الباب الرابع

في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة ، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة ، والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزّهراء والعامرية الزاهرة ، ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة ، وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة.

قال ابن سعيد رحمه الله : مملكة قرطبة في الإقليم الرابع ، وإيالته للشمس ، وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش ، ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة (١) ، ولأجزائها خواصّ مذكورة في متفرقاتها ، وأرضها أرض كريمة النبات (٢) ، انتهى.

وقدّم رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال : إنما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريرا لسلطنة الأندلس ، ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة ، ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم ، لم يعدلوا عن هذه المملكة ، وتقلبوا منها في ثلاثة أقطار (٣) أداروا فيها خلافتهم : قرطبة ، والزهراء ، والزاهرة ، وإنما اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلا ، وقرطبة أعظم علما وأكثر فضلا بالنظر إلى غيرها من الممالك ، لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها.

ثم قسم ابن سعيد كتاب «الحلة المذهبة ، في حلى ممالك قرطبة». بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتابا : الكتاب الأوّل كتاب : «الحلة الذهبية ، في حلى الكورة القرطبية». الكتاب الثاني كتاب : «الدرر المصونة ، في حلى كورة بلكونة». الكتاب الثالث كتاب : «محادثة السير (٤) ، في حلى كورة القصير». الكتاب الرابع كتاب : «الوشي المصوّر ، في حلى كورة

__________________

(١) في ج : بسطائه.

(٢) في ب : وأرضها أرض كريمة النبات. وفي ه : وهي أرض كريمة النبات.

(٣) في ب ، ه : ثلاثة أقطاب.

(٤) في ب : محادثة السمير.


المدوّر». الكتاب الخامس كتاب : «نيل المراد ، في حلى كورة مراد». الكتاب السادس كتاب :«المزنة ، في حلى كورة كزنة». الكتاب السابع كتاب : «الدر النافق ، في حلى كورة غافق». الكتاب الثامن كتاب : «النفحة الأرجة ، في حلى كورة إستجة». الكتاب التاسع كتاب : «الكواكب الدرّية ، في حلى الكورة القبرية». الكتاب العاشر كتاب : «رقة المحبة ، في حلى كورة إستبة». الكتاب الحادي عشر كتاب : «السّوسانة» (١) ، في حلى كورة اليسانة» انتهى.

قال رحمه الله تعالى : إن العمارة اتّصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة ، بحيث إنه كان يمشى فيها لضوء السرج الممتدّة (٢) عشرة أميال حسبما ذكره الشّقندي في رسالته ، ثم قال : ولكلّ مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختصّ به ، ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال : بين المدوّر وقرطبة ستة عشر ميلا ، وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلا ، وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلا ، وبين قرطبة وغافق مرحلتان ، وبين قرطبة وإستبة ستة وثلاثون ميلا ، وبين قرطبة وبلكونة مرحلتان ، وبين قرطبة واليسّانة أربعون ميلا ، وبين قرطبة وقبرة ثلاثون ميلا ، وبين قرطبة وبيّانة مرحلتان ، وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلا ، وكورة رندة كانت في القديم من عمل قرطبة ، ثم صارت من مملكة إشبيلية ، وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية ، انتهى.

ثم قسم رحمه الله تعالى كتاب «الحلة الذهبية ، في حلى الكورة القرطبية» إلى خمسة كتب : الكتاب الأول كتاب : «النّغم المطربة ، في حلى حضرة قرطبة». الكتاب الثاني كتاب : «الصّبيحة الغرّاء ، في حلي حضرة الزهراء». الكتاب الثالث كتاب : «البدائع الباهرة ، في حلى حضرة الزاهرة». الكتاب الرابع كتاب : «كتاب الوردة ، في حلى مدينة شقنده». الكتاب الخامس : (٣) كتاب : «الجرعة السّيّغة ، في حلى كورة وزغة» (٤).

وقال رحمه الله تعالى في كتاب «النغم المطربة ، في حلى حضرة قرطبة» : إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها ، وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصة ، وهي مختصّة بما يتعلق بذكر المدينة في نفسها ، وتاجا ، وهو مختصّ بالإيالة السلطانية ، وسلكا ، وهو مختص بأصحاب درر الكلام من النّثار والنظام ، وحلة ، وهي مختصّة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر ، ولا يجب إهمال تراجمهم ، وأهدابا ، وهي مختصة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه ، انتهى.

__________________

(١) في ب : اليسّانة.

(٢) في ب ، ه : السرج المتصلة.

(٣) في ب : الكتاب الخامس كتاب.

(٤) في ه : في حلى قرية وزغة.


ثم فصّل رحمه الله تعالى ذلك كله بما تعدّدت منه الأجزاء وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكر ، ثم أردفته بكلام غيره ، فأقول : قال في كتاب أجار (١) : إن قرطبة ـ بالطاء المعجمة ـ ومعناه أجر ساكنها ، يعني عرّبت بالطاء ، ثم قال ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع ، انتهى.

وقال غيره : إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض (٢) طولا من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع ، واتصلت العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولا وفرسخين عرضا ، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول ، وفي العرض ستة ، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير ، وليس في الأندلس واد يسمّى باسم عربيّ غيره ، ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة ، فانحطّت ، واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطّامّة الكبرى عليها بأخذ العدوّ الكافر لها في ثاني وعشري شوّال سنة ستمائة وثلاث وعشرين (٣).

ثم قال هذا القائل : ودور قرطبة أعني المسوّر منها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ، ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع ، انتهى.

وعدد أرباضها أحد وعشرون ، في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمّامات ما يقوم بأهله ، ولا يحتاجون إلى غيره ، وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية ، في كل واحدة منبر وفقيه مقلّص (٤) تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له ، وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلا من حفظ الموطّأ (٥) ، وقيل : من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحفظ المدوّنة ، وكان هؤلاء المقلّصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة ، ويسلّمون عليه ، ويطالعونه بأحوال بلدهم. انتهى.

قال : وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار ، بالإنصاف ، وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا ، فالله أعلم ، وما أحسن قول بعضهم : [البسيط]

دع عنك حضرة بغداد وبهجتها

ولا تعظّم بلاد الفرس والصّين

فما على الأرض قطر مثل قرطبة

وما مشى فوقها مثل ابن حمدين

__________________

(١) هو الكتاب المعروف بجغرافية الإدريسي الذي ألفه لأجار ، وهو أحد ملوك صقلية النور منديين وأجار وهو رجار.

(٢) الأرباض : جمع ربض ، وهو ما حول المدينة من مساكن ، وضواحي المدينة.

(٣) في ب : ثالث عشرين شوّال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين.

(٤) المقلص والمقلس : الذي يلبس القلنسوة.

(٥) موطّأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه.


وقال بعضهم : قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبى لها ثمرات كل جهة وخيرات كلّ ناحية ، واسطة بين الكور ، موفية على النهر ، زاهرة مشرقة ، أحدقت بها المنى فحسن مرآها ، وطاب جناها (١).

وفي كتاب «فرحة الأندلس» لابن غالب : أما قرطبة فإنه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين (٢) ، وتأويله القلوب المشككة.

وقال أبو عبيد البكري : إنها في لفظ القوط بالظاء المعجمة ، وقال الحجاري : الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها ، وقد يكسرها المشرقيون في الضبط ، كما يعجمها آخرون. انتهى.

وقال بعض العلماء : أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس ، وقطبها ، وقطرها الأعظم ، وأمّ مدائنها ومساكنها ، ومستقرّ الخلفاء ، ودار المملكة في النصرانية والإسلام ، ومدينة العلم ، ومستقرّ السنة والجماعة (٣) ، نزلها جملة من التابعين وتابعي التابعين (٤) ، ويقال : نزلها بعض من الصحابة ، وفيه كلام.

وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل ، طيّبة الماء والهواء ، أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كلّ جانب ، وبها المحرث العظيم الذي ليس له في بلاد الأندلس نظير (٥) ولا أعظم منه بركة.

وقال الرازي : قرطبة أم المدائن ، وسرّة الأندلس ، وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام ، ونهرها أعظم أنهار الأندلس ، وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصّنعة والإحكام ، والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه.

وقال بعضهم (٦) : هي أعظم مدينة بالأندلس ، وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه في كثرة أهل ، وسعة محلّ ، وفسحة أسواق ، ونظافة محالّ ، وعمارة مساجد ، وكثرة حمّامات وفنادق ، ويزعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد ، وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك ولا حقة به ، وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحالّ حسنة ، وفيها كان

__________________

(١) الجنى : كل ما يجنى من الشجر.

(٢) في ج : أما قرطبة فإنها لفظ اليونانيين.

(٣) في ب ، ه : ومقرّ السنة والجماعة.

(٤) في ج : وتابع التابعين.

(٥) في ب ، ه : الذي ليس في بلاد الأندلس مثله.

(٦) في ب ، ه : وقال ابن حوقل. وفي بعض النسخ : وقال ابن سعيد رحمه الله في المغرب.


سلاطينهم قديما ، ودورهم داخل سورها المحيط بها ، وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على نهرها.

قال : وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشيا.

وقال الحجاري : وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ، ومجتمع علماء الأنام الأعلام (١) ، بها استقرّ سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدّية واليمانية ، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء ، إذ كانت مركز الكرماء ، ومعدن العلماء ، ولم تزل تملأ الصّدور منها والحقائب ، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب (٢) ، ولم تبرح ساحاتها مجرّ عوال ومجرى سوابق ، ومحطّ معال وحمى حقائق ، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد ، والزّور (٣) ، من الأسد ، ولها الداخل الفسيح ، والخارج الذي يمتّع البصر بامتداده فلا يزال مستريحا وهو من تردّد النظر طليح (٤).

وقال الحجاري : حضرة قرطبة منذ افتتحت (٥) الجزيرة هي كانت منتهى الغاية ، ومركز الراية ، وأمّ القرى ، وقرارة أولي الفضل والتقى ، ووطن أولي العلم والنهى ، وقلب الإقليم ، وينبوع متفجّر العلوم ، وقبة الإسلام ، وحضرة الإمام ، ودار صوب العقول ، وبستان ثمر الخواطر ، وبحر درر القرائح ، ومن أفقها طلعة نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر ، وبها أنشئت التأليفات الرائقة ، وصنفت التصنيفات الفائقة ، والسبب في تبريز القوم حديثا وقديما على من سواهم أنّ أفقهم القرطبيّ لم يشتمل قط إلا على البحث والطلب ، لأنواع العلم والأدب. انتهى.

وقال علي بن سعيد (٦) : أخبرني والدي أن السلطان الأعظم أبا يعقوب بن عبد المؤمن كان (٧) لوالده محمد بن عبد الملك بن سعيد : ما عندك في قرطبة؟ قال : فقلت له : ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها ، فقال السّلطان : إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة ملكهم لعلى بصيرة ، الدّيار الكثيرة المنفسحة والشوارع المتسعة ، والمباني الضخمة ، والنهر الجاري ، والهواء المعتدل ، والخارج النضر ، والمحرث العظيم ، والشّعراء

__________________

(١) الأعلام : ساقطة في ب ، وموجودة في أ ، ه.

(٢) الكتائب : جمع كتيبة : القطعة من الجيش.

(٣) الزّور : الصّدر.

(٤) الطليح : المتعب.

(٥) في ب : استفتحت

(٦) في ب : وقال الإمام علي بن سعيد.

(٧) في ب : قال.


الكافية (١) ، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها ، قال : فقلت : ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.

ثم قال ابن سعيد : ومن كلام والدي في شأنها : هي من أحسن بلاد الأندلس مباني ، وأوسعها مسالك ، وأبرعها ظاهرا وباطنا ، وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين ، ولأهلها رياسة ووقار ، ولا تزال سمة العلم متوارثة فيهم ، إلا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولا ، وأشدهم تشنيعا وتشغيبا ، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم ، حتى إنّ السيد أبا يحيى بن يعقوب (٢) بن أبي عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له : كيف وجدت أهل قرطبة؟ قال : مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح ، وإن أثقلته به صاح ، ما ندري أين رضاهم فنقصده ، ولا أين سخطهم فنجتنبه (٣) ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامّتها شرّا من عامّة العراق ، وإنّ العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية ، وإني إن كلّفت العود إليها لقائل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين.

قال والدي : ومن محاسنها ظرف اللباس ، والتظاهر بالدين ، والمواظبة على الصلاة ، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم ، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها ، والتّستر بأنواع المنكرات ، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم ، وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا ، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب ، صار ذلك عندهم من آلات التّعيّن والرياسة ، حتى إنّ الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب ، وينتخب فيها ليس إلّا لأن يقال : فلان عنده خزانة كتب ، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره ، والكتاب الذي هو بخطّ فلان قد حصّله وظفر به.

قال الحضرمي : أقمت مرّة بقرطبة ، ولازمت سوق كتبها مدة أترقّب (٤) فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء ، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح (٥) ففرحت به أشدّ الفرح ، فجعلت أزيد في ثمنه ، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ ، إلى أن بلغ فوق حدّه ، فقلت له : يا هذا ، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي ، قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة ، فدنوت منه ، وقلت له : أعزّ الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب

__________________

(١) في ه : الشعرى الكافية.

(٢) أبا يحيى بن أبي يعقوب.

(٣) في ب ، ه : فنتجنبه.

(٤) في ب : أترقب فيها.

(٥) في ب : بخطّ جيد وتسفير مليح.


تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حدّه ؛ قال : فقال لي : لست بفقيه ، ولا أدري ما فيه ، ولكني أقمت خزانة كتب ، واحتلفت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد ، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب ، فلما رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته ، ولم أبال بما أزيد فيه ، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير ، قال الحضرميّ : فأحرجني ، وحملني على أن قلت له : نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك ، يعطي الجوز من لا له أسنان (١) ، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب ، وأطلب الانتفاع به ، يكون الرزق عندي قليلا ، وتحول (٢) قلة ما بيدي بيني وبينه.

قال ابن سعيد : وجرت مناظرة بين يدي منصور بن عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر ، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه : ما أدري ما تقول ، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.

وسئل ابن بشكوال عن قصر قرطبة (٣) ، فقال : هو قصر أوليّ تداولته ملوك الأمم من لدن عهد موسى النبيّ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف ، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان (٤) ـ منذ فتح الله عليهم الأندلس بما فيها ـ في قصرها البدائع الحسان ، وأثروا فيه الآثار العجيبة ، والرياض الأنيقة (٥) ، وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة ، وتموّنوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم (٦) ، وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرّصاص تؤدّيها منها إلى المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرّخام الرّومية المنقوشة العجيبة.

قال : وفي هذا القصر القصاب العالية السموّ ، المنيفة العلوّ ، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها.

__________________

(١) في ب : من لا عنده أسنان.

(٢) تحول : تمنع ، تحجز.

(٣) في ب : ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة قال :

(٤) بنو مروان : بنو مروان بن الحكم الخليفة الأمويّ.

(٥) في ب ، ه : والرياض المونقة.

(٦) في ب ، ه : القصر المكرّم.


قال : ومن قصوره المشهورة ، وبساتينه المعروفة (١) : الكامل ، والمجدّد ، والحائر (٢) ، والروضة ، والزاهر ، والمعشوق ، والمبارك ، والرشيق ، وقصر السرور ، والتاج ، والبديع.

قال : ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين ، وغياث الملهوفين ، والحكم بالحقّ الباب الذي عليه السّطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا ، وعلى هذا الباب باب حديد ، وفيه حلق لاطون (٣) قد أثبتت في قواعدها ، وقد صورت صورة إنسان فتح فمه ، وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج ، وكان الأمير محمد قد افتتحها ، فجلب حلقها إلى هذا الباب ، وله باب قبليّ أيضا ، وهو المعروف بباب الجنان ، وقدّام هذين البابين المذكورين على الرصيف المشرف على النهر الأعظم مسجدان مشهوران بالفضل كان الأمير هشام الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل ، وله باب ثالث يعرف بباب الوادي ، وله باب بشماليّه يعرف بباب قورية ، وله باب رابع يدعى بباب الجامع ، وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط ، وعدّد أبوابا بعد هذا طمست أيام فتنة المهديّ بن عبد الجبار.

وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب : باب القنطرة إلى جهة القبلة ، ويعرف بباب الوادي ، وبباب الجزيرة الخضراء ، وهو على النهر ، وباب الحديد ، ويعرف بباب سرقسطة ، وباب ابن عبد الجبار ، وهو باب طليطلة ، وباب رومية ، وفيه تجتمع الثلاثة الرّصف التي تشقّ دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طرّكونة إلى أربونة مارّة في الأرض الكبيرة ، ثم باب طلبيرة ، وهو أيضا باب ليون ، ثم باب عامر القرشيّ ، وقدّامه المقبرة المنسوبة إليه ، ثم باب الجوز (٤) ، ويعرف بباب بطليوس ، ثم باب العطارين ، وهو باب إشبيلية ، انتهى.

وذكر أيضا أنّ عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسّع (٥) والعمارة أحد وعشرون ربضا ، منها القبلية بعدوة النّهر : ربض شقندة ، وربض منية عجب ، وأما الغربية فتسعة : ربض حوانيت الرّيحان ، وربض الرقّاقين ، وربض مسجد الكهف ، وربض بلاط مغيث ، وربض مسجد الشّفاء ، وربض حمّام الإلبيري ، وربض مسجد السّرور ، وربض مسجد الرّوضة ، وربض السّجن القديم ، وأما الشمالية فثلاثة : ربض باب اليهود ، وربض مسجد أمّ سلمة ، وربض

__________________

(١) في ه : وبساتينه المعمورة.

(٢) في ب : وقصر الحائر.

(٣) اللّاطون : النحاس الأصفر ، وهو في الاسبانيةIaton.

(٤) في ج : باب الجور.

(٥) في ب ، ه : في التوسيع.


الرّصافة ، وأمّا الشرقية فسبعة. ربض شبلار (١) ، وربض قرن برّيل ، وربض البرج ، وربض منية عبد الله ، وربض منية المغيرة ، وربض الزاهرة ، وربض المدينة العتيقة.

قال : ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختصّ بالسّور دونها ، وكانت هذه الأرباض بدون سور (٢) ، فلما كانت أيام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع.

وذكر ابن غالب أنه كان دور هذا الحائط أربعة وعشرين ميلا (٣) ، وشقندة معدودة في المدينة لأنها مدينة قديمة كانت مسوّرة.

قال ابن سعيد في «المغرب» : ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظما ونثرا ما انتهى إليه الضبط ، من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهمّ ، ونوشّي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة ، وما يحتوي عليه نطاقها المذكور.

فأوّل ما نذكر من المنتزهات منتزه (٤) الخلفاء المروانية ، وهو قصر الرّصافة ، فنقول : كان هذا القصر مما ابتناه (٥) عبد الرحمن بن معاوية في أول أيامه لنزهه ، وسكناه أكثر أوقاته منية الرّصافة التي اتخذها بشمال قرطبة منحرفة إلى الغرب ، فاتخذ بها قصرا حسنا ، ودحا (٦) جنانا واسعة ، ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية ، وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفر رسولاه إلى الشأم من النوى المختارة (٧) والحبوب الغريبة ، حتى نمت بيمن الجدّ وحسن التربية في المدة القريبة أشجارا معتمّة (٨) أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس ، فاعترف بفضلها على أنواعها.

قال : وسماها باسم رصافة جده هشام بأرض الشام الأثيرة (٩) لديه ، ولميله في اختيار هذه (١٠) ، وكلفه بها ، وكثرة تردّده عليها ، وسكناه أكثر أوقاته بها ـ طار لها الذكر في أيامه ، واتصل من بعده في إيثارها.

__________________

(١) في بعض النسخ : سلار.

(٢) في ب : دون سور ، وفي ه : دون السور.

(٣) في ب : أربعة عشر ميلا.

(٤) في ب ، ج : منتزهات.

(٥) في ب : قال والدي رحمه الله : كان مما ابتناه بدل : فنقول : كان هذا القصر مما ابتناه.

(٦) دحا : بسط.

(٧) في ب : من النوى المختارة.

(٨) اعتمّ الشّجر : نما وطال.

(٩) الأثيرة : المفضّلة.

(١٠) في ب : وامتثله في اختيار رصافته هذه وكلفه بها.


قال : وكلهم فضّلها ، وزاد في عمارتها ، وانبرى وصّاف الشعراء لها ، فتنازعوا في (١) ذلك فيما هو إلى الآن مشهور (٢) مأثور عنهم ، مستجاد منهم.

وقال ابن سعيد : والرّمّان السّفري الذي فاض على أرجاء الأندلس ، وصاروا لا يفضلون عليه سواه ، أصله من هذه الرّصافة. وقد ذكر ابن حيّان شأنه ، وأفرد له فصلا ، فقال : إنه الموصوف بالفضيلة ، المقدّم على أجناس الرّمّان بعذوبة الطعم ، ورقة العجم ، وغزارة الماء ، وحسن الصورة ، وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخته (٣) منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمّان الرّصافة المنسوبة إلى هشام ، قال : فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهيا به ، وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن ، ويقال : هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته ، قال : وهم يحملون الألوية بين يدي الخلفاء من بني أمية ، فأعطاه من ذلك الرمان جزءا فراقه حسنه وخبره ، فسار به إلى قرية بكورة ريّة ، فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجرا أثمر وأينع ، فنزع إلى عرقه ، وأغرب في حسنه ، فجاء به عمّا قليل إلى عبد الرحمن ، فإذا هو أشبه شيء بذلك الرّصافي ، فسأله الأمير عنه ، فعرّفه وجه حيلته ، فاستبرع استنباطه (٤) ، واستنبل همته ، وشكر صنعه ، وأجزل صلته ، واغترس منه بمنية الرّصافة وبغيرها من جنّاته ، فانتشر نوعه ، واستوسع الناس في غراسه ، ولزمه النسب إليه ، فصار يعرف إلى الآن بالرمان السّفري (٥).

قال : وقد وصف هذا الرمان أحمد بن محمد بن فرح (٦) الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له ، فقال : [المتقارب]

ولابسة صدفا أحمرا

أتتك وقد ملئت جوهرا

كأنّك فاتح حقّ لطيف

تضمّن مرجانه الأحمرا

حبوبا كمثل لثات الحبيب

رضابا إذا شئت أو منظرا

وللسّفر تعزى وما سافرت

فتشكو النّوى أو تقاسي السّرى

__________________

(١) في ب ، ه : فتناغوا فيه.

(٢) «مشهور» سقط من ب.

(٣) في ب : أجنيته.

(٤) استبرع استنباطه : وجده بارعا.

(٥) الرّمّان السّفريّ : نسبة إلى سفر بن عبيد الكلاعي.

(٦) في ب : أحمد بن فرج ، وفي ج : محمد بن روح.


بلى فارقت أيكها ناعما

رطيبا وأغصانها نضّرا

وجاءتك معتاضة إذ أتتك

بأكرم من عودها عنصرا

بعود ترى فيه ماء النّدى

ويورق من قبل أن يثمرا

هديّة من لو غدت نفسه

هديّته ظنّه قصّرا

وقال ابن سعيد : وأخبرني والدي قال : أخبرني الوشّاح المبرّز المحسن أبو الحسن المريني (١) قال : بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء الرّصافة ، إذا بإنسان رثّ الهيئة ، مجفوّ الطلعة ، قد جاء فجلس معنا ، فقلنا له : ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة؟ فقال: لا تعجلوا عليّ ، ثم فكر قليلا ورفع رأسه فأنشدنا : [الخفيف]

اسقنيها إزاء قصر الرّصافه

واعتبر في مآل أمر الخلافه

وانظر الأفق كيف بدّل أرضا

كي يطيل اللّبيب فيه اعترافه

ويرى أنّ كلّ ما هو فيه

من نعيم وعزّ أمر سخافه

كلّ شيء رأيته غير شيء

ما خلا لذّة الهوى والسّلافه

قال المرينيّ : فقبلت رأسه ، وقلت له : بالله من تكون؟ فقال : قاسم بن عبّود الرّياحيّ ، الذي يزعم الناس أنه موسوس أحمق ، قال : فقلت له : ما هذا شعر أحمق! وإن العقلاء لتعجز عنه ، فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك ، فنادم وأنشد ، وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا ، ويقول : اللهم غفرا. انتهى قال : ومن قصور (٢) خارج قرطبة قصر السيّد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن ، وهو على متن النهر الأعظم ، تحمله أقواس ، وقيل للسيّد : كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة؟ فقال : علمت أنهم لا يذكرون واليا بعد عزله ولا له عندهم قدر ؛ لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانية ، فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم.

قال ابن سعيد : وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر : [الطويل]

__________________

(١) هو أبو الحسن علي بن المريني ، وهو شاعر توفي زمن منصور بني عبد المؤمن (انظر المغرب ج ٢ ص ٢١٣).

(٢) في ب : ومن أبدع قصور.


ألا حبّذا القصر الّذي ارتفعت به

على الماء من تحت الحجارة أقواس

هو المصنع الأعلى الّذي أنف الثّرى

ورفّعه عن لثمه المجد والباس

فأركب متن النّهر عزّا ورفعة

وفي موضع الأقدام لا يوجد الرّاس

فلا زال معمور الجناب وبابه

يغصّ وحلّت أفقه الدّهر أعراس

وقال الفتح في قلائده ، لما ذكر الوزير ابن عمار (١) : وتنزه بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده بنو أمية بالصّفّاح والعمد ، وجري في إتقانه إلى غير أمد ، وأبدع بناؤه ، ونمّقت ساحاته وفناؤه ، واتّخذوه ميدان مراحهم ، ومضمار أفراحهم (٢) ، وحكوا به قصرهم بالمشرق ، وأطلعوه كالكوكب المشرق ، وأنشد فيه لابن عمّار : [الخفيف]

كلّ قصر بعد الدّمشق يذمّ

فيه طاب الجنى ولذّ المشمّ (٣)

منظر رائق ، وماء نمير

وثرى عاطر ، وقصر أشمّ

بتّ فيه واللّيل والفجر عندي

عنبر أشهب ومسك أحمّ (٤)

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي.

وذكر الحجاري في «المسهب» أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي ، اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجدّه أيام حجابته للخليفة الحكم المستنصر ، فاستعبر (٥) حين تذكر ما آل إليه (٦) حال جدّه مع المنصور بن أبي عامر ، واستيلائه على ملكه وأملاكه ، فقال : [الخفيف]

قف قليلا بالمصحفيّة واندب

مقلة أصبحت بلا إنسان

واسألنها عن جعفر وسطاه

ونداه في سالف الأزمان

جعفر مثل جعفر حكم الدّه

ر عليه بعسرة وهوان

ولكم حذّر الرّدى فصممنا

لا أمان لصاحب السّلطان

بينما يعتلي غدا خافضا من

ه انتساب لكفّة الميزان (٧)

__________________

(١) انظر قلائد العقيان صفحة ٨٤.

(٢) في ه : ومضمار انشراحهم.

(٣) لذ المشم : طابت الرائحة حتى استلذ بها شامّها.

(٤) أحمّ : أسود.

(٥) استعبر : جرت دموعه.

(٦) آل إليه : صار إليه.

(٧) في ب : منه اكتساب كلفّة الميزان. وفي ج : منه اكتئاب كلفّة الميزان.


ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثّم (١) ملك قرطبة.

قال ابن سعيد : أخبرني والدي عن أبيه قال : خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النّوّار أبو بكر بن بقيّ (٢) الشاعر المشهور ، فجلسنا تحت سطر من أشجار اللّوز قد نوّرت ، فقال ابن بقيّ : [البسيط]

سطر من اللّوز في البستان قابلني

ما زاد شيء على شيء ولا نقصا

كأنّما كلّ غصن كمّ جارية

إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا

ثم قال شعرا منه : [الطويل]

عجبت لمن أبقى على خمر دنّه

غداة رأى لوز الحديقة نوّرا

(٣) ولا أذكر بقية الأبيات ، قال : جدّي ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة ، فذكرته باجتماعه في منية الزبير ، فتنهّد وفكر ساعة وقال : اكتبوا عني ، فكتبنا : [الطويل]

سقى الله بستان الزّبير ، ودام في

ذراه مسيل النّهر ما غنّت الورق (٤)

فكائن لنا من نعمة في جنابه

كبزّته الخضراء طالعها طلق

هو الموضع الزّاهي على كلّ موضع

أما ظلّه ضاف أما ماؤه دفق

أهيم به في حالة القرب والنّوى

وحقّ له منّي التّذكّر والعشق

ومن ذلك النّهر الخفوق فؤاده

بقلبي ما غيّبت عن وجهه خفق

قال : فقلت له : جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي ، قال : ذلك لك ، قلت : وكيف ذلك؟ قال : تدفع لي هذا السيف الذي تقلدت به أتزوّد به إليه ، وأنفق الباقي فيه على ما تعلم ، قال : فقلت له : هذا السيف شرّفني به السلطان أبو زكرياء بن غانية ، ما لعطائه سبيل ، ولكن أعطيك قيمته ، فخرج وأتى بشخص يعرف قيمة السيوف ، فقدّره وجعل يقول : إنه سيف السلطان ابن غانية ، ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته ، ثم قبض ما قدّر به ، وأنشد ارتجالا : [الوافر]

__________________

(١) هو الزبير بن عمر أحد ولاة الملثمين سماه ابن سعيد صاحب قرطبة والحقيقة أنه كان واليا على غرناطة.

والزبير هذا هو الذي هجاه الشاعر المعروف بالأبيض. انظر المغرب ج ٢ ص ١٢٧.

(٢) أبو بكر بن بقيّ الطليطلي : أحد كبار الشعراء الوشاحين في عصر المرابطين. توفي سنة ٥٤٠ ه‍. انظر معجم الأدباء ١٩ / ٢١ ووفيات الأعيان ٥ / ٢٤٨ والمغرب ٢ / ١٩.

(٣) الدّنّ : وعاء الخمر الكبير. والنّور : الزهر.

(٤) في ب : مجاريه سيل النهر ما غنّت الورق. والورق : الحمائم البيض.


أطال الله عمر فتى سعيد

وبقّاه ورقّته السّعود

غدا لي جوده سببا لعودي

إلى وطني فها أنا ذا أعود

وألثم كفّه شكرا ويتلو

طريقي آي نعماه النّشيد

حباني من ذخائره بسيف

به لم يبق للأحزان جيد

والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة ، وقد ذكره الوزير أبو الوليد بن زيدون (١) في قصيد ضمنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه ، وكان قد فرّ من قرطبة أيام بني جهور ، فحضره في فراره عيد ذكّره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسية مع ولّادة التي كان يهواها ويتغزل فيها ، فقال : [الطويل]

خليليّ لا فطر يسرّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى(٢)

وستأتي هذه القصيدة في هذا الباب ، كما ستأتي قصيدة أبي القاسم بن هشام القرطبي التي أولها :

يا هبّة باكرت من نحو دارين (٣)

وفيها كثير من منتزهات قرطبة.

قال ابن سعيد : كان والدي كثيرا ما يأمرني بقراءتها عليه ، ويقول : والله لقد أنبأت عن فضل لهذا الرجل ، قال : وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها ، ويزين بها مجالسه ، ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها ، وإنه لجدير بذلك ، وإنها لمن كنوز الأدب.

ثم قال : والمرج النّضير المذكور بها هو مرج الخزّ ، أخبرني والدي أنه حضر في زمان الصّبا بهذا المرج على راحة ، ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقّشيّ والمسنّ بن دويدة (٤) المشهور بخفة الروح ، قال : فسبحت أمامنا إوز ، وجعلت تمرح وتنثر ما

__________________

(١) أبو الوليد بن زيدون : أمير شعراء الأندلس ، أكثر شعره في الغزل ، أحب ولادة بنت المستكفي آخر خلفاء بني أمية في الأندلس ، وقضى حياته يتغزل بها ولا ينساها رغم تنكرها له. له ديوان مطبوع ، ورسالة سميت رسالة ابن زيدون.

(٢) انظر ديوان ابن زيدون ص ١٠٢.

(٣) دارين : بلدة مشهورة بالمسك.

(٤) في ب : ابن دريدة.


عليها من الماء فوق المرج ، والمرج قد أحدق به (١) الوادي ، والشمس قد مالت عليه للغروب ، فقال لي أبو الحسين : بالله صف يومنا وحسن هذا المنظر ، فقلت : لا أصفه أو تصفه أنت ، فقال : ولك مني ذلك ، فأفكر كل منا على انفراد بعد ما ذكرنا ما نصف نثرا ، فقال : أبو الحسين الوقّشيّ : [البسيط]

لله يوم بمرج الخزّ طاب لنا

فيه النّعيم بحيث الرّوض والنّهر

وللإوزّ على أرجائه لعب

إذا جرت بدّدت ما بيننا الدّرر

والشّمس تجنح نحو البين مائلة

كأنّ عاشقها في الغرب ينتظر

والكأس جائلة باللّبّ حائرة

وكلّنا غفلات الدّهر نبتدر

قال : فقلت : [الطويل]

ألا حبّذا يوم ظفرنا بطيبه

بأكناف مرج الخزّ والنّهر يبسم

وقد مرحت فيه الإوزّ ، وأرسلت

على سندس درّا به يتنظّم

ومدّ به للشّمس فهو كأنّه

لثام لها ملقى من النّور معصم

أدرنا عليه أكؤسا بعثت به

من الأنس ميتا عاد وهو يكلّم

غدونا إليه صامتين سكينة

فرحنا وكلّ بالهوى يترنّم

فأظهر كل منا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطا وتتميما للمسرة ، ثم قلنا للمسنّ :

ما عندك أنت (٢) تعارض به هاتين القطعتين؟ قال : بهذا ، ورفع رجله وحبق (٣) حبقة فرقعت منها أرجاؤه ، فقال له أبو الحسين : ما هذا يا شيخ السوء؟ فقال : الطلاق يلزمه (٤) إن لم تكن أوزن من شعركما ، وأطيب رائحة ، وأغنّ صوتا ، وأطرب معنى ، فضحكنا منه أشد ضحك ، وجعلنا نهتزّ غاية الاهتزاز لموقع نادرته ، فقال : والدليل على ذلك أنكم طربتم لما جئت به أكثر مما طربتم من شعركم.

ثم قال ابن سعيد : ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق ، مقصود للفرجة ، يسرح فيه البصر ، وتبتهج فيه النفس ، أخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن

__________________

(١) أحدق به : أحاط به.

(٢) في ب : ما عندك أنت ما تعارض به.

(٣) حبق : ضرط.

(٤) في ب : الطلاق له لازم.


سعيد قال : خرجت مع الشريف الأصمّ القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء ـ وقد تدبج بالنوار (١) ـ فلما حركنا حسن المكان ، وتشوقنا إلى الأركان (٢) ، قال الشريف : لقد ذكرني هذا البسيط بسيط فحص السرادق ، فقلت له : فهل ثار في خاطركم نظم فيه؟ قال : نعم ، ثم أنشد : [الطويل]

ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق

ولا تسأموا من ذكر فحص السّرادق(٣)

مجرّ ذيول السّكر من كلّ مترف

ومجرى الكؤوس المترعات السّوابق(٤)

قصرت عليه اللّحظ ما دمت حاضرا

وفكري في غيب لمرآه شائقي

أيا طيب أيّام تقضّت بروضة

على لمح غدران وشمّ حدائق

إذا غرّدت فيها حمائم دوحها

تخيّلتها الكتّاب بين المهارق

وما باختيار الطّرف فارقت حسنها

ولكن بكيد من زمان منافق

قال أبو جعفر : فلما سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار (٥) ، وحركني ذلك إلى أن قلت في حوز مؤمل (٦) سيد منتزهات غرناطة ، ولم يذكر هنا ما قاله فيه ، وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا ، والله أعلم.

ومن منتزهات قرطبة السّدّ ، قال ابن سعيد : أخبرني والدي أن الشاعر المبرز أبا شهاب المالقي أنشده لنفسه واصفا يوم راحة بهذا السّد : [الطويل]

ويوم لنا بالسّدّ لو ردّ عيشه

بعيشة أيّام الزّمان رددناه

بكرنا له والشّمس في خدر شرقها

إلى أن أجابت ، إذ دعا الغرب ، دعواه

قطعناه شدوا واغتباقا ونشوة

ورجع حديث لو رقى الميت أحياه(٧)

على مثله من منزه تبتغى المنى

فلله ما أحلى وأبدع مرآه

شدتنا به الأرحا وألقت نثارها

علينا فأصغينا له وقبلناه

__________________

(١) في ب : بالأنوار.

(٢) في نسخة : إلى الأوطان ، وهو أفضل مما جاء في بقية النسخ.

(٣) العذيب وبارق : مكانان.

(٤) المترعات : المليئة.

(٥) الاستعبار : البكاء.

(٦) في ب : في جور مؤمل.

(٧) الاغتباق : شرب الغبوق. ورقى المريض : داواه بالرقية ، وهي كلام وأساليب تستعمل لشفاء المرضى.


لئن بان ؛ إنّا بالأنين لفقده

وبالدّمع في إثر الفراق حكيناه

(١) وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السّدّ ، وهي :

مطلع

في نغمة العود والسّلافه

والرّوض والنّهر والنّديم(٢)

أطال من لا مني خلافه

فظلّ في نصحه مليم

دور

دعني على منهج التّصابي

ما قام لي العذر بالشّباب

ولا تطل في المنى عتابي

فلست أصغي إلى عتاب

لا ترج ردّي إلى صواب

والكأس تفتر عن حباب

والغصن يبدي لنا انعطافه

إذا هفا فوقه النّسيم

والرّوض أهدى لنا قطافه

واختال في برده الرقيم

دور

يا حبّذا عهدي القديم

ومن به همت مسعدي

ريم عن الوصل لا يريم

مولّع بالتّودّد(٣)

ما تمّ إلّا به النّعيم

طوعا على رغم حسّدي

معتدل القدّ ذو نحافه

أسقمني طرفه السّقيم

ورام طرفي به انتصافه

فخدّ في خدّه الكليم

دور

غضّ الصّبا عاطر المقبّل

أحلى من الأمن والأمل

ظامي الحشا مفعم المخلخل

حلو اللّمى ساحر المقل

لكلّ من رامه توصّل

لم يخش ردّا بما فعل

أشكو فيبدي لي اعترافه

إن حاد عن نهجه القويم

__________________

(١) بان : بعد.

(٢) السلافة : الخمر.

(٣) لا يريم : لا يفارق.


لا أعدم الدّهر فيه رافه

فحقّ لي فيه أن أهيم

دور

لله عصر لنا تقضّى

بالسّدّ والمنبر البهيج

أرى ادّكاري إليه فرضا

وشوقه دائما يهيج

فكم خلعنا عليه غمضا

وللصّبا مسرح أريج(١)

ورد أطال المنى ارتشافه

حتّى انقضى شربه الكريم(٢)

لله ما أسرع انحرافه

وهكذا الدّهر لا يديم

دور

يا من يحثّ المطيّ غربا

عرّج على حضرة الملوك

وانثر بها إن سفحت غربا

من مدمع عاطل سلوك(٣)

واسمع إلى من أقام صبّا

واحك صداه لا فضّ فوك

بلّغ سلامي قصر الرّصافه

وذكّره عهدي القديم(٤)

وحيّ عنّي دار الخلافه

وقف بها وقفة الغريم

قال ابن سعيد : والمنبر المذكور في هذه الموشحة من منتزهات قرطبة ، والسّدّ هو الأرحا التي ذكرها في زجله قاسم بن عبّود الرياحي ، رويته عن والدي عن قائله ، وهو :

مطلع

بالله أين نصيب

من ليس لي فيه نصيب

محبوبا مخالف

ومعو رقيب

دور

حين نقصد مكانو

يقوم في المقام(٥)

__________________

(١) أريج : عطر.

(٢) الارتشاف : مصدر ارتشف. وارتشف الشيء : مصّه.

(٣) الغرب ـ بفتح وسكون الراء ـ الدلو العظيمة.

(٤) في ب : وذكرو ، وكأنّ الكلمة قد جاءت باللهجة الدارجة آنذاك ، وما تزال إلى يومنا هذا.

(٥) في ب : يقم ف المقام.


ويبخل علينا

بردّ السّلام

أدخلت يا قلبي

روحك في زحام

سلامتك عندي

هي شيء عجيب(١)

وكيف بالله يسلم

من هو في لهيب(٢)

دور

بالله يا حبيبي

أترك ذا النّفار(٣)

واعمد أن نطيب

في هذا النّهار

واخرج معي للوادي

لشرب العقار(٤)

نتمّم نهارنا

في لذّة وطيب

في الأرحا وإلّا

في المرج الخصيب

دور

أو عند النواعير

والروض الشريق

أو قصر الرصافة

أو وادي العقيق

رحيق والله دونك

هو عندي الحريق(٥)

وفي حبّك أمسيت

في أهلي غريب

وما الموت عندي

إلّا حين تغيب(٦)

دور

اتّكل على الله

وكن قط جسور(٧)

وإن رإيت فضولي

فقل أي تمور(٨)

كمش عنيّ وجهك

فإن رآك نفور(٩)

__________________

(١) في ب : هي شيء عجيب.

(٢) وكف بالله يسلم.

(٣) في ب واعمل أن نطيبو.

(٤) العقار : الخمرة.

(٥) في ب : رحق والله دونك ، وفي ج : حرق والله دونك.

(٦) في ب : حن تغيب.

(٧) في ب : فظ جسور.

(٨) في ب : وإن ريت فضولي فقل إين تمور.

(٩) في ب : كمش عنّو وجهك فإن راك نفور.


يهرب عنّك خائف

ويبقى مريب

وامش أنت موقر

كأنك خطيب

دور

ما أعجب حديثي

إيش هذا الجنون

نطلب وندبّر

أمرا لا يكون

وكم ذا نهوّن

شيئا لا يهون

وإيش مقدار ما نصبر

لبعد الحبيب(٢)

ربّ اجمعني معو

عاجلا قريب

قال ابن سعيد : وأما نهر قرطبة فإنه يصغر عن عظمه عند إشبيلية ، بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتي مثلها في نهر إشبيلية ، ومنبعه من جهة شقورة (٣) يمرّ النصف منه إلى مرسية مشرقا والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغربا.

ولما ذكر الرازي قرطبة قال : ونهرها الساكن في جريه ، اللين في انصبابه ، الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله.

وقال هذا لأنه يعظم عند إشبيلية ، فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق ، وتوقع أهلها الهلاك.

والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها ، أقواسها سبعة عشر قوسا ، وبانيها على ما ذكره ابن حيّان وغيره السّمح بن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وشيدها بنو أمية بعد ذلك وحسنوها ، قال ابن حيان : وقيل : إنه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بناء الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثّرت فيها الأزمان بمكابدة المدود (٤) حتى سقطت حناياها ، ومحيت أعاليها ، وبقيت أرجلها وأسافلها ، وعليها بنى السّمح في سنة إحدى ومائة ، انتهى.

وقال في مناهج الفكر : إن قنطرة قرطبة إحدى أعاجيب الدنيا ، بنيت زمن عمر بن

__________________

(١) في ب : إشّ هذا.

(٢) في ب : وإش مقدار.

(٣) شقورة : مدينة من أعمال جيان بالأندلس (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ١٠٥).

(٤) المدود : جمع مدّ ؛ وهو ارتفاع ماء النهر.


عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي ، وطولها ثمانمائة ذراع (١) ، وعرضها عشرون باعا ، وارتفاعها ستون ذراعا ، وعدد حناياها ثمان عشرة حنية ، وعدد أبراجها تسعة عشر برجا ، انتهى.

رجع إلى قرطبة ـ ذكر ابن حيان والرازي والحجاري أن التنبان (٢) ـ ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدنيا وصفّح نهر رومية بالصّفر ، فأرخت الروم من ذلك العهد ، وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة ـ أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس ، فبنيت في مدته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة ، وانفرد الحجاري بأن التنبان (٣) المذكور وجّه أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاه عليها ، وسماها باسمه ، وأن هذه الأسماء الأربعة كانت أسماء لأولئك الملوك ، وغير الحجاري جعل أسماء هذه المدن مشتقّة مما تقتضيه أوضاعها كما مرّ ، وذكروا أنه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام! إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلبون على الأندلس ، إلى أن أخذها منهم المسلمون ، ولم تكن في الجاهلية سريرا لسلطنة الأندلس ، بل كرسيّا لخاصّ مملكتها ، وسعدت في الإسلام ، فصارت سريرا للسلطنة العظمى الشاملة ، وقطبا للخلافة المروانية ، وصارت إشبيلية وطليطلة تبعا لها ، بعد ما كان الأمر بالعكس ، والله يفعل ما يشاء ، بيده الملك والتدبير ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا هو العليّ الكبير.

وقال صاحب «نشق الأزهار» عند ما تعرض لذكر قرطبة : هي مدينة مشهورة ، دار خلافة ، وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل ، وبها جامع ليس في الإسلام مثله ، انتهى.

ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث (٤) البربر بها في دخولهم مع سليمان المستعين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء ، وكان من أمراء البربر المعاضدين لسليمان عليّ بن حمود من بني عليّ بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين! ـ وجدّه إدريس هرب من هارون الرشيد إلى البربر ، فتبربر ولده ، وبنى ابنه إدريس مدينة فاس ، وكان المؤيد هشام يشتغل بالملاحم ، ووقف على أن دولة بني أمية تنقرض بالأندلس على يد علويّ أول اسمه عين ، فلما

__________________

(١) في ه : ثمانمائة باع.

(٢) في ب ، ه : اكتبيان ، ولعله الأصح ، ولعله أوكتافيوس قيصر ، ملك الروم.

(٣) في ب ، ه : اكتبيان ، ولعله الأصح ، ولعله أوكتافيوس قيصر ، ملك الروم.

(٤) عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا : أفسد.


دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيرا من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم عليّ بن حمود ، وبلغ هشاما المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدسّ إليه أن الدولة صائرة إليك ، وقال له : إن خاطري يحدثني أن هذا الرجل يقتلني ، يعني سليمان ، فإن فعل فخذ بثأري ، وكان هذا الأمر هو الذي قوّى نفس ابن حمّود على طلب الإمامة ، وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد ، فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته.

وتولى بعد ذلك عليّ بن حمّود ، وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين ، وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة ، وأذلّ رؤوس البربر ، وبرقت للعدل في أيامه بارقة خلّب (١) لم تكد تقد حتى خبت (٢) وجلس للمظالم ، وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم ، وأهلهم وعشائرهم ينظرون ، وخرج يوما على باب عامر فالتقى فارسا من البربر وأمامه حمل عنب ، فاستوقفه وقال له : من أين لك هذا؟ فقال : أخذته كما يأخذ الناس ، فأمر بضرب عنقه ، ووضع رأسه وسط الحمل ، وطيف به في البلد ، واستمرّ على هذا مع أهل قرطبة في أحسن عشرة نحو ثمانية أشهر ، حتى بلغه قيام الأندلسيين بالمرتضى المروانيّ في شرق الأندلس ، فتغير عما كان عليه ، وعزم على إخلاء قرطبة وإبادة أهلها ، فلا يعود لأئمتهم بها سلطان آخر الدهر ، وأغضى للبربر عن ظلمهم فعاد البلاء إلى حاله ، وانتزع الإسلام من أهل قرطبة ، وهدم المنازل ، واستهان بالأكابر ، ووضع المغارم ، وقبض على جماعة من أعيانهم وألزمهم بمال ، فلما غرموه سرّحهم فلما جيء إليهم بدوابهم ليركبوها أمر من أخذ الدواب ، وتركهم ينزلون إلى منازلهم على أرجلهم ، وكان منهم أبو الحزم الذي ملك قرطبة بعد وصارت دولته بوراثة ولده معدودة في دول الطوائف ، فانجمعت عن عليّ النفوس ، وتوالى عليه الدعاء ، فقتله صبيان أغمار من صقالبة بني مروان في الحمام ، وكان قتله غرة ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة ، وكان الصقالبة ثلاثة فهربوا واختفوا في أماكن يعرفونها ، وصحّ عند الناس موته ، ففرحوا ، وكانت مدته كما مرّ نحو عامين ، وحققها بعض فقال : أحد وعشرون شهرا وستة أيام.

وكان الناصر عليّ بن حمود ـ على عجمته ، وبعده من الفضائل ـ يصغي إلى الأمداح ، ويثيب عليها ، ويظهر في ذلك آثار النسب العربيّ والكرم الهاشميّ ، ومن شعرائه المختصّين به ابن الحناط (٣) القرطبي ، ومن شعره قوله : [الكامل]

__________________

(١) خلّب : السحاب الذي يلمع برقه ولا مطرفيه.

(٢) تقد : تتّقد وتشتعل. وخبت : انطفأت.

(٣) في أ : ابن الخياط. والصحيح ما أثبتناه. انظر الذخيرة ج ١ ، ص ٣٩٠.


راحت تذكّر بالنّسيم الرّاحا

وطفاء تكسر للجنوح جناحا

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت

من برقها كي تهتدي مصباحا

وعبادة بن ماء السماء ، وكان معروفا بالتشيّع ، وفيه يقول من قصيدة : [الطويل]

أبوكم عليّ كان بالشّرق بدء ما

ورثتم ، وذا بالغرب أيضا سميّه

فصلّوا عليه أجمعون وسلّموا

له الأمر إذ ولّاه فيكم وليّه

ومدحه ابن درّاج القسطلّيّ بقوله : [المتقارب]

لعلّك يا شمس عند الأصيل

شجيت لشجو الغريب الذّليل

فكوني شفيعي لابن الشّفيع

وكوني رسولي لابن الرّسول

وكان أخوه القاسم بن حمود أكبر منه بعشر سنين ، وأمّهما واحدة ، وهي علوية ، ولما قتل الناصر كان القاسم واليا على إشبيلية ، وكان يحيى بن عليّ واليا على سبتة ، فاختلف هؤلاء البربر (١) ، فمال أكثرهم إلى القاسم لكونه غبن أوّلا ، وقدّم عليه أخوه الأصغر ، وكونه قريبا من قرطبة ، وبينهم وبين يحيى البحر ، فلما وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحا بالإمامة ، وخاف أن تكون حيلة من أخيه عليه ، فتقهقر إلى أن اتّضح له الحقّ ، فركب إلى قرطبة ، وبويع فيها بعد ستة أيام من قتل أخيه ، وأحسن السيرة ، وأحسّ من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه عليّ صاحب سبتة ، فتهالك في اقتناء السودان ، وابتاع منهم كثيرا ، وقوّدهم على أعماله (٢) ، فأنفت البرابر من ذلك ، وانحرفوا عنه.

وفي سنة تسع وأربعمائة قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن بن أعقاب الناصر ، لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمّود العلويين بسبب البرابر ، فأرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان ، واجتمع له أكثر ملوك الطوائف ، وكان معه حين أقبل لقرطبة منذر التجيبيّ صاحب سرقسطة وخيران العامري الصّقلبي صاحب المرية ، وانضاف إليهم جمع من الفرنج ، وتأهب القاسم والبرابرة للقائهم ، فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نية منذر وخيران على المرتضى ، وقالا : أرانا في الأوّل وجها ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجمّ الغفير (٣) ، وهذا ماكر غير صافي النية ، فكتب خيران إلى ابن زيري الصّنهاجي المتغلب على غرناطة ـ وهو داهية البربر ـ وضمن له أنه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى

__________________

(١) في ب : فاختلفت أهواء البربر.

(٢) قوّدهم على أعماله : جعلهم قادة.

(٣) الجم الغفير : العدد الكبير.


قرطبة خذّل (١) عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور ، فأصغى ابن زيري إلى ذلك ، وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته ، فقلب الكتاب ، وكتب في ظهره (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) [الكافرون : ١]. فأرسل إليه كتابا ثانيا يقول فيه : قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج ، فماذا تصنع؟ وختم الكتاب بهذا البيت : [البسيط]

إن كنت منّا أبشر بخير

أو لا فأيقن بكلّ شرّ

فأمر الكتاب أن يحوّل الكتاب ويكتب في ظهره (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) [التكاثر : ١] السورة. فازداد حنقه ، وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى حضرة الإمامة قرطبة ، وعدل إلى محاربته ، وهو يرى أن يصطلمه (٢) في ساعة من نهار ، ودامت الحرب أياما ، وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده (٣) ، فأجابه : إنما توقفت حتى ترى مقدار حربنا وصبرنا ، ولو كنا ببواطننا معك ، فأثبت جمعك لنا ، ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد.

ولما كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولّت عنه ، فسقط في يد المرتضى ، وثبت حتى كادوا يأخذونه. واستحرّ القتل (٤) ، وصرع كثير من أصحابه ، فلما خاف القبض عليه ولّى ، فوضع عليه خيران عيونا فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه ، فهجموا عليه ، فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المريّة ، وقد حلّ بها خيران ومنذر ، فتحدث الناس أنهما اصطبحا عليه سرورا بهلاكه.

وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة ، ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم ، وضرب القاسم بن حمود سرادق المرتضى على نهر قرطبة ، وغشية خلق من النظارة وقلوبهم تتقطع حسرات ، وأنشد عباد بن ماء السماء قصيدته التي أولها : [الطويل](٥)

لك الخير خيران مضى لسبيله

وأصبح أمر الله في ابن رسوله

وتمكنت أمور القاسم ، وولّى وعزل ، وقال وفعل ، إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن عليّ ، وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة : إنّ عمي أخذ ميراثي من أبي ، ثم إنه قدّم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان ، وأنا أطلب ميراثي ،

__________________

(١) خذّل عن نصرته الموالي : أغراهم بالتقاعس عن نصرته.

(٢) يصطلمه : يستأصله.

(٣) يستنجزه وعده : يطلب منه إنجازه.

(٤) استحرّ القتل : اشتد وكثر.

(٥) في الذخيرة ج ١ ص ٣٩٦ : القصيدة لابن الحناط.


وأوليكم مناصبكم ، وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس ، فأجابوه إلى ذلك ، فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة ، فجاز البحر بجمع وافر ، وحصل بمالقة مع أخيه ، وكتب له خيران صاحب المريّة مذكرا بما أسلفه في إعانة أبيه ، وأكد المودة فقال له أخوه إدريس : إن خيران رجل خداع ، فقال يحيى : ونحن منخدعون فيما لا يضرنا ، ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقا بأن البرابر معه ، ففرّ القاسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصه ليلة السبت ٢٨ من شهر ربيع الآخر سنة ٤١٣ (١) ، وحلّ يحيى بقرطبة ، فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهلّ جمادى الآخرة ، وكان يحيى من النجباء ، وأمه فاطمية ، وإنما كانت آفته العجب واصطناع السّفلة ، واشتطّ أكابر البرابر عليه ، وطلبوا ما وعدهم من إسقاط مراتب السودان ، فبذل لهم ذلك ، فلم يقنعوا منه ، وصاروا يفعلون معه ما يخرق الهيبة ويفرغ بيت المال ، وفرّ السودان إلى عمه بإشبيلية ، ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم ، ولم يمل إليه ملوك الطوائف ، وبقي منهم كثير على الخطبة لعمه القاسم ، إلى أن اختلّت الحال بحضرة قرطبة ، وأيقن يحيى أنه متى أقام بها قبض عليه ، وكان قد ولّى على سبتة أخاه إدريس ، وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه ، فطمع خيران فيها ، وفرّ يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة ، ولما بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة ، فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ٤١٣ ، ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة ، ووقع الاختلاف ، وكان هوى السودان معه ، وهوى كثير من البرابر مع يحيى ، وهوى أهل قرطبة مع قائم من بني أمية يشيعون ذكره ولا يظهر ، وكثر الإرجاف بذلك (٢) ، ووقع الطلب على بني أمية فتفرقوا في البلاد ، ودخلوا في أغمار الناس ، وأخفوا زيّهم ، ثم إن الخلاف وقع بين البربر وأهل قرطبة ، وتكاثر البلديّون ، وأخرجوا القاسم وبرابرته فضرب خيمة بغربيها ، وقاتلهم مدّة خمسين يوما قتالا شديدا ، وبنى القرطبيون أبواب مدينتهم ، وقاتلوا القاسم من الأسوار إلى أن طال عليهم الحصار ، فهدموا بابا من الأبواب وخرجوا خرجة رجل واحد ، وصبروا ، فمنحهم الله تعالى الظفر ، وفر السودان مع القاسم إلى إشبيلية ، وفر البرابرة إلى يحيى وهو بمالقة ، وكان فرار القاسم من ظاهر قرطبة يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٤١٤.

وكان ابنه محمد بن القاسم واليا على إشبيلية ، وثقته المدبر لأمره محمد بن زيري من أكابر البرابرة ، وقاضيها محمد بن عباد ، فعمل القاضي لنفسه ، وهو جدّ المعتمد بن

__________________

(١) في ب ، ه : سنة ٤١٢ ه‍.

(٢) الإرجاف : الخوض في الأخبار السيئة وذكر الفتن.


عباد (١) ، وأطمع ابن زيري في التملك ، فأغلق الأبواب في وجه مصطنعه وحاربه ، فقتل من البرابر والسودان خلق كثير ، وابن عباد يضحك على الجميع ، فيئس القاسم ، وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم ، فأخرجوهم إليه ، فسار بهم إلى شريش. وعند ما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب ، وقتل من الفريقين خلق كثير ، وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له ، وفر سودانه ، وحصل القاسم وابنه في يد يحيى ، وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتلنه ، ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثالثة ، فرأى التربّص (٢) في قتله حتى يرى رأيه فيه ، فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة ، وحبسه عنده ، وكان كلما سكر وأراد قتله رغّبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص ، وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ، ويقول له : أخي أكبر مني ، وكان محسنا إلي في صغري ومسلما إليّ (٣) عند إمارتي ، الله الله فيه ، وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه ، لأنه قد كان حبسه في حصن من حصون مالقه ، فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال : أو بقي في رأسه حديث (٤) بعد هذا العمر؟ فقتله سنة ٤٢٧ ، وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن عشرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة.

ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة ٤١٤ أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه ، فبايعا المستظهر ، وقبّلا يده بعد ما كان قد كتب عقد البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل ، فبشر اسمه ، وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر ، وحمل معه ابني عمه المذكورين فحبسهما ، وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب ، كأبي عامر بن شهيد المنهمك (٥) في بطالته ، وأبي محمد بن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته ، وابن عمه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته ، فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر ، وبادر المستظهر باصطناع البرابر ، وأكرم مثواهم ،

__________________

(١) محمد بن عباد : هو جد المعتمد بن عباد ، عمل أثناء الفتنة على أن تكون له إشبيلية فخضعت له. توفي سنة ٤٣٠ ه‍.

(٢) التربّص : الانتظار.

(٣) في ب ، ج ، ه : ومسلما لي.

(٤) في ه : حدث.

(٥) في بعض النسخ : المنهتك ، وفي أخرى : المنتهك ، وفي ثالثة : المتمسك.


وأحسن مأواهم ، واشتغل مع ابن شهيد وابن حزم بالمباحثة في الآداب ، ونظم الشعر ، والتمسك بتلك الأهداب ، والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون ، وكان جماعة من أهل الشرّ في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان ، فأخرج منهم شخصا يقال له أبو عمران ، وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه ، فأخرجه وخالفه في ذلك ، ولم يقبل النصيحة ، وفعل ما أداه إلى الفضيحة ، فسعى القوم الذين خرجوا من الحبوس على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبؤس ، لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس ، فسعوا في خلعه مع البرابر ، وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها ، وصار كأمس الدابر ، بعد سبعة وأربعين يوما من يوم بويع بالخلافة ، وإذا أراد الله أمرا فلا يقدر أحد أن يأتي خلافه ، وعمره ثلاث وعشرون سنة كأنها سنة (١).

ومن شعر المستظهر المذكور ، وهو من القريض الممدوح صاحبه بالبلاغة المشكور : [مجزوء الرمل]

طال عمر اللّيل عندي

مذ تولّعت بصدّي

يا غزالا نقض العه

د ولم يوف بوعد

أنسيت العهد إذ بت

نا على مفرش ورد

واعتنقنا في وشاح

وانتظمنا نظم عقد

ونجوم اللّيل تسري

ذهبا في لازورد

وكتب إليه شاعر في طرس (٢) مكشوط : [الكامل]

الطّرس مبشور وفيه بشارة

ببقا الإمام الفاضل المستظهر

ملك أعاد العيش غضّا ملكه

وكذا يكون به طوال الأعصر

فأجزل صلته ، وكتب في ظهر الورقة : [الوافر]

قبلنا العذر في بشر الكتاب

لما أحكمت في فصل الخطاب

وقد قدمنا في الباب الثالث شيئا من هذه الأخبار ، وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة ، ثم ابنه ، إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد ، حسبما ذكر في أخباره.

__________________

(١) السّنة ـ بكسر العين : الغفلة ، أول النوم.

(٢) الطرس : الصحيفة.


ثم آل الأمر بعد ذلك كله إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثمين والموحّدين ، على قرطبة ، إلى أن تسلمها النصارى ، أعادها الله تعالى للإسلام! كما يذكر في الباب الثامن.

وقال صاحب «مناهج الفكر» في ذكر قرطبة ، ما ملخصه : فأما ما اشتمل عليه غرب الجزيرة ، من البلاد الخطيرة ، فمنها قرطبة ، وكانت مقر الملك ، ودار الإمارة ، وأمّ ما عداها من البلاد ، منذ افتتحها المسلمون سنة ٩٢ زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم ، وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن ، فبنى في تجاهها مدينة سماها الزهراء ، يجري بينهما نهر عظيم ، انتهى.

واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها ، كما ذكرناه في كلام الناصر الذي طابت له من الزهراء مجانيها ، ولم يزل البلغاء يصفون المباني ، بأحسن الألفاظ والمعاني ، ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك ، زيادة في توسيع المسالك ، فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي (١) يصف دارا بناها المعتمد على الله (٢) : [الطويل]

ويا حبّذا دار قضى الله أنّها

يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى(٣)

مقدّسة لو أن موسى كليمه

مشى قدما في أرضها خلع النّعلا

وما هي إلّا خطّة الملك الّذي

يحطّ إليه كلّ ذي أمل رحلا(٤)

إذا فتحت أبوابها خلت أنّها

تقول بترحيب لداخلها أهلا

وقد نقلت صنّاعها من صفاته

إليها أفانينا فأحسنت النّقلا

فمن صدره رحبا ومن نوره سنى

ومن صيته فرعا ومن حلمه أصلا

فأعلت به في رتبة الملك ناديا

وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى

نسيت به إيوان كسرى لأنّني

أراه له مولى من الحسن لا مثلا

كأنّ سليمان بن داود لم تبح

مخافته للجنّ في صنعه مهلا

__________________

(١) ابن حمديس الصقلي : هو عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس. ولد ونشأ في سرقوسة ثم هاجر إلى الأندلس ، ومدح المعتمد بن عباد إلى أن عزل عن ملكه ، فغادر الشاعر الأندلس إلى المغرب ، وظل يتنقل إلى أن توفي سنة ٥٢٧ ه‍. (انظر مقدمة ديوانه ط صادر بيروت).

(٢) انظر ديوان الشاعر ص ٣٧٥ ـ ٣٨٠.

(٣) البيت في الديوان :

ويا حبذا دار يد الله مسحت

عليها بتجديد البقاء فما تبلى

(٤) في ب : يخطّ إليه كل ذي أمل رجلا.


ترى الشّمس فيه ليقة تستمدها

أكفّ أقامت من تصاويرها شكلا

لها حركات أودعت في سكونها

فما تبعت في نقلهنّ يد رجلا

ولمّا عشينا (١) من توقد نورها

تخذنا سناه في نواظرنا كحلا

وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن أعلى الناس ببجاية (٢) : [الكامل]

اعمر بقصر الملك ناديك الّذي

أضحى بمجدك بيته معمورا

قصر لو أنّك قد كحلت بنوره

أعمى لعاد إلى المقام بصيرا

واشتقّ من معنى الجنان نسيمه

فيكاد يحدث بالعظام نشورا

واشتقّ من معنى الجنان نسيمه

فيكاد يحدث بالعظام نشورا(٣)

نسي الصبيح مع المليح بذكره

وسما ففاق خورنقا وسديرا

لو أنّ بالإيوان قوبل حسنه

ما كان شيئا عنده مذكورا(٤)

أعيت مصانعه على الفرس الألى

رفعوا البناء وأحكموا التّدبيرا

أعيت مصانعه على الفرس الألى

لملوكهم شبها له ونظيرا

أذكرتنا الفردوس حين أريتنا

غرفا رفعت بناءها وقصورا

فالمحسنون تزيّدوا أعمالهم

ورجوا بذلك جنّة وحريرا

والمذنبون هدوا الصّراط وكفّرت

حسناتهم لذنوبهم تكفيرا

فلك من الأفلاك إلّا أنّه

حقر البدور فأطلع المنصورا

أبصرته فرأيت أبدع منظر

ثمّ انثنيت بناظري محسورا

فظننت أني حالم في جنّة

لمّا رأيت الملك فيه كبيرا (٥)

وإذا الولائد فتّحت أبوابه

جعلت ترحّب بالعفاة صريرا

عضّت على حلقاتهنّ ضراغم

فغرت بها أفواهها تكسيرا (٦)

فكأنّها لبدت لتهصر عندها

من لم يكن بدخولها مأمورا(٧)

__________________

(١) عشينا : ساء بصرنا.

(٢) ديوان ابن حمديس ص ٥٤٥ مطلعها :

واعمر بقصر الملك نادينا الذي

أضحى بمجدك بيته معمورا

(٣) في ب : واشتق من معنى الحياة.

(٤) في ب : ولو أنّ بالإيوان.

(٥) في ب : وظننت.

(٦) في ب : تكشيرا ، وفي ج تكبيرا.

(٧) في ب ، ه : بدخوله مأمورا.


تجري الخواطر مطلقات أعنّة

فيه فتكبو عن مداه قصورا

بمرخّم الساحات تحسب أنه

فرش المها وتوشّح الكافورا

ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه

مسكا تضوّع نشره وعبيرا

تستخلف الأبصار منه إذا أتى

صبحا على غسق الظّلام منيرا(١)

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه ، وتفنن فذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا ، فقال : [الكامل]

وضراغم سكنت عرين رياسة

تركت خرير الماء فيه زئيرا

فكأنّما غشّى النّضار جسومها

وأذاب في أفواهها البلّورا

أسد كأنّ سكونها متحرّك

في النّفس لو وجدت هناك مثيرا

وتذكّرت فتكاتها فكأنّما

أقعت على أدبارها لتثورا

وتخالها والشّمس تجلو لونها

نارا وألسنها اللواحس نورا

فكأنّما سلّت سيوف جداول

ذابت بلا نار فعدن غديرا

وكأنّما نسج النّسيم لمائه

درعا فقدّر سردها تقديرا

وبديعة الثّمرات تعبر نحوها

عيناي بحر عجائب مسجورا

شجريّة ذهبيّة نزعت إلى

سحر يؤثّر في النّهى تأثيرا

قد صولجت أغصانها فكأنّما

قنصت بهنّ من الفضاء طيورا

وكأنّما تأبى لوقّع طيرها

أن تستقلّ بنهضها وتطيرا(٣)

من كلّ واقعة ترى منقارها

ماء كسلسال اللجين نميرا

خرس تعدّ من الفصاح فإن شدت

جعلت تغرّد بالمياه صفيرا

وكأنّما في كلّ غصن فضّة

لانت فأرسل خيطها مجرورا

وتريك في الصّهريج موقع قطرها

فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا

ضحكت محاسنه إليك كأنّما

جعلت لها زهر النّجوم ثغورا

__________________

(١) في الديوان :

يستخلف الإصباح منه إذا انقضى

صبحا على غسق الظلام منيرا

(٢) الضراغم : جمع ضرغام ، وهو الأسد.

(٣) في ب : وكأنما تأبى لواقع طيرها.


ومصفّح الأبواب تبرا نظّروا

بالنّقش فوق شكوله تنظيرا(١)

تبدو مسامير النّضار كما علت

تلك النّهود من الحسان صدورا(٢)

خلعت عليه غلائلا ورسيّة

شمس تردّ الطّرف عنه حسيرا(٣)

وإذا نظرت إلى غرائب سقفه

أبصرت روضا في السّماء نضيرا

وعجبت من خطّاف عسجده الّتي

حامت لتبني في ذراه وكورا

وضعت به صنّاعها أقلامها

فأرتك كلّ طريدة تصويرا(٤)

وكأنّما للشّمس فيه ليقة

مشقوا بها التّزويق والتّشجيرا

وكأنّما باللّازورد مخرّم

بالخطّ في ورق السّماء سطورا(٥)

وكأنّما وشوا عليه ملاءة

تركوا مكان وشاحها مقصورا

ثم مدح المنصور بعد ذلك ، وختم القصيدة بقوله :

يا مالك الأرض الّذي أضحى له

ملك السّماء على العداة نصيرا

كم من قصور للملوك تقدّمت

واستوجبت بقصورك التأخيرا(٦)

فعمرتها وملكت كلّ رياسة

منها ودمّرت العدا تدميرا

قلت : لم أر لهذه القصيدة من نظير ، في معناها اليانع النضير ، ولفظها العذب النّمير ، الذي شمّر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أيّ تشمير ، غير أن فيها عندي عيبا واحدا ، وهو ختمها بلفظ التدمير ، وعلى كل حال فالحسن والإحسان ، يقادان في أرسان ، لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان ، وخصوصا في وصف المباني والبرك ، فما أبقى لسواه في ذلك حسنا ولا ترك.

ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها المياه من شاذروان من أفواه طيور وزرافات

__________________

(١) في ه : بين شكوله تنظيرا.

(٢) في ج : تلك النهود من الجنان صدورا.

(٣) ورسية : بلون الورس ، والورس نبات كالسمسم تغطي ثمره غدد حمر ، يصبغ به.

(٤) في ب : صنّاعه أقلامها.

(٥) في ب : مخرّم.

(٦) في ه : لقصورك التأخيرا.


وأسود ، وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة (١) : [الكامل]

والماء منه سبائك من فضّة

ذابت على دوحات شاذروان(٢)

وكأنّما سيف هناك مشطّب

ألقته يوم الحرب كفّ جبان (٣)

لو عاد ذاك الماء نفطا أحرقت

في الجوّ منه قميص كلّ عنان

في بركة قامت على حافاتها

أسد تذلّ لعزّة السّلطان

نزعت إلى ظلم النّفوس نفوسها

فلذلك انتزعت من الأبدان

وكأنّ برد الماء منها مطفئ

نارا مضرّمة من العدوان

وكأنّما الحيّات من أفواهها

يطرحن أنفسهنّ في الغدران

وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها

أخذت من المنصور عقد أمان

وهاتان القصيدتان لابن حمديس كما في المناهج مع طولهما تدلان على الإيداع الذي

__________________

(١) في ديوان ابن حمديس ص ٤٩٤ ـ ٤٩٧ من قصيدة يمدح بها المنصور بن الناصر بن علناس.

(٢) في ب : والماء منه سبائك فضيّة.

(٣) السيف المشطب : ذو الشطب ، والشطب : الخطوط في متن السيف.

(٤) البندق : رصاص كروي الشكل يستعمل في بعض القذائف.


ابتكره ، والاختراع الذي ما ولج سمع أحد من الفضلاء إلا شكره [لما أسكره](١).

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي (٢) يصف قصرا بمصر يسمى «منزل العز» بناه حسن بن علي بن تميم بن المعز العبيدي : [الكامل]

منزل العزّ كاسمه معناه

لا عدا العزّ من به سمّاه

منزل ودت المنازل في أعل

ى ذراه لو صيّرت إيّاه

فأجل فيه لحظ عينيك تبصر

أيّ حسن دون القصور حواه

سال في سقفه النّضار ولكن

جمدت في قراره الأمواه

وبأرجائه مجال طراد

ليس تنفكّ من وغى خيلاه

تبصر الفارس المدجّج فيه

ليس تدمى من الطّعان قناه

وترى النابل المواصل للنّز

ع بعيدا من قرنه مرماه

وصفوفا من الوحوش وطير ال

جوّ كلّ مستحسن مرآه

سكنات تخالها حركات

واختلاف كأنّه إشباه

كمحيّا الحبيب حرفا بحرف

ما تعدّى صفاته إذ حكاه

ورده وجنتاه ، نرجسه الفتّ

ان عيناه ، آسه عارضاه

وكأنّ الكافور والمسك في الطّي

ب وفي اللّون صبحه ومساه

منظر يبعث السرور ومرأى

يذكر المرء طيب عصر صباه

وقال أبو الصلت أمية الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه علي بن تميم بن المعز العبيدي: [الكامل]

لله مجلسك المنيف قبابه

بموطّد فوق السّماك مؤسّس(٣)

موف على حبك المجرّة تلتقي

فيه الجواري بالجواري الكنّس

تتقابل الأنوار من جنباته

فاللّيل فيه كالنّهار المشمس

عطفت حناياه دوين سمائه

عطف الأهلّة والحواجب والقسي

واستشرفت عمد الرّخام وظوهرت

بأجلّ من زهر الرّبيع وأنفس

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجودة في ب.

(٢) كان طبيبا شاعرا ، ومن مؤلفاته : كتاب الحديقة ، والرسالة المصرية. توفي سنة ٥٢٩ (معجم البلدان ج ٧ ص ٥٢).

(٣) في بعض النسخ : بموطن فوق السماء مؤسس. ولعل هذا تصحيفا.


فهواؤه من كلّ قدّ أهيف

وقراره من كل خدّ أملس

فلك تحيّر فيه كلّ منجّم

وأقرّ بالتّقصير كلّ مهندس

فبدا للحظ العين أحسن منظر

وغدا لطيب العيش طيب معرّس(١)

فاطلع به قمرا إذا ما أطلعت

شمس الخدور عليك شمس الأكؤس(٢)

فالنّاس أجمع دون قدرك رتبة

والأرض أجمع دون هذا المجلس

ويعجبني قول أبي الصلت أمية المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه : [الطويل]

ولله مجرى النّيل منها إذا الصّبا

أرتنا به من مرّها عسكرا مجرا (٣)

إذا زاد يحكي الورد لونا وإن صفا

حكى ماؤه لونا ولم يحكه مرّا(٤)

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر : [البسيط]

يا نزهة الرّصد التي قد اشتملت

من كلّ شيء حلا في جانب الوادي(٥)

فذا غدير ، وذا روض ، وذا جبل

والضّبّ والنّون والملّاح والحادي

وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة (٦) : [البسيط]

زر وادي القصر ، نعم القصر والوادي

لا بدّ من زورة من غير ميعاد

زره فليس له ندّ يشاكله

من منزل حاضر إن شئت أو بادي

تلقى به السّفن والظّلمان حاضرة

والضّبّ والنّون والملّاح والحادي

وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين : [الطويل]

بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا

على طول ما عاينت من هرمي مصر

أنافا بأكناف السّماء ، وأشرفا

على الجوّ إشراف السّماك على النّسر(٧)

وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا

كأنّهما نهدان قاما على صدر(٨)

__________________

(١) في ب ، ه : خير معرس.

(٢) في ه : الأكوس.

(٣) في ه : «مجرى النيل منه». والعسكر المجر : الجيش العظيم.

(٤) في ب ، ه : حكى ماءه لونا ولم يعده نشرا.

(٥) في ب : يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت.

(٦) الشعر لابن أبي عيينة (انظر الأغاني ج ٢٠ ص ٣٧).

(٧) في ب ، ه :

أنافا فأعنان السماء وأشرفا

على الجو إشراف السماك أو النسر

(٨) النشز من الأرض : المكان المرتفع منها. وورد في ب : كأنهما ثديان قاما ..


وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس.

وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدة فوّارات : [الكامل]

غضبت مجاريها فأظهر غيظها

ما في حشاها من خفيّ مضمر

وكأنّ نبع الماء من جنباتها

والعين تنظر منه أحسن منظر

قضب من البلّور أثمر فرعها

لمّا انتهت باللّؤلؤ المتحدّر

وقال ابن صارة الأندلسي يصف ماء بالرقة والصفاء [يجري على الصفا](١) : [الكامل]

والنّهر قد رقّت غلالة خصره

وعليه من صبغ الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنّها

عكن الخصور تهزّها الأعجاز

وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه : [الكامل]

والنّهر مسكوّ غلالة فضّة

فإذا جرى سيلا فثوب نضار

وإذا استقام رأيت صفحة منصل

وإذا استدار رأيت عطف سوار

وقال ابن حمديس المغربي يصف نهرا بالصفا (٢) : [الطويل]

ومطّرد الأمواج يصقل متنه

صبا أعلنت للعين ما في ضميره

جريح بأطراف الحصى كلّما جرى

عليها شكا أو جاعه بخريره

وهذا النهج متسع ، ولم نطل السير في هذه المهامه ، وإنما ذكرنا بعض كلام المغاربة ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه ، ولأن في أمرها عبرة لمن عقل ، إذا أصدأ مرآة حسنها ولطالما كان لمتنها (٣) صقل.

وقد وقفت على كلام لصاحب المناهج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصا ، وهو :

ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها ، وفاق مخبرها ، وارتفع بناؤها ، واتسع فناؤها ، طرفا من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها ، ومحاه من محاسن صور كانت أرواحا لجسومها.

وصف أعرابي محلة قوم ارتحلوا عنها فقال نثرا : ارتحلت عنها ربّات الخدور ، وأقامت

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجود في ب.

(٢) ديوان ابن حمديس ص ١٨٦.

(٣) في ب ، ه : لمثلها صقل.


بها أثافيّ القدور (١) ، ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح آثارهم ، وذهبت بأبدالهم وأبقت أخبارهم ، والعهد قريب ، واللقاء بعيد.

وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن (٢) : [السريع]

يا دار أمسى دارسا رسمها

وحشا قفارا ما بها آهل

قد جرّت الرّيح بها ذيلها

واستنّ في أطلالها الوابل

ومن كلام الفتح بن خاقان ، في قلائد العقيان ، يذكر آل عبّاد من فصل أكثر فيه التفجّع ، وأطال به التوجّع : والغصون (٣) تختال في أدواحها ، والأزاهر يحيي ميت الصبابة شذا أرواحها ، وأطيار الرياض (٤) قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها ، وانقراض أترابها ، والوهي بمشيدها لاعب ، وعلى كل جدار منها غراب ناعب ، وقد محت الحوادث ضياءها ، وقلصت ظلالها وأفياءها ، ولطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت ، وفاحت من شذاهم وتأرّجت ، أيام نزلوا خلالها ، وتفيّؤوا ظلالها ، وعمروا حدائقها وجنّاتها ، ونبّهوا الآمال من سناتها ، وراعوا الليوث في آجامها ، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها ، فأصبحت ولها [بالتداعي (٥)] تلفّع واعتجار ، ولم يبق من آثارها إلا نؤي (٦) وأحجار ، قد هوت (٧) قبابها ، وهرم شبابها ، وقد يلين الحديد ، ويبلى على طيه الجديد.

وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها : [الطويل]

ديار عليها من بشاشة أهلها

بقايا تسرّ النّفس أنسا ومنظرا

ربوع كساها المزن من خلع الحيا

برودا وحلّاها من النّور جوهرا

تسرّك طورا ثمّ تشجيك تارة

فترتاح تأنيسا وتشجى تذكّرا

ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيس خلا من ازدحام الملا وعوّضه الزمان من تواصل أحبابه هجوا وقلا :

__________________

(١) الأثافي : جمع أثفية ، وهي الحجر الذي يوضع عليه القدر.

(٢) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٣٠١.

(٣) في ج : والقصور.

(٤) في قلائد العقيان : وآثار الديار.

(٥) زيادة من القلائد.

(٦) النؤي : حفرة حول الخيمة تمنع السيل.

(٧) في ه : قد وهت قبابها.


قد كان منزله مألف الأضياف ، ومأنس الأشراف ، ومنتجع الرّكب ، ومقصد الوفد ، فاستبدل بالأنس وحشة ، وبالضياء ظلمة ، واعتاض من تزاحم المواكب ، تلاطم النّوادب ، ومن ضجيج النداء والصّهيل ، عجيج البكاء والعويل.

ومن رسالة لابن الأثير الجزري يصف دمنة دار لعبت بها أيدي الزمن ، وفرقت بين المسكن والسكن : كانت مقاصير جنّة ، فأصبحت وهي ملاعب جنّة ، وقد عميت أخبار قطّانها ، وآثار أوطانها ، حتى شابهت إحداهما في الخفاء ، الأخرى في العفاء ، وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ، ولا يرفع عنها جلباب ظلام ، غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه ، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه.

وقد لمح في بعض كلامه قول الشريف الرضي من أبيات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر (١) : [الكامل]

ما زلت أطّرق المنازل باللّوى

حتّى نزلت منازل النّعمان

بالحيرة البيضاء حيث تقابلت

شمّ العماد عريضة الأعطان(٢)

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم

خطط معمّرة بعمر فاني

شهدت بفضل الرّافعين قبابها

ويبين بالبنيان فضل الباني

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم

خطط معمّرة بعمر فاني

يقول فيها :

ولقد رأيت بدير هند منزلا

ألما من الضّرّاء والحدثان

يغضي كمستمع الهوان تغيّبت

أنصاره وخلا من الأعوان

بالي المعالم أطرقت شرفاته

إطراق منجذب القرينة عاني

أمقاصر الغزلان غيّرك البلى

حتى غدوت مرابض الغزلان

وملاعب الإنس الجميع طوى الرّدى

منهم فصرت ملاعب الجنّان

ومنها :

__________________

(١) ديوان الشريف الرضي ج ٢ ص ٤٦٨.

(٢) شمّ : جمع أشمّ ، وهو العالي المرتفع. الأعطان : مبارك الإبل ، واحدها عطن ، كني بذلك عن الشرف واليسار.


مسكيّة النّفحات تحسب تربها

برد الخليع معطّر الأردان(١)

وكأنّما نسي التّجار لطيمة

جرت الرّياح بها على القيعان(٢)

ماء كجيب الدّرع يصقله الصّبا

ويفي بدوحته النّسيم الواني(٣)

زفر الزّمان عليهم فتفرّقوا

وجلوا عن الأقطار والأوطان (٤)

وقال أبو إسحاق الصابي ، وتوارد مع الشريف الرضي في المعنى والقافية ، يصف قصر روح بالبصرة : [الكامل]

أحبب إليّ بقصر روح منزلا

شهدت بنيّته بفضل الباني

سور علا وتمنّعت شرفاته

فكأنّ إحداهنّ هضب أبان

وكأنّما يشكو إلى زوّاره

بين الخليط وفرقة الجيران

وكأنّما يبدي لهم من نفسه

إطراق محزون الحشا حرّان

ولأحمد بن فرج الإلبيري من أبيات : [الوافر]

سألت بها فما ردّت جوابا

عليك ، وكيف تخبرك الطّلول؟

ومن سفه سؤالك رسم دار

مضى لعفائه زمن طويل

فإن تك أصبحت قفرا خلاء

لعينك في مغانيها همول

فقدما قد نعمت قرير عين

بها وبربعها الرّشأ الكحيل

وقال أبو عبد الله بن الخياط (٥) الأندلسي الأعمى : [البسيط]

لو كنت تعلم ما بالقلب من نار

لم توقد النّار بالهنديّ والغار

يا دار علوة قد هيّجت لي شجنا

وزدتني حرقا ، حيّيت من دار

كم بتّ فيك على اللّذات معتكفا

واللّيل مدّرع ثوبا من القار

كأنّه راهب في المسح ملتحف

شدّ المجدّ له وسطا بزنّار

__________________

(١) في ب : برد الخليع.

(٢) في الديوان : العقيان. واللطيمة : وعاء من المسك ، والقيعان : جمع قاع ، وهو الأرض السهلة بين جبلين.

(٣) في ج : ويقي بدوحته. وفي الديوان : ونقا يدرجه.

(٤) في ب ، ه : وجلوا عن الأوطار والأوطان.

(٥) في ب : الحناط ، وهو أصح من الخياط.


يدير فيه كؤوس الرّاح ذو حور

يدير من لحظه ألحاط سحّار(١)

ولا مزيد في التفجع على الديار ، والتوجع للدمن والآثار ، على قول البحتري من قصيدة يرثي بها المتوكل : [الطويل]

محلّ على القاطول أخلق داثره

وعادت صروف الدّهر جيشا تغاوره(٢)

كأنّ الصّبا توفي نذورا إذا انبرت

تراوحه أذيالها وتباكره

وربّ زمان ناعم ثمّ عهده

ترقّ حواشيه ويونق ناضره

 تغيّر حسن الجعفريّ وأنسه

وقوّض بادي الجعفريّ وحاضره(٣)

تحمّل عنه ساكنوه فجاءة

فعادت سواء دوره ومقابره

إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى

وقد كان قبل اليوم يبهج زائره

ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره

ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره(٤)

وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت

على عجل أستاره وستائره

وأوحشه حتّى كأن لم يكن به

أنيس ولم تحسن لعين مناظره

كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة

بشاشتها والملك يشرق زاهره

ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها

وبهجتها والعيش غضّ مكاسره

فأين الحجاب الصّعب حيث تمنّعت

بهيبتها أبوابه ومقاصره

وأين عميد النّاس في كلّ نوبة

تنوب وناهي الدّهر فيهم وآمره

وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي : [الوافر]

ومرتبع حططت الرّحل فيه

بحيث الظّلّ والماء القراح

تخرّم حسن منظره مليك

تخرّم ملكه القدر المتاح

فجرية ماء جدوله بكاء

عليه ، وشدو طائره نواح

وهذا النوع من البكاء على الدمن ، والتأسف على ما فعلت بها أيدي الزمن ، كثير جدا ،

__________________

(١) في ب : يدير من طرفه ..

(٢) القاطول : نهر كان في موضع سامراء قبل عمرانها. وتغاوره : تغير عليه.

(٣) الجعفري : قصر المتوكل.

(٤) ريع : أفزع ، والسرب : القطيع من الحيوان. والأطلاء : جمع طلو ، وهو الصغير من الوحش. والجآذر : جمع جؤذر ، وهو ولد البقرة الوحشية.


لا يعرف الباحث عنه له حدا ، وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها ، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة ، وجعلناها نغبة (١) يشفي المشوق بها غليله ، وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنه لا يجدي ، ولا يدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي ، ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب ، المجرع لصاحبه الصاب والأوصاب (٢).

قال أبو عمر بن عبد البر : [الكامل]

عفت المنازل غير أرسم دمنة

حيّيتها من دمنة ورسوم

كم ذا الوقوف ولم تقف في منسك

كم ذا الطّواف ولم تطف بحريم

فكل الدّيار إلى الجنائب والصّبا

ودع القفار إلى الصّدى والبوم

(٣) انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار.

رجع إلى قرطبة ـ فنقول : وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمّة (٤) ، ونص محل الحاجة منه هنا : ثم كان الغزو إلى أم البلاد ، ومثوى الطارف والتّلاد ، قرطبة ، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل ، والكرسيّ الذي بعصاه رعي الهمل ، والمصر [المعمور (٥)] الذي في خطه (٦) الناقة والجمل ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل (٧) ، فخيم الإسلام في عقرتها المستباحة (٨) ، وأجاز نهرها المعيي على السباحة ، وعم دوحها الأشب بوارا ، وأدار المحلات بسورها سوارا ، وأخذ بمخنّقها حصارا ، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصارا ، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا (٩) ، فأعمال إلى المسلمين

__________________

(١) في ج : نبعة ، والنبغة : الجرعة.

(٢) الصاب : شجر مر الطعم. والأوصاب : جمع وصب ، وهو المرض ، والألم الدائم.

(٣) الجنائب : جمع جنوب ، وهي الريح التي تهب من ناحية الجنوب.

(٤) ثمة : هناك.

(٥) في ب : ما بين حاصرتين غير موجود.

(٦) في ب : الذي له في خطة.

(٧) العبشمية : النسبة إلى عبد شمس.

(٨) في ب : عقوتها المستباحة.

(٩) الانجحار : الدخول في الجحر.


إصحارا ، حتى قرع بعض جهاتها غلابا جهارا ، ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا ، فلو لا استهلال الغوادي ، وأن أتى الوادي ، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي ، ولقضى تفثه العاكف والبادي. انتهى.

ومما كتب به لسان الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس ، ما صورته : المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد ، ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد ، ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد ، ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاف ودوام الإسعاد والإمداد ، ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفا يخرق حجاب المعتاد ، وامتعاضا يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد ، ويفتح أبواب الفتوح بأقاليد السيوف الحداد ، وينبئ عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد ، مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور ، ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيته وحسن قصده لطائف السرور ، ونستظهر بملكه المؤيد المؤمل ومجده المشهور ، ونتوعد منهما العدوّ بالحبيب المذخور والولي المنصور ، السلطان الكذا ابن (١) الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر ، قرير العين منشرح الصدر ، ولا زال حديث فخره سائرا مسير الشمس والبدر ، عظّم سلطانه الخليق بالتعظيم ، الواثق منه بالذخر الكريم ، المثني على مجده الصّميم العميم ، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير (٢) المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر ، سلام كريم ، بر عميم ، يخص مقامكم الأعلى ، وأخوّتكم الفضلى ، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله ربّ العباد ، وملهم الرشاد ، ومكيف الإسعاف والإسعاد ، الولي النصير الذي نلقي إلى التوكّل عليه مقاليد الاعتماد ، ونمد إلى إنجاده [وإمداده (٣)] أيدي الاعتداد ، ونرفع إليه أكفّ الاستمداد ، ونخلص لوجهه الكريم عمل الجهاد ، فنتعرّف عوارف الفضل المزداد ، ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا المنآد (٤) ، ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد ، ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد ، ونتفيّأ ظلال الجنة من تحت أوراق السيوف الحداد ، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله النبي الهاد ، رسول الملحمة المؤيد (٥) بالملائكة الشداد ، ونبي الرحمة الهامية العهاد ، أكرم الخلق بين الرائح والغاد ، ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التّناد ، الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد ، وببركته ننال أقصى الأمل والمراد ، وفي

__________________

(١) في ب : ابن السلطان.

(٢) في ب : ابن أمير.

(٣) في ب : ما بين حاصرتين غير موجود.

(٤) في ب ، ه : المياد. والمنآد : النازّ دما.

(٥) في بعض النسخ : المؤيدة.


مرضاته نصل أسباب الوداد ، فنعود بالتّجر الرابح من مرضاة رب العباد ، ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد ، والرضا عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد ، دعائم الدين من بعده وهداة العباد ، أنجاد الأنجاد وآساد الآساد ، الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد (١) ، والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والأعداد ، حتى بوّءوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد ، وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد ، فأصبح الدين رفيع العماد ، منصور العساكر والأجناد ، مستصحب العز في الإصدار والإيراد ، والدعاء لمقامكم الأعلى بالسّعد الذي يغني عن اختيار الطوالع وتقويم الميلاد ، والنصر الذي تشرق أنباؤه في جنح ليل المداد ، والصنع الذي تشرع له أبواب التوفيق والسّداد ، من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر قد وطأ المهاد (٢) ، والخير واضح الأشهاد ، والحمد لله في المبدأ والمعاد ، والشكر له على آلائه المتصلة التّرداد ، ومقامكم الذخر الكافي العتاد ، والمردد المتكفل بالإنجاد ، وإلى هذا وصل الله سعدكم ، وحرس مجدكم ، ووالى نصركم وعضّدكم [وعددكم عددكم (٣)] وبلغكم من فضله العميم أملكم وقصدكم ، فإننا نؤثر تعريفكم بتافه المتزيدات ، ونورد عليكم أشتات الأحوال المتجدّدات ، إقامة لرسم الخلوص في التعريف بما قل ، ومودة خالصة في الله عز وجل ، فكيف إذا كان التعريف بما تهتز له (٤) منابر الإسلام ارتياحا لوروده ، وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده ، والمكيفات البديعة الصفات في وجوده ، وهو أننا قدمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أمّ البلاد الكافرة ، ومقر الحامية المشهودة (٥) والخيرات الوافرة ، والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم ، والركن الذي لا يتوقع صدمة صادم ، وقد اشتمل سورها من زعماء ملة الصليب على كل رئيس بئيس ، وهزبر خيس (٦) ، وذي مكر وتلبيس ، ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه ، وأتباع على المنشط والمكره تطيعه ، فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد ، وأذعنا في الجهات نفير الجهاد ، وتقدّمنا إلى الناس بسعة الأزواد ، وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والأعداد حقها من الاستعداد ، وأفضنا (٧) العطاء والاستلحاق والاستركاب في أهل الغناء وأبطال الجهاد و (٨) الجلاد ، فحشر الخلق في صعيد ، وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد ، وشمل الاستدعاء كل

__________________

(١) الحلوم : العقول والأطواد : الجبال.

(٢) في ب : واليسر وثيق المهاد.

(٣) هذه الزيادة غير موجودة في ب ، ه.

(٤) له : ساقطة في ب.

(٥) في ه : الحامية الشهيرة.

(٦) في ه : هزبر خسيس. والخيس ـ بكسر الخاء ـ الفيل.

(٧) في ج : وأقضينا.

(٨) الجهاد و : غير موجودة في ب.


قريب وبعيد عن وعد ووعيد ، ورحلنا وفضل الله شامل ، والتوكل عليه كاف كافل ، وخيّمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم ، واستكملوا أسرابهم ، ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها ، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها ، وعندما حللنا قاشرة (١) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا ، ومستعيد حظه من مواقع (٢) جهادنا ، ومقتضى دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا ، قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته ، وتمسك بطاعته ، وشمله حكم جماعته ، فكان لقاؤنا إياه على حال أقرّت عيون المسلمين ، وتكفلت بإعزاز الدين ، ومجملها يغني عن التعيين ، والشرح والتبيين ، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم ، وأشك في حال اليقظة خيالهم ، من جموع تسدّ الفضا ، وأبطال تنازع أسد الغضى (٣) ، وكتائب منصورة ، ورايات منشورة ، وأمم محشورة ، تفضل عن مرأى العين ، وتردي العدوّ في مهاوي الحين (٤) ، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم ، واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم ، وإذا كثّر الله تعالى العدد نما وزكا ، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا ، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف ، وسمت الهوى (٥) إلى الاستشراف ، وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف ، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا ، ولا يجد الاعتبار (٦) عندها دخلا ، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها ، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها ، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها ، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع ، وافرة الجموع ، واستجنّت (٧) من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر ، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر ، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع ، والمصال والمصاع ، وخالطوهم هبرا بالسيوف ، ومباكرة بالحتوف ، فتركوهم حصيدا ، وأذاقوهم وبالا شديدا ، وجدّلوا منهم جملة وافرة ، وأمة كافرة ، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة ، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة ، واقتحم المسلمون الوادي سيما (٨) في غمره ، واستهانة في سبيل الله بأمره ، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها ، وتعلّقوا بأوائل الأسوار ففرعوها ، فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال ، وتيسير الآلات وترتيب الرجال ،

__________________

(١) قاشرة : من أحواز لبلة بالأندلس.

(٢) في ب : لواحق جهادنا.

(٣) في ه ، ب : وأبطال تقارع أسود الغضى.

(٤) الحين ، بفتح الحاء : الهلاك.

(٥) في ب : الهوادي.

(٦) في ه : ولا يجد الاختيار.

(٧) استجنّت : اتخذت جنة وحافظا ودرعا.

(٨) في ب : سبحا.


لدخل البلد ، وملك الأهل والولد ، لكن أجار الكفار من الليل كافر (١) ، وقد هلك منهم عدد وافر ، ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر (٢) ، والعزم ظافر ، ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا ، والتوكل على الله للبلاغ ضمينا ، ونزلنا من ضفّته القصوى منزلا عزيزا مكينا ، بحيث يجاور سورها طنب القباب ، وتصيب دورها من بين الخيمات (٣) بوارق النّشاب ، وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب ، مقيمة أسواق الطعان والضّراب ، فآبت بصفقة الخسر والتباب (٤) ، ولما شرعنا في قتلها ، ورتبنا أشتات النّكايات لنكالها ، وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها ، أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد ، وساوى النجد من طوفانه الوهد ، وعظم به الجهد ، ووقع الإبقاء على السلاح ، والكفّ بالضرورة عن الكفاح ، وبلغ المقام عليها ، والأخذ بمخنّقها والثّواء لديها ، خمسة أيام لم تخل فيها الأسوار من اقتراع ، ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع ، وأنفذت مقاتل الستائر أنقابا ، وارتقب الفتح الموعود ارتقابا ، وفشت في أهلها الجراح والعيث الصّراح ، وساءهم المساء بعزة الله والصّباح ، ولو لا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح ، والله بعدها الفتّاح ، وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران ، وتسليط النيران ، وعقر الأشجار ، وتعفية الآثار ، وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار ، وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار ، ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حدادا ، ونكس من طغاتها أجيادا فاعتادت الذلّ اعتيادا ، وألفت الهون قيادا ، وكادت أن تستباح عنوة لو لا أن الله تعالى جعل لها ميعادا ، وأتى القتل من أبطالها ، ومشاهير رجالها ، ممن يبارز ويناطح ، ويماسي بالناس ويصابح ، على عدد جمّ أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم ، ونبهت علاماتهم على نباهاتهم (٥) ، وظهر إقدام المسلمين في المعتركات ، وبروزهم (٦) بالحدود المشتركات ، وتنفيلهم الأسلاب ، وقودهم الخيل المسوّمة قود الغلاب ، وكان القفول ، وقد شمل الأمن والقبول ، وحصل الجهاد المقبول ، وراع الكفر العزّ الذي يهول (٧) ، والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول ، وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها ، والمنازل التي استباحوها وانتهبوها ، بحورا بعد منها الساحل ، وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل ، فصيروها صريما (٨) ، وسلطوا عليها النار غريما ، وحلوا بظاهر حصن أندوجر (٩) وقد أصبح مألف أذمار

__________________

(١) الليل الكافر : الأسود المعتم.

(٢) السافر : الظاهر البادي.

(٣) في ب ، ه : المخيمات.

(٤) التباب : الهلاك.

(٥) في ب : علاماتها على نبهائهم.

(٦) في ه : وبذرهم.

(٧) يهول : يفزع ويخيف.

(٨) الصريم : أراد الأرض التي لا نبات فيها.

(٩) أندوجر : حصن قريب من قرطبة على نهر الوادي الكبير.


غير أوشاب ، ووكر طير (١) نشاب ، فلما بلونا مراسه صعبا ، وأبراجه ملئت حرسا شديدا وشهبا ، ضننّا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه ، فسلّطنا العفاء على ساحه ، وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه ، وسلطنا النار على حزونه (٢) وبطاحه ، وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه ، وانصرفنا بفضل الله والمناجل دامية ، والأجور نامية ، وقد وطئنا المواطىء التي كانت على الملوك قبلنا بسلا (٣) ، ولم نترك بها حرثا يرفد ولا نسلا ، ولا ضرعا يرسل رسلا ، والحمد لله الذي يتم (٤) النعيم بحمده ، ونسأله حلة النصر (٥) فما النصر إلا من عنده ، عرّفناكم بهذه الكيفيات ، الكريمة الصفات ، والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات ، علما بأنها لديكم من أحسن الهديات الودّيات ، ولما نعلمه لديكم من حسن النيات وكرم الطّويّات ، فإنكم سلالة الجهاد المقبول ، والرّفد المبذول ، ووعد النصر المفعول ، ونرجو الله عز وجل أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهادية ، إلى المعاينة في نصر الملة المحمدية ، وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام ، على عبدة الأصنام ، ويتم النعمة على الأنام ، وودنا لكم ما علمتم يزيد على ممرّ الأيام ، والله يجعله في ذاته لكم متصل الدوام ، مبلّغا إلى دار السلام ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، ويضاعف الآلاء عندكم ، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.

ومن هذا المنحى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه ونصه : المقام الذي أحاديث سعادته لا تملّ على الإعادة والتكرار ، وسبيل مجادته ، الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار ، وأخبار صنائع الله لملكه ، ونظم فرائد الآمال في سلكه ، تخلدها أقلام الأقدار ، بمداد الليل في قرطاس النهار ، وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات (٦) الأقمار ، وتجعلها هجّيرى حملاء الأسفار (٧) ، وحداة القطار في مسالك الأقطار ، مقام محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة ، ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة ، ونطرّز بأعلام ثنائه صحائف المجادة ، ونشكر الله أن وهب لنا من أخوته المضافة إلى المحبة والودادة ، ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوة الولادة ، وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد ، بيت القصيد ، ووسطى القلادة ، ومجلي الكمال الذي تبارى بميدان بأسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة ، ولا زالت آماله القاصية

__________________

(١) في ب : طيور.

(٢) الحزون : جمع حزن ، الأرض الصعبة.

(٣) بسلا : أراد : محرمة.

(٤) في ب : يتمم.

(٥) في ب ، ه : صلة النصر.

(٦) في ه : صحائف.

(٧) الهجّيرى : العادة ، الدأب ، الشأن.


تنثال طوع الإرادة ، ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى والزيادة (١) ، معظّم سلطانه العالي ، المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي ، المسرور بما يسنيه الله له من الصنع المتوالي ، والفتح المقدّم والتالي ، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر ، أيد الله أمره ، وأسعد نصره (٢) ، سلام كريم يتأرّج في الآفاق شذا طيبه ، وتسمع في ذروة الودّ بلاغة خطيبه ، ويتضمن نوره سواد المداد ، عند مراسلة الوداد ، فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه ، ورحمة الله وبركاته ، أما بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب ، مهما استصعبت ، وميسّر الأمور بمحكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت ، مخمد نيران الفتن ما التهبت ، وجامع كلمة الإسلام وقد تصدعت وتشعّبت ، ومسكن رجفان الأرض بعد ما اضطربت ، ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت ، اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتّبت ، منهي كل نفس إلى ما خطت الأقلام عليها وكتبت ، ونفت وأوجبت وشاءت وأبت ، ومجازيها يوم العرض بما كسبت ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لما تألفت وتألّبت (٣) ، وجالب الحنف إليها عند ما أجلبت (٤) ، رسول الملحمة إذا الليوث وثبت ، ونبي الرحمة التي هيأت النجاة وسبّبت ، وأبلغت النفوس المطمئنة من السعادة ما طلبت ، ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت ، بلطائفه التي راضت وهذّبت ، وقادت إلى الجنة العليا واستجبلت ، وأدّت عن الله وأدبت ، الذي بجاهه نستكشف الغمّاء إذا أطنبت (٥) ، ونستوكف النّعماء (٦) إذا أخلفت البروق وكذبت ، ونتحابّ في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت (٧) ، والرضا عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقت لمزية (٨) المرضية واستوجبت لما انتمت إلى كماله وانتسبت ، وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقربت ، وإلى نصرته في حياته انتدبت ، والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت ، وخلفته في أمته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت ، فتداعت لمجاهدة الكفار وانتدبت ، وأبعدت المغار وأدربت (٩) ، حتى بلغ ملك أمته أقاصي البلاد التي

__________________

(١) في ب : وزيادة.

(٢) في ب ، ه : وأسعد عصره.

(٣) تألبت : تجمعت.

(٤) أجلبت : ضجت ، واختلطت أصوات بعضها بالآخر.

(٥) في ب : طنّبت.

(٦) نستوكف : أصلها : استوكف الماء : استقطره وطلب جريانه ، وهنا شبه النعماء بالغيث.

(٧) في ه : ثبتت. ولعله تصحيف لأن المعنى يدل على أن الكاتب اعتمد ثبوت الحديث النبوي.

(٨) في ب : المزية.

(٩) أدرب في الغزو : جاوز الدرب ووصل إلى الأعداء.


نبت (١) ، فكسرت الصّلب التي نصبت ، ونفّلت التيجان التي عصبت ، ما همت السحب وانسحبت ، وطلعت الشمس وغربت ، والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلما جهّزت الكتائب وتكتّبت ، والفتح المبين كلما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت ، والصنائع التي مهما حدّقت فيها العيون تعجبت ، أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت ، حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت ، فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا (٢) ما سألت الألسن السائلة واستوعبت ، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت ، وفتحت وسلبت ، وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعد ما كلبت ، ومراعي الآمال قد أخصبت ، والحمد لله حمدا يجلو وجوه الرضا بعد ما احتجبت ، ويفتح أبواب المزيد فكلما استقبلها الأمل رحّبت ، والشكر لله شكرا يقيّد شوارد النعم مما أبقت وما هربت ، وإلى هذا وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء ، وعرفكم عوارف الآلاء على الولاء ، فإننا لما ورد علينا كتابكم البر الوفادة الجمّ الإفادة الجامع بين الحسنى والزيادة ، جالي غرة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة ، وواهب المنن المتاحة وواصف النعم المعادة ، فوقفنا (٣) من رقّه المنشور على تحف سنية ، وأمانيّ هنية ، وقطاف للنصر جنيّة ، ضمنت سكون البلاد وقرارها ، وأن الله قد أذهب الفتن وأوارها وأخمد نارها ، ونضح عن وجه الإسلام عارها ، وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها ، فأصبح الشتيت (٤) مجتمعا ، وجنح الجناح مرتفعا ، والجبل المخالف خاشعا متصدّعا ، وأصحب (٥) في القياد من كان متمنّعا (٦) ، فاستوثقت الطاعة ، وتبجّحت (٧) السنة والجماعة ، وارتفعت الشناعة ، وتمسكت البلاد المكرهة بأذيال وليها لما رأته ، وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعد ما أنكرته ، أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه ، لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه ، وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شانه ، وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لنا وبيانه ، رأينا أن لا نكل ذلك

__________________

(١) نبت : بعدت.

(٢) أغيا ما سألت الألس : أي غايته ومنتهاه.

(٣) في ج : فأوقفنا. وفي نسخة أخرى : فوافقنا.

(٤) الشتيت : المشتت ، المتبدّد.

(٥) أصحب : انقاد.

(٦) في ه : ممتنعا.

(٧) تبجّحت : باهت وافتخرت.


إلى اليراع (١) ، ونفرده فيه بالاجتماع ، وما يتعاطاه من منّة الذراع (٢) ، وأن نشدّ بردء من المشافهة أزره ، ونعضد بمعين من اللسان أمره ، فعيّنّا لذلك من يفسّر منه المجمل ويمهد المقصد المعمل ، حتى يجمع بين أغراض البر ، والعلن منه والسر ، ويقيم شتّى الأدلة على الوداد المستقر ، ووجّهنا في غرض الرسالة به إليكم ، واخترنا لشرحة بين يديكم ، خطيب الوفود ، وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود ، الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحجاج (٣) ـ وصل الله حفظه! ـ وأجزل من الحمد واللطف حظّه! ـ وهو البطل الذي لا يعلّم الإجالة في الميدان ولا يبصّر بوظائف ذلك الشان ، ومرادنا منه أن يطيل ويطيب ، ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرّطيب ، ويقرر ما عندنا لمقامكم من التشيع الذي قام على الحب المتوارث أساسه ، واطرد حكمه وأنتج قياسه ، وليجعل تلو مقصد الهناء ، بمجلسكم الباهر السناء ، الصارف إلى الجهاد في سبيل الله والفناء ، وجه التهمّم والاعتناء ، على مر الآناء ، ما تجدد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء ، وإن كان رسولكم ـ أعزه الله تعالى! ـ قد شارك في السرى والسير ويمن الطّير ، وأغنى في الحكاية عن الغير ، فلا سرف في الخير ، وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظرا للحشود التي نفدت معدّات أزوادها ، وشابت بهشيم الغلّة المستغلّة مفارق بلادها ، وإشفاقا لفساد أقواتها ، بفوات أوقاتها ، رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر تلك الزروع ، المائلة الفروع ، الهائلة الروع ، على همّ ممض ، وأسف للمضاجع مقضّ ، إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها ، وحلاق إهابها ، ونفض أغوارها ، ونهب شوارها ، وإذاعة أسرارها ، وهي البحور المتلاطمة ، إذا حطمتها الرياح الحاطمة ، واللجج الزاخرة ، إذا حركتها السوافي الماخرة ، تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق ، والركائب الراكضة أن تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق ، قد جللها الربيع أرزاقا تغص بها الخزائن والأطباق ، وحبوبا مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق ، ولو اعتصت على انتسافها الآفاق ، فخففنا في سبيل الله غزو تلك الأقطار المخالفة ، بمحق الصائفة ، وإعانة تلك الطائفة ، بكلوم المجاع الجائفة (٤) ، خفوفا لم نقنع فيه بالاستنابة ، حرصا على استئصال الصّبابة ، وأعفينا الرجل من اتصال الكد ، وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها

__________________

(١) اليراع : القلم.

(٢) منة الذراع : قوته.

(٣) هو محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن خلف أبو البركات السلمي البلفيقي قاضي الجماعة بغرناطة ، إمام صالح أديب عالم. ولد سنة ٦٨٠ ه‍. ونشأ بالمرية وقرأ القراءات بالأندلس وتوفي في سنة ٧٧٠ ه‍. (غاية النهاية في طبقات القراء ج ٢ ص ٢٤٥ ـ ٢٣٦ وتاريخ قضاة الأندلس ص ١٦٤).

(٤) الجائفة : النافذة إلى الجوف.


بالرد ، وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف الجبال نسفا (١) ، ونعم الأرض زلزالا وخسفا ، ونستقري مواقع البذر احتراقا ، ونخترق أجوابها المختلفة (٢) بحب الحصيد اختراقا ، ونسلط عليها من شرر النار أمثال الجمالات الصفر مدت من الشّواظ أعناقا (٣) ، ونوسع القرى الواسعة قتلا واسترقاقا ، وندير على مستديرها كؤوس الحتوف دهاقا (٤) ، وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن العيون أحمت سبيكته فاستحالت ، وأذابت صفيحته فسالت ، وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين ، وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقبة المحيّا (٥) معصبة الجبين ، وخضنا أحشاء الغريرة (٦) نعمّ أشتات النّعم انتسافا ، وأقوات أهلها إتلافا ، وآمال سكانها إخلافا ، وقد بهتوا لسرعة الرجوع ، ودهشوا لوقوع الجوع وتسبيب تخريب الربوع ، فمن المنكر البعيد ، أن يتأتى بعد عمرانها المعهود ، وقد اصطلم الزرع واجتثّ العود ، وصار إلى العدم منها الوجود ، ورأوا من عزائم الإسلام خوارق تشذ عن نطاق العوائد ، وعجائب تستريب فيها عين المشاهد ، إذ اشتمل هذا العام ، المتعرف فيه من الله تعالى الإنعام ، على غزوات أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميرا ، وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزا جهيرا ، وضويقت كراسيّ الملك تضييقا كبيرا ، وأذيقت وبالا مبيرا ، ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوبا ، وبأسا مشبوبا ، والثقة بالله قد ملأت نفوسا مؤمنة وقلوبا ، والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعم التي أثقلت الأكتاد ، وأبهظت الطّوق المعتاد ، وأبهجت المسيم والمرتاد (٧) ، فبالشكر يستدر فريدها (٨) ، ويتوالى تجديدها ، وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة ، والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة ، مراحل ختمنا بالتعريج على حرب جيّان حربها ، ففللنا ثانية غربها وجدّدنا كربها واستوعبنا حرقها وخربها ، ونظمنا البلاد في سلك البلاء ، وحثثنا في إنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء ، فلم نترك بها ملقط طير ، فضلا عن معاف عير ، ولا أسأرنا لفلها المحروب بلالة خير ، وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد ، والعدّة والعدد ، وفيها الخصام واللّدد ، قد لبست الحداد حريقا ، وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقا ، ولم نترك لها مضيفة؟؟؟ تخالط ريقا ، ولا نعمة تصون من الفراق فريقا ، وما كانت تلك النعم لو لا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع ، ومدركه البعيد الشاسع ، لتتولى الأيدي البشرية تغريبها ولا ترزأ كثيرها ، ولا لتمتاح بالاغتراف غديرها ، بل لله القدرة جميعا ، فقدرته لا تتحامى ريعا ولا

__________________

(١) في ب ، ه : ننسف جبال النعم نسفا.

(٢) في ج : المحترقة.

(٣) الشواظ : اللهب الذي لا دخان فيه.

(٤) دهاقا : ملأى.

(٥) منقبة المحيا : لابسة النقاب.

(٦) في ب ، ه : الغرنتيرة.

(٧) في ج : المشيم.

(٨) في ب : مزيدها.


حمى مريعا منيعا ، وعدنا والعود في مثلها أحمد ، وقد بعد من شفاء النفوس الأمد ، ونسخ بالسرور الكمد ، ورفعت من عز الإسلام العمد ، والحمد لله حمد الشاكرين ، ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين ، عرفناكم به ليسر دينكم المتين ، ومجدكم الذي راق منه الجبين ، والله يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، ويبلغكم أملكم من فضله ، وقصدكم بمنه وطوله (١) ، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف ، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف ، فنقول :

قد شاع وذاع على ألسنة الجم الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقية وغيرها أن في جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقا ، على عدد أيام السنة ، وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق ، إلى أن يتم الدور ثم تعود ، وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس ، ولو كان كما شاع لذكروه وتعرضوا له ، لأنه من أعجب ما يسطر ، مع أنهم ذكروا ما هو دونه ، فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك ، وستأتي في الباب السابع رسالة الشقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطّم والرّم (٢) ، وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة ، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا ، على أن رسالة الشّقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه ، لأنا لم نرد أن نخل منها بحرف ، فأتينا بها بلفظها ، وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه ، والعذر واضح للمنصف المغضي ، والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي ، بمنه وكرمه.

وقال صاحب «نشق الأزهار» : إن في جامع قرطبة تنّورا من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح ، وفيه أشياء غريبة ، من الصنائع العجيبة ، يعجز عن وصفها الواصفون ، قيل : أحكم عمله في سبع سنين ، وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر ، مكتوب على الواحد اسم محمد ، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف ، وعلى الثالث صورة غراب نوح عليه الصلاة والسلام ، الثلاثة خلقها الله تعالى ولم يصنعها صانع ، انتهى.

قلت : لم أر أحدا من محققي المؤرخين للأندلس وثقاتهم ذكر هذا ، على قلة اطلاعي ، وهو عندي بعيد ، لأنه لو كان لذكره الأئمة.

وقد حكى القاضي عياض (٣) في الشفاء أشياء وجد عليها اسم نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر هذا ،

__________________

(١) الطّول : النفل والغنى.

(٢) يقال : فيها الطم والرّم : أي كل شيء.

(٣) القاضي عياض : هو عياض بن موسى ، اليحصبي ، السبتي ، المالكي ، محدث حافظ مؤرخ ناقد مفسر فقيه أصولي ، عالم بالنحو شاعر خطيب توفي في مراكش سنة ٥٤٣ ه‍ (معجم المؤلفين ٨ / ١٦).


ويستبعد أن يكون بجامع قرطبة ولا يذكره ، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.

وقال في موضع آخر من هذا الكتاب : إن دور قرطبة أربعة عشر ميلا ، وعرضها ميلان ، وهي على النهر الكبير ، وعليه جسران ، وبها الجامع الكبير الإسلامي ، وبها الكنيسة المعظمة بين النصارى ، وبهذه المدينة معدن الفضة ومعدن الشاذنج ، وهو حجر من شأنه أن يقطع الدم ، وكان يجلب منها البغال التي تباع كل واحدة منها بخمسمائة دينار من حسنها وعلوّها الزائد ، انتهى.

رجع إلى أخبار البنيان ـ ولا خفاء أنه يدل على عظم (١) قدر بانيه ، ولذلك قال أمير المؤمنين الناصر المرواني باني الزهراء رحمه الله تعالى حسبما نسبهما له بعض العلماء وبعض ينسبهما لغيره ، وسيأتيان في ترجمة نور الدين بن سعيد (٢) عليّ منسوبين : [الكامل]

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إنّ البناء إذا تعاظم قدره

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

وتذكرت هنا قصيدة قالها بعض الشاميين ، وهو الأديب الفاضل الشيخ أسد بن معين الدين ، مما يكتب على أبراج دار الحسيب النسيب ، الشهير البيت ، الكبير الحي والميت ، القاضي عبد الرحمن بن الفرفور الدمشقي ، وضمنها بيتي الناصر المذكورين : [الكامل]

زر مجلسا أضحى أعزّ مكان

ومحلّ أهل العلم والعرفان

المجد خيّم في ذرى أبراجه

والسّعد عبد الباب طول زمان

كالخلد مرفوع البناء ، وأرضه

مفروشة بالدّرّ والعقيان(٣)

بيت به فخر البيوت لأنّه

بيت القصيد ومنزل الضّيفان

مغنى فسيح فيه معنى مفصح

عن قدر بانيه بغير لسان

قد قال بعض ذوي الفضائل قبلنا

قولا بديعا واضح التبيان

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إنّ البناء إذا تعاظم قدره

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

قد شاده من ساد أهل زمانه

بالأصل والإفضال والرّجحان

ورث السّيادة كابرا عن كابر

وسما برفعته على كيوان

__________________

(١) في ه ، ب : على عظيم قدر بانيه.

(٢) كلمة (سعيد) : موجودة في ه وغير موجودة في ج.

(٣) العقيان : الذهب الخالص.


قاضي القضاة ومفخر العصر الّذي

قد جاء فيه سابق الأقران

في العلم بحر لا ينال قراره

في الحكم مثل مهنّد وسنان

يروي عطاء عن يديه قد اقتفى

آثار آباء ذوي إحسان

لا زال يبقى شائدا بيت العلا

وعدوّه في الوهن والنّقصان(١)

يا أيّها المولى الّذي يجري مع الإق

بال والإسعاد طلق عنان(٢)

دم شامخ المقدار مرتفع البنا

والنّاس تحت رضاك كالغلمان

متمتّعا ببنيك سادات الورى

في عزّ ربّ دائم السّلطان

ما رجّع القمريّ في تغريده

في الرّوض فوق منابر الأغصان(٣)

وكان القاضي عبد الرحمن بن فرفور المذكور عالي الهمة ، تضيق يده عما يريد ، فلذلك كان كثيرا ما يبث شكواه في الطروس والدفاتر ، ويعتب على الزمان الذي أخنى على أهل الأدب وقطع آمالهم بحسامه الباتر ، ويرحم الله القائل : [الكامل]

هذا زمان دريهمي لا غيره

فدع الدّفاتر للزّمان الفاتر

فمن نظم المذكور وقد أبطأ بجزء استعاره من بعض إخوانه ، فكتب إليه معتذرا ، وأدمج شكوى الزمان الذي كان من شماتة الأعداء به حذرا : [السريع]

أبطأت في ذا الجزء يا سيّدي

كتابة من جور دهر بغيض

صابرته فالجسم منّي لقى

تجلّدا والقلب منّي مريض(٤)

فإذ أبى إلّا تلافيّ وقد

أحلّني منه محلّ النّقيض

واقتادني قسرا إلى مصرع

قد رقّ منه اللّحم والعظم هيض(٥)

سلّمت للأقدار مستسرعا

لباب مولى ذي عطاء عريض

جموم صبر كنت أسطو به

على روايا الدّهر بالهمّ غيض

__________________

(١) الوهن : الضعف.

(٢) البيت وارد في ب هكذا. والأصح وزنا التالي :

يا أيها المولى الذي يجري مع ال

إقبال ....

(٣) القمري : نوع من الحمام حسن الصوت.

(٤) لقى : ملقى.

(٥) هيض العظم : كسر.


فلا تلم يا صاح من بعد ذا

إذا تمثّلت بحال الجريض(١)

ورأيت بخطه رحمه الله تعالى مما نسبه جده القطب الخيضري الحافظ لإبراهيم بن نصر الحموي ثم المصري المعروف بابن الفقيه : [مجزوء الرمل]

يا زمانا كلّما حا

ولت أمرا يتمنّع

إن تعصّبت فإنّي

باصطباري أتقنّع

وهذه تورية بديعة للغاية في التعصب والتقنع ، مع حلاوة النظم وجودة السبك وخفة الوزن ، والله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان ، ويعاملنا وإياهم بمحض الفضل والامتنان ، ويكفينا شجون دهر جرى بنا طلق العنان!!.

رجع إلى ما كنا فيه ـ وكنت وقفت في كلام بعض العلماء على أن البيتين السابقين المنسوبين إلى أمير المؤمنين الناصر المرواني ـ رحمه الله تعالى! ـ قالهما في الزهراء التي بناها ، وسيأتي ذكرها قريبا ، وقال الشيخ سيدي محيي الدين بن العربي في المسامرات : قرأت على مدينة الزهراء بعد خرابها وصيرورتها مأوى الطير والوحش ، وبناؤها عجيب في بلاد الأندلس ، وهي قريبة من قرطبة ، أبياتا تذكر العاقل ، وتنبه الغافل ، وهي : [الطويل]

ديار بأكناف الملاعب تلمع

وما إن بها من ساكن وهي بلقع(٢)

ينوح عليها الطّير من كلّ جانب

فيصمت أحيانا وحينا يرجّع(٣)

فخاطبت منها طائرا متغرّدا

له شجن في القلب وهو مروّع

فقلت : على ما ذا تنوح وتشتكي؟

فقال : على دهر مضى ليس يرجع

ثم قال : وأخبرني بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء أن الناصر ماتت له سرّيّة ، وتركت مالا كثيرا ، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين ، وطلب في بلاد الإفرنج أسيرا فلم يوجد ، فشكر الله تعالى على ذلك ، فقالت له جاريته الزهراء ـ وكان يحبها حبا شديدا ـ : اشتهيت لو بنيت لي به مدينة تسميها باسمي ، وتكون خاصة لي ، فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل ، وشمال قرطبة ، وبينها وبين قرطبة اليوم ثلاثة أميال أو نحو ذلك ، وأتقن بناءها ، وأحكم الصنعة فيها ، وجعلها مستنزها ومسكنا للزهراء وحاشية أرباب دولته ،

__________________

(١) الجريض : الغصة. والشاعر هنا يشير إلى المثل القائل : حال الجريض دون القريض.

(٢) البلقع : القفر ، الخالية التي لا شيء فيها.

(٣) رجع الطائر : ردد صوته في حلقه.


ونقش صورتها على الباب ، فلما قعدت الزهراء في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر ذلك الجبل الأسود ، فقالت : يا سيدي ، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي ، فأمر بزوال ذلك الجبل ، فقال بعض جلسائه : أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه ، لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفرا ولا قطعا ، ولا يزيله إلّا من خلقه ، فأمر بقطع شجره وغرسه تينا ولوزا ، ولم يكن منظر أحسن منها ، ولا سيما في زمان الأزهار وتفتح الأشجار (١) وهي بين الجبل والسهل ، انتهى ببعض اختصار.

وقال ابن خلكان في ترجمة المعتمد بن عباد ما صورته : الزهراء ـ بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الراء ، وبعدها همزة ممدودة (٢) ـ وهي من عجائب أبنية الدنيا ، وأنشأها أبو المظفر (٣) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب بالناصر ، أحد ملوك بني أمية بالأندلس ، بالقرب من قرطبة ، في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ، ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل ، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع ، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع ، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية (٤) وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب ، وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثا : فثلث للجند ، وثلث مدخر ، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء ، وكانت جباية الأندلس يومئذ (٥) خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن الستوق والمستخلصة (٦) سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألف دينار ، هي من أهول ما بناه الإنس ، وأجلّه خطرا ، وأعظمه شأنا ، ذكر ذلك كله ابن بشكوال في تاريخ الأندلس ، انتهى كلامه.

وحكى في المطمح (٧) أن الوزير الكبير الشهير أبا الحزم بن جهور قال وقد وقف على قصور الأمويين التي تقوّضت أبنيتها ، وعوّضت من أنيسها بالوحش أفنيتها : [الخفيف]

قلت يوما لدار قوم تفانوا :

أين سكّانك العزاز علينا؟

فأجابت : هنا أقاموا قليلا ،

ثمّ ساروا ، ولست أعلم أينا

__________________

(١) في ب : في زمان تفتح الأزهار وتفتح الأشجار ، وفي بعض النسخ : وتفتح الأزهار.

(٢) في ب : ممدودة سراية.

(٣) في الأصول وابن خلكان : أبو المظفر ؛ والصواب : أبو المطرّف.

(٤) وثلاثمائة سارية : غير موجودة في ه.

(٥) يومئذ : غير موجودة في ب.

(٦) في ب ، ه : ومن السوق والمستخلص.

(٧) المطمح ص ١٥.


وفيه أن أبا عامر بن شهيد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث (١) آس ، وعرشت بسرور وائتناس ، وقرع النواقيس يبهج (٢) سمعه ، وبرق الحميا يسرج لمعه (٣) ، والقس قد برز في عبدة المسيح ، متوشحا بالزنانير أبدع توشيح ، قد هجروا الأفراح ، واطّرحوا النعم كل اطّراح ، لا يعمدون إلى ماء بآنية إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح ، وأقام بينهم يعملها حميا ، كأنما يرشف من كأسها شفة لميا وهي تنفح له بأطيب عرف (٤) ، كلما رشفها أعذب رشف ، ثم ارتجل ، بعد ما ارتحل ، فقال : [الكامل]

ولربّ حان قد شممت بديره

خمر الصّبا مزجت بصرف عصيره

في فتية جعلوا السّرور شعارهم

متصاغرين تخشّعا لكبيره

والقسّ مما شاء طول مقامنا

يدعو بعود حولنا بزبوره

يهدي لنا بالرّاح كلّ مصفر

كالخشف خفّره التماح خفيره(٥)

يتناول الظّرفاء فيه وشربهم

لسلافه ، والأكل من خنزيره

رجع إلى أنباء (٦) الزهراء ـ قال بعض من أرخ الأندلس : كان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل ، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة ، وكان من الرجال (٧) من له درهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة ، وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستة آلاف صخرة سوى الآجر والصخر غير المعدل ، انتهى ، وسيأتي في الزهراء مزيد كلام.

وقال ابن حيان : ابتدأ الناصر بناء الزهراء أول يوم من محرم سنة ٣٢٥ ، وجعل طولها من شرق إلى غرب ألفين وسبعمائة ذراع ، وتكسيرها تسعمائة ألف ذراع وتسعون ألف ذراع ، كذا نقله بعضهم ، وللنظر فيه مجال ، قال : وكان يثيب (٨) على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير سوى ما كان يلزم على قطعها (٩) ونقلها ومؤنة (١٠) حملها ، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية ، والمجزّع من رية ، والوردي والأخضر من إفريقية من إسفاقس وقرطاجنّة ،

__________________

(١) أضغاث : جمع ضغث ، وهو قبضة من عشب مختلط رطبه بيابس.

(٢) في ب : يهيج.

(٣) في ب ، ج : يسرع لمعه.

(٤) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة العطرة.

(٥) الخشف : ولد الغزالة أول ما يولد.

(٦) في ب ، ه : رجع إلى بناء الزهراء.

(٧) في ه : الرحالة.

(٨) في ه : يثبت.

(٩) في ب : كان يلزمه من النفقة على قطعها ..

(١٠) في ب : ومؤونة حملها ..


والحوض المنقوش المذهب من الشام ، وقيل : من القسطنطينية ، وفيه نقوش وتماثيل وصور (١) على صور الإنسان ، وليس له قيمة ، ولما جلبه أحمد الفيلسوف ـ وقيل غيره ـ أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس ، ونصب عليه اثني عشر تمثالا ، وبنى في قصرها المجلس المسمى بقصر الخلافة ، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ في جرمه لصافي (٢) لونه المتلونة أجناسه ، وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها أليون ملك القسطنطينية ، وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة ، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق ، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس (٣) المرصع بالذهب وأصناف الجواهر. قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي ، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر (٤) المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار ، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدا من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور ، ويأخذ بمجامع القلوب ، حتى يخيل لكل من في المجلس أن المحل قد طار بهم ، ما دام الزئبق يتحرك ، وقيل : إن هذا المجلس كان يدور ويستقبل الشمس ، وقيل : كان ثابتا على صفة هذا الصهريج ، وهذا المجلس لم يتقدم لأحد بناؤه في الجاهلية ولا في الإسلام ، وإنما تهيأ له لكثرة الزئبق عندهم ، وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن ، وبها من المرمر والعمد كثير ، وأجرى فيها المياه ، وأحدق بها البساتين ، وفيها يقول الشاعر السميسر (٥) : [السريع]

وقفت بالزّهراء مستعبرا

معتبرا أندب أشتاتا

فقلت : يا زهرا ألا فارجعي

قالت : وهل يرجع من ماتا؟

فلم أزل أبكي وأبكي بها

هيهات يغني الدّمع هيهاتا

كأنّما آثار من قد مضى

نوادب يندبن أمواتا

انتهى كلام هذا المؤرخ ملخصا ، وسيأتي ما يوافق جلّه ، ويخالف قلّه ، والله سبحانه يعلم الأمر كله ، فإنه ربما ينظر المتأمل هذا الكتاب فيجد في بعض الأخبار تخالفا ، فيحمل ذلك

__________________

(١) وصور : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : الصافي.

(٣) الآبنوس : شجر في إفريقية الاستوائية ، خشبه أسود صلب ثقيل.

(٤) في ه : في سمك المجلس.

(٥) كذا في ب ، ه. وفي ج : الشميس والصواب ما أثبتناه.


على الغلط ، وليس كذلك ، وإنما السبب الحامل لذلك جلب كلام الناس بعباراتهم ، والناقد البصير لا يخفاه مثل هذا ، وربما يقع التكرار ، وذلك من أجل ما ذكر ، والله أعلم.

وتذكرت بما وصفه من مجلس الناصر ما حكاه غير واحد عن القصر العظيم الذي شاده ملك طليطلة المأمون ابن ذي النّون بها ، وذلك أنه أتقنه إلى الغاية ، وأنفق عليه أموالا طائلة ، وصنع في وسطه بحيرة ، وصنع في وسط البحيرة قبة من زجاج ملوّن منقوش بالذهب ، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون ، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطا بها ويتصل بعضه ببعض ، فكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب (١) خلف الزجاج لا يفتر من الجري ، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء ولا يصله ، وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب ، وبينما هو فيها مع جواريه ذات ليلة إذ سمع منشدا ينشد :[الطويل]

أتبني بناء الخالدين ، وإنّما

مقامك فيها لو علمت قليل(٢)

لقد كان في ظلّ الأراك كفاية

لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل

فنغص عليه حاله ، وقال : إن لله وإنا إليه راجعون ، أظن أن الأجل قد قرب ، فلم يلبث بعدها غير شهر وتوفي ، ولم يجلس في تلك القبة بعدها ، وذلك سنة ٤٦٧ ، تجاوز الله تعالى عنه! هكذا حكاه بعض مؤرخي المغرب.

وقد ذكر في غير هذا الموضع من هذا الكتاب حكاية هذه القبة بلفظ ابن بدرون شارح العبدونية فليراجع.

وتذكرت هنا قول أبي محمد المصري في صفة قصر طليطلة : [الكامل]

قصر يقصّر عن مداه الفرقد

عذبت مصادره وطاب المورد

نشر الصّباح عليه ثوب مكارم

فعليه ألوية السّعادة تعقد

وكأنّما المأمون في أرجائه

بدر تمام قابلته أسعد

وكأنّما الأقداح في راحاته

درّ جماد ذاب فيه العسجد(٣)

وله في صفة البركة والقبة عليها : [السريع]

__________________

(١) في ه : من ماء سكب خلف الزجاج.

(٢) في ب ، ه : بقاؤك فيها لو علمت قليل.

(٣) العسجد : الذهب.


شمسيّة الأنساب بدريّة

يحار في تشبيهها الخاطر

كأنّما المأمون بدر الدّجى

وهي عليه الفلك الدائر

وكان ملوك الأندلس في غاية الاحتفال بالمجالس والقصور ، وللوزير الجزيري (١) ـ رحمه الله تعالى! ـ في وصف مجلس للمنصور بن أبي عامر ما يشهد لذلك ، وهو قوله:[الكامل]

وتوسّطتها لجّة في قعرها

بنت السّلاحف ما تزال تنقنق

تنساب من فكّي هزبر إن يكن

ثبت الجنان فإنّ فاه أخرق

صاغوه من ندّ وخلّق صفحتي

هاديه محض الدّرّ فهو مخلّق(٢)

للياسمين تطلّع في عرشه

مثل المليك عراه زهو مطرق

ونضائد من نرجس وبنفسج

وجنيّ خيريّ وورد يعبق

ترنو بسحر عيونها وتكاد من

طرب إليك بلا لسان تنطق

وعلى يمينك سوسنات طلعت

زهر الرّبيع فهنّ حسنا تشرق(٣)

فكأنّما هي في اختلاف رقومها

رايات نصرك يوم بأسك تخفق

في مجلس جمع السّرور لأهله

ملك إذا جمعت قناه يفرّق

حازت بدولته المغارب رفعة

فغدا ليحسدها عليه المشرق(٤)

ومن هذه القصيدة.

أمّا الغمام فشاهد لك أنّه

لا شكّ صنوك أو أخوك الأوثق

وافى الصنيع فحين تمّ تمامه

في الصّحو أنشأ ودقه يتدفّق(٥)

وأظنّه يحكيك جودا إذ رأى

في اليوم بحرك زاخرا يتفهّق

وكان السبب في هذه الأبيات أن المنصور صنع في ذلك الأوان صنيعا لتطهير ابنه عبد الرحمن ، وكان عام قحط ، فارتفع السعر بقرطبة ، وبلغ ربع الدقيق إلى دينارين ، فجلا

__________________

(١) الوزير الجزيري : هو أبو مروان عبد الملك بن إدريس أحد كتاب الدولة العامرية. توفي مقتولا سنة ٣٩٤ ه‍ (الجذوة ص ٢٦١).

(٢) في ب ، ه : مطوّق.

(٣) في ب : سوسنات أطلعت.

(٤) في ب : المغارب عزة.

(٥) الودق : المطر.


الناس من قرطبة ، فلما كان يوم ذلك الصنيع نشأت في السماء سحابة عمت الأفق ، ثم أتى المطر الوابل ، فاستبشر الناس ، وسر المنصور بن أبي عامر فقال الجزيري بديهة. أما الغمام إلخ.

وهو القائل على لسان نرجس العامرية : [الكامل]

حيّتك يا قمر العلا والمجلس

أزكى تحيّتها عيون النّرجس

زهر تريك بحسنها وبلونها

زهر النّجوم الجاريات الكنّس

ملّكن أفئدة النّدامى كلّما

دارت بمجلسهم مدار الأكؤس

ملك الهمام العامريّ محمد

للمكرمات وللنّهى والأنفس

قال ابن بسام (١) : ومن شعر الجزيري ما اندرج له أثناء مدحه (٢) الذي ملح فيه مخاطبته للمنصور على ألسنة أسماء كرائمه بزهر رياضه ، فمن ذلك عن بهار العامرية : [الكامل]

حدق الحسان تقرّ لي وتغار

وتضلّ في صفتي النّهى وتحار

طلعت على قضبي عيون تمائمي

مثل العيون تحفّها الأشفار(٣)

وأخصّ شيء بي إذا شبّهتني

درر تنطّق سلكها دينار

أهدى له قضب الزّمرّد ساقه

وحباه أنفس عطره العطّار

أنا نرجس حقّا بهرت عقولهم

ببديع تركيبي فقيل بهار

ومن أخرى عن بنفسج العامرية : إذا تدافعت الخصوم ـ أيد الله مولانا المنصور! ـ في مذاهبها ، وتنافرت في مفاخرها ، فإليه مفزعها ، وهو المقنع في فصل القضية بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها ، وعلمه بسرها وجهرها ، وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما ، والفخر بمشابههما ، كل مذهب ، وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا ، وأعذب من الغمام الذي يسقينا ، وإن كانا قد تشبها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت ، فإني أتشبه بأحسن ما زيّن الله به الإنسان وهو الحيوان الناطق ، مع أني أعطر منهما عطرا ، وأحمد خبرا ، وأكرم إمتاعا شاهدا وغائبا ويانعا وذابلا ، وكلاهما لا يمتع ، إلا ريثما يينع ، ثم إذا ذبل تستكره

__________________

(١) انظر الذخيرة ج ٤ ص ٣٣.

(٢) في ب : أثناء نثره.

(٣) في ب : عيون كمائمي.


النفوس شمه ، وتستدفع الأكف ضمه ، وأنا أمتع يابسا ورطبا ، وتدخرني الملوك في خزائنها وسائر الأطباء ، وأصرف في منافع الأعضاء ، فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي ، فلا غرو أن الوشي ضعيف ، والهوى لطيف ، والمسك خفيف ، وليس المجد يدرك بالصّراع ، وقد أودعت أيد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه ، وحضرت بنفسي لئلا أغيب عن حضرتهما ، فقديما فضل الحاضر وإن كان مفضولا ، ولذا قالوا : ألذ الطعام ما حضر لوقته ، وأشعر الناس من أنت في شعره ، فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل ، وأقول : [الكامل]

شهدت لنوّار البنفسج ألسن

من لونه الأحوى ومن إيناعه(١)

لمشابه الشّعر الأعمّ أعاره ال

قمر المنير الطّلق نور شعاعه

ولربّما جمع النّجيع من الطّلى

من صارم المنصور يوم قراعه

فحكاه غير مخالف في لونه

لا في روائحه وطيب طباعه

ملك جهلنا قبله سبل العلا

حتّى وضحن بنهجه وشراعه

في سيفه قصر لطول نجاده

وتمام ساعده وفسحة باعه

ذو همّة كالبرق في إسراعه

وعزيمة كالحين في إيقاعه(٢)

تلقى الزّمان له مطيعا سامعا

وترى الملوك الشّمّ من أتباعه

وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة : [الكامل]

وحديقة مخضرّة أثوابها

في قضبها للطّير كل مغرّد

نادمت فيها فتية صفحاتهم

مثل البدور تنير بين الأسعد

والجدول الفضّيّ يضحك ماؤه

فكأنّه في العين صفح مهنّد

وإذا تجعّد بالنّسيم حسبته

لمّا تراه مشبها للمبرد

وتناثرت نقط على حافاته

كالعقد بين مجمّع ومبدّد

وتدحرجت للنّاظرين كأنّها

درّ نثير في بساط زبرجد(٣)

وكان بحمام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله: [الوافر]

__________________

(١) الأحوى من كان لونه بلون الحديد.

(٢) الحين ، بفتح الحاء : الموت.

(٣) في ه : وترجرجت للناظرين.


ودمية مرمر تزهى بجيد

تناهى في التّورّد والبياض(١)

ودمية مرمر تزهى بجيد

تناهى في التّورّد والبياض(١)

لها ولد ولم تعرف حليلا

ولا ألمت بأوجاع المخاض

ونعلم أنّها حجر ، ولكن

تتيّمنا بألحاظ مراض

وكان بسرقسطة في القصر المسمى بدار السرور أحد قصور المقتدر بن هود مجلس الذهب (٢) ، وفيه يقول ذو الوزارتين بن غند شلب (٣) يهجو وزيرا كان ينبز بتحقون : [الرمل]

ضجّ من تحقون بيت الذّهب

ودعا ممّا به واحربي

ربّ طهّرني فقد دنّسني

عار تحقون ألوف الذّنب(٤)

وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه : كتابي هذا من وادي الزيتون ، ونحن فيه محتلّون (٥) ، ببقعة اكتست من السندس الأخضر ، وتحلت بأنواع الزهر وتخايلت بأنهار تتخللها ، وأشجار تظللها ، تحجب أدواحها الشمس لالتفافها ، وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها ، وما شئتم من محاسن تروق وتعجب ، وأطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب ، في مثلها يعود الزمان كله صبا ، وتجري الحياة على الأمل والمنى ، وأنا فيها ـ أبقاكم الله سبحانه! ـ بحال من طاب غذاؤه ، وحسن استمراؤه ، وصحا من جنون العقار ، واستراح من مضض الخمار ، وزايلته وساوسه ، وخلصت من الخباط هواجسه ، ثم ذكر كلاما من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار.

فراجعه أبو الفضل بن حسداي (٦) برقعة قال في صدرها : إلى سيدنا الذي ألزمنا بامتنانه الشكر ، وكبيرنا الذي علمنا ببيانة السّحر ، وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحلّ ، ورمانا بدائه وانسل ، أبقاك الله تعالى لتوبة نصوح تمرها ، ويمين غموس تبرّها ، ورد أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذته من معرّسك بوادي الزيتون ، ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجة المفتون ،

__________________

(١) في ج : تزهو بجيد.

(٢) في ب : بدار السرور ، مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه ..

(٣) في ج : بن عبد شاب وأثبتنا ما في ه.

(٤) في ب : الموفي الذنب.

(٥) في ب : مختلفون.

(٦) هو حسداي بن يوسف بن حسداي أحد كتاب عصر الطوائف. (القلائد ص ١٨٣ ، والذخيرة القسم الثالث ص ١٥٣).


وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته ، واهتزازك بلطيف بواكره وروحاته ، وسرورك (١) به وهو حوّ تلاعه ، مورودة هضابه وأجراعه ، وكل المشارب ما خلاه ذميم ، وماؤه الدهر خصر والمياه حميم ، وتلك عادة تلونك ، وسجية تحضرمك ، وشاكلة ملالك وسأمك ، وأشعر الناس عندك من أنت في شعره ، وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره ، فأين منك بساتين جلّق وجنانه ، ورياضة المونقة وخلجانه ، وقبابه البيض في حدائقه الخضر ، وجون (٢) العطر في جنانه النضر ، وما تضمّه حيطانه ، وتمجّه أنجاده وغيطانه ، من أمهات الراح التي هجرتها (٣) بزعمك ، وموارد (٤) الشّمول التي طلقتها برغمك ، وهيهات فو الله ما فارقتك تلك الأرجاع والمجاني ، ولا شاقتك تلك المنازل والمغاني. إلا تذكرا لما لدينا من طيب المعاهد ، وحنينا إلى ما عندنا من جميل المشاهد ، وأين من المشتاق عنقاء مغرب. ثم ذكر كلاما في جواب ما مر من الخمار لم يتعلق لي به غرض.

وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه :

ولما أكب الغمام إكبابا ، لم أجد منه إغبابا ، واتصل المطر اتّصالا ، لم ألف منه انفصالا ، أذن الله تعالى للصّحو أن يطلع صفحته ، وينشر صحيفته ، فقشعت الريح السحاب ، كما طوى السجلّ الكتاب ، وطفقت السماء تخلع جلبابها ، والشمس تميط (٥) نقابها ، وطلعة (٦) الدنيا تبتهج كأنها عروس تجلّت ، وقد تحلت ، ذهبت في لمّة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضا ، ونطوي للتفرج أرضا ، فلا أندفع (٧) إلا إلى غدير ، نمير ، قد استدارت منه في كل قرارة سماء ، سحائبها غماء ، وانساب في تلعة (٨) حباب ، جلده حباب ، فترددنا بتلك الأباطح ، نتهادى تهادي أغصانها ، ونتضاحك تضاحك أقحوانها ، وللنسيم ، أثناء ذلك المنظر الوسيم ، تراسل مشي ، على بساط وشي ، فإذا مر بغدير نسجه درعا ، وأحكمه صنعا ، وإن عثر بجدول شطب منه نصلا ، وأخلصه صقلا ، فلا ترى إلا بطاحا ، مملوءة سلاحا ، كأنما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول ، وسيف مسلول.

ومن فصل منها. فاحتللنا قبّة خضراء ممدودة أشطان الأغصان ، سندسية رواق الأوراق ، وما زلنا نلتحف منها ببرد ظل ظليل ، ونشتمل عليه برداء نسيم عليل ، ونجيل الطرف في نهر صقيل ، صافي لجين الماء ، كأنه مجرّة السماء ، مؤتلق جوهر الحباب ، كأنه من ثغور الأحباب ،

__________________

(١) في ب : وغرورك.

(٢) في ب : وجوه.

(٣) في ب : طلقتها.

(٤) في ب : وموادّ.

(٥) في ب ، ه : تحطّ.

(٦) في ب ، ه : وتطلعت الدنيا.

(٧) في ب ، ه : فلا ندفع.

(٨) في ب : في كل قلعة ..


وقد حضرنا مسمع يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها ، ويغني لها مقترحها ومناها ، فصيح لسان النقر ، يشفي من الوقر ، كأنه كاتب حاسب ، تمشق يمناه ، وتعقد يسراه : [الوافر]

يحرّك حين يشدو ساكنات

وتنبعث الطّبائع للسّكون

وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة ، فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصنا ، فخاطبه أبو إسحاق برقعة ، منها : أطال الله بقاء سيدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء ، المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء ، ما انحذفت ياء يرمي (١) للجزم ، واعتلت واو يغزو لموضع الضم ، كتبت عن ودّ قديم هو الحال ، لم يلحقها انتقال ، وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال ، والله يجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة ، ويعصم هذا بعد من الحروف الجازمة ، وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل ، وتعدية فعل الفصل ، وعدولك عن باب ألف القطع ، إلى باب الوصل والجمع ، حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت ، ويدخل الانتقال حال الصمت ، فلا تتخيل أعزك الله أن رسم إخائك عندي ذو حسا (٢) قد درس عفاء ، ولا أن صدري دار مية أمسى من وده خلاء (٣) ، وإنما أنا فعل إذا ثنّي ظهر من ضمير وده ما بطن ، وبدا منه ما كمن ، وهنيئا أعزك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير ، وأن فعل سيفك ماض ما به للعوامل تأثير ، وأنت بمجدك جماع أبواب الظّرف ، تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف ، ودرس حروف العطف ، وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك ، وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك (٤) ، وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين ، وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين ، وتسوم ساكن الود أن يتحرك ومعتل الإخاء أن يصح ، وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة ، وتصير هذه النكرة معرفة ، فأنت أعزك الله مصدر فعل السرور والنيل (٥) ، ومنك اشتقاق اسم السودد (٦) والفضل ، وإنك وإن تأخر العصر بك كالفاعل وقع مؤخرا ، وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلا

__________________

(١) في ج : ياء يرى.

(٢) في ج : دوحة قد درس عفاء ، والصواب ذو حسا. واد جاء في شعر كثير من الشعراء ومن ذلك قول النابغة الذبياني :

عسا ذو حسا من فرتنا فالفوارع

فجنبا أريك فالتلاع الدوافع

(٣) في ب : من ودك خلاء ..

(٤) في ه : عتبك. وفي ج : عبدك.

(٥) في ب : والنبل.

(٦) في ب : السؤدد.


مصغرا ، وللأيام علل تبسط وتقبض ، وعوامل ترفع وتخفض ، فلا دخل عروضك قبض ، ولا عاقب رفعك خفض ، ولا زلت مرتبطا بالفضل شرطك وجزاؤك ، جاريا على الرفع سروك الكريم وسناؤك ، حتى يخفض الفعل ، وتبنى على الكسر قبل ، إن شاء الله.

وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء : انتظم إخوانك ـ أعزك الله تعالى! ـ عقد شرب يتساقون في ودك ، ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك ، وما منهم إلا شره المسامع إلى رنّة حمامة ناد ، لا حمامة بطن واد ، والطّول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنان لسانا ، وصار لضمير صاحبه ترجمانا ، وهو على الإساءة والإحسان لا ينفك من إيقاع به ، من غير إيجاع له ، فإن هفا عركت أذنه وأدّب ، وإن تأبّى (١) واستوى بعج بطنه وضرب ، لا زلت منتظم الجذل ، ملتئم الأمل ، انتهى.

ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجع (٢) : [الطويل]

شراب الأماني لو علمت سراب

وعتبى اللّيالي لو عرفت عتاب

وهل مهجة الإنسان إلّا طريدة

يحوم عليها للحمام عقاب

يخبّ بها في كلّ يوم وليلة

مطايا إلى دار البلى وركاب

وكيف يغيض الدّمع أو يبرد الحشا

وقد باد أقران وفات شباب

أقلّب طرفي لا أرى غير ليلة

وقد حطّ عن وجه الصّباح نقاب

كأنّي ، وقد طار الصّباح ، حمامة

يمدّ جناحيه عليّ غراب

دعا بهم داعي الرّدى فكأنّما

تبارت بهم خيل هناك عراب(٣)

فها هم وسلم الدّهر حرب كأنّما

جثا بينهم طعن لهم وضراب(٤)

هجود ولا غير التّراب حشيّة

لجنب ولا غير القبور قباب

ولست بناس صاحبا من ربيعة

إذا نسيت رسم الوفاء صحاب

وممّا شجاني أن قضى حتف أنفه

وما اندقّ رمح دونه وكعاب

وأنّا تجارينا ثلاثين حقبة

فمات سباقا والحمام قصاب(٥)

كأن لم نبت في منزل القصف ليلة

نجيب بها داعي الصّبا ونجاب

__________________

(١) في ب ، ه : تأتي.

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٢١٧.

(٣) الخيل العراب : الكريمة السالمة من الهجنة.

(٤) في ب ، ه : جثا بهم ..

(٥) في ب : ثلاثين حجّة ففات ..


إذا قام منّا قائم هزّ عطفه

شباب أرقناه بها وشراب

ولما تراءت للمشيب بريقة

وأقشع من ظلّ الشّباب سحاب

نهضنا بأعباء اللّيالي جزالة

وأرست بنا في النّائبات هضاب

فيا ظاعنا قد حطّ من ساحة البلى

بمنزل بين ليس عنه مآب

كفى حزنا أن لم يزرني على النّوى

رسول ولم ينفذ إليّ كتاب(١)

وأنّي إذا يمّمت قبرك زائرا

وقفت ودوني للتّراب حجاب

ولو أنّ حيّا كان جاور ميّتا

لطال كلام بيننا وخطاب(٢)

وأنّي إذا يمّمت قبرك زائرا

وقفت ودوني للتّراب حجاب

وأعرب عمّا عنده من جليّة

فأقشع عن شمس هناك ضباب

وقد أبعدنا عما كنا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام ، فنقول : قال بعض من أرخ الأندلس :

انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجدا ، ثم زادت بعد ذلك كثيرا كما سيأتي (٣) ذكره.

وقال بعضهم : كانت قرطبة قاعدة الأندلس ، وأم المدائن ، وقرارة الملك ، وكان عدد شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة ، وكانت عدة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيفا وثلاثين ، وكانت عدة دور الرعايا والسّواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار ، حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض.

ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحّدين ، قال : وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار. انتهى

وعدد أرباضها ثمانية وعشرون ، وقيل : أحد وعشرون : ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجدا ، وعدد الحمامات المبرزة للناس سبعمائة حمام ، وقيل :

ثلاثمائة حمام (٤).

وقال ابن حيان : إن عدة المساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد ، والحمامات تسعمائة حمام.

__________________

(١) في ب ، ج : ولم ينفذ إليك كتاب.

(٢) في ب : حاور ميتا ..

(٣) في ب : كما يأتي.

(٤) في ه : ستمائة حمام.


وفي بعض التواريخ القديمة : كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدا : منها بشقندة ثمانية عشر مسجدا ، وتسعمائة حمام وأحد عشر حماما ، ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصا ، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها ، هكذا نقله في المغرب ، وهو أعلم بما يأتي ويذر ، رحمه الله تعالى!.

وقال بعض المؤرخين ـ بعد ذكره نحو ما تقدم (١) ـ : ووسط الأرباض قبة قرطبة التي تحيط (٢) بالسور دونها ، وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنها كانت من تحف قصر (٣) اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية. انتهى

ونحوه لابن الفرضي وغير واحد ، لكن خالفهم صاحب «المسالك والممالك» فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجدا ، وهو بعيد ، وقال قبله : إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع ، وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة ، وهي بالقوطية بالظاء المشالة ، وقيل : إن معنى قرطبة أجز فاسكنها (٤) قال : وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة ، وكانت جبايتها في أيام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين دينارا ، وسبق ما يخالف هذا ، ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي ، ومن الشعير سبعة آلاف مدي ، ومن الشعير سبعة (٥) آلاف وستمائة مدي وسبعة وأربعين مديا.

وقال بعض العلماء : أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة عشر ألف دارا وسبعة وسبعين دارا ، وهذه دور الرعية ، وأما دور الأكابر والوزراء والكتاب والأجناد وخاصة الملك فستون ألف دار وثلاثمائة دار سوى مصاري (٦) الكراء والحمامات والخانات ، وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون حانوتا ، ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران ، ومحيت آثار تلك القرى والبلدان ، انتهى ملخصا وسيأتي في رسالة الشّقندي ما هو أشمل من هذا.

ولما رقت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي (٧) بقرطبة وزيّن له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحّدين مرّاكش قال وذكر المنتزهات القرطبية : [البسيط]

__________________

(١) أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٧٢.

(٢) في ه : تختص.

(٣) في ه : قيصر.

(٤) في ب ، ه : اجر فاسكنها.

(٥) في ب : سبعا.

(٦) المصاري : جمع مصرية ، وهي غرفة علوية في البناء منعزلة ، تستعمل للخدم أو الكراء.

(٧) أبو القاسم عامر بن هشام القرطبي : شاعر بطال ، صلحت حاله بآخرة ، وتنسك. توفي سنة ٦٢٣ ه‍ (المغرب ج ١ ص ٧٥).


يا هبّة باكرت من نحو دارين

وافت إليّ على بعد تحيّيني

سرت على صفحات النّهر ناشرة

جناحها بين خيريّ ونسرين

ردّت إلى جسدي روح الحياة وما

خلت النّسيم إذا ما متّ يحييني

لو لا تنسّمها من نشر أرضكم

ما أصبحت من أليم الوجد تبريني

مرّت على عقدات الرّمل حاملة

من سرّكم خبرا بالوحي يشفيني

عرفت من عرفه ما كنت أجهله

لمّا تبسّم في تلك الميادين(١)

نزوت من طرب لمّا هفا سحرا

وظلّ ينشرني طورا ويطويني

خلت الشّمال شمولا إذ سكرت بها

سكرا بما لست أرجوه يمنّيني

أهدت إليّ أريجا من شمائلكم

فقلت : قرّبني من كان يقصيني

وخلت من طمع أنّ اللّقاء على

إثر النّسيم وأضحى الشّوق يحدوني

فظلت ألثم من تعظيم حقّكم

مجرّ أذيالها والوجد يغريني

مسارح كم بها سرّحت من كمد

قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني

بين المصلّى إلى وادي العقيق وما

يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني

إلى الرّصافة فالمرج النّضير فوا

دي الدّير فالعطف من بطحاء عبدون

لباب عبد سقته السّحب وابلها

فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني

لا باعد الله عيني عن منازهه

ولا يقرّب لها أبواب جيرون

حاشا لها من محلات مفارقة

من شيّق دونها في القرب محزون

أين المسير ورزق الله أدركه

من دون جهد وتأميل يعنّيني

يا من يزيّن لي التّرحال عن بلدي

كم ذا تحاول نسلا عند عنّين

وأين يعدل عن أرجاء قرطبة

من شاء يظفر بالدّنيا وبالدّين

قطر فسيح ونهر ما به كدر

حفّت بشطّيه ألفاف البساتين(٢)

يا ليت لي عمر نوح في إقامتها

وأنّ مالي فيه كنز قارون

كلاهما كنت أفنيه على نشوا

ت الرّاح نهبا ووصل الحور والعين (٣)

__________________

(١) في ب : ما لست أجهله .. لما تنسّم.

(٢) ألفاف البساتين : جمع لفّ ، وهو البستان الكثيف الشجر.

(٣) في ب ، ه : ووصل الخرّد العين.


وإنّما أسفي أنّي أهيم بها

وأنّ حظّي منها حظّ مغبون

أرى بعيني ما لا تستطيل يدي

له وقد حازه من قدره دوني

وأنكد النّاس عيشا من تكون له

نفس الملوك وحالات المساكين

يغضّ طرف التّصابي حين تبهته

قضبان نعمان في كثبان يبرين

قالوا الكفاف مقيم قلت ذاك لمن

لا يستخفّ إلى بيت الزّراجين

ولا يبلبله هبّ الصّبا سحرا

ولا يلطّفه عرف الرّياحين

ولا يهيم بتفّاح الخدود ورمّا

ن الصّدور وترجيع التّلاحين

لا تجتنى راحة إلّا على تعب

ولا تنال العلا إلّا من الهون

وصاحب العقل في الدنيا أخو كدر

وإنّما الصّفو فيها للمجانين

يا آمري أن أحثّ العيس عن وطني

لمّا رأى الرّزق فيه ليس يرضيني

نصحت لكنّ لي قلبا ينازعني

فلو ترحّلت عنه حلّه دوني

لألزمن وطني طورا تطاوعني

قود الأماني وطورا فيه تعصيني

مذلّلا بين عرفاني وأضرب عن

سير لأرض بها من ليس يدريني(٢)

هذا يقول غريب ساقه طمع

وذاك حين أريه البرّ يجفوني

إليك عنّي آمالي فبعدك يه

ديني وقربك يطغيني ويغويني

يا لحظ كلّ غزال لست أملكه

يدنو وما لي حال منه تدنيني

ويا مدامة دير لا ألمّ به

لو لا كما كان ما أعطيت يكفيني

لأصبرنّ على ما كان من كدر

لمن عطاياه بين الكاف والنّون

وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس «كنز الأدب» وقد أشرنا في الباب الأول إلى كثير مما يتعلق بقرطبة أعادها الله تعالى إلى الإسلام! فأغنى عن إعادته ، وإن كان ذكره هنا أنسب ، لأن ما تقدم إنما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس ، وهذا الباب لها بالاستقلال.

وأنشد أبو العاص غالب بن أمية الموروري (٣) لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الرّبض ملتفتا إلى القصر بديهة : [المنسرح]

__________________

(١) في ه : وزمان النهود.

(٢) في ب : مدلّلا.

(٣) غالب بن أمية بن غالب الموروري من شعراء القرن الرابع ، سكن قرطبة. (انظر الجذوة ص ٣٠٥ ، وبغية الملتمس ، رقم ١٢٧٥).


يا قصر كم حويت من نعم

عادت لقى بعوارض السّكك(١)

يا قصر كم حويت من ملك

دارت عليه دوائر الفلك(٢)

ما شئت فابق فكلّ متّخذ

يوما يعود بحال متّرك

(٣) وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة (٤) : [الطويل]

أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت

حداتي وزمّت للفراق ركائبي(٥)

وقد غمضت من كثرة الدّمع مقلتي

وصارت هواء من فؤادي ترائبي

ولم يبق إلّا وقفة يستحثّها

وداعي للأحباب لا للحبائب

رعى الله جيرانا بقرطبة العلا

وجاد رباها بالعهاد السّواكب(٦)

وحيّا زمانا بينهم قد ألفته

طليق المحيّا مستلان الجوانب

أإخواننا بالله فيها تذكّروا

مودّة جار أو مودّة صاحب

غدوت بهم من برّهم واحتفائهم

كأنّي في أهلي وبين أقاربي

وأما مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه ، ولكن نذكر من (٧) أوصافه وننشر من أحواله ما لا بد منه ، فنقول :

قال بعض المؤرخين : ليس في بلاد الإسلام أعظم منه ، ولا أعجب بناء وأتقن صنعة ، وكلما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحدا ، ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله ، انتهى.

وكان الذي ابتدأ بناء هذا المسجد (٨) العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل ، ولم يكمل في زمانه ، وكمله ابنه هشام ، ثم توالى الخلفاء من بني أمية على الزيادة فيه ، حتى

__________________

(١) في ب : يا قصر كم قد حويت ..

(٢) في ب : يا قصر كم قد حويت ..

(٣) في ب : ابق بما شئت ... يعود يوما بحال ..

(٤) انظر قلائد العقيان في ترجمة القاضي عياض ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦.

(٥) زمت الركائب : أعدت للرحيل.

(٦) العهاد : أول مطر السنة.

(٧) في ه : ولنشر من أحواله ما لا بد منه ، وسقطت : ولكن نذكر من أوصافه.

(٨) في ب ، ه : بنيان هذا المسجد.


صار المثل مضروبا به ، والذي ذكره غير واحد أنه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء.

وقال بعض المؤرخين : إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم بنى القصر بقرطبة ، وبنى المسجد الجامع ، وأنفق عليه ثمانين ألف دينار ، وبنى بقرطبة الرّصافة تشبيها برصافة جده هشام بدمشق.

وقال بعض : إنه أنفق على الجامع ثمانين ألف دينار ، واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينار ، فالله تعالى أعلم.

وقال بعض المؤرخين (١) في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته : إنه لما تمهد ملكه شرع في تعظيم قرطبة ، فجدد مغانيها ، وشيد مبانيها ، وحصنها بالسور ، وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع ، ووسع فناءه ، وأصلح مساجد الكور ، ثم ابتنى مدينة الرّصافة منتزها (٢) له ، واتخذ بها قصرا حسنا ، وجنانا واسعة ، نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار ، انتهى.

وكانت أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب ، مثل الرمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مر ، وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا.

ولما ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامرية أعلاج النصارى مصفّدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها ، وهم كانوا يتصرفون في البنيان عوضا من رجّالة المسلمين ، إذ لالا للشرك وعزة للإسلام ، ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقل أصحابها عنها بنفسه ، فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له : إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها (٣) لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم ، فشطّط واطلب ما شئت ، فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له ، وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضا منها ، حتى أتى بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة ، فقالت : لا أقبل عوضا إلا دارا بنخلة ، فقال: تبتاع لها دار بنخلة ، ولو ذهب فيها بيت المال ، فاشتريت لها دار بنخلة ، وبولغ في الثمن ، وحكى ذلك ابن حيان أيضا.

__________________

(١) المؤرخين : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : متنزها له.

(٣) في ب : نريد ابتياعها.


وقيل : إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحدا وستين ألف دينار ونيفا ، وكله من الأخماس.

وقال صاحب كتاب «مجموع المفترق» : وكان سقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا ، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة دراع وخمسة أذرع ، ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع ، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا ، وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعا ، فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعا ، وكان عدد بلاطه (١) أحد عشر بلاطا ، عرض أوسطها ستة عشر ذراعا ، وعرض كل واحد من اللذين يليانه غربا واللذين يليانه شرقا أربعة عشر ذراعا ، وعرض كل واحد من الستة الباقية إحدى عشرة (٢) ذراعا ، وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية عرض كل واحد عشرة أذرع ، وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفا ، وخدم فيه بنفسه ، وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمان (٣) وعشرون ذراعا ، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع ، وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع ، فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا ، وعدد أبوابه تسعة : ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا ، وأربعة في بلاطاته : اثنان شرقيان واثنان غربيان ، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان ، وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عمودا ، رخاما كلها ، وباب مقصورة الجامع ذهب ، وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء ، وثريّات المقصورة فضة محضة (٤) ، وارتفاع الصومعة اليوم ـ وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد ـ ثلاثة وسبعون ذراعا إلى أعلى القبة المفتحة التي يستدير (٥) بها المؤذن ، وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضة ، ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف ، فاثنان من التفافيح ذهب إبريز ، وواحدة فضة ، وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة ، ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج ، وهي إحدى غرائب الأرض.

وكان بالجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي خطّه بيده ، وعليه حلية ذهب مكللة بالدر والياقوت ، وعليه أغشية الديباج ، وهو على كرسي من (٦) العود الرّطب بمسامير الذهب.

__________________

(١) في ب : عدد بلاطاته.

(٢) في ب : أحد عشر ذراعا.

(٣) في ب : وثمانية.

(٤) فضة محضة : خالصة.

(٥) في ج : التي يستدبرها المؤذن.

(٦) من : زيادة في ه وحدها. ولا توجد في غيرها من النسخ.


رجع إلى المنارة ـ وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعا ، وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمان عشرة (١) ذراعا ، انتهى بحروفه.

وفيه بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم ، إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب الخير (٢) والبر والقرب بنيان (٣) المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ، وذلك أنه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية ، وتناهى حالها في الجلالة ضاقت الأرباض وغيرها ، وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس ، فشرع المنصور في الزيادة بشرقيه حيث تتمكن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة ، فبدأ ابن أبي عامر في (٤) هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره ، وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في الإتقان والوثاقة ، دون الزخرفة ، ولم يقصر ـ مع هذا ـ عن سائر الزيادات جودة ، ما عدا زيادة الحكم. وأوّل ما عمله ابن أبي عامر تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن ، وصنع في صحنه الجبّ العظيم قدره الواسع فناؤه ، وهو ـ أعني ابن أبي عامر ـ هو الذي رتب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت ، فتطابق بذلك النوران ، وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية ، وقيل : أكثر ، وعدد ثريّات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا ، وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأسا ، وقيل : عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس ، وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع أو نحوها ، وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار ، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها ، يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد ، ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور ، والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا ، يحترق بعضها بطول الشهر ، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة ، وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصرفين مائة وتسعة وخمسين شخصا ، ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع أواق من العنبر الأشهب وثمان أواق من العود الرطب ، انتهى.

__________________

(١) في ب : ثمانية عشر ذراعا.

(٢) الخير و : زيادة في ه وحدها.

(٣) في ب : والقربة بنيان ..

(٤) في : زيادة في ه وحدها.


وقال بعض المؤرخين : كان للجامع كل ليلة (١) جمعة رطل عود ، وربع رطل عنبر ، يتبخر به ، انتهى.

وقال ابن سعيد ، نقلا عن ابن بشكوال : طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعا ، الصحن المكشوف منه (٢) ثمانون ذراعا ، وغير ذلك مقرمد ، وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعا ، وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهوا ، وتسمى البلاطات ، وعدد أبوابه الكبار والصغار أحد وعشرون (٣) بابا في الجانب الغربي تسعة أبواب ، منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن ، وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب ، منها لدخول الرجال ثمانية أبواب ، وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب ، منها لدخول الرجال بابان كبيران ، وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهنّ ، وليس لهذا الجامع في القبليّ سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة ، وجميع هذه الأبواب ملبّسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة ، وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة (٤) بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألف وأربعمائة سارية وتسع سوار ، منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية ، وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال : إنه خطر بها على خمس (٥) بلاطات من الزيادة الحكمية ، وأطلق حفافيها على الستة الباقية ثلاثة من كل جهة ، فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسا وسبعين ذراعا ، وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين وعشرين ذراعا ، وارتفاعها في السماء إلى حدّ شرفاتها ثمان أذرع (٦) ، وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار ، ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقيّ وغربي وشماليّ ، ثم قال : وذرع المحراب (٧) في الطول من القبلة إلى الجوف ثمان أذرع (٨) ونصف ، وعرضه من الشرق إلى الغرب سبع أذرع ونصف ، وارتفاع قبوه في السماء ثلاث عشرة (٩) ذراعا ونصف ، والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك ، ومبلغ

__________________

(١) كلمة (ليلة) لا توجد في ه.

(٢) في ب ، ه : عنه.

(٣) في ب : واحد وعشرون.

(٤) في ب ، ه : الملصقة.

(٥) في ب : خمسة بلاطات ..

(٦) في ب : ثمانية أذرع.

(٧) ذرع المحراب : أي مقياسه بالذراع.

(٨) في ب : ثمانية أذرع ..

(٩) في ب : ثلاثة عشر ذراعا.


النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم وقيل غير ذلك ، وعدد درجه تسع درجات صنعه الحكم المستنصر رحمه الله ، وذكر أن عدد ثريّات الجامع التي تسرج فيها المصابيح بداخل البلاطات خاصة ـ سوى ما منها على الأبواب ـ مائتان وأربع وعشرون ثريّا ، جميعها من لاطون (١) مختلفة الصنعة ، منها أربع ثريّات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلقة في القبة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة ، وفيها من السّرج ـ فيما زعموا ـ ألف وأربعمائة وأربعة (٢) وخمسون ، تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان ، تسقى كل ثريا منها سبعة أرباع في الليلة ، وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدة ابن أبي عامر مكملة (٣) بالزيادة المنسوبة ألف ربع ، منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعا ، قال : وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة ، انتهى. وفيه مخالفة لبعض ما تقدم.

وذكر بعضهم الزيت ـ ولكن قوله أولى بالاتباع ، لنقله عن ابن بشكوال ، ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكبر (٤) من غيره ، والله سبحانه أعلم ـ فقال : ألف ربع وثلاثون ربعا ، منها في رمضان خمسمائة ربع ، وفي الثريات التي من الفضة ـ وهي ثلاثة ـ اثنان وسبعون رطلا ، لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها. وقال في المنبر : إنه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل ، قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضة ، وسمرت بمسامير الذهب والفضة ، وفي بعضها نفيس الأحجار (٥) ، واتصل العمل فيه تسعة ، ثم قال : ودور الثريا العظيمة خمسون شبرا ، وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين ، كلها موشّاة بالذهب ، إلى غير ذلك من الغرائب.

وكتب الفقيه الكاتب أبو محمد إبراهيم ابن (٦) صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصه : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك ، ووفر من جزيل الكرامة قسمك ، ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرّة ، وأنامل الأيام تهدي إليك كل مسرّة ، لئن كان أعزك الله طريق الوداد بيننا عامرا ، وسبيل المحبة (٧) غامرا ، لوجب أن نفض ختمه ، ونرفض كتمه ، لا سيما فيما يدرّ أخلاف الفضائل ، ويهز أعطاف الشمائل ، وإني شخصت إلى حضرة قرطبة ـ حرسها الله تعالى! ـ منشرح الصدر ، لحضور ليلة القدر ، والجامع ـ قدس الله تعالى بقعته

__________________

(١) اللّاطون : النحاس الأصفر.

(٢) في ب ، ه : ألف وأربعة وخمسون.

(٣) في ج : مكمل بالزيادة.

(٤) في ب : فيه أكثر.

(٥) نفيس الأحجار : ثمينها.

(٦) في ب : ابن صاحب ..

(٧) في ب ، ه : وسبيل الاتحاد غامرا.


ومكانه ، وثبت أساسه وأركانه! ـ قد كسي ببردة الازدهاء ، وجلي في معرض البهاء ، كأن شرفاته فلول في سنان ، أو أشر في أسنان ، وكأنما ضربت في سمائه كلل ، أو خلعت على أرجائه حلل ، وكأن الشمس خلفت فيه ضياءها ، ونسجت على أقطارها أفياءها ، فترى نهارا قد أحدق به ليل ، كما أحدق بربوة سيل ، ليل دامس ، ونهار شامس ، وللذّبال (١) تألق كنضنضة الحيات (٢) ، أو إشارة السبابات في التحيات ، قد أترعت من السليط كؤوسها ، ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها ، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة ، أو كالثعابين العائمة ، عصبت بها تفاح من الصّفر ، كاللّقاح (٣) الصفر : بولغ في صقلها وجلائها ، حتى بهرت بحسنها ولألائها ، كأنها جليت باللهب ، وأشربت ماء الذهب ، إن سمتّها (٤) طولا رأيت منها سبائك عسجد ، أو قلائد زبرجد ، وإن أتيتها (٥) عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة ، ونجوما ولكنها ليست بسائرة ، تتعلق تعلق القرط من الذّفرى (٦) ، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى ، والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود ، وعرضت عليها عرض الجنود ، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد ، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد ، وقد قوبل منها مبيضّ بمحمر ، وعورض مخضر بمصفر ، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها ، وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها ، والطيب تفغم أفواحه ، وتتنسم أرواحه ، وقتار الألنجوج والند (٧) ، يسترجع من روح الحياة ما ندّ (٨) ، وكلما تصاعد وهو محاصر ، أطال من العمر ما كان تقاصر ، في صفوف مجامر ، ككعوب مقامر ، وظهور القباب مؤللة ، وبطونها مهللة ، كأنها تيجان ، رصّع فيها ياقوت ومرجان ، قد قوس محرابها أحكم تقويس ، ووشم بمثل ريش الطواويس ، حتى كأنه بالمجرة مقرطق ، وبقوس قزح ممنطق ، وكأن اللازورد حول وشومه ، وبين رسومه ، نتف من قوادم الحمام ، أو كسف من ظلل الغمام ، والناس أخياف (٩) في دواعيهم ، وأوزاع (١٠) في أغراضهم ومراميهم ،

__________________

(١) الذبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة.

(٢) النضنضة : نضنض لسانه : حركه ، ونضنض : قلق. وكلا المعنيين يمكن انطباقه على الحيات.

(٣) في ب : كاللّفّاح.

(٤) في ب : سامتها.

(٥) في ب : وإن جئتها.

(٦) الذفرى : الأذن.

(٧) الألنجوج : واليلنجج : العود الطيب الرائحة. والند : عود يتبخّر به.

(٨) الروح ، بفتح الراء وسكون الواو : الفرح والسرور ، وطيب الأيام. وندّ : غاب وابتعد.

(٩) أخياف : مختلفون.

(١٠) أوزاع : مختلفون.


بين ركع وسجد ، وأيقاظ وهجد ، ومزدحم على الرقاب يتخطاها ، ومقتحم على الظهور يتمطاها ، كأنهم برد خلال قطر ، أو حروف في عرض سطر ، حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم ، تبادروا بالتكليم ، وتجاذبوا بالأثواب ، وتساقوا بالأكواب ، كأنهم حضور طال عليهم غياب ، أو سفر أتيح لهم إياب ، وصفيّك مع إخوان صدق ، تنكسب العلوم بينهم انسكاب الودق (١) ، في مكان كوكر العصفور ، أستغفر الله أو ككناس اليعفور (٢) ، كأن أقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين ، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين ، حتى صار عقدنا لا يحل ، وحدّنا لا يفل ، بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى ، ونتطلع صور التفصيل كيف تجلى ، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ، ويعمدون إلى قرع العمد بالدّرر ، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين ، وسرت نحوهم سرى القين ، توهموا أنها إلى أعطافهم واصلة ، وفي أقحافهم حاصلة ، ففروا بين الأساطين ، كما تفرّ من النجوم الشياطين ، كأنما ضربهم أبو جهم بعصاه ، أو حصبهم عمير بن ضابىء (٣) بحصاه ، فأكرم بها مساع تشوق إلى جنة الخلد ، ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتّلد ، تعظيما لشعائر الله ، وتنبيها لكل ساه ولاه ، حكمة تشهد لله تعالى بالربوبية ، وطاعة تذل لها كل نفس أبيّة ، فلم أرد أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى ، ولا مخبرا أشهى ، وإذ (٤) لم تتأمله عيانا ، فتخيله بيانا ، وإن كان حظ منطقي من الكلام ، حظ السفيح (٥) من الأزلام ، لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها ، وذمّة تقلدنا حمائلها ، يوجب قبول إتحافي سمينا وغثّا ، ولبس إلطافي جديدا ورثا ، لا زلت لزناد النبل موريا ، وإلى آماد الفضل مجريا ، والتحية العبقة الريّا ، المشرقة المحيّا ، عليك ما طلع قمر ، وأينع ثمر ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.

وذكر ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع (٦) الذي يستقي (٧) لها الماء من بئر السانية ، وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء ، أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل

__________________

(١) الودق : المطر.

(٢) اليعفور : الغزال.

(٣) عمير بن ضابىء : هو الذي كسر أضلاع عثمان بن عفان يوم الدار.

(٤) في ب : إذا.

(٥) السفيح : قدح من قداح القمار لا نصيب له في الربح.

(٦) الذمة : العهد. وفي ب ، ه : أذمة ، وهي جمع ذمام.

(٧) في ب : بفناء الجامع يستسقي لها.


والنهار ، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية ، أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير ، وألقاه الرخّامون (١) هنالك ، واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس ، فخفف ذلك من ثقلها ، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع ، وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته ، فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلك موثقة بالحديد المثقف محفوفة بوثاق الحبال قرن لجرّها سبعون دابة من أشد الدواب ، وسهلت قدامها الطرق والمسالك ، وسهل الله تعالى حملها واحدة بعد أخرى على هذه الصفة في مدة اثني عشر يوما ، فنصبت في الأقباء المعقودة لها ، قال : وابتنى المستنصر في غربي الجامع دار الصدقة ، واتخذها معهدا لتفريق صدقاته المتوالية ، وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي ، انتهى.

واعلم أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب ، حتى إنهم يقولون في الأحكام :

هذا مما جرى به عمل قرطبة ، وفي هذه المسألة نزاع كثير ، ولا بأس أن نذكر ما لا بد منه من ذلك ، قال الإمام ابن عرفة رحمه الله تعالى : في اشتراط الإمام على القاضي الحكم بمذهب معين ـ وإن خالف معتقد المشترط اجتهادا وتقليدا ـ ثلاثة أقوال : الصحة للباجي ، ولعمل أهل قرطبة ، ولظاهر شرط سحنون على مذهب من ولاه الحكم بمذهب أهل المدينة ، قال المازري : مع احتمال كون الرجل مجتهدا. الثاني : البطلان ، للطرطوشي ، إذ قال : في شرط أهل قرطبة هذا جهل عظيم. الثالث : تصح التولية ويبطل الشرط ، تخريجا على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس ، انتهى مختصرا.

قال ابن غازي : إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقا ، وابن شاس إنما نسب له التفصيل ، انتهى.

ولما ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس (٢) سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور ، قال بعده ما نصه : وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة بالأندلس ، ثم انتقل إلى المغرب ، فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح

__________________

(١) في ج : الرخاميون.

(٢) هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري التلمساني وهو جد المؤلف لهذا الكتاب (انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٦٩).


بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما : [البسيط]

ليس التّكحّل في العينين كالكحل

سنح لنا بغض الجمود ، ومعدن التقليد : [الكامل]

الله أخّر مدّتي فتأخّرت

حتّى رأيت من الزّمان عجائبا

يا لله وللمسلمين ، ذهبت قرطبة وأهلها ، ولم يبرح من الناس جهلها ، ما ذاك إلا لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه ، والباطل لا زال يلقنه ويلقيه ، ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك ، وأسماؤها (١) كالعتمة ويثرب ، وكذا التنابز بالألقاب وغيره مما نهي عنه وحذر منه ، كيف لم تزل من أهلها ، وانتقلت إلى غيرهم مع تيسّر أمرها ، حتى كأنهم لا يرفعون بالدين رأسا ، بل يجعلون العادات القديمة أسا ، وكذلك محبة الشعر والتلحين والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب ، والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلا قولا ، ولا نحمله إلا كلّا ، انتهى.

وقال الحافظ ابن غازي ـ بعد ذكر كلام مولاي الجد ـ ما نصه : وحدثني ثقة ممن لقيت أنه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء بحضور مجلسه كان مما ألقاه إليهم منزع المقري (٢) هذا ، فبالغوا في إنكاره ، ورأوا أنه لا معدل (٣) عما عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثاق كالمتيطي من اعتماد أهل قرطبة ومن في معناهم انتهى.

وقال بعض المؤرخين ـ حين ذكر قرطبة ـ ما ملخصه : هي قاعدة بلاد الأندلس ، ودار الخلافة الإسلامية ، وهي مدينة عظيمة ، وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس ، في حسن المآكل والمشارب والملابس والمراكب ، وعلو الهمم ، وبها أعلام العلماء ، وسادات الفضلاء ، وأجلاد الغزاة ، وأنجاد الحروب ، وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضا ، وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز ، وكل مدينة مستقلة بنفسها ، وفيها ما يكفي أهلها من الحمامات والأسواق والصناعات وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد ، وهي في سفح جبل مطل عليها ، وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور

__________________

(١) في ب : وأسماءها.

(٢) في ج : مشرع المقري.

(٣) في ج : لا معوّل عما عول عليه.


الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين ، وفيه من السواري الكبار ألف سارية ، وفيه مائة وثلاثة عشر ثريا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح ، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه ، وبقبلته صناعات تدهش العقول ، وعلى فرجة المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها ، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة اثنان أخضران واثنان لازورديان ، ليس لها قيمة لنفاستها ، وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا مثله في حسن صنعته ، وخشبه ساج وآبنوس وبقمّ وعود قاقلي ، ويذكر في تاريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين ، وكان يعمل فيه ثمانية صناع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي ، فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا ، وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده ، وبهذا الجامع مصحف يقال : إنه عثماني ، وللجامع عشرون بابا مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرمة تخريما عجيبا بديعا يعجز البشر ويبهرهم ، وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة ، وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي (١) ، وفيه من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته ، وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر ، مكتوب على الواحد اسم محمد ، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف ، وعلى الثالث صورة غراب نوح ، والجميع خلقة ربانية ، وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة ، عجيبة المرأى ، فاقت قناطر الدنيا حسنا ، وعدد قسيّها سبعة عشر قوسا ، سعة كل قوس منها خمسون شبرا وبين كل قوسين خمسون شبرا ، وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن نحيط بها وصفا (٢) ، انتهى ملخصا.

وهو وإن تكرر بعضه مع ما قدمته فلا يخلو من فائدة زائدة ، والله الموفق.

وما ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مر ، ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك ، كما أشار إليه هو في أمر الصومعة ، وكذا ما ذكره في عدد السواري ، إلا أن يقال : ما تقدم باعتبار الصغار والكبار ، وهذا العدد الذي ذكره هنا إنما هو للكبار فقط ، كما صرح به ، والله تعالى أعلم.

وأما الثريات فقد خالف في عددها ما تقدم ، مع أن المتقدم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس ، ونحن جلبنا النقل من مواضعه ، وإن اختلفت طرقه ومضموناته.

__________________

(١) ذراع ينسب إلى الرشاش الذي اتخذ طوله وحدة قياس الأطوال (طبقات الزبيدي ص ٢٨٤).

(٢) في ب : أن يحيط بها وصف.


وقال في المغرب ـ عند تعرضه لذكر جامع قرطبة ـ ما نصه : اعتمدت فيما نقلته (١) في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال ، فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره.

عن الرازي أنه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا ، فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور ، وكانوا يسمونها بسنت بنجنت (٢) ، وابتنوا في ذلك الشطر مسجدا جامعا ، وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى ، وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة ، واقتنع المسلمون بما في أيديهم ، إلى أن كثروا ، وتزيدت عمارة قرطبة ، ونزلها أمراء العرب ، فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنّون بها ، حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقة لتلاصق تلك السقائف ، وقصر أبوابها ، وتطامن سقفها ، حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس ، واستولى على إمارتها ، وسكن دار سلطانها قرطبة ، وتمدّنت به ، فنظر في أمر الجامع ، وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه ، فأحضر أعاظم النصارى ، وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه ، فأبوا من بيع ما بأيديهم ، وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم (٣) التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به ، فتم الأمر على ذلك ، وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة ، فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير (٤) الزيادة فيه ، وإنما الحاجة في وصفه بكماله ، وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي (٥) من قصيدة : [الطويل]

وأنفق في دين الإله ووجهه

ثمانين ألفا من لجين وعسجد

توزّعها في مسجد أسّه التّقى

ومنهجه دين النّبيّ محمّد

ترى الذّهب النّاري فوق سموكه

يلوح كبرق العارض المتوقّد

__________________

(١) في ب ، ه : فيما أنقله في هذا ...

(٢) في ب : بشنت بنجنت.

(٣) في ه : كنائسهم.

(٤) في ه : لا حاجة في تفسير الزيادات فيه.

(٥) في ه : البلوني.


قال : وكمل سنة سبعين ومائة ، ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضا وما جدّده فيه ، وأنه بناه من خمس فيء أربونة ، ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس ، قال : وهلك قبل أن يتم الزخرفة ، فأتمها ولده محمد بن عبد الرحمن ، ثم رمّ المنذر (١) بن محمد ما وهى منه ، وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة ، قال : ولما ولي الحكم المستنصر بن الناصر ـ وقد اتسع نطاق قرطبة ، وكثر أهلها ، وتبين الضيق في جامعها ـ لم يقدّم شيئا على النظر في الزيادة ، فبلغ الجهد ، وزاد الزيادة العظمى ، قال : وبها كملت محاسن هذا الجامع ، وصار في حدّ يقصر (٢) الوصف عنه ، وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق ، حسبما فعله والده الناصر في قبلة جامع الزهراء ، لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب ، فقال له الفقيه أبو إبراهيم : يا أمير المؤمنين ، إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم ، منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت ، متأسّين (٣) بأوّل من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهم ، رحمهم الله تعالى! وإنّما فضل من فضل بالاتباع ، وهلك من هلك بالابتداع ، فأخذ الخليفة برأيه ، وقال : نعم ما قلت ، وإنما مذهبنا (٤) الاتباع.

قال ابن بشكوال : ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين دينارا ودرهمين ونصف.

ثم ذكر الصومعة نقلا عن ابن بشكوال فقال : أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة ٣٤٠ وأقام هذه الصومعة البديعة ، فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدّة من ثلاثة وأربعين يوما ، ولما كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصّومعة من أحد درجيها (٥) ، ونزل من الثاني ، ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة ، وانصرف ، قال :

وكانت الأولى ذات مطلع واحد ، فصير لهذه مطلعين ، فصل بينهما البناء ، فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها ، تزيد مراقي كل مطلع منها على مائة سبعا.

قال : وخبر هذه الصومعة مشهور في الأرض (٦) ، وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها.

__________________

(١) رمّ : أصلح. ووهى : ضعف.

(٢) في ب ، ه : يحسر الوصف.

(٣) في ه : مؤتسين.

(٤) في ه : وإنما مذهبي الاتباع.

(٥) في ه : أحد درجيه.

(٦) في ب ، ه : مشهور في الأندلس.


قال ابن سعيد : قال ابن بشكوال هذا لأنه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية اللتين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن ، فهما أعظم وأطول ، لأنه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعا وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعا ، وعرضها في كل تربيع (١) ثمانية عشر ذراعا ، وذلك اثنان وسبعون ذراعا ، قال ابن سعيد : وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع ، وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة الفظيعة (٢) منجّدة غاية التنجيد ، وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس : الثنتان منها ذهب إبريز ، والثالثة منها وسطى بينهما من فضة إكسير (٣) ، وفوقها سوسنة من ذهب مسدّسة فوقها رمانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجوّ ، وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهرا.

وذكر ابن بشكوال في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها ، فلما قدم سليمان بن داود صلى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن : اردموا هذا الموضع وعدّلوا مكانه ، فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه ، ففعلوا ما أمرهم به ، وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور ، قال : ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة ، انتهى.

وذكر مصحف عثمان بن عثمان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال : هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، مما خطّه بيمينه ، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم ، انتهى.

وسنذكر فيه زيادة على هذا.

وأما الزهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لدين الله ، وقد تقدّم ذكره ، وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر ، قال ابن الفرضي وغيره : كان يعمل في جامعها حين شرع فيه من حذّاق الفعلة كلّ يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بنّاء ومائتا نجّار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع ، فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة من ثمانية وأربعين يوما ، وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصّنعة ، وطوله من القبلة إلى الجوف ـ حاشا

__________________

(١) في ب : كل تربيع فيها ثمانية ..

(٢) في ب : الحجارة المقطعة.

(٣) الإكسير : ما يلقى على الفضة أو نحوها فيحوله إلى ذهب خالص ، وذلك من خرافات أصحاب الكيمياء القديمة.


المقصورة ـ ثلاثون ذراعا ، وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاث عشرة ذراعا (١) ، وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعا ، وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاث وأربعون ذراعا ، وعرضه من الشرق إلى الغرب إحدى وأربعون ذراعا ، وجميعه مفروش بالرخام الخمري ، وفي وسطه فوّارة يجري فيها الماء ، فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف ـ سوى المحراب ـ سبع وتسعون ذراعا (٢) ، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسع وخمسون ذراعا (٣) ، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا ، وعرضها عشرة أذرع في مثلها.

وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد ، فصنع في نهاية من الحسن ، ووضع في مكانه منه ، وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة ، وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

قال : وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي أجراها (٤) وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة ، في المناهر المهندسة (٥) ، وعلى الحنايا المعقودة ، يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة ، عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة لم يشاهد أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر ، مطلي بذهب إبريز ، وعيناه جوهرتان لهما وبيص (٦) شديد ، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه ، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبه ، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها ، ويستفيض على ساحاته وجنباته ، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه ، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر ، لبعد مسافتها ، واختلاف مسالكها ، وفخامة بنيانها ، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها ، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت ـ أعني القناة ـ إلى هذه البركة أربعة عشر شهرا ، وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة ، وكانت للناصر في

__________________

(١) في ب : ثلاثة عشر ذراعا.

(٢) في ب : سبعة وتسعون ذراعا.

(٣) في ب : تسعة وخمسون ذراعا.

(٤) كلمة : أجراها و : غير موجودة في ب.

(٥) مناهر : جمع منهر ، وهو شق في الحصن أو البناء يجري فيه ماء.

(٦) الوبيص ، بفتح الواو : البريق اللمعان. وقد جاء في ب ، ه : لهما وميض شديد.


هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامة أهل مملكته ، ووصل المهندسين والقوّام بالعمل بصلات حسنة جليلة (١) جزيلة.

وأما مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم ، وذلك نحو من أربعين سنة.

ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أوّل جماعة صليت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان ، وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى ، ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة ، وأوّل من خطب (٢) به القاضي المذكور ، ولما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة ، وما دخل إليه قط أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر وجهبذ (٣) ، وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة ، إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبها ، بل يسمع به (٤) ، بل لم يتوهم كون مثله ، حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه ، والتحدث عنه ، والأخبار عن هذا تتسع جدا ، والأدلة عليه تكثر ، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرّد المشرف على الروضة المباهى بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب مصون (٥) وعمد كأنما أفرغت في القوالب ، ونقوش كالرياض ، وبرك عظيمة محكمة الصنعة ، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها ، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعدّه لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلّط عليها الفناء ، ولا تحتاج إلى الرّم ، لا إله إلا هو المنفرد بالكرم.

وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة أن مباني الزهراء (٦) اشتملت على أربعة آلاف سارية ، ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة ، ونيّف على (٧) ثلاثمائة سارية هو ستّ عشرة (٨) ، قال : منها ما جلب من مدينة رومة ، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية ، وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب ، وكلها ملبسة بالحديد

__________________

(١) جليلة : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : وأول خطيب به القاضي ..

(٣) في ب : تاجر جهبذ.

(٤) في ب : بل لم يسمع به ..

(٥) في ب ، ه : وذهب موضون.

(٦) في ب : مباني قصر الزهراء.

(٧) في ب ، ه : ونيف هو ثنتا عشرة على ..

(٨) هو ست عشرة : غير موجودة في ب.


والنحاس المموه ، والله سبحانه أعلم فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس ، وأجلّه خطرا ، وأعظمه شأنا ، انتهى.

قلت : فسر بعضهم ذلك النيف في كلامه بثلاث عشرة ، والله أعلم.

وقال بعض من أرخ الأندلس : كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى ، ودخالتهم من اللحم كل يوم (١) ـ حاشا أنواع الطير والحوت ـ ثلاثة عشر ألف رطل ، وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار ، وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة ، انتهى.

وقيل : إن عدد الصبيان (٢) الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون ، وجعل بعض مكان الخمسين سبعة وثمانين.

وقال آخر : ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون ، والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم ، وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم ، انتهى.

ثم قال الأول : وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل ، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك ، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان ، انتهى.

وقال ابن حيان : ألفيت بخط ابن دحّون (٣) الفقيه ، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس : بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بعمارة (٤) الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستة آلاف صخرة ، سوى الصخر المصرف في التبليط ، فإنه لم يدخل في هذا العدد ، وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل ، وقيل أكثر منها : أربعمائة زوامل الناصر لدين الله (٥) ، ومن دواب الأكرية (٦) الراتبة للخدمة ألف بغل ، لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر ، يجب لها في الشهر ثلاثة آلاف مثقال وكان يرد الزهراء من الجير والجص (٧) في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل ، وكان فيها حمامان : واحد للقصر ، وثان للعامة.

__________________

(١) في ب : في كل يوم.

(٢) في ب ، ه : إن عدد الفتيان.

(٣) في ج : ابن دجون ، والصواب ما أثبتناه (انظر أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٦٩).

(٤) في ب ، ه : بنيان الزهراء.

(٥) الزوامل : جمع زاملة ، وهي ما يحمل عليه من الدواب.

(٦) في ب : الأكرياء.

(٧) في ب ، ه : الجيار. والجير : الجص ، والجيار الكلس قبل أن يطفأ.


وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاما التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها ، لأنه توفي سنة خمسين ، فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال.

قال : وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس ، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وحسن بن محمد وعلي بن جعفر الإسكندراني (١) ، وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير ، انتهى.

وقال بعض ثقات المؤرخين : إنه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير ، وعلى كل سارية بثمانية دنانير (٢) ، قيل (٣) : وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية ، ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية ، وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية ، وسائرها من مقاطع الأندلس طرّكونة وغيرها ، فالرخام المجزع من ريّة ، والأبيض من غيرها ، والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس ، وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء ، وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام ، وقيل : من القسطنطينية مع ربيع الأسقف أيضا ، وقالوا : إنه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله ، وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر (٤) ، ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس ، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي مما عمل بدار الصناعة بقرطبة صورة أسد بجانبه (٥) غزال إلى جانبه تمساح ، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل ، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر ، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ، ويخرج الماء من أفواهها ، وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم ، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره ، وكان يخبز في أيامه (٦) في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة ، وقيل : أكثر ، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه.

__________________

(١) في ب : وحسن وعلي بن جعفر (بإسقاط : بن محمد).

(٢) في ب : دنانير سلجماسية.

(٣) في ه : قال.

(٤) في ه : إلى البحر.

(٥) في ه : إلى جانبه.

(٦) في ه : على أيامه.


وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدخر ، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار ، وأما أخماس الغنيمة (١) فلا يحصيها ديوان.

وقد سبق هذا كله ، وإنما كررته لقول بعضهم إثر حكايته له ، ما صورته : وقيل : إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة ، وقيل : إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وسبعة أقفزة (٢) من الدراهم المذكورة ، واتصل بنيان الزهراء أيام الناصر خمسا وعشرين سنة شطر خلافته ، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها ، وكانت خمسة عشر عاما وأشهرا ، فسبحان الباقي بعد فناء الخلق ، لا إله إلا هو ، انتهى.

وقال ابن أصبغ (٣) الهمداني والفتح في المطمح : كان الناصر كلفا بعمارة الأرض ، وإقامة معالمها ، وانبساط مجاهلها (٤) ، واستجلابها من أبعد بقاعها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلوّ الهمة ، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره ، الذائع خبره ، المنتشر صيته في الأرض (٥) ، واستفرغ جهده (٦) في تنميقها ، وإتقان قصورها ، وزخرفة مصانعها ، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات ، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكير (٧) بالإنابة والرجوع ، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) ـ إلى قوله تعالى : (مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء الآية : ١٢٨ ـ ١٣٦] ثم وصله بقوله : فمتاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، وهي دار القرار ، ومكان الجزاء ، ومضى في ذم تشييد البنيان ، والاستغراق في زخرفته ، والإسراف في الإنفاق عليه ، بكل كلام جزل (٨) ، وقول فصل ، قال الحاكي : فجرى فيه طلقا ، وانتزع فيه قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) [التوبة : ١٠٩] إلى

__________________

(١) في ب : الغنائم.

(٢) في ه : ستة أقفزة.

(٣) في ج : ابن البديع ، وهو كما أثبتنا. انظر (أزهار الرياض ج ٢ ص ٢٧٧ ، والمراقبة العليا ص ٦٩).

(٤) في ب : وانبساط مياهها.

(٥) في ب ، ه : المنتشر في الأرض أثره.

(٦) في ب ، ه : واستفرغ وسعه.

(٧) في ب : والتذكر.

(٨) في ب : بكلام جزل.


آخر الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت ، والتحذير من فجأته ، والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية ، والحض على اعتزالها ، والرفض لها ، والندب إلى الإعراض عنها ، والإقصار عن طلب اللذات ، ونهى النفس عن اتباع هواها ، فأسهب في ذلك كله ، وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه ، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ، حتى أذكر من حضره من الناس وخشعوا ورقّوا واعترفوا وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة ، وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ ، وقد علم أنه المقصود به ، فبكى وندم على ما سلف له من فرطه ، واستعاذ بالله من سخطه ، إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرّعه به ، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر ، وقال : والله لقد تعمدني منذر بخطبته ، وما عنى بها غيري ، فأسرف علي ، وأفرط في تقريعي وتفزيعي (١) ، ولم يحسن السياسة في وعظي ، فزعزع قلبي ، وكاد بعصاه يقرعني ، واستشاط غيظا عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة ، فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرّف صاحب الصلاة بقرطبة ، ويجانب الصلاة بالزهراء ، وقال له الحكم : فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟! فزجره وانتهره ، وقال له : أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد ، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون ، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ، ولكنه أحرجني ، فأقسمت ، ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي ، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى ، فما أظننا نعتاض منه أبدا وقيل : إن الحكم اعتذر عما قال منذر ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إنه رجل صالح ، وما أراد إلا خيرا ، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك ، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت ، وفرش ذلك المجلس بأصناف فرش الديباج ، وأمر بالأطعمة ، وقد أحضر العلماء (٢) وغصّ بهم المجلس ، فدخل منذر في آخرهم ، فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه ، فقال (٣) : يا أمير المؤمنين ، إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس ، ولا يتخطى الرقاب ، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة ، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاما من كلام المنذر يأتي قريبا.

وقحط الناس آخر مدة الناصر ، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس ، فتأهب لذلك ، وصام بين يديه أياما ثلاثا تنفلا وإنابة ورهبة ، واجتمع له الناس في

__________________

(١) تفزيعي : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء.

(٣) في ب : وقال له ..


مصلى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم ، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ، ويشاركهم في الخروج إلى الله والضّراعة له ، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ، ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا (١) ، وقام ليخطب ، فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه ، واستكانتهم من خيفة الله ، وإخباتهم له ، وابتهالهم إليه ـ رقت نفسه ، وغلبته عيناه ، فاستعبر وبكى حينا ، ثم افتتح خطبته بأن قال : يا أيها الناس ، سلام عليكم ، ثم سكت ووقف شبه الحصر ، ولم يك من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ، ثم اندفع تاليا قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤] ثم قال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه ، قال الحاكي : فضج الناس بالبكاء ، وجأروا بالدعاء ، ومضى على تمام خطبته ، ففزّع النفوس بوعظه ، وانبعث الإخلاص بتذكيره ، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر ، روّى الثرى ، وطرد المحل ، وسكن الأزل ، والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ، ومنه أن قال يوما ـ وقد سرح طرفه في ملأ الناس عند ما شخصوا إليه بأبصارهم ، فهتف بهم كالمنادي ـ : يا أيها الناس ، وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] إلى بعزيز ، فاشتد وجد الناس ، وانطلقت أعينهم بالبكاء ، ومضى في خطبته.

وقيل : إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء ، واشتدّ عزمه عليه ، فتسابق الناس للمصلى ، فقال للرسول ـ وكان من خواص الناس ـ : ليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له : ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا ، إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه ، لابس أخس الثياب ، مفترش التراب ، وقد رمّد به على رأسه وعلى لحيته ، وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول : هذه ناصيتي بيدك ، أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟ لن يفوتك شيء مني ، قال الحاكي : فتهلل وجه القاضي منذر عند ما سمع قوله ، وقال : يا غلام ، احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسّقيا ، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء ، وكان كما قال ، فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا.

وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه (٢) ، والمهابة في أقضيته ، وقوة الحكومة (٣) والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده ، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه.

__________________

(١) مخبتا : أخبت اطمأن إلى الله وتخشع إليه.

(٢) في المطمح : من ذوي الصلابة في أحكامه.

(٣) في ه : وقوة الخلوة.


وقال ابن الحسن النّباهي (١) ، وأصله في المطمح وغيره : ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء ، أن الناصر كان اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصّرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وفضة (٢) أنفق عليها مالا جسيما ، وقرمد سقفها به ، وجعل سقفها صفراء فاقعة ، إلى بيضاء ناصعة ، تستلب الأبصار بأشعة نورها ، وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته ، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة : هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين ، وإنك لأوحد في شأنك كله ، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ، ولا انتهى إلينا خبره ، فأبهجه قولهم وسره ، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس ، فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه ، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له : والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته ، وفضلك به على العالمين ، حتى ينزلك منازل الكافرين ، قال : فانفعل عبد الرحمن لقوله ، وقال له : انظر ما تقول ، وكيف أنزلني منزلتهم؟ قال : نعم ، أليس الله تعالى يقول (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف : ٣٣] الآية. فوجم الخليفة ، وأطرق مليّا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي : ثم أقبل على منذر وقال له : جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه ، وكثر في الناس أمثالك! فالذي قلت هو الحق ، وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى ، وأمر بنقض سقف القبيبة ، وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها ، انتهى ما حكاه ابن الحسن النّباهي.

ولنذكر هذه الحكاية وغيرها ، وإن خالف السياق ما سبق ، وهذا منقول من كلام الحجاري في «المسهب ، في أخبار المغرب» فإنه أتم فائدة ، إذ قال رحمه الله : دخل منذر بن سعيد يوما على الناصر باني الزهراء ، وهو مكب على الاشتغال بالبنيان ، فوعظه ، فأنشده عبد الرحمن الناصر (٣) : [الكامل]

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

ملك محاه حوادث الأزمان

__________________

(١) في ب : النّباهي (بضم النون مشددة).

(٢) في ب : قراميد مغشاة ذهبا وفضة.

(٣) المغرب : ج ١ ص ١٧٤. وفي ب : فأنشده عبد الرحمن الناصر.


إنّ البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدلّ على عظيم الشّان

قال : فما أدري أهذا شعره أم تمثل به؟ فإن كان شعره فقد بلغ به إلى غاية الإحسان وإن كان تمثل به فقد استحقه بالتمثل به في هذا المكان ، وكان منذر يكثر تعنيفه (١) على البنيان ، ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة ، واحتفل فيها احتفالا ظن أن أحدا من الملوك لم يصل إليه ، فقام خطيبا والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة ، فتلا قوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٣٣) [الزخرف : ٣٣] الآية وأتبعها بما يليق بذلك ، فوجم الملك ، وأظهر الكآبة ، ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه.

وحضر معه يوما في الزهراء ، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها. [الطويل]

سيشهد ما أبقيت أنّك لم تكن

مضيعا وقد مكّنت للدّين والدّنيا

فبالجامع المعمور للعلم والتّقى

وبالزّهرة الزّهراء للملك والعليا

فاهتز الناصر ، وابتهج ، وأطرق منذر بن سعيد ساعة ، ثم قام منشدا : [السريع]

يا باني الزّهراء مستغرقا

أوقاته فيها أما تمهل

لله ما أحسنها رونقا

لو لم تكن زهرتها تذبل

فقال الناصر : إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين ، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى ، فقال منذر : اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا ، انتهى.

ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال ، فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة ، وقلب ما كان فيها من منحة محنة ، وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول ، وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور ، فأساء التدبير ، ولم يميز بين الفتيل والنقير (٢) ، فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوّفه منه حتى ولاه عهده كما بينا نص العهد فيما سبق ، فأطبق الخاصة والعامة على بغضه ، وإضمار السوء له ، وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، فعند ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن

__________________

(١) في ب : تعنيته على البنيان.

(٢) الفتيل : الخيط من شق النواة أو البذرة. والنقير : الحفرة الصغيرة التي تكون في بذرة التمر ، وفي ب : القبيل والدبير.


عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه ، وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل.

قال ابن الرقيق : ومن أعجب ما رئي (١) أنه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة ، وهدمت الزهراء ، وخلع خليفة وهو المؤيد ، وولي خليفة وهو المهدي ، وزالت دولة بني عامر العظيمة ، وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة (٢) ، وأقيمت جيوش من العامة ، ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون ، وكان ذلك كله على يد عشرة رجال فحامين وجزارين وزبالين ، وهم جند المهدي هذا ، انتهى.

وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا ، وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة : [البسيط]

قد قام مهديّنا ولكن

بملّة الفسق والمجون

وشارك النّاس في حريم

لولاه ما زال بالمصون

من كان من قبل ذا أجمّا

فاليوم قد صار ذا قرون

ومن شعر المهدي هذا وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس : [الكامل]

أهديت شبه قوامك الميّاس

غصنا رطيبا ناعما من آس

وكأنّما يحكيك في حركاته

وكأنّما تحكيه في الأنفاس

وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله.

ولقد كان قيامه مشؤوما على الدين والدنيا ، فإنه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وما حي معالمها ، حتى تفرقت الدولة ، وانتثر السلك ، وكثر الرؤساء (٣) ، وتطاول العدو إليها ، وأخذها شيئا فشيئا حتى محا اسم الإسلام منها ، أعادها الله تعالى!.

وقد ألم الولي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر ، فقال ما نصه (٤) : ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني ، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة ، وكان فيها المجلس الزاهر والبهو الكامل والمنيف ، فبنى هو إلى جانب

__________________

(١) في ب : ومن أعجب ما روي.

(٢) في ج : علاجة ، والصحيح ما أثبتناه وهو أبو حفص ابن عم المنصور بن أبي عامر ووزيره.

(٣) في ج : وكسر الرؤساء.

(٤) تاريخ ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٤.


الزاهرة قصره العظيم ، وسماه «دار الروضة» وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر ، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ، ثم أخذ في بناء المستنزهات (١) ، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور ، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة ، ثم اختط مدينة الزهراء ، واتخذها لنزله ، وكرسيا لملكه ، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى ، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء ، متباعدة السياج ، ومسارح للطيور مظللة بالشباك ، واتخذ فيها دورا لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن ، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس ، انتهى.

وأما الزهراء فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر.

قال ابن خلدون في (٢) أثناء كلامه على المنصور ما صورته (٣) : وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة ، ونقل إليها جزءا من الأموال والأسلحة ، انتهى.

وقال غيره ، وأظنه صاحب المطمح : وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة ، وذلك عندما تكامل (٤) واستفحل أمره ، واتقد جمره (٥) ، وظهر استبداده ، وكثر حسّادة وأضداده (٦) وأنداده ، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان ، وخشي أن يقع في أشطان (٧) ، فتوثق لنفسه ، وكشف له ما ستر عنه في أمسه ، من الاعتزاز عليه ، ورفع الاستناد إليه ، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ، ويحله بأهله وذويه ، ويضم إليه رياسته ، ويتم به تدبيره وسياسته ، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه ، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة ، الموصوفة بالقصور الباهرة ، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم ، ونسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم ، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة ، وحشد الصناع والفعلة ، وجلب إليها الآلات الجليلة ، وسربلها بهاء يرد الأعين كليلة ، وتوسع في اختطاطها ، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها ، وبالغ في رفع أسوارها ، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها ، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة ، وصار بناؤها من الأنباء الغريبة ، وبنى معظمها في عامين.

__________________

(١) في ب ، ه : المنتزهات.

(٢) في : غير موجودة في ب.

(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٨.

(٤) تكامل و : غير موجودة في ب.

(٥) اتقد جمره : أي علا شأنه.

(٦) وأضداده : غير موجودة في ب.

(٧) أشطان : جمع شطن ، وهو الحبل الطويل.


وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته ، فتبؤأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته ، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء (١) ، وأطلق بساحتها الأرحاء ، ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه ، وقوّاده وحجابه ، فابتنوا بها كبار الدور ، وجليلات القصور ، واتخذوا خلالها المستغلّات المفيدة ، والمنارة المشيدة ، وقامت بها الأسواق ، وكثرت فيها الأرفاق ، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها ، والحلول بأطرافها ، للدنوّ من صاحب الدولة ، وتناهى الغلوّ في البناء حوله ، وحتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة ، واستقرت في بحبوحتها الإمارة ، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي ، وصير ذلك هو الرسم العافي (٢) ، ورتب فيها جلوس وزرائه ، ورؤوس أمرائه ، وندب إليها كل ذي خطته (٣) ، ونصب ببابها كرسيّ شرطته ، وأجلس عليها واليا على رسم كرسي الخليفة ، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة ؛ وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات ، ويقصدها أصحاب الولايات ، وينتابها طلاب الحوائج ، وحذّر أن يعوج عنها إلى دار (٤) الخليفة عائج (٥) ، فاقتضيت إليها اللّبانات والأوطار ، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار ، وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد ، وانتظم بلبّة أمانيه المراد ، وعطل قصر الخليفة من جميعه ، وصيّره بمعزل من سامعه ومطيعه ، وسدّ باب قصره عليه ، وجدّ في خبر ألا يصل إليه ، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر ، ويبسط فيه النهي والأمر ، ويشرف منه على كل داخل ، ويمنع ما يحذره من الدواخل ، ورتب عليه الحرّاس والبوّابين ، والسمّار والمنتابين ، يلازمون حراسة من فيه ليلا ونهارا ، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا ، وقد حجر على الخليفة كل تدبير ، ومنعه من تملك قبيل أو دبير ، وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء ، معجوز الغناء ، خفي الذكر ، عليل الفكر ، مسدود الباب ، محجوب الشخص عن الأحباب ، لا يراه خاص ولا عام ، ولا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام ، ولا يعهد منه (٦) إلا الاسم السلطاني في السّكة والدعوة ، وقد نسخه ولبّس أبهته ، وطمس بهجته ، وأغنى الناس عنه ، وأزال أطماعهم منه ، وصيرهم لا يعرفونه ، وأمرهم أنهم لا يذكرونه ، واشتد ملك محمد بن

__________________

(١) الأهراء : جمع هريّ : وهو البيت الذي تخزن فيه الحبوب.

(٢) العافي : الدارس.

(٣) في ب : كل ذي خطة بخطته.

(٤) في ب : باب الخليفة.

(٥) عائج : اسم فاعل من عاج على المكان : مال إليه وعرّج.

(٦) في ب ، ه : ولا يعهد فيه.


أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسّع مع الأيام في تشييد أبنيتها حتى كملت أحسن كمال ، وجاءته في نهاية الجمال ، تفاوت بناء (١) ، وسعة فناء ، واعتدال هواء ، رقّ أديمه ، وصقالة جوّ اعتلّ نسيمه ، ونضرة بستان ، وبهجة للنفوس فيها افتنان ، وفيها يقول صاعد اللغوي : [البسيط]

يا أيّها الملك المنصور من يمن

والمبتني نسبا غير الّذي انتسبا

بغزوة في قلوب الشّرك رائعة

بين المنايا تناغي السّمر والقضبا(٢)

أما ترى العين تجري فوق مرمرها

زهوا فتجري على أحفافها الطّربا(٣)

أجريتها فطما الزّاهي بجريتها

كما طموت فسدت العجم والعربا

تخال فيه جنود الماء رافلة

مستلئمات تريك الدّرع واليلبا(٤)

تحفّها من فنون الأيك زاهرة

قد أورقت فضّة إذ أورقت ذهبا

بديعة الملك ما ينفكّ ناظرها

يتلو على السّمع منها آية عجبا

لا يحسن الدّهر أن ينشي لها مثلا

ولو تعنّت فيها نفسه طلبا

ودخل عليه ابن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية ، والروض قد تفتحت أنواره ، وتوشحت أنجاده وأغواره ، وتصرّف فيها الدهر متواضعا ، ووقف بها السعد خاضعا ، فقال : [البسيط]

لا يوم كاليوم في أيّامك الأول

بالعامريّة ذات الماء والظّلل

هواؤها في جميع الدّهر معتدل

طيبا وإن حلّ فصل غير معتدل

ما إن يبالي الّذي يحتلّ ساحتها

بالسّعد أن لا تحلّ الشّمس بالحمل

وما زالت هذه المنية (٥) رائقة ، والسّعود بلبّتها متناسقة ، تراوحها الفتوح وتغاديها ، وتجلب إليها منكسرة أعاديها ، لا تزحف عنها راية إلا إلى فتح ، ولا يصدر عنها تدبير إلا إلى نجح ، إلى أن حان يومها العصيب ، وقيض لها من المكروه أوفر نصيب ، فتولت فقيدة ، وخلت من بهجتها كل عقيدة ، انتهى.

__________________

(١) في ب : نقاوة بناء.

(٢) السمر : الرماح. والقضب : جمع قضيب ، وهو السيف القاطع.

(٣) في ب : هوى فتجري على أضعافها الطربا.

(٤) اليلب : الترس.

(٥) الجذوة ص ٣٧٧.


وقد حكى الحميدي في «جذوة المقتبس» (١) هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة ، فقال ـ بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء ـ : إن أبا المطرف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية ، فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد فتحتا (٢) وواحدة لم تفتح ، فقال يصف ذلك (٣) : [البسيط]

لا يوم كاليوم في أيّامنا الأول

بالعامريّة ذات الماء والظّلل

هواؤها في جميع الدّهر معتدل

طيبا ، وإن حلّ فصل غير معتدل

ما إن يبالي الّذي يحتلّ ساحتها

بالسّعد ألّا تحلّ الشّمس في الحمل(٤)

كأنّما غرست في ساعة وبدا السّ

وسان من حينه فيها على عجل

أبدت ثلاثا من السّوسان مائلة

أعناقهنّ من الإعياء والكسل

فبعض نوّارها للبعض منفتح

والبعض منغلق عنهنّ في شغل

كأنّها راحة ضمّت أناملها

من بعد ما ملئت من جودك الخضل

وأختها بسطت منها أناملها

ترجو نداك كما عوّدتها فصل

وقد ذكر ابن سعيد أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي ، فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات : [المجتث]

فالعامريّة تزهى

على جميع المباني

وأنت فيها كسيف

قد حلّ في غمدان(٥)

فقام صاعد ، وكان مناقضا له ، فقال : أسعد الله تعالى الحاجب الأجل! ومكن سلطانه! هذا الشعر الذي قاله قد أعدّه وتروّى (٦) فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالا ، فقال له المنصور : قل ليظهر صدق دعواك ، فجعل يقول من غير فكرة كثيرة (٧) : [المجتث]

يا أيّها الحاجب المع

تلي على كيوان

__________________

(١) الجذوة ص ٣٧٧.

(٢) في ب ، ه : تفتحتا.

(٣) يصف ذلك : غير موجودة في ب.

(٤) الحمل : منزلة للشمس تحلها أول الربيع.

(٥) سيف : أراد سيف بن ذي يزن. وغمدان : قصر في اليمن.

(٦) في ب : وروّى.

(٧) في ب ، ه : فكرة طويلة.


ومن به قد تناهى

فخار كلّ يمان

العامريّة أضحت

كجنّة الرّضوان

فريدة لفريد

ما بين أهل الزّمان

ثم مر في الشعر إلى أن قال في وصفها : [المجتث]

انظر إلى النّهر فيها

ينساب كالثّعبان

والطّير يخطب شكرا

على ذرا الأغصان

والقضب تلتفّ سكرا

بميّس القضبان

والرّوض يفترّ زهوا

عن مبسم الأقحوان

والنّرجس الغضّ يرنو

بوجنة النّعمان

وراحة الرّيح تمتا

ر نفحة الرّيحان(١)

فدم مدى الدّهر فيها

في غبطة وأمان

فاستحسن المنصور ارتجاله ، وقال لابن العريف : مالك فائدة في مناقضة من هذا ارتجاله ، فكيف تكون رويته؟ فقال ابن العريف : إنما أنطقه وقرّب عليه المأخذ إحسانك ، فقال له صاعد : فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعدت عليك المأخذ ، فضحك المنصور وقال : غير هذه المنازعة أليق بأدبكما.

قلت : وقد ذكر مؤرخو الأندلس منى كثيرة بها : منها منية الناعورة السابقة ، ومنية العامرية هذه ، ومنية السرور ، ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة.

قال أبو الحسن بن سعيد : أخبرني أبي عن أبيه قال : خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوّار اللوز أبو بكر بن بقيّ الشاعر المشهور ، فجلسنا تحت سطر لوز قد نوّر ، فقال ابن بقيّ : [البسيط]

سطر من اللّوز في البستان قابلني

ما زاد شيء على شيء ولا نقصا

كأنّما كلّ غصن كمّ جارية

إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا

ثم قال : [الطويل]

عجبت لمن أبقى على خمر دنّه

غداة رأى لوز الحديقة نوّرا

__________________

(١) يمتار : يجمع لأهله الميرة ، أي الطعام والمؤونة.


وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به ، وأنه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحلّ عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش ، وصاحب الأبنية لما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره ، قال : وكان له دخالة كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم ، حاشا الصيد والطير والحيتان ، وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء ، قال : وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة ، انتهى.

ومن المطمح : أن المنصور لما فرغ من بناء الزاهرة غزا غزوة وأبعد فيها الإيغال وغال فيها من عظماء الروم من غال (١) ، وحل من أرضهم ما لم يطرق ، وراع منهم ما لم يرع قط ولم يفرق (٢) ، وصدر صدرا سما به على كل حسناء عقيلة ، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة ، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد ، وشهد له فيها يوم مثله لم يشهد ، وكان ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده (٣) ، وحداه منتجعه ورائده ، وابن شهيد هذا أحد حجاب الناصر ، وله على ابن أبي عامر أياد محكمة الأواصر ، وهو الذي نهض به أول انبعاثه ، وشفى أمره زمن التياثة ، وخاصم المصحفي عنه بلسان من الحماية ألدّ ، وتوخاه بإحسان قلده من الرعاية ما قلد ، وأسمى رتبته ، وحلّى بإعظام جاهه لبّته (٤) ، وكان كثيرا ما يتحفه ، ويصله ويلطفه ، فلما صدر المنصور من غزوته هذه وقفل ، نسي متاحفته وغفل ، فكتب إليه ابن شهيد : [الخفيف]

أنا شيخ والشّيخ يهوى الصّبايا

يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا

ورسول الإله أسهم في الفي

ء لمن لم يخبّ فيه المطايا

فاجعلنّي فديت أشكر معرو

فك وابعث بها عذاب الثّنايا

فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم يكنفها ثلاث جوار ، كأنهن نجوم سوار ، وكتب إليه : [الخفيف]

قد بعثنا بها كشمس النّهار

في ثلاث من المها أبكار

فاتّئد واجتهد فإنّك شيخ

سلخ اللّيل عن بياض النّهار

__________________

(١) غال (يغول غولا) الرجل : أخذه من غير أن يعلم فقتله.

(٢) يفرق : يخاف خوفا شديدا.

(٣) النقرس : مرض مؤلم يصيب مفاصل الرجل لا سيما إبهامها.

(٤) في ب : بإعظام جيده ولبته.


صانك الله عن كلالك فيها

فمن العار كلّة المسمار

فكتب إليه ابن شهيد : [الخفيف]

قد فضضنا ختام ذاك السّوار

واصطبغنا من النّجيع الجاري

ونعمنا في ظلّ أنعم ليل

ولهونا بالبدر ثمّ الدّراري

وقضى الشّيخ ما قضى بحسام

ذي مضاء عضب الظّبا بتّار

فاصطنعه فليس يجزيك كفرا

واتّخذه سيفا على الكفّار

وقد قدمنا هذه الحكاية في أخبار المنصور من الباب الثالث ، ولكنا أعدناها هنا بلفظ المطمح لما فيه من العذوبة والفائدة الزائدة.

وممن كان في أيام المنصور من الوزراء المشهورين الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني ، قال في المطمح (١) : علم من الأعلام فريد (٢) الزمان ، وعين من أعيان البيان ، باهر الفصاحة ، طاهر الجناب والساحة ، تولى التحبير أيام المنصور والإنشاء ، وأشعر بدولته الأفراح والانتشاء ، ولبس العزة مدتها (٣) ضافية البرود ، وورد بها النعمة صافية الورود ، وامتطى من جياد التوجيه ، وأعنق من لاحق والوجيه (٤) ، وتمادى طلقة ، ولا أحد يلحقه ، إلى أيام المظفر فمشى على سننه ، وتمادى السعد يترنم على فننه (٥) ، إلى أن قتل المظفر صهره عيسى بن القطاع ، صاحب دولته وأميرها المطاع ، وكان أبو مروان قديم الاصطناع له والانقطاع ، فاتهم معه ، وكاد أن يذوق حمامه ومصرعه (٦) ، إلا أن إحسانه شفع ، وبيانه نفع ودفع ، فحطّ عن تلك الرتب ، وحمل إلى طرطوشة على القتب ، فبقي هنالك معتقلا في برج من أبراجها نائي المنتهى ، كأنما يناجي السها ، قد بعد ساكنه عن الأنيس ، وقعد من النجم بمنزلة الجليس ، تمر الطيور دونه ولا تجوزه ، ويرى منه الثرى ولا يكاد يحوزه ، فبقي فيه دهرا لا يرتقي إليه راق ، ولا يرجى لبثّه راق ، إلى أن أخرج منه إلى ثراه ، واستراح مما عراه ، فمن بديع نظمه قوله يصف المعتقل (٧) ، الذي فيه اعتقل : [الكامل]

يأوي إليه كلّ أعور ناعق

وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر

__________________

(١) المطمح ص ١٣.

(٢) في ب ، ه : علم من أعلام الزمان.

(٣) في ب : ولبس العزة ضافية البرود.

(٤) لاحق ، والوجيه : فرسان من جياد الخيل.

(٥) الفنن : الغصن.

(٦) في المطمح : أن يذوق الحمام ومصرعه.

(٧) في ب : يصف المعقل.


ويكاد من يرقى إليه مرّة

من عمره يشكو انقطاع الأبهر(١)

ودخل ليلة على المنصور والمنصور قد اتكأ وارتفق ، وتحلى بمجلسه ذلك الأفق ، والدّنيا بمجلسه ذلك مسوقة ، وأحاديث الأماني به منسوقة ، فأمره بالنزول عنده (٢) فنزل في جملة الأصحاب ، والقمر يظهر ويحتجب في السحاب ، والأفق يبدو به أغر ثم يعود مبهما ، والليل يتراءى منه أشقر ثم يعود أدهما ، وأبو مروان قد انتشى ، وجال في ميدان الأنس ومشى ، وبرد خاطره قد دبجه السرور ووشى ، فأقلقه ذلك المغيب والالتياح ، وأنطقه ذلك السرور والارتياح ، فقال : [الوافر]

أرى بدر السّماء يلوح حينا

فيبدو ثمّ يلتحف السّحابا

وذلك أنّه لمّا تبدّى

وأبصر وجهك استحيا فغابا

مقال لو نمى عندي إليه

لراجعني بذا حقّا جوابا

وله في مدة اعتقاله ، وتردّده في قيله وقاله : [الكامل]

شحط المزار فلا مزار ، ونافرت

عيني الهجوع فلا خيال يعتري

أزري بصبري وهو مشدود القوى

وألان عودي وهو صلب المكسر(٣)

وطوى سروري كلّه وتلذّذي

بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر

ها إنّما ألقى الحبيب توهّما

بضمير تذكاري وعين تذكّري

عجبا لقلبي يوم راعتني النّوى

ودنا وداع كيف لم يتفطّر(٤)

رجع إلى المنصور : وكان المنصور إذا أراد أمرا مهما شاور أرباب الدولة والأكابر (٥) من خدام الدولة الأموية ، فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأموية عليه ، فيخالفهم إلى المنهج الذي ابتدعه ، فيقضون في أنفسهم بالهلاك في الطريق الذي سلكه ، والمهيع الذي اخترعه (٦) ، فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده ، فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها.

وقيل له مرة : إن فلانا مشؤوم فلا تستخدمه ، فقال : أف لسعد لا يغطي على شؤمه ، فاستخدمه ، ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء.

__________________

(١) الأبهر : وريد العنق.

(٢) عنده : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ، ج : مشدود العرى.

(٤) في ه ، ب : ودنا وداعي كيف لم يتفطر.

وتفطر : تصدع.

(٥) في ب : أرباب الدولة الأكابر.

(٦) المهيع : الطريق البيّن الواسع.


وحكي عنه أنه كان في قصره بالزاهرة ، فتأمل محاسنه ، ونظر إلى مياهه المطردة ، وأنصت لأطياره المغردة ، وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال ، والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال ، فانحدرت دموعه ، وتجهم وقال : ويها (١) لك يا زاهرة ، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب؟ فقال له بعض خاصته : ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط؟ وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به؟ فقال : والله لترون ما قلت ، وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت ، وبرسومها قد غيرت ، وبمبانيها قد هدمت ونحّيت ، وبخزائنها قد نهبت ، وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت ، قال الحاكي : فلم يكن إلا أن توفي المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته ، فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول ، فقام عليه المهدي والعامة ، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامة ، وانقرضت دولة آل عامر ، ولم يبق منهم آمر : [الطويل]

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف اللّيالي والجدود العواثر

وخربت الزاهرة ، ومضت كأمس الدابر (٢) ، وخلت منها الدسوت الملوكية زاهرة والدساكر (٣) ، واستولى النهب على ما فيها من العدة والذخائر ، والسلاح ، وتلاشى أمرها فلم يرج لفسادها صلاح ، وصارت قاعا صفصفا (٤) ، وأبدلت بأيام الترح عن أيام الفرح والصفا.

ويروى أن بعض أولياء ذلك الزمان مر بها ، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة ، ومبانيها العالية الرائقة ، فقال : يا دار فيك من كل دار ، فجعل الله منك في كل دار.

قال الحاكي : فلم تكن بعد دعوة ذلك الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نهبت ذخائرها ، وعمّ بالخراب سائرها ، فلم تبق دار في الأندلس إلا ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة ، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذي همته مع ربه جليلة.

ولقد حكي أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية ، فسبحان من لا يزول سلطانه ولا ينقضي ملكه! لا إله إلا هو.

__________________

(١) في ج : ويل لك يا زاهرة.

(٢) في ب ، ه : وذهبت كأمس الدابر.

(٣) في ب : المنابر.

(٤) وصارت قاعا صفصفا : أخذها من قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) والقاع : الأرض السهلة المنخفضة من المرتفعات المحيطة بها. والصفصف : المستوي الذي لا نبات فيه.


وتذكرت هنا ما رآه في المنام بعض أهل المغرب بالليلة التي انقرض فيها ملك الموحّدين أن شخصا ينشده : [البسيط]

ملك بني مؤمن تولّى

وكان فوق السّماك سمكه

فاعتبروا وانظروا وقولوا :

سبحان من لا يبيد ملكه

لا إله إلا هو.

وكان المهدي القائم على العامرين ماجنا فاتكا ، وقال ـ وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس ـ : [الكامل]

أهديت شبه قوامك الميّاس

غصنا رطيبا ناعما من آس

وكأنّما يحكيك في حركاته

وكأنّما تحكيه في الأنفاس

وكان المنصور بن أبي عامر حين تغلب على ملك الأمويين غير مكترث بمثل المهدي المذكور ، فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه ، وأخر كل ما قدمه ، ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم ، ولا راد للقضاء المبرم الجزم.

[مجزوء الكامل]

والله يحكم ما يشا

ء فلا تكن متعرّضا

وقد قدمنا شيئا من أخبار المنصور ، ولا بأس أن نلمّ هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض.

قال بعض المحققين من المؤرخين : حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة ، وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنسا ، وعلى جواريه مثل ذلك ، فلا يعرف منهن ، ويأمر من ينحّي الناس من طريقه ، حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه ، ثم يعود ، غير أنه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرض له ، كما ألمعنا به فيما سبق ، وكان المنصور إذا سافر وكّل بالمؤيد من يفعل معه ذلك ، فكان هذا من فعله سببا لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس ، وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أمية خوفا أن يثوروا به ، ويظهر أنه يفعل ذلك شفقة على المؤيد ، حتى أفنى من يصلح منهم للولاية ، ثم فرق باقيهم في البلاد ، وأدخلهم زوايا الخمول عارين من الطّراف والتّلاد ، وربما سكن بعضهم البادية ، وترك مجلس الأبهة وناديه ، حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة : [الكامل]


أبني أميّة أين أقمار الدّجى

منكم؟ وأين نجومها والكوكب؟

غابت أسود منكم عن غابها

فلذاك حاز الملك هذا الثّعلب

مع أن للمنصور مفاخر ، بذّ بها (١) الأوائل والأواخر ، من المثابرة على جهاد العدو ، وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدوّ ، وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها ، ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول :

قال الفتح في المطمح (٢) : الحاجب جعفر المصحفي ـ تجرّد للعليا ، وتمرد في طلب الدنيا ، حتى بلغ المنى ، وتسوّغ ذلك الجنى ، فسما دون سابقة ، وارتمى إلى رتبة لم تكن لبنيته بمطابقة ، والتاح (٣) في أفياء الخلافة (٤) ، وارتاح إليها بعطفه (٥) كنشوان السّلافة (٦) ، واستوزره المستنصر ، وعنه كان يسمع وبه كان يبصر ، فأدرك بذلك ما أدرك ، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك ، واقتنى وادخر ، وأزرى بمن سواه وسخر ، واستعطفه المنصور محمد (٧) بن أبي عامر ونجمه بعد غائر لم يلح ، وسره مكتوم لم يبح ، فما عطف ، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف ، فأقام في تدبير الأندلس ما أقام والأندلس متغيرة ، والأذهان في تكيف سعده متحيرة ، فناهيك من ذكر خلد ، ومن فخر تقلد ، ومن صعب راض ، وجناح فتنة هاض ، ولم يزل بنجاد تلك الخلافة معتقلا ، وفي مطالعها منتقلا ، إلى أن توفي الحكم ، فانتقض عقده المحكم ، وانبرت إليه النوائب ، وتسدّدت إليه من الخطوب سهام صوائب ، واتّصل إلى المنصور ذلك الأمر ، واختص به كما مال بيزيد أخوه الغمر ، وأناف في تلك الخلافة كما شبّ قبل اليوم عن طوقه عمرو ، وانتدب للمصحفي بصدر قد (٨) كان أوغره ، وساءه وصغّره ، فاقتصّ من تلك الإساءة ، وأغصّ حلقه بأي مساءة ، فأخمله ونكبه ، وأرجله عما كان الدهر أركبه ، وألهب جوارحه (٩) حزنا ، ونهب له مدّخرا ومختزنا ، ودمّر عليه ما كان حاط ، وأحاط به من مكروهه ما أحاط ، وغبر سنين في مهوى تلك النكبة ، وجوى تلك الكربة ، ينقله المنصور معه في غزواته ويعتقله بين ضيق المطبق ولهواته ، إلى أن تكوّرت شمسه ، وفاظت بين أثناء المحن نفسه (١٠) ، ومن بديع ما حفظ له في نكبته ، قوله يستريح من كربته : [الطويل]

__________________

(١) بذّ : تفوق ، غلب ، سبق.

(٢) المطمح ص ٤.

(٣) في ب : فالتاج ..

(٤) في ه : في أفق الخلافة.

(٥) في ه : إليه معطفه.

(٦) السلافة : أفضل الخمر.

(٧) محمد : غير موجودة في ب.

(٨) في ب : بصدر كان.

(٩) في ه : جوانحه.

(١٠) فاضت نفسه : مات.


صبرت على الأيّام لمّا تولّت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت

فوا عجبا للقلب كيف اعترافه

وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت

وما النّفس إلّا حيث يجعلها الفتى

فإن طمعت تاقت وإلّا تسلّت

وكانت على الأيّام نفسي عزيزة

فلمّا رأت صبري على الذّلّ ذلّت

فقلت لها يا نفس موتي كريمة

فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت

وكان له أدب بارع ، وخاطر إلى نظم القريض يسارع (١) ، فمن محاسن نظامه (٢) وإنشاده ، التي بعثها إيناس دهره بإسعاده ، قوله : [الطويل]

لعينيك في قلبي عليّ عيون

وبين ضلوعي للشّجون فنون

لئن كان جسمي مخلقا في يد الهوى

فحبّك عندي في الفؤاد مصون

وله وقد أصبح عاكفا على حميّاه ، هاتفا بإجابة دنياه ، مرتشفا ثغر الأنس متنسما ريّاه ، والملك يغازله بطرف كليل ، والسعد قد عقد عليه منه إكليل ، يصف لون مدامه ، وما تعرّف له منها دون ندامه : [الكامل]

صفراء تطرق في الزّجاج فإن سرت

في الجسم دبّت مثل صلّ لادغ(٣)

خفيت على شرّابها فكأنّما

يجدون ريّا من إناء فارغ

ومن شعره الذي قاله في السّفرجل مشبها ، وغدا به لنائم البديع منبها ، قوله يصف سفرجلة ، ويقال إنه ارتجله : [الطويل]

ومصفرّة تختال في ثوب نرجس

وتعبق عن مسك ذكيّ التّنفّس

لها ريح محبوب وقسوة قلبه

ولون محبّ حلّة السّقم مكتسي

فصفرتها من صفرتي مستعارة

وأنفاسها في الطّيب أنفاس مؤنسي

وكان لها ثوب من الزّغب أغبر

على جسم مصفرّ من التّبر أملس

فلمّا استتمّت في القضيب شبابها

وحاكت لها الأوراق أثواب سندس

مددت يدي باللّطف أبغي اجتناءها

لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي

__________________

(١) في ه : مسارع.

(٢) نظامه و : غير موجودة في ب.

(٣) الصّلّ : الحية الخبيثة.


فبزّت يدي غصبا لها ثوب جسمها

وأعريتها باللّطف من كلّ ملبس(١)

ولمّا تعرّت في يدي من برودها

ولم تبق إلّا في غلالة نرجس(٢)

ذكرت لها من لا أبوح بذكره

فأذبلها في الكفّ حرّ التّنفّس

وله وقد أعاده المنصور إلى المطبق ، والشجون تسرع إليه وتسبق ، معزيا لنفسه ، ومجتزيا بإسعاد أمسه : [المتقارب]

أجازي الزّمان على حاله

مجازاة نفسي لأنفاسها

إذا نفس صاعد شفّها

توارت به دون جلّاسها

وإن عكفت نكبة للزّمان

عكفت بنفسي على راسها

ومما حفظ له في استعطافه ، واستنزاله للمنصور واستلطافه ، قوله : [المتقارب]

عفا الله عنك ، ألا رحمة

تجود بعفوك أن أبعدا

لئن جلّ ذنب ولم أعتمده

فأنت أجلّ وأعلى يدا

ألم تر عبدا عدا طوره

ومولى عفا ورشيدا هدى

ومفسد أمر تلافيته

فعاد فأصلح ما أفسدا

أقلني أقالك من لم يزل

يقيك ويصرف عنك الرّدى

عود وانعطاف إلى أخبار المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى! وجازاه عن جهاده أفضل الجزاء بمنه وكرمه وفضله وطوله! فنقول :

وكان له في كل غزوة من غزواته المنيفة على الخمسين مفخر من المفاخر الإسلامية ، فمنها أن بعض الأجناد نسي رايته مركوزة على جبل بقرب إحدى مدائن الروم ، فأقامت عدة أيام لا يعرف الروم ما وراءها بعد رحيل العساكر ، وهذا بلا خفاء مما يفتخر به أهل التوحيد على أهل التثليث (٣) ، لأنهم لما أشرب قلوبهم خوف شرذمة المنصور وحزبه ، وعلم كلّ من ملوكهم أنه لا طاقة له بحربه لجؤوا إلى الفرار والتحصن بالمعاقل والقلاع ، ولم يحصل منهم غير الإشراف من بعد والاطلاع.

ومن مفاخر المنصور في بعض غزواته أنه مر بين جبلين عظيمين في طريق عرض بريد

__________________

(١) بزت : سلبت.

(٢) الغلالة : لباس يلبس تحت الثوب أو تحت الدرع.

(٣) أهل التثليث : النصارى. وفي ب : أهل : غير موجودة.


بوسط بلاد الإفرنج ، فلما جاوز ذلك المحل ـ وهو آخذ في التحريق والتخريب والغارات والسبي يمينا وشمالا ـ لم يجسر أحد من الإفرنج على لقائه ، حتى أقفرت البلاد مسافة أيام ، ثم عاد فوجد الإفرنج قد استجاشوا من وراءهم ، وضبطوا ذلك المدخل الضيق الذي بين جبلين ، وكان الوقت شتاء ، فلما رأى ما فعلوه رجع واختار منزلا من بلادهم أناخ به فيمن معه من العساكر ، وتقدم ببناء الدور والمنازل ، وبجمع آلات الحرث ونحوها ، وبث سراياه فسبت وغنمت ، فاسترق الصّغار ، وضرب أعناق الكبار ، وألقى جثثهم حتى سدّ بها المدخل الذي من جهته ، وصارت سراياه تخرج فلا تجد إلا بلدا خرابا ، فلما طال البلاء على العدو أرسلوا إليه في طلب الصلح ، وأن يخرج بغير أسرى ولا غنائم ، فامتنع من ذلك ، فلم تزل رسلهم تتردد إليه حتى سألوه أن يخرج بغنائمه وأسراه ، فأجابهم : إن أصحابي أبوا أن يخرجوا ، وقالوا : إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى ، فنقعد ههنا إلى وقت الغزاة ، فإذا غزونا عدنا ، فما زال الإفرنج يسألونه إلى أن قرر عليهم أن يحملوا على دوابهم ما معه من الغنائم والسبي ، وأن يمدّوه بالميرة حتى يصل إلى بلاده ، وأن ينحّوا جيف القتلى عن طريقه (١) بأنفسهم ، ففعلوا ذلك كله ، وانصرف.

ولعمري إن هذا لعز ما وراءه مطمح ، ونصر لا يكاد الزمان يجود بمثله ويسمح ، خصوصا إزالتهم جيف قتلاهم من الطريق ، وغصصهم (٢) في شرب ذلك بالريق.

ومن مآثره التي هي في جبين عصره غرة ، ولعين دهره قرّة ، أنه لما ختن أولاده ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي ، ومن أولاد الضعفاء عدد لا يحصر (٣) ، فبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار ، خمسمائة ألف دينار ، وهذه مكرمة مخلّدة ، ومنه مقلدة ، فالله سبحانه يجازيه عن ذلك أفضل الجزاء! ويجعل للمسلمين في فقد مثله أحسن العزاء!.

ومن مناقبه التي لم تتفق لغيره من الملوك في غالب الظنّ ، أن أكثر جنده من سبيه على ما حققه بعض المؤرخين ، وذلك غاية المنح من الله والمنّ.

ومن أخباره الدالة على إقبال أمره وخيبة عدوّه وإدباره ، أنه ما عاد قط من غزوة إلا استعدّ لأخرى ، ولم تهزم له قط راية مع كثرة غزواته شاتية وصائفة (٤) وكفاه ذلك فخرا.

__________________

(١) ينحون : يبعدون.

(٢) في ه : وغصّهم.

(٣) في ب ، ه : لا ينحصر.

(٤) الغزوة الشاتية أي في الشتاء. والصائفة : أي في الصيف.


ومنها أنه لقيته ـ وقد عاد من بعض غزواته ـ امرأة نغصّت عليه بلوغ مناه وشهواته ، وقالت له : يا منصور ، استمع ندائي ، فأنت من طيب عيشك وأنا في بكائي ، فسألها عن مصيبتها التي عمّتها وغمّتها ، فذكرت له أن لها ابنا أسيرا في بلاد سمّتها ، وأنها لا يهنأ عيشها لفقده ، ولا يخبو ضرام قلقلها من وقده ، وأنشد لسان حالها : [مجزوء الكامل]

يا ذلك الملك العليّ

ويح الشّجيّ من الخليّ

(١) فرحّب المنصور بها ، وأظهر الرقة بسببها ، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها وجاس أقطارها وتخللها ، حتى دوّخها إذ أناخ عليها بكلكله (٢) وذللها ، وأعراها من حماتها وببنود الإسلام المنصورة ظلّلها ، وخلّص جميع من فيها من الأسرى ، وجلبت عوامله إلى قلوب الكفرة كسرا ، وانقلبت عيون الأعداء حسرى ، وتلا لسان حال المرأة : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥)) [الشرح : ٥ ، ٦].

فهكذا تكون الهمة السلطانية ، والنخوة الإيمانية ، فالله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان ، ويرقى درجاتها ويعاملها بمحض الفضل والامتنان.

وقد تذكرت هنا والحديث شجون (٣) ، وبذكر (٤) المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون ، كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث الأندلس أبي عمر بن عبد البر النّميري ، إلى المنصور بن أبي عامر ، وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره ، يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره ، وهو : عمّر الله ببقاء سيدي (٥) ذي السابقتين بهجة أوطانه ، وملّكه عنان زمانه ، ومدّ عليه ظلال أمانه ، أنى أبقى الله الملك الكريم ، والسيد الزعيم ، لما أضاءت لي أهلّة مفاخركم في سماء الفخار ، وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار ، وأبصرت شمائلك الزهر تهدى إليك من الهمم محامدها (٦) ، ومحاسنك الغر توقظ لك من الآمال رواقدها (٧) ، أيقنت أنه بحقّ انقادت لك

__________________

(١) الشطر الثاني من البيت أخذ من بيت لأبي تمام وتمامه :

أيا ويح الشجي من الخلي

وبالي الربع من إحدى بلي

وفي ب : أيا ويح ؛ فيكون من بحر الوافر.

(٢) الكلكل : الصدر ، وأناخ عليها بكلكله : أي نال منها كثيرا.

(٣) الحديث شجون : أي أنواع وضروب ، يتصل بعضها ببعض. وشجون جمع شجن وهو الشعبة من كل شيء.

(٤) في ب : وفي ذكر.

(٥) في ب : ببقاء مولاي.

(٦) في ب : الهمم كامنها.

(٧) في ب : من الآمال نائمها.


القلوب بأعنّتها ، وتهادت إليك النفوس بأزمّتها ، فآليت أن لا ألم إلا بحماك ، ولا أحطّ رحلا إلا بفناك ، علما بأنك نثرة الفخر ، وغرة الدهر ، فتيمّمت ساريا في ساطع نورك ، متيمنا بيمن طائرك ، محققا للربح ، موقنا بالفلج والنّجح ، حتى حللت في دوحة المجد ، وأنخت بدولة السعد ، واستشعرت لبسة الشكر والحمد ، وجعلت أنظم من جواهر الكلام ، ما يربي عليّ جواهر النّظام ، وأنشر من عطر الثناء ، ما يزري بالروضة الغنّاء ، وحاشا للفهم أن يعطل ليلي من أقمارك ، أو يخلي أفقي من أنوارك ، فأراني منخرطا في غير سلكه ، ومنحطا إلى غير ملكه ، لا جرم أنه من استضاء بالهلال ، غني عن الذّبال (١) ، ومن استنار بالصباح ، ألقى سنا المصباح ، وتالله ما هزت آمالي ذوائبها إلى سواك ، ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من مداك (٢) ، ليكون فيّ أثر الوسميّ في الماحل (٣) ، وعليّ جمال الحلي على العاطل ، لسيادتك السنية ، ورياستك الأولية ، التي يقصر عنها لسان إفصاحي ، ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي ، فالقراطيس عند بثّ مناقبك تفنى ، والأقلام في رسم مآثرك تحفى ، وما أمل المجدب ، في حياة المخصب ، ولا جذل المذنب ، برضا المعتب ، كأملي في التعزز بحوزتك ، والتجمّل بجملتك ، والترفع بخدمتك ، فالسعيد من نشأ في دولتك ، وظهر في أمتك ، واستضاء بعزتك ، لقد فاز بالسبق من لحظته عين رعايتك ، وكنفته حوزة حمايتك ، فأنت الذي أمنت الذي بعدله نوائب الأيام ، وقويت بسلطانه دعائم الإسلام ، تختال بك المعاني (٤) اختيال العروس ، وتخضع لجلالك أعزة النفوس ، سابقة أشهر من الفجر ، وفطنة أنور من البدر ، وهمة أنفذ من الدهر : [الطويل]

لقد فاز من أضحى بكم متمسّكا

يشدّ على تأميل عزّكم يدا

سلكت سبيل الفخر خلقا مركّبا

وغيرك لا يأتيه إلّا تجلّدا

فأنتم لواء الدّين لا زال قيّما

بآرائكم في ظلمة الخطب يهتدى

ليهنكم مجد تليد بنيتم

أغار سناه في البلاد وأنجدا(٥)

ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه ، فيثمر جناه ، ويستمطر إبراقه ، فيمطر حياه ، لا سيما وإني نشأة حفّها إحسان أوائلك الطاهرين ، وألفها إنعام أكابرك الأخيار الطيبين ، وجدير بقبولك

__________________

(١) الذبال : جمع ذبالة ، وهي الفتيلة والسراج.

(٢) في ب : عداك.

(٣) الوسمي : المطر في أول الربيع.

(٤) في ب : تختال بك المعالي.

(٥) أخذ عجز هذا البيت من قول الأعمش :

نبيّ يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا


وإقبالك ، وبرك وإجمالك ، من أصله ثابت في أهل محبتكم ، وفرعه نابت في خاصتكم (١) : [الطويل]

وما رغبتي في عسجد أستفيده

ولكنّها في مفخر أستجدّه

فكلّ نوال كان أو هو كائن

فلحظة طرف منك عندي ندّه

فكن في اصطناعي محسنا كمجرّب

يبن لك تقريب الجواد وشدّه

إذا كنت في شكّ من السّيف فابله

فإمّا تنافيه وإمّا تعدّه

وما الصّارم الهنديّ إلّا كغيره

إذا لم يفارقه النّجاد وغمده

ولا بأس (٢) أن يتطوّل مولاي بغرس الصنيعة في أزكى الترب ، ووضع الهناء موضع النّقب(٣) ، والله سبحانه يبقي مولاي آخذا بزمام الفخر ، ناهضا بأعباء البر ، مالكا لأعنّة الدهر ، وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله ، وأفضله وأكمله ، بمنه لا رب سواه ، انتهى.

رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر ، رحمه الله!.

وكنا قد ذكرنا أنه قبض على الوزير الحاجب المصحفي مع أنه كان أحد أتباعه.

قال صاحب كتاب «روضة الأزهار ، وبهجة النفوس ، ونزهة الأبصار» : ولما أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي في المطبق بالزهراء (٤) ودّع أهله وودّعوه وداع الفرقة ، وقال لهم : لستم ترونني بعدها حيا ، فقد أتى وقت إجابة الدعوة ، وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة ، وذلك أني أشركت (٥) في سجن رجل في عهد الناصر ، وما أطلقته إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي : أطلق فلانا فقد أجيبت فيك دعوته ، فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته عليّ ، فقال : دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون ، فقلت : إنها قد أجيبت ، فإني كنت ممن شارك في أمره ، وندمت حين لا ينفع الندم ، فيروى أنه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات : [البسيط]

هبني أسأت فأين العفو والكرم

إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم

__________________

(١) الأبيات لأبي الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها كافورا الإخشيدي مطلعها :

أودّ من الأيام ما لا توده

وأشكو إليها بيننا وهي جنده

(٢) في ب ، ج : ولا غرو.

(٣) الهناء : القطران. والنقب : جمع نقبة ، وهي الجرب.

(٤) في ب ، ه : بالمطبق في الزهراء.

(٥) في ه : شاركت.


يا خير من مدّت الأيدي إليه أما

ترثي لشيخ نعاه عندك القلم

بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر

إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا

فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري : [البسيط]

يا جاهلا بعد ما زلّت بك القدم

تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم

ندمت إذ لم تعد منّي بطائلة

وقلّما ينفع الإذعان والنّدم

نفسي إذا جمحت ليست براجعة

ولو تشفّع فيك العرب والعجم

فبقي في المطبق حتى مات ، نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم ، انتهى.

وقد ذكر بعضهم فيه هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل ، فإن هذه الأبيات للمنصور ، وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري ، وقد يقال : لا منافاة بينهما ، فإن المنصور أجاب بالأبيات ، وهل هو قائلها أم لا؟ الأمر أعم ، فبين هنا ، والله أعلم.

وقال بعض مؤرخي المغرب : إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنه يصدر من مثله ، حتى إنه كتب إلى المنصور بن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلما لأولاده ، فقال المنصور بدهائه وحذفه : إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس ، لأنهم طالما رأوني بدهليزه خادما ومسلما ، فكيف يرونه الآن في دهليزي معلما؟! وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته ، حتى إنه حكى بعضهم أنه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدو الكافر ، وهو ينفخ فحما في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه ، أو كما قال ، فسبحان مديل (١) الدول ، لا إله إلا هو ، فإن هذا المصحفي بلغ من الجلالة والعظم (٢) والتحكم في الدولة المدة المديدة أمرا لا مزيد عليه ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ولقد ذكر بعض علماء (٣) المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ، ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربّصون به الدوائر ، فغلب سعده الذي هو المثل السائر ، وربما همس بعض الشعراء بهجوه

__________________

(١) مديل الدول : يقال : دالت له دولة ، أي صارت إليه. ومديل الدول : الذي ينقلها من إنسان إلى آخر ، وهو مالك الملك سبحانه.

(٢) في ب : والعظمة.

(٣) في ب ، ه : بعض العلماء المغاربة.


وهجو الدولة جميعا إذ قال (١) : [السريع]

اقترب الوعد وحان الهلاك

وكلّ ما تحذره قد أتاك

خليفة يلعب في مكتب

وأمّه حبلى وقاض يناك

يعني بالخليفة هشاما المؤيد لكونه كان صغيرا ، وأمّه صبح البشكنشية (٢) كان الأعداء يتهمون بها المنصور ، وذلك بهتان وزور ، وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور ، والله عالم بسرائر الأمور ، ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلّا ولا ذمة ، ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة. [الطويل]

وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلّب(٣)

جدير بأن لا يدرك ما يؤمّل ويتطلب ، لأنه يعترض على الله سبحانه في أحكامه ، نعوذ بالله من شر أنفسنا ومن شر كل ذي شر ، بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه.

وقد قدمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولا يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد ، ويريه النصيحة ، وأنه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه ، والمصحفي ينفرها ببخله وسوء خلقه ، إلى أن كان من أمره ما كان ، فاستولى على الحجابة ، وسجن المصحفي ، وفي ذلك يقول المصحفي : [الطويل]

غرست قضيبا خلته عود كرمة

وكنت عليه في الحوادث قيّما

وأكرمه دهري فيزداد خبثه

ولو كان من أصل كريم تكرّما

ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال (٤) : [الكامل]

لي مدّة لا بدّ أبلغها

فإذا انقضت أيّامها متّ

لو قابلتني الأسد ضارية

والموت لم يقرب لما خفت(٥)

فانظر إليّ وكن على حذر

في مثل حالك أمس قد كنت

ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم : [الطويل]

__________________

(١) انظر ابن عذاري ج ٢ ص ٤١٨.

(٢) في ب : البشكنسية.

(٣) ورد البيت في ب بصورة النثر وبإسقاط : أظلم أهل الأرض.

(٤) انظر الذخيرة : ج ٤ ص ٥١.

(٥) الأسود الضارية : المفترسة.


صبرت على الأيّام حتّى تولّت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت

فوا عجبا للقلب كيف اعترافه

وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت

وما النّفس إلّا حيث يجعلها الفتى

فإن طمعت ماتت وإلّا تسلّت(١)

وكانت على الأيّام نفسي عزيزة

فلمّا رأت صبري على الذّلّ ذلّت

فقلت لها يا نفس موتى كريمة

فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت

وأنشد له الفتح في المطمح ، ونسبهما غيره لأحمد بن الفرج صاحب الحدائق : [الخفيف]

كلّمتني فقلت درّ سقيط

فتأمّلت عقدها هل تناثر

فازدهاها تبسّم فأرتني

نظم درّ من التّبسّم آخر

وله كما مر : [الكامل]

صفراء تطرق في الزّجاج ، فإن سرت

في الجسم دبّت مثل صلّ لادغ

خفيت على شرّابها فكأنّما

يجدون ريّا من إناء فارغ

وله : [السريع]

يا ذا الّذي أودعني سرّه

لا ترج أن تسمعه منّي

لم أجره بعدك في خاطري

كأنّه ما مرّ في أذني

وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات : [الطويل]

سألت نجوم اللّيل هل ينقضي الدّجى

فخطّت جوابا بالثّريّا كخطّ لا

وكنت أرى أنّي بآخر ليلتي

فأطرق حتّى خلته عاد أوّلا

وما عن هوى سامرتها ، غير أنّني

أنافسها المجرى إلى طرق العلا

رجع ـ وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني ، وهو متداول (٢) بين أهل الأندلس ، قالوا : ثم آل أمره إلى الموحّدين ، ثم إلى بني مرين ، قال الخطيب بن مرزوق في كتابه «المسند الصحيح الحسن» ما ملخصه : وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر موضعا (٣) إلا ومعه

__________________

(١) في ب : تاقت وإلا تسلت.

(٢) في ه : وهو متواتر عند أهل الأندلس.

(٣) موضعا : غير موجودة في ب.


المصحف الكريم العثماني ، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم ، ومقام كبير ، وكيف لا؟ قال ابن بشكوال : أخرج هذا المصحف منها ـ أي قرطبة (١) ـ وغرّب منها وكان بجامعها الأعظم ، ليلة السبت حادي عشر شوّال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره ، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار : مكة ، والبصرة ، والكوفة ، والشام ، وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيد ، وإن يكن أحدها فلعله الشامي ، قاله ابن عبد الملك.

قال أبو القاسم التجيبي السبتي : أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع بني أمية بدمشق المحروسة ، وعاينته هناك سنة ٦٥٧ ، كما عاينت المكي بقبة اليهودية ، وهي قبة التراب ، قلت: عاينتها (٢) مع الذي بالمدينة سنة ٧٣٥ وقرأت فيهما (٣) ، قال النخعي : لعله الكوفي أو البصري ، وأقول : اختبرت الذي بالمدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطّهما سواء ، وما توهموه (٤) أنه خطه بيمينه فليس بصحيح ، فلم يخط عثمان واحدا منها ، وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني ، ونص ما على ظهره : هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي ، وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف ، انتهى.

واعتنى به عبد المؤمن بن علي ، ولم يزل الموحّدون يحملونه في أسفارهم متبركين به ، إلى أن حمله المعتضد ، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس بن المنصور ، حين توجه لتلمسان آخر سنة ٦٤٥ ، فقتل قريبا من تلمسان ، وقدّم ابنه إبراهيم ، ثم قتل ، ووقع النهب في الخزائن ، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر ، ونهب المصحف ولم يعلم مستقره ، وقيل : إنه في خزانة ملوك تلمسان ، قلت : لم يزل هذا المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة ٧٣٧ ، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف (٥) وحصل في بلاد برتقال ، وأعمل الحيلة في استخلاصه ، ووصل إلى فاس

__________________

(١) في ب : هذا المصحف من قرطبة ..

(٢) في ب : عاينتهما.

(٣) في ب : وقرأت فيها.

(٤) في ه : وما توهموا من أنه خط.

(٥) وقعت هذه الواقعة سنة ٧٤١ ه‍ ، وفيها غلب أبو الحسن المريني وعاد إلى الغرب مغلولا (اللمحة البدرية ص ٩٣).


سنة ٧٤٥ على يد أحد تجار أزمّور (١) ، واستمر بقاؤه في الخزانة ، انتهى باختصار.

واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء ، كما ذكره ابن رشيد في رحلته ، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته ، والرسالة في شأن المصحف لما فيها من الفائدة ، ونص محل الحاجة منه : أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطلة من لفظه وكتبته من خطه ، قال : أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى مما نظمه ، وقد أمر أمير المؤمنين المنصور بتحلية المصحف : [الطويل]

ونفّلته من كلّ ملك ذخيرة

كأنّهم كانوا برسم مكاسبه

فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا

فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه

وكيف يفوت النّصر جيشا جعلته

أمام قناه في الوغى وقواضبه

وألبسته الياقوت والدرّ حلية

وغيرك قد روّاه من دم صاحبه(٢)

وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن ، وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر ، حسبما أطرفنا به الوزير الأجل أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره ، مما استفاده وأفاده لنا مما لم نسمع به قبل ، عن كتاب جده الوزير أبي بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل المذكور ، مما تضمنه من وصف قصة المصحف ، فقال : وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيران ، وأميراها المتخيّران ، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله ، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف ، وما زال ينقله خلف عن سلف ، وقد (٣) حفظ شخصه على كثرة المتناولين ، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين ، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس ، وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس ، فتلقي عند وصوله بالإجلال والإعظام ، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام ، وعكف عليه

__________________

(١) أزمور : وردت في معجم البلدان أزمورة ، وهي بلد بالغرب في جبال البربر (معجم البلدان ج ١ ص ١٦٩).

(٢) يشير إلى ما فعله الذين حاصروا أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار ، وقتلوه وهو يقرأ القرآن ، فخضبوا المصحف بدمه.

(٣) في ب : قد حفظه.


أطول العكوف والتزم أشدّ الالتزام ، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب ، وبلاغ في الإغراب والإعجاب ، وذلك أن سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين ، أدام الله له عوائد النصر والتمكين ، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم ، وحركته إليه دواعي خلقه العظيم ، وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية ، وسجاياه الحسنة الرضية ، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم ، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم ، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه ، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه ، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه ، فأوصله الله إليه تحفة سنية ، وهدية هنية ، وتحية من عنده مباركه زكية ، دون أن يكدرها من البشر اكتساب ، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب ، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه ، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقه ، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه ، وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه ، وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا ، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا ، وجمع عند ذلك بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ سائر الأبناء الكرام ، والسادة الأعلام ، بدور الآفاق ، وكواكب الإشراق ، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق ، فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيرا إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة ، والتئام خطوطها على مركز الدائرة ، ووصول المتقدم ذكره ، المشهور في جميع المعمور أمره ، وهو هذا : [الطويل]

دراريّ من نور الهدى تتوقّد

مطالعها فوق المجرّة أسعد

وأنهار جود كلّما أمسك الحيا

يمدّ بها طامي الغوارب مزبد(١)

وآساد حرب غابها شجر القنا

ولا لبد إلا العجاج الملبّد(٢)

مساعير في الهيجا مساريع للنّدى

بأيديهم يحمى الهجير ويبرد

تشبّ بهم ناران للحرب والقرى

ويجري بهم سيلان جيش وعسجد(٣)

ويستمطرون البرق والبرق عندهم

سيوف على أفق العداة تجرّد

إذا منّ سجف السّاريات مضاؤها

فماذا الّذي يغني الحديد المسرّد(٤)

__________________

(١) الحيا : المطر. وطامي الغوارب : أعالي الموج.

(٢) في ب ، ه : ولا لبدة.

(٣) القرى ، بكسر القاف : ما قدّم للضيفان.

(٤) في ب : إذا عنّ.


ويسترشدون النّجم والنّجم عندهم

نصول إلى حبّ القلوب تسدّد

تزاحم في جوّ السّماء كأنّما

عواملها في الأفق صرح ممرّد(١)

تخازر ألحاظ الكواكب دونها

ويفرق منها المرزمان وفرقد(٢)

ألم ترها في الأفق خافقة الحشا

كما تطرف العينان والقلب يزأد(٣)

وليس احمرار الفجر من أثر السّنى

ولكنّه ذاك النّجيع المورّد

وما انبسطت كفّ الثّريّا فدافعت

ولكنّها في الحرب شلو مقدّد

وحطّ سهيلا ذعره عن سميّه

فأضحى على أفق البسيطة يرعد

ولمّا رأى نسر وقوع أليفه

تطاير من خوف فما زال يجهد

مواقع أمر الله في كلّ حالة

يكاد لها رأس الثّرى يتميّد

أهاب بأقصى الخافقين فنظّمت

وهيّب جمع المخفقين فبدّدوا

وأضفى على الدّنيا ملابس رحمة

نضارتها في كلّ حين تجدّد

وأخضل أرجاء الرّبا فكأنّما

عليها من النّبت النّضير زبرجد

فمن طرب ما أصبح البرق باسما

ومن فرح ما أضحت المزن ترعد(٤)

وغنّى على أفنان كلّ أراكة

غذاها حيا النّعمى حمام مغرّد

وكبّر ذو نطق وسبّح صامت

وكاد به المعدوم يحيا ويوجد

وأبرز للأذهان ما كان غائبا

فسيّان فيها مطلق ومقيّد

سلام على المهديّ ، أمّا قضاؤه

فحتم ، وأمّا أمره فمؤكّد

إمام الورى عمّ البسيطة عدله

على حين وجه الأرض بالجور أربد(٥)

بصير رأى الدّنيا بعين جليّة

فلم يغنه إلّا المقام الممجّد

ولمّا مضى والأمر لله وحده

وبلّغ مأمول وأنجز موعد

تردّى أمير المؤمنين رداءه

وقام بأمر الله والنّاس هجّد

__________________

(١) العوامل : صدور الرماح.

(٢) تتخازر : تضيق عينيها لتحد النظر.

(٣) يزأد : يخوّف.

(٤) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.

(٥) الأربد : المغبّر.


بعزمة شيحان الفؤاد مصمّم

يقوم به أقصى الوجود ويقعد(١)

مشيئته ما شاءه الله ، إنّه

إذا همّ فالحكم الإلهيّ يسعد

كتائبه مشفوعة بملائك

ترادفها في كلّ حال وترفد(٢)

وما ذاك إلّا نيّة خلصت له

فليس له فيما سوى الله مقصد

إذا خطبت راياته وسط محفل

ترى قمم الأعداء في التّرب تسجد

وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه

أقرّ بأمر الله من كان يجحد

معيد علوم الدّين بعد ارتفاعها

ومبدي علوم لم تكن قبل تعهد

وباسط أنوار الهداية في الورى

وقد ضمّ قرص الشّمس في الغرب ملحد

وقد كان ضوء الشّمس عند طلوعها

يغان بأكنان الضّلال ويغمد (٣)

فما زال يجلو عن مطالعها الصّدا

ويبرزها بيضاء والجوّ أسود

جزى الله عن هذا الأنام خليفة

به شربوا ماء الحياة فخلّدوا

وحيّاه ما دامت محاسن ذكره

على مدرج الأيّام تتلى وتنشد

لمصحف عثمان الشّهيد وجمعه

تبيّن أنّ الحقّ بالحقّ يعضد(٤)

تحامته أيدي الرّوم بعد انتسافه

وقد كاد لو لا سعده يتبدّد

فما هو إلّا أن تمرّس صارخ

بدعوته العليا فصين المبدّد

وجاء وليّ الثّأر يرغب نصره

فلبّاه منه عزمه المتجرّد

رأى أثر المسفوح في صفحاته

فقام لأخذ الثّأر منه مؤيّد

وشبّهه بالبدر وقت خسوفه

فلله تشبيه له الشّرع يشهد(٥)

زمان ارتفاع العلم كان خسوفه

وقد عاد بالمهديّ والعود أحمد

أتتك أمير المؤمنين ألوكة

من الحرم الأقصى لأمرك تمهد(٦)

سيوف بني عيلان قامت شهيرة

لدعوتك العلياء تهدي وترشد

وطافت ببيت الله فاشتدّ شوقه

إليك ولبّى منه حجر ومسجد

__________________

(١) شيحان الفؤاد : حازم الفؤاد ، قويه.

(٢) ترادفها : تتبعها ، ويكون لها رديف.

(٣) يغان : يغطى بالغيم. والأكنان : جمع كنّ ، وهو الستر.

(٤) يعضد : يعان ، يساعد.

(٥) في ج : قبل خسوفه. و : فلله تشبيه به الشرع.

(٦) الألوكة : الرسالة.


وحجّ إليك الرّكن والمرو والصّفا

فأنت لذاك الحجّ حجّ ومقصد

مشاعرها الأجسام والرّوح أمركم

ومنكم لها يرضى المقام المخلّد

فلله حجّ واعتمار وزورة

أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد

ولله سبع نيّرات تقارنت

بها فئة الإسلام تحمى وتسعد(١)

إذا لم يكن إلّا فناءك عصمة

فماذا الّذي يرجو القصيّ المبعّد

فدم للورى غيثا وعزّا ورحمة

فقربك في الدارين منج ومسعد

وزادت بك الأعياد حسنا وبهجة

كأنّك للأعياد زيّ مجدّد

ولا زلت للأيّام تبلي جديدها

وعمرك في ريعانه ليس ينفد

ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم ، ووصل سعودهم ، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور ، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير (٢) ، شرعوا في انتخاب كسوته ، وأخذوا في اختيار حليته ، وتأنقوا في استعمال أحفظته ، وبالغوا في استجادة أصونته (٣) ، فحشروا له الصّنّاع المتقنين والمهرة المتفنّنين ممن كان بحضرتهم العلية ، أو سائر بلادهم القريبة والقصيّة ، فاجتمع لذلك حذّاق كل صناعة ، ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين (٤) والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين ، ولم يبق من يوصف ببراعة ، أو ينسب إلى الحذق في صناعة ، إلا أحضر للعمل فيه ، والاشتغال بمعنى من معانيه ، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة ، وأشكال مبتدعة ، وضمنوها من غرائب الحركات ، وخفي إمداد الأسباب للمسببات ، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم ، واستفرغوا فيه جهد قوتهم ، والهمة العلية أدام الله سموها تترقى فوق معارجهم (٥) وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم (٦) ، وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم ، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب (٧) ، ورأبوا

__________________

(١) في ج : تحيا وتسعد.

(٢) التعزير : التعظيم والتوقير ، وفي القرآن (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ).

(٣) الأصونة : جمع صوان ، وهو ما يحفظ فيه الشيء.

(٤) الحلائين : صانعي الحلي.

(٥) المعارج : السلالم.

(٦) الموالج : المداخل.

(٧) الشعب : الصدع.


من منتشرها كل شعب ، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب ، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها ، والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها ، حتى أطلع الله خليفته في خلقه ، وأمينه المرتضى لإقامة حقه ، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها (١) ، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خرصها ، ألقوا ذلك ـ أيدهم الله بنصره ، وأمدهم بمعونته ويسره! ـ إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول ، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول ، فوقفهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم ، وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة ، والأشكال المونقة المعجبة ، إن شاء الله تعالى.

مما صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة ، والأحفظة العجيبة ، أنه كسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه ، لا يشبه بعضها بعضا ، قد أجري فيه من ألوان الزجاح الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال ، ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال ، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم ، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم ، قد أسلست (٢) للتحرك أعطافها ، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها ، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدر وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده وتتوارثه على مرور الزمن وترداده ، وتظنّ العز الأقعس (٣) ، والملك الأنفس ، في ادخاره وإعداده ، وتسمى الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنعه (٤) واتحاده ، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألئه (٥) واتقاده ، وأشبهه الروض المزخرف غبّ سماء أقلعت عن إمداده ، وأتى هذا الصّوان الموصوف رائق المنظر ، آخذا بمجامع القلب والبصر ، مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصّور ، يدهش العقول بهاء ، ويحير الألباب رواء (٦) ، ويكاد يعشي الناظر (٧) تألّقا وضياء ، فحين تمت خصاله ، واستركبت أوصاله ، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله ، رأوا ـ أدام الله تأييدهم ، وأعلى كلمتهم!. مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات ، والإشراف على جميع الثنيات ، أن يتلطف في وجه

__________________

(١) اعتياص الأمر : صعوبته وعدم انقياده.

(٢) أسلست قيادها : جعلته سهلا سلسا.

(٣) العز الأقعس : الثابت ، المنيع.

(٤) في ب : في صنفه.

(٥) في ب : تلألؤه.

(٦) الرواء : حسن المنظر.

(٧) يعشي الناظر : يصيبه بالعشاء ، وهو سوء البصر.


يكون به هذا الصّوان المذكور طورا متصلا ، وطورا منفصلا ، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذلا وتارة للعموم متجملا ، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف ، وكل له مقام إليه ينتهى وعنده يقف ، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد ، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد ، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر ، ذي حلية عظيمة (١) خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر ، ورتب ترتيبا يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر ، فيلتئم به التئاما يغطي على العين من هذا الأثر ، وكمل ذلك كله على أجمل الصفات وأحسنها ، وأبدع المذاهب وأتقنها ، وصنع له محمل غريب الصنعة ، بديع الشكل والصبغة (٢) ، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك ، ويشتد (٣) بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك ، مغشّى كله بضروب من الترصيع ، وفنون من النقش البديع ، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع ، لم تعمل قط في زمان من الأزمان ، ولا انتهت قط إلى أيسره نوافذ الأذهان ، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب ، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب ، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال ، ويشاركه في أكثر الأحوال ، مرصّع مثل ترصيعه الغريب ، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب ، وصنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها ، والصدور على محفوظ أفكارها ، مكعب الشكل سام في الطول حسن الجملة والتفصيل ، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل ، جار مجرى المحمل في التزيين والتجميل ، وله في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان قد أحكم ارتتاجهما (٤) ، ويسر بعد الإبهام (٥) انفراجهما ، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه ، وتركب المحمل عليه ، ما دبرت الحركات الهندسية ، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية ، وانتظمت العجائب المعنوية والحسية ، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية ، وذلك أن بأسفل هاتين الدفّتين فيصلا فيه موضع قد أعدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه ، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما ، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته ، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفا إلى مقدمه ، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم

__________________

(١) عظيمة : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : بديع الشكل والصيغة.

(٣) في ب : ويشهد بها الارتباط.

(٤) أرتج يرتج الباب إرتاجا : أغلقه إغلاقا وثيقا. وارتتاج الدفتين : انغلاقهما بإحكام.

(٥) الإبهام : أبهم الباب : أغلقه وسده. أبهم عليه الأمر : لم يجعل له وجها يعرفه.


عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد ، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر ، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولا انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره ، فإذا عاد كل إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضا من تلقائه ، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح ، كالذي كان في حال خروجه ، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي ، وهي مما يدقّ وصفها ، ويصعب ذكرها ، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد ، وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة ، أدام الله تعالى أمرهم! وأعز نصرهم!.

وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر ، وفرائد العمر ، أمروا. أدام الله تعالى تأييدهم! ـ ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى! ـ فبدىء ببنائه (١) وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور ، على أكمل الوجوه ، وأغرب الصنائع ، وأفسح المساحة ، وأبعد البناء والنجارة ، وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات (٢) المنبر والمقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه ، فكيف في هذا الأمد (٣) اليسير الذي لم يتخيل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلا عن بنائه؟ وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور ، ونهضوا ـ أدام الله سبحانه تأييدهم! ـ عقب ذلك لزيادة البقعة المكرمة ، والروضة المعظمة ، بمدينة تينملّل (٤) أدام الله رفعتها ، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم ، وأكثر شهر رمضان المعظم ، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف ، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه ، وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه ، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه ، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها ، وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب.

ثم قال ابن رشيد ـ بعد إيراد ما تقدّم ـ ما صورته : نجزت الرسالة في المصحف العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، انتهى محل الحاجة منه.

وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية يستودع أهل قرطبة : [المنسرح]

__________________

(١) في ب ، ه : ببنيانه.

(٢) في ب ، ه : وحركات المنبر.

(٣) في ب : الأمر اليسير.

(٤) تينملّل : المدينة التي دفن فيها ابن تومرت.


أستودع الله أهل قرطبة

حيث وجدت الحياء والكرما(١)

والجامع الأعظم العتيق ولا

زال مدى الدّهر مأمنا حرما

وقال أبو الربيع بن سالم : حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري (٢) قال: أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه ، فذكرهما بعد أن قال : إنه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشدني (٣) البيتين ، انتهى.

وقال ابن عطية أيضا رحمه الله تعالى : [البسيط]

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

وهنّ قنطرة الوادي وجامعها

هاتان ثنتان ، والزّهراء ثالثة ،

والعلم أكبر شيء وهو رابعها

وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبتهما لأحد (٤).

ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال : نادمت يوما المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير ، وهي جامعة بين روضة وغدير ، فلما تضمخ النهار بزعفران العشي ، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ ، وأسبل الليل جنحه ، وتقلد السّماك رمحه ، وهمّ النسر بالطيران ، وعام في الأفق زورق الزّبرقان (٥) ، أوقدنا مصابيح الراح ، واشتملنا ملاء الارتياح ، وللدّجن فوقنا رواق مضروب ، فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب وقالت (٦). [الخفيف]

قدم اللّيل عند سير النّهار

وبدا البدر مثل نصف السّوار

فكأنّ النّهار صفحة خدّ

وكأنّ الظّلام خطّ عذار

وكأنّ الكؤوس جامد ماء

وكأنّ المدام ذائب نار

نظري قد جنى عليّ ذنوبا

كيف ممّا جنته عيني اعتذاري؟

يا لقومي تعجّبوا من غزال

جائر في محبّتي وهو جاري

__________________

(١) في ب ، ه : حيث عهدت الحياء والكرما.

(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، كان قاضي استجة توفي سنة ٥٨٥ (التكملة رقم ١٦١٩).

(٣) في ب : وأنشد البيتين.

(٤) في ب : نسبة لأحد.

(٥) الزبرقان : البدر.

(٦) وقالت : غير موجودة في ب.


ليت لو كان لي إليه سبيل

فأقضّي من الهوى أوطاري(١)

قال : فلما أكملت الغنا ، أحسست بالمعنى ، فقلت : [الخفيف]

كيف كيف الوصول للأقمار

بين سمر القنا وبيض الشّفار

لو علمنا بأنّ حبّك حقّ

لطلبنا الحياة منك بثار

وإذا ما الكرام همّوا بشيء

خاطروا بالنّفوس في الأخطار

قال : فعند ذلك بادر المنصور لحسامه ، وغلظ في كلامه ، وقال لها : قولي واصدقي إلى من تشيرين ، بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية : إن كان الكذب أنجى ، فالصدق أحرى وأولى ، والله ما كانت إلا نظرة ، ولّدت في القلب فكرة ، فتكلّم الحب على لساني ، وبرّح الشوق بكتماني ، والعفو مضمون لديك عند المقدرة ، والصفح معلوم منك عند المعذرة ، ثم بكت فكأن دمعها در تناثر من عقد ، أو طلّ تساقط من (٢) ورد ، وأنشدت :

أذنبت ذنبا عظيما

فكيف منه اعتذاري؟

والله قدّر هذا

ولم يكن باختياري

والعفو أحسن شيء

يكون عند اقتدار

قال : فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ ، وسلّ سيف السخط عليّ ، فقلت: أيدك الله تعالى! إنما كانت هفوة جرها الفكر ، وصبوة أيدها النظر ، وليس للمرء إلا ما قدر له ، لا ما اختاره وأمله ، فأطرق المنصور قليلا ثم عفا وصفح ، وتجاوز عنا وسمح ، وخلي سبيلي ، فسكن وجيب قلبي وغليلي ، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة ، وسحبنا فيها للصّبا ذيله ، فلما شمر الليل غدائره ، وسلّ الصباح بواتره ، وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان ، في أعالي الأغصان ، انصرفت بالجارية إلى منزلي ، وتكامل سروري.

قال بعضهم : ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها (٣) ، وزهت في الإغراب زهوها ، وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها ، وهو إذ ذاك أمرد ، فوقفت تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها ، والمأمون خلف الرشيد (٤) ، فأشار إليها يقبلها(٥) ،

__________________

(١) في ب ، ه : من حبه أوطاري ، وفي ه : وأقضي.

(٢) الطلّ : المطر الخفيف.

(٣) أمالي القالي ج ١ ص ٢٢٢.

(٤) في ب : والمأمون جالس خلف الرشيد.

(٥) في ب : فأشار إليها كأنه يقبلها.


فأنكرت ذلك بعينها ، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه ، فقال الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك ، ففعلت ، فقال لها (١) : والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك ، فقالت : يا سيدي ، أشار إلي كأنه يقبلني (٢) ، فأنكرت ذلك عليه ، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل ، فرحمه وضمه إليه ، وقال : يا عبد الله ، أتحبها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : هي لك فاخل (٣) بها في تلك القبة ، ففعل ، ثم قال له : هل قلت في هذا الأمر شيئا؟ فقال : نعم يا سيدي ، وأنشد (٤) : [المجتث]

ظبي كنيت بطرفي

من الضّمير إليه

قبّلته من بعيد

فاعتلّ من شفتيه

وردّ أخبث ردّ

بالكسر من حاجبيه

فما برحت مكاني

حتّى قدرت عليه

وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء : اللحظ ، يعرب عن اللفظ ، وقال آخر : رب كناية تغني عن إيضاح ، ورب لفظ يدل على ضمير ، ونظمه الشاعر فقال : [الطويل]

جعلنا علامات المودّة بيننا

دقائق لحظ هنّ أمضى من السّحر

فأعرف منها الوصل في لين لحظها

وأعرف منها الهجر بالنّظر الشّزر(٥)

وفي هذا قال بعض الحكماء : العين باب القلب ، فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر : [البسيط]

العين تبدي الّذي في نفس صاحبها

من المحبّة أو بغض إذا كانا

فالعين تنطق والأفواه صامتة

حتّى ترى من ضمير القلب تبيانا

وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح ما نصه (٦) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم ، وبنو حزم فتية علم وأدب ، وثنيّة مجد وحسب ، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد ، لا ينعت ولا يحد ، وهو فارس المضمار ، حامي ذلك الذّمار ، وبطل الرّعيل (٧) ، وأسد ذلك الغيل ، نسق المعجزات ، وسبق في المعضلات الموجزات ، إذا كتب وشّى المهارق ودبج ، وركب من بحر البلاغة الثّبج (٨) ، وكان هو وأبو عامر بن شهيد خليلي صفاء ، وحليفي

__________________

(١) لها : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : أشار إلي عبد الله ..

(٣) في ه : فأدخل بها.

(٤) في ب ، ه : ثم أنشد.

(٥) النظر الشزر : الشديد ، الممتلئ غضبا.

(٦) انظر المطمح ص ٢٢.

(٧) الرعيل : جماعة الرجال التي تتقدم غيرها.

(٨) الثبج من الشيء : معظمه ، ومن الموج : أعلاه.


وفاء ، لا ينفصلان في رواح ولا مقيل ، ولا يفترقان كمالك وعقيل (١) ، وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصّبوة ، وعامري أندية السلوة ، إلى أن اتّخذ أبو عامر في حبالة الردى وعلق ، وغدا رهنه فيها وغلق (٢) ، فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان ، واستردّ من سبقه ما فاته منذ زمان ، فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة ، ولا سرت له فقرة مستحسنة ، لتعذر ذلك وامتناعه ، بشفوف أبي عامر وامتداد باعه ، وأمّا شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره ، ومختلط زهره بدرّه ، وقد أثبتّ له منها فنونا ، تجنّ بها الأفهام جنونا ، فمن ذلك قوله : [الكامل]

ظعنت وفي أحداجها من شكلها

عين فضحن بحسنهنّ العينا

ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت

ضيف الوداد بلابلا وشجونا

أضحى الغرام قطين ربع فؤاده

إذ لم يجد بالرّقمتين قطينا

وله : [المنسرح]

لمّا رأيت الهلال منطويا

في غرّة الفجر قارن الزّهره

شبّهته والعيان يشهد لي

بصولجان انثنى لضرب كره(٣)

وأبو عامر بن شهيد المذكور قال في حقّه ما صورته (٤) :

الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي ، عالم بأقسام البلاغة ومعانيها ، حائز قصب السبق فيها ، لا يشبهه أحد من أهل زمانه ، ولا ينسق ما نسق من درّ البيان وجمانه ، توغل في شعاب البلاغة وطرقها ، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها ، لا يقاومه عمرو بن بحر (٥) ، ولا تراه يغترف إلا من بحر ، مع انطباع ، مشى في طريقه بأمدّ باع ، وله الحسب المشهور ، والمكان الذي لم يعده ظهور (٦) ، وهو من ولد الوضاح ، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح ، والضحاك صاحب يوم المرج (٧) ، وراكب ذلك الهرج ، وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب ، ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب ، وقد أثبتّ له ما هو بالسحر لا حق ، ولنور المحاسن ما حق ، فمن ذلك قوله : [البسيط]

إنّ الكريم إذا نابته مخمصة

أبدى إلى النّاس ريّا وهو ظمآن(٨)

__________________

(١) مالك وعقيل : هما نديما جذيمة الأبرش.

(٢) في ب : فيها قد غلق.

(٣) في ب : بصولجان أوفى.

(٤) المطمح ص ١٩.

(٥) عمرو بن بحر : هو أبو عثمان الجاحظ.

(٦) لم يعده : لم يتجاوزن. وفي ب : للظهور.

(٧) في ب : وصاحب الضحاك يوم المرج.

(٨) المخصمة : خلو البطن من الطعام ، المجاعة.


يحني الضّلوع على مثل اللّظى حرقا

والوجه غمر بماء البشر ريّان(١)

وهو مأخوذ من قول الرضي : [الكامل]

ما إن رأيت كمعشر صبروا

عزّا على الأزلات والأزم

بسطوا الوجوه وبين أضلعهم

حرّ الجوى ومآلم الكلم

وله أيضا : [البسيط]

كلفت بالحبّ حتّى لو دنا أجلي

لما وجدت لطعم الموت من ألم

كلا النّدى والهوى قدما ولعت به

ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم

وأخبرني الوزير أبو الحسين (٢) بن سراج ـ وهو بمنزل ابن شهيد ـ وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان ، وكنا نحضر مجلس شرابه ، ولا نغيب عن بابه ، وكان له بباب الصّومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره ، ولا يخليه من نثر درره وأزهاره ، فقعد في ليلة ٢٧ من رمضان في لمة من إخوانه (٣) ، وأئمة سلوانه ، وقد حفّوا به ليقطفوا نخب أدبه ، وهو يخلط لهم الجدّ بهزل ، ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل ، وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها ، من يسترها ويواريها ، وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها ، وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها ، وهي متنقبة ، خائفة ممن يرقبها مترقبة ، وأمامها طفل لها كأنه غصن آس ، أو ظبي يمرح في كناس ، فلما وقعت عينها على أبي عامر ولّت سريعة ، وتولت مروعة ، خيفة أن يشبب بها (٤) ، أو يشهرها باسمها ، فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها (٥) : [المتقارب]

وناظرة تحت طيّ القناع

دعاها إلى الله بالخير داعي

سعت خفية تبتغي منزلا

لوصل التبتّل والانقطاع

فجاءت تهادى كمثل الرّؤوم

تراعي غزالا بروض اليفاع

وجالت بموضعنا جولة

فحلّ الرّبيع بتلك البقاع

أتتنا تبختر في مشيها

فحلّت بواد كثير السّباع

وريعت حذارا على طفلها

فناديت يا هذه لا تراعي

__________________

(١) اللظى : لهب النار.

(٢) ديوان الرضي : ج ٢ ص ٤٢٢.

(٣) اللمة : الجماعة.

(٤) يشبب بها : يتغزل.

(٥) ديوان ابن شهيد ص ٩٤.


غزالك تفرق منه اللّيوث

وتفزع منه كماة المصاع(١)

فولّت وللمسك في ذيلها

على الأرض خطّ كظهر الشّجاع(٢)

انتهى المقصود منه.

رجع ـ ومما ينخرط في سلك أخبار الزهراء ما حكاه الفتح في ترجمة المعتمد بن عباد إذ قال (٣) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٤) بن سراج أنه حضر مع الوزراء والكتاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف ، ولم يطرقه بصرف ، أرّخت به المسرات عهدها ، وأبرزت له الأماني خدّها ونهدها (٥) وأرشفت فيه لماها ، وأباحت للزائرين حماها ، وما زالوا ينتقلون (٦) من قصر إلى قصر ، ويبتذلون الغصون بجنى وهصر ، ويتوقّلون في تلك الغرفات ، ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشّرفات ، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطارا ، ووفروا بالاعتبار (٧) قطارا ، فحلوا منها في درانك ربيع مفوّفة بالأزهار ، مطرّزة بالجداول والأنهار ، والغصون تختال في أدواحها ، وتتثنى في أكف أرواحها ، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها ، وانقراض أترابها (٨) وأطرابها ، والوهى بمشيدها لاعب ، وعلى كل جدار غراب ناعب ، وقد محت الحوادث ضياءها ، وقلصت ظلالها وأفياءها ، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت ، وفاحت من شذاهم وتأرّجت (٩) ، أيام نزلوا خلالها ، وتفيؤوا ظلالها ، وعمروا حدائقها وجنّاتها ، ونبهوا الآمال من سناتها (١٠) ، وراعوا الليوث في آجامها ، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها ، فأضحت ولها بالتداعي تلفّع واعتجار ، ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار ، قد وهت قبابها ، وهرم شبابها ، وقد يلين الحديد ، ويبلى ، على طيه الجديد ، فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا ،

__________________

(١) في ه : وتنصاع منه كماة المصاع. وتفرق : تخاف. والليوث : الأسود. والمصاع : المضاربة بالسيوف.

(٢) الشجاع : نوع من الحيات.

(٣) قلائد العقيان ص ١٠.

(٤) في قلائد : أبو الحسن بن سراج.

(٥) ونهدها : غير موجودة في ب.

(٦) في ب : وما زالوا ينقلون.

(٧) في ب : وأوقروا بالاعتبار.

(٨) أترابها و : غير موجودة في ب.

(٩) في ب ، ه : وأرجت.

(١٠) السنات : جمع سنة ، بكسر السين وفتح النون : أول النوم.


ويديرونها أنسا واعتبارا ، إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة فيها (١) : [الخفيف]

حسد القصر فيكم الزّهراء

ولعمري وعمركم ما أساء

قد طلعتم بها شموسا صباحا

فاطلعوا عندنا بدورا مساء

فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلسا قد حار فيه الوصف ، واحتشد فيه اللهو والقصف ، وتوقدت نجوم مدامه ، وتأوّدت قدود خدّامه ، وأربى على الخورنق والسدير ، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير ، فأقاموا ليلتهم (٢) ما عراهم نوم ، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم ، وكانت قرطبة منتهى أمله ، وكان روم أمرها أشهى عمله ، وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ، ومواصلة واليها ، إذ لم يكن في منازلتها قائد ، ولم يكن لها إلا حيل ومكايد ، لاستمساكهم بدعوة خلفائها ، وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها ، وحين اتفق له تملكها ، وأطلعه فلكها ، وحصل في قطب دائرتها ، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها ، قال (٣): [البسيط]

من للملوك بشأو الأصيد البطل؟

هيهات جاءتكم مهديّة الدّول

خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت

من جاء يخطبها بالبيض والأسل

وكم غدت عاطلا حتّى عرضت لها

فأصبحت في سريّ الحلي والحلل

عرس الملوك لنا في قصرها عرس

كلّ الملوك بها في مأتم الوجل

فراقبوا عن قريب لا أبا لكم

هجوم ليث بدرع البأس مشتمل

ولما انتظمت في سلكه ، واتّسمت بملكه ، أعطى ابنه الظافر زمامها ، وولاه نقضها وإبرامها ، فأفاض فيها نداه ، وزاد على أمده ومداه ، وجملها بكثرة حبائه ، واستقل بأعبائها على فتائه ، ولم يزل فيها آمرا وناهيا ، غافلا عن المكر ساهيا ، حسن ظن بأهلها اعتقده ، واغترارا بهم ما رواه ولا انتقده ، وهيهات كم من ملك كفّنوه في دمائه ، ودفنوه بذمائه ، وكم من عرش ثلّوه ، وكم من عزيز ملك أذلوه ، إلى أن ثار فيها ابن عكّاشة ليلا ، وجر إليها حربا وويلا ، فبرز الظافر منفردا عن كماته ، عاريا من حماته ، وسيفه في يمينه ، وهاديه في الظلماء نور جبينه ، فإنه كان غلاما قد بلله (٤) الشباب بأندائه ، وألحفه الحسن بردائه ، فدافعهم أكثر ليله ، وقد منع منه

__________________

(١) في ب : تلفع واعتجار.

(٢) هكذا في ب وفي القلائد. وفي ه : ليلهم.

(٣) ديوان المعتمد بن عباد ص ٦٥.

(٤) في ب ، ه : كما بلّله.


تلاحق رجله وخيله ، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا ، ولا استقال (١) منها ولا سعى ، فترك ملتحفا في الظلماء (٢) ، تحت نجوم السماء (٣) ، معفرا في وسط أكماء (٤) ، تحرسه الكواكب ، بعد المواكب ، ويستره الحندس (٥) ، بعد السندس (٦) ، فمر بمصرعه سحرا أحد أئمة الجامع المغلّسين ، فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى ، وهو أعرى من الحسام المنتضى ، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه ، وستره به سترا أقنع المجد به وأرضاه ، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة ، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة ، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته ، وسعّر الحزن لوعته ، رفع بالعويل نداءه ، وأنشد «ولم أدر من ألقى عليه رداءه» (٧) ، ولما كان من الغد حزّ رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ، ويرشق نفس كل ناظر بألم ، فلما رمقته الأبصار ، وتحققته الحماة والأنصار ، رموا أسلحتهم ، وسوّوا للفرار أجنحتهم ، فمنهم من اختار فراره وجلاه ، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه ، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب ثاره ، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره ، وعدل عن تأبينه ، إلى البحث عن مفرقه وجبينه ، فلم تحفظ له فيه قافية ، ولا كلمة للوعته شافية ، إلا إشارته إليه ، في تأبين أخويه ، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة (٨) ، والفتنة الثائرة ، انتهى.

وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم ـ مما قصدت جلبه في هذا الموضع ـ نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس ووصف مجالس الأنس التي كانت بها مما تنشرح له الأنفس ، ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعا ، ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفا ومرتبعا ، ثم طواه الدهر طيّ السجل ، ومحا آثاره التي كانت تسمو وتجلّ ، وما قصدنا علم الله غير الاعتبار ، بهذه الأخبار ، لا الحث على الحرام ، وتسهيل القصد إليه والمرام ، والأعمال بالنيات ، والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات ، وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات ، بالنعم الباقيات السنيّات.

__________________

(١) في ب ، ه : ولا استقل منها.

(٢) في ب ، ه : ملتحفا بالظلما.

(٣) في ب ، ه : السما.

(٤) في ب ، ه : في وسط الحمى.

(٥) الحندس : الظلام الشديد.

(٦) السندس : نوع من رقيق الحرير.

(٧) هذا صدر بين لأبي خراش الهذلي ، وهو :

ولم أدر من ألقى عليه رداءه

سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض

(٨) النائرة : العداوة الشديدة.


قال الفتح رحمه الله تعالى في ترجمة الوزير أبي الوليد بن زيدون ، ما صورته (١) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (٢) بن سراج رحمه الله تعالى أنه في وقت فراره أضحى ، غداة الأضحى ، وقد ثار به الوجد بمن كان يألفه والغرام ، وتراءت لعينيه تلك الظّباء الأوانس والآرام ، وقد كان الفطر وافاه ، والشقاء قد استولى على رسم عافيته حتى أعفاه (٣) ، فلما عاده منهما ما عاد ، وأعياه ذلك النكد المعاد ، استراح إلى ذكر عهده الحسن ، وأراح جفونه المسهّدة بتوهم ذلك الوسن ، وذكر معاهد كان يخرج إليها في العيد ، ويتفرج بها مع أولئك الغيد ، فقال (٤) : [الطويل]

خليليّ لا فطر يسرّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى

لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل

أخصّ بممحوض الهوى ذلك السّفحا(٥)

وما انفكّ جوفيّ الرّصافة مشعري

دواعي بثّ يعقب الأسف البرحا

ويهتاج قصر الفارسيّ صبابة

لقلبي لا يألو زناد الأسى قدحا

وليس ذميما عهد محبس ناصح

فأقبل في فرط الولوع به نصحا(٦)

كأنّي لم أشهد لدى عين شهدة

نزال عتاب كان آخره الفتحا

وقائع جانيها التّجنّي فإن مشى

سفير خضوع بيننا أكّد الصّلحا

وأيّام وصل بالعقيق اقتضيته

فإن لم يكن ميعاده العيد فالفصحا

وآصال لهو في مسنّاة مالك

معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا

لدى راكد تصبيك من صفحاته

قوارير خضر خلتها مرّدت صرحا

معاهد لذّات وأوطان صبوة

أجلت المعلّى في الأماني بها قدحا

ألا هل إلى الزّهراء أوبة نازح

تقضّى تنائيها مدامعه نزحا

مقاصير ملك أشرقت جنباتها

فخلنا العشايا الجون أثناءها صبحا

يمثّل قرطيها لي الوهم جهرة

فقبّتها فالكوكب الرّحب فالسّطحا (٧)

__________________

(١) قلائد العقيان ص ٧٢.

(٢) في ج : أبو الحسن.

(٣) في ب ، ه : حتى عفاه.

(٤) ديوان ابن زيدون ، طبعة صادر ص ٢١.

(٥) العقاب : اسم مكان في قرطبة. وممحوض الهوى : خالصه وصافيه.

(٦) في ب : عهد مجلس.

(٧) في ب : الوهم جمرة .. فالكوكب الجون ..


محلّ ارتياح يذكر الخلد طيبه

إذا عزّ أن يصدى الفتى فيه أو يضحى(١)

هناك الجمام الزّرق تندى حفافها

ظلال عهدت الدّهر فيها فتى سمحا(٢)

تعوّضت من شدو القيان خلالها

صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا

ومن حملي الكأس المفدّى مديرها

تقحّم أهوال حملت لها الرّمحا

أجل إنّ ليلي فوق شاطىء بيطة

لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا(٣)

 وهذه معاهد بني أمية قطعوا بها ليالي وأياما ، وظلت فيها الحوادث عنهم نياما ، فهاموا بشرق العقاب ، وشاموا به برقا يبدو من نقاب ، ونعموا بجوفيّ الرّصافة ، وطمعوا عيشا تولى الدهر جلاءه وزفافه ، وأبعدوا نصح الناصح ، وحمدوا أنس محبس (٤) ناصح ، وعموا بالزهراء ، وصمّوا عن نبأ صاحب الزوراء ، حتى رحلهم الموت عنها وقوّضهم ، وعوّضهم منها ما عوّضهم ، فصاروا أحاديث وأنباء ، ولم يتزودوا منها إلا حنوطا وكباء ، وغدت تلك المعاهد تصافحها أيدي الغير ، وتناوحها نعبات الطير ، وراحت بعد الزينة سدى ، وأمست مسرحا للبوم وملعبا للصّدى ، يسمع للجنّ بها عزيف ، ويصرع فيها البطل الباسل والنزيف ، وكذا الدنيا أعمالها خراب ، ومآلها آل وسراب (٥) ، أهلكت أصحاب الأخدود ، وأذهبت ما كان بمأرب من حيازات وحدود ، انتهى.

وقال الفتح بعد كلام ما صورته : ولما عضّته أنياب الاعتقال ، ورضّته تلك النوب الثقال ، وعوّض بخشانة العيش من اللين ، وكابد قسوة خطب لا تلين ، تذكر عهد عيشه الرقيق ، ومرحه بين الرّصافة والعقيق ، وحنّ إلى سعد زرّت عليه جيوبه ، واستهدى نسيم عيش طاب له هبوبه ، وتأسّى بمن باتت له النوائب بمرصاد ، ورمته بسهام ذات إقصاد وضيم من عهد الأحصّ إلى ذات الإصاد (٦) فقال (٧) : [الخفيف]

__________________

(١) يصدى : يعطش. يضحى : يتعرض لحر الشمس.

(٢) الجمام : جمع جمة ؛ وهي مكان اجتماع الماء.

(٣) في الديوان : شاطىء نيطة.

(٤) في ب : مجلس ناصح.

(٥) في ب ، ه : وآمالها. والآل ، والسراب بمعنى واحد ، وهو ما يحسبه الإنسان في الصحراء ماء ، وإنما هو انعكاس أشعة الشمس على الرمال.

(٦) الأحص : مكان بنجد كان يحميه كليب وائل. وذات الإصاد : من بلاد فزارة والذي ضيم في الأحص. وذات الإصاد بنو مرة ، ثم ثأروا بقتل كليب.

(٧) ديوان ابن زيدون ص ١٢٣.


الهوى في طلوع تلك النّجوم

والمنى في هبوب ذاك النّسيم

سرّنا عيشنا الرّقيق الحواشي

لو يدوم السّرور للمستديم

وطر ما انقضى إلى أن تقضّى

زمن ما ذمامه بالذّميم

أيّها المؤذني بظلم اللّيالي

ليس يومي بواجد من ظلوم(١)

ما ترى البدر إن تأمّلت والشّم

مس هما يكسفان دون النّجوم

وهو الدّهر ليس ينفكّ ينحو

بالمصاب العظيم نحو العظيم

وقال الفتح أيضا في شأن ابن زيدون ، ما صورته (٢) :

ولما تعذر انفكاكه ، وعفّر فرقده وسماكه ، وعاودته الأوهام والفكر ، وخانه من أبي الحزم الصارم الذكر ، قال يصف ما بين مسرّاته وكروبه ، ويذكر بعد طلوع سعده (٣) من غروبه ، ويبكي لما هو فيه من التعذير ، ويعذر أبا الحزم وليس له غيره من عذير ، ويتعزى بإخناء (٤) الدهر على الأحرار ، وإلحاحه على التمام بالسّرار ، ويخاطب ولّادة بوفاء عهده ، ويقيم لها البراهين على أرقه وسهده (٥) : [البسيط]

ما جال بعدك لحظي في سنا القمر

إلّا ذكرتك ذكر العين بالأثر

ولا استطلت ذماء اللّيل من أسف

إلّا على ليلة سرّت مع القصر

في نشوة من سنات الدّهر موهمة

أن لا مسافة بين الوهن والسّحر(٦)

يا ليت ذاك السّواد الجون متّصل

قد استعار سواد القلب والبصر

يا للرّزايا لقد شافهت منهلها

غمرا فما أشرب المكروه بالغمر

لا يهنأ الشّامت المرتاح خاطره

أنّي معنّى الأماني ضائع الخطر

هل الرّياح بنجم الأرض عاصفة

أم الكسوف لغير الشّمس والقمر

إن طال في السّجن إيداعي فلا عجب

قد يودع الجفن حدّ الصّارم الذّكر

وإن يثبّط أبا الحزم الرّضا قدر

عن كشف ضرّي فلا عتب على القدر

__________________

(١) في ب : بواحد من ظلوم.

(٢) القلائد : ٧٦.

(٣) في ب : طلوع أمله.

(٤) في ب ، ه : بإنحاء الدهر.

(٥) ديوان ابن زيدون ص ١٤٧.

(٦) في ب : في نشوة من شباب الوصل من أسف.


من لم أزل من تدانيه على ثقة

ولم أبت من تجنّيه على حذر(١)

وله يتغزل ، ويعاتب من يستعطفه ويتنزل (٢) : [خلع البسيط]

يا مستخفّا بعاشقيه

ومستغشّا لناصحيه

ومن أطاع الوشاة فينا

حتّى أطعنا السّلوّ فيه

الحمد لله إذ أراني

تكذيب ما كنت تدّعيه

من قبل أن يهزم التّسلّي

ويغلب الشّوق ما يليه

وما أحسن قول ابن زيدون المذكور في قصيدته النونية الشهيرة (٣) : [البسيط]

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغضّ فقال الدّهر آمينا

ومن أغرب ما وقفت عليه موشّحة لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون ، وهي :

غدا منادينا محكّما فينا

يقضي علينا الأسى لو لا تأسّينا

بحر الهوى يغرق

من فيه جهده عام

وناره تحرق

من همّ أو قد هام

وربّما يقلق

فتى عليه نام

قد غيّر الأجسام ، وصيّر الأيّام

سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

يا صاحب النّجوى

قف واستمع منّي

إيّاك أن تهوى

إنّ الهوى يضني

لا تقرب البلوى

اسمع وقل عنّى

بحاره مرّه ، خضنا على غرّه

حينا فقام بها للنّعي ناعينا

من هام بالغيد

لاقى بهم همّا

بذلت مجهودي

لأحور ألمى

يهمّ بالجود

وردّ ما همّا

__________________

(١) في ب ، ه ، والديوان : من لم أزل من تأنيه على ثقة.

(٢) ديوان ابن زيدون ص ٥٣.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ٩.


وعند ما قد جاد ، بالوصل أو قد كاد

أضحى التّنائي بديلا من تدانينا

بحقّ ما بيني

وبينكم إلّا

أقررتم عيني

فتجمعوا الشملا

فالعين بالبين

بفقدكم أبلى

جديد ما قد كان ، بالأهل والإخوان

ومورد اللهو صاف من تصافينا

يا جيرة بانت

عن مغرم صبّ(١)

لعهده خانت

من غير ما ذنب

ما هكذا كانت

عوائد العرب

لا تحسبوا البعدا ، يغيّر العهدا

إذ طالما غيّر النّأي المحبّينا

يا نازلا بالبان

بالشّفع والوتر

والنّمل والفرقان

واللّيل إذا يسر(٢)

وسورة الرّحمن

والنّحل والحجر

هل حلّ في الأديان ، أن يقتل الظّمآن

من كان صرف الهوى والودّ يسقينا

يا سائل القطر

عرّج على الوادي

من ساكني بدر

وقف بهم نادي

عسى صبا تسري

لمغرم صادي

إن شئت تحيينا بلّغ تحيّتنا

من لو على البعد حيّا كان يحيينا(٣)

وافت لنا أيّام

كأنّها أعوام

وكان لي أعوام

كأنّها أيام

تمرّ كالأحلام

بالوصل لي لو دام

والكأس مترعة ، حثّت مشعشعة

فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا

رجع إلى ما يتعلق بقرطبة ـ قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة ، يخاطب الوزير أبا الحسين بن سراج ، ويذكر لمّة إخوانه بقرطبة : [الكامل]

__________________

(١) بانت : بعدت ونأت.

(٢) في ب : والليل أذا يسر (بوصل همزة إذا).

(٣) في ب : بلغ تحيّينا.


يا سيّدي وأبي هدى وجلالة

ورسول ودّي إن طلبت رسولا(١)

عرّج بقرطبة ولذ إن جئتها

بأبي الحسين وناده تعويلا(٢)

فإذا سعدت بنظرة من وجهه

فاهد السّلام لكفّه تقبيلا

واذكر له شكري وشوقي مجملا

ولو استطعت سردته تفصيلا(٣)

بتحيّة تهدى إليه كأنّما

جرّت على زهر الرّياض ذيولا

وأشمّ منها المصحفيّ على النّوى

نفسا ينسّي السّوسن المبلولا

وإلى أبي مروان منه نفحة

تهدي له نور الرّبا مطلولا

وإذا لقيت الأخطبيّ فسقّه

من صفو ودّي قرقفا وشمولا(٤)

وأبو عليّ سقّ منها ربعه

مسكا بماء غمامة محلولا(٥)

واذكر لهم زمنا يهب نسيمه

أصلا كنفث الرّاقيات عليلا(٦)

مولى ومولي نعمة وكرامة

وأخا إخاء مخلصا وخليلا

بالحير ما عبست هناك غمامة

إلا تضاحك إذخرا وجليلا

يوما وليلا كان ذلك كلّه

سحرا وهذا بكرة وأصيلا

لا أدركت تلك الأهلّة دهرها

نقصا ولا تلك النّجوم أفولا

قال أبو نصر : الحير (٧) الذي ذكره هنا هو حير الزّجّالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد :

لقد أطلعوا عند باب اليهو

د شمسا أبى الحسن أن تكسفا

تراه اليهود على بابها

أميرا فتحسبه يوسفا

وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها ، وأتمها حسنا وأكملها ، صحنه مرمر صافي

__________________

(١) في ب : يا سيدي وأبي هوى.

(٢) في ب : وناده تمويلا.

(٣) في ب : شرحته تفصيلا.

(٤) القرقف والشمول : الخمر.

(٥) القلائد : وأبا علي روّ.

(٦) الأصل ، بضمتين : جمع أصيل ، وهو وقت اصفرار الشمس عند الغروب.

(٧) الحير ، بفتح فسكون ؛ في الأصل : مجتمع الماء ، وهنا : البستان.


البياض ، يخترقه جدول كالحية النّضناض ، به جابية ، كل لجة بها (١) كابية ، قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه ، وتأزّرت بهما جوانبه وأرجاؤه ، والروض قد اعتدلت أسطاره ، وابتسمت من كمائمها أزهاره ، ومنع الشمس أن ترمق ثراه ، وتعطّر النسيم بهبوبه عليه ومسراه ، شهدت به (٢) ليالي وأيّاما كأنما تصورت من لمحات الأحباب ، أو قدّت من صفحات أيام الشباب ، وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرج وراحات ، أعطاه فيها الدهر ما شاء ، ووالى عليه الصحو والانتشاء ، وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة ، وحليفي نشوة ، عكفا فيه على جريالها (٣) ، وتصرفا بين زهوهما واختيالهما ، حتى ردّاهما الردى ، وعداهما الحمام عن ذلك المدى ، فتجاورا في الممات ، تجاورهما في الحياة ، وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيات (٤) ، وإلى ذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرّض ، وبشوقه صحح وما مرض ، حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه ويكتب على قبره : [البسيط]

يا صاحبي قم فقد أطلنا

أنحن طول المدى هجود؟(٥)

فقال لي : لن نقوم منها

ما دام من فوقنا الصّعيد

تذكر كم ليلة نعمنا

في ظلّها والزّمان عيد

وكم سرورا همى علينا

سحابه ثرّة تجود؟(٦)

فخيره مسرعا تقضّى

وشؤمه حاضر عتيد(٧)

حصّله كاتب حفيظ

وضمّه صادق شهيد

يا ويلنا إن تنكّبتنا

رحمة من بطشه شديد

يا ربّ عفوا فأنت مولى

قصّر في أمرك العبيد

انتهى.

ثم قال بعد كلام : وركب أبو الحسن بن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين بن سراج ، فنظر إلى أبي الحكم بن حزم غلاما كما عقّ تمائمه (٨) ، وهو يروق كأنه

__________________

(١) النضناض : الحية التي لا تستقر مكانها. والجابية : الحوض الضخم يجمع فيه الماء.

(٢) في ب : شهدت له.

(٣) الجريال : الخمر.

(٤) في ب : الفيئات.

(٥) ديوان ابن شهيد ص ١٥٣.

(٦) في ب : كم سرور.

(٧) في ب : كلّ كأن لم يكن تقضى.

(٨) عق تمائمه : أي جاوز حد الطفولة.


زهر فارق كمائمه ، فسأل أبا الحسين بن سراج أن يقول فيه ، فأرتج عليه (١) ، فثنى عنان القول إليه ، فقال : [الطويل]

رأى صاحبي عمرا فكلّف وصفه

وحمّلني من ذاك ما ليس في الطّوق

فقلت له : عمرو كعمرو ، فقال لي :

صدقت ولكن ذاك شبّ على الطّوق(٢)

وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم ، وقد تصرفوا في البراعة والقلم ، ولهم الوزارة المذكورة ، والفضائل المشكورة ، ولذا قال أبو نصر في حقهم ما صورته (٣) :

هم للمجد كالأثافي ، وما منهم إلا موفور القوادم والخوافي ، إن ظهروا ، زهروا ، وإن تجمّعوا ، تضوّعوا ، وإن نطقوا ، صدقوا ، ماؤهم صفو ، وكل واحد منهم لصاحبه كفو ، أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها ، ودانت لهم أرواحها ونفوسها ، ولهم النظام الصافي الزجاجة ، المضمحل العجاجة ، انتهى.

ثم قال : وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه ، واستطابته (٤) جنوب الشّباب وصباه ، بالمنية المسماة بالبديع ، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته ، ويبتهج بحسن صفاته ، ويقطف رياحينه وزهره ، ويقف عليه إغفاءه وسهره ، ويستفزه الطرب متى ذكره ، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ، ويدير حميّاه على ضفة نهره ، ويخلع سره فيه لطاعة جهره ، ومعه أخواه فطاردوا اللذات حتى أنضوها ، ولبسوا برود السرور وما نضوها ، حتى صرعتهم العقار ، وطلّحتهم تلك الأوقار ، فلما همّ رداء الفجر أن يندى ، وجبين الصبح أن يتبدّى ، قام الوزير أبو محمد فقال : [الخفيف]

يا شقيقي وافى الصّباح بوجه

ستر اللّيل نوره وبهاؤه

فاصطبح واغتنم مسرّة يوم

لست تدري بما يجيء مساؤه

ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال : [الخفيف]

يا أخي قم تر النّسيم عليلا

باكر الرّوض والمدام شمولا

لا تنم واغتنم مسرّة يوم

إنّ تحت التّراب نوما طويلا

في رياض تعانق الزّهر فيها

مثل ما عانق الخليل الخليلا

__________________

(١) ارتج عليه : استغلق عليه الكلام.

(٢) في ج : ولكن ذا أشب على الطوق.

(٣) القلائد : ص ١٤٨.

(٤) في ب ، ج ، ه : واستطابة جنوب الشباب.


ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن ، وقد هبّ من غفلة الوسن (١) ، فقال : [البسيط]

يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي

قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا

وبادرا غفلة الأيّام واغتنما

فاليوم خمر ويبدو في غد خبر(٢)

وساق صاحب البدائع هذه القصة فقال : وذكر الفتح ما هذا معناه أنه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع ، وهو روض قد اخضرّت مسارح نباته ، واخضلّت مساري هبّاته ، ودمعت بالطلّ عيون أزهاره ، وذاب على زبرجده بلّور أنهاره ، وتجمعت فيها المحاسن المتفرّقة ، وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة ، فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو ، ونصول السواقي تحسم أدواء الشجر فلا تنبو ، والزروع قد نقّبت وجه الثرى ، وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى ، وكان المتوكل بن الأفطس يعده غاية الأرب ، ويعدّه مشهدا للطرب ، ومدفعا للكرب ، فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون فيه الخلود ، ويتحسّون (٣) ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود ، حتى تركتهم ابنة الخابية ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فلما هزم روميّ الصباح زنجيّ الظلام ، ونادى الديك حيّ على المدام ، انتبه كبيرهم أبو محمد مستعجلا ، وأنشد مرتجلا : يا شقيقي ـ إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته ، وتخوّف لذهاب ذلك الوقت وفوته ، وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل : يا أخي قم تر النسيم ـ إلى آخره. فانتبه أخوه لكلامه ، دافعا لذة منامه للذة قيامه ، وارتجل يا صاحبيّ ذرا ـ إلخ ، انتهى.

قال الفتح (٤) : ولما أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين بن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن بن اليسع القائد والمشي إليه ، والنزول عليه ، تنويها بمقدمه (٥) ، وتنبيها على حظوته لديه وتقدمه ، فصارا إلى بابه ، فوجداه مقفرا من حجّابه ، فاستغربا خلوّه من خول ، وظنّ كلّ واحد منهما وتأوّل ، ثم أجمعا على قرع الباب ، ورفع ذلك الارتياب ، فخرج وهو دهش ، وأشار إليهما بالتحية ويده ترتعش ، وأنزلهما خجلا ، ومشى بين أيديهما عجلا ، وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب ، وبارى الريح سرعة في الاحتجاب ، فقعدا ومقلة الخشف (٦) ، ترمق من خلال السّجف (٧) ، فانصرفا عنه ، وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه ، فكتبا إليه : [الهزج]

__________________

(١) الوسن ، بفتح الواو والسين : النوم.

(٢) أخذ هذا من قول امرئ القيس : اليوم خمر وغدا أمر.

(٣) يتحسون : يشربون جرعة بعد جرعة.

(٤) قلائد العقيان : ١٦٨.

(٥) في ب : لمقدمه.

(٦) الخشف ، بكسر فسكون : ولد الظبية.

(٧) السجف : الستر.


سمعنا خشفة الخشف

وشمنا طرفة الطّرف

وصدّقنا ولم نقطع

وكذبنا ولم ننف

وأغضينا لإجلال

ك عن أكرومة الظّرف

ولم تنصف وقد جئنا

ك ما ننهض من ضعف

وكان الحكم أن تحم

ل أو تردف في الرّدف(١)

فراجعهما في الحين (٢) بقطعة منها : [الهزج]

أيا أسفي على حال

سلبت بها من الظّرف(٣)

ويا لهفي على جهلي

بضيف كان من صنف(٤)

ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان ، ما لا يفي به لسان.

وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي ، بعد كلام ، ما صورته (٥) : فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيرة ، وترك الألباب بها متحيرة ، في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية ، قد اتخذوا المجد حلية ، والأمل قد سفر لهم عن محيّاه ، وعبق لهم عن ريّاه ، فصافحه الكل منهم وحيّاه ، وشمس الراح ، دائرة على فلك الراح ، والملك ينشر فضله ، وينصر وابله وطلّه ، يسدي العلاء ، ويهب الغنى والغناء ، فصدحت الغواني ، وأفصحت المثالث والمثاني ، بما استنزل من مرقب الوقار ، وسرى في النفوس مسرى العقار : [البسيط]

توريد خدّك للأحداق لذّات

عليه من عنبر الأصداغ لامات

نيران هجرك للعشّاق نار لظى

لكنّ وصلك إن واصلت جنّات

كأنّما الرّاح والرّاحات تحملها

بدور تمّ وأيدي الشّرب هالات

حشاشة ما تركنا الماء يقتلها

إلّا لتحيا بها منّا حشاشات

قد كان في كأسها من قبلها ثقل

فخفّ إذ ملئت منها الزّجاجات

عهد للبنى تقاضته الأمانات

بانت وما قضيت منها لبانات

يدني التوهّم للمشتاق منتزحا

من الأمور ، وفي الأوهام راحات

تقضى عدات إذا هبّ الكرى ، وإذا

هبّ النّسيم فقد تهدى تحيّات

__________________

(١) في ه : وكان الحق.

(٢) في بعض النسخ : فراجعهما أبو الحسن.

(٣) في ه. سللت بها.

(٤) في ه : بصنف كان من صنف.

(٥) القلائد : ١٨٣.


زور يعلّل قلب المستهام به

دهرا ، وقد بقيت في النّفس حاجات

لعلّ عتب اللّيالي أن يعود إلى

عتبى فتبلغ أوطار ولذّات

حتّى نفوز بما جاد الخيال به

فربما صدقت تلك المنامات

ولما أعرس المستعين بالله (١) ببنت الوزير الأجل أبي بكر بن عبد العزيز (٢) احتفل أبوه المؤتمن في ذلك احتفالا شهره ، وأبدع فيه إبداعا راق من حضره وبهره ، فإنه أحضر فيه من الآلات المبتدعة ، والأدوات المخترعة ، ما بهر الألباب ، وقطع بذكائه (٣) دون معرفتها الأسباب ، واستدعى إليه جميع أعيان الأندلس ، من دان وقاص ، ومطيع وعاص ، فأتوه مسرعين ، ولبوه متبرعين ، وكان مدير تلك الآراء ومدبّرها ، ومنشئ مخاطباتها ومحبّرها ، الوزير الكاتب أبو الفضل ، وصدرت عنه في ذلك الوقت كتب ظهر إعجازها ، وبهر اقتضابها وإيجازها ، فمن ذلك ما خاطب به صاحب المظالم أبا عبد الرحمن بن طاهر : محلك أعزك الله في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار ، وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار ، فالنفس فائزة منك بتمثّل الخاطر بأوفر الحظ ، والعين نازعة إلى إن تمتع من لقائك بظفر اللحظ ، فلا عائدة أسبغ بردا ، ولا موهبة أسوغ وردا ، من تفضلك بالخفوف (٤) إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه ، ويتصل بمحاضرتك انتظامه ولك فضل الإجمال ، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال ، وأنا أعزك الله على شرف سؤددك حاكم ، وعلى مشرع سنائك حائم ، وحسبي ما تتحقّقه من نزاعي وتشوّقي ، وتتيقنه من تطلعي وتتوقي ، وقد تمكن الارتياح باستحكام الثقة ، واعترض الانشراح بارتقاب الصلة (٥) ، وأنت وصل الله سعدك بسماحة شيمك ، وبارع كرمك ، تنشىء للمؤانسة عهدا ، وتوري بالمكارمة زندا ، وتقتضي بالمشاركة شكرا حافلا وحمدا ، لا زلت مهنّئا بالسعود المقتبلة (٦) ، مسوّغا اجتلاء غرر الأماني المتهللة ، بمنه ، انتهى.

ثم قال بعد هذا بيسير ، ما نصه : وركب المستعين بالله يوما نهر سرقسطة يريد طراد لذته ، وارتياد نزهته ، وافتقاد أحد حصونه المنتظمة بلبّته ، واجتمع له من أصحابه ، من اختصه لاستصحابه ، وفيهم أبو الفضل مشاهدا لانفراجهم ، سالكا لمنهاجهم ، والمستعين قد أحضر من

__________________

(١) أحمد بن محمد بن سليمان بن هود ، تولى الحكم بعد أبيه المؤتمن ، وبقي في الحكم حتى سنة ٥٠١.

(٢) أبو بكر بن عبد العزيز : كان وزيرا للمظفر عبد الملك بن منصور العامري.

(٣) بذكائه : غير موجودة في ب.

(٤) الخفوف : الإسراع.

(٥) في ب ، ج : واعترض الاقتراح باستحباب الصلة.

(٦) في ب ، ه : المقبلة.


آلات إيناسه ، وأظهر من أنواع ذلك وأجناسه ، ما راق من حضر ، وفاق حسنه الروض الأنضر ، والزوارق قد حفت به ، والتفّت بجوانبه ، ونغمات الأوتار تحبس السائر عن عدوه ، وتخرس الطائر المفصح بشدوه ، والسمك (١) تثيرها المكايد ، وتغوص إليها المصايد ، فتبرز منها للعين ، قضبان در أو سبائك لجين ، والراح لا يطمس لها لمع ، ولا يبخس منها بصر ولا سمع ، والدهر قد غضت صروفه ، واقتص من نكره معروفه ، فقال : [البسيط]

لله يوم أنيق واضح الغرر

مفضّض مذهب الآصال والبكر

كأنّما الدّهر لمّا ساء أعتبنا

فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر

نسير في زورق حفّ السّفين به

من جانبيه بمنظوم ومنتثر

مدّ الشّراع به نشرا على ملك

بذّ الأوائل في أيّامه الأخر(٢)

هو الإمام الهمام المستعين حوى

علياء مؤتمن عن هدي مقتدر

تحوي السّفينة منه آية عجبا

بحر تجمّع حتّى صار في نهر

تصاد من قعره النّينان مصعدة

صيدا كما ظفر الغوّاص بالدّرر(٣)

وللنّدامى به عب ومرتشف

كالرّيق يعذب في ورد وفي صدر

والشّرب في مدح مولى خلقه زهر

يذكو وغرّته أبهى من القمر

وقال في ترجمة العلامة الكبير ، الأستاذ أبي محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي شارح أدب الكتاب وسقط الزّند وغيرهما (٤) ، ما صورته : أخبرني أنه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية التي تطمح إليها المنى ، ومرآها هو المقترح والمتمنى ، والمأمون قد احتبى ، وأفاض الحبا ، والمجلس يروق كأن الشّمس (٥) في أفقه ، والبدر في مفرقه (٦) ، والنّور عبق ، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق ، والدولاب يئن كناقة إثر الحوار (٧) ، أو كثكلى من حر الأوار ، والجوّ قد عنبرته أنواؤه ، والروض قد رشّته أنداؤه ، والأسد قد فغرت أفواهها ، ومجت أمواهها ، فقال : [المنسرح]

__________________

(١) في ب ، ه : السمك (بإسقاط الواو).

(٢) بذ الأوائل : فاقهم وسبقهم.

(٣) النينان : جمع نون ، وهو الحوت.

(٤) سقط الزند : من تأليف أبي العلاء المعري. وأدب الكتاب : من تأليف أبي بكر محمد بن يحيى الصولي.

(٥) في ب ، ج : كالشمس في أفقه.

(٦) في ب : والبدر كالتاج في مفرقه.

(٧) الحوار ، بضم الحاء : ولد الناقة منذ ولادته حتى فطامه.


يا منظرا إن نظرت بهجته

أذكرني حسن جنّة الخلد

تربة مسك ، وجوّ عنبرة ،

وغيم ندّ ، وطشّ ما ورد

والماء كاللّازورد قد نظمت

فيه اللآلي فواغر الأسد

كأنّما جاثل الحباب به

يلعب في جانبيه بالنّرد

تراه يزهو إذا يحلّ به ال

مأمون زهو الفتاة بالعقد(١)

تخاله إن بدا به قمرا

تمّا بدا في مطالع السّعد

كأنّما ألبست حدائقه

ما حاز من شيمة ومن مجد

كأنّما جادها فروّضها

بوابل من يمينه رغد

لا زال في رفعة مضاعفة

متمّم الرّفد واري الزّند(٢)

وقال في وصف هذا المجلس بعينه ، في الكتاب الذي أفرده لترجمة ابن السيد ما صورته : فمن ذلك أنه حضر مع القادر بالله بن ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق ، المباهية لزوراء العراق ، التي ينفح شذاها العطر ، ويكاد من الغضارة يمطر ، والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوقار وارتداه ، وحكم العقار في جوده ونداه ، والمجلس يشرق كالشمس في الحمل ، ومن حواه يبتهج كالنفس عند منال الأمل ، والزهر عبق ، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق ، والدولاب يئن كناقة إثر حوار ، إلى آخر ما سبق.

وقال الفضل (٣) في وصف هذا المجلس حاذيا حذو الفتح ، ما صورته : حضر الأستاذ أبو محمد بن السيد أبو محمد بن السيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته في وقت طاب نعيمه ، وسرت بالسعود نجومه ، والروض قد أجاد وشيه راقمه ، والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه ، وثم بركة مملوة ، كأنها مرآة مجلوة ، قد اتخذت سباع الصّفر بشاطئها غابا ، ومجّت بها من سائغ الماء لعابا ، فكأنها آساد عين ، أدلعت ألسنة من لجين ، وهي لا تزال تقذف الماء ولا تفتر ، وتنظم لآلي الحباب بعد ما تنثر ، فأمره بوصف ذلك الموضع ، الذي تخد (٤) إليه ركائب القلوب وتوضع (٥) ، فقال بديها يا منظرا إلخ ، انتهى.

ثم قال الفتح في هذا التصنيف بعد كلام في المذكور ، ما نصه : وما أبدع قوله في وصف

__________________

(١) في ه : تراه يزهى.

(٢) في ه : لا زال في عزه.

(٣) في ه : وقال ابن ظافر.

(٤) وخد الجمل : أسرع ورمى بأرجله كالنعام.

(٥) أوضعت الناقة : أسرعت. وأوضعتها : جعلتها تسرع.


الراح ، والحضّ على النبذ للهموم والاطّراح ، بمعاطاة كأسها ، وموالاة إيناسها ، ومعاقرة دنانها ، واهتصار ثمار الفتوّة من أفنانها (١) ، والإعراض عن الأيام وأنكادها ، والجري في ميدان الصّبوة إلى أبعد آمادها : [الكامل]

سلّ الهموم إذا نبا زمن

بمدامة صفراء كالذّهب

مزجت فمن درّ على ذهب

طاف ومن حبب على لهب

وكأنّ ساقيها يثير شذى

مسك لدى الأقوام منتهب

ولله هو فقد ندب إلى المندوب ، وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب ، وإبرائها من الآلام ، وإهدائها كلّ تحية وسلام ، وإبهاجها بآصال وبكر ، وعلاجها من هموم وفكر ، في زمن حلي عاطله ، وجلّي في أحسن الصور باطله ، ونفقت محالاته (٢) ، وطبقت أرضه وسماءه استحالاته ، فليثه كأسد ، وذئبه مستأسد وأضغاثه تنسر (٣) ، وبغاثه قد استنسر (٤) ، فلا استراحة إلا في معاطاة حميّا ، ومواخاة وسم المحيّا (٥) ، وقد كان ابن عمار ذهب مذهب ، وفضّضه بالإبداع وذهّبه ، حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها ، وتكاثف جهلها ، وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلا ، وواصل من لا يعرف قطعا ولا وصلا ، فأقبل على راحه يتعاطاها ، وعكف عليها ما تعدّاها ولا تخطّاها ، حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار ، وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار (٦) ، فقال : [الطويل]

نقمتم عليّ الرّاح أدمن شربها

وقلتم فتى راح وليس فتى مجد

ومن ذا الّذي قاد الجياد إلى الوغى

سواي ومن أعطى كثيرا ولم يكد؟(٧)

فديتكمو لم تفهموا السّرّ ، إنّما

قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي

 (٨) ودعى ابن السيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب ، وقرع فيه السرور نبعه بالغرب ، ولاحت نجوم أكواسه ، وفاح نسيم رنده وآسه ، وأبدت صدور أباريقه أسرارها ،

__________________

(١) الأفنان : جمع فنن ، وهو الغصن. وفي ب : وأفنانها.

(٢) نفقت حالاته : راجت.

(٣) في ب : وحفّاثه تنمر.

(٤) أخذه في المثل : إن البغاث بأرضنا تستنسر.

(٥) في ب : وسيم المحيا.

(٦) ذو الفقار : سيف الإمام علي بن أبي طالب.

(٧) أكدى : لم يظفر بحاجته.

(٨) قليتكم : كرهتكم.


وضمت عليه المجالس أزرارها ، والراح يديرها أهيف أوطف (١) ، والأماني تجنى وتقطف ، فقال: [الكامل]

يا ربّ ليل قد هتكت حجابه

بمدامة وقّادة كالكوكب

يسعى بها أحوى الجفون كأنّها

من خدّه ورضاب فيه الأشنب

بدران بدر قد أمنت غروبه

يسعى ببدر جانح للمغرب

فإذا نعمت برشف بدر غارب

فانعم برشفة طالع لم يغرب

حتّى ترى زهر النّجوم كأنّها

حول المجرّة ربرب في مشرب

واللّيل منفجر يطير غرابه

والصّبح يطرده بباز أشهب(٢)

ثم قال الفتح ، بعد كلام كثير ، ما صورته : ودخل ـ يعني ابن السيد ـ سرقسطة أيام المستعين وهي جنة الدنيا ، وفتنه المحيا ، ومنتهى الوصف ، وموقف السرور القصف ، ملك نمير البشاشة ، كثير الهشاشة ، وملك أبهج الفناء ، أرج الأرجاء ، يروق المجتلى ، ويفوق النجم المعتلى ، وحضرة منسابة الماء ، منجابة السماء ، يبسم زهرها ، وينساب نهرها ، وتتفتح خمائلها ، وتتضوع صباها وشمائلها ، والحوادث لا تعترضها ، والكوارث لا تقترضها (٣) ، ونازلها من عرس إلى موسم ، وآملها متصل بالأماني ومتّسم ، فنزل منها في مثل الخورنق والسدير ، وتصرف فيها بين روضة وغدير ، فلم يخف على المستعين احتلاله ، ولم تخفّ لديه خلاله ، فذكره معلما به ومعرفا ، وأحضره منوّها به ومشرفا ، وقد كان فر من ابن رزين ، فرار السرور من نفس الحزين ، وخلص من اعتقاله ، خلوص السيف من ثقاله (٤) ، فقال يمدحه (٥) : [الطويل]

هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا

بأقمار أطواق مطالعها بان

لئن غادروني باللّوى إنّ مهجتي

مسايرة أظعانهم حيثما كانوا

سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم

ينازعها نهر من الدّمع هتّان

أأحبابنا هل ذلك العهد راجع

وهل لي عنكم آخر الدّهر سلوان

ولي مقلة عبرى وبين جوانحي

فؤاد إلى لقياكم الدّهر حنّان

 __________________

(١) الأوطف : طويل أهداب العين.

(٢) في ب ، ه : والليل منحفز.

(٣) في ب ، ه : لا تقرضها ، وهما بنفس المعنى.

(٤) في ب : صقاله.

(٥) القلائد : ١٩٩.


تنكّرت الدّنيا لنا بعد بعدكم

وحفّت بنا من معضل الخطب ألوان

أناخت بنا في أرض شنتمريّة

هواجس ظنّ خان والظّنّ خوّان

وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت

نواظرنا دهرا ولم يهم تهتان

فسرنا وما نلوي على متعذّر

إذا وطن أقصاك آوتك أوطان

ولا زاد إلّا ما انتشته من الصّبا

أنوف وحازته من الماء أجفان

رحلنا سوام الحمد منها لغيرها

فلا ماؤها صدّا ولا النّبت سعدان(١)

إلى ملك حاباه بالمجد يوسف

وشاد له البيت الرّفيع سليمان

إلى مستعين بالإله مؤيّد ،

له النّصر حزب والمقادير أعوان

جفتنا بلا جرم كأنّ مودّة

ثنى نحونا منها الأعنّة شنآن(٢)

ولو لم تفد منّا سوى الشّعر وحده

لحقّ لنا برّ عليه وإحسان

فكيف ولم نجعل بها الشّعر مكسبا

فيوجب للمكدي جفاء وحرمان

ولا نحن ممّن يرتضي الشّعر خطّة

وإن قصرت عن شأونا فيه أعيان

ومن أوهمته غير ذاك ظنونه

فثمّ مجال للمقال وميدان

خليليّ من يعدي على زمن له

إذا ما قضى حيف عليّ وعدوان

وهل ريء من قبلي غريق مدامع

يفيض بعينيه الحيا وهو حرّان(٣)

وهل طرفت عين لمجد ولم يكن

لها مقلة من آل هود وإنسان

بوجه ابن هود كلّما أعرض الورى

صحيفة إقبال لها البشر عنوان

فتى المجد في برديه بدر وضيغم

وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان(٤)

من النّفر الشّمّ الّذين أكفّهم

غيوث ولكنّ الخواطر نيران

ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى

هزبر بيمناه من السّمّ ثعبان

وهل فوق ما قد شاد مقتدر لهم

ومؤتمن بالله لقياه إيمان(٥)

__________________

(١) أخذ الشاعر البيت من المثل : ماء لا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك.

(٢) الشنآن : الكراهية.

(٣) ريء : أصلها : رئي. والحيا : المطر. وحرّان : شديد العطش.

(٤) الضيغم : الأسد.

(٥) الهزبر : الأسد. وفي ب : من السمر ثعبان.


ألا ليس فخر في الورى غير فخرهم

وإلّا فإنّ الفخر زور وبهتان

فيا مستعينا مستغاثا لمن نبا

به وطن يوما وعضّته أزمان (١)

كسوتك من نظمي قلادة مفخر

يباهي بها جيد المعالي ويزدان (٢)

وإن قصرت عمّا لبست فربّما

تجاور درّ في النّظام ومرجان

معان حكت غنج الحسان كأنّني

بهن حبيب أو بطليوس بغدان (٣)

إذا غرست كفّاك غرس مكارم

بأرضي أحنتك الثّنا منه أغصان (٤)

وقال في وصف مجلس لأبي عيسى بن لبّون أحضر إليه ابن السيد منوها بقدره ، ما صورته :

وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل ، وقام لفرط أنسه واحتفل ، قد بانت صروفه ، ودنت من الزائر قطوفه ، وقال : هل بنا إلى الاجتماع بمذهبك ، والاستمتاع بما شئته من براعة (٥) أدبك ، فأقاموا يعملون كأسهم ، ويصلون إيناسهم ، وباتوا ليلتهم (٦) ما طرقهم نوم ، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم.

ثم قال بعد كلام كثير : وحضر ابن السيد عند عبد الرحمن الظافر بن ذي النون مجلسا رفعت فيه المنى لواءها ، وخلعت عليه أضواءها ، وزفّت إليه المسرات أبكارها ، وفارقت إليه الطير أوكارها ، فقال يصف (٧) : [الرجز]

لم تر عيني مثله ولا ترى

أنفس في نفسي وأبهى منظرا

إذا تردّى وشيه المصوّرا

من حوك صنعاء وحوك عبقرا

ونسج قرقوب ونسج تسترا

خلت الرّبيع الطّلق فيه نوّرا (٨)

__________________

(١) في ب ، ه : فيا مستعينا مستعانا.

(٢) في ب : جيد الزمان ويزدان.

(٣) بغدان : بغداد.

(٤) في ب : أجنتك الثنا.

(٥) في ب : ه : ببراعة أدبك.

(٦) في ب ، ه : باتوا ليلهم.

(٧) في ب ، ورد البيت التالي ، أولا :

ومجلس جم الملاهي أزهرا

ألذّ في الأجفان من طعم الكرى

(٨) قرقوب : بين واسط والأهواز. وتستر : مدينة بخوزستان.


كأنّما الإبريق حين قرقرا

قد أمّ لثم الكأس حين فغرا(١)

وحشيّة ظلّت تناغي جؤذرا

ترضعه الدّرّ ويرنو حذرا(٢)

كأنّما مجّ عقيقا أحمرا

أوفتّ من ريّاه مسكا أذفرا

أو عابد الرّحمن يوما ذكرا

فنمّ مسكا ذكره وعنبرا

أو عابد الرّحمن يوما ذكرا

فنمّ مسكا ذكره وعنبرا

الظّافر الملك الّذي من ظفرا

بقربه نال العلاء الأكبرا

لو أنّ كسرى راءه أو قيصرا

هلّل إكبارا له وكبّرا

تبدي سماء الملك منه قمرا

إذا حجاب المجد عنه سفرا

يا أيّها المنضي المطايا بالسّرى

تبغى غمام المكرمات الممطرا

وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم بن العطار ، ما صورته :

هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها ، العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها ، لو لا مواصلة راحاته ، وتعطيل بكره وروحاته ، وموالاته للفرج ، ومغالاته في عرف الأنس والأرج (٣) ، لا يعرّج إلا على ضفة نهر ، ولا يبتهج (٤) إلا بقطعة زهر ، ولا يحفل بملام ، ولا يتنقل إلا في طاعة غلام ، ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة ، مغرم بالحسان غرام يزيد (٥) بحبابة ، لا تراه إلا في ذمة انهماك ، ولا تلقاه إلا في لمّة انهتاك ، رافعا لرايات الهوى ، فارعا لثنيّات الجوى ، لا يقفر فؤاده من كلف ، ولا يبيت إلا رهن تلف ، أكثر خلق الله تعالى علاقة ، وأحضرهم لمشهد خلاقة ، مع جزالة تحرك السكون ، وتضحك الطير في الوكون ، وقد أثبتّ له مما ارتجله (٦) في أوقات أنسه وساعاته ، ونفث (٧) به أثناء زفراته ولوعاته ، فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه ، وارتضاعه لثغور اللذات وارتشافه : [الطويل]

عبرنا سماء النّهر والجوّ مشرق

وليس لنا إلّا الحباب نجوم

وقد ألبسته الأيك برد ظلالها

وللشّمس في تلك البرود رقوم

__________________

(١) قرقر الإبريق : صوّت.

(٢) الجؤذر : ولد البقرة الوحشية.

(٣) في ب ، ه : في عرف للأنس أو أرج.

(٤) في ب ، ه : لا يلهج.

(٥) يزيد : هو يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وحبابة : جارية كانت له وقد أغرم بها.

(٦) في ه : وقد أثبت له ما يرتجله.

(٧) في ب : وينفث به.


وله فيه : [الطويل]

مررنا بشاطي النّهر بين حدائق

بها حدق الأزهار تستوقف الحدق

وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة

عليه وما غير الحباب لها حلق

وله : [الخفيف]

هبّت الرّيح بالعشيّ فحاكت

زردا للغدير ناهيك جنّه

وانجلى البدر بعد هدء فصاغت

كفّه للقتال منه أسنّه

وقوله : [الكامل]

لله بهجة منزه ضربت به

فوق الغدير رواقها الأنسام(١)

فمع الأصيل النّهر درع سابغ

ومع الضّحى يلتاح منه حسام

وله : [الكامل]

ما كالعشيّة في رواء جمالها

وبلوغ نفسي منتهى آمالها

ما شئت شمس الأرض مشرقة السّنى

والشّمس قد شدّت مطيّ رحالها

في حيث تنساب المياه أراقما

وتعيرك الأفياء برد ظلالها

وله : [الكامل]

لله حسن حديقة بسطت لنا

منها النّفوس سوالف ومعاطف

تختال في حلل الرّبيع وحليه

ومن الرّبيع قلائد ومطارف

وقال الفتح في ترجمة ابن عمار : أخبرني ذو الوزارتين الأجل أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر معه عند المؤتمن في يوم جادت فيه السماء بهطلها ، وأتبعت وبلها بطلّها ، وأعقب (٢) رعدها برقها ، وانسكب دراكا ودقها ، والأزهار قد تجلت من كمامها (٣) ، وتحلّت بدرّ غمامها ، والأشجار قد جلي صداها ، وتوشّحت بنداها ، وأكؤس الراح كأنها كواكب تتوقد ، تديرها أنامل تكاد من اللطافة تعقد ، إذا بفتى من فتيان المؤتمن أخرس لا يفصح ، ومستعجم لا يبين ولا يوضح ، متنمر تنمّر الليث ، متشمر كالبطل الفارس عند العيث (٤) ، وقد أفاض على نفسه درعا ، تضيق بها الأسنة ذرعا ، وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجه (٥) إلى موضع بعثه إليه ووجّهه ،

__________________

(١) في ب : الأنشام.

(٢) في ج : وارتقب رعدها برقها.

(٣) في ج : من أكمامها.

(٤) في ب : عند الغيث. والعيث : الإفساد.

(٥) في العلائق ، ه : في الخروج.


وكل من صده عنه نهره ونجهه (١) ، حتى وصل إلى مكان انفراده ، ووقف بإزاء وساده ، فلما وقعت عين ابن عمّار عليه ، أشار بيده إليه ، وقرّبه واستدناه (٢) ، وضمه إليه كأنه تبنّاه ، وأراد (٣) أن يخلع عنه ذلك الغدير ، وأن يكون هو الساقي والمدير ، فأمره المؤتمن بخلعه ، وطاعة أمره وسمعه ، فنضاه عن جسمه ، وقام يسقي على حكمه ورسمه ، فلما دبت فيه الحميّا (٤) ، وشبت غرامه بهجة ذلك المحيّا واستنزلته سورة العقار ، من مرقب الوقار ، قال : [الكامل]

وهويته يسقي المدام كأنّه

قمر يدور بكوكب في مجلس

متأرّج الحركات تندى ريحه

كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس

يسعى بكأس في أنامل سوسن

ويدير أخرى من محاجر نرجس

يا حامل السّيف الطّويل نجاده

ومصرّف الفرس القصير المحبس

إيّاك بادرة الوغى من فارس

خشن القناع على عذار أملس

جهم وإن حسر اللّثام فإنّما

كشف الظلام عن النّهار المشمس(٥)

يطغى ويلعب في دلال عذاره

كالمهر يمرح في اللّجام المجرس(٦)

سلّم فقد قصف القنا غصن النّقا

وسطا بليث الغاب ظبي المكنس(٧)

عنّا بكاسك ، قد كفتنا مقلة

حوراء قائمة بسكر المجلس

وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله : حضر أبو المطرّف بن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه ، ورمى بنبل ودقه ، وتحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها ، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها ، والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح ، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ، ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه ، وأخجل خدّها حسنا فتظلل بعرق حبابه ، إذا بفتى روميّ (٨) من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعا كالبدر اجتاب سحابا ، والخمر قد اكتست حبابا ، (٩) وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع قد (١٠) كان عوّل فيه عليه ، وأمره أن

__________________

(١) نجهه : استقبله بما يكره.

(٢) استدناه : قرّبه.

(٣) في ب : وحد أن يخلع.

(٤) الحميا : الخمر.

(٥) في ه : جهم وإن حسر القناع.

(٦) المجرس : الذي له صوت كصوت الجرس.

(٧) المكنس : مأوى الغزلان.

(٨) رومي : غير موجودة في ب.

(٩) الحباب : الفقاقيع التي تظهر على ظهر الخمر أو الماء.

(١٠) قد : غير موجودة في ب.


يتوجّه إليه ، فحين لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبه ، وبثّ سراياه في ضواحي قلبه ، جدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص (١) ، وأن يجلّي عنه سهكه كما يجلّى الخبث عن الخلاص (٢) ، وأن يكون هو الساقي ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله ، واحتذاء مثاله (٣) ، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ، ورميت شياطين النفوس من كميت المدام بشهبها ، ارتجل ابن عمار : وهويته ـ الخ :

إلا أنه قال إثر قوله : إياك بادرة الوغى من فارس ما صورته : يضع السنان على العذار الأملس ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد ، وهي (٤) : [الكامل]

در المدامة فالنّسيم قد انبرى

والنّجم قد صرف العنان عن السّرى

والصّبح قد أهدى لنا كافوره

لمّا استردّ اللّيل منّا العنبرا

والرّوض كالحسنا كساه زهره

وشيا وقلّده نداه جوهرا

أو كالغلام زها بورد خدوده

خجلا وتاه بآسهنّ معذّرا

روض كأنّ النّهر فيه معصم

صاف أطلّ على رداء أخضرا

وتهزّه ريح الصّبا فتخاله

سيف ابن عبّاد يبدّد عسكرا

عبّاد المخضرّ نائل كفّه

والجوّ قد لبس الرّداء الأغبرا

ملك إذا ازدحم الملوك بمورد

ونحاه لا يردون حتّى يصدرا

أندى على الأكباد من قطر النّدى

وألذّ في الأجفان من سنة الكرى

يختار إذ يهب الخريدة كاعبا

والطّرف أجرد والحسام مجوهرا(٥)

قدّاح زند المجد لا ينفكّ من

نار الوغى إلا إلى نار القرى

لا خلق أفرى من شفار حسامه

إن كنت شبّهت المواكب أسطرا(٦)

__________________

(١) الدلاص : اللين البراق.

(٢) السهك : الرائحة الكريهة.

(٣) في ج : واحتذاء أمثاله.

(٤) انظر قلائد العقيان ص ٩٦.

(٥) الخريدة : الفتاة البكر الحسناء. والكاعب : من ظهر ثدياها. والطرف : الفرس الكريم ، والأجرد : القصير الشعر.

(٦) في ب : لا خلق أقرأ.


أيقنت أنّي من ذراه بجنّة

لمّا سقاني من نداه الكوثرا

وعلمت حقّا أنّ ربعي مخصب

لمّا سألت به الغمام الممطرا (١)

من لا توازنه الجبال إذا احتبى

من لا تسابقه الرّياح إذا جرى

ماض وصدر الرّمح يكهم والظّبا

تنبو وأيدي الخيل تعثر في الثّرى (٢)

قاد الكتائب كالكواكب فوقهم

من لأمهم مثل السّحاب كنهورا(٣)

من كلّ أبيض قد تقلّد أبيضا

عضبا وأسمر قد تقلّد أسمرا

ملك يروقك خلقه أو خلقه

كالرّوض يحسن منظرا أو مخبرا

أقسمت باسم الفضل حتّى شمته

فرأيته في بردتيه مصوّرا

وجهلت معنى الجود حتّى زرته

فقرأته في راحتيه مفسّرا

فاح الثّرى متعطّرا بثنائه

حتّى حسبنا كلّ ترب عنبرا

وتتوّجت بالزّهر صلع هضابه

حتّى ظننا كل هضب قيصرا

هصرت يدي غصن الغنى من كفّه

وجنت به روض السّرور منوّرا

أيقنت أنّي من ذراه بجنّة

لمّا سقاني من نداه الكوثرا

هصرت يدي غصن الغنى من كفّه

وجنت به روض السّرور منوّرا

حسبي على الصّنع الّذي أولاه أن

أسعى بجد أو أموت فاعذرا

يا أيّها الملك الّذي حاز العلا

وحباه منه بمثل حمدي أنورا

السّيف أفصح من زياد خطبة

في الحرب إن كانت يمينك منبرا (٤)

ما زلت تغني من عنا لك راجيا

وحباه منه بمثل حمدي أنورا

ما زلت تغني من عنا لك راجيا

نيلا وتفني من عتا وتجبّرا (٥)

حتّى حللت من الرّياسة محجرا

رحبا وضمّت منك طرفا أحورا

شقيت بسيفك أمّة لم تعتقد

إلّا اليهود وإن تسمّت بربرا

أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم

لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا

وصبغت درعك من دماء كماتهم

لمّا علمت الحسن يلبس أحمرا(٦)

وإليكها كالرّوض زارته الصّبا

وحنا عليه الظّلّ حتّى نوّرا

__________________

(١) في ه ، والقلائد : لما أسال به الغمام الممطرا.

(٢) كهم الرمح : لم يقطع. والظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.

(٣) اللأم : جمع لأمة ، وهي عدة الحرب. والكنهور : قطع السحاب.

(٤) زياد : هو زياد ابن أبيه ، وكان فصيحا بعيدا عن اللحن.

(٥) عنا : أسر ، وافتقر.

(٦) الكماة : جمع كمي : اللابس سلاحه ، الشجاع.


نمّقتها وشيا بذكرك مذهبا

وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا

من ذا ينافحني وذكرك مندل

أوردته من نار فكري مجمرا

فلئن وجدت نسيم مدحي عاطرا

فلقد وجدت نسيم برّك أعطرا

وقال في ترجمة عبد الجليل بن وهبون المرسي (١) : ركب بإشبيلية زورقا في نهرها الذي لا تدانيه الصّراة (٢) ، ولا يضاهيه الفرات ، في ليلة تنقبت في ظلمتها (٣) ، ولم يبد وضح في دهمتها ، وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجة ، وزاد في تلك البهجة ، فقال : [المنسرح]

كأنّما الشّمعتان إذ سمتا

خدّا غلام محسّن الغيد

وفي حشا النّهر من شعاعهما

طريق نار الهوى إلى كبدي

وكان معه غلام البكري معاطيا للراح ، وجاريا في ميدان ذلك المراح ، فلما جاء عبد الجليل بما جاء ، وحلّى للإبداع الجوانب والأرجاء ، حسده على ذلك الارتجال ، وقال بين البطء والاستعجال : [الكامل]

أعجب بمنظر ليلة ليلاء

تجنى بها اللّذّات فوق الماء

في زورق يزهو بغرّة أغيد

يختال مثل البانة الغيناء(٤)

قرنت يداه الشّمعتين بوجهه

كالبدر بين النّسر والجوزاء

والتاح تحت الماء ضوء جبينه

كالبرق يخفق في غمام سماء(٥)

وقال الفتح رحمه الله (٦) : دعيت يوما إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية ، وهي منتهى الجمال ، ومزدهى الصبا والشمال ، على وهي بنائها ، وسكنى الحوادث برهة بفنائها ، فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه ، والحسن قد شرح بها عويصه (٧) ، وبوسطها مجلس قد تفتحت للروض أبوابه ، وتوشّحت بالأزر الذهبية أثوابه ، يخترقه جدول كالحسام المسلول ،

__________________

(١) القلائد ص ٢٤٢.

(٢) الصراة : اسم لنهرين في بغداد ؛ الصراة الكبرى ، والصراة الصغرى (انظر معجم البلدان ج ٣ ص ٣٩٩).

(٣) في ب ، ه : بظلمتها.

(٤) الغيناء : الخضراء الكثيرة الأغصان.

(٥) التاح : لاح وظهر.

(٦) القلائد ص ٦٨.

(٧) عويصة : صعبة.


وينساب فيه انسياب الأيم في الطلول (١) ، وضفّاته بالأدواح محفوفة ، والمجلس يروق كالخريدة المزفوفة ، وفيه يقول علي بن أحمد أحد شعرائها ، وقد حله مع طائفة من وزرائها : [المنسرح]

قم فاسقني والرّياض لابسة

وشيا من النّور حاكه القطر(٢)

في مجلس كالسّماء لاح به

من وجه من قد هويته بدر

والشّمس قد عصفرت غلائلها

والأرض تندى ثيابها الخضر

والنّهر مثل المجرّ حفّ به

من النّدامى كواكب زهر

فحللت ذلك المجلس وفيه أخدان ، كأنهم الولدان ، وهم في عيش لدن (٣) ، كأنهم في جنة عدن ، فأنخت لديهم ركائبي وعقلتها ، وتقلدت بهم رغائبي واعتقلتها ، وأقمنا نتنعم بحسنه طول ذلك اليوم ، ووافى الليل فذدنا عن الجفون طروق النوم ، وظللنا بليلة كأن الصبح منها مقدود ، والأغصان تميس كأنها قدود ، والمجرة تتراءى نهرا ، والكواكب تخالها في الجو زهرا ، والثريا كأنها راحة تشير ، وعطارد لنا بالطرب بشير ، فلما كان من الغد وافيت الرئيس أبا عبد الرحمن زائرا ، فأفضنا في الحديث إلى أن أفضى بنا إلى ذكر منتزهنا بالأمس ، وما لقينا فيه من الأنس ، فقال لي : ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب ، وسلب الزمان بهجته وانتهب ، وباد فلم يبق إلا رسمه ، ومحاه الحدثان فما كاد يلوح رسمه (٤) ، عهدي به عند ما فرغ من تشييده ، وتنوهي في تنسيقه وتنضيده ، وقد استدعاني إليه المنصور في وقت (٥) حلت فيه الشمس برج شرفها ، واكتسب فيه (٦) الأرض بزخرفها ، فحللت به والدوح تميس معاطفه ، والنّور يخجله قاطفه ، والمدام تطلع به وتغرب ، وقد حل فيه (٧) قحطان ويعرب ، وبين يدي المنصور مائة غلام ما يزيد أحدهم على العشر غير أربع ، ولا يحل غير الفؤاد من مربع ، وهم يديرون رحيقا ، خلتها في كأسها درّا أو عقيقا ، فأقمنا والشهب تغازلنا ، وكأن الأفلاك منازلنا ، ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفا من صلات متصلات ، وأقطع ضياعا ثم توجع لذلك العهد ، وأفصح بما بين ضلوعه من الوجد ، وقال : [الكامل]

سقيا لمنزلة اللّوى وكثيبها

إذ لا أرى زمنا كأزماني بها

وما أحسن ما كتب به الفتح إلى بعض الملوك يصف نزهة ببعض منتزهات الأندلس المونقة ، ويذكر استضاءته فيها بشموس المسرة المشرقة ، وهو :

__________________

(١) الأيم : الحية الذكر ، جمع أيوم.

(٢) في ب ، ه : قم سقّني.

(٣) الأخدان : الأصدقاء ، واللدان : ناعم ، لين.

(٤) في ب : وسمه.

(٥) في ب ، ه : في يوم.

(٦) في ب : واكتست الأرض.

(٧) في ب : وقد حل به.


أطال الله سبحانه بقاء ناصر الدولة ، ومحيي الملة ، الذي حسن بلقياه العيش ، وتزين بمحياه الجيش ، وراق باسمه الملك ، وجرت بسعده الفلك ، وأنار به الليل الدامس (١) ، ولاح له الأثر الطامس (٢) ، وجرى الدهر لسطوته خائفا ، وغدا السعد بعقوته طائفا ، والزمان ببرود علياه ملتحف ، ولثغور نداه مرتشف ، ولا زال للمجد يتملكه ، والسعد يحمله فلكه ، أما وقد وافقتني أيامه أيده الله سبحانه وفاقا ، ورأيت للبيان عنده نفاقا (٣) ، فلا بد أن أرسل كتائبه أفواجا ، وأفيض من بحره أمواجا ، وأصف ما شاهدته من اقتداره ، وعاينته من حسن إيراده وإصداره ، بمقال أفصح من شكوى المحزون ، وأملح من رياض الحزون ، وقد كنت أيدكم الله تعالى كلفا بالدول وبهائها ، لهجا بالبلوغ إلى انتهائها ، لأجد دولة أرتضيها ، وحظوة علياء أقتضيها ، فكل ملك فاوضته سرا وجهرا ، وكل ملك قلبته بطنا وظهرا ، والنفس تصدّ عنه صدود الجبان عن الحرب ، والملائكة الكرام عن الشرب ، إلى أن حصلت لديه ، ووصلت بين يديه ، فقلت : الآن أمكن من راح البغية الانتشاء ، وتمثلت (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [فاطر الآية : ٣٤ ، الزمر ٧٤] وما زلت أسايره حيث سار ، وآخذ اليمين تارة وتارة اليسار ، وكل ناحية تسفر لي عن خدّ روض أزهر ، وعذار نبت أخضر ، وتبسم عن ثغر حباب ، في نهر كالحباب ، وترفل من الربيع في ملابس سندسيات ، وتهدي إلينا نوافح مسكيات ، وتزهى بهجتها بأحسن منظر ، وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب الأنضر (٤) ، فجلنا فيها يمينا وشمالا ، واستخبرنا عن أسرارها صبا وشمالا ، ثم مال بنا أيده الله تعالى عن هذه المسارح السنية ، والمنازل البهيّة ، إلى إحدى ضياعه الحالية ، وبقاعه العالية ، فحللناها والأيم قد عري من جلبابه ، واليوم قد اكتهل بعد شبابه ، فنزلنا في قصور يقصر عنها جعفريّ جعفر (٥) ، وقصور بني الأصفر ، تهدي من لبّاتها بردا محبرا ، وتبدي من شذاها مسكا وعنبرا ، وقد لاحت من جوانبها نجوم أكواس لو رآها أبو نواس لجعلها شعاره ، ووقف على نعتها أشعاره ، ولم يتخذ سواها نجعة ، ولا نبه خمّاره بعد هجعة ، فتعاطيناها والسعد لنا خادم ، وما غير السرور علينا قادم ، وخدود سقاتها قد اكتست من سناها ، وقدودهم تتهيل علينا بجناها ، ونحن بين سكر وصحو ، وإثبات لها ومحو ، وإصاخة إلى بمّ وزير (٦) ، والتفاتة إلى ملك

__________________

(١) الليل الدامس : الشديد الظلام.

(٢) الأثر الطامس : المتغير الذي انمحى وعفا.

(٣) النفاق ، بفتح النون : الرواج والقبول.

(٤) في ه : من برد الشباب الأخضر.

(٥) جعفر : هو المتوكل ، الخليفة العباسي ، والجعفري : قصره.

(٦) البم : أغلظ أوتار العود. والزير : الدقيق من أوتار آلات الطرب كالعود وغيره.


ووزير ، إلى أن ولى النهار فحيانا ، وأقبل الليل المميت فأحيانا ، فوصلنا بلهو وقصف ، وعيش يتجاوز كلّ وصف ، فكأن يومنا مقيم ، أو كأن ليلنا من الظلام عقيم ، ولما سل الفجر حسامه ، وأبدى لعبوس الليل ابتسامه ، وجاء يختال اختيالا ، ويمحو من بقايا الليل نيالا ، قمنا نتنادب للمسير ، وكلنا في يد النشوة أسير ، فسرنا والملك الأجل يقدمنا ، والأيام تخدمنا ، فلا زالت الأيام به زاهية ، وعن سواه لاهية ، ما عمر وكرا عقاب ، وكان للشهور غرر وأعقاب ، انتهى.

وقال الفتح في ترجمة الراضي بالله أبى خالد يزيد بن المعتمد بن عباد بعد كلام ما صورته : وأخبرني المعتدّ بالله أن أباه المعتمد (١) وجّهه ـ يعني أخاه الراضي ـ إلى شلب واليا ، وكانت ملعب شبابه ، ومألف أحبابه ، التي عمر نجودها غلاما ، وتذكر عهودها أحلاما ، وفيها يقول يخاطب ابن عمار وقد توجه إليها : [الطويل]

ألا حيّ أوطاني بشلب أبا بكر

وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري

وسلّم على قصر الشّراجيب من فتى

له أبدا شوق إلى ذلك القصر

وقصر الشراجيب هذا متناه في البهاء والإشراق ، مباه لزوراء العراق ، ركضت فيه جياد راحاته ، وأومضت بروق أمانيه في ساحاته ، وجرى الدهر مطيعا بين بكره وروحاته ، أيام لم تحل عنه تمائمه ، ولا خلت من أزاهير (٢) الشباب كمائمه ، وكان يعتدها مشتهى (٣) آماله ، ومنتهى أعماله ، إلى بهجة جنباتها ، وطيب نفحاتها وهبّاتها ، والتفاف خمائلها ، وتقلدها بنهرها مكان حمائلها ، وفيها يقول ابن اللّبّانة : [الطويل]

أما علم المعتدّ بالله أنّني

بحضرته في جنّة شقّها نهر(٤)

وما هو نهر أعشب النّبت حوله

ولكنّه سيف حمائله خضر

فلما صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها ، وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها ، نزل المعتمد عليه مشرفا لأوبته ، ومعرفا بسموّ قدره لديه ورتبته ، وأقام يومه عنده مستريحا ، وجرى في ميدان الأنس بطلا مشيحا ، وكان واجدا على الراضي فجلت الحميّا أفقه ، ومحت غيظه عليه وحنقه ، وصورته له عين حنوّه ، وذكرته بعده فجنح إلى دنوّه ، وبين ما استدعى وأوفى ، مالت بالمعتمد نشوته وأغفى ، وألقاه صريعا في منتداه ، طريحا في منتهى مداه ، فأقام تجاهه ، يرتقب انتباهه ، وفي أثناء ذلك صنع شعرا أتقنه وجوّده ، فلما استيقظ أنشده : [المتقارب]

__________________

(١) في ب ، ه : وأخبرني المعتز.

(٢) في ب : من أزهار الشباب.

(٣) في ب ، ه : محيا آماله. وفي القلائد : مجنى آماله.

(٤) في ب ، ه : أما علم المعتز بالله أنني.


الآن تعود حياة الأمل

ويدنو شفاء فؤاد معل

ويورق للعزّ غصن ذوى

ويطلع للسّعد نجم أفل

فقد وعدتني سحاب الرّضا

بوابلها حين جادت بطل

أيا ملكا أمره نافذ

فمن شا أعزّ ومن شا أذل

دعوت فطار بقلبي السرور

إليك ، وإن كان منك الوجل

كما يستطيرك حبّ الوغى

إليها وفيها الظّبا والأسل

فلا غرو إن كان منك اغتفار

وإن كان منّا جميعا زلل

فمثلك ـ وهو الّذي لم نجد

ه عاد بحلم على من جهل

وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس ، ما صورته : وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون ، أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته (١) حتى جفّت مذانبها (٢) ، واغبرت جوانبها ، وغرد المكّاء في غير روضه (٣) ، وخاض الياس بالناس أعظم خوضه ، وأبدت الخمائل عبوسها ، وشكت الأرض للسماء بوسها ، فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو ، ونزع ملابس الخيلاء والزّهو ، وأظهر الخشوع ، وأكثر السجود والركوع ، إلى أن غيّم الجوّ ، وانسجم النوّ ، وصاب الغمام (٤) ، وتزنّمت الحمام ، وسفرت الأنوار (٥) ، وزهت النجود والأغوار ، واتفق أن وصل أبو يوسف المغنّي والأرض قد لبست زخارفها ، ورقم الغمام مطارفها ، وتتوجت الغيطان (٦) والربا ، وأرجت نفحات الصّبا ، والمتوكل ما فض لتوبته ختاما ، ولا قوّض عن قلبه منها خياما (٧) ، فكتب إليه : [المتقارب]

ألمّ أبو يوسف والمطر

فياليت شعري ما ينتظر

ولست بآب وأنت الشّهيد

حضور نديّك فيمن حضر

ولا مطلعي وسط تلك السّما

ء بين النّجوم وبين القمر

وركضي فيها جياد المدا

م محثوثة بسياط الوتر

فبعث إليه مركوبا ، وكتب معه : [المتقارب]

__________________

(١) في ب : عبدون أن الجدب توالى بحضرته.

(٢) المذانب : جمع مذنب ، وهو مسيل الماء.

(٣) المكاء : طائر أبيض يكثر من الصفير.

(٤) صاب الغمام : هطل المطر.

(٥) في ج : وسفرت الأزهار.

(٦) في ب ، ه : وتدبحت الغيطان.

(٧) في ب ، ه : ولا نفض عن قلبه منها قتاما.


بعثت إليك جناحا فطر

على خفية من عيون البشر

على ذلل من نتاج البروق

وفي ظلل من نسيج الشّجر

فحسبي ممّن نأى من دنا

ومن غاب كان فدى من حضر

فوصل القصبة (١) المطلة على البطحاء ، المزرية بمنازل الرّوحاء ، فأقام منها حيث قال عديّ بن زيد يصف صنعاء (٢) : [الكامل]

في قباب حول دسكرة

حولها الزّيتون قد ينعا

ومرّ لهم من السرور يوم ما مر لذي رعين ، ولا تصوّر قبل عيونهم لعين ، وأخبرني أنه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام ، السامية الذرا والأعلام ، التي لا يروعها صرف ، ولا يفرعها طرف (٣) ، لأنها متوعّرة المراقى ، معقّرة للراقي (٤) ، متمكنة الرّواسي والقواعد ، من ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد ، قد أطلّت على خمائلها ، إطلال العروس من منصّتها ، واقتطعت من الجوّ أكثر من حصّتها ، فمروا بألبش (٥) قطر سالت به جداوله ، واختالت فيه خمائله ، فما يجول الطّرف منه إلا في حديقة ، أو بقعة أنيقة ، فتلقاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده ، وأورى لهم بالمبرة زنده ، وقدم لهم طعاما واعتقد قبوله منّا وإنعاما ، وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح ، وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تمرح ، فخرج أبو محمد وقد أبرمه القاضي (٦) بتثقيله ، وحرمه راحة رواحه ومقيله ، فلقي ابن خيرون منتظرا له وقد أعد لحلوله منزله ، فسار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نوّاره ، وخجلت خدود ورده من زوّاره ، وأبدت صدور أباريقه أسرارها ، وضمت عليه المحاسن أزرارها ، ولما حضر له وقت الأنس وحينه ، وأرجت له رياحينه ، وجّه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه ، ويزول موحشه لا أنيسه ، فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه ، قد لازمه كأنه غريمه ، فما انفصل ، حتى ظن أن عارض الليل قد نصل ، فلما علم أبو محمد بانفصاله بعث إلى المتوكل قطيع راح وطبق ورد ، وكتب معهما : [الرجز]

__________________

(١) في ج : فوصل القبة. وفي القلائد : فوصل إلى القصبة.

(٢) في ب : يصف مصنعا.

(٣) يفرعها : يعلوها.

(٤) في ب : معفرة. وفي القلائد : معثرة.

(٥) في ج : بأنفس قطر. والأصح : ألبش ، وهي تقع غربي بطليوس.

(٦) القاضي : غير موجودة في ب.


إليكها فاجتلها منيرة

وقد خبا حتّى الشّهاب الثّاقب

واقفة بالباب لم يؤذن لها

إلّا وقد كاد ينام الحاجب

فبعضها من المخاف جامد

وبعضها من الحياء ذائب

فقبلها منه رحمه الله تعالى وعفا عنه وكتب إليه : [الرجز]

قد وصلت تلك الّتي زففتها

بكرا وقد شابت لها ذوائب

فهبّ حتّى نستردّ ذاهبا

من أنسنا إن استردّ ذاهب

فركب إليه ، ونقل معه ما كان بالمجلس بين يديه ، وباتا ليلتهما لا يريمان السهر ، ولا يشيمان برقا إلا الكاس والزهر.

ثم قال بعد كلام : وأخبرني الوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية أنه مرّ في بعض أيامه بروض مفتر المباسم ، معطّر الرياح النواسم ، قد صقل الربيع حوذانه (١) ، وأنطق بلبله وورشانه (٢) ، وألحف غصونه برودا مخضرة ، وجعل إشراقه للشمس ضرة ، وأزاهره تتيه على الكواكب ، وتختال في خلع الغمائم السواكب ، فارتاح إلى الكون به بقية نهاره ، والتنعم ببنفسجه وبهاره ، فلما حصل من أنسه في وسط المدى ، عمد إلى ورقة كرنب قد بللها النّدى ، وكتب فيها بطرف غصن ناعم (٣) ، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم ، أحد ندمائه ، ونجوم سمائه : [البسيط]

أقبل أبا طالب إلينا

وقع وقوع النّدى علينا

فنحن عقد بغير وسطى

ما لم تكن حاضرا لدينا

وقال في ترجمة المعتصم بن صمادح ، ما صورته : وأخبرني الوزير أبو خالد بن بشتغير أنه حضر مجلسه بالصمادحية في يوم غيم وفيه أعيان الوزراء ، ونبهاء الشعراء ، فقعد على موضع يتداخل الماء فيه ، ويلتوي في نواحيه ، والمعتصم منشرح النفس ، مجتمع الأنس ، فقال : [البسيط]

أنظر إلى حسن هذا الماء في صببه

كأنّه أرقم قد جدّ في هربه

فاستبدعوه ، وتيموه به وأولعوه ، فأسكب عليهم شآبيب نداه ، وأغرب بما أظهره (٤) من بشره وأبداه.

__________________

(١) الحوذان : نبات له زهر أحمر في أصله صفرة.

(٢) الورشان : طائر مغرّد.

(٣) ناعم : غير موجودة في ب.

(٤) في ب : بما ظهر. وفي ج : وأعرب بما ظهر.


ثم قال بعد كلام : وخرج إلى برجة ودلاية وهما منظران (١) لم يجل في مثلهما ناظر ، ولم تدع حسنهما الخدود النواضر ، غصون تثنّيها الرياح ، ومياه لها انسياح ، وحدائق تهدي الأرج والعرف ، ومنازه (٢) تبهج النفس وتمتع الطرف ، فأقام فيها أياما يتدرج في مسارحها ، ويتصرف في منازهها ، وكانت نزهة أربت على نزهة هشام بدير الرّصافة ، وأنافت عليها أي إنافة.

وقال في ترجمة ابن رزين ، ما ملخصه : أخبرني الوزير أبو عامر بن سنون (٣) أنه اصطبح يوما والجوّ سماكي العوارف (٤) ، لا زورديّ المطارف ، والروض أنيقة لبّاته ، رقيقة هبّاته ، والنور مبتلّ ، والنسيم معتلّ ، ومعه قومه ، وقد راقهم يومه ، وصلاته تصافح معتفيهم ، ومبرّاته تشافه موافيهم ، والراح تشعشع ، وماء الأماني ينشع ، فكتب إلى ابن عمار وهو ضيفه : [الطويل]

ضمان على الأيّام أن أبلغ المنى

إذا كنت في ودّي مسرا ومعلنا

فلو تسأل الأيّام : من هو مفرد

بودّ ابن عمّار؟ لقلت لها : أنا

فإن حالت الأيّام بيني وبينه

فكيف يطيب العيش أو يحصل المنى (٥)

فلما وصلت الرقعة إليه تأخر عن الوصول ، واعتذر بعذر مختلّ المعاني والفصول ، فقال أحد الحاضرين : إني لأعجب من قعود ابن عمار ، عن هذا المضمار ، مع ميله إلى السّماع ، وكلفه بمثل هذا الاجتماع ، فقال ذو الرياستين : إن الجواب تعذر ، فلذا اعتذر ، لأنه يعاني قوله ويعلّله ، ويروّيه ولا يرتجله ، ويقوله في المدة ، والساعات الممتدة (٦) ، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه ، وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه ، فلما كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب ، وهو : [الطويل]

هصرت لي الآمال طيّبة الجنى

وسوّغتني الأحوال مقبلة الدّنى

وألبستني النّعمى أغضّ من النّدى

وأجمل من وشي الرّبيع وأحسنا

وكم ليلة أحظيتني بحضورها

فبتّ سميرا للسّناء وللسّنا (٧)

أعلّل نفسي بالمكارم والعلا

وأذني وكفّي بالغناء وبالغنى

__________________

(١) في ب : نظران.

(٢) في ب : منازل.

(٣) بن سنون : زيادة من القلائد.

(٤) في ه : مسكي العوارف.

(٥) في ب : أو يحسن الغنا.

(٦) في ب : ويقوله في المدة الممتدة ، فرأى ..

(٧) السناء : العلو والرفعة. والسنا : الضوء الشديد.


سأقرن بالتّمويل ذكرك كلّما

تعاورت الأسماء غيرك والكنى

لأوسعتني قولا وطولا كلاهما

يطوّق أعناقا ويخرس ألسنا

وشرّفتني من قطعة الرّوض بالّتي

تناثر فيها الطّبع وردا وسوسنا

تروق بجيد الملك عقدا مرصّعا

وتزهو على عطفيه بردا مزيّنا

فدم هكذا يا فارس الدّست والوغى

لتطعن طورا بالكلام وبالقنا (١)

وأخبرني الوزير أبو جعفر (٢) بن سعدون أنه اصطبح يوما بحضرته وللرذاذ رشّ ، وللربيع على وجه الأرض فرش ، وقد صقل الغمام الأزهار حتى أذهب نمشها ، وسقاها فأروى عطشها ، فكتب إليه : [الطويل]

فديناك لا يسطيعك النّظم والنّثر

فأتت مليك الأرض ، وانفصل الأمر(٣)

فديناك لا يسطيعك النّظم والنّثر

كما سكبت وطفاء أو سكب البحر(٤)

وجاء الرّبيع الطّلق يبدي غضارة

فحيّتك منه الشّمس والرّوض والنّهر (٥)

إلى أن قال : ثم وجه فيه إلى روضة قد أرجت نفحاتها ، وتدبجت ساحاتها ، وتفتحت كمائمها ، وأفصحت حمائمها ، وتجرّدت جداولها كالبواتر ، ورمقت أزهارها بعيون فواتر (٦) ، وأقاموا يعملون أكواسهم ، ويشتملون إيناسهم ، فقال ذو الرياستين : [الطويل]

وروض كساه الطلّ وشيا مجدّدا

فأضحى مقيما للنّفوس ومقعدا

إذا صافحته الرّيح خلت غصونه

رواقص في خضر من القضب ميّدا

إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته

وقد كسرته راحة الرّيح مبردا

وإن سكنت عنه حسبت صفاءه

حساما صقيلا صافي المتن جرّدا

وغنّت به ورق الحمائم بيننا

غناء ينسّيك الغريض ومعبدا

فلا تجفونّ الدّهر ما دام مسعدا

ومدّ إلى ما قد حباك به يدا (٧)

وخذها مداما من غزال كأنّه

إذا ما سقى بدر تحمّل فرقدا

إلى أن قال : وأخبرني الوزير أبو عامر بن سنون ، أنه كان معه في منية العيون ، في يوم مطرّز الأديم ، ومجلس معزز النديم ، والأنس يغازلهم من كل ثنية ، ويواصلهم بكل أمنية ،

__________________

(١) الدست : أراد هنا المجلس.

(٢) في ب : الوزير الكاتب أبو جعفر.

(٣) في ب : واتصل الأمر.

(٤) مرينا نداك : طلبنا جودك.

(٥) في ب ، ج : وجاء الربيع الطلق يبدي طلاقه.

(٦) في ب ، ج : كالعيون الفواتر.

(٧) حباك : أعطاك.


فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب ، وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب ، فقلب مجلس الأنس حربا وقتالا ، وطلب الطعن وحده والنزالا (١) ، فقال ذو الرياستين :

نفس الذّليل تعزّ بالجريال

فيقاتل الأقران دون قتال(٢)

كم من جبان ذي افتخار باطل

بالرّاح تحسبه من الأبطال

كبش النّديّ تخمّطا وعرامة

وإذا تشبّ الحرب شاة نزال

وقال في ترجمة ابن طاهر ، ما صورته : وجئته يوما وقد وقفت بباب الحنش ، فقال لي : من أين؟ فأعلمته ، ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأملته ، فقال لي : كنت أخرج إليه في أكثر الليالي مع الوزير الأجل أبي بكر ـ يعني ابن عبد العزيز ـ إلى روضته التي ودت الشمس أن يكون منها طلوعها ، وتمنى المسك أن تنضم عليه ضلوعها ، والزمان غلام ، والعيش أحلام ، والدنيا تحية وسلام ، والناس قد انتشروا في جوانبه ، وقعدوا على مذانبه (٣) ، وفي ساقيته الكبرى دولاب يئن كناقة إثر حوار ، أو كثكلى من حر الأوار ، وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه ، بكرته ورواحه ، ويغازل عليه حبيبه ، ويصرف إليه تشبيبه ، فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري واقف وأمامه ظبي آنس ، تهيم به المكانس ، وفي أذنيه قرطان ، كأنهما كوكبان ، وهو يتأود تأود غصن البان ، والمتنبي يقول : [الرمل]

معشر النّاس بباب الحنش

بدر تمّ طالع في غبش

علّق القرط على مسمعه

من عليه آفة العين خشي

فلما رآني أمسك ، وسبح كأنه قد تنسك (٤).

وقال في ترجمة ابن عمار ، ما صورته : وتنزه بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده بنو أمية بالصّفّاح والعمد ، وجروا من إتقانه إلى غاية وأمد ، (٥) وأبدع بناؤه ، ونمقت ساحته وفناؤه ، واتخذوه ميدان مراحهم ، ومضمارا لانشراحهم ، وحكوا به قصرهم بالمشرق ، وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق ، فحله أبو بكر بن عمار على أثر بوسه ، وابتسم له دهره بعد عبوسه ، والدنيا قد أعطته عفوها ، وسقته صفوها ، وبات فيه مع لمّة (٦) من أتباعه ، ومتفيئي

__________________

(١) أخذه من قول المتنبي :

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

(٢) الجريال : الخمر.

(٣) المذانب : جمع مذنب ، وهو مجرى الماء من الروضة إلى غيرها.

(٤) في ب : كأنه قد تنسك.

(٥) في ب : إلى غير أمد.

(٦) اللّمة : الجماعة.


رباعه ، وكلهم يحييه بكاس ، ويفديه بنفسه من كل باس ، فطابت له ليلته في مشيده ، وأطربه الأنس ببسيطه ونشيده ، فقال : [الخفيف]

كلّ قصر بعد الدّمشق يذمّ

فيه طاب الجنى وفاح المشمّ

منظر رائق ، وماء نمير

وثرى عاطر ، وقصر أشمّ

بتّ فيه واللّيل والفجر عندي

عنبر أشهب ومسك أحمّ

وعبر صاحب البدائع عن هذه القصة بقوله : تنزه ابن عمار بالدمشق بقرطبة ، وهو قصر شيده خلفاء بني أمية وزخرفوه ، ودفعوا صرف الدهر عنه وصرفوه ، وأجروه على إرادتهم وصرّفوه ، وذهّبوا سقفه وفضّضوها ، ورخّموا أرضه وروّضوها ، فبات به والسعد يلحظه بطرفه ، والروض يحييه بعرفه ، فلما استنفد كافور الصباح (١) مسك الغسق ، ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق ، قال مرتجلا : «كل قصر بعد الدمشق يذم» إلخ ، انتهى.

وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى بن لبّون : أخبرني الوزير أبو عامر بن الطويل أنه كان بقصر مربيطر بالمجلس الشرقي منها (٢) ، والبطحاء قد لبست زخرفها ، ودبج الغمام مطرفها ، وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها ، وتبث طيب تنفسها ، والجلنار قد لبس أردية الدماء ، وراع أفئدة الندماء ، فقال : [الكامل]

قم يا نديم أدر عليّ القرقفا

أو ما ترى زهر الرّياض مفوّفا(٣)

فتخال محبوبا مدلا وردها

وتظنّ نرجسها محبّا مدنفا

والجلّنار دماء قتلى معرك

والياسمين حباب ماء قد طفا

إلى أن قال : وشرب مع الوزراء الكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه ، وابن اليسع غائب عنها (٤) في عشية تجود بدمائها ، ويصوب عليها دمع سمائها ، والبطحاء قد خلع عليها سندسها ، ودرّها (٥) نرجسها ، والشمس تنقض على الربا زعفرانها ، والأنوار تغمض أجفانها ، فكتب إلى ابن اليسع : [البسيط]

لو كنت تشهد يا هذا عشيّتنا

والمزن يسكب أحيانا وينحدر(٦)

والأرض مصفرّة بالشّمس كاسية

أبصرت تبرا عليه الدّرّ ينتثر(٧)

__________________

(١) في ب : الصباح به مسك.

(٢) في ب ، ه : بالمجلس المشرف منها.

(٣) القرقف : الخمر. ومفوف : مخطط وملون.

(٤) زيادة من قلائد العقيان.

(٥) في ب : ودنرها نرجسها.

(٦) في ب : والمزن تسكب أحيانا وتنحدر.

(٧) في ه ، والقلائد : والأرض مصفرة بالمزن كاسية.


وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي بكر بن رحيم ، ما صورته : ووصل هو وابن وضاح صهر المرتضى ، وابن جمال الخلافة صاحب صقلية ، إلى إحدى جنات مرسية ، فحلوا منها في قبة فوق جدول مطّرد ، وتحت أدواح طيرها غرد ، فأقاموا يتعاطون رحيقهم ، ويعمرون في المؤانسة طريقهم ، إذا بالجنّان (١) قد وقف عليهم وقال : كان بموضعكم بالأمس صاحب الموضع ومعه شعور منشورة ، وخدود غير مستورة ، قد رفعت عنها البراقع ، وما منها نظرة إلا ومعها سهم واقع ، فاستدعى فحما وكتب في إحدى زوايا القبة : [الخفيف]

قادنا ودّنا إليك فجئنا

بنفوس تفديك من كلّ بوس

فنزلنا منازلا لبدور

وحللنا مطالعا لشموس

وقال في ترجمة الوزير الكاتب أبي محمد بن عبدون ، ما صورته : حللت بيابرة (٢) فأنزلني واليها بقصرها ، ومكنني من جنى الأماني وهصرها ، فأقمت ليلي ، أجرّ على المجرة ذيلي ، وتتطارد في ميدان السرور خيلي ، فلما كان من الغد باكرني الوزير أبو محمد مسلما ، ومن تنكبي عنه متألما ، ثم عطف على القائد عاتبا عليه ، في كوني لديه ، ثم انصرف وقد أخذني من يديه ، فحللت عنده في رحب ، وهمت علي من البر أمطار سحب ، في مجلس كأن الدراري فيه مصفوفة ، أو كأن الشمس إليه مزفوفة ، فلما حان انصرافي ، وكثر تطلعي إلى مآبي واستشرافي ، ركب معي إلى حديقة نضرة ، مجاورة للحضرة ، فأنخنا عليها أيدي عيسنا (٣) ، ونلنا منها ما شئنا من تأنيسنا ، فلما امتطيت عزمي ، وسددت إلى غرض الرحلة سهمي ، أنشدني : [الطويل]

سلام يناجي منه زهر الرّبا عرف

فلا سمع إلّا ودّ لو أنّه أنف(٤)

حنيني إلى تلك السّجايا فإنّها

لآثار أعيان المساعي الّتي أقفو

ثم سرد القصيدة إلى أن قال : وله رحمه الله تعالى : [المتقارب]

سقاها الحيا من مغان فساح

فكم لي بها من معان فصاح(٥)

وحلّى أكاليل تلك الرّبا

ووشّى معاطف تلك البطاح

__________________

(١) الجنّان : البستاني.

(٢) يابرة : مدينة في البرتغال.

(٣) العيس : النوق.

(٤) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة الطيبة.

(٥) المغاني : المنازل ، جمع مغنى. في ب : الروي بالكسر (فصاح).


فما أنس لا أنس عهدي بها

وجرّي فيها ذيول المراح

ونومي على حبرات الرّياض

يجاذب برديّ مرّ الرّياح(١)

ولم أعط أمر النّهى طاعة

ولم أصغ سمعي إلى قول لاح(٢)

وليل كرجعة طرف المريب

لم ادر له شفقا من صباح

وقال في ترجمة الوزير أبي محمد بن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه البديعين اللذين هما : [الخفيف]

لا تلمني بأن طربت لشجو

يبعث الأنس فالكريم طروب

ليس شقّ الجيوب حقّا علينا

إنّما الشّأن أن تشقّ القلوب(٣)

ما صورته : وخرجت من إشبيلية مشيّعا لأحد زعماء المرابطين ، فألفيته معه مسايرا له في جملة من شيعه ، فلما انصرفنا مال بنا إلى معرّس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله بإشبيلية (٤) ، وهو موضع مستبدع ، كأن الحسن فيه مودع ، ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم ، وروض كما وشت البرد يد راقم ، وزهر يحسد المسك ريّاه ، ويتمنى الصبح أن يسم به محيّاه ، فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومد يده إليّ وهي في كفه ، فعزم على أن أقول بيتا في وصفه ، فقلت : [الطويل]

وبدر بدا والطّرف مطلع حسنه

وفي كفّه من رائق النّور كوكب

فقال أبو محمد : [الطويل]

يروح لتعذيب النّفوس ويغتدي

ويطلع في أفق الجمال ويغرب

ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف

يجيء على مثل الكثيب ويذهب

وقال في ترجمة الوزير أبي القاسم بن السّقاط بعد كلام كثير ، ما صورته : وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن بن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة ، ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك ، وجماعة من أعيان تلك الممالك ، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها ، ولم ترمق العيون مثلها ، وجلنا بها في أكناف ، جنات ألفاف ، فما شئت من دوحة لفّاء ، وغصن يميس كمعطفي هيفاء ، وماء يناسب في جداوله ، وزهر يضمّخ بالمسك راحة متناوله ، ولما قضينا من

__________________

(١) في ه : يجاذب بردي راح الرياح.

(٢) في ب ، ه : ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح.

(٣) في ه : إنما الحق أن تشق القلوب.

(٤) في ب ، ه : عند حلوله إشبيلية.


تلك الحدائق أربا ، وافتنا منها أترابا عربا (١) ، ملنا إلى موضع المقيل ، ونزلنا بمنازه (٢) تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل (٣) ، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبرة ، عرض لي منه تكدير لتلك العين الثرة (٤) ، فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم ، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم ، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها ، وغيم جوها ، والغمام منهمل ، والثرى من سقياه ثمل ، فبسطني بتحفيه ، وأبهجني يبر له لم يزل يتمه (٥) ويوفيه ، وأنشدني : [البسيط]

يوم تجهّم فيه الأفق وانتثرت

مدامع الغيث في خدّ الثّرى هملا

رأى وجومك فاربدّت طلاقته

مضاهيا لك في الأخلاق ممتثلا

وقال في ترجمة الوزير القاضي أبي الحسن بن أضحى ، ما نصه : وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة ، وكانت محاسن الأفعال والأقوال عليه مقصورة ، مع ما شئت من لسن ، وصوت حسن ، وعفاف ، واختلاط بالنّبهاء (٦) والتفاف ، فحملنا إلى إحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر ، أحسن من شاذمهر (٧) ، تشقّها جداول كالصّلال ، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ، ومعنا جملة من أعيانها فأحضرنا من أنواع الطعام ، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام ، ما لا يطاق ولا يحلو (٨) ، ويقصر عن بعضه العد ، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام اعتقده ، وملام أحقده (٩) ، فلما كان من الغد لقيت منه اجتنابه ، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة ، فكتبت إليه مداعبا ، فراجعني بهذه القطعة : [الطويل]

أتتني أبا نصر نتيجة خاطر

سريع كرجع الطّرف في الخطرات

فأعربت عن وجد كمين طويته

بأهيف طاو فاتر اللّحظات

__________________

(١) الأتراب : جمع ترب وهو المساوي لك في السن. والعرب ، بضمتين : جمع عروب ، وهي المرأة المتحببة إلى زوجها.

(٢) في ب ، ه : وزلنا عن منازه.

(٣) جذيمة : هو جذيمة الأبرش ، ومالك وعقيل : نديماه.

(٤) العين الثرة : الكثيرة فيض الماء.

(٥) في ب : يتممه.

(٦) في ب : بالبهاء.

(٧) شاذمهر : منتزه بنيسابور.

(٨) في ب : ولا يحد.

(٩) في ب : بكلام أحقده ، وملام أعتقده.


غزال أحمّ المقلتين عرفته

بخيف منى للحين أو عرفات (١)

رماك فأصمى والقلوب رميّة

لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات (٢)

وظنّ بأنّ القلب منك محصّب

فلبّاك من عينيه بالجمرات

تقرّب بالنّساك في كلّ منسك

وضحّى غداة النّحر بالمهجات

وكانت له جيّان مثوى فأصبحت

ضلوعك مثواه بكلّ فلاة

يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي

كئيبا على الأشجان والزّفرات

فلو قبلت للنّاس في الحبّ فدية

فديناك بالأموال والبشرات

وقال في ترجمة أديب الأندلس وشاعرها أبي إسحاق بن خفاجة بعد كلام ، ما صورته : وقال يندب معاهد الشباب ، ويتفجّع لوفاة الإخوان والأحباب ، بعقب سيل أعاد الديار آثارا ، وقضى عليها وهيا وانتثارا. [الطويل]

ألا عرّس الإخوان في ساحة البلى

وما رفعوا غير القبور قبابا

فدمع كما سحّ الغمام ولوعة

كما أضرمت ريح الشّمال شهابا(٣)

إذا استوقفتني في الدّيار عشيّة

تلذّذت فيها جيأة وذهابا(٤)

أكرّ بطرفي في معاهد فتية

ثكلتهم بيض الوجوه شبابا

فطال وقوفي بين وجد وفرقة

أنادي رسوما لا تحير جوابا(٥)

وأمحوا جميل الصّبر طورا بعبرة

أخطّ بها في صفحتيّ كتابا

وقد درست أجسامهم وديارهم

فلم أر إلّا أعظما ويبابا(٦)

وحسبي شجوا أن أرى الدّار بلقعا

خلاء وأشلاء الصّديق ترابا(٧)

ولقد أحلّني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها ، وعودة سناها ، في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمدا ، ومحونا بها من نفوسنا كمدا ، ولم يزل ذلك الأنس يبسطه ، والسرور ينشطه ، حتى نشر لي ما طواه ، وبثّ مكتوم لوعته وجواه (٨) ، وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه ، وما قضى بها من أطرابه.

__________________

(١) في ب ، ج : للحسن أو عرفات.

(٢) أصمى الصيد : رماه فقتله مكانه.

(٣) سح الغمام : صب الماء غزيرا.

(٤) في ب : تلدّدت فيها جيئة وذهابا.

(٥) في ه ، والقلائد : بين وجد وحرقة.

(٦) يبابا : خرابا.

(٧) البلقع : الأرض الخالية التي ليس فيها شيء.

(٨) الجوى : شدة الوجد والاحتراق من عشق أو حزن.


انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة ، ورياضها المونقة المريعة.

وما أحسن رسالة له مختصرة كتبها مهنئا بعض ملوك الأندلس بما منحه الله تعالى من التمكين الذي أيده الله به ونصره ، وقد جوّد أوصافه ، واستطرد منها إلى ذكر الناصر وولده الحكم اللذين عمرا الزهراء والرّصافة ، ونصها :

أدام الله تعالى أيام الأمير للأرض يتملّكها ، ويستدير بسعده فلكها ، وقد استبشره الملك أيدك الله وحقّ له الاستبشار ، فقد أومأ إليه السعد وأشار ، بما اتفق له من توليتك ، وخفق عليه من ألويتك ، فلقد حبي منك بملك أمضى من السهم المسدّد ، طويل نجاد السيف رحب المقلّد ، يتقدّم حيث يتأخر الذابل (١) ، ويتكرم إذا بخل الوابل ، ويحمي الحمى كربيعة بن مكدّم (٢) ، ويسقي الظبا نجيعا كلون العندم ، فهنيئا للأندلس فقد استردت عهد خلفائها ، واستجدّت رسوم تلك الإمامة بعد عفائها ، فكأن لم تمت أعاصرها ، ولم يمت حكمها ولا ناصرها ، اللذان عمرا الرصافة والزهرا ، ونكحا عقائل الروم وما بذلا غير المشرفية مهرا ، والله سبحانه أسأله إظهار أيامك ، وبه أرجو انتشار أعلامك ، حتى يكون عصرك أجمل من عصرهم ، ونصرك أغرب من نصرهم ، بمنه وكرمه ويمنه.

وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير بعد كلام كثير ، ما صورته (٣) : ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر ، وعن المحاسن مسفر ، وفيه بكير نرجس كأنه عيون مراض ، يسيل وسطه ماء رضراض (٤) ، بحيث لا حس إلا للهام ، ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام ، فقال : [الرمل]

نرجس باكرت منه روضة

لذّ قطع الدّهر فيها وعذب

حثّت الرّيح بها خمر حيا

رقص النّبت لها ثمّ شرب

فغدا يسفر عن وجنته

نوره الغضّ ويهتزّ طرب

خلت لمع الشّمس في مشرقه

لهبا يخمد منه في لهب

وبياض الطّلّ في صفرته

نقط الفضّة في خطّ الذّهب

وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها ، وما اشتملت عليه

__________________

(١) الذابل : الرمح الدقيق.

(٢) ربيعة بن مكدم : أحد فرسان الجاهلية.

(٣) قلائد العقيان : ص ٢١١.

(٤) الماء الرضراض : الماء يجري على حصى دقاق.


من المحاسن ، في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب ، وخصوصا أديب زمانه غير مدافع ، من اعترف له أهل الشرق ، بالسبق ، وأهل المغرب ، بالإبداع المغرب ، النور أبو الحسن علي بن سعيد العنسي ، فإنه لما اتصل بمصر (١) ودخلها اشتاق إلى تلك المواطن الأندلسية الرائقة ، ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة ، وقد أسلفنا أيضا فيما مر من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بمحاسن (٢) الأندلس ، فليراجع في محله من هذا الكتاب.

قلت : وما ذا عسى أن نذكر من محاسن قرطبة الزهراء والزهرا ، أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلا ضافيا ونهرا صافيا (٣) وزهرا ، ويرحم الله تعالى أديبها المشهور ، الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور ، أبا إسحاق بن خفاجة ، إذ قال (٤) : [البسيط]

يا أهل أندلس لله درّكم

ماء وظلّ وأنهار وأشجار

ما جنّة الخلد إلّا في دياركم

ولو تخيّرت هذا كنت أختار

لا تحسبوا في غد أن تدخلوا سقرا

فليس تدخل بعد الجنّة النّار(٥)

ويروى مكان قوله : وهذه كنت لو خيرت أختار.

وكذا رأيت بخط الحافظ التّنسي (٦) ، والأول رأيته بخط العلامة الوانشريشي ، رحمهما الله تعالى!.

وحكي أن الخليليّ لما قدم من الأندلس رسولا إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس ، فقال السلطان أبو عنان : كذب هذا الشاعر ، يشير إلى كونه جعلها جنة الخلد ، وأنه لو خير لاختارها على ما في الآخرة ، وهذا خروج من ربقة الدين ، ولا أقلّ من الكذب والإغراق ، وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق ، فقال الخليليّ : يا مولانا ، بل صدق

__________________

(١) في ب ، ه : فإنه لما دخل مصر.

(٢) في ب ، ه : محاسن قرطبة الزاهرة والزهرا.

(٣) في ب : ونهرا وزهرا.

(٤) ديوان ابن خفاجة ص ٢٦٤.

(٥) في ج : لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا.

(٦) التنسي : نسبة إلى قرية تنس وهي بلدة في ساحل إفريقية.


الشاعر ، لأنها موطن جهاد ، ومقارعة للعدو وجلاد ، والنبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف ، يقول : «الجنة تحت ظلال السيوف» ، فاستحسن منه هذا الكلام ، ورفع عن قائل الأبيات الملام ، وأجزل صلته ، ورفع منزلته ، ولعمري إن هذا الجواب ، لجدير بالصواب ، وهكذا ينبغي أن تكون رسل الملوك في الافتنان ، روّح الله تعالى أرواح الجميع في الجنان!.

وأبو إسحاق بن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين ، وقد سبق بعض كلامه ، ويأتي أيضا منه بعض في (١) أثناء الكتاب ، ومن ذلك قوله (٢) : [الكامل]

وكمامة حدر الصّباح قناعها

عن صفحة تندى من الأزهار

في أبطح رضعت ثغور أقاحه

أخلاف كلّ غمامة مدرار

نثرت بحجر الأرض فيه يد الصّبا

درر النّدى ودراهم النّوّار

وقد ارتدى غصن النّقا ، وتقلّدت

حلي الحباب سوالف الأنهار

فحللت حيث الماء صفحة ضاحك

جذل وحيث الشّطّ بدء عذار

والرّيح تنفض بكرة لمم الرّبا

والطّلّ ينضح أوجه الأشجار

متقسّم الألحاظ بين محاسن

من ردف رابية وخصر قرار

وأراكة سجع الهديل بفرعها

والصّبح يسفر عن جبين نهار

هزّت له أعطافها ولربّما

خلعت عليه ملاءة الأنوار

وقوله (٣) : [الكامل]

سقيا ليوم قد أنخت بسرحة

ريّا تلاعبها الرّياح فتلعب

سكرى يغنّيها الحمام فتنثني

طربا ويسقيها الغمام فتشرب

يلهو فترفع للشّبيبة راية

فيه ، ويطلع للبهارة كوكب

والرّوض وجه أزهر ، والظّلّ فر

ع أسود ، والماء ثغر أشنب(٤)

في حيث أطربنا الحمام عشيّة

فشدا يغنّينا الحمام المطرب

واهتزّ عطف الغصن من طرب بنا

وافترّ عن ثغر الهلال المغرب

__________________

(١) في ب : بعض أثناء الكتاب.

(٢) ديوان ابن خفاجة : ص ٣٣٦.

(٣) ديوان ابن خفاجة : ص ٢٨٩.

(٤) أشنب : شنب شنبا وشنبة ، الثغر : رقت أسنانه وابيضّت.


فكأنّه والحسن مقترن به

طوق على برد الغمامة مذهب

في فتية تسري فينصدع الدّجى

عنها ، وتنزل بالجديب فيخصب

كرموا فلا غيث السّماحة مخلف

يوما ، ولا برق اللّطافة خلّب

من كلّ أزهر للنّعيم بوجهه

ماء يرقرقه الشّباب فيسكب

وقال يمدح الأمير أبا يحيى بن إبراهيم (١) : [الكامل]

سمح الخيال على النّوى بمزار

والصّبح يمسح عن جبين نهار

فرفعت من ناري لضيف طارق

فرفعت من ناري لضيف طارق

ركب الدّجى أحسن به من مركب

وطوى السّرى أحسن به من ساري(٢)

وسقى فأروى غلّة من ناهل

أورى بجانحتيه زند أوار

يلوي الضّلوع من الولوع لخطرة

من شيم برق أو شميم عرار(٣)

واللّيل قد نضح النّدى سرباله

فانهلّ دمع الطّلّ فوق صدار

مترقّب رسل الرّياح عشيّة

بمساقط الأنواء والأنوار

ومجرّ ذيل غمامة لبست به

وشي الحباب معاطف الأنهار

خفقت ظلال الأيك فيه ذوائبا

وارتجّ ردفا مائج التّيّار

ولوى القضيب هناك جيدا أتلعا

قد قبّلته مباسم النّوّار

باكرته والغيم قطعة عنبر

مشبوبة والبرق لفحة نار

والرّيح تلطم فيه أرداف الرّبا

لعبا وتلثم أوجه الأزهار

والرّيح تلطم فيه أرداف الرّبا

خطباء مفصحة من الأطيار

في فتية جنبوا العجاجة ليلة

ولربّما سفروا عن الأقمار

ثار القتام بهم دخانا وارتمى

ولربّما سفروا عن الأقمار

شاهدت من هيئاتهم وهباتهم

إشراف أطواد وفيض بحار

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣. والأمير أبو يحيى بن إبراهيم أحد أمراء المرابطين توفي سنة ٥١٠.

(٢) أحسن به من مركب : ما أحسنه من مركب.

(٣) الشيم : النظر. والعرار : نبت طيب الرائحة.


من كلّ منتقب بوردة خجلة

كرما ومشتمل بثوب وقار

في عمّة خلعت عليه للمّة

وذؤابة قرنت بها لعذار

ضافي رداء المجد طمّاح العلا

طامي عباب الجود رحب الدّار

جرّار أذيال المعالي والقنا

حامي الحقيقة والحمى والجار

طرد القنيص بكلّ قيد طريدة

زجل الجناح مورّد الأظفار

ملتفّة أعطافه بحبيرة

مكحولة أجفانه بنضار

يرمى به الأمل القصيّ فينثني

مخضوب مرأى الظّفر والمنقار(١)

وبكلّ نائي الشّوط أشدق أخزر

طاوي الحشى حالي المقلّد ضاري

يفترّ عن مثل النّصال ، وإنّما

يمشي على مثل القنا الخطّار

مستقريا أثر القنيص على الصّفا

واللّيل مشتمل بشملة قار

من كلّ مسودّ تلهّب طرفه

ترميك فحمته بشعلة نار

ومورّس السّربال يخلع قيده

عن نجم رجم في سماء غبار(٢)

يستنّ في سطر الطّريق وقد عفا

قدما فتقرأ أحرف الآثار

عطف الضّمور سراته فكأنّه

والنّقع يحجبه هلال سرار

ولربّ روّاغ هنا لك أنبط

ذلق المسامع أطلس الأطمار

يجري على حذر فيجمع بسطه

يهوي فينعطف انعطاف سوار

ممتدّ حبل الشّاو يعسل رائغا

فيكاد يفلت أيدي الأقدار

متردّد يرمي به خوف الرّدى

كرة تهادتها أكفّ قفار

ولربّ طيّار خفيف قد جرى

فشلا بجار خلفه طيّار

من كل قاصرة الخطا مختالة

مشي الفتاة تجرّ فضل إزار

مخضوبة المنقار تحسب أنّها

كرعت على ظمإ بكأس عقار

ولو استجارت منهما بحمى أبي

يحيى لأمّنها أعزّ جوار(٣)

خدم القضاء مراده فكأنّما

ملكت يداه أعنّة الأقدار

__________________

(١) في ب ، ج ، ه : مخضوب راء الظفر. وأراد أن ظفره ومنقاره معوجان كحرف الراء.

(٢) في ب ، ه : يخلع قدّه.

(٣) في ب ، ه : لآمنها.


وعنا الزّمان لأمره فكأنّما

أصغى الزّمان به إلى أمّار

وجلا الإمارة في رفيف نضارة

جلت الدّجى في حلّة الأنوار

في حيث وشّح لبّة بقلادة

منها وحلّى معصما بسوار

جذلان يملأ منحة وبشاشة

أيدي العفاة وأعين الزّوّار

أرج النّديّ بذكره فكأنّه

متنفّس عن روضة معطار

بطل جرى الفلك المحيط بسرجه

واستلّ صارمه يد المقدار(١)

بيمينه يوم الوغى وشماله

ما شاء من نار ومن إعصار

والسّمر حمر ، والجياد عوابس

والجوّ كاس ، والسّيوف عواري

والخيل تعثر في شبا شوك القنا

قصدا وتسبح في الدّم الموّار

والبيض تحنى في الطّلى فكأنّما

تلوى عرا منها على أزرار

والنّقع يكسر من سنى شمس الضّحى

فكأنّه صدأ على دينار

صحب الحسام النّصر صحبة غبطة

في كفّ صوّال به سوّار(٢)

لو أنّه أومى إليه بنظرة

يوما لثار ولم ينم عن ثار(٣)

ومضى وقد ملكته هرّة عزّة

تحت العجاج وضحكة استبشار

وقال رحمه الله تعالى (٤) : [الكامل]

وأراكة ضربت سماء فوقنا

تندى وأفلاك الكؤوس تدار(٥)

حفّت بدوحتها مجرّة جدول

ت نثرت عليه نجومها الأزهار

وكأنّها وكأنّ جدول مائها

حسناء شدّ بخصرها زنّار

زفّ الزّجاج بها عروس مدامة

تجلى ونوّار الغصون نثار

في روضة جنح الدّجى ظلّ بها

وتجسّمت نورا بها الأنوار

غنّاء ينشر وشيه البزّاز لي

فيها ويفتق مسكه العطّار

__________________

(١) في ب : بطل حوى.

(٢) السّوار : الجسور.

(٣) أومى : أصله أومأ ، قلب الهمزة ألفا.

(٤) ديوان ابن خفاجة ص ٣٥١.

(٥) الأراكة : واحدة الأراك ؛ وهو شجر له حمل كحمل عناقيد العنب ، وهو شجر المسواك.


قام الغناء بها وقد نضح النّدى

وجه الثّرى واستيقظ النّوّار

والماء في حلي الحباب مقلّد

زرّت عليه جيوبها الأشجار

وقال ملتزما ما لا يلزم (١) : [الكامل]

خذها إليك وإنّها لنضيرة

طرأت إليك قليلة النّظراء

حملت وحسبك بهجة من نفحة

عبق العروس وخجلة العذراء(٢)

خذها إليك وإنّها لنضيرة

طرأت إليك قليلة النّظراء

من كلّ وارسة القميص كأنّما

من كلّ وارسة القميص كأنّما

نجمت تروق بها نجوما حسبها

نجمت تروق بها نجوما حسبها

وأتتك تسفر عن وجوه طلقة

وأتتك تسفر عن وجوه طلقة(٣)

يندى بها وجه النّدى ولربّما

بسطت هنالك أوجه السّرّاء(٤)

فاستضحكت وجه الدّجى مقطوعة

حملت جمال الغرّة الغرّاء (٥)

وقال أيضا : [المجتث]

وصدر ناد نظمنا

له القوافي عقدا

في منزل قد سحبنا

بظلّه العزّ بردا

تذكو به الشّهب جمرا

ويعبق اللّيل ندّا

وقد تأرّج نور

غضّ يخالط وردا

كما تنفّس ثغر

عذب يقبّل خدّا(٦)

وقال من قصيدة يصف منتزها (٧) : [الكامل]

يا ربّ وضّاح الجبين كأنّما

رسم العذار بصفحتيه كتاب

تغرى بطلعته العيون مهابة

وتبيت تعشق عقله الألباب

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة : ص ٧١.

(٢) في ه : نفحة من بهجة.

(٣) في ب ، ه : عن الشعراء. وفي ه : عن الصفراء.

(٤) في ب ، ه : هناك أسرة السراء.

(٥) ديوان ابن خفاجة ص ٨٠.

(٦) في ه : كما تنسم ثغر.

(٧) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣٧.


خلعت عليه من الصّباح غلالة

تندى ومن شفق المساء نقاب(١)

فكرعت من ماء الصّبا في منهل

قد شفّ عنه من القميص سراب

في حيث للرّيح الرّخاء تنفّس

أرج ، وللماء الفرات عباب

ولربّ غضّ الجسم مدّ بحوضه

سبحا كما شقّ السّماء شهاب

ولقد أنخت بشاطئيه يهزّني

طربا شباب راقني وشراب

وبكيت دجلته يضاحكني بها

مرحا حبيب شاقني وحباب(٢)

تجلى من الدّنيا عروس بيننا

حسناء ترشف والمدام رضاب

ثمّ ارتحلت وللنّهار ذؤابة

شيباء تخضب والنّهار خضاب

تلوي معاطفي الصّبابة والصّبا

واللّيل دون الكاشحين حجاب

وقال (٣) : [البسيط]

مرّ بنا وهو بدر تمّ

يسحب من ذيله سحابا

يقامة تنثني قضيبا

وغرّة تلتظي شهابا

يقرأ واللّيل مدلهمّ

لنور إجلائه كتابا

وربّ ليل شهرت فيه

أزجر من جنحه غرابا(٤)

حتّى إذا اللّيل مال سكرا

وشقّ سرباله وجابا

ازددت من لوعتي خبالا

فحثّ من غلّتي شرابا

ازددت من لوعتي خبالا

فحثّ من غلّتي شرابا

وما خطا قادما فوافى

حتى انثنى ناكصا فآبا

وبين جفنيّ بحر شوق

يعبّ في وجنتي عبابا

قد شبّ في وجهه شعاع

وشبّ في قلبي التهابا

وروضة طلقة حياء

غنّاء مخضرّة جنابا

ينجاب عن نورها كمام

يحطّ عن وجهه نقابا

__________________

(١) في ب : ومن شفق السماء نقاب.

(٢) في ه : وعبرت دجلته.

(٣) ديوان ابن خفاجة ص ٣٣٨.

(٤) في ج : أزجر من جنحه نكابا.

(٥) في ب : من سدفة غراب.


بات بها مبسم الأقاحي

يرشف من طلّها رضابا

ومن خفوق البروق فيها

ألوية حمّرت خضابا

كأنّها أنمل وراد

تحصر قطر الحيا حسابا

وله أيضا (١) : [البسيط]

رحلت عنكم ولي فؤاد

تنقض أضلاعه حنينا

أجود فيكم بعلق دمع

كنت به قبلكم ضنينا(٢)

يثور في وجنتيّ جيشا

وكان في جفنه كمينا

كأنّني بعدكم شمال

قد فارقت منكم يمينا

وقال (٣) : [الطويل]

فيا لشجا قلب من الصّبر فارغ

ويا لقذى طرف من الدّمع ملآن(٢)

ونفس إلى جوّ الكنيسة صبّة

وقلب إلى أفق الجزيرة حنّان

تعوّضت من واها بآه ومن هوى

بهون ومن إخوان صدق بخوّان

وما كلّ بيضاء تروق بشحمة

وما كلّ مرعى ترتعيه بسعدان

فيا ليت شعري هل لدهري عطفة

فتجمع أوطاري عليّ وأوطاني

ميادين أوطاري ولذّة لذّتي

ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني

كأن لم يصلني فيه ظبي يقوم لي

لماه وصدغاه براحي وريحاني

فسقيا لواديهم وإن كنت إنّما

أبيت لذكراه بغلّة ظمآن

فكم يوم لهو قد أدرنا بأفقه

نجوم كؤوس بين أقمار ندمان

وللقضب والأطيار ملهى بجزعه

فما شئت من رقص على رجع ألحان

وبالحضرة الغرّاء غرّ علقته

فأحببت حبّا فيه قضبان نعمان(٥)

رقيق الحواشي في محاسن وجهه

ومنطقه مسلى قلوب وآذان

أغار لخدّيه على الورد كلّما

بدا ولعطفيه على أغصن البان(٦)

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٠.

(٢) العلق : النفيس من كل شيء.

(٣) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٥.

(٤) في ب ، ه : فيا لشجا صدر.

(٥) الغرّ ، بكسر الغين : الجميل ، الأغن ، المتثني.

(٦) في ب ، ه : على غصن البان.


وهبني أجني ورد خدّ بناظري

فمن أين لي منه بتفّاح لبنان

يعلّلني منه بموعد رشفة

خيال له يغرى بمطل وليّان

حبيب عليه لجّة من صوارم

علاها حباب من أسنّة مرّان

تراءى لنا في مثل صورة يوسف

تراءى لنا في مثل ملك سليمان

طوى برده منها صحيفة فتنة

قرأنا له من وجهه سطر عنوان

محبّته ديني ومثواه كعبتي

ورؤيته حجّي وذكراه قرآني

وقال (٢) : [الطويل]

وليل تعاطينا المدام وبيننا

حديث كما هبّ النّسيم على الورد

نعاوده والكاس يعبق نفحه

وأطيب منها ما نعيد وما نبدي (٣)

ونقلي أقاح الثّغر أو سوسن الطّلى

ونرجسة الأجفان أو وردة الخدّ

إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى

وما لا بعطفيه فمال على عضدي

فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي

من الحرّ ما بين الضّلوع من البرد (٤)

وعاينته قد سلّ من وشي برده

فعانقت منه السّيف سلّ من الغمد

ليان مجسّن واستقامة قامة

وهزّة أعطاف ورونق إفرند(٥)

أغازل منه الغصن في مغرس النّقا

وألثم وجه الشّمس في مطلع السعد

فإن لم يكنها أو تكنه فإنّه

أخوها كما قدّ الشّراك من الجلد

تسافر كلتا راحتيّ بجسمه

فطورا إلى خصر وطورا إلى نهد

فتهبط من كشحيه كفي تهامة

وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد

وقال أيضا (٦) : [الكامل]

ورداء ليل بات فيه معانقي

طيف ألمّ بظبية الوعساء

__________________

(١) الليان : المطل ، التسويف.

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٣٤٨. وفي ب : وقال أيضا رحمه الله تعالى.

(٣) في ه : نعانقه والكأس تعبق نفحة ، وفي الديوان : تعبق مسكة.

(٤) في الديوان وفي الذخيرة : من الحرّ ما بين الثنايا من البرد.

(٥) الإفرند : جوهر السيف ووشيه.

(٦) ديوان ابن خفاجة ص ١٥٣.


فجمعت بين رضابه وشرابه

وشربت من ريق ومن صهباء

ولثمت في ظلماء ليلة وفرة

شفقا هناك لوجنة حمراء(١)

واللّيل مشمطّ الذّوائب كبرة

خرف يدبّ على عصا الجوزاء(٢)

ثمّ انثنى والصّبح يسحب فرعه

ويجرّ من طرب فضول رداء

تندى بفيه أقحوانة أجرع

قد غازلتها الشّمس غبّ سماء

وتميس في أثوابه ريحانة

كرعت على ظمإ بجدول ماء

تفّاحة الأنفاس إلّا أنّها

حذر النّدى خفّافة الأفياء(٣)

فلويت معطفها اعتناقا حسبنا

فيه بقطر الدّمع من أنواء

وكان المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى كثيرا ما ينتاب وادي الطلح مع رميكيته (٤) ، وأولى أنسه ومسرته ، وهو واد بشرف (٥) إشبيلية ملتفّ الأشجار ، كثير ترنم الأطيار ، وفيه يقول نور الدين بن سعيد: [السريع]

سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا

هل سخّرت لي في زمان الصّبا (٦)

كانت رسولا فيه ما بيننا

لن نأمن الرّسل ولن نكتبا

يا قاتل الله أناسا إذا

ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا

هلّا رعوا أنّا وثقنا بهم

وما اتّخذنا عنهم مذهبا

يا قاتل الله الّذي لم يتب

من غدرهم من بعد ما جرّبا

واليمّ لا يعرف ما طعمه

إلّا الّذي وافى لأن يشربا

دعني من ذكر الوشاة الألى

لمّا يزل فكري بهم ملهبا

واذكر بوادي الطّلح عهدا لنا

لله ما أحلى وما أطيبا

بجانب العطف وقد مالت الأغ

صان والزّهر يبثّ الصّبا

والطّير مازت بين ألحانها

وليس إلّا معجبا مطربا

__________________

(١) في ب : ليلة وفره.

(٢) في ه : مشمطّ الذؤابة.

(٣) في ب : خفّاقة الأفياء.

(٤) الرميكية : زوجة المعتمد بن عباد ، وله معها قصص طريفة.

(٥) في ج : بشرق إشبيلية.

(٦) في ب ، ج : من زمان الصبا.


وخانني من لا أسمّيه من

شحّ أخاف الدّهر أن يسلبا

قد أترع الكأس وحيّا بها

وقلت أهلا بالمنى مرحبا

أهلا وسهلا بالّذي شئته

يا بدر تمّ مهديا كوكبا

لكنّني آليت أسقى بها

أو تودعنها ثغرك الأشنبا (١)

فمجّ لي في الكأس من ثغره

ما حبّب الشّرب وما طيّبا

وقال ها لثمي نقلا ولا

تشم إلّا عرفي الأطيبا (٢)

واقطف بخدّي الورد والآس والنّ

سرين لا تحفل بزهر الرّبا

أسعفته غصنا غدا مثمرا

ومن جناه ميسه قرّبا (٣)

قد كنت ذا نهي وذا إمرة

حتى تبدّى فحللت الحبا

ولم أصن عرضي في حبّه

ولم أطع فيه الّذي أنّبا

حتّى إذا ما قال لي حاسد

ترجوه والكوكب أن يقربا (٤)

أرسلت من شعري سحرا له

ييسّر المرغب والمطلبا

أرسلت من شعري سحرا له

ييسّر المرغب والمطلبا

وقال عرّفه بأنّي سأح

تال فما أجتنب المكتبا

فزاد في شوقي له وعده

ولم أزل مقتعدا مرقبا

أمدّ طرفي ثمّ أثنيه من

خوف أخي التّنغيص أن يرقبا

أصدّق الوعد وطورا أرى

تكذيبه والحرّ لن يكذّبا

أتى ومن سخّره بعد ما

أيأس بطء كاد أن يغضبا (٥)

قبّلت في التّرب ولم أستطع

من حصر اللّقيا سوى مرحبا

هنّأت ربعي إذ غدا هالة

وقلت يا من لم يضع أشعبا

بالله مل معتنقا لاثما

فمال كالغصن ثنته الصّبا

فقال ما ترغب قلت اتّئد

أدركت إذ كلّمتني المرغبا

__________________

(١) آليت : أقسمت ، والمعنى أنه أقسم عن الكأس إلى أن تودعنها.

(٢) في ه : فقال : هالثمي. وها : اسم فعل أمر بمعنى خذ. والنقل ، بفتح فسكون : ما يؤكل على الشراب من فاكهة أو فستق وما إلى ذلك.

(٣) في ه : غصنا غدا مثمرا.

(٤) في ه : والكوكب أن يغربا.

(٤) في ه : والكوكب أن يغربا.

(٥) في ه : آيس بطء ..


فقال لا مرغب عن ذكر ما

ترغبه قلت إذن مركبا (١)

وكان ما كان فو الله ما

ذكرته دهري أو أغلبا

وستأتي هذه القصيدة بكمالها في جملة من نظم ابن سعيد المذكور.

وقال يتشوق إلى إشبيلية ، وهي حمص الأندلس : [الكامل]

أنّ الخليج وغنّت الورقاء

هل برّحا إذ هاجت البرحاء (٢)

أنا منكما أولى بحلية عاشق

أفنى وما نمّت بي الصّعداء

أخشى الوشاة فما أفوه بلفظة

والكتم عند العاشقين عناء

لو لا تشوّق أرض حمص ما جرى

دمعي ولا شمتت بي الأعداء

لم أستطع كتما له فكأنّني

ما كان لي كتم ولا إخفاء

والبدر مهما رام كتما من سرى

فيه ينمّ على سراه ضياء

بلد متى يخطر له ذكر هفا

قلبي وخان تصبّر وعزاء

من بعده ما الصّبح يشرق نوره

عندي ، ولا يتبدّل الظّلماء

كم لي به من ذي وفاء لم يخن

عهدي ، وينمو بالوداد وفاء

فتراه إذ ما مرّ ذكري سائلا

عن حالتي إن قلّت الأنباء(٣)

يمسي ويصبح في تذكّر مدّة

يرضى بها الإصباح والإمساء

مع كلّ مبذول الوصال ممنّع

من غيرنا تسمو به الخيلاء

كالظّبي كالشّمس المنيرة كالنّقا

كالغصن يثني معطفيه رخاء(٤)

يسعى براح كالشّهاب ، براحة

كالبدر ، والوجه المنير ذكاء(٥)

ما لان نحو الوصل حتّى طال من

ه الهجر واتّصلت به البلواء

خير المحبّة ما تأتّت عن قلى

تدرى ببؤس الفاقة النّعماء(٦)

__________________

(١) في ب ، ه : فقال لا مذهب عن ذكر ما.

(٢) برّحا : أتعبا وأوذيا. والبرحاء : الشدة. وفي ب : برّحا.

(٣) في ب : فتراه إمّا مر ذكري سائلا. وفي ه : فترى إذا ما ود ذكري سائل.

(٤) الرخاء ، بضم الراء : الريح اللينة.

(٥) ذكاء : الشمس.

(٦) القلى : البغض.


ما زلت أرقي بالقريض جنونه

حتى استكان ، وكان منه إباء

فظفرت منه بمدّة لو أنّها

دامت لدامت لي بها السّرّاء

صفو تكدّر بالتحرّك ، ليته

ما زال ، لكن لا يردّ قضاء(٢)

إنّ الفراق هو المنيّة ، إنّما

أهل النّوى ماتوا وهم أحياء

لو لا تذكّر لذّة طابت لنا

بذرى الجزيرة حيث طاب هواء

وجرى النّسيم على الخليج معطّرا

وتبدّدت في الدّوحة الأنداء

ما كابدت نفسي أليم تفكّر

ألوى به عن جفني الإغضاء(٣)

يا نهر حمص لا عدتك مسرّة

ماء يسيل لديك أم صهباء

كلّ النّفوس تهشّ فيك كأنّما

جمعت عليك شتاتها الأهواء

ودّي إليك مع الزّمان مجدّد

ما إن يحول تذكّر وعناء

ولو أنّني لم أحي ذكرا للّذي

أوليته ما كان فيّ حياء

ما كنت أطمع في الحياة لو أنّني

أيقنت أن لا يستردّ لقاء

غيري إذا ما بان حان ، وإنّما

أبقى حياتي حين بنت رجاء(٤)

وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب ، بحسب ما اقتضته المناسبة ، والله تعالى المرجو في حسن المتاب ، وهو سبحانه لا إله إلا هو الموفق للصواب.

__________________

(١) أرقي : أستعمل الرقية. والرقية : ما يستعان به من أساليب ووسائل وكلام لشفاء المريض أو المصاب بالعين أو الملدوغ أو المجنون.

(٢) في ه : لينه ما زلت ..

(٣) في ب ، ه : الإعفاء.

(٤) بان : بعد. وحان : هلك ، لم يهتد إلى الرشاد.


الباب الخامس

في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار (١) والبشام (٢) ، ومدح جماعة من أولئك الأعلام ، ذوي العقول الراجحة والأحلام (٣) ، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام (٤) ، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها ، وأرباب بيانها ، ذوي السؤدد والاحتشام ، ومخاطبتهم للفقير المؤلف حين حلّها سنة ألف وسبع وثلاثين للهجرة ، وشاهد برق فضلها المبين وشام (٥).

اعلم ـ جعلني الله تعالى وإياك ممن له للمذهب الحق انتحال (٦)! ـ أنّ حصر أهل الارتحال ، لا يمكن بوجه ولا بحال ، ولا يعلم ذلك على الإحاطة إلا علام الغيوب الشديد المحال (٧) ، ولو أطلنا (٨) عنان الأقلام فيمن عرفناه فقط من هؤلاء العلماء (٩) الأعلام ، لطال الكتاب وكثر الكلام ، ولكنا نذكر منهم لمعا على وجه التوسط من غير إطناب داع إلى الملال واختصار مؤدّ للملام ، فنقول مستمدين من واهب العقول :

__________________

(١) العرار ، بفتح العين والراء : نبات طيب الرائحة. ويقال : ه النرجس البري ، وفيه قيل :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

(٢) البشام ، بفتح الباء : شجر طيب الرائحة والمذاق ، صغير الورق ، لا ثمر له وفيه قال جرير بن عطية الخطفي :

أتذكر يوم تصقل عارضيها

بعود بشامة؟ سقي البشام

(٣) الأحلام : العقول ، جمع حلم.

(٤) الشامة : علامة في البدن تخالف لونه. ووجنة الأرض : خدّها.

(٥) شام : نظر.

(٦) انتحال المذهب : اتخاذه والقول به.

(٧) شديد المحال : شديد القوة والتدبير. وفي التنزيل العزيز : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٣].

(٨) في ب ، ه : أطلقنا.

(٩) كلمة «العلماء» غير موجودة في ب ، ه.


١ ـ منهم عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السّلمي :

وقد عرّف به القاضي عياض في المدارك وغير واحد ، ورأيت في بعض التواريخ أن تواليفه بلغت ألفا ، ومن أشهرها كتاب «الواضحة» في مذهب مالك ، كتاب كبير مفيد ، ولابن حبيب مذهب في كتب المالكية مسطور ، وهو مشهور عند علماء المشرق ، وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر وصاحب المواهب وغيرهما.

ومن نظمه يخاطب سلطان الأندلس : [البسيط]

لا تنس لا ينسك الرّحمن عاشورا

واذكره لا زلت في التّاريخ مذكورا

قال النّبيّ صلاة الله تشمله

قولا وجدنا عليه الحقّ والنّورا

فيمن يوسّع في إنفاق موسمه

أن لا يزال بذاك العام ميسورا

وهذا البيت الثالث نسيت لفظه فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به ، والله تعالى أعلم.

وقال الفتح في المطمح (١) : الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي ، أي شرف لأهل الأندلس وأي مفخر (٢) ، وأي بحر بالعلوم يزخر (٣) ، خلدت منه الأندلس فقيها عالما ، أعاد مجاهل أهلها معالما (٤) ، وأقام فيها للعلوم أسواقا نافقة (٥) ، ونشر منها ألوية خافقة ، وجلا عن الألباب صدأ الكسل ، وشحذها شحذ الصّوارم والأسل (٦) ، وتصرف في فنون العلوم ، وعرف كل معلوم ، وسمع بالأندلس وتفقه ، حتى صار أعلم من بها وأفقه ، ولقي أنجاب مالك ، وسلك في مناظرتهم (٧) أوعر المسالك ، حتى أجمع عليه الاتفاق ، ووقع على تفضيله الإصفاق (٨) ، ويقال : إنه لقي مالكا آخر عمره ، وروى عنه عن سعيد بن المسيّب أن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم كان يركب إلى بيت المقدس فيتغدّى به ، ثم يعود فيتعشّى بإصطخر ، وله في الفقه كتاب «الواضحة» ومن أحاديثه غرائب ، قد تحلت بها للزمان نحور وترائب (٩).

__________________

(١) المطمح ص ٣٦.

(٢) في ب ، ج : أي شرف لأهل الأندلس ومفخر.

(٣) يزخر : يرتفع ويعلو.

(٤) في ب ، ه : أعاد مجاهل جهلها معالما.

(٥) نافقة : رائجة.

(٦) الصوارم : السيوف. والأسل : الرماح.

(٧) في ب : وسلك من مناظرتهم. وفي ه : من مناظراتهم.

(٨) الإصفاق : الإجماع.

(٩) الترائب : موضع القلادة من الصدر.


وقال محمد بن لبابة (١) : فقيه الأندلس عيسى بن دينار ، وعالمها عبد الملك بن حبيب ، وراويها يحيى بن يحيى.

وكان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علم اللغة والإعراب ، وتصرف في فنون الآداب ، وكان له شعر يتكلم به متبحرا ، ويرى ينبوعه بذلك متفجرا ، وتوفي بالأندلس في رمضان سنة ٢٣٨ وهو ابن ثلاث وخمسين بعد ما جال في الأرض ، وقطع طولها والعرض ، وجال في أكنافها ، وانتهى إلى أطرافها.

ومن شعره قوله : [السريع]

قد طاح أمري والذي أبتغي

هين على الرّحمن في قدرته

ألف من الحمر وأقلل بها

لعالم أربى على بغيته

زرياب قد أعطيها جملة

وحرفتي أشرف من حرفته(٢)

وكتب إلى الزجاليّ (٣) رسالة وصلها بهذه الأبيات : [السريع]

كيف يطيق الشّعر من أصبحت

حالته اليوم كحال الغرق

والشّعر لا يسلس إلّا على

فراغ قلب واتّساع الخلق

فاقنع بهذا القول من شاعر

يرضى من الحظّ بأدنى العنق(٤)

فضلك قد بان عليه كما

بان لأهل الأرض ضوء الشّفق

أمّا ذمام الودّ منّي لكم ا

فهو من المحتوم فيما سبق

ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتله ، ويفرق مستقيمه من مختله (٥) ، وكان غرضه الإجازة ، وأكثر رواياته غير مستجازة ، قال ابن وضاح : قال إبراهيم بن المنذر : أتى صاحبكم الأندلس ـ يعني عبد الملك هذا ـ بغرارة مملوءة ، فقال لي : هذا علمك ، قلت له : نعم ، ما قرأ علي منه حرفا ولا قرأته عليه.

وحكى أنه قال في دخوله المشرق وحضر مجلس بعض الأكابر فازدراه من رآه : [البسيط]

__________________

(١) محمد بن لبابة : هو محمد بن لبابة القرطبي الفقيه ، توفي سنة ٣١٤ ه‍ (ابن الفرضي ج ، ص ٣٦).

(٢) زرياب : مغنّ قدم الأندلس وعاش فيها واشتهر.

(٣) في المطمح : وكتب إلى محمد بن سعيد الترحالي.

(٤) العنق ، بفتح العين والنون : السير السريع.

(٥) في ب ، ه : ولا يفرق بين مستقيمه ومختله.


لا تنظرنّ إلى جسمي وقلّته

وانظر لصدري وما يحوي من السّنن

فربّ ذي منظر من غير معرفة

وربّ من تزدريه العين ذو فطن

وربّ لؤلؤة في عين مزبلة

لم يلق بال لها إلّا إلى زمن

انتهى ما في المطمح الصغير.

قلت : أمّا ما ذكره من عدم معرفته بالحديث فهو غير مسلم ، وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدّثين (١) ، نعم لأهل الأندلس غرائب لم يعرفها كثير من المحدثين ، حتى إن في شفاء عياض أحاديث لم يعرف أهل المشرق النقّاد مخرجها ، مع اعترافهم بجلالة حفاظ الأندلس الذين نقلوها كبقيّ بن مخلد وابن حبيب وغيرهما على ما هو معلوم.

وأما ما ذكره عنه بالإجازة (٢) بما في الغرارة فذلك على مذهب من يرى الإجازة ، وهو مذهب مستفيض ، واعتراض من اعترض عليه إنما هو بناء على القول بمنع الإجازة ، فاعلم ذلك ، والله سبحانه الموفق.

٢ ـ ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدّث يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطّأ عن مالك رضي الله تعالى عنه ، ويقال : إن أصله من برابر مصمودة (٣) ، وحكي أنه لما ارتحل إلى مالك لازمه ، فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل : قد (٤) حضر الفيل ، فخرج أصحاب مالك كلهم ، ولم يخرج يحيى ، فقال له مالك : مالك لم تخرج وليس الفيل في بلادك؟ فقال : إنما جئت من الأندلس لأنظر إليك ، وأتعلم من هديك وعلمك ، ولم أكن لأنظر إلى الفيل ، فأعجب به مالك ، وقال : هذا عاقل الأندلس ، ولذلك قيل : إن يحيى هذا عاقل الأندلس ، وعيسى بن دينار فقيهها ، وعبد الملك بن حبيب عالمها (٥) ، ويقال : إن يحيى راويها ومحدثها ، وتوفي يحيى بن يحيى سنة ٢٣٤ في رجب (٦) ، وقبره يستسقى به بقرطبة ، وقيل : إن وفاته في السنة التي قبلها ، والله تعالى أعلم.

وروايته الموطأ مشهورة ، حتى إن أهل المشرق الآن يسندون الموطأ من روايته كثيرا ، مع تعدّد رواة الموطأ ، والله أعلم.

__________________

(١) الجهابذة : جمع جهبذ ؛ وهو الخبير بالأمور ، المميز بين جيدها ورديئها.

(٢) في ب : في الإجازة.

(٣) مصمودة : قبيلة من قبائل البربر كثيرة العدد ، قوية.

(٤) قد : غير موجودة في ب.

(٥) هذا القول لمحمد بن عمر بن لبابة ، وقد ورد في ترجمة عبد الملك بن حبيب السلمي.

(٦) في ب : برجب.


وكان يحيى بن يحيى روى الموطأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخميّ المعروف بشبطون ، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي ، ثم ارتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف ، شكّ في سماعها ، فأثبت روايته فيها عن زياد ، وذلك ما يدلّ على ورعه.

وسمع بمصر من اللّيث بن سعد ، وبمكة من سفيان بن عيينة ، وتفقه بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي (١) ، وسمع منهما ، وهما من أكابر أصحاب مالك ، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له.

وانتهت إليه الرياسة بالأندلس ، وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار ، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا ، وروى عنه خلق كثير ، وأشهر رواة الموطأ وأحسنهم رواية يحيى المذكور ، وكان ـ مع أمانته ودينه ـ معظّما عند الأمراء ، يكنى عندهم ، عفيفا عن الولايات ، متنزها ، جلت رتبته عن القضاء ، وكان أعلى من القضاة قدرا عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه.

قال الحافظ ابن حزم : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان : مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية ، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه ، ومذهب مالك عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاء ، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه ، والناس سراع إلى الدنيا ، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به ، على أن يحيى لم يل قضاء قط ، ولا أجاب إليه ، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم ، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم ، انتهى.

وذكرنا في غير هذا الموضع قولا آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر.

وقال ابن أبي الفياض : جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في قصره ، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان ، ثم ندم أشدّ ندم ، فسألهم عن التوبة والكفارة ، فقال يحيى : تكفر بصوم شهرين متتابعين ، فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا ، فقال

__________________

(١) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي ، الفقيه المالكي ، جمع بين الزهد والعلم ، وصحب مالكا عشرين سنة وهو صاحب «المدوّنة» في المذهب المالكي. توفي سنة ١٩١ ه‍ في مصر (وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٩).


بعضهم له : لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير؟ فقال : لو فتحنا له [هذا] الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.

وقال بعض المالكية : إن يحيى ورّى بهذا ، ورأى أنه لم يملك (١) شيئا إذ هو مستغرق الذّمة فلا عتق له ولا إطعام ، فلم يبق إلا الصيام ، انتهى.

ولما انفصل يحيى عن مالك ووصل إلى مصر رأى ابن القاسم يدوّن سماعه من مالك ، فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي رأى ابن القاسم يدوّنها ، فرحل رحلة ثانية ، فألفى مالكا عليلا ، فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته ، فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك ، هكذا ذكره ابن الفرضي في تاريخه ، وهو مما يرد الحكاية المشهورة الآن بالمغرب أن يحيى سأل مالكا عن زكاة التين ، فقال [له] : لا زكاة فيها ، فقال : إنها تدّخر عندنا ، ونذر إن وصل إلى الأندلس أن يرسل لمالك سفينة مملوءة تينا ، فلما وصل أرسلها فإذا مالك قد مات ، انتهى.

قال ابن الفرضي : ولما انصرف يحيى إلى الأندلس كان إمام وقته ، وواحد بلاده ، وكان ممن اتهم بالهيج في وقعة الرّبض المشهورة ففر إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أمانا ، وانصرف إلى قرطبة (٢).

وقيل : لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة ، وعظم القدر ، وجلالة الذكر.

وقال ابن بشكوال : إن يحيى بن يحيى كان مجاب الدعوة ، وإنه أخذ في سمته وهيئته ونفسه ومقعده هيئات مالك.

ويحكى عنه أنه قال : أخذت بركاب الليث بن سعد ، فأراد غلامه أن يمنعني ، فقال : دعه ، ثم قال لي الليث : خدمك العلم! فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكا ، انتهى.

٣ ـ ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى (٣).

__________________

(١) في ه : وإنه لم ير أنه يملك شيئا.

(٢) انظر الجزء الأول ٣٢٥ ـ ٣٢٩.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن أبي عيسى. ولي قضاء عدة من الكور ، ما بين طليطلة وبجانة ، بسيرة عادلة ، التزم فيها الصرامة في تنفيذ الحقوق وإقامة الحدود. قال ابن الفرضي : وكان حافظا للرأي ، معتنيا بالآثار ، جامعا للسنن ، متصرفا في علم الإعراب ومعاني الشعر. ثم تولى قضاء الجماعة بقرطبة سنة ٣٢٦ ه‍ أيام الأمير الناصر لدين الله. وتوفي سنة ٣٣٩ (تاريخ قضاة الأندلس ص ٥٩).


قال في المطمح : من بني يحيى بن يحيى الليثي ، وهذه ثنية علم وعقل ، وصحة ضبط ونقل ، كان علم الأندلس ، وعالمها النّدس (١) ، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق ، وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق ، وجال في آفاق ذلك الأفق ، لا يستقر في بلد ، ولا يستوطن في جلد (٢) ، ثم كر إلى الأندلس فسمت رتبته ، وتحلّت بالأماني لبّته ، وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه ، واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه ، وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ، ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة ، والتزم فيها الصّرامة في تنفيذ الحقوق ، والحزامة في إقامة الحدود ، والكشف عن البيان في السر ، والصّدع بالحق في الجهر ، لم يستمله مخادع ، ولم يكده مخاتل ، ولم يهب ذا حرمة ، ولا داهن ذا مرتبة ، ولا أغضى لأحد من أرباب (٣) السلطان وأهله ، حتى تحاموا حدة (٤) جانبه ، فلم يجسر أحد منهم عليه ، وكان له نصيب وافر من الأدب ، وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب.

ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته : [الطويل]

كأن لم يكن بين ولم تك فرقة

إذا كان من بعد الفراق تلاق

كأن لم تؤرّق بالعراقين مقلتي

ولم تمر كفّ الشّوق ماء مآقي

ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم

بذات اللّوى من رامة وبراق

ولم أصطبح بالبيد من قهوة النّدى

وكأس سقاها في الأزاهر ساق

وله أيضا : [البسيط]

ما ذا أكابد من ورق مغرّدة

على قضيب بذات الجزع ميّاس

ردّدن شجوا شجى قلب الخليّ فهل

في عبرة ذرفت في الحبّ من باس

ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبة

بين الأحبّة في أمن وإيناس

هم الصّبابة لو لا همة شرفت

فصيّرت قلبه كالجندل القاسي

وله أخبار تدل على رقة العراق والتغذي بماء تلك الآفاق :

فمنها أنه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش ، ورجل من بني جابر كان يواخيه له منزل هناك ، فعزم عليه في الميل إليه ، وعلى أخيه ، فنزل (٥) عليه ، فأحضر لهما طعاما ، وأمر جارية له بالغناء ، فغنت : [الكامل]

__________________

(١) الندس : الشديد الفطنة.

(٢) الجلد ، بفتحتين : الأرض الصلبة.

(٣) في ب : أسباب السلطان.

(٤) في ب : حتى تحاموا جانبه.

(٥) في ب : منزلا عليه.


طابت بطيب لثاتك الأقداح

وزهت بحمرة خدّك التّفّاح

وإذا الرّبيع تنسّمت أرواحه

طابت بطيب نسيمك الأرواح(١)

وإذا الحنادس ألبست ظلماءها

فضياء وجهك في الدّجى مصباح

 (٢) فكتبها القاضي في ظهر يده ، وخرج من عنده ، قال يونس بن عبد الله : فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر كفه.

وكان رحمه الله تعالى في غاية اللطف ، حكى بعض أصحابه قال : ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس ، إذ عرض لنا فتّى متأدب قد خرج من بعض الأزقّة سكران يتمايل ، فلما رأى القاضي هابه ، وأراد الانصراف ، فخانته رجلاه ، فاستند إلى الحائط ، وأطرق ، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ (٣) يقول : [الطويل]

ألا أيّها القاضي الّذي عمّ عدله

فأضحى به بين الأنام فريدا

قرأت كتاب الله تسعين مرّة

فلم أر فيه للشّراب حدودا

فإن شئت جلدا لي فدونك منكبا

صبورا على ريب الزّمان جليدا

وإن شئت أن تعفو تكن لك منّة

تروح بها في العالمين حميدا

وإن أنت تختار الحديد فإنّ لي

لسانا على هجو الزّمان حديدا

فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ، ومضى لشأنه ، انتهى ملخصا من المطمح.

ورأيت بخطي في بعض مسوّداتي ما صورته : محمد بن عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة ، سمع عم أبيه عبيد الله بن يحيى ومحمد بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ، ورحل من قرطبة سنة ٣١٣ (٤) ، ودخل مصر ، وحج ، وسمع بمكة من ابن المنذر والعقيلي وابن الأعرابي (٥) ، وكان حافظا ، معتنيا بالآثار ، جامعا للسّنن ، متصرفا في علم الإعراب ، ومعاني الشعر ، شاعرا مطبوعا ، وشاوره القاضي أحمد بن بقي ، واستقضاه الناصر

__________________

(١) في ه : تنسمت أدواحه ... الأدواح.

(٢) الحنادس : جمع حندس ، وهو الليل الشديد الظلمة.

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : ثم أنشأ يقول : (تاريخ قضاة الأندلس ص ٦١).

(٤) في ب : سنة ٣١٢.

(٥) في ب : وابن الأعرابي وغيرهم.


عبد الرحمن بن محمد على إلبيرة وبجّانة (١) ، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة بعد أبي طالب سنة ٣٢٤ (٢) ، وجمعت له مع القضاء الصلاة ، وكان كثيرا ما يخرج إلى الثغور ، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها ، فاعتل في آخر خرجاته ، ومات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة سنة ٣٣٧ ، ومولده سنة ٢٨٤ ، انتهى وأظن أني نقلته من كتاب ابن الأبار الحافظ ، والله أعلم.

٤ ـ ومنهم عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي ، الدمشقي وفاة ، يكنى أبا بكر نزيل دمشق ، كان مشهورا بالصلاح ، وانتفع به جماعة من الفقراء ، وولد على ما قيل سنة ٥١٦ ، وتوفي سنة ٦١٦ (٣) ، بدمشق ، ودفن بمقابر الصوفية ، فيكون عمره على هذا مائة سنة ، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات أمثاله!.

٥ ـ ومنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن يوسف ، الأنصاري ، الأندلسي ، الأبّذي ، الملقب في البلاد المشرقية ببرهان الدين ، وأبذة ـ بضم الهمزة ، وتشديد الباء الموحدة وفتحها ، وبعدها ذال معجمة ـ بلد بالأندلس ، سمع المذكور بمكة وغيرها من البلاد ، وبدمشق من الحافظ ابن طبرزذ ، وأمّ بالصخرة ، وكان فاضلا صالحا شاعرا ، توفي سنة ٦٥٦ ، وأخبر عن بعض الأولياء المجاورين ببيت المقدس أنه سمع هاتفا يقول لما خرب (٤) القدس : [الخفيف]

إن يكن بالشّآم قلّ نصيري

ثم خرّبت واستمرّ هلوكي

فلقد أثبت الغداة خرابي

سمر العار في حياة الملوك

هكذا رأيته بخط الصفدي «في حياة» ويحتمل أن يكون «في جباه» جمع جبهة ، والله أعلم.

٦ ـ ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، قاضي الجماعة بقرطبة ، وقد قدمنا جملة من أخباره في الباب الثالث والرابع من هذا القسم ، وكان لا يخاف في الله لومة لائم.

ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نجدة ، وحدث بها جماعة من أهل العلم والرواية ، وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة ، لحظية من نسائه تكرم عليه ، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة ، وكانت بقرب النشارين في

__________________

(١) في ج : إلبيرة وبجاية.

(٢) في ب : سنة ٣٢٦.

(٣) في ج : سنة ٦١٤.

(٤) في ب : خربت القدس.


الرّبض الشرقي منفصلة عن دوره ، ويتصل بها حمّام له غلة واسعة ، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي ، فأرسل الخليفة من قوّمها له بعد ما طابت نفسه ، وأرسل ناسا أمرهم بمداخله وصى الأيتام في بيعها عليهم ، فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي ، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته ، فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار ، فقال لرسوله : البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه : منها الحاجة ، ومنها الوهي الشديد ، ومنها الغبطة (١) ، فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع ، وأما الوهي فليس فيها ، وأما الغبطة فهذا مكانها ، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت وصيهم بالبيع ، وإلا فلا ، فنقل جوابه إلى الخليفة ، فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخّى رغبته فيها ، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها (٢) ، فأمر وصيّ الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها ، ففعل ذلك وباع الأنقاض ، فكانت لها قيمة أكثر مما قومت به للسلطان ، فاتصل الخبر به ، فعز عليه خرابها ، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها ، فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك ، فأرسل عند ذلك للقاضي منذر ، وقال له : أأنت (٣) أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له : نعم ، فقال : وما دعاك إلى ذلك؟ قال : أخذت فيها بقول الله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) [الكهف : ٧٩] مقوّموك لم يقوموها (٤) إلا بكذا ، وبذلك تعلق وهمك ، فقد نضّ (٥) في أنقاضها أكثر من ذلك ، وبقيت القاعة والحمام فضلا ، ونظر الله تعالى للأيتام ، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك ، وقال : نحن أولى من انقاد إلى الحق ، فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا!.

قالوا : وكان ـ على متانته وجزالته ـ حسن الخلق ، كثير الدّعابة ، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه ، حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري ، فمن ذلك ما حدث به سعيد ابنه قال : قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية ، فإذا سائل (٦) يقول : أطعموني (٧) من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة ، هذه الليلة ، ويكثر من ذلك ، فقال القاضي إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا أحد (٨).

__________________

(١) أراد بالغبطة المنفعة الظاهرة للأيتام.

(٢) في ب : الأيتام سورتها.

(٣) في ب : وقال له : أنت.

(٤) في ب ، ه : لم يقدروها.

(٥) نضّ : حصل.

(٦) في ه : فإذا بسائل وفي المطمح : فإذا بسائل يقول : يا أهل هذه الدار الصالح أهلها أطعمونا.

(٧) في ب : أطعمونا.

(٨) في ب ، ه : واحد.


وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يوما لحيازة أرض محبّسة في ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه ، قال : فسرنا نقفوه (١) وهو أمامنا ، وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عليهم السكينة والوقار ، وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشي ، فعرض له في بعض الطريق كلاب مع مستوحمة (٢) ، والكلاب تلعق هنها وتدور حولها ، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال : ترون يا أصحابنا ما أبرّ الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه ، ونحن لا نفعل ذلك ، ثم لوى عنان دابته وقد أضحكنا ، وبقينا متعجبين من هزله.

وحضر عند الحكم المستنصر بالله يوما في خلوة له في بستان الزهراء على بركة ماء طافحة ، وسط روضة نافحة (٣) ، في يوم شديد الوهج (٤) ، وذلك إثر منصرفه من صلاة الجمعة ، فشكا إلى الخليفة من وهج الحرّ والجهد ، وبث منه ما تجاوز الحدّ ، فأمره بخلع ثيابه والتخفيف عن جسمه ، ففعل ، ولم يطف ذلك ما به ، فقال له : الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك ، وليس مع الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلبي أمين الخليفة الحكم ، لا رابع لهم ، فكأنه استحيا من ذلك وانقبض عنه وقارا ، وأقصر عنه إقصارا ، فأمر الخليفة حاجبه جعفرا بسبقه إلى النزول في الصهريج ليسهل عليه الأمر فيه ، فبادر جعفر لذلك ، وألقى نفسه في الصهريج ، وكان يحسن السّباحة ، فجعل يجول يمينا وشمالا فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة ، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر ، ولاذ بالقعود في درج الصهريج ، وتدرّج فيه بعض تدريج ، ولم ينبسط في السباحة ، وجعفر يمر مصعّدا ومصوبا (٥) فدسّه الحكم على القاضي ، وحمله على مساجلته في العوم ، وهو يعجزه في إخلاده إلى القعود ، ويعابثه بإلقاء الماء عليه ، والإشارة بالجذب إليه ، وهو لا ينبعث معه ، ولا يفارق موضعه ، إلى أن كلمه الحكم وقال له : ما لك لا تساعد الحاجب في فعله وتتقبل (٦) صنعه؟ فمن أجلك نزل ، وبسببك تبذّل ، فقال له : يا سيدي ، يا أمير المؤمنين ، الحاجب سلمه الله تعالى لا هو جل معه ، وإنما هذا (٧) ، الهوجل الذي معي يعقلني ويمنعني من أن أجول معه مجاله ، يعني أن الحاجب خصيّ لا هوجل معه ، والهوجل : الذكر ، فاستفرغ الحكم ضحكا من نادرته ولطيف تعريضه لجعفر ، وخجل جعفر من قوله ، وسبه سب الأشراف ، وخرجا من الماء ، وأمر لهما الخليفة بخلع ، ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل واحد منهما.

__________________

(١) نقفوه : نتبعه.

(٢) المستوحمة : التي تظهر الرغبة في اللقاح.

(٣) نافحة : ذات ريح عطرة.

(٤) الوهج : الحر الشديد.

(٥) مصعدا : منحدرا. ومصوبا : صاعدا.

(٦) في ه : وتقبل صنعه.

(٧) في ب ، ه : وأنا بهذا الهوجل.


وحكي أن الخليفة الحكم قال له يوما (١) : لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام ، وأنك تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم ، قال : نعم ، وإن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفّوا عنهنّ ، قال : وكيف تقدم مثل هؤلاء؟ قال : لست أجد غيرهم ولكن أحلني على اللؤلؤي وأبي إبراهيم ومثل هؤلاء ، فإن أبوا أجبرتهم بالسّوط والسجن ، ثم لا تسمع إلا خيرا.

وقال القاضي منذر : أتيت وأبو جعفر بن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون حيث يقول : [الطويل]

خليليّ هل بالشّام عين حزينة

تبكّي على نجد لعلّي أعينها

قد اسلمها الباكون إلّا حمامة

مطوّقة باتت وبات قرينها

تجاوبها أخرى على خيزرانة

يكاد يدنّيها من الأرض لينها

فقلت له : يا أبا جعفر ، ما ذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان؟ فقال لي : وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلت له : بانت وبان قرينها ، فسكت ، وما زال يستثقلني بعد ذلك ، حتى منعني كتاب العين ، وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته ، فلما قطع بي قيل لي : أين أنت من (٢) أبي العباس بن ولّاد؟ فقصدته ، فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة ، فسألته الكتاب ، فأخرجه إليّ ، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب إلي (٣) ، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.

قال : وكان أبو جعفر لئيم النفس ، شديد التقتير على نفسه ، وربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم ، وكان يأبي شراء حوائجه بنفسه ، ويتحامل (٤) فيها على أهل معرفته ، انتهى.

وأبو جعفر هذا يقال : إن تواليفه تزيد على خمسين ، منها شرح عشرة دواوين للعرب ، وإعراب القرآن ، ومعاني القرآن ، وشرح أبيات الكتاب (٥) وغير ذلك.

رجع ـ وقال منذر بن سعيد : كتبت إلى أبي علي البغدادي أستعير منه كتابا من الغريب ، وقلت: [المجتث]

بحق ريم مهفهف

وصدغه المتعطّف(٦)

ابعث إلي بجزء

من الغريب المصنف

__________________

(١) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ٧٣.

(٢) في ب : عن أبي.

(٣) في ب ، ه : إباحة أبي العباس الكتاب لي.

(٤) يتحامل فيها على أهل معرفته : أي يحملهم القيام بها.

(٥) الكتاب : هو كتاب سيبويه.

(٦) الريم : الظبي الأبيض. والمهفهف : الضامر البطن ، الدقيق الخصر.


فقضى حاجتي ، وأجاب بقوله :

وحقّ درّ تألّف

بفيك أيّ تألّف

لأبعثنّ بما قد

حوى الغريب المصنّف

ولو بعثت بنفسي

إليك ما كنت أسرف

فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة!.

وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنه خطب يوما ، وأراد التواضع ، فكان من فصول خطبته أن قال (١) : حتى متى وإلى متى (٢) أعظ ولا أتعظ ، وأزجر ولا أنزجر ، أدل الطريق إلى (٣) المستدلين ، وأبقى مقيما مع الحائرين؟ كلا إن هذا لهو البلاء المبين (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] الآية ، اللهم فرغني لما خلقتني له ، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به ، ولا تحرمني وأنا أسألك ، ولا تعذبني وأنا أستغفرك ، يا أرحم الراحمين.

وسمع منذر بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه ، ثم رحل حاجا سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدّة أعلام ، وظهرت فضائله بالمشرق ، وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري ، سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى «بالإشراف» وروى بمصر كتاب «العين» للخليل عن أبي العباس بن ولّاد ، وروى عن أبي جعفر بن النحاس ، وكان منذر متفننا في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري ، فكان منذر يؤثر مذهبه ، ويجمع كتبه ، ويحتج لمقالته ، ويأخذ به في نفسه وذويه ، فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه ، وهو الذي عليه العمل بالأندلس ، وحمل السلطان أهل مملكته عليه ، وكان خطيبا ، بليغا ، عالما بالجدل ، حاذقا فيه ، شديد العارضة ، حاضر الجواب عتيده ، ثابت الحجة ذا شارة عجيبة (٤) ، ومنظر جميل ، وخلق حميد ، وتواضع لأهل الطلب ، وانحطاط إليهم ، وإقبال عليهم ، وكان ـ مع وقاره التام ـ فيه دعابة مستملحة ، وله نوادر مستحسنة ، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، ولبث قاضيا من ذلك

__________________

(١) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ٦٩.

(٢) وإلى متى : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ، ه ، وتاريخ قضاة الأندلس : على المستدلين.

(٤) في ه : ذا إشارة.


التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته ، ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ، فكانت ولايته لقضاء الجماعة المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاما كاملة ، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية ، ولا قسم بغير سويّة ، ولا ميل لهوى (١) ، ولا إصغاء إلى عناية ، رحمه الله تعالى ورضي عنه! ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة أعادها الله تعالى! جوفيّ مسجد السيدة الكبرى ، بقرب داره.

وله رحمه الله تعالى تواليف مفيدة : منها كتاب «أحكام القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» وغير ذلك في الفقه والكلام في الرد على أهل المذاهب ، تغمده الله تعالى برضوانه!.

وكتب بعض الأدباء إلى القاضي منذر بقوله : [السريع]

مسألة جئتك مستفتيا

عنها ، وأنت العالم المستشار

علام تحمّر وجوه الظّبا

وأوجه العشّاق فيها اصفرار

فأجاب منذر بقوله : [السريع]

احمر وجه الظّبي إذ لحظه

سيف على العشّاق فيه احورار(٢)

واصفرّ وجه الصّبّ لمّا نأى

والشّمس تبقي للمغيب اصفرار

٧ ـ وممن رحل إلى المشرق من الأندلس فشهد له بالسبق ، كل أهل المغرب والشرق ، الإمام العلامة أبو القاسم (٣) الشاطبي ، صاحب «حرز الأماني» و «العقيلة» وغيرهما.

وهو أبو القاسم (٤) بن فيّره بن خلف بن أحمد ، الرّعيني ، الشاطبي ، المقري ، الفقيه ، الحافظ ، الضرير ، أحد العلماء المشهورين ، والفضلاء المشكورين (٥) ، خطب ببلده شاطبة مع

__________________

(١) في ب : بهوى.

(٢) فيه احورار : الضمير عائد على لحظه.

(٣) هو القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي المقرئ النحوي الضرير. كان إماما فاضلا في النحو والقراءات والتفسير والحديث. علامة نبيلا ، محققا ذكيا واسع المحفوظ ، صالحا ، صدوقا. ولد سنة ٥٣٨ ه‍ وتوفي سنة ٥٩٠ ه‍ (بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٦٠) وانظر في ترجمته : معجم الأدباء ج ١٦ ص ٢٩٣ ، وطبقات السبكي ج ٤ ص ٣٩٧ ، وشذرات الذهب ج ٤ ص ٣٠١ ، وغيرها.

(٤) ورد في أصل عند ه : أبو القاسم القاسم بن فيره وهو يطابق ما ورد في الكتب من ترجمته.

(٥) في ب ، ه : المذكورين.


صغر سنه ، ودخل الديار المصرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وحضر عند الحافظ السّلفي وابن برّي وغيرهما ، وولد بشاطبة آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ، وتوفي بالقاهرة يوم الأحد الثامن والعشرين ، وقيل : الثامن عشر ، من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة ، بعد العصر ، ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطم.

وحكي أن الأمير عز الدين موسك ، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده ، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه : [مجزوء الكامل]

قل للأمير مقالة

من ناصح فطن نبيه

إنّ الفقيه إذا أتى

أبوابكم لا خير فيه

ومن نظمه رحمه الله تعالى : [الكامل]

خالقت أبناء الزمان فلم أجد

من لم أرم منه ارتيادي مخلصي(١)

ردّ الشّباب وقد مضى لسبيله

أهيا وأمكن من صديق مخلص(٢)

وكان رحمه الله تعالى قرأ بشاطبة القراءات ، وأتقنها على النّفري (٣) ، ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها التيسير من حفظه على ابن هذيل ، وسمع الحديث منه ومن ابن النعمة وابن سعادة وابن عبد الرحيم وغيرهم ، وارتحل إلى المشرق فاستوطن القاهرة ، واشتهر اسمه ، وبعد صيته ، وقصده الطلبة من النواحي ، وكان إماما ، علامة ، ذكيا ، كثير الفنون ، منقطع القرين ، رأسا في القراءات ، حافظا للحديث ، بصيرا بالعربية ، واسع العلم ، وقد سارت الركبان بقصيدته «حرز الأماني» و «عقيلة أتراب الفضائل» اللتين في القراءات والرسم ، وحفظهما خلق كثير (٤) لا يحصون ، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء ، ولقد أوجز وسهّل الصعب.

وممن روى عنه أبو الحسن بن خيرة ، ووصفه من قوّة الحفظ بأمر عجيب (٥) معجب ، وممن قرأ عليه بالروايات الإمام الشهير محمد بن عمر القرطبي.

__________________

(١) في ب ، ه : خالصت .. من لم أرم.

(٢) أهيا : أكثر تهيؤا : أقرب وأسهل.

(٣) في ب ، ه : النفري ، وهو تحريف ، في ب : النفزي.

(٤) كثير : غير موجودة في ب.

(٥) عجيب : غير موجودة في ب.


وتصدر الشاطبي رحمه الله تعالى للإقراء بالمدرسة الفاضلية ، وكان موصوفا بالزهد والعبادة والانقطاع.

وقبره بالقرافة يزار ، وترجى استجابة الدعاء عنده ، وقد زرته مرارا ، ودعوت الله بما أرجو قبوله.

وترك أولادا : منهم أبو عبد الله محمد ، عاش نحو ثمانين سنة.

وقال السبكي في حق الإمام الشاطبي : إنه كان قوي الحافظة ، واسع المحفوظ ، كثير الفنون ، فقيها ، مقرئا ، محدثا ، نحويا ، زاهدا ، عابدا ، ناسكا ، يتوقد ذكاء ، قال السخاوي (١) : أقطع أنه كان مكاشفا ، وأنه سأل الله كتمان حاله ، ما كان أحد يعلم أي شيء هو ، انتهى.

وترجمته واسعة ، رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين!.

وقال ابن خلّكان : إنه أبدع (٢) في «حرز الأماني» وهي عمدة قرّاء هذا الزمان في تعلمهم (٣) ، فقلّ من يشتغل بالقراءات إلا ويقدّم حفظها ومعرفتها ، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة ، وما أظنه سبق إلى أسلوبها ، وقد روي عنه أنه كان يقول : لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل ، لأني نظمتها لله تعالى مخلصا ، وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا ، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبرزا فيه ، وكان إذا قرىء عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها ، وكان أوحد في علم النحو واللغة ، عارفا بتعبير الرؤيا (٤) ، حسن المقاصد ، مخلصا فيما يقول ويفعل ، وكان يجتنب فضول الكلام ، ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه الحاجة (٥) ، ولا يجلس للقراءة إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة ، وكان يعتلّ العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوّه ، وإذا سئل عن حاله قال : العافية ، لا يزيد على ذلك ، وكان كثيرا ما ينشد هذا اللغز في النعش ، وهو لأبي زكريا يحيى بن سلامة الخطيب : [الطويل]

أتعرف شيئا في السّماء نظيره

إذا سار صاح النّاس حيث يسير

فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا

وكلّ أمير يعتليه أسير

يحضّ على التّقوى ويكره قربه

وتنفر منه النّفس وهو نذير

__________________

(١) السخاوي : هو علي بن محمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني السخاوي.

(٢) في ب ، ه : ولقد أبدع كل الإبداع. وهذا نص ابن خلكان.

(٣) في ب ، ه ، ووفيات الأعيان : في نقلهم.

(٤) في ه : بتفسير الرؤيا.

(٥) في ب ، ه : ضرورة.


ولم يستزر عن رغبة في زيارة

ولكن على رغم المزور يزور

وكان يقول (١) عند دخوله إلى مصر : إنه يحفظ وقر بعير (٢) من العلوم ، وكان نزيل القاضي الفاضل ، ورتّبه بمدرسته بالقاهرة ، وقيل : إن كنيته أبو محمد (٣) حسبما وجد في بعض إجازاته ، رحمه الله تعالى!.

٨ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الإمام القاضي : أبو بكر بن العربي.

قال ابن سعيد : هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب (٤) ، أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ، قاضي قضاة كورة إشبيلية ، ذكره الحجاري في المسهب ، طبق الآفاق بفوائده ، وملأ الشام والعراق بأوابده ، وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك.

ومن شعره وقد ركب مع أحد أمراء الملثّمين ، وكان ذلك الأمير صغيرا ، فهز عليه رمحا (٥) كان في يده مداعبا له ، فقال : [الطويل]

يهزّ عليّ الرّمح ظبي مهفهف

لعوب بألباب البريّة عابث

ولو كان رمحا واحدا لا تّقيته

ولكنّه رمح وثان وثالث(٦)

وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في لباس خشن : [الرمل]

لبس الصّوف لكي أنكره

وأتانا شاحبا قد عبسا

قلت إيه عرفناك وذا

جلّ سوء لا يعيب الفرسا

كلّ شيء أنت فيه حسن

لا يبالي حسن ما لبسا

وزعم بعض أن الأبيات ليست له ، وإنما تمثل بها ، فالله تعالى أعلم.

وممن عرّف بابن العربي وذكره ابن الإمام في سمط الجمان ، والشّقندي في الطرف ،

__________________

(١) في ب ، ه : وكان يقال.

(٢) وقر بعير : حمل بعير.

(٣) أكثر المصادر على أن اسمه القاسم وأن له كنيتين : أبو القاسم ، وأبو محمد.

(٤) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد العربي المعافري المكنى بأبي بكر (انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٠٥. وشذرات الذهب ج ٤ ص ١٤١ ، وكتاب الوفيات لابن قنفذ ص ٢٧٩ ، والملح ص ٦٢ ، وغيرها كثير).

(٥) في ب : رميحا.

(٦) في ب : فلو أنه رمح إذن لا تّقيته ...


وكان قد صحب المهدي محمد بن تومرت بالمشرق ، فأوصى عليه عبد المؤمن وكان مكرما عنده ، وحكي أنه كتب كتابا فأشار عليه بعض من حضر أن يذرّ عليه نشارة ، فقال : قف ، ثم فكر ساعة ، وقال : اكتب : [الخفيف]

لا تشنه بما تذرّ عليه

فكفاه هبوب هذا الهواء

فكأنّ الّذي تذرّ عليه

جدريّ بوجنة حسناء

ولقي أبا بكر الطّرطوشي ، وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ، ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ، ولم يكن بها (١) مال متوفر ، ففرض على الناس جلود ضحاياهم ، وكان ذلك في عيد أضحى ، فأحضروها كارهين ، ثم اجتمعت العامة العمياء ، وثارت عليه ، ونهبوا داره ، وخرج إلى قرطبة.

وكان في أحد أيام الجمع قاعدا ينتظر الصلاة ، فإذا بغلام رومي وضيء قد جاء يخترق الصفوف بشمعة في يده وكتاب معتّق ، فقال : [السريع]

وشمعة تحملها شمعة

يكاد يخفي نورها نارها

لو لا نهى نفس نهت غيّها

لقبّلته وأتت عارها(٢)

ولما سمعهما أبو عمران الزاهد قال : إنه لم يكن يفعل ، ولكنه هزته أريحية الأدب ولو كنت أنا لقلت : [البسيط]

لو لا الحياء وخوف الله يمنعني

وأن يقال صبا موسى على كبره(٣)

إذا لمتّعت لحظي في نواظره

حتى أوفّي جفوني الحقّ من نظره

رجع إلى أخبار ابن العربي ـ فنقول : إنه سمع بالأندلس أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السّرقسطي ، وببجاية أبا عبد الله الكلاعي ، وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني ، وسمع بالإسكندرية من الأنماطي ، وبمصر من أبي الحسن الخلعي وغيره ، وبدمشق غير واحد كأبي الفتح نصر المقدسي ، وبمكة أبا عبد الله الحسين الطبري وابن طلحة وابن بندار ، وقرأ الأدب على التبريزي ، وعمل رحمه الله تعالى على مدينة إشبيلية سورا بالحجارة والآجر بالنورة من ماله ، وكان ـ كما في الصلة (٤) ـ حريصا على آدابها وسيرها (٥) ،

__________________

(١) في ب ، ه : فيها.

(٢) النهى : العقل.

(٣) صبا : مال من اللهو.

(٤) في ب : في الصلة ـ مقدمة في المعارف كلها حريصا على أدائها ونشرها.

(٥) في ب : في الصلة ـ مقدمة في المعارف كلها حريصا على أدائها ونشرها.


ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها ، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق ، مع حسن المعاشرة ، ولين الكنف ، وكثرة الاحتمال ، وكرم النفس ، وحسن العهد ، وثبات الود.

وذكره ابن بشكوال في الصلة وقال فيه : هو الإمام (١) الحافظ ، ختام علماء الأندلس ، رحل إلى المشرق مع أبيه مستهلّ ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، ودخل الشام والعراق وبغداد ، وسمع بها من كبار العلماء ، ثم حج في سنة تسع وثمانين ، وعاد إلى بغداد ، ثم صدر منها.

وقال ابن عساكر : خرج من دمشق راجعا إلى مقره سنة ٤٩١ ، ولما غرّب (٢) صنف «عارضة الأحوذي» ولقي بمصر والإسكندرية جملة من العلماء ، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين ، وقدم إشبيلية بعلم كثير ، وكان موصوفا بالفضل والكمال ، وولي القضاء بإشبيلية ، ثم صرف عنه ، ومولده ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة ، وتوفي بمغيلة بمقربة (٣) من مدينة فاس ، ودفن بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، انتهى كلام ابن سعيد وغيره ملخصا.

وما وفى ابن سعيد حافظ الإسلام أبا بكر بن العربي حقه ، فلنعززه بما حضرنا من التعريف به ، فنقول : إنه لقي ببغداد الشاشي الإمام أبا بكر (٤) والإمام أبا حامد الطوسي الغزالي ، ونقل عنه أنه قال : كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به من العلم إلا الباجي ، أو كلاما هذا معناه ، وكان من أهل التفنن في العلوم ، متقدما في المعارف كلها ، متكلما على أنواعها ، حريصا على نشرها ، وقام بأمر القضاء أحمد قيام ، مع الصرامة في الحق ، والقوّة والشدة على الظالمين ، والرفق بالمساكين ، وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر ، ثم صرف عن القضاء ، وأقبل على نشر العلم وبثّه ، وقرأ عليه الحافظ ابن بشكوال بإشبيلية.

وقال ابن الأبّار (٥) : إن الإمام الزاهد العابد أبا عبد الله بن مجاهد الإشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحوا من ثلاثة أشهر ، ثم تخلف عنه ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان ، انتهى.

__________________

(١) هو : غير موجودة في ب.

(٢) غرّب : صار إلى الغرب.

(٣) في ج : وتوفي بمقيلة بمقبرة من مدينة فاس ، وفي ه : بمقيلة بقرية من مدينة فاس.

(٤) في ج : الشاشي ، والإمام أبا بكر. وفي ه : الشاشي أبا بكر.

(٥) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ١٠٦.


وذكره ابن الزبير في صلته ، وقال : إنه رحل مع أبيه أبي محمد عند انقراض الدولة العبّادية (١) ، وسنه نحو سبعة عشر عاما ، إلى أن قال : وقيد الحديث ، وضبط ما روي ، واتسع في الرواية ، وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن ، ومات أبوه ـ رحمه الله تعالى! ـ بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين فانصرف حينئذ إلى إشبيلية ، فسكنها ، وشوور فيها ، وسمع ودرس الفقه والأصول ، وجلس للوعظ والتفسير ، وصنف في غير فن تصانيف مليحة حسنة مفيدة ، وولي القضاء مدّة أوّلها في رجب من سنة ثمان وعشرين ، فنفع الله تعالى به لصرامته ونفوذ أحكامه ، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله ، فأحسن الصبر على ذلك كله ، ثم صرف عن القضاء ، وأقبل على نشر العلم وبثّه وكان فصيحا ، حافظا ، أديبا ، شاعرا ، كثير الملح ، مليح المجلس.

ثم قال : قال القاضي عياض ـ بعد أن وصفه بما ذكرته ـ : ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام ، وطعنوا في حديثه ، وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحّدين مدينة إشبيلية ، فحبسوا بمراكش نحو عام ، ثم سرحوا ، فأدركته منيته ، وروى عنه خلق كثير ، منهم القاضي عياض وأبو جعفر بن الباذش وجماعة ، انتهى ملخصا.

ووقع في عبارة ابن الزبير تبعا لجماعة أنه دفن خارج الجيسة بفاس ، والصواب خارج باب المحروق ، كما أشبعت الكلام على ذلك في «أزهار الرياض» وقد زرته مرارا ، وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة ، وقد صرح بذلك بعض المتقدمين الذين حضروا وفاته ، وقال : إنه دفن بتربة القائد مظفر خارج القصبة ، وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج ، رحمه الله تعالى!.

ومن بديع نظمه (٢) : [المتقارب]

أتتني تؤنّبني بالبكاء

فأهلا بها وبتأنيبها

تقول وفي نفسها حسرة :

أتبكي بعين تراني بها؟

فقلت : إذا استحسنت غيركم

أمرت جفوني بتعذيبها!

وقال رحمه الله تعالى : دخل علي الأديب ابن صارة وبين يدي نار علاها رماد ، فقلت له : قل في هذه ، فقال : [الكامل]

__________________

(١) الدولة العبادية : نسبة إلى عباد ، ومن رجالاتها المعتضد بن عباد والمعتمد بن عباد.

(٢) انظر أزهار الرياض ج ٣ ص ٨٨.


شابت نواصي النّار بعد سوادها

وتستّرت عنّا بثوب رماد

ثم قال لي أجز ، فقلت : [الكامل]

شابت كما شبنا وزال شبابنا

فكأنّما كنّا على ميعاد

وقد اختلف حذاق الأدباء في قوله : «ولكنه رمح وثان وثالث» (١) ما هو الثاني والثالث؟

فقيل : القدّ واللحظ ، وقيل غير ذلك.

ولما ذكر رحمه الله تعالى في كتابه «قانون التأويل» ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال : وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله (٢) ، ويغرقنا في هوله (٣) ، فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر ، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ، ونحن من السّغب (٤) ، على عطب ، ومن العري ، في أقبح زي ، قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (٥) ، ودسّمت الأدهان وبرها وجلدتها ، فاحترمناها أزرا ، واشتملناها لفافا ، تمجّنا الأبصار (٦) ، وتخذلنا الأنصار ، فعطف أميرهم علينا ، فأوينا إليه فآوانا ، وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا ، وأكرم مثوانا ، وكسانا بأمر حقير ضعيف ، وفنّ من العلم طريف ، وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدبّر أعواد الشاه (٧) ، فعل السامد اللاه ، فدنوت منه في تلك الأطمار ، وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حدّ يسمح فيه للأغمار ، ووقفت بإزائهم ، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم ، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة ، مع غلبة الصّبوة والجهالة ، فقلت للبياذقة : الأمير أعلم من صاحبه ، فلمحوني شزرا ، وعظمت في أعينهم بعد أن كنت نزرا ، وتقدّم إلى الأمير من نقل إليه الكلام ، فاستدناني ، فدنوت منه ، وسألني : هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت : لي فيه بعض نظر ، سيبدو لك ويظهر ، حرّك تلك القطعة ، ففعل كما أشرت (٨) وعارضه صاحبه ، فأمرته أن يحرّك أخرى ،

__________________

(١) يريد بذلك البيت الذي قاله في أحد أمراء الملثمين : انظر ص ٢٣٥ من هذا الجزء.

(٢) الزول : العجب ، البلاء.

(٣) الهول : الأمر الشديد المخيف.

(٤) السّغب ، بفتح السين والغين : الجوع.

(٥) المنيئة : الجلد أول عهده بالدباع ، وفي ه : هيئتها.

(٦) اتمجنا الأبصار : تعافنا.

(٧) يدبر أعواد الشاه : أراد : يلعب الشطرنج. وفي ب : يدير.

(٨) كما أشرت : غير موجودة في ب.


وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى ، حتى هزمهم الأمير ، وانقطع التدبير ، فقالوا : ما أنت بصغير ، وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا : [الطويل]

وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه

وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي

فقال : لعن الله أبا الطيب! أو يشك الربّ؟ فقلت له في الحال : ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير ، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب ، يقول : ألذ الهوى ما كان المحبّ فيه من الوصال ، وبلوغ الغرض من الآمال (١) ، على ريب ، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله ، وتقاة (٢) لما يقع به (٣) ، كما قال : [الطويل]

إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا

فأين حلاوات الرّسائل والكتب

وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض ، في طرفي إبرام وانتقاض (٤) ، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي (٥) الانتهاض ، وأقبلوا يتعجبون مني ويسألوني كم سني ، ويستكشفونني عني ، فبقرت (٦) لهم حديثي ، وذكرت لهم نجيثي (٧) ، وأعلمت الأمير بأن أبي معي ، فاستدعاه ، وقمنا الثلاثة إلى مثواه ، فخلع علينا خلعه ، وأسبل علينا أدمعه ، وجاء كل خوان ، بأفنان وألوان (٨).

ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه : فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب ، مع تلك الصّبابة اليسيرة من الأدب ، كيف أنقذا من العطب؟ وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب ، وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر ، انتهى مختصرا.

والزول : العجب ، ونجيث الخبر : ما ظهر من قبيحه ، يقال : بدا نجيث القوم ، إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه ، قالهما الجوهري.

وذكر ـ رحمه الله تعالى ـ! في رحلته عجائب :

منها : أنه حكى في (٩) دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنه رأى فيه النهر جاريا إلى موضع جلوسهم ، ثم يعود من ناحية أخرى ، فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا ، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا ، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها

__________________

(١) في ه : وبلوغ الغرض والآمال.

(٢) التقاة : الخوف والحذر.

(٣) في ب ، ج : لما يقطع به.

(٤) في ب ، ه : طرفي الإبرام والانتقاض.

(٥) في ب : داعي.

(٦) بقرت لهم حديثي : أوضحته.

(٧) النجيث : السر الخفي.

(٨) في ب ، ه : بأفنان الألوان.

(٩) في ب : حكى دخوله.


في النهر الراجع ، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية ، فعلمت السر ، وإن هذا لعجيب ، انتهى بمعناه.

وقال في «قانون التأويل» : ورد علينا ذانشمند (١) ـ يعني الغزالي ـ فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية ، معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الله تعالى ، فمشينا إليه ، وعرضنا أمنيتنا عليه ، وقلت له : أنت ضالّتنا التي كنا ننشد ، وإمامنا الذي به نسترشد ، فلقينا لقاء المعرفة ، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة ، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه عليّ بن العباس لما قال (٢) : [المتقارب]

إذا ما مدحت امرا غائبا

فلا تغل في مدحه واقصد

فإنّك إن تغل تغل الظّنو

ن فيه إلى الأمد الأبعد

فيصغر من حيث عظّمته

لفضل المغيب على المشهد

وكنت نقلت من المطمح في حقه ما صورته : الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي (٣) علم الأعلام الطاهر الأثواب ، الباهر الألباب ، الذي أنسى ذكاء إياس (٤) ، وترك التقليد للقياس ، وأنتج الفرع من الأصل ، وغدا في يد (٥) الإسلام أمضى من النّصل ، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف ، ومد عليها منه الظلّ الوارف ، وكساها رونق نبله ، وسقاها ريّق وبله ، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها ، وصدرا في مجلس ملكها ، واصطفاه معتمد بني عبّاد ، اصطفاء المأمون لابن أبي دواد (٦) ، وولاه الولايات الشريفة ، وبوّأه المراتب المنيفة ، فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت ، وألقتهم منها وتخلّت ، رحل به إلى المشرق ، وحل فيه محل الخائف الفرق ، فجال في أكنافه ، وأجال قداح الرجاء في استقبال العزو استئنافه ، فلم يسترد ذاهبا ، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا ، فعاد إلى الرواية والسماع ، وما استفاد من آمال تلك الأطماع ، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح (٧) ، وفي روض الشباب زهر ما صوّح (٨) ، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا ، ولازمه سائقا إليها وحاديا ، حتى استقرت

__________________

(١) في ب : دانشمند ، وهو الحكيم العلامة.

(٢) علي بن عباس : هو الشاعر المعروف ، ابن الرومي.

(٣) الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي : العبارة غير موجودة في ب.

(٤) إياس : هو إياس بن معاوية الذي كان يضرب فيه المثل في الذكاء.

(٥) يد : سقطت من ب ، وهي موجودة في المطمح.

(٦) المأمون : هو ابن هارون الرشيد. وابن أبي دؤاد : القاضي أحمد بن أبي دؤاد.

(٧) ما دوّح : أي لم يصر دوحة بعد ، والدوحة : الشجرة العظيمة الممتدة الوارفة الظلال.

(٨) صوّح : ذبل وذوى.


به مجالسه ، واطّردت له مقايسه ، فجدّ في طلبه ، واستجدّ به أبوه متمزق أربه ، ثم أدركه حمامه ، ووارته هناك رجامه (١) ، وبقي أبو بكر متفردا ، وللطلب متحردا (٢) ، حتى أصبح في العلم وحيدا ، ولم تجد عنه رياسته محيدا ، فكر إلى الأندلس فحلّها والنفوس إليه متطلعة ، ولأنبائه متسمعة ، فناهيك من حظوة لقي ، ومن عزة سقي ، ومن رفعة سما إليها ورقي ، وحسبك من مفاخر قلّدها ، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها ، وقد أثبتّ من بديع نظمه ما يهز أعطافا ، وترده الأفهام نطافا ، (٣) فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد ، ويخاطب فيها أهل الوداد : [الطويل]

أمنك سرى واللّيل يخدع بالفجر

خيال حبيب قد حوى قصب الفخر؟

جلا ظلم الظّلماء مشرق نوره

ولم يخبط الظّلماء بالأنجم الزّهر

ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا

فسار على الجوزا إلى فلك يجري

وحثّ مطايا قد مطاها بعزّة

فأوطأها قسرا على قنّة النّسر

فصارت ثقالا بالجلالة فوقها

وسارت عجالا تتّقي ألم الزّجر

وجرّت على ذيل المجرّة ذيلها

فمن ثمّ يبدو ما هناك لمن يسري

ومرّت على الجوزاء توضع فوقها

فآثار ما مرّت به كلف البدر(٤)

وساقت أريج الخلد من جنّة العلا

فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري

فما حذرت قيسا ولا خيل عامر

ولا أضمرت خوفا لقاء بني ضمر

سقى الله مصرا والعراق وأهلها

وبغداد والشّامين منهمل القطر

ومن تآليف الحافظ أبي بكر بن العربي المذكور كتاب «القبس ، في شرح موطأ مالك بن أنس» وكتاب «ترتيب المسالك ، في شرح موطأ مالك» وكتاب «أنوار الفجر» وكتاب «أحكام القرآن» وكتاب «عارضة الأحوذيّ (٥) ، في شرح الترمذي» والأحوذي ـ بفتح الهمزة ، وسكون الحاء المهملة ، وفتح الواو ، وكسر الذال المعجمة ، وآخره ياء مشددة. وكتاب «مراقي الزّلف»

__________________

(١) الرجام : جمع رجم ، وهو الحجارة التي توضع على القبر ، أو القبر نفسه.

(٢) تحرّد : تنحّى.

(٣) النطاف : جمع نطفة : الماء الصافي.

(٤) في ب : فآثر.

(٥) عارضة الأحوذي : العارضة : قوة الحجة والبيان ، والأحوذي : الرجل المشمر النشيط ، السريع لبلوغ حاجته.


وكتاب «الخلافيات» وكتاب «نواهي الدواهي» وكتاب «سراج المريدين» وكتاب «المشكلين : مشكل الكتاب (١) ، والسنة» وكتاب «الناسخ والمنسوخ في القرآن» وكتاب «قانون التأويل» وكتاب «النيرين ، في الصحيحين» وكتاب «سراج المهتدين» وكتاب «الأمد الأقصى ، بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا» وكتاب «في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب» ، وكتاب «العقد الأكبر ، للقلب الأصغر» و «تبيين الصحيح ، في تعيين الذبيح» (٢) و «تفصيل التفضيل ، بين التحميد والتهليل» ورسالة «الكافي ، في أن لا دليل على النافي» وكتاب «السباعيات» وكتاب «المسلسلات» وكتاب «المتوسط في معرفة صحّة الاعتقاد ، والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد» وكتاب «شرح غريب الرسالة» وكتاب «الإنصاف ، في مسائل الخلاف» عشرون مجلدا ، وكتاب «حديث الإفك» وكتاب «شرح حديث جابر في الشفاعة» وكتاب «شرح حديث أم زرع» وكتاب «ستر العورة» وكتاب «المحصول ، في علم الأصول» وكتاب «أعيان الأعيان» وكتاب «ملجأة المتفقهين ، إلى معرفة غوامض النحويين» وكتاب «ترتيب الرحلة» وفيه من الفوائد ما لا يوصف (٣).

ومن فوائد القاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى قوله : قال علماء الحديث : ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة (٤) ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ـ الحديث» قال : وهذا دعاء منه عليه الصلاة والسلام لحملة علمه ، ولا بدّ بفضل الله تعالى من نيل بركته ، انتهى.

وإلى هذه النّضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله : [الكامل]

أهل الحديث عصابة الحقّ

فازوا بدعوة سيّد الخلق

فوجوههم زهر منضّرة

لألاؤها كتألّق البرق(٥)

يا ليتني معهم فيدركني

ما أدركوه بها من السّبق

ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى : فمنها قوله في تصريف المحصنات : يقال : أحصن الرجل فهو محصن ـ بفتح العين في

__________________

(١) في ب ، ه : مشكل القرآن والسنة.

(٢) أي تعيين أي ابني إبراهيم الخليل عليه السلام هو الذبيح؟ إسماعيل أم إسحاق؟.

(٣) عدّ المقري في كتابه : أزهار الرياض مؤلفات ابن العربي ، ولكنه لم يذكرها كلها كما ورد في النفح.

(٤) النضرة : حسن الوجه ، وفي القرآن الكريم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

(٥) اللأواء : الشدة والضيق.


اسم الفاعل ـ وأسهب في الكلام فهو مسهب ، إذا أطال البحث فيه ، وألفج فهو ملفج ، إذا كان عديما ، لا رابع لها ، والله تعالى أعلم ، انتهى.

ومنها قوله : سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول : يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا ـ بفتح الراء ـ أي لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع ، وهذا الذي قاله صحيح مسموع ، انتهى.

ومنها قوله : شاهدت المائدة بطورزيتا (١) مرارا ، وأكلت عليها ليلا ونهارا ، وذكرت الله سبحانه فيها (٢) سرا وجهارا ، وكان ارتفاعها أشفّ من القامة بنحو الشبر (٣) ، وكان لها درجان قبلي وجنوبي (٤) ، وكانت صخرة صلودا (٥) لا تؤثر فيها المعاول ، وكان الناس يقولون : مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير (٦) ، والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء ، وكل ما حولها حجارة مثلها ، وكان ما حولها محفوفا بقصور ، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها ، مقطوعة فيها ، وحناياها في جوانبها ، وبيوت خدمتها قد صوّرت من الحجر كما تصوّر من الطين والخشب ، فإذا خلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثقل (٧) ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض ، وإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب ، وينفرج منفرج الباب ، وقد بار بها قوم بهذه العلة (٨) ، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ، ولكني كنت في كل حين أكنس حول الباب ، مخافة مما جرى لغيري فيها ، وقد شرحت أمرها في كتاب «ترتيب الرحلة» بأكثر من هذا ، انتهى.

ومنها قوله رحمه الله تعالى : تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع «إن من ورائكم أيّاما للعامل فيها أجر خمسين منكم»

__________________

(١) طورزيتا : جبل قريب من رأس عين ، يقال إنه مات فيه سبعون نبيا.

(٢) في ب : سبحانه وتعالى.

(٣) أشفّ : أزيد أو أقل ، وهي من الألفاظ التي تحمل المعنيين المتناقضين.

(٤) في ب : درجتان قبليا وجنوبيا ..

(٥) الصخرة الصلود : الصلبة.

(٦) يشير إلى الآية الكريمة التي تحكي صنيع الله تعالى في عصاة بني إسرائيل : (... مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ...) [المائدة ، الآية : ٦٠].

(٧) ثقل : غير موجودة في ب.

(٨) بار : هلك.


فقالوا : بل منهم ، فقال : «بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير أعوانا (١) ، وهم لا يجدون عليه أعوانا» وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمّة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسّسوا الإسلام ، وعضدوا الدين وأقاموا المنار ، وافتتحوا الأمصار ، وحموا البيضة ، ومهّدوا الملة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح : «لو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» فتراجعنا القول ، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح ، وخلاصته : أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ، ولا يدانيهم فيها بشر ، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم ، وخلّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام ، وهو أيضا انتهاؤه ، وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام ، صعب المرام ، لغلبة الكفار على الحق ، وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك ، لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان ، وظهور الفتن ، وغلبة الباطل ، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق ، وركوب من يأتي سنن (٢) من مضى من أهل الكتاب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لتركبنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه» وقال صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ» (٣). فلا بد والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد ، كما بدأ من واحد ، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه (٤) بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدّعاء إلى الله تعالى ، وذلك قوله : «لأنّكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا» حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتّا لضعف اليقين وقلة الدين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى لا يقال في الأرض الله الله» (٥) يروى برفع الهاء ونصبها ، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل ، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن المنكر (٦) يقول : أخاف الله ، حينئذ يتمنى العاقل الموت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى يمرّ الرّجل بقبر الرّجل فيقول : يا ليتني كنت مكانه» (٧) انتهى وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية : [السريع]

امتحن الله بذا خلقه

فالنّار والجنّة في قبضته

فهجره أعظم من ناره

ووصله أطيب من جنّته

__________________

(١) انظر مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٨٢.

(٢) سنن الطريق : نهجه وجهته.

(٣) انظر مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

(٤) احتواشه بالمخاوف : إحاطته بالمخاوف.

(٥) انظر مجمع الزوائد ج ٨ ص ١٢.

(٦) في ب : عن منكر.

(٧) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٧٨ ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٨٢.


ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنه قال : كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على رتبة بيناها في كتاب «الرحلة ، للترغيب في الملة» فقرأ القارئ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام (١) ، وكان معتزلي الأصول ، فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري : هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة : فإن العرب لا تقول : «لقيت فلانا» إلا إذا رأته ، فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعا إلينا ، وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة : فقد قال الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة ، وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين ، وتقدير الآية : فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في (أعقبهم) المقدر بقولنا هو ، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء ، انتهى.

ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة» فإن قوما قيل فيهم (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] وقد أنبأنا (٢) محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ ، أنبأنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه : كنا في جنازة فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله تعالى ، فقال : لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله ، فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] انتهى.

ومنها ، وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف ، ما صورته : فإذا قلنا إنه القميص ، فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّني؟ قال : سل من يدقني ، ما يتركني ورائي (٣) ، هذا الذي ورائي ، لكن قوله تعالى بعد ذلك : (مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] في صفة

__________________

(١) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري ، أبو الوفاء ، ويعرف بابن عقيل ، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة ، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته ، وكان يعظم الحلاج فأراد الحنابلة قتله ، فاستجار بباب المراتب عدة سنين ، فتمكن من الظهور. له تصانيف أهمها : كتاب الفنون وكتاب الواضح في الأصول ، والفصول ، والرد على الأشاعرة. (الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٢٩).

(٢) في ب : وقد أخبرنا.

(٣) ورائي : أي ورأيي.


الشاهد يبطل أن يكون القميص ، وأما من قال إنه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنه يحتمل ، لكن قوله : (مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] يعطي اختصاصها من جهة القرابة ، انتهى.

ومنها قوله : إنه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام ، يعرف بابن عطاء ، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه (١) من مكروه ، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال : يا شيخ ، يا سيدنا ، فإذن يوسف همّ وما تم ، فقال : نعم ، لأن العناية من ثمّ ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله ، والعالم في اختصاره واستيفائه ، ولذا قال علماؤنا الصوفية : إن فائدة قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ٢٢] إن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة. انتهى.

ومنها قوله : كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ، وكنت أشرب من (٢) ماء زمزم كثيرا ، وكل ما شربته نويت به العلم والإيمان ، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسّره لي من العلم ، ونسيت أن أشربه للعمل ، ويا ليتني شربته لهما ، حتى يفتح الله تعالى لي فيهما ، ولم يقدّر فكان صفوي (٣) للعلم أكثر منه للعمل ، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته.

ومنها قوله : سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ، ولا مالية فيه ، ولا منفعة مبتوتة عليه (٤) ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ، لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها ، وهذه من البدائع ، انتهى.

ومنها قوله : ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنه كان يقول : إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة ، وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقروا (٥) بقولك الله ، فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطلع عليك ، فاعدل في وزنك ، انتهى.

__________________

(١) في ب : مما ينسب إليه.

(٢) من : غير موجودة في ب.

(٣) في ب : صفوي.

(٤) مبتوتة : مقطوع بها. في ب : مبثوثة.

(٥) في ب : مقررا بقولك : الله.


ومنها قوله : كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى عليه السلام فيسمع من الطور ، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته ، إلا الإصغاء إليه ، انتهى.

ومنها قوله في تفسير قوله تعالى (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] قيل : إنها كانت آخر شوال ، من الأربعاء إلى الأربعاء ، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية ، حتى إني لقيت يوما مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلا من الكتاب ، فودعنا بنية السفر ، فلما فارقنا قال لي خالي : إنك لا تراه أبدا لأنه سافر في يوم أربعاء لا يتكرر ، وكذا (١) كان ، مات في سفره ، وهذا ما لا أراه ، لأن يوم الأربعاء يوم عجيب ، بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب ، فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة ، ويوم الأحد الجبال ، ويوم الاثنين الشجر ، ويوم الثلاثاء المكروه ، ويوم الأربعاء النور ، وروى النون ، وفي غريب الحديث أنه خلق يوم الأربعاء التّقن (٢) ، وهو كل شيء تتقن به الأشياء ، يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ، فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس ، واليوم الذي خلق فيه النور أو التّقن يعافونه (٣) ، إن هذا لهو الجهل المبين!. وفي المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، فاستجيب له ، وهي ساعة فاضلة ، فالآثار الصّحاح تدل على فضل هذا اليوم ، فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها ، وقد صور قوم أياما من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بها بالا ، فحسبهم الله (٤) ، انتهى.

ومنها : وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله ، انتهى.

ومن شعر ابن العربي (٥) مما نسبه الشيخ أبو حيان قوله : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) في ب : وكذلك كان.

(٢) التقن ، بكسر التاء وسكون القاف : المتقن للأشياء ، الحاذق الماهر ، والطبع ، والطين الذي يذهب عنه الماء فيتشقق ، وما يرسب من الماء الكدر في الحوض.

(٣) عافه : كرهه ونفر منه.

(٤) في ب : ولا يشغل بالا بها ، والله حسبهم.

(٥) تنسب هذه الأبيات إلى المتصوف الكبير محيي الدين بن عربي ، وهو في ابتداء كتابه أسمى ترجمان الأشواق ص ١١.


ليت شعري هل دروا

أيّ قلب ملكوا

وفؤادي لو درى

أيّ شعب سلكوا(١)

أتراهم سلموا

أم تراهم هلكوا

حار أرباب الهوى

في الهوى وارتبكوا

ومن فوائده : أخبرني المهرة من السّحرة بأرض بابل أنه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلقها لم يبلغ إليه سحرنا ، قال : هكذا قالوا ، والله تعالى أعلم بما نقلوه.

وقال رحمه الله تعالى : حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب ، فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحوا من عشرة بما يتبعها في إظهار وإدغام ونحوه ، وتمرنت في العربية (٢) واللغة ، ثم رحل بي أبي إلى المشرق ، ثم ذكر تمام رحلته ، رحمه الله تعالى!.

٩ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجّاج ، الغافقي ، الإشبيلي.

ومن نظمه بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام : [السريع]

لم يبق لي سؤل ولا مطلب

مذ صرت جارا لحبيب الحبيب

لا أبتغي شيئا سوى قربه

وها أنا منه قريب قريب

من غاب عن حضرة محبوبه

فلست عن طيبة ممّن يغيب

لا تسأل المغبوط عن حاله

جار كريم ومحلّ خصيب

العيش والموت هنا طيّبّ

بطيبة لي كلّ شيء يطيب

وممن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل.

١٠ ـ ومنهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن ذي النون ، الأنصاري ، المالقي ، من أشياخ أبي حيّان ، لقيه ببلبيس من ديار مصر ، قال : وأنشدني لشيخه أبي عبد الله (٣) الإستجي من قصيدة : [الكامل]

__________________

(١) الشعب ، بكسر الشين وسكون العين : الطريق في الجبل.

(٢) في ب : وتمرنت في العربية والشعر واللغة. وفي ج : وتمرنت في الغريب والشعر واللغة.

(٣) في ه : لشيخه عبد الله الإستجي.


ما للنّسيم سرى يهبّ عليلا

أتراه يشكو لوعة وغليلا(١)

جرّ الذّيول على ديار أحبّتي

فأتى يجرّ من السّقام ذيولا

وأنشد رحمه الله تعالى لرضوان المخزومي : [المجتث]

إن كنت يوسف حسنا

وكنت عبد العزيز

فإنّ يوسف من قب

ل كان عبد العزيز

وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله بن صالح ، وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام وأبي زيد القمارشي ، وعلى أبي جعفر السّهيلي ، وولد ابن ذي النون سنة ٦١٨ (٢) بمالقة ، ومن تواليفه «نفح المسك الأذفر ، في مدح المنصور بن المظفر» و «أزهار الخميلة ، في الآثار الجميلة» و «استطلاع البشير» و «محض اليقين» و «روض المتقين».

١١ ـ ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زيادة اللخميّ ، المعروف بشبطون ، يكنى أبا عبد الله ، كان فقيه الأندلس على مذهب مالك ، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس ، وكانوا قبله يتفقّهون على مذهب الأوزاعي ، وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه ، فهرب ، فقال هشام : ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى الرغبة في الدنيا ، وأرسل إلى زياد فأمّنه حتى رجع إلى داره.

ويحكى أنه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير ، وعرفوه عزمه عليه ، فقال لهم : أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثا لئن أتاني مدّع في شيء مما في أيديكم لأخرجنّه عنكم ثم أجعلكم مدّعين فيه ، فلما سمعوا منه ذلك علموا صدقه ، فتكلموا (٣) عند الأمير في معافاته.

سمع من مالك الموطأ ، ويعرف سماعه بسماع زياد ، وسمع من معاوية بن صالح ، وكانت ابنة معاوية تحته ، وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك ، ثم رحل فأدرك مالكا فرواه عنه إلا أبوابا في كتاب الاعتكاف ، شك في سماعها من مالك ، فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك.

وتوفي سنة أربع ومائتين ، وقيل : سنة ١٩٣ ، وقيل : في التي بعدها ، وقيل : سنة ١٩٩ ، والأول أولى بالقبول ، والله تعالى أعلم ..

__________________

(١) في ب : ما للنسيم سرى الأصيل عليلا. وفي ه : ما للنسيم جرى الأصيل عليلا.

(٢) في ب ، ه : سنة ٦١٧.

(٣) في ج : فعملوا عند الأمير.


ورحل في ذلك العصر جماعة من أمثال شبطون (١) ، كفرغوس بن العباس وعيسى بن دينار (٢) وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممن رحل إلى الحج أيام هشام بن عبد الرحمن والد الحكم ، فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس ، فانتشر يومئذ (٣) رأيه وعلمه بالأندلس ، وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون.

وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس مكملا متقنا ، فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر ، وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه ، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيا ، فرحل سريعا ، وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى.

ولقي أيضا عبد الله بن وهب صاحب مالك ، وسمع منه الموطأ (٤) ، ولقي أيضا عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك ، وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر ، ومن سفيان بن عيينة بمكة ، وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم ، فانتشر به وبزياد وبعيسى (٥) بن دينار علم مالك بالأندلس ، رضي الله تعالى عن الجميع!.

وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك ، فليراجع في الباب الثالث.

١٢ ـ ومنهم سوار بن طارق مولى عبد الرحمن بن معاوية ، قرطبي ، حج ودخل البصرة ، ولقي الأصمعي ونظراءه ، وانصرف إلى الأندلس ، وأدّب الحكم ، ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار ، حج أيضا ، ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما ، وأدخل الأندلس علما كثيرا ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٣ ـ ومنهم بقي بن مخلد ، الشهير الذكر ، صاحب التآليف التي لم يؤلف مثلها في الإسلام ، ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخا ، وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وستأتي جملة فيما (٦) يتعلق ببقي بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع ، وبقيّ على وزن عليّ ، رحمه الله تعالى ورضي عنه! وقد عرف ببقي بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب النبراس وغيره.

١٤ ـ ومنهم قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف ، أبو محمد ، البيّاني ، وبيّانة : من

__________________

(١) في ب : من أنظار شبطون.

(٢) انظر الأعلام للزركلي ج ٥ ص ٢٨٦.

(٣) في ه : حينئذ.

(٤) في ج : وسمع منه موطأه.

(٥) في ب : وعيسى بن دينار.

(٦) في ه ، ب : مما يتعلق ببقي بن دينار.


أعمال قرطبة (١) ، وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك ، وسمع المذكور بقرطبة من بقي ابن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرّف بن قيس وأصبغ بن خليل وابن مسرة وغير واحد ، ورحل إلى المشرق مع محمد بن عبد الملك بن أيمن ومحمد بن زكريا بن عبد الأعلى سنة أربع وسبعين ومائتين ، فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز ، ودخل العراق ، فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار (٢) ، وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة تاريخه ، وسمع من ابن قتيبة كثيرا من كتبه ، وسمع من المبرد وثعلب وابن الجهم في آخرين ، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما ، وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر ، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير ، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد بن زهير وكتب ابن قتيبة ، وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى ، وكان بصيرا بالحديث والرجال ، نبيلا في النحو والغريب والشعر (٣) ، وكان يشاور في الأحكام ، وصنف على كتاب السنن لأبي داود كتابا في الحديث ، وسببه أنه لما قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد بن أيمن ، فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير ، فلما فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفا في السنن على أبواب كتاب أبي داود ، وخرجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان ، ثم اختصر قاسم بن أصبغ كتابه وسماه «المجتنى» بالنون. وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، وجعله باسم الحكم المستنصر ، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا في سبعة أجزاء.

ومولده يوم الاثنين عاشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائتين ، رحمه الله تعالى!.

وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] : أن قاسم بن أصبغ قال : لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان ، فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدّد (٤) ، فقرأت عليه يوما فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قدم عليه قوم من

__________________

(١) بيانة : من أعمال قرطبة ، وهي من مدن قبرة ، وعلى يمين الذاهب إلى قرطبة ، وشرقي قبرة ، بينهما عشرة أميال ، وهي على ربوة من الأرض ، طيبة التربة ، كثيرة المياه السائحة ولها حصن منيع ، ثم ذكر من أهلها قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح بن عطاء البياني (صفة جزيرة الأندلس ص ٥٩).

(٢) في ج : القصاد وهو تحريف.

(٣) في ب ، ه : في النحو والعربية والشعر.

(٤) في ه : أخذت عن بكر بن حماد حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه ... إلخ.


مضر مجتابي النمار» فقال : إنما هو مجتابي الثمار ، فقلت : إنما هو مجتابي النمار ، هكذا قرأته على كل من لقيته بالأندلس والعراق ، فقال لي : بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا؟ أو نحو هذا ، ثم قال لي : قم بنا إلى ذلك ، لشيخ كان في المسجد ، فإن له بمثل هذا علما ، فقمنا إليه وسألناه عن ذلك ، فقال : إنما هو مجتابي النمار كما قلت ، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم ، والنمار : جمع نمرة ، فقال بكر بن حماد ، وأخذ بأنفه : رغم أنفي للحق ، وانصرف ، انتهى.

وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين ، رحمهما الله تعالى ورضي عنهما ، ونفعنا بهما!.

١٥ ـ ومنهم قاسم بن ثابت ، أبو محمد ، العوفي ، السّرقسطي ، رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار ، وبمكة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري ، واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه ، فأدخلا إلى الأندلس علما كثيرا ، ويقال : إنهما أوّل من أدخل كتاب العين (١) إلى الأندلس ، وألف قاسم في شرح الحديث كتابا سماه «الدلائل» ، بلغ فيه الغاية في الإتقان ، ومات قبل إكماله ، فأكمله أبوه ثابت (٢) بعده ، وقد روي عن أبي علي البغدادي أنه كان يقول : كتبت كتاب الدلائل ، وما أعلم أنه وضع بالأندلس ، مثله ، وكان قاسم عالما بالحديث واللغة ، متقدما في معرفة الحديث والنحو والشعر ، وكان مع ذلك ورعا ناسكا ، وأريد على القضاء بسرقسطة ، فأبى ذلك ، فأراد أبوه إكراهه عليه ، فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثة أيام (٣) ، ويستخير الله تعالى ، فمات في هذه الثلاثة الأيام ، فيروون أنه دعا لنفسه بالموت ، وكان مجاب الدعوة ، توفي سنة ٣٠٣ (٤) بسرقسطة ، رحمه الله تعالى!.

١٦ ـ ومنهم علم الدين أبو محمد المرسيّ اللّورقي (٥) ، وهو قاسم بن أحمد بن موفق بن جعفر ، العلامة ، المقرئ ، الأصولي ، النحوي ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة ، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله بن نوح

__________________

(١) كتاب العين : للخليل بن أحمد الفراهيدي.

(٢) في ج : فأكمله ابن ثابت بعده. وفي ه : فأكمله أبو ثابت بعده ، وكلاهما تحريف ظاهر الخطأ.

(٣) في ب : في أمره ثلاثا.

(٤) في ب : سنة ٣٠٢.

(٥) ترجمته في غاية النهاية في طبقات القراء ج ٢ ص ١٥.


الغافقي ، وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس ، وبدمشق على التاج زيد الكندي ، وسمع ببغداد من أبي محمد بن الأخضر ، وأخذ العربية عن أبي البقاء ، ولقي الجزولي (١) بالمغرب ، وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته ، فأجابه ، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة ، وكان يقرئ ذلك ويحققه ، وأقرأ بدمشق ، ودرس ، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد ، وشرح الجزولية والشاطبية ، وكان مليح الشكل ، حسن البزة ، موطّأ الأكناف ، قرأ عليه جماعة ، وتوفي سابع رجب سنة ٦٦١ ، وكان معمرا مشتغلا بأنواع العلوم ، وسماه بعضهم أبا القاسم ، والأوّل أصح.

١٧ ـ ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار ، أبو محمد ، من أهل قرطبة ، وجدّه مولى الوليد بن عبد الملك (٢) ، رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم ، ولزم ابن عبد الحكم للتفقه ، وتحقق به وبالمزني ، وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد ، ويميل إلى مذهب الشافعي ، ولما قال له ابنه محمد بن القاسم : يا أبت أوصني ، قال : أوصيك بكتاب الله ، فلا تنس حظك منه ، واقرأ منه كل يوم جزءا ، واجعل ذلك عليك واجبا ، وإن أردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ ، يعني الفقه ، فعليك برأي الشافعي ، فإني رأيته أقل خطأ ، قال أبو الوليد بن الفرضي : ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة ، وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة : ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد فيمن (٣) دخل الأندلس من أهل الرحلة ، وقال أسلم بن عبد العزيز : سمعت عن ابن عبد الحكم أنه قال : لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد ، ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس ، وقلت له : أقم عندنا فإنك تعتقد (٤) ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك ، فقال : لا بدّ من الوطن ، وقال سعيد بن عثمان (٥) : قال لي أحمد بن صالح الكوفي : قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد ، فرأيت رجلا فقيها.

وألف رحمه الله تعالى كتابا نبيلا في الرد على ابن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه ، وله كتاب في خبر الواحد.

__________________

(١) الجزولي : انظر وفيات الأعيان ـ تحقيق محيي الدين عبد الحميد ج ٣ ص ١٥٧.

(٢) في الجذوة : مولى هشام بن عبد الملك.

(٣) في ب ، ه : ممن دخل الأندلس.

(٤) في ب ، ه : تقتعد ، وهو أصح.

(٥) هو سعيد بن عثمان الأعناقي.


وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه.

روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين (١).

توفي سنة ست ـ أو سبع ، أو ثمان ـ وسبعين ومائتين ، رحمه الله تعالى!.

١٨ ـ ومنهم أبو بكر الغساني ، وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود ، من أهل المرية ، قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي ، ثم عاد إلى بلده ، وشوور ، واستقضي بمرسية مدة طويلة ، ثم صرف ، وسكن مراكش ، قال ابن بشكوال : توفي بمراكش في رجب سنة ٦٣٦ ، وقال أبو جعفر بن الزبير : إن له كتاب تفسير القرآن ، وبيته بيت علم ودين.

١٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيّون ، من أهل وادي الحجارة ، قال ابن الفرضي ، سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس ، ورحل إلى المشرق ، فتردد هنالك ، نحوا من خمس عشرة سنة ، وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل : منهم عبد الله بن أحمد ، وسمع بمصر من الخفاف النيسابوري (٢) وإبراهيم بن موسى وغيرهما ، وبالمصيصة والقيروان ، وكان إماما في الحديث ، عالما ، حافظا للعلل بصيرا بالطرق ، ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه ، وهو ضابط متقن ، حسن التوجيه (٣) للحديث ، صدوق ، ولم يذهب مذهب مالك ، ومن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم ، وقال خالد بن سعيد : لو كان الصدق لسانا لكان ابن حيّون ، وكان يزنّ بالتشيّع (٤) لشيء كان يظهر منه في حق معاوية ، رضي الله تعالى عنه! وكان شاعرا ، وتوفي بقرطبة سنة ٣٠٥ ، سامحه الله تعالى!.

٢٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم (٥) بن غالب ، المالقيّ (٦) ، قال ابن نقطة : سمع بالإسكندرية من أبي الحسن بن المقدسي ، وكان فاضلا ، رأيت بخطه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة ٦٠٤ ، وسمع بمصر شيئا من الخلعيّات ، قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس : روى بمالقة ، ورحل إلى المشرق ،

__________________

(١) في ابن الفرضي : في جماعة سواهم.

(٢) في ه : الحفاظ النيسابوري.

(٣) في ه : حسن التوجه للحديث.

(٤) يزن : يتهم. وفي ب : بالتشييع.

(٥) بن إبراهيم : غير موجودة في ب.

(٦) التكملة ص ٦٣٨ ، والذيل والتكملة ج ٦ ص ٣٥.


وحج ، ولقي أبا الحسن علي بن المفضل (١) المقدسي ، وأخذ عنه كتاب «تحقيق الجواب ، عمن أجيز له ما فاته من الكتاب» من تآليفه ، ورجع إلى الأندلس ، ثم نهض إلى مراكش فتوفي في أقصى بلاد السّوس في حدود سنة ٦٤٥ ، رحمه الله تعالى!.

٢١ ـ ومنهم اليقّوري ، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب «إكمال الإكمال» للقاضي عياض على صحيح مسلم ، وكتب على كتاب الشهاب القرافي في الأصول ، وسمع الحديث ، وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة ، ثم عاد بعد حجه ، ومات بمراكش سنة ٧٠٧ ، وقد زرت قبره بها مرارا ، قال الحافظ المقريزي : واليقّوري نسبه إلى يقّورة (٢) ـ بياء آخر الحروف مفتوحة ، وقاف مشددة ، وراء مهملة ـ بلد بالأندلس ، انتهى.

٢٢ ـ ومنهم أبو عبد الله الأنصاري ، وهو محمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد السلام ، ويعرف بابن شق الليل ، من أهل طليطلة ، سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد بن النحاس وأبا القاسم بن ميسرة وأبا الحسن بن بشر وغيرهم ، وسمع بطليطلة من جماعة ، وحدث عن جماعة من المحدثين كثيرة.

قال ابن بشكوال : وكان فقيها عالما ، وإماما متكلما ، حافظا للفقه والحديث ، قائما بهما ، متقنا لهما ، إلا أن المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر بمعانيه وعلله كان أغلب عليه ، وكان مليح الخط ، جيد الضبط ، من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم ، وكان أديبا شاعرا مجيدا لغويا دينا فاضلا ، كثير التصانيف والكلام على علم الحديث ، حلو الكلام في تآليفه ، وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات ، وتوفي بطلبيرة (٣) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة ٤٥٥ ، رحمه الله تعالى!.

٢٣ ـ ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله (٤) سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي ، شيخ السالكين ، وإمام العارفين ، وقدوة المحققين ، قدم مصر بعد ما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد ، وكان يقول : صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم

__________________

(١) في ج : علي بن الفضل.

(٢) لم ترد في معجم البلدان ، وإنما ورد : بقيرة ـ بالفتح ثم الكسر ـ وقال : مدينة في شرقي الأندلس ، معدودة في أعمال تطيلة. أما صفة جزيرة الأندلس فلم يرد فيها بقورة أيضا وإنما ورد يبورة ص ١٩٨.

(٣) طلبيرة : بلد بالأندلس بينها وبين وادي الرمل خمسة وثلاثون ميلا وهي أقصى ثغور المسلمين (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٨).

(٤) في ب : بالله تعالى.


بأربعة : الشيخ أبي الربيع ، والشيخ أبي الحسن بن طريف ، والشيخ أبي زيد القرطبي ، والشيخ أبي العباس الجوزي ، وسلك على يده جماعة : منهم الشيخ أبو العباس القسطلاني ، فإنه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء ، وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجة سنة ٥٩٩ عن خمس وخمسين سنة ، ودفن هناك ، وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة ١٠٢٨ ، ومن كلامه : من لم يدخل في الأمور بلطف الأدب (١) لم يدرك مطلوبه منها ، وقوله : العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف ، فإنه تعالى يقول : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] وقال : من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة ، وقال : سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول : لما حضرت الشيخ أبا الحسن بن غالب الوفاة قال لأصحابه : اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرة ، واجعلوا ثوابها لي ، فإنه بلغني أنها فداء كل مؤمن من النار ، قال : فعلمناها ، واجتمعنا عليها ، وجعلنا ثوابها له.

ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه : وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثا ، ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه ، والله تعالى أعلم.

وقال رحمه الله تعالى : دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاوري (٢) ، فقال لي : أعلمك شيئا تستعين به ، إذا احتجت لشيء فقل : يا واحد يا أحد يا واحد يا واجد يا جواد ، انفحنا منك بنفحة خير ، إنك على كل شيء قدير ، قال : فأنا أنفق منها منذ سمعتها ، وقال رحمه الله تعالى : ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلا وقد شاهدته نفسي ، وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات ، ومنهن أم القطب القسطلاني ، وحكت أنها خرجت عنه يوما لحاجتها ، ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حسّ رجل ، فتوقفت وتفقدت (٣) الباب فوجدته مغلقا ، فلما انقطع الكلام دخلت إليه ، فإذا هو وحده كما تركته ، وسألته (٤) عن ذلك ، فقال : هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال : هذه حيتك (٥) جئتك بها من أرض نجد ، وفيها شفاء مرضك ، فقلت : لا أريد ، اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها ، ودخل عليه بعض نسائه يوما ، فوجدته بصيرا نقي الجسم من الجذام ، فلما نظرته قال لها : أتريدين أن أبقى لك هكذا؟ فقالت له : يا سيدي كن كيف شئت ، إنما مقصودي خدمتك وبركتك ، وقيل له ، وقد

__________________

(١) في ب ، ه : من لم يدخل في الأمور بالأدب.

(٢) في ب ، ه : المغاور.

(٣) في ب ، ه : وافتقدت.

(٤) في ب ، ه : فسألته.

(٥) كلمة «حيتك» : غير موجودة في ب ، ه.


تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها ، مع كونه ضريرا ، عن ذلك ، فقال : كلي أعين (١) ، بأي عضو أردت أن أنظر به نظرت ، وقال : هممت أن أدعو برفع الغلاء ، فقيل لي : لا تدع فما نسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء ، فسافرت إلى الشام ، فلما وصلت إلى بلد الخليل عليه السلام تلقاني رسول الله (٢) الخليل حين ورودي عليه ، فقلت له : يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر ، فدعا لهم ففرج الله عنهم ، ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر ، وإنما قصدنا بذكره (٣) البركة وكفارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض ، والله المرجو في العفو.

ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له : ألا أعلمك كنزا تنفق منه ولا ينفد؟ قلت : بلى ، قال : قل : يا الله ، يا أحد ، يا واحد ، يا موجود ، يا جواد ، يا باسط ، يا كريم ، يا وهاب ، يا ذا الطّول ، يا غني ، يا مغني ، يا فتاح ، يا رزاق ، يا عليم ، يا حي ، يا قيوم ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حنان ، يا منان ، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف : ١٣] ، اللهم يا غني يا حميد ، يا مبدئ يا معيد ، يا رحيم (٤) يا ودود ، يا ذا العرش المجيد ، يا فعالا لما يريد ، اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ، واحفظني بما حفظت به الذكر الحكيم (٥) ، وانصرني بما نصرت به الرسل ؛ إنك على كل شيء قدير ، فمن دوام على قراءته بعد كل صلاة خصوصا صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف ، ونصره على أعدائه ، وأغناه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ويسّر عليه معيشته ، وقضى عنه دينه ، ولو كان عليه أمثال الجبال دينا ، بكرمه وإحسانه ، انتهى ، نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي ، ومن خطه نقلت ، رحم الله تعالى الجميع! ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى ، إلا أنه لم يقل فيه «يا ودود» ، واتفقا فيما عدا ذلك ، والله سبحانه أعلم.

وقال ابن خلكان في حقه : محمد بن أحمد (٦) بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء ، كانت له كرامات ظاهرة ، ورأيت. أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة ، ولقيت جماعة ممن صحبه ، وكل منهم يثني (٧) عليه من بركته ، وذكروا عنه أنه

__________________

(١) في ب ، ه : كلي عين.

(٢) الله : هذه الكلمة غير موجود في ه.

(٣) في ب : بذكرها.

(٤) يا رحيم : غير موجودة في ب.

(٥) الحكيم : غير موجودة في ب.

(٦) بن أحمد : غير موجودة في ه.

(٧) في ب ، ه ، وابن خلكان : وكل منهم قد نمى عليه من بركته.


وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد من الولايات والمناصب العلية ، وأنها صحت كلها ، وكان من السادات الأكابر والطراز الأول ، وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد ، وانتفع بهم ، فلما وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده ، ثم سافر إلى الشام قاصدا زيارة بيت المقدس ، وأقام بها إلى أن مات ، وصلى عليه بالمسجد الأقصى ، وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به (١).

والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس : مدينة تقابل سبته من بر (٢) العدوة.

ومن جملة وصاياه لأصحابه : سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة ، انتهى ببعض اختصار.

٢٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسين (٣) القرطبي ، سمع من قاسم بن أصبغ وغيره ، وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموال (٤) والبارودي وابن السكن في آخرين ، وسمع بالرملة وبيت المقدس ، وكان ضابطا بصيرا بالنحر واللغة فصيحا بليغا طويل اللسان ، ولي الشرطة ببلاد المغرب ، توفي سنة ٣٧٣ (٥).

٢٥ ـ ومنهم أبو بكر الجيّاني (٦) محمد بن علي بن خلف التّجيبي الإشبيلي ، الحافظ الكاتب ، روى عن ابن الجد وغيره ، ومر بمصر حاجا فلقي بمكة أبا حفص الميانشيّ وأبا الحسن المكناسي ، ولقي بالإسكندرية السّلفي وابن عوف وغيرهما ، وكان مدرسا للفقه ، فقيها جليلا ، متقدما فيه عارفا فاضلا سنيا ، توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن (٧) سنة ٥٩٦ ، وذلك أنه وشى به للمنصور أيام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث.

٢٦ ـ ومنهم أبو بكر الأندلسي الجيّاني محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن ياسر ، الأنصاري ، الجيّاني (٨) سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء

__________________

(١) به : هذه الكلمة سقطت من ج ، وهي في ب ، ه ، وابن خلكان.

(٢) بر : هذه الكلمة سقطت في ج ، وهي في ب ، ه ، وابن خلكان.

(٣) في ب ، ه : محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين.

(٤) في ب ، ه : وابن أبي الموت.

(٥) في ب ، ه : سنة ٣٧٢ ه‍.

(٦) الجياني : غير موجودة في ب.

(٧) حمل المنصور الناس على الكتاب والسنة ، ورفض الاشتغال بالفروع ، فتعرض التجيبي بسبب ذلك للمحنة ، فأصيب بالفالج الذي لازمه حتى توفي.

(٨) الأنصاري ، الجياني : غير موجودة في ج.


النهر ، ولقي أئمتها ، وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل ، ثم اشتغل بالحديث وسماعه وحفظه وحصل منه كثيرا ، ثم سكن بلخ مدة ، وعاد إلى بغداد ودخلها سنة ٥٥٩ ، وتوجه إلى مكة فحج ، ورجع إلى الشام ، واستوطن حلب ، إلى أن توفي بها ، ووقف كتبه ، وكان متدينا صدوقا حافظا عالما بالحديث ، وفيه فضل ، ولد بجيّان سنة ٤٩٢ ، ومات بحلب سنة ٥٦٣.

٢٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي التّجيبي الدهان الغرناطي ، كان حسن السّمت بارع الخط والخلق والخلق ، رحل إلى الحج ، وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة ، وكان عدلا فاضلا على خير ودين ، وكان متحرفا بالتجارة بغرناطة ، ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعد ما حج سنة ٦٥٠ ، وصدر من مكة سنة ٦٥٣ فمات قبل منتصف السنة ، رحمه الله تعالى!.

٢٨ ـ ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني الأندلسي الإشبيلي النحوي ، ولد سنة ٦١٧ بإشبيلية ، وقدم مصر فسمع الكثير بها ، وبدمشق وغيرها ، وكان إماما عالما نحويا فاضلا ، كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم ، وناهيك بهما علما (١).

٢٩ ـ ومنهم أبو بكر أبو (٢) عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل. البلنسي رحل وسمع من السّلفي ، وحج ، قال أبو الربيع بن سالم : هو شيخ صدوق متيقظ ، سمع أباه وأبا الوليد بن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة ، وأخذ بمكة سنة ٥٣٩ عن أبي علي حسن المقري ، (٣) وقفل إلى الأندلس سنة ٥٤٦ ، فأخذ عنه بها ، وسمع منه جماعة ، قال ابن الأبار : كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع ، توفي ببعض قرى بلنسية سنة ٥٨٣ (٤) ، ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة ، وله حظ من علم التعبير واللغة ، رحمه الله تعالى!.

٣٠ ـ ومنهم أبو عبد الله ، ويقال : أبو سلمة ، محمد بن علي البيّاسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين ، روى عن الحافظ أبي جعفر (٥) بن الزبير وغيره ، وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد

__________________

(١) علما : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : أبو بكر وأبو عبد الله.

(٣) في ب : أبي علي الحسن المقرئ.

(٤) في النسخ كثير من الاختلاف في سنة وفاته ، وفي التكملة : سنة ٥٨٨ ه‍.

(٥) في ه : أبي حفص.


الحج ، حتى مات بها سنة ٧٠٣ ، وكان عارفا بعلم الحديث وكتب منه كثيرا ، ومال إلى مذهب الظاهرية ، وانتفع به جماعة من طلبة الحديث وكان ثقة ، رحمه الله تعالى!.

٣١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي ، الغرناطي ، قدم مصر حاجا ، وأقام بمكة والمدينة ، وكان إماما فاضلا عالما متفننا (١) في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر ، ومع معرفته بمذهب مالك ينقل كثيرا من مذهب الشافعي ، وسمع الموطأ بتونس من أبي محمد بن هارون القرطبي ، ومولده بغرناطة سنة ٦٧١ ، وتوفي سنة ٧١٥.

ومن شعره رضي الله تعالى عنه (٢) : [الطويل]

إذا كنت جارا للنّبيّ وصحبه

ومكّة بيت الله منّي على قرب

فما ضرّني أن فاتني رغد عيشة

وحسبي الّذي أوتيته نعمة حسبي

وقوله : [المتقارب]

نزيل الكرام عزيز الجوار

وإنّي نزيل عليكم وجار

حللت ذراك وأنت الكريم

ومن حلّ مثوى كريم يجار(٣)

٣٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي ـ قدم مصر ، وروى عن أبي محمد (٤) ابن الوليد بها ، وكان عالما ، وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها ، منها قوله : [الوافر]

وطاعة من إليه الأمر فالزم

وإن جاروا وكانوا مسلمينا

فإن كفروا ككفر بني عبيد

فلا تسكن ديار الكافرينا

واسم ابنه حسن ، وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي في رحلته سنة ٤٨٥ ، ووصفه بالعلم ، وعمّار : بالراء.

٣٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخّار القرطبي الحافظ ـ روى عن عيسى الليثي وابن عون الله أبي جعفر (٥) التميمي وأبي محمد الباجي ، وقدم مصر ، وحج ،

__________________

(١) في نسخة : متقنا.

(٢) في ب : ومن شعره :

(٣) الذرى ، بفتح الذال والراء : ساحة الدار ونواحيها.

(٤) أبي محمد : غير موجودة في ب.

(٥) في ب ، ج : وابن عون الله وأبي جعفر.


وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ، وأفتى بها ، وافتخر بذلك على أصحابه ، وقال : لقد شوورت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دار مالك بن أنس ومكان شوراه ، ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم ، وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم ، عارفا بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء ، ذاكرا للروايات ، يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد ، ويوردها من صدره دون كتاب.

قال ابن حيان مؤرخ الأندلس : توفي الفقيه المشاور الحافظ المستبحر (١) الرواية ، الطويل الهجرة في طلب العلم ، الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة ٤١٧ لعشر خلون من الشهر ، وكان الحفل في جنازته عظيما ، وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع زافّة (٢) فوق النعش لم تفارق نعشه إلى أن ووري ، فتفرقت ، ومكث مدة ببلنسية مطاعا عظيم القدر عند السلطان والعامة.

وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير ، وكذا ذكر الحسن بن محمد القبّشي خبر الطير.

قال : وكانت سنه نحو الثمانين سنة ، وكان مجاب الدعوة ، وظهرت في دعوته الإجابة.

وقال أبو عمرو الداني : إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة ، ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية ، وبلغ نحو ست وسبعين سنة ، وهو آخر الفقهاء الحفاظ الراسخين العاملين (٣) بالكتاب والسنة بالأندلس ، رحمه الله تعالى!.

٣٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي ـ سمع علي بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة ، وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره ، وحج ودخل العراق ، وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة ، وعاد إلى الأندلس ، وشهر بالعلم والمال ، وولي الأحباس بقرطبة ، حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وغيره ، ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة ، رحمه الله تعالى!.

٣٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح ، المعافري (٤) ،

__________________

(١) في ب ، ه : المتبحر.

(٢) في ب : رافّة ، والخطاطيف : جمع خطاف ، وهو طائر أسود في حجم العصفور ، وتجللت : غطت. وزافة : أي كان لها صوت.

(٣) في ب ، ه : العالين.

(٤) انظر : ابن الفرضي ج ٢ ص ٧ ، والجذوة : ص ٦٩.


المعروف بالأعشى ، القرطبي ـ رحل سنة ١٧٩ فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة ، وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار ، وكان صالحا عاقلا سريا جوادا يذهب إلى مذهب أهل العراق ، وتوفي سنة ٢٢١ ، ذكره ابن يونس وغيره.

٣٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي ، الإلبيري (١) ، الزاهد ـ قال الحميدي في حقه : هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال ، وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما ، وروي بالأندلس عن جماعة منهم بقي بن مخلد وابن وضاح ، وسمع بمكة وغيرها من مائة شيخ ، قال ابن الفرضي : كان شيخا (٢) نبيلا ، ضابطا لكتبه ، ثقة في روايته ، صدوقا في حديثه ، وكانت الرحلة إليه بإلبيرة ، وبها مات في شوال سنة ٣١٩ وهو ابن تسعين سنة ، رحمه الله تعالى!.

٣٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار ، القرطبي ـ من موالي بني أمية سمع من أبيه ومن بقي بن مخلد وغيره ، ورحل سنة ٢٩٤ فسمع بمصر من النسائي ، ومن أحمد بن حماد زغبة ، وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان من مائة وستين رجلا ، قال أبو محمد الباجي : لم أدرك بقرطبة أكثر حديثا منه ، وكان عالما بالفقه ، متقدما في علم الوثائق ، رأسا فيها ، وكان مشاورا ، سمع من الناس كثيرا ، وكان ثقة صدوقا ، وغزا سنة ٣٢٧ ، ومات ثالث ذي الحجة منها ، ومولده سنة ٢٦٣ ، وقيل : توفي سنة ٣٢٨ ، قاله ابن يونس والحميدي.

٣٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم القرشي الفهري ، عرف بابن رمان ، الغرناطي ـ قرأ على أبي جعفر بن الزبير بها ، وقدم إلى القاهرة سنة ٧٢٢ ، ومات بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام سنة ٧٢٩.

ومن شعره قوله : [الوافر]

فديتم خبّروني كيف صحّت

فريضة هالك من غير مين(٣)

__________________

(١) الإلبيري : نسبة إلى إلبيرة ، من كور الأندلس ، نزلها جنود دمشق من العرب ، وكثير من موالي الإمام عبد الرحمن بن معاوية ، وهو الذي أسسها. وبين إلبيرة وغرناطة ستة أميال. (صفة جزيرة الأندلس ، ص ٢٩).

(٢) في ج : كان شيخنا نبيلا.

(٣) المين ، بفتح الميم وسكون الياء : الكذب.


لزيد زوجة ولها ابن أمّ

فماتت عنهما لا غير ذين

فحاز البعل ما تركته إرثا

وولّى غيره صفر اليدين

ولا رقّ فديت على أخيها

وليس بكافر يرمى بشين (١)

وليس معجّلا إرثا بقتل

مخافة أن ينال شقاوتين

٣٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن لبّ الشاطبي ـ حدث بالقاهرة ، وتوفي قريبا من سنة ٦٤٠ ، وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن بن الصباغ ، ومن كلامه : اشتغالك بوقت لم يأت تضييع للوقت الذي أنت فيه ، ولعمري لقد صدق.

٤٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سراقة الشاطبي (٢) بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة ، محيي الدين ، ويكنى أيضا أبا القاسم وأبا بكر ، الأنصاري الشاطبي ، المالكي ـ ولد بشاطبة سنة ٥٩٢ ، وسمع من أبي القاسم بن بقي ، ورحل في طلب الحديث ، فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبي طالب القبّيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة ، وسمع بحلب من ابن شداد وغيره ، وتولى مشيخة دار الحديث البهادية (٣) بحلب ، ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل القصري سنة ٦٤٢ ، وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة ٦٦٣ (٤) ، ودفن بسفح المقطم ، وكان الجمع كبيرا ، وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل ، وأحد المشايخ الصوفية ، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر ، وكان صالح الفكرة في حل التراجم ، مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق ، واطراح التكلف ، ورقة الطبع ، ولين الجانب.

ومن شعره قوله : [الطويل]

نصبت ومثلي للمكارم ينصب

ورمت شروق الشّمس وهي تغرّب(٥)

وحاولت إحياء النّفوس بأسرها

وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب(٦)

__________________

(١) الشين ، بفتح فسكون : العيب والقبح.

(٢) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ٣١٠ وغيره.

(٣) في الوافي ، ب : البهائية ، وهو أصح.

(٤) في ب ، ه : سنة ٦٦٢.

(٥) نصب : جد واجتهد.

(٦) غرغر : جاد بنفسه عند الموت.


وأتعب إن لم تمنح الخلق راحة

وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب

مرادي شيء والمقادير غيره

ومن عاند الأقدار لا شكّ يغلب

وقوله : [الطويل]

إلى كم أمنّي النّفس ما لا تناله

فيذهب عمري والأمانيّ لا تقضى

وقد مرّ لي خمس وعشرون حجّة

ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى(١)

وأعلم أنّي والثّلاثون مدّتي

حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا

وفماذا عسى في هذه الخمس أرتجي

ووجدي إلى أوب من العشر قد أفضى

فيا ربّ عجّل لي حياة لذيذة

وإلّا فبادر بي إلى العمل الأرضى(٢)

 وقال رحمه الله تعالى : [مخلع البسيط]

وصاحب كالزّلال يمحو

صفاؤه الشّكّ باليقين

لم يحص إلّا الجميل منّي

كأنّه كاتب اليمين

وهذا عكس قول المنازي (٣) : [مخلع البسيط]

وصاحب خلته خليلا

وما جرى غدره ببالي

لم يحص إلّا القبيح منّي

كأنّه كاتب الشّمال

٤١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الفرّيشي (٤) ـ بكسر الفاء ، وتشديد الراء المهملة ، بعدها شين معجمة ـ نسبة إلى فرّيش إحدى مدائن قرطبة.

ولد بغرناطة سنة ٥٥٧ ، وقرأ بالروايات على أبي القاسم بن غالب ، وسمع عليه وعلى أبي القاسم بن بشكوال وغيره ، وسمع بمكة ، وحدث بمصر ، وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة ٦٣٣ ، وكان مشهورا بالصلاح ، معروفا بإجابة الدعاء ، ورعا ثقة زاهدا فاضلا ، رحمه الله تعالى!.

٤٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون ، وقيل : محمد بن عمر بن خيرون.

__________________

(١) حجّة : سنة.

(٢) البيت غير موجود في ب.

(٣) انظر ترجمة المنازي في وفيات الأعيان ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ج ١ ص ١٢٦.

(٤) في ب : محمد بن محمد بن أحمد. والفرّيشي : نسبة إلى فرّيش ، بلدة تقع إلى الشمال من قرطبة.


أندلسي ، سكن القيروان ، ورحل إلى المشرق ، وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبد الله بن رجاء (١) وأبي الحسن إسماعيل (٢) بن يعقوب الأزرق المدني ، ودخل العراق ، وسمع به من أصحاب علي بن المديني ويحيى بن معين ، وعاد إلى القيروان ، وسمع بها وبقرطبة ، وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية ، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة ، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص ، حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس ، ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق ، وكان يأخذ أخذا شديدا على مذهب المشيخة من أصحاب ورش وتوفي بشعبان سنة ٣٠٦ ، وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق إماما في القراءات ، مشهورا بذلك ، ثقة ، مأمونا ، واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن ، رحمه الله تعالى!.

٤٣ ـ ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار ، القيسي ، الأندلسي ، المالقي.

ولد بمالقة سنة ٦٢٥ وسمع الكثير ، وقدم القاهرة حاجا فسمع بها وبدمشق وكتب بخطه كثيرا ، وكان سريع الكتابة ، سريع القراءة ، كثير الفوائد ، دينا ، خيرا ، فاضلا ، له مشاركة جيدة في عدة علوم ، توفي شابا بالقاهرة سنة ٦٦٢ رحمه الله تعالى!.

٤٤ ـ ومنهم أبو بكر محمد الزّهري ، المعروف بابن محرز ، البلنسي (٣).

ولد بها سنة ٥٢٩ ، وقدم مصر فسمع ابن الفضل وغيره ، وروى عنه جماعة ، وكان أحد رجال الكمال علما وإدراكا وفصاحة وحفظا للفقه وتفننا في العلوم ومتانة في الأدب ، حافظا للغة والغريب ، وله شعر رائق ، ودين متين ، وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة ، وغرناطة في اجتيازه عليها ، وبغيرها من البلاد ، وعلا صيته ، وعرف بالدين والعلم والفضل ، وكان أبو الخطاب يثني على علمه ودينه ، وتوفي (٤) ببجاية سنة ٦٥٥ عن سنّ عالية ، رحمه الله تعالى!.

٤٥ ـ ومن الراحلين (٥) من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة.

__________________

(١) في ب ، ه : كعبيد بن رجاء.

(٢) في ج : وأبي الحسن بن إسماعيل.

(٣) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان ، أبو بكر الزهري البلنسي (الوافي ج ١ ص ١٩٨).

(٤) في ب : توفي.

(٥) في ب ، ه : وممن ارتحل من الأندلس.


وقال ابن ماكولا في حقه : إنه فقيه ، متكلم ، أديب ، شاعر ، سمع بالعراق ، ودرس الكلام وصنف إلى أن مات ، وكان جليلا رفيع القدر والخطر.

وقال غير واحد : إنه ولد سنة ٤٠٣ ، وارتحل سنة ٤٢٦ ، وجاور ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر الهروي (١) الحافظ يخدمه ، ورحل إلى بغداد ودمشق ، ولقي في رحلته غير واحد ، وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطّبري وغيره.

وقال أبو علي بن سكرة : ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي ، وما رأيت أحدا على هيئته وسمته وتوقير مجلسه ، ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم ، فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي ، فقلت له : أدام الله تعالى عزك! هذا ابن شيخ الأندلس ، فقال : لعله ابن الباجي ، فقلت : نعم ، فأقبل عليه.

قال القاضي عياض : وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء ، وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره ، وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه ، وربما أتاها المرة ونحوها ، وكان في أول أمره مقلا حتى احتاج إلى القصد بشعره ، واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضا لحراسة درب ، وقد جمع ابنه شعره.

قال : ولما قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة ، إلا أنه كان خارجا عن المذهب ، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه ، فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه ، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل ، وحل بجزيرة ميورقة ، فرأس فيها ، واتبعه أهلها ، فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك ، فدخل إليه ، وناظره وشهر باطله ، وله معه مجالس كثيرة.

ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه ، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب (٢) على الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم ، وأنه تكذيب للقرآن ، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام ، حتى أثاروا عليه الفتنة وقبّحوا عليه عند العامة ما أتى به ، وتكلم به خطباؤهم في الجمع ، وقال شاعرهم : [البسيط]

__________________

(١) الهروي : غير موجودة في ب.

(٢) الكتب ، بفتح الكاف وسكون التاء : مصدر كتب يكتب ؛ والموضوع الذي يدور عليه الكلام هو ما حدث في صلح الحديبية حين كتب علي «هذا ما صالح عليه رسول الله» فقال سهيل بن عمرو : لو شهدت أنك رسول الله ما حاربتك ، اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمر النبي عليا أن يمحو كلمة «رسول الله» ويكتب مكانها «محمد بن عبد الله» فأكبر علي ذلك ، فأخذ منه رسول الله الرق ، وكتب بيده اسمه ومعلوم أنه أمّي ، والأمي لا يقرأ ولا يكتب.


برئت ممّن شرى دنيا بآخرة

وقال : إنّ رسول الله قد كتبا

فصنف أبو الوليد رحمه الله تعالى رسالة بيّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة. فرجع بها جماعة ؛ إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أمّيا لأنه لا يسمّى كاتبا ، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهم أمّيون ، والحكم للغالب لا للصور النادرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إنّا أمّة أمّيّون» أي : أكثرهم كذلك ، لندور الكتابة في الصحابة ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] انتهى ، وبعضه بالمعنى.

وذكر ابن بسّام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم ، وأنه بدأ بالأدب ، فبرز في ميادينه ، وجعل الشعر بضاعته ، فنال به من كل الرغائب ، ثم رحل فما حل بلدا إلا وجده ملآن بذكره (١) ، نشوان من قهوتي نظمه ونثره (٢) ، فمال إلى علم الديانة ، فمشى بمقياس ، وبنى على أساس ، حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه ، ويرتاحون للأخذ عنه ، ثم كر واستقضي في طريقه بحلب ، فأقام بها نحوا من عام.

قال : وبلغني عن ابن حزم أنه كان يقول : لو لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم.

وصنف أبو الوليد كتبا كثيرة منها كتاب «التسديد ، إلى معرفة التوحيد» وكتاب «سنن المنهاج ، وترتيب الحجاج» وكتاب «إحكام الفصول ، في أحكام الأصول» وكتاب «التعديل والتجريح ، لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح» وكتاب «شرح الموطأ» وهو نسختان : نسخة سماها الاستيفاء ، ثم انتقى منها فوائد سماها «المنتقى» في سبع مجلدات ، وهو أحسن كتاب ألف في مذهب مالك ، لأنه شرح فيه أحاديث الموطأ ، وفرع عليها تفريعا حسنا ، وأفرد منه شيئا سماه «الإيماء» ، وقال بعضهم : إنه صنف كتاب «المعاني ، في شرح الموطأ» فجاء عشرين مجلدا عديم النظير ، وكان أيضا صنف كتابا كبيرا جامعا. بلغ فيه الغاية سماه «الاستيفاء» وله كتاب «الإيماء» في الفقه ، خمس مجلدات ، انتهى.

ومن تصانيفه «مختصر المختصر» في مسائل المدونة ، وله كتاب «اختلاف الموطأ» وكتاب «الإشارة ، في أصول الفقه» وكتاب «الحدود» وكتاب «سنن الصالحين» وكتاب «التفسير» لم يتمه ، وكتاب «شرح المنهاج» وكتاب «التبيين ، لسبيل المهتدين» في اختصار فرق الفقهاء ، وكتاب «السراج» في الخلاف ، ولم يتم ، وغير ذلك.

__________________

(١) كناية عن ذيوع صيته.

(٢) القهوة : الخمر.


وحجّ الباجي رحمه الله تعالى أربع حجج جاور فيها ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر عبد الرحمن بن أحمد الهروي ، وكان يسافر معه للسّروات (١) لأن أبا ذر تزوّج من العرب ، وسكن بها.

وأبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي ، ويعرف بابن السماك ، سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر ، وجاور بمكة ، وألف معجما لشيوخه ، وعمل الصحيح ، وصنف التصانيف ، قال الخطيب : قدم أبو ذر بغداد وأنا غائب ، فحدث بها ، ثم حج وجاور ، ثم تزوّج في العرب ، وسكن السّروات ، وكان يحج كل عام ويحدث ثم يرجع (٢) ، وكان ثقة ضابطا دينا ، وقال الحسن بن بقي المالقي : حدثني شيخي قال : قيل لأبي ذر : من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي؟ فقال : قدمت بغداد ، وكنت ماشيا مع الدارقطني ، فلقينا أبا بكر بن الطيب ، فالتزمه الدارقطني ، وقبّل وجهه وعينيه ، فلما افترقنا قلت : من هذا؟ قال : هذا إمام المسلمين ، والذابّ عن الدين (٣) ، القاضي أبو بكر بن الطيب. فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه ، انتهى.

قلت : هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي ، وهو الذي جزم به غير واحد ، ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية ، وكذلك شيخ السنة الإمام أبو الحسن الأشعري (٤) مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة ، وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان ، والله تعالى أعلم.

وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور : كان أبو ذر زاهدا ، ورعا ، عالما ، سخيا لا يدخر شيئا ، وصار كبير مشيخة الحرم ، مشارا إليه في التصوف ، خرّج على الصحيح تخريجا حسنا ، وكان حافظا ، كثير الشيوخ ، توفي سنة ٤٣٥ ، وقال أبو علي بن سكرة : توفي عقب شوّال سنة ٤٣٤ ، وقال الخطيب : في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين ، رحمه الله تعالى! وأكثر نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إمّا من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور ، وإمّا من رواية أبي علي الصّدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده.

__________________

(١) السروات ثلاث : واحدة بين تهامة ونجد ، والثانية في بلاد عدوان ، والثالثة تمتد على البحر من الغرب وعلى نجد من الشرق.

(٢) في ب ، ه : ويرجع.

(٣) الذاب عن الدين : المدافع عنه.

(٤) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، القائم بنصرة مذهب أهل السنة والجماعة ، ولد في سنة ٢٧٠ وتوفي سنة ٣٣٠ ه‍ ، وقيل سنة ٣٢٤ (انظر وفيات الأعيان ط صادر ج ٣ ص ٢٨٤).


واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ ، وإنما هي هراة بني شيمانة بالحجاز ، وبها كان سكنى أبي ذر ، والله تعالى أعلم.

رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى ـ ثم إنه ـ أعني الباجي ـ قدم بغداد ، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه ، ويقرأ الحديث ، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي ، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام ؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله ، وفي الفقه وغوامضه وخلافه. وفي الكلام ومضايقه ، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر ، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما! ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمّ حصّله مع الفقر والتّعفّف.

ومما يفتخر به أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي ، وناهيك بهما ، وهما أسنّ منه وأكبر ، وأبو عبد الله الحميدي ، وعلي بن عبد الله الصّقلي ، وأحمد بن علي بن غزلون ، وأبو بكر الطرطوشي ، وأبو علي بن الحسين السّبتي ، وأبو بحر سفيان بن العاصي ، وممن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد ، وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه ، وتهيأت الدنيا له ، وعظم جاهه ، وأجزلت له الصّلات ، فمات عن مال وافر ، وترسل للملوك (١) ، وولي القضاء بعدة مواضع ، رحمه الله تعالى!.

وأما ما تقدم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض ، والصواب خلافه ، قال القاضي أبو الفضل عياض : حدّثنا محمد بن علي المعروف بابن الصيقل الشاطبي من لفظه ، قال : حدثني أبو الحسن بن مفوز قال : كان أبو محمد بن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممن لازم الباجي وتفقه عنده ، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته ، ويعجب به ، وكنت أنكر ذلك عليه ، فلما كان بعد برهة أتاني زائرا على عادته ، وأعلمني أن رجلا من إخوانه كان يرى في النوم أنه بالمدينة ، وأنه يدخل المسجد ، فيرى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامه ، فتحدث (٢) له قشعريرة وهيبة عظيمة ، ثم يراه ينشقّ ويميد ، ولا يستقر ، فيعتريه منه فزع عظيم ، وسألني عن عبارة رؤياه ، فقلت : أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير صفته ، أو ينحله (٣) ما ليس له بأصل (٤) ، أو لعله يفتري

__________________

(١) ترسل : كتب الرسائل.

(٢) في ب ، ه : فيجد له قشعريرة.

(٣) ينحله : ينسب إليه.

(٤) في ه : ما ليس له بأهل.


عليه ، فسألني بالله (١) من أين قلت هذا؟ قلت له : من قول الله عز وجل (٢)(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩٢] فقال لي : لله درك يا سيدي! وأقبل يقبل رأسي وبين عيني ، ويبكي مرة ويضحك أخرى ، ثم قال لي : أنا صاحب الرؤيا ، واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك ، قال : إنه لما رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول : والله ما هذا إلا أنني أقول وأعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب ، فكنت أبكي وأقول : أنا تائب يا رسول الله ، وأكرّر ذلك مرارا ، فأرى القبر قد عاد إلى هيأته أوّلا ، وسكن ، فاستيقظت ، ثم قال لي : وأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتب قط حرفا ، وعليه ألقى الله تعالى ، فقلت : الحمد لله الذي أراك البرهان ، فاشكر له كثيرا ، انتهى.

وقال ابن الأبار : حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع بن سالم بقراءتي عليه ، عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءة عليه ، عن القاضي أبي جعفر (٣) أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر ، عن أبي الحسن طاهر بن مفوز قال : كان أبو محمد ـ إلى آخرها ، وهي أتم من هذه ، انتهى.

رجع إلى الباجي ـ ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنه كان يقول ، وقد ذكرت له صحبة السلطان : لو لا السلطان لنقلتني الذر من الظل إلى الشمس ، أو ما هذا معناه ، انتهى.

ومن فوائد الباجي أنه حكى أن الطلبة كانوا يتناوبون (٤) مجلس أبي علي البغدادي ، واتفق أنه كان يوم مطر (٥) ووحل ، فلم يحضر من الطلبة سوى واحد ، فلما رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده : [البسيط]

دببت للمجد والسّاعون قد بلغوا

حدّ النّفوس وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا المجد حتّى ملّ أكثرهم

وعانق المجد من وافى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبرا(٦)

وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى : [المتقارب]

__________________

(١) بالله : غير موجودة في ب.

(٢) في ب : قول الله تعالى.

(٣) في ب ، ه : أبي حفص.

(٤) في ب ، ه : ينتابون.

(٥) في ب ، ج : يوما مطر ووحل.

(٦) وردت الأبيات في أمالي القالي ج ١ ص ١١٢.

وقد أوردها بعد قوله : وقرأت على أبي بكر بن دريد لبعض العرب :


إذا كنت أعلم علم اليقين

بأنّ جميع حياتي كساعه

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعه

وقد ذكرناهما فيما يأتي قريبا من كلام الفتح ، لكوننا نقلنا كلامه بلفظه ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى ، ما صورته : بدر العلوم اللائح ، وقطرها الغادي الرائح ، وثبيرها الذي لا يزحم ، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم ، كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره ، وتنتجع نجوده وأغواره ، رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهرا ، وقطف من العلم أزاهرا ، وتفنن في اقتنائه ، وثنى إليه عنان اعتنائه ، حتى غدا مملوء الوطاب ، وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب ، فكر إلى الأندلس بحرا لا تخاض لججه ، وفجرا لا يطمس منهجه ، فتهادته الدول ، وتلقته الخيل والخول ، وانتقل من محجر إلى ناظر ، وتبدل من يانع بناضر ، ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحا ، وبدا بأفقه ملتاحا ، وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه ، وبدا وخده في سبل الهدى (١) وإيضاعه ، وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه ، وإيثاره لحضرته باستيطانه ، ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه ، وينزله في مكانه متى كان يوافيه ، وكان له نظم يوقفه على ذاته ، ولا يصرفه في رفث القول وبذاته (٢).

فمن ذلك قوله في معنى الزهد : [المتقارب]

إذا كنت أعلم علم اليقين

بأنّ جميع حياتي كساعه

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعه

وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين ، وغربا كوكبين ، وكانا ناظري الدهر ، وساحري النّظم والنثر : [الطويل]

رعى الله قبرين استكانا ببلدة

هما أسكناها في السّواد من القلب

لئن غيّبا عن ناظري وتبوّآ

فؤادي لقد زاد التّباعد في القرب

يقرّ بعيني أن أزور ثراهما

وألصق مكنون التّرائب بالتّرب(٣)

وأبكي وأبكي ساكنيها لعلّني

سأنجد من صحب وأسعد من سحب

__________________

(١) في ب ، ه : في سبل العلم. والوخد والإيضاع : ضربان من السير السريع.

(٢) رفث القول : فحش الكلام. وبذاته : وبذاءته.

(٣) الترائب : عظام الصدر مما يلي الترقوتين. والترب : المقصود : تربة القبر.


فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى

ولا روّحت ريح الصّبا عن أخي كرب

ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى

ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب

أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى

كما اضطرّ محمول على المركب الصّعب

وله يرثى ابنه محمدا : [الكامل]

أمحمّدا ، إن كنت بعدك صابرا

صبر السّليم لما به لا يسلم

ورزئت قبلك بالنّبيّ محمد

ولرزؤه أدهى لديّ وأعظم(١)

فلقد علمت بأنّني بك لا حق

من بعد ظنّي أنّني متقدّم

لله ذكر لا يزال بخاطري

متصرّف في صبره متحكّم(٢)

فإذا نظرت فشخصه متخيّل

وإذا أصخت فصوته متوهّم(٣)

وبكلّ أرض لي من اجلك لوعة

وبكلّ قبر وقفة وتلوّم (٤)

فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه

ودعاه باسمك معول بك مغرم

حكم الرّدى ومناهج قد سنّها

لأولي النّهى والحزن قبل متمّم (٥)

ولعمري إنه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض ، ووددت أنه مدّ النفس في ترجمته بعبارة يعترف (٦) ببراعتها من سلّم له ومن اعترض ، فإن ترجمة المذكور مما سطره أفسح مجالا ، وأفصح رويّة وارتجالا ، وبالجملة فهو أحد الأعلام بالأندلس (٧) ، وهو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التّجيبي ، وذكره ابن بسّام في الذخيرة وابن خلّكان وغير واحد ، وأصله من بطليوس ، وانتقل جده إلى باجة قرب إشبيلية ، وليس هو من باجة القيروان ، ومولده سنة ٤٠٣ ، ورحل سنة ٤٢٦ ، فقدم مصر ، وسمع بها ، وأجر نفسه ببغداد لحراسة الدروب ، وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب ، ويعقد الوثائق ، إلى أن فشا علمه ، وتهيأت له الدنيا ، وشهرته تغني عن وصفه.

__________________

(١) الرزء : المصيبة.

(١) الرزء : المصيبة.

(٢) في ب ، ه : مستحكم.

(٣) أصخت : سكت.

(٤) التلوّم : التمهل ، والانتظار ، والتلبث.

(٥) متمم : هو متمم بن نويرة الذي أكثر من رثاء أخيه مالك حين قتله خالد بن الوليد.

(٦) في ب ، ه : بعبارته التي يعترف ببراعتها.

(٧) في ب ، ه : أحد أعلام الأندلس.


ومن نظمه قوله : [الكامل]

ما طال عهدي بالدّيار ، وإنّما

أنسى معاهدها أسى وتبلّد

لو كنت أنبأت الدّيار صبابتي

رقّ الصّفا بفنائها والجلمد

وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد : [مخلع البسيط]

عبّاد استعبد البرايا

بأنعم تبلغ النّعائم

مديحه ضمن كل قلب

حتى تغنت به الحمائم

ومن أشهر نظمه قوله :

إذا كنت أعلم ـ البيتين ، وقد سبقا

وممن ذكره أيضا الحجاري في المسهب ، وابن بشكوال في الصّلة ، وأنه حج أربع حجج ، رحمه الله تعالى! وتوفي في المريّة لإحدى عشرة بقيت من رجب ، وقيل : ليلة الخميس تاسع رجب ، وقيل (١) : تاسع عشر صفر ، سنة أربع وسبعين وأربعمائة.

ومن تواليفه «المنتقى ، في شرح الموطأ» ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج ، وهو مما يدل على تبحره في العلوم والفنون (٢) ، ولما قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاما وجد ملوك الطوائف أحزابا مفترقة ، فمشى بينهم في الصلح ، وهم يجلّونه في الظاهر (٣) ، ويستثقلونه في الباطن ، ويستبردون نزعته ، ولم يفد شيئا ، فالله تعالى يجازيه عن نيته. ولما ناظر ابن حزم قال له الباجي : أنا أعظم منك همة في طلب العلم ، لأنك طلبته وأنت معان عليه (٤) تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق ، فقال ابن حزم : هذا الكلام عليك لا لك ، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي ، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته ، فلم أرج به إلا علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة ، فأفحمه.

قال عياض : قال لي أصحابه : كان يخرج إلينا للإقراء ، وفي يده أثر المطرقة ، إلى أن فشا علمه ونوهت الدنيا به (٥) ، وعظم جاهه ، وأجزلت صلاته (٦) ، حتى مات عن مال وافر ، وكان يستعمله الأعيان في ترسّلهم ، ويقبل جوائزهم ، وولي القضاء بمواضع من الأندلس.

وابن حزم المذكور هو أبو محمد بن حزم الظاهري ، قال ابن حيان وغيره : كان ابن حزم

__________________

(١) في ه : ليلة الخميس تاسع عشر صفر.

(٢) في ب ، ه : على تبحّره في الفنون.

(٣) يجلّونه : يعظمونه ويحترمونه.

(٤) عليه : ساقطة من ه.

(٥) نوهت الدنيا به : أي شهرته ، ورفعت ذكره.

(٦) الصلات : جمع صلة ، وهي العطية.


صاحب حديث وفقه وجدل ، وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة لم يخل فيها من غلط ، وكان شافعي المذهب ، يناضل الفقهاء (١) عن مذهبه ثم صار ظاهريا ، فوضع الكتب في هذا المذهب ، وثبت عليه إلى أن مات ، وكان له تعلق بالأدب ، وشنّع عليه الفقهاء ، وطعنوا فيه ، وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه ، وتوفي بالبادية عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.

وقال صاعد في تاريخه : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام ، وأوسعهم معرفة ، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار ، أخبرني ابنه الفضل (٢) أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد ، نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي.

قال الذهبي : وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح ، الأموي ، مولاهم ، الفارسي الأصل ، الأندلسي ، القرطبي ، الظاهري ، صاحب المصنفات ، وأول سماعه سنة ٣٩٩ ، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدّة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنّحل والعربية والآداب والمنطق والشعر ، ومع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب.

قال الغزالي رحمه الله تعالى : وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهن ، انتهى باختصار.

وعلى الجملة فهو نسيج وحده ، لو لا ما وصف به من سوء الاعتقاد ، والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد ، سامحه الله تعالى!.

وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة ، وهو لا ينافي قول غيره «إنه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر» لأنه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان ، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، بطالع العقرب ، وتوفي ليومين بقيا من شعبان سنة ٤٥٦ ، وكان كثير المواظبة على التأليف ، ومن جملة تآليفه كتاب «الفصل ، بين أهل الأهواء

__________________

(١) يناضل الفقهاء : أراد يجادلهم.

(٢) سيذكر المؤلف الفضل أبا رافع بن حزم ، وسيذكر عدد مؤلفات ابن حزم التي وجدت عند ابنه ، وكان أبو رافع أديبا موفور الذكاء ، توفي سنة ٤٧٩ ه‍.


والنحل» وكتاب «الصادع والرادع ، على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد» وكتاب «شرح حديث الموطأ ، والكلام على مسائله» وكتاب «الجامع ، في حد صحيح الحديث (١) باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها» وكتاب «التلخيص والتخليص (٢) ، في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب والحديث» وكتاب منتقى الإجماع ، وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف» وكتاب «الإمامة والخلافة ، في سير الخفاء ومراتبها والندب والواجب منها» وكتاب «أخلاق النفس» وكتاب «الإيصال ، إلى فهم كتاب الخصال» وكتاب «كشف الالتباس ، ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس» انتهى.

وقال ابن سعيد في حق ابن حزم ، ما ملخصه : الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي ، وشهرته تغني عن وصفه وتوفي منفيّا بقرية من بلده (٣) لبلة ، ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالة فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة ، وهي : سمعت وأطعت ، لقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة والسلام : «صل من قطعك ، واعف عمّن ظلمك» ورضيت بقول الحكماء : كفاك انتصارا ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه ، وأقول : [المتقارب]

تتبّع سواي امرأ يبتغي

سبابك إنّ هواك السّباب

فإنّي أبيت طلاب السّفاه

ونزّهت عرضي عمّا يعاب(٤)

وقل ما بدا لك من بعد ذا

وأكثر فإنّ سكوتي خطاب

وأقول : [الطويل]

كفاني بذكر النّاس لي ومآثري

ومالك فيهم يا ابن عمّي ذاكر

عدوّي وأشياعي كثير كذاك من

غدا وهو نفّاع المساعي وضائر(٥)

وإنّي وإن آذيتني وعققتني

لمحتمل ما جاءني منك صابر

فوقّع له أبو المغيرة على ظهر رقعته : قرأت هذه الرقعة العاقّة ، فحين استوعبتها أنشدتني : [مجزوء الرجز]

نحنح زيد وسعل

لمّا رأى وقع الأسل

__________________

(١) في ب ، ه : الجامع في صحيح الحديث.

(٢) والتخليص : سقطت من ه.

(٣) في ب ، ه : من بلد لبلة : وما أثبتناه أصح.

(٤) في ب ، ه : وصنت محلّي عما يعاب.

(٥) الأشياع : جمع شيعة : الأتباع.


فأردت قطعها ، وترك المراجعة عنها ، فقالت لي نفسي : قد عرفت مكانها ، بالله لا قطعتها إلا يده ، فأثبت على ظهرها ما يكون سببا إلى صوتها ، فقلت : [المتقارب]

نعقت ولم تدر كيف الجواب

وأخطأت حتّى أتاك الصّواب

وأجريت وحدك في حلبة

نأت عنك فيها الجياد العراب

وبتّ من الجهل مستصحبا

لغير قرى فأتتك الذّئاب(١)

فكيف تبيّنت عقبى الظّلوم

إذا ما انقضت بالخميس العقاب

لعمري ما لي طباع تذمّ

ولا شيمة يوم مجد تعاب(٢)

أنيل المنى والظبا سخّط

وأعطي الرّضا والعوالي غضاب(٣)

وأقول : [الطويل]

وغاصب حقّ أوبقته المقادر

يذكّرني حاميم والرّمح شاجر(٤)

غدا يستعير الفخر من خيم خصمه

ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر

ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني

برغمك ناه منذ عشر وآمر

تذلّ لي الأملاك حرّ نفوسها

وأركب ظهر النّسر والنّسر طائر

وأبعث في أهل الزّمان شواردا

تلينهم وهي الصّعاب النّوافر(٥)

فإن أثو في أرض فإنّي سائر

وإن أنا عن قوم فإنّي حاضر(٦)

وحسبك أنّ الأرض عندك خاتم

وأنّك في سطح السّلامة عاثر

ولا لوم عندي في استراحتك الّتي

تنفّست عنها والخطوب فواقر

فإنّي للحلف الّذي مرّ حافظ

وللنّزعة الأولى بحاميم ذاكر

هنيئا لكلّ ما لديه فإنّنا

عطية من تبلى لديه السّرائر

__________________

(١) في ب : الجهل مستنبحا.

(٢) في ب ، ه : لعمرك ما لي ..

(٣) الظبا : جمع ظبة : حد السيف. والعوالي : الرماح.

(٤) أوبق : أهلك. والشطر الثاني من البيت مأخوذ من قول الشاعر

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم

(٥) النوافر : ذات نفار ، والنفار : الإعراض والصدّ.

(٦) ثوى بالمكان : استقر فيه.


ومن شعر أبي محمد بن حزم يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشير (١) : [الطويل]

أنا الشّمس في جوّ العلوم منيرة

ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب

ولو أنّني من جانب الشّرق طالع

لجدّ على ما ضاع من ذكري النّهب

ولي نحو آفاق العراق صبابة

ولا غرو أن يستوحش الكلف الصّبّ

فإن ينزل الرّحمن رحلي بينهم

فحينئذ يبدو التّأسّف والكرب

فكم قائل أغفلته وهو حاضر

وأطلب ما عنه تجيء به الكتب

هنالك يدري أنّ للعبد قصّة

وأنّ كساد العلم آفته القرب

فيا عجبا من غاب عنهم تشوّقوا

له ، ودنوّ المرء من دارهم ذنب

وإنّ مكانا ضاق عنّي لضيّق

على أنّه فيح مهامهه سهب(٢)

وإنّ رجالا ضيّعوني لضيّع

وإنّ زمانا لم أنل خصبه جدب

ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه :

ولكنّ لي في يوسف خير أسوة

وليس على من بالنّبيّ ائتسى ذنب(٣)

يقول مقال الصّدق والحقّ إنّني

حفيظ عليم ، ما على صادق عتب

وقوله : [البسيط]

لا يشمتن حاسدي إن نكبة عرضت

فالدّهر ليس على حال بمتّرك

ذو الفضل كالتّبر يلقى تحت متربة

طورا ، وطورا يرى تاجا على ملك

وقوله لما أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية : [الطويل]

دعوني من إحراق رقّ وكاغد

وقولوا بعلم كي يرى النّاس من يدري

فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الّذي

تضمّنه القرطاس ، بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلّت ركائبي

وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

وقوله : [الوافر]

__________________

(١) في ب : بشر.

(٢) فيح : جمع فيحاء : الواسعة. والمهامه : جمع مهمه : الصحراء.

(٣) ائتسى : اقتدى. والأسوة : القدوة.


لئن أصبحت مرتحلا بشخصي

فقلبي عندكم أبدا مقيم

ولكن للعيان لطيف معنى

لذا سأل المعاينة الكليم(١)

وقوله : [الطويل]

وذي عذل فيمن سباني حسنه

يطيل ملامي في الهوى ويقول

أمن أجل وجه لاح لم تر غيره

ولم تدر كيف الجسم أنت عليل(٢)

فقلت له أسرفت في اللّوم فاتّئد

فعندي ردّ لو أشاء طويل

ألم تر أني ظاهريّ ، وأنّني

على ما أرى حتّى يقوم دليل

وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد ، القرطبي.

قال ابنه أبو رافع الفضل : اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة ، انتهى.

وأبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر ، وتوفي ـ كما قال ابن حيان ـ بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة ، وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية.

وحكي أن الحافظ أبا محمد بن حزم قصد أبا عامر بن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح ، فلقيه أبو عامر ، وأعظم قصده على تلك الحال ، وقال له : يا سيدي ، مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم ، فأنشده أبو محمد بن حزم بديها : [الطويل]

فلو كانت الدّنيا دوينك لجّة

وفي الجوّ صعق دائم وحريق (٣)

لسهّل ودّي فيك نحوك مسلكا

ولم يتعذّر لي إليك طريق

قال الحافظ ابن حزم : أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي : [الطويل]

إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن

على حالة إلّا رضيت بدونها(٤)

وهذا كاف في فضل الفرع والأصل ، رحم الله الجميع (٥).

قال ابن حزم في «طوق الحمامة» : إنه مر يوما هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب «الاستيعاب» بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية ، فلقيهما شاب حسن الوجه ، فقال أبو محمد :

__________________

(١) الكليم : هو النبي موسى بن عمران عليه السلام.

(٢) في ه : أمن حسن وجه.

(٣) اللجة : معظم الماء.

(٤) في ب ، ه : إذا شئت أن تحيا غنيا ..

(٥) في ب ، ه : سامح الله الجميع.


هذه صورة حسنة ، فقال له أبو عمر : لم نر إلا الوجه ، فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك ، فقال ابن حزم ارتجالا وذي عذل فيمن سباني حسنه الأبيات المتقدمة (١).

ولابن حزم أيضا قوله : [الخفيف]

لا تلمني لأنّ سبقة لحظ

فات إدراكها ذوي الألباب

يسبق الكلب وثبة اللّيث في العد

وويعلو النّخال فوق اللّباب(٢)

ولأبي بكر بن مفوّز جزء يردّ فيه على أبي محمد بن حزم ، وفيه قال معرضا : [البسيط]

يا من تعاني أمورا لن تعانيها

خلّ التّعاني وأعط القوس باريها

تروي الأحاديث عن كلّ مسامحة

وإنّما لمعانيها معانيها

وقيل : إنه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم.

رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي ـ ومن نظمه قوله من مرثية : [الطويل]

أحنّ ويثني اليأس نفسي على الأسى

كما اضطرّ محمول على المركب الصّعب

ومن جيد نظمه قوله : [الطويل]

أسرّوا على اللّيل البهيم سراهم

فنمّت عليهم في الشّمال شمائل(٣)

متى نزلوا ثاوين بالخيف من منى

بدت للهوى بالمأزمين مخايل

فلله ما ضمّت منى وشعابها

وما ضمّنت تلك الرّبا والمنازل

ولمّا التقينا للجمار وأبرزت

أكفّ لتقبيل الحصى وأنامل

أشارت إلينا بالغرام محاجر

وباحت به منّا جسوم نواحل (٤)

وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى : [الوافر]

مضى زمن المكارم والكرام

سفاه الله من صوب الغمام(٥)

وكان البرّ فعلا دون قول

فصار البرّ نطقا بالكلام

__________________

(١) المتقدمة : غير موجودة في ب.

(٢) النخال : ما بقي من الشيء بعد نخله.

(٣) نمت عليهم : وشت بهم وأظهرتهم. والشمائل : جمع شميلة ، وهي الطبع.

(٤) المحاجر : جمع محجر ، وهو ما أحاط بالعين وأراد العين نفسها.

(٥) سفاه : حمله وزاده.


وذيله بعضهم بقوله : [الوافر]

وزال النّطق حتّى لست تلقى

فتى يسخو بردّ للسّلام

وزاد الأمر حتّى ليس إلّا

سخيّ بالأذى أو بالملام

٤٦ ـ ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان ابن أيوب الفهري الطرطوشي صاحب «سراج الملوك» ، ويعرف بابن أبي رندقة ـ بالراء المهملة المفتوحة ، وسكون النون ـ وكفى بسراج الملوك دليلا على فضله.

ذكره ابن بشكوال في الصلة ، وتوفي بالإسكندرية في شعبان ، وقيل : جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة ، وزرت قبره بالإسكندرية ، وممن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي وغيره.

ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة : [الطويل]

أقلّب طرفي في السّماء تردّدا

لعلّي أرى النّجم الّذي أنت تنظر

وأستعرض الرّكبان من كلّ وجهة

لعلّي بمن قد شمّ عرفك أظفر(١)

وأستقبل الأرواح عند هبوبها

لعلّ نسيم الرّيح عنك يخبّر(٢)

وأمشي وما لى في الطّريق مآرب

عسى نغمة باسم الحبيب ستذكر

وألمح من ألقاه من غير حاجة

عسى لمحة من نور وجهك تسفر

ومن نظمه أيضا قوله : [المتقارب]

يقولون ثكلى ومن لم يذق

فراق الأحبّة لم يثكل

لقد جرّعتني ليالي الفراق

كؤوسا أمرّ من الحنظل

ومما ينسب إليه وكان كثيرا ما ينشده (٣) : [المتقارب]

إذا كنت في حاجة مرسلا

وأنت بإنجازها مغرم

فأرسل بأكمه جلّابة

به صمم أغطش أبكم(٤)

__________________

(١) العرف ، بفتح العين وسكون الراء : الرائحة الطيبة.

(٢) الأرواح : جمع ريح.

(٣) وكان كثيرا ما ينشده : غير موجودة في ب.

(٤) الأكمه : الأعمى. والأغطش : من كان بعينيه ضعف.


ودع عنك كلّ رسول سوى

رسول يقال له الدّرهم

وكان كثيرا ما ينشد (١) : [الرمل]

إنّ لله عبادا فطنا

طلّقوا الدّنيا وخافوا الفتنا

فكّروا فيها فلمّا علموا

أنّها ليست لحيّ وطنا

جعلوها لجّة واتّخذوا

صالح الأعمال فيها سفنا

وقال رحمه الله تعالى : كنت ليلة نائما بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتا حزينا ينشد : [الطويل]

أخوف ونوم ، إنّ ذا لعجيب

ثكلتك من قلب فأنت كذوب

أما وجلال الله لو كنت صادقا

لما كان للإغماض فيك نصيب

قال : فأيقظ النوّام ، وأبكى العيون.

وكان رحمه الله تعالى زاهدا ، عابدا (٢) ، متورعا ، متقللا من الدنيا ، قوّالا للحق.

وكان يقول : إذا عرض لك أمران (٣) أمر دنيا وأخرى ، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى ، وله طريقة في الخلاف.

ودخل مرة على الأفضل بن أمير الجيوش فوعظه ، وقال له : إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك ، وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك ، فاتق الله فيما خوّلك من هذه الأمة ، فإن الله عز وجل سائلك عن النقير والقطمير والفتيل ، واعلم أن الله عز وجل آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحوش (٤) والبهائم ، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ورفع عنه حساب ذلك أجمع ، فقال عز من قائل : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) [ص : ٣٩] فما عدّ ذلك نعمة كما عددتموها ، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها ، بل خاف أن يكون استدراجا من الله عز وجل ، فقال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل : ٤٠] فافتح الباب ، وسهل الحجاب ، وانصر المظلوم.

__________________

(١) جاء في الصلة أن هذه الأبيات له ، وقد وردت في ديوان الشافعي.

(٢) عابدا : غير موجودة في ب.

(٣) أمران : غير موجودة في ب.

(٤) في ب : والوحش.


وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده : [السريع]

يا ذا الّذي طاعته قربة

وحقّه مفترض واجب

إنّ الّذي شرفت من أجله

يزعم هذا أنّه كاذب

وأشار إلى النصراني ، فأقامه الأفضل من مكانه :

والطرطوشي ـ بضم الطاءين ـ نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس (١) ، وقد تفتح الطاء الأولى.

وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ.

وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة ، وأخذ عنه مسائل الخلاف ، وسمع منه ، وأجازه ، وقرأ الفرائض والحساب بوطنه ، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة إشبيلية ، ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة ، ودخل بغداد والبصرة فتفقه هناك (٢) عند أبي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني ، وسمع بالبصرة من أبي علي التّستري ، وسكن الشام مدّة ، ودرس بها ، وكان راضيا باليسير.

وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي : إن الأفضل بن أمير (٣) الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد ، وكان يكرهه ، فلما طال مقامه به ضجر ، وقال لخادمه : إلى متى نصبر؟ اجمع لي المباح ، فجمعه ، وأكله ثلاثة أيام ، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه : رميته الساعة ، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل ، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراما كثيرا ، وله ألف الشيخ «سراج الملوك» انتهى.

ومقامه ـ أعني الطرطوشي ـ مشهور ، وهذه الحكاية تكفي في ولايته.

ومن تآليفه مختصر تفسير الثعالبي ، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف ، وكتاب في تحريم جبن الروم ، وكتاب «بدع الأمور ومحدثاتها» وكتاب «شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد».

وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا ، ولما توفي صلى عليه ولده محمد ، ودفن

__________________

(١) طرطوشة : مدينة بينها وبين بلنسية مائة ميل ، مسيرة أربعة أيام وهي في سفح جبل ، ولها سور حصين ، وبها أسواق وعمارات ، وبجبالها خشب الصنوبر ، ومنه تتخذ السفن (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٤).

(٢) هناك : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ـ الأفضل ابن أمير.


رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية ، وزرت قبره مرارا ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه ، ونفعنا به!.

وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه ، وشهرته رضي الله تعالى عنه تغني عن الإطناب فيه (١).

وحكي أنه كتب على «سراج الملوك» الذي أهداه لولي الأمر بمصر : [السريع]

النّاس يهدون على قدرهم

لكنّني أهدي على قدري

يهدون ما يفنى وأهدي الّذي

يبقى على الأيّام والدّهر

وحكي أنه لما (٢) سمع رضي الله تعالى عنه منشدا ينشد للوأواء الدمشقي (٣) : [مجزوء الكامل]

قمر أتى من غير وعد

في ليلة طرقت بسعد

بات الصّباح إلى الصّبا

ح معانقي خدّا بخدّ

يمتار فيّ وناظري

ما شئت من خمر وشهد

(٤) فقال : أو يظن هذا الدمشقي أن أحدا لا يحسن ينظم الكذب غيره؟ لو شئنا لكذبنا مثل هذا ، ثم أنشد لنفسه يعارضه : [مجزوء الكامل]

قمر أتى من غير وعد

حفّت شمائله بسعد(٥)

قبّلته ورشفت ما

في فيه من خمر وشهد

فمزجت مزن السّلسبي

ل بزنجبيل مستعدّ(٦)

ولثمت فاه من الغرو

ب إلى الصّباح المستجدّ

وسكرت من رشفي العقي

ق على أقاح تحت رند

فنزعت عن فمه فمي

ووضعت خدّا فوق خدّ(٧)

__________________

(١) فيه : غير موجودة في ب.

(٢) لما : غير موجودة في ب.

(٣) الدمشقي : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب : يمتاز في ..

(٥) في ب ، ه : قمر بدا من غير وعد.

(٦) في ب ، ه : فرشفت مزن السلسبيل.

(٧) العقيق : خرز أحمر. والرند : شجر طيب الرائحة ، وأزهاره بيضاء صغار.


وشممت عرف نسيمه ال

جاري على مسك وندّ

وصحوت من ريّا القرن

فل بين ريحان وورد

وألذّ من وصلي به

شكواه وجدا مثل وجدي

ومن نظم الطرطوشي قوله أيضا : [المتقارب]

كأن لساني والمشكلات

سنى الصّبح ينحر ليلا بهيما(١)

وغيري إن رام ما رمته

خصيّ يحاول فرجا عقيما

وقوله أيضا : [المتدارك]

اعمل لمعادك يا رجل

فالنّاس لدنياهم عملوا(٢)

واذخر لمسيرك زاد تقى

فالقوم بلا زاد رحلوا(٣)

٤٧ ـ ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي (٤) ـ وفد إلى المشرق ، وذكره العماد في «الخريدة» وله في الآمدي العلي (٥) بمصر ، وكان يخضب بسواد الرمّان قوله (٦) : [الخفيف]

اخلط العفص فيه يا أحوج النّا

س إلى العفص حين يعكس عفص

٤٨ ـ ومنهم القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصيرفي (٧) ، وهو حسين بن محمد بن فيّره بن حيّون ، ويعرف بابن شكّرة (٨) ، وهو من أهل سرقسطة ، سكن مرسية. وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما ، وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري ، وسمع بالمريّة من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله بن المرابط وغيرهما ، ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وحج من عامه ، ولقي بمكة أبا عبد الله الحسن بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما ، ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم بن شعبة وغيرهم ، وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره ، ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة ، وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون مسند بغداد ، ومن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار

__________________

(١) الليل البهيم : الشديد الظلمة.

(٢) في ب : فاعمل لمعادك ... فالقوم لدنياهم ..

(٣) في ب : لمسيرك من زاد ..

(٤) في بعض النسخ : الطرسوسي.

(٥) في ج : الأمد العجلي.

(٦) في ب : الرمان يخضب بأقبح سواد خضب به.

(٧) في ب : الصدفي.

(٨) في ب : بابن سكرة.


الصيرفي ، وطراد الزينبي ، والحميدي ، وغيرهم ، وتفقه عند أبي بكر الشاشي وغيره ، ثم رحل منها سنة سبع وثمانين ، فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج الإسفرايني (١) وغيرهما ، وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي ، وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها ، وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم الوراق (٢) وشعيب بن سعيد وغيرهما ، ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة سبعين وأربعمائة (٣) ، وقصد مرسية ، فاستوطنها ، وقعد يحدّث الناس بجامعها ، ورحل الناس من البلدان إليه ، وكثر سماعهم عليه ، وكان عالما بالحديث وطرقه ، عارفا بعلله ، وأسماء رجاله ونقلته ، وكان حسن الخط جيد الضبط ، وكتب بخطه علما كثيرا ، وقيّده ، وكان حافظا لمصنفات الحديث ، قائما عليها ، ذاكرا لمتونها وأسانيدها ورواتها (٤) ، وكتب منها صحيح البخاري في سفر (٥) ، وصحيح مسلم في سفر ، وكان قائما على الكتابين مع مصنّف أبي عيسى الترمذي ، وكان فاضلا ، ديّنا ، متواضعا ، حلوما ، وقورا ، عالما ، عاملا ، واستقضي بمرسية ، ثم استعفى فأعفي ، وأقبل على نشر العلم وبثّه.

وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه لدخوله الشام ، قال : وبعد أن استقرت به النوى ، واستمرت إفادته بما قيد وروى ، رفعته ملوك أوانه ، وشفّعته في مطالب إخوانه ، فأوسعته رعيا ، وأحسنت فيه رأيا ، ومن أبنائهم من جعل يقصده ، لسماع يسنده ، وعلى وقاره الذي كان به يعرف ، ندر له مع بعضهم ما يستطرف (٦) ، وهو أن فتى يسمى يوسف لازم مجلسه ، معطرا رائحته ومنظفا ملبسه ، ثم غاب لمرض قطعه ، أو شغل منعه ، ولما فرغ أو أبلّ (٧) ، عاود ذلك النادي المبارك والمحل ، وقبل إفضائه إليه ، دلّ طيبه عليه ، فقال الشيخ على سلامته من المجون ، وخلاصه من الفتون (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [يوسف : ٩٤] وهي من طرف نوادره (٨) ، رحمة الله عليه.

ولما قلّد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فر إلى المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة ، وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة

__________________

(١) في ب : الاسفراييني.

(٢) اسمه : مهدي بن يونس.

(٣) في ب ، ج : سنة ٤٩٠.

(٤) في بعض النسخ : وروايتها.

(٥) السفر ، بكسر السين وسكون الفاء : الكتاب الضخم.

(٦) في ه : ما يستظرف.

(٧) أبل من مرضه : شفي.

(٨) في ه : ظرف نوادره.


سبع في قصة يطول إيرادها ، ولطول مقامه (١) بالمرية أخذ الناس عنه بها ، فلما كانت وقعة كتندة كان ممن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة ، رحمه الله تعالى!.

وقال القاضي عياض : ولقد حدثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنه قال له : خذ الصحيح ، واذكر أي متن شئت منه أذكر لك سنده ، أو أي سند شئت أذكر لك متنه ، انتهى.

وذكر غير واحد أنه حدث ببغداد بحديث واحد ، والله أعلم وهو من أبناء الستين (٢).

٤٩ ـ ومنهم ابن أبي روح الجزيري ـ ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله : [الطويل]

أحنّ إلى الخضراء في كلّ موطن

حنين مشوق للعناق وللضّمّ

وما ذاك إلّا أنّ جسمي رضيعها

ولا بدّ من شوق الرّضيع إلى الأمّ

٥٠ ـ ومنهم العالم أبو حفص عمر بن حسن الهوزني ، الحسيب العالم المحدّث ـ ذكره ابن بسام في «الذخيرة» والحجاري في «المسهب» وسبب رحلته للمشرق أنه لما تولى المعتضد بن عبّاد خاف منه ، فاستأذنه في الحج سنة ٤٤٤ ، ورحل إلى مصر ، ثم إلى مكة ، وسمع في طريقه كتاب صحيح البخاري ، وعنه أخذه أهل الأندلس ، ورجع ، وسكن إشبيلية وخدم المعتضد ، فقتله ومن (٣) من شيء سلط عليه ، وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ستين وأربعمائة.

ومن شعره يحرّضه على الجهاد : [الطويل]

أعبّاد جلّ الرّزء والقوم هجّع

على حالة من مثلها يتوقّع(٤)

فلقّ كتابي من فراغك ساعة

وإن طال فالموصوف للطّول موضع

إذا لم أبثّ الدّاء ربّ شكاية

أضعت ، وأهل للملام المضيّع

ووصله بنثر ، وهو : وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها ، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها ، ولرب أمل بين أثناء المحاذير مدمج ، ومحبوب في طي المكاره مدرج ، فانتهز فرصتها فقد بان لك (٥) من غيرك العجز ، وطبّق مضاربها (٦) فقد أمكنك الحزّ ، ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب ، ويستصحب الحسام في الحرب.

__________________

(١) في ب ، ه : وبطول مقامه.

(٢) وهو من أبناء الستين : زيادة من الذخيرة.

(٣) في ب : ومن خاف من ..

(٤) الرزء : المصيبة.

(٥) لك : غير موجودة في ب.

(٦) في ب : وطبق مفاصلها.


وله : [المديد]

صرّح الشّرّ فلا يستقلّ

إن نهلتم جاءكم بعد علّ

بدء صعق الأرض رشّ وطلّ

ورياح ثمّ غيم أبلّ

خفّضوا فالدّاء رزء أجلّ

واغمدوا سيفا عليكم يسلّ

وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مرّ (١).

٥١ ـ ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين، أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية الآتي ذكره كان أسنّ من أخيه أبي الخطاب ، وكان حافظا للغة العرب ، قيما بها ، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور ، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة ٦٣٤ ، بالقاهرة ، ودفن بسفح المقطم كأخيه ، وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة ، رحمهما الله تعالى!.

٥٢ ـ ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم ـ من أهل وادي الحجارة ، ويعرف باشكنهادة (٢) ، وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها ، وتحول ملوكها وخولها ، فجال في الفراق ، وقاسى ألم الفراق ، واجتاز بحلب ، وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب ، وقال : [الرمل]

أين أقصى الغرب من أرض حلب

أمل في الغرب موصول التّعب

حنّ من شوق إلى أوطانه

من جفاه صبره لمّا اغترب

جال في الأرض لجاجا حائرا

بين شوق وعناء ونصب

كلّ من يلقاه لا يعرفه

مستغيثا بين عجم وعرب

لهف نفسي أين هاتيك العلا

وا ضياعاه ويا غبن الحسب

والّذي قد كان ذخرا وبه

أرتجي المال وإدراك الرّتب

__________________

(١) وضع بين قوسين في ه مكان هذا الكلام ، ما يلي «وسبب قتل بني عباد لأبي حفص الهوزني المذكور تسبب ابنه أبو القاسم في فساد دولة المعتمد بن عباد ، وحرض عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب المغرب حتى أزال ملكه ، ونثر سلكه ، سبب حلكه ، كما ذكرناه بالأندلس بيت كبير مشهور ، ومنهم عدة علماء وكبراء ، رحم الله الجميع».

(٢) في المغرب : اشكهباط.


صار لي أبخس ما أعددته

بين قوم ما دروا طعم الأدب

يا أحبّاي اسمعوا بعض الّذي

يتلقّاه الطّريد المغترب

وليكن زجرا لكم عن غربة

يرجع الرّأس لديها كالذّنب

واحملوا طعنا وضربا دائما

فهو عندي بين قومي كالضّرب(١)

ولئن قاسيت ما قاسيته

فبما أبصر لحظي من عجب

ولقد أخبركم أن ألتقي

بكم حتّى تقولوا قد كذب

واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى : [الوافر]

دمشق جنّة الدّنيا حقيقا

ولكن ليس تصلح للغريب

بها قوم لهم عدد ومجد

وصحبتهم تؤول إلى حروب

ثم إنه ودع الشرق بلا سلام ، وحل بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عزّ لا يخشى فيه الملام ، واستقبل الأندلس بخاطر جديد ، ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد ، وقال : [الطويل]

وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد

وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني

ولاقيت من دهري وصرف خطوبه

كما جرت النّكباء في معطف الغصن

فلا تسألوني عن فراق جهنّم

ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن

وله من كتاب : وحامل كتابي ـ سلمه الله تعالى وأعانه! ـ ممن أخنى عليه الزمان ، وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان ، وقد قصد على بعد جنابك الرحيب الخصيب ، قصد الحسن محلّ الخصيب (٢) ويمم جناب ابن طاهر حبيب (٣) ، وإني لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان (٤) ، ويستعين في شكرك بكل لسان ، وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف ، وقد قال الأول : [مجزوء الخفيف]

أرى النّاس أحدوثة

فكوني حديثا حسن

وأنا القائل : [الطويل]

__________________

(١) الضرب ، بفتح الضاد والراء : العسل الأبيض.

(٢) الحسن : أراد الحسن بن هانىء أبا نواس. والخصيب : ممدوحه.

(٣) هو عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان. وحبيب : هو حبيب بن أوس الطائي ، أبو تمام.

(٤) نصيب : شاعر أموي اشتهر بمدح الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك.


فلا تزهدن في الخير قد مات حاتم

وأخباره حتّى القيامة تذكر

ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان ، عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان ، وعند سيدي من التهدي للإيفاء (١) ، ما يحقق فيه جميل الرجاء (٢) ، دامت أرجاؤه مؤملة ، ولا برحت نعمه سابغة مكملة.

٥٣ ـ ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي ـ وقال بعضهم : إنه من الجزيرة الخضراء ، له رحلة إلى الديار المصرية ، صنع فيها مقامه يقول فيها : [الطويل]

وفي جنبات الرّوض نهر ودوحة

يروقك منها سندس ونضار

تقول وضوء البدر فيه مغربا

ذراع فتاة دار فيه سوار(٣)

ومن شعره : [السريع]

ما كلّ إنسان أخ منصف

ولا اللّيالي أبدا تسعف

فلا تضع إن أمكنت فرصة

واصحب من الإخوان من ينصف

وانتف من الدّهر ولو ريشة

فإنّما حظّك ما تنتف

وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس : [الطويل]

بجيد المعالي أيّ عقد تبدّدا

وصدر العوالي أيّ رمح تقصّدا

ولمّا دهت خيل الشّقيّ فجاءة

وسال العدا بحرا من الموت مزبدا

شهدت بوجه كالغزالة مشرقا

وإن كان وجه الشّمس بالنّقع مربدا(٤)

عزائم صدق ليس تصرف هكذا

إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى

وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت (٥) ، وجمع ابن عبد ربه المذكور شعر السيد أبي الربيع بن عبد الله بن أمير

__________________

(١) في ب ، ه : للإيصاء.

(٢) في ب ، ه : ما يحقق فيه جميع الرجاء.

(٣) في ب : فيه مغرب.

(٤) الغزالة : الشمس.

(٥) الميورقي : هو يحيى بن غانية ، وكان السيد أبو عمران موسى واليا على تلمسان فهاجمه الميورقي وقضى عليه واقتحم مدينة تاهرت ونهبها وخربها (ابن خلدون ج ٦ ص ٢٤٩ ـ ٢٧٨).


المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، وكان ابن عبد ربه المذكور كاتبا للسيد أبي الربيع سليمان المذكور ، ولما أنشد لبعض الشعراء : [المنسرح]

حاكت يمين الرّياح محكمة

في نهر واضح الأسارير

فكلّما ضعّفت به حلقا

قام لها القطر بالمسامير

أنشد لنفسه : [البسيط]

بين الرّياض وبين الجو معترك

بيض من البرق أو سمر من السّمر

إن أوترت قوسها كفّ السّماء رمت

نبلا من الماء في زغف من الغدر(١)

لأجل ذاك إذا هبّت طلائعها

تدرّع النّهر واهتزّت قنا الشّجر

واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد بن سناء الملك ، وأخذ عنه شيئا من شعره ، ورواه بالمغرب.

٥٤ ـ ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان ، المالقيّ.

ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى : [الطويل]

وفي صهوات المقربات وفي القنا

حصون حمى لا في هضاب المعاقل

ومنها : [الطويل]

ولا ملك يأتي كيوسف آخرا

كما لم يجيء مثل له في الأوائل

٥٥ ـ ومنهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية ، وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد (٢) بن فرح بن خلف ، الظاهري المذهب ، الأندلسي.

كان من كبار المحدثين ، ومن الحفاظ الثّقات الأثبات المحصلين ، استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله بن يومور (٣) ، وروى بها ، وأسمع ، وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة ، حتى صار حوشيّ اللغة (٤) عنده مستعملا غالبا ، ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيّها إلا وذلك أضعاف

__________________

(١) الزّغف : السحاب الذي صب ماءه وهو يغطي السماء.

(٢) في ب : محمد بن الجميل بن فرج ..

(٣) في ج : تومور.

(٤) حوشي اللغة : الغريب ، الغامض.


أضعاف محفوظه من مستعملها ، وكان قصده ـ والله تعالى أعلم ـ أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره ، كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر ، ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس ، وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات ، وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب «ابن دحية ودحية معا المتشبّه به جبريل وجبرائيل» ، ويذكر ما ينيف على ثلاث عشرة لغة مذكورة في جبريل ، ويقول عند فاطر السماوات والأرض ، وهذا فرع انفرد به عمن عداه من أهل العلم.

قال صاحب عنوان الدراية : رأيت له تصنيفا في رجال الحديث لا بأس به ، وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب ، فرفعوا شأنه ، وقربوا له مكانه ، وجمعوا له علماء الحديث ، وحضروا له مجلسا أقروا له بالتقدم ، وعرفوا أنه من أولي الضبط والإتقان والتفهم ، وذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها ، فأعاد المتون المحولة ، وعرّف عن تغييرها ، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية ، ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر بن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها.

ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب : [الكامل]

ما لي أسائل برق بارق عنكم

من بعد ما بعدت دياري منكم

فمحلّكم قلبي وأنتم بالحشا

لا بالعقيق ولا برامة أنتم

وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم

يا مالكين ، وفيتم أو خنتم

وهي طويلة ، ومنها :

رفعت له الأملاك منه سجيّة

ملك السّماك الرّمح وهو محرّم

ومنها أيضا :

لذوي النّهى والفهم سرّ حكومة

قد حار فيها كاهن ومنجّم

فاقصد مرادك حيث سرت مظفّرا

والله يكلأ والكواكب نوّم

وليهنك الشّهر السّعيد تصومه

وتفوز فيه بالثّواب وتغنم

فلأنت في الدّنيا كليلة قدره

قدرا ، فقدرك في الملوك معظّم

فأجابه السلطان مكافأة بنثر ونظم ، فمن النظم : [الطويل]

وهيّجن شوقي للأجارع باللّوى

وأين اللّوى منّي وأين الأجارع


مرابع لو أنّ المرابع أنجم

لكان نجوم الأرض تلك المرابع

رعى الله أيّاما بها ولو أنّها

إليّ وقد ولّى الشّباب رواجع(١)

ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها

يلوح لها من صبح شيبي مواقع

في جملة أبيات.

ومن النثر : الحمد لله ولي الحمد ، وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها ، وصفا درّها ، وليس من البديع أن يقذف البحر درا ، أو ينظم الخليل (٢) شعرا ، وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها ، وأستفيد بما أودعه فيها ، فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته ، وصالح أدعيته ، والسلام.

فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة : [الطويل]

شجتني شواج في الغصون سواجع

ففاضت هوام للجفون هوامع(٣)

وأكثر فيها من التغزل ، إلى أن قال : [الطويل]

ولا حاكم أرضاه بيني وبينها

سوى حاكم دهري له اليوم طائع

يدافع عنّي الضّيم قائم سيفه

إذا عزّ من للضّيم عنّي يدافع

هو الكامل الأوصاف والملك الّذي

تشير إليه بالكمال الأصابع

وبيض أياديه الكريمة في الورى

قلائد في الأعناق وهي الصّنائع

ويوماه يوماه اللذان هما هما

إذا جمعت غلب الملوك المجامع

ومنها :

فما روضة غنّا بها مرّت الصّبا

ونشر شذاها الطّيّب النّشر ذائع(٤)

له من شذيّ الزّهر برد مفوّف

أتيح له من أرض صنعاء صانع(٥)

فراقك منها أخضر الثّوب ناضر

وشاقك منها أصفر اللّون فاقع

__________________

(١) في ب ، ه : رعى الله أياما لها ..

(٢) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع العروض.

(٣) همعت العين همعا وهموعا : دمعت.

(٤) غنّا : أصلها : غناء ، حذفت الهمزة لإقامة الوزن ، وهو جائز. والروضة الغناء : التي كثرت أطيارها المغردة ، والصبا : ريح الشمال. والشذى : طيب الرائحة وأريجها. والنشر : الرائحة الطيبة. وذائع : منتشر.

(٥) مفوّف : مخطط.


وأحمر قان للخدود مورّد

وأبيض كالثّغر المفلّج ناصع(١)

بأحسن من توشيع مدحي الّذي له

بدائع من وشي البديع وشائع(٢)

وما ضائع من نشر شكري الّذي به

تأرّجت الأرجاء عندك ضائع

ولو لم يقيّدني نداك لكان لي

مجال فسيح في البسيطة واسع

فأنت الّذي لي والأعادي كثيرة

فويق مكان النّجم في الأفق دافع

ومنها :

بقيت لعبد جدّه دحية الذي

يشابه جبريل له ويضارع

وجدّته الزّهراء بنت محمّد

عليه السّلام الدّائم المتتابع

ولا عدمت منك الممالك مالكا

يقرّب للآمال ما هو شاسع

ومنك عيون للمهمّات يقظ

وعنك عيون الحادثات هواجع

وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل : إنه كان مشغوفا بسماع الحديث النبوي ، وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية ، وبنى له دار الحديث الكاملية بين القصرين بالقاهرة ، انتهى.

وقال أبو الخطاب بن دحية : أنشدني أبو القاسم السّهيلي لنفسه ، وذكر أنه ما سأل الله تعالى بها شيئا (٣) إلا أعطاه : [الكامل]

يا من يرى ما في الضّمير ويسمع

أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع

يا من يرجّى للشّدائد كلها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن

امنن فإنّ الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة

فبالافتقار إليك فقري أدفع(٤)

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة

فلئن رددت فأيّ باب أقرع

ومن الّذي أدعو وأهتف باسمه

إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

__________________

(١) مفلّج الثغر : منفرج الأسنان ، وكان العرب يستحسنون ذلك للمرأة.

(٢) توشيع مدحي : زخرفته.

(٣) شيئا : غير موجودة في ب.

(٤) في ه : وبالافتقار إليك فقري أدفع.


حاشا لجودك أن يقنّط عاصيا

الفضل أجزل والمواهب أوسع

ومن نظم السّهيلي رضي الله تعالى عنه : [الطويل]

أسائل عن جيرانه من لقيته

وأعرض عن ذكراه والحال تنطق (١)

وما لي إلى جيرانه من صبابة

ولكنّ نفسي عن صبوح ترقّق(٢)

وله : [الكامل]

لمّا أجاب بلا طمعت بوصله

إذ حرف لا حرفان معتنقان

وكذا نعم بنعيم وصل آذنت

فنعم ولا في اللّفظ متفقان

ولد أبو الخطاب بن دحية في ذي القعدة سنة سبع ـ أو ثمان ـ وأربعين وخمسمائة (٣) وتوفي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ، ودفن بسفح المقطم.

وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار ، وقدره أجل مما ذكروه ، وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم ، وكل ذلك في طلب الحديث ، وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن زرقون في جمع كثير (٤) ، وببغداد من أبي الفرج بن الجوزي ، وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره ، وبنيسابور من أبي سعيد بن الصفار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي ، وحصل الكتب والأصول ، وحدث ، وأفاد ، وكان من أعيان العلماء ، ومشاهير الفضلاء ، متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به ، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها.

وصنف كتبا كثيرة مفيدة جدا ، منها كتاب «التنوير ، في مولد السراج المنير» صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربعة وستمائة ، وهو متوجه إلى خراسان لما رأى ملك إربل (٥) مظفر الدين كوكبري (٦) معتنيا بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام ، مهتما به غاية الاهتمام ،

__________________

(١) في ه : والحال ينطق.

(٢) في ب : وما بي إلى جيرانه ..

(٣) اختلف في سنة ولادته فبينما هي هنا سنة ٥٤٧ أو ٥٤٨ ، هي في وفيات الأعيان سنة ٥٤٤ ه‍.

(٤) في ب : في جمع كبير.

(٥) إربل : انظر معجم البلدان لياقوت الحموي ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٤٠.

(٦) مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك علي باني إربل وأميرها ، وبعهده ازدهرت. (معجم البلدان ج ١ ص ١٣٨).


وكمله وقرأه عليه بنفسه ، وختمه بقصيدة طويلة ، فأجازه بألف دينار ، وصنف أيضا «العلم المشهور ، في فضائل الأيام والشهور» ، و «الآيات البينات ، في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات» وكتاب «شرح أسماء النبي صلى الله عليه وسلم» وكتاب «النبراس ، في أخبار خلفاء بني العباس» وكتاب «الإعلام المبين ، في المفاضلة بين أهل صفّين».

وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين ، ثم صرف عن ذلك لسيرة نسبت إليه (١) ، فرحل عنها وحدث بتونس سنة ٥٩٥ ، ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور ، وعاد إلى مصر ، فاستأدبه العادل لولده الكامل (٢) ، وأسكنه القاهرة ، فنال بذلك دنيا عريضة ، ثم زادت حظوته عند الكامل ، وأقبل عليه إقبالا عظيما وكان يعظمه ويحترمه ، ويعتقد فيه الخير ، ويتبرك به ، حتى كان يسوي له المداس حين يقوم ، وهو بلنسي كما قاله ابن خلكان وغيره ، وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس ثلث سنة بالتصحيف (٣).

٥٦ ـ ومنهم : خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ ، الحافظ ، الأندلسي.

رحل إلى المشرق ، وكان حافظا فهما عارفا بالرجال ، حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد ، وسمع بمصر أبا الحسن بن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة ، وسمع بدمشق علي بن أبي العقب وأبا الميمون بن راشد وبمكة من بكير الحداد وأبي الحسن الخزاعي والأجري ، وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية ، وتوفي سنة ٣٩٣.

٥٧ ـ ومنهم : خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم بن المرابط ، الكلبي ، من ذرية الأبرش الكلبي ، ويعرف بالمبرقع ، المحتسب ، القرطبي.

رحل إلى المشرق مرتين ، أولاهما سنة ٣٣٣ (٤) ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وسمع أبا سعيد بن الأعرابي وابن الورد ، وأبا بكر الآجري ، وروى عنه أبو إسحاق بن شنظير وأبو جعفر الزهراوي ، وقال ابن شنظير : إنه توفي في نحو الأربعمائة رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

٥٨ ـ ومنهم : سابق فضلاء زمانه ، أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصّلت الإشبيلي.

__________________

(١) في ب ، ه : نعيت عليه.

(٢) استأدبه لابنه : جعله مؤدبا ومعلما.

(٣) ثلث سنة بالتصحيف : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب ، وفي الصلة : ٣٣٢ ه‍.


يقال : إن عمره ستون سنة ، منها عشرون في بلده إشبيلية ، وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصّنهاجيين ، وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب ، وكان وجّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب ، فخرج في فنون العلم إماما ، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين ، وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته ، وكان يكنى بالأديب الحكيم ، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية.

قال ابن سعيد : وإليه تنسب إلى الآن ، وذكره العماد في «الخريدة» وله كتاب «الحديقة» على أسلوب «يتيمة الثعالبي» (١) وتوفي سنة ٥٢٠ ، وقيل : سنة ٥٢٨ ، بالمهدية ، وقيل : مستهل السنة بعدها ، ودفن بها.

وله فيمن اسمه واصل : [الكامل]

يا هاجرا سمّوه عمدا واصلا

وبضدّها تتبيّن الأشياء

ألغيتني حتّى كأنّك واصل

وكأنّني من طول هجري الرّاء

وقوله ، وهو من بدائعه : [الكامل]

لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي

وتدفّقت جدواك ملء إنائها

يكسى القضيب ولم يحن إثماره

وتطقطق الورقاء قبل غنائها (٢)

وقال في الأفضل : [الكامل]

تردي بكلّ فتى إذا شهد الوغى

نثر الرّماح على الدّروب كعوبا(٣)

قد لوّحته يد الهواجر فاغتدى

مثل القناة قضافة وشحوبا(٤)

تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا

في كلّ قلب بالطّعان قليبا(٥)

ومنها : [الكامل]

تعطي الّذي أعطتكه سمر القنا

أبدا فتغدو سالبا مسلوبا

__________________

(١) في ب ، ه : يتيمة الدهر للثعالبي.

(٢) في ب ، ه : وتطوق الورقاء قبل غنائها. والورقاء : الحمامة التي يميل لونها إلى الخضرة. وتطقطق : تصوت.

(٣) ردى يردي رديا ورديانا الفرس : ضرب الأرض بحوافره في سيره.

(٤) الهواجر : جمع هاجرة ، وهي شدة الحر وسط النهار. والقضافة : النحافة والنحول.

(٥) القليب : البئر. والأشطان : الحبال.


ومنها :

وأنا الغريب مكانه وبيانه

فاجعل صنيعك في الغريب غريبا

وله : [الكامل]

ومهفهف شربت محاسن وجهه

ما مجّه في الكاس من إبريقه(١)

ففعالها من مقلتيه ، ولونها

من وجنتيه ، وطعمها من ريقه

أخذه من ابن حيّوس ، وقصر عنه ، في قوله : [الكامل]

ومهفهف يغني بلحظ جفونه

عن كاسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن : [مجزوء الخفيف]

أيّها الظّالم المسي

ء مدى دهره بنا

ما لهم أخطئوا الصوا

ب فسمّوك محسنا

وله في لابس قرمزية حمراء : [المنسرح]

أقبل يسعى أبو الفوارس في

مرأى عجيب ومنظر أنق

أقبل في قرمزيّة عجب

قد صبغت لون خدّه الشّرق

كأنّما جيده وغرّته

من دونها إذ بدون في نسق

عمود فجر من فوقه قمر

دارت به قطعة من الشّفق

وله في ثقيل وقد أجاد (٢) : [الخفيف]

لي جليس عجبت كيف استطاعت

هذه الأرض والجبال تقلّه

أنا أرعاه مكرها وبقلبي

منه ما يقلق الجبال أقلّه(٣)

فهو مثل المشيب أكره مرآ

ه ولكن أصونه وأجلّه (٤)

أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج الميورقي (٥) ، وهما في عصر واحد : [الكامل]

__________________

(١) المهفهف : الضامر البطن ، الدقيق الخصر.

(٢) وقد أجاء : غير موجودة في ب ، ه.

(٣) في ه : ما يتلف الجبال أقله.

(٤) أجلّه : أعظمه وأحترمه.

(٥) في ب : اللورقي.


لي صاحب عميت عليّ شؤونه

حركاته مجهولة وسكونه

يرتاب بالأمر الجليّ توهّما

فإذا تيقّن نازعته ظنونه

إنّي لأهواه على شرقي به

كالشّيب تكرهه وأنت تصونه

وأوصى أن يكتب على قبره أبو الصلت (١) المذكور مما نظمه قبل (٢) موته : [الطويل]

سكنتك يا دار الفناء مصدّقا

بأنّي إلى دار البقاء أصير

وأعظم ما في الأمر أنّي صائر

إلى عادل في الحكم ليس يجور

فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها

وزادي قليل والذنوب كثير

فإن أك مجزيّا بذنبي فإنّني

بشرّ عقاب المذنبين جدير

وإن يك عفو ثمّ عنّى ورحمة

فثمّ نعيم دائم وسرور

وله أيضا : [الطويل]

إذا كان أصلي من تراب فكلّها

بلادي ، وكلّ العالمين أقاربي

ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجة

تشقّ على شمّ الذّرا والغوارب

وقال : [الكامل]

دبّ العذار بخدّه ثمّ انثنى

عن لثم مبسمه البرود الأشنب

لا غرو أن خشي الرّدى في لثمه

فالرّيق سمّ قاتل للعقرب

وقد ذكروا أن من خواصّ ريق الإنسان أنه يقتل العقرب ، وهو مجرب.

وقال : [السريع]

لا تدعني ولتدع من شئته

إليك من عجم ومن عرب

فنحن أكّالون للسّحت في

ذراك سمّاعون للكذب (٣)

وقال : [الكامل]

لا تسألنّي عن صنيع جفونها

يوم الوداع وسل بذلك من نجا

لو كنت أملك خدّها للثمته

حتّى أعيد به الشّقيق بنفسجا(٤)

__________________

(١) في ه : وأوصى أبو الصلت المذكور أن يكتب على قبره ..

(٢) في ب : قبيل موته.

(٣) السحت : الحرام.

(٤) الشقيق : زهر أحمر ، والبنفسج أزرق اللون.


أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها

ومنعت ضوء الصّبح أن يتبلّجا(١)

وبثثت في الظّلماء كحل جفونها

وعقدت هاتيك الذّوائب بالدّجا

وقال مهنّئا بمولود : [السريع]

يلوح في المهد على وجهه

تجهّم البأس وبشرى النّدى

والشّمس والبدر إذا استجمعا

لم يلبثا أن يلدا فرقدا

فابق له حتّى ترى نجله

وإن عرا خطب فنحن الفدا

قال ابن سعيد : وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه ، وتركه أولى وقال رحمه الله تعالى في الرصد : [البسيط]

فذا غدير ، وذا روض ، وذا جبل ،

فالضّبّ والنّون والملّاح والحادي

٥٩ ـ ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السّرقسطي.

ذكره العماد الأصبهاني في «الخريدة» وذكره السمعاني في الذيل ، وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة.

ومن شعره : [الطويل]

أيا شمس إنّي إن أتتك مدائحي

وهنّ لآل نظّمت وقلائد

فلست بمن يبغي على الشّعر رشوة

أبى ذاك لي جد كريم ووالد

وأنّي من قوم قديما ومحدثا

تباع عليهم بالألوف القصائد

٦٠ ـ ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري(٢).

من رجال «الذخيرة» رحل إلى المشرق ، وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه ، ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري.

وأخبر عن نفسه أنه كان بين يديه تلميذ له وسيم ، فمر به أبو جعفر التجاني بسحاءة (٣) كتب له فيها وخلاها بين يديه ، وهو قد غلب النوم عليه ، فقال : [مجزوء الكامل]

يا نائما متعمّدا

إبصار طيف حبيبه

__________________

(١) تبلج الصبح : أشرق وأنار.

(٢) في ج : الباري. وفي ه : المتباري. وفي فهرست الذخيرة : البيماري.

(٣) السحاءة : أراد بها ورقة رقيقة.


هو جوهر فاثقبه إنّ

الطّيب في مثقوبه

أو أركبنّي ظهره

إن لم تقل بركوبه

فلما قرأها علم أنها للتّجاني ، فكتب تحتها : [مجزوء الكامل]

يا طالبا أضحى حجا

ب دون ما مطلوبه

لو لم يكن في ذاك إث

م لم أكن أسخو به

إنّي أغار عليه من

أثوابه ورقيبه

وأنشد يوما في حلقته لابن الرومي في خبّاز : [البسيط]

إن أنس لا أنس خبّازا مررت به

يدحو الرّقاقة وشك اللّمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفّه كرة

وبين رؤيتها قوراء كالقمر(١)

إلّا بمقدار ما تنداح دائرة

في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر(٢)

 فقال بعض تلامذته : أما إنه لا يقدر على الزيادة على هذا ، فقال : [البسيط]

فكاد يضرط إعجابا برؤيتها

ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري

فضحك من حضر ، وقال : البيت لائق بالقطعة ، لو لا ما فيه من ذكر الرجيع ، فقال :

إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم

فعجّلوا محوه أو فالعقوه طري

٦١ ـ ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي.

مطبوع في الشعر والتوشيح ، قال ابن سعيد : اجتمعت به في القاهرة مرارا بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره ، وتوفي في مارستان القاهرة.

ومن شعره : [الكامل]

أمّا الغراب فإنّه سبب النّوى

لا ريب فيه وللنّوى أسباب

يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه

جمل وتعوي بعد ذاك ذئاب

لا تكذبنّ فهذه أسبابه

لكنّ منها بدأة وجواب

٦٢ ـ ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو بكر محمد بن يوسف بن موسى ، الأندلسي ، المعروف بابن مسدي.

__________________

(١) قوراء : مستديرة.

(٢) تنداح : تتسع.


وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب ، قال رحمه الله تعالى : أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي لنفسه سنة ٦٣٧ في شوّال بداره بغرناطة (١) : [البسيط]

منغّص العيش لا يأوي إلى دعة

من كان ذا بلد أو كان ذا ولد

والسّاكن النّفس من لم ترض همّته

سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد

٦٣ ـ ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتّوح بن عبد الله الأزدي الحميدي ، نسبة لجده حميد الأندلسي (٢).

ولد أبوه بقرطبة ، وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس ، قبل العشرين وأربعمائة ، وكل يحمل على الكتف للسماع سنة ٤٢٥ ، فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ ، قال : وكنت أفصح من يقرأ عليه ، وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقه ، وروى عنه رسالته ومختصر المدوّنة ، ورحل سنة ٤٤٨ ، وقدم مصر وسمع بها من الضّرّاب والقضاعي (٣) وغير واحد ، وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه ، وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلا أنه لم يكن يتظاهر به ، وسمع بدمشق وغيرها ، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته ، وسمع بمكة من الزنجاني ، وأقام بواسط مدّة بعد خروجه من بغداد ، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيرا من الحديث والأدب وسائر الفنون ، وصنف مصنفات كثيرة ، وعلق فوائد ، وخرج تخاريج للخطيب ولغيره ، وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا ، وكان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته ، حتى قال بعض الأكابر ممن لقي الأئمة : لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزار علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله ، وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته ، محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث ، متبحّرا في علم الأدب والعربية ، ومن تصانيفه كتاب «جذوة المقتبس ، في أخبار علماء الأندلس» وكتاب «تاريخ الإسلام» وكتاب «من ادعى الأمان ، من أهل الإيمان» وكتاب «الذهب المسبوك ، في وعظ

__________________

(١) كان من أعيان مصره ، تفننا في العلوم ، وبراعة في المنثور والمنظوم ، محدثا ضابطا عدلا ، ثقة ، ثبتا ، مجوّدا للقرآن ، متقدما في العربية ، وافر النصيب من الفقه والأصول ، كاتبا ، مجيد النظم (بغية الوعاة ج ١ ص ٦٠٥) ولقد ورد التبيان في البغية.

(٢) انظر في ترجمته : شذرات الذهب ج ٣ ص ٣٩٢. وتذكرة الحفاظ : ١٢١٨ ، والصلة ص ٥٣٠.

(٣) في ج : القراعي.


الملوك» وكتاب «تسهيل السبيل ، إلى علم الترسيل» وكتاب «مخاطبات الأصدقاء ، في المكاتبات واللقاء» وكتاب «ما جاء من النصوص والأخبار ، في حفظ الجار» وكتاب «ذم النميمة» (١) وكتاب «الأماني الصادقة» وغير ذلك من المصنفات ، و «الأشعار الحسان ، في المواعظ والأمثال» وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحر ويجلس في إجانة ماء يتبرد به ، ومن مشهور مصنفاته كتاب «الجمع بين الصحيحين».

وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه : إنه أظهر العلم في طرق ميورقة (٢) بعد ما كانت عطلاء من هذا الشأن ، وترك لها فخرا تباري به خواص البلدان ، وهو من علماء أئمة الحديث ، ولازم أبا محمد بن حزم من الأندلس واستفاد منه ، ورحل إلى بغداد ، وبها ألف كتاب الجذوة ، ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه. [الطويل]

ألفت النّوى حتّى أنست بوحشها

وصرت بها لا في الصّبابة مولعا

فلم أحص كم رافقته من مرافق

ولم أحص كم خيّمت في الأرض موضعا

ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا

فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا(٣)

وقال رحمه الله تعالى : [الوافر]

لقاء النّاس ليس يفيد شيئا

سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء النّاس إلّا

لأخذ العلم أو إصلاح حال

وذكره ابن بشكوال في الصّلة ، وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، رحمه الله تعالى!.

قال ابن ماكولا : أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي ، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ ، لم أر مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم ، وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي ، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب أبرز (٤) ، فلما كانت مدة رآه مظفر في النوم كأنه يعاتبه على مخالفته ، فنقل في صفر سنة ٤٩١ إلى مقبرة باب حرب ، ودفن عند قبر بشر ، وكان كفنه جديدا وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب ، ووقف كتبه على أهل العلم ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) في ب ، ه : وكتاب النميمة.

(٢) في ب ، ه : إنه طرق ميورقة بعد ما كانت عطلا من هذا الشأن.

(٣) جوب الأرض : قطعها.

(٤) في ج : باب البزر.


ومن مناقبه أنه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ : تعديت بعين إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت ، انتهى.

ومن شعر الحميدي أيضا قوله : [الوافر]

طريق الزّهد أفضل ما طريق

وتقوى الله تالية الحقوق

فثق بالله يكفك ، واستعنه

يعنك ، ودع بنيّات الطّريق

وقوله : [الوافر]

كلام الله عزّ وجلّ قولي

وما صحّت به الآثار ديني

وما اتّفق الجميع عليه بدءا

وعودا فهو عن حقّ مبين

فدع ما صدّ عن هذا وهذا

تكن منها على عين اليقين(١)

٦٤ ـ ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي (٢) ، وهو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن ، القيسي ، من أهل شريش ، روى عن أبي الحسن بن لبّال (٣) وأبي بكر بن أزهر وأبي عبد الله بن زرقون وأبي الحسين بن جبير وغيرهم ، وأقرأ العربية ، وله تواليف أفاد بما حشد (٤) فيها : منها شرح الإيضاح للفارسي ، والجمل للزجاج ، وله في العروض تواليف ، وجمع مشاهير قصائد العرب ، واختصر نوادر أبي علي القالي.

قال ابن الأبار : لقيته بدار شيخنا أبي الحسن بن حريق من بلنسية ، قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة ، وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات ، فسمعت عليه بعضه ، وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه ، وأخذ عنه أصحابنا ، ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية ، انتهى.

ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام : [البسيط]

يا جيرة الشّام هل من نحوكم خبر

فإنّ قلبي بنار الشّوق يستعر(٥)

بعدت عنكم فلا والله بعدكم

ما لذّ للعين لا نوم ولا سهر

__________________

(١) في ب ، ه : فدع ما صدّ عن هذي وخذها.

(٢) انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ١ ص ٣٣١. وقال في البغية : توفي سنة ٧٠٢ ه‍.

(٣) في ج : ليال.

(٤) في ب ، ه : بما حشر فيها.

(٥) يستعر : يشتعل.


إذا تذكّرت أوقاتا نأت ومضت

بقربكم كادت الأحشاء تنفطر

كأنّني لم أكن بالنّيربين ضحى

والغيم يبكي ومنه يضحك الزّهر(١)

والورق تنشد ، والأغصان راقصة

والدّوح يطرب بالتّصفيق والنّهر(٢)

والسّفح أين عشيّاتي الّتي سلفت

لي منه فهي لعمري عندي العمر

سقاك يا سفح سفح الدّمع منهملا

وقلّ ذاك له إن أعوز المطر

وله رحمة الله تعالى شروح لمقامات الحريري : كبير ، ووسط ، وصغير ، وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له ، وكان رحمه الله تعالى معجبا بالشام :

وقال ابن الأبار عندما ذكره : إنه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ : كبراها الأدبية ، ووسطاها اللغوية ، وصغراها المختصرة ، انتهى.

وتوفي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

٦٥ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد ، الأزدي ، القرطبي ، الملقب بضياء الدين.

أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث النحو (٣) واللغة وغير ذلك.

قال القاضي الشمس ابن خلكان : إنه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسّلفي وغيرهم ، ودخل بغداد سنة ٥١٧ ، وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقري المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط ، وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه ، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز وغيرهم ، وكان ديّنا ورعا عليه وقار وسكينة ، وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا قليل الكلام كثير الخير مفيدا ، أقام بدمشق مدة ، واستوطن الموصل ، ورحل منها إلى أصبهان ، ثم عاد إلى الموصل ، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر ، وذكره الحافظ

__________________

(١) النيربان : مثنى نيرب ، وهي قرية قرب دمشق.

(٢) الورق : جمع ورقاء وهي الحمامة التي يميل لونها إلى الاخضرار.

(٣) في ب : والنحو.


ابن السمعاني في كتاب الذيل ، وقال : إنه اجتمع به بدمشق ، وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي ، وانتخب عليه أجزاء ، وسأله عن مولده فقال : ولدت سنة ٤٨٦ في مدينة قرطبة ، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة ٤٨٧ ، والأول أصح ، وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن (١) يوسف بن رافع (٢) بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه ، وقال : كنا نقرأ عليه بالموصل ، ونأخذ عنه ، وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف ، فيأخذه الشيخ من يده ، ولا نعلم ما هو ، ويتركه ذلك الرجل ويذهب ، ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت ترسم (٣) للشيخ في كل يوم ، يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها ، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده.

وذكر في كتاب «دلائل الأحكام» أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة ، آخرها سنة ٥٦٧.

وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي : [الوافر]

جرى قلم القضاء بما يكون

فسيّان التّحرّك والسّكون

جنون منك أن تسعى لرزق

ويرزق في غشاوته الجنين

وتوفي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة ٥٦٧ ، رحمه الله تعالى!.

انتهى كلام ابن خلكان ببعض اختصار.

٦٦ ـ ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد ، ابن الشيخ الأجل أبي الحسن بن عبد ربه ، وهو من حفداء صاحب كتاب «العقد» المشهور.

حدث الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني (٤) رفيقه قال : اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية ، فلما قربنا منها هاج علينا البحر ،

__________________

(١) أبو المحاسن : غير موجودة في ب.

(٢) هو يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب بن شداد أبو المحاسن ، وأبو العز الأسدي الحلبي ، قاضي القضاة إمام علامة ولد سنة ٥٣٩ ونشأ بالموصل ، وحفظ القرآن ولزم يحيى بن سعدون القرطبي ، فأحكم عليه القراءات والعربية (انظر غاية النهاية ج ٢ ص ٣٩٥).

(٣) في ابن خلكان : برسم الشيخ.

(٤) في بعض النسخ : القرومي.


وأشفينا على الغرق ، فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية ، فسررنا برؤيته ، وطمعنا في السلامة ، فقال لي : لا بد أن أعمل في المنار شيئا ، فقلت له : أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها؟ فقال : نعم ، فقلت : فاصنع ، فأطرق ثم عمل بديها : [البسيط]

لله درّ منار اسكندريّة كم

يسمو إليه على بعد من الحدق

من شامخ الأنف في عرنينه شمم

كأنّه باهت في دارة الأفق(١)

لله درّ منار اسكندريّة كم

يسمو إليه على بعد من الحدق

يكسّر الموج منه جانبي رجل

مشمّر الذّيل لا يخشى من الغرق

لا يبرح الدّهر من ورد على سفن

ما بين مصطبح منها ومغتبق

للمنشآت الجواري عند رؤيته

كموقع النّوم من أجفان ذي أرق

وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله بن عبد ربه ، وأظنه هذا ، فليتنبه له ، بل أعتقد أنه هو لا غيره ، والله تعالى أعلم.

٦٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار ، القرطبي (٢).

قال في القدح المعلى : بيتهم مشهور بقرطبة ، لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة ، ونشأ أبو عبد الله هذا حافظا للآداب ، إماما في علم الحساب ، مع أنه كان أعمى مقعدا مشوه الخلقة ، ولكنه إذا نطق علم كل منصف حقه ، ومن عجائبه أنه سافر على تلك الحالة ، حتى غدت بغداد له هالة (٣) ، اجتمعت به بحضرة تونس فرأيت بحرا زاخرا ، وروضا ناضرا ، إلا أنه حاطب ليل (٤) ، وساحب ذيل ، لا يبالي ما أورده ، ولا يلتفت إلى ما أنشده ، جامعا بين السمين والغث ، حافظا للمتين والرث ، وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها.

ومن مشهور حكاياته أنه لما قال أبو زيد الفازازي (٥) في أبي علي (٦) المستنصر قصيدته التي مطلعها : [البسيط]

الحزم والعزم منسوبان للعرب

__________________

(١) العرنين : الأنف.

(٢) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٣) الهالة : دارة القمر. وقد شبه صاحب القدح الصفار بالقمر وبغداد بهالته.

(٤) حاطب ليل : أي لا يبالي بما يعجبه ولا يدرك الغث من السمين.

(٥) في القدح : الفزاري.

(٦) في ب : أبي العلاء.


عارضه بقصيدة ، ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان (١) : [البسيط]

وإن ينازعك في المنصور ذو نسب

فنجل نوح ثوى في قسمة العطب(٢)

وإن يقل أنا عمّ فالجواب له

عمّ النّبيّ بلا شكّ أبو لهب

وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء ، فحرض على قتله ، وسلمه الله تعالى منه ، ومات سنة ٦٣٩.

ومن شعر قوله : [السريع]

لا تحسب النّاس سواء متى

تشابهوا فالنّاس أطوار(٣)

وانظر إلى الأحجار ، في بعضها

ماء ، وبعض ضمنها نار(٤)

 وقوله : [المجتث]

يا طالعا في جفوني

وغائبا في ضلوعي

بالغت في السّخط ظلما

وما رحمت خضوعي

إذا نويت انقطاعا

فاحسب حساب الرّجوع(٥)

انتهى باختصار يسير.

٦٨ ـ ومنهم أبو الوليد بن الجنّان محمد بن المشرف أبي عمرو بن (٦) الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي العلاء بن الجنّان ، الكناني ، الشاطبي (٧).

قال ابن سعيد : توارثوا بشاطبة ، مراتب تحسدها النجوم الثاقبة ، وأبو الوليد أشعرهم ، وقد تجدّد به في أقطار المشرق مفخرهم ، وهو معروف هناك بفخر الدين ، ومتصدر في أئمة النحويين ، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام ، ومقطّعاته الغرامية قلائد أهل الغرام ، صحبته بمصر ودمشق وحلب ، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب ، وأنشدني بدمشق : [الرمل]

__________________

(١) في ب : الأوان [رداء السلطان]

(٢) في ب : قمة العطب.

(٣) في القدح المعلى : اشتبهوا فالناس أطوار.

(٤) في القدح : ماء وبعض ضمنه نار.

(٥) في القدح : فاعمل حساب الرجوع.

(٦) في ب : عمرو ابن الكاتب.

(٧) انظر ترجمته في القدح المعلى ص ٢٠٦.


أنا من سكر هواهم ثمل

لا أبالي هجروا أم وصلوا

فبشعري وحديثي فيهم

زمزم الحادي وسار المثل

إن عشّاق الحمى تعرفني

والحمى يعرفني والطّلل

رحلوا عن ربع عيني فلذا

أدمعي عن مقلتي ترتحل

ما لها قد فارقت أوطانها

وهي ليست لحماهم تصل

لا تظنّوا أنّني أسلو فما

مذهبي عن حبّكم ينتقل

وقوله رحمه الله تعالى (١) : [البسيط]

بالله يا بانة الوادي إذا خطرت

تلك المعاطف حيث الشّيح والغار(٢)

فعانقيها عن الصّبّ الكئيب فما

على معانقة الأغصان إنكار

وعرّفيها بأنّي فيك مكتئب

فبعض هذي لها بالحبّ إخبار(٣)

وأنتم جيرة الجرعاء من إضم

لي في حماكم أحاديث وأسمار

وأنتم أنتم في كلّ آونة

وإنما حبّكم في الكون أطوار

ويا نسيما سرى تحدو ركائبه

لي بالغوير لبانات وأوطار

وقوله (٤) : [الخفيف]

يا رعى أنسنا بين روض

حيث ماء السّرور فيه يجول

تحسب الزهر عنده يتثنى

وتخال الغصون فيه تميل

وله : [البسيط]

هات المدام فقد ناح الحمام على

فقد الظّلام وجيش الصّبح في غلب

وأعين الزّهر من طول البكا رمدت

فكحّلتها يمين الشّمس بالذّهب

والكأس حلّتها حمراء مذهبة

لكن أزرّتها من لؤلؤ الحبب

كم قلت للأفق لمّا أن بدا صلفا

بشمسه عندما لاحت من الحجب

__________________

(١) في القدح : ص ٢٠٧.

(٢) الشيح والغار : نبتان طيبا الرائحة.

(٣) في ه ، ب : والقدح المعلى : فبعض هذا لها بالحب إخبار.

(٤) في ب : وله :


إن تهت بالشّمس يا أفق السّماء فلي

شمسان وجه نديمي وابنة العنب

قم اسقنيها وثغر الصّبح مبتسم

واللّيل تبكيه عين البدر بالشّهب

والسّحب قد لبست سود الثّياب وقد

قامت لترثيه الأطيار في القضب

وله (١) : [السريع]

عليك من ذاك الحمى يا رسول

بشرى علامات الرّضا والقبول

جئت وفي عطفيك منهم شذى

يسكر من خمر هواه العذول

ومنها : [السريع]

أحبابنا ودّعتم ناظري

وأنتم بين ضلوعي نزول

حللتم قلبي وهو الّذي

يقول في دين الهوى بالحلول

أنا الّذي حدّث عن الهوى

بأنّني عن حبّكم لا أحول

فليزد العاذل في عذله

وليقل الواشي لكم ما يقول

انتهى كلام النور بن سعيد.

وقال غيره : ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة ٦١٥ ، ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون ، وكان عالما فاضلا ، دمث الأخلاق ، كريم الشمائل ، كثير الاحتمال ، واسع الصدر ، صحب الشيخ كمال الدين بن العديم ، وولده قاضي القضاة مجد الدين ، فاجتذبوه إليهم ، وصار حنفي المذهب ، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق ، وله مشاركة في علوم كثيرة ، وله يد في النظم ، ومن شعره (٢) : [الكامل]

لله قوم يعشقون ذوي اللّحى

لا يسألون عن السّواد المقبل(٣)

وبمهجتي قوم وإنّي منهم

جبلوا على حبّ الطّراز الأوّل

وله أيضا : [البسيط]

قم اسقنيها وليل الهمّ منهزم

والصّبح أعلامه محمرّة العذب

__________________

(١) القدح المعلى ص ٢٠٨ وقد وردت فيه أبيات زائدة عما في النفح.

(٢) في ب ، ه : ومنه قوله :

(٣) الشطر الثاني من هذا البيت وما بعده مأخوذ من قول حسان بن ثابت :

يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحاسبهم

شم الأنوف من الطراز الأول


والسّحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها

تضمّه الشّمس في ثوب من الذّهب

وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا.

وله ـ رحمه الله تعالى! ـ في كاتب : [الطويل]

وبي كاتب أضمرت في القلب حبّه

مخافة حسّادي عليه وعذّالي

له صنعة في خطّ لام عذاره

ولكن سها إذ نقّط اللّام بالخال

٦٩ ـ ومنهم أبو محمد القرطبي (١) :

قال ابن سعيد : لقيته بالقاهرة ، وكأنه لا خبر عنده من الآخرة ، وقد طال عمره في أكل الأعراض ، وفساد الأغراض ، ومما بقي في أذني من شعره قوله : [الخفيف]

رحم الله من لقيت قديما

فلقد كان بي رؤوفا رحيما

أتمنّى لقاء حرّ وقد أع

وز بختي كما عدمت الكريما

وتوفي بالقاهرة سنة ٦٤٣ ، انتهى.

٧٠ ـ ومنهم علي بن أحمد (٢) ، القادسي ، الكناني

قال ابن سعيد : لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء ، وحصلت منه هذه الأبيات ، وندمت بعد ذلك على ما فات ، وهي : [المجتث]

ذاك العذار المطلّ

دمي عليه يطلّ

كأنّما الخدّ ماء

وقد جرى فيه ظلّ

عقود صبري عليه

مذ حلّ قلبي تحلّ

جرت دموعي عليه

فقلت آس وطلّ

٧١ ـ ومنهم أبو عبد الله بن العطار ، القرطبي (٣).

قال ابن سعيد : هو حلو المنازع ، ظريف المقاطع والمطالع ، مطبوع النوادر ، موصوف بالأديب الشاعر ، مازجته بالإسكندرية ، وبهذه الحضرة العلية ، وما زال يدين بالانفراد ،

__________________

(١) ترجمته في القدح المعلى ص ٢١٢ تحت عنوان : أبو المحامد. القرطبي. وقال عن ابن سعيد : كان يلقب بأبي البغل. (القدح المعلى ص ٢١٢).

(٢) انظر القدح المعلى ص ٢١٣.

(٣) انظر القدح المعلى ص ٢١٥.


والتجول في البلاد ، حتى قضى مناه ، وألقى بهذه المدينة عصاه ، لا يخطر الهم له ببال ، ولا يبيت إلا على وعد من وصال ، وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة بن الرّيغي ، وقال : ما لي إليه سبيل ، حتى يحضر مصري (١) نبيل : [الطويل]

أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب

على يده قطع وفيه نصاب

ستندبه الأقلام عند عثارها

ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب(٢)

فقال : [الطويل]

أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته

وفيه نصاب ليس يلزمك القطع

على أنّ فيه القطع والحدّ ثابت

ولا حدّ فيه ، هكذا حكم الشّرع

انتهى كلام ابن سعيد من كتابه «القدح المعلى» فيما أظن.

ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله «وبهذه الحضرة العلية» حضرة تونس المحروسة ، فإنها كانت محط رحال الأفاضل ، من الأواخر والأوائل ، حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة ، ومنها ارتحل إلى مصر ، وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله بن مرزوق رحمه الله تعالى ، ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب ، فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصه : المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد ، ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد ، ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاستعداد (٣) ، ونخطب له من الله بهزّ أعطافه للخير والتوفيق والسداد ، والإعانة منه والإمداد ، مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه ، ووضح سعده متألقة براهينه ، وحياه الصنع الجميل وبيّاه مشرقا جبينه ، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله يرعى الذّمم ، ويسلك من الفضائل المنهج الأمم (٤) ، ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم ، معظم قدره ، وملتزم بره ، الحريص على توفير أجره ، وتخليد فخره ، فلان ، أما بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة ، المحافظة على السنة والجماعة ، وحافظها من الإضاعة ، إلى قيام الساعة ، الذي جعل المودة فيه أنفع الوسائل النفّاعة ، والصلاة والسلام على

__________________

(١) في القدح : ما إليها سبيل ، حتى يحضر لك فيها معنى نبيل.

(٢) عثارها : العثرة : الزلّة.

(٣) في ب ، ه : والاعتداد.

(٤) الأمم : القريب.


سيدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة ، متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة ، والرضا عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة ، وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة (١) تلك الزراعة ، والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة ، وتأييد لا ترضى فيه القنا بمقام تلك (٢) القناعة ، فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة ، في أيدي النواسم الضّوّاعة ، من حمراء غرناطة ـ حرسها الله تعالى! ـ عن خير هامي السحاب ، وبشر مفتح الأبواب ، وعز للإسلام ، ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام ، مقتبل الشباب ، ويمن ضافي الجلباب ، والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفر الأسباب ، وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب ، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب (٣) ، ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللّباب ، وإلى هذا وصل الله تعالى سعيكم بسوابغ نعمه (٤) وآلائه دائمة الانسكاب ، وجعل ما عجل لكم من نعمه وآلائه (٥) كفيلة بالزلفى وحسن المتاب (٦) ، وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولا وعملا فالشكر مستدعي المزيد كما ورد (٧) في الكتاب ، فإن من المنقول الذي اشتهر ، وراق فضله وبهر ، قوله «اشفعوا تؤجروا» وما في معناه من المعتبر في الخبر وتنفيس كربة عن مسلم ، وسماع شكوى من متظلم ، ولو لا أن مقامكم السني أغنى ، لجلبنا الكثير من هذا المعنى ، ولما تحقق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح ـ قدس الله تربته ، وضاعف قربته! ـ من يمن الظفر ، وسلوك سبيل (٨) الخير وإقامة رسول (٩) الدين ، والاهتداء من هديه بالنور المبين ، خفّ علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات ، ونتّجر لكم مع الله بأنفس البضاعات ، فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة ، وما تأخر أوسعناكم فيه عذرا يسد ذريعة ، وعلمنا أن الله تعالى

__________________

(١) في ه : بفائد.

(٢) تلك : غير موجودة في ب.

(٣) ذوات الأقتاب : أي النوق.

(٤) في ب ، ه : وإلى هذا وصل الله تعالى سوابغ نعمه وآلائه.

(٥) في ب : من نعمه كفيلة.

(٦) في ب : المآب.

(٧) إشارة إلى قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

(٨) من والدكم .. إلى سلوك سبيل : موجودة في ب ، ه.

(٩) في ب : رسوم الدين.


لم يأذن في تعجيله ، وسألناه في تيسيره وتسهيله ، سواء لدينا في ذلك ما عاد ، بإعانة عامة وإمداد ، وساهم في قصد جهاد ، وما لم يعد علينا خصوصا وعلى المسلمين عموما بإعانة ولا إرفاد ، إنما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم ، وندلّ عليه كريم جنابكم ، بمقتضى وداد ، صبحه باد ، وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد ، سلم محمله ومفصّله من انتقاد ، وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد العلامة (١) سلالة الصالحين ، وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين ، ويا لها من مزية دنيا ودين ، أبا عبد الله بن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله ، وسنّى من مقامكم السني آماله ، جرى عليه من المحن ، وتباريح الإحن (٢) ، ما يعلم كل ذي مروءة وعقل ، واجتهاد ونقل ، أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب ، وإلى معقّاته منسوب ، ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا (٣) ، لاستدعت إلى تعمدها عفوا كبيرا ، رعيا لذلك الإمام الصالح الذي كبّر خلفه وأحرم ، وتشهد وسلم ، وأمّن عقب دعائه ، ونصب كفه لمواهب الله تعالى وآلائه ، وأنصت لخطبته ووعظه ، وأوجب المزية لسعة حفظه وعذوبة لفظه ، فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة ، وعطّل المتاجر الرابحة ، وأسف الملك المذكور بدم ولده ، وإحراق خزائنه وعدده ، وتغيير رسومه وحدوده وإسخاطه وإسخاط الله معبوده ، إلى أن طهر سيفكم الملك من عاره ، وأخذ منه بثاره ، وتقرب إلى الله وإلى السلف الكريم بمحو آثاره ، والحمد لله على ما خصّه من إيثاره ، وتدارك الإسلام بإقالة عثاره ، وإنه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرر من حاله ما يفتّ الفؤاد ، ويوجب الامتعاض له والاجتهاد (٤) ، يطلب منا الإعانة بين يديكم والإنجاد ، ويشكو العيلة والأولاد ، والغربة التي أحلّته الأقطار النازحة والبلاد ، والحوادث التي سلبته الطارف والتّلاد ، وأن نذكركم بوسيلته ، وضعف حيلته ، فبادرنا لذلك عملا بالواجب ، وسلوكا من بره ورعي حقه على السّنن اللاحب (٥) ، وإن كنا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيرا ، ولا نشكر إلا الله وليا ونصيرا ، فحقه علينا أوجب ، فهو الذي لا يجحد ولا يحجب ، ولا يلتبس منه المذهب ، وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعا ، وأحلّه محلا منيعا رفيعا ، إلى وليه الذي جبر ملكه سريعا ، وصير جنابه بعد المحول مريعا (٦) ، وجدد رسومه

__________________

(١) في ب : الأوحد سلالة ..

(٢) في ه : ونتائج الإحن. وتباريح : جمع تبريح. والإحن : جمع إحنة وهي الحقد.

(٣) رضوى وثبير : جبلان.

(٤) الامتعاض : الحنق والغصب.

(٥) السنن اللاحب : الطريق الواضح البيّن.

(٦) المريع ، بفتح الميم وكسر الراء : الخصيب.


تأصيلا لها وتفريعا ، ومثلكم من اغتنم بره في نصر مظلوم ، وسبر مكلوم ، وإعداء كرم على لوم ، وهي منا ذكرى تنفع ، وحرص على أجر من يشفع ، وإسعاف لمن سأل ما يعلى من قدركم ويرفع ، وتأدية لحق سلفكم الذي توفرت حقوقه ، وإبلاغ نصيحة دينية إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه ، ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير ، وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير ، ومنهلكم الأروى ، وباعكم في الخير أطول وساعدكم أقوى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] والله عز وجل يسلك بكم المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم ، وتعظم عند الله أجركم ، فما عند الله خير للأبرار ، والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار ، وهو سبحانه يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، انتهى.

والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني ، وكان ابن مرزوق غالبا على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور ، فقتله الوزير عمر بن عبد الله

الفودودي ، وتغلب على الملك ، ونصب أخا لأبي سالم معتوها ، وسجن ابن مرزوق ، ورام قتله ، فخلصه الله تعالى منه ، ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلب وقتله ، واستقل بالملك ، فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر.

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى ، فنقول :

٧٢ ـ ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر ، الأزدي ، القرطبي ، المعروف بابن الفرضي ، الحافظ المشهور (١).

كان فقيها عالما ، عارفا بعلم الحديث ورجاله ، بارعا في الأدب وغيره ، وله من التصانيف «تاريخ علماء الأندلس» ، وقفت عليه بالمغرب ، وهو بديع في بابه وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب «الصلة» وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة ، وكتاب في أخبار شعراء الأندلس ، وغير ذلك ، ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة ٣٨٢ ، فحج وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم ، وروى عن شيوخ عدّة من أهل المشرق.

__________________

(١) جاء في شذرات الذهب : أبو الوليد الفرضي عبد الله بن محمد بن يوسف القرطبي الحافظ ، مؤلف تاريخ الأندلس إلخ. (الشذرات ج ٣ ص ١٦٨). وانظر ترجمته في الصلة ص ٢٤٦ ، والمطمح ص ٥٧ ، ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٩٠.


ومن شعره : [الطويل]

أسير الخطايا عند بابك واقف

على وجل ممّا به أنت عارف(١)

يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها

ويرجوك فيها فهو راج وخائف

ومن ذا الّذي يرجى سواك ويتّقى

وما لك في فصل القضاء مخالف

فيا سيّدي لا تخزني في صحيفتي

إذا نشرت يوم الحساب الصّحائف

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما

يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف

لئن ضاق عنّي عفوك الواسع الّذي

أرجّي لإسرافي فإنّي لتالف

وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ حسن الشعر والبلاغة.

ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى : [الكامل]

إنّ الّذي أصبحت طوع يمينه

إن لم يكن قمرا فليس بدونه

ذلّي له في الحبّ من سلطانه

وسقام جسمي من سقام جفونه

وله شعر كثير ، ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة ٣٥١ ، وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني ، وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة ٤٠٣ ، وبقي في داره ثلاثة أيام ، ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة ، رحمه الله تعالى!.

وروي عنه أنه قال : تعلقت بأستار الكعبة ، وسألت الله تعالى الشهادة ، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل ، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت.

وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف : لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما (٢) اللون لون الدم والريح ريح المسك ، كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك ، قال : ثم قضى على إثر ذلك.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.

وقد ساق في المطمح حكايته فقال : كان حافظا عالما كلفا بالرواية ، رحل في طلبها ،

__________________

(١) على وجل : على خوف.

(٢) يثعب : مضارع : ثعب الدم والماء ونحوهما ـ من باب منع وفتح ـ إذا سال وانفجر ، وهو بالعين المهملة.


وتبحر في المعارف بسببها ، مع حظ من الأدب كثير ، واختصاص بنظيم منه ونثير ، حج وبرع ، في الزهادة والورع ، فتعلق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكر في القتل ومرارته ، والسيف وحرارته ، فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا ، وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا ، فأصيب في تلك الفتن مكلوما ، وقتل مظلوما ، ثم ذكر مثل ما مر.

ومما قال في طريقه إلى قرطبة يتشوق (١) إلى فريقه : [الطويل]

مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة

وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا

وما لي حياة بعدكم أستلذّها

ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرّا

ولم يسلني طول التّنائي عليكم

بلى زادني وجدا وجدّد لي ذكرا(٢)

يمثّلكم لي طول شوقي إليكم

ويدنيكم حتّى أناجيكم سرّا

سأستعتب الدّهر المفرّق بيننا

وهل نافعي أن صرت أستعتب الدّهرا

أعلّل نفسي بالمنى في لقائكم

وأستسهل البرّ الّذي جبت والبحرا

ويؤنسني طيّ المراحل عنكم

أروح على أرض وأغدو على أخرى

وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم

ولكنّها الأقدار تجري كما تجرى (٣)

رعتكم من الرّحمن عين بصيرة

ولا كشفت أيدي النّوى عنكم سترا

وقد عرف به ابن حيان في المقتبس ، وذكر قصة شهادته ، رحمه الله تعالى!.

٧٣ ـ ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله ، البكري ، الشريشي ، المالكي(٤).

ولد بشريش سنة ٦٠١ ، ورحل إلى العراق ، فسمع به المشايخ كالقطيعيّ وابن روزبة (٥) وابن الكثير وغيرهم ، واشتغل وساد أهل زمانه ، واشتهر بين أقرانه ، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية ، ثم انتقل إلى القدس الشريف ، فأقام به شيخ الحرم ، ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله ، وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية ،

__________________

(١) في ب : وما قاله في طريقه يتشوق إلى فريقه.

(٢) التنائي : التباعد.

(٣) القلى : البغض.

(٤) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ٢٩٢.

(٥) في ه : ابن زوربة.


وعرض عليه القضاء فلم يقبل ، وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب ، بالرباط الناصري ، ودفن بسفح قاسيون ، رحمه الله تعالى! وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة ، رحمه الله تعالى! (١).

وليس هو بشارح المقامات ، بل هو غيره ، وقد اشتركا في البلد ، فبسبب ذلك ربما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما ، وشارح المقامات أحمد وهذا محمد (٢) ، وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب ، فليراجع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٧٤ ـ ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلّس ، القيسي ، الأندلسي ، البلنسي.

كان من أهل العلم باللغة والعربية ، مشارا إليه فيهما ، رحل من الأندلس ، وسكن بمصر واستوطنها ، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص ، وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ النّجيرمي (٣) ، ودخل بغداد ، واستفاد وأفاد ، وله شعر حسن ، فمن ذلك قوله : [المتقارب]

مريض الجفون بلا علّة

ولكنّ قلبي به ممرض

أعان السّهاد على مقلتي

بفيض الدّموع فما تغمض

وما زار شوقا ولكن أتى

يعرّض لي أنّه معرض

وله أشعار كثيرة ، وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة ٤٢٧ ، وقيل : سنة ٤٢٩ ، بمصر ، وكان استوطنها ، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصّدفي ، ودفن عند أبي إسحاق رحمه الله تعالى.

ومغلّس : بضم الميم ، وفتح الغين ، وتشديد اللام المكسورة ، وبعدها سين مهملة.

وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب «العنوان» (٤) معارضات في قصائد.

__________________

(١) رحمه الله تعالى : غير موجودة في ب.

(٢) جاء في الشذرات أنه هو شارح المقامات وهو وهم من ابن العماد.

(٣) وقع في الاسم تصحيف وتحريف ، والتصويب من ابن خلكان : وهو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن خرزاذ النجيرمي اللغوي البصري المتوفى سنة ٤٢٣ ه‍.

(٤) هو إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران المالكي المقرئ الأندلسي أبو طاهر ، استوطن مصر ، وحدث بها (الصلة ١٠٥ ـ ١٠٦).


ومن شعر ابن المغلّس أيضا قوله في حمّام : [الطويل]

ومنزل أقوام إذا ما اغتدوا به

تشابه فيه وغده ورئيسه

يخالط فيه المرء غير خليطه

ويضحى عدوّ المرء وهو جليسه

يفرّج كربي إن تزايد كربه

ويؤنس قلبي أن يعدّ أنيسه

إذا ما أعرت الحوض ماء تكاثرت

على مائه أقماره وشموسه(١)

٧٥ ـ ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله ، الحكيم ، الأديب ، المعروف بالمغربي(٢).

وهو من أهل المرية ، وانتقل إلى المشرق ، وكان كامل الفضيلة ، وجمع بين الأدب والحكمة ، وله ديوان شعر جيد ، والخلاعة والمجون غالبة عليه ، وذكر العماد في «الخريدة» أنه كان طبيب المارستان المستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث حلّ (٣) وخيّم ، وكان السديد (٤) يحيى بن سعيد المعروف بابن المرخّم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفي فاصدا وطبيبا في المارستان ، وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور ، وذكر فضله وما كان عليه ، وأن له كتابا سماه «نهج الوضاعة ، لأولي الخلاعة» ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام ، وسكن دمشق ، وله فيها أخبار وماجريات (٥) ظريفة تدل على خفة روحه.

قال ابن خلكان (٦) : رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر ، وكانوا مقبلين عليه ، وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش (٧) ، وكانت فيه دعابة ، وبينه وبين أبي الحكم المذكور مداعبات ، فسأل منه كتابا إلى ابن منير بالوصية عليه ، فكتب أبو الحكم : [المنسرح]

أبا الحسين استمع مقال فتى

عوجل فيما يقول فارتجلا

__________________

(١) في ج : إذا ما أعرت الجوّ طرفا.

(٢) انظر في ترجمته وفيات الأعيان ط صادر بيروت ج ٣ ص ١٢٣.

(٣) حل و : غير موجودة في ب.

(٤) في وفيات الأعيان : وكأن السديد أبو الوفاء يحيى بن المظفر ... إلخ.

(٥) في ب : ومجاريات.

(٦) انظر ابن خلكان ج ٣ ص ١٢٤.

(٧) أبو الوحش : هو سبع بن خلف بن محمد بن هبة الله الفقعسي ، وكانوا يصغرون كنيته فيقولون : وحيش.

وكانت فيه دعابة (وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٤).


هذا أبو الوحش جاء ممتدحا

للقوم فاهنأ به إذا وصلا

واتل عليهم بحسن شرحك ما

أنقله من حديثه جملا

وخبّر القوم أنّه رجل

ما أبصر النّاس مثله رجلا

تنوب عن وصفه شمائله

لا يبتغي عاقل به بدلا

ومنها :

وهو على خفّة به أبدا

معترف أنّه من الثّقلا

يمتّ بالثلب والرّقاعة والسّ

خف ، وأمّا بغير ذاك فلا(١)

إن أنت فاتحته لتخبر ما

يصدر عنه فتحت منه خلا

فهبه إن حلّ خطّة الخسف وال

هون ورحّب به إذا رحلا (٢)

وأسقه السّمّ إن ظفرت به

وامزج له من لسانك العسلا

وله أشياء مستملحة ، منها مقصورة هزلية ، ضاهى بها مقصورة ابن دريد ، من جملتها : [الرجز]

وكلّ ملموم فلا بدّ له

من فرقة لو ألزقوه بالغرا

وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي ، شاب فيها الجد بالهزل ، والغالب على شعره الانطباع.

وتوفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة ٥٤٩ ، وقيل : في السنة التي قبلها ، بدمشق ، رحمه الله تعالى!.

والقاضي ابن المرخّم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله بن الفضل (٣) الشاعر المعروف بابن القطان : [الكامل]

يا ابن المرخّم صرت فينا قاضيا

خرف الزّمان تراه أم جنّ الفلك

إن كنت تحكم بالنّجوم فربما

أمّا بشرع محمّد من أين لك(٤)

__________________

(١) الثلب : مصدر ثلب ومعناه : العيب والتنقّص. والرقاعة : الحمق.

(٢) في ب : فنبه إن حل.

(٣) هو أبو القاسم بن الفضل بن القطان عبد العزيز المعروف بابن القطان الشاعر المشهور البغدادي سمع الحديث من جماعة من المشايخ ، وكان غاية من الخلاعة والمجون ، كثير المزاح والمداعبات ، توفي سنة ٤٩٨ ه‍ (وفيات الأعيان ج ٦ ص ٥٣).

(٤) المقصود بالنجوم : التنجيم وما أشبه ذلك.


وكان أبو الحكم المذكور فاضلا في العلوم الحكمية ، متقنا للصناعة الطبية ، حسن النادرة ، كثير المداعبة ، محبا للهو والخلاعة والشراب ، وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود ، ويجلس في دكان بجيرون للطب ، وسكناه باللبادين (١) ، وأتى في ديوانه «نهج الوضاعة» بكل غريب ، يدل على أنه أريب ، سامحه الله تعالى وغفر له!.

٧٦ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق : من هو الأحق بالتقديم والسبق ، الشهير عند أهل الغرب والشرق ، الحافظ المقرئ الإمام الرباني ، أبو عمرو الدّاني ، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر ، الأموي ، مولاهم ، القرطبي ، صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير.

وعرف بالداني لسكناه دانية ، وولد سنة ٣٧١ ، وابتدأ بطلب العلم سنة ٣٨٧ ورحل إلى المشرق سنة ٣٩٧ ، فمكث بالقيروان أربعة أشهر ، ودخل مصر في شوّالها ، فمكث بها سنة ، وحج ، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة ٣٩٩ ، وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة ، وعلى أبي الحسن بن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد ، وسمع من أبي مسلم الكاتب ، وهو أكبر شيخ له ، ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري ، وحاتم بن عبد الله البزار ، وغير واحد من أهل مصر وسواها ، وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي ، وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس ، وتلا عليه خلق منهم مفرج الأقفالي وأبو داود بن نجاح صاحب التنزيل في الرسم ، وهو من أشهر تلامذته ، وحدث عنه خلق كثير ، منهم خلف بن إبراهيم الطّليطلي.

قال أبو محمد عبيد الله الحجري : ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه ولا (٢) يضاهيه في حفظه وتحقيقه ، وكان يقول : ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ، ولا كتبته إلا حفظته ، ولا حفظته فنسيته.

قال ابن بشكوال : كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه ، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا ، وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه وأسماء رجاله ، وكان حسن الخط والضبط ، من أهل الحفظ والذكاء واليقين ، وكان دينا فاضلا ورعا سنيا.

__________________

(١) جيرون : اسم باب من أبواب دمشق. واللبادين : اسم شارع من شوارع دمشق أيضا.

(٢) في ب : يدانيه ويضاهيه.


وقال بعضهم ، وأظنه المغامي (١) : كان أبو عمرو مجاب الدعوة ، مالكي المذهب.

وقال بعض أهل مكة : إن أبا عمرو الداني مقرئ متقدّم ، وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن ، والقراء خاضعون لتصانيفه ، واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك ، وله مائة وعشرون مصنفا ، وروى عنه بالإجازة رجلان : أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني ، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوّال سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

٧٧ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب ، الأندلسي.

من بيت علم ووزارة ، صرف عمره في طلب العلم ، وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مرة (٢) ، ثم دخل الإسكندرية ومصر ، وجاور بمكة المشرفة ، ثم قدم العراق ، وأقام ببغداد مدّة ، ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ ، وكانت ولادته ببلاد الأندلس ، وتوفي بهراة في شعبان سنة ٥٤٨ ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

٧٨ ـ ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر ، الأندلسي ، المقرئ.

رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني ، وسمع من أبي القاسم بن عيسى ، وسكن الفيوم ، واختصر «التيسير» وصنف شرحا للشاطبية ، وتوفي سنة ٦٤٠ ، رحمه الله تعالى!

٧٩ ـ ومنهم العلامة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني ، اللورقي ، المقرئ ، النحوي.

ولد سنة ٥٧٥ ، وقرأ القراءات ، وأحكم العربية ، وبرع فيها ، واجتمع بالجزولي ، وسأله عن مسألة في مقدمته ، وقرأ علم الكلام والأصولين (٣) والفلسفة ، وكان خبيرا بهذه العلوم ، مقصودا بإقرائها وولي مشيخة قراءة العادلية ، ودرس بالعزيزية نيابة ، وصنف شرحا للشاطبية ، وشرحا للمفصل في عدة مجلدات ، وشرح الجزولية ، وغير ذلك ، وكان مليح الشكل ، حسن البزة ، وتوفي سنة ٦٦١ رحمه الله تعالى ورضي عنه.

٨٠ ـ ومنهم أبو عبد الله بن أبي الربيع ، القيسي ، الأندلسي ، الغرناطي.

__________________

(١) المغامي : نسبة إلى مغام ويقال مغامة : بلد بالأندلس ، وينسب إليها أبو عمران بن يوسف المغامي ، ومحمد بن عتيق التجيبي المغامي ، لقي أبا عمرو الداني وعليه اعتمد. وفي مغام معدن الطين الذي تغسل به الرءوس (معجم البلدان ج ٥ ص ١٦١).

(٢) في ب : مدة. وقد تولى القضاء تسعة أعوام ثم ابتلي بالأمراء لإقامته الحق وإظهاره العدل.

(٣) الأصولين : أي أصول الفقه ، وأصول الدين.


قدم مصر سنة ٥١٥ أو بعدها ، فسمع على السّلفي ، وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر ، وكان لديه فقه وأدب ، ثم سافر إلى باب الأبواب ، وكان حيّا سنة ٥٥٦.

ومن نظمه يمدح كتاب الشهاب : [البسيط]

إنّ الشّهاب له فضل على الكتب

بما حوى من كلام المصطفى العربي

كم ضمّ من حكمة غرّا وموعظة

ومن وعيد ومن وعد ومن أدب

أمّا القضاعيّ فالرّحمن يرحمه

كما حباه من التّأليف بالعجب

٨١ ـ ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى ، القرشي ، العبدري (١).

من أهل ميورقة من بلاد الأندلس ، سكن بغداد ، وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون وطرّاد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة ، ولم يزل يسمع إلى حين وفاته ، وكتب بخطه كثيرا من الكتب والأجزاء ، وجمع وخرّج ، وكان صحيح العقل ، معتمد الضبط ، مرجوعا إليه في الإتقان ، وكفاه فخرا وشرفا أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السّلفي وأبو الفضل محمد بن ناصر ، وكان فهامة علامة ذا معرفة بالحديث ، متعففا مع فقره ، وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع.

وقال السلفي فيه : إنه من أعيان علماء الإسلام ، بمدينة السلام ، متصرف في فنون من العلم أدبا ونحوا ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين ، وكان داودي المذهب ، قرشي النسب ، وقد كتب عني وكتبت عنه ، وسمعنا معا كثيرا على شيوخ بغداد ، ومولده بقرطبة من مدن الأندلس ، وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه ، فلما اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه ، انتهى.

وقال ابن عساكر : كان أحفظ شيخ لقيته ، وربما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أمورا منكرة ، فالله أعلم.

وتوفي في ربيع الآخر سنة ٥٢٤ ببغداد ، رحمه الله تعالى!.

٨٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون ، الباجي (٢).

سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق ، وبمكة من الآجري ، وكان صالحا

__________________

(١) انظر في ترجمته معجم البلدان : مادة ميورقة ج ٥ ص ٢٤٦.

(٢) كان يسكن حصن مورة من أعمال باجة ، ويعرف بابن الزينوني (ابن الفرضي ج ٢ ص ١٠٧).


فاضلا زاهدا ورعا ، حدث ، ومات ببطليوس فجأة سنة ٣٩٢ ، ومولده سنة ٣٢٢.

٨٣ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون ، التميمي ، الجزيري ، المتعبد.

كانت آدابه كثيرة ، وحج غير مرة ، ورابط ببلاد المغرب ، وكان حسن الصوت بالقرآن ، سمع بمصر من جماعة ، وبمكة ، وصحب الفقراء ، وطاف بالشام ، وغزا غزوات ، وتعرض للجهاد ، وحرض عليه ، وساح بجبل المقطم ، وذكر أنه صلى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة ، ثم نام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن مالكا والليث اختلفا في الضحى ، فمالك يقول : ثنتا عشرة ركعة والليث يقول : ثمانيا (١) ، فضرب عليه الصلاة والسلام بين وركي ابن سعدون وقال : رأي مالك هو الصواب ، ثلاث مرات ، قال : وكان في وركي وجع ، فمن تلك الليلة زال عني ، وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلى ونحوه ، وأنشد : [الكامل]

سجن اللّسان هو السّلامة للفتى

من كلّ نازلة لها استئصال

إنّ اللّسان إذا حللت عقاله

ألقاك في شنعاء ليس تقال(٢)

توفي سنة ٣٤٤.

٨٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج ، الطّليطلي الخطيب.

وقال فيه ابن سعيد : سمع بمصر ابن الورد وابن السكن ، وحدث ، مولده سنة ٣٠٩ ، وتوفي في ربيع الآخر سنة ٣٨٤.

٨٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف ، الأموي ، القرطبي.

وأصله من لبلة ، ولكن سكن قرطبة ، وقدم مصر ، وحج ، وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد بن أبي زيد صاحب الرسالة ، وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز ، ومولده سنة ٣٥٢ ، ورحلته سنة ٤١٨.

٨٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام ، القرطبي.

سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب ، ورحل ، فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم ، وعاد إلى الأندلس وبها توفي سنة ٢٦٠ ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) في ب : ثمان. وفي ج : ثمانية.

(٢) شنعاء : بشعة ، مكروهة.


٨٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان ، المعافري ، الشاطبي (١) ، نزيل الإسكندرية ، ويعرف بابن أبي الربيع.

أحد أولياء الله تعالى ، شيخ الصالحين ، صاحب الكرامات المشهورة ، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس والتمسك بطريقة السلف ، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره ، وقرأ بدمشق على الواسطي ، وسمع عليه الحديث ، ورحل ، فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب خادم أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبره ومنبره سنة ٦١٧ ، وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصرى (٢) وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفاء بن عبد الحق وغيرهم ، وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي ، وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي (٣) ، وصنف كتبا حسنة : منها كتاب «المسلك القريب ، في ترتيب الغريب» وكتاب «اللمعة الجامعة ، في العلوم النافعة» في تفسير القرآن العزيز ، وكتاب «شرف المراتب والمنازل ، في معرفة العالي من القراءات والمنازل» وكتاب «المباحث السنية ، في شرح الحصرية» وكتاب «الحرقة ، في إلباس الخرقة (٤)» وكتاب «المنهج المفيد ، فيما يلزم الشيخ والمريد» وكتاب «النبذ الجلية ، في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية» وكتاب «زهر العريش ، في تحريم الحشيش» وكتاب «الزهر المضي ، في مناقب الشاطبي» وكتاب «الأربعين المضية ، في الأحاديث النبوية» ومولده بشاطبة سنة ٥٨٥ ، ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة ٦٧٢ ، ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته ، رحمهما الله تعالى ، ونفع بهما!.

٨٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح ، الرّعيني ، الإشبيلي.

قدم مصر ، وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم بن الطيب البغدادي الكاتب ، وبمكة من أبي ذر الهروي.

قال ابن بشكوال : كان من جملة المقرئين وخيارهم ، ثقة في روايته ، وكانت رحلته إلى المشرق سنة ٤٢٣ (٥) ، وولد سنة ٣٩٢ ، وتوفي سنة ٤٧٦ ، وعمره أربع وثمانون سنة إلا خمسة وخمسين يوما ، وروى بإشبيلية عن جماعة ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) هو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبد الملك المعافري الحميري الملقب بعلم الدين.

(٢) في بعض النسخ : مصري.

(٣) الراسي : هو أبو العباس أحمد بن محمد اللخمي المعروف بالراسي.

(٤) في ب : في لباس الفرقة.

(٥) في ب ، ه : سنة ٤٣٣.


٨٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري ، المالقي.

قال السلفي : هو شاب من أهل الأدب ، له خاطر ، سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية ، كثير السماع للحديث ، وذكر أنه قرأ الأدب على أبي الحسين بن الطّراوة النحوي بالأندلس (١) ، وعلى نظرائه ، وأنشدني لنفسه : [الكامل]

كم ذا تقلقلني النّوى وتسوقني

وإلى متى أشجّى بها وأسام

ألفت ركائبي الفلا فكأنّما

للبين عهد بيننا وذمام

يا ويح قلبي من فراق أحبّة

أبدا تصدّعه به الأيّام

٩٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح ، القحطاني ، المعافري ، الأندلسي ، المالكي.

رحل إلى المشرق فسمع بالشام من خيثمة (٢) بن سليمان ، وبمكة أبا سعيد بن الأعرابي ، وببغداد إسماعيل بن محمد الصفار ، وسمع بالمغرب بكر بن حماد التّاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ وغيرهم (٣) وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني ، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال : اجتمعنا به بهمذان ، مات ببخارى سنة ٣٨٣ ، وقيل : سنة ثمان ، وقيل : سنة تسع وسبعين ، وقال فيه أبو سعيد الأندلسي (٤) : إنه كان من أفاضل الناس ، ومن ثقاتهم ، وقال غنجار : إنه كان فقيها حافظا ، جمع تاريخا لأهل الأندلس ، وقال السمعاني فيه : كان فقيها حافظا ، رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب ، رحمه الله تعالى!.

٩١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى ، الخزرجي ، الداني ، النحوي ، أخو أبي العباس بن عيسى.

سمع بدانية من أبي داود المقري وغيره ، وقدم دمشق سنة ٥٥٤ حين خرج حاجا ، وأقرأ بدمشق النحو مدّة ، ثم خرج إلى بغداد ، وأقام بها إلى أن مات سنة ٦١٩ ، وولد سنة ٥١٢ ، وقدم مصر سنة ٥٧٢ ، وله من المصنفات كتاب «تحصيل عين الذهب ، من معدن جوهر الأدب ، في علم مجازات العرب» ومن كلامه : ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنه ولا لشخصه ، ولكن لكمال عقله ، والعقل هو المهاب ، ولو رأيت شخصا جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته ، وقال : من جهل شيئا عابه ، ومن قصر عن شيء هابه.

__________________

(١) ابن الطراوة : هو سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي أبو الحسين. كان نحويا ماهرا أديبا بارعا.

توفي في سنة ٥٢٨. (بغية الوعاة ج ١ ص ٦٠٢).

(٢) في ب : بالشام خيثمة.

(٣) وغيرهم : غير موجودة في ب ، ه.

(٤) في ب ، ج : أبو سعيد الإدريسي.


٩٢ ـ ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير ، وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل ، المعافري (١) ، وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي.

ولما أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطة القضاء بقرطبة وجّه إليه بباجة ، فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه ، ونزل على صديق له من العبّاد ، فتحدث في شأن استدعائه ، وقدّم أنه يعرف فن (٢) الكتابة ، فقال له العابد : ما أراه بعث فيك إلا للقضاء ، فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاض ، فقال ابن بشير : فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع ، فقال : أسألك عن أشياء ثلاثة ، وأعزم عليك أن تصدقني فيها ، ثم أشير بعد ذلك عليك ، فقال : ما هي؟ فقال : كيف حبّك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره؟ (٣) فقال : والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به رحلي ، فقال : هذه واحدة ، فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات؟ فقال : هذه حال والله ما استشرفت قط إليها ، ولا خطرت ببالي ، ولا اكترثت لفقدها ، فقال : وهذه ثانية ، فكيف حبّك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ فقال : والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمّني ، وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل ، فقال : وهذه الثالثة ، أقبل الولاية فلا بأس عليك ، فقدم قرطبة ، فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة.

قال ابن وضاح : أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلا على باب المسجد الجامع (٤) يوم الجمعة ، وعليه رداء معصفر ، وفي رجله نعل صرّارة (٥) ، وله جمّة مفرقة (٦) ، ثم يقوم فيخطب ويصلي وهو في هذا الزي ، وبه كان يجلس للقضاء بين الناس ، فإن رام أحد من دينه شيئا وجده أبعد من الثريا.

وأتاه رجل لا يعرفه ، فلما رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه ، توقف وقال : دلّوني على القاضي ،

__________________

(١) انظر ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس ص ٤٧ ـ ٥٣. وقد جاء عنه أنه لقي مالك بن أنس عند توجهه إلى حج بيت الله الحرام.

(٢) في ب ، ه : وقدم أنه يصرف في الكتابة.

(٣) الفارة من الدواب : القوي النشيط.

(٤) الجامع : غير موجودة في ب.

(٥) نعل صرارة : أراد أنه يسمع لها صوت إذا سار.

(٦) الجمة ، بضم الجيم : الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن.


فقيل له : ها هو ، وأشير إليه ، فقال : إني رجل غريب ، وأراكم تستهزئون بي ، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر ، فصححوا له أنه القاضي ، فتقدم إليه واعتذر ، فأدناه وتحدث معه ، فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنه ، فكان يحدث بقصته معه.

وعوتب في إرسال لمّته (١) ولبسه الخز والمعصفر ، فقال : حدثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر ـ وكان سيد القراء ـ كانت له لمّة ، وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد ـ يعني المدينة ـ كان يلبس المعصفر ، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز ، ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال : هي لباس الناس في المشرق ، وعليه كان أمرهم في القديم ، فقيل له : لو لبستها لاتّبعك الناس في لباسها ، فقال : قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه ، وكان ابن بشير أهلا أن يقتدى به ، فلعلي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير.

وكان أول ما نظر فيه محمد بن بشير ـ حين ولي القضاء ـ التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة (٢) إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدّعي ، وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع ، فسجل فيها ، وأشهد على نفسه ، فما مضت مديدة (٣) حتى ابتاعها الحكم ابتياعا صحيحا ، فسر بذلك ، وقال : رحم الله محمد بن بشير! فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا ، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا ، وصار حلالا طيب الملك في أعقابنا ، وحكم على ابن فطيس الوزير ، ولم يعرّفه بالشهود ، فرفع الوزير ذلك إلى الحكم ، وتظلم من ابن بشير ، فأومأ الحكم إليه أن الوزير كره (٤) حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرّفه بهم ، ولا أعذرت إليه فيهم ، وإن أهل العلم يقولون : إن ذلك له ، فكتب إليه ابن بشير : ليس ابن فطيس ممن يعرّف بمن شهد عليه ، لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم ، فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم ، وتضيع أموال الناس.

وأكثر موسى بن سماعة أحد خواصّ الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية ، وأنه يجور عليه ، فقال له الحكم : أنا أمتحن قولك الساعة ، فاخرج إليه فورا ، واستأذن عليه ، فإن أذن لك عزلته ، وصدّقت قولك فيه ، وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه ، فليس هو عندي

__________________

(١) اللمّة الشعر الذي لا يتجاوز شحمة الأذن.

(٢) الأرحي : جمع رحى.

(٣) مديدة : تصغير مدة ، أي مدة قصيرة.

(٤) في ب ، ه : أن الوزير ذكر حكمك.


بجائر (١) على حال ، وإنما مقصده الحق في كل ما يتصرف فيه ، فخرج يؤم دار ابن بشير : وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصّقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه ، فلم يكن إلا ريثما بلغ ، ثم انصرف فحكى للحكم أنه لما خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له : إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء ، فتبسم الحكم ، وقال : قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حق لا هوادة فيه عنده لأحد.

وولي القضاء مرتين ، فلما عزل المرة الأولى انصرف إلى بلده ، وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته ، ويقول له : أخشى عليك العزل ، فيقول له : ليته قدر أن الشقراء ـ يعني بغلته ـ تقطع الطريق بي جادة نحو (٢) باجة ، فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصة (٣) اشتد فيها على بعض خاصته ، فكانت سببا لعزله ، وانصرف كما تمنى ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى أتى فيه رقّاص من قبل الأمير الحكم ، والرقاص عند المغاربة : هو الساعي عند المشارقة ، فعاد إلى قرطبة ، وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم ، فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى إن حكم بين اثنين ، فلم يعذره ، وأخرجه من ماله ، وعوّضه من طيب ما عنده ، ووهب له جارية من جواريه ، فعاد إلى القضاء ثانية.

ومما يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكّل عند ابن بشير وكيلا يخاصم عنه لشيء اضطر إليه ، وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا ، ولم يكن فيها من الأحياء إلا الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز ، فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد ، وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثان ، وجدّ به الخصام ، فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه شهادته (٤) في الوثيقة ، وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه ، وعرفه مكان حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفا من بطلان حقه ، وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمّه ، ويلتزم مبرته ، فقال له : يا عمّ ، إنا لسنا من أهل الشهادات ، وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله ، ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنا نفديه بملكنا ، فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه ، وعلينا خلف ما انتقصك ، فأبى عليه ، وقال : سبحان الله! وما عسى أن يقول قاضيك في شهادتك؟ وأنت ولّيته ، وهو حسنة من حسناتك ، وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته ، ولا تكتمني ما أخذ الله عليك! فقال : بلى ، إن ذلك لمن حقك كما

__________________

(١) في ه : بجائز.

(٢) في ب ، ه : حاثه نحو باجة.

(٣) في بعض النسخ : في قضية.

(٤) في ه : «وأراد شهادته في الوثيقة» وهو خطأ ، والأصحّ ما أثبتناه.


تقول ، ولكنك تدخل علينا به داخلة ، فإن أعفيتنا منه فهو أحبّ إلينا ، وإن اضطررتنا لم يمكنا عقوقك ، فعزم عليه عزم من لم يشكّ أن قد ظفر بحاجته ، وضايقته الآجال ، فألح عليه ، فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه ، وخط شهادته بيده في قرطاس ، وختم عليها (١) بخاتمه ، ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما : هذه شهادتي بخطي تحت ختمي ، فأدياها إلى القاضي ، فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسماع من الشهود ، فأدياها إليه ، فقال لهما : قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى ، وجاء وكيل سعيد الخير ، وتقدم إليه مدلّا واثقا ، وقال له : أيها القاضي ، قد شهد عندك الأمير ـ أصلحه الله تعالى! ـ فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه ، ثم قال للوكيل : هذه شهادة لا تعمل عندي ، فجئني بشاهد عدل ، فدهش الوكيل ، ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه ، فركب من فوره إلى الحكم ، وقال : ذهب سلطاننا ، وأزيل بهاؤنا ، يجترئ هذا القاضي على رد شهادتك ، والله سبحانه قد استخلفك على عباده ، وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم إليك؟ هذا ما يجب أن تحمله (٢) عليه ، وجعل يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به ، فقال له الحكم : وهل شككت أنا في هذا يا عم؟ القاضي رجل صالح والله ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فعل ما يجب عليه ويلزمه ، وسدّ دونه بابا كان يصعب عليه الدخول منه ، فأحسن الله تعالى جزاءه! فغضب سعيد الخير ، وقال : هذا حسبي منك ، فقال له : نعم قد قضيت الذي كان لك علي ، ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه ، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله.

ولما عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه : يا عاجز ، أما تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات ، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها؟ ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.

وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة ١٩٨ قبل الشافعي بست سنين كما يأتي قريبا ومحاسنه ـ رحمه الله تعالى! ـ كثيرة ، وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك ، فليراجها من أرادها ، فإن عهدي بها في المغرب (٣).

وقال بعض من عرف به ، ما نصه : القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري ، أصله من جند باجة من عرب مصر ، ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب

__________________

(١) عليها : غير موجودة في ب ، ه.

(٢) في ب : هذا ما لا يجب أن تحمل عليه.

(٣) في أصل ه : فإن عهدي به لمغرب. وما أثبتناه هو الصحيح ، وهكذا جاء في ب ، ج.


بقضاء الجماعة ، بقرطبة ، بعد المصعب بن عمران ، ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة ، وعن ابن حارث ، قال أحمد بن خالد : طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر ، ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن مروان (١) لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفا لطيفا ، ثم انقبض عنه ، وخرج حاجا ، قال ابن حارث : وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران ، ثم خرج حاجا فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه ، وطلب العلم أيضا بمصر ، ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة.

وقال ابن حيان : إنه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك.

وقال ابن شعبان في الرواة (٢) عن مالك من أهل الأندلس : محمد بن بشير بن سرافيل ، ويقال شراحيل ، ولي القضاء ، وكان رجلا صالحا ، وبعدله تضرب الأمثال ، واستوطن قرطبة ، وتوفي بها سنة ثمان وتسعين ومائة ، انتهى ، وبعضه عن غيره.

ومن شعره قوله : [الرمل]

إنّما أزرى بقدري أنّني

لست من بابة أهل البلد

ليس منهم غير ذي مقلية

لذوي الألباب أو ذي حسد(٤)

يتحامون لقائي مثل ما

يتحامون لقاء الأسد

مطلعي أثقل في أعينهم

وعلى أنفسهم من أحد

لو رأوني وسط بحر لم يكن

أحد يأخذ منهم بيدي

٩٣ ـ ومنهم محمد بن عيسى بن دينار ، الغافقي.

من أهل قرطبة ، كان فقيها زاهدا ، وحج وحضر افتتاح إقريطش (٥) ، واستوطنها ، قاله الرازي.

٩٤ ـ ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي.

__________________

(١) في أصل ه : عبد الملك بن مروان المرواني.

(٢) في ه : في الرواية.

(٣) لست من بابة أهل البلد : أي لست من طريقتهم ومسلكهم.

(٤) مقلية : قلى : بغض.

(٥) إقريطش : جزيرة في بحر المغرب ، يقابلها من بر إفريقيا لوبيا ، وهي جزيرة كبيرة فيها مدن وقرى ، وينسب إليها جماعة من العلماء. (انظر معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٦).


خرج حاجا ، ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية ، ولقي بمصر رجالا من أصحاب مالك ، فسمع منهم ، وعرف بالفقه والزهد ، وجاور بمكة ، وتوفي هنالك.

٩٥ ـ ومنهم محمد بن مروان بن خطاب ، المعروف بابن أبي جمرة.

رحل حاجا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين ، وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدونة بالقيروان ، وأدركوا أصبغ بن الفرج ، وأخذوا عنه.

٩٦ ـ ومنهم محمد بن أبي علاقة ، البواب ، من أهل قرطبة.

كانت له رحلة إلى المشرق ، ولقي فيها جماعة من أهل العلم ، وأخذ عن أبي إسحاق الزجاجي ، وعن أبي بكر بن الأنباري ، وعن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش ، وأبي عبد الله نفطويه ، وغيرهم ، وسمع من الأخفش «الكامل» للمبرد وقال الحكم المستنصر : لم يصح كتاب «الكامل» عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي علاقة ، وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة ، وما علمت أحدا رواه غيرهما ، وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه ، وكان صدوقا ، ولكن كتابه ضاع ، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين.

٩٧ ـ ومنهم محمد بن حزم بن بكر ، التّنوخي.

من أهل طليطلة ، وسكن قرطبة ، يعرف بابن المديني ، سمع من أحمد بن خالد وغيره ، وصحب محمد بن مسرة الجبلي (١) قديما ، واختص بمرافقته في طريق الحج ، ولازمه بعد انصرافه ، وكان من أهل الورع والانقباض ، وحكي عن ابن مسرة أنه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ودله بعض أهل المدينة على دار مارية أم إبراهيم سرّيّة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقصد إليها فإذا هي دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط ، وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقى إلى ذلك الفرش على خارج لطيف ، وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصيف ، قال : فرأيت أبا عبد الله بعد ما صلى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره ، فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك ، فقال : هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك الحالة (٢) في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان ، انتهى.

__________________

(١) كذا في ب ، ه : وفي ب : محمد بن مرة.

(٢) في ب : الحكاية.


٩٨ ـ ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ (١) ، ولد (٢) أبي زكريا الراوية.

من أهل طرطوشة ، يكنى أبا بكر ، تأدب بقرطبة ، وسمع بها من قاسم بن أصبغ ، ومحمد بن معاوية القرشي ، وأحمد بن سعيد ، ومنذر بن سعيد ، وأبي علي القالي ، وغيرهم ، وكان حافظا للنحو واللغة والشعر ، يفوت من جاراه على حداثة سنة ، شاعرا مجيدا مرسلا بليغا ، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ، فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني وغيرهم ، وسمع أيضا بالبصرة وبغداد كثيرا ، وخرج إلى أرض فارس فسمع هنالك ، وجمع كتبا عظيمة ، وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطا (٣) مع الستين وثلاثمائة ، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ، ذكره ابن حيان ، رحمه الله تعالى!.

٩٩ ـ ومنهم محمد بن عبدون الجبلي ، العدوي (٤) ، من أهل قرطبة.

أدب بالحساب والهندسة ، ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ، فدخل مصر والبصرة ، وعني بعلم الطب فمهر فيه ، ودبر في مارستان الفسطاط ، ثم رجع إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة ، فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله ، وله في التكسير تأليف حسن ، رحمه الله تعالى!.

١٠٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، الأزدي ، الفراء ، القرطبي.

صحب أبا بكر بن يحيى بن مجاهد ، واختص به ، ولطف محله منه ، وقرأ عليه القرآن ، ورحل صحبته لأداء فريضة الحج ، وكان رجلا صالحا كثير التلاوة للقرآن والخشوع ، إذا قرأ بكى ورتّل وبيّن في مهل ، ويقول : أبو بكر علمني هذه القراءة ، وحكى أنه سرد الصوم (٥) اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطرا كلّ ليلة وقت الإفطار ، ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطرا عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها ، تزيّدا من الخير ، واجتهادا في العمل.

__________________

(١) في ب : عائن. وانظر ترجمته في التكملة ص ٣٦٧.

(٢) في ب : والد أبي زكريا.

(٣) معتبطا ، بالعين المهملة : من قولهم «مات فلان عبطة» إذا توفي شابا صحيحا لم تصبه علة ولم ينزل به مرض. وقال أمية بن أبي الصلت :

من لم يمت عبطة يمت هرما

الموت كأس والمرء ذائقها

(٤) في ب ، ه : العددي.

(٥) سرد الصوم : تابعه.


١٠١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح ، المعافري ، الأندلسي.

رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد بن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار وبكر بن حماد التاهرتي وغيرهم ، روى عنه أبو عبد الله الحاكم ، وقال : اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين ، يعني وثلاثمائة ، فتوجه منها إلى أصبهان ، وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس ، وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب ، وببغداد ، وورد نيسابور في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير ، ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، وروى عنه أيضا أبو القاسم بن حبيب النيسابوري وغيرهما ، ذكره ابن عساكر ، وأسند إليه قوله : [الكامل]

ودّعت قلبي ساعة التّوديع

وأطعت قلبي وهو غير مطيعي

إن لم أشيّعهم فقد شيّعتهم

بمشيّعين تنفّسي ودموعي(١)

وذكره ابن الفرضي وقال : إنه استوطن بخارى ، وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين ، والأول قول الحاكم ، وهو أصح.

١٠٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ، السّرقسطي.

روى عن الباجي وابن عبد البر ، ورحل حاجا فقدم دمشق وحدث بها عن شيوخه الأندلسيين ، وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم بن أبي زيد القفصيّ ، وذكره ابن عساكر ، وقال : سمع عنه أبو محمد الأكفاني ، وحكى عنه تدليسا ضعفه به ، وتوفي سنة ٤٧٧.

١٠٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء ، الأنصاري.

من بلاد الثغر الشرقي ، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح ، ورحل حاجا ، فقدم دمشق ، وأقرأ بها القرآن بالسبع (٢) ، وأخذ عنه جماعة من أهلها ، وكان شيخا فاضلا حافظا للحكايات قليل التكلف في اللباس ، ذكره ابن عساكر وقال : رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلى للاستسقاء على المنبر ، أولها : [البسيط]

أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا

وأستقلّ له شكري وإن كثرا(٣)

وكان يسكن في دار الحجارة ، ويقرئ بالمسجد الجامع.

__________________

(١) شيّع : ودّع.

(٢) أي بالقراءات السبع.

(٣) واستقل : من القلّة ، أي ضد الكثرة.


ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، وتوفي يوم الأربعاء عند صلاة العصر ، ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدّرداء ، رضي الله تعالى عنه! قال : وشهدت أنا غسله والصلاة عليه ودفنه ، وذكره السلفي.

١٠٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى ، الأنصاري ، الخزرجي.

من أهل دانية ، سمع كتاب التقصي (١) لابن عبد البر ، ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجا فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة ، وأقام بها مدة يقرئ العربية ، وكان شديد الوسوسة في الوضوء.

وذكر ابن عساكر وقال : أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال : أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال : أنشدني الحصري لنفسه : [مخلع البسيط]

يموت من في الأنام طرّا

من طيّب كان أو خبيث(٢)

فمستريح ومستراح

منه ، كما جاء في الحديث

قال : وأنشدني الحصري لنفسه : [الكامل]

لو كان تحت الأرض أو فوق الذّرى

حرّ أتيح له العدوّ ليوذى(٣)

فاحذر عدوّك وهو أهون هيّن

إنّ البعوضة أردت النّمروذا

١٠٥ ـ ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله ، البزار.

من أهل سرقسطة ، لقي بدانية الحصري ، وسمع منه بعض منظومه ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له : منهم ابن خيرون ، والحميدي ، وأبو زكريا التبريزي ، والمبارك بن عبد الجبار ، وثابت بن بندار ، وهبة الله بن الأكفاني ، وغيرهم ، ونزل الإسكندرية ، وحدث بها ، وأخذ الناس عنه ، وتوفي هنالك ، وأنشد للحصري : [المتقارب]

النّاس كالأرض ، ومنها هم

من خشن اللّمس ومن ليّن

صلد تشكّى الرّجل منه الوجى

وإثمد يجعل في الأعين(٤)

__________________

(١) انظر ترجمته في التكملة ٤١٩. والذيل والتكملة ج ٦ ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) في ج : «من طيب كان ومن خبيث» وهو خطأ لا يستقيم معه الوزن.

(٣) ليوذى : أصلها ليؤذي ، خففت الهمزة وهذا جائز.

(٤) تشكّى : تتشكى. والوجى : الحفى. والإثمد : حجر يكتحل به.


وروى عنه ابن الحضرمي وابن جارة ، وغيرهما.

١٠٦ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين ، الشهير بالميورقي ، لأن أصله منها (١) ، وسكن غرناطة.

وروى عن أبي علي الصّدفي ، ورحل حاجا فسمع بمكة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي (٢) ، وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي ، في شوّال وذي القعدة من سنة ٥١٧ ، وبالإسكندرية من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن بن مشرّف وأبي بكر الطّرطوشي وغيرهم ، وعاد إلى الأندلس بعد مدة طويلة فحدث في غير ما بلد لتجوّله ، وكان فقيها ظاهريا ، عارفا بالحديث وأسماء الرجال ، متقنا لما رواه ، يغلب عليه الزهد والصلاح ، روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه «الأزدي» تدليسا ، لأن الأنصار من الأزد ، وأبو بكر بن رزق ، وأبو عبد الله بن عبد الرحيم ، وابنه عبد المنعم ، وسواهم ، وصار أخيرا إلى بجاية هاربا من صاحب المغرب حينئذ (٣) بعد أن حمل إليه هو وأبوه العباس بن العريف وأبو الحكم بن برّجان ، وحدث هنالك ، وسمع منه في سنة ٥٣٧ ، رحمه الله تعالى!.

١٠٧ ـ ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطّفيل (٤) ، العبدي الإشبيلي.

ويعرف بابن عظيمة ، أخذ القراءات عن أبي عبد الله السرقسطي ، وروى عن أبي عبد الله الخولاني ، وأبي عبد الله بن فرج ، وأبي علي الغساني ، وأبي داود المقري ، وأبي جعفر بن عبد الحق ، وأبي الوليد بن طريف ، ورحل حاجا فروى بمكة عن رزين بن معاوية ، ثم بالإسكندرية عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور ، وأبي الحسن بن مشرّف الأنماطي ، وبالمهدية عن المازريّ ، وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري ، فبلغهما نعيه بمصر ، فلما قفلا من حجهما قعد منصور يقول : قرأت على أبي معشر ، واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمن لقي ، فعرف مكانه من الصدق والعدالة ، وولي الصلاة ببلده ، وتقدّم في صناعته ، واشتهر بها ، وتلاه أهل بيته فيها ، فأخذ عنهم الناس ، وله أرجوزة في القراءات السبع ، وأخرى في مخارج الحروف ، وشرح قصيدة الشّقراطسي ، وله أيضا كتاب «الفريدة الحمصية ، في شرح القصيدة الحصرية» وإليه وإلى

__________________

(١) انظر في ترجمته التكملة ص ٤٤٠ والذيل والتكملة : ج ٦ ص ٦٣.

(٢) في ج : البياضي ، وهو خطأ.

(٣) صاحب المغرب حينئذ هو علي بن يوسف بن تاشفين. وقيل : إن عليا ضربه بالسوط وسجنه وقتا ثم سرحه فعاد إلى الأندلس.

(٤) في ه : الطفيلي.


بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن ، ومن (١) جلة الرواة عنه أبو بكر : محمد (٢) بن خير ، قرأ عليه الشهاب» للقضاعي (٣) ، وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة ٥٣٦ ، وتوفي في حدود الأربعين وخمسمائة ، وروى عنه أبو الضحاك الفزاري.

١٠٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح ، الخزرجي(٤).

من أهل جيّان ، ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إياها ، روى عن أبي علي الغسّاني ، وأبي محمد بن عتاب ، ورحل حاجّا فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيّا ، وأبا طالب الزينبي ، وأبا بكر الشاشي ، وغيرهم. وكان فقيها مشاورا حدث عنه أبو عبد الله النميري ، وأبو محمد بن عبيد الله ، وأبو عبد الله بن حميد وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم ، وغير واحد ، وتوفي بفاس سنة ٥٤٧ (٥).

١٠٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر ، الأنصاري ، الجيّاني ، ونزل حلب يكنى أبا بكر.

رحل إلى المشرق ، وأدّى الفريضة ، وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة ، وسكن قنطرة سنان منها ، وكان يعلم القرآن ، ويتردد إلى أبي عبد الله نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه ، ثم رحل صحبة أبي القاسم بن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين ، وكان زميله ، فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره ، ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشّحّامي وغيرهم ، وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني وأبو النجم مصباح بن محمد المكي (٦) وغيرهما ، وبلغ الموصل فأقام بها مدة يسمع منه ويؤخذ عنه ، ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها ، وسلّمت إليه خزانة الكتب النورية ، وأجريت عليه جراية ، وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معا ، ووقف

__________________

(١) في ب : ومن جلة الرواة عنه أبو بكر بن خير. وفي ه : ومن جملة الرواة عنه أبو بكر بن خير.

(٢) محمد : غير موجودة في ب.

(٣) كتاب الشهاب لأبي عبد الله.

(٤) صنف في مسائل الخلاف تعليقه المشهور في سبعة أسفار. ومن مصنفاته : أسرار الإيمان في سفر. درس في فاس الفقه ، ثم تحول إلى جيان فجلس فيها للوعظ والقصص ، وعاد إلى فاس سنة ٥٤٤ وبقي يدرس الفقه ومسائل الخلاف حتى توفي (انظر الذيل والتكملة ج ٥ ص ٥٨٢).

(٥) في ب ، ه : سنة ٥٤٦.

(٦) في ب : المسكي.


كتبه على أصحاب الحديث ، وله عوال مخرّجة من حديثه ساوى (١) بعض شيوخه البخاري ومسلما وأبا داود والترمذي والنسائي ، روى عنه أبو حفص الميّانشي (٢) وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم.

ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال : سمعت منه ، ومات في (٣) جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني.

وقال ابن نقطة : حدث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني ، حدثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد ، وحكى عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنه توفي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم ، وقد بلغ السبعين ، قاله ابن الأبار.

١١٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة.

مرسيّ سكن شاطبة ، ودار سلفه بلنسية ، سمع أبا علي الصّدفي واختص به ، وأكثر عنه ، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمّهات كتبه الصحاح ، لصهر كان بينهما ، وسمع أيضا أبا محمد بن أبي جعفر ، ولازم حضور مجلسه للتفقه به ، وحمل ما كان يرويه ، ورحل إلى غرب الأندلس فسمع محمد (٤) بن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشيد ، وأبا عبد الله الخولاني ، وأبا الوليد (٥) بن رشد وأبا عبد الله بن الحاج وأبا بكر العربي وغيرهم ، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد بن طريف وأبو الحسن بن عفيف وأبو القاسم بن صواب وأبو محمد بن السّيد وغيرهم ، ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة ، فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي ، وصحبه وسمع منه ، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام ، وأدى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين ، ولقي بمكة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكية بها ، وأبا محمد بن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزية : فسمع منهما وأخذ عنهما ، وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن

__________________

(١) في ب : ساوى بها بعض ..

(٢) الميانشي : نسبة إلى ميانش ، وهي قرية من قرى المهدية بإفريقية صغيرة ، بينها وبين المهدية نصف فرسخ. نسب إليها الأديب أحمد بن محمد بن سعد الميانشي ، وعمر بن عبد المجيد بن الحسن المهدي الميانشي (معجم البلدان ج ٥ ص ٢٣٩).

(٣) في ب : ومات بحلب في ..

(٤) في ب ، ه : أبا محمد بن عتاب.

(٥) في ج : وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشد وأبا عبد الله ..


أبي حامد الغزالي من تصانيفه ، ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندرية ، ولقي أبا طاهر بن عوف وأبا عبد الله بن مسلم القرشي وأبا طاهر السّلفي وأبا زكريا الزناتي وغيرهم ، فأخذ عنهم ، وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطّرطوشي وأبو الحسن بن مشرّف الأنماطي ، ولقي في صدره بالمهدية أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم ، وأجاز له باقيه ، وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين ، وقد حصل في رحلته علوما جمة ورواية فسيحة ، وكان عارفا بالسنن والآثار ، مشاركا في علم القرآن وتفسيره ، حافظا للفروع ، بصيرا باللغة والغريب ، ذا حظ من علم الكلام ، مائلا إلى التصوف ، مؤثرا له ، أديبا بليغا خطيبا فصيحا ، ينشئ الخطب مع الهدي والسّمت والوقار والحلم ، جميل الشارة (١) ، محافظا على التلاوة بالخشوع (٢) ، راتبا على الصوم ، وولي خطة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها ، وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه ، ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين ، ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا ، وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية ، ويقيم الخطب أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها ، وقد حدث بالمرية وهناك أبو الحسن بن موهب وأبو محمد الرّشاطي وغيرهما ، وسمع منه أبو الحسن بن هذيل جامع الترمذي ، وألف كتابه «شجرة الوهم ، المترقية إلى ذروة الفهم» ولم يسبق إلى مثله ، وليس له غيره ، وجمع فهرسة حافلة.

ووصفه غير واحد بالتّفنّن في العلوم والمعارف ، والرسوخ في الفقه وأصوله ، والمشاركة في علم الحديث والأدب.

وقال ابن عياد في حقه : إنه كان صليبا في الأحكام ، مقتفيا للعدل ، حسن الخلق والخلق ، جميل المعاملة ، لين الجانب ، فكه المجالسة ، ثبتا ، حسن الخط ، من أهل الإتقان والضبط.

وحكي أنه كانت عنده أصول حسان بخط عمه ، مع الصحيحين بخط الصّدفي ، في سفرين ، قال : ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ، ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه.

وذكره أبو سفيان أيضا وأبو عمر بن عات ، ورفعوا جميعا بذكره.

__________________

(١) جميل الشارة : جميل الهيئة.

(٢) في ب : محافظا على التلاوة ، بادي الخشوع.


وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها آخر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وخمسمائة (١) ودفن أول يوم من سنة ست وخمسين وخمسمائة (٢) ، ودفن بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر بن عبد البر ، ومولده في رمضان ، سنة ٤٩٦.

١١١ ـ ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح ، اللخمي (٣).

من أهل غرناطة ، ونزل جزيرة شقر ، يكنى أبا القاسم ، وأخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل وسمع منه كثيرا ، ورحل حاجا فأدى الفريضة ، وأخذ القراءات بمكة عن أبي علي بن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها ، وحج ثلاث حجات ، ودخل بغداد ، وأقام في رحلته نحوا من تسعة أعوام ، وقفل إلى الأندلس ، فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية ، وأقرأ بها القرآن نحوا من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجرا ، ولا قبل هدية ، وولي الصلاة والخطبة بجامعها ، وكان رجلا صالحا زاهدا مشاورا (٤) يشار إليه بإجابة الدعوة ، معروفا بالورع والانقباض ، وتوفي في صفر سنة ٥٨٧.

١١٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، التجيبي ، نزيل تلمسان.

من أهل لقنت عمل مرسية ، وسكن أبوه أريوله (٥) ، رحل إلى المشرق فأدى الفريضة ، وأطال الإقامة هنالك ، واستوسع في الرواية ، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين ، من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السّلفي ، صحبه واختص به وأكثر عنه ، وحكى عنه (٦) أنه لما ودعه في قفوله إلى المغرب سأله عما كتب عنه ، فأخبره أنه كتب كثيرا من الأسفار ومئتين من الأجزاء ، فسرّ بذلك ، وقال له : تكون محدّث المغرب إن شاء الله تعالى ، قد حصلت خيرا كثيرا ، قال : ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه ، وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفا مفيدا أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار ، وقفل من رحلته ، وله أربعون حديثا في المواعظ ، وأخرى في الفقر ، وفضله ، وثالثة في الحب

__________________

(١) في ب : سنة خمس وستين وخسمائة.

(٢) في ب ، ج : سنة ست وستين وخمسمائة.

(٣) انظر ترجمته في الذيل والتكملة ج ٦ ص ١٣٩.

(٤) مشاورا : غير موجودة في ب.

(٥) لعلها التي أوردها ياقوت باسم أريليه ، وهي حصن بين سرته وطليطلة من أعمال الأندلس (انظر معجم البلدان ج ١ ص ١٦٦).

(٦) عنه : غير موجودة في ب ، ه.


في الله تعالى ، ورابعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلسلاته في جزء ، وكتاب «فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان» وكتاب «فضل عشر ذي الحجة» وكتاب «مناقب السبطين» وكتاب «الفوائد الكبرى» مجلد ، و «الفوائد الصغرى» جزء ، وكتاب «الترغيب في الجهاد» خمسون بابا في مجلد ، وكتاب «المواعظ والرقائق» أربعون مجلسا ، سفران ، وكتاب «مشيخة السّلفي» وغير ذلك.

ومولده بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة ، وتوفي سنة عشر وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

١١٣ ـ ومنهم الشيخ الأكبر ، ذو المحاسن التي تبهر ، سيدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله ، الحاتمي ، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عديّ بن حاتم ، الصوفي ، الفقيه ، المشهور ، الظاهري.

ولد بمرسية يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة ٥٦٠ ، قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية ، بالسبع وبكتاب الكافي ، وحدّثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبيه ، وقرأ أيضا السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشّرّاط القرطبي ، وحدّثه به عن ابن المؤلف ، وسمع على ابن أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب «التيسير» للداني عن أبيه عن المؤلف ، وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم.

وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة ٥٦٨ ، فأقام بها إلى سنة ٥٩٨ ، ثم ارتحل إلى المشرق ، وأجازه جماعة منهم الحافظ السّلي (١) وابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي ، ودخل مصر ، وأقام بالحجاز مدّة ، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم ، ومات بدمشق سنة ٦٣٨ (٢) ، ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر ، ودفن بسفح قاسيون (٣) ، وأنشدني لنفسه مؤرخا وفاته الشيخ محمد بن سعد الكلشني سنة ١٠٣٧ (٤) ، حفظه الله تعالى : [الخفيف]

إنّما الحاتميّ في الكون فرد

وهو غوث وسيّد وإمام

كم علوم أتى بها من غيوب

من بحار التّوحيد يا مستهام

إن سألتم متى توفّي حميدا

قلت أرّخت : مات قطب همام

__________________

(١) في ب : السلفي.

(٢) في بعض النسخ : سنة ٦٣٧ ه‍.

(٣) قاسيون : جبل يشرف على مدينة دمشق.

(٤) في بعض النسخ : سنة ١٠٣٨.


وقال ابن الأبار : هو من أهل المريّة ، وقال ابن النجار : أقام بإشبيلية إلى سنة ٥٩٨ ، ثم دخل بلاد المشرق ، وقال ابن الأبار : إنه أخذ عن مشيخة بلده ، ومال إلى الآداب ، وكتب لبعض الولاة ، ثم رحل إلى المشرق حاجا ، ولم يعد بعدها إلى الأندلس ، وقال المنذري : ذكر أنه سمع بقرطبة من أبي القاسم بن بشكوال وجماعة سواه ، وطاف البلاد ، وسكن بلاد الروم مدّة ، وجمع مجاميع في الطريقة ، وقال ابن الأبار : إنه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين ، وأخذوا عنه ، وقال غيره : إنه قدم بغداد سنة ٦٠٨ ، وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة ، والغالب عليه طرق أهل الحقيقة ، وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوّف ، ووصفه غير واحد بالتقدّم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز ، وله أصحاب وأتباع.

ومن تأليفه (١) مجموع ضمنه منامات رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وما سمع منه ومنامات قد حدث بها عمن رآه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن النجار : وكان قد صحب الصوفية ، وأرباب القلوب ، وسلك طريق الفقر ، وحج وجاور ، وكتب في علم القوم ، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادهم (٢) ، وله أشعار حسنة ، وكلام مليح ، اجتمعت به في دمشق في رحلتي إليها ، وكتبت عنه شيئا من شعره ، ونعم الشيخ هو ، ذكر لي أنه دخل بغداد سنة ٦٠١ ، فأقام بها اثني عشر يوما ، ثم دخلها ثانيا حاجا مع الركب سنة ٦٠٨ ، وأنشدني لنفسه : [الطويل]

أيا حائرا ما بين علم وشهوة

ليتّصلا ، ما بين ضدّين من وصل

ومن لم يكن يستنشق الرّيح لم يكن

يرى الفضل للمسك الفتيق على الزّبل(٣)

وسألته عن مولده فقال : ليلة الاثنين ١٧ رمضان سنة ٥٦٠ بمرسية من بلاد الأندلس ، انتهى.

وقال ابن مسدي : إنه كان جميل الجملة والتفضيل ، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل ، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق ، والتقدم الذي لا يسبق ، سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي ، وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله ، وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه ، وأبو جعفر بن مصلّي ، وذكر أنه لقي عبد الحق الإشبيلي ، وفي ذلك عندي نظر ، انتهى.

__________________

(١) في ب : ومن تآليفه.

(٢) في ب : وزهادها.

(٣) المسك الفتيق : أراد الصريح الفائح الرائحة.


قلت : لا نظر في ذلك ، فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ما معناه أو نصه : ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي ، رحمه الله تعالى! حدثني بجميع مصنفاته في الحديث ، وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي ، والأحكام الكبرى ، والوسطى ، والصغرى ، وكتاب التهجد ، وكتاب العاقبة ، ونظمه ونثره ، وحدثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه ، انتهى.

وقال : إن الحافظ السّلفي أجاز له ، انتهى.

قال بعض الحفاظ : وأحسبها الإجازة العامة ، وكان ظاهري المذهب في العبادات ، باطني النظر في الاعتقادات ، وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون ، واتفق أنه لما أقام ببلاد الروم زكاه ذات يوم الملك فقال : هذا تذلّ له الأسود ، أو كلاما هذا معناه ، فسئل عن ذلك ، فقال : خدمت بمكة بعض الصلحاء ، فقال لي يوما : الله يذلّ لك أعز خلقه ، وأمر له ملك الروم مرة بدار تساوي مائة ألف درهم ، فلما نزلها وأقام بها مرّ به في بعض (١) الأيام سائل ، فقال له : شيء لله ، فقال : ما لي غير هذه الدار ، خذها لك ، فتسلّمها السائل وصارت له.

وقال الذهبي في حقه : إن له توسعا في الكلام ، وذكاء ، وقوة خاطر ، وحافظة ، وتدقيقا في التصوف ، وتواليف جمة في العرفان ، لو لا شطحه في كلامه وشعره (٢) ، ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته ، فيرجى له الخير ، انتهى.

وقال القطب اليونيني في ذيل «مرآة الزمان» : عن سيدي الشيخ محيي الدين. رضي الله تعالى عنه ونفعنا به! ـ أنه كان يقول : إني أعرف اسم الله الأعظم ، وأعرف الكيمياء ، انتهى.

وقال ابن شودكين عنه : إنه كان يقول : ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته ، بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما ، كما كان يحكم عليه يقظة ، فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدا ، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر ، فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى.

وقال : إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك.

وقال : ينبغي للسالك أنه متى حضر له أنه يعقد على أمر ويعاهد الله تعالى عليه أن يترك

__________________

(١) في ه : مرّ به بعض الليالي سائل.

(٢) للصوفية مصطلحات في ألفاظهم وإشارات خفية وتلويحات ، فمن حاول حمل كلامهم على أوضاع اللغة وعرف الشرع كان كمن حمل كلام لغة على لغة أخرى.


ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته ، فإن يسر الله تعالى فعله فعله ، وإن لم ييسر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد ، ولا يكون متصفا بنقض الميثاق.

ومن نظم الشيخ محيي الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ قوله : [الكامل]

بين التّذلّل والتّدلّل نقطة

فيها يتيه العالم النّحرير(١)

هي نقطة الأكوان إن جاوزتها

كنت الحكيم وعلمك الإكسير(٢)

وقوله أيضا رحمه الله : [الكامل]

يا درّة بيضاء لاهوتيّة

قد ركّبت صدفا من النّاسوت

جهل البسيطة قدرها لشقائهم

وتنافسوا في الدّرّ والياقوت

وحكى العماد بن النحاس الأطروش (٣) أنه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف ، وعنده الشيخ محيي الدين ، والغيث والسحاب عليهم ، ودمشق ليس عليها شيء ، قال : فقلت للشيخ : أما ترى هذه الحال؟ فقال : كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر ، يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي (٤) ، وقد اتفق الحال مثل هذه ، فقلت له مثل هذه المقالة ، فأنشدني : [المتقارب]

يطوف السّحاب بمرّاكش

طواف الحجيج ببيت الحرم

يروم نزولا فلا يستطيع

لسفك الدّماء وهتك الحرم

وحكى المقريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض ـ أفاض الله علينا من أنواره! ـ أن الشيخ محيى الدين بن العربي بعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية ، فقال : كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها ، انتهى.

وقال بعض من عرّف به : إنه لما صنف «الفتوحات المكية» كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس حيث كان ، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة ، فما ادّخر منها شيئا ، وقيل : إن صاحب حمص رتب له كل يوم مائة درهم ، وابن الزكي كل يوم ثلاثين درهما ، فكان يتصدق بالجميع ،

__________________

(١) النحرير : الحاذق الفطن.

(٢) الإكسير : ما يلقى على الفضة وغيرها فتتحول ذهبا ، ذلك من خرافات أصحاب الكيمياء القديمة.

(٣) في ه : الأطروشي.

(٤) في ج : القيداقي.


واشتغل الناس بمصنفاته ، ولها (١) ببلاد اليمن والروم صيت عظيم ، وهو من عجائب الزمان ، وكان يقول: أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب.

ومن نظمه رضي الله تعالى عنه : [مجزوء الرجز]

حقيقتي همت بها

وما رآها بصري

ولو رآها لغدا

قتيل ذاك الحور

فعندما أبصرتها

صرت بحكم النّظر

فبتّ مسحورا بها

أهيم حتّى السّحر

يا حذري من حذري

لو كان يغني حذري

والله ما هيّمني

جمال ذاك الخفر(٢)

في حسنها من ظبية

ترعى بذات الخمر(٣)

إذا رنت أو عطفت

تسبي عقول البشر

كأنّما أنفاسها

أعراف مسك عطر

كأنّها شمس الضّحى

في النّور أو كالقمر

إن أسفرت أبرزها

نور صباح مسفر

أو سدلت غيّبها

سواد ذاك الشّعر

يا قمرا تحت دجى

خذي فؤادي وذري

عيني لكي أبصركم

إذ كان حظّي نظري

وقال الخويّيّ (٤) : قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه : رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة ، فسألني : كيف حالك مع أهلك؟ فقلت : [البسيط]

إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئا

تبسّمت ودنت منّي تمازحني

وإن رأته خليّا من دراهمه

تجهّمت وانثنت عنّي تقابحني

__________________

(١) في ه : وله.

(٢) الخفر : الحياء.

(٣) الخمر ، بفتح الخاء والميم : الشجر الكثير الملتف.

(٤) كذا في ب ، ه وفي ج : الخوبيّ.


فقال لي : صدقت ، كلنا ذلك الرجل.

وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة ، وشيخ الطريقة ، صفي الدين حسين بن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي ، ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره ، بعد كلام ، ما صورته : ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي ، وكان من أكبر علماء الطريق ، جمع بين سائر العلوم الكسبية ، وما وقر (١) له من العلوم الوهبية ، ومنزلته شهيرة ، وتصانيفه كثيرة ، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا ، لا يكترث بالوجود ، مقبلا كان أو معرضا ، وله علماء أتباع أرباب مواجيد ، وتصانيف ، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرّار (٢) ، إخاء ورفقة في السياحات ، رضي الله تعالى عنهما في الآصال والبكرات (٣) ، ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله : [مجزوء الكامل]

يا من يراني ولا أراه

كم ذا أراه ولا يراني

وقال رحمه الله تعالى : قال لي بعض إخواني لما سمع هذا البيت : كيف تقول : إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقلت له مرتجلا : [مجزوء الكامل]

يا من يراني مجرما

ولا أراه آخذا

كم ذا أراه منعما

ولا يراني لائذا

قلت : من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤوّل ، وأنه لا يقصد ظاهره ، وإنما له محامل تليق به ، وكفاك شاهدا هذه الجزئية الواحدة ، فأحسن الظن به ولا تنتقد ، بل اعتقد ، وللناس في هذا المعنى كلام كثير ، والتسليم أسلم ، والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم.

ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر : [الطويل]

وإنّا جميعا إن نصم يوم جمعة

ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر

وإن كان يوم السّبت أوّل صومنا

فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر

__________________

(١) في ب ، ه : وفرّ.

(٢) في ج : الخراز.

(٣) الآصال : جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب.


وإن كان صوم الشّهر في أحد فخذ

ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري(١)

وإن هلّ بالاثنين فاعلم بأنّه

يواتيك نيل المجد في تاسع العشر(٢)

ويوم الثّلاثا إن بدا الشّهر فاعتمد

على خامس العشرين فاعمل بها تدري

وفي الأربعا إن هلّ يا من يرومها

فدونك فاطلب وصلها سابع العشر

ويوم خميس إن بدا الشّهر فاجتهد

ففي ثالث العشرين تظفر بالنّصر(٣)

وضابطها بالقول ليلة جمعة

توافيك بعد النّصف في ليلة الوتر

قلت : لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى! فإن نفسه أعلى من هذا النظم ، ولكني ذكرته لما فيه من الفائدة ، ولأن بعض الناس نسبه إليه ، فالله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.

ومما نسبه إليه رحمه الله تعالى غير واحد قوله : [المنسرح]

قلبي قطبي ، وقالبي أجفاني

سرّي خضري ، وعينه عرفاني(٤)

روحي هارون وكليمي موسى

نفسي فرعون ، والهوى هاماني

وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما ، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى ، قال : وهو من المجرّبات.

وقد تأوّل بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق ، وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ ، رحمه الله تعالى!.

وولد للشيخ محيي الدين ـ رحمه الله تعالى! ـ ابنه محمد المدعوّ سعد الدين بملطية في رمضان سنة ٦١٨ ، وسمع الحديث ، ودرس ، وقال الشعر الجيد ، وله ديوان شعر مشهور ، وتوفي بدمشق سنة ٦٥٦ سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة المستعصم ، ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون ، وكان قدم القاهرة ، وسكن حلبا ، ومن شعره : [الرجز]

لمّا تبدّى عارضاه في نمط

قيل ظلام بضياء اختلط

__________________

(١) استقرى الأشياء واستقرأها : تتبعها ليعرف خواصها وأحوالها.

(٢) في ب : يواتيك نيل الوجد.

(٣) في ه : ويوم الخميس.

(٤) في ه : وقالبي أجناني.


وقيل سطر الحسن في خدّيه خط

وقيل نمل فوق عاج انبسط

وقيل مسك فوق ورد قد نقط

وقال قوم : إنّها اللّام فقط(١)

قلت : تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله بن جزيّ الأندلسي كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار ، وقالت له فرقة : لا نشبهه إلا بما هو مناسب لصنعتنا ، فلما فرغوا قال ابن جزي : [البسيط]

أتى أولو الكتب والسّيف الأولى عزموا

من بعد سلمي على حربي وإسلامي

بكلّ معنى بديع في العذار على

ما تقتضي منهم أفكار أحلامي

فقال ذو الكتب : لا أرضى المحارب في

تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي(٢)

وقال ذو الحرب : لا أرضى الكتائب في

تشبيهه ومظلّاتي وأعلامي

فقلت : أجمع بين المذهبين معا

باللام ، فاستحسنوا التّشبيه باللّام

وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم.

رجع ـ ومن نظم سعد الدين قوله : [الكامل]

سهري من المحبوب أصبح مرسلا

وأراه متّصلا بفيض مدامع

قال الحبيب : بأنّ ريقي نافع

فاسمع رواية مالك عن نافع(٣)

ومن نظمه أيضا قوله : [الطويل]

وقالوا : قصير شعر من قد هويته ،

فقلت : دعوني لا أرى منه مخلصا

محيّاه شمس قد علت غصن قدّه

فلا عجب للظّلّ أن يتقلّصا

وقوله : [مخلع البسيط]

وربّ قاض لنا مليح

يعرب عن منطق لذيذ

إذا رمانا بسهم لحظ

قلنا له دائم النّفوذ

__________________

(١) اللام حرف من حروف الهجاء معروف ، وهو مما جرت عادة الشعراء يشبهو به العذار ، ووجه الشبه الانعطاف والالتواء ، وكما شبهوا العذار باللام شبهوه بالواو. واللام أيضا : مخفف لأم ، جمع لأمة ، وهي أداة الحرب كلها.

(٢) الأنقاس : جمع نقس ، بكسر النون وسكوت القاف : وهو المداد الذي يكتب به.

(٣) نافع : هو أبو عبد الله المدني ، مولى ابن عمر ، ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة. مات سنة ١١٧ ه‍ أو بعد ذلك (تقريب التهذيب ج ٢ ص ٢٩٦).


وقوله : [مجزوء الخفيف]

لك والله منظر

قلّ فيه المشارك

إنّ يوما نراك في

ه ليوم مبارك(١)

ومن نظمه أيضا ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته قوله : [البسيط]

ما للنّوى رقّة ترثي لمكتئب

حرّان في قلبه والدّمع في حلب

قد أصبحت حلب ذات العماد بكم

وجلّق إرم هذا من العجب

وتوفي الشيخ عماد الدين بالصالحية سنة ٦٦٧ ، ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكي ، رحم الله تعالى الجميع!.

وابن الزكيّ أيضا محيي الدين.

ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق : [الخفيف]

يا خليليّ في الزّيادة ظبي

سلبت مقلتاه جفني رقاده

كيف أرجو السّلوّ عنه وطرفي

ناظر حسن وجهه في الزّيادة

وله : [السريع]

علقت صوفيّا كبدر الدّجى

لكنّه في وصلي الزّاهد

يشهد وجدي بغرامي له

فديت صوفيّا له شاهد

وله أيضا : [الوافر]

صبوت إلى حريريّ مليح

تكرّر نحو منزله مسيري

أقول له : ألا ترثي لصبّ

عديم للمساعد والنّصير

أقام ببابكم خمسين شهرا

فقال : كذا مقامات الحريري(٢)

وله : [الخفيف]

__________________

(١) في ب : إن يوما تكون فيه.

(٢) المقامات : جمع مقامة ، وهي في الأصل موضع القيام ، وورى بمقامات الحريري المعروفة وهي خمسون مقامة.


وغزال من اليهود أتاني

زائرا من كنيسه أو كناسه(١)

بتّ أجني الشّقيق من وجنتيه

وأشمّ العبير من أنفاسه(٢)

واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب

وأمنّا الوشاة من حرّاسه

من رآني يظنّني لنحولي

واصفراري علامة فوق راسه

وله : [الخفيف]

لي حبيب بالنّحو أصبح مغرى

فهو منّي بما أعانيه أدرى

قلت : ما ذا تقول حين تنادي

يا حبيبي المضاف نحوك جهرا

قال لي : يا غلام ، أو يا غلامي ،

قلت : لبّيك ثمّ لبّيك عشرا

وله أيضا : [الكامل]

ساءلتني عن لفظة لغويّة

فأجبت مبتدئا بغير تفكّر

خاطبتني متبسّما فرأيتها

من نظم ثغرك في صحاح الجوهري

وله : [الكامل]

وعلمت أنّ من الحديد فؤاده

لمّا انتضى من مقلتيه مهنّدا(٣)

آنست من وجدي بجانب خدّه

نارا ولكن ما وجدت بها هدى

وقال الشيخ محيي الدين ـ أفاض الله تعالى علينا من أنواره ، وكسانا بعض حلل أسراره! ـ إنه بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت في بأمور عظيمة ، فقلت : هذه قد جعلها الله تعالى سببا لخير وصل إلى فلأكافئنّها ، وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها وعنها (٤) ، ففعلت ذلك ، فلما كان الموسم استدلّ على رجل غريب ، فسأله الجماعة عن قصده ، فقال : رأيت بالينبع في الليلة التي بتّ فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر ، فعجبت من كثرته ، ثم سألت : لمن هو؟ فقيل : هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة ، وسمى تلك المرأة ، ثم قال : وهذا (٥) بعض ما تستحق ، قال

__________________

(١) الكناس ، بكسر الكاف : بيت الظبي.

(٢) الشقيق : ورد أحمر ، ويقال له «شقائق النعمان».

(٣) انتضى السيف : أخرجه من غمده.

(٤) وعنها : لا توجد في ب.

(٥) في ه : وهو بعض ما تستحق يا سيدي ابن عربي.


سيدي ابن عربي : فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ، ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم مني ذلك ، علمت أنه تعريف من جانب الحق ، وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنها مكذوب عليها ، فقصدت المرأة وقلت : اصدقيني ، وذكرت لها ما كان من ذلك ، فقالت : كنت قاعدة قبالة البيت ، وأنت تطوف ، فشكرت الجماعة الذين كنت فيهم ، فقلت في نفسي : اللهم إني أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس ، وكنت أصومهما وأتصدق فيهما ، قال : فعلمت أن الذي وصل مني إليها بعض ما تستحق فإنها سبقت بالجميل ، والفضل للمتقدّم.

ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى : [البسيط]

يا غاية السّؤل والمأمول يا سندي

شوقي إليك شديد لا إلى أحد

ذبت اشتياقا ووجدا في محبّتكم

فآه من طول شوقي آه من كمدي

يدي وضعت على قلبي مخافة أن

ينشقّ صدري لمّا خانني جلدي

ما زال يرفعها طورا ويخفضها

حتّى وضعت يدي الأخرى تشدّ يدي

وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنه كان يقول : إنه يحفظ الاسم الأعظم ، ويقول: إنه يعرف السيميا بطريق التنزل ، لا بطريق التكسب ، انتهى والله تعالى أعلم ، والتسليم أسلم.

ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله : [السريع]

ما فاز بالتّوبة إلّا الّذي

قد تاب قدما والورى نوّم

فمن يتب أدرك مطلوبه

من توبة النّاس ولا يعلم

وله رحمه الله تعالى من المحاسن ما لا يستوفى.

وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني ـ حفظه الله تعالى! ـ قوله (١) : [الطويل]

أمولاي محيي الدّين أنت الّذي بدت

علومك في الآفاق كالغيث مذ همى

كشفت معاني كلّ علم مكتّم

وأوضحت بالتّحقيق ما كان مبهما

__________________

(١) في الأصول وفي ه : أثبت أولا ثلاثة الأبيات التي مر ذكرها في صفحة ٣٠٥ والتي أولها :

شيخنا الحاتمي في الكون فرد

وهو غيث وسيد وإمام


وبالجملة فهو حجة الله الظاهرة ، وآيته الباهرة ، ولا يلتفت إلى كلام من تكلم فيه ، ولله در السيوطي الحافظ! فإنه ألف «تنبيه الغبي ، على تنزيه ابن عربي» ومقام هذا الشيخ معلوم ، والتعريف به يستدعي طولا ، وهو أظهر من نار على علم.

وكان بالمغرب يعرف بابن العربي بالألف واللام ، واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام ، فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي.

وقال ابن خاتمة في كتابه «مزية المرية» ما نصه : محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي ، من أهل إشبيلية ، وأصله من مرسية ، يكنى أبا بكر ، ويعرف بابن العربي ، وبالحاتمي أيضا ، أخذ عن مشيخة بلده ، ومال إلى الآداب ، وكتب لبعض الولاة بالأندلس ، ثم رحل إلى المشرق حاجّا فأدّى الفريضة ، ولم يعد بعدها إلى الأندلس ، وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني (١) ومن غيره ، وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن بن أبي نصر في شوّال سنة ٦٠٦ ، وكان يحدّث بالإجازة العامّة عن أبي طاهر السّلفي ، ويقول بها ، وبرع في علم التصوف ، وله في ذلك تواليف كثيرة : منها «الجمع والتفصيل ، في حقائق التنزيل» و «الجذوة المقتبسة ، والخطرة المختلسة» وكتاب «كشف المعنى ، في تفسير الأسماء الحسنى» وكتاب «المعارف الإلهية» وكتاب «الإسرا إلى المقام الأسرى» (٢) وكتاب «مواقع النجوم ، ومطالع أهلة أسرار العلوم» وكتاب «عنقاء مغرب ، في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب» وكتاب في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي ، والرسالة الملقبة «بمشاهد الأسرار القدسية ، ومطالع الأنوار الإلهية» في كتب أخر عديدة ، وقدم على المريّة من مرسية مستهلّ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، وبها ألف كتابه الموسوم ب «مواقع النجوم» انتهى.

ولا خفاء أن مقام الشيخ عظم بعد انتقاله من المغرب ، وقد ذكر رحمه الله تعالى في بعض كتبه أن مولده بمرسية.

وفي الكتاب المسمى ب «الاغتباط ، بمعالجة ابن الخياط» تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس ، قدس الله تعالى روحه! الذي ألفه بسبب سؤال سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدس الله تعالى سره العزيز في كتبه المنسوبة إليه ، ما صورته :

__________________

(١) في ج : الخرستاني ، بخاء معجمة ، وهو تحريف. وأبو القاسم الحرستاني نسبة إلى حرستا وهي قرية كبيرة عامرة في وسط دمشق على طريق حمص.

(٢) الأسرى : الأفضل والأشرف.


ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بها أزر الدين ، ولمّ بهم شعث المسلمين ، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص ، هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحوزوا جميل الثواب ، من الله الكريم الوهاب ، والحمد لله وحده.

فأجابه بما صورته (١) : الحمد لله ، اللهم أنطقنا بما فيه رضاك ، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به ، أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما ، وإمام الحقيقة حقيقة ورسما ، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما : [البسيط]

إذا تغلغل فكر المرء في طرف

من بحره غرقت فيه خواطره

وهو عباب لا تكدره الدّلاء ، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء ، وكانت دعواته تخترق السبع الطّباق ، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق ، وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته ، وناطق بما كتبته ، وغالب ظني أني ما أنصفته [البسيط].

وما عليّ إذا ما قلت معتقدي

دع الجهول يظنّ العدل عدوانا

والله والله والله العظيم ومن

أقامه حجّة للدّين برهانا

بأنّ ما قلت بعض من مناقبه

ما زدت إلّا لعلّي زدت نقصانا

وأما كتبه ومصنفاته فالبحار الزواخر ، التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أول ولا آخر ، ما وضع الواضعون مثلها ، وإنما خص الله سبحانه بمعرفة قدرها أهلها ، ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها ، وتأمل ما في مبانيها ، انشرح صدره لحل المشكلات ، وفك المعضلات ، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية ، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها : وأجزته أيضا أن يروي عنه مصنفاتي ، ومن جملتها كذا وكذا ، حتى عد نيفا وأربعمائة مصنف ، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] وتوفي ولم يكمل ، وهذا التفسير كتاب عظيم ، كل سفر بحر لا ساحل له ، ولا غرو فإنه صاحب الولاية العظمى ، والصديقية الكبرى ، فيما نعتقد وندين الله تعالى به ، وثم طائفة ، في الغي حائفة (٢) ، يعظمون عليه النكير ، وربما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير ، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها ، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها (٣). [البسيط]

__________________

(١) في ب ، ه : فأجابه ما صورته.

(٢) الحائفة : المائلة عن القصد ، الجائرة في الحكم.

(٣) مجانيها : أراد هنا : ثمارها.


عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر(١)

هذا الذي نعلم ونعتقد ، وندين الله تعالى به في حقه ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصورة استشهاده : كتب محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى ، عفا الله عنه!.

وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح ، بل كذب وزور ، فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلهم عن خادم الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال : كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق ، فقال بعضهم : هل هي عربية أو عجمية؟ فقال بعض الفضلاء : إنما هي فارسية معربة ، أصلها زن دين ، أي على دين المرأة ، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان ، فقال بعضهم : مثل من؟ فقال آخر إلى جانب الشيخ : مثل ابن عربي بدمشق ، فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه ، قال الخادم : وكنت صائما ذلك اليوم ، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه ، فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا ، فقلت له : يا سيدي ، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال : مالك ولهذا؟ كل ، فعرفت أنه يعرفه ، فتركت الأكل وقلت له : لوجه الله تعالى عرّفني به ، من هو؟ فتبسم رحمه الله تعالى وقال لي : الشيخ محيي الدين بن عربي ، فأطرقت ساكتا متحيرا ، فقال : مالك؟ فقلت : يا سيدي ، قد حرت ، قال : لم؟ قلت : أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت؟ فقال : اسكت ذلك مجلس الفقهاء ، هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.

وأما قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير ، كان الشيخ كمال الدين (٢) الزملكاني من أجلّ مشايخ الشام أيضا يقول : ما أجهل هؤلاء! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها ، فيأتوني لأحلّ لهم مشكله ، وأبين لهم مقاصده ، بحيث يظهر لهم الحق ، ويزول عنهم الوهم.

وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لما رجع من الشام إلى بلاده : كيف وجدت ابن عربي؟ فقال : وجدته بحرا زخارا لا ساحل له.

وهذا الشيخ صلاح الدين الصّفدي له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في

__________________

(١) البيت للبحتري ، الشاعر العباسي المشهور.

(٢) نسبة إلى زملكا ، وهي قرية بغوطة دمشق ، نسب إليها كثير من العلماء منهم أحمد بن محمد الزملكاني شيخ أبي بكر المقري (معجم البلدان ج ٣ ص ١٥٠).


مجلدات كثيرة ، وهي موجودة في خزانة السلطان ، تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية.

وقوله في شيء من الكتب المصنفة كالفصوص وغيره : إنه صنفه بأمر من الحضرة الشريفة النبوية ، وأمره بإخراجه إلى الناس.

قال الشيخ محيي الدين الذهبي (١) حافظ الشام : ما أظن المحيي يتعمد الكذب أصلا ، وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية.

ثم إن الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى كان مسكنه ومظهره بدمشق ، وأخرج هذه العلوم إليهم ، ولم ينكر عليه أحد شيئا من ذلك ، وكان قاضي القضاة الشافعية في عصره شمس الدين أحمد الخويّي يخدمه خدمة العبيد ، وقاضي القضاة المالكية زوجه بابنته ، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ.

وأما كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلدات ، وقول المنكرين في حق مثله غثاء (٢) وهباء لا يعبأ به ، والحمد لله تعالى ، انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني ، رضي الله تعالى عنه!.

وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب ، وكفى بذلك دليلا على ما منحه الله الذي يفتح لمن شاء الباب ، وقد اعتنى بتربته بصالحية دمشق سلاطين بني عثمان ، نصرهم الله تعالى على توالي الأزمان! وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة ، ورتب له الأوقاف ، وقد زرت قبره وتبركت به مرارا ، ورأيت لوائح الأنوار عليه ظاهرة ، ولا يجد منصف محيدا إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة ، وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة ١٠٣٧.

وقال في «عنوان الدراية» : إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة ، وهو فصيح اللسان ، بارع فهم الجنان ، قوي على الإيراد ، كلما طلب الزيادة يزاد ، رحل إلى العدوة ، ودخل بجاية (٣) في رمضان سنة ٥٩٧ ، وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعة من

__________________

(١) محيي الدين الذهبي : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز. ولد سنة ٦٧٣ ه‍ ، وعني بالقراءات من صغره ، ثم اشتغل بالحديث فبلغت شيوخه في الحديث وغيره ألفا. له مؤلفات كثيرة. (غاية النهاية ج ١ ص ٧١).

(٢) الغثاء : الزبد ، والهالك من ورق الشجر.

(٣) بجاية : مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب ، كان أول من اختطها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري بن مناد بن بلكين سنة ٤٥٧ ه‍ (معجم البلدان ج ١ ص ٣٣٩).


الأفاضل ، ولما دخل بجاية في التاريخ المذكور قال : رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها ، فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية ثم لما كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها ، ثم عرضت رؤياي هذه على من قصّها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها ، وقلت للذي عرضتها عليه : لا تذكرني ، فلما ذكر الرؤيا (١) استعظمها وقال : هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره ، صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه ، ثم سكت ساعة وقال : إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها.

ثم قال صاحب العنوان ما ملخصه : إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق ، واستقرت به الدار ، وألف تواليفه ، وفيها ما فيها إن قيّض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام ، وإن كان ممن ينظر بالظاهر فالأمر صعب ، وقد نقد عليه أهل الديار المصرية وسعوا في إراقة دمه ، فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي ، فإنه سعى في خلاصه وتأول كلامه ، ولما وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ رحمه الله تعالى : كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت؟ فقال له : يا سيدي ، تلك شطحات في محل سكر ولا عتب على سكران وتوفي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة ، وكان يحدث بالإجازة العامة عن السّلفي ، رحمه الله تعالى! انتهى.

ومن موشحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله (٢) :

مطلع

سرائر الأعيان

لاحت على الأكوان للناظرين

والعاشق الغيران

من ذاك في حرّان(٣)

يبدي الأنين

دور

يقول والوجد أضنا

ه والبعد قد حيّره

__________________

(١) في ب : فلما ذكر هذه الرؤيا.

(٢) انظر ديوان ابن عربي ص ٨٥.

(٣) في ب : في بحران.


لمّا دنا البعد

لم أدر من بعد

من غيّره

وهيّم العبد

والواحد الفرد

قد خيّره

في البوح والكتمان

والسّرّ والإعلان

في العالمين

أمّا هو الدّيّان (١)

يا عابد الأوثان

أنت الضّنين

دور

كلّ الهوى صعب

على الّذي يشكو

ذلّ الحجاب

يا من له قلب

لو أنّه يذكو

عند الشّباب

قد قرّب الرّبّ (٢)

لكنّه إفك

فانو المتاب

وناد يا رحمن

يا ربّ يا منّان(٣)

إنّي حزين

أضناني الهجران

ولا حبيب دان

ولا معين

دور

فنيت بالله

عمّا تراه العين

من كونه

في موقف الجاه

وصحت أين الأين (٤)

__________________

(١) في ب : أنا هو الديان.

(٢) في ب ، ه : قرّبه الرب.

(٣) في ب ، ه : يا برّ يا منان.

(٤) في ه : وصحت أين البين.


في بينه

فقال : يا ساهي

عاينت قطّ عين

بعينه

أما ترى غيلان (١)

وقيس أو من كان

في الغابرين

قالوا الهوى سلطان

إن حلّ بالإنسان

أفناه دين

دور

كم مرّة قالا

أنا الّذي أهوى

من هو أنا

فلا أرى حالا

ولا أرى شكوى

إلّا الفنا

لست كمن مالا

عن الّذي يهوى

بعد الجنا

ودان بالسّلوان

هذا هو البهتان

للعارفين

سلوهم ما كان

عن حضرة الرّحمن

والآفكين

دور

دخلت في بستان

الأنس والقرب

كمكنسه

فقام لي الرّيحان

يختال بالعجب (٢)

في سندسه

__________________

(١) غيلان : هو الشاعر ذو الرمة.

(٢) في ه : يختال من عجب.


أنا هو الإنسان

مطيّب الصّبّ

في مجلسه

جنّان يا جنّان (١)

اجن من البستان

الياسمين

وحلّل الرّيحان

بحرمة الرّحمن

للعاشقين

وقال الإمام الصفي بن ظافر الأزدي في رسالته : رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي ، وكان من أكبر علماء الطريق ، جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وقر (٢) له من العلوم الوهبية ، ومنزلته شهيرة ، وتصانيفه كثيرة ، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا ، لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا ، وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف ، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الخراز (٣) إخاء ورفقة في السياحات ، رضي الله تعالى عنهما! انتهى.

وذكر الإمام سيدي عبد الله بن سعد اليافعي اليمنى في «الإرشاد» أنه اجتمع مع الشهاب السّهروردي ، فأطرق كل واحد منهما ساعة ، ثم افترقا من غير كلام ، فقيل للشيخ ابن عربي : ما تقول في السهروردي؟ فقال : مملوء سنّة من قرنه إلى قدمه ، وقيل للسهروردي : ما تقول في الشيخ محيي الدين؟ فقال : بحر الحقائق.

ثم قال اليافعي ما ملخصه : إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه ، فلما حضرته الوفاة نهى عن مطالعته ، وقال : إنكم لا تفهمون معاني كلامه ، ثم قال اليافعي :

وسمعت أن العز بن عبد السلام كان يطعن عليه ويقول : هو زنديق ، فقال له بعض أصحابه : أريد أن تريني القطب ، أو قال وليا ، فأشار إلى ابن عربي ، فقال له : فأنت تطعن فيه ، فقال : أصون ظاهر الشرع ، أو كما قال.

وأخبرني بهذه الحكاية غير واحد من ثقات مصر والشام ، ثم قال : وقد مدحه وعظمه طائفة كالنجم الأصبهاني والتاج بن عطاء الله وغيرهما ، وتوقف فيه طائفة ، وطعن فيه آخرون ، وليس الطاعن فيه بأعلم من الخضر عليه السلام ، إذ هو أحد شيوخه ، وله معه اجتماع كثير.

__________________

(١) الجنان : البستاني.

(٢) في ب : وما وفّر.

(٣) في ب : الأستاذ الحرّار.


ثم قال : وما ينسب إلى المشايخ له محامل : الأول أنه لم تصح نسبته إليهم ، الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق ، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه ، وإنما يعلمه العارفون ، الثالث : أن يكون ذلك صدر منهم في حال السكر والغيبة ، والسكران سكرا مباحا غير مؤاخذ ولا مكلف ، انتهى ملخصا.

وممن ذكر الشيخ محيي الدين الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاث مجلدات ، وترجمه ترجمة عظيمة مطولة أذكر منها أنه قال : إنه كان ظاهري المذهب في العبادات ، باطني النظر في الاعتقادات ، خاض (١) بحار تلك العبارات ، وتحقق بمحيّا تلك الإشارات ، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام ، ومواقف النهايات في مزالق الأقدام ، ولهذا ما ارتبت في أمره ، والله تعالى أعلم بسره ، انتهى.

ونقلت من خط ابن علوان التونسي رحمه الله تعالى ، قال الشيخ محيي الدين : [مخلع البسيط]

بالمال ينقاد كلّ صعب

من عالم الأرض والسّماء

يحسبه عالم حجابا

لم يعرفوا لذّة العطاء

ولو لا الّذي في النّفوس منه

لم يجب الله في الدّعاء

لا تحسب المال ما تراه

من عسجد مشرق الضّياء(٢)

بل هو ما كنت يا بنيّ

به غنيّا عن السّواء

فكن بربّ العلا غنيّا

وعامل الخلق بالوفاء

وقال : [السريع]

نبّه على السّرّ ولا تفشه

فالبوح بالسّرّ له مقت(٣)

على الّذي يبديه فاصبر له

واكتمه حتّى يصل الوقت

وقال :

قد ثاب غلماننا علينا

فمالنا في الوجود قدر

أذنابنا صيّرت رؤوسا

مالي على ما أراه صبر

__________________

(١) في ب ، ه : خاض بحر تلك العبارات.

(٢) في ب ، ه : من عسجد مشرق لراء.

(٣) المقت : أشد البغض.


هذا هو الدّهر يا خليلي

فمن يقاسيه فهو قهر

ونظم الشيخ محيي الدين هو البحر الذي لا ساحل له.

ولنختم ما أوردنا منه بقوله : [السريع]

يا حبّذا المسجد من مسجد

وحبّذا الرّوضة من مشهد

وحبّذا طيبة من بلدة

فيها ضريح المصطفى أحمد

صلّى عليه الله من سيّد

لو لاه لم نفلح ولم نهتد

قد قرن الله به ذكره

في كلّ يوم فاعتبر ترشد(١)

عشر خفيّات وعشر إذا

أعلن بالتّأذين في المسجد

فهذه عشرون مقرونة

بأفضل الذّكر إلى الموعد

١١٤ ـ ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الشّشتري (٢) ، وهو علي بن عبد الله النميري.

عروس الفقهاء ، وإمام المتجردين (٣) ، وبركة لابسي الخرقة ، وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش ، وزقاق الششتري معلوم بها ، وكان مجودا للقرآن ، قائما عليه ، عارفا بمعانيه ، من أهل العلم والعمل ، جال في الآفاق (٤) ، ولقي المشايخ ، وحج حجات ، وآثر التجرد والعبادات.

وذكره القاضي أبو العباس الغبريني في «عنوان الدراية» فقال : الفقيه الصوفي ، من الطلبة المحصلين ، والفقراء المنقطعين ، له علم بالحكمة ، ومعرفة بطريق الصوفية ، وتقدم في النظم والنثر على طريقة التحقيق ، وأشعاره وموشحاته وأزجاله الغاية في الانطباع.

أخذ عن القاضي محيي الدين محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة الأنصاري الشاطبي وغيره من أصحاب السّهروردي صاحب «عوارف المعارف» واجتمع بالنجم بن إبراهيم الدمشقي (٥) سنة ٦٥٠ ، وخدم أبا محمد بن سبعين ، وتلمذ له ، وكان ابن سبعين دونه في السن ، لكن اشتهر باتباعه ، وعول على ما لديه ، حتى صار يعبر عن نفسه في منظوماته وغيرها

__________________

(١) يشير إلى الشهادتين : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله.

(٢) هذه الكلمة سقطت من ج ، وهي موجودة في ب ، ه.

(٣) في ب ، ه : وأمير المتجردين.

(٤) في ب ، ه : جال الآفاق.

(٥) في ب ، ه : ابن إسرائيل الدمشقي.


بعبد ابن سبعين ، وقال له لما لقيه ـ يريد المشايخ ـ : إن كنت تريد الجنة فسر إلى أبي مدين ، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلى ، ولما مات أبو محمد انفرد بعده بالرياسة (١) والإمامة على الفقراء المتجردين ، فكان يتبعه في أسفاره ما ينيف على أربعمائة فقير فيقتسمهم (٢) الترتيب في وظائف خدمته.

صنف كتبا : منها كتاب «العروة الوثقى ، في بيان السنن وإحصاء العلوم ، وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته» وله كتاب «المقاليد الوجودية ، في أسرار الصوفية» و «الرسالة القدسية ، في توحيد العامة والخاصة» و «المراتب الإيمانية والإسلامية والإحسانية» و «الرسالة العلمية» وغير ذلك.

وله ديوان شعر مشهور ، ومن نظمه قوله رحمه الله تعالى : [الطويل]

لقد تهت عجبا بالتّجرّد والفقر

فلم أندرج تحت الزّمان ولا الدّهر

وجاءت لقلبي نفحة قدسيّة

فغبت بها عن عالم الخلق والأمر

طويت بساط الكون والطّيّ نشره

وما القصد إلّا التّرك للطّيّ والنّشر

وغمّضت عين القلب غير مطلّق

فألفيتني ذاك الملقّب بالغير

وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة

ونزّهت من أعني عن الوصل والهجر(٣)

وما الوصف إلّا دونه غير أنّني

أريد به التّشبيب عن بعض ما أدري

وذلك مثل الصّوت أيقظ نائما

فأبصر أمرا جلّ عن ضابط الحصر(٤)

فقلت له الأسماء تبغي بيانه

فكانت له الألفاظ سترا على ستر

وقال : [الكامل]

من لامني لو أنّه قد أبصرا

ما ذقته أضحى به متحيّرا

وغدا يقول لصحبه إن أنتم

أنكرتم ما بي أتيتم منكرا

شذّت أمور القوم عن عاداتهم

فلأجل ذاك يقال سحر مفترى

وقال ، وهي من أشهر ما قال : [الطويل]

__________________

(١) في ب : بالرئاسة.

(٢) في ب ، ه : فيتقسمهم.

(٣) في ه : ونزهت من أغنى عن الوصل والهجر.

(٤) المقصود أنه لا يستطاع تحديد هذا الأمر لكبره.


أرى طالبا منّا الزّيادة لا الحسنى

بفكر رمى سهما فعدّى به عدنا

وطالبنا مطلوبنا من وجودنا

تغيب به عنّا لدى الصّعق إن عنّا (١)

وهي طويلة مشهورة بالشرق والغرب ، وقد شرحها شيخ شيوخ شيوخنا العارف بالله تعالى سيدي أحمد زرّوق نفعنا الله تعالى ببركاته! وأشار ابن الخطيب في «الإحاطة» إلى أنها لا تخلو (٢) عن شذوذ من جهة اللسان ، وضعف في العربية ، قال : ومع ذلك فهي غريبة المنزع ، أشار فيها إلى مراتب الأعيان (٣) الأعلام من أهل هذه الطريقة ، وكأنها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدّمناه ، إذ الحسنى : الجنة ، والزيادة : مقام النظر ، وقوله فيها : [الطويل]

وأظهر منها الغافقي لنا جنّى

وكشّف عن أطواره الغيم والدّجنا(٤)

هو شيخه أبو محمد بن سبعين لأنه مرسيّ الأصل غافقيّه.

ولما وصل الششتري من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال : ما اسم هذه القرية؟ فقيل : الطينة ، فقال : حنت الطينة إلى الطينة ، وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط ، إذ الطينة بمفازة (٥) ، وأقرب المدن إليها دمياط ، فحمله الفقراء على أعناقهم إلى دمياط.

وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة ٦٦٨ ، فدفن بدمياط ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه!.

١١٥ ـ ومنهم سيدي أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي (٦).

وحرالة : قرية من أعمال مرسية ، غير أنه ولد بمراكش ، وأخذ بالأندلس عن أبي الحسن بن خروف وغير واحد ، ورحل إلى المشرق فأخذ عن أبي عبد الله القرطبي إمام الحرم وغيره ، ولقي جملة (٧) من المشايخ شرقا وغربا.

__________________

(١) في ب ، الديوان : نغيب به عنا.

(٢) في ه : لم تخل عن شذوذ.

(٣) الأعيان : غير موجودة في ب.

(٤) الدّجن : المطر الكثير.

(٥) المفازة : الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.

(٦) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٥ ص ١٨٩.

(٧) في ب ، ه : ولقي جلة من المشايخ.


وهو إمام ، ورع ، صالح ، زاهد ، كان بقية السلف ، وقدوة الخلف ، وقد زهد في الدنيا وتخلى عنها ، وأقام في تفسير الفاتحة نحوا من ستة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام ، حتى من الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى ، وعلى أحكام تلك القوانين وضع كتابه «مفتاح اللب المقفل ، على فهم القرآن المنزل» وهو ممن جمع العلم والعمل ، وصنف في كثير من الفنون كالأصول والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، وكان يقرئ «النجاة» لابن سينا فينقضه عروة عروة ، وكان من أعلم الناس بمذهب مالك ، ولما ظن فقهاء عصره أنه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات قرأ «التهذيب» (١) وأبدى فيه الغرائب ، وبين مخالفته للمدونة في بعض المواضع ، ووقع بينه وبين الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيء ، وطلب عز الدين أن يقف على تفسيره ، فلما وقف عليه قال. أين قول مجاهد؟ أي قول فلان وفلان؟ وكثر القول في هذا المعنى ، ثم قال : يخرج من بلادنا إلى وطنه ، يعني الشام ، فلما بلغ كلامه الشيخ قال : هو يخرج وأقيم أنا ، فكان كذلك ، وله عدة مؤلفات في الفنون ، وقال رحمه الله تعالى : أقمت ملازما لمجاهدة النفس سبعة أعوام ، حتى استوى عندي من يعطيني دينارا ومن يزدريني ، وأصبح ـ رحمه الله تعالى! ـ ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم ، وكانت أم ولده جارية تسمى كريمة ، وكانت سيئة الخلق ، فاشتدّت عليه في الطلب ، وقالت له : إن الأصاغر لا شيء لهم ، فقال لها (٢) ؛ الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوّت به ، فبينما هم كذلك وإذا بالحمّال يضرب الباب ومعه قمح ، فقال لها : يا كريمة ، ما أعجلك! هذا الوكيل بعث بالقمح ، فقالت : ومن يصنعه؟ فأمر فتصدق به ، ثم قال لها : يأتيك ما هو أحسن منه ، فانتظرت يسيرا ، وبدا لها فتكلمت بما لا يليق ، فبينما هم كذلك ، وإذا بحمال سميذ ، فقال لها : هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح ، فلم يقنعها ذلك ، فأمر أيضا بصدقته ، فلما تصدق به زادت في المقال ، وإذا برجل على رأسه طعام ، فقال لها : يا كريمة ، قد كفيت المؤنة ، هذا الوكيل قد لطف بحالك (٣).

ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة ، وأخذوا حليا من زينة النساء ، فزينوا به بعض أصحابهم ، فلما انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدث ويشير بيده ، فقال الشيخ : يد يجعل فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد.

ومنها أنه أصاب الناس جدب ببجاية ، فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء ، فامتنعت كريمة ، ونهرت رسله ، فسمع كلامها ، فقال للرسول : قل لها يا كريمة ، والله لأشربنّ

__________________

(١) في ب ، ه : أقرأ التهذيب.

(٢) لها : غير موجودة في ب.

(٣) في ب ، ه : قد علم بحالك.


من ماء المطر الساعة ، فرمق السماء بطرفه ، ودعا الله سبحانه وتعالى ، ورفع يده به ، وشرع المؤذن في الأذان ، ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه القرب.

وتوفي رحمه الله تعالى بحماة من بلاد الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة ، انتهى ملخصا من «عنوان الدراية» للغبريني (١).

ووقع للذهبي في حقه كلام على عادته في الحط على هذه الطائفة ، ثم قال : ورأيت شيخنا المجد التونسي يتغالى في تفسيره ، ورأيت غير واحد معظما له وموقرا (٢) وقوما تكلموا في عقيدته ، وكان نازلا عند قاضي حماه البارزي وقال لنا شرف الدين البارزي : تزوج بحماة ، وكانت زوجته تشتمه وتؤذيه ، وهو يتبسم ، وإن رجلا راهن جماعة على أن يحرجه ، فقالوا : لا تقدر ، فأتى وهو يعظ وصاح ، وقال له : أنت أبوك كان يهوديا وأسلم ، فنزل من الكرسي ، فاعتقد الرجل أنه غضب وأنه تم له ما رامه حتى وصل إليه فخلع مرطيه (٣) عليه ، وأعطاه إياهما ، وقال له : بشّرك الله بالخير! لأنك شهدت لأبي أنه كان مسلما ، انتهى.

وظاهر كلام الغبريني أن تفسير الشيخ الحرالي كامل ، وقال بعضهم : إنه لم يكمل ، وهو تفسير حسن ، وعليه نسج البقاعيّ مناسباته ، وذكر أن الذي وقف عليه منه من أول القرآن إلى قوله في سورة آل عمران (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧].

وكلام الذهبي في الشيخ يرده كلام الغبريني ، إذ هو أعرف به ، والله تعالى أعلم.

وحكى الغبريني أنه أنشد بين يديه الزجل المشهور :

جنّان يا جنّان

اجن من البستان

الياسمين

واترك الرّيحان

بحرمة الرّحمن

للعاشقين

فسأل بعض عن معناه ، فقال بعض الحاضرين : أراد به العذار ، وقال آخر : إنما أشار إلى دوام العهد ، لأن الأزهار كلها ينقضي زمانها إلا الريحان فإنه دائم ، فاستحسن الشيخ هذا أو وافق عليه.

__________________

(١) الغبريني : هو أحمد بن أحمد بن عبد الله الغبريني البجاوي. مؤرخ أديب له : عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية (معجم المؤلفين ج ١ ص ١٥١).

(٢) وموقرا : غير موجودة في ب.

(٣) في ه : «فخلع قرطيه» والمرط : كساء من صوف أو كتان أو حرير يؤتزر به.


١١٦ ـ ومنهم ولي الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات ، الكبير المقامات ، سيدي أبو العباس المرسي ، نفعنا الله تعالى به!.

وهو من أكابر الأولياء ، صحب سيدي الشيخ ـ الفرد القطب الغوث الجامع سيدي أبا الحسن الشاذلي ، أعاد الله تعالى علينا من بركاته! وخلفه بعده ، وكان قدم من الأندلس من مرسية ، وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات وقد زرته مرارا كثيرة ، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله.

وقد عرّف به الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله (١) في كتابه «لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العباس وشيخه سيدي أبي الحسن ، رضي الله تعالى عنهما».

وقال الصفدي في الوافي : أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس ، الأنصاري المرسي ، وارث شيخه الشاذلي تصوفا الأشعري معتقدا ، توفي بالإسكندرية سنة ٦٨٦ ، ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة ، وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة ٧٣٨ ، قال ابن عرّام سبط الشاذلي : ولو لا قوة اشتهاره وكراماته لذكرت له ترجمة طويلة ، كان من الشهود بالثغر ، انتهى.

وكان سيدي أبو العباس يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى ، حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحتفل به ، وربما دخل عليه عاص فأكرمه ، لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثّر بعمله (٢) ، ناظر لفعله ، وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذل مخالفته ، وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهارة ، ويثقل عليه شهود من كان على صفته ، وذكر عنده يوما شخص بأنه صاحب علم وصلاح ، إلا أنه كثير الوسوسة ، فقال : وأين العلم؟ العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود.

وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز : فمن ذلك أنه قال : قال الله سبحانه وتعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) [الفاتحة : ٢] علم الله عجز خلقه عن حمده ، فحمد نفسه بنفسه في أزله ، فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده ، فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) أي : الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له ، لا ينبغي أن يكون لغيره ، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد. وقال في قول تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة : ٥] :

__________________

(١) ابن عطاء الله : هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندري ، الجذامي الشاذلي. صوفي مشارك في أنواع من العلوم. من مؤلفاته : التنوير في إسقاط التدبير في التصوف ، ولطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس وشيخه أبي الحسن (معجم المؤلفين ج ٢ ص ١٢١).

(٢) في ب : متكثر لعلمه.


إياك نعبد شريعة ، وإياك نستعين حقيقة ، إياك نعبد إسلام ، وإياك نستعين إحسان ، إياك نعبد عبادة ، وإياك نستعين عبودية ، إياك نعبد فرق ، وإياك نستعين جمع ، وله في هذا المعنى وغيره كلام نفيس يدل على عظيم ما منحه الله سبحانه من العلوم اللدنية. وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] بالتثبيت (١) فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل (٢) ، وهذا الجواب ذكره ابن عطية في تفسيره ، وبسطه الشيخ رضي الله تعالى عنه ، فقال : عموم المؤمنين يقولون (٣)(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنهم (٤) حصل لهم التوحيد ، وفاتهم (٥) درجات الصالحين ، والصالحون يقولون (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل ، لأنهم حصل لهم الصلاح ، وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداء ، يقولون (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم درجة الشهادة ، وفاتهم درجة الصديقية ، والصديق كذلك يقول (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ حصلت له درجة الصديقية ، وفاتته درجة القطبانية (٦) ، والقطب كذلك يقول (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فإنه حصلت له رتبة القطبانية ، وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه. وقال رضي الله تعالى عنه : الفتوّة الإيمان ، قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) [الكهف : ١٣]. وقال رضي الله تعالى عنه في قوله سبحانه وتعالى حاكيا عن الشيطان (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف : ١٧] ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام. وقال رضي الله تعالى عنه : التقوى في كتاب الله عز وجل على أقسام : تقوى النار قال الله سبحانه وتعالى (وَاتَّقُوا النَّارَ) [آل عمران : ١٣١] وتقوى اليوم ، قال الله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] وتقوى الربوبية ، قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج الآية: ١ لقمان : ٣٢] وتقوى الألوهية (واتقوا الله) وتقوى الإنية (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة الآية : ١٩٧] وقال رضي الله تعالى عنه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي : لا أفتخر بالسيادة ، وإنما الفخر لي بالعبودية لله ، وكان كثيرا ما ينشد : [السريع]

يا عمرو ناد عبد زهراء

يعرفه السّامع والرّائي

لا تدعني إلّا بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

__________________

(١) في نسخة : بالتثبت.

(٢) في ه : «ليس بحامل» محرفا.

(٣) في ب ، ه : والشهيد يقول :

(٤) في ب : فإنه حصلت له.

(٥) في ب ، ه : وفاته درجة.

(٦) في ب ، ه : وفاتته درجة القطب.


وقال رضي الله تعالى عنه في قول سمنون المحب : [مخلع البسيط]

وليس لي في سواك حظّ

فكيفما شئت فاختبرني

الأولى أن يقول : فكيفما شئت فاعف عني ، إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار.

وقال رضي الله تعالى عنه : الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة ، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال رضي الله تعالى : العارف لا دنيا له ، لأن دنياه لآخرته ، وآخرته لربه. وقال : الزاهد غريب في الدنيا ، لأن الآخرة وطنه ، والعارف غريب في الآخرة. قال بعض العارفين : معنى الغربة في كلام الشيخ رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشّش روحه (١) ، فيكون غريبا في الدنيا ، إذ ليست وطنا لقلبه (٢) ، عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها ، وفيما شهد من عقوبتها ونكالها ، فتغرب في هذه الدار. وأما العارف فإنه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك ، فصار غريبا في الآخرة ، لأن سره مع الله تعالى بلا أين ، فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشّش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق ، أو أرض الخصوص ، فبالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة ، ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين ، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين ، رضي الله تعالى عنهم ، ونفعنا بهم آمين!.

وكلام سيدي الشيخ أبي العباس رضي الله تعالى عنه بحر لا ساحل له ، وكراماته كذلك ، وليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله ، فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي ، وما بقي أكثر.

ومن كراماته رضي الله تعالى عنه أنه عزم عليه إنسان وقدم إليه طعاما يختبره به ، فأعرض عنه ولم يأكله ، ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له : إن الحارث (٣) المحاسبي رضي الله تعالى عنه كان في أصبعه عرق إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه ، وأنا في يدي سبعون عرقا تتحرك علي إذا كان مثل ذلك ، فاستغفر صاحب الطعام ، واعتذر إلى الشيخ ، رضي الله تعالى عنه ونفعنا به!.

١١٧ ـ ومنهم أبو إسحاق الساحلي ، المعروف بالطّويجن ـ بضم الطاء المهملة ، وفتح

__________________

(١) معشّش : اسم مكان من الفعل عشّش.

(٢) في ه : إذ ليست بوطن لقلبه.

(٣) الحارث المحاسبي : هو الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد المشهور أبو عبد الله البغدادي صاحب التصانيف. مات سنة ثلاث وأربعين. (تقريب التهذيب ج ١ ص ١٣٩).


الواو ، وسكون الياء التحتية ، وكسر الجيم ، وقيل بفتحها ـ العالم المشهور ، والصالح المشكور ، والشاعر المذكور ، من أهل غرناطة من بيت صلاح وثروة وأمانة ، وكان أبوه أمين العطارين بغرناطة ، وكان مع أمانته من أهل العلم فقيها متقنا (١) متفننا ، وله الباع المديد في الفرائض.

وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثّقا (٢) بسماط شهود غرناطة ، وارتحل عن الأندلس إلى المشرق ، فحج ، ثم سار إلى بلاد السودان فاستوطنها ، ونال جاها مكينا من سلطانها ، وبها توفي ، رحمه الله تعالى! انتهى ملخصا من كلام الأمير ابن الأحمر في كتابه «نثير الجمان ، فيمن نظمني وإياه الزمان».

وقال أبو المكارم منديل بن آجرّوم : حدثني من يوثق بقوله أن أبا إسحاق الطويجن كانت وفاته يوم الاثنين ٢٧ جمادى الأخيرة سنة ٧٤٧ بتنبكتو موضع بالصحراء من عمالة مالي (٣) ، رحمه الله تعالى! ثم ضبط الطويجن بكسر الجيم ، قال : وبذلك ضبطه بخط يده رحمه الله تعالى ، قال : ومن نسبه للساحلي فإنه نسبه لجده للأم ، انتهى.

١١٨ ـ ومنهم الشيخ الأديب الفاضل المعمر ضياء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن عفيف ، الخزرجي ، الساعدي.

من أهل غرناطة ، ويشهر بالخزرجي ، مولده ببيغة ، رحل عن الأندلس قديما واستقر أخيرا بالإسكندرية ، وبها لقيه الحافظ ابن رشيد غير مرة ، وقد أطال في رحلته في ترجمته ، إلى أن قال : وذكره صاحبنا أبو حيان ، وهو أحد من أخذ عنه ولقيه ، فقال : تلا القرآن بالأندلس على أبي الوليد هشام بن واقف المقري ، وسمع بها من أبي زيد الفازازي العشرينيات ، وسمع بمكة من شهاب الدين السّهروردي صاحب «عوارف المعارف» وتلا بالإسكندرية على أبي القاسم بن عيسى ، ولا يعرف له نظم في أحد من العالم إلا في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن شعره يعارض الحريري :

أهن لأهل البدع

والهجر والتّصنّع

ودن بترك الطّمع

__________________

(١) متقنا : ساقطة في ب ، ه.

(٢) الموثق الذي يكتب التوثيقات الشرعية.

(٣) مالي : من ممالك السودان المتاخمة لبلاد المغرب.


ولذ بأهل الورع

وعدّ عن كلّ بذي

لم يكترث بالنبذ

والهج ببرّ جهبذ

وعالم متّضع

واندب زمانا قد سلف

ولم تجد منه خلف

وابعث بأنواع الأسف

رسائل التّضرّع

وهي طويلة فلتراجع ترجمته في «ملء العيبة» لابن رشيد ، رحمه الله تعالى!.

١١٩ ـ ومنهم الفقيه الجليل ، العارف النبيل ، الحاذق الفصيح البارع أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر ، الشهير بابن سبعين ، العكي ، المرسي ، الأندلسي ، ويلقب من الألقاب المشرقية بقطب الدين.

قال الشيخ المؤرخ ابن عبد الملك : درس العربية والآداب بالأندلس ، ثم انتقل إلى سبتة ، وانتحل التصوف ، وعكف برهة على مطالعة كتبه ، والتكلم على معانيها ، فمالت إليه العامة ، ثم رحل إلى المشرق ، وحج حججا ، وشاع ذكره ، وعظم صيته ، وكثر أشياعه ، وصنف أوضاعا كثيرة تلقوها منه ، ونقلوها عنه ، ويرمى بأمور الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها ، وكان حسن الأخلاق ، صبورا على الأذى ، آية في الإيثار ، انتهى.

وقال غير واحد : إن أغراض الناس فيه متباينة ، بعيدة عن الاعتدال ، فمنهم المرهق المكفر ، ومنهم المقلد المعظم الموقر ، وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد ، والنفرة والانتقاد ، ما لم يقع لغيره ، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره ، ولما ذكر الشريف الغرناطي عنه أنه كان يكتب عن نفسه «ابن ه» يعني الدارة التي هي كالصفر ، وهي في بعض طرق المغاربة في حسابهم سبعون ، وشهر لذلك بابن دارة ـ ضمن فيه البيت المشهور : [الطويل]

محا السّيف ما قال ابن دارة أجمعا(١)

حسبما ذكره الشريف في شرح مقصورة حازم ، وقد طال عهدي به فليراجعه من ظفر به.

__________________

(١) البيت للكميت بن معروف الفقعسي وهو :

فلا تكثروا فيه الضجاج فإنه

محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا


وقال صاحب «درة الأسلاك» (١) في سنة ٦٦٩ ، ما صورته (٢) : وفيها توفي الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن سبعين المرسي ، صوفي متفلسف ، متزهد متقشف ، يتكلم على طريق أصحابه ، ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه ، شاع أمره ، واشتهر ذكره ، وله تصانيف وأتباع ، وأقوال يميل إليها بعض القلوب وتملها بعض الأسماع ، وكانت وفاته بمكة المشرفة عن نحو خمسين سنة ، تغمده الله تعالى برحمته! انتهى.

وقال بعض الأعلام في حق ابن سبعين : إنه كان رحمه الله تعالى عزيز النفس ، قليل التصنع ، يتولى خدمة الكثير من الفقراء والسّفارة أصحاب العبادات (٣) والدفافيس (٤) بنفسه ، ويحفون به في السكك ، ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء كثر عليه التأويل ، ووجهت لألفاظه المعاريض ، وفليت موضوعاته ، وتعاورته الوحشة ، وجرت بينه وبين الكثير من أعلام المشرق والمغرب خطوب يطول ذكر.

ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور ، وأظن اسمه يحيى بن محمد (٥) بن أحمد بن سليمان ، وسماها «بالوراثة المحمدية ، والفصول الذاتية» ما صورته : فإن قيل : ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه؟ قلنا : عدم النظير ، واحتياج الوقت إليه ، وظهور الكلمة المشار إليها عليه ، ونصيحته لأهل الملة ، ورحمته المطلقة للعالم المطلق ، ومحبته لأعدائه ، وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه ، وعفوه عنهم مع قدرته عليهم ، وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه ، وهذه كلها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحدا أن يتصف بها إلا بمجد أزلي وتخصيص إلهي ، وها أنا أصف لك بعض ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الأمور التي هي خارقة للعادة ، ونلغي عن الأمور الخفية التى لا نعلمها ، ونقصد الأمور الظاهرة التي نعلمها ، والتي لا يمكن أحدا أن يستريب (٦) فيها إلا من أصمه الله تعالى وأعماه ، ولا يجحدها إلا حسود قد أتعب الله تعالى قلبه وأنساه رشده ، ونعوذ بالله ممن عاند من الله تعالى مساعده ومؤيده ، وهو معه بنصره وعونه ، فما أتعب معانده ، وما أسعد موادده ، وما أكبت مرادده ، فنبدأ بذكر ما وعدنا ، فنقول :

__________________

(١) درة الأسلاك في دولة الأتراك لمحمد بن حبيب الحلبي (انظر كشف الظنون ج ١ ص ٧٣٧).

(٢) في ب : العباءات.

(٣) كثر التصحيف في هذه الكلمة فجاءت تارة الدفافيس ، وتارة الدنافيس ، وتارة الدقاقيس. لعل الدفافيس نوع من الثياب الخشنة ، ولا يمكن الجزم فيها.

(٤) في ب ، ه : يحيى بن أحمد بن سليمان.

(٥) في ه : «يتريب». وما أثبتناه في ب ، ج وهو أدق. ويستريب : يقع في الشك ، أو يرى ما يريبه.

(٦) في ب ، ه : أول ما ذكر في شرفه.


الأول : في شرفه واستحقاقه لما ذكرنا ، كونه خلقه الله تعالى من أشرف البيوت التي في بلاد المغرب ، وهم بنو سبعين ، قرشيا ، هاشميا ، علويا ، وأبواه وجدوده يشار إليهم ، ويعوّل في الرياسة والحسب والتعين عليهم.

والثاني : كونه من بلاد المغرب ، والنبي عليه السلام قال : «لا يزال طائفة من أهل المغرب ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة» (١) وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه ، فهو المشار إليه بالحديث ، ثم نقول : أهل المغرب أهل الحق ، وأحق الناس بالحق وأحق المغرب بالحق علماؤه لكونهم القائمين بالقسط ، وأحق علمائه بالحق محققهم وقطبهم الذي يدور الكل عليه ويعول في مسائلهم ونوازلهم السهلة والعويصة عليه فهو حق المغرب ، والمغرب حق الله تعالى ، والملة حق العالم ، فهو المشار إليه بالوراثة ، ثم نقول : أهل المغرب ظاهرون على الحق ، أي على الدين ، والحق سر الدين ، والمحقق سر الحق ، فالمحقق سر الدين ، فهو المشار إليه بالوراثة. ثم نقول : أهل الله خير العالم ، وأهل الحق هم خير أهل الله ، والمحقق خير أهل الحق ، فالمحقق خير العالم ، فهو المشار إليه ، ثم نقول : انظر في بدايته وحفظ الله سبحانه (٢) له في صغره ، وضبطه له من اللهو واللعب ، وإخراجه من اللذة الطبيعية التي هي في جبلّة البشرية ، وتركه للرياسة العرضية المعول عليها عند العالم ، مع كونه وجدها في آبائه ، وهي الآن في إخوته ، وخروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه ، وانقطاعه إلى الحق انقطاعا صحيحا تعلم تخصيصه وخرقه للعادة ، ثم انظر في تأيده وفتحه من الصغر ، وتأليف كتاب بدء العارف وهو ابن خمس عشرة سنة ، وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعملية ، وجميع الأمور السّنية والسّنية ، تجده خارقا للعادة ، وفي نشأته في بلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنه خارق للعادة ، وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلها ، ثم انفرادها وغرابتها وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق تعلم أنه (٣) مؤيد بروح القدس ، وفي شجاعته وقوة عزمه ونصره (٤) لصنائعه وظهور حجته على خصمائه وإقامة حقه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوة إلهية وعناية ربانية ، وفي امتحان أهل المغرب له ، واجتماعهم

__________________

(١) في ب : «لا يزال أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة».

(٢) في ب ، ه : وحفظ القديم له في صغره.

(٣) في ب ، ه : بأنه.

(٤) في ب ، ه : وقوة توكله ونصره لصنائعه.


عليه في كل بلد معتبر للمناظرة ، ويظهر الله تعالى حجته ، ويقمع خصمه ، ويكبت عدوه (١) ، ويعجز معارضه ، ويفحم معترضه ، وفي غيرة الحق عليه ، وهلاك من تعرض بالأذى إليه ـ يعلم العاقل المخصوص ، أنه عند الله مخصوص ، وفي خلقه وقهره لقواه النزوعية والغضبية وإسلام قرينه وجلالة قوته الحافظة التي لا تنسى شيئا والمفكرة التي تتصور الذوات المجردة والمعلومة سر عين الطيف (٢) ، وكذلك الذاكرة وسرعة ظهوره وانتشار رايته واستجلاب ثنائه في الجهات كلها ، وبالجملة جميع ما ذكرت فيه هو خارق (٣) للعادة البشرية ، ومعجز لمعارضه من كل الجهات ، ولو لا خوف التطويل لكنت أفصّل كل صفة ذكرت فيه بالكلام الصناعي ، ونقيم الأدلة القطعية على تعجيزها ، ولكن أعطيت الأنموذج ، وعرفت أن النبيه يمعن فكره ، ويجد ذلك كله (٤) كما قلته ، وبالجملة جميع جزئياته إذا تؤملت توجد خارقة للعادة ، وتشهد لها ماهية الوجود بالتخصيص ، فصح أنه هو المشار إليه ، والمعول في جملة الأمور عليه ، وإنما أعطيت الأمر المشهور ، وتركت ما يعلم منه من خرق العوائد في ظهور الطعام والشراب والسمن والتمر وأخذ الدراهم من الكون ، وإخباره عن وقائع قبل وقوعها بسنين كثيرة وظهرت كما أخبر ، فصح أنه هو المذكور ، انتهى ما تعلق به الغرض مما في الرسالة في شأن الشيخ ابن سبعين.

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين ـ ومنهم لسان الدين بن الخطيب في «الإحاطة» كما سيأتي قريبا ـ أن ابن سبعين عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها ، فعظم عليه بذلك الحمل ، وقبحت الأحدوثة عنه ، انتهى.

لكن قال شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الأديب الشهير ، وهو صاحب كتاب السكردان وديوان الصبابة ومنطق الطير والاعتراض على العارف بالله تعالى ابن الفارض ، ما معناه : أخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن بن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكة وكانت له معرفة تامة بهذا الرجل ، أنه صده عن زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا قرب من باب من أبواب مسجد المدينة على ساكنها الصلاة والسلام يهراق منه دم كدم الحيض (٥) ، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره ، انتهى.

وقال غيره : نعم زار النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا على طريق المشاة ، حدّث بذلك أصهاره بمكة ، انتهى.

__________________

(١) كبت عدوه : أذله ، أهلكه.

(٢) هكذا في ج ، وفي ب ، ه : «وأسرعين الطيف» وهو غير مفهوم ولعله محرّف عن «أسرع من الطيف».

(٣) في ب ، ه : جميع ما ذكرت هو فيه خارق للعادة البشرية.

(٤) كله : غير موجودة في ب.

(٥) يهراق ، ويراق : يصب ، يسفك ، يسيل.


وقال لسان الدين : أما شهرته ومحله من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمق في الفلسفة والقيام على مذاهب المتكلمين فما يقضي منه بالعجب.

وقال الشيخ أبو البركات بن (١) الحاج البلفيقي رحمه الله تعالى : حدثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله بن هود سالم طاغية النصارى ، فنكث به ، ولم يف بشرطه ، فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس الأعظم برومية ، فوكل أبا طالب بن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلم عنه ، والاستظهار بين يديه ، قال : فلما بلغ ذلك الشخص رومية ، وهو بلد لا يصل إليه المسلمون ، ونظر إلى ما بيده ، وسئل عن نفسه ، فأخبر بما ينبغي ، كلّم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه : اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه ، انتهى.

وقال غير واحد : إنه ظهر منه (٢) واشتهرت عنه أشياء كثيرة الله تعالى أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه منها : فمنها قوله ـ فيما زعموا ـ وقد جرى ذكر الشيخ ولي الله سيدي أبي مدين نفعنا الله تعالى ببركاته : «شعيب عبد عمل ، ونحن عبيد حضرة» وممن حكى هذا لسان الدين في الإحاطة (٣).

وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان المستنصر بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية وما إليها : أن أهل مكة بايعوه ، وخطبوا له بعرفة ، وأرسلوا له بيعتهم ، وهي من إنشاء ابن سبعين ، وسردها ابن خلدون بجملتها ، وهي طويلة ، وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمح وراءه ، غير أنه يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشر به في الأحاديث الذي يحثو المال ولا يعدّه (٤) ، وحمل حديث مسلم وغيره عليه ، وذلك ما لا يخفى ما فيه ، فليراجع كلام ابن خلدون في محله.

ولابن سبعين من رسالة : سلام عليك ورحمة الله ، سلام عليك ثم سلام مناجاتك ، سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها ، السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته ، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك ، وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك ، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا قياس الكمال ، ومقدمة العلم ، ونتيجة الحمد ، وبرهان المحمود ، ومن إذا نظر الذهن إليه

__________________

(١) في ب : أبو البركات بن الحاج ..

(٢) ظهر منه و : سقط من ب.

(٣) انظر الإحاطة ص ٣١٩.

(٤) يحثو المال : يصبه.


قرأ (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٣٠] ، السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء ، وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء ، السلام عليك يا من جاوز في السماوات مقام الرسل والأنبياء ، وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملأ الأعلى ، وذكر قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) [الأعلى : ١] وقال بعضهم عند إيراده جملة من رسائله التي منها هذه : إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع ، انتهى.

وقال بعض العلماء الأكابر ، عند تعرضه لترجمة الشيخ ابن سبعين المترجم به ، ما نصه ببعض اختصار : هو أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم ، وتعدد المعارف ، وكثرة التصانيف ، ولد سنة ٦١٤ ، ودرس العربية والأدب بالأندلس ، ونظر في العلوم العقلية ، وأخذ عن أبي إسحاق بن دهاق ، وبرع في طريقه ، وجال في البلاد ، وقدم القاهرة ، ثم حج واستوطن مكة ، وطار صيته ، وعظم أمره ، وكثر أتباعه ، حتى إنه تلمذ له أمير مكة ، فبلغ من التعظيم الغاية ، وله كتاب «الدرج» وكتاب «السفر» وكتاب «الأبوبة اليمنية» وكتاب «الكد» وكتاب «الإحاطة» ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم.

ومن شعره : [البسيط]

كم ذا تموّه بالشّعبين والعلم

والأمر أوضح من نار على علم (١)

وكم تعبّر عن سلع وكاظمة

وعن زرود وجيران بذي سلم

ظللت تسأل عن نجد وأنت بها

وعن تهامة ، هذا فعل متّهم

في الحيّ حيّ سوى ليلى فتسأله

عنها؟ سؤالك وهم جرّ للعدم

ونشأ رحمه الله تعالى ترفا مبجلا في ظل جاه ونعمة (٢) ، لم تفارق معها نفسه البأو (٣) ، وكان وسيما ، جميلا ، ملوكي البزة ، عزيز النفس ، قليل التصنع ، وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده ، رحمه الله تعالى!.

وقال في الإحاطة : للناس في أمره اختلاف بين الولاية وضدها (٤) ، ولما وجه إلى كلامه

__________________

(١) العلم : الجبل.

(٢) الترف : ذو الترف. والترف : التنعم وسعة العيش ، ومبجلا : معظما.

(٣) البأو : عزة النفس.

(٤) في الإحاطة : «وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة بعيدة عن الاعتدال».


سهام الناقدين (١) قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك ، والخوض في تلك البحار والاطلاع ، وساءت منهم في الممازجة له السيرة ، فانصرفوا عنه مكلومين (٢) ، يبذرون عنه في الآفاق من سوء القالة ما لا شيء فوقه ، وجرت بينه وبين أعلام المشرق خطوب ثم نزل مكة (٣) ، وعاقه الخوف من أمير المدينة النبوية (٤) عن الدخول إليها إلى أن توفي فعظم بذلك الحمل عليه ، وقبحت الأحدوثة عنه ، ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية ـ وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتا للمسلمين ـ انتدب للجواب المقنع عنها ، على فتاء من سنه (٥) ، وبديهة من فكرته ، رحمه الله تعالى! انتهى.

وقال بعض من عرف به : إنه من أهل مرسية ، وله علم وحكمة ومعرفة ونباهة وبراعة وفصاحة وبلاغة.

وقال في «عنوان الدراية» (٦) : رحل إلى العدوة ، وسكن ببجاية مدة ، ولقي من أصحابنا ناسا ، وأخذوا عنه ، وانتفعوا به في فنون خاصة ، له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها ، وله فصاحة لسان ، وطلاقة قلم ، وفهم جنان (٧) ، وهو أحد العلماء (٨) الفضلاء ، وله أتباع كثيرة من الفقراء ومن عامة الناس ، وله موضوعات كثيرة هي موجودة بأيدي أصحابه ، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد ، وله تسميات مخصوصة في كتبه هي نوع من الرموز ، وله تسميات ظاهرة هي كالأسامي المعهودة ، وله شعر في التحقيق ، وفي مراقي أهل الطريق ، وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء ، وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام ، والتزامه الاعتمار على الدوام ، وحجه مع الحجاج في كل عام ، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام ، ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن لهم في غير مدّته ، وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله ، ويهتدون بأفعاله.

توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس تاسع شوّال سنة ٦٦٩ ، انتهى ببعض اختصار.

وذكر رحمه الله تعالى في ترجمة تلميذه الشيخ أبي الحسن الششتري السابق الذكر أن

__________________

(١) في الإحاطة : «ولما توفرت دواعي النقد عليه».

(٢) في ه ، وفي الإحاطة : مكظومين.

(٣) ثم نزل مكة : زيادة من الإحاطة.

(٤) النبوية : زيادة من الإحاطة.

(٥) الفتاء في السن : الحداثة في السن.

(٦) في عنوان الدراية ص ١٣٩ ـ ١٤٠ وهو أيضا في الإحاطة ص ٢١٨.

(٧) الجنان : القلب ، الروح.

(٨) العلماء : ساقطة من ب.


أكثر الطلبة يرجّحونه على شيخه أبي محمد بن سبعين ، وإذا ذكر له هذا يقول : إنما ذلك لعدم اطلاعهم على حال الشيخ وقصور باعهم (١).

ومن تآليف (٢) ابن سبعين «الفتح المشترك» ومما حكاه صاحب «عنوان الدراية» في ترجمة الششتري ـ مما لم نذكره في ترجمته الماضية ، ورأينا ذكره هنا تبركا أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية ، وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول : إلينا يا أحمد ، فقيل له : من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية؟ فقال لهم : من تسرون به غدا إن شاء الله تعالى ، فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس ، فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور ، فقال الشيخ للفقراء وأصحابه (٣) : هنيئا لنا باقتحام العقبة ، صافحوا أخاكم ، المنادى به.

ومن مناقبه ـ نفع الله تعالى به! ـ أنه لما نزل بلدة قابس (٤) برباط البحر المعروف بالصهريج (٥) جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرنانيّ (٦) نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة ، فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصّنهاجي ـ نفع الله تعالى به! ـ مع جملة أصحابه للزيارة ، فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة ، فجلسوا لانتظاره ، فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر ، فلما دخل الرباط سلم على الواصلين برسم الزيارة ، وحيّا المسجد ، وأقبل على الفقراء ، وأثر العبرة على وجنته ، فقال : ائتوني بمداد ، فلما أحضر بين يديه تأوّه تأوّها شديدا كاد أن يحرق بنفسه جليسه ، وجعل يكتب على لوح (٧) هذه الأبيات : [السريع]

لا تلتفت بالله يا ناظري

لأهيف كالغصن النّاضر

يا قلب واصرف عنك وهم البقا

وخلّ عن سرب حمى حاجر

ما السّرب والبان وما لعلع

ما الخيف ما ظبي بني عامر؟

__________________

(١) في ب ، ه : وقصور طباعهم.

(٢) في أ : ومن تأليف ابن سبعين ..

(٣) وأصحابه : ساقطة من ب.

(٤) في ب ، ه : «لما نزل ببلدة قابس» وقابس بلدة بين طرابلس وسفاقس. (انظر معجم البلدان ج ٤ ص ٢٨٩).

(٥) في ب : المعروف بمسجد الصهريج ..

(٦) في ج : الزرقاني ، وفي عنوان الدراية : الورقاني. وفي نسخة عنه ه : الزناني.

(٧) في ب ، ه : يكتب في اللوح.


جمال من سمّيته داثر

ما حاجة العاقل بالدّاثر

وإنّما مطلبه في الّذي

هام الورى من حسنه الباهر ـ (١)

أفاد للشّمس سنى كالّذي

أعاره للقمر الزّاهر

أصبحت فيه مغرما حائرا

لله در المغرم الحائر

وكانوا يوما ببلد مالقة ، وكثيرا ما يجوّد عليه القرآن العزيز ، فقرأ طالب قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] فقال معجلا رضي الله تعالى عنه ، وفهم من الآية ما لم يفهم ، وعلم منها ما لم يعلم : [البسيط]

انظر للفظ أنا يا مغرما فيه

من حيث نظرتنا لعلّ تدريه

خلّ ادّخارك لا تفخر بعارية

لا يستعير فقير من مواليه(٢)

جسوم أحرفه للسّرّ حاملة

إن شئت تعرفه جرّب معانيه

ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن بن علال ، من أهل الأمانة والديانة ، فوجده يذاكر بعض أهل العلم ، فاستحسن منه إيراده للعلم ، واستعماله لمحاضرة الفهم ، فاعتقد شياخته وتقديمه ، ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دينارا شكرا لله تعالى ، ويأتيهم بمأكول ، فلما يسر جميع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ ، ليكون للفقراء زادا ، فلما كان في الليل رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما ، قال الرجل : فنهضت إليه بسرور رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، وقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى لي ، فالتفت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وقال : «يا أبا بكر ، أعطه» ، فإذا به رضي الله عنه قسم رغيفا كان بيده وأعطاني نصفه ، ثم أفاق الرجل من منامه ، وأخذه وجد من هذه الرؤيا المباركة ، فأيقظ أهله ، واستعمل نفسه في العبادة ، فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها ، فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ : يا علي ، اقرب ، فلما قرب قال له : يا علي ، لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكماله (٣) ، انتهى.

١٢٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ، الشهير بابن غصن ، الإشبيلي

__________________

(١) في ب ، ه : هام الورى في حسنه الباهر.

(٢) العارية : المعارة.

(٣) في ب : بكامله.


من ولد شدّاد بن أوس الأنصاري ، الجزيري ، نسبة إلى الجزيرة الخضراء ، الإمام ، المقري ، الزاهد ، عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطأ من حفظه ، وأخذ عنه النحو ، وكان من أولياء الله تعالى الصالحين ، وعباده الناصحين ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، قوّالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، عارفا بمتون الحديث وأحكامه ، فقيها عارفا (١) متقنا لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين ، لا يقبل من أحد شيئا ، مخلصا لله تعالى ، يتكلم على المنبر على عادة أهل العلم من تعليم المسائل الدينية ، وأقرأ القرآن بمكة مدّة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس ، وممن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم ، والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم ، وله مصنفات في القراءات : منها «مختصر الكافي» وكتاب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، ومولده سنة ٦٣١ (٢) تخمينا ، وتوفي ببيت المقدس آخر سنة ٧٢٣ ، رحمه الله تعالى!.

١٢١ ـ ومنهم الشيخ الفقيه ، الأستاذ ، النحوي ، التاريخي ، اللغوي ، أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري ، اللّبلي ، يكنى أبا العباس وأبا جعفر.

قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشّلوبين (٣) ، ثم ارتحل إلى العدوة ، وسكن بجاية ، وأقرأ بها مدّة ، وارتحل إلى المشرق فحج ، ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطنا ، واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات ، كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية ، وله علم جليل باللغة ، وله تواليف كثيرة : منها على الجمل ، و «شرح الفصيح» لثعلب ، ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب.

قال الغبريني رحمه الله تعالى : ورأيت له تأليفا في الأذكار ، وله عقيدة في علم الكلام ، ورأيت له مجموعا سماه «الإعلام ، بحدود قواعد الكلام» تكلم فيه على الكلم الثلاث ، الاسم والفعل والحرف ، وله تواليف أخر ، وكان من أساتيذ إفريقية في وقته (٤) ، وممن أخذ عنه ، واستفيد منه ، انتهى.

__________________

(١) عارفا : ساقطة من ب.

(٢) في غاية النهاية : سنة ٦٥٣.

(٣) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله أبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين. (انظر ترجمته في بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥).

(٤) أساتيذ : جمع أستاذ ، وهو المعلم ، والرئيس ، والعالم ، والماهر في صناعة يعلمها غيره. ويجمع أستاذ على أساتذة ، وأساتيذ ، وأستاذين.


وذكر الشيخ أبو الطيب بن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفا سماه «التجنيس» وله شرح أبيات الجمل ، سماه «وشي الحلل» رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس ، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم ، وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده ، فحكى أبو عبد الله القطان المسفر ـ وكان يخدم حازما ـ قال : كنت يوما بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب ، فسمعت نقر الباب ، فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر ، فرجعت وأخبرت أبا الحسن ، فقام مبادرا حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه ، فرأى الكتاب بين يديه ، فقال له : يا أبا الحسن ، قال الشاعر : [الطويل]

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

(١) فقال له : يا فقيه أبا جعفر ، أنت سيدي وأخي ، ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق ، والعلم لا يحتمل المداهنة ، فقال له : فأخبرني بما عثرت عليه ، قال له : نعم ، فأظهر له مواضع ، فسلّمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه.

وأصل هذا اللّبلي من لبلة قرية بالأندلس ، اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد ، وكان نحويا ، فلما دخل عليه اللّبلي قال له القاضي : خير مقدم ، ثم سأله بعد حين : بم انتصب خير مقدم؟ فقال له اللبلي : على المصدر ، وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها ، وقد ذكره سيبويه ، ثم سرد عليه الباب من أوله إلى آخره ، فإنه كان يحفظ أكثره ، فأكرمه القاضي وعظمه.

ثم قال ابن علوان : وذكر والدي أيضا رحمه الله تعالى ، ومن خطه المبارك نقلت ، أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور رحمه الله تعالى قرىء عليه يوما قول امرئ القيس : [الكامل]

حيّ الحمول بجانب العزل

إذ لا يلائم شكلها شكلي

فقال لطلبته : ما العامل في هذا الظرف يعني «إذ»؟ فتنازعوا القول ، فقال : حسبكم ، قرىء هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشّلوبين ، فسألنا هذا السؤال ، وكان أبو الحسن بن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس ، وكان الشلوبين يغض منه ، فقال لنا : إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل ، يعني ابن عصفور ، فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا ، ودخلنا المسجد ، فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة ، وهو يتكلم بغرائب النحو ، فلم نجسر على سؤاله لهيبته ، وانصرفنا ، ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي ، فنسي حتى قرىء عليه قول النابغة : [البسيط]

__________________

(١) كليلة : كلّ السيف : لم يقطع. وكلّ البصر أو اللسان : لم يحقق المنظور أو المنطوق.


فعدّ عمّا ترى إذ لا ارتجاع له (١) :

فتذكر ، وقال : ما فعلتم في سؤال ابن عصفور؟ فصدقنا له الحديث ، فأقسم ألّا يخبرنا ما العامل فيه ، ثم قال اللّبلي لطلبته : وأنا أقول لكم مثل ذلك ، فانظروا لأنفسكم ، قالوا : فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر ، كلما حكمنا بحكم صدّتنا عنه قوانين نحوية ، حتى مضت مدة طويلة ، فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع ، وكان ابن أبي الربيع هذا ساكنا بسبتة ، وهو أحد طلبة الشلوبين أيضا ، ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده ، قالوا : فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية ، فمرت هذه المسألة في قوله تعالى : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) [الشعراء : ٩٨] فقال هذا الطالب : إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة ، فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي ، ثم ناقشنا الطالب وقلنا له : إذا جعلته ظرفا فلا بد من العامل ، وإذا جعلته واقعا موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين ، والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع ، وإنما الأولى أن يقال : إذ حرف معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن ، والله أعلم بغيبه ، انتهى.

١٢٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح (٢) القرطبي.

قال الحافظ المقريزي : وفرح بسكون الراء ، وقال الحافظ عبد الكريم في حقه : إنه كان من عباد الله الصالحين ، والعلماء العارفين الورعين ، الزاهدين في الدنيا ، المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة ، فيما بين توجه وعبادة وتصنيف ، جمع في تفسير القرآن كتابا خمسة عشر مجلدا ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلدين ، وله كتاب «التذكرة ، في أمور الآخرة» في مجلدين ، وشرح «التفصي» (٣) وله تآليف غير ذلك مفيدة ، وكان مطرح التكلف ، يمشي بثوب واحد ، وعلى رأسه طاقية ، سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب «المفهم ، في شرح مسلم» بعض هذا الشرح ، وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي ، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري ، وغيرهما ، وتوفي بمنية ابن خصيب (٤) ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة ٦٧١ ، ودفن بها ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) هذا الشطر من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح فيها النعمان بن المنذر ومطلع القصيدة :

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

والبيت هو :

فعدّ عما ترى إذ لا ارتجاع له

وانم القتود على عيرانه أجد

(٢) هو مؤلف كتاب «جامع أحكام القرآن» في التفسير.

(٣) في ب ، ه : التقصي.

(٤) في ب ، ه : بمنية بني خصيب.


وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه : كان شيخا فاضلا ، وله تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه ، منها «تفسير القرآن» مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلدا ، انتهى.

وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته : قد أجحف المصنف في ترجمته جدا ، وكان متقنا (١) متبحرا في العلم ، انتهى.

وكتب بعض بأثر هذا الكلام ما نصه : قال الذهبي : رحل وكتب وسمع ، وكان يقظا ، فهما ، حسن الحفظ ، مليح النظم ، حسن المذاكرة ، ثقة ، حافظا ، انتهى.

وكتب آخر أثر ذلك الكلام ما صورته : مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة مالها فائدة ، فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام : العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح ، الإمام ، القرطبي ، إمام متفنن ، متبحر في العلم ، له تصانيف مفيدة ، تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله ، ثم ذكر موته ، وقال بعده : وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان ، وله «الأسنى ، في شرح الأسماء الحسنى» و «التذكرة» وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه ، انتهى.

وكتب آخر بأثر (٢) هذا الكلام ما نصه : غفر الله لك! إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت ، وهو والله فوق ذلك ، فكيف تقول : إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها ، وتسيء الأدب معه ، وتقول إن كلامه لا فائدة فيه؟ فالله يستر عليك! انتهى.

١٢٣ ـ ومنهم أبو القاسم بن حاضر ، الجزيري ، الخزرجي ، محمد بن أحمد.

من جزيرة شقر ، قدم مصر ، وسكن قوص (٣) بعد ما كان من عدول بلنسية ، وكان فصيحا ، عالما بصناعة التوريق ، وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه ، ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة ، رحمه الله تعالى!.

١٢٤ ـ ومنهم أبو القاسم التّجيبي ، محمد بن أحمد التّجيبي.

من أهل بلّش ، قرأ على ابن مفرّج وابن أبي الأحوص ، ورحل فاستوطن القاهرة ، وكان شيخا فاضلا خيرا ، له أدب وشعر ، منه قوله من أبيات : [الكامل]

__________________

(١) في ب ، ه : متفننا.

(٢) في ب : بإثر هذا الكلام.

(٣) قوص : مدينة كبيرة واسعة ، قصبة صعيد مصر ، بينها وبين الفسطاط اثنا عشر يوما وهي شديدة الحر لقربها من البلاد الجنوبية (معجم البلدان ج ٤ ص ٤١٣).


أحوى الجفون له رقيب أحول

الشّيء في إدراكه شيئان

يا ليته ترك الّذي أنا مبصر

وهو المخيّر في الغزال الثّاني

ولد ببلّش سنة ٦٢٣ ، وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة ٦٩٥ ، وممن روى عنه نحويّ الزمان أثير الدين ابن حيّان وغيره ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٢٥ ـ ومنهم أبو بكر الخزرجي ، محمد بن أحمد بن حسن ، وقيل : محمد بن عيسى ، المالقيّ ، المالكي.

قال الشريف أبو القاسم : إنه كان أحد الزهاد الورعين ، وعباد الله المتقين ، مشتغلا بنفسه ، متخليا عما في أيدي الناس ، يأكل من كسب يده ، ولا يقبل لأحد شيئا ، مع وجد وعلم (١) وعمل وفضل وأدب ، ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له.

وقال الحافظ عبد الكريم : إنه دخل إشبيلية ، واشتغل بالعربية على الشّلوبين وقرأ القراءات السبع ، ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك ، وكان والده نجارا ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، يخيط الثياب ، فازدحم الناس عليه تبركا به ، فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه ويتصدق بما فضل عنه ، وكان شديد الزهد ، كثير العبادة ، لا يسلم يده إلى أحد ليقبلها ، وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد ، فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر ، فعلم بذلك الساكن بعد مدة ، فقال له : يا سيدي ما سألت إلا شفاعة ، وأنت تزن عني (٢) ، فقال له : رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه؟ والله ما يدفع هذا إلا أنا ، فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيرها ، ومات ليلة الاثنين (٣) الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ٦٥١ ، عن خمس وأربعين سنة ، ودفن بالقرافة ، رحمه الله تعالى ، ونفعنا به!.

١٢٦ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي ، مولاهم ، لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة.

ولد في شهر رمضان سنة ٣٢٢ ، بقرطبة ، وسمع بها من وهب بن مسرة ، وخالد بن سعيد وغيره (٤) ، ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق ، وأبا علي بن السكن ونظراءهم في سنة ٣٤٩ ، وعاد إلى بلده ، وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة.

__________________

(١) وعلم : ساقطة من ب.

(٢) في ب : وأنت تنقد عني.

(٣) الاثنين : ساقطه من ب.

(٤) في الصلة : خالد بن سعد.


قال ابن بشكوال (١) : كان رجلا صالحا فاضلا ، من أهل الاجتهاد في العبادات (٢) مائلا إلى التقشف والزهادة ، قديم الطلب ، حسن المذهب ، متبعا للسنن.

١٢٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سلمان (٣) بن أحمد بن إبراهيم ، الزهري ، الأندلسي ، الإشبيلي.

ولد بمالقة ، وطاف الأندلس ، وطلب العلم ، وحصل طرفا صالحا من علم الأدب ، ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة ، فسمع الحديث بها ، ودخل الشام وبلاد الجزيرة ، وقدم بغداد سنة ٥٩٠ ، وعمره ثلاثون سنة ، وأقام بها مدة ، وسمع من شيوخها كأبي الفرج بن كليب ونحوه ، وقرأ ونسخ بخطه ، وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل ، وكان فاضلا حسن المعرفة بالأدب ، يقول الشعر ، وينشئ المقامات وصنف كتاب «البيان والتبيين ، في أنساب المحدثين» ستة أجزاء ، وكتاب «البيان ، فيها أبهم من الأسماء في القرآن» مجلد ، وكتاب «أقسام البلاغة ، وأحكام الصناعة» في مجلدين ، وكتاب «شرح الإيضاح ، لأبي علي الفارسي» في خمسة عشر مجلدا ، وكتاب «شرح المقامات» مجلد ، وكتاب «شرح اليميني» (٤) في مجلد ، قال المنذري : توفي شهيدا ، قتله التتار في رجب ، وقال ابن النجار : في سابع عشر رجب سنة ٦١٧ ، رحمه الله تعالى!.

١٢٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم ، القرطبي ، المقري المعروف بالورشي ، نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها.

وهو أحد القراء المعروفين ، قال الحاكم : هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القراءات (٥) ، سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان ، وورد نيسابور ، ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان ، وبالأهواز عبد الواحد بن خلف الجنديسابوري ، وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي ، وقال ابن النجار : قدم بغداد ، وحدث بها ، توفي بسجستان في ربيع الأول سنة ٣٩٣.

١٢٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي ، اللخمي.

__________________

(١) لم يرد هذا في الطبعة المصرية من كتاب الصلة.

(٢) في ب ، ه : الاجتهاد في العبادة.

(٣) في ب : سليمان.

(٤) اليميني : هو تاريخ العتبي وهو تأريخ ليمين الدولة محمود بن سبكتكين.

(٥) في ب ، ه : في علم القرآن.


قال ابن بشكوال : مولده في صفر سنة ٣٥٦ ، وسمع عن جده ، ورحل إلى المشرق.

وقال ابن غلبون في مشيخته : إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل ، قائما بها ، واقفا عليها ، قاعدا للشروط ، محسنا لها ، عارفا ، وبيتهم بيت علم ، ونشأ فيه (١) هو وأبوه وجده ، وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن ، وعلى منازلهم في السبق ، وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة ، وشاركه في السماع والرواية عن جده ، وسمع بمصر من أبي الحسن (٢) أحمد بن عبد الله بن حميد بن زريق المخزومي.

وقال ابن بشكوال : كان من أجل الفقهاء عندنا دراية ورواية ، بصيرا بالعقود ، ومتقدما على أهل الوثائق ، عارفا بعللها ، وألف فيها كتابا حسنا ، وكتابا في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين ، مع ما كان عليه من الطريقة المثلى ، وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون ، توفي في المحرم سنة ٤٣٣ لعشرين بقين منه.

١٣٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز ، العتبي ، الأندلسي ، القرطبي الفقيه المالكي المشهور ، صاحب العتبيّة.

سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وغيرهما (٣) ، ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما ، وكان حافظا للمسائل ، جامعا لها ، عالما بالنوازل ، وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالبا من مالك بن أنس ، وتعرف بالعتبية ، وأكثر فيها من الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة ، وكان يؤتى بالمسألة الغربية الشاذة فإذا سمعها قال : أدخلوها في المستخرجة ، ولذا روى عن ابن وضاح أنه كان يقول : المستخرجة فيها خطأ كثير ، كذا قال ، ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من علماء المالكية (٤) كابن رشد وغيره.

قال ابن يونس : توفي بالأندلس سنة ٢٥٥.

والعتبي : نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب ، وقيل : إلى جد للمذكور يسمى عتبة ، وقيل إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش.

__________________

(١) في ب ، ه : ونشأ فيهم.

(٢) في ب ، ه : وسمع بمصر على أبي الحسن ...

(٣) أصبغ بن الفرج : هو أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي الفقيه المصري أبو عبد الله (تقريب التهذيب ج ١ ص ٨١).

(٤) في ب ، ه : من أعلام المالكية.


١٣١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري ، المقري ، الفرضي ، الأديب.

ولد بالأندلس سنة ٥٩١ ، ونشأ ببلنسية ، وأقام بالإسكندرية ، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل ، ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية ، لكن أكثر أبياتا ، وصرح فيها بأسماء القراء ، ولم يرمز كما فعل الشاطبي ، وكانت له يد في الفرائض والعروض ، مع معرفة القراءات والأدب.

ومن شعره : [الطويل]

إذا ما اشترت بنت أباها فعتقه

بنفس الشّرا شرعا عليها تأصّلا

وميراثه إن مات من غير عاصب

ومن غير ذي فرض لها قد تأثّلا

لها النّصف بالميراث والنّصف بالولا

فإن وهب ابنا أو شراه تفضّلا(١)

فأعتق شرعا ذلك الابن ما لها

سوى الثّلث ، والثّلثان للأخ أصّلا

وميراثها فيه إذا مات قبلها

كميراثها في الأب من قبل يجتلى

ومولى أبيها ما لها الدّهر فيه من

ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى

وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاض ، وغلطوا ، وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها ، ثم اشترى الأب ابنا فعتق عليه ، ثم اشترى الأب عبدا فأعتقه ، ثم مات الأب ، فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم مات العبد المعتق ، فلمن يكون ولاؤه؟ وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة.

١٣٢ ـ ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل ، أبو عبد الله ، الأموي ، الأندلسي ، الطّليطلي ، المعروف بالنقاش.

نزل مصر ، وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص ، وأخذ عنه جماعة ، وتوفي بمصر سنة ٥٢٩.

١٣٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي ، القبري ، القرطبي ، المؤدب.

رحل من الأندلس سنة ٣٤٢ ، فسمع بمصر من أبي محمد بن الورد وأبي قتيبة سالم بن الفضل (٢) البغدادي وغيره ، وكان صالحا خيرا مؤدبا ، سمع من الناس (٣). وتوفي سنة ٣٦٢.

__________________

(١) بالولا : بالولاء ، حذفت الهمزة لاستقامة الوزن ، وهذا جائز.

(٢) في ب : مسلم بن الفضل.

(٣) في ب : سمع الناس منه كثيرا.


والقبري ـ بفتح القاف ، وسكون الباء الموحدة ، ثم راء مهملة ـ نسبة إلى قبرة بلد بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلا.

١٣٤ ـ ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي ، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سجمان (١) ، الشريشي ، المالكي.

ولد بشريش سنة ٦٠١ ، ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد (٢) الحراني ، وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر ، وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي ، وسمع بإربل وبغداد ، وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدّة يفيد الناس فتخرّج به جماعة ، وولي مشيخة المدرسة بالقدس ، ومشيخة الرباط الناصري بالجبل ، وأقام بدمشق يفتي ويدرس ، وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد ، أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك ، والتفسير ، والأصول ، وصنف كتابا في الاشتقاق ، وشرح ألفية ابن معطي ، وأخذ عنه الناس ، وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهدا وورعا ، وبقي المنصب لأجله شاغرا إلى أن مات برجب سنة ٦٨٥ ، ودفن بقاسيون.

وسجمان : بسين مهملة مضمومة ، ثم جيم ساكنة ، بعدها ميم مفتوحة ، ونون.

١٣٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج ، القرطبي ، المعروف والده بالقنتوري.

وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل ، وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلا صالحا ، وولد هو سنة ٣١٥ (٣) ، وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية ، وسمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ كثيرا ، ومن ابن أبي دليم والخشني ، ورحل سنة ٣٣٧ فسمع بمكة من ابن الأعرابي ، ولزمه حتى مات ، وسمع بها من جماعة غيره ، وسمع بجدّة ، والمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ، ودخل صنعاء وزبيد وعدن ، وسمع بها من جماعة ، وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار ، وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة ، وسمع بغزة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية

__________________

(١) ضبطه السيوطي : بضم السين المهملة وسكون الحاء أي «سحمان».

(٢) في ج ، ه : من ابن عمار.

(٣) في كل الأصول سنة ٣٢٥. وقد صوبنا سنة ولادته عن ابن الفرضي وهو أفضل وأصح لأن أبا عبد الله رحل سنة ٣٣٧ ه‍. ولو كان ولد سنة ٣٢٥ لكانت رحلته وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، وهذا أمر مستبعد (انظر ابن الفرضي ج ٢ ص ٩٣).


والقلزم والفرما والإسكندرية ، فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخا ، وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة ، وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد بن يونس ، وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه ، وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة ٣٤٥ ، واتّصل بالحكم المستنصر ، وصارت له عنده مكانة ، وألف له عدة كتب ، واستقضاه على إستجة ثم على المريّة (١) ، ومات برجب سنة ٣٤٨.

قال الحميدي : هو محدث ، حافظ ، جليل ، صنف كتبا في فقه الحديث ، وفي فقه التابعين : فمنها «فقه الحسن البصري» في سبع مجلدات ، و «فقه الزهري» في أجزاء كثيرة ، وسمع مسند ابن الفرضي وحديث قاسم بن أصبغ.

قال ابن الفرضي : وكان عالما بالحديث ، بصيرا برجاله ، صحيح النقل ، حافظا ، جيد الكتابة على كثرة ما جمع.

وقال ابن عفيف في حقه : إنه كان من أعنى الناس بالعلم ، وأحفظهم للحديث ، وأبصرهم بالرجال ، ما رأيت مثله في هذا الفن ، من أوثق المحدثين بالأندلس ، وأصحهم كتبا ، وأشدهم تعبا لروايته ، وأجودهم ضبطا لكتبه ، وأكثرهم تصحيحا لها ، لم يدع فيها شبهة (٢) ، رحمه الله تعالى!.

١٣٦ ـ ومنهم أبو عبد الله القيسي ، الوضاحي ، محمد بن أحمد بن موسى.

رحل إلى المشرق (٣) ، وسمع من السّلفي وغيره جملة صالحة ، وغيره جملة صالحة ، ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج ، وسكن المرية مدّة ، وبها مات سنة ٥٣٩ ، وقيل : في التي بعدها ، وكان من أظرف الناس ، وأحسنهم أدبا ، فقيها ، فاضلا ، ثقة ، ذا فرائد جمة ، عفيفا ، معتنيا بالعلم.

١٣٧ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل ، العبدري ، البلنسي.

ولد سنة ٥١٩ ، وسمع من أبيه وجماعة ، ورحل حاجا فسمع من السّلفي وابن عوف والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم ، ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدث ، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر ، وله حظ من علم العبارة ، ومشاركة في اللغة ، وكتب بخطه على ضعفه كثيرا ، رحمه الله تعالى!.

__________________

(١) إستجة : بين القبلة والغرب من قرطبة ، بينهما مرحلة كاملة ، (صفة جزيرة الأندلس ص ١٤).

(٢) في ب ، ه : لا يدع فيها شبهة.

(٣) في ب ، ه : رحل من المغرب.


١٣٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح ، الإشبيلي.

ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية ، وجال في بلاد المغرب والمشرق ، وقرأ على الشيوخ الفضلاء ، وحصّل كثيرا في علم القراءات (١) والأدب ، وله نظم ونثر ، وكان كثير التلاوة للقرآن ، جيد الأداء له ، وأقام بدمشق حتى مات بها سنة ٦٩٩ ، رحمه الله تعالى!.

١٣٩ ـ ومنهم محمد بن أسباط ، المخزومي ، القرطبي.

روى عن يحيى بن يحيى ، وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين ، وكان حافظا للفقه ، عالما ، توفي سنة ٢٧٩.

١٤٠ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق ، الشهير بابن السّليم (٢) ، قاضي الجماعة بقرطبة.

مولده سنة ٣٠٦ ، روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته ، ورحل سنة ٣٣٢ ، فسمع بمكة من ابن الأعرابي ، وبمصر من الزبيريّ وابن النحاس وغيرهما ، وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم ، وحدث ، فسمع منه الناس ، وكان حافظا للفقه ، بصيرا بالاختلاف ، حسن الخط والبلاغة متواضعا ، وتوفي بجمادى الأولى سنة ٣٦٧.

وسليم بفتح السين مكبرا.

١٤١ ـ ومنهم موسى بن بهيج ، المغربي ، الأندلسي ، الواعظ ، الفقيه العالم.

من أهل المرية ، نزل مصر ، يكنى أبا عمران ، كان من أهل العلم والأدب ، وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه ، وحدث المرشاني عنه بمخمسة في الحج وأعماله كلها ، ولقيه بمصر وقرأها عليه.

ولابن بهيج هذا قوله : [مجزوء الرمل]

إنّما دنياك ساعه

فاجعل السّاعة طاعه

واحذر التّقصير فيها

واجتهد ، ما قدر ساعه

وإذا أحببت عزّا

فالتمس عزّ القناعه

١٤٢ ـ ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة ، مولى سعيد بن نصر (٣).

__________________

(١) في ب ، ه : في علم القرآن.

(٢) انظر في ترجمته : تاريخ قضاة الأندلس ص ٧٨.

(٣) سعيد بن نصر : كان مولى عبد الرحمن الناصر.


من أهل مرسية (١) ، سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصّدفي ، وكانت بنته عند أبي علي ، ولازمه ، وأكثر عنه ، وروى عن أبي محمد بن مفوّز الشاطبي وأبي الحسن بن شفيع ، قرأ عليهما الموطأ ، ورحل ، وحج ، وسمع السنن من الطرطوشي ، وعني بالرواية ، وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه ، وسمعهما على صهره أبي علي ، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما ، حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنه سمعهما على (٢) أبي علي نحو ستين مرة ، وكتب أيضا الغريبين للهروي ، وغير ذلك ، وكان أحد الأفاضل الصلحاء ، والأجواد السّمحاء ، يؤم الناس في صلاة الفريضة ، ويتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها ، وإليه أوصى عند توجّهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة ، وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب ، وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب «أدب الكتاب» (٣) لابن قتيبة ، و «بالفصيح» لثعلب.

١٤٣ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر ، الأزدي.

من أهل وادي آش ، له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة ، وسمع بدمشق من أبي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما ، ثم قفل إلى بلده ، انتهى ملخصا من ابن الأبار.

وحكى الصفدي أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر ، وروى عنه شيئا من شعره ، ومما روى عنه أنه قال : أنشدني المتنبي لنفسه : [السريع]

لا عبت بالخاتم إنسانة

كمثل بدر في الدّجى الفاحم

وكلّما حاولت أخذي له

من البنان المطرف النّاعم (٤)

ألقته في فيها فقلت : انظروا

قد خبّت الخاتم في الخاتم

١٤٤ ـ ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله بن مالك.

صاحب التسهيل والألفية (٥) ، وهو : جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن

__________________

(١) أصله من بلنسية ، ولما استولى عليها الروم سنة ٤٨٦ انتقل إلى مرسية.

(٢) في ب : أنها سمعها على ...

(٣) هكذا اشتهر اسم هذا الكتاب بالأندلس ، وهو معروف في المشرق باسم : أدب الكاتب.

(٤) في ب : من البنان المترف الناعم.

(٥) انظر في بغية الوعاة ج ١ ص ١٣٠ ـ ١٣٧.


مالك ، الإمام ، العلامة ، الأوحد ، الطائي ، الجيّاني ، المالكي حين كان بالمغرب ، الشافعي حين انتقل إلى المشرق ، النحوي ، نزيل دمشق.

ولد سنة ستمائة أو في التي بعدها ، وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صبّاح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم ، وأخذ العربية عن غير واحد ، فممن أخذ عنه بجيّان أبو المظفر ، وقيل : أبو الحسن ، ثابت بن خيار (١) ، عرف بابن الطيلسان ، وأبي رزين ، بن ثابت بن محمد يوسف بن خيار الكلاعي من أهل لبلة ، وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوّار ، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله بن مالك المرشاني ، وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب ، وتصدر بها لإقراء العربية ، وصرف همته إلى إتقان لسان العرب ، حتى بلغ فيه الغاية ، وأربى على المتقدمين ، وكان إماما في القراءات ، وعالما بها ، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية (٢) ، وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها.

قال الصفدي : أخبرني أبو الثناء محمود قال : ذكر ابن مالك يوما ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة ، قال الصفدي : وهذا أمر معجز ، لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين ، وأخبرني عنه أنه كان إذا صلى في العادلية ـ لأنه كان إمام المدرسة ـ يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيما له.

وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور ، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ، ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه.

وأما النحو والتصريف فكان فيهما ابن مالك بحرا لا يشقّ لجّه ، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمرا عجيبا ، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره ، وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية ، لأنه كان أكثر ما يستشهد بالقرآن ، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث ، وإن لم يكن فيه شيء عدل إلى أشعار العرب ، هذا مع ما هو

__________________

(١) هكذا في غاية النهاية (ج ٢ ص ١٨٠). أما في بغية الوعاة فيوجد ثابت بن محمد بن يوسف بن حيان الكلاعي (ج ١ ص ٤٨٢).

(٢) وله في القراءات قصيدة دالية فيها :

ولا بد من نظمي قوافي تحتوي

لما قد حوى حرز الأماني وأزيدا

وقصيدة لامية أولها :

يذكر إلهي خامدا ومبسملا

بدأت فأولى القول يبدأ أولا

(غاية النهاية ج ٢ ص ١٨٠).


عليه من الدين والعبادة ، وصدق اللهجة ، وكثرة النوافل ، وحسن السّمت ، وكمال العقل ، وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية ، وتخرج به جماعة ، وكان نظم الشعر عليه سهلا رجزه وطويله وبسيطه ، وصنف كتاب «تسهيل الفوائد» قال الصفدي : ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية ، وهي : [البسيط]

إنّ الإمام جمال الدّين جمّله

ربّ العلا ولنشر العلم أهّله

أملى كتابا له يسمى «الفوائد» لم

يزل مفيدا لذي لبّ تأمّله

وكلّ مسألة في النّحو يجمعها

إنّ الفوائد جمع لا نظير له

قال : وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي «فص الخاتم» انتهى.

قلت : أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل ، وإنما هي في كتاب له يسمى «الفوائد» وهو الذي لخصه في «التسهيل» فقوله في اسم التسهيل «تسهيل الفوائد» معناه تسهيل هذا الكتاب ، وذكر أيضا أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه ، وقال : وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله «إن الإمام ـ إلى آخره» وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين الفصوص وغيرها.

ثم قال العجيسي : وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتابا آخر سماه بالمقاصد ، وضمنها تسهيله ، فسماه لذلك «تسهيل الفوائد ، وتكميل المقاصد» فعلى هذا لا يصح قول الصفدي «إن المدح المذكور في التسهيل» إلا بارتكاب ضرب من التأويل ، انتهى كلام العجيسي.

قلت : وذكر غيره أن قوله في الألفية «مقاصد النحو بها محوية» إشارة لكتاب المقاصد ، وتعقب بقوله «محوية» فإنه لو كان كما ذكر فقال محويّ ، وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام ، وفيه تعسف.

رجع ـ ومن تصانيف ابن مالك «الموصل ، في نظم المفصل» وقد حل هذا النظم فسماه «سبك المنظوم ، وفك المختوم» ومن قال «إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم» فقد خالف النقل والعقل ، ومن كتب ابن مالك كتاب «الكافية الشافية» ثلاثة آلاف بيت ، وشرحها ، والخلاصة (١) ،

__________________

(١) «الخلاصة» هذا الكتاب هو الذي يعرف بالألفية ، وابن مالك يقول في أوله :

وأستعين الله في ألفيّه

مقاصد النحو بها محويه

ويقول في آخره :

حوى من الكافية الخلاصه

كما اقتضى رضا بلا خصاصه


وهي مختصر الشافية ، و «إكمال الإعلام ، بمثلث الكلام» وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم ، و «لامية الأفعال» وشرحها ، و «فعل وأفعل» و «المقدمة الأسدية» وضعها باسم ولده الأسد ، و «عدّة اللافظ ، وعمدة الحافظ» و «النظم الأوجز ، فيما يهمز» و «الاعتضاد ، في الظاء والضاد» مجلد ، و «إعراب مشكل البخاري» و «تحفة المودود ، في المقصور والمدود» وغير ذلك كشرح التسهيل. وروى عنه ولده بدر الدين محمد ، ومحب (١) الدين بن جعوان ، وشمس الدين بن أبي الفتح ، وابن العطار ، وزين الدين أبو بكر المزّي ، والشيخ أبو الحسين اليونيني ، وأبو عبد الله الصيرفي ، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، وشهاب الدين محمود وشهاب الدين بن غانم ، وناصر الدين بن شافع ، وخلق كثير سواهم.

ومن نظمه في الحلبة : [البسيط]

خيل السّباق المجلّي يقتفيه مص

لّ والمسلّي وتال قبل مرتاح

وعاطف وحظيّ والمؤمّل وال

لّطيم والفسكل السّكّيت يا صاح (٢)

وله من هذه الضوابط شيء كثير.

وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب : إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل ، وصاحب المفصل نحويّ صغير (٣) ، وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري.

وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول : إن ابن مالك ما خلّى للنحو حرمة.

وحكي عنه أنه كان يوما في الحمام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى ، فهجم عليه فتى فقال : ما تصنع؟ فقال : أكنس لك الموضع للقعود ، قال بعضهم : وهذا مما يستبعد على دين ابن مالك ، والعهدة على ناقله ، قال الصفدي : ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس.

وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة.

وقال بعضهم : من أحسن شعر ابن مالك قوله : [الطويل]

إذا رمدت عيني تداويت منكم

بنظرة حسن أو بسمع كلام

فإن لم أجد ماء تيمّمت باسمكم

وصلّيت فرضي والدّيار أمامي

__________________

(١) في ب ، ه : وشمس الدين بن جعوان.

(٢) فسكل ، الفرس : جاء في السباق آخرا.

(٣) في ب : وصاحب المفصل نحوه صغيرات.


وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا

وقابلت أعلام السّوى بسلام

ولم أر إلّا نور ذاتك لائحا

فهل تدع الشّمس امتداد ظلام

وقدم ـ رحمه الله تعالى! ـ القاهرة ، ثم رحل إلى دمشق ، وبها مات كما علم.

وقال الشرف الحصني يرثيه : [الخفيف]

يا شتات الأسماء والأفعال

بعد موت ابن مالك المفضال

وانحراف الحروف من بعد ضبط

منه في الانفصال والاتّصال

مصدرا كان للعلوم بإذن الله

من غير شبهة ومحال

عدم النّحو والتّعطّف والتّو

كيد مستبدلا من الأبدال(١)

ألم اعتراه أسكن منه

حركات كانت بغير اعتلال

يا لها سكتة لهمز قضاء

أورثت طول مدّة الانفصال

رفعوه في نعشه فانتصبنا

نصب تمييز ، كيف سير الجبال؟

فخّموه عند الصّلاة بدلّ

فأميلت أسراره للدّلال

صرّفوه يا عظم ما فعلوه

وهو عدل معرّف بالجمال

أدغموه في التّرب من غير مثل

سالما من تغيّر الانتقال(٢)

وقفوا عند قبره ساعة الدّف

ن وقوفا ضرورة الامتثال

ومددنا الأكفّ نطلب قصرا

مسكنا للنّزيل من ذي الجلال

آخر الآي من سبأ الحظّ منه

حظّه جاء أوّل الأنفال

يا بيان الإعراب يا جامع الإغ

راب يا مفهما لكلّ مقال (٣)

يا فريد الزّمان في النّظم والنّث

ر وفي نقل مستندات العوالي

كم علوم بثثتها في أناس

علّموا ما بثثت عند الزّوال (٤)

انتهت ملخصة.

قال الصفدي : وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها ، انتهى.

__________________

(١) في ب : عدم النعت ، والتعطف ...

(٢) أدغموه في الترب : أدخلوه فيه.

(٣) في ه : يا لسان الأعراب.

(٤) بث العلم : نشره. وفي ه جاء : عملوا ما ثنيت عند الزوال.


ودفن ابن مالك بسفح قاسيون ، بتربة القاضي عز الدين بن الصائغ ، وقال العجيسي : بتربة ابن جعوان.

ورثاه الشيخ بهاء الدين بن النحاس بقوله : [الكامل]

قل لابن مالك ان جرت بك أدمعي

حمرا يحاكيها النّجيع القاني(١)

فلقد جرحت القلب حين نعيت لي

وتدفّقت بدمائه أجفاني

لكن يهوّن ما أجنّ من الأسى

علمي بنقلته إلى رضوان(٢)

فسقى ضريحا ضمّه صوب الحيا

يهمي به بالرّوح والرّيحان(٣)

وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك ، وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسّي ، وقد كلفه أن يشتري له قطرا (٤) : [الخفيف]

أيّها الأوحد الرّضيّ الّذي طا

ل علاء وطاب في النّاس نشرا

أنت بحر لا غرو إن نحن وافي

ناك زاجين من نداك القطرا(٥)

وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس ، وهو : بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر ، الحلبي الأصل ، المعروف بابن النحاس ، وهو شيخ أبي حيّان ، ولم يأخذ أبو حيّان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة.

وقال بعض من عرّف بابن مالك : إنه تصدر بحلب مدة ، وأم بالسلطانية ، ثم تحول إلى دمشق ، وتكاثر عليه الطلبة ، وحاز قصب السبق ، وصار يضرب به المثل في دقائق النحو ، وغوامض الصرف ، وغريب اللغات ، وأشعار العرب ، مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السّمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه ، وكان ذا عقل راجح ، حسن الأخلاق ، مهذبا ، ذا رزانة وحياء ووقار ، وانتصاب للإفادة ، وصبر على المطالعة الكثيرة ، تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره ، وسارت بتصانيفه الركبان ، وخضع لها العلماء الأعيان ، وكان حريصا على العلم ، حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد.

__________________

(١) النجيع : الدم. والقاني : الأحمر.

(٢) أجنّ : أستر.

(٣) صوب الحيا : المطر الذي لا يؤذي.

(٤) القطر ، بسكر القاف وسكون الطاء : النحاس.

(٥) في ب : راجين.


وقال بعض الحفاظ حين عرف بابن مالك : يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين ، وبعض يقول : مرة واحدة ، وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته ، وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريّا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري ، وعلى كل حال فهو مشهور بجدّه في المشرق والمغرب.

وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ، وعليه عوّل شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله : [رجز]

قد خبع ابن مالك في خبعا

وهو ابن عه كذا وعى من قد وعى(١)

وقيل ، كما تقدم : إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيّان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها ، وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية ، وتصدّر ابن مالك بحماة مدة ، وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه ، مع كونه كان يعظّمه إلى الغاية ، وقدم رحمه الله تعالى لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه : إنه أعلم الناس بالعربية والحديث ، ويكفيه شرفا أن من تلامذته الشيخ النووي (٢) ، والعلم الفارقي ، والشمس البعلي ، والزين المزّي ، وغيرهم ممن لا يحصى.

وكان رحمه الله تعالى كثير المطالعة ، سريع المراجعة ، لا يكتب شيئا من محفوظه حتى يراجعه في محله ، وهذه حالة المشايخ الثقات ، والعلماء الأثبات ، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرئ (٣) ، وكذا كان الشيخ أبو حيّان ، ولكن كان جدّه في التصنيف والإقراء.

وحكي أنه توجه يوما مع أصحابه للفرجة بدمشق ، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه سويعة (٤) ، فطلبوه فلم يجدوه ، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبا على أوراق.

وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدّها بعضهم بثمانية ، وفي عبارة بعض «أو نحوها» لقنه ابنه إياها ، وهذا مما يصدق ما قيل بقدر ما تتعنى ، تنال ما تتمنى ، فجزاه الله خيرا عن هذه الهمة العلية!.

__________________

(١) في نسخة عنده «كذا حكى من قد وعى» وخبع في أول البيت بمعنى أقام ، ومجموع حروف «خبعا» بحساب الجمل ٦٧٣ وهي سنة وفاته عنده ، ومجموع حروف «عه» ٧٥ وهو مقدار سنه.

(٢) في ه : النوري.

(٣) في ب : أو يقرأ.

(٤) في ب ، ه : بسويعة.


وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله ، أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان ، ولذا تضعف استنباطاته وتعقّباته على أهل هذا الشأن ، وينفر من المنازعة ، والمباحثة والمراجعة ، قال : وهذا شأن من يقرأ بنفسه ، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه ، ولقد طال فحصي وتنقيري عمن قرأ عليه ، واستند في العلم إليه ، فلم أجد من يذكر لي شيئا من ذلك ، ولقد جرى يوما مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال : ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده جيان ، وأنه جلس في حلقة الأستاذ أبي علي الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما ، وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن ، وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن ، هذا حاصل ما ذكره أبو حيان.

قال بعض المحققين ، وهو العلامة يحيى العجيسي : وليس ذلك منه بإنصاف ، ولا يحمل على مثله إلا هوى النفس وسرعة الانحراف ، فنفيه المسند عنه والمتبع ، شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع ، ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه : نظم في هذا العلم كثيرا ونثر ، وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب ، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب ، وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة ، إذ هي مرتبة الأكابر النقاد ، وأرباب النظر والاجتهاد ، وقوله في موضع آخر من تذييله «لا يكون تحت السماء أنحى ممن عرف ما في تسهيله» وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه (١) ، ولا أن يحط عليه ، ولا أن يقع فيما وقع فيه ، فإنه مما يجرّيء على أمثاله الغبي والنبيه ، والحليم والسفيه ، وما هذا جزاء السلف من الخلف ، والدرر من الصدف ، والجيد من الحشف ، أو ما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله بن النحاس ، فإنه لا يذكره إلا بأحسن ذكر كما هو دأب خيار الناس ، ومن كلامه في نقله عنه ، وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول ، وإلى تلميذه أبي البقاء الحافظ (٢) المصري حيث يقول فيه ، أعني في أبي حيان : [الطويل]

هو الأوحد الفرد الّذي تمّ علمه

وسار مسير الشّمس في الشّرق والغرب

ومن غاية الإحسان مبدأ فضله

فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب

ومن غاية الإحسان ، في هذا الشان ، التصانيف التي سارت بها الركبان ، في جميع الأوطان ، واعترف بحسنها الحاضر والبادي ، والداني والقاصي ، والصديق والعدو ، فتلقاها بالقبول والإذعان ، فسامح الله تعالى أبا حيان! فإن كلامه يحقق قول القائل : كما تدين تدان ،

__________________

(١) غمصه : احتقره ، وتهاون بحقه.

(٢) الحافظ : ساقطة من ب.


ورحم الله تعالى ابن مالك! فلقد أحيا من العلم رسوما دلوسة (١) ، وبين معالم طامسة ، وجمع من ذلك ما تفرق ، وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق ، ورحم شيخه ثابت بن الخيار ، فإنه كان من الثقات الأخيار! وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي ـ بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة ـ وأصله من لبلة ، ويعد في أهل جيّان وتوفي بغرناطة سنة ٦٢٨ ، وكان أبو حيّان يغض من هذا الكتاب ويقول : ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد ، وكثيرا ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى بمنهج السالك (٢) ، ومن غضّه منه بالنظم في ملأ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين بن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفيا له ومتأسيا في تسويد القرطاس : [مجزوء الرجز]

ألفيّة ابن مالك

مطموسة المسالك

وكم بها مشتغل

أوقع في المهالك

ولا تغتر أنت بهذا الغرر ، فإنه ما كل سحاب أبرق ممطر ، ولا كل عود أورق مثمر ، وقيل معارضة للقوم ، وتنبيها لهم مما هم فيه من النوم : [مجزوء الرجز]

ألفيّة ابن مالك

مشرقة المسالك

وكم بها من مشتغل

علا على الأرائك

وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى : [الرجز]

يا عائبا ألفيّة ابن مالك

وغائبا عن حفظها وفهمها

أما تراها قد حوت فضائلا

كثيرة فلا تجر في ظلمها

وازجر لمن جادل من يحفظها

برابع وخامس من اسمها

يعني «صه» فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت ، انتهى ملخصا.

وقال أيضا عند ذكره مصنفات ابن مالك : وهي كما قيل غزيرة المسائل ، ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل ، وهي مع ذلك كثيرة الإفادة ، موسومة بالإجادة ، وليست هي (٣) لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه ، بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه ، انتهى.

__________________

(١) في ب : رسوما دارسة.

(٢) جاء في بغية الوعاة ج ١ ص ٤٨٢ : ثابت بن محمد بن يوسف بن حيان الكلاعي أبو الحسين الغرناطي. كان فاضلا نحويا ماهرا مقرئا ، معروفا بالزهد والفضل والجودة والانقباض.

(٣) هي : ساقطة من ب.


واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم ، وكثير من أبياتها فيها بلفظها ، ومتبوعه فيها ابن معطي ، ونظمه أجمع وأوعب ، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب ، وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد ، واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق «المقدمة الأسدية» قال : وأما هذه ـ يعني الألفية ـ فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي ، ويقال : إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد ، ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة ، انتهى مختصرا.

وقال بعض من عرّف بابن مالك : هو مقيم أود ، وقاطع لدد (١) ، ومزين سماء موّهت الأصائل ديباجتها ، وشعشعت البكر زجاجتها ، وجاءت أيامه صافية من الكدر ، ولياليه وما بها شائبة من الكبر ، قد خلّقها العشي بردعه ، وخلفها الصباح بربعه ، فكان كل متعين حول مسجده ، وكل عين فاخرة بعسجده ، هذا وزمر الطلاب ، وطلبة الأجلاب ، لا تزال تزجي إليه القلاص (٢) ، وتكثر من سربه الاقتناص ، كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع كثرة الديانة والصلاح ، انتهى.

وقال بعض المغاربة : [الطويل]

لقد مزّقت قلبي سهام جفونها

كما مزّق اللّخميّ مذهب مالك

وصال على الأوصال بالقدّ قدّها

فأضحت كأبيات بتقطيع مالك

وقلّدت إذ ذاك الهوى لمرادها

كتقليد أعلام النّحاة ابن مالك

وملّكتها رقّي لرقّة لفظها

وإن كنت لا أرضاه ملكا لمالك

وناديتها يا منيتي بذل مهجتي

ومالي قليل في بديع جمالك

ويعني بقوله «بتقطيع مالك» مالك بن المرحّل السّبتي رحمه الله تعالى!.

ولما سئل ابن مالك عن قول النبي صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» هل هو بالراء أو بالنون؟ أنكر النون ، فقيل له : إن في الغريبين للهروي ، رواية بالنون ، فرجع عن قوله الأول ، وقال : إنما هو بالنون ، انتهى.

__________________

(١) اللدد : الخصومة الشديدة.

(٢) القلاص : جمع قلوص ، وهي الناقة الطويلة القوائم.


وقد ذكر في المشارق النون والراء ، فقال «الحور بعد الكور» بالراء رواه العذري وابن الحذاء ، وللباقين بالنون ، معناه النقصان بعد الزيادة ، وقيل : من الشذوذ بعد الجماعة ، وقيل : من الفساد بعد الصلاح ، وقيل : من القلة بعد الكثرة ، كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت ، وحارها إذا نقضها فافترقت ، ويقال : حار إذا رجع عن أمر كان عليه ، ووهّم بعضهم رواية النون ، وقيل : معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير مما رجع إليه ، وقال عياض في موضع آخر بعد : الحور بعد الكور ، كذا للعذري ، والكون للفارسي والسجزي (١) وابن ماهان ، وقول عاصم في تفسيره «حار بعد ما كار» وهي روايته ، ويقال : إن عاصما وهم فيه ، انتهى.

والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلّكان ، لأن ابن الأثير سأل ابن خلكان عنها ، فسأل هو ابن مالك ، رحم الله تعالى الجميع!

وقد عرف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام ، وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد ، وأنه كان حادّ الذهن ، ذكيا ، إماما في النحو وعلم المعاني والمنطق ، جيد المشاركة في الفقه والتدريس ، وأنه تصدّر بعد والده للتدريس ، ومات شابا قبل الكهولة سنة ٦٨٦ ، ومن أجلّ تصانيفه شرحه على ألفية والده ، وهو كتاب في غاية الإغلاق (٢) ، ويقال : إنه نظير الرضي في شرح الكافية ، وللناس عليه حواش كثيرة ، رحمه الله تعالى أجمعين!

١٤٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي التدّميري (٣) ، ويعرف بالشهيد.

كان عظيم القدر جدا بالأندلس ، بعيد الأثر في الخير والصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى ، وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة ، وبرع بخصاله المحمودة ، فكان في نفسه فقيها ، عالما ، زاهدا ، خيّرا ، ناسكا ، متبتلا ، نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدّعة ، وطلب العلم في حدثان سنه (٤). ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقه وناظر ، وأخذ بحظ وافر من علم المسألة والجواب ، وكان أكثر علمه وعمله الورع ، والتشدد فيه ، والتحفظ بدينه ومكسبه ، ورسخ في علم السّنّة ، ثم ارتحل إلى المشرق ، فمرّ بمصر حاجّا ، فأقام بالحرمين ثمانية أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ ، ثم سار إلى

__________________

(١) في ه : والشجري.

(٢) أي أنه محكم إحكاما جيدا.

(٣) نسبة إلى تدمير ، من كور الأندلس ، سميت باسم ملكها تدمير (صفة جزيرة الأندلس ص ٦٢).

(٤) في حدثان سنة : في صغره.


العراق ، فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه ، وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم ، ولبس الصوف ، وقنع ، وتورع جدا ، وأعرض عن الشهوات ، وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضة لها ، فأصبح عابدا متقشفا منيبا مخبتا (١) عالما عاملا منقطع القرين (٢) ، قد جرت منه دعوات مجابة ، وحفظت له كرامات ظاهرة ، ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة ، وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيا ، فنزل خارج مدينة مرسيّة تورّعا عن سكناها وعن الصلاة في جامعها ، فاتخذ له بيتا سقفه من حطب السّدر (٣) يأوي إليه ، واعتمر جنينة بيده يقتات منها ، وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر ، ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر ، وواصل الرّباط ، ونزل مدينة طلبيرة ، وكان يدخل منها في السرايا إلى بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانة ، ويعوّل على فرس له ارتبطه لذلك ، وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة ، يحدّث عنه فيها بحكايات عجيبة ، إلى أن استشهد مقبلا غير مدبر ، سنة ٣٧٩ ، أو في التي قبلها ، عن اثنتين وأربعين سنة ، وأبوه حي ، رحم الله تعالى الجميع!

١٤٦ ـ ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور.

مولده سنة ٥٩٠ بقيجاطة (٤) ، وكتب عنه الحافظ المنذري ، ومن شعره قوله : [بحر الطويل]

إذا كنت تهوى من نأت عنك داره

فحسبك ما تلقى من الشوق والبعد

فيا ويح صبّ قد تضرّم ناره

ووا حرّ قلب ذاب من شدة الوجد

١٤٧ ـ ومنهم أبو عبد الله ـ ويقال : أبو حامد ـ محمد بن عبد الرحيم ، المازنيّ ، القيسي ، الغرناطي.

ولد سنة ٤٧٣ ، ودخل الإسكندرية سنة ٥٠٨ ، وسمع بها من أبي عبد الله الرازي ، وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم ، وحدّث بدمشق ، وسمع أيضا بها وببغداد ، وقدمها سنة ٥٥٦ ، ودخل خراسان ، وأقام بها مدة ، ثم رجع إلى الشام ، وأقام بحلب سنين ، وسكن دمشق ، وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى ، ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى

__________________

(١) المخبت : المتواضع.

(٢) منقطع القرين : منقطع النظير والمثيل.

(٣) السّدر : بكسر السين وسكون الدال : شجر النبق.

(٤) قيجاطة : مدينة بالأندلس من عمل جيان (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ١٦٥).


ما لا يليق ، وصنف في ذلك كتابا سماه «تحفة الألباب» وكان حافظا عالما أديبا ، وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر ، وزنّه (١) بالكذب ، وقال ابن النجار : ما علمته إلا أمينا.

ومن شعره قوله : [بحر الرمل]

تكتب العلم وتلقي في سفط

ثم لا تحفظ؟ لا تفلح قط

إنما يفلح من يحفظه

بعد فهم وتوقّ من غلط

وقوله : [بحر البسيط]

العلم في القلب ليس العلم في الكتب

فلا تكن مغرما باللهو واللعب

فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به

فالعلم لا يجتنى إلا مع التعب

توفي بدمشق في صفر سنة ٥٦٥.

١٤٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ، القرطبي ، من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رحل قبل الأربعين ومائتين ، فحجّ ، وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزّمن ونصر بن عليّ الجهضمي ، ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي ، وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام ، وبمكة من محمد بن يحيى العدني ، وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزّاق والبرقي وغيرهما ، وأدخل الأندلس علما كثيرا من الحديث واللغة والشعر ، وكان فصيحا جزل المنطق ، صارما ، ألوفا (٢) ، منقبضا عن السلطان ، أراده على القضاء فأبى ، وقال : إباية إشفاق لا إباية عصيان ، فأعفاه ، وكان ثقة مأمونا ، وتوفي في رمضان سنة ٢٨٦ عن ثمان وستين سنة ، رحمه الله تعالى!.

١٤٩ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج ، القرطبي.

سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه ، وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال ، ورحل سنة ٢٧٤ ، فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام بن داود الرعيني ، وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله بن أحمد بن حنبل.

قال الحميدي : حدّث بالمغرب وبالمشرق ، وصنف السنن ، وممن روى عنه خالد بن

__________________

(١) زنّه : اتّهمه.

(٢) في نسخة ب : أنوفا.


سعيد ، وقال لنا أبو محمد بن حزم : مصنّف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات ، وتوفي في ذي القعدة سنة ٣٣٠ ، بقرطبة ، رحمه الله تعالى!.

١٥٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون [بن مروان] (١) ، اللخمي ، الرصافي ، القرطبي ، الحداد.

سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ ، وحج سنة ٤٤٩ (٢) سنة ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه ، وسمع بمكة من ابن الأعرابي ، وبمصر من ابن الورد ، وأبي علي بن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة ، وكان رجلا صالحا ، عدلا ، حدث وكتب عنه الناس ، وعلت سّنه ، وتوفي بشوال سنة ٣٩٤ ، وولد فيما أظن سنة ٣٠٢ ، وكانت وفاته بقرطبة ، وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه ، وممن أخذ عنه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٥١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك ، الخزرجي ، السعدي ، القرطبي.

روى عن أبي الحسن علي بن هشام ، وروى عنه أبو القاسم بن بشكوال وقدم مصر وحدث بها ، وممن سمع منه بهاء بن وردان وأبو الرضا (٣) القيسراني في آخرين ، واستوطن مصر ، وتوفي سنة ٥٨٨.

١٥٢ ـ ومنهم أبو بكر بن السرّاج ، النحوي ، بتشديد الراء.

وهو محمد بن عبد الملك بن محمد بن السّرّاج الشّنتمري ، أحد أئمة العربية المبرزين فيها ، ويكفيه فخرا أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي ، وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد النفطي ، وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر ، وقدم مصر سنة ٥١٥ ، وأقام بها ، وأقرأ الناس العربية ، ثم انتقل إلى اليمن ، وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار ، وله تواليف منها «تنبيه الألباب ، في فضل الإعراب» وكتاب في العروض ، وكتاب «مختصر العمدة» لابن رشيق وتنبيه أغلاطه.

__________________

(١) ساقطة في نسخة ب.

(٢) سنة ٣٣٩ في نسخة ب.

(٣) أبو الرضى في نسخة ب.


قال السّلفي : كان من أهل الفضل الوافر ، والصلاح الظاهر ، وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو ، وكثيرا ما كان يحضر عندي ـ رحمه الله تعالى! مدة مقامي بالفسطاط ، توفي بمصر سنة ٥٤٩ ، وقيل : سنة خمس وأربعين ، وقيل : خمسين وخمسمائة ، برمضان ، والأول أثبت.

١٥٣ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد العنسي ، ويكنّى أيضا أبا القاسم ، الغرناطي.

سمع من الجلّة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد : منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد بن داود بدمشق ، وكتب الحديث وعني بالرواية أتم عناية ، وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة.

١٥٤ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع ، بالدال المهملة ، وقيل : بالراء.

قرطبي ، سمع عبد الملك بن حبيب ، ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره (١) ، وكان زاهدا فاضلا ، وتوفي سنة ٢٨١ ، رحمه الله تعالى!.

١٥٥ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد ، المعافري ، القرطبي.

ولد بقرطبة سنة ٣٥٨ ، ودخل مصر فسمع من أبي بكر بن المهندس وأبي بكر البصري ، وروى عن أبي عبد الله بن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة ، ولقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد في رحلته سنة ٣٨١ فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها ، وحج من عامه ، ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة ٣٨٢ ، وكان معتنيا بالأخبار والآثار ، ثقة فيما رواه وعني به ، خيّرا ، فاضلا ، دينا ، متواضعا ، متصاونا ، مقبلا على ما يعنيه ، صاحب حظ من الفقه ، وبصر بالمسائل ، ودعي إلى الشورى بقرطبة فأبى ، ومات سنة ٤٣٩.

وعابد جده بالباء الموحدة ، رحم الله تعالى الجميع!.

١٥٦ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد (٢) ، الأنصاري البلنسي.

أخذ القراءات عن جماعة من أهل بلده ، وخرج حاجّا سنة ٥٧١ ، فجاور بمكة ، وسمع

__________________

(١) الحارث بن مسكين هو أبو عمر الحارث بن مسكين ، مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان. كان فقيها على مذهب مالك بن أنس وكان ثقة في الحديث مثبتا (وفيات الأعيان ج ٢ ص ٥٦).

(٢) في بغية الوعاة : سنة ٥٣٠ وكذلك في (ب).


بها وبالإسكندرية من السّلفي ، وعاد إلى بلده سنة ٥٩٦ ، وحدّث وكان من أهل الصلاة والفضل والورع ، كثير البر ، ومفاداة الأسرى ، ويحترف بالتجارة ، ومولده بعد سنة ٥٢٠ (١) ، ومات سنة ٥٩٨ بمرسية ، رحمه الله تعالى!.

١٥٧ ـ ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة ، القرطبي ، المالكي ، الحافظ.

ولد سنة ٤٧٩ ، وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد بن رشد ، والحديث عن ابن عتاب ، وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان ، وأخذ الأدب عن [مولانا] (٢) أبي الحسين سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي ، وعن مالك بن عبد الله العتبي ، وخرج من قرطبة في الفتنة بعد ما درس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله ، وأقام بالإسكندرية خوفا من بني عبد المؤمن بن علي ، ثم قال : كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ، ثم سافر إلى مصر بعد ما روى عنه السّلفي ، وأقام بها مدة ، ثم قال : والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدين ، ثم سافر إلى الصعيد ، وحدّث في قوص بالموطإ ، ثم قال : والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد ، فمضى إلى مكة ، وأقام بها ، ثم قال : وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج؟ ما أنا إلا هربت منه إليه! ثم دخل اليمن ، فلما رآها قال : هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن ، فتوجه إلى الهند ، فأدركه (٣) وفاته بها سنة ٥٥١ ، وقيل : بل مات بزبيد من مدن اليمن ، وكان من جلة العلماء ، الحفاظ متقنا متفننا في المعارف كلها جامعا لها ، كثير الرواية ، واسع المعرفة ، حافل الأدب ، من كبار فقهاء المالكية ، يتصرف في علوم شتى حافظا للآداب ، عارفا بشعراء الأندلس ، وكان علمه أوفر من منقطه ، ولم يرزق فصاحة ولا حس إيراد (٤).

قال ابن نقطة : خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين.

١٥٨ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل ، السلمي ، المرسي.

قال ابن النجار : ولد بمرسية سنة ٥٧٠ ، وقال غيره : في التي قبلها ، وخرج من بلاد المغرب سنة ٦٠٧ ، ودخل مصر ، وسار إلى الحجاز ، ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد ، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنّظامية ، ثم سافر إلى خراسان ، وسمع بنيسابور وهراة ومرو ، وعاد إلى بلاد بغداد ، وحدّث بكتاب السنن الكبرى (٥) للبيهقي عن

__________________

(١) في ه ، وغاية النهاية ج ٢ ص ١٧٩ : ابن هاجر وفي التكملة ص ٥٥٩ : ابن ماجه.

(٢) ساقطة في ب.

(٣) في ب : «فأدركته».

(٤) في ب : «والله أعلم».

(٥) في ب : «السنن الكبير».


منصور بن عبد المنعم الفراوي ، وبكتاب غريب الحديث للخطابي ، وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي ، وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزّعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة ٦٥٥ ، ودفن بتل الزعقة ، وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة ، وله فهم ثاقب ، وتدقيق في المعاني ، مع النظم والنثر المليح ، وكان زاهدا ، متورعا ، حسن الطريقة ، متدينا ، كثير العبادة ، فقيها ، مجردا ، متعففا ، نزه النفس ، قليل المخالطة لأوقاته ، طيب الأخلاق ، متوددا ، كريم النفس ، قال ابن النجار : ما رأيت في فنه مثله ، وكان شافعي المذهب ، وله كتاب تفسير القرآن سماه «ري الظمآن» كبير جدا ، وكتاب «الضوابط الكلية» في النحو ، وتعليق على الموطأ ، وكان مكثرا شيوخا وسماعا ، وحدّث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز ، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتبا في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه ، وكان كريما. قال أبو حيان : أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة ، وكان ضعيفا ، فقال له : خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط ، فرفعت ذلك ، فوجدت تحته أكثر (١) من أربعين دينارا ذهبا ، فأخذتها.

١٥٩ ـ وقال الجمال اليغموري : أنشدني لنفسه بالقاهرة : (٢) [بحر الكامل]

قالوا فلان قد أزال بهاءه

ذاك العذار وكان بدر تمام

فأجبتهم بل زاد نور بهائه

ولذا تضاعف فيه فرط غرامي

استقصرت ألحاظه فتكاتها (٣)

فأتى العذار يمدها بسهام

ومن شعره قوله : [بحر الكامل]

من كان يرغب في النّجاة فما له

غير اتباع المصطفى فيما أتى

ذاك السبيل المستقيم ، وغيره

سبل الغواية والضلالة والرّدى

فاتبع كتاب الله والسنن التي

صحت ، فذاك إذا اتبعت هو الهدى

ودع السؤال بكم وكيف فإنه

باب يجرّ ذوي البصيرة للعمى

__________________

(١) في ب : «نحوا».

(٢) في معجم الأدباء : فمن شعره ، أي شعر السلمي المرسي. (انظر ج ١٨ ـ ص ٢١٢).

(٣) فتكاتها : جمع فتكة. اسم مرة من الفعل فتك.


الدين ما قال النبي وصحبه

والتابعون ومن مناهجهم قفا(١)

١٥٩ ـ ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله ، البنتي ، الأندلسي ، الأنصاري.

قدم مصر ، وأقام بالقرافة (٢) مدة ، وكان شيخا صالحا زاهدا فاضلا ، وتوجه إلى الشام فهلك.

قال الرشيد العطار : كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم ، ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة ، وكان يتكلم بألسنة شتى.

ومن شعره قوله : [بحر الطويل]

إذا قلّ منك السّعي فالعزم ناشد

وكلّ مكان في مرائك واحد

توجّه بصدق واتّق المين واقتصد

تجئك رهينات النجاح المقاصد

والبنتي ـ بضم الباء ، وسكون النون ـ نسبة إلى بنت حصن بالأندلس ، ويقال «بونت» بزيادة واو.

١٦٠ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ، الخولاني ، الباجي ، ثم الإشبيلي ، المعروف بابن القوق.

سمع بقرطبة من جماعة ، ورحل إلى المشرق سنة ٢٦٦ ، فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره ، وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد ، وكان فقيها في الرأي ، حافظا له ، عاقدا للشروط ، قال ابن الفرضي : كان رجلا صالحا ، ورعا ثقة ، وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه ، وكان يقول إذا حدث عنه : كان من معادن الصدق ، توفي سنة ٣٠٨.

١٦١ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ، اللوشي ، الطبيب.

اشتغل بالطب ، وبرع فيه ، وأقام بمصر مدة ، وبها مات في عشر الستين وستمائة.

١٦٢ ـ ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون ، العذري ، القرطبي.

رحل سنة ٣٣٧ ، فدخل مصر والبصرة ، وعني بعلم الطب ، ودبر مارستان مصر ، ثم

__________________

(١) قفا منهجه : تبعه.

(٢) القرافة : خطة بالفسطاط من مصر ، وفيها مقبرة أهل مصر ، وفيها أبنية جليلة ومحالّ واسعة وسوق ومشاهد للصالحين. وبها قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه (معجم البلدان ج ٥٤ ص ٣١٧).


رجع إلى الأندلس سنة ٣٦٠ ، واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد ، وله في التكسير (١) كتاب حسن.

قال صاعد : تمهر في الطب (٢) ، ونبل فيه ، وأحكم كثيرا من أصوله ، وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة ، وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي ، وكان قبل أن يتطبب مؤدبا للحساب والهندسة ، وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي ، أنه لم يلق في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب ، ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها رحمه الله تعالى!.

١٦٣ ـ ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر (٣) ، الإيادي ، الأندلسي (٤).

صاحب البيت الشهير بالأندلس ، رحل المذكور إلى المشرق ، وتطبب به زمانا ، وتولى رياسة الطب ببغداد ثم بمصر ، ثم القيروان ، ثم استوطن مدينة دانية (٥) ، وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب ، واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى فاق أهل زمانه ، ومات في مدينة دانية ، رحمه الله تعالى!.

ووالده محمد بن مروان كان عالما بالرأي حافظا للأدب ، فقيها ، حاذقا بالفتوى ، متقدما فيها ، متقنا للعلوم ، فاضلا ، جامعا للدراية والرواية ، وتوفي بطلبيرة (٦) سنة ٤٢٢ ، وهو ابن ست وثمانين سنة ، حدث عنه جماعة من علماء الأندلس (٧) ، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل ، رحمه الله تعالى!.

وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه : إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه ، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه ، وتوفي ممتحنا (٨) من نغلة (٩) بين كتفيه سنة ٥٢٥ بمدينة قرطبة ، انتهى.

__________________

(١) التكسير : علم من علوم التنجيم.

(٢) في ه : «تمهر بالطب».

(٣) في السيوطي : «ابن زهير» محرفا.

(٤) انظر ترجمته في ابن أبي أصيبعة ج ٢ ص ٦٦.

(٥) دانية : مدينة بشرقي الأندلس ، حسنة لها ربض عامر ، وعليها سور حصين. (صفة جزيرة الأندلس ص ٧٦).

(٦) طلبيرة : هي أقصى ثغور المسلمين بالأندلس وهي مدينة كبيرة (صفة جزيرة الأندلس ص ١٢٨).

(٧) في ب : «الأندلس».

(٨) ممتحن : مبتليا.

(٩) النغلة : فساد الجرح.


وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة ، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته : أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجل سامعا للنداء ، دافعا للتطاول والاعتداء ، لم ينظم الله تعالى بلبّتك الملك عقدا ، وجعل لك حلّا للأمور وعقدا ، وأوطأ لك عقبا ، وأصار من الناس لعونك منتظرا ومرتقبا ، إلا أن تكون للبرية حائطا ، وللعدل فيهم باسطا ، حتى لا يكون فيهم من يضام ، ولا ينال أحدهم اهتضام ، ولتقصر يد كل معتد في الظلام ، وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا ، وأوضحت له إلى الاستطالة سننا ، لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته ، ولا تمادى على غيه إلا حين لم تنهه أو نهيته ، ولما علم أنك لا تنكر عليه نكرا ، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكرا ، جرى في ميدان الأذية ملء عنانه ، وسرى إلى ما شاء بعدوانه ، ولم يراقب الذي خلقه ، وأمدّ في الحظوة عندك طلقه ، وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور ، ولتسكن بك الفلاة والغور (١) ، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق ، وأخفق به كلّ فريق ، وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وما تخفى عليه نجواك ، ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك (٢) ، وستقف بين يدي عدل حاكم ، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم ، قد علم كل قضية قضاها ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فبم تحتج معي لديه ، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه؟ أترى ابن زهر ينجيك في ذلك المقام ، أو يحميك من الانتقام ، وقد أوضحت لك المحجّة (٣) ، لتقرم عليك الحجة ، والله سبحانه النصير ، وهو بكل خلق بصير ، لا رب غيره ، والسلام (٤).

وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقا : [بحر الطويل]

أتاني ورحلي بالعراق عشية

ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا

نعيّ أطار القلب عن مستقرّه

وكنت على قصد فأغلطني القصدا

نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف ، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف ، لقد سام الردى منه حسنا وجمالا ووسامة ، وطوى بطيّه نجده وتهامه ، فعطل منه النّديّ والنّدى ، وأثكل فيه الهديّ والهدى ، كم فلّ السيوف طول قراعه ، ودل عليه الضيوف موقد ناره

__________________

(١) الغور : المطمئن المنخفض من الأرض.

(٢) مثواك : إقامتك.

(٣) المحجة : الطريق.

(٤) في ب : «انتهى».


ببقاعه (١) ، وكم تشوف إليه السرير والمنبر ، وتصرف فيه الثناء المحبّر ، وكم راع البدر ليلة إبداره ، وروّع العدو في عقر داره ، وأي فتى غدا له البحر ضريحا ، وأعدى عليه الحين ماء وريحا ، فبدل من ظلل على ومفاخر ، بقعر بحر طامي اللجج زاخر ، وبدل من صهوات الخيل ، بلهوات اللجج والسّيل ، غريق حكى مقلتي في دمعها ، وأصاب نفسي في سمعها ، ومن حزن لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده ، ولا ثرى تروي به تهائمه ونجوده ، وقد آليت أن لا أودع الريح تحية ، ولا يورثني هبوبها أريحية ، فهي التي أثارت في الموج حنقا (٢) ، ومشت عليه خببا وعنقا (٣) ، حتى أعادته كالكثبان (٤) ، وأودعته قضيب بان ، فيا أسفا لزلال غاض في أجاج ، ولسلسال فاض عليه بحر عجّاج ، وما كان إلا جوهرا ذهب إلى عنصره ، وصدفا بان عن عين مبصره ، لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام (٥) ، وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام (٦) وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام ، ينحن فتى ما ذرّت الشمس إلا ضر أو نفع ، ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع ، فكم نعمنا بدنوه ، ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوّه ، وأقمنا بروضة موشيّة ، ووقفنا بالمسرات عشيّة ، وأدرناها ذهبا سائلة ، ونظرناها وهي شائلة ، لم نرم السهر ، ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر ، ولو غير الحمام (٧) زحف إليه جيشه ، أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه ، لفداه من أسرته كل أروع (٨) إن عاجله المكروه تثبطه ، أو جاءه الشر تأبطه ، ولكنها المنايا لا تردّها الصّوارم والأسل (٩) ، ولا تفوتها ذئاب الغضا العسّل (١٠) ، قد فرقت بين مالك وعقيل ، وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصّقيل ، انتهى.

وقد عرّفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع.

رجع إلى بيت بني زهر رحمهم الله تعالى ـ وأما أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور ، فهو عين ذلك البيت ، وإن كانوا كلهم أعيانا علماء رؤساء حكماء وزراء ، وقد نالوا المراتب العلية ، وتقدّموا عند الملوك ، ونفذت أوامرهم ، قال

__________________

(١) في ب : «بيفاعه».

(٢) الحنق : الغيظ.

(٣) الخبب والعنق : ضربان من السير السريع.

(٤) الكثبان : جمع كثيب ، وهو الرمل المتراكم.

(٥) يشام : يسلّ من غمده.

(٦) البشام : شجر طيب الرائحة صغير الورق لا ثمر له.

(٧) الحمام : الموت.

(٨) الأروع : الشهم الذكي.

(٩) الأسل : الرماح.

(١٠) العسل : من كان في لونة غبرة من الذئاب.


الحافظ أبو الخطاب بن دحية في «المطرب ، من أشعار أهل المغرب» : كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين ، ومورد من الطّلب عذب معين ، وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب ، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب ، والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب ، مع سمو النسب ، وكثرة الأموال والنّشب (١) ، صحبته زمانا طويلا ، واستفدت منه أدبا جليلا ، وأنشد من شعره المشهور قوله : [بحر الكامل]

وموسّدين على الأكفّ خدودهم

قد غالهم نوم الصّباح وغالني

ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم

حتى سكرت ونالهم ما نالني

والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها

إني أملت إناءها فأمالني

ثم قال ابن دحية : وسألته عن مولده ، فقال : ولدت سنة سبع وخمسمائة ، قال : وبلغتني وفاته آخر سنة ٥٩٥ ، رحمه الله تعالى! انتهى.

وزعم ابن خلكان أن ابن زهر ألمّ في الأبيات المذكورة بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله: [بحر الكامل]

عاقرتهم مشمولة لو سالمت

شرّابها ما سمّيت بعقار

ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت

صرعى تداس بأرجل العصّار

لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت

منهم وصاحت فيهم بالثار

ومن المنسوب إلى أبي بكر بن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء ، [وهو من أجلّ كتبهم وأكبرها] [الخفيف] :

حيلة البرء صنعة لعليل

يترجّى الحياة أو لعليله(٢)

فإذا جاءت المنية قالت :

حيلة البرء ليس في البرء حيله

ومن شعره رحمه الله تعالى يتشوّق ولدا له صغيرا بإشبيلية وهو بمراكش : [المتقارب]

ولي واحد مثل فرخ القطاة

صغير تخلّفت قلبي لديه

وأفردت عنه فيا وحشتا

لذاك الشّخيص وذاك الوجيه

تشوّقني وتشوّقته

فيبكي عليّ وأبكي عليه

__________________

(١) النشب : العقار.

(٢) في ابن خلكان : حيلة البرء صنفت لعليل.


وقد تعب الشوق ما بيننا

فمنه إليّ ومنّي إليه

وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلامة سيدي أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لما قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية ، وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ، ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ، ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدّة ، وفرشها بمثل فرشه ، وجعل فيها مثل آلاته ، ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار ، ثم احتال عليه حتى جاء [إلى] (١) ذلك الموضع ، فرآه أشبه شيء ببيته وحارته ، فاحتار لذلك ، وظنّ أنه نائم ، وأن ذلك أحلام ، فقيل له : ادخل البيت الذي يشبه بيتك ، فدخله ، فإذا ولده الذي تشوّق إليه يلعب في البيت ، فحصل له من السرور ما لا [مزيد عليه ، ولا] يعبر عنه ، هكذا هكذا وإلا فلا لا.

ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب : [بحر البسيط]

إني نظرت إلى المرآة قد جليت

فأنكرت مقلتاي كلّ ما رأتا

رأيت فيها شويخا لست أعرفه

وكنت أعهده من قبل ذاك فتى(٢)

فقلت : أين الذي بالأمس كان هنا؟

متى ترحّل عن هذا المكان؟ متى؟

فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة :

إن الذي أنكرته مقلتاك أتى

كانت سليمى تنادي يا أخيّ وقد

صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا

والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل (٣) : [بحر الوافر]

وإذا دعونك عمهنّ فإنه

نسب يزيدك عندهنّ خبالا

وإذا دعونك يا أخيّ فإنه

أدنى وأقرب خلة ووصالا

وقال ابن دحية في حقه أيضا : والذي انفرد به شيخنا وانقاد لطباعه (٤) ، وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه ، الموشحات ، وهي زبدة الشعر ونخبته ، وخلاصة جوهره وصفوته ، وهي

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من ه.

(٢) في ابن خلكان ج ٤ ص ٤٣٤ : رأيت فيها سييخا لست أعرفه.

(٣) ديوان الأخطل ص ٢٣.

(٤) في ب : «وانقادت لتحليته طباعه». وفي ه : «وانقادت إليه طباعه».


من الفنون التي أغرب (١) بها أهل المغرب على أهل المشرق ، وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق ، انتهى.

ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله :

ما للموله من سكره لا يفيق

وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن ، ويرون أنه من أحسن الموشحات.

ومن موشحاته قوله :

سلم الأمر للقضا

فهو للنفس أنفع

واغتم حين أقبلا

وجه بدر

تهللا لا تقل بالهموم لا

كل ما فات وانقضى

ليس بالحزن يرجع

واصطبح بابنة الكروم

من يدى شادن رخيم(٢)

حين يفترّ عن نظيم

فيه برق قد أومضا

ورحيق مشعشع

أنا أفديه من رشا

أهيف القدّ والحشا(٣)

سقي الحسن فانتشى

مذ تولّى وأعرضا

ففؤادي يقطّع

من لصبّ غدا مشوق

ظلّ في دمعه غريق

حين أمّوا حمى العقيق

واستقلّوا بذي الغضا

أسفي يوم ودّعوا

ما ترى حين أظعنا

وسرى الركب موهنا(٤)

واكتسى الليل بالسنا

__________________

(١) في ه : «أغرب فيها».

(٢) الشادن : ولد الغزال.

(٣) الرشا : ولد الغزالة الذي قوي على المشي.

(٤) الموهن من الليل : منتصفه أو بعد منتصفه بقليل.


نورهم ذا الذي أضا

أم مع الركب يوشع(١)

ورأيت مع هذا موشحا آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا ، وهو هذا :

فتق المسك بكافور الصباح

ووشت بالرّوض أعراف الرياح

فاستقنيها (٢) قبل نور الفلق

وغناء الورق (٣) بين الورق

كاحمرار الشمس عند الشفق

نسج المزج عليها حين لاح

فلك اللهو وشمس الاصطباح

وغزال سامني بالملق

وبرا (٤) جسمي وأذكى حرقى

أهيف مذ سلّ سيف الحدق

قصرت عنه أنابيب الرماح

وثنى الذعر مشاهير الصفاح

صار بالدّل فؤادي كلفا

وجفون ساحرات وطفا

كلما قلت جوى الحب انطفا

أمرض القلب بأجفان صحاح

وسبى العقل بجدّ ومزاح

يوسفيّ الحسن عذب المبتسم

قمريّ الوجه ليليّ اللّمم(٥)

عنتريّ البأس علويّ الهمم

غصنيّ القدّ مهضوم الوشاح

مادريّ الوصل طائيّ السماح (٦)

قدّ بالقدّ فؤادي هيفا

وسبى عقلي لما انعطفا

ليته بالوصل أحيا دنفا (٧)

مستطار العقل مقصوص الجناح

ما عليه في هواه من جناح

__________________

(١) يوشع : رجل من بني إسرائيل حبست له الشمس من المغيب واستمر ذلك حتى كنيت الشمس «أخت يوشع».

(٢) في ب : «فاسقنيها».

(٣) الورق : الحمام.

(٤) في ب : «وبرى».

(٥) اللمم : جمع لمّة : الشعر الذي يتجاوز شحمة الأذن ، أرادها الشعر كلّه.

(٦) مادريّ : نسبة إلى مادر مضرب المثل في البخل.

(٧) الدنف : الذي أصابه المرض الشديد.


يا علي أنت نور المقل

جد بوصل منك لي يا أملي

كم أغنيك إذا ما لحت لي

طرقت والليل ممدود الجناح

مرحبا بالشمس من غير صباح

١٦٤ ـ ومنهم أبو الحجاج الساحلي ، يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي ، الفهري ، الغرناطي.

قال في الإحاطة : صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وطبقته ، ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم (١) وقد أصابته حمى تركت على شفته بثورا : [بحر السريع]

حاشاك أن تمرض حاشاكا

قد اشتكى قلبي لشكواكا

إن كنت محموما ضعيف القوى

فإنني أحسد حمّاكا

ما رضيت حمّاك إذ باشرت

جسمك حتى قبّلت فاكا

قال أبو الحجاج رحمه الله تعالى : وكتب إلى شيخنا محمد بن محمد بن عتيق بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي : [بحر الطويل]

أجزت لهم أبقاهم الله كلّ ما

رويت عن الأشياخ في سالف الدهر

وما سمعت أذناي من كل عالم

وما جاد من نظمي وما راق من نثري

على شرط أصحاب الحديث وضبطهم

بريء عن التصحيف عار عن النكر

كتبت لهم خطّي واسمي محمد

أبو القاسم المكنى ما فيه من نكر

وجدّي رشيق شاع في الغرب ذكره

وفي الشرق أيضا فادر إن كنت لا تدري

ولى مولد من بعد عشرين حجة

ثمان على الست المئين ابتدا عمري

وبالله توفيقي عليه توكلي

له الحمد في الحالين في العسر واليسر

ومولد أبي الحجاج المذكور سنة ٦٦٢ ، وتوفي سنة ٧٠٢ ، رحمه الله تعالى! انتهى باختصار.

__________________

(١) الوزير ابن الحكيم : هو أبو عبد الله بن الحكيم ذو الوزارتين المتوفى سنة ٧٥٠ ه‍. سيترجم له المقري فيما بعد.


١٦٥ ـ وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق شاعر الأندلس يحيى بن الحكم ، البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله ، وهو في المائة الثالثة ، من بني بكر بن وائل (١).

قال ابن حيان في «المقتبس» : كان الغزال حكيم الأندلس ، وشاعرها ، وعرافها ، عمر أربعا وتسعين سنة ، ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس : أولهم عبد الرحمن بن معاوية ، وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم.

ومن شعره : [الرجز]

أدركت بالمصر ملوكا أربعة

وخامسا هذا الذي نحن معه

وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب (٢). [بحر الكامل]

خرجت إليك وثوبها مقلوب

ولقلبها طربا إليك وجيب(٣)

وكأنها في الدار حين تعرّضت

ظبي تعلّل بالفلا مرعوب

وتبسّمت فأتتك حين تبسّمت

بجمان درّ لم يشنه ثقوب(٤)

ودعتك داعية الصّبا فتطرّبت

نفس إلى داعي الضلال طروب

حسبتك في حال الغرام كعهدها

في الدار إذ غصن الشباب رطيب

وعرفت ما في نفسها فضممتها

فتساقطت بهنانة رعبوب(٥)

وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن

فنزا إليّ عضنّك حلبوب(٦)

بيدي الشمال وللشّمال لطافة

ليست لأخرى والأديب أريب

فأصاب كفّي منه حين لمسته

بلل كماء الورد حين يسيب

وتحلّلت نفسي للذّة رشحه

حتى خشيت على الفؤاد يذوب

فتقاعس الملعون عنه وربّما

ناديته خيرا فليس يجيب

وأبى فحقّق في الإباء كأنه

جان يقاد إلى الردى مكروب

وتغضّنت جنباته فكأنه

كير تقادم عهده مثقوب

__________________

(١) انظر يحيى بن الحكم الغزال ـ تأليف محمد صالح البنداق ـ من منشورات دار الآفاق الجديدة ببيروت.

(٢) انظر يحيى الغزال تأليف البنداق ص ١٨٢.

(٣) الوجيب : الخفقان والاضطراب.

(٤) الجمان : الفضة وأراد ، هنا ، أسنانها ، ولم يشنه : لم يعبه.

(٥) الرعبوب : المرأة الناعمة البيضاء. البهنانة : الضحّاكة المتهللة.

(٦) الشاهن : طائر جارح. العضنّك : الفرخ المكتنز والحلبوب : الأسود.


حتى إذا ما الصبح لاح عموده

قبسا وحان من الظلام ذهوب

ساءلتها خجلا أما لك حاجة

عندي؟ فقالت : ساخر وحروب

قالت حرامك (١) إذ أردت وداعها

قرن وفيه عوارض وشعوب

وذكرها ابن دحية بمخالفة لما سردناه (٢).

قال عتبة التاجر : وجهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون ، فلقيته بالعراق ، فسألني عن هذه (٣) هل أحفظها للغزال؟ قلت : نعم ، فاستنشدنيها ، فأنشدته إياها ، فسربها (٤) ، وكتبها ، قال عتبة : ونلت بها حظا عنده.

والبهنانة : المرأة الطيبة النفس والأرج ، كما في الصحاح ، وقيل : اللينة في منقطها (٥) وعملها ، وقيل : الضحاكة المتهللة ، والرعبوب : السّبطة البيضاء ، والسبطة : الطويلة.

وقال سامحه الله تعالى : [بحر السريع]

سألت في النّوم أبي آدما

فقلت والقلب به وامق(٦)

ابنك بالله أبو حازم؟!

صلّى عليك المالك الخالق

فقال لي : إن كان منّي ومن

نسلي فحوّا أمّكم طالق

وقال رضي الله تعالى عنه : [بحر الوافر]

أرى أهل اليسار إذا توفّوا

بنوا تلك المقابر بالصخور

أبوا إلا مباهاة وفخرا

على الفقراء حتى في القبور

فإن يكن التفاضل في ذراها

فإن العدل فيها في القعور

رضيت بمن تأنّق في بناء

فبالغ فيه تصريف الدهور

ألمّا يبصروا ما خربته الد

هور من المدائن والقصور

لعمر أبيهم لو أبصروهم

لما عرف الغنيّ من الفقير

__________________

(١) في ب : «حرّ أمك».

(٢) انظر يحيى بن الحكم الغزال لمحمد صالح البنداق ص ١٨٠.

(٣) في ب : «القصيدة».

(٤) في ب : «فسرّ بها».

(٥) في ب : «منطقها».

(٦) الوامق : الشديد المحبة.


ولا عرفوا العبيد من الموالي

ولا عرفوا الإناث من الذكور

ولا من كان يلبس ثوب صوف

من البدن المباشر للحرير

إذا أكل الثّرى هذا وهذا

فما فضل الكبير على الحقير

وقال رضي الله تعالى عنه (١) : [بحر الخفيف]

لا ، ومن أعمل المطايا إليه

كلّ من يرتجي إليه نصيبا

ما أرى ههنا من الناس إلا

ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا

أو شبيها بالقط ألقى بعيني

ه إلى فارة يريد الوثوبا

وقال رضي الله تعالى عنه : [بحر الكامل]

قالت أحبّك قلت كاذبة

غرّي بذا من ليس ينتقد

هذا كلام لست أقبله

الشيخ ليس يحبه أحد

سيّان قولك ذا وقولك إن

الريح نعقدها فتنعقد

أو أن تقولي النار باردة

أو أن تقولي الماء يتقد

وحكى أبو الخطاب بن دحية في كتاب «المطرب» أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قرب (٢) الخمسين ، وقد وخطه الشيب (٣) ، ولكنه كان مجتمع الأشد (٤) ، فسألته زوجة الملك يوما عن سنه ، فقال مداعبا لها : عشرون سنة ، فقالت : وما هذا الشيب؟ فقال : وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قطّ مهرا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله ، فقال في ذلك ، واسم الملكة تود : [بحر السريع]

كلّفت يا قلبي هوى متعبا

غالبت منه الضّيغم الأغلبا(٥)

إني تعلقت مجوسيّة

تأبى لشمس الحسن أن تغربا

أقصى بلاد الله في حيث لا

يلفي إليه ذاهب مذهبا

يا تود يا رود الشباب التي

تطلع من أزرارها الكوكبا(٦)

__________________

(١) انظر يحيى بن الحكم الغزال لمحمد صالح البنداق ص ١٨٤.

(٢) في ب : «قارب».

(٣) وخطه الشّيب : خالط سواد رأسه.

(٤) مجتمع الأشد : قويّا.

(٥) الضيغم : الأسد. والأغلب : الأسد أيضا ، الغليظ العنق.

(٦) الرود : أراد الفتاة الشابة الجميلة الممشوقة.


يا بأبي الشخص الذي لا أرى

أحلى على قلبي ، ولا أعذبا(١)

إن قلت يوما إنّ عيني رأت

مشبهه أم أعد أن أكذبا

قالت أرى فوديه قد نوّرا

دعابة توجب أن أدعبا(٢)

قلت لها : ما باله؟ إنه

قد ينتج المهر كذا أشهبا

فاستضحكت عجبا بقولي لها

وإنما قلت لكي تعجبا

قال : ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت ، وأمرته بالخضاب ، فغدا عليها وقد اختضب وقال [بحر الكامل] :

بكرت تحسّن لي سواد خضابي

فكأن ذاك أعادني لشبابي

ما الشيب عندي والخضاب لواصف

إلا كشمس جلّلت بضباب

تخفي قليلا ثم يقشعها الصّبا

فيصير ما سترت به لذهاب

لا تنكري وضح المشيب فإنما

هو زهرة الأفهام والألباب

فلديّ ما تهوين من زهو (٣) الصبا

وطلاوة الأخلاق والآداب

وحكى ابن حيان في «المقتبس» أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجّه شاعره الغزال إلى ملك الروم ، فأعجبه حديثه ، وخف على قلبه ، وطلب منه أن ينادمه ، فامتنع من ذلك ، واعتذر بتحريم الخمر ، وكان يوما جالسا عنده ، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها ، وهي كالشمس الطالعة حسنا ، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها ، وجعل الملك يحدثه وهولاه عن حديثه ، فأنكر ذلك عليه ، وأمر الترجمان بسؤاله ، فقال له : عرّفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه ، فإني لم أر قط مثلها ، وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها ، وأنها شوقته إلى الحور العين ، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده ، وسرّت الملكة بقوله ، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان ، وتجشّم المكروه فيه ، وتغيير خلق الله ، مع خلوّه من الفائدة ، فقال للترجمان : عرفها أن فيه أكبر فائدة ، وذلك أن الغصن إذا زبر قوي (٤) ، واشتد ، وغلظ ، وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقا ضعيفا ، فضحكت وفطنت لتعريضه ، انتهى.

__________________

(١) بأبي : أفدي بأبي.

(٢) الفودان : مثنى فود ، وهو الشعر الذي على جانب الرأس مما يلي الأذنين.

(٣) في ب : «شأن».

(٤) زبر الغصن : هذّبه بالقطع وشذّبه.


ومن شعر الغزال قوله : [بحر الكامل]

يا راجيا ودّ الغواني ضلّة

وفؤاده كلف بهنّ موكّل

إن النساء لكالسّروج حقيقة

فالسّرج سرجك ريثما لا تنزل

فإذا نزلت فإنّ غيرك نازل

ذاك المكان وفاعل ما تفعل

أو منزل المجتاز أصبح غاديا

عنه وينزل بعده من ينزل

أو كالثمار مباحة أغصانها

تدنو لأول من يمر فيأكل

أعط الشبيبة لا أبا لك حقّها

منها ، فإنّ نعيمها متحوّل

وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع

عند النساء بكل ما تستبدل

وقال : [بحر مجزوء الرمل]

قال لي يحيى وصرنا

بين موج كالجبال

وتولتنا رياح

من دبور وشمال(١)

شقت القلعين وابنتّ (٢)

ت عرا تلك الحبال(٣)

وتمطّى ملك المو

ت إلينا عن حيال

فرأينا الموت رأي ال

عين حالا بعد حال

لم يكن للقوم فينا

يا رفيقي رأس مال

ومنها :

وسليمى ذات زهد

في زهيد في وصال

كلما قلت صليني

حاسبتني بالخيال

والكرى قد منعته

مقلتي أخرى الليالي

وهي أدرى فلماذا

دافعتني بمحال

أترى أنا اقتضينا

بعد شيئا من نوال

__________________

(١) الدبور : الريح الغربية.

(٢) في ب : «وأنبتت». أنبتت : انفضحت وتقطعت.

(٣) في ب : «عرى».


وله : [بحر الكامل]

من ظن أن الدهر ليس يصيبه

بالحادثات فإنه مغرور

فالق الزمان مهوّنا لخطوبه

وانجرّ حيث يجرك المقدور

وإذا تقلبت الأمور ولم تدم

فسواء المحزون والمسرور

وعاش الغزال أربعا وتسعين سنة ، وتوفي في حدود الخمسين والمائتين ، سامحه الله تعالى!.

وكان الغزال أقذع (١) في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب (٢) ، فذكر ذلك لعبد الرحمن ، فأمر بنفيه ، فدخل العراق ، وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة ، فوجدهم يلهجون بذكره ، ولا يساوون شعر أحد بشعره ، فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس (٣) ، واستهجنوا أشعارهم ، فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس ، فقال لهم : من يحفظ منكم قوله : [بحر الطويل]

ولما رأيت الشّرب أكدت سماؤهم

تأبّطت زقّي واحتبست عنائي(٤)

فلما أتيت الحان ناديت ربّه

فثاب خفيف الروح نحو ندائي

قليل هجوع العين إلا تعلّة

على وجل مني ومن نظرائي

فقلت أذقنيها فلما أذاقها

طرحت عليه ريطتي وردائي(٥)

وقلت أعرني بذلة أستتر بها

بذلت له فيها طلاق نسائي

فو الله ما برت يميني ولا وفت

له غير أني ضامن بوفائي

فأبت إلى صحبي ولم أك آئبا

فكلّ يفدّيني وحقّ فدائي

فأعجبوا بالشعر ، وذهبوا في مدحهم له ، فلما أفرطوا قال لهم : خفضوا عليكم ، فإنه لي ، فأنكروا ذلك ، فأنشدهم قصيدته التي أولها [بحر الطويل] :

تداركت في شرب النبيذ خطائي

وفارقت فيه شيمتي وحيائي

فلما أتمّ القصيدة بالإنشاد خجلوا ، وافترقوا عنه.

__________________

(١) أقذع في الهجاء : أفحش.

(٢) في ج : «بابن زرياب».

(٣) أزرى به : ازدراه وعابه وحطّ من قيمته.

(٤) الشرب : بفتح الشين وسكون الراء ـ جماعة الشاربين. والزقّ : وعاء من جلد توضع فيه الخمرة.

(٥) الريطة : الثوب الرقيق.


وحكي أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١] فلما رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها ، فأناب إلى الله ، فعاد إلى حاله.

وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء (١) كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها ومرت عليهم قصيدته التي أولها : [بحر الطويل]

لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم

إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم

حتى انتهى القارئ إلى قوله :

تجاف عن الدنيا فما لمعجّز

ولا عاجز إلا الذي خطّ بالقلم

فقال له الغزال ، وكان في الحلقة ، وهو إذ ذاك حدث نظام متأدب ذكي القريحة : أيها الشيخ ، وما الذي يصنع مفعّل مع فاعل؟ فقال له : كيف تقول؟ فقال : كنت أقول : فليس لعاجز ولا حازم ، فقال له عباس : والله يا بني لقد طلبها عمّك فما وجدها.

وأنشد يوما قوله من قصيدة : [بحر الطويل]

بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشى (٢)

بكفي حتى آب خاويه من بقري(٣)

فقال له بكر بن عيسى الشاعر : أما والله يا أبا العلاء ، لئن كنت بقرت الحشى (٤) لقد وسخت يديك بفرثه (٥) ، وملأتهما بدمه ، وخبثت (٦) نفسك بنتنه ، وخشمت أنفك (٧) بعرفه ، فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه.

١٦٦ ـ ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق ، المحلي بجواهره صدور المهارق (٨) ، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي.

متمم كتاب «المغرب ، في أخبار المغرب» قال فيه : وأنا أعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما

__________________

(١) الجزيرة الخضراء : بالأندلس ، بينها وبين مدينة قلشانة أربعة وستون ميلا (صفة جزيرة الأندلس ص ٧٣).

(٢) في ب : «الحشا».

(٣) بقر الشيء بقرا : شقّه.

(٤) في ب : «الحشا».

(٥) الفرث : السرجين ما دام في الكرش.

(٦) في ب : «خبّثت نفسك».

(٧) خشم الأنف : تغيرت ريحه.

(٨) المهارق : جمع مهرق وهو الصحيفة البيضاء.


اعتذر به ابن الإمام في كتاب «سمط الجمان» وبما اعتذر به الحجاري في كتاب «المسهب» وابن القطّاع في «الدرة الخطيرة» وغيرهم من العلماء.

فمن نظمه عند ما ورد الديار المصرية : [بحر الكامل]

أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى

ما بينها وجها لمن أدريه

عودي على بدئي ضلالا بينهم

حتى كأني من بقايا التّيه

ويح الغريب توحّشت ألحاظه

في عالم ليسوا له بشبيه

إن عاد لي وطني اعترفت بحقه

إن التغرّب ضاع عمري فيه

وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص : [بحر الكامل]

الأفق طلق والنسيم رخاء

والروض وشّت برده الأنداء(١)

والنهر قد مالت عليه غصونه

فكأنما هو مقلة وطفاء(٢)

وبدا نثار الجلّنار بصفحه

فكأنما هو حيّة رقطاء

والشمس قد رقمت طرازا فوقه

فكأنما هي حلة زرقاء(٣)

تدعوك حيّ على الصّبوح فلا تنم

فعلى المنام لدى الصباح عفاء(٤)

وله [أيضا] : [بحر الخفيف]

كم جفاني ورمت أدعو عليه

فتوقفت ثم ناديت قائل

لا شفى الله لحظه من سقام

وأراني عذاره وهو سائل

وله من قصيدة كتب بها إلى ملك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السّبتي شافعا لشخص رغب في خدمته : [بحر الكامل]

بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد

لا فارقتك كفاية وعطاء

__________________

(١) الأنداء : جمع ندى ، وهو المطر.

(٢) المقلة الوطفاء : العين الكثيرة شعر الأهداب.

(٣) في ب : «كؤوسك».

(٤) الصبوح : أراد ما يشرب من الخمر عند الصباح.


ما كلّ من طلب السعادة نالها

وطلاب ما يأبى القضاء شقاء

ومنها :

وقد استطار بأسطري نحو الندى

من أنهضته لنحوك العلياء

طلب النباهة في ذراك فما له

إلا لديك تأمّل ورجاء(١)

وهو الذي بعد التجارب أحمدت

أحواله وجرى عليه ثناء

لا يقرب الدنس المريب كواصل

هجرته خوفا أن يشان الراء

[قد مارس الحرب الزبون زمانه

وجرت عليه شدة ورخاء] (٢)

وعلاك تقضي أن يسود بأفقها

لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء

وقوله من قصيدة : [بحر الكامل]

ألف التغرّب والتوحّش مثل ما

ألف التوحّش والنفور ظباء

حجّابه ألفوا التهجّم والجفا

فهم لكل أخي هدى أعداء

مهما يرم طلب إليه تقربا

بعدت بذاك البدر عنه سماء

لكنني ما زلت أخدع حاجبا

ومراقبا حتى ألان حباء(٣)

والأرض لم تظهر محجب نبتها

حتى حبتها الديمة الوطفاء(٤)

قيل : وهذا معنى لم يسمع من غيره ، وقوله في خسوف البدر : [بحر الكامل]

شان الخسوف البدر بعد جماله

فكأنه ماء عليه غثاء(٥)

أو مثل مرآة لخود قد قضت

نظرا بها فعلا الجلاء غشاء

وله من قصيدة عتاب يقول فيها : [بحر الكامل]

ولقد كسبت بكم علا لكنها

نظرا بها فعلا الجلاء غشاء

__________________

(١) الذرى : ساحة الدار.

(٢) هذا البيت غير موجود في ه. والحرب الزبون : الشديدة المتدافعة.

(٣) الحباء : العطاء.

(٤) حبتها : أعطتها. والديمة : المطر الذي يسقط بهدوء دون برق أو رعد.

(٥) الغثاء : الزبد.


فغدوت ما بين الصحابة أجربا

كلّ يحاذر مني الأعداء

ولقد أرى أن النجوم تقلّ لي

حجبا وأصغر أن أحلّ سماء

فليهجروا هجر الفطيم لدرّه

ويساعدوا الزمن الخؤون (١) جفاء

فلقد شكوت لهم إحالة ودّهم

إذ لم أكن أرضى بهم خدماء(٢)

إيه فذكرهم أقلّ ، وإنما

أومي إليك فتفهم الإيماء

لو لم يكن قيد (٣) لما فتكت ظبا

أنت الذي صيرتهم أعداء

ولو انني أرجو ارتجاعك لم أطل

شكوى ولم أستبعد الإغضاء

لكن رأيتك لا تميل سجيّة

نحوي ولا تتكلّف الإصغاء

إن لم يكن عطف فمنّوا بالنّوى

إن الكريم إذا أهين تناءى

وقوله : [بحر الكامل]

ولكم سرينا في متون ضوامر

تثني أعنتها من الخيلاء(٤)

من أدهم كالليل حجّل بالضحى

فتشقّ غرّته عن ابن ذكاء(٥)

أو أشهب يحكي غدائر أشيب

خلعت عليه الشهب فضل رداء

أو أشقر قد نمّقته بشعلة

كالمزج ثار بصفحة الصّهباء

أو أصفر قد زيّنته غرّة

حتى بدا كالشمعة الصفراء

طارت ، ولكن لا يهاض جناحها

هبّت ، ولكن لم تكن برخاء

وقوله من أبيات في افتضاض بكر : [بحر الكامل]

وخريدة ما إن رأيت مثالها

حيّت من الألحاظ بالإيماء(٦)

فسألتها سمع الشكاة فأفهمت

أن الرقيب جهينة الأنباء

__________________

(١) الخؤون : الكثير الخيانة. صيغة مبالغة من اسم الفاعل.

(٢) إحالة ودّهم : تغيره وتبدله.

(٣) في ب : «قين». والظبا : جمع ظبة وهي حدّ السيف والسّنان.

(٤) سرينا : سرنا ليلا. والمتون : الظهور ، والضوامر : جمع ضامر وهو الفرس الذي ضمر بطنه ، والخيلاء : الكبر والإعجاب.

(٥) ذكاء : الشمس. وابن ذكاء : القمر.

(٦) الخريدة : أراد : البكر.


وتبعتها وسألت منها قبلة

في خلوة من أعين الرقباء

فثنت علي قوامها بتعانق

أحيا فؤادا مات بالبرحاء(١)

ووجدتها لما ملكت عنانها

عذراء مثل الدرة العذراء

جاءت إلي كوردة محمرّة (٢)

فتركتها كعرارة صفراء(٣)

وسلبتها ما احمرّ منها صفوه

فجرى مذابا منجحا لرجائي

وقوله من أبيات : [بحر الكامل]

أحبابنا عودوا علينا عودة

ما منكم بعد التفرق مرغب

كم ذا أداريكم بنفسي جاهدا

وكأنما أرضيكم كي تغضبوا

وأزيد بعدا ما اقتربت إليكم

كالسّهم أبعد ما يرى إذ يقرب

وأجوب نحوكم المنازل جاهدا

ومع اجتهادي فاتني ما أطلب(٤)

كالبدر أقطع منزلا في منزل

فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب

وقوله من أبيات [البحر الطويل] :

سألتك يا من يستلان فيصعب

ومن يترضّى بالحياة فيغضب

أما خدّك البدر المنير فلم غدت

تحلّ به ضدّ القضية عقرب(٥)

وقوله ، وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز : [بحر الطويل]

أيا سارقا (٦) ملكا مصونا ولم يجب

على يده قطع وفيه نصاب(٧)

ستندبه الأقلام عند عثارها

ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب

وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب [بحر الخفيف] :

أنا لون الشباب والخال أهدي

ت لمن قد كسا الزمان شبابا

__________________

(١) البرحاء : الشدة.

(٢) في ب : «حمراء».

(٣) العرارة : واحدة العرار وهو نبت أصفر طيب الرائحة أو هو النرجس البرّي.

(٤) أجوب المنازل : أقطعها.

(٥) العقرب : منزلة من منازل القمر.

(٦) في أ : ساقا. وهو خطأ مطبعي والتصويب من ب.

(٧) النصاب : مقدار بينه الفقه لا يقطع السارق إلا إذا بلغه المسروق.


ملك العالمين نجم بني أي

وب لا زال في المعالي شهابا

جئت ملأى من الثناء عليه

من شكور إحسانه والثوابا

لست ممّن له خطاب ولكن

قد كفاني أريج عرفي خطابا(١)

وقوله من قصيدة : [بحر السريع]

فالحمد لله على ساعة

قد قرّبتني من علا الصاحب

ولعيذر المولى على أنني

قد كنت من علياه في جانب

كمن أتى نافلة أولا

ثم أتى من بعد بالواجب(٢)

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

فإن كنت في أرض التغرّب غاربا

فسوف تراني طالعا فوق غارب(٣)

فصمصام عمرو حين فارق كفه

رموه ولا ذنب لعجز المضارب(٤)

وما عزة الضّرغام إلّا عرينه

ومن مكة سادت لؤي بن غالب

وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية : [بحر الطويل]

وأجرد تبري أثرت به الثرى

وللفجر في خصر الظلام وشاح(٥)

له لون ذي عشق وحسن معشّق

لذلك فيه ذلّة وقراح(٦)

عجبت له وهو الأصيل بعرفه

ظلام وبين الناظرين صباح

يقيد طير اللحظ والوحش عندما

يطير به نحو النجاح جناح

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

إذا ما غراب البين صاح فقل له

ترفّق رماك الله يا طير بالبعد

لأنت على العشاق أقبح منظرا

وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد

__________________

(١) الأريج : طيب الرائحة وتضوعها والعرف بفتح العين وسكون الراء ـ الرائحة الطيبة.

(٢) النافلة : ما يفعله المرء زيادة ، ولم يجب عليه.

(٣) الغارب : في الأصل سنام البعير ، وأراد : ذروة الشيء.

(٤) الصمصام : هنا الصمصامة ، سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي ولهذا السيف تاريخ طويل وشغل حيزا في الشعر والأدب.

(٥) التبريّ : أراد : يشبه لونه لون الذهب.

(٦) في ب : «دلّة».


تصيح بنوح ثم تعثر ماشيا

وتبرز في ثوب من الحزن مسودّ

متى نحت (١) صح البين وانقطع الرجا

كأنك من وشك الفراق على وعد

وقوله في غلام جميل الصورة أهدي تفاحة : [بحر مجزوء الرمل]

ناب ما أهديت عن عر

ف وعن ريق وخدّ

حبّذا تفاحة قد

أشبهت أوصاف مهدي

بتّ منها في سرور

فكأن قد بتّ عندي

وقوله من قصيدة : [بحر البسيط]

هذا الذي يهب الدنيا بأجمعها

وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر(٢)

إن هزّه المدح فالأموال في بدد

والغصن ما هزّ إلا بدّد الثمر(٣)

[فقلت لما بدا لي حسن منظره

لكنه زاد إشراقا : هو القمر] (٤)

متّع لحاظك في وجه بلا ضرر

إن كان شمسا يداه تحتها مطر

وقوله من أبيات : [بحر الكامل]

لي جيرة ضنّوا عليّ وجاروا

فنبت بي الأوطان والأوطار(٥)

ومن العجائب أنني مع جورهم

ما قرّ لي بعد الفراق قرار

وقوله : [بحر الكامل]

أنا شاعر أهوى التخلّي دون ما

زوج لكيما تخلص الأفكار

لو كنت ذا زوج لكنت منغّصا

في كل حين رزقها أمتار(٦)

دعني أرح طول التغرب خاطري

حتى أعود ويستقر قرار

كم قائل (٧) قد ضاع شرخ شبابه

ما ضيّعته بطالة وعقار(٨)

__________________

(١) في ب : «لحت».

(٢) في ه : «يلفى وهو يعتذر» تصحيفا ، ويلفي : يوجد.

(٣) في بدد ـ مفرقة موزعة. وبدّد الثمر : فرّق.

(٤) هذا البيت غير موجود في ه.

(٥) ضنوا : بخلوا. ونبت بي الأوطان : بعدت. والأوطار : جمع وطر وهو الغرض والقصد.

(٦) أمتار : جمع الميرة أي الطعام.

(٧) في ب : «لي».

(٨) شرخ الشباب : قوته ونشاطه. والعقار ـ بضم العين ـ الخمر.


إذ لم أزل في العلم أجهد دائما

حتى تأتّت هذه الأبكار

مهما أرم من دون زوج لم أكن

كلّا ورزقي دائما مدرار(١)

وإذا خرجت لفرجة هنيتها

لا ضيعة (٢) ضاعت ولا تذكار (٣)

وقوله من قصيدة : [بحر الكامل]

ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في ال

دنيا وأن أمسي غريبا معسرا

أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما

أقصاه راميه المجيد ليخبرا

وقوله سامحه الله تعالى : [بحر مخلع البسيط]

وافى عليّ لنا بسيف

والبين قد حان والوداع(٤)

فقال شبّه فقلت شمس

قد مد من نورها شعاع(٦)

وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي ، وقد هزم ابن هود (٥) : [بحر الكامل]

لله فرسان غدت راياتهم

مثل الطيور على عداك تحلّق

السمر تنقط ما تسطّر بيضهم

والنقع يترب والدماء تخلق

وقال ارتجالا بمحضر زكي الدين بن أبي الأصبغ (٧) وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة ، وقد مضى حدهم (٨) على بسيط نرجس : [بحر السريع]

يا واطئ النرجس ما تستحي

أن تطأ الأعين بالأرجل

فتهافتوا بهذا البيت ، وراموا إجازته ، فقال ابن أبي الإصبع (٩) مجيزا : [بحر السريع]

__________________

(١) الكل : العالة على غيرة. ومدرار : كثير.

(٢) في ب : «صنعة».

(٣) في ب ، ه : «لا صفة ضاعت ولا تذكار».

(٤) البين : هنا البعد.

(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ١٧٧.

(٦) السمر : الرماح والبيض : السيوف والنقع : الغبار.

(٧) في ب : «الإصبع».

(٨) في ب : «أحدهم».

(٩) في ب : «الإصبع».


فقلت دعني لم أزل محرجا

على لحاظ الرّشإ الأكحل(١)

وكان أمثل ما حضرهم ، ثم أبوا أن يجيزه غيره ، فقال : [بحر السريع]

قابل جفونا بجفون ولا

تبتذل الأرفع بالأسفل(٢)

وقوله في الجزيرة الصالحية (٣) بمصر ، وهي الشهيرة الآن بالروضة : [بحر الطويل]

تأمّل لحسن الصالحية إذ بدت

مناظرها مثل النجوم تلالا(٤)

وللقلعة الغراء كالبدر طالعا

تفجّر صدر الماء عنه هلالا

ووافى إليها النيل من بعد غاية

كما زار مشغوف يروم وصالا(٥)

وعانقها من فرط شوق بحسنها

فمدّ يمينا نحوها وشمالا

جرى قادما بالسعد فاختط حولها

من السعد إعلاما بذلك دالا

وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر : [بحر الوافر]

وقد أرسلته نحو الأعادي

كما جردت من غمد حساما

وقوله في قوس : [بحر الخفيف]

أنا مثل الهلال في ظلم النّق

ع سهامي تنقضّ مثل النجوم

تقصر القضب والقنا عن مجالي

عند رجمي بها لكل رجيم(٦)

قد كستها الطيور لما رأتها

كافلات لها برزق عميم

وقوله من أبيات : [بحر الطويل]

وأشقر مثل البرق لونا وسرعة

قصدت عليه عارض الجود فانهمى

ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة ، فنقول :

قال لسان الدين : علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن

__________________

(١) الرشأ : ولد الغزالة.

(٢) ابتذل : امتهن.

(٣) الصالحية : نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب سابع ملوك الأيوبيين بمصر. ولم يورد ياقوت الصالحية هذه في معجم البلدان تحت هذا الاسم.

(٤) وتلالا : أصلها : تتلألأ. حذف إحدى التاءين ثم خفف الهمزة.

(٥) المشغوف : الشغف : أقصى الحب وأقواه. والمشغوف : المحب المغرم.

(٦) القضب : جمع قضيب : السيف. والقنا : أراد الرماح.


سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله (١) بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي ، المدلجي (٢) ، من أهل قلعة يحصب ، غرناطي ، قلعي (٣) ، سكن تونس ، أبو الحسن بن سعيد ، وهذا الرجل وسطى عقد بيته ، وعلم أهله ، ودرة قومه ، المصنف ، الأديب ، الرحالة ، الطرفة ، الأخباري ، العجيب الشأن في التجوّل في الأقطار ، ومداخلة الأعيان ، للتمتّع (٤) بالخزائن العلمية ، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية ، أخذ من أعلام إشبيلية كأبي علي الشّلوبين ، وأبي الحسن الدباج وابن عصفور وغيرهم ، وتواليفه كثيرة : منها «المرقصات والمطربات» و «المقتطف ، من أزاهر الطرف» و «الطالع السعيد ، في تاريخ بني سعيد» تاريخ بيته وبلده (٥) ، والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار ، وهما «المغرب ، في حلى المغرب» و «المشرق ، في حلى المشرق» وغير ذلك مما لم يتصل إلينا ، فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه تخلف كتابا يسمى «المرزمة» يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلا الله تعالى ، وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله ، فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل بن مالك ، فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه : [بحر المنسرح]

كأنما النهر صفحة كتبت

أسطرها ، والنسيم ينشئها

لما أبانت عن حسن منظرها

مالت عليها الغصون تقرؤها

فطرب وأثنى عليه.

ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة ، ومازج الأدباء ، ودوّن كثيرا من نظمه ، ودخل القاهرة ، فصنع له أدباؤها صنيعا في ظاهرها ، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس ، وكان فيهم أبو الحسين (٦) الجزار فجعل يدوس النرجس برجله ، فقال أبو الحسن : [بحر السريع]

يا واطئ النرجس ما تستحي

أن تطأ الأعين بالأرجل

__________________

(١) في ب : «بن سعد».

(٢) المدلجي : نسبة إلى مدلج ، وهي قبيلة من كنانة.

(٣) قلعة يحصب : بلد بالأندلس (معجم البلدان ج ٤ ص ٣٩١) والقلعي : نسبة إليها.

(٤) في ب : «والتمتع».

(٥) في ب : «بلده وبيته».

(٦) في ج ، ه : «أبو الحسن».


فتهافتوا بهذا البيت ، وراموا إجازته ، فقال ابن أبي الأصبغ : [بحر السريع]

فقال دعني لم أزل محنقا

على لحاظ الرشإ الأكحل

وكان أمثل ما حضرهم ، ثم أبوا أن يجيزه غيره ، فقال : [بحر السريع]

قابل جفونا بجفون ، ولا

تبتذل الأرفع بالأسفل

ثم استدعاه سيف الدين بن سابق إلى مجلس بضفّة النيل مبسوط بالورد ، وقد قامت حوله شمامات نرجس ، فقال في ذلك : [بحر السريع]

من فضّل النرجس فهو الذي

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام في خدمته النرجس

ووافق ذلك مماليك الترك وقوفا في الخدمة ، على عادة المشارقة فطرب الحاضرون.

ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيرا وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم ، ورحل صحبة كمال الدين بن العديم (١) إلى حلب ، فدخل على الناصر صاحب حلب ، فأنشده قصيدة أولها : [بحر الكامل]

جد لي بما لقي (٢) الخيال من الكرى

لا بد للضيف الملمّ من القرى(٣)

فقال كمال الدين : هذا رجل عارف ، ورّى بمقصوده من أول كلمة ، وهي قصيدة طويلة ، فاستجلسه (٤) السلطان ، وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته ، وأخبره أنه جمع كتابا في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق ، وأخبره أنه سماه «المشرق ، في حلى المشرق» وجمع مثله فسماه «المغرب ، في حلى المغرب» فقال : نعينك بما عندنا من الخزائن ، ونوصلك إلى ما ليس عندنا كخزائن الموصل وبغداد ، وتصنف لنا ، فخدم على عادتهم ، وقال : أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس ، ثم قال له السلطان مداعبا : إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور ، وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر ، فإن كنت ترضى به ، وإلا لم نعلم به أحدا غيرنا (٥) ، وهو البلبل ، فقال : قد رضي المملوك يا خوند ، فتبسّم السلطان. وقال له أيضا

__________________

(١) ابن العديم : هو عمر بن أحمد كمال الدين أبو القاسم.

(٢) في ب : «ألقى».

(٣) الضيف الملمّ : الضيف الزائر. والقرى ـ بكسر القاف ـ ما يقدم للضيف من الألطاف.

(٤) استجلسه : طلب إليه أن يجلس.

(٥) في ه : «وإلا لم يعلمه غيرنا».


يداعبه : اختر واحدة من ثلاث : إمّا الضيافة التي ذكرتها أوّل شعرك ، وإمّا جائزة القصيدة ، وإمّا حق الاسم ، فقال : يا خوند المملوك مما لا يختنق بعشر لقم [لأنه مغربي أكول] فكيف بثلاث؟ فطرب السلطان وقال : هذا مغربي ظريف ، ثم أتبعه من الدنانير والخلع [الملوكية] (١) والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف.

ولقي بحضرته عون الدين العجمي ، وهو بحر لا تنزفه الدلاء (٢) ، والشهاب التّلّعفري ، والتاج ابن شقير ، وابن نجيم الموصلي ، والشرف بن سليمان الإربلي ، وطائفة من بني الصاحب ، ثم تحول إلى دمشق ، ودخل الموصل وبغداد ، ودخل مجلس السلطان المعظم (٣) بن الملك الصالح بدمشق ، وحضر مجلس خلوته ، وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها ، ثم رحل إلى البصرة ودخل أرّجان ، وحج ، ثم عاد إلى المغرب ، وقد صنف في رحلته مجموعا سماه ب «النفحة المسكية ، في الرحلة المكية» وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية (٤) من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر ، فنال الدرجة الرفيعة من حظوته.

حدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسن لجرّاء خدمة مالية أسندها إليه ، وقد كان بلاء (٥) منه قبل جفوة أعقبها انتشال وعناية ، فكتب إليه بنظم من جملته.

لا ترعني بالجفا ثانية

فرق له ، وعاد إلى حسن النظر إليه ، إلى أن توفي تحت بر وعناية.

مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة ، ووفاته بتونس في حدود خمسة وثمانين وستمائة ، انتهى باختصار.

وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام.

قلت : قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره المتعدد الأسفار ، ونقلت منه قوله من

__________________

(١) ما بين حاصرتين غير موجود في ه.

(٢) لا تنزفه الدلاء : لا تستخرج ماءه كله. وهو كناية عن الغزارة.

(٣) في ب : «ابن».

(٤) إقليبية : حصن منيع بإفريقية قرب قرطاجة ، مطل على البحر (معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٧).

(٥) في ب : «بلا».


قصيدة يهنئ ابن عمه الرئيس أبا عبد الله بن الحسين بقدومه من حركة هوّارة : [بحر الطويل]

أما واجب أن لا يحول وجيب

وقد بعدت دار وحان (١) حبيب(٢)

وليس أليف غير ذكر وحسرة

ودمع على من لا يرقّ صبيب

وخفق فؤاد إن هفا البرق خافقا

وشوق كما شاء الهوى ونحيب(٣)

ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى

وعذل مشوق في البكاء عجيب(٤)

ألا تعس اللوام في الحبّ قد عموا

وصمّوا ودائي ليس منه طبيب

يرومون أن يثني الملام صبابتي

ولست إلى داعي الملام أجيب

وفائي إذا ما غبت عنكم مجدّد

وغيري ذو غدر أوان يغيب

ولو لم يكن مني الوفاء سجيّة

لكنت لغير ابن الحسين أنيب

سموءل (٥) هذا العصر حاتم جوده

مهلّبه إن مارسته حروب(٦)

فتى سيّر الأمداح شرقا ومغربا

أبو دلف من دونه وخصيب(٧)

إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة

وإن نظم الأشعار قلت حبيب(٨)

وإن نثر الأسجاع قلت سميه

وإن سرد التاريخ قلت عريب(٩)

وما أحرز الصّوليّ آدابه التي

إذا ما تلاها لم يجبه أديب(١٠)

__________________

(١) في ب : «وخان».

(٢) حان حبيب : هلك.

(٣) هفا : أسرع.

(٤) يعذلني : يلومني.

(٥) في ب : «سموأل».

(٦) السموأل : هو السموأل بن عادياء صاحب حصن الأبلق الفرد مضرب المثل في الوفاء. وحاتم هو حاتم الطائي مضرب المثل في الكرم. والمهلب : هو المهلب بن أبي صفرة مضرب المثل في الشجاعة.

(٧) أبو دلف : أراد به القاسم بن عيسى العجلي ، أحد قواد الدولة العباسية في عصر المأمون وكان شجاعا جوادا ، والخصيب : أراد به الخصيب بن عبد الحميد عامل الخراج بمصر في زمن الرشيد العباسي وهو ممدوح أبي نواس.

(٨) ابن مقلة : هو محمد بن علي بن الحسين ، كان وزيرا للمقتدر العباسي وبه يضرب المثل في جودة الخط ، وحبيب : هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور.

(٩) سميه : أراد به أبا الفضل بن العميد الذي يقال فيه «بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» ، وعريب ـ بالعين مهملة ـ هو ابن محمد بن مطرف ، له مختصر تاريخ الطبري مع الاستدراك عليه وكتابة ما لم يصل إليه الطبري.

(١٠) الصولي : أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله ، الأديب البليغ الناظم الناثر النديم المصنف الراوية ، نادم الراضي والمكتفي والمقتدر العباسيين.


ومنها :

وأما إذا ما الحرب أخمد نارها

ففيه تلظّي مارج ولهيب

فكم قارع الأبطال في كل وجهة

نحاها وكم لفّت عليه حروب

وكائن له بالغرب من موقف له

حديث إذا يتلى تطير قلوب

بمرّاكش سل عنه تعلم غناءه

وقد ساءهم يوم هناك عصيب

إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنه

مدير لغصن الخيزران لعوب

وإن جرّه أبصرت نجما مجرّرا

ذؤابته ، منه الكماة تذوب

يهيم به ما إن يزال معانقا

له راكعات ما تحوز كعوب

محمد ، لا تبد الذي أنت قادر

عليه ، وخف عينا علاك تصيب

نفوذ سهام العين أودى بمصعب

وطاح به بعد الشبوب شبيب

ألا فهنيئا أن رجعت لتونس

فأطلعت شمسا والسّفار غروب

كواكبها تبدو إذا ما تركتها

وقد جعلت مهما حضرت تغيب

إذا سدت في أرض فغيرك تابع

علاك ، ومهما ساد فهو مريب

ومنها :

كفاني أني أستظل بظلكم

ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب

فأصلك أصلي والفروع تباينت

بعيد على من رامه وقريب(١)

وحسبي فخرا أن أقول محمد

نسيب عليّ جل منه نصيب

تركت جميع الأقربين لقصده

على حين حانت فتنة وخطوب

رأيت به جنات عدن فلم أبل

إذا وصلتنا للخلود شعوب(٢)

فقبّلت كفا لا أعاب بلثمها

وأيدي الأيادي لثمهن وجوب

وكيف وليس الرأس كالرّجل ، فرّقت

شيات لعمري بيننا وضروب

ولو كان قدري مثل قدرك في العلا

لحق بأن يعلو الشباب مشيب

ولولا الذي أسمعت من مكر حاسد

أتاك بقول وهو فيه كذوب

__________________

(١) تباينت : تباعدت.

(٢) لم أبل.


لما كنت محتاجا لقولي آنفا

تخليت من ذنب وجئت أتوب

إذا كنت ذا طوع وشكر وغبطة

فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب

لقد كنت معتادا ببشر فما الذي

تقلدته حتى يزال قطوب

أإن رفع السلطان سعيي بقربكم

أحلأ عن ورد لكم وأخيب(١)

فأحسب ذنبي ذنب صحر بدارها

ألي البرّ عند الخابرين معيب(٢)

وحاشاك من جور علي ، وإنما

أخاطب من أصفو (٣) له فيشوب

صحاب هم الداء الدفين فليتني

ولم أدن منهم ، للذئاب صحوب(٤)

كلامهم شهد ولكن فعلهم

كسمّ له بين الضلوع دبيب

سأرحل عنهم والتجارب لم تدع

بقلبي لهم شيئا عليه أثيب(٥)

إذا اغترب الإنسان عمن يسوءه

فما هو في الإبعاد عنه غريب

فدارك برأب منك ما قد خرقته

ليحسن مني مشهد ومغيب(٦)

ولا تستمع قول الوشاة فإنما

عدوهم بين الأنام نجيب

فياليت أني لم أكن متأدبا

ولم يك لي أصل هناك رسوب

وكنت كبعض الجاهلين محببا

فما أنا للهم الملمّ حبيب

وما إن ضربت الدهر زيدا بعمره

ولم يك لي بين الكرام ضريب(٧)

أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت

عداتي حتى حان منك وثوب

سأشكر ما أولى وأصبر للذي

توالى ، على أن العزاء سليب

فدم في سرور ما بقيت فإنني

وحقك مذ دب الوشاة كئيب

قال : وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر

__________________

(١) حلّأه عن الماء وغيره : تحليئا وتحلئه : حبسه عنه ومنعه.

(٢) صحر : هي ابنة لقمان. قيل إنه لما قتل زوجته لقيته ابنته صحر فقتلها دون ذنب وقال : وهل أنت إلا امرأة؟.

(٣) في ب : «أصفي».

(٤) صحوب : صيغة مبالغة لاسم الفاعل صاحب على وزن فعول.

(٥) أراد بأثيب : أجازي وأكافىء.

(٦) رأب الصدع : إصلاحه.

(٧) الضريب : المثل.


لأشغال الموحدين أبا العلاء (١) إدريس بن علي بن أبي العلاء بن جامع ، فاشتمل علي ، وأولاني من البر ما قيّدني وأمال قلبي إليه ، مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة ، فلم يزل ينهض بي ، ويرفع أمداحي للملك ، ويوصّل إليه رسائلي ، منبّها على ذلك ، مرشحا ، إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره ، وكان يقرأ بين يديه كتب المظالم ، فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك ، فنبه الوزير علي ، وارتهن فيّ ، مع أني كنت من كتّاب الملك ، فقلدني قراءة المظالم المذكورة ، وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخر ، فأنعم بها ، فوجد الوشاة مكانا متسعا للقول ، فقالوا وزوروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا ، وظهر منه مخايل التغيير ، فجعلت أداريه وأستعطفه ، فلم ينفع فيه قليل ولا كثير ، إلى أن سعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية ، ثم سعى في تأخيري ، فأخرت عن الكتابة وعن قراءة (٢) المظالم ، فانفردت بالكتابة للوزير المذكور ، وفوض إليّ جميع أموره ، وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة ، ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة. [بحر الطويل]

فرد عليّ العيش بعد ذهابه

وآنسني بعد انفرادي من الأهل

وقالوا (٣) إذا ما الوبل فاتك فاقتنع

بما قد تسنّى عندك الآن من طلّ(٤)

ووالله ما نعماه طلّ وإنما

تأدّبه غيث يجود على الكل

رآني أظمأ في الهجيرة ضاحيا

فرق وآواني إلى الماء والظل

ولم أزل عنده في أسرّ حال ما لها تكدير إلا ما يبلغني من أن ابن عمي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبّته ، وخفت أن يطول ذلك ، فيسمع منه ، ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني ، فرغبت له في أن يرفع للملك أني راغب في السّراح إلى المشرق برسم الحج :

[بحر المتقارب]

ومن بلّه الغيث في بطن واد

وبات فلا يأمننّ السيولا

فلم يسعفني في ذلك ، ولامني على تخوّفي ، وقلة ثقتي بحمايته ، فرفعت له هذه القصيدة : [بحر الطويل]

هل الهجر إلا أن يطول التجنّب

ويبعد من قد كان منه التقرّب

__________________

(١) في ج : «أبا العلى».

(٢) في ه : «وعن كتاب المظالم».

(٣) في ب : «وقال».

(٤) الوبل : المطر الغزير. والطلّ : المطر الخفيف وفي القرآن الكريم (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ).


وتقطع رسل بيننا ورسائل

ويمنع لقيانا نوى وتحجب

ولو أنني أدري لنفسي زلة

جعلت لكم عذرا ولم أك أعتب

ولكنكم لما ملكتم (١) هجرتم

وذنّبتم في الحب من ليس يذنب

إلى الله أشكو غدركم وملالكم

وقلبا له ذاك التعذب يعذب

فلو أنه يجزيكم بفعالكم

لكان له عنكم مراد ومطلب(٢)

ولكن أبى أن لا يحن لغيركم

وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب

فهلا رعيتم أنه في ذراكم

غريب ، وليس الموت إلا التغرب

لزمتك لما أن رأيتك كاملا

جمالا وإجمالا وذاك يحبّب

وإني لأخشى أن يطول اشتكاؤه

لمن إن أتى مكرا فليس يثرب(٣)

فلم أسع إلا لارتياح وراحة

وغيري وقد آواه غيرك يتعب

فأنت الذي آويتني ورحمتني

وذو الرحم الدنيا لناري يحطب

فما مر يوم لا يريد مصيبة

عليك ، وبالتدبير منك يخيّب(٤)

وهبك ثبوتا لا تحيل أما ترى

مجر حبال في الحجارة يرسب(٥)

وهبك (٦) له سدا فكم أنت حاضر

أحاذر خرقا منه أن يتسببوا

وإما إن أرى إلا الفرار مخلصا

وما راغب في الضيم من عنه يرغب

فأنهى (٧) إلى الأمر العليّ شكيّتي

وأن خطوب الدهر نحوي تخطب

ولا تطمعوني في الذي لست نائلا

فلا أنا عرقوب ولا أنا أشعب(٨)

ألا فلتمنّوا بالسّراح فإنه

لراحة من يشقى لديكم وينصب

سلوا الكأس عني إذ تدار فإنني

لأتركها هما ودمعي أشرب

__________________

(١) في ب : «مللتم».

(٢) في ب ، ه : «مراد ومذهب». والمراد : اسم مكان من الفعل راد. أي مكان طلب الشيء.

(٣) يثرب : يلوم.

(٤) في ب ، ه : «فما مرّ يوم لا يدير مصيبة».

(٥) في ب ، ه : «وهبه ثبوتا لا يحيل».

(٦) في ب : «وهبه».

(٧) في ب : «فأنه».

(٨) عرقوب : مضرب المثل بعدم الوفاء بالوعد. وأشعب مضرب المثل بالطمع.


ولا أسمع الألحان حين تهزني

ولو كان نوحا كنت أصغي وأطرب

فديتكم كم ذا أهون بأرضكم

أهذا جزاء للذي يتغرب

أبخل على أن ما سواك يصيخ لي

فهل لي مما كدّر العيش مهرب(١)

تقلص عني كلّ ظلّ ولم أجد

كما كنت ألقى (٢) من أودّ وأصحب

أذو طمع في العيش يبقى وحوله

مدى الدهر أفعى لا تزال وعقرب

أجزني (٣) لأنجو (٤) بالفرار فإنه

وحقّك من نعماك عندي يحسب

فلا زلت يا خير الكرام مهنأ

فعيشي منه الموت أشهى وأطيب

وصانك من قد صنت في حقه دمي

وغيرك من ثوب المروءة يسلب

ولم يزل الوزير ـ لا أزال الله عنه رضاه! يحمى جانبي ، إلى أن أصابتني فيه العين ، فأصابه (٥) الحين (٦) ، [فقلت في ذلك] : [بحر الطويل]

وطيّب نفسي أنه مات عند ما

تناهى ولم يشمت به كل حاسد

ويحكم فيه كل من كان حاكما

عليه ويعطى الثأر كل معاند

وقلت أرثيه : [بحر الطويل]

بكت لك حتى الهاطلات السواكب

وشقت جيوبا فيك حتى السحائب(٧)

فكيف بمن دافعت عنه ومن به

أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب

ألا فانظروا دمعي فأكثره دم

ولا تذهبوا عني فإني ذاهب

وقولوا لمن قد ظل يندب بعده

وفاؤك لو قامت عليك النوائب(٨)

لعمرك ما في الأرض واف بذمّة

أيصمت إدريس ومثلي يخاطب

دعوتك يا من لا أقوم بشكره

فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب

أيا سيدا قد حال بيني وبينه

تراب حوت ذكراك منه الترائب(٩)

لمن أشتكي إن جار بعدك ظالم

علي وإن نابت جنابي النوائب

__________________

(١) يصيخ لي : يصغي إليّ.

(٢) في ب : «ألفي».

(٣) في ج : «أجرني».

(٤) في ب : «أنجد».

(٥) في ب : أصابه الحين : مات.

(٦) الحين : الموت.

(٧) الهاطلات : أراد السحب الكثيرة المطر.

(٨) في ب : «النوادب».

(٩) الترائب : أراد الصدر.


لمن أرتجي عند الأمير بمنطق

تحف به حولي المنى والمواهب

وهي طويلة ، ومنها قبيل الختم :

وقد كنت أختار الترحّل قبل أن

يصيبك سهم للمنية صائب

ولكن قضاء الله من ذا يردّه

فصبرا فقد يرضى الزمان المغاضب

ومنها ، وهو آخرها :

وإنّي لأدري أن في الصبر راحة

إذا لم تكن فيه عليّ مثالب(١)

وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره

عليك فلطف الله نحوي آئب(٢)

قال رحمه الله تعالى : ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني فيهما وحشة ، وأثار [لي] تذكر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضا خصيبا ، وصحبت بها الزمان غلاما ولبست الشباب [بردا] (٣) قشيبا (٤) ، فقلت : [بحر مجزوء الرمل]

هذه مصر فأين المغرب؟

مذ نأى عني فعيني (٥) تسكب

فارقته النفس جهلا إنما

يعرف الشيء إذا ما يذهب

أين حمص؟ أين أيامي بها؟

بعدها لم ألق شيئا يعجب

كم تقضّى لي بها من لذة

حيث للنهر خرير مطرب

وحمام الأيك تشدو حولنا

والمثاني في ذراها تصخب(٦)

أي عيش قد قطعناه بها

ذكره من كل نعمى أطيب

ولكم بالمرج لي من لذة

بعدها ما العيش عندي يعذب

والنواعير التي تذكارها

بالنوى عن مهجتي لا تسلب

ولكم في شنتبوس من منى

قد قضيناه ولا من يعتب(٧)

حيث هاتيك الشراجيب التي

كم بها من حسن بدر معصب(٨)

وغناء كلّ ذي فقر له

سامع غصبا ولا من يغصب

__________________

(١) المثالب : جمع مثلبة ، وهي العيب والمسبة.

(٢) يؤوب : يرجع ـ وآيب : راجع.

(٣) «بردا» ساقطة من ب.

(٤) قشيبا : جديدا.

(٥) في ب : «دموعي».

(٦) الأيك : الشجر الكثير الملتف. والمثاني : أراد آلات الطرب. وذراها ـ بفتح الذال ـ ساحاتها.

(٧) شنتبوس : منتزه في بلاد المغرب.

(٨) البيت غير موجود في بعض النسخ. والشراجيب : جمع شرجب وأراد هنا سور الجسر.


بلدة طابت وربّ غافر

ليتني ما زلت فيها أذنب

أي حسن النيل من نهر بها

كل نغمات لديه تطرب

كم به من زورق قد حله

قمر ساق وعود يضرب

لذة الناظر والسمع على

شمّ زهر وكؤوس ١ تشرب

كم ركبناها فلم تجمح بنا

ولكم من جامح إذ يركب

طوعنا حيث اتجهنا لم نجد

تعبا منها إذا ما نتعب

قد أثارت عثيرا (١) يشبهه

نثر سلك فوق بسط ينهب

كلما رشنا ٣ لها أجنحة

من قلاع ظلت منها تعجب

كطيور لم تجد ريا لها

فبدا للعين منها مشرب

بل على الخضراء (٢) لا أنفكّ من

زفرة في كل حين تلهب(٤)

حيث للبحر زئير حولها

تبصر الأغصان منه ترهب

كم قطعنا الليل فيها مشرقا

بحبيب ومدام يسكب

وكأن البحر ثوب أزرق

فيه للبدر طراز مذهب

وإلى الحوز (٣) حنيني دائما

وعلى شنّيل دمعي صيّب(٦)

حيث سلّ النهر عضبا (٤) وانثنت

فوقه القضب (٥) وغنّى الربرب(٦)

وتشفّت أعين العشاق من

حور عين بالمواضي تحجب

ملعب للهو مذ فارقته

ما ثناني نحو لهو ملعب

وإلى مالقة يهفو هوى

قلب صب بالنوى لا يقلب

أين أبراج بها قد طالما

حثّ كأسي في ذراها كوكب

حفت الأشجار عشقا حولنا

تارة تنأى وطورا تقرب

__________________

(١) العثير ـ بوزن درهم ـ الغبار.

(٢) الخضراء : أراد الجزيرة الخضراء ، وكان ابن سعيد قد قضى فيها جانبا من حياته.

(٣) في ب : «الحور».

في ب «إلى الحور حنيني دائما» والحور : هو حور مؤمل منتزه بغرناطة وشنيل نهر غرناطة.

(٤) العضب : السيف الصارم القاطع. شبّه به النهر.

(٥) والقضب : جمع قضيب وهو الغصن هنا.

(٦) والربرب : جماعة البقر الوحشي وأراد القينات المغنيات.


جاءت الريح بها ثم انثنت

أتراها حذرت من ترقب

وعلى مرسية أبكي دما

منزل فيه نعيم معشب

مع شمس طلعت في ناظري

ثم صارت في فؤادي تغرب

هذه حالي ، وأمّا حالتي

في ذرى (١) مصر ففكر متعب(٢)

سمعت أذني محالا ، ليتها

لم تصدّق ويحها من يكذب

وكذا الشيء إذا غاب انتهوا

فيه وصفا كي يميل الغيّب

ها أنا فيها فريد مهمل

وكلامي ولساني معرب

وأرى الألحاظ تنبو عند ما

أكتب الطرس أفيه عقرب(٣)

وإذا أحسب في الديوان لم

يدر كتابهم ما أحسب

وأنادي مغربيا ، ليتني

لم أكن للغرب يوما أنسب

نسب يشرك فيه خامل

ونبيه ، أين منه المهرب؟

أتراني ليس لي جدّ له

شهرة أو ليس يدرى لي أب

سوف أثنى راجعا لأغرّني (٤)

بعد ما جرّبت برق خلّب (٥)

وقال بقرمونة (٦) متشوقا إلى غرناطة : [بحر الطويل]

أغثني إذا غنى الحمام المطرب

بكأس بها وسواس فكري ينهب

ومل ميلة حتى أعانق أيكة

وألثم ثغرا فيه للصّبّ مشرب

ولم أر مرجانا ودرّا خلافه

يطيف به ورد من الشهد أعذب

فديتك من غصن تحمله نقا

تطلع أعلاه صباح وغيهب(٧)

__________________

(١) في ب : «ذرا».

(٢) ذرى مصر : أراد أرضها.

(٣) تنبو : تتجافى والطرس : الصحيفة.

(٤) في ب : «لا غرّني».

(٥) البرق الخلّب : الذي يطمع فيه بالمطر وليس فيه مطر.

(٦) قرمونة : بالأندلس في الشرق من إشبيلية. بينها وبين استجة خمسة وأربعون ميلا ، وهي مدينة كبيرة (صفة جزيرة الأندلس ص ١٥٨).

(٧) النقا : كثيب الرمل ، وأراد به هنا الردف على عادة العرب في تشبيه عجيزة المرأة بالكثيب. والغيهب : الظلام الشديد ، وأراد به هنا الشعر الأسود.


وجنّته جنات عدن وفي لظى

فؤادي ومالي من ذنوب تعذب

ويعذلني العذال فيه وإنني

لأعصي عليه من يلوم ويعتب

لقد جهلوا هل عن حياتي أنثني

إذا نمّقوا أقوالهم وتألبوا

يقولون لي قد صار ذكرك مخلقا

وأصبح كل في هواه يؤنب

وعرضك مبذول وعقلك تالف

وجسمك مسلوب ومالك ينهب

فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا

وفخري لا أرضى بها حين يغضب

جنون أبى أن لا يلين لعازم

بسحر بآيات الرّقى ليس يذهب

فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم

يخن من إذا قربته يتقرب

وكم دونه من صارم ومثقف

فيا من رأى بدرا بهذين يحجب(١)

على أنه يستسهل الصعب عندما

يزور فلا يجدي حمى وترقّب

وكم حيلة تترى (٢) على إثر حالة

وذو الود من يحتال أو يتسبب

على أنه لو خان عهدي لم أزل

له راعيا ، والرعي للصب أوجب

فأين زمان لم يخني ساعة

به وهو منّي في التنعم أرغب

ولا فيه من بخل ولا بي قناعة

كلانا بلذات التواصل معجب

ويا رب يوم لا أقوم بشكره

على أنني ما زلت أثني وأطنب

على نهر شنّيل وللقضب حولنا

منابر ما زالت بها الطير تخطب

وقد قرعت منه سبائك فضة

خلال رياض بالأصيل تذهّب(٣)

شربنا عليها قهوة ذهبية

غدت تشرب الألباب أيان تشرب

كأن ياسمينا وسط ورد تفتحت

أزاهره أيان في الكأس تسكب

إذا ما شربناها لنيل مسرة

تبسّم عن در لها فتقطب(٥)

__________________

(١) المثقف : الرمح.

(٢) تترى : تتتابع.

(٣) السبائك : جمع سبيكة : كتلة من الذهب أو الفضة مصبوبة على شكل معين. والأصيل : الوقت قبل الغروب. وتذهّب : تلوّن بلون الذّهب.

(٤) القهوة : الخمر.

(٥) تقطب : تعبس.


أتت دونها الأحقاب حتى تخالها

سرابا بآفاق الزجاجة يلعب

نعمنا بها واليوم قد رق برده (١)

إلى أن رأينا الشمس عنا تغرّب

فقالوا ألا هاتوا السراج فكل من

درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب

وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم

فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب

كواكب أمست بين شرب ولم نخل

بأن النجوم الزهر تدنو وتغرب

ظللنا عليها عاكفين وليلنا

نهار إلى أن صاح بالأيك مطرب

فلم نثن عن دين الصّبوح عناننا

إلى أن غدا من ليس يعرف يندب (٢)

صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى

علينا وذاك السكر أشهى وأعجب

وكم ليلة في إثر يوم وعذّلي

وعذّل من يصغي لقولي خيّب

فيا ليت ما ولى معاد نعيمه

وأي نعيم عند من يتغرب

قال : وقلت بإشبيلية ذاكرا لوادي الطّلح ، وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار ، كثير مترنم الأطيار ، وكان المعتمد بن عباد كثيرا ما ينتابه مع رميكيّته (٣) ، وأولي أنسه ومسرته : [بحر السريع]

سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا

هل سخّرت لي في زمان الصّبا

كانت رسولا فيه ما بيننا

لن نأمن الرّسل ولن نكتبا

يا قاتل الله أناسا إذا

ما استؤمنوا خانوا ، فما أعجبا

هلا رعوا أنا وثقنا بهم

وما اتخذنا عنهم مذهبا

يا قاتل الله الذي لم يتب

من غدرهم من بعد ما جرّبا

واليمّ لا يعرف ما طعمه

إلا الذي وافى لأن يشربا(٤)

دعني من ذكر الوشاة الألى

لما يزل فكري بهم ملهبا

واذكر بوادي الطلح عهدا لنا

لله ما أحلى وما أطيبا

بجانب العطف وقد مالت الأغ

صان والزهر يبثّ الصّبا(٥)

__________________

(١) رقّ برده : كان لطيفا ناعما.

(٢) عذّل : جمع عاذل ، وجموع عاذل ، عذّل وعذّال. وخيّب : جمع خائب.

(٣) الرميكية : زوجة المعتمد بن عباد. ولها قصص طريفة معه.

(٤) اليم : لجة البحر.

(٥) يبث : ينشر ، والصبا : الريح الشرقية ، وهي ريح ناعمة منعشة.


والطير مازت (١) بين ألحانها

وليس إلا معجبا مطربا

وخانني من لا أسمّيه من

شح أخاف الدهر أن يسلبا

قد أترع (٢) الكأس وحيّا بها

وقلت أهلا بالمنى مرحبا

أهلا وسهلا بالذي شئته

يا بدر تمّ مهديا كوكبا

لكنني آليت (٣) أسقى بها

أو تودعنها ثغرك الأشنبا

فمجّ لي في الكأس من ثغره

ما حبّب الشرب وما طيبا

فقال ها لثمي نقلا (٤) ولا

تشمّ إلّا عرفي الأطيبا(٥)

فاقطف بخدّي الورد والآس وال

نسرين لا تحفل بزهر الربا(٦)

أسعفته غصنا غدا مثمرا

ومن جناه ميسه قربا

قد كنت ذا نهي وذا إمرة

حتى تبدّى فحللت الحبا(٧)

ولم أصن عرضي في حبه

ولم أطع فيه الذي أنّبا

حتى إذا ما قال لي حاسدي

ترجوه والكوكب أن يغربا

أرسلت من شعري سحرا له

ييسر المرغب والمطلبا

وقال عرّفه بأني سأح

تال فما أجتنب المكتبا

فزاد في شوقي له وعده

ولم أزل مقتعدا مرقبا(٨)

أمدّ طرفي ثم أثنيه من

خوف أخي التنغيص أن يرقبا

أصدّق الوعد وطورا أرى

تكذيبه والحر لن يكذبا

أتى ومن سخّره بعد ما

أيأس بطئا كاد أن يغضبا

قبلت في الترب ولم أستطع

من حصر اللّقيا سوى مرحبا

__________________

(١) مازت : نوّعت.

(٢) أترع : ملأ.

(٣) آليت : حلفت.

(٤) في ب : «نقلا».

(٥) ها : اسم فعل أمر بمعنى خذ. والنقل : ما يؤكل أثناء الشراب من لوز وغيره.

(٦) في ب : «الربى».

(٧) حلّ الخبا : كناية عن خلع ثوب الوقار والحياء.

(٨) المرقب : المكان المرتفع يجلس فيه للمراقبة.


هنأت ربعي إذ غدا هالة

وقلت يا من لم يضع أشعبا

بالله مل معتنقا لاثما

فمال كالغصن ثنته الصّبا

وقال ما ترغب قلت اتئد (١)

أدركت إذ كلمتني المأربا

فقال لا مرغب عن ذكر ما

ترغبه قلت إذا مركبا

فكان ما كان فو الله ما

ذكرته دهري أو أغلبا

قال : وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدّمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية : [بحر الخفيف]

أنا لون الشباب والخال أهدي

ت لمن قد كسا الزمان شبابا

ملك العالمين نجم بنى أي

وب ، لا زال في المعالى مهابا! (٢)

جئت ملأى من الثناء عليه

من شكور إحسانه والثّوابا

لست ممن له خطاب ولكن

قد كفاني أريج عرفي خطابا

قال : ولما أنشد أبو عبد الله بن الأبّار كاتب ملك إفريقية لنفسه (٣) : [بحر الكامل]

لله دولاب يدور كأنه

فلك ولكن ما ارتقاه كوكب

هامت به الأحداق لما نادمت

منه الحديقة ساقيا لا يشرب

نصبته فوق النهر أيد قدّرت

ترويحه الأرواح ساعة ينصب

فكأنه وهو الطليق مقيّد

وكأنه وهو الحبيس مسيب(٤)

للماء فيه تصعّد وتحدّر

كالمزن يستسقي البحار ويسكب

حلف أبو عبد الله بن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئا ، فقال : [بحر الطويل]

ومحنيّة الأضلاع تحنو على الثرى

وتسقي نبات الترب ، درّ الترائب

تعدّ من الأفلاك أن مياهها

نجوم لرجم المحل ذات ذوائب

__________________

(١) اتئد : تمهل ـ تأنّ.

(٢) في ج : «لا زال في المعالي شهابا».

(٣) هذا أبو عبد الله بن الأبّار القضاعي مؤلف الحلة السيراء (انظر كتاب الحلة السيراء تحقيق عبد الله أنيس الطباع).

(٤) مسيّب : متروك يذهب حيث يشاء.


وأعجبها رقص الغصون ذوابلا

فدارت بأمثال السيوف القواضب(١)

وتحسبها والروض ساق وقينة

فما برحا ما بين شاد وشارب

وما خلتها تشكو بتحنانها الصّدا (٢)

ومن فوق متنيها اطراد المذانب

فخذ من مجاريها ودهمة (٣) لونها

بياض العطايا في سواد المطالب

ثم كلفت في أن أقول في ذلك ، وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول : [بحر الطويل]

وذات حنين لا تزال مطيفة

تئن وتبكي بالدموع السواكب

كأن أليفا بان عنها فأصبحت

بمربعه كالصّبّ بعد الحبائب

إذا ابتسمت فيها الرياض شماتة (٤)

ترعها بأمثال السيوف القواضب(٥)

فكم رقصت أغصانها فرمت لها

نثارا كما بددت حلي الكواعب(٦)

لقد سخطت منها الثغور وأرضت ال

قدود ولم تحفل بتثريب (٧) عائب

شربت على تحنانها ذهبيّة (٨)

ذخيرة كسرى في العصور الذواهب

فهاجت لي الكأس ادّكار مغاضب

فحاكيتها وجدا بذاك المغاضب(٩)

فلا تدع التبريز في كثرة الهوى

فلو لاي كانت فيه إحدى العجائب

قال : وقلت بغرناطة [البحر الرمل] :

باكر اللهو ومن شاء عتب

لا يلذّ العيش إلا بالطّرب

ما توانى من رأى الزهر زها

والصّبا تمرح في الروض خبب(١٠)

__________________

(١) السيوف القواضب : السيوف القاطعة.

(٢) في ب : «الصدى». والصداء : العطش الشديد.

(٣) الدهمة : السواد. وقد أخذ معنى البيت من أبي تمام وضمن الشطر الثاني كله :

وأحسن نور من تفتحته الصبا

بياض العطايا في سواد المطالب

(٤) في ب : «شماتة».

(٥) السيوف القواضب : القاطعة.

(٦) الكواعب : جمع كاعب ، وهي الفتاة نهد ثدياها.

(٧) التثريب : اللوم.

(٨) الذهبية : أراد الخمرة.

(٩) ادّكار : تذكار.

(١٠) الخبب : نوع من السير.


وشذاه صانه حتّى اغتدى

بين أيدي الريح غصبا ينتهب

يا نسيما عطّر الأرجاء ، هل

بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب؟

هم أعلّوه وهم يشفونه

لا شفاه الله من ذاك الوصب (١)!

خلع الروض عليه زهره

حين وافى من ذراكم فعل صبّ

فأبى إلا شذاه فانثنى

حاملا من عرفه ما قد غصب

لست ذا نكر لأن يشبهكم

من بعثتم ، غير ذا منه العجب

غالب الأغصان في بدأته

ثم لما زاد أعطته الغلب

فبكى الطلّ (٢) عليها رحمة

أو بكى من وعظ طير قد خطب

كلّ هذا قد دعاني للّتي

ملكت رقي على مر الحقب (٣)

قهوة (٤) أبسم من عجب لها

عندما تبسم عجبا عن حبب (٥)

حاكت الخمر فلما شعشعت (٦)

قلت ما للخمر بالماء التهب

وبدت من كأسها لي فضّة

ملئت إذ جمدت ذوب الذهب

اسقنيها (٧) من يدي مشبهها

بالذي يحويه طرف وشنب (٨)

لا جعلت الدهر نقلي غير ما

لذّ لي من ريق ثغر كالضّرب (٩)

لا جعلت الدهر ريحاني سوى

ما بخدّيه من الورد انتخب

لم أزل أقطع دهري هكذا

وكذا أقطع منه المرتقب

حبّذا عيش قطعناه لدى

معطف الخابور ما فيه نصب

مع من لم يدر يوما ما الجفا

من أراح الصب فيه من تعب

__________________

(١) الوصب : المرض.

(٢) الطل : المطر الخفيف.

(٣) الحقب : جمع حقبة ، وهي فترة من الزمن غير محددة الوقت.

(٤) القهوة : الخمر.

(٥) الحبب : ما يعلو الماء من فقاقيع.

(٦) شعشع الخمر : مزجها بالماء.

(٧) في ب : «سقّنيها».

(٨) الشنب : صفاء الأسنان وابيضاضها.

(٩) الضرب : العسل الأبيض.


كل ما يصدر منه حسن

لم يذقني في الهوى مر الغضب

أي عيش سمح الدهر به

كل نعمى ذهبت لما ذهب

قال : ودخلت بتونس مع أبي العباس الغسّاني حماما ، فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان ، فقلت مخاطبا له : [بحر السريع]

دخلت حماما وقصدي به

تنعيم جسم فغدا لي عذاب

قلت لظى فاعترضت حوره

وقلت عدن فنهاني التهاب

وأنت في الفضل إمام فكن

في الحكم ممن حاز فصل الخطاب

فقال : [بحر السريع]

لا تأمن الحمام في فعله

فليس ما يأتيه عندي صواب

فما أرى أخدع منه ولا

أكذب إلا أن يكون السراب(١)

يبدي لك الغيد كحور الدمى (٢)

ويلبس الشيخ برود (٣) الشباب

ظن به النار فلا جنة

للحسن إلا ما حوته الثياب

ومن فوائده ـ أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى ـ في كتابه المحلى بالأشعار (٤) نقلا عن القرطبي (٥) قضية بناء الهودج بروضة مصر ، وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة ، وذلك أنه يقال : إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله ، للبدوية التي غلب عليه حبها ، بجوار البستان المختار ، وكان يتردد إليه كثيرا وقتل وهو متوجه إليه ، وما زال منتزها للخلفاء من بعده.

وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن ميّاح من بني عمها ، وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر ، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك ، والاختصار منه أن يقال : إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات ، وصارت له عيون في البوادي ، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم ، شاعرة جميلة ، فيقال : إنه تزيا

__________________

(١) السراب : ما يبدو شبيها بالماء عن بعد.

(٢) الدمى : جمع دمية ، وهي التمثال من العاج.

(٣) البرود : جمع برد ، وهو الثوب.

(٤) لعله أراد : القدح المعلّى في التاريخ المحلّى.

(٥) في ب : «القرطي».


بزي بداة الأعراب ، وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها ، وبات هنالك ، وتحيل حتى عاينها هناك ، فما ملك صبره ، ورجع إلى مقر ملكه ، وأرسل إلى أهلها يخطبها ، وتزوجها ، فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت ، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء ، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة ، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج ، وكان غريب الشكل ، على شط النيل ، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربّيت معه ، يعرف بابن ميّاح ، فكتبت إليه من قصر الآمر : [بحر الرمل]

يا ابن ميّاح إليك المشتكى

مالك من بعدكم قد ملكا

كنت في حيي طليقا آمرا

نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر موصد

لا أرى إلا حبيسا ممسكا

كم تثنينا كأغصان النقا

حيث لا نخشى علينا دركا(١)

فأجابها فقال : [بحر الرمل]

بنت عمي والتي غذّيتها

بالهوى حتى علا واحتبكا(٢)

بحت بالشكوى وعندي ضعفها

لو غدا ينفع منّا المشتكى

مالك الأمر إليه يشتكى

هالك ، وهو الذي قد أهلكا

قال : وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطول.

وكان من عرب طيىء في عصر الآمر طراد بن مهلهل ، فقال وقد بلغته هذه الأبيات : [بحر المتقارب]

ألا بلّغوا الآمر المصطفى

مقال طراد ونعم المقال

قطعت الأليفين عن ألفة

بها سمر الحمى حول الرحال(٣)

كذا كان آباؤك الأكرمون

سألت فقل لي جواب السؤال

فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات : جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله ، فطلب في أحياء العرب فلم يوجد ، فقيل : ما أخسر صفقة طراد ، باع عدة أبيات بثلاثة أبيات (٤).

__________________

(١) في ب ، ه : «أغصان اللوى».

(٢) في ب : «واحتنكا».

(٣) في ب : «بها سمر الحيّ حول الرحال».

(٤) في نسخة : «باع أبيات الحي بثلاثة أبيات» وهو المعنى.


وكان بالإسكندرية مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد ، له مروءة عظيمة ، ويحتذي أفعال البرامكة ، وللشعراء فيه أمداح كثيرة ، ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصّلت وغيرهما ، وكان له بستان يتفرّج فيه ، به جرن كبير من رخام ، وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره ، وكان يرى في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره ، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر ، فسألت الآمر في حمل الجرن إليها ، فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن ، فلم يجد بدّا من حمله من البستان ، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج (١) ، فقلق ابن حديد ، وصارت في قلبه حزازة (٢) من أخذ الجرن ، فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة ، حتى قالت البدوية : هذا الرجل أخجلنا (٣) بكثرة تحفه ، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا ، فلما قيل له عنها هذا القول قال : مالي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عز غير ردّ السّقيّة التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم تردّ إلى مكانها ، فتعجبت من ذلك ، وردتها عليه ، فقيل له : قد حصلت في حد أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر ، فقال : أنا أعرف بنفسي ، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه ، وقد بلغها الله تعالى أملها.

وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر ، وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلّده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وأضاف إليها الأعمال البحرية ، ووصل إلى الثغر ـ وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور ، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن الشمع فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا وقد أحضر حقّا مختوما ، ففك عنه ، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف (٤) بلور فيه ثلاثة بيوت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر : بيت دهن ممسك ، وبيت دهن بكافور ، وبيت دهن بعنبر طيب ، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته ، فعند ما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته ، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه ، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه ، وكان [من](٥) جواب المؤتمن : وقد قبلته منك لا لحاجة إليه ، ولا نظر في قيمته ، بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها ، وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار.

__________________

(١) في ب : «وتركيبه هنالك».

(٢) في نسخة : حرارة.

(٣) في ب : «أخلجنا».

(٤) في ب : «مراق».

(٥) في ب : «ساقطة».


فانظر رحمك الله تعالى إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار ، ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه ، فماذا تكون ثيابه وحلي نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات؟ وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضى الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبّهتها إلا يسير حقير.

وما زال الخليفة الآخر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع القعدة سنة ٥٢٤ يريد الهودج ، وقد كمن له عدة من النزارية (١) على رأس الجسر من ناحية الروضة ، فوثبوا عليه ، وأثخنوه بالجراحة ، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة (٢) ، فمات بها ، وقيل : قبل أن يصل إليه ، وقد خرب هذا الهودج ، وجهل مكانه من الروضة ، ولله عاقبة الأمور ، نقل ذلك كله الحافظ المقريزي ، رحمه الله تعالى!.

قال النور بن سعيد ، ومن خطه نقلت : لما نزلنا بتلّعفر (٣) حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التّلّعفري ، فقال : أنا أدركته ، وكان كثير التجول ، وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده : [بحر السريع]

يبتهج الناس إذا عيّدوا

وعند سرّائهم أكمد

لأنني أبصر أحبابهم

ومقلتي محبوبها تفقد

قال : وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصا ، وشعرا ، وصدق فيما قاله.

وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري : [بحر الخفيف]

لك ثغر كلؤلؤ في عقيق

ورضاب كالشّهد (٤) أو كالرّحيق(٥)

__________________

(١) النزارية : فرقة ترى تسلسل الإمامة في الخلفاء الفاطميين حتى نزار بن المستنصر ولا يرون إمامة من بعده ، وتطعن في إمامة المستعلي. وفي ابن خلكان : فكمن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على قتله في السكة التي يمر فيها إلى فرن هناك ، فلما مرّ بهم وثبوا عليه.

(٢) العشاري : ضرب من السفن. ومنظرة اللؤلؤة : متنزه الخلفاء الفاطميين وكانت بها قصورهم.

(٣) تلعفر : أصلها تل أعفر أو تل يعفر ، فغير مع الزمن طلبا للخفة. وهو اسم قلعة وربض بين سنجار والموصل في وسط واد فيه نهر جار. وهي على جبل منفرد ، حصينة محكمة (معجم البلدان ج ٢ ص ٣٩) وفيها شهاب الدين التلعفري الشاعر وهو محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة. كان خليعا مقامرا. توفي سنة ٦٧٥ ه‍.

(٤) الشهد : العسل.

(٥) الرحيق : الخمر.


وجفون لم يمتشق سيفها إلا

لمغرى بقدّك الممشوق (١)

تهت عجبا بكل فن من الحسن

جليل وكل معنى دقيق

وتفردت بالجمال الذي خ

لّاك مستوحشا بغير رفيق

باللحاظ التي بها لم تزل تر

شق قلبي بالقوام الرّشيق

لا تغر بالغوير إذ تتثنّى

فيه أعطاف كل غصن وريق

واثن محمّر ورد خدّيك واستر

ه وإلّا ينشقّ قلب الشفيق

قال ابن سعيد : وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك ، وكونهم يقدمونه ، ويقبلون على شعره ، وعهدي به لا ينشد أحد قبله في مجلس الملك الناصر ، على كثرة الشعراء ، وكثرة من يعتني بهم ، ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة ، فإنه كان كثيرا ما ينشده ، وينوه به ، والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب «الغرة الطالعة (٢) ، في فضلاء المائة السابعة» وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنه ، وما فارقه غرامه ودنّه ، انتهى.

ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب قال ما نصه : وكان من أعظم السلاطين دهاء ، وحزما ، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له ، ويحكى أنه بشّره شخص بأن أميرا من أمراء الأفضل بن صلاح الدين فسد عليه ، فأعطاه مالا جزيلا ، وأرسل مستخفيا إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل ، ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد ، قال : وكان يمنع حتى يوصف بالبخل ، ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسّماح ، وكان صلاح الدين ـ وهو السلطان ـ يأخذ برأيه ، وقدم له أحد المصنفين كتابا مصوّرا في مكايد الحروب ومنازلة المدن ، وهو حينئذ على عكّا محاصرا للفرنج ، فقال له : ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر ، وكان كثير المداراة والحزم ، ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصّه قال له يوما ، وهو على سماطه يأكل : يا خوند ، ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي ، وكلمه بدالّة السن وقدم الصحبة قبل الملك ، فقال لمماليكه : انظروا وسطه ، فحلّوا (٣) الكمران وقال : خذوا الصرة التي فيه ، فوجدوا صرّة ، فقال : افتحوها ، ففتحوها فإذا فيها ذرور ، فقال العادل : كل من هذا

__________________

(١) امتشق السيف : استلّه ، والممشوق المعتدل.

(٢) في ب : «الشقيق.

(٣) في ب : «فجسّوا».


الذرور ، فتوقف ، وعلم أنه مطّلع على أنه سم ، فقال : كيف نسبتني إلى قلة الوفاء ، وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم ، وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار ، فلا أنا أمكنتك من نفسي ، ولا أشعرتك ، لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به ، وتركتك على حالك ، وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة ، ثم قال : ردوا سمه إلى كمرانه ، لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي ، فجعل يقبل الأرض ويقول : هكذا والله كان ، وأنا تائب لله تعالى ، ثم إن الشيخ جدّد توبة ، واستأنف أدبا آخر وخدمة أخرى ، وكانت هذه الفعلة من إحدى عجائب العادل.

قال : وكان كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجّه في الخفية إليهنّ ، حتى يمسكن أزواجهنّ عن الحركة ، وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره.

ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين (١) باليمن ، وخطب لنفسه بالخلافة ، وكتب له أن يبايعه ويخطب له في بلاده ، كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توجيه عسكر له في البر والبحر ، وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره ، فضحك وقال : من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤنة ، أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده ، فضلا عن أن يتطرق فساده لبلادي ، ثم إنه وجه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم : أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي ، فكيف يسوغ له؟ وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه ، فاحذروا أن تهلكوا معه ، واتعظوا بالآية (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣] وما لهذا عقل يدبر به نفسه ، فكيف يفضل عن تدبير خاصته إليكم (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) [ص : ٨٨] فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه ، وعادت البلاد للعادل ، وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر : قد كفينا المؤنة بأيسر شيء من المال ، ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته.

وكان ـ على ما بلغه من عظمة السلطان ، واتساع الممالك ـ يحكي ما جرى له من زمان خلوّه من ذلك ، ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم ، واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق ومن نوادره الحارّة (٢) معه أنه سمعه

__________________

(١) في ه : «ظفركين». وفي نسخة «طغرلكين».

(٢) في ج : نوادره الحاضرة منه.


يوما وهو يقول في وضوئه : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ، ولا تحاسبني حسابا عسيرا ، فقال له : يا خوند على أي شيء يحاسبك حسابا عسيرا؟ إذا قال لك : أين أموال الخلق التي أخذتها؟ فقل له : تراها بأمانتها في الكرك ، وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات ، سميت بذلك لأن من رآها يتحسر إذا نظرها ، ولا يستطيع على شيء منها بحيلة ، وهي خواب (١) مفروعة من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظرين ليشتهر ذلك في الآفاق.

وقال العادل مرة ، وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممن ذكر في كتاب «المستجاد ، في حكايات الأجواد» : إنما هذا كذب مختلق من الورّاقين ومن المؤرخين ، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال فقال خضير : يا خوند ، ولأي شيء لا يكذبون عليك؟.

قال ابن سعيد : من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية.

قال ابن سعيد : ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب (٢) «المعاجم» وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه ، وخرّج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السّلفي ، وتمثل فيه عند وفاته : [بحر الوافر]

ألام على بكائي خير ملك

وقلّ له بكائي بالنّجيع

به كان الشباب جميع عمري

ودهري كله زمن الربيع

ففرّق بيننا زمن خؤون

له شغف بتفريق الجميع

قال ابن سعيد : ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق ، وكان أنشأها للشافعية ، وهي في نهاية الحسن ، وبها خزانة كتب ، فيها تاريخ ابن عساكر ، وذيل هذا التاريخ واختصره أبو شامة ، سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق.

وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة ، منهم الكامل والمعظم والأشرف ، وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء ، انتهى.

__________________

(١) خواب : جمع خابية ، وهي الجرة الكبيرة.

(٢) في ب : «تاج المعاجم. هو كتاب تاج المعاجم لإسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي القوصي وهذا الكتاب فيمن لقيه المؤلف من المحدثين.


وقال ابن سعيد ، في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعيد المرذغاني (١) ، وهو من بيت وزارة ورياسة (٢) بدمشق : إن من شعره قوله : [بحر الخفيف]

كيف طابت نفوسكم بفراقي

وفراق الأحباب مرّ المذاق

لو علمتم بلوعتي وصبابا

تي ووجدي وزفرتي واحتراقي

لرثيتم للمستهام (٣) المعنّى

ووفيتم بالعهد والميثاق

قال ابن سعيد : وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب «تاج المعاجم» ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال : أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر ، لأمر ضاق به صدره ، فهتف به هاتف في النوم ، وأنشده : [بحر الكامل]

يا أحمد اقنع بالذي أعطيته

إن كنت لا ترضى لنفسك ذلّها

ودع التكاثر في الغنى لمعاشر

أضحوا على جمع الدراهم ولّها

واعلم بأن الله جلّ جلاله

لم يخلق الدنيا لأجلك كلّها

فانثنى عزمه عن الحركة ، ثم بلغ ما أمّله دون سفر.

وقال ابن سعيد ، في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشقي المعروف بدفترخوان ، وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر : إنه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب ، وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول ، فينال من خيره ، وكتب له مرة وقد أظل الشتاء (٤) في دمشق فقال : [بحر المجتث]

مولاي جاء الشتاء

والكيس منه خلاء (٥)

لا زال يجري بما تر

تضي علاك القضاء

وكلّ كاف إليه

يحتاج فيه التواء (٦)

__________________

(١) كثر الاختلاف في هذه النسبة. ففي ه : المرذغاني. وفي ه : المردغاني وفي بعض النسخ : المزدغاني.

(٢) في ب : «ورئاسة».

(٣) المستهام : شديد العشق.

(٤) وفي بعض النسخ : وقد أطلّ الشتاء.

(٥) في ب ، ه : «والكيس منها خلاءء.

(٦) يشير إلى قول ابن سكرة :

جاء الشتاء وعندي من حوائجه

سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا

كنّ وكيس وكانون وكأس طلا

بعد الكباب وكسّ ناعم وكسا


فقال له العادل : هذا الضمير الذي في البيت الأول على ما ذا يعود؟ قال : بحسب مكارم السلطان ، إن شئت على الدراهم ، وإن شئت على الدنانير! فضحك وقال : هات كيسك ، فأخرج له كيسا يسع قدر مائة دينار ، فملأه له ، وقال : أظنه كان معدّا عندك ، فقال : مثل السلطان من يكون جوده مظنونا.

وكتب إليه مرة وقد أملق (١) : [بحر الكامل]

انظر إليّ بعين جودك مرة

فلعلّ محروم المطالب يرزق

طير الرجاء على علاك محلّق

وأظنّه سيعود وهو مخلق

فأعطاه جملة دنانير ، وقال له : اشتر بهذه ما تخلق به طير رجائك ، انتهى.

وأنشد ابن سعيد رحمه الله تعالى لبعض المغاربة ، وهو أبو الحسن علي بن مروان الرباطي (٢) الكاتب : [بحر الخفيف]

أنس أخي الفضل كتاب أنيق

أو صاحب يعنى بود وثيق

فإن تعره دون رهن به

تخسره أو تخسر وداد الصديق

وربّما تخسر هذا وذا

فاسمع رعاك الله نصح الشفيق

قال : وأجابه المخاطب بهذه الأبيات ، وهو ابن الرّبيب ، بنثر نصه : مثلك يفيد تجربة قد نفق عليها عمر ، وضل عن فوائدها غرّ غمر ، وقد أنفذت رهنا لا يسمح بإخراجه من اليد إلا ليدك ، فتفضل بتوجيه الجزء الأول ، فأنا أعلم أنه عندك مثل ولدك ، قال : فوجهه ومعه بطاقة صغيرة فيها : يا أخي ، إن عرضت بولدي فكذلك كنت مع والدي وقد توارثنا العقوق كابرا عن كابر ، فكن شاكرا فإني صابر.

ثم قال ابن سعيد : وتفاقم أمر ولده فقيّده بقيد حديد وقال فيه : [بحر السريع]

لي ولد يا ليته

لم يك عندي يخلق

يجهد في كل الذي

يرغم وهو يعشق

وإن أكن قيّدته

دمعي عليه مطلق

وذكر ابن سعيد أن الكاتب أبا الحسن المذكور كان كثيرا ما يستعير الكتب ، فإذا طلبت

__________________

(١) أملق : افتقر.

(٢) في ب : «الزناطي».


منه فكأنها ما كانت ، فذكر لبعض أصحابه ـ وهو ابن الربيب المؤرخ ـ أن عنده نسخة جليلة من تاريخ عريب الذي لخص فيه تاريخ الطبري واستدرك عليه ما هو من شرطه وذيل ما حدث بعده ، فأرسل إليه في استعارتها ، فكتب إليه : يا أخي ، سدّد الله آراءك ، وجعل عقلك أمامك لا وراءك ، ما يلزمني من كونك مضيّعا أن أكون كذلك ، والنسخة التي رمت إعارتها هي مؤنسي إذا أوحشني الناس ، وكاتم سري إذا خانوني ، فما أعيرها إلا بشيء أعلم أنك تتأذّى بفقده إذا فقد جزء من النسخة ، وأنا الذي أقول :

أنس أخي الفضل كتاب أنيق إلى آخره :

وأنشد للكاتب أبي الحسن المذكور : [بحر الخفيف]

إنّ ذاك العذار (١) قام بعذري

وفشا فيه للعواذل سرّي

ما رأينا من قبل ذلك مسكا

صاغ منه الإله هالة بدر

أيّ آس (٢) من حول جنة ورد

ليس منه آس (٣) مدى الدهر يبري

ولما اشتد مرضه بين تلمسان وفاس قال هذه الأبيات ، وأوصى أن تكتب على قبره : [بحر المتقارب]

ألا رحم الله حيّا دعا

لميت قضى بالفلا نحبه

تمر السّوافي (٤) على قبره

فتهدي لأحبابه تربه

وليس له عمل يرتجى

ولكنه يرتجي ربّه

رجع إلى نظم ابن سعيد المترجم به ، فنقول : [بحر الكامل]

وقال لما سار المعظم من حصن كيفا ، وآل أمره إلى الملك ، ثم القتل والهلك : [بحر الكامل]

ليت المعظم لم يسر من حصنه

يوما ولا وافى إلى أملاكه

__________________

(١) العذار.

(٢) آس في أول البيت اسم لنوع من الريحان ، وآس في النصف الثاني اسم فاعل من أسا الطبيب المريض يأسوه فهو آس إذا عالجه ، ويبري : أصله يبرئ قلبت الهمزة ياء لتطرفها إثر كسرة.

(٣) آس في أول البيت اسم لنوع من الريحان ، وآس في النصف الثاني اسم فاعل من أسا الطبيب المريض يأسوه فهو آس إذا عالجه ، ويبري : أصله يبرئ قلبت الهمزة ياء لتطرفها إثر كسرة.

(٤) السافية : الريح التي تحمل التراب وتنثره.


إن العناصر إذ رأته مكمّلا

حسدته فاجتمعت على إهلاكه

ومما نقلته من ديوانه الذي رتبه على حروف المعجم قوله ـ رحمه الله تعالى! ـ وقلت بالقاهرة على لسان من كلفني ذلك : [بحر الرمل]

شرف الدين أبن لي ما السبب

في انقلاب الدهر لي عند الغضب

فلتدم غضبان أظفر بالمنى

ليس لي في غير هذا من أرب

إنما ظهرك عندي قبلة

ووضوئي الدهر من ذاك الشّنب (١)

وأستغفر الله من قول الكذب ، قال : وقلت بإشبيلية : [بحر السريع]

قد جاء نصر الله والفتح

والصبح لما رضيت صبح

فهنّئوني بارتجاع المنى

لولا الرضا (٢) ما برح البرح(٣)

يا أورقا يا غصنا يانقا

يا ظبية بالليل يا صبح

يصحو جميع الناس من سكرهم

ولست من سكركم أصحو

بلغت فيه غاية لم يبن

غايتها التفسير والشرح

وينصح العذال ، من لي بأن

يعذلني عن غيك النصح(٤)

وقلت بإشبيلية : [بحر الرمل]

وضح الصبح فأين القدح

يعرف اللذات من يصطبح (٥)

ما ترى الليل كطرف أدهم (٦)

وضياء الفجر فيه وضح(٧)

والثرى دبّجه درّ الندى

وعلى الأغصان منه وشح

ومدير الراح لم يعد المنى

كل ما يأتي به مقترح

في بطاح المرج قد نادمني

رشا من سكره ينبطح

__________________

(١) الشنب : صفاء الأسنان وابيضاضها.

(٢) في ب : «الرضى».

(٣) البرح : الشدة.

(٤) اصطبح : تناول الصبوح ، وأراد هنا الخمر.

(٥) الطرف ـ بكسر الطاء وسكون الراء ـ الفرس.

(٦) والأدهم : الأسود.

(٧) والوضح : البياض في قوائم الفرس.


جعل المسواك سترا للمنى

فكأن قبّل فاه قزح

كلما شئت الذي قد شاءه

فحثى (١) لي كاسه أفتتح

ما أبالي أن رآني كاشح (٢)

أم رآني من لديه نصح

هكذا العيش ودع عيش الذي

خاف من نقد إذا يفتضح

وقلت بشريش : [بحر مجزوء الكامل]

طاب الشراب لمعشر

سلبوا المروءة فاستراحوا

لا يعرفون تسترا

السكر عندهم مباح

متهتكون لدى المنى

وفسادهم فيها صلاح

ساقيهم متبذّل

هل يمنع الماء القراح

غصن يميل به الصّبا

ردته طوع الراح راح

طوع الأماني كل ما

يأتي به فهو اقتراح

ما إن نبالي إن بدا

أن لا يلوح لنا الصباح

ما زلت أرشف ثغره

وعليه من عضدي وشاح

والقلب يهفو طائرا

ولعا ولا يخشى افتضاح

ولو اننا نخشاه كا

ن لنا من الظّلما جناح

لكننا في عصبة

ما في تهتكهم جناح

لا ينكرون سوى ثقي

ل لا يميل به مزاح

أفنى الذي قد جمّعو

ه الكأس والحدق الملاح

وقلت بمراكش (٣) : [بحر مجزوء الكامل]

قم هاتها لاح الصباح

ما العيش إلا الاصطباح

مع فتية ما دأبهم

إلا المروءة والسماح

جربتهم فوجدتهم

ما للمنى عنهم براح

__________________

(١) في ب : «فحنى».

(٢) الكاشح : العدو الظاهر العداوة.

(٣) في ب : «وقلت بأركش» وأركش : حصن بالقرب من قرطبة.


يثنيهم نحو الصّبا

نقر المثاني (١) والمراح(٢)

ما نادموا شخصا فكا

ن لهم بخدمته استراح

بل يعرفون مكانه

فله إذا شاء اقتراح

هم يتعبون وضيفهم

ما دام عندهم يراح

ما إن يملّون النزي

ل وبالرضا (٣) منه السراح

يدعونه بأجل ما

يدعى به الحر الصّراح (٤)

حتى إذا ما بان كدّ

رعيشهم منه انتزاح

فعلى مثالهم يبا

ح لي المدامع والنواح

كرها فقدتهم فحا (٥)

لي بعد بعدهم ارتياح

لله شوقي إن هفت

من نحو أرضهم الرياح

فهناك قلبي طائر

لهم ومن شوقي جناح

قال : وقلت بمدينة ابن السليم (٦) في وصف كلب صيد أسود في عنقه بياض : [بحر الوافر]

وأدهم دون حلي ظل حالي

كأن ليلا يقلده صباح

يطير وما له ريش ولكن

متى يهفو فأربعه جناح

تكلّ الطير مهما نازعته

وتحسده إذا مرق الرياح

له الألحاظ مهما جاء سلك

ومهما سار فهي له وشاح

وقلت في نيل (٧) مصر : [بحر الكامل]

يا نيل مصر أين حمص ونهرها

حيث المناظر أنجم تلتاح

في كل شط للنواظر مسرح

تدعو إليه منازح (٨) وبطاح

__________________

(١) المثاني : آلات الطرب.

(٢) المراح : الخفة والنشاط.

(٣) في ب : «وبالرضى».

(٤) الصراح : الخالص النسب.

(٥) في ب : «فما».

(٦) مدينة ابن السليم : هي مدينة شذونة بالأندلس ، وسميت بمدينة ابن السليم لأن بني السليم انصرفوا إليها عند خراب مدينة قلشانة وبين قلشانة وبينها خمسة وعشرون ميلا (صفة جزيرة الأندلس ص ١٦٢).

(٧) في ب : «قال : وقلت بنيل».

(٨) المنازح : الدلاء.


وإذا سبحت فلست أسبح خائفا

ما فيه تيار ولا تمساح

قال : وقلت وقد حضرت مع إخوان لي بموضع يعرف بالسلطانية على نهر إشبيلية وقد مالت الشمس للغروب : [بحر الكامل]

رقّ الأصيل فواصل الأقداحا

واشرب إلى وقت الصباح صباحا

وانظر لشمس الأفق طائرة وقد

ألقت على صفح الخليج جناحا

فاظفر بصفو الأفق قبل غروبها

واستنطق المثنى (١) وحثّ الراحا

متع جفونك في الحديقة قبل أن

يكسو الظلام جمالها أمساحا

وقلت بمرسية : [بحر مخلع البسيط]

أقلقه وجده فباحا

وزاد تبريحه (٢) فناحا

ورام يثني الدموع لما

جرت فزادت له جماحا

يا من جفا فارفقن عليه

مستعبدا لا يرى السراحا

يكابد الموت كل حين

لو أنه مات لاستراحا

ينزو (٣) إذا ما الرياح هبت

كأنه يعشق الرياحا

يسألها عن ربوع حمص

لما نما عرفها وفاحا

كم قد بكى للحمام كيما

يعيره نحوها جناحا

قال : وخرجت مرة مع أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي (٤) إلى مرج الفضة بنهر إشبيلية فتشاركنا في هذا الشعر : [بحر الكامل]

غيري يميل إلى كلام اللاحي

ويمدّ راحته لغير الراح

لا سيما والغصن يزهو زهره

ويميل عطف الشارب المرتاح

وقد استطار القلب ساجع أيكه (٥)

من كل ما أشكوه ليس بصاح

__________________

(١) المثنّى : وتر من أوتار العود.

(٢) التبريح : الألم.

(٣) ينزو : يثب.

(٤) إبراهيم بن سهل الإسرائيلي شاعر من شعراء الأندلس زمن الموحدين. وكان صديق ابن سعيد وزميله أيام الدراسة.

(٥) في ب : «أيكة».


قد بان عنه جناحه عجبا له

من جانح للعجز حلف جناح

بين الرياض وقد غدا في مأتم

وتخاله قد ظل في أفراح

الغصن يمرح تحته والنهر في

قصف تزجّيه (١) يد الأرواح(٢)

وكأنما الأنسام (٣) فوق جنانه

أعلام خزّ فوق سمر رماح

لا غرو أن قامت عليه أسطر

لما رأته مدرّعا لكفاح

فإذا تتابع موجه لدفاعه

مالت عليه فظل حلف صياح

قال : وقلت بمالقة متشوّقا إلى الجزيرة الخضراء : [بحر الخفيف]

يا نسيما من نحو تلك النواحي

كيف بالله نور تلك البطاح

أسقتها الغمام ريّا فلاحت

في رداء ومئزر ووشاح

أم جفته فصيرته هشيما

تركته تذروه هوج الرياح

يا زماني بالحاجبية إني

لست من سكر ما سقيت بصاحي

آه مما لقيت بعدك من ه

مّ وشوق وغربة وانتزاح

أين قوم ألفتهم فيك لما

قرّب الدهر آذنوا بالرواح

تركوني أسير وجد وشوق

ما لقلبي من الجوى من سراح(٤)

أسلموني للويل حتى تولوا

وأصاخوا ظلما لقول اللواحي(٥)

أعرضوا ثم عرّضوني لشوق

ترك القلب مثخنا بجراح

أسهر الليل لست أغفى لصبح

أترى النوم ذاهبا بالصباح

قد بدا يظهر النجوم حليّا

وهو من لبسة الصبا في براح

مسبلا ستره منعّم بال

وجفوني من سهده في كفاح

أيها الليل لا تؤمل خلودا

عن قريب يمحو ظلامك ماح

ويلوح الصباح مشرق نور

فيه للمستهام بدء نجاح

__________________

(١) تزجيه : تسوقه.

(٢) الأرواح : جمع ريح.

(٣) في ب : «الأنشام».

(٤) الجوى : شدة الوجد والاحتراق من عشق أو حزن.

(٥) اللواخي : جمع لاح ، وهو اللائم.


إن يوم الفراق بدّد شملي

طائرا ليته بغير جناح

حالك اللون شبه لونك فاعرف (١)

عن عياني يا شبه طير النّزاح (٢)

وإذا ما بدا الصباح فما يش

به إلّا لون الخدود الملاح

وقلت بالجزيرة الخضراء : [بحر البسيط]

قد رفعت راية الصباح

تدعو الندامى للاصطباح

فبادروا للصّبوح إني

قد بعت في غيه صلاحي

ولا تميلوا عن رشف ثغر

وسمع شدو وشرب راح

وأنت يا من يروم نصحي

قد يئس القوم من فلاحي

فلست أصغي إلى نصيح

ما نهضت بالكؤوس راحي

قال : وقلت أمدح ملك إفريقية وأهنئه بقتل ثائر من زناتة (٣) يدّعي أنه من نسل يعقوب المنصور : [بحر السريع]

برّح بي (٤) من ليس عنه براح(٥)

ومن رأى قتلي حلالا مباح

من صرّح الدمع بحبّي له

وما لقلبي عن هواه سراح

ظبي عدمت الصبح مذ صدّني

وكيف لا يعدم وهو الصباح

مورد الخدّ شهي اللّمى (٦)

منعم الردف (٧) جديب الوشاح (٨)

تظنه من قلبه جلمدا

ومنه للماء بجفني انسياح

لردفه أضعف من صبه

ولم أزل من لحظه في كفاح

نشوان من ريقته عربدت

أجفانه بالمرهفات الصّفاح

فها أنيني خافت مثل ما

أنا أسير مثخن بالجراح

__________________

(١) في ب : «فاعزب».

(٢) في ب : «انتزاح». أما النزاح فهو : الفراق والبعد.

(٣) زناتة : اسم قبيلة كانت تقطن في شمالي إفريقية.

(٤) برّح بي : أتعبني وآذاني.

(٥) البراح : الابتعاد.

(٦) اللمى : سمرة مستملحة في الشفاه.

(٧) منعّم الردف : ممتلئ الأرداف.

(٨) جديب الوشاح : نحيل الخصر وكلها صفات تستملحها العرب.


يا قاتلي صدّا أما تستحي

أن تلزم البخل بأرض السماح

من ذا الذي يبخل في تونس

والملح فيها صار عذبا قراح

وأصبحت أرجاؤها جنة

مبيضة الأبراج خضر البطاح

لو لا ندى (١) يحيى وتدبيره

ما برحت تغبر منها النّواح

لكن يداه سحب كلما

حلت بأرض حل فيها النجاح

هذا وقد آمن من حلها

وحفها من غربة وانتزاح

كم شتّتوا من قبل تأميره

وحكمت فيهم عوالي الرماح

يا سائرا يرجو بلوغ المنى

باكر ذرى (٢) يحيى وقل لا رواح

وحيّه بالمدح فهو الذي

يهتز كالهنديّ حين امتداح

بالشرق والغرب غدا ذكره

يحثّ من حمد وشكر جناح

ساعده السعد وأضحت له ال

آمال لا تجري بغير اقتراح

ويسر الله له ملكه

من غير أن يشهر فيه السلاح

وكل من كان على غيره

ذا منعة أمسى به مستباح

وكم جموح عند ما قام بالأم

ر رأى القهر فخلى الجماح

كفّ بكف للنّدى والردى

بها معان وهي خرس فصاح

حتى لقد أحسب من سعده

تجري على ما يرتضيه الرياح

قولوا ليعقوب فماذا جنى

وابن أبي حمزة ما ذا استباح

قد أصبحا من فوق جذعين لا

تؤنسهم (٣) غير هبوب الرياح

واسأل عن الداعي الدعي الذي

حاول أمرا كان عنه انضراح(٤)

أكان من صيره والدا

بزعمه أمل فيه فلاح

شكرا لسعد لم يدع فرقة

قد صير الملك كضرب القداح

راموا بلا جاه ولا محتد (٥)

ما حزت بالحق فكان افتضاح

زنانة يهنيكم فعلكم

عاجلكم ثائركم باجتياح

__________________

(١) ندى : كرم.

(٢) في ب : «ذرا».

(٣) في ب : «يؤنسهم».

(٤) انضراح : ابتعاد.

(٥) المحتد : الأصل.


كفّر ما قدّمتم آخر

والخير لن يبرح للشر ماح

عهدي به في موكب الملك ما

بينكم نشوان من غير راح

يحسب أن الأرض ملك له

وروحه ملك لسمر الرماح

غدا بعز الملك لكنه

أهون مملوك على الأرض راح

جاؤوا به يمرح في عزه

وهم أزالوا عنه ذاك المراح

توقّعوا في القرب منه الردى

من صحبة الأجرب يخشى الصّحاح

فأسرعوا نحوك يبغون ما

عوّدتهم من عطفة والتماح

فغادروه جانيا غدره

لطائر البين عليه نياح

فالحمد لله على كل ما

سنّى لك السعد برغم اللواح (١)

مثلك لا ينفد ما شاده (٢)

فلست تأتي الدهر إلّا صلاح

لا زلت في عز وفي مكنة

وفي سرور دائم وانفساح

قال : وقلت بنيونش موضع الفرجة بسبتة : [بحر مجزوء الكامل]

اشرب على بنيونش

بين السواني (٣) والبطاح

مع فتية مثل النجو

م لهم إذا مروا جماح

ساقيهم متبذل

لا يمنع الماء القراح

كل يمد يمينه

ما في الذي يأتي جناح (٤)

هبّوا عليه كلما

هبت على الروض الرياح

طوع الأماني كل ما

يأتي به فهو اقتراح

عانقته حتى ترك

ت بخصره أثر الوشاح

وقلت بإشبيلية : [بحر مخلع البسيط]

أوجه صبح أم الصباح

ولحظها أم ظبا (٥) الصفاح

__________________

(١) اللواح : أصلها اللواهي. وهي جمع اللاهية وهي اللائمة ، المبغضة.

(٢) في ج : لا ينفد ما شاءه.

(٣) السواني : جمع سانية ، وهي الساقية ، أو الناعورة.

(٤) جناح : إثم.

(٥) في ب : «ظبى».


وثغرها أم نظيم در

وريقها أم سلاف راح

وقدّها أم قوام غصن

وعرفها أم شذا البطاح

يا حبذا زورة تأتت

منها على غفلة اللواح

فلم أصدق بها سرورا

وظلت نشوان دون راح

أما منعت السلام دهرا

ولا رسول سوى الرياح

قالت ألا فانس ما تقضّى

فمن يدع ما مضى استراح

يا حبذاها وقد تأتّت

من دون وعد ولا اقتراح

زارت ومن نورها دليل

والليل قد أسبل الجناح

أخفت سراها (١) فباح نشر

لها بعرف فشا وفاح

وافت فأمسى فمي مداما

وساعداي لها وشاح

كأنما بتّ بين روض

والغصن والورد والأفاح(٢)

فبينما الشمل في انتظام

إذ سمعت داعي الفلاح(٣)

فغادرتني فقلت غدرا؟

قالت أما تحذر افتضاح

ولّت وما خلت من صباح

يبدو على إثره صباح

قال : وقلت بتونس : [بحر السريع]

لا مرحبا بالتين (٤) لما بدا

يسحب من ليل عليه الوشاح

ممزق الجلباب يحكي ضحى

هامة زنجي عليها جراح

وإن تصحّفه فلا حبذا

ما قد أتى تصحيفه بانتزاح

وقلت بالجزيرة الخضراء ، وقد كلّفت ذلك : [بحر الطويل]

غرامي بأقوال العدا كيف ينسخ

وعهدي وقد أحكمته كيف يفسخ

كلامكم لا يدخل السمع نصحه

ولكن إذا حرضتم (٥) فهو يرسخ

__________________

(١) السّرى : السير ليلا.

(٢) الأقاح : ضرب من الزهور.

(٣) سمعت داعي الفلاح : أي أذان الصبح.

(٤) تصحيف تين : «بين» وهو الفراق.

(٥) حرض : ذاب من الهم. تعب.


وبي بدر تمّ قد ذللت لحسنه

فمن ذا الذي فيما أتيت يوبخ؟

إذا خاصموني في هواه خصمتهم

ويبغون تنقيصي بذاك فأشمخ

أرى أن لي فضلا على كل عاشق

فقصتنا في الدهر مما يؤرخ

فما بشر مثل له في جماله

ووجدي به في العشق ليس له أخ

وقلت بالإسكندرية ، وقد تعذّر علي الحج عند وصولي إليها سنة تسع وثلاثين وستمائة : [بحر الكامل]

قرب المزار ولا زمان يسعد

كم ذا أقرّب ما أراه يبعد

وا رحمة لمتيّم ذي غربة

ومع التغرّب فاته ما يقصد

قد سار من أقصى المغارب قاصدا

من لذّ فيه مسيره إذ يجهد

فلكم بحار مع فقار جبتها (١)

تلقى بها الصمصام (٢) ذعرا يرعد (٣)

كابدتها عربا وروما ، ليتني

إذ جزت صعب صراطها لا أطرد

يا سائرين ليثرب بلّغتم

قد عاقني عنها الزمان الأنكد

أعلمتم أن طرت دون محلها

سبقا وها أنا إذ تدانى مقعد

يا عاذلي فيما أكابد قلّ في

ما أبتغيه صبابة وتسهد

لم تلق ما لقيته فعذلتني

لا يعذر المشتاق إلا مكمد

لو كنت تعلم ما أروم (٤) دنوّه

ما كنت في هذا الغرام تفنّد (٥)

لا طاب عيشي أو أحل بطيبة

أفق به خير الأنام محمد

صلّى عليه من براه خيرة

من خلقه فهو الجميع المفرد

يا ليتني بلغت لثم ترابه

فيزاد سعدا من بنعمى يسعد

فهناك لو أعطي مناي محلة

من دونها حل السّها والفرقد

عيني شكت رمدا وأنت شفاؤها

من دائها ذاك الثرى لا الإثمد

__________________

(١) جبتها : قطعتها.

(٢) الصمصام : السيف.

(٣) يرعد : يرتجف من شدة الخوف أو المرض.

(٤) أروم : أتمنى ، أرغب.

(٥) فنده : خطّأ رأيه. كذّبه.


يا خير خلق الله مهما غبت عن

عليا مشاهدها فقلبي يشهد

ما باختيار القلب يترك جسمه

غير الزمان (١) له بذلك تشهد

يا جنة الخلد التي قد جئتها

من دون بابك للجحيم توقد

صرم التواصل ذبّل (٢) وصوارم

ما للجليد (٣) على تقحّمها (٤) يد

فلئن حرمت بلوغ ما أملته

فلديّ ذكرى لا تزال تردد

فلتنعشوا مني الذّماء (٥) بذكره

ما دمت عن تلك المعالم أبعد

لو لاه ما بقيت حياتي ساعة

هو لي إذا مت اشتياقا مولد

ذكر يليه من الثناء سحائب

أبدا على مرّ الزمان يجدّد

من ذا الذي نرجوه لليوم الذي

يقصى الظماء به ويحمى المورد

يا لهف من وافى هناك وما له

من حبه ذخر به يتزود

ما أرتجي عملا ولكن أرتجي

ثقتي به ولحسب من يتزود

ما صحّ إيمان خلا من حبه

أبلا رياش يستعدّ (٦) مهنّد؟!

عن ذكره لا حلت عنه لحظة

ومديحه في كل حفل أسرد

يا ما دحي يبغي ثوابا زائلا

فثواب مدحي في الجنان أخلّد

لو لا رسول الله لم ندر الهدى

وبه غدا نرجو النّجاة ونسعد

يا رحمة للعالمين بعثت والدني

ا بجنح الكفر ليل أربد (٧)

أطلعت صبحا ساطعا فهديت للإيم

ان إلّا من يحيد ويجحد

لم تخش في مولاك لومة لائم

حتى أقر به الكفور (٨) الملحد(٩)

ونصرت دين الله غير محاذر

ودعوت في الأخرى الألى قد أصعدوا

ولقيت من حرب الأعادي شدّة

لو كابدوها ساعة لتبدّدوا

أيّان لا أحد عليهم عاضد

إلا الإله ولم يخن من يعضد

__________________

(١) غير الزمان : نوازله وكوارثه.

(٢) ذبّل : رماح.

(٣) الجليد : ذو الجلد والقوة.

(٤) تقحّم : خاض.

(٥) الذماء : بقية الروح في الجسد.

(٦) في ب : «يستعدّ».

(٧) الليل الأربد : الأسود المظلم.

(٨) الكفور : الشديد الكفر. صيغة مبالغة من اسم الفاعل : كافر.

(٩) الملحد : الكافر.


فحماك بالغار الذي هو من أدلّ

المعجزات وخاب من يترصّد

ووقاك من سمّ الذراع بلطفه

كيما يغاظ بك العدا والحسّد

والجذع حنّ إليك والماء انهمى

ما بين خمسك والصحابة شهّد

والذئب أنطق للذي أضحى به

يهدي إلى سبل النجاح ويرشد

وبليلة الإسرا حباك وسمي الص

دّيق من أضحى لقولك يسعد

وحباك (١) بالخلق العظيم ومعجز الك

لم الذي يهدي به إذ يورد

وبعثت بالقرآن غير معارض

فيه وأمسى من نحاه يعرّد (٢)

فتوالت الأحقاب وهو مبرّأ

من أن يكون له مثال يوجد (٣)

ولكم بليغ جال فصل خطابه

والسرج في ضوء الغزالة تمهد (٤)

زويت لك الأرض التي لا زال

حتى الحشر ربك في ذراها يعبد (٥)

ونصرت بالرعب الذي لما يزل

يترى كأن ما عين شخصك تفقد (٦)

فمتى تعرّض طاعن أو حاد عن

حرم الهداية فالحسام مجرد

يا من تخيّر من ذؤابة هاشم

نعم الفخار لها ونعم المحتد

لسناك حين بدا بآدم أقبلت

رعيا لأخراه الملائك تسجد

لم أستطع حصرا لما أعطيته

فذكرت بعضا واعتذاري منشد

ما ذا أقول إذا وصفت محمدا

نفد الكلام ووصفه لا ينفد

فعليك يا خير الخلائق كلها

مني التحية والسلام السرمد (٧)

قال : وقلت بإشبيلية : [الرجز]

هل تمنع النهود

ما أبدت الخدود

__________________

(١) حباك : أعطاك.

(٢) نحاه : قصده. يعرّد : يفر ويهرب ويحجم وينكل ويسرع في الهزيمة.

(٣) الأحقاب : جمع حقبة ، وهي الفترة من الزمن.

(٤) الغزالة : الشمس.

(٥) زويت لك الأرض : قبضت وجمعت.

(٦) يترى : يتتابع.

(٧) السلام السرمد : الدائم.


نعم وكم طعين

بطعنها شهيد

يا ربّة المحيا

حفت به السعود

لم تسكر الحميا

بل ريقك البرود (١)

لله يا عذولي

ما تكتم البرود

ما زلت فيه أفني

والوجد مستزيد

يا هل ترى زمانا

مضى لنا يعود

لدى الغروس سقّت

جنابها العهود

حيث الغصون مالت

كأنها قدود

وزهرها نظيم

كأنه عقود

حمامها تغني

أعطافها تميد

وبالنسيم شقّت

لنهرها برود (٢)

فروعه سيوف

وسوره بنود (٣)

هناك كم دعتني

إلى الورود رود (٤)

فنلت كل سؤل

يفنى به الحسود

قضيت فيه عيشا

ما بعده مزيد

أضحي به وأمسي

مرنحا أميد

كأنني يزيد

كأنني الوليد

يجري الزمان طوعي

بكل ما أريد

الخمر ملّكتني

فالخلق لي عبيد

يحق لي إذا ما

أبصرتها تجود (٥)

فها أنا إذا ما

فقدتها فقيد

__________________

(١) الحميّا : الخمرة.

(٢) البرود : الثياب.

(٣) البنود : جمع بند ، وهو العلم.

(٤) الرّود : بضم الراء ـ الشابة الحديثة السن ذات الدل والخفر.

(٥) في ه : «إذا ما أبصرتها سجود».


يا من يلوم بغيا

العذل لا يفيد

إذا عدمت كأسي

فليس لي وجود

قال : وقلت بإشبيلية : [بحر الكامل]

أو ما نظرت إلى الحمامة تنشد

والغصن من طرب بها يتأوّد (١)

ونثاره تلقاه (٢) جائزة لها

لما يزل بيد النسيم يبدد

ألقى عليها الطل بردا سابغا (٣)

فثناؤه طول الزمان يردد

أترى الحمامة من محبّ مخلص

أولى بشكر حين تغمره يد

فلأثنين عليك ما أثني بأع

لى الغصن حنّان الهديل (٤) مغرد

كم نعمة لي في جنابك؟ كم أكا

بد جهدها؟ أيان برك يجهد؟

وقال : [بحر الطويل]

أرى العين مني تحسد الأذن كلما

جرت مدحة للعلم والفضل والمجد

أحقق أنباء ولم أر صورة

كتحقيقي الأخبار عن جنة الخلد

فمنّ على عيني بلقياك إنني

أخذت لها أمنا بذاك من السهد

قال : وقلت أمدح ابن عمي وأشكره ، على ما أذكره : [بحر الخفيف]

آه مما تكنّ (٥) فيك الجوانح

ودموعي على نواك سوافح

واشتفاء من العدوّ ببين

كدّر العيش ، أيّ عيش لنازح؟

يا أتم الأنام حسنا أما تحس

ن حتى يتمّ إطراء مادح

يا زمان الوصال عودا فإني

طوّحت (٦) بي لما غدرت الطوائح(٧)

أين عيش العروس إذ يبطح الس (٨)

كر حبيبي ما بين تلك الأباطح (٩)

__________________

(١) يتأود : يتلوى ويتمايل.

(٢) في ب : «ألقاه».

(٣) سابغا : طويلا واسعا.

(٤) حنّان الهديل : أراد الحمام.

(٥) تكنّ : تستر ، تغطي.

(٦) طوّح : ذهب به هنا وهناك وبعّده في الأرض.

(٧) الطوائح : جمع طائحة وهي المهلكة.

(٨) في ب : «السكر».

(٩) الأباطح : جمع بطحاء ، وهي مكان متسع منبسط يسيل فيه الماء فيخلف فيه التراب والحصى والصغار ، وجمعها : بطاح وبطائح وبطحاوات.


والأماني تترى (١) ولا أحد ين

صح إذ لا يصغى إلى قول ناصح

وزمان السرور سمح مطيع

ورسول الحبيب غاد ورائح

ولكم ليلة أتاني بلا طي

ب ولكن يزري بأذكى الروائح

هو ظبي فليس يحتاج طيبا

قد كفاه عرف من المسك فائح

مثل عليا محمد لم تكن كس

با وما لا يكون في الطبع فاضح

يا كريما أتى من الجود مالا

كان يدري فأوجدته المدائح

وعلا كل ذي علاء وأضحى

نحو ما لا يرومه الناس طامح

قد أتاني إحسانك الغمر (٢) في إث

ر سواه فكنت أكمل مادح

فاض بحر النوال منك ولا سا

حل يبدو ولم أزل فيه سابح

حلل مثل ما كسوتك في المد

ح تميت العدا ومال وسائح (٣)

أورد الورد (٤) منطقي كلّ شكر

حين أضحى طوع البنان مسامح

لون خد الحبيب حين كسوه

حلة الحسن بالعيون اللوامح

شفق سال بين عينيه صبح

حسنه قيّد اللحاظ السوارح

لم أجد فيه من جماح ولكنّ

ثنائي عليك ما زال جامح

لك يا ابن الحسين ذكر جميل

صير الكل نحو بابك جانح

قد هدى نحوك الثناء كما يه

دي إلى الروض باسمات النوافح

فاعذر الناس أن أتوا لك أفوا

جا فكلّ بقصد فضلك رابح

ما هدتهم إليك إلا الأماني

لم تحلهم إلا عليك القرائح

قل لذي المفخر الحديث تأخّر

ليس مهر في شأوه مثل قارح

أي أصل وأي فرع أقاما

شرفا ظلّ للنجوم يناطح

قد حوت مذحج من الفجر لما

كنت منها ما ليس يحويه شارح

أفق مجد قد زانه منك بدر

في ظلام الخطوب ما زال لائح

__________________

(١) تترى :

(٢) الغمر : الغزير.

(٣) في ب : «وسابح» وسائح وسابح صفتان للفرس.

(٤) الورد من الخيل : ما كان لونه بين الكميت والأشقر.


بدر تم حفت به هالة من

بيت مجد علاؤها الدهر واضح

يا سماكا بمسكه القلم الأع (١)

لى بدا بين أنجم الملك رامح

رفع الله للكتابة قدرا

بعد ما كابدت توالي الفضائح

يا أعزّ الأنام نفسا وأعلا

هم محلّا لا زال أمرك راجح

أين أعداؤك الذين رعى سي

فك فيهم فأشبهوا قوم صالح (٢)

أفسد الدهر حالهم ليرى حا

لك رغما بمن يناويك (٣) صالح(٤)

دمت في عزة وسعد مدى الده

ر ولا زال طائر منك سانح (٥)

وابن عمه المذكور قال في حقه في «المغرب» ما ملخصه : إنه الرئيس الأعلى ، ذو الفضائل الجمة ، أبو عبد الله محمد بن الحسين بن أبي الحسين سعيد بن الحسين بن سعيد بن خلف بن سعيد ، قال : واجتماع نسبنا مع هذا الرئيس في سعيد بن خلف ، وهو الآن قد اشتمل عليه ملك إفريقية اشتمال المقلة على إنسانها ، وقدمه في مهماته تقديم الصّعدة (٦) لسنانها (٧) ، وأقام لنفسه مدينة حذاء حضرة تونس ، واعتزل فيها بعسكر الأندلس الذين صيّرهم الملك المنصور إلى نظره ، وهو كما قال الفتح صاحب القلائد «فقد جاء آخرهم ، فجدد مفاخرهم» ومن نظمه وقد نزل على من قدم له مشروبا أسود اللون غليظا وخروبا وزبيبا [أسود ، وزبيبا] كثير الغصون جاءت به عجوز في طبق ، فقال : [بحر المتقارب]

ويوم نزلنا بعبد العزيز

فلا قدس الله عبد العزيز

سقانا شرابا كلون الهناء (٨)

ونقّلنا بقرون العنوز(٩)

وجاءت عجوز فأهدت لنا

زبيبا كخيلان خدّ العجوز

__________________

(١) في ه : «يا سماكا بملكه القلم الأعلى».

(٢) يقصد أنهم أشبهوا قوم النبي صالح في الهلاك.

(٣) يناويك : يخاصمك ويعاديك.

(٤) في ه : «صائح» وفي ه : «طائح» وكلاهما تحريف.

(٥) الطير السانح والسنيح : الذي يتيمن به.

(٦) الصعدة ـ بالفتح ـ القناة المستوية التي لا تحتاج إلى تثقيف.

(٧) السنان : رأس الرمح العدني.

(٨) الهناء : ـ بالكسر ـ القطران.

(٩) العنوز : جمع عنز.


ونزل السلطان أبو يحيى في بعض حركاته لموضع فيه نهر ، وعلى شطه نور (١) ، فقال الرئيس أبو عبد الله بن الحسين يصفه أو أمر بذلك : [بحر الطويل]

ونهر يرفّ الزهر في جنباته

ويثني النسيم قضبه ويقنطر (٢)

يسيل كما عنّ الصباح بأفقه

وإلا كما شيم الحسام المجوهر

عليه ليحيى قبة ، هل سمعتم

بقرصه شمس حل فيها غضنفر؟

فإن قلت هذي قبة لعفاتها

فقل ذلك الوادي الذي سال كوثر

وقال أبو عمرو أحمد بن مالك بن سعيد المير اللخمي النشابي (٣) في ذلك : [بحر الطويل]

وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت

جداول ماء دونها (٤) تتفجر

كما سبحت تبغي الحياة أراقم

على روضة فيها الأقاح المنوّر

وإلا كما شقّت سبائك فضة

بساطا على حافاته الدر ينثر

وقال أبو علي يونس : [بحر البسيط]

انظر إلى منظر يسبيك منظره

ويزدهيك (٥) بإذن الله مخبره

ومعجب معجب لا شيء يشبهه

خرير ماء نمير ثمّ منهره

كأنما فرشت بالدر صفحته

فالماء ينظمه طورا وينثره

كأن خلجانه قدّت على قدر

بمائها قسم يجري مفجّره

أحلّ سيدنا المأمون (٦) قبته

بحوزه فغدا يزدان جعفره

رجع إلى ما كنا فيه من أخبار الرئيس ابن الحسين ، فنقول :

رأيت بالمغرب آخر كتاب «روح السحر» من نسخة ملوكية كتبت له أبياتا علق بحفظي منها الآن ما نصه : [بحر الرمل]

__________________

(١) النور ـ بفتح النون وسكون الواو ـ الزهر.

(٢) في ب ، ه : «فتأطر».

(٣) في ب ، ه : «أحمد بن مالك بن سيد أمير اللخمي الشابي.

(٤) في ب ، ه : «جداول ماء فوقها تتفجر».

(٥) يزدهيك : يعجبك ويأخذ بحواسك.

(٦) في ب ، ه : «أحلّ سيدنا الميمون قبته».


تمّ روح السّحر نسحا (١) فأتى

مصحبا باليمن والفخر البعيد

لأبي عبد الإله المرتقى

في ذرا المجد الرئيس ابن سعيد

ولم أحفظ تمام الأبيات :

وقال أبو الحسن علي بن سعيد : كتبت إليه من أبيات بحضرة تونس وقد نقل إليه بعض الحساد ما أوجب تغيره : [بحر الطويل]

ومن بعد هذا قد أتيت بزلّة

أما حسن أن لا تضيق بها صدرا

وعلمك حسبي بالأمور فإنني

عهدتك تدري سر أمري والجهرا

وقد أصلح الله الأمور بسعيكم

ونيتكم صلحا على البشر (٢) والبشرى)(٣)

ولم يبق لي إلا رضاك فإن به

كتبت ولو حرفا أطبت به (٤) العمرا

فبقّيت كهفا للجميع وموئلا

ولا زلت ما دام الزمان لنا سترا

فكتب إلي هذه الأبيات ، وكان متمرضا ، وبعث إلي بما يذكر : [بحر الطويل]

أكفّ الصبا حفت جنى زهر الربا (٥)

سؤالك عن مضنى (٦) يسامي بك الزهرا

بعثت بمثل الزهر في مثل صفحة

لذلك ما قلدتها الشذر (٧) والدرا

معان لها أعنو وأعني بها فكم

وقفت عليها العين والسمع والفكرا

فلو عرضت للبحر لم يلفظ الدرا

ولو عارضت هاروت لم ينفث السحرا

أبا حسن هنئت ما قد منحته

ضروبا من الآداب تحلي بها الدهرا

ودونك بحرا من ودادي تلاطمت

به زاخرات المدّ لا يعرف الجزرا

فإن خطرت في جانب منك هفوة

فلا تحسبن أني أضيق بها صدرا

يزلّ الجواد عند ما يبلغ المدى

ويعثر بالرّمث (٨) النسيم إذا أسرى

__________________

(١) في ب : «نسخا».

(٢) البشر : الابتسام وطلاقة الوجه.

(٣) البشرى : الخبر السعيد.

(٤) في ب ، ه : «أطبت لي العمرا».

(٥) في ب : «الربى».

(٦) في ب ، ه : «سؤالك عن نضو».

(٧) الشذر : قطع من الذهب تلتقط من معدنه ، أو خرز يفصل به بين حبات العقد.

(٨) الرمث : بكسر الراء وسكون الميم : مرعى للإبل من الحمض.


فدع ذا وخذها شائبات قرونها

عروبا لعوبا جائزا حكمها بكرا

ولو غادرت أوصافها متردّما

لشنفت من أشعارها أذن الشعرا (١)

ألا فاحجبنها عن صديق معمم

فإن قصارى العمر أن يبكي العمرا

ومن كان ذا حجر ونبل ورقة

فلا يخلون إلا على الخمرة الحمرا

قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى

ولا ألفت وصلا ولا عرفت هجرا

ولا ضمّخت نضخ العبير وإن غدت

تؤخره لونا وتفضحه نشرا

فإن خلتها بنت الظليم (٢) أظلها

فقد فرش الإذخر (٣) من تحتها تبرا (٤)

لها نسب بين الثريا أو الثرى

وسل برباها المزن (٥) والغصن النضرا

فشربا دهاقا وانتشاقا ولا ترم

عن البيت فترا أو تقيم به شهرا

وله في الخشكلان : (٦) [بحر المجتث]

هو الأهلّة لكن

تدعونه خشكلانا

فإن تفاءلت صحف

تجد حبيبك لانا

انتهى باختصار.

وحظي المذكور جدّا عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص ، ولما مات السلطان المذكور ، وحدثت فتنة بموته واختلاف ، ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة ، وقاتل ابن الأبار القضاعي ـ سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور ، وقبض على دياره وأمواله ، وصيره كالمحبوس ، فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة ، فأحضره ، وسأله فأخبره بأن أباه صنع دارا عظيمة تحت الأرض ، وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدّة وذخيرة لسلطانه ، ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري ، وأوصاني أنه إذا انتقل إلى جوار به ، إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه ، أنه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنه يصلح لأمور المسلمين ، فأطلعه على هذه الذخائر ، فربما

__________________

(١) في ب : «الشعرى».

(٢) الظليم : ذكر النعام.

(٣) الإذخر : نبات طيب الرائحة.

(٤) التبر : الذهب.

(٥) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة ذات المطر.

(٦) الخشكلان : أصلها فارسي ، وهو نوع من الخبز يصنع على شكل هلالي.


فنيت الأموال بالفتنة ، فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة ، ففرح السلطان ، وبادر إلى تلك الدار ، فرأى ما ملأ عينه ، وسر قلبه ، وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه ، وبدر الأموال بين يديه ، وأعاده إلى أحسن أحواله ، وجعله وزيرا لديه ، كما كان أبوه مفوضا أموره إليه ، وقال السلطان : إن من أوجب شكر الله علي أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعية الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه ، وأمر بالنداء فيهم ، وأحضرهم وكل من حلف على شيء قبضه وانصرف.

وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته (١) فكتب لأبي عبد الله الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله : [بحر الوافر]

ليحضر كلّ ليث ذي منال

زكا فرعا لإسداء النّوال

غدا يوم الخميس فما شغلنا

بأسد الوحش عن أسد الرجال

وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده ، وقيل : بل سلم عليه الموحدون يوم عيد بتونس ، وفيهم شاب [مليح] وسيم اسم جده النعمان ، فسأله السلطان عن اسمه ، وأعجبه حسنه ، فخجل واحمر وجهه ، وازداد حسنا ، فقال السلطان هذا المصراع : [بحر الكامل]

كلّمته فكلمت (٢) صفحة خدّه

وسأل من الحاضرين الإجازة ، فلم يأتوا بشيء ، فقال السلطان مجيزا شطره :

فتفتحت فيها شقائق (٣) جده

وهذا من البديع (٤) مع ما فيه من التورية والتجنيس.

ومما نسبه له أبو حيان بسنده إليه : [بحر الكامل]

ما لي عليك سوى الدّموع معين

إن كنت تغدر في الهوى وتخون

من منجدي (٥) غير الدموع وإنها

لمغيثة مهما استغاث حزين

الله يعلم أن ما حملتني

صعب ولكن في رضاك يهون

__________________

(١) المتصيدات : رحلات الصيد.

(٢) كلمت : جرحت.

(٣) الشقائق : زهر أحمر يسمى أيضا : شقائق النعمان.

(٤) في ب ، ه : «وهذا من البدائع».

(٥) منجدي : معيني ومساعدي.


وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل ، حتى إنه كتب له صاحب مكة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف ، كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير ، وسرد نصها ، وهي من الغرائب.

ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرّح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله ، حتى قيل : إنهم كانوا ألف ألف ، فكتب إليه أهل مصر من نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها : [بحر السريع]

قل للفرنسيس إذا جئته

مقالة من ذي لسان فصيح

إلى أن قال : [بحر السريع]

دار ابن لقمان على حالها

ومصر مصر والطّواشي صبيح

والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها ، فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس ، فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر : [بحر الخفيف]

أفرنسيس ، تونس أخت مصر

فتأهّب لما إليه تصير

لك فيها دار ابن لقمان قبر

وطواشيك منكر ونكير

فقضى الله سبحانه وتعالى أنه مات في حركته لتونس ، وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط ، ويقال : إنه دس إليه سيفا مسموما من سلّه أثر فيه سمه ، وقلده رسولا إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره ، وقال للرسول : إن الفرنسيس رجل كثير الطمع ، ولو لا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره ، وإنه سيرى السيف ، ويكثر النظر إليه ، فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبله ، وقل له : هذا هدية مني إليك ، لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له ، ويحرم علينا أن نمسكه ، لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام ، وتكراره النظر إليه دليل على حبه له ، ففرح النصراني بذلك ، وأسرع الرسول العود إلى سلطانه ، فسلّ النصرانيّ السيف ، فتمكن فيه السم بالنظر ، فمات في الحين ، وفرّج الله تعالى عن المسلمين.

رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد :

قال ابن العديم في تاريخ حلب : أنشدني شرف الدين أبو العباس (١) أحمد بن يوسف

__________________

(١) أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي. تعلم بالقاهرة وعاد إلى بلده تيفاش وتولى القضاء فيها ، ثم رحل إلى المشرق وألف كتاب «فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب».


التيفاشي بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه في محاسن المغرب وسماه «المغرب» : [بحر الخفيف]

سعد الغرب وازدهى الشرق عجبا

وابتهاجا بمغرب ابن سعيد

طلعت شمسه من الغرب تجلى

فأقامت قيامة التقييد

لم يدع للمؤرّخين مقالا

لا ولا للرواة بيت نشيد

إن تلاه على الحمام تغنّت

ما على ذا في حسنه من مزيد

وأنشد [ني] أبو العباس التّيفاشي لنفسه فيه : [بحر البسيط]

يا طيب الأصل والفرع الزكي كما

يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر

ومن خلائقه مثل النسيم إذا

يهفو على الزهر حول النهر في السحر

ومن محيّاه والله الشهيد إذا

يبدو إلى بصري أبهى من القمر

أثقلت ظهري ببر لا أقوم به

لو كنت أتلوه قرآنا مع السور

أهديت لي الغرب مجموعا بعالمه

في قاب قوسين (١) بين السمع والبصر

كأنني الآن قد شاهدت أجمعه

بكل من فيه من بدو ومن حضر

نعم ولاقيت أهل الفضل كلهم

في مدّتي هذه والأعصر الأخر

إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري

فقد رددت عليّ الصدر من عمري

وكنت لي واحدا فيهم جميعهم

ما يعجز الله جمع الخلق في بشر

جزيت أفضل ما يجزى به بشر

مفيد عمر جديد الفضل مبتكر

ومن نظم أبي الحسن بن سعيد قوله : [بحر الكامل]

وعشيّة بلغت بنا أيدي النوى

منها محاسن جامعات للنّخب

فحدائق ما بينهن جداول

وبلابل فوق الغصون لها طرب

والنخل أمثال العرائس لبسها

خز وحليتها قلائد من ذهب

ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله : [بحر الخفيف]

حادي العيس (٢) كم تنيخ المطايا

سق فروحي من بعدهم في سياق

__________________

(١) قاب قوسين : قريب جدا.

(٢) حادي العيس : سائقها ، والعيس : النوق.


حلب إنها مقر غرامي

ومرامي وقبلة الأشواق

لا خلا جوسق (١) وبطياس (٢) والسع

داء من كل وابل (٣) غيداق (٤)

كم بها مرتع لطرف وقلب

فيه يسقى المنى بكأس دهاق (٥)

وتغنّي طيوره لارتياح

وتثنّى غصونه للعناق

وعلوّ الشهباء (٦) حيث استدارت

أنجم الأفق حولها كالنطاق

وقوله أيضا في حماة : [بحر الطويل]

حمى الله من شطّي حماة مناظرا

وقفت عليها السمع والفكر والطّرفا

تغنى حمام أو تميل خمائل

وتزهى مبان تمنح الواصف الوصفا

تغني أن أعصي التّصوّن والنهى

بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا

إذا كان فيها النهر عاص (٧) فكيف لا

أحاكيه عصيانا وأشربها صرفا

وأشدو لدى تلك النواعير شدوها

وأغلبها رقصا وأشبهها غرفا

تئن وتذري دمعها فكأنها

تهيم بمرآها وتسألها العطفا

وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه : [بحر الطويل]

وداع كما ودّعت فصل ربيع

يفضّ ضلوعي (٨) أو يفيض دموعي

لئن قيل في بعض يفارق بعضه

فإني قد فارقت منك جميعي

قال : فأرسل إلي إحسانا ، واعتذر ولسان الحال ينشد عنه : [بحر الوافر]

أحبّك في البتول وفي أبيها

ولكنّي أحبّك من بعيد

وقوله ، وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو : [بحر الرجز]

انظر إلى مركبنا منقذا

من العدا من بعد إحراز

أفلت منهم فغدا طائرا

كطائر أفلت من بازي

وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية : [بحر الطويل]

__________________

(١) جوسق : اسم مكان.

(٢) بطياس : اسم مكان.

(٣) الوابل : المطر الشديد.

(٤) الغيداق : الغزير.

(٥) الدهاق من الكؤوس : الممتلئة الطافحة.

(٦) الشهباء : هي مدينة حلب ويقال : حلب الشهباء.

(٧) عاص : أراد نهر العاصي الذي يمر بحماة ويسقي أرضها.

(٨) يفض ضلوعي : يكسرها.


رفيقي جاوزنا حدود مواطن

صحبنا بها الأيام طلقا محيّاها

وما إن تركناها لجهل بقدرها

ولكن ثنت عنا أعنّة سقياها

فسرنا نحثّ السير عنها لغيرها

إلى أن يمنّ الله يوما بلقياها

وكان وصوله الإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة.

وقال رحمه الله تعالى : أخذت مع والدي يوما في اختلاف مذاهب الناس ، وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره ، فقال : متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف ـ أعني المغرب ـ ولا يعترض أتعبت نفسك باطلا (١) ، وطلبت غاية لا تدرك ، وأنا أضرب لك مثلا : يحكى أن رجلا من عقلاء الناس كان له ولد ، فقال له يوما : يا أبي ، ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل؟ ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم ، فقال : يا بني ، إنك غرّ (٢) لم تجرّب الأمور ، وإن رضا (٣) الناس غاية لا تدرك ، وأنا أوقفك على حقيقة ذلك ، وكان عنده حمار ، فقال له : اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيا ، فبينما هو (٤) كذلك إذ قال رجل : انظر ، ما أقلّ هذا الغلام بأدب! يركب ويمشي أبوه ، وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا ، فقال له : انزل أركب أنا وامش أنت خلفي ، فقال شخص آخر : انظر هذا الشخص ، ما أقلّه بشفقة! ركب وترك ابنه يمشي ، فقال له : اركب معي ، فقال شخص : أشقاهما الله تعالى! انظر كيف ركبا على الحمار ، وكان في واحد منهما كفاية ، فقال له : انزل بنا ، وقدّماه وليس عليه راكب ، فقال شخص : لا خفّف الله تعالى عنهما! انظر كيف تركا الحمار فارغا وجعلا يمشيان خلفه ، فقال : يا بني ، سمعت كلامهم ، وعلمت أن أحدا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان ، انتهى.

وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه : الحمد (٥) لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب ، وأفضل ما انتخب ، إذ هو ذخر لا يخاف كساده ، وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده ، ولله درّ القائل : [بحر الطويل]

__________________

(١) في ب ، ه : «أتبعت نفسك باطلا».

(٢) الغرّ : الحدث السن الذي تنقصه التجارب.

(٣) في ب : «رضى».

(٤) في ب ، ه : «فبينما هما كذلك».

(٥) في ب : «والحمد».


رأيت جميع الكسب يفقده الفتى

وتبقى له أخلاقه والتأدّب

إذا حل في أرض أقام لنفسه

بآدابه قدرا به يتكسّب

وأومأ كلّ نحوه ، ولعله

إلى غير أهل للنباهة ينسب

وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة : [الطويل]

فأثبتّ في كل المواطن همّة

إلى طلب العلم الذي كان مطّرح (١)

وصيّرت من قد كان بالنظم جاهلا

يحاوله كيما تجود لك المدح

وقال أيضا في الخطبة : وبعد ، فهذا كتاب راحة قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار ، وكل عناء سهل إذا أنجح القصد ، وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة ، ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة ، وأول من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جدّ والدي عبد الملك بن سعيد ، وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر ، إلى أن استبدّ بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وقصده في سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري (٢) وصنف له كتاب «المسهب ، في غرائب المغرب» في نحو ستة أسفار ، وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه ، وهو سنة ثلاثين وخمسمائة ، ثم ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري ، وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد ، وأضافا له ما استفاداه ، ولم يزل يزيد إلى أن استبدّ به محمد ، فاعتنى به أشد اعتناء ، ثم استبد به والدي ـ وكان أعلمهم بهذا الشأن ـ وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوما وقد نوّه به ابن هود وهو ملك الأندلس وولّاه الجزيرة الخضراء ، فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها ، وأخبار رؤسائها ، الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن ، فأرسل إليه راغبا في استعارتها ، فأبى ، وقال : علي يمين أن لا تخرج عن منزلي ، وقال : إن كانت له حاجة يأتي على رأسه ، وكان جاهلا ، فلما سمع والدي ضحك فقال لي : سر معي إليه ، فقلت له : ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة؟ فقال : إني لا أمشي له ، ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم ، أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم؟ قلت : لا ، قال : فإن الأثر ينوب عن العين ، فمشينا

__________________

(١) اطّرحه : رماه ناحية.

(٢) هو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الكندي الحجاري الأندلسي المالكي المتوفي سنة ٥٨٤ ه‍. له : حديقة في علم البديع ، والمسهب في أخبار أهل المغرب (كشف الظنون ج ٥ ص ٤٥٧).


إلى منزل الرجل ، فو الله ما أنصفنا في اللقاء ، فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي ، وشكره ، وقال : هذه فائدة لم أجدها عند غيرك ، فجزاك الله تعالى خيرا! ثم انفصل وقال : ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية ، وإن هذا والله أوّل السعادة ، وعنوان نجاحها.

والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها : قلعة بني سعيد ، وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير ، وهو عين لها ، وقال الملّاحي في تاريخه : إنها تعرف بقلعة يحصب ، قبيل : من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس ، وبها كما مر صنف الحجاري كتاب (١) «المسهب» لصاحبها عبد الملك بن سعيد.

وفي بني سعيد يقول الحجاري : [بحر مجزوء الكامل]

قوم لهم في فخرهم

شرف الحديث مع القديم

ورثوا الندى والبأس وال

عليا كريما عن كريم

من كلّ وضّاح به

يجلى دجى الليل البهيم (٢)

وكان أوّل من دخل الأندلس من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار (٣) ، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه ، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس ، وكان إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق ، وإنما ركن إليه في محاربه عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمّار بصفّين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه ، وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما.

وقال الحجاري : أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد (٤) صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين لنفسه ، فيما يليق بجنسه : [بحر مخلع البسيط]

__________________

(١) في ه : «كتابه».

(٢) البهيم : المظلم.

(٣) عمار : هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم. صحابي جليل مشهور ، من السابقين الأولين. قتل مع علي في صفين سنة ٣٧ ه‍ (تقريب التهذيب ج ٢ ص ٤٨).

(٤) في ج : «بكر بن محمد بن سعيد».


إن لم أكن للعلاء أهلا

بما تراه فمن يكون

وكل ما أبتغيه دوني

ولي على همتي ديون

ومن يرم ما يقلّ عنه

فذاك من فعله جنون

فرع بأفق السماء سام

وأصله راسخ مكين

ومن نظمه قوله أيضا : [المجتث]

الله يعلم أني

أحبّ كسب المعالي

وإنما أتوانى

عنها لسوء المآل

تحتاج للكد والبذ

ل واصطناع الرجال (١)

دع كل من شاء يسمو

لها بكل احتيال

فحالهم بانعكاس

فيها وحالي حالي

ولما ذكر ابن سعيد في «المغرب» ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال : بماذا أصفه؟ ولو أن النجوم تصير لي نثرا لما كنت أنصفه ، وكفاك أني اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة ، فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه ، ولما فارقته لم أشعر إلا برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس ، وفيها قصيدة فريدة منها : [بحر الكامل]

إيه أبا الحسن استمع شدوي فقد

يصغي الحمام إذا الحمام ترنّما

ثم سرد بعضا من القصيدة ، وستأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، بزيادة على ما ذكر منها في المغرب.

رجع ـ وجد بخطه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب «المغرب» ما نصه : أجزت الشيخ القاضي الأجلّ أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التّيفاشي ، أن يروي عن مصنّفي هذا ، وهو «المغرب ، في محاسن المغرب» ويرويه من شاء ثقة بفهمه ، واستنامة إلى علمه ، وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني ، ويرويه من شاء ، وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السّفر ، انتهى.

__________________

(١) في ج : «واصطفاف الرجال».


وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات ، وكان ظريفا أديبا : [بحر مجزوء الكامل]

لهفي على غصن ذوى

أفقدته لما استوى

ريّان من ماء الصبا

ومن المدامع ما ارتوى

لا تعذلوني إن نطق

ت الدهر فيه عن الهوى

كم ضل صاحبه بسح

ر اللحظ منه وكم غوى

أنا لا أفيق الدهر في

ه من الصبابة والجوى

إن الهوى حيّا وميت

ا لا يزال به سوى (١)

كم قد نويت به النعي

م فقدّر الله النوى

دار السلام (٢) حويت من

كلّ المحاسن قد حوى

مجموع حسن قد توى (٣)

في جنة وبها ثوى

وولد أبو الحسن علي بن موسى بن محمد يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة ، وهو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد (٤) بن عمار بن ياسر ، رضي الله تعالى عنه! وقال في «المغرب» لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد ، ما ملخصه (٥) : لو لا أنه والدي لأطنبت في ذكره ، ووفيته من الوصف حق قدره ، لكن كفاه وصفا ما أثبتّ (٦) له في هذه الترجمة ، وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب ، وكون كل من اشتغل بهذا التأليف نهرا وهو بحر ، واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده ، بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب ، وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته ، ويستمد القطر (٧) من درّته ، ومما

__________________

(١) في ب : «سوا».

(٢) دار السلام : بغداد.

(٣) توى : هلك.

(٤) كل النسخ متفقة هنا على «عبد الله بن سعيد بن عمار» وقد سبق أنه عبد الله بن سعد بن عمار».

(٥) في ب ، ه : «ما محصله».

(٦) في ب : «أثبته».

(٧) القطر ـ بفتح القاف وسكون الطاء ـ المطر.


شاهدت من عجائبه أنه عاش سبعا وستين سنة ولم أره يوما تخلى عن (١) مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده ، حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك ، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب ، فقلت له : يا سيدي ، أفي هذا اليوم لا تستريح؟ فنظر إلي كالمغضب وقال : أظنك لا تفلح أبدا ، أترى الراحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب «المغرب» على غرضي ، قال : فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذّ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن ، ولو لا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه ، وكان أولع الناس بالتجول في البلدان ، ومشاهدة الفضلاء ، واستفادة ما يرى وما يسمع ، وفي تولّعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول : [بحر البسيط]

يا مفنيا عمره في الكأس والوتر

وراعيا في الدّجى للأنجم الزهر

يبكى حبيبا جفاه أو ينادم من

يهفو لديه كغصن باسم الزهر

منعّما بين لذات يمحقها

ولا يخلد من فحر ولا سير

وعاذلا لي فيما ظلت أكتبه

يبدي التعجب من صبري ومن فكري

يقول مالك قد أفنيت عمرك في

حبر وطرس عن الأغصان والحبر

وظلت تسهر طول الليل في تعب

ولا تني (٢) أمد الأيام في ضجر

أقصر فإني أدري بالذي طمحت

لأفقه همتي واسأل عن الأثر

واسمع لقول الذي تتلى محاسنه

من بعد ما صار مثل الترب كالسور

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة ، وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير (٣)

وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين وخمسمائة ، وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوّال عام أربعين وستمائة.

وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة ، وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة.

وكان محمد بن عبد الملك وزيرا جليلا ، بعيد الصيت ، عالي الذكر ، رفيع الهمة ، كثير الأموال ، وذكره ابن صاحب الصّلات (٤) في كتابه «تاريخ الموحّدين» ونبه على مكانته منهم في

__________________

(١) في ب : «يخلي مطالعة كتاب. وفي ه : «يتخلى من».

(٢) لا تني : لا تفتر.

(٣) في ب : «انتهى».

(٤) في ب : «الصلاة».


الحظوة والأخذ في أمور الناس ، وأثنى عليه ، وذكره السهيلي في «شرح السيرة الشريفة» (١) حيث ذكر الكتاب الموجّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أدفونش (٢) مكرما مفتخرا به ، والقصة مشهورة ، ومدحه الرصافي بقصيدة أوّلها : [بحر الكامل]

ذهنا يفيض وخاطرا متوقدا

ما ذا عسى يثنى على علم الندى

ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها [الكامل] :

لمحلّك الترفيع والتعظيم

ولوجهك التقديس والتكريم

حلف لا يسمعها ، وقال : عليّ إجازتك ، ولكن طباعي لا تحمل مثل هذا ، فقال له الرصافي : ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك؟ فقال له : دعني من خداعك ، أنا وما أعلمه من قلبي.

وأنشد له في الطالع السعيد : [بحر الطويل]

فلا تظهرن ما كان في الصّدر كامنا

ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر

ولا تبحثن في عذر من جاء تائبا

فليس كريما من يباحث في العذر

وولي للموحدين أعمالا كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة ، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة ، وكان من شيوخها وأعيانها ، وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلا في دار الملك ، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح شوش عليه (٣) نباح الكلاب ، فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسن سنة ٥٩٣ ، ثم رضي عنهما ، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ منه (٤) ، فصرفه عليه ، ولم ينقص منه شيئا ، وغرم له ما فات منه ، وهذا مما يدل على قوة سعد محمد بن عبد الملك المذكور ونباهة قدره ، وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي (٥) له ، وهو ممن يمدح الخلفاء في ذلك العصر ـ رحمه الله تعالى ـ.

وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة ، وتوفي بحضرة مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة. قال الحجاري : لما مات يحيى بن غانية الملثّم ملك الأندلس بحضرة

__________________

(١) كتاب الروض الأنف.

(٢) في ب ، ه : «أذفونش».

(٣) «عليه» ساقطة في ب.

(٤) في ب : «له».

(٥) أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي. شاعر أكثر من مدح الخلفاء (انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٩٧ والتكملة ص ٥٢٠).


غرناطة ، وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد ، بادر الفرار لغرناطة عند ما سمع بموته إلى قلعته ، وثار بها ، وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة بن العنبر ، فوجده قد فاته.

وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب «المغرب ، في أخبار المغرب» ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك ، ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد ، ثم أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب ، وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية.

ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب «الكمائم» (١) وهو : فأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس ، وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن ، وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص ، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ، ثم لما فتحها قسم المنازل على القبائل ، ونسب المدينة إليه ، فقيل : فسطاط عمرو ، وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر ، فاتخذوها سرير السلطنة ، وتضاعفت عمارتها ، فأقبل الناس من كل جانب إليها ، وقصروا أمانيهم عليها ، إلى أن رسخت بها دولة بني طولون ، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع ، وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة ، وهي مدينة مستطيلة يمر النيل مع طولها ، وتحطّ في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد ، وبها منتزهات ، وهي في الإقليم الثالث ، ولا ينزل فيها مطر إلا في النادر ، وترابها ينتن الأرجل ، وهو قبيح اللون ، تستكدر منه أرجاؤها ، ويسوء بسببه هواؤها ، ولها أسواق ضخمة إلا أنها ضيقة ، ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة ، ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط ، وفرّط في الاعتناء بها بعد الإفراط ، وبينهما نحو ميلين ، وأنشدت فيها للشريف العقيلي (٢) : [بحر الطويل]

أحنّ إلى الفسطاط شوقا وإنني

لأدعو لها أن لا يحل بها القطر

وهل في الحيا من حاجة لجنابها

وفي كل قطر من جوانبها نهر

تبدت عروسا والمقطّم تاجها

ومن نيلها عقد كما انتظم الدر

وقال عن كتاب إجار : والفسطاط هو قصبة مصر ، والجبل المقطم شرقيها ، وهو متصل

__________________

(١) كتاب الكمائم للبيهقي.

(٢) الشريف العقيلي : هو أبو الحسن علي بن الحسين بن حيدرة من شعراء القرن الرابع. أكثر شعره في الوصف (انظر المغرب ج ١ ص ٢٠٥).


بجبل الزمرذ (١) ، وقال عن كتاب ابن حوقل : الفسطاط مدينة عظيمة (٢) ، ينقسم النيل لديها ، وهي كبيرة ، ومقدارها نحو فرسخ ، على غاية العمارة والطيب واللذة ذات رحاب في محالّها ، وأسواق عظام فيها ضيق ، ومتاجر فخام ، ولها ظاهر أنيق ، وبساتين نضرة ، ومنتزهات على ممر الأيام خضرة ، وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة ، إلا أنها أقل من ذلك ، وهي سبخة الأرض ، غير نقية التربة ، وتكون الدار بها سبع طبقات وخمسا وستا ، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ، ومعظم بنيانهم بالطوب ، وأسفل دورهم غير مسكون ، وبها مسجدان للجمعة ، بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط ، والآخر على الموقف بناه ابن طولون ، وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده ، وتعرف بالقطائع ، كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان رقّادة ، وقد خربتا في وقتنا هذا ، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة.

قال ابن سعيد : لما استقررت بالقاهرة تشوّقت (٣) إلى معاينة الفسطاط ، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية ، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة ، لا عهد لي بمثلها في بلد ، فركب منها حمارا ، وأشار إلي أن أركب حمارا آخر ، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلفته في بلاد المغرب ، فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر ، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة (٤) يركبونها ، فركبت ، وعند ما استويت راكبا أشار المكاري إلى الحمار ، فطار بي ، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ، ودنس ثيابي ، وعاينت ما كرهته ، ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده ، وقلة رفق المكاري ، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج ، فقلت : [بحر المتقارب]

لقيت بمصر أشدّ البوار

ركوب الحمار وكحل الغبار

وخلفي مكار يفوق الريا

ح لا يعرف الرفق مهما استطار

أناديه مهلا فلا يرعوي

إلى أن سجدت سجود العثار

وقد مد فوقي رواق الثرى

وألحد فيها ضياء النهار

فدفعت إلى المكاري أجرته ، وقلت له : إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي ومشيت

__________________

(١) في ه : «الزمرد».

(٢) في ب : «حسنة».

(٣) في ب : «تشوفت».

(٤) أصحاب البزة والشارة الظاهرة : أراد العلماء وكبار الرجال.


إلى أن بلغتها ، وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين ، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة ، وتأملت أسوارا مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة ، ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان مشتتة (١) الوضع ، غير مستقيمة الشوارع ، قد بنيت من الطوب الأدكن (٢) والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة ، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ، ويغض طرف الظريف ، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال ، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة ، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والرّوايا (٣) التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع ، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مرّاكش ، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء ، غير مزخرف ، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه ، وتنبسظ فيه ، وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق ، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك ، والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك ، وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل ، قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا ، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع ، وفي زواياه العنكبوت قد عظم نسجه في السقف والأركان والحيطان ، والصبيان يلعبون في صحنه ، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة ، إلا أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه ، ولقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس (٤) دون منظر يوجب ذلك فعلمت أن ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ساحته عند بنائه ، واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن ، وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ، ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب ، ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل ، فرأيت ساحلا كدر التربة (٥) ، غير نظيف ولا متسع الساحة ، ولا مستقيم الاستطالة ، ولا عليه سور أبيض ، إلا أنه مع ذلك كثير العمارة

__________________

(١) في ب ، ه : «متشتتة الوضع».

(٢) الطوب : الآجر. والأدكن : المائل إلى السواد.

(٣) الروايا : جمع روية ، وهي المزادة فيها الماء.

(٤) في ه : «الارتياح والحسن».

(٥) في ب ، ه : «كرير التربة».


بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل ، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقا ، والنيل هنالك ضيق ، لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته (١) قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط ، وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل ، وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدا من الفسطاط إلى الجزيرة ، وهو غير طويل ، ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة (٢) جسر آخر من الجزيرة إليه ، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب ، لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان ، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان ، وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل ، فقلت : [بحر الطويل]

نزلنا من الفسطاط أحسن منزل

بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد

وقد جمعت فيه المراكب سحرة (٣)

كسرب قطا أضحى يرفّ على ورد (٤)

وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي

ويطرب أحيانا ويلعب بالنرد

حلا ماؤه كالرّيق ممن أحبّه

فمدت عليه حلة من حلى الخد

وقد كان مثل النهر من قبل مده

فأصبح لما زاده المد كالورد

وقلت هذه لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه ، وإنه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض ، فإذا كان عباب النيل صار أحمر ، وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط. (٥) [بحر الرمل]

حبّذا الفسطاط من والدة

جنّبت أولادها درّ الجفا (٦)

يرد النيل إليها كدرا

فإذا مازج أهليها صفا

لطفوا فالمزن لا تألفهم

خجلا لما رأتهم ألطفا

ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط ، حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة ، وبينهما نحو ميلين ، والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام ، وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة ورعاية (٧) قدر الصحبة وكثرة الممازحة (٨) والألفة ما يطول ذكره.

__________________

(١) في ج : قلعة.

(٢) في ه : «ببر الجزيرة».

(٣) سحرة : آخر الليل قبيل الفجر.

(٤) الورد : الماء الذي يورد للشرب.

(٥) هو علم الدين أيدمر المحيوي التركي. له ديوان شعر (انظر فوات الوفيات ج ١ ص ١٤٠).

(٦) في ب ، ه : «جنبت أولادها دار الجفا».

(٧) في ب ، ه : «برعاية قدر الصحبة».

(٨) في ب : «الممازجة».


وأمّا ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي فإنه فوق ما يوصف ، وبه مجمع ذلك ، لا بالقاهرة ، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد.

وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى ، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند ، كما أن جميع زي الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط ، وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية ، والخراب في الفسطاط كثير ، والقاهرة أجد وأعمر وأكثر زحمة ، باعتبار انتقال السلطان إليها ، وسكنى الأجناد فيها ، وقد نفخ روح الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن ، لمجاورتها للجزيرة الصالحية ، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة ، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر ، انتهى.

قال المقريزي : يعني ابن سعيد ما بني على شقة (١) مصر من جهة النيل ، انتهى.

وقال ابن سعيد المذكور في «المغرب ، من حلى المغرب» ما ملخصه : الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة ، وبها مقياس النيل ، وكانت منتزها لأهل مصر ، فاختارها الملك الصالح بن الملك الكامل سرير السلطنة (٢) ، وبنى فيها قلعة مسورة ساطع اللون محكم البناء عالي السّمك لم تر عيني أحسن منه ، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها ، والمختار بستان الإخشيد وقصره ، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار ، منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي : [بحر الوافر]

أرى سرج الجزيرة من بعيد

كأحداق تغازل في المغازل

كأن مجرة الجوزاء خطّت

وأثبتت المنازل في المنازل

قال : وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط ، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدري اللون ، ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور [هذه] القلعة ، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها ، وهو من أعظم السلاطين في البناء ، وأبصرت بهذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله (٣) ، لا يقدّر ما أنفق عليه ، وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوري والمجزّع ما يذهل الأفكار ، ويستوقف الأبصار ، ويفضل عما

__________________

(١) في ب ، ه : «على شفة مصر».

(٢) في ب ، ه : «سريرا لسلطنته».

(٣) في ب : «ولا يقدّر».


أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان ، وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر ، قال : وقد تفرجت كثيرا في طرف (١) هذه الجزيرة مما يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات ، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات ، وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة ، ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب ، انتهى.

وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة : [بحر الكامل]

انظر إلى سور الجزيرة في الدّجى

والبدر يلثم منه ثغرا أشنبا

تتضاحك الأنوار في جنباته

فتريك فوق النيل أمرا معجبا

بينا تراه مفضّضا في جانب

أبصرت منه في سواه مذهبا

لله مرأى ما رآه ناظري

إلا خلعت له المقام تطربا

وقال في «المغرب» نقلا عن بعضهم ما صورته : وأما مدينة القاهرة ، فهي الحالية الباهرة ، التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها ، واتخذوها قطبا لخلافتهم ومركزا لأرجائها ، فنسي الفسطاط ، وزهد فيه بعد الاغتباط ، وسميت القاهرة لأنها (٢) تقهر من شذ [عنها] ورام مخالفة أميرها. قال ابن سعيد : هذه المدينة اسمها أعظم منها ، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته ، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين ، وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط : [بحر الطويل]

وسارت مسير الشمس في كل بلدة

وهبّت هبوب الريح في البر والبحر

لا سيما وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية (٣) إلى جانب القيروان ، وعاين المهدية مدينة جدّه عبيد الله المهدي ، لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة ، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ، ولله در القائل :

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إن البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدل على عظيم الشان

وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور ، وقد عاينت فيها إيوانا

__________________

(١) في ج : «في طرق هذه الجزيرة».

(٢) في ب : «انتهى».

(٣) في ب ، ه : «المدينة المنصورية».


يقولون إنه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن ، وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار ، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة ، والمكان المعروف بالقاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطاني ، لأن هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ، ولكن ذلك أمد قليل ، ثم تسير منه إلى أمد ضيق ، وتمرّ في ممر كدر خرج بين الدكاكين ، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور ، وتسخن منه العيون ، ولقد عاينت يوما وزير الدولة وبين يديه الأمراء ، وهو في موكب جليل ، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة ، وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ، ووقف الوزير وعظم الازدحام ، وكان في موضع طباخين ، والدخان في وجه الوزير ، وعلى ثيابه ، وقد كاد يهلك المشاة ، وكدت أهلك في جملتهم ، وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال ، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضوء بينها ، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ منها حالا في ذلك ، ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري ، وتدركني وحشة عظيمة ، حتى أخرج إلى بين القصرين.

ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل ، لئلا يصادرها ويأكل ديارها ، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس ، وجوّها لا يبرح كدرا مما تثيره (١) الأرض من التراب الأسود ، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها : [بحر المتقارب]

يقولون سافر إلى القاهره

ومالي بها راحة ظاهره

زحام وضيق وكرب وما

تثير بها أرجل سائره

وعند ما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا ، وجوّا مغبرا ، فتنقبض نفسه ، ويفر أنسه ، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة ، لا سيما أرض القرط والكتان ، وقلت : [بحر الطويل]

سقى الله أرضا كلما زرت روضها

كساها وحلّاها بزينته القرط

__________________

(١) في ب ، ه : «بما تنثره الأرض».


تجلّت عروسا والمياه عقودها

وفي كل قطر من جوانبها قرط

وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي : [بحر الكامل]

ما زالت الأمحال تأخذه

حتى غدا كذؤابة النّجم

وقلت في نوّار الكتان (١) على جانبي الخليج : [بحر البسيط]

انظر إلى النهر والكتان يرمقه

من جانبيه بأجفان لها حدق

رأته سيفا عليه للصّبا شطب

فقابلته بأحداق بها أرق

وأصبحت في يد أرواح تنسجها

حتى غدت حلقا من فوقها حلق

فلم تزرها (٢) ووجه الأرض مصطبح

أو عند صفوته (٣) إن كنت تغتبق (٤)

وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل ، لأنها دائرة كالبدر ، والمناظر فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم وقدرتهم ، فيكون لها بذلك منظر عجيب ، وفي ذلك قيل : [بحر البسيط]

انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت

بها المناظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها

كواكب قد أداروها على القمر

ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوة (٥) فقلت : [بحر البسيط]

انظر إلى بركة الفيل التي فجرت (٦)

لها الغزالة (٧) فجرا من مطالعها

وخلّ طرفك مجنونا ببهجتها

يهيم وجدا وحبّا في بدائعها

والفسطاط أكثر أرزاقا ، وأرخص أسعارا من القاهرة ، لقرب النيل من الفسطاط ، والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك ، ويباع ما يصل فيها بالقرب منها ، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة ، لأنه يبعد عن المدينة ، والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراما وحشمة من الفسطاط ، لأنها أجلّ مدارس ، وأضخم خانات ، وأعظم ديارا لسكنى الأمراء فيها ، لأنها

__________________

(١) في ب ، ه : «نور الكتان».

(٢) في ب : «فقم فزرها».

(٣) في ب : «صفرته».

(٤) اغتبق : شرب الغبوق وهو ما يشرب مساء.

(٥) في ب ، ه : «بالغدو».

(٦) فجرت : شقت.

(٧) الغزالة : الشمس.


المخصوصة بالسلطنة ، لقرب قلعة الجبل منها ، فأمور السلطنة كلها فيها أيسر ، وأكثر ، وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والنساء ، إلا أن في هذا الوقت لما اعتنى السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط ، وانتقل إليها كثير من الأمراء ، وضخمت أسواقها ، وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة ، فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه ذلك.

إلى أن قال : وهي الآن عظيمة آهلة ، يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلا خالق الكل جلّ وعلا ، وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيما (١) ولا عذابا ، ولا يطالب برفيق له إذا مات ، فيقال له : ترك عندك مالا ، فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر ، والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها ، وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه ، يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان (٢) وما أشبه ذلك ، بخلاف غيرها من بلاد المغرب ، وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلا المغاربة ، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة [الحرب](٣) والبحر ، وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف ، وهم في القدوم عليها بين حالين : إن كان المغربي غنيا طولب بالزكاة وضيّق عليه (٤) ، وإن كان مجردا فقيرا حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول.

وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال ، وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيرا من البلاد ، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول : [بحر السريع]

من فضّل النرجس وهو الذي

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام في خدمته النرجس

وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه الرمان والموز ، أمّا التفاح والإجاص فقليل غال ، وكذلك الخوخ ، وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون

__________________

(١) الترسيم : وضع المشكوك في سيره أو المشكوك في ولائه للحاكم تحت المراقبة.

(٢) المردان : جمع أمرد ، وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته بعد.

(٣) ساقطة في ب.

(٤) في ب ، ه : «وضيقت عليه السعاة» والسعاة : جمع ساع وهو الذي يحصل الزكاة هنا.


الأخضر والأصفر ، وأما العنب والتين فقليل غال ، ولكثرة ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل ، ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء ، وعامتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من الحنطة ، حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسبب ذلك (١) ، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه ، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولا تبرج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب ، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة فرأيت فيه من ذلك العجائب ، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب ، وذلك في بعض الأحيان ، وهو ضيق ، عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم التهكم والطرب والمخالفة ، حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب ، وللسّرج في جانبيه بالليل منظر ، وكثيرا ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل ، وفي ذلك أقول : [مخلع البسيط]

لا تركبن في خليج مصر

إلا إذا أسدل الظلام

فقد علمت الذي عليه

من عالم كلّهم طغام (٢)

صفان للحرب قد أطلّا

سلاح ما بينهم كلام

يا سيدي لا تسر إليه

إلا إذا هوّم (٣) النيام

والليل ستر على التصابي

عليه من فضله لثام

والسّرج قد بدت (٤) عليه

منها دنانير لا ترام

وهو قد امتدّ والمباني

عليه في خدمة قيام

لله كم دوحة جنينا

هناك أثمارها الأثام

قال المقريزي : وفيه تحامل كثير ، انتهى.

ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه ، والله تعالى الموفق.

قال ابن سعيد : ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة بالسوداء ، كل درهم منها ثلاث من الدراهم الناصرية ، وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء ، ومخاصمة بين الفريقين ، وكان بها قديما الفلوس ، فقطعها الملك الكامل ، فبقيت الآن مقطوعة منها ، وهي في الإقليم الثالث ، وهواؤها رديء ، لا سيما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة ، وأيضا فرمد العين

__________________

(١) ساقطة في ب.

(٢) الطغام : أراذل الناس.

(٣) هوّم : نام نوما خفيفا.

(٤) في ب : «مدّدت».


فيها كثير ، والمعايش فيها معتذرة نزرة ، لا سيما أصناف الفضلاء ، وجوامك (١) المدارس قليلة كدرة ، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج ، والنصارى بها يمتازون بالزنّار في أوساطهم ، واليهود بعمائم صفر ، ويركبون البغال ، ويلبسون الملابس الجليلة ، ويأكل أهل القاهرة البطارخ ، ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية ، وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين ، ولهن في الطبخ صنائع عجيبة ، ورياسة متقدمة ، ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة ، انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أبي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى :

وقال رحمه الله : [المجتث]

كم ذا تقيم بمصر

معذّبا بذويها

وكيف ترجو نداهم (٢)

والسحب تبخل فيها

وقال رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]

لابن الزبير مكارم أضحت بها

طير المدائح في البلاد تغرّد

إن قيدوه وبالغوا في عصره

فالكرم يعصر والجواد يقيّد (٣)

ولنذكر بعض أخبار والده ، فإنه ممن رحل إلى المشرق وتوفي بالإسكندرية ، وقد ذكر ابنه أبو الحسن في «المغرب» وغيره من أخباره العجائب ، ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك ، سوى ما تقدم ، فنقول :

من أخباره أنه لما اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي بن تقي (٤) وجّه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشدا : [بحر الكامل]

أكذا يجوز القطر لا يثني على

أرض توالى جدبها من بعده

الله يعلم أنها ما أنبتت

زهرا ولا ثمرا بمدة فقده

عرّج عليها ساعة يا من له

حسب يفوق العالمين بمجده

__________________

(١) الجوامك : جمع جومك ، وهو راتب الموظف.

(٢) الندى : الكرم ، الجود.

(٣) في ه : «يعقد».

(٤) في ب ، ه : «ابن مبقّى» ، وفي ج : «ابن بقي».


وانثر عليها من أزاهرك التي

تشفي المتيّم من لواعج وجده

والله ما ذاكرت فكرك ساعة

إلا وأقبس خاطري من زنده

قال موسى : فارتجلت للحين : [بحر السريع]

أنت الذي تعرف كيف العلا

وتبتدي في سبل المجد

بدأت بالفضل المنير الذي

أكمل بدر الشكر والحمد

والله ما أبصرتكم ساعة

إلّا بدا لي طالع السعد

وانصرفت معه إلى منزله : [بحر المجتث]

فلم أزل في كرامه

ليست كظل غمامه

ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدّما على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة مع أحد الأدباء (١) ، منه :

أفاتح من قلبي بعلياه واثق

وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودا

وثقت بما لي من ذمام تشيّعي

بآل سعيد وابتغيت (٢) به السّعدا

وبالحبّ يدنو كل من أقصت النوى

برغم حجاب للنوى بيننا مدّا

يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه ، أن أهجم على مفاتحته شافعا (٣) في موصّلها إليه ، واثقا بالفرع لعلم الأصل ، مؤمّلا للإفضال بتحقق الفضل ، إن لم تقض باجتماع بيننا الأيام ، فلا تجري بالمشافهة (٤) بيننا إلا (٥) ألسن الأفلام ، ويوحي بعضنا إلى بعض بسور الوداد ، والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدرا ، وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكرا ، فكلّ يثني بالذي علمت سعد (٦) ، ويصف من خلالك ما يقضي

__________________

(١) القاضي أبو عبد الله محمد بن عسكر ، هو محمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني. كان قاضي مالقة ، وكان من أهل المعرفة بالأحكام والقيام على النوازل. له جملة تواليف منها : المشرع الروي في الحديث ، والتكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام (انظر تاريخ قضاة الأندلس ١٢٣).

(٢) في ب : «فابتغيت».

(٣) شافعا : متوسلا.

(٤) في ب : «من المشافعة».

(٥) ساقطة في ب.

(٦) إشارة إلى قول الأخطل :

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلا بالذي علمت سعد


ذلك المجد ، ولما كان إحسانك يبشر [به] الصادر والوارد ، ويحرض عليه الغائب والشاهد ، مدّ أمله نحوك موصل هذه المفاتحة ، وليس له وسيلة ولا بضاعة إلا الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة ، وهو من شتتت خطوب هذا الزمان شمله ، وأبانت نوائبه صبره وفضله ، وما طمح ببصره إلا إلى أفقك ، ولا وجّه رجاءه إلا نحو طرقك ، والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه (١) ، وأعنقت من الحمد ركائبه ، دمت غرة في الزمن البهيم ، مخصوصا بأفضل التحية والتسليم ، انتهى.

وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم ، وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة ، ومن شعره : [بحر السريع]

أهواك يا بدر وأهوى الذي

يعذلني فيك وأهوى الرقيب

والجار والدار ومن حلّها

وكلّ من مرّ بها من قريب

وكلّ مبد شبها منكم

وكل من يلفظ باسم الحبيب

رجع ـ قال ابنه علي : لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية ، رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماما في الغربة ، فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه ، وهي هذه ، وكفى بها دليلا على ما اختبر وعلم : [بحر السريع]

أودعك الرحمن في غربتك

مرتقبا رحماه في أوبتك (٢)

وما اختياري كان طوع النوى

لكنني أجري على بغيتك

فلا تطل حبل النوى إنني

والله أشتاق إلى طلعتك

من كان مفتونا بأبنائه

فإنني أمعنت في خبرتك

فاختصر التوديع أخذا ، فما

لي ناظر يقوى على فرقتك

واجعل وصاتي نصب عين ولا

تبرح مدى الأيام من فكرتك

خلاصة العمر التي حنّكت

في ساعة زفّت (٣) إلى فطنتك

فللتّجاريب أمور إذا

طالعتها تشحذ (٤) من غفلتك

__________________

(١) أثنت حقائبه : كناية عن إرادة الرحيل.

(٢) أوبتك : عودتك.

(٣) في ه : «رفت إلى فطنتك».

(٤) تشحذ : تحفّز وتقوي.


فلا تنم عن وعيها ساعة

فإنها عون إلى يقظتك

وكلّ ما كابدته في النوى (١)

إياك أن يكسر من همّتك

فليس يدرى أصل ذي غربة

وإنما تعرف من شيمتك

وكلّ ما يفضي لعذر فلا

تجعله في الغربة من إربتك (٢)

ولا تجالس من فشا جهله

واقصد لمن يرغب في صنعتك

ولا تجادل أبدا حاسدا

فإنه أدعى إلى هيبتك

وامش الهوينى (٣) مظهرا عفّة

وابغ رضا (٤) الأعين عن هيئتك

أفش التحيّات إلى أهلها

ونبّه الناس على رتبتك

وانطق بحيث العيّ (٥) مستقبح

واصمت بحيث الخير في سكنتك (٦)

ولا تزل مجتمعا طالبا

من دهرك الفرصة في وثبتك

وكلما أبصرتها أمكنت

ثب واثقا بالله في مكنتك

ولج على رزقك من بابه

واقصد له ما عشت في بكرتك

وايأس من الود لدى حاسد

ضدّ ونافسه على خطّتك

ووفّر الجهد فمن قصده

قصدك لا تعتبه في بغضتك

ووفّ كلّا حقّه ولتكن

تكسر عند الفخر من حدّتك

ولا تكن تحقر ذا رتبة

فإنه أنفع في غربتك

وحيثما خيمت فاقصد إلى

صحبة من ترجوه في نصرتك

وللرّزايا (٧) وثبة ما لها

إلا الذي تدخر (٨) من عدّتك

ولا تقل أسلم لي وحدتي

فقد تقاسي الذل في وحدتك

ولتزن الأحوال وزنا ولا

ترجع إلى ما قام في شهوتك

ولتجعل العقل محكّا وخذ

كلا بما يظهر في نقدتك

__________________

(١) النوى : البعد ، والفراق.

(٢) الإربة : الغرض والحاجة.

(٣) في ب : «الهوينا».

(٤) في ب : «رضى».

(٥) العي : العجز في النطق عن إظهار المراد.

(٦) في ب : «سكتتك».

(٧) الرزايا : جمع رزية والرزيئة : وهي المصيبة الشديدة.

(٨) في ب : تذخر.


واعتبر الناس بألفاظهم

واصحب أخا يرغب في صحبتك

بعد اختبار منك يقضي بما

يحسن في الأخدان (١) من خلطتك

كم من صديق مظهر نصحه

وفكره وقف على عثرتك (٢)

إياك أن تقربه ، إنّه

عون مع الدّهر عل كربتك

واقنع إذا ما لم تجد مطمعا

واطمع إذا أنعشت (٣) من عسرتك

وانم نموّ النّبت قد زاره

غبّ الندى واسم إلى قدرتك

وإن نبا دهر فوطّن له

جأشك وانظره إلى مدّتك

فكل ذي أمر له دولة

فوفّ ما وافاك في دولتك

ولا تضيّع زمنا ممكنا

تذكاره يذكي (٤) لظى حسرتك

والشر مهما اسطعت لا تأته

فإنه حوب (٥) على مهجتك

يا بني الذي لا ناصح له مثلي ، ولا منصوح لي مثله [قد](٦) قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة ، إن شاء الله تعالى وإنّ أخفّ منه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم قول الأول : [المتقارب]

يزين الغريب إذا ما اغترب

ثلاث فمنهنّ حسن الأدب

وثانية حسن أخلاقه

وثالثة اجتناب الرّيب

وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة ، لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم ، ولا يفارقك بر ولا كرم ، ولله در القائل : [بحر الطويل]

يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا

وإن لم يكن في قومه بحسيب

إذا حلّ أرضا عاش فيها بعقله

وما عاقل في بلدة بغريب

وما قصر القائل حيث قال : [بحر المنسرح]

__________________

(١) الأخدان : جمع خدن ، وهو الصديق والصاحب ، للمذكر والمؤنث.

(٢) العثرة : الكبوة والسقوط.

(٣) في ب ، ه : «وأطمع إذا نفست من عسترك».

(٤) يذكي النار : يوقدها ويسعرها.

(٥) الحوب : الألم والوجع.

(٦) «قد» ساقطة في ب.


واصبر على خلق من تعاشره

وداره فاللبيب من دارا (١)

واتخذ الناس كلهم سكنا

ومثّل الأرض كلّها دارا

واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر ، وسلّم الكرم والصبر : [بحر الكامل]

ولو ان أوطان الديار نبت بكم

لسكنتم الأخلاق والآدابا

إذ حسن الخلق أكرم نزيل ، والأدب أرحب منزل ، ولتكن كما قال بعضهم (٢) في أديب متغرّب : وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد ، وإليه قصد ، غير مستريب (٣) بدهره ، ولا منكر شيئا من أمره ، وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلما ، وهبّ في روض أخلاقه هبوب النسيم ، وحلّ بطرفه حلول (٤) الوسن (٥) ، وانزل بقلبه نزول المسرة ، حتى يتمكن لك وداده ، ويخلص فيك اعتقاده ، وطهر من الوقوع [فيه] لسانك ، وأغلق سمعك ، ولا ترخّص في جانبه لحسود لك منه ، يريد إبعادك عنه ، لمنفعته ، أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك ، ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ، ولا تتمهد بدوام رقدته ، فقد ينبهه الزمان ، ويغير منه القلب واللسان ، ولذا قيل : إذا أحببت فأحبب هونا ما ، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوّا والعدوّ صديقا ، وإنما العاقل من جعل عقله معيارا ، وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله ، وجعل نصب ناظره قول أبي الطيب : [بحر الوافر]

ولما صار ودّ الناس خبّا (٦)

جزيت على ابتسام بابتسام

وفي أمثال العامة : من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل ، فاحتذ بأمثلة (٧) من جرّب ، واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال ، فإنها خلاصة عمرهم ، وزبدة تجاربهم ، ولا تتكل على عقلك ، فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك ، ويقع عليك رخيصا ، وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة فاستفد منه ، ولا تضيع قوله ولا فعله (٨) ، فإن فيما تلقاه تلقيحا لعقلك ، وحثّا لك واهتداء ، وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع : [الكامل]

__________________

(١) في ب : «دارى».

(٢) في ب ، ه : «كما قال أحدهم».

(٣) مستريب : متشكك.

(٤) في ب ، ه : «محلّ الوسن».

(٥) الوسن : النعاس.

(٦) خبّا : الخبّ : الخبث ، والخداع ، والغش.

(٧) في ب : «فاحتذ مثله».

(٨) في ب : «فعله ولا قوله».


فالحرّ يخدع بالكلام الطيب

فقد قال أحدهم : ما قيل أضرّ من هذا البيت على أهل التجمل ، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه ، حتى تتدبره ، فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك فراع (١) ذلك عندك ، وإلا فانبذه نبذ النواة ، فليس لكل أحد يتبسم ، ولا كل شخص يكلم ، ولا الجود مما يعم به ، ولا حسن الظنّ وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ، ولله در القائل : [بحر الطويل]

 ما لي لا أوفي البريّة قسطها

على قدر ما يعطي وعقلي ميزان

وإياك أن تعطى من نفسك إلا بقدر ، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء ، ولا الكفء بمعاملة الأعلى ، ولا تضيع عمرك فيمن يملك بالمطامع (٢) ، ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة ، واسمع قول الأول : [المتقارب]

وبع آجلا منك بالعاجل

وأقلل من زيارة الناس ما استطعت ، ولا تجفهم بالجملة ، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء ، ولا تقل أيضا أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحدا ، وأستريح من الناس ، فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة ، وإذا علم عدو لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه ، فازدراك الصديق وجسر عليك العدوّ ، وإياك أن يغرك صاحب واحد عن أن تدخر (٣) غيره للزمان ، وتطيعه في عداوة سواه ، ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها ، وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعتك عن غيره ، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدّة لكان ذلك أولى وأصوب ، وسلني فإني خبير ، طال والله ما صحبت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه ، ولا أعتدّ إلا إياه ، منخدعا بسرابه (٤) ، موثوقا في حبائل خطابه ، إلى أن لا يحصل لي منه غير العضّ على البنان ، وقول لو كان ولو كان ، ولا يحملنك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد ، وتعجل المكافأة ، وليكن حسن الظن بمقدار (٥) ، واصبر بمقدار (٦) ما ، والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال ، وفي الوجوه دلالات وعلامات ، وأصغ إلى القائل : [الخفيف]

__________________

(١) في ب ، ه : «قواه ذلك عندك».

(٢) كذا في ب ، ه : أما في ج فجاء : «فيمن يعاملك».

(٣) في ب : «تذخر».

(٤) السراب : الذي تراه في الصحراء فتحسبه ماء.

(٥) في ب : «بمقدار ما».

(٦) في ب : «بقدر».


ليس ذا وجه من يضيف ولا يق

يري(١) ولا يدفع الأذى عن حريم

فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فولّ وجهك عنه قبلة ترضاها ، ولتحرص جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا ربّ حشمة ونعمة ، ومن نشأ في رفاهية ومروءة ، فإنك تنام معه في مهاد العافية ، وإن الجياد على أعراقها تجري ، وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة ، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان : أشرب مصعب (٢) الخمر؟ فقال عبد الملك ، وهو عدوّ له محارب له على الملك : لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه [بحر الكامل].

والفضل ما شهدت به الأعداء

يا بني ، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغيّر ، وقد قيل : اصحب من شئت فإنك مفارقه ، فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل ، فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه ، فلذلك قال الأول : [بحر الطويل]

ولما مضى سلم بكيت على سلم

وإياك والبيت السائر : [بحر الوافر]

وكنت إذا حللت بدار قوم

رحلت بخزية (٣) وتركت عارا

واحرص على ما جمع قول القائل : ثلاثة تبقي لك الودّ في صدر أخيك ، أن تبدأه بالسلام ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه ، واحذر كل ما بينه لك القائل : كلّ ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإنك إذا غرسته يقلعك ، وقول الآخر : ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن ، وقول الآخر : ابن آدم ذئب مع الضعف ، أسد مع القوّة ، وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره ، فيحكى أن ابن المقفّع خطب من الخليل (٤) صحبته ، فجاوبه : إن الصحبة رقّ ، ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك ، واستمل من عين من تعاشره ، وتفقّد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه ، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن

__________________

(١) يقري : يجعل الزاد لضيفه.

(٢) مصعب : هو مصعب بن الزبير وكان عدوا لعبد الملك بن مروان وجرت بينهما معركة كان النصر فيها لعبد الملك وقتل مصعب.

(٣) الخزية : العيب والعار.

(٤) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وكان عالما في اللغة والأدب والنحو إضافة إلى وضعه علم العروض.


لا تبينه ، فإن الكلام سلاح السلم ، وبالأنين يعرف ألم الجرح ، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك ، وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار ، وتسلم للأقدار : [المنسرح]

واقبل من الدهر ما أتاك به

من قرّ عينا بعيشه نفعه

إذ الأفكار تجلب الهموم ، وتضاعف الغموم ، وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب ، يستريب به الصاحب ، ويشمت العدوّ المجانب ، ولا تضر بالوساوس إلا نفسك ، لأنك تنصر بها الدهر عليك ، ولله در القائل : [بحر الوافر]

إذا ما كنت للأحزان عونا

عليك مع الزمان فمن تلوم؟

مع أنه لا يردّ عليك الفائت الحزن ، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن ، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم ، وعشقته الغموم ، من صغره إلى كبره ، لا تراه أبدا خليا من فكره ، حتى [لقد](١) لقب بصدر الهم ، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة ، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ، ويتنكد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم ، وينشد : [بحر المتقارب]

توقع زوالا إذا قيل تم

وينشد : [بحر الطويل]

وعند التّناهي يقصر المتطاول (٢)

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب ، ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعا ، ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا لك ، وقصدا لتصغير قدرك عندك ، وتزهيدا لك فيه ، فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك ، وتركن إلى العلم الذي مدحوه ، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه ، فبقي مخبل المشي [كما قيل](٣) : [بحر الكامل]

حسد القطا وأراد يمشي مشيها

فأصابه ضرب من العقّال (٤)

__________________

(١) ساقطة في ب.

(٢) للمعري :

فإن كنت تبغي العز فابغ توسطا

وعند التناهي يقصر المتطاول

(٣) ما بين حاصرتين سقط من ب ، ه.

(٤) البيت ساقط من ب.


فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها

فلذاك سمّوه أبا مرقال]

(١) ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ، ويقول : ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يرتاح (٢) فيه ، فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون منمن صحبه الحرمان ، واستحقّت طلعته للهوان ، وأبرموا على الناس بالسؤال ، فمقتوهم ، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس ، وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم ، وتعذير أمورهم ، ولا تزل هذين البيتين من فكرك : [بحر مجزوء الرمل]

لن إذا ما نلت عزا

فأخو العز يلين

فإذا نابك دهر

فكما كنت تكون(٣)

ولا قول الآخر : [بحر مجزوء الكامل]

ته (٤) وارتفع إن قيل أقتر

وانخفض إن قيل أثرى

كالغصن يسفل ما اكتسى

ثمرا ويعلو ما تعرّى

ولا قول الآخر : [بحر البسيط]

الخير يبقى وإن طال الزمان به

والشرّ أخبث ما أوعيت (٥) من زاد

واعتقد في الناس ما قاله القائل : [بحر الطويل]

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو (٦) لا يعدم على الغي لائما

[وقريب منه قول القائل : [بحر المتقارب]

بقدر الصّعود يكون الهبوط

فإياك والرتب العاليه

وكن في مكان إذا ما سقطتّ

تقوم ورجلاك في عافيه](٧)

وتحفظ بما تضمنه قول الآخر (٨) : [بحر السريع]

__________________

(١) البيت ساقط (من ب).

(٢) في ب ، ه : يستراح فيه).

(٣) لن : فعل أمر من لان ، أي دمثت أخلاقه وسهل.

(٤) ته : فعل أمر من تاه ، أي تكبّر وفخر.

(٥) أوعيت : جمعت وحفظت.

(٦) يغوي : يضل ويفسد.

(٧) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٨) البيت منسوب لكعب بن زهير.


ومن دعا الناس إلى ذمّه

ذموه بالحق وبالباطل

ولله در القائل (١) : [بحر الكامل]

ما كل ما فوق البسيطة (٢) كافيا

فإذا اقتنعت فكل شيء كافي

والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم ، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم ، والفطن يقنع بالقليل ، ويستدل باليسير ، والله سبحانه خليفتي عليك ، لا رب سواه.

نجزت الوصية وتكفيك عنوانا على طبقته في النثر.

وله رسالة كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن مهنئا له بالخلافة حين بويع بها بمراكش ، وكان إذ ذاك بإشبيلية ، وكان قبل ذلك كاتبا له ومختصا به :

الحضرة العلية ، السامية السنية ، الطاهرة القدسية ، حضرة الإمامة ، وجنة دار الإقامة ، مدّ الله على الإسلام ظلالها ، وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها ، وهنأ المؤمنين باستقبال إمارتها ، وأدام لهم بركة خلافتها ، عبد أياديها ، وخديم ناديها ، المتوسّل بقديم الخدمة ، المتوصل بعميم النعمة وكريم الحرمة ، المنشد بلسان المسرّة ، حين أطلع الزمان هذه الغرّة : [بحر المتقارب]

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها (٣)

موسى بن محمد بن سعيد بن محمد لا زال هذا الأمر العلي محمودا سعيدا ، ولا برح يستزيد ترقيا وصعودا.

سلام الله الكريم ، يخص حضرة الإجلال والتعظيم ، والتقديس والتفخيم ، ورحمته وبركاته ، وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله ، وحلّى بهذه الولاية السعيدة أحواله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الكريم ، الذي أدحض (٤) الله تعالى به الكفر

__________________

(١) البيت لأبي فراس.

(٢) البسيطة : أراد الأرض.

(٣) البيتان لأبي العتاهية (انظر ديوانه تحقيق شكري فيصل ص ٢١٦).

(٤) في ب ، ه : «دحض».


وضلاله ، وعلى آله وصحبه الطاهرين الذين سمعوا أقواله ، وامتثلوا أفعاله ، والرضا (١) عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله به على الدين الحنيفي ظلاله ، وأذهب عنه طواغيته وضلاله ، والدعاء للمقام العالي الكريم ، بالسعد المتوالي والنصر الجسيم ، وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه ، ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه : [بحر البسيط]

فهذه رتبة ما زلت أرقبها

فاليوم أبسط آمالي وأحتكم

ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء دارا ، والهلال للبشير سوارا ، والنجوم عقدا ، والصباح بندا ، حتى أسرّ كل أحد بشكله ، وأقابل كل شخص بمثله : [بحر الطويل]

ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم

فإنّي لم أخدمك إلا لأخدما

وما بعد الخلافة رتبة ، ودون ثبير (٢) تنحط كل هضبة ، فالحمد لله رب العالمين ، وهنيئا لعباده المؤمنين ، حيث نظر لهم نظر رحمة ، فأسبل عليهم هذه النعمة : [بحر الكامل]

ولقد علمت بأن ذلك معصم

ما كان يتركه بغير سوار (٣)

والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وإلى من يشير بآياته ، فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته ، لقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقا وغربا غرته ، ولقد اجتمعت آراء السداد ، حتى أتت الإسلام بالمراد ، فأخذ القوس باريها ، وحل بالدار بانيها ، هنيئا زادك الرحمن [لطفا و](٤) خيرا ، ولا برحت المسرات تسير إليك سيرا ، وهل يصلح النور إلا للمقل ، وهل يليق بالحسن إلا الحلل ، فالآن مهّد الله البرين ، وأفاض العدل على العدوتين ، وقدّم للنظر من لا يعزب (٥) عن حفظه مكان ، ولا يختصّ بحفظه إنسان دون إنسان ، خليفة له النفس العمرية ، والآراء العمرية ، والفراسة الإياسية (٦) ، ولا ينبئك مثل خبير ، فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير ، ولعمري لقد صار (٧) الصباح في إشراق النهار ، ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة والمسار ، وشملت الناس هذه البشائر ، وعمت كل باد وحاضر ، وأصاخوا لتاليها إصاخة المجدبين لمرتادهم ، وأهطعوا (٨) لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم ، وأما العبد قد أخذ بحظه ، حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه. [المتقارب]

__________________

(١) في ب : «والرضى».

(٢) ثبير : اسم جبل.

(٣) البيت لأبي تمام (انظر ديوانه ج ٢ ص ٢٠٩).

(٤) ساقطة في ب.

(٥) يعزب : يبعد.

(٦) الفراسة الإياسية : نسبة إلى إياس ، وقد اشتهر بعلم الفراسة.

(٧) في ب ، ه لقد عاد.

(٨) أهطعوا له : نظروا إليه.


ومن فرح النفس ما يقتل

(١) وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم ، ويحسد عليها الهلال والنجم ، بل يسلمان لما استحقته من المراتب ، ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب ، أقر الله بها عيون المسلمين ، وأفاض سحبها على الناس أجمعين ، وحفظها بعينه التي لا تنام ، ووقف على خدمتها الليالي والأيام.

ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله : [بحر الكامل]

بشرى ويسرى قد أنار المظلم

نجما وقد وضح الصباح المعلم

ورنت (٢) عيون الأمن وهي قريرة

وبدت ثغور السعد وهي تبسّم

فارحل لتونس واعتقد أعلام من

قوي الضعيف به وأثرى المعدم

حيث المعالي والمعاني والندى

والفضل والقوم الذين هم هم

أجروا إلى الغايات ملء عنانهم (٣)

سبقا وبذّهم الجواد المنعم

ساد الإمام الملك يحيى سادة

أعطى الورى لهم القياد وسلموا

إن الإمارة مذ غدا يقتادها

يقظى وأجفان الحوادث نوّم

لله منك مبارك ذو فطنة

بزغت فأحجم عندها من يقدم

يقظان لا وان (٤) ولا متقاعس(٥)

كالدهر يبني ما يشاء ويهدم

إن صال فالليث الهصور المقدم

أو سال فالغيث المغيث المثجم (٦)

أعلى منار الحق حين أماله

قوم تبرأت المنابر منهم

أعلى الإله مكانه وزمانه

والنصر يقدم والسعادة تخدم

وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بن عبد المؤمن ، حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية ، وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم : [بحر البسيط]

__________________

(١) عجز بيت لأبي الطيب المتنبي ، وصدره : فلا تنكرن لها صرعه.

(٢) رنت : نظرت.

(٣) ملء العنان : أراد بكامل حريتهم وقوّتهم.

(٤) الواني : المتخاذل.

(٥) المتقاعس : المتراخي والمبطىء.

(٦) ثجمت السماء : تساقط مطرها بسرعة. والغيث المثجم : المتساقط بسرعة.


الحزم والعزم موجودان والنظر

واليمن والسعد مضمونان والظّفر

والنور فاض على أرجاء أندلس

والزور ليس له عين ولا أثر

حثّ الركاب إلى هذا الجناب فقد

ضلوا فما تنفع الآيات والنّذر

واعزم كما عزم المأمون إذ نشرت

أرض العراق فزال البؤس والضرر

ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرّين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه ، ورفع له قصيدة منها : [بحر الطويل]

لقاء به للبر والشكر مجمع

إلى يومه كنا نخب ونوضع (١)

لقد يسّر الرحمن صعب مرامه

فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع

وله أيضا : [بحر السريع]

يا منعما قد جاءني بره (٢)

من غير أن أجري له ذكرا

إنّى أحب الخير ما جاءني

عفوا ، ولم أعمل (٣) به فكرا

وله في غلام واعظ ، وهو من حسناته : [المجتث]

وشادن ظل للوع

ظ تاليا لين جمع

متّعت طرفي بمرآ

ه في خفارة سمعي

وله من أبيات : [بحر الطويل]

ومن عجب أنّ الليالي تغيرت

ولكنها ما غيرت مني العهدا

ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر بن الجد ، وأبو بكر بن زهر ، وغيرهما ، وحضر حصار طليطلة مع منصور بن عبد المؤمن ، وكتب لملك البرين أبي محمد عبد الواحد ، وكتب أيضا عن مأمون بن عبد المؤمن ، وكتب أخيرا عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية ، رحم الله تعالى الجميع!

رجع إلى أبي الحسن بن سعيد :

قال رحمه الله تعالى : حضرت ليلة أنس مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد

__________________

(١) الخبب والإيضاع : ضربان من السير.

(٢) البر : الإحسان.

(٣) في ب ، ه : «ولم أغمر به فكرا».


الغسّاني ، فاحتاجت الشمعة أن تقطّ (١) ، فتناول قطها غلام ببنانه ، فقلت : [بحر المتقارب]

ورخص (٢) البنان (٣) تصدّى لأن

يقطّ السراج بمثل العنم (٤)

فقال :

ولم يهب النار في لمسه

ولا احتاج في قطّه للجلم (٥)

فقلت :

وما ذاك إلا لسكناه في

فؤادي على ما حوى من ضرم

فقال :

تعوّد حرّ لهيب به

فليس به من أوار (٦) ألم

وأنشد في «المغرب» للغساني المذكور في خسوف القمر مما قاله ارتجالا : [بحر الوافر]

كأن البدر لما أن علاه

خسوف لم يكن يعتاد غيره

سجنجل (٧) غادة قلبته لما

أراها شبهها حسدا وغيره

وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها : وعند حامل هذه الأحرف ـ سلّمه الله تعالى! ـ كنه خبري ، واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري ، لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري ، وأني لا أزال أنشد حيث تذكري وتفكري : [بحر البسيط]

يا نائيا قد نأى عني بمصطبري

وثاويا في سواد القلب والبصر

إذا تناسيت عهدا من أخي ثقة

فاذكر عهودي فما أخليك من فكري

واردد عليّ تحياتي بأحسنها

تردد عليّ حياتي آخر العمر

ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد ، فإنها لا يشق غبارها ، ومنها قوله رحمه الله تعالى : سمعت كثيرا من السماع المشرقي ، فلم يهزني مثل قول الشريف الشمس المكي : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) تقط الشمعة : تقطع.

(٢) الرخص : الناعم.

(٣) البنان : أطراف الأصابع.

(٤) العنم : شجرة صغيرة دائمة الخضرة لها ثمر أحمر تتخذ للصباغ.

(٥) الجلم : ما يجز به الشعر أو الصوف أو غيره.

(٦) الأوار : حر النار.

(٧) السجنجل : المرآة.


مقل بالدمع غرقى

وفؤاد طار خفقا

وتجن وتثن

شق جيب الصبر شقا

يا ثقاتي خبروني

عن حديث اليوم حقا

أكذا كل محب

فارق الأحباب يشقي؟

لا وعيش قد تقضّى (١)

وغرام قد تبقّى

ونعيم في ذراكم (٢)

قد صفا دهرا ورقّا

ونسيم من حماكم

حمل الوجد فرقّا

برسالات صبابا

ت على المشتاق تلقى

وغصون ناعمات

بمياه الدنّ (٣) تسقى

ووجوه فقن (٤) حسنا

فملأن الأرض عشقا

لو رضيتم بي عبدا

ما رضيت الدهر عتقا

وقال : ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار ، وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدّر له الاجتماع به : [بحر الخفيف]

أسأل الله أن يديم لك الع

ز ويبقيك ما أردت البقاء

كلّ يوم أرجو النعيم بلقيا

ك فألقى بالبعد عنك شقاء

علم الدهر أنني أشتكيه

لك إذ نلتقي فعاق اللقاء

فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان ، وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتبا أغنته مدة عن شكوى الزمان ، انتهى.

وقال أيضا : ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي : [بحر الرمل]

وأصبح شعري متهما في مكانه

وفي عنق الحسناء يستحسن العقد

ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج : [بحر الكامل]

__________________

(١) تقضّى : مضى.

(٢) الذّرى : القمة.

(٣) الدن : وعاء ضخم للخمر.

(٤) في ب ، ه : «ووجوه فضن حسنا».


مرّ مدحي ضائعا في لؤمه

كضياع السيف في كفّ الجبان

ومن تأليف النور بن سعيد كتاب «عدة المستنجز ، وعقلة المستوفز» وذكر فيه أنه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة ٦٦٦ ، وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع ، وذكر فيه أنه لما دخل الإسكندرية لم يكن عنده آكد من السؤال عن الملك الناصر ، فأخبر بحاله ، وما جرى له مع التتر حتى قتلوه بعد الأمان ، ثم ساق في دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير : وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصمّ عنه الأسماع ، وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله : [بحر مجزوء الكامل]

واها لعقرب صدغه

لو لم تكن للماه تحمي (١)

ولغفل (٢) خط عذاره

لو بت أعجمه (٣) بلثمي

وابن عمه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله :

والغصن فيه الماء مطّرد

والماء فيه الغصن منعكس

ثم قال ، لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما ، ما نصه : قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق : قبلت يده ، وجعلت أدعو له ، وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة ، فأضرب عن ذلك ، وقال لي : فيم تتغزل اليوم؟ ثم أنشدني قوله في مملوك فقد له (٤) في هذه الكائنة : [بحر الكامل]

والله ما أبكي لملك مضى

ولا لحال ظاعن أو مقيم

وإنما أبكي وقد حق لي

لفقد من كنت به في نعيم

يطلع بدرا ينثني بانة

يمر فيما رمته كالنسيم

في خاطري أبصره خاطرا

فألتوي مثل التواء السقيم

يا عاذلي (٥) دعني وما حلّ بي

فما سوى الله بحالي عليم

__________________

(١) اللمى : سمرة أو سواد في باطن الشفة يستحسن.

(٢) الغفل : بضم الغين وسكون الفاء ـ المهمل من النقط والشكل.

(٣) أعجمه : أنقطه.

(٤) في ب ، ه : «مملوك فقده».

(٥) العاذل : اللائم.


إن مت من حزن له أسترح

وإن أعش عشت بهمّ عظيم

قال : ثم إنه سار نحو هولاكو ، فلما مر بحلب ونظر إلى معاهده على غير ما يعهد قال :

[بحر الطويل]

مررت بجرعاء الحمى (١) فتلفتت

لحاظي إلى الدار التي رحلوا عنها

ولو كان عندي ألف عين وقمت في

معالمها عمري لما شبعت منها

وصنع في نعيها أشعارا يغني بها المسمعون ، ثم رحل إلى صحراء يوشن (٢) في جهة طريق أرمينية ، فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب ، فأنزله ، وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظفر قطز صاحب مصر سنة ٦٥٨ ، فقتلوه ، وخلعوا عظم كتفه ، وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك ، انتهى باختصار.

__________________

(١) جرعاء الحمى : شدتها.

(٢) في ب ، ه : «صحراء يوش».


فهرس الرسائل والخطب والتنويهات

للجزء الثاني من كتاب نفح الطيب

ابن حسداي : جواب منه لابن الدباغ عن رسالة.............................................. ٦٣

ابن خفاجة ، أبو إسحاق : رسالة في وصف متنزه............................................. ٦٤

رسالة إلى صديق ولي حصنا................................................... ٦٥

رسالة يستدعي عود غناء..................................................... ٦٦

ابن صاحب الصلاة : رسالته في وصف جامع قرطبة........................................... ٧٦

ابن طفيل ، أبو بكر : رسالته في شأن المصحف العثماني..................................... ١١٦

ابن عبد الملك الجزيري : رسالة على لسان بنفسج العامرية..................................... ٦١

ابن العربي المعافري : فصل من رحلته......................................................... ١٩٩

أبو بكر اشكنهادة : رسالة في التوصية ببعضهم.............................................. ٢٥٣

أبو بكر الطرطوشي : موعظة قالها أمام الأفضل أمير الجيوش.................................. ٢٤٦

أبو حفص الهوزني : من رسالة له إلى المعتضد بن عباد........................................ ٢٥١

(تلميذ لابن سبعين) : رسالة له في الانتصال لأستاذه......................................... ٣٣٥

الفتح بن خاقان : رسالته إلى بعض الملوك في وصف نزهة.................................... ١٥٦

رسالته إلى بعض الملوك مهنئا................................................. ١٦٩

الفيروزآبادي : رسالته في حق ابن عربي الصوفي............................................... ٣١٦

لسان الدين بن الخطيب..........................................................................

رسالة على لسان السلطان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم........................ ٤٢

رسالة عن الغني بالله إلى السلطان المريني في وصف بعض الغزوات................... ٤٣

رسالة أخرى في منحى السابقة................................................. ٤٧

رسالة إلى أبي فارس المريني في الشفاعة لابن مرزوق.............................. ٢٧٦

محمد بن عبد البرّ : رسالته إلى المنصور الصغير................................................ ١٠٩

منذر بن سعيد : خطبته في التزهيد وذم البنيان................................................ ٨٩

من خطبة في الاستسقاء...................................................... ٩٠

ابن الربيب القيرواني : رسالته إلى أبي مروان الرباطي........................................... ٤٢١

الفتح بن خاقان : رسالته إلى علي بن يوسف في شأن ابن زهر............................... ٣٧٣

رسالته في غريق............................................................ ٣٧٣

ابن عسكر ، أبو عبد الله : رسالته إلى أبي عمران بن سعيد................................... ٤٦٤


أبو العباس الغساني : رسالته إلى أبي الحسن بن سعيد......................................... ٤٤٩

ابن سعيد ، أبو الحسن : إجازته للتيفاشي رواية المغرب....................................... ٤٤٩

فصول من رحلته في الفسطاط والقاهرة........................................ ٤٥٣

ابن سعيد ، أبو عمران وصيته لابنه أبي الحسن............................................... ٤٦٤

رسالته إلى عبد الواحد الموحدي.............................................. ٤٧٣


فهرس موضوعات الجزء الثاني من

كتاب نفح الطيب من غصن

الأندلس الرطيب للمقري

الباب الرابع في وصف الأندلس

٣

من نظم ابن خفاجة

٦٦

وصف قرطبة لابن سعيد

٣

عود إلى وصف قرطبة ومشاهدها

٦٧

وصف قرطبة لبعض العلماء

٦

مسجد قرطبة

٧١

وصف قرطبة للحجاري

٧

الزهراء ومسجدها

٨٤

من محاسن قرطبة

٨

بين المنذر بن سعيد والناصر

٨٩

عناية القرطبيين بالكتب

٨

دثور الزهراء

٩٤

قصور قرطبة وأبواب تلك القصور

٩

الزاهرة

٩٥

أبواب قرطبة وأرباضها

١٠

المنية العامرية

٩٧

متنزهات قرطبة

١١

كثرة المنى في الأندلس

٩٩

الرمان السفري في قرطبة

١٢

بين المنصور وابن شهيد

١٠٠

متنزهات قرطبة وقصورها

١٣

المنصور وعبد الملك بن إدريس الخولاني

١٠١

نهر قرطبة

٢٢

من أخبار المنصور بن أبي عامر

١٠٣

قنطرة قرطبة ونشأتها

٢٢

دثور الزاهرة

١٠٣

أسباب دثور قرطبة

٢٣

طرف من أخبار المنصور

١٠٤

وصف المباني العظيمة

٣٠

ترجمة المصحفي في المطمح

١٠٥

من وصف الأنهار والبرك

٣٧

من أخبار المنصور

١٠٧

وصف الديار الدائرة

٣٧

رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير

١٠٩

من رسائل لسان الدين بن الخطيب

٤٢

من أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر والمصحفي

١١١

جامع قرطبة

٥٢

مآل مصحف عثمان الذي كان بالأندلس

١١٤

رجع إلى أخبار البنيان

٥٣

بناء مسجد مراكش

١٢٣

ابن فرفور يشكو الدهر

٥٤

من أخبار الوزير أبي المغيرة بن حزم

١٢٤

رجع إلى أخبار البنيان ـ مدينة الزهراء

٥٥

بين الرشيد والمأمون وجارية

١٢٥

أخبار البنيان ـ قصر المأمون بن ذي النون

٥٩

ترجمة الوزير أبي المغيرة بن حزم

١٢٦

وصف المجالس والقصور

٦٠

ترجمة أبي عامر بن شهيد

١٢٧

من نثر ابن خفاجة

٦٥


استيلاء المعتمد بن عباد على قرطبة

١٢٩

وصف المتنزهات من ترجمة أبي عيسى بن لبون

١٦٤

وصف المتنزهات من ترجمة ابن زيدون (في القلائد)

١٣٢

وترجمة أبي بكر بن رحيم

١٦٥

وصف المتنزهات من موشحة ابن الوكيل

١٣٥

وصف المتنزهات من ترجمة ابن عبدون

١٦٥

وصف المتنزهات من رجع إلى ما يتعلق بقرطبة

١٣٦

وصف المتنزهات من ترجمة ابن مالك

١٦٦

وصف حير الزجالي بقرطبة

١٣٧

وصف المتنزهات من ترجمة ابن السقاط

١٦٦

وصف المتنزهات من ترجمة بني القبطرنة

١٣٩

ومن ترجمة ابن أضحى

١٦٧

بين أبي بكر بن القبطرنة والوزير ابن اليسع

١٤٠

وصف المتنزهات من ترجمة ابن خفاجة

١٦٨

وصف المتنزهات من ترجمة ابن حسداي

١٤١

وصف المتنزهات من رسالة للفتح

١٦٩

وصف المتنزهات من ترجمة المستعين ابن هود

١٤٢

وصف المتنزهات من ترجمة ابن عطية

١٦٩

وصف المتنزهات من ترجمة عبد الله ابن السيد البطليوسي

١٤٣

وصف المتنزهات من شعر ابن خفاجة

١٧٠

وصف المتنزهات من ترجمة ابن العطار

١٤٩

وصف المتنزهات من شعر ابن سعيد

١٧٩

وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار

١٥٠

الباب الخامس فيمن رحل من الأندلسيين إلى المشرق

١٨٣

وصف المتنزهات من ترجمة ابن وهبون

١٥٤

ترجمة عبد الملك بن حبيب السلمي

١٨٤

وصف الفتح لمجلس أنس بمنية المنصور

١٥٥

ترجمة الفقيه المحدث يحيى بن يحيى الليثي

١٨٦

كتاب من الفتح إلى بعض الملوك يصف متنزها

١٥٦

ترجمة القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى

١٨٨

وصف المتنزهات من ترجمة الراضي بالله بن عباد

١٥٧

ترجمة عتيق بن أحمد الأندلسي الدمشقي

١٩١

وصف المتنزهات من ترجمة المتوكل على الله بن الأفطس

١٥٨

ترجمة أبي إبراهيم إسماعيل الأبزي

١٩١

وصف المتنزهات من ترجمة المعتصم ابن صمادح

١٦٠

ترجمة القاضي منذر بن سعيد البلوطي

١٩١

وصف المتنزهات من ترجمة ابن رزين

١٦١

ترجمة أبي القاسم الشاظبي الرعيني المقري

١٩٦

وصف المتنزهات من ترجمة ابن طاهر

١٦٣

ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي المعافري

١٩٩

وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار

١٦٣

ترجمة أبي بكر محمد بن أبي عامر بن حجاج الغافقي

٢١٣

ترجمة جمال الدين بن ذي النون

٢١٣

ترجمة زياد بن عبد الرحمن اللخمي (شبطون)

٢١٤

سوار بن طارق

٢١٥

بقي بن مخلد

٢١٥


قاسم بن أصبغ

٢١٥

ضياء الدين محمد بن محمد بن بندار القيسي

٢٣٠

ترجمة أبي محمد قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي

٢١٧

أبو بكر محمد الزهري المعروف بابن محرز البلنسي

٢٣٠

علم الدين قاسم بن أحمد اللورقي المرسي

٢١٧

أبو الوليد الباجي

٢٣٠

قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار

٢١٨

أبو ذر الهروي عبد بن أحمد

٢٣٣

ترجمة أبي بكر محمد بن إبراهيم الغساني

٢١٩

عود إلى أبي الوليد الباجي

٢٣٤

أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيون

٢١٩

ترجمة ابن حزم الظاهري

٢٣٨

أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المالقي

٢١٩

عود إلى أبي الوليد الباجي

٢٤٤

محمد بن إبراهيم اليقوري

٢٢٠

أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي

٢٤٥

أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري

٢٢٠

محمد بن عبد الجبار الطرطوشي

٢٤٩

أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي

٢٢٠

أبو علي الصيرفي القاضي

٢٤٩

أبو عبد الله محمد بن علي القرطبي

٢٢٣

ابن أبي روح الجزيري

٢٥١

أبو بكر محمد بن علي التجيبي الإشبيلي

٢٢٣

أبو حفص عمر بن حسن الهوزني

٢٥١

أبو بكر الأنصاري الجياني

٢٢٣

أبو عمر عثمان بن الحسين

٢٥٢

أبو عبد الله التجيبي الدهان الغرناطي

٢٢٤

أبو بكر محمد بن القاسم

٢٥٢

أبو عمر محمد بن علي الإشبيلي

٢٢٤

أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي

٢٥٤

أبو بكر محمد بن علي البلنسي

٢٢٤

عبد المنعم بن عمر المالقي

٢٥٥

أبو عبد الله محمد بن علي البياسي

٢٢٤

أبو الخطاب بن دحية الحافظ

٢٥٥

أبو عبد الله محمد بن علي الشامي الأندلسي الغرناطي

٢٢٥

خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ

٢٦٠

محمد بن عمار الميورقي

٢٢٥

خلف بن سعيد الكلبي

٢٦٠

محمد بن عمر القرطبي الحافظ

٢٢٥

أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الإشبيلي

٢٦٠

محمد بن عمروس القرطبي

٢٢٦

أبو محمد عبد الله بن يحيى السرقسطي

٢٦٤

محمد بن عيسى بن نجيح المعافري

٢٢٦

الفقيه المقرئ أبو عامر التياري

٢٦٤

محمد بن فطيس الغافقي

٢٢٧

أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي

٢٦٥

محمد بن القاسم القرطبي

٢٢٧

أبو بكر محمد بن يوسف المعروف (بابن مسدي)

٢٦٥

محمد بن قاسم بن رمان الغرناطي

٢٢٧

أبو عبد الله بن فتوح الحميدي

٢٦٦

محمد بن لب الشاطبي

٢٢٨

أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن الشريشي

٢٦٨

محمد بن سراقة الشاطبي

٢٢٨

أبو بكر يحيى بن سعدون

٢٦٩

محمد بن أحمد الفريشي

٢٢٩

أبو عبد الله محمد بن عبد ربه الوزير

٢٧٠

محمد بن محمد بن خيرون

٢٢٩


أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي

٢٧١

محمد بن حزم التنوخي

٢٩٦

أبو الوليد بن الجنان الكناني الشاطبي

٢٧٢

محمد بن يحيى بن مالك

٢٩٧

أبو محمد القرطبي

٢٧٥

محمد بن عبدون الجبلي العدوي

٢٩٧

علي بن أحمد القادسي الكناني

٢٧٥

محمