
كلّما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمّة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً ، والاطّلاع
على أحوالهم أكثر صعوبة.
وهكذا بدأ
الاصوليون في مستهلّ العصر الثالث يتساءلون : هل يمكننا أن نظفر بدليلٍ شرعيٍّ على
حجّية الخبر الظنّي ، أوْ لا؟
وعلى هذا الأساس
وجد في مستهلِّ العصر الثالث اتّجاه جديد يدّعي انسداد باب العلم ؛ لأنّ الأخبار
ليست قطعية ، وانسداد باب الحجّة ؛ لأنّه لا دليل شرعيّ على حجّية الأخبار الظنّية
، ويدعو إلى إقامة علم الاصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد ، كما يدعو إلى جعل
الظنّ بالحكم الشرعي ـ أيّ ظنٍّ ـ أساساً للعمل ، دون فرقٍ بين الظنّ الحاصل من
الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصّاً على حجّية الخبر يميِّزه عن
سائر الظنون.
وقد أخذ بهذا
الاتّجاه عدد كبير من روّاد العصر الثالث ورجالات المدرسة التي افتتحت هذا العصر ،
كالاستاذ البهبهاني ، وتلميذه المحقّق القمّي ، وتلميذه صاحب الرياض ، وغيرهما ،
وبقي هذا الاتّجاه قيد الدرس والبحث العلمي حتّى يومنا هذا.
وبالرغم من أنّ
لهذا الاتّجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني فقد صرّح المحقّق الشيخ
محمد باقر بن صاحب الحاشية على المعالم : بأنّ الالتزام بهذا
الاتّجاه لم يعرف عن أحدٍ قبل الاستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته ، كما أكّد أبوه
المحقّق الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم أنّ الأسئلة التي يطرحها
__________________
هذا الاتّجاه
حديثة ولم تدخل الفكر العلمي قبل عصره.
وهكذا نتبيّن كيف
تظهر بين فترةٍ وفترةٍ اتّجاهات جديدة ، وتتضخّم أهمّيتها العلمية بحكم المشاكل
التي يفرضها عامل الزمن.
٦
ـ عنصر الإبداع الذاتي : فإنّ كلّ علمٍ حين ينمو ويشتدّ يمتلك بالتدريج قدرةً على الخلق والتوليد
الذاتي نتيجةً لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره. ومثال ذلك في علم
الاصول : بحوث الاصول العملية ، وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية ،
فإنّ أكثر هذه البحوث نتاج اصولي خالص.
ونقصد ببحوث
الاصول العملية : تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الاصولية والعناصر المشتركة
التي يجب على الفقيه الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلاً على
الحكم وظلّ الحكم الشرعي مجهولاً لديه.
ونقصد ببحوث
الملازمات والعلاقات بين الأحكام : ما يقوم به علم الاصول من دراسة الروابط
المختلفة بين الأحكام ، من قبيل مسألة أنّ النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها ،
أوْ لا؟ إذ تدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده ، وهل يفقد أثره في
نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراماً ، أو يظلّ صحيحاً ومؤثّراً في
نقل الملكية بالرغم من حرمته؟ أي أنّ العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة
تضادٍّ أوْ لا؟
عطاء الفكر الاصولي
وإبداعه :
وبودِّي أن اشير
بهذا الصدد إلى حقيقةٍ يجب أن يعلمها الطالب ولو بصورةٍ مجملة ، حيث لا يمكن
توضيحها والتوسّع فيها على مستوى هذه الحلقة.
وهذه الحقيقة هي :
أنّ علم الاصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله
الأصيل ، أي مجال
تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، بل كان له إبداع كبير في عددٍ من
أهمّ مشاكل الفكر البشري ؛ وذلك أنّ علم الاصول بلغ في العصر العلمي الثالث وفي
المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورةٍ خاصّةٍ قمّة الدقّة والعمق ، ووعى بفهمٍ
وذكاءٍ مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال ، وبحثها متحرّراً من
التقاليد الفلسفية التي تقيّد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون ، إذ كان يسير في
خطٍّ مرسوم ، ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامّة للتفكير الفلسفي
، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار ، وللمسلّمات الأساسية في الفلسفة بالدرجة التي
تجعل هدفه الأقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها.
وبينما كان البحث
الفلسفي على هذه الصورة كان البحث الاصولي يخوض بذكاءٍ وعمقٍ في درس المشاكل
الفلسفية متحرّراً من سلطان الفلاسفة التقليديّين وهيبتهم. وعلى هذا الأساس تناول
علم الاصول جملةً من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتّصل بأهدافه ، وأبدع فيها
إبداعاً أصيلاً لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي ، ولهذا يمكننا القول بأنّ
الفكر الذي أعطاه علم الاصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدةً
من الفكر الذي قدّمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات.
وفي ما يلي نذكر
بعض تلك الحقول التي أبدع فيها الفكر الاصولي :
١ ـ في مجال نظرية
المعرفة : وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة
__________________
البشرية ومدى
إمكان الاعتماد عليها ، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها.
فقد امتدّ البحث
الاصولي إلى مجال هذه النظرية ، وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين
الأخباريّين والمجتهدين ، الذي كان ولا يزال يتمخّض عن أفكارٍ جديدةٍ في هذا الحقل
، وقد عرفنا سابقاً كيف أنّ التيّار الحسّي تسرّب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر
العلمي عند فقهائنا ، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الاوروبية إلى ذلك الوقت.
٢ ـ في مجال فلسفة
اللغة : فقد سبق الفكر الاصولي أحدثُ اتّجاهٍ عالميّ في المنطق الصوري اليوم ، وهو
اتّجاه المناطقة الرياضيّين الذين يردّون الرياضيات إلى المنطق ، والمنطق إلى
اللغة ، ويرون أنّ الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلِّل اللغة ويفلسفها بدلاً عن
أن يحلِّل الوجود الخارجي ويفلسفه.
فإنّ المفكّرين
الاصوليّين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي ، وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات
في الاصول إلّا دليلاً على هذا السبق.
ومن الطريف أن
يكتب اليوم «برتراند رسل» ـ رائد ذلك الاتّجاه الحديث في العالم المعاصر ، محاولاً
التفرقة بين جملتين لغويّتين في دراسته التحليلية للّغة ، وهما : «مات قيصر» و «موت
قيصر» أو «صدق موت قيصر» ، فلا ينتهي إلى نتيجة ، وإنّما يعلّق على مشكلة التمييز
المنطقي بين الجملتين ـ فيقول : «لست أدري كيف اعالج هذه المشكلة علاجاً مقبولاً؟»
.
أقول : من الطريف
أن يعجز باحث في قمّة ذلك الاتّجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين ،
بينما يكون علم الاصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق
__________________
في دراساته
الفلسفية التحليلية للّغة ووضع له أكثر من تفسير.
٣ ـ وكذا نجد لدى
بعض المفكّرين الاصوليّين بذور نظرية الأنماط المنطقية ، فقد حاول المحقّق الشيخ
محمد كاظم الخراساني في الكفاية أن يميِّز بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي بما يتّفق مع
الفكرة الرئيسية في تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الاصولي قد استطاع أن يسبق «برتراند
رسل» صاحب تلك النظرية ، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا ، فقام بمناقشتها ودحضها ،
وحلّ التناقضات التي بنى «رسل» نظريته على أساسها.
٤ ـ ومن أهمّ
المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي
للّغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنّها تعبِّر عن شيءٍ موجود ، فما ذا نقصد
بقولنا مثلاً : «الملازمة بين النار والحرارة»؟ وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب
وجود النار والحرارة ، أو معدومة؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة؟ وإذا كانت
معدومةً ولا وجود لها فكيف نتحدّث عنها؟
وقد درس الفكر
الاصولي هذه المشكلة متحرّراً عن القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق
الوجود والعدم ، فأبدع فيها.
وكلّ هذه الأمثلة
والنماذج نذكرها الآن لينفتح لها الطالب على سبيل الإجمال ، وأمّا توضيحها وشرحها
فنؤجِّله إلى الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
__________________
الحكم الشرعي وتقسيمه
عرفنا أنّ علم
الاصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ، ولأجل ذلك يجب أن
نكوِّن فكرةً عامةً منذ البدء عن الحكم الشرعي الذي يقوم علم الاصول بتحديد
العناصر المشتركة في عملية استنباطه.
الحكم الشرعي : هو
التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان ، والخطابات الشرعية في الكتاب
والسنّة مبرِزة للحكم وكاشفة عنه ، وليست هي الحكم الشرعي نفسه.
وعلى هذا الضوء
يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة بين قدماء الاصوليّين ، إذ
يعرِّفونه : بأنّه الخطاب الشرعي المتعلّق بأفعال المكلّفين ، فإنّ الخطاب كاشف عن الحكم ، والحكم هو مدلول الخطاب.
أضف إلى ذلك : أنّ
الحكم الشرعي لا يتعلّق بأفعال المكلّفين دائماً ، بل قد يتعلّق بذواتهم أو بأشياء
اخرى ترتبط بهم ؛ لأنّ الهدف من الحكم الشرعي تنظيم
__________________
حياة الإنسان ،
وهذا الهدف كما يحصل بخطابٍ متعلّقٍ بأفعال المكلّفين ـ كخطاب «صلِّ» و «صُم» و «لا
تشرب الخمر» ـ كذلك يحصل بخطابٍ متعلّقٍ بذواتهم ، أو بأشياء اخرى تدخل في حياتهم
، من قبيل الأحكام والخطابات التي تنظِّم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجةً للرجل
في ظلِّ شروطٍ معيّنة ، أو تنظِّم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكاً للمال في ظلّ
شروطٍ معيّنة ، فإنّ هذه الأحكام ليست متعلّقةً بأفعال المكلّفين ، بل الزوجية حكم
شرعي متعلّق بذواتهم ، والملكية حكم شرعي متعلّق بالمال.
فالأفضل إذن
استبدال الصيغة المشهورة بما قلناه من أنّ الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله
لتنظيم حياة الإنسان ، سواء كان متعلّقاً بأفعاله أو بذاته أو بأشياء اخرى داخلةٍ
في حياته.
تقسيم الحكم إلى
تكليفيٍّ ووضعي :
وعلى ضوء ما سبق
يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين :
أحدهما : الحكم
الشرعي المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لسلوكه مباشرةً في مختلف جوانب حياته
الشخصية والعبادية والعائلية والاقتصادية والسياسية التي عالجتها الشريعة ونظّمتها
جميعاً ، كحرمة شرب الخمر ، ووجوب الصلاة ، ووجوب الإنفاق على بعض الأقارب ،
وإباحة إحياء الأرض ، ووجوب العدل على الحاكم.
والآخر : الحكم
الشرعي الذي لا يكون موجّهاً مباشراً للإنسان في أفعاله وسلوكه ، وهو كلّ حكمٍ
يشرِّع وضعاً معيّناً يكون له تأثير غير مباشرٍ على سلوك الإنسان ، من قبيل
الأحكام التي تنظِّم علاقات الزوجية ، فإنّها تشرّع بصورةٍ مباشرةٍ علاقةً معيّنةً
بين الرجل والمرأة ، وتؤثّر بصورةٍ غير مباشرةٍ على السلوك
وتوجّهه ؛ لأنّ
المرأة بعد أن تصبح زوجةً ـ مثلاً ـ تُلزَم بسلوكٍ معيَّنٍ تجاه زوجها ، ويسمّى
هذا النوع من الأحكام بالأحكام الوضعية.
والارتباط بين
الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية وثيق ، إذ لا يوجد حكم وضعي إلّا ويوجد إلى
صفّه حكم تكليفي ، فالزوجية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفِّه أحكام تكليفية ، وهي :
وجوب إنفاق الزوج على زوجته ، ووجوب التمكين على الزوجة. والملكية حكم شرعي وضعي
توجد إلى صفّه أحكام تكليفية ، من قبيل حرمة تصرّف غير المالك في المال إلّا بإذنه
، وهكذا.
أقسام الحكم
التكليفي :
ينقسم الحكم
التكليفي ـ وهو الحكم المتعلّق بأفعال الإنسان والموجّه لها مباشرةً ـ إلى خمسة
أقسام ، وهي كما يلي :
١ ـ «الوجوب» : وهو حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة
الإلزام ، نحو وجوب الصلاة ، ووجوب إعالة المعوِزين على وليّ الأمر.
٢ ـ «الاستحباب» : وهو حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون
الإلزام ، ولهذا توجد إلى صفّه دائماً رخصة من الشارع في مخالفته ، كاستحباب صلاة
الليل.
٣ ـ «الحرمة» : وهي حكم شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجة
الإلزام ، نحو حرمة الربا ، وحرمة الزنا ، وبيع الأسلحة من أعداء الإسلام.
٤ ـ «الكراهة» : وهي حكم شرعي يزجر عن الشيء الذي تعلّق به بدرجةٍ دون
الإلزام ، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث ، كما أنّ الحرمة في
مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث ، ومثال المكروه :
خلف الوعد.
٥ ـ «الإباحة» : وهي أن يفسح الشارع المجال للمكلَّف لكي يختار الموقف
الذي يريده ، ونتيجة ذلك أن يتمتّع المكلّف بالحرّية ، فله أن يفعل وله أن يترك.
المعالم الجديدة
للُاصول
القسم الثاني
|
|
بحوث علم الاصول
تنويع البحث.
النوع الأوّل :
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل.
النوع الثاني :
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي.
تنويع البحث
حينما يتناول
الفقيه مسألةً ـ كمسألة الإقامة للصلاة ـ ويحاول استنباط حكمها يتساءل في البداية
: ما هو نوع الحكم الشرعيّ المتعلّق بالإقامة؟ أهو وجوب ، أو استحباب؟ فإن حصل على
دليلٍ يكشف عن نوع الحكم الشرعي للإقامة أمكنه الجواب على السؤال الذي طرحه منذ
البدء في ضوء هذا الدليل ، وكان عليه أن يحدِّد موقفه العملي واستنباطه على أساسه
، فيكون استنباطاً قائماً على أساس الدليل.
وإن لم يحصل
الفقيه على دليلٍ يعيِّن نوع الحكم الشرعي المتعلّق بالإقامة فسوف يضطرّ إلى
الكفِّ عن محاولة اكتشاف الحكم الشرعي ما دام لا يوجد في المجال الفقهي دليل عليه
، ويظلّ الحكم الشرعي مجهولاً للفقيه لا يدري أهو وجوب ، أو استحباب؟ وفي هذه
الحالة يستبدل الفقيه سؤاله الأول الذي طرحه في البداية بسؤالٍ جديدٍ كما يلي : ما
هي القواعد التي تحدِّد الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول؟
فبينما كان الفقيه
يحاول تحديد الموقف العملي عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي وإقامة الدليل عليه
أصبح يحاول تحديد الموقف العملي على ضوء القواعد التي تعالج مثل هذا الموقف تجاه
الحكم المجهول ، وهذه القواعد تسمّى بالاصول العملية. ومثالها : أصالة البراءة ،
وهي القاعدة القائلة : «إنّ كلّ إيجابٍ أو تحريمٍ مجهولٍ لم يقم عليه دليل فلا أثر
له على سلوك الإنسان ، وليس الإنسان ملزماً بالاحتياط من ناحيته والتقيّد به» ،
ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس الأصل العملي بدلاً عن الدليل.
ولأجل هذا يمكننا
تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين :
أحدهما :
الاستنباط القائم على أساس الدليل ، كالاستنباط المستمدِّ من نصٍّ دالٍّ على الحكم
الشرعي.
والآخر :
الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي ، كالاستنباط المستمدِّ من أصالة البراءة.
ولمّا كان علم
الاصول هو : «العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط» فهو يزوّد كلا النوعين
بعناصره المشتركة ، وعلى هذا الأساس ننوِّع البحوث الاصولية إلى نوعين ، نتكلّم في
النوع الأول عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الدليل ،
ونتكلّم في النوع الثاني عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس
الأصل العملي :
العنصر المشترك بين
النوعين :
ويوجد بين العناصر
المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي
بكلا نوعيها : ما كان منها قائماً على أساس الدليل ، وما كان قائماً على أساس
الأصل العملي.
وهذا العنصر هو
حجّية العلم «القطع» ، ونريد بالعلم : انكشاف قضيةٍ من القضايا بدرجةٍ لا يشوبها
شكّ. ومعنى حجّية العلم يتلخّص في أمرين :
أحدهما
: أنّ العبد إذا
تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لعمله بقطعه واعتقاده فليس للمولى معاقبته ، وللعبد
أن يعتذر عن مخالفته للمولى بأنّه عمل على وفق قطعه ، كما إذا قطع العبد خطأً بأنّ
الشراب الذي أمامه ليس خمراً ، فشربه اعتماداً على قطعه وكان الشراب خمراً في
الواقع فليس للمولى أن يعاقبه على شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه ، وهذا أحد
الجانبين من حجّية العلم ، ويسمّى بجانب المعذّرية.
والآخر
: أنّ العبد إذا
تورّط في مخالفة المولى نتيجةً لتركه العمل بقطعه
فللمولى أن يعاقبه
ويحتجّ عليه بقطعه ، كما إذا قطع العبد بأنّ الشراب الذي أمامه خمر ، فشربه وكان
خمراً في الواقع فإنّ من حقّ المولى أن يعاقبه على مخالفته ؛ لأنّ العبد كان على
علمٍ بحرمة الخمر وشربه فلا يعذر في ذلك ، وهذا هو الجانب الثاني من حجّية العلم ،
ويسمّى بجانب المنجّزية.
وبديهيّ أنّ حجّية
العلم بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن أن تستغني عنه أيّ عمليةٍ من عمليات
استنباط الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفقيه يخرج من عملية الاستنباط دائماً بنتيجة ، وهي
العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل ، أو على أساس الأصل
العملي. ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثرٍ لا بدّ من الاعتراف مسبقاً بحجّية العلم ،
إذ لو لم يكن العلم حجّةً ولم يكن صالحاً للاحتجاج به من المولى على عبده ومن
العبد على مولاه لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغواً ؛
لأنّ علمه ليس حجّة ، ففي كلّ عملية استنباطٍ لا بدّ إذن أن يدخل عنصر حجّية العلم
؛ لكي تعطي العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجةٍ إيجابية. وبهذا أصبحت حجّية
العلم أعمَّ العناصر الاصولية المشتركة وأوسعها نطاقاً.
وليست حجّية العلم
عنصراً مشتركاً في عمليات استنباط الفقيه للحكم الشرعي فحسب ، بل هي في الواقع شرط
أساسي في دراسة الاصولي للعناصر المشتركة نفسها أيضاً ، فنحن حينما ندرس ـ مثلاً ـ
مسألة حجّية الخبر أو حجّية الظهور العرفي إنّما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع
الحال في تلك المسألة ، فإذا لم يكن العلم حجّةً ، فأيُّ جدوى في دراسة حجّية
الخبر والظهور العرفي؟!
فالفقيه والاصولي
يستهدفان معاً من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة الفقهية «تحديد الموقف العملي تجاه
الشريعة» ، أو الاصولية «العنصر المشترك» ، فبدون الاعتراف المسبق بحجّية العلم
تصبح بحوثهما عبثاً لا طائل تحته.
وحجّية العلم ثابتة
بحكم العقل ، فإنّ العقل يحكم بأنّ للمولى سبحانه حقَ
الطاعة على
الإنسان في كلِّ ما يعلمه من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه ، فإذا علم الإنسان
بحكمٍ إلزاميٍّ من المولى «وجوب أو حرمة» دخل ذلك الحكم الإلزامي ضمن نطاق حقّ
الطاعة ، وأصبح من حقّ المولى على الإنسان أن يمتثل ذلك الإلزام الذي علم به ،
فإذا قصّر في ذلك أو لم يؤدِّ حقّ الطاعة كان جديراً بالعقاب ، وهذا هو جانب
المنجّزية في حجّية العلم.
ومن ناحيةٍ اخرى
يحكم العقل أيضاً بأنّ الإنسان القاطع بعدم الإلزام من حقّه أن يتصرّف كما يحلو له
، وإذا كان الإلزام ثابتاً في الواقع والحالة هذه فليس من حقّ المولى على الإنسان
أن يمتثله ، ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما دام الإنسان قاطعاً بعدم
الإلزام ، وهذا هو جانب المعذّرية في حجّية العلم.
والعقل كما يدرك
حجّية القطع كذلك يدرك أنّ الحجّية لا يمكن أن تزول عن القطع ، بل هي لازمة له ،
ولا يمكن حتى للمولى أن يجرّد القطع من حجّيته ويقول : «إذا قطعت بعدم الإلزام
فأنت لست معذوراً» ، أو يقول : «إذا قطعت بالإلزام فلك أن تهمله» ، فإنّ كلّ هذا
مستحيل بحكم العقل ؛ لأنّ القطع لا تنفكّ عنه المعذّرية والمنجّزية بحالٍ من الأحوال
، وهذا هو معنى المبدأ الاصولي القائل «باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع».
قد تقول : هذا
المبدأ الاصولي يعني أنّ العبد إذا تورّط في عقيدةٍ خاطئةٍ فقطع ـ مثلاً ـ بأنّ
شرب الخمر حلال فليس للمولى أن ينبِّهه على الخطأ.
والجواب : أنّ
المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بأنّ الخمر ليس مباحاً ؛ لأنّه
بذلك يزيل القطع من نفس العبد ويردّه إلى الصواب ، والمبدأ الاصولي الآنف الذكر
إنّما يقرّر استحالة صدور الردع من المولى عن العمل بالقطع مع بقاء القطع ثابتاً ،
فالقاطع بحلّية شرب الخمر يمكن للمولى أن يزيل قطعه ، ولكن من المستحيل أن يردعه
عن العمل بقطعه ويعاقبه على ذلك ما دام قطعه ثابتاً ويقينه بالحلّية قائماً.
بحوث علم الاصول
النوع الأوّل
|
|
العناصر المشتركة
في الاستنباط القائم على أساس الدليل
تمهيد.
١ ـ الدليل
اللفظي.
٢ ـ الدليل
البرهاني.
٣ ـ الدليل الاستقرائي.
٤ ـ التعارض بين
الأدلّة.
تمهيد
الدليل الذي يستند
إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إمّا أن يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، أوْ
لا.
ففي الحالة الاولى
يكون الدليل قطعياً ويستمدّ شرعيته وحجّيته من حجّية القطع ؛ لأنّه يؤدّي إلى
القطع بالحكم ، والقطع حجّة بحكم العقل ، فيتحتّم على الفقيه أن يقيم على أساسه
استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذج الدليل القطعي : كلّ آيةٍ كريمةٍ تدلّ على حكمٍ
شرعيٍّ بصراحةٍ ووضوحٍ لا يقبل الشكّ والتأويل ، ومن نماذجه أيضاً : القانون
القائل : «كلّما وجب الشيء وجبت مقدِّمته» ، فإنّ هذا القانون يعتبر دليلاً قطعياً
على وجوب الوضوء بوصفه مقدِّمةً للصلاة.
وأمّا في الحالة
الثانية فالدليل ناقص ؛ لأنّه ليس قطعياً ، والدليل الناقص إذا حكم الشارع بحجّيته
وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط بالرغم من نقصانه أصبح كالدليل القطعي ،
وتحتّم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجّةً
: خبر الثقة ، فإنّ خبر الثقة لا يؤدّي إلى العلم ؛ لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ ،
فهو دليل ظنّي ناقص وقد جعله الشارع حجّةً وأمر باتّباعه وتصديقه ، فارتفع بذلك في
عملية الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي.
وإذا لم يحكم
الشارع بحجّية الدليل الناقص فلا يكون حجّة ، ولا يجوز الاعتماد عليه في الاستنباط
؛ لأنّه ناقص يحتمل فيه الخطأ.
وقد نشكّ ولا نعلم
هل جعل الشارع الدليل الناقص حجّةً ، أوْ لا ، ولا يتوفّر لدينا الدليل الذي يثبت
الحجّية شرعاً أو ينفيها؟ وعندئذٍ يجب أن نرجع إلى قاعدةٍ عامةٍ يقرّرها الاصوليون
بهذا الصدد ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ كلّ دليلٍ ناقصٍ ليس حجّةً ما لم يثبت
بالدليل الشرعي العكس» ، وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من أنّ «الأصل في
الظنّ هو عدم الحجّية إلّا ما خرج بدليلٍ قطعي».
ونستخلص من ذلك :
أنّ الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهياً هو الدليل القطعي ، أو الدليل الناقص
الذي ثبتت حجّيته شرعاً بدليلٍ قطعي.
تقسيم البحث :
والدليل في
المسألة الفقهية ـ سواء كان قطعياً أو لم يكن ـ ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
١ ـ الدليل اللفظي : وهو الدليل المستمدّ من كلام المولى ، كما إذا سمعت مولاك
يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فتستدلّ بذلك على وجوب الصلاة.
٢ ـ الدليل البرهاني : وهو الدليل المستمدّ من قانونٍ عقليّ عامّ ، كما إذا
__________________
ثبت لديك وجوب
الوضوء بوصفه مقدِّمةً للصلاة استناداً إلى القانون العقلي العام الذي يقول : «كلّما
وجب الشيء وجبت مقدّمته».
٣ ـ الدليل الاستقرائي : وهو الدليل المستمدّ من تتبّع حالاتٍ كثيرة ، كما إذا
استطعت أن تعرف أنّ أباك يأمرك بالإحسان إلى جارك الفقير عن طريق تتبّعك لذوقه
وأمره بالإحسان إلى فقراء كثيرين في حالاتٍ مماثلة.
ولكلٍّ من هذه
الأدلّة الثلاثة نظامه الخاصّ ، ومنهجه المتميِّز ، وعناصره المشتركة.
وعلى هذا الأساس
سوف نقسِّم البحث إلى ثلاثة أقسام ، فندرس في القسم الأول الدليل اللفظي وعناصره
المشتركة ، وفي القسم الثاني الدليل البرهاني وعناصره المشتركة ، وفي القسم الثالث
الدليل الاستقرائي وعناصره المشتركة.
الاستنباط
القائم على أساس الدليل
١
|
|
الدليل اللفظي
تمهيد.
الفصل الأوّل في
تحديد ظهور الدليل اللفظي.
الفصل الثاني في
حجّية الظهور.
تمهيد
الاستدلال بالدليل
اللفظي على الحكم الشرعي يرتبط بالنظام اللغوي العامّ للدلالة ، ولهذا نجد من
الضروري أن نمهِّد للبحث في الأدلّة اللفظية والعناصر الاصولية المشتركة فيها
بدراسةٍ إجماليةٍ لطبيعة الدلالة اللغوية ، وكيفية تكوّنها ، ونظرة عامة فيها :
ما هو الوضع والعلاقة
اللغوية؟ :
في كلّ لغةٍ تقوم
علاقات بين مجموعةٍ من الألفاظ ومجموعةٍ من المعاني ، ويرتبط كلّ لفظٍ بمعنى خاصٍّ
ارتباطاً يجعلنا كلّما تصوّرنا اللفظ انتقل ذهننا فوراً إلى تصوّر المعنى ،
فالإنسان العارف بالعربية متى تصور كلمة «الماء» ـ مثلاً ـ قفز ذهنه فوراً إلى
تصور ذلك السائل الخاصّ الذي نشربه في حياتنا الاعتيادية ، وهذا الاقتران بين تصور
اللفظ وتصور المعنى وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم «الدلالة»
، فحين نقول : «كلمة الماء تدلّ على السائل الخاصّ» نريد بذلك أنّ تصور كلمة «الماء»
يؤدّي إلى تصور ذلك السائل الخاص ، ويسمّى اللفظ «دالّا» ، والمعنى «مدلولاً».
وعلى هذا الأساس
نعرف أنّ العلاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى تشابه
إلى درجةٍ ما
العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة ، أو بين طلوع
الشمس والضوء ، فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدّي إلى الضوء
كذلك تصور اللفظ يؤدّي إلى تصور المعنى ، ولأجل هذا يمكن القول بأنّ تصور اللفظ
سبب لتصور المعنى ، كما تكون النار سبباً للحرارة ، وطلوع الشمس سبباً للضوء ، غير
أنّ علاقة السببية بين تصور اللفظ والمعنى مجالها الذهن ؛ لأنّ تصور اللفظ والمعنى
إنّما يوجد في الذهن ، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس
والضوء مجالها العالم الخارجي.
والسؤال الأساسي
بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه
العلاقة وكيفية تكوّنها ، فكيف تكوَّنت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف
أصبح تصور اللفظ سبباً لتصور المعنى مع أنّ اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كلّ
الاختلاف؟
ويذكر في علم
الاصول عادةً اتّجاهان في الجواب على هذا السؤال الأساسي :
يقوم الاتّجاه
الأول على أساس الاعتقاد بأنّ علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته ،
كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها ، فلفظ «الماء» ـ مثلاً ـ له
بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاصّ الذي نفهمه منه ، ولأجل هذا يؤكّد هذا الاتّجاه
أنّ دلالة اللفظ على المعنى ذاتية ، وليست مكتسبةً من أيّ سببٍ خارجي.
ويعجز هذا
الاتّجاه عن تفسير الموقف تفسيراً شاملاً ؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته
به إذا كانت ذاتيةً وغير نابعةٍ من أيّ سببٍ خارجيٍّ ، وكان اللفظ بطبيعته يدفع
الذهن البشري إلى تصور معناه فلما ذا يعجز غير العربي عن الانتقال الى تصور معنى
كلمة «الماء» عند تصوره للكلمة؟ ولما ذا يحتاج إلى تعلّم اللغة
العربية لكي ينتقل
ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصورها؟
إنّ هذا دليل على
أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصور اللفظ وتصور المعنى ليست نابعةً من طبيعة
اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست
ذاتية.
وأمّا الاتّجاه
الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ
والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأول أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا
تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصَّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ،
فاكتسبت الألفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ
على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة
يسمّى ب «الوضع» ، ويسمّى الممارِس له «واضعاً» ، واللفظ «موضوعاً» ، والمعنى «موضوعاً
له».
والحقيقة أنّ هذا
الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدم إلّا خطوةً
قصيرةً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي
يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت
نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة إذ خصّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن
نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسّسون؟
وسوف نجد أنّ
المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ،
ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسّس اللغة أن يوجد علاقة السببية بين شيئين
لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر
المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقة؟ وكلّنا نعلم أنّ المؤسِّس وأيّ شخصٍ
آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ولو كرّره مائة
مرّةٍ قائلاً : «خصصت حمرة الحبر الذي أكتب به
لكي يكون سبباً
لحرارة الماء» ، فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ سبباً لتصور المعنى بمجرّد
تخصيصه لذلك دون أيِّ علاقةٍ سابقةٍ بين اللفظ والمعنى؟
وهكذا نواجه
المشكلة كما كنّا نواجهها ، فليس يكفي لحلّها أن نفسِّر علاقة اللفظ بالمعنى على
أساس عمليةٍ يقوم بها مؤسّس اللغة ، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف
كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة؟
والصحيح في حلِّ
المشكلة : أنّ علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقاً
لقانونٍ عامٍّ من قوانين الذهن البشري.
والقانون العام هو
: أنّ كلّ شيئين اذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان مراراً
عديدةً ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة ، وأصبح أحد التصورين سبباً لانتقال
الذهن الى تصور الآخر. ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أن نعيش مع صديقين لا
يفترقان في مختلف شئون حياتهما نجدهما دائماً معاً ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين
الصديقين منفرداً أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر ؛ لأنّ رؤيتهما
معاً مراراً كثيرةً أوجد علاقةً بينهما في تصورنا ، وهذه العلاقة تجعل تصورنا
لأحدهما سبباً لتصور الآخر.
ومثال آخر من
تجارب الفقهاء : أنّا قد نجد راوياً يقترن اسمه دائماً باسم راوٍ آخر معيَّنٍ
كالنوفلي الذي يروي دائماً عن السكوني ، فكلّما وجدنا في الأحاديث اسم النوفلي
وجدنا إلى صفّه اسم السكوني أيضاً ، فتنشأ بسبب ذلك علاقة بين هذين الاسمين في
ذهننا ، فإذا تصورنا بعد ذلك النوفلي أو وجدنا اسمه مكتوباً في ورقةٍ قفز ذهننا
فوراً إلى السكوني نتيجةً لذلك الاقتران المتكرّر بين الاسمين في مطالعاتنا.
وقد يكفي أن تقترن
فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرّةً واحدةً لكي تقوم بينهما علاقة ، وذلك إذا
اقترنت الفكرتان في ظرفٍ مؤثّر ، ومثاله : إذا سافر أحد
إلى المدينة
المنوّرة ومُنِي هناك بالملاريا الشديدة ثمّ شفي منها ورجع فقد يُنتِج ذلك
الاقتران بين الملاريا والسفر إلى المدينة علاقةً بينهما ، فمتى تصور المدينة
انتقل ذهنه إلى تصور الملاريا.
وإذا درسنا على
هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة ، إذ نستطيع أن نفسِّر
هذه العلاقة بوصفها نتيجةً لاقتران تصور المعنى بتصور اللفظ بصورةٍ متكرّرةٍ أو في
ظرفٍ مؤثّر ، الأمر الذي أدّى إلى قيام علاقةٍ بينهما ، كالعلاقة التي قامت بين
المدينة والملاريا أو بين النوفلي والسكوني ، فالسبب في تكوّن العلاقة اللغوية
والدلالة اللفظية هو السبب في قيام العلاقة بين المدينة المنورة والملاريا ، أو
بين النوفلي والسكوني تماماً.
ويبقى علينا بعد
هذا أن نتساءل : كيف اقترن تصور اللفظ بمعنى خاصٍّ مراراً كثيرةً أو في ظرفٍ
مؤثّرٍ فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟ فنحن نعلم ـ مثلاً ـ أنّ اسم السكوني
واسم النوفلي اقترنا مراراً عديدةً في مطالعاتنا للروايات ؛ لأنّ النوفلي يروي
دائماً عن السكوني ، فكنّا نجد السكوني إلى جانبه كلّما وجدنا اسمه فقامت العلاقة
بينهما ، فما هي الأسباب التي جعلت اللفظ يقترن بالمعنى كما اقترن اسم النوفلي
باسم السكوني أو كما اقترنت فكرة الملاريا بفكرة المدينة في ذهن الشخص الذي اصيب
بها حال سفره إلى المدينة؟
والجواب على هذا
السؤال : أنّ بعض الألفاظ اقترنت بمعانٍ معيّنةٍ مراراً عديدةً بصورةٍ تلقائية ،
فنشأت بينهما العلاقة اللغوية ، وقد يكون من هذا القبيل كلمة «آه» ، إذ كانت تخرج
من فم الإنسان بطبيعته كلّما أحسّ بالألم ، فارتبطت كلمة «آه» في ذهنه بفكرة الألم
، فأصبح كلّما سمع كلمة «آه» انتقل ذهنه إلى فكرة الألم.
ومن المحتمل أنّ
الإنسان قبل أن توجد لديه أيّ لغةٍ قد استرعى انتباهه
هذه العلاقات التي
قامت بين الألفاظ ، من قبيل «آه» ومعانيها نتيجةً لاقترانٍ تلقائيٍّ بينهما ، وأخذ
ينشئ على منوالها علاقاتٍ جديدةً بين الألفاظ والمعاني.
وبعض الألفاظ قرنت
بالمعنى في عمليةٍ واعيةٍ مقصودةٍ لكي تقوم بينهما علاقة سببية ، وأحسن نموذجٍ
لذلك الأسماء الشخصية ، فأنت حين تريد أن تسمِّي ابنك علياً تقرن اسم عليٍّ
بالوليد الجديد لكي تنشئ بينهما علاقةً لغويةً ويصبح اسم عليٍّ دالًّا على وليدك ،
ويسمّى عملك هذا «وضعاً».
فالوضع : هو عملية
تقرن فيها لفظاً بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور اللفظ دائماً.
ونستطيع أن نشبِّه
الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك : هو «جابر» ،
فتريد أن تركِّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت ، فتحاول أن تقرن
بينه وبين شيءٍ قريبٍ من ذهنك ، فتقول مثلاً : أنا بالأمس قرأت كتاباً أخذ من نفسي
مأخذاً كبيراً اسم مؤلّفه جابر فلأتذكّر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب
ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصّاً بين صاحب الكتاب والطبيب
جابر ، وبعد ذلك تصبح قادراً على استذكار اسم الطبيب متى تصورت ذلك الكتاب.
وهذه الطريقة التي
تستعملها لإيجاد العلاقة بين تصور الكتاب وتصور اسم الطبيب لا تختلف جوهرياً عن
الطريقة التي تستعمل في الوضع لإقامة العلاقة اللغوية بين الألفاظ والمعاني.
ما هو الاستعمال؟ :
بعد أن يوضع اللفظ
لمعنىً يصبح تصور اللفظ سبباً لتصور المعنى ، ويأتي عندئذٍ دور الاستفادة من هذه
العلاقة اللغوية التي قامت بينهما ، فإذا كنت تريد أن
تعبِّر عن ذلك
المعنى لشخصٍ آخر وتجعله يتصوره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح
سبباً لتصور المعنى ، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية
بينهما ، ويسمّى استخدامك للّفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع «استعمالاً».
فاستعمال اللفظ في
معناه يعني إيجاد الشخص لفظاً لكي يعدَّ ذهن غيره للانتقال إلى معناه ، ويسمّى
اللفظ «مستعملاً» ، والمعنى «مستعملاً فيه» ، وإرادة المستعمل إخطار المعنى في ذهن
السامع عن طريق اللفظ «إرادة استعمالية».
الحقيقة والمجاز :
ويقسَّم الاستعمال
إلى حقيقيٍّ ومجازي.
فالاستعمال
الحقيقي : هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة
لغوية بسبب الوضع ، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم «المعنى الحقيقي».
والاستعمال
المجازي : هو استعمال اللفظ في معنىً آخر لم يوضع له ، ولكنّه يشابه ببعض
الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له ، ومثاله : أن تستعمل كلمة «البحر» في العالم
الغزير علمه ؛ لأنّه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة ، ويطلق على المعنى
المشابه للمعنى الموضوع له اسم «المعنى المجازي» ، وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى
المجازي علاقةً ثانويةً ناتجةً عن علاقته اللغوية الأولية بالمعنى الموضوع له ؛
لأنّها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي.
والاستعمال
الحقيقي يؤدّي غرضه ، وهو انتقال ذهن السامع إلى تصور المعنى بدون أيِّ شرط ؛ لأنّ
علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى
الموضوع له كفيلة
بتحقيق هذا الغرض. وأمّا الاستعمال المجازي فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى ،
إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ «البحر» و «العالم» ، فيحتاج المستعمل لكي
يحقّق غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينةٍ تشرح مقصوده ، فإذا قال مثلاً : «بحر
في العلم» كانت كلمة «في العلم» قرينةً على المعنى المجازي ، ولهذا يقال عادة :
إنّ الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينةٍ دون الاستعمال الحقيقي.
قد ينقلب المجاز حقيقة :
وقد لاحظ
الاصوليون بحقٍّ أنّ الاستعمال المجازي وإن كان يحتاج إلى قرينةٍ في بداية الأمر
ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي بقرينةٍ وتكرّر ذلك بكثرةٍ قامت بين
اللفظ والمعنى المجازي علاقة جديدة ، وأصبح اللفظ نتيجةً لذلك موضوعاً لذلك المعنى
، وخرج عن المجاز إلى الحقيقة ، ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة.
وهذه الظاهرة
يمكننا تفسيرها بسهولةٍ على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة الوضع والعلاقة اللغوية ؛
لأنّنا عرفنا أنّ العلاقة اللغوية تنشأ عن اقتران اللفظ بالمعنى مراراً عديدةً أو
في ظرفٍ مؤثّر ، فاذا استعمل اللفظ في معنىً مجازيٍّ مراراً كثيرةً اقترن تصور اللفظ
بتصور ذلك المعنى المجازي في ذهن السامع اقتراناً متكرّراً ، وأدّى هذا الاقتران
المتكرّر إلى قيام العلاقة اللغوية بينهما ، كما قامت العلاقة بين اسم النوفلي
واسم السكوني.
تصنيف اللغة :
تنقسم كلمات اللغة
ـ كما قرأتم في النحو ـ إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف ، وقولنا :
«تهتدي الإنسانية
في الإسلام» يشتمل على الأقسام الثلاثة ، ف «الإنسانية» و «الإسلام» من الأسماء ، و
«في» حرف من حروف الجرّ ، و «تهتدي» فعل من أفعال المضارعة.
وإذا درسنا مفردات
هذه الجملة بشيءٍ من الدقّة نجد أنّ كلمة «الإنسانية» لو فُصلت عن سائر الكلمات وبقيت
بمفردها لظلّت تحتفظ بمدلولها ومعناها الخاصّ ، وكذلك كلمة «الإسلام» توحي بنفس
المعنى الخاصّ بها ، سواء كانت جزءاً من الجملة أو منفصلةً عنها. وأمّا كلمة «في»
فهي تفقد معناها إذا جُرِّدت عن الجملة ولوحظت بمفردها ، إذ لا توجد في ذهننا
عندئذٍ أيّ تصورٍ محدّد ، بينما هي في داخل الجملة شرط ضروري فيها ، إذ لولاها
لَما استطعنا أن نربط بين الإنسانية والإسلام ، فلو قلنا : «تهتدي الإنسانية
الإسلام» لأصبحت الجملة غير مفهومة ، فكلمة «في» تقوم بدور الربط بين الإنسانية
والإسلام ، وهذا يعني أنّ معنى الحرف هو الربط بين معاني الأسماء
والتعبير عن أنواع العلاقات والروابط التي تقوم بين تلك المعاني ، فكلمة «في» في
قولنا : «تهتدي الإنسانية في الإسلام إلى أرقى الثقافات» تعبِّر عن نوعٍ من الربط
بين الإنسانية والإسلام ، وكلمة «إلى» في قولنا : «تهتدي الإنسانية إلى الإسلام
كلّما ازداد وعيها» تعبِّر عن نوعٍ آخر من الربط بينهما ، و «ب» في قولنا : «تهتدي
الإنسانية بالاسلام إلى طريق الله المستقيم» يعبِّر عن نوعٍ ثالثٍ من الربط بينهما
، وهكذا سائر الحروف.
__________________
ونعتبر كلّ معنىً
يمكن تصوره وتحديده بدون حاجةٍ إلى وقوعه في سياق جملةٍ معنىً اسمياً ، ونطلق على
الروابط التي لا يمكن تصورها إلّا في سياق جملةٍ اسم «المعاني الحرفية».
وأمّا كلمة «تهتدي»
في جملتنا المتقدّمة التي تمثّل فئة الأفعال من اللغة فهي تشتمل على معنى كلمة «الاهتداء»
، فإنّ ما نتصوره حين نسمع كلمة «الاهتداء» نتصوره من كلمة «تهتدي» ، وكلمة «الاهتداء»
اسم ومعناها معنى اسمي ، فنعرف من ذلك أنّ الفعل يشتمل على معنىً اسميٍّ ما دامت
كلمة «تهتدي» تدلّ على نفس المعنى الذي تدلّ عليه كلمة «الاهتداء» ، ولكنّ الفعل
مع هذا لا يدلّ على المعنى الاسمي فحسب ، بدليل أنّه لو كان مدلوله اسمياً فقط
لأمكن استبداله بالاسم ، ولصحّ أن نقول : «الإنسانية اهتداء في الإسلام» بدلاً عن
قولنا : «الإنسانية تهتدي في الإسلام» ، مع أنّا نرى أنّ الجملة تصبح مفكَّكةً
وغير مرتبطةٍ إذا قمنا بعملية استبدالٍ من هذا القبيل ، فهذا يدلّ على أنّ الفعل
يشتمل إضافةً إلى المعنى الاسمي على معنىً حرفيٍّ يربط بين الاهتداء والإنسانية في
قولنا : «الإنسانية تهتدي في الإسلام».
ونستخلص من ذلك :
أنّ الفعل مركّب من اسمٍ وحرف ؛ لأنّه يشتمل على معنىً اسميٍّ استقلالي ، ومعنىً
حرفيٍّ ارتباطي ، وهو يدلّ على المعنى الاسمي بمادته ، ويدلّ على المعنى الحرفي
بهيئته ، ونريد بالمادة الأصل الذي اشتقّ الفعل منه كالاهتداء بالنسبة إلى «تهتدي»
، ونريد بالهيئة الصيغة الخاصّة التي صيغت المادة بها ـ أي صيغة «يَفْعَل» في
المضارع و «فَعَل» في الماضي ـ فإنّ هذه الصيغة تدلّ على معنىً حرفيٍّ يربط بين
معنى المادة ومعنىً آخر في الجملة. وقد ربطت صيغة «تهتدي» في مثالنا بين الاهتداء
والإنسانية ـ أي بين مادة الفعل والفاعل ـ بوصفهما معنيين اسميّين.
هيئة الجملة :
عرفنا أنّ الفعل
له هيئة تدلّ على معنىً حرفي ، أي على الربط ، وكذلك الحال في الجملة أيضاً. ونريد
بالجملة : كلّ كلمتين أو أكثر بينهما ترابط ، ففي قولنا : «عليّ
إمام» نفهم من كلمة «عليّ» معناها الاسمي ، ومن كلمة «إمام» معناها الاسمي ، ونفهم
إضافةً إلى ذلك ارتباطاً خاصّاً بين هذين المعنيين الاسميّين ، وهذا الارتباط
الخاصّ لا تدلّ عليه كلمة «عليّ» بمفردها ، ولا كلمة «إمام» بمفردها ، وإنّما تدلّ
عليه الجملة بتركيبها الخاصّ ، وهذا يعني أنّ هيئة الجملة تدلّ على نوعٍ من الربط
، أي على معنىً حرفي.
نستخلص ممّا تقدم
: أنّ اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظرٍ تحليليةٍ إلى فئتين :
إحداهما : فئة
المعاني الاسمية ، وتدخل في هذه الفئة الأسماء وموادّ الأفعال.
والاخرى : فئة
المعاني الحرفية ـ أي الروابط ـ وتدخل فيها الحروف ، وهيئات الأفعال ، وهيئات
الجمل.
الرابطة التامة والرابطة
الناقصة :
«المفيد عالم
بالعلوم الإسلامية كلّها». «المفيد العالم بالعلوم الإسلامية كلّها».
«الإسلام نظام
كامل للحياة». «قلم أخي ...».
«الشريعة خالدة». «الدار
المتهدّمة الواقعة في الشارع ...».
__________________
«وجب الأمر
بالمعروف». «الثوب الجميل ...».
إذا لاحظنا الفئة
الاولى من هذه الجمل نجد أنّ كلّ جملةٍ منها تدلّ على معنىً مكتملٍ يمكن للمتكلِّم
الإخبار عنه ، ويمكن للسامع تصديقه أو تكذيبه. بينما نجد أنّ الجمل في الفئة
الثانية ناقصة لا يمكن للمتكلِّم الاكتفاء بها ، ولا يمكن للسامع أن يعلِّق عليها
بتصديقٍ أو تكذيبٍ ما لم تكمل بخبرٍ من قبيل أن نقول : «قلم أخي ضائع». ومردّ
الفرق بين الفئتين إلى نوع الربط الذي تدلّ عليه هيئة الجملة ، فهيئة الجملة في
الفئة الاولى تدلّ على نوعٍ من الربط يختلف عن الربط الذي تدلّ عليه هيئة الجملة
في الفئة الثانية. وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الربط نوعان :
أحدهما : الربط
التامّ ، ويسمّى أحياناً ب «النسبة التامة» ، وهو الربط الذي يصوغ جملةً تامةً كما
في الفئة الاولى.
والآخر : الربط
الناقص ، ويسمّى أيضاً ب «النسبة الناقصة» ، وهو ما يصوغ جملةً ناقصةً كما في
الفئة الثانية.
ونحن إذا دقّقنا في
أكثر الجمل التي وردت في الفئة الاولى نجد فيها أكثر من معنىً حرفيٍّ واحد ، ففي
الجملة الاولى نجد ـ مثلاً ـ المعنى الحرفي الذي تدلّ عليه هيئة الجملة ، وهو
الربط بين المبتدأ والخبر ، ونجد أيضاً المعنى الحرفي الذي يدلّ عليه حرف الباء ،
وهو الربط بين علم المفيد والعلوم الاسلامية كلّها ، غير أنّ الجملة إنّما أصبحت
تامّةً نتيجةً للربط الأول الذي دلّت عليه هيئة الجملة دون الربط الذي دلّ عليه
الحرف ، ولهذا إذا احتفظنا بالربط الثاني دون الأول أصبحت الجملة ناقصة ، كما إذا
قلنا : «عالم بالعلوم الإسلامية كلّها» بدلاً عن قولنا : «المفيد عالم بالعلوم
الإسلامية كلّها» ، فهيئة الجملة إذن هي التي تدلّ على النسبة التامة والربط التام
دون الحرف ، وأمّا الحروف فهي تدلّ دائماً على النسبة الناقصة
والربط الناقص.
ونستخلص من ذلك :
أنّ الحروف تدلّ دائماً على النسبة الناقصة ، وأمّا الهيئات فهي في بعض الأحيان
تدلّ على النسبة التامة كما في الجمل المفيدة الاسمية والفعلية ، وأحياناً تدلّ
على النسبة الناقصة كما في الجمل الوصفية.
وأمّا ما هو الفرق
الجوهري بين واقع النسبة التامة وواقع النسبة الناقصة؟ فهذا ما نجيب عليه في
الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.
المدلول اللغوي والمدلول
النفسي :
قلنا سابقاً : إنّ دلالة اللفظ على المعنى هي : أن يؤدّي تصور اللفظ
إلى تصور المعنى ، ويسمّى اللفظ «دالّا» ، والمعنى الذي نتصوره عند سماع اللفظ «مدلولاً».
وهذه الدلالة
لغوية ، ونقصد بذلك : أنّها تنشأ عن طريق وضع اللفظ للمعنى ؛ لأنّ الوضع يوجِد
علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك
الدلالة اللغوية ، ومدلولها هو المعنى اللغوي للَّفظ.
ولا تنفكّ هذه
الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أيِّ مصدرٍ كان ، فجملة «الحقّ منتصر» إذا سمعناها
انتقل ذهننا فوراً إلى مدلولها اللغوي ، سواء سمعناها من متحدِّثٍ واعٍ أو من
نائمٍ في حالة عدم وعيه ، وحتى لو سمعناها نتيجةً لاحتكاك حجرين ، فإنّ الجملة في
جميع هذه الحالات تدلّ دلالةً لغويةً ، أي تؤدّي بنا إلى تصور معناها اللغوي ،
فنتصور معنى كلمة «الحقّ» ونتصور معنى كلمة «منتصر» ، ونتصور النسبة التامة التي
وضعت هيئة الجملة لها ، وتسمّى هذه
__________________
الدلالة لأجل ذلك «دلالة
تصورية».
ولكنّا إذا قارنّا
بين تلك الحالات وجدنا أنّ الجملة حين تصدر من نائمٍ أو تنتج نتيجةً عن احتكاكٍ
بين حجرين لا يوجد لها إلّا مدلولها اللغوي ذاك ، ويقتصر مفعولها على إيجاد
تصوراتٍ للحقّ والانتصار والنسبة التامة في ذهننا. وأمّا حين نسمع الجملة من
متحدِّثٍ واعٍ فلا تقف الدلالة عند مستوى التصور ، بل تتعدّاه إلى مستوى التصديق ،
إذ تكشف الجملة عندئذٍ عن أشياء نفيسةٍ في نفس المتكلِّم ، فنحن نستدلّ عن طريق
صدور الجملة منه على وجود إرادةٍ استعماليةٍ في نفسه ، أي أنّه يريد أن يخطر
المعنى اللغوي لكلمة «الحقّ» وكلمة «المنتصر» وهيئة الجملة في أذهاننا ، وأن نتصور
هذه المعاني. كما نعرف أيضاً أنّ المتكلِّم إنّما يريد منّا أن نتصور تلك المعاني
لا لكي يخلق تصوراتٍ مجرّدةً في ذهننا فحسب ، بل لغرضٍ في نفسه ، وهذا الغرض
الأساسي هو في المثال المتقدم ـ أي في جملة «الحقّ منتصر» ـ غرض الإخبار عن ثبوت
الخبر للمبتدإ ، فإنّ المتكلِّم إنّما يريد منّا أن نتصور معاني الجملة لأجل أن
يخبرنا عن ثبوتها في الواقع ، ويطلق على الغرض الأساسي في نفس المتكلِّم اسم «الإرادة
الجدّية».
وتسمّى الدلالة
على هذين الأمرين ـ الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدّية ـ «دلالة تصديقية» ؛
لأنّها دلالة تكشف عن إرادة المتكلِّم وتدعو إلى تصديقنا بها ، لا إلى مجرّد
التصور الساذج. كما نسمّيها أيضاً ب «الدلالة النفسية» ؛ لأنّ المدلول هنا نفسيّ
وهو إرادة المتكلِّم.
وهكذا نعرف أنّ
الجملة التامة لها ـ إضافةً إلى مدلولها التصوري اللغوي ـ مدلولان نفسيّان :
أحدهما : الإرادة
الاستعمالية ، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من
المتكلّم أنّه
يريد منّا أن نتصور معاني كلماتها.
والآخر : الإرادة
الجدّية ، وهي الغرض الأساسي الذي من أجله أراد المتكلِّم أن نتصور تلك المعاني.
وأحياناً تتجرّد
الجملة عن المدلول النفسي الثاني ، وذلك إذا صدرت من المتكلّم في حالة الهزل لا في
حالة الجدّ ، ولم يكن يستهدف منها إلّا مجرّد إيجاد تصوراتٍ في ذهن السامع لمعاني
كلماتها ، فلا توجد في هذه الحالة إرادة جدّية ، بل إرادة استعمالية فقط.
والدلالة
التصديقية ليست لغوية ، أي أنّها لا تعبِّر عن علاقةٍ ناشئةٍ عن الوضع بين اللفظ
والمدلول النفسي ؛ لأنّ الوضع إنّما يوجد علاقةً بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، لا
بين اللفظ والمدلول النفسي ، وإنّما تنشأ الدلالة التصديقية من حال المتكلِّم ،
فإنّ الإنسان إذا كان في حالة وعيٍ وانتباهٍ وجدّيةٍ وقال : «الحقّ منتصر» يدلّ
حاله على أنّه لم يقلْ هذه الجملة ساهياً ولا هازلاً ، وإنّما قالها بإرادةٍ
معيّنةٍ واعية.
وهكذا نعرف أنّا
حين نسمع جملةً كجملة «الحقّ منتصر» نتصور المعاني اللغوية للمبتدإ والخبر والهيئة
بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، ونكتشف الإرادة
الواعية للمتكلِّم بسبب حال المتكلِّم ، وتصورنا ذلك يمثِّل الدلالة التصورية ،
واكتشافنا هذا يمثِّل الدلالة التصديقية ، والمعنى الذي نتصوره هو المدلول التصوري
واللغوي للَّفظ ، والإرادة التي نكتشفها في نفس المتكلِّم هي المدلول التصديقي
والنفسي الذي يدلّ عليه حال المتكلّم.
وعلى هذا الأساس
نكتشف مصدرين للدلالة :
أحدهما : اللغة
بما تشتمل عليها من أوضاع ، وهي مصدر الدلالة التصورية ؛
لأنّها تقيم
علاقات السببية بين تصور الألفاظ وتصور المعاني.
والآخر : حال
المتكلّم ، وهو مصدر الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على مدلوله النفسي
التصديقي ، فإنّ اللفظ إنّما يكشف عن إرادة المتكلّم إذا صدر في حالة يقظةٍ
وانتباهٍ وجدّية ، فهذه الحالة إذن هي مصدر الدلالة التصديقية ، ولهذا نجد أنّ
اللفظ إذا صدر من المتكلّم في حالة نومٍ أو ذهولٍ لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول
نفسي.
الجملة الخبرية والجملة
الإنشائية :
تقسَّم الجملة
عادةً إلى خبريةٍ وإنشائية ، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحسّ بالفرق بينهما ، فأنت
حين تتحدّث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» ترى أنّ الجملة
تختلف بصورةٍ أساسيةٍ عنها حين تريد أن تعقد الصفقة مع المشتري فعلاً ، فتقول له :
«بعتك الكتاب بدينار».
وبالرغم من أنّ
الجملة في كلتا الحالتين تدلّ على نسبةٍ تامّةٍ بين البيع والبائع ـ أي بينك وبين
البيع ـ يختلف فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الاولى عن فهمنا للجملة
وتصورنا للنسبة في الحالة الثانية ، فالمتكلّم حين يقول في الحالة الاولى : «بعت
الكتاب بدينارٍ» يتصور النسبة بما هي حقيقة واقعة لا يملك من أمرها فعلاً شيئاً
إلّا أن يخبر عنها إذا أراد ، وأمّا حين يقول في الحالة الثانية : «بعتك الكتاب
بدينارٍ» فهو يتصور النسبة لا بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها ، بل يتصورها بوصفها
نسبةً يراد تحقيقها.
ونستخلص من ذلك :
أنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء
مفروغ عنه ، والجملة الإنشائية موضوعة للنسبة التامة منظوراً اليها بما هي نسبة
يراد تحقيقها.
الظهور اللفظي :
قد تقوم عدّة
علاقاتٍ بين لفظٍ واحدٍ ومعانٍ عديدة ، فيعتبر كلّ واحدٍ من تلك المعاني معنىً
للّفظ. ومثاله : كلمة «المولى» فإنّها ذات معنيين : أحدهما السيد الحاكم ، والآخر
الصديق ، وللّفظ علاقة بكلٍّ من هذين المعنيين.
وهذه العلاقات
العديدة إمّا أن تكون متكافئةً ومتساويةً في الدرجة ، أوْ لا.
فالعلاقات
المتكافئة توجد نتيجةً لوضع اللفظ في اللغة لعدّة معانٍ ، فتنشأ بسبب ذلك علاقات
متساوية في الدرجة بين اللفظ وكلّ واحدٍ من تلك المعاني ، ويسمّى اللفظ في هذه
الحالة «مشتركاً» ؛ لاشتراكه بين معنيين ، ومن أمثلته : كلمة «المولى» الموضوعة
للسيّد الحاكم وللصديق ، وكلمة «القرء» الموضوعة للطهر والحيض ، وكلمة «العين»
الموضوعة لعين الإنسان وعين الماء.
والعلاقات غير
المتكافئة في الدرجة من أمثلتها : علاقات اللفظ الواحد بالمعنى الحقيقي والمعنى
المجازي ، فكلمة «البحر» لها علاقة بالمعنى الحقيقي وهو البحر من الماء ، ولها علاقة
بالمعنى المجازي وهو العالم الغزير علمه ، ولكنّ هاتين العلاقتين غير متكافئتين ،
وليستا من درجةٍ واحدة ؛ لأنّ علاقة اللفظ بالمعنى المجازي نبعت من علاقته بالمعنى
الحقيقي ، فقد قامت العلاقة أوّلاً بين كلمة «البحر» و «البحر من الماء» ، ولأجل
الشبه بين ماء البحر والعالم الغزير علمه في الغزارة والسعة نشأت في ظلّ ذلك علاقة
بين كلمة «البحر» و «العالم الغزير علمه» ، فمن الطبيعي أن تكون هذه العلاقة أقلّ
درجةً من علاقة اللفظ بمعناه الحقيقي.
وفي حالة عدم
تكافؤ العلاقات يعتبر المعنى الأوثق علاقةً من الناحية اللغوية هو المعنى الظاهر
من اللفظ ؛ لأنّ الذهن ينتقل إليه قبل أن ينتقل إلى غيره
من معاني اللفظ ،
ونطلق على هذا الظهور اسم «الظهور اللفظي».
تقسيم البحث :
الدليل اللفظي :
هو الكلام الصادر من المعصوم ، وهو يتألّف من كلماتٍ وجملٍ لغوية ، وفهم الحكم
الشرعي من الدليل اللفظي يتوقّف على العلم بالعلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ
الدليل والمعاني في اللغة العربية ، ومعرفة أقوى المعاني علاقةً باللفظ إذا كانت
معانيه متعدّدة ؛ لكي نحدّد بذلك الظهور اللفظي للدليل ، حتّى إذا حدّدنا الظهور
اللفظي للدليل جاء دور البحث عن حجّية الظهور وإمكانية جعله أساساً لتفسير الدليل
اللفظي وفهم الحكم الشرعي منه.
وعلى هذا الأساس
سوف نقسِّم البحث إلى فصلين :
أحدهما
: في تحديد الظهور
اللفظي للدليل عن طريق تحديد العلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل
والمعاني ، ومعرفة أقوى المعاني علاقة باللفظ عند تعدّد معانيه.
والفصل
الآخر : في إمكان جعل
الظهور اللفظي أساساً لتفسير الدليل.
الفصل الأول
في تحديد ظهور الدليل اللفظي
١ ـ «أحسِنْ إلى
الفقير». ٢ ـ «حافِظْ على أحكام الشريعة». ٣ ـ «ادفع الخطر عن الإسلام».
١ ـ «إذا زالت
الشمس وجبت الصلاة». ٢ ـ «إذا هلَّ هلال شهر رمضان وجب الصوم». ٣ ـ «إذا هاجم
العدو بلاد الإسلام وجب الجهاد».
١ ـ «العلماء
أولياء الامور». ٢ ـ «يجب على الفقهاء إيصال الأحكام». ٣ ـ «الصبيان لا يجوز بيعهم».
هذه ثلاث فئاتٍ من
الكلام تشتمل كلّ فئةٍ على مجموعةٍ من الجمل تصلح كلّ واحدةٍ من تلك الجمل أن تكون
دليلاً لفظياً لإثبات حكمٍ شرعي ، ولكي نفهم الحكم الذي تدلّ عليه تلك الجملة يجب
أن نعرف المعاني اللغوية والظواهر اللفظية في الجملة.
ونحن إذا دقّقنا
النظر في كلِّ فئةٍ وجدنا أنّ كلّ جملةٍ فيها تتميّز بألفاظها عن الجمل الاخرى ،
فالإحسان والفقير كلمتان تتميّز بهما الجملة الاولى القائلة : «أحسن إلى الفقير» ،
كما أنّ الجملة الثانية تتميّز بكلمة «الشريعة» وكلمة «أحكام» وكلمة «حافظ» ،
وهكذا. ولهذا إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدلّ عليه الجملة الاولى يجب أن نعرف
معنى «الإحسان» ومعنى كلمة «الفقير» ، بينما
لا نحتاج إلى
معرفة ذلك إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدلّ عليه الجملة الثانية ، وإنّما نحتاج
بدلاً عن ذلك إلى معرفة كلمة «الشريعة» وكلمة «أحكام» وكلمة «حافظ» الامور التي
جاءت في الجملة الثانية ، ولكن يوجد في جميع جمل الفئة الاولى عنصر عامّ يتوقّف
فهم الحكم الشرعي من جميع تلك الجمل على معرفة معناه ، وهذا العنصر هو صيغة فعل
الأمر ، فإنّ هذه الصيغة موجودة في الجمل الثلاث بالرغم من اختلاف تلك الجمل في
جميع كلماتها ، فلا بدّ أن نعرف ما هو مدلول صيغة فعل الأمر؟ وأنّها هل تدلّ على
الوجوب أو الاستحباب؟ لكي نستنبط نوع الحكم المتعلّق بالإحسان إلى الفقير ، ونوع
الحكم المتعلّق بالمحافظة على أحكام الشريعة ، ونوع الحكم المتعلّق بدفع الخطر عن
الإسلام.
وإذا لاحظنا
الجملة في الفئة الثانية وجدنا فيها أيضاً عنصراً عامّاً يتوقّف على معرفة معناه
فهم الأحكام التي تدلّ عليها تلك الجمل ، وهذا العنصر العام هو أداة الشرط
المتمثِّلة في كلمة «إذا» ، فإنّ هذه الأداة هي التي تدلّ على ربط وجوب الصلاة
بالزوال ، وربط وجوب الصوم بهلال رمضان ، وربط وجوب الجهاد بمهاجمة العدو لبلاد
الإسلام.
وفي الفئة الثالثة
نجد عنصراً عامّاً وهو صيغة الجمع المعرَّف باللام ، فإنّ هذه الصيغة موجودة في
كلمة «العلماء» وكلمة «الفقهاء» وكلمة «الصبيان» ، فيجب لكي نفهم حدود الأحكام
التي دلّت عليها الجمل الثلاث أن نعرف ما هو المدلول اللغوي لصيغة الجمع المعرّف
باللام؟ وهل تدلّ على العموم ـ أي على شمول الحكم لجميع الأفراد ـ أوْ لا؟
وفي هذا الضوء
نستطيع أن نقسِّم العناصر اللغوية من وجهة نظرٍ اصولية إلى عناصر مشتركةٍ في عملية
الاستنباط ، وعناصر خاصّةٍ في تلك العملية.
فالعناصر المشتركة
: هي كلّ أداةٍ لغويةٍ تصلح للدخول في أيِّ دليلٍ مهما
كان نوع الموضوع
الذي يعالجه ذلك الدليل ، ومثاله صيغة فعل الأمر ، فإنّ بالإمكان استخدامها
بالنسبة إلى أيِّ موضوع ، فيقال تارةً : «أحسِن إلى الفقير» ، واخرى «صَلِّ» ،
وثالثةً «ادفع الخطر عن الإسلام».
والعناصر الخاصّة
في عملية الاستنباط : هي كلّ أداةٍ لغويةٍ لا تصلح للدخول إلّا في الدليل الذي يعالج
موضوعاً معيّناً ، ولا أثر لها في استنباط حكمِ موضوعٍ آخر ، ككلمة «الإحسان»
فإنّها لا يمكن أن تدخل في دليلٍ سوى الدليل الذي يشتمل على حكمٍ مرتبطٍ بالإحسان
، ولا علاقة للأدلّة التي تشتمل على حكم الصلاة ـ مثلاً ـ بكلمة «الإحسان» ، فلهذا
كانت كلمة «الإحسان» عنصراً خاصّاً في عملية الاستنباط ؛ لأنّها تختصّ باستنباط
أحكام نفس الإحسان ، ولا أثر لها في استنباط حكمِ موضوعٍ آخر.
وعلى هذا الأساس
يدرس علم الاصول من اللغة القسم الأول من الأدوات اللغوية التي تعتبر عناصر
مشتركةً في عملية الاستنباط ، فيبحث عن مدلول صيغة فعل الأمر ، وأنّها هل تدلّ على
الوجوب ، أو الاستحباب؟ ولا يبحث عن مدلول كلمة «الإحسان».
ويدخل في القسم
الأول من الأدوات اللغوية أداة الشرط أيضاً ؛ لأنّها تصلح للدخول في استنباط الحكم
من أيِّ دليلٍ لفظيٍّ مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به ، فنحن نستنبط من النصّ
القائل : «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة» أنّ وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة
الشرط ، ونستنبط من النصّ القائل : «إذا هلَّ هلال شهر رمضان وجب الصوم» أنّ وجوب
الصوم مرتبط بالهلال ، ولأجل هذا يدرس علم الاصول أداة الشرط بوصفها عنصراً
مشتركاً ، ويبحث عن نوع الربط الذي تدلّ عليه ونتائجه في استنباط الحكم الشرعي.
وكذلك الحال في
صيغة الجمع المعرَّف باللام ؛ لأنّها أداة لغوية صالحة
للدخول في الدليل
اللفظي مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به.
وفي ما يلي نذكر
بعض النماذج من هذه الأدوات المشتركة التي يدرسها الاصوليون :
١ ـ صيغة الأمر :
صيغة فعل الأمر
نحو «اذهب» و «صلِّ» و «صُمْ» و «جاهِدْ» إلى غير ذلك من الأوامر. والمقرّر بين
الاصوليّين عادةً هو القول بأنّ هذه الصيغة تدلّ لغةً على الوجوب.
وهذا القول يدعونا
أن نتساءل : هل يريد هؤلاء الأعلام من القول بأنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب
أنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة «الوجوب» فيكونان مترادفين
كالترادف بين كلمتي «إنسان» و «بَشَر»؟ وكيف يمكن افتراض ذلك ، مع أنّنا نحسّ
بالوجدان أنّ كلمة «الوجوب» وصيغة فعل الأمر ليستا مترادفتين؟ وإلّا لجاز أن
نستبدل إحداهما بالاخرى ، فيقول الآمر : «وجوب الصلاة» بدلاً عن «صلِّ» ، ويقول : «وجوب
الصوم» بدلاً عن عن «صُمْ» ، وما دام هذا الاستبدال غير جائزٍ فنعرف أنّ صيغة فعل
الأمر تدلّ على معنىً يختلف عن المعنى الذي تدلّ عليه كلمة «الوجوب» ، ويصبح من
الصعب عندئذٍ فهم القول السائد بين الاصوليّين بأنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على
الوجوب.
والحقيقة أنّ هذا
القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الأمر لكي نعرف كيف تدلّ على الوجوب ، ونحن
حين ندقّق في فعل الأمر نجد أنّه يشكِّل جملةً مفيدةً بضمّ فاعله إليه ، نظير فعل
الماضي أو المضارع إذا ضُمَّ فاعله إليه ، فكما أنّ «ذهب عامر» جملة مفيدة مكوّنة
من فعل ماضٍ وفاعلٍ كذلك جملة «اذهب» إذا
خاطبتَ عامراً
بها.
وقد مرّ سابقاً أنّ الجملة المفيدة تدلّ هيئتها دائماً على النسبة التامّة
، وعلى هذا الأساس يكون مدلول فعل الأمر بوصفه جملةً مفيدةً هو النسبة التامة بين
مادة الفعل والمخاطب ، أي بين الذهاب والشخص المدعوِّ للذهاب في مثال «اذهب» ،
وبين الصلاة والشخص المدعوِّ للصلاة في «صلِّ» ، وهكذا. كما أنّ مدلول فعل الماضي
أو المضارع هو النسبة التامة ايضاً ، ف «ذهب عامر» و «اذهب» كلتاهما جملتان
مفيدتان تدلّان على النسبة التامة بين مادة الفعل والفاعل.
ولكن «اذهب» و «ذهب»
بالرغم من دلالتهما معاً على النسبة التامة يختلفان أيضاً من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ «اذهب»
تعتبر جملةً إنشائية ، وكذلك كلّ أفعال الأمر ، و «ذهب» تعتبر جملةً خبرية ، فأنت
تقول : «ذهب عامر» حين تريد أن تخبر عن ذهابه ، وتقول : «اذهب» حين تريد أن تدفعه
إلى الذهاب.
وهذا الاختلاف
يعني ـ على ضوء ما عرفنا سابقاً من فرقٍ بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية ـ أنّ
مدلول «اذهب» هو النسبة بين الذهاب والمخاطب بما هي في طريق التحقيق وباعتبارها
يراد تحقيقها ، بينما تدلّ صيغة «ذهب» على النسبة بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها.
ونستخلص من ذلك :
أنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على نسبةٍ تامةٍ بين مادة الفعل والفاعل منظوراً إليها
بما هي نسبة يراد تحقيقها وإرسال المكلَّف نحو إيجادها. أرأيت الصياد حين يرسل كلب
الصيد الى فريسته؟ إنّ تلك الصورة التي يتصورها الصياد عن ذهاب الكلب الى الفريسة
وهو يرسله إليها هي نفس الصورة
__________________
التي يدلّ عليها
فعل الأمر ، ولهذا يقال في علم الاصول : إنّ مدلول صيغة الأمر هو النسبة
الإرسالية.
وكما أنّ الصياد
حين يرسل الكلب الى فريسته قد يكون إرساله هذا ناتجاً عن شوقٍ شديدٍ الى الحصول
على تلك الفريسة ورغبةٍ أكيدةٍ في ذلك ، وقد يكون ناتجاً عن رغبةٍ غير أكيدةٍ
وشوقٍ غير شديد ، كذلك النسبة الإرسالية التي تدلّ عليها الصيغة في فعل الأمر قد
نتصورها ناتجةً عن شوقٍ شديدٍ وإلزامٍ أكيد ، وقد نتصورها ناتجةً عن شوقٍ أضعف
ورغبةٍ أقلّ درجة.
وعلى هذا الضوء
نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الاصولي القائل : إنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على
الوجوب ، فإنّ معناه : أنّ الصيغة قد وضعت للنسبة الإرسالية بوصفها ناتجةً عن شوقٍ
شديدٍ وإلزام أكيد ، ولهذا يدخل معنى الإلزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصور بها
المعنى اللغوي للصيغة عند سماعها دون أن يصبح فعل الأمر مرادفاً لكلمة «الوجوب».
وليس معنى دخول
الإلزام والوجوب في معنى الصيغة أنّ صيغة الأمر لا يجوز استعمالها في مجال
المستحبّات ، بل قد استعملت كثيراً في موارد الاستحباب كما استعملت في موارد
الوجوب ، ولكنّ استعمالها في موارد الوجوب استعمال حقيقي ؛ لأنّه استعمال للصيغة
في المعنى الذي وضعت له ، واستعمالها في موارد الاستحباب استعمال مجازي يبرِّره
الشبه القائم بين الاستحباب والوجوب.
٢ ـ صيغة النهي :
صيغة النهي نحو «لا
تذهب» ، «لا تخن» ، «لا تكسل في طلب العلم». والمقرّر بين الاصوليّين هو القول
بأنّ صيغة النهي تدلّ على الحرمة ، ويجب أن
نفهم هذا القول
بصورةٍ مماثلةٍ لفهمنا القول بأنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب ، فإنّ النهي يشكِّل
جملةً مفيدةً ويشتمل لأجل ذلك على نسبةٍ تامة ، وتعتبر الجملة التي يشكِّلها جملةً
إنشائيةً لا إخبارية ، فأنت حين تقول : «لا تذهب» لا تريد أن تخبر عن عدم الذهاب ،
وإنّما تريد أن تمنع المخاطب عن الذهاب وتمسكه عن ذلك ، فصيغة الأمر والنهي
متّفقتان في كلّ هذا ، ولكنّهما تختلفان في الإرسال والإمساك ؛ لأنّ صيغة الأمر
تدلّ على نسبةٍ إرساليةٍ كما سبق ، وأمّا صيغة النهي فتدلّ على نسبةٍ إمساكية ، أي
أنّا حين نسمع جملة «اذهب» نتصور نسبةً بين الذهاب والمخاطب ، ونتصور أنّ
المتكلِّم يرسل المخاطب نحوها ويبعثه الى تحقيقها كما يرسل الصياد كلبه نحو
الفريسة ، وأمّا حين نسمع جملة «لا تذهب» فنتصور نسبةً بين الذهاب والمخاطب ،
ونتصور أنّ المتكلِّم يمسك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها ، كما لو حاول كلب
الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصياد ، ولهذا نطلق عليها اسم «النسبة الإمساكية».
وتدخل الحرمة في
مدلول النهي بالطريقة التي دخل بها الوجوب الى مدلول الأمر ، ولنرجع بهذا الصدد
الى مثال الصياد ، فإنّا نجد أنّ الصياد حين يمسك كلبه عن تتبّع الفريسة قد يكون
إمساكه هذا ناتجاً عن كراهة تتبّع الكلب للفريسة بدرجةٍ شديدة ، وقد ينتج عن كراهة
ذلك بدرجةٍ ضعيفة. ونظير هذا تماماً نتصوره في النسبة الإمساكية التي نتحدّث عنها
، فإنّا قد نتصورها ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ للمنهيِّ عنه ، وقد نتصورها ناتجةً عن
كراهةٍ ضعيفة.
ومعنى القول بأنّ
صيغة النهي تدلّ على الحرمة في هذا الضوء : أنّ الصيغة موضوعة للنسبة الإمساكية بوصفها
ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ وهي الحرمة ، فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصور بها
المعنى اللغوي لصيغة النهي عند سماعها.
وفي نفس الوقت قد
تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة فُينهى عن
المكروه أيضاً
بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة ، ويعتبر استعمالها في موارد المكروهات
استعمالاً مجازياً.
٣ ـ الإطلاق :
وتوضيحه : أنّ
الشخص اذا أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا يكتفي عادةً بقوله : «أكرم
الجار» ، بل يقول : «أكرم الجار المسلم» ، وأمّا اذا كان يريد من ولده أن يكرم
جاره مهما كان دينه فيقول : «أكرم الجار» ويطلق «كلمة» الجار ، أي لا يقيّدها
بوصفٍ خاصٍّ ، ويفهم من قوله عندئذٍ أنّ الأمر لا يختصّ بالجار المسلم ، بل يشمل
الجار الكافر أيضاً ، وهذا الشمول نفهمه نتيجةً لذكر كلمة «الجار» مجرّدةً عن
القيد ، ويسمّى هذا ب «الإطلاق» ، ويسمى اللفظ في هذه الحالة «مطلقاً».
وعلى هذا الأساس
يعتبر تجرّد الكلمة من القيد اللفظي في الكلام دليلاً على شمول الحكم ، ومثال ذلك
من النصّ الشرعي قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) ، فقد جاءت كلمة «البيع» هنا مجرَّدةً عن أيِّ قيدٍ في
الكلام ، فيدلّ هذا الإطلاق على شمول الحكم بالحلّية لجميع أنواع البيع. وأمّا كيف
أصبح ذكر الكلمة بدون قيدٍ في الكلام دليلاً على الشمول؟ وما هو مصدر هذه الدلالة؟
فهذا ما لا يتّسع له البحث على مستوى هذه الحلقة.
٤ ـ أدوات العموم :
أدوات العموم
مثالها «كلّ» في قولنا : «احترِمْ كلّ عادل» و «قاطِعْ كلّ من يعادي الإسلام» ،
وذلك أنّ الآمر حين يريد أن يدلِّل على شمول حكمه وعمومه
__________________
قد يكتفي بالإطلاق
وذكر الكلمة بدون قيدٍ ـ كما شرحناه آنفاً ـ فيقول : «أكرم الجار» ، وقد يريد
مزيداً من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداةٍ خاصّةٍ للدلالة على ذلك فيقول
في المثال المتقدم مثلاً : «أكرم كلّ جار» ، فيفهم السامع من ذلك مزيداً من
التأكيد على العموم والشمول ، ولهذا تعتبر كلمة «كلّ» من أدوات العموم ؛ لأنّها
موضوعة في اللغة لذلك ، ويسمّى اللفظ الذي دلّت الأداة على عمومه «عامّاً ، ويعبّر
عنه ب «مدخول الأداة» ؛ لأنّ أداة العموم دخلت عليه وعمّمته.
ونستخلص من ذلك :
أنّ التدليل على العموم يتمّ بإحدى طريقتين :
الاولى سلبية ،
وهي الإطلاق ، أي ذكر الكلمة بدون قيد.
والثانية إيجابية
، وهي استعمال أداةٍ للعموم نحو «كلّ» و «جميع» و «كافّة» ، وما إليها من ألفاظ.
وقد اختلف
الاصوليون في صيغة الجمع المعرَّف باللام من قبيل : «الفقهاء» ، «العلماء» ، «الجيران»
، «العقود».
فقال بعضهم : إِنّ هذه الصيغة نفسها من أدوات العموم أيضاً ، مثل كلمة
«كلّ» ، فأيّ جمعٍ من قبيل «فقهاء» أو «علماء» أو «جيران» اذا أراد المتكلّم إثبات
الحكم لجميع أفراده والتدليل على عمومه بطريقةٍ إيجابيةٍ أدخل عليه اللام ، فيجعله
جمعاً معرَّفاً باللام ويقول : «احترم الفقهاء» أو «أكرم الجيران» أو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
وبعض الاصوليّين يذهب الى أنّ صيغة الجمع المعرَّف باللام ليست من
__________________
أدوات العموم.
ونحن إنّما نفهم الشمول في الحكم عند ما نسمع المتكلّم يقول : «أكرم الجيران» ـ مثلاً
ـ بسبب الإطلاق وتجرّد الكلمة عن القيود لا بسبب دخول اللام على الجمع ، أي
بطريقةٍ سلبيةٍ لا إيجابية ، فلا فرق بين أن يقال : «أكرم الجيران» أو «أكرم الجار»
، فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة الثانية الى الإطلاق كذلك الحال في الجملة
الاولى ، فالمفرد المعرَّف باللام ـ وهو الجار ـ والجمع المعرَّف باللام ـ وهو
الجيران ـ لا يدلّان على الشمول إلّا بالطريقة السلبية ، أي بإطلاق الكلمة
وتجريدها عن القيد.
٥ ـ أداة الشرط :
أداة الشرط مثالها
«إذا» في قولنا : «إذا زالت الشمس فصلِّ» ، و «إذا أحرمت للحجِّ فلا تتطيّب» ،
وتسمّى الجملة التي تدخل عليها أداة الشرط جملةً شرطية ، وهي تختلف في وظيفتها
اللغوية عن غيرها من الجمل التي لا توجد فيها أداة شرط ، فإنّ سائر الجمل تقوم
بربط كلمةٍ باخرى ، نظير ربط الخبر بالمبتدإ في قولنا : «عليٌّ إمام» ، أو ربط
الفعل بالفاعل في قولنا : «ظهر نورُ الإسلام». وأمّا الجملة الشرطية فهي تربط بين
جملتين ، ففي مثال «إذا زالت الشمس فصلِّ» تعتبر «زالت الشمس» جملة ، وتعتبر «صلِّ»
جملةً اخرى ، وأداة الشرط تربط بين هاتين الجملتين وتجعل الاولى شرطاً والثانية
مشروطةً أو جزاء.
وعلى هذا الأساس
نعرف أنّ الجملة الشرطية تحتوي على شرطٍ ومشروط ، وإذا لاحظنا المثالين المتقدمين
للجملة الشرطية وجدنا أنّ الشرط في مثال «إذا زالت الشمس فصلِّ» هو زوال الشمس ،
والشرط في قولنا : «إذا أحرمت للحجّ فلا تتطيّب» هو الإحرام للحجّ ، وأمّا المشروط
فهو مدلول جملة «صلِّ» و «لا تتطيّب». ولمّا كان مدلول «صلِّ» بوصفه صيغةَ أمرٍ هو
الوجوب
ومدلول «لا تتطيّب»
بوصفه صيغة نهيٍ هو الحرمة ـ كما تقدّم ـ فنعرف أنّ المشروط هو الوجوب أو الحرمة ،
أي الحكم الشرعي ، ومعنى أنّ الحكم الشرعي مشروط بزوال الشمس أو بالإحرام للحجّ :
أنّه مرتبط بالزوال أو الإحرام ومقيّد بذلك ، والمقيّد ينتفي إذا انتفى قيده.
وينتج عن ذلك :
أنّ أداة الشرط تدلّ على انتفاء الحكم الشرعي في حالة انتفاء الشرط ؛ لأنّ ذلك
نتيجة طبيعية لدلالتها على تقييد الحكم الشرعي وجعله مشروطاً ، فيدلّ قولنا : «إذا
زالت الشمس فصلِّ» على عدم وجوب الصلاة قبل الزوال ، ويدلّ قولنا : «إذا أحرمت
للحجّ فلا تتطيّب» على عدم حرمة الطيب في حالة عدم الإحرام للحجّ ، وبذلك تصبح
الجملة الشرطية ذات مدلولين : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي.
فالإيجابي هو ثبوت
الجزاء عند ثبوت الشرط ، أي أنّ الوجوب يثبت عند الزوال.
ومدلولها السلبي
هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، أي عدم وجوب الصلاة قبل الزوال ، وعدم حرمة
الطيب في غير حالة الإحرام للحجّ.
ويسمّى المدلول
الإيجابي «منطوقاً» للجملة ، والمدلول السلبي «مفهوماً».
وكلّ جملة لها مثل
هذا المدلول السلبي يقال في العرف الاصولي : إنّ هذه الجملة أو القضية ذات مفهوم.
وقد وضع بعض
الاصوليين قاعدةً عامةً لهذا المدلول السلبي في اللغة ، فقال : إنّ
كلَّ أداةٍ لغويةٍ تدلّ على تقييد الحكم وتحديده لها مدلول سلبي ؛ إذ تدلّ
__________________
على انتفاء الحكم
خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم ، وأداة الشرط تعتبر مصداقاً لهذه القاعدة
العامة ؛ لأنّها تدلّ على تحديد الحكم بالشرط.
ومن مصاديق
القاعدة أيضاً : أداة الغاية حين تقول مثلاً : «صُمْ حتّى تغيب الشمس» ، فإنّ «صُمْ»
هنا فعل أمرٍ يدلّ على الوجوب ، وقد دلّت حتّى بوصفها أداة غايةٍ على وضع حدٍّ
وغايةٍ لهذا الوجوب الذي تدلّ عليه صيغة الأمر ، ومعنى وضع غايةٍ له : تقييده ،
فيدلّ على انتفاء وجوب الصوم بعد مغيب الشمس ، وهذا هو المدلول السلبي الذي نطلق
عليه اسم «المفهوم».
ويسمّى المدلول
السلبي للجملة الشرطية ب «مفهوم الشرط» ، كما يسمّى المدلول السلبي لأداة الغاية ـ
من قبيل «حتّى» في المثال المتقدّم ـ ب «مفهوم الغاية».
الفصل الثاني
في حجّية الظهور
ما هو المطلوب في
التفسير؟ :
إذا أردنا أن
نفسّر كلمةً من ناحيةٍ لغويةٍ ـ كما يصنع اللغويون في معاجم اللغة ـ فسوف نفسِّرها
بمعناها الذي ارتبطت به في اللغة أو بأقرب معانيها إليها إذا كانت ذات معانٍ
متعدّدة ، فنقول عن كلمة «بحر» مثلاً : إنّها تدلّ في اللغة على الكمّية الهائلة
الغزيرة من الماء المجتمعة في مكانٍ واحد ؛ لأنّ هذا هو أقرب المعاني الى الكلمة
في اللغة ، أي المعنى الظاهر منها.
وأمّا إذا جاءت
كلمة «بحر» في كلام شخصٍ يقول : «اذهب الى البحر في كلّ يوم» وأردنا أن نفسّر
الكلمة في كلامه فلا يكفي أن نعرف ما هو أقرب المعاني الى كلمة «البحر» لغةً ، أي
المعنى الظاهر منها ، بل يجب أن نعرف ما ذا أراد المتكلِّم بالكلمة ؛ لأنّ
المتكلّم قد يريد بالكلمة معنىً آخر غير المعنى الظاهر. فالمهمّ بصورةٍ أساسيةٍ
إذن أن نكتشف مراد المتكلّم ، أي المدلول النفسي للّفظ ، ولا يكفي مجرّد معرفة
المدلول اللغوي.
ومثال ذلك أيضاً :
صيغة الأمر إذا جاءت في كلام الآمر ولم ندرِ هل أراد الوجوب أو الاستحباب؟ فإنّ
الغرض الأساسي هو أن نعرف ما ذا أراد؟ ولا يكفينا أن نعرف مدلول الصيغة لغوياً
فحسب ، إذ قد يكون مدلولها
اللغوي هو الوجوب
والمتكلّم قد أراد الاستحباب على سبيل الاستعمال المجازي مثلاً.
وإذا كنّا قد
درسنا في الفصل السابق المدلول اللغوي لصيغة «افعل» فإنّما ذلك لكي نستفيد منه في
تحديد المدلول النفسي التصديقي للصيغة ، ولكي يوجّهنا المدلول اللغوي الى معرفة
المدلول التصديقي واكتشاف إرادة المتكلّم كما سنرى.
ظهور حال المتكلّم :
عرفنا سابقاً أنّ
للدلالة مصدرين : أحدهما اللغة بما تشتمل عليه من أوضاع ، وهي مصدر الدلالة
التصورية. والآخر حال المتكلّم ، وهو مصدر الدلالة التصديقية النفسية.
وكما نتساءل
بالنسبة الى المصدر الأول : ما هو أقرب المعاني الى اللفظ في اللغة لكي يكون هو
المعنى الظاهر للَّفظ لغوياً من بين سائر معانيه؟ كذلك نتساءل بالنسبة الى المصدر
الثاني : ما هو المدلول التصديقي النفسي الأقرب الى حال المتكلّم؟ ونريد بالمعنى
الأقرب الى اللفظ لغةً في السؤال الأول : المعنى الذي ينتقل الذهن الى تصوره عند
سماع اللفظ قبل أن ينتقل الى تصور غيره ، ونريد بالمدلول التصديقي الأقرب لحال
المتكلّم في السؤال الثاني : ما هو المرجّح في تقدير نوعية الإرادة التي توجد في
نفس المتكلّم.
ومثال ذلك : كلمة «البحر»
، فنحن نتساءل أولاً : ما هو المعنى الأقرب إليها في اللغة ، هل البحر من الماء أو
البحر من العلم؟ ونجيب : أنّ المعنى الأقرب لغوياً لها بموجب النظام اللغوي العام
هو البحر من الماء ؛ لأنّه معنىً حقيقي ، والمعنى الحقيقي في النظام اللغوي العام
أقرب من المعنى المجازي ، ويعني كون المعنى
الحقيقي أقرب الى
اللفظ : أنّ الذهن ينتقل الى تصوره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل الى تصور غيره.
ونتساءل ثانياً :
ما ذا يريد المتكلِّم بكلمة «البحر» في قوله : «اذهب إلى البحر في كلّ يوم»؟ فهل
يريد المعنى الأقرب لغوياً الذي نتصوره عند سماع الكلمة قبل غيره من المعاني وهو
البحر من الماء ، أو يريد المعنى الأبعد لغوياً وهو البحر من العلم؟ ولمّا كان
مصدر الدلالة التصديقية الدالّة على إرادة المتكلّم هو حال المتكلّم فيجب أن نعرف
أيَّ هذين التقديرين أقرب الى حال المتكلّم ، فهل الأقرب الى حاله أن يريد المعنى
الحقيقي الظاهر من اللفظ لغةً ، أو المعنى الأبعد؟
ويجيب علم الاصول
على ذلك : أنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه يريد المعنى الأقرب لغوياً ، ويعني كون
هذا أقرب الى حال المتكلّم : أنّ المرجّح في حال المتكلّم ـ بوصفه قد تكلّم بلفظٍ
له معنىً لغوي ظاهر ـ أنّه يريد المعنى الظاهر الأقرب الى اللفظ دون الأبعد.
فلدينا إذن ظهوران
: ظهور لغوي لكلمة «البحر» في المعنى الحقيقي ، وهذا الظهور لا يعني أكثر من أنّ
الذهن ينتقل الى تصور هذا المعنى قبل تصور المعاني الاخرى ، وظهور حالي تصديقي وهو
ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد باللفظ إفهام الأقرب إليه من معانيه لغةً ، وهذا
الظهور يعني أنّ الأرجح في حال المتكلّم أن يريد باللفظ معناه الظاهر.
حجّية الظهور :
ومن المقرَّر في
علم الاصول أنّ ظهور حال المتكلّم في إرادة أقرب المعاني الى اللفظ حجّة ، ومعنى
حجّية هذا الظهور اتّخاذه أساساً لتفسير الدليل
اللفظي على ضوئه ،
فنفترض دائماً أنّ المتكلّم قد أراد المعنى الأقرب الى اللفظ في النظام اللغوي
العام أخذاً بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على حجّية الظهور اسم «أصالة الظهور» ؛
لأنّها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي.
وفي ضوء هذا
نستطيع أن نعرف لما ذا كنّا نهتمّ في الفصل السابق بتحديد المدلول اللغوي الأقرب
للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوي العام ، مع أنّ المهمّ عند تفسير
الدليل اللفظي هو اكتشاف ما ذا أراد المتكلّم باللفظ من معنى؟ لا ما هو المعنى
الأقرب إليه في اللغة ، فإنّا ندرك في ضوء أصالة الظهور أنّ الصلة وثيقة جدّاً بين
اكتشاف مراد المتكلّم وتحديد المدلول اللغوي الأقرب للكلمة ؛ لأنّ أصالة الظهور
تحكم بأنّ مراد المتكلّم من اللفظ هو نفس المدلول اللغوي الأقرب ، أي المعنى
الظاهر من اللفظ لغةً ، فلكي نعرف مراد المتكلّم يجب أن نعرف المعنى الأقرب الى
اللفظ لغةً لنحكم بأنّه هو المعنى المراد للمتكلّم.
تطبيقات حجية الظهور على
الأدلّة اللفظية :
وسوف نستعرض في ما
يلي ثلاث حالاتٍ لتطبيق قاعدة حجّية الظهور :
الاولى
: أن يكون للَّفظ
في الدليل معنىً وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة على معنىً آخر في النظام اللغوي
العام. والقاعدة العامة تحتِّم في هذه الحالة أن
__________________
يُحمَل اللفظ على
معناه الوحيد ويقال : «إنّ المتكلّم أراد ذلك المعنى» ؛ لأنّ المتكلّم يريد باللفظ
دائماً المعنى المحدَّد له في النظام اللغوي العام ، ويعتبر الدليل في مثل هذه
الحالة صريحاً في معناه.
الثانية
: أن يكون للَّفظ
معانٍ متعدّدة متكافئة في علاقتها باللفظ بموجب النظام اللغوي العام ، من قبيل
المشترك ، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة ،
إذ لا يوجد معنى أقرب الى اللفظ من ناحيةٍ لغويةٍ لتطبَّق القاعدة عليه ، ويكون
الدليل في هذه الحالة مجملاً.
الثالثة
: أن يكون للَّفظ
معانٍ متعدّدة في اللغة ، وأحدها أقرب الى اللفظ لغوياً من سائر معانيه ، ومثاله
كلمة «البحر» التي لها معنى حقيقي قريب ، وهو «البحر من الماء». ومعنى مجازي بعيد
وهو «البحر من العلم» ، فإذا قال الآمر : «اذهب الى البحر في كلِّ يومٍ» وأردنا أن
نعرف ما ذا أراد المتكلّم بكلمة «البحر» من هذين المعنيين؟ يجب علينا أن ندرس
السياق الذي جاءت فيه كلمة «البحر». ونريد ب «السياق» : كلّ ما يكتنف اللفظ الذي
نريد فهمه من دوالّ اخرى ، سواء كانت لفظيةً كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي
نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً ، أو حاليةً كالظروف والملابسات التي تحيط
بالكلام وتكون ذات دلالةٍ في الموضوع.
فلا بدّ لنا لكي
نفهم المعنى الذي أراده المتكلّم من لفظ «البحر» في المثال المتقدّم أن ندرس
السياق الذي جاءت فيه كلمة «البحر» ، ونحدّد المدلول اللغوي والمعنى الظاهر لكلّ
كلمةٍ وردت في ذلك السياق ، فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما
يدلّ على خلاف المعنى الظاهر من كلمة «البحر» كان لزاماً علينا أن نفسِّر كلمة «البحر»
على أساس المعنى اللغوي الأقرب ، ونقرِّر أنّ مراد الآمر من البحر الذي أمرنا
بالذهاب إليه في كلِّ يومٍ هو بحر الماء ، لا بحر
العلم تطبيقاً
للقاعدة العامة القائلة بحجّية الظهور.
وقد نجد في سائر
أجزاء الكلام ما لا يتّفق مع ظهور كلمة «البحر» ، ومثاله أن يقول الآمر : «اذهب
الى البحر في كلّ يومٍ واستمع الى حديثه باهتمام» فإنّ الاستماع الى حديث البحر لا
يتّفق مع المعنى اللغوي الأقرب الى كلمة «البحر» ؛ لأنّ البحر من الماء لا يستمع
الى حديثه ، وإنّما يستمع الى حديث البحر من العلم ، أي العالم الذي يشابه البحر
لغزارة علمه ، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا نتساءل : ما ذا أراد المتكلّم بكلمة «البحر»؟
هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنّه أمرنا بالاستماع الى حديثه ، أو أراد بها
البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقي ، بل أراد به الإصغاء الى صوت
أمواج البحر؟
وهكذا نظل
متردِّدين بين كلمة «البحر» وظهورها اللغوي من ناحية ، وكلمة «الحديث» وظهورها
اللغوي من ناحيةٍ اخرى ، ومعنى هذا أنّا نتردّد بين صورتين : إحداهما صورة الذهاب
الى بحرٍ من الماء المتموِّج والاستماع الى صوت مَوجه ، وهذه الصورة هي التي توحي
بها كلمة «البحر». والاخرى صورة الذهاب الى عالمٍ غزير العلم والاستماع الى كلامه
، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «الحديث».
وفي هذا المجال
يجب أن نلاحظ السياق جميعاً ككلٍّ ونرى أيَّ هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام
اللغوي العام؟ أي أنّ هذا السياق إذا القي على ذهن شخصٍ يعيش اللغة ونظامها بصورةٍ
صحيحةٍ هل سوف تسبق الى ذهنه الصورة الاولى أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أنّ إحدى
الصورتين أقرب الى السياق بموجب النظام اللغوي العام ـ ولنفرضها الصورة الثانية ـ تكوَّن
للسياق ككلٍّ ظهور في الصورة الثانية ووجب أن نفسِّر الكلام على أساس تلك الصورة
الظاهرة.
ويطلق على كلمة «الحديث»
في هذا المثال اسم «القرينة» ؛ لأنّها هي التي دلّت على الصورة الكاملة للسياق
وأبطلت مفعول كلمة «البحر» وظهورها.
وأمّا إذا كانت
الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أنّ الكلام أصبح مجملاً ولا
ظهور له ، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.
القرينة المتّصلة
والمنفصلة :
عرفنا أنّ كلمة «الحديث»
في المثال السابق قد تكون قرينةً في ذلك السياق ، وتسمّى «قرينة متّصلة» ؛ لأنّها
متّصلة بكلمة «البحر» التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياقٍ واحد ، والكلمة
التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمّى ب «ذي القرينة».
ومن أمثلة القرينة
المتّصلة : الاستثناء من العام ، كما إذا قال الآمر : «أكرم كلّ فقيرٍ إلّا
الفسّاق» ، فإنّ كلمة «كلّ» ظاهرة في العموم لغةً ، وكلمة «الفسّاق» تتنافى مع
العموم ، وحين ندرس السياق ككلٍّ نرى أنّ الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب
إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة «كلّ» ، بل لا مجال للموازنة بينهما ،
وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينةً على المعنى العام للسياق.
فالقرينة المتّصلة
هي : كلّ ما يتّصل بكلمة اخرى فيبطل ظهورها ويوجّه المعنى العام للسياق الوجهة
التي تنسجم معه.
وقد يتّفق أنّ
القرينة بهذا المعنى لا تجيء متّصلةً بالكلام ، بل منفصلةً عنه فتسمّى «قرينةً
منفصلة». ومثاله أن يقول الآمر : «أكرم كلّ فقير» ، ثمّ يقول في حديث آخر بعد ساعة
: «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، فهذا النهي لو كان متّصلاً
بالكلام الأول
لاعتُبر قرينةً متّصلةً ولكنّه انفصل عنه في هذا المثال.
وفي هذا الضوء
نفهم معنى القاعدة الاصولية القائلة : «إنّ ظهور القرينة مقدَّم على ظهور ذي
القرينة ، سواء كانت القرينة متّصلةً أو منفصلة».
وهناك فروق بين
القرينة المتّصلة والمنفصلة لا مجال لدراستها على مستوى هذه الحلقة.
الاستنباط
القائم على أساس الدليل
٢
|
|
الدليل البرهاني
تمهيد.
العلاقات القائمة
بين نفس الأحكام.
العلاقات القائمة
بين الحكم وموضوعه.
العلاقات القائمة
بين الحكم ومتعلّقه.
العلاقات القائمة
بين الحكم والمقدّمات.
العلاقات القائمة
في داخل الحكم الواحد.
تمهيد
دراسة العلاقات العقلية
:
حينما يدرس العقل
العلاقات بين الأشياء يتوصّل الى معرفة أنواعٍ عديدةٍ من العلاقة ، فهو يدرك ـ مثلاً
ـ علاقة التضادّ بين السواد والبياض ، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسمٍ واحد ،
ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبَّب ، فإنّ كلّ مسبَّبٍ في نظر العقل ملازم
لسببه ويستحيل انفكاكه عنه ، نظير الحرارة بالنسبة الى النار. ويدرك علاقة التقدّم
والتأخّر في الدرجة بين السبب والمسبَّب. ومثاله : إذا أمسكت مفتاحاً بيدك وحرَّكت
يدك فيتحرّك المفتاح بسبب ذلك ، وبالرغم من أنّ المفتاح في هذا المثال يتحرّك في
نفس اللحظة التي تتحرّك فيها يدك ، فإنّ العقل يدرك أنّ حركة اليد متقدِّمة على
حركة المفتاح ، وحركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية ، بل من
ناحية تسلسل الوجود ، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدّث عن ذلك : «حرّكتُ يدي فتحرَّك
المفتاح» ، فالفاء هنا تدلّ على الترتيب وتأخّر حركة المفتاح عن حركة اليد ، مع
أنّهما وقعا في زمانٍ واحد.
فهناك إِذن تأخّر
لا يمتّ الى الزمان بصلة ، وإنّما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل ، بمعنى أنّ
العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك أنّ
هذه نابعة من تلك
يرى أنّ حركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد بوصفها نابعةً منها ، ويرمز الى هذا
التأخّر بالفاء فيقول : «تحرَّكتْ يدي فتحرّك المفتاح» ، ويطلق على هذا التأخّر
اسم «التأخّر الرتبي» أي التأخّر في الدرجة.
وبعد أن يدرك
العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشيء أو عدمه ، فهو عن
طريق علاقة التضادّ بين السواد والبياض يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسمٍ إذا عرف
أنّه أبيض ؛ نظراً الى استحالة اجتماع البياض والسواد في جسمٍ واحد ، فما دام أبيض
وجب بحكم علاقة التضادّ أن لا يكون أسود. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبَّب
وسببه يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبَّب إذا عرف وجود السبب ؛ نظراً الى استحالة
الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدّم والتأخّر يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود
المتأخّر قبل الشيء المتقدّم ؛ لأنّ ذلك يناقض كونه متأخّراً ، فإذا كانت حركة
المفتاح متأخّرةً عن حركة اليد في تسلسل الوجود فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح
ـ والحالة هذه ـ موجودةً بصورةٍ متقدِّمة على حركة اليد في تسلسل الوجود ؛ لأنّ
الشيء الواحد لا يمكن أن يكون متقدِّماً على الشيء ويكون في نفس الوقت متأخّراً
عنه.
وكما يدرك العقل
هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شيءٍ أو عدمه ، كذلك يدرك
العلاقات القائمة بين الأحكام ، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكمٍ أو
عدمه ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ التضادّ بين الوجوب والحرمة ، كما كان يدرك التضادّ بين
السواد والبياض ، وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض
، كذلك يستخدم علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف
أنّه حرام.
فهناك إذن أشياء
تقوم بينها علاقات في نظر العقل ، وهناك أحكام تقوم بينها
علاقات في نظر
العقل أيضاً. ونطلق على الأشياء اسم «العالم التكويني» ، وعلى الأحكام اسم «العالم
التشريعي».
وكما يمكن للعقل
أن يكشف وجود الشيء أو عدمه في العالم التكويني عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن
للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقات.
ومن أجل ذلك كان
من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات في عالم الأحكام بوصفها قضايا عقليةً
صالحةً لأن تكون عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط.
الطريقة القياسية :
وهذه العلاقات
تدخل في عملية الاستنباط ضمن دليلٍ يشكِّله الفقيه بطريقةٍ قياسية ، وهي الطريقة
التي نستنتج فيها نتيجةً خاصّةً من قانونٍ عام ، من قبيل قولنا : «هذا مثلّث ،
وكلّ مثلّثٍ له ثلاثة أضلاع ، فهذا المثلث له ثلاثة أضلاع» ، فإنّ هذا القول يشتمل
على استنتاج عدد أضلاع هذا المثلّث وأنّها ثلاثة من القانون العامِّ القائل : «إِنّ
كلّ مثلّثٍ له ثلاثة أضلاع».
وهكذا الحال في
العلاقات التي ندرسها في العالم التشريعي ، فإنّها تشكِّل قوانين عامةً ، ويستنتج
الفقيه منها نتائج خاصّةً بطريقةٍ قياسية ، فيقول مثلاً : «الصلاة في المكان
المغصوب حرام ، وكلّ حرامٍ لا يمكن أن يكون واجباً لعلاقة التضادّ القائمة بين
الوجوب والحرمة ، فالصلاة في المكان المغصوب إذن لا يمكن أن تكون واجبة».
ومن الطبيعي على
هذا الأساس أن نتكلّم عن العلاقات العقلية القائمة في عالم الأحكام تحت عنوان «الدليل
القياسي» ؛ لأنّها تكوِّن العناصر المشتركة في
الدليل القياسي ،
ولكنّا بالرغم من ذلك استبدلنا كلمة «القياس» ب «البرهان» ؛ لأنّ كلمة «القياس» قد
يختلط معناها المنطقي الذي نريده هنا بمعانٍ اخرى ، فآثرنا أن نضع الدليل البرهاني
عنواناً لدراسة تلك العلاقات العقلية.
وقد تعرّضت
الطريقة القياسية في الاستدلال لنقدٍ شديدٍ من الناحية المنطقية وبخاصّةٍ في عصرنا
الحديث ، وسوف نتناول ذلك في الحلقات المقبلة إِن شاء الله تعالى.
تقسيم البحث :
توجد في العالم
التشريعي أقسام من العلاقات :
فهناك قسم من
العلاقات قائم بين نفس الأحكام ، أي بين حكمٍ شرعيٍّ وحكمٍ شرعيٍّ آخر.
وقسم ثانٍ من
العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه.
وقسم ثالث بين
الحكم ومتعلّقه.
وقسم رابع بين
الحكم ومقدّماته.
وقسم خامس ، وهو
العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد.
وقسم سادس ، وهو
العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء اخرى خارجةٍ عن نطاق العالم التشريعي.
وسوف نتحدّث عن
نماذج لأكثر هذه الأقسام في فصول :
__________________
الفصل الأول
في العلاقات القائمة بين نفس الأحكام
علاقة التضادّ بين
الوجوب والحرمة :
من المعترف به في
علم الاصول أنّه ليس من المستحيل أن يأتي المكلَّف بفعلين في وقتٍ واحدٍ أحدهما
واجب والآخر حرام ، فيعتبر مطيعاً من ناحية إتيانه بالواجب وجديراً بالثواب ،
ويعتبر عاصياً من ناحية إتيانه للحرام ومستحقّاً للعقاب. فشرب الماء النجس ـ مثلاً
ـ حرام ، ودفع الزكاة الى الفقير واجب ، فلو أنّ إنساناً حمل الماء النجس بإحدى
يديه وشربه وأعطى باليد الاخرى في نفس الوقت زكاته للفقير فقد عصى وامتثل ، وأتى
بالحرام والواجب في وقتٍ واحد.
وأمّا الفعل
الواحد فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً ؛ لأنّ العلاقة بين الوجوب والحرمة
هي علاقة تضادٍّ ولا يمكن اجتماعهما في فعلٍ واحد ، كما لا يمكن أن يجتمع السواد
والبياض في جسمٍ واحد ، فدفع الزكاة الى الفقير لا يمكن أن يكون ـ وهو واجب ـ حراماً
في نفس الوقت ، وشرب النجس لا يمكن أن يكون ـ وهو حرام ـ واجباً في نفس الوقت.
وهكذا يتّضح :
أوّلاً
: أنّ الفعلين
المتعدّدين ـ كدفع الزكاة وشرب النجس ـ يمكن أن يتّصف أحدهما بالوجوب والآخر
بالحرمة ولو أوجدهما المكلَّف في زمانٍ واحد.
وثانياً
: أنّ الفعل الواحد
لا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً.
والنقطة الرئيسية
في هذا البحث عند الاصوليّين هي : أنّ الفعل قد يكون واحداً بالذات والوجود
ومتعدّداً بالوصف والعنوان ، وعندئذٍ فهل يلحق بالفعل
الواحد لأنّه واحد
وجوداً وذاتاً ، أو يلحق بالفعلين لأنّه متعدّد بالوصف والعنوان؟
ومثاله : أن
يتوضّأ المكلَّف بماءٍ مغصوب ، فإنّ هذه العملية التي يؤدّيها إذا لوحظت من ناحية
وجودها فهي شيء واحد ، وإذا لوحظت من ناحية أوصافها فهي توصف بوصفين ، إذ يقال عن
العملية : إنّها وضوء ، ويقال عنها في نفس الوقت : إنّها غصب وتصرّف في مال الغير
بدون إذنه ، وكلّ من الوصفين يسمّى «عنواناً» ، ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا
المثال واحدةً ذاتاً ووجوداً ومتعدّدةً وصفاً وعنواناً.
وفي هذه النقطة
قولان للُاصوليّين :
أحدهما : أنّ هذه
العملية ما دامت متعدّدةً بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعدّدين ، فكما يمكن
أن يتّصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة كذلك يمكن أن يكون
أحد وصفَي العملية وعنوانيها واجباً وهو عنوان الوضوء ، والوصف الآخر حراماً وهو
عنوان الغصب ، وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بجواز اجتماع الأمر والنهي» .
والقول الآخر
يؤكّد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية ، ولا يبرِّر
مجرّد تعدّد الوصف والعنوان عنده تعلّق الوجوب والحرمة معاً بالعملية ، وهذا القول
يطلق عليه اسم «القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي» .
وهكذا اتّجه البحث
الاصولي الى دراسة تعدّد الوصف والعنوان من ناحية أنّه هل يبرّر اجتماع الوجوب
والحرمة معاً في عملية الوضوء بالماء المغصوب ، أو أنّ العملية ما دامت واحدةً وجوداً
وذاتاً فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة
__________________
في وقتٍ واحد.
ونحن نعتقد أنّ
العملية التي لها وصفان وعنوانان يمكن أن يتعلّق الوجوب بأحدهما والحرمة بالآخر ،
ولا تمنع عن ذلك وحدة العملية وجوداً ، ولكنّ هذا لا ينطبق على كلّ وصف ، بل إنّما
تتّسع العملية الواحدة للوجوب والحرمة معاً إذا كان لها وصفان وعنوانان يتوفّر
فيهما شرائط خاصّة لا مجال لتفصيلها الآن.
هل تستلزم حرمة العقد
فساده؟ :
إنّ صحّة العقد
معناها : أن يترتّب عليه أثره الذي اتّفق عليه المتعاقدان ، ففي عقد البيع يعتبر
البيع صحيحاً ونافذاً إذا ترتّب عليه نقل ملكية السلعة من البائع الى المشتري ونقل
ملكية الثمن من المشتري الى البائع ، ويعتبر فاسداً وباطلاً إذا لم يترتّب عليه
ذلك.
وبديهيّ أنّ العقد
لا يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً في وقتٍ واحد ، فإنّ الصحة والفساد متضادّان
كالتضادّ بين الوجوب والحرمة ، فكما لا يمكن أن يكون الفعل الواحد واجباً وحراماً
كذلك لا يمكن أن يكون العقد الواحد صحيحاً وفاسداً.
والسؤال هو : هل
يمكن أن يكون العقد صحيحاً وحراماً؟
ونجيب على ذلك
بالإيجاب ، إذ لا تضادّ بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ؛ لأنّ
معنى تحريم العقد منع المكلّف من إيجاد البيع ، ومعنى صحته أنّ المكلَّف إذا خالف
هذا المنع والتحريم وباع ترتّب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من البائع الى
المشتري ، ولا تنافي بين أن يكون إيجاد المكلَّف للبيع وممارسته له مبغوضاً للشارع
وممنوعاً عنه وأن يترتّب عليه الأثر في حالة صدوره من المكلّف ، فلا تلازم إذن بين
حرمة العقد وفساده ، ولا تضادّ بين حرمته
وصحته ، بل يمكن
أن يكون العقد حراماً وصحيحاً في نفس الوقت.
ومثال ذلك في
حياتنا الاعتيادية : أنّك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشدّ البغض ، ولكن
إذا اتّفق وزارك ترى لزاماً عليك أن ترتّب الأثر على زيارته وتقوم بضيافته. فكما
أمكن في هذا المثال أن تبغض زيارة فلان لك وفي نفس الوقت ترتّب الأثر عليها إذا
اتّفق له أن زارك ، كذلك يمكن في مسألتنا أن يبغض الشارع صدور عقد البيع من
المكلّف ويمنع عنه ، ولكنّه يرتّب الأثر عليه إذا عصى المكلَّف ومارس البيع ،
فيحكم بنقل الملكية من البائع الى المشتري ، كما ترتّب أنت الأثر على زيارة فلان لك
، اذا زارك بالرغم من أنّك تبغض زيارته.
وهذا يعني أنّ
النهي عن المعاملة ـ أي عقد البيع ونحوه ـ لا يستلزم فسادها ، بل يتفق مع الحكم
بصحة العقد في نفس الوقت ، خلافاً لعددٍ من الاصوليّين القائلين بأنّ «النهي عن
المعاملة يقتضي فسادها» إيماناً منهم بوجود علاقة تضادٍّ بين الصحة والحرمة.
__________________
الفصل الثاني
في العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه
الجعل والفعلية :
حين حكمت الشريعة
بوجوب الحجّ على المستطيع وجاء قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أصبح الحجّ من الواجبات في الإسلام ، وأصبح وجوبه حكماً
ثابتاً في الشريعة ، ولكن إذا افترضنا أنّ المسلمين وقتئذٍ لم يكن يوجد فيهم شخص
مستطيع تتوفّر فيه خصائص الاستطاعة شرعاً فلا يتوجّه وجوب الحجّ الى أيِّ فردٍ من
أفراد المسلمين ؛ لأنّهم ليسوا مستطيعين ، والحجّ إنّما يجب على المستطيع ، أي أنّ
وجوب الحجّ لا يثبت في هذه الحالة لأيِّ فردٍ بالرغم من كونه حكماً ثابتاً في
الشريعة ، فإذا أصبح أحد الأفراد مستطيعاً اتّجه الوجوب نحوه وأصبح ثابتاً بالنسبة
إليه.
وعلى هذا الضوء
نلاحظ أنّ للحكم ثبوتين : أحدهما ثبوت الحكم في الشريعة ، والآخر ثبوته بالنسبة
الى هذا الفرد أو ذاك. فحين حكم الإسلام بوجوب الحجّ على المستطيع في الآية
الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذٍ إطلاقاً ، بمعنى
أنّ شخصاً لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحجّ
على المستطيع ، سواء كان في المسلمين مستطيع فعلاً أوْ لا ، وبعد أن يصبح هذا
الفرد أو ذاك مستطيعاً يثبت الوجوب عليه.
__________________
ونعرف على هذا
الأساس أنّ الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع لا يتوقّف ثبوته في الشريعة بوصفه
حكماً شرعياً إلّا على تشريعه وجعله من قِبل الله تعالى ، سواء كانت الاستطاعة
متوفّرةً في المسلمين فعلاً أوْ لا. وأمّا ثبوت وجوب الحجّ على هذا المكلّف أو ذاك
فيتوقّف ـ إضافةً الى تشريع الله للحكم وجعله له ـ على توفّر خصائص الاستطاعة في
المكلّف.
والثبوت الأول
للحكم ـ أي ثبوته في الشريعة ـ يسمّى بالجعل «جعل الحكم».
والثبوت الثاني
للحكم ـ أي ثبوته على هذا المكلّف بالذات أو ذاك ـ يسمّى بالفعلية «فعلية الحكم» ،
فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله ، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلاً لهذا
المكلّف أو ذاك.
موضوع الحكم :
وموضوع الحكم
مصطلح اصولي نريد به مجموع الأشياء التي تتوقّف عليها فعلية الحكم المجعول بمعناها
الذي شرحناه ، ففي مثال وجوب الحجّ يكون وجود المكلّف المستطيع موضوعاً لهذا
الوجوب ؛ لأنّ فعلية هذا الوجوب تتوقّف على وجود مكلَّفٍ مستطيع.
ومثال آخر : حكمت
الشريعة بوجوب الصوم على كلّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ إذا هلَّ عليه هلال شهر
رمضان ، وهذا الحكم يتوقّف ثبوته الأول على جعله شرعاً ، ويتوقّف ثبوته الثاني ـ أي
فعليته ـ على وجود موضوعه ، أي وجود مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه هلال
شهر رمضان ، فالمكلّف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي
تكوِّن الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم.
وإذا عرفنا معنى
موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أنّ العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض
الاعتبارات العلاقة بين المسبّب وسببه ، كالحرارة والنار ، فكما أنّ المسبّب
يتوقّف على سببه ، كذلك الحكم يتوقف على موضوعه ؛ لأنّه يستمدّ فعليته من وجود
الموضوع. وهذا معنى العبارة الاصولية القائلة : «إنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية
موضوعه» أي أنّ وجود الحكم فعلاً يتوقّف على وجود موضوعه فعلاً.
وبحكم هذه العلاقة
بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخّراً في درجته عن الموضوع ، ويكون الموضوع
متقدّماً عليه كما يتقدّم كلّ سبب على مسبَّبه.
وتوجد في علم
الاصول قضايا تستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك في عمليات الاستنباط لا مجال
للدخول في تفاصيلها الآن.
الفصل الثالث
العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه
عرفنا أنّ وجوب
الصوم ـ مثلاً ـ موضوعه مؤلَّف من عدّة عناصر تتوقّف عليها فعلية الوجوب ، فلا
يكون الوجوب فعلياً وثابتاً إلّا إذا وجد مكلّف غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه
هلال شهر رمضان ، وأمّا متعلّق هذا الوجوب فهو الفعل الذي يؤدّيه المكلّف نتيجةً
لتوجّه الوجوب إليه ، وهو الصوم في هذا المثال.
وعلى هذا الضوء
نستطيع أن نميِّز بين متعلّق الوجوب وموضوعه ، فإنّ المتعلّق يوجد بسبب الوجوب ،
فالمكلّف إنّما يصوم لأجل وجوب الصوم عليه ، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع ،
فوجوب الصوم لا يصبح فعلياً إلّا إذا وجد مكلّف غير مريضٍ ولا مسافرٍ وهلّ عليه
الهلال.
وهكذا نجد أنّ
وجود الحكم يتوقّف على وجود الموضوع ، بينما يكون سبباً لإيجاد المتعلّق وداعياً
للمكلّف نحوه.
وعلى هذا الأساس
نعرف أنّ من المستحيل أن يكون الوجوب داعياً الى إيجاد موضوعه ومحرِّكاً للمكلّف
نحوه كما يدعو الى إيجاد متعلّقه ، فوجوب الصوم على كلِّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا
مريضٍ لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن لا يسافر ، وإنّما يفرض عليه أن يصوم إذا لم
يكن مسافراً ، ووجوب الحجّ على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن يكتسب
ليحصل على الاستطاعة ، وإنّما يفرض الحجّ على المستطيع ؛ لأنّ الحكم لا يوجد إلّا
بعد وجود موضوعه ، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون داعياً الى إيجاد
موضوعه ،
ولأجل ذلك وضعت في
علم الاصول القاعدة القائلة : «إنّ كلّ حكمٍ يستحيل أن يكون محرِّكاً نحو أيِّ
عنصرٍ من العناصر الدخيلة في تكوين موضوعه ، بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق
المتعلَّق».
الفصل الرابع
العلاقات القائمة بين الحكم والمقدِّمات
المقدِّمات التي
يتوقّف عليها وجود الواجب على قسمين :
أحدهما
: المقدِّمات التي
يتوقّف عليها وجود المتعلّق ، من قبيل السفر الذي يتوقّف أداء الحجِّ عليه ، أو
الوضوء الذي تتوقّف الصلاة عليه ، أو التسلّح الذي يتوقّف الجهاد عليه.
والآخر
: المقدِّمات التي
تدخل في تكوين موضوع الوجوب ، من قبيل نيّة الإقامة التي يتوقّف عليها صوم شهر
رمضان ، والاستطاعة التي تتوقّف عليها حجّة الإسلام.
والفارق بين هذين
القسمين : أنّ المقدِّمة التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب يتوقّف على وجودها
الوجوب نفسه ؛ لما شرحناه سابقاً من أنّ الحكم الشرعي يتوقّف وجوده على وجود
موضوعه ، فكلّ مقدِّمةٍ دخيلةٍ في تحقّق موضوع الحكم يتوقّف عليها الحكم ولا يوجد
بدونها ، خلافاً للمقدِّمات التي لا تدخل في تكوين الموضوع ، وإنّما يتوقّف عليها
وجود المتعلَّق فحسب ، فإنّ الحكم يوجد قبل وجودها ؛ لأنّها لا تدخل في موضوعه.
ولنوضِّح ذلك في
مثال الاستطاعة والوضوء : فالاستطاعة مقدِّمة تتوقّف عليها حجّة الإسلام ،
والتكسّب مقدِّمة للاستطاعة ، وذهاب الشخص الى محلّه في السوق مقدِّمة للتكسب ،
وحيث إنّ الاستطاعة تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ فلا وجوب للحجّ قبل الاستطاعة
وقبل تلك الامور التي تتوقّف عليها الاستطاعة. وأمّا الوضوء فلا يدخل في تكوين
موضوع وجوب الصلاة ؛ لأنّ
وجوب الصلاة لا
ينتظر أن يتوضّأ الإنسان لكي يتّجه إليه ، بل يتّجه اليه قبل ذلك ، وإنّما يتوقّف
متعلَّق الوجوب ـ وهو الصلاة ـ على الوضوء ، ويتوقّف الوضوء على تحضير الماء
الكافي ، ويتوقّف تحضير هذا الماء على فتح خزّان الماء مثلاً.
فهناك إذن سلسلتان
من المقدّمات :
الاولى
: سلسلة مقدِّمات
المتعلَّق ، أي الوضوء الذي تتوقّف عليه الصلاة ، وتحضير الماء الذي يتوقّف عليه
الوضوء ، وفتح الخزّان الذي يتوقّف عليه تحضير الماء.
والثانية
: سلسلة مقدِّمات
الوجوب ، وهي الاستطاعة التي تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ ، والتكسّب الذي
تتوقّف عليه الاستطاعة ، وذهاب الشخص الى محلّه في السوق الذي يتوقّف عليه
التكسّب.
وموقف الوجوب من
هذه السلسلة الثانية ، وكلّ ما يندرج في القسم الثاني من المقدِّمات سلبيّ دائماً
؛ لأنّ هذا القسم يتوقّف عليه وجود موضوع الحكم ، وقد عرفنا سابقاً أنّ الوجوب لا
يمكن أن يدعو الى موضوعه. وتسمّى كلّ مقدِّمةٍ من هذا القسم «مقدِّمة وجوب» أو «مقدِّمة
وجوبية».
وأمّا السلسلة
الاولى والمقدّمات التي تندرج في القسم الأول فالمكلّف مسئول عن إيجادها ، أي أنّ
المكلّف بالصلاة ـ مثلاً ـ مسئول عن الوضوء لكي يصلّي ، والمكلّف بالحجّ مسئول عن
السفر لكي يحجّ ، والمكلّف بالجهاد مسئول عن التسلّح لكي يجاهد.
والنقطة التي
درسها الاصوليون هي نوع هذه المسئولية ، فقد قدَّموا لها تفسيرين :
أحدهما
: أنّ الواجب شرعاً
على المكلّف هو الصلاة فحسب ، دون مقدّماتها من الوضوء ومقدّماته ، وإنّما يجد
المكلّف نفسه مسئولاً عن إيجاد
الوضوء وغيره من
المقدّمات ؛ لأنّه يرى أنّ امتثال الواجب الشرعي لا يتأتّى له إلّا بإيجاد تلك
المقدّمات .
والآخر : أنّ
الوضوء واجب شرعاً ؛ لأنّه مقدّمة للواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة شرعاً ، فهناك
إذن واجبان شرعيان على المكلّف : أحدهما الصلاة ، والآخر الوضوء بوصفه مقدّمةً
للصلاة. ويسمّى الأول ب «الواجب النفسي» ؛ لأنّه واجب لأجل نفسه. ويسمّى الثاني ب «الواجب
الغيري» ؛ لأنّه واجب لأجل غيره ، أي لأجل ذي المقدّمة وهو الصلاة.
وهذا التفسير أخذ
به جماعة من الاصوليّين إيماناً منهم بقيام علاقة تلازم بين وجوب الشيء ووجوب
مقدّمته ، فكلّما حكم الشارع بوجوب فعلٍ حكم عقيب ذلك مباشرةً بوجوب مقدّماته.
__________________
الفصل الخامس
في العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد
قد يتعلّق الوجوب
بشيءٍ واحد ، كوجوب السجود على كلّ من سمع آية السجدة. وقد يتعلّق بعمليةٍ تتألّف
من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ متعدّدة ، من قبيل وجوب الصلاة ، فإنّ الصلاة عملية
تتألّف من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ عديدة ، كالقراءة والسجود والركوع والقيام
والتشهّد ، وما إلى ذلك. وفي هذه الحالة تصبح العملية بوصفها مركّبةً من تلك
الأجزاء واجبةً ، ويصبح كلّ جزءٍ واجباً أيضاً ، ويطلق على وجوب المركّب اسم «الوجوب
الاستقلالي» ، ويطلق على وجوب كلّ جزءٍ فيه اسم «الوجوب الضمني» ؛ لأنّ الوجوب
إنّما يتعلّق بالجزء بوصفه جزءاً في ضمن المركّب ، لا بصورةٍ مستقلّةٍ عن سائر
الأجزاء ، فوجوب الجزء ليس حكماً مستقلّاً ، بل هو جزء من الوجوب المتعلّق
بالعملية المركّبة. ولأجل ذلك كان وجوب كلّ جزءٍ من الصلاة ـ مثلاً ـ مرتبطاً
بوجوب الأجزاء الاخرى ؛ لأنّ الوجوبات الضمنية لأجزاء الصلاة تشكِّل بمجموعها
وجوباً واحداً استقلالياً. ونتيجة ذلك قيام علاقة التلازم في داخل إطار الحكم
الواحد بين الوجوبات الضمنية فيه.
وتعني علاقة
التلازم هذه : أنّه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو التفكيك بينها ، بل إذا
سقط أيّ واحدٍ منها تحتّم سقوط الباقي نتيجةً لذلك التلازم القائم بينها.
مثال ذلك : إذا
وجب على الإنسان الوضوء وهو مركّب من أجزاءٍ عديدةٍ ، كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل
اليسرى ومسح الرأس ومسح القدمين ، فيتعلّق
بكلّ جزءٍ من تلك
الأجزاء وجوب ضمني بوصفه جزءاً من الوضوء الواجب ، وفي هذه الحالة إذا تعذّر على
الإنسان أن يغسل وجهه لآفةٍ فيه وسقط لأجل ذلك الوجوب الضمني المتعلّق بغسل الوجه
كان من المحتّم أن يسقط وجوب سائر الأجزاء أيضاً ، فلا يبقى على الإنسان وجوب غسل
يديه فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه ؛ لأنّ تلك الوجوبات لا بدّ أن ينظر إليها
بوصفها وجوباً واحداً متعلّقاً بالعملية كلّها ، أي بالوضوء ، وهذا الوجوب إمّا أن
يسقط كلّه ، أو يثبت كلّه ، ولا مجال للتفكيك.
وعلى هذا الضوء
نعرف الفرق بين ما إذا وجب الوضوء بوجوبٍ استقلاليٍّ ووجب الدعاء بوجوبٍ
استقلاليٍّ آخر ، فتعذّر الوضوء ، وبين ما إذا وجب الوضوء فتعذّر جزء منه كغسل
الوجه مثلاً ، ففي الحالة الاولى لا يؤدّي تعذّر الوضوء إلّا الى سقوط الوجوب الذي
كان متعلّقاً به ، وأمّا وجوب الدعاء فيبقى ثابتاً ؛ لأنّه وجوب مستقلّ غير مرتبطٍ
بوجوب الوضوء.
وفي الحالة
الثانية حين يتعذّر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمني يؤدّي ذلك الى سقوط وجوب الوضوء
وارتفاع سائر الوجوبات الضمنية.
قد تقول : نحن نرى
أنّ الإنسان يكلّف بالصلاة ، فإذا أصبح أخرس وعجز عن القراءة فيها كلّف بالصلاة
بدون قراءة ، فهل هذا إلّا تفكيك بين الوجوبات الضمنية ونقض لعلاقة التلازم بينها؟
والجواب : أنّ
وجوب الصلاة بدون قراءةٍ على الأخرس ليس تجزئةً لوجوب الصلاة الكاملة ، وإنّما هو
وجوب آخر وخطاب جديد تعلّق منذ البدء بالصلاة الصامتة ، فوجوب الصلاة الكاملة
والخطاب بها قد سقط كلّه نتيجةً لتعذّر القراءة ، وخلفه وجوب آخر وخطاب جديد.
الاستنباط
القائم على أساس الدليل
٣
|
|
الدليل الاستقرائي
تمهيد.
الاستقراء في
الأحكام.
الدليل الاستقرائي
غير المباشر.
تمهيد
الاستقراء : هو
استنتاج قانونٍ عامٍّ من تتبّع حالاتٍ جزئيةٍ كثيرة. ومثال ذلك : أن نلاحظ هذه
القطعة من الحديد فنراها تتمدّد بالحرارة ، ونلاحظ تلك فنراها تتمدّد بالحرارة ،
وهكذا الثالثة والرابعة ، فنستنتج من تتبّع هذه الحالات الجزئية قانوناً عاماً ،
وهو : أنّ كلّ حديدٍ يتمدّد بالحرارة. وهذه الطريقة من الاستدلال هي الطريقة التي
يستخدمها العلماء الطبيعيون في العلوم الطبيعية لاكتشاف قوانين الكون والطبيعة.
ونحن إذا تأمّلنا
في الدليل الاستقرائي نجد أنّ كلّ حالةٍ من الحالات الجزئية التي نلاحظ فيها تمدّد
الحديد بالحرارة تشكِّل قرينةً على القانون العام القائل : «إنّ كلّ حديدٍ يتمدّد
بالحرارة» ، غير أنّ كلّ حالةٍ بمفردها تعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة ، أي أنّها لا
تؤدّي بنا إلى القطع بالقانون العام ، ولكن حين نضيف إليها حالةً جزئيةً اخرى
مماثلةً يقوى في ظنِّنا أنّ ظاهرة التمدّد بالحرارة عامة ، فإذا لاحظنا التمدّد في
حالةٍ ثالثةٍ مماثلةٍ أيضاً تأكّد ظنّنا بالتعميم نتيجةً لتجمّع ثلاث قرائن ،
وهكذا تزداد القرائن كلّما ازدادت الحالات التي نستقرئها ، وبالتالي يزداد ظنّنا
بالقانون العام حتّى نصل الى القطع به.
ونحن هنا نسمّي
كلّ دليلٍ يقوم على أساس القرائن الناقصة ويستمدّ قوّته
من تجمّع تلك
القرائن «دليلاً استقرائياً».
ومن أمثلة الدليل
الاستقرائي بهذا المعنى الذي نريده هنا : «التواتر» ، وهو : أن يخبرك عدد كبير
جدّاً من الناس بحادثةٍ رأوها بأعينهم ، فأنت حين تسمع الخبر من أحدهم تحتمل صدقه
؛ ولكنّك لا تجزم بذلك ، فتعتبر خبره قرينةً ناقصةً على وقوع الحادثة ، فإذا سمعت
الخبر نفسه من شخصٍ آخر تقوَّى في نفسك احتمال وقوع الحادثة نتيجةً لاجتماع
قرينتين ، وهكذا يظلّ احتمال وقوع الحادثة ينمو ويكبر كلّما جاء مخبر جديد عنها
حتّى يصل الى درجة العلم.
وقد نطلق على
الدليل الاستقرائي بالمعنى الذي حدّدناه اسم «الدليل الاحتمالي» ، أو «الدليل
القائم على حساب الاحتمالات» ؛ لأنّ الدليل الاستقرائي لمّا كان مردّه في التحليل
العلمي الى عملية تجميع القرائن فهو يتضمّن قياس قوة الاحتمال الناتج عن كلّ
قرينةٍ وجمع القُوى الاحتمالية لمجموع القرائن وفقاً لقوانين سوف نشير إليها في
الحلقات المقبلة ، وقياس تلك القوى الاحتمالية وجمعها هو ما يسمّى بحساب
الاحتمالات ، وحيث إنّ الدليل الاستقرائي يتضمّن ويعتمد عليه فهو يقوم على أساس
حساب الاحتمالات.
وسوف نتحدّث في ما
يلي عن دور الدليل الاستقرائي في استنباط الأحكام ، وذلك في فصلين :
الفصل الأول
الاستقراء في الأحكام
من ألوان الدليل
الاستقرائي أن ندرس عدداً كبيراً من الأحكام الشرعية فنجد أنّها تشترك جميعاً في
اتّجاهٍ واحد ، فنكتشف قاعدةً عامةً في التشريع الإسلامي عن طريقها.
ولنذكر على سبيل
المثال لهذا الدليل محاولةً ذكرها الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابيه : الحدائق
والدرر النجفية تستهدف إثبات قاعدةٍ عامةٍ عن طريق الاستقراء ، وتلك
القاعدة العامّة هي القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل ، أي أنّ كلّ جاهلٍ إذا ارتكب
خطأً نتيجةً لجهله بالحكم الشرعي فلا تترتّب على ذلك الخطأ تبعة. وقد استدلّ
الفقيه البحراني على هذه القاعدة بحالاتٍ كثيرةٍ في الفقه ثبت شرعاً أنّ الجاهل
بالحكم معذور فيها ، واستكشف عن طريق استقراء تلك الحالات القاعدة القائلة
بمعذورية الجاهل شرعاً في جميع الحالات.
وتلك الحالات التي
أقام عليها الفقيه البحراني استقراءه واستنتاجه للقاعدة العامة هي الحالات التي
نصّت عليها الأدلّة التالية :
أولاً
: ما دلّ من الشرع
في أحكام الحجّ على أنّ الجاهل معذور ، فمن
__________________
لبس وهو محرم
ثوباً لا يجوز له لبسه جهلاً منه بالحكم لا شيء عليه.
وثانياً
: ما دلَّ في أحكام
الصوم على أنّ الجاهل معذور ، فمن صام في السفر وهو لا يدري أنّ الصوم في السفر غير
جائزٍ صحّ صومه ولا شيء عليه.
وثالثاً
: ما دلّ في أحكام
النكاح على أنّ الجاهل معذور ، فمن تزوّج امرأةً في عدّتها جهلاً
منه بحرمة ذلك لم تحرم عليه بالحرمة المؤبّدة نظراً إلى جهله ، بل كان له أن
يتزوّجها من جديدٍ بعد انتهاء عدّتها.
ورابعاً
: ما دلّ في أحكام
الحدود على أنّ الجاهل معذور ، فمن شرب الخمر جهلاً منه بحرمته لا
يحدّ.
وخامساً
: ما دلّ في أحكام
الصلاة على أنّ من صلّى أربعاً وهو مسافر جهلاً منه بوجوب القصر
صحّت صلاته ولم يجب عليه القضاء.
فكلّ حالةٍ من هذه
الحالات قرينة إثباتٍ ناقصة بالنسبة الى القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل
شرعاً في جميع الحالات. وبتجمّع تلك القرائن يقوى في نفس الفقيه احتمال القاعدة
العامة ووثوقه بها.
ومثال آخر ، وهو :
أنّا حين نريد أن نعرف اشتمال الاقتصاد الإسلامي على القاعدة القائلة : «إنّ العمل
في الثروات الطبيعية أساس للملكية» قد نستعرض
__________________
حالاتٍ عديدةً من
العمل ثبت أنّ العمل فيها أساس للملكية ، فنستنتج من استقراء تلك الحالات صحة
القاعدة العامة ، إذ نرى ـ مثلاً ـ أنّ العمل في إحياء الأرض ينتج ملكيتها ،
والعمل في إحياء المعدن ينتج ملكيته ، والعمل في حيازة الماء ينتج ملكيته ، والعمل
في اصطياد الطائر ينتج ملكيته فنستدلّ باستقراء هذه الحالات على قاعدةٍ عامةٍ في
الاقتصاد الإسلامي ، وهي : «أنّ العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية».
وموقفنا من
الاستقراء يتلخّص في التمييز بين القطعي منه وغيره ، فإذا كان قطعياً ـ أي أدّى
الى القطع بالحكم الشرعي ـ فهو حجّة ؛ لأنّه يصبح دليلاً قطعياً ويستمدّ حجّيته من
حجّية القطع ، وإذا لم يكن قطعياً فلا حجّية فيه مهما كانت قوة الاحتمال الناجمة
عنه ؛ لأنّنا عرفنا سابقاً أنّ كلّ دليلٍ غير قطعيٍّ ليس حجّةً ما لم يحكم الشارع
بحجّيته ، والشارع لم يحكم بحجّية الاستقراء الذي لا يؤدّي الى العلم.
القياس خطوة من
الاستقراء :
وقد تؤخذ خطوة
واحدة من خطوات الاستقراء ويكتفى بها في الاستدلال ، كما إذا اكتفينا بحالةٍ
واحدةٍ من الحالات التي أقام صاحب الحدائق عليها استقراءه وجعلنا منها دليلاً على
كون الجاهل معذوراً في سائر الحالات الاخرى. ويسمّى هذا ب «القياس» عند أبي حنيفة
وغيره من فقهاء السنّة الذين يكتفون في الاستدلال على ثبوت حكمٍ لموضوعٍ بثبوت
حكمٍ من نفس النوع على موضوعٍ واحدٍ مشابهٍ له ، ولا يكلِّفون أنفسهم بتتبّع
موضوعاتٍ مشابهةٍ عديدةٍ واستقراء حالاتٍ كثيرة. فبينما كان الاستقراء يكلِّفنا
بملاحظة حالاتٍ كثيرةٍ يعذر فيها الجاهل لكي نصل الى القاعدة العامة القائلة : «إنّ
كلّ جاهلٍ معذور» لا يكلِّفنا
القياس الحنفي
إلّا بملاحظة حالةٍ واحدةٍ واتّخاذها دليلاً على إثبات حكمٍ من نفس النوع لسائر
الحالات الاخرى.
وما دام الاستقراء
ليس حجّةً ما لم يحصل منه القطع بالحكم الشرعي فمن الطبيعي أن لا يكون القياس حجّة
؛ لأنّه خطوة من الاستقراء فُصلت عن سائر الخطوات.
الفصل الثاني
الدليل الاستقرائي غير المباشر
كان الدليل
الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على استقراء عددٍ من الأحكام
الخاصّة واستنتاج حكمٍ عامٍّ منها ، فالحكم العامّ يكتشف بالاستقراء مباشرة ،
ولهذا نطلق عليه اسم «الدليل الاستقرائي المباشر».
ويوجد قسم آخر من
الدليل الاستقرائي ، وهو الدليل الاستقرائي غير المباشر ، ونريد به : أن نستدلّ
بالاستقراء لا على الحكم مباشرة ، بل على وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ بدوره على الحكم
الشرعي ، ففي هذا الاستقراء نكتشف بصورةٍ مباشرةٍ الدليل اللفظي ، وبعد اكتشاف
الدليل اللفظي عن طريق الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي.
ومثال ذلك : «التواتر»
، فقد عرفنا سابقاً أنّ التواتر دليل استقرائي يقوم على أساس تجميع القرائن ،
فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنصٍّ عن المعصوم عليهالسلام أصبح النصّ متواتراً ، وحينئذٍ نستدلّ بالتواتر بوصفه
دليلاً استقرائياً على صدور ذلك الكلام من المعصوم عليهالسلام ، أي على الدليل اللفظي ، ثمّ نستدلّ بالدليل اللفظي ـ أي
بذلك الكلام الثابت صدوره من المعصوم عليهالسلام بالتواتر ـ على الحكم الشرعي الذي يدلّ عليه.
وللدليل
الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة ، منها : «الإجماع» و
«الشهرة» و «الخبر» و «السيرة».
__________________
الإجماع والشهرة :
إذا لاحظنا فتوى
الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أنّها تشكِّل قرينة إثباتٍ ناقصةً على
وجود دليلٍ لفظيٍّ مسبقٍ يدلّ على هذا الوجوب ؛ لأنّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل
تفسيرين لها :
أحدهما
: أن يكون قد استند
في فتواه الى دليلٍ لفظيٍّ ـ مثلاً ـ بصورةٍ صحيحة.
والآخر
: أن يكون مخطِئاً
في فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثباتٍ ناقصة.
فإذا أضفنا إليها
فتوى فقيهٍ آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضاً كبر احتمال وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ
على الحكم نتيجةً لاجتماع قرينتين ناقصتين ، وحين ينضمّ الى الفقيهين فقيه ثالث
نزداد ميلاً الى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي. وهكذا نزداد ميلاً الى
الاعتقاد بذلك كلّما ازداد عدد الفقهاء المفتِين بوجوب الخمس في المعادن ، فإذا
كان الفقهاء قد اتّفقوا جميعاً على هذه الفتوى سمِّي ذلك «إجماعاً» ، وإذا كانوا
يشكّلون الأكثرية فقط سمّي ذلك «شهرة».
فالإجماع والشهرة
على ضوء مفهومنا الخاصّ عن الدليل الاستقرائي دليلان استقرائيان على وجود دليلٍ
مسبقٍ على الحكم قام على أساسه الإجماع أو الشهرة.
وحكم الإجماع
والشهرة من ناحيةٍ اصوليةٍ أنّه متى حصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ
بذلك في عملية الاستنباط ، وأصبح الإجماع والشهرة حجّة ، وإذا لم يحصل العلم بسبب
الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما.
الخبر :
الخبر هو نقل شيءٍ
عن المعصوم عليهالسلام استناداً الى الحسِّ ، كما يصنع الرواة ،
إذ ينقلون نصوصاً
سمعوها من المعصوم عليهالسلام بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة. ويعتبر الخبر قرينة إثباتٍ
ناقصة ؛ لأنّنا إذا سمعنا شخصاً ينقل شيئاً عن المعصوم عليهالسلام احتملنا صدقة واحتملنا كذبه ، فيكون قرينة إثباتٍ ناقصة ،
وتزداد قوة الإثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشيء عن المعصوم عليهالسلام أيضاً نتيجةً لاجتماع قرينتين. وهكذا يكبر احتمال الصدق
كلّما كثر المخبرون حتّى يحصل الجزم ، فيسمّى الخبر «متواتراً».
وكما يكبر احتمال
الصدق بسبب زيادة عدد المخبِرين كذلك يكبر بسبب نوعية المخبِر ، فالمخبِر الواحد
يزداد احتمال صدقه كلّما ازداد اطّلاعنا على دينه وورعه وانتباهه.
وحكم الخبر : أنّه
إذا ازداد احتمال صدقه الى درجةٍ شارفت على القطع كان حجّة ، سواء نشأت زيادة
احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبِرين ، أو من خصائص الورع والنزاهة في المخبِر
الواحد ، وأمّا إذا لم يؤدِّ الخبر الى القطع فيجب أن يلاحظ الراوي ، فإن كان ثقةً
أخذنا بروايته ولو لم نقطع بصحتها ؛ لأنّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة ، ولكنّ هذه
الحجّية ثابتة ضمن شروطٍ لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقةً فلا يؤخذ
بروايته ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط.
سيرة المتشرِّعة :
سيرة المتشرِّعة
هي السلوك العامّ للمتديّنين في عصر التشريع ، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة
الظهر في يوم الجمعة بدلاً عن صلاة الجمعة ، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.
وهذا السلوك
العامّ إذا حلَّلناه الى مفرداته ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورةٍ
مستقلّةٍ نجد أنّ
سلوك الفرد المتديّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة عن صدور
بيانٍ شرعيٍّ يقرِّر ذلك السلوك ؛ لأنّنا نحتمل استناد هذا السلوك الى البيان
الشرعي ، وإنّ كنّا نحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا
عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر ـ مثلاً ـ في
يوم الجمعة ازدادت قوة الإثبات.
وهكذا تكبر قوة
الإثبات ؛ حتّى تصل الى درجةٍ كبيرةٍ عند ما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عاماً
يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع ، إذ يبدو من المؤكّد حينئذٍ أنّ سلوك
هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطإٍ أو غفلةٍ أو تسامح ؛ لأنّ الخطأ والغفلة والتسامح قد
يقع فيه هذا أو ذاك ، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع
جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ
السلوك العامّ مستند الى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة ،
وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولأجل هذا نعتبر سيرة المتشرِّعة دليلاً استقرائياً
كالإجماع والشهرة ، وهي في الغالب تؤدّي الى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروطٍ لا
مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت كذلك فهي حجّة ، وأمّا إذا لم يحصل منها الجزم فلا
اعتبار بها.
السيرة العقلائية :
وهناك نوع آخر من
السيرة يطلق عليه في علم الاصول اسم «السيرة العقلائية». والسيرة العقلائية :
عبارة عن ميلٍ عامٍّ عند العقلاء ـ المتديّنين وغيرهم ـ نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن
يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل. ومثال ذلك : الميل العامّ لدى العقلاء
نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم.
وفي هذا الضوء
نعرف أنّ السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرّعة ، فإنّ سيرة المتشرّعة التي
درسناها آنفاً كانت وليدة البيان الشرعي ، ولهذا تعتبر كاشفةً
عنه ، وأمّا
السيرة العقلائية فمردّها ـ كما عرفنا ـ الى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو
سلوكٍ معيّنٍ ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي ، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثّرات
الاخرى التي تتكيّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم ، ولأجل هذا لا يقتصر الميل
العامّ الذي تعبّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة ؛ لأنّ الدين
لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وعلى هذا الأساس
يتّضح أنّ طريقة الاستدلال التي كنّا نستخدمها في سيرة المتشرِّعة لا يمكننا
استعمالها في السيرة العقلائية ، فقد كنّا في سيرة المتشرِّعة نكتشف عن طريق
السيرة البيان الشرعي الذي أدّى الى قيامها بوصفها نتيجةً للبيان الشرعي وناشئةً
عنه ، إذ لم يكن من المحتمل أن يتّفق المتشرّعة جميعاً على أداء صلاة الظهر في يوم
الجمعة ـ مثلاً ـ دون أن يكون هناك بيان شرعي يدلّ على ذلك.
وأمّا الميل العامّ
الذي تمثّله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئاً عن البيان الشرعي ، ولا ناتجاً عن
دوافع دينيةٍ ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيانٍ شرعيٍّ أدّى الى تكوّنه
وقيامه.
ولأجل هذا يجب أن
ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجاً آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة
المتشرِّعة.
ويمكننا تلخيص هذا
المنهج في ما يلي :
إنّ الميل الموجود
عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فإذا
سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك
السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي.
ومثال ذلك : سكوت
الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم وعدم ردعها
عنه ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّها تقرّ هذه الطريقة في فهم
الكلام ، وتوافق
على اعتبار الظهور حجّةً وقاعدةً لتفسير ألفاظ الكتاب والسنّة ، وإلّا لمنعت الشريعة
عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
والاستدلال
بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن ، كما رأينا سابقاً في سيرة
المتشرّعة أيضاً ؛ لأنّنا إذا حلَّلنا السيرة العقلائية الى مفرداتها وجدنا انّ
الميل العامّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيَّنٍ ـ كالأخذ بالظهور مثلاً ـ يعبّر عن
ميولٍ متشابهةٍ عند عددٍ كثيرٍ من الأفراد تشكِّل بمجموعها ميلاً عاماً ، وحين
نأخذ فرداً من اولئك الأفراد الذين يميلون الى الأخذ بالظهور ـ مثلاً ـ ونلاحظ
سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق ميله يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذا
قرينةً ناقصةً على حجّية الظهور عند المولى ؛ لأنّ من المحتمل أن يكون هذا السكوت
نتيجةً لرضا المولى وموافقته ، وهذا يعني الحجّية.
ومن المحتمل في
نفس الوقت أيضاً أن لا يكون السكوت ناتجاً عن رضا المولى بالأخذ بالظهور ، وإنّما
سكت عن ذلك الفرد ـ بالرغم من أنّه لا يقرّ العمل بالظهور في الأدلّة الشرعية ـ لسببٍ
خاصٍّ ، نظير أن يكون المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على
وفق ميله ولو ردعه ، فتركه وشأنه ، أو أنّ المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد سوف
لن يجري على وفق ميله ، ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون سؤالٍ من الشارع ،
أو أنّ هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي ليحاول الأخذ به وفقاً لميله ...
، الى غير ذلك من الامور التي يمكن أن تفسِّر سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه
قرينةً ناقصةً لا كاملة على رضا المولى.
ولكن إذا اضيف الى
ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه المولى فيقوى احتمال الرضا ؛ لاجتماع قرينتين ،
وهكذا يكبر هذا الاحتمال حتى يؤدّي الى العلم حين يوجد ميل عامّ ويسكت عنه المولى.
الاستنباط
القائم على أساس الدليل
٤
|
|
التعارض بين الأدلّة
التعارض بين
دليلين لفظيّين.
التعارض بين
الدليل اللفظي ودليل آخر.
بعد أن استعرضنا
الأدلّة التي يمكن أن تساهم في عملية الاستنباط بأقسامها الثلاثة يتحتّم علينا أن
ندرس موقف عملية الاستنباط منها إذا وجد بينها تعارض ، كما إذا دلّ دليل على وجوب
شيءٍ ـ مثلاً ـ ودلّ دليل آخر على نفي ذلك الوجوب ، فما هي الوظيفة العامة للفقيه
في هذه الحالة؟
والتعارض على
قسمين : لأنّه يوجد تارةً في نطاق الدليل اللفظي بين كلامين صادرين من المعصوم ،
واخرى بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر استقرائي أو برهاني ، أو بين دليلين من
غير الأدلّة اللفظية.
وسوف نتحدّث عن
كلٍّ من القسمين في فصل :
الفصل الأوّل
[في التعارض بين دليلين لفظيّين]
في حالة التعارض
بين دليلين لفظيّين توجد قواعد نستعرض في ما يلي عدداً منها :
١ ـ من المستحيل
أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كلّ منهما بصورةٍ قطعيةٍ عن نوعٍ من الحكم يختلف عن
الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر ؛ لأنّ التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل
يؤدّي الى وقوع المعصوم في التناقض ، وهو مستحيل.
٢ ـ قد يكون أحد
الكلامين الصادرين من المعصوم صريحاً وقطعياً ، ويدلّ الآخر بظهوره على ما ينافي
المعنى الصريح لذلك الكلام. ومثاله : أن يقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في نصٍّ مثلاً : «يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال صومه»
، ويقول في نصٍّ آخر : «لا ترتمس في الماء وأنت صائم» ، فالنصّ الأول دالّ بصراحةٍ
على إباحة الارتماس للصائم ، والنصّ الثاني يشتمل على صيغة نهي ، وهي تدلّ بظهورها
على الحرمة ؛ لأنّ الحرمة هي أقرب المعاني الى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في
الكراهة مجازاً ، فينشأ التعارض بين صراحة النصّ الأول في الإباحة وظهور النصّ
الثاني في الحرمة ؛ لأنّ الإباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي هذه الحالة يجب الأخذ
بالكلام الصريح القطعي ؛ لأنّه يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي ، فنفسِّر الكلام
الآخر على ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة ؛ لكي ينسجم مع النصّ الصريح
القطعي الدالّ على الإباحة.
وعلى هذا الأساس
يتّبع الفقيه في استنباطه قاعدةً عامة ، وهي الأخذ
بدليل الإباحة
والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدلّ على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهيٍ أو أمر ؛ لأنّ
الصيغة ليست صريحة ودليل الإباحة والرخصة صريح غالباً.
٣ ـ قد يكون موضوع
الحكم الذي يدلّ عليه أحد الكلامين أضيق نطاقاً وأخصّ دائرة من موضوع الحكم الذي
يدلّ عليه الكلام الآخر. ومثاله أن يقال في نصٍّ : «الربا حرام» ، ويقال في نصٍّ
آخر : «الربا بين الوالد وولده مباح» ، فالحرمة التي يدلّ عليها النصّ الأول
موضوعها عامّ ؛ لأنّها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أيّ شخص ، والإباحة في
النصّ الثاني موضوعها خاصّ ؛ لأنّها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصّة ، وفي هذه
الحالة نقدِّم النصِّ الثاني على الأول ؛ لأنّه يعتبر بوصفه أخصَّ موضوعاً من
الأول قرينةً عليه ، بدليل أنّ المتكلِّم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الأول فقال
: «الربا في التعامل مع أيِّ شخصٍ حرام ، ولا بأس به بين الوالد وولده» لأبطل
الخاصّ مفعول العامّ وظهوره في العموم.
وقد عرفنا سابقاً
أنّ القرينة تقدّم على ذي القرينة ، سواء كانت متّصلةً أو منفصلة.
ويسمّى تقديم
الخاصّ على العامّ تخصيصاً للعامّ إذا كان عمومه ثابتاً بأداةٍ من أدوات العموم ،
وتقييداً له إذا كان عمومه ثابتاً بالإطلاق وعدم ذكر القيد ، ويسمّى الخاصّ في
الحالة الاولى «مخصّصاً» وفي الحالة الثانية «مقيّداً».
وعلى هذا الأساس
يتّبع الفقيه في الاستنباط قاعدةً عامة ، وهي الأخذ بالمخصّص والمقيّد وتقديمهما
على العامّ والمطلق.
٤ ـ وقد يكون أحد
الكلامين دالًّا على ثبوت حكمٍ لموضوع ، والكلام الآخر ينفي ذلك في حالةٍ معيّنةٍ
بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال في نصٍّ :
«يجب الحجّ على
المستطيع» ، ويقال في نصٍّ آخر : «المَدين ليس مستطيعاً» ، فالنصّ الأوّل يوجب
الحجّ على موضوعٍ محدّدٍ وهو المستطيع ، والنصّ الثاني ينفي صفة المستطيع عن
المَدين ، فيؤخذ بالثاني ويسمّى «حاكماً» ويسمّى الدليل الأول «محكوماً».
٥ ـ إذا لم يوجد
في النصّين المتعارضين كلام صريح قطعي ، ولا ما يصلح أن يكون قرينةً على تفسير
الآخر ومخصِّصاً له أو مقيِّداً أو حاكماً عليه فلا يجوز العمل بأيِّ واحدٍ من
النصّين المتعارضين ؛ لأنّهما على مستوى واحدٍ ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
الفصل الثاني
في التعارض بين الدليل اللفظي ودليلٍ آخر
وحالة التعارض بين
دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر ، أو دليلين من غير الأدلّة اللفظية لها قواعد
أيضاً نشير إليها ضمن النقاط التالية :
١ ـ الدليل اللفظي
القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل برهاني أو استقرائي قطعي ؛ لأنّ دليلاً من هذا
القبيل إذا عارض نصّاً صريحاً من المعصوم عليهالسلام أدّى ذلك الى تكذيب المعصوم عليهالسلام وتخطئته ، وهو مستحيل. ولهذا يقول علماء الشريعة : إنّ من
المستحيل أن يوجد أيّ تعارضٍ بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلّة العقل القطعية.
وهذه الحقيقة لا
تفرضها العقيدة فحسب ، بل يبرهن عليها الاستقراء في النصوص الشرعية ، ودراسة
المعطيات القطعية للكتاب والسنّة ، فإنّها جميعاً تتّفق مع العقل ولا يوجد فيها ما
يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقاً. وبذلك تتميّز الشريعة الإسلامية عن الأديان
الاخرى المحرّفة التي تعيش الآن على وجه الأرض ، فإنّها زاخرة بالتناقضات التي
تتعارض مع صريح العقل السليم. ولهذا نشأت في المسيحية ـ مثلاً ـ مشكلة الدين
والعقل ، وأنّ الإنسان كيف يُتاح له الاعتقاد بهما معاً على تناقضهما؟ بينما يقوم
العقل في الإسلام بدور الرسول الباطني ، وتحتِّم الشريعة أن يقوم الاعتقاد باصولها
على أساس العقل ، وترفض أخذها على سبيل التقليد.
٢ ـ اذا وجد تعارض
بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ آخر ليس لفظياً ولا قطعياً قدَّمنا الدليل اللفظي ؛ لأنّه
حجّة ، وأمّا الدليل غير اللفظي فهو ليس حجّةً ما دام لا يؤدّي
إلى القطع.
ومثاله : أن يدلّ
النصّ على أنّ الجاهل بأحكام الزكاة ليس معذوراً ، ويدلّ الاستقراء غير القطعي
الذي نقلناه سابقاً عن الفقيه البحراني على القاعدة العامة القائلة بمعذورية
الجاهل في جميع الحالات.
٣ ـ إذا عارض
الدليل اللفظي غير الصريح دليلاً عقلياً قطعياً برهانياً أو استقرائياً قدِّم
العقلي على اللفظي ؛ لأنّ العقلي يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا الدليل
اللفظي غير الصريح فهو إنّما يدلّ بالظهور ، والظهور إنّما يكون حجّةً بحكم الشارع
إذا لم نعلم ببطلانه ، ونحن هنا على ضوء الدليل العقلي القطعي نعلم بأنّ الدليل
اللفظي لم يُرِد المعصوم عليهالسلام منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل ، فلا مجال
للأخذ بالظهور.
٤ ـ إذا تعارض
دليلان من غير الأدلّة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعياً ؛ لأنّ ذلك
يؤدّي الى التناقض ، وإنّما قد يكون أحدهما قطعياً دون الآخر فيؤخذ بالدليل
القطعي.
بحوث علم الاصول
النوع الثاني
|
|
العناصر المشتركة
في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي
١ ـ القاعدة
العمليّة الأساسيّة.
٢ ـ القاعدة
العمليّة الثانويّة.
٣ ـ قاعدة
منجّزيّة العلم الإجمالي.
٤ ـ الاستصحاب.
التعارض بين
الاصول.
أحكام تعارض
النوعين.
تمهيد :
استعرضنا في النوع
الأول العناصر الاصولية المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل ، فدرسنا
أقسام الأدلّة وخصائصها ، وميَّزنا بين الحجّة منها وغيرها. ونريد الآن أن ندرس
العناصر المشتركة في حالةٍ اخرى من الاستنباط ، وهي حالة عدم حصول الفقيه على
دليلٍ يدلّ على الحكم الشرعي وبقاء الحكم مجهولاً لديه ، فيتّجه البحث في هذه
الحالة الى محاولة تحديد الموقف العملي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلاً عن اكتشاف
نفس الحكم.
ومثال ذلك : حالة
الفقيه تجاه التدخين ، فإنّ التدخين نحتمل حرمته شرعاً منذ البدء ، ونتّجه أوّلاً
الى محاولة الحصول على دليلٍ يعيّن حكمه الشرعي ، فلا نجد دليلاً من هذا القبيل ،
ويبقى حكم التدخين مجهولاً لدينا لا ندري أحرمة هو أم إباحة؟ وحينئذٍ نتساءل : ما
هو الموقف العملي الذي يتحتّم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول؟ هل يتحتّم
علينا أن نحتاط فنجتنب عن التدخين ؛ لأنّ من المحتمل أن يكون التدخين حراماً ، أوْ
لا يجب الاحتياط ، بل نكون في حرّيةٍ وسعةٍ ما دمنا لا نعلم بالحرمة؟
هذا هو السؤال
الأساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة ، ويجيب عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها
عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، وهذه الاصول هي موضع درسنا الآن.
١
ـ القاعدة العملية الأساسية
ولكي نعرف القاعدة
العملية الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال : هل يجب الاحتياط تجاه الحكم
المجهول؟ لا بدّ لنا أن نرجع الى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ، ونلاحظ
أنّ هذا المصدر هل يفرض علينا الاحتياط في حالة الشكّ وعدم وجود دليلٍ على الحرمة
، أو يسمح لنا بترك الاحتياط واستعمال الدخان ـ مثلاً ـ ما دامت حرمته لم تثبت
بدليل؟
ولكي نرجع الى
المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لا بدّ لنا أن نحدّده ، فما هو المصدر
الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ويجب أن نستفتيه في موقفنا هذا؟
والجواب : أنّ هذا
المصدر هو العقل ؛ لأنّ الإنسان يدرك بعقله أنّ لله سبحانه حقّ الطاعة على عبيده ،
وعلى أساس حقّ الطاعة هذا يحكم العقل على الإنسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدّي
إليه حقّه. فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة ؛ لأنّ العقل يفرض
علينا ذلك لا لأنّ الشارع أمرنا بإطاعته ، وإلّا لأعدنا السؤال مرّةً اخرى : ولما
ذا نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله؟
وهكذا حتى نصل الى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس ما يدركه من حقّ
الطاعة لله سبحانه على الإنسان.
وإذا كان العقل هو
الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحقّ الطاعة فيجب الرجوع الى العقل في
تحديد الجواب على ذلك السؤال الأساسي : هل يجب علينا الاحتياط تجاه الحكم المجهول
، أوْ لا؟ ويتحتّم علينا عندئذٍ أن
ندرس حقّ الطاعة
الذي يدركه العقل ويقيم على أساسه حكمه بوجوب إطاعة الشارع ، وندرس حدود هذا الحقّ
، فهل هو حقّ لله سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط ـ بمعنى أنّ الله سبحانه
ليس له حقّ الطاعة على الإنسان إلّا في التكاليف التي يعلم بها ، وأمّا التكاليف
التي يشكّ فيها ولا علم له بها فلا يمتدّ إليها حقّ الطاعة ـ أو أنّ حقّ الطاعة
كما يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضاً في نطاق التكاليف المحتملة
، بمعنى أنّ من حقّ الله على الإنسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة ،
فإذا علم بتكليفٍ كان من حقّ الله عليه أن يمتثله ، وإذا احتمل تكليفاً كان من حقّ
الله عليه أن يحتاط ، فيترك ما يحتمل حرمته ، أو يفعل ما يحتمل وجوبه؟
وهكذا يتّضح أنّ
الموقف العملي في حالة عدم وجدان الدليل يجب أن يحدّد على ضوء ما نعرفه من حقّ
الطاعة وحدوده ومدى شموله.
والصحيح في رأينا
هو : أنّ الأصل في كلّ تكليفٍ محتملٍ هو الاحتياط ؛ نتيجةً لشمول حقّ الطاعة
للتكاليف المحتملة ، فإنّ العقل يدرك أنّ للمولى على الإنسان حقَّ الطاعة لا في
التكاليف المعلومة فحسب ، بل في التكاليف المحتملة أيضاً ما لم يثبت بدليلٍ أنّ
المولى لا يهتمّ بالتكليف المحتمل الى الدرجة التي تدعو الى إلزام المكلّف
بالاحتياط.
وهذا يعني أنّ
الأصل بصورةٍ مبدئيةٍ كلّما احتملنا حرمةً أو وجوباً هو أن نحتاط ، فنترك ما نحتمل
حرمته ، ونفعل ما نحتمل وجوبه نتيجةً لامتداد حقّ الطاعة الى التكاليف المحتملة.
ولا نخرج عن هذا الأصل إلّا إذا ثبت بالدليل أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكليف المحتمل
الى الدرجة التي تفرض الاحتياط ويرضى بترك الاحتياط ، فإنّ الإنسان يصبح حينئذٍ
غير مسئولٍ عن التكليف المحتمل.
فالاحتياط إذن
واجب عقلاً في موارد الشكّ ، ويسمّى هذا الوجوب
«أصالة الاحتياط»
أو «أصالة الاشتغال» ، أي اشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل ، ونخرج عن هذا
الأصل حين نعرف أنّ الشارع يرضى بترك الاحتياط.
وهكذا تكون أصالة
الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.
ويخالف في ذلك
كثير من الاصوليّين ؛ إيماناً منهم بأنّ الأصل في المكلّف أن لا يكون مسئولاً عن
التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ، ويرى هؤلاء الأعلام أنّ
العقل هو الذي يحكم بنفي المسئولية ؛ لأنّه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة
المكلّف للتكليف الذي لم يصل إليه ، ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم
«قاعدة قبح العقاب بلا بيان» أو «البراءة العقلية» ، أي أنّ العقل يحكم بأنّ عقاب
المولى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح ، وما دام المكلّف مأموناً من
العقاب فهو غير مسئولٍ ولا يجب عليه الاحتياط.
ولكن لكي ندرك أنّ
العقل هل يحكم بقبح معاقبة المولى تعالى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك ، أوْ
لا؟ يجب أن نعرف حدود حقّ الطاعة الثابت للمولى تعالى ، فإذا كان هذا الحقّ يشمل
التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلّف اهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ـ كما عرفنا ـ فلا
يكون عقاب المولى للمكلّف إذا خالفها قبيحاً ؛ لأنّه بمخالفتها يفرِّط في حقّ
مولاه فيستحقّ العقاب ، فالقاعدة الأولية إذن هي أصالة الاحتياط.
٢
ـ القاعدة العملية الثانوية
وقد انقلبت بحكم
الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية الى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية ، وهي أصالة
البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط. والسبب في هذا الانقلاب : أنّا علمنا عن طريق
البيان الشرعي أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكاليف المحتملة الى الدرجة التي تحتِّم
الاحتياط على المكلّف ، بل يرضى بترك الاحتياط. والدليل على ذلك نصوص شرعية
متعدّدة ، من أهمّها النصّ النبويّ القائل : «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» .
وهكذا أصبحت
القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلاً عن وجوبه ، وأصالة البراءة بدلاً عن
أصالة الاشتغال.
وتشمل هذه القاعدة
العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء ؛ لأنّ
النصّ النبويّ مطلق ، ويسمّى الشكّ في الوجوب ب «الشبهة الوجوبية» ، والشك في
الحرمة ب «الشبهة التحريمية». كما تشمل القاعدة أيضاً الشكّ مهما كان سببه ، ولأجل
هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف ، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح
الحكم العام الذي جعله الشارع ، أو من عدم العلم بوجود موضوع الحكم.
ومثال الأول : شكّنا
في وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين ، فإنّ هذا
__________________
الشكّ ناتج عن عدم
العلم بالجعل الشرعي ، ويسمّى ب «الشبهة الحكمية».
ومثال الثاني :
شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الاستطاعة ، فإنّ هذا الشكّ لم ينشأ من عدم
العلم بالجعل الشرعي ؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع
، وإنّما نشأ من عدم العلم بتحقّق موضوع الحكم ، وتسمّى الشبهة «موضوعية».
٣
ـ قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي
تمهيد :
قد تعلم أنّ أخاك
الأكبر قد سافر الى مكّة ، وقد تشكّ في سفره ، لكنّك تعلم على أيِّ حالٍ أنّ أحد
أخويك ـ الأكبر أو الأصغر ـ قد سافر فعلاً الى مكّة ، وقد تشكّ في سفرهما معاً ولا
تدري هل سافر واحد منهما الى مكّة ، أوْ لا؟
فهذه حالات ثلاث ،
ويطلق على الحالة الاولى اسم «العلم التفصيلي» ؛ لأنّك في الحالة الاولى تعلم أنّ
أخاك الأكبر قد سافر الى مكّة ، وليس لديك في هذه الحقيقة أيّ تردّدٍ أو غموض ،
فلهذا كان العلم تفصيلياً.
ويطلق على الحالة
الثانية اسم «العلم الإجمالي» ؛ لأنّك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين :
أحدهما عنصر الوضوح ، والآخر عنصر الخفاء ، فعنصر الوضوح يتمثّل في علمك بأنّ أحد
أخويك قد سافر فعلاً ، فأنت لا تشكّ في هذه الحقيقة ، وعنصر الخفاء والغموض يتمثّل
في شكِّك وتردّدك في تعيين هذا الأخ ؛ لأنّك لا تدري أنّ المسافر هل هو أخوك
الأكبر أو الأصغر؟
ولهذا تسمّى هذه
الحالة ب «العلم الإجمالي» ، فهي علم لأنّك لا تشكّ في سفر أحد أخويك ، وهي إجمال
وشكّ لأنّك لا تدري أيّ أخويك قد سافر. ويسمّى كلّ من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر
طرفاً للعلم الإجمالي ؛ لأنّك تعلم أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين قد وقع بالفعل.
وأفضل صيغةٍ
لغويةٍ تمثّل هيكل العلم الإجمالي ومحتواه النفسي بكلا عنصريه هي : «إمّا ، وإمّا»
، إذ تقول في المثال المتقدّم : «سافر إمّا أخي الأكبر وإمّا أخي الأصغر» فإنّ
جانب الإثبات في هذه الصيغة يمثّل عنصر
الوضوح والعلم ،
وجانب التردّد الذي تصوِّره كلمة «إمّا» يمثّل عنصر الخفاء والشكّ ، وكلّما أمكن
استخدام صيغةٍ من هذا القبيل دلّ ذلك على وجود علمٍ إجماليٍّ في نفوسنا.
ويطلق على الحالة الثالثة
اسم «الشكّ الابتدائي» أو «البدوي» أو «الساذج» ، وهو شكّ محض غير ممتزجٍ بأيِّ
لونٍ من العلم ، ويسمّى بالشكّ الابتدائي أو البدوي تمييزاً له عن الشكّ في طرف
العلم الإجمالي ؛ لأنّ الشكّ في طرف العلم الإجمالي يوجد نتيجةً للعلم نفسه ، فأنت
تشكّ في أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر أو أخوك الأصغر؟ نتيجةً لعلمك بأنّ أحدهما
لا على التعيين قد سافر حتماً ، وأمّا الشكّ في الحالة الثالثة فيوجد بصورةٍ
ابتدائيةٍ دون علمٍ مسبق.
وهذه الحالات
الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي ، فوجوب صلاة الصبح معلوم تفصيلاً ، ووجوب
صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكّاً ناتجاً عن العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو
الجمعة في ذلك اليوم ، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترنٍ بالعلم
الإجمالي. وهذه الأمثلة كلّها من الشبهة الحكمية.
وأمّا أمثلة
الحالات الثلاث من الشبهة الموضوعية فيمكن توضيحها في «الماء» ، فأنت إذا رأيت
قطرةً من دمٍ تقع في كأسٍ من ماءٍ تعلم علماً تفصيلياً بنجاسة ذلك الماء ، وأمّا
إذا رأيت القطرة تقع في أحد كأسين ولم تستطع أن تميِّز الكأس الذي وقعت فيه بالضبط
فينشأ لديك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين ، ويصبح كلّ واحدٍ منهما طرفاً للعلم
الإجمالي ، وقد لا تكون متأكّداً من أنّ هناك قطرة دمٍ لا في هذا الكأس ولا في ذاك
، فيكون الشكّ في النجاسة عندئذٍ شكّاً ابتدائياً ساذجاً.
ونحن في حديثنا عن
القاعدة العملية الثانوية التي قلّبت القاعدة العملية
الأساسية كنّا
نتحدّث عن الحالة الثالثة ، أي حالة الشكّ الساذج الذي لم يقترن بالعلم الإجمالي.
والآن ندرس حالة الشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، أي الشكّ في الحالة الثانية من
الحالات الثلاث السابقة ، وهذا يعني أنّنا درسنا الشكّ بصورته الساذجة وندرسه الآن
بعد أن نضيف إليه عنصراً جديداً وهو العلم الإجمالي ، فهل تجري فيه القاعدة
العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشكّ الساذج ، أوْ لا؟
منجّزية العلم الإجمالي
:
وعلى ضوء ما سبق
يمكننا تحليل العلم الإجمالي الى علمٍ بأحد الأمرين وشكٍّ في هذا وشكٍّ في ذاك.
ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الأمرين «صلاة الظهر أو صلاة الجمعة» ، ونشكّ في
وجوب الظهر كما نشكّ في وجوب الجمعة ، والعلم بوجوب أحد الأمرين ـ بوصفه علماً ـ يشمله
مبدأ حجّية العلم الذي درسناه في بحثٍ سابق ، فلا يسمح لنا العقل لأجل ذلك بترك
الأمرين معاً : الظهر والجمعة ؛ لأنّنا لو تركناهما معاً لخالفنا علمنا بوجوب أحد
الأمرين ، والعلم حجّة عقلاً في جميع الأحوال سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً.
ويؤمن الرأي
الاصولي السائد في مورد العلم الإجمالي لا بثبوت الحجّية للعلم بأحد الأمرين فحسب
، بل يؤمن أيضاً بعدم إمكان انتزاع هذه الحجّية منه واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته
بترك الأمرين معاً ، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجّية من العلم التفصيلي
ويرخّص في مخالفته وفقاً للمبدإ الاصولي ـ المتقدّم الذكر في بحث حجّية القطع ـ القائل باستحالة صدور الردع من
__________________
الشارع عن القطع.
وأمّا كلّ واحدٍ
من طرفي العلم الإجمالي ـ أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده ـ فهو تكليف
مشكوك وليس معلوماً. وقد يبدو لأول وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية
الثانوية ، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة ؛ لأنّ كلّ
واحدٍ من الطرفين تكليف مشكوك.
ولكنّ الرأي
السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم
الإجمالي ؛ بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي الى براءة الذمّة من الظهر
والجمعة وجواز تركهما معاً ، وهذا يتعارض مع حجّية العلم بوجوب أحد الأمرين ؛ لأنّ
حجية هذا العلم تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير. فلو حكم الشارع
بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم ، وقد
مرَّ بنا أنّ الرأي الاصولي السائد يؤمن باستحالة ترخيص الشارع في مخالفة العلم
ولو كان إجمالياً وعدم إمكان انتزاع الحجّية منه.
وشمول القاعدة
لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ الى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير
ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه
على الآخر؟ وسوف نجد أنّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر ؛
لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.
وهكذا ينتج عن هذا
الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ
من الطرفين ، ويعني هذا أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي يظلّ مندرجاً ضمن نطاق
القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن
شموله.
وعلى هذا الأساس
ندرك الفرق بين الشكّ الابتدائي والشكّ الناتج عن
العلم الإجمالي ،
فالأول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة ، والثاني يدخل في نطاق
القاعدة الأولية وهي أصالة الاحتياط.
وفي ضوء ذلك نعرف
أنّ الواجب علينا عقلاً في موارد العلم الإجمالي هو الإتيان بكلا الطرفين ، أي
الظهر والجمعة في المثال السابق ؛ لأنّ كلّاً منهما داخل في نطاق أصالة الاحتياط.
ويطلق في علم الاصول على الإتيان بالطرفين معاً اسم «الموافقة القطعية» ؛ لأنّ
المكلّف عند إتيانه بهما معاً يقطع بأنّه وافق تكليف المولى ، كما يطلق على ترك
الطرفين معاً اسم «المخالفة القطعية» ، وأمّا الإتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق
عليهما اسم «الموافقة الاحتمالية» و «المخالفة الاحتمالية» ؛ لأنّ المكلّف في هذه
الحالة يحتمل أنّه وافق تكليف المولى ، ويحتمل أنّه خالفه.
انحلال العلم الإجمالي :
إذا وجدتَ كأسين
من ماءٍ قد يكون كلاهما نجساً وقد يكون أحدهما نجساً فقط ، ولكنّك تعلم ـ على أيِّ
حالٍ ـ بأنّهما ليسا طاهرين معاً ، فينشأ في نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين
لا على سبيل التعيين. فإذا اتّفق لك بعد ذلك أن اكتشفت نجاسةً في أحد الكأسين
وعلمت أنّ هذا الكأس المعيَّن نجس فسوف يزول في رأي كثيرٍ من الاصوليين علمك
الإجمالي بسبب هذا العلم التفصيلي ؛ لأنّك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس
المعيَّن لا تعلم إجمالاً بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، بل تعلم
بنجاسة ذلك الكأس المعيَّن علماً تفصيلياً وتشكّ في نجاسة الآخر. ولأجل هذا لا
تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبّر عن العلم الإجمالي «إمّا ، وإمّا» ،
فلا يمكنك أن تقول : «إمّا هذا نجس أو ذاك» ، بل هذا نجس جزماً ، وذاك لا تدري
بنجاسته.
ويعبّر عن ذلك في
العرف الاصولي ب «انحلال العلم الإجمالي الى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ
البدوي في الآخر» ؛ لأنّ نجاسة ذلك الكأس المعيَّن أصبحت معلومةً بالتفصيل ،
ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكةً شكّاً ابتدائياً بعد أن زال العلم الإجمالي ، فيأخذ
العلم التفصيلي مفعوله من الحجّية وتجري بالنسبة الى الشكّ الابتدائي أصالة
البراءة ، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشكّ الابتدائي.
موارد التردّد :
عرفنا أنّ الشكّ
إذا كان ابتدائياً حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة ،
وإذا كان مقترناً بالعلم الإجمالي حكمت فيه القاعدة العملية الأولية.
وقد يخفى أحياناً
نوع الشكّ فلا يعلم أهو من الشكّ الابتدائي أو من الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ،
أو الناتج عنه بتعبيرٍ آخر؟ ومن هذا القبيل مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
كما يسمّيها الاصوليون ، وهي : أن يتعلّق وجوب شرعي بعمليةٍ مركّبةٍ من أجزاءٍ
كالصلاة ، ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاءٍ معيّنةٍ ونشكّ في اشتمالها على
جزءٍ عاشرٍ ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي ، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدِّد
الموقف العملي فيتساءل : هل يجب الاحتياط على المكلّف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها
هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب لكي يكون مؤدّياً للواجب على كلّ
تقدير ، أو يكفيه الإتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول
وجوبه؟
وللُاصوليّين
جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثِّل كلّ منهما اتّجاهاً في تفسير الموقف : فأحد
الاتّجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقاً للقاعدة العملية
الأولية ؛ لأنّ
الشكّ في العاشر مقترن بالعلم الإجمالي ، وهذا العلم الإجمالي هو علم المكلّف بأنّ
الشارع أوجب مركّباً ما ، ولا يدري أهو المركّب من تسعةٍ أو المركّب من عشرة ، أي
من تلك التسعة بإضافة واحد؟
والاتّجاه الآخر
يطبّق على الشكّ في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكّاً ابتدائياً
غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ ذلك العلم الإجمالي الذي يزعمه أصحاب الاتّجاه
الأول منحلّ بعلمٍ تفصيلي ، وهو علم المكلّف بوجوب التسعة على أيِّ حال ؛ لأنّها
واجبة سواء كان معها جزء عاشر أوْ لا ، فهذا العلم التفصيلي يؤدّي الى انحلال ذلك
العلم الإجمالي ، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبِّر عن العلم
الإجمالي ، فلا يمكن القول بأنّا نعلم إمّا بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة ، بل نحن
نعلم بوجوب التسعة على أيِّ حالٍ ونشكّ في وجوب العاشر. وهكذا يصبح الشكّ في وجوب
العاشر شكّاً ابتدائياً بعد انحلال العلم الإجمالي ، فتجري البراءة.
والصحيح هو القول
بالبراءة عن غير الأجزاء المعلومة من الأشياء التي يشكّ في دخولها ضمن نطاق الواجب
تبعاً لتفصيلاتٍ لا مجال للتوسّع فيها.
٤
ـ الاستصحاب
على ضوء ما سبق
نعرف أنّ أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم
الإجمالي.
ويوجد في الشريعة
أصل آخر نظير أصل البراءة ، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم «الاستصحاب».
ومعنى الاستصحاب :
حكم الشارع على المكلّف بالالتزام عملياً بكلِّ شيءٍ كان على يقينٍ منه ثمّ شكّ في
بقائه. ومثاله : أنّا على يقينٍ من أنّ الماء بطبيعته طاهر ، فإذا أصابه شيء
متنجِّس نشكّ في بقاء طهارته ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الماء هل تنجّس بإصابة
المتنجِّس له ، أوْ لا؟
وكذلك نحن على
يقينٍ ـ مثلاً ـ بالطهارة بعد الوضوء ونشكّ في بقاء هذه الطهارة إذا حصل الإغماء ؛
لأنّنا لا نعلم أنّ الإغماء هل ينقض الطهارة ، أوْ لا؟
والاستصحاب يحكم
على المكلّف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقينٍ بها ، وهي
طهارة الماء في
المثال الأول ، والطهارة من الحدث في المثال الثاني.
ومعنى الالتزام
عملياً بالحالة السابقة : ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية ، فإذا
كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرّف فعلاً كما إذا كانت الطهارة باقية ، وإذا
كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرّف فعلاً كما إذا كان الوجوب باقياً.
والدليل على
الاستصحاب : هو قول الإمام الصادق عليهالسلام : «لا ينقض اليقين
أبداً بالشك» .
ونستخلص من ذلك :
أنّ كلّ حالةٍ من الشكّ البدوي يتوفّر فيها القطع بشيءٍ أوّلاً والشكّ في بقائه
ثانياً يجري فيها الاستصحاب.
الحالة السابقة
المتيقَّنة :
عرفنا أنّ وجود
حالةٍ سابقةٍ متيقَّنةٍ شرط أساسي لجريان الاستصحاب ، والحالة السابقة قد تكون
حكماً عاماً نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعي ، ولا ندري حدود هذا
الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده في عالمه التشريعي ، فتكون الشبهة حكمية ،
ويجري الاستصحاب في نفس الحكم.
ومثاله : حكم
الشارع بطهارة الماء ، فنحن نعلم بهذا الحكم العام في الشريعة ونشكّ في حدوده ،
ولا ندري هل يمتدّ الحكم بالطهارة بعد إصابة المتنجّس للماء أيضاً ، أوْ لا؟
فنستصحب طهارة الماء.
وقد تكون الحالة
السابقة شيئاً من أشياء العالم التكويني نعلم بوجوده سابقاً ولا ندري باستمراره
وهو موضوع للحكم الشرعي ، فتكون الشبهة موضوعيةً ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم.
ومثاله : أن نكون
على يقينٍ بأنّ عامراً عادل وبالتالي يجوز الائتمام به ، ثمّ نشكّ في بقاء عدالته
، فنستصحب العدالة فيه بوصفها موضوعاً لجواز الائتمام.
ومثال آخر : أن
يكون المكلّف على يقينٍ بأنّ الثوب نجس ولم يغسل
__________________
بالماء ولا ندري
هل غسل بالماء بعد ذلك وزالت نجاسته ، أوْ لا؟ فنستصحب عدم غسله بالماء ، وبالتالي
نثبت بقاء النجاسة.
وهكذا نعرف أنّ
الحالة السابقة التي نستصحبها قد تنتسب الى العالم التشريعي ، وذلك إذا كنّا على
يقينٍ بحكمٍ عامٍّ ونشكّ في حدوده المفروضة له في جعله الشرعي ، وتعتبر الشبهة
شبهةً حكمية ، ويسمّى الاستصحاب ب «الاستصحاب الحكمي».
وقد تنتسب الحالة
السابقة التي نستصحبها الى العالم التكويني ، وذلك إذا كنّا على يقينٍ بوجود موضوع
الحكم الشرعي ونشكّ في بقائه ، وتعتبر الشبهة شبهةً موضوعية ، ويسمّى الاستصحاب ب «الاستصحاب
الموضوعي».
ويوجد في علم
الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، ويخصّه بالشبهة الموضوعية
.
الشكّ في البقاء :
والشكّ في البقاء
هو الشرط الأساسي الآخر لجريان الاستصحاب.
ويقسِّم الاصوليون
الشكّ في البقاء الى قسمين تبعاً لطبيعة الحالة السابقة التي نشك في بقائها ؛ لأنّ
الحالة السابقة قد تكون قابلةً بطبيعتها للامتداد زمانياً ، وإنّما نشكّ في بقائها
نتيجةً لاحتمال وجود عاملٍ خارجيٍّ أدّى الى ارتفاعها.
ومثال ذلك : طهارة
الماء ، فإنّ طهارة الماء تستمرّ بطبيعتها وتمتدّ إذا لم يتدخّل عامل خارجي ،
وإنّما نشكّ في بقائها لدخول عاملٍ خارجيٍّ في الموقف ،
__________________
وهو إصابة
المتنجِّس للماء.
وكذلك نجاسة الثوب
، فإنّ الثوب إذا تنجّس تبقى نجاسته وتمتدّ ما لم يوجد عامل خارجي وهو الغسل ،
ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في الرافع».
وقد تكون الحالة
السابقة غير قادرةٍ على الامتداد زمانياً ، بل تنتهي بطبيعتها في وقتٍ معيَّنٍ
ونشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عاملٍ خارجيٍّ في
الموقف.
ومثاله : نهار شهر
رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شكّ الصائم في بقاء النهار ، فإنّ النهار ينتهي
بطبيعته ولا يمكن أن يمتدّ زمانياً ، فالشكّ في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود
عاملٍ خارجي ، وإنّما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته
وقدرته على البقاء. ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ
في المقتضي» ؛ لأنّ الشكّ في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.
ويوجد في علم
الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة من نوع
الشكّ في المقتضي ويخصّه بحالات الشكّ في الرافع .
وحدة الموضوع في
الاستصحاب :
ويتّفق الاصوليون
على أنّ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع ،
__________________
ويَعنُون بذلك أن
يكون الشكّ منصبّاً على نفس الحالة التي كنّا على يقينٍ بها ، فلا يجري الاستصحاب.
ـ مثلاً ـ إذا كنّا على يقينٍ بنجاسة الماء ثمّ صار بخاراً وشككنا في نجاسة هذا
البخار ؛ لأنّ ما كنّا على يقينٍ بنجاسته هو الماء وما نشكّ فعلاً في نجاسته هو
البخار ، والبخار غير الماء ، فلم يكن مصبّ اليقين والشكّ واحداً.
التعارض بين الاصول
ويواجهنا بعد
دراسة الاصول العملية السؤال التالي : ما ذا يصنع الفقيه إذا اختلف حكم الاستصحاب
عن حكم أصل البراءة؟
ومثاله : أنّا
نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتّى غروب الشمس ، ونشكّ في
بقاء الوجوب بعد الغروب الى غياب الحمرة ، ففي هذه الحالة تتوفّر أركان الاستصحاب
من اليقين بالوجوب أوّلاً ، والشكّ في بقائه ثانياً ، وبحكم الاستصحاب يتعيّن
الالتزام عملياً ببقاء الوجوب.
ومن ناحيةٍ اخرى
نلاحظ أنّ الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة ؛ لأنّها شبهة بدوية في التكليف غير
مقترنةٍ بالعلم الإجمالي ، وأصل البراءة ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنّا الوجوب
عملياً ، فبأيّ الأصلين نأخذ؟
والجواب : أنّا
نأخذ بالاستصحاب ونقدِّمه على أصل البراءة ، وهذا متّفق عليه بين الاصوليّين ،
والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك : أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراءة ؛
لأنّ دليل أصل البراءة هو النصّ النبويّ القائل : «رفع ما لا يعلمون» ، وموضوعه كلّ ما لا يعلم ، ودليل الاستصحاب هو النصّ
القائل : «لا ينقض اليقين أبداً بالشك» ، وبالتدقيق في النصّين نلاحظ أنّ دليل الاستصحاب يلغي
الشكّ ويفترض كأنَّ اليقين باقٍ على حاله ، فيرفع بذلك
__________________
موضوع أصل
البراءة.
ففي مثال وجوب
الصوم لا يمكن أن نستند الى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه
وجوباً مشكوكاً ؛ لأنّ الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوماً ، فيكون دليل الاستصحاب
حاكماً على دليل البراءة ؛ لأنّه ينفي موضوع البراءة.
أحكام تعارض النوعين
استعرضنا حتّى
الآن نوعين من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط :
أحدهما : العناصر
المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل.
والآخر : العناصر
المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي.
وقد عرفنا أنّ
العناصر من النوع الأول تشكِّل أدلّةً على تعيين الحكم الشرعي ، والعناصر من النوع
الثاني تشكِّل قواعد علميةً لتعيين الموقف العملي تجاه الحكم المجهول.
ووجود نوعين من
العناصر على هذا الشكل يدعو الى البحث عن موقف الفقيه عند افتراض وقوع التعارض
بينهما ، كما إذا دلّ دليل على أنّ الحكم الشرعي هو الوجوب ـ مثلاً ـ وكان أصل
البراءة أو الاستصحاب يقتضي الرخصة.
والحقيقة : أنّ
الدليل إذا كان قطعياً فالتعارض غير متصورٍ عقلاً بينه وبين الأصل ؛ لأنّ الدليل
القطعي على الوجوب ـ مثلاً ـ يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي ، ومع العلم بالحكم
الشرعي لا مجال للاستناد الى أيِّ قاعدةٍ عملية ؛ لأنّ القواعد العملية إنّما تجري
في ظرف الشكّ ، إذ قد عرفنا سابقاً أنّ أصل البراءة موضوعه كلّ ما لا يعلم ،
والاستصحاب موضوعه أن نشكّ في بقاء ما كنّا على يقينٍ منه ، فإذا كان الدليل
قطعياً لم يبقَ موضوع لهذه الاصول والقواعد العملية.
وإنّما يمكن
افتراض لونٍ من التعارض بين الدليل والأصل إذا لم يكن الدليل قطعياً ، كما إذا دلّ
خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة ـ وخبر الثقة كما مرّ بنا دليل ظنّي حكم الشارع
بوجوب اتّباعه واتّخاذه دليلاً ـ وكان أصل البراءة من
ناحيةٍ اخرى يوسّع
ويرخّص.
ومثاله : خبر
الثقة الدالّ على حرمة الارتماس على الصائم ، فإنّ هذه الحرمة إذا لاحظناها من
ناحية الخبر فهي حكم شرعيّ قد قام عليه الدليل الظنّي الحجّة ، وإذا لاحظناها
بوصفها تكليفاً غير معلومٍ نجد أنّ دليل البراءة (رفع ما لا يعلمون) يشملها ، فهل
يحدِّد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظنّي أو على أساس الأصل
العملي؟ ويسمِّي الاصوليون الدليل الظنّي بالأمارة ، ويطلقون على هذه الحالة اسم
التعارض بين الأمارات والاصول.
ولا شكّ في هذه
الحالة لدى علماء الاصول في تقديم خبر الثقة وما إليه من الأدلّة الظنّية المعتبرة
على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية ؛ لأنّ الدليل الظنّي الذي حكم الشارع
بحجّيته يؤدّي ـ بحكم الشارع هذا ـ دور الدليل القطعي ، فكما أنّ الدليل القطعي
ينفي موضوع الأصل ولا يُبقي مجالاً لأيِّ قاعدةٍ عمليةٍ فكذلك الدليل الظنّي الذي
أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتّخاذه دليلاً ، ولهذا يقال عادةً : إنّ
الأمارة حاكمة على الاصول العملية.
كلمة الختام :
هذا آخر ما أردنا
استعراضه من بحوثٍ ضمن الحدود التي وضعناها لهذه الحلقة. وبذلك تكتمل في ذهن
الطالب تصورات علمية عامة عن العناصر المشتركة بالدرجة التي تؤهِّله لدراستها على
مستوى أرفع في الحلقة الآتية.
والحمد لله أوّلاً
وآخراً ، ومنه نستمدّ التوفيق لما يحبّ ويرضى ، إنّه وليّ الإحسان ، وهو على كلِّ
شيءٍ قدير.
فهرس المصادر
١ ـ أجود
التقريرات ، للسيّد الخوئي ، تقرير بحث المحقّق النائيني ، ط مكتبة المصطفوي ـ قم.
٢ ـ إحياء علوم
الدين ، أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي ، دار القلم ـ بيروت.
٣ ـ اصول
الرياضيات ، برتراند رسل ، ترجمة الدكتور محمّد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد
الأهواني.
٤ ـ أعيان الشيعة
، السيّد محسن الأمين ، دار التعارف ـ بيروت.
٥ ـ الانتصار ،
للسيّد المرتضى ، مؤسسة النشر الإسلامي.
٦ ـ إيضاح
الاشتباه ، العلّامة الحلّي ، مؤسسة النشر الإسلامي.
٧ ـ بحوث في علم
الاصول ، المؤلّف الشهيد ، ط مكتب الإعلام الإسلامي.
٨ ـ بشارة المصطفى
، أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبري ، منشورات مطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف.
٩ ـ تأريخ بغداد ،
أحمد بن علي الخطيب ، دار الفكر ـ بيروت.
١٠ ـ تأسيس الشيعة
، السيّد حسن الصدر ، منشورات الأعلمي ـ طهران.
١١ ـ تهذيب
التهذيب ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار الفكر ـ بيروت.
١٢ ـ تهذيب الكمال
، أبو الحجّاج يوسف المزي ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
١٣ ـ الحدائق
الناضرة ، المحدّث البحراني ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
١٤ ـ الخصال ،
الشيخ الصدوق ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
١٥ ـ خاتمة مستدرك
الوسائل ، المحدّث النوري ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
١٦ ـ الدراسات في
علم الاصول ، تقريرات أبحاث السيّد الخوئي للسيّد علي الشاهرودي.
١٧ ـ درر الفوائد
، الشيخ عبد الكريم الحائري ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
١٨ ـ الدرر
النجفيّة ، المحدّث البحراني ، ط / الحجرية من منشورات مؤسسة آل البيت.
١٩ ـ الذريعة إلى
اصول الشريعة ، السيّد المرتضى ، من منشورات جامعة طهران.
٢٠ ـ رجال النجاشي
، أحمد بن علي النجاشي ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
٢١ ـ روضات
الجنّات ، ميرزا محمّد باقر الخوانساري ، ط مكتبة إسماعيليان ـ قم.
٢٢ ـ الروضة
البهيّة ، الشهيد الثاني ، تحقيق السيّد الكلانتر ، ط انتشارات داوري.
٢٣ ـ السرائر ،
ابن إدريس الحلّي ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
٢٤ ـ عدّة الاصول
، شيخ الطائفة الطوسي ، ط مؤسّسة آل البيت عليهمالسلام.
٢٥ ـ علل الشرائع
، الشيخ الصدوق ، مكتبة الداوري.
٢٦ ـ الغنية (ضمن
الجوامع الفقهيّة) ، ابن زهرة ، الطبعة الحجرية من منشورات مكتبة السيّد المرعشي.
٢٧ ـ فرائد الاصول
، الشيخ مرتضى الأنصاري ، ط مجمع الفكر الإسلامي.
٢٨ ـ الفصول
الغرويّة ، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني ، ط الحجرية من منشورات دار إحياء العلوم
الإسلاميّة.
٢٩ ـ فهرست منتجب
الدين ، الشيخ منتجب الدين علي بن بابويه الرازي ، تحقيق السيّد عبد العزيز
الطباطبائي ، نشر مجمع الذخائر الإسلامية ـ قم.
٣٠ ـ فوائد الاصول
، الشيخ محمّد علي الكاظمي ، تقريرات أبحاث المحقّق النائيني ، ط مؤسسة النشر
الإسلامي.
٣١ ـ الفوائد
الحائرية ، الوحيد البهبهاني ، ط مجمع الفكر الإسلامي.
٣٢ ـ الفوائد
المدنيّة ، المحدّث الاسترابادي ، ط الحجرية من منشورات دار النشر لأهل البيت عليهمالسلام.
٣٣ ـ القواعد
والفوائد ، الشهيد الأوّل ، مكتبة المفيد ـ قم.
٣٤ ـ كشف المحجّة
لثمرة المهجة ، ابن طاووس ، منشورات المطبعة الحيدريّة ـ النجف الأشرف.
٣٥ ـ كفاية الاصول
، المحقّق الخراساني ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
٣٦ ـ المبسوط ،
شيخ الطائفة الطوسي ، ط المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة.
٣٧ ـ مصابيح
الاصول ، تقريرات أبحاث السيّد الخوئي ، عزّ الدين بحر العلوم ، ط النجف الأشرف.
٣٨ ـ مصباح الاصول
، السيّد الخوئي ، ط مطبعة النجف.
٣٩ ـ معارج الاصول
، المحقّق الحلّي ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٤٠ ـ معالم الدين
، الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
٤١ ـ مفاتيح
الاصول ، السيّد محمّد المجاهد ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٤٢ ـ مقابس
الأنوار ، الشيخ أسد الله التستري ، من منشورات مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٤٣ ـ مناقب أبي
حنيفة ، المرفق بن أحمد المكّي ، دار الكتاب العربي ـ بيروت.
٤٤ ـ نهاية الاصول
، العلّامة الحلّي ، مخطوط مكتبة السيّد الگلپايگاني.
٤٥ ـ نهاية
الأفكار ، المحقّق الآغا ضياء العراقي ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
٤٦ ـ هداية
المسترشدين ، محمّد تقي الأصفهاني ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٤٧ ـ الوافية ،
الفاضل التوني ، ط مجمع الفكر الإسلامي.
٤٨ ـ وسائل الشيعة
، السيّد محسن بن حسن الأعرجي الكاظمي ، ط مصطفوي ـ قم.
٤٩ ـ وسائل الشيعة
إلى تحصيل مسائل الشريعة ، المحدّث الحرّ العاملي ، ط مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
٥٠ ـ وفيات
الأعيان ، أحمد بن محمّد بن خلّكان ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
فهرس الموضوعات
كلمة المؤلّف :............................................................ ١٥
المدخل إلى علم الاصول
(١٧
ـ ١٢٦)
تعريف علم الاصول........................................................ ١٩
تمهيد :.................................................................. ١٩
تعريف علم الاصول :..................................................... ٢٢
موضوع علم الاصول :..................................................... ٢٧
علم الاصول منطق الفقه :................................................. ٢٨
أهمّية علم الاصول في عملية الاستنباط :..................................... ٢٩
الاصول والفقه يمثّلان النظرية والتطبيق :...................................... ٣٠
التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي
:.................................. ٣٤
نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم
الاصول :............................. ٣٦
جواز عمليّة الاستنباط....................................................... ٣٧
الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الاصول.................................... ٤٥
البيان الشرعي............................................................ ٤٨
الإدراك العقلي............................................................ ٤٩
الاتّجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي :................................... ٥١
١ ـ المعركة ضدّ استغلال العقل :.......................................... ٥٢
القول بالتصويب :..................................................... ٥٥
ردّ الفعل المعاكس في النطاق السنّي :...................................... ٥٧
٢ ـ المعركة إلى صفّ العقل :............................................. ٥٩
تأريخ علم الاصول......................................................... ٦٣
مولد علم الاصول :....................................................... ٦٣
الحاجةُ إلى علم الاصول تأريخيةٌ :............................................ ٦٩
التصنيف في علم الاصول :................................................ ٧٢
تطوّر علم النظرية وعلم التطبيق على يد الشيخ
الطوسي :...................... ٧٥
الوقوف النسبي للعلم :.................................................... ٨٢
ابن إدريس يصف فترة التوقّف :......................................... ٨٩
تجدّد الحياة والحركة في البحث العلمي :...................................... ٩٠
[من] صاحب السرائر إلى صاحب المعالم :................................... ٩٢
الصدمة التي مُنِيَ بها علم الاصول :.......................................... ٩٨
الجذور المزعومة للحركة الأخبارية :....................................... ١٠٢
اتّجاه التأليف في تلك الفترة :............................................. ١٠٥
البحث الاصولي في تلك الفترة :........................................ ١٠٦
انتصار علم الاصول وظهور مدرسةٍ جديدة :................................ ١٠٧
نصّ يصوِّر الصراع مع الحركة الأخبارية :................................. ١٠٩
استخلاص :............................................................ ١١٠
مصادر الإلهام للفكر الاصولي............................................. ١١٣
عطاء الفكر الاصولي وإبداعه :............................................ ١١٨
الحكم الشرعي وتقسيمه.................................................. ١٢٣
تقسيم الحكم إلى تكليفيٍّ ووضعي :........................................ ١٢٤
بحوث علم الاصول
(١٢٧
ـ ٢٤٤)
تنويع البحث............................................................. ١٢٩
العنصر المشترك بين النوعين :............................................. ١٣٠
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل
(١٣٣
ـ ٢٢٠)
تمهيد.................................................................... ١٣٥
تقسيم البحث :........................................................ ١٣٦
الدليل اللفظي
(١٣٩
ـ ١٧٨)
تمهيد.................................................................... ١٤١
ما هو الوضع والعلاقة اللغوية؟ :........................................... ١٤١
ما هو الاستعمال؟ :..................................................... ١٤٦
الحقيقة والمجاز :......................................................... ١٤٧
قد ينقلب المجاز حقيقة :................................................. ١٤٨
تصنيف اللغة :......................................................... ١٤٨
هيئة الجملة :........................................................... ١٥١
الرابطة التامة والرابطة الناقصة :............................................ ١٥١
المدلول اللغوي والمدلول النفسي :.......................................... ١٥٣
الجملة الخبرية والجملة الإنشائية :.......................................... ١٥٦
الظهور اللفظي :........................................................ ١٥٧
تقسيم البحث :........................................................ ١٥٨
الفصل الأول : في تحديد ظهور الدليل اللفظي............................. ١٥٩
١ ـ صيغة الأمر :........................................................ ١٦٢
٢ ـ صيغة النهي :....................................................... ١٦٤
٣ ـ الإطلاق :.......................................................... ١٦٦
٤ ـ أدوات العموم :...................................................... ١٦٦
٥ ـ أداة الشرط :........................................................ ١٦٨
الفصل الثاني : في حجّية الظهور........................................... ١٧١
ما هو المطلوب في التفسير؟ :............................................. ١٧١
ظهور حال المتكلّم :..................................................... ١٧٢
حجّية الظهور :......................................................... ١٧٣
تطبيقات حجية الظهور على الأدلّة اللفظية
:................................ ١٧٤
القرينة المتّصلة والمنفصلة :................................................. ١٧٧
الدليل البرهاني
(١٧٩ ـ ١٩٨)
تمهيد.................................................................... ١٨١
دراسة العلاقات العقلية :................................................. ١٨١
الطريقة القياسية :....................................................... ١٨٣
تقسيم البحث :........................................................ ١٨٤
الفصل الأول : في العلاقات القائمة بين نفس الأحكام...................... ١٨٥
علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة :....................................... ١٨٥
هل تستلزم حرمة العقد فساده؟ :.......................................... ١٨٧
الفصل الثاني : في العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه................... ١٨٩
الجعل والفعلية :......................................................... ١٨٩
موضوع الحكم :......................................................... ١٩٠
الفصل الثالث : العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه........................ ١٩٢
الفصل الرابع : العلاقات القائمة بين الحكم والمقدِّمات..................... ١٩٤
الفصل الخامس : في العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد.............. ١٩٧
الدليل الاستقرائي
(١٩٩
ـ ٢١٢)
تمهيد.................................................................... ٢٠١
الفصل الأول : الاستقراء في الأحكام...................................... ٢٠٣
القياس خطوة من الاستقراء :.............................................. ٢٠٥
الفصل الثاني : الدليل الاستقرائي غير المباشر.............................. ٢٠٧
الإجماع والشهرة :....................................................... ٢٠٨
الخبر :................................................................. ٢٠٨
سيرة المتشرِّعة :......................................................... ٢٠٩
السيرة العقلائية :........................................................ ٢١٠
التعارض بين الأدلّة
(٢١٣ ـ ٢٢٠)
الفصل الأوّل [في التعارض بين دليلين
لفظيّين]............................. ٢١٦
الفصل الثاني في التعارض بين الدليل اللفظي ودليلٍ آخر..................... ٢١٩
العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي
(٢٢١ ـ ٢٤٤)
تمهيد :.................................................................. ٢٢٣
١ ـ القاعدة العملية الأساسية.............................................. ٢٢٤
٢ ـ القاعدة العملية الثانوية................................................ ٢٢٧
٣ ـ قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي.......................................... ٢٢٩
تمهيد :................................................................. ٢٢٩
منجّزية العلم الإجمالي :................................................... ٢٣١
انحلال العلم الإجمالي :................................................... ٢٣٣
موارد التردّد :........................................................... ٢٣٤
٤ ـ الاستصحاب......................................................... ٢٣٦
الحالة السابقة المتيقَّنة :................................................... ٢٣٧
الشكّ في البقاء :........................................................ ٢٣٨
وحدة الموضوع في الاستصحاب :.......................................... ٢٣٩
التعارض بين الاصول...................................................... ٢٤١
أحكام تعارض النوعين..................................................... ٢٤٣
كلمة الختام :........................................................... ٢٤٤
فهرس المصادر........................................................... ٢٤٥
فهرس الموضوعات....................................................... ٢٤٩
|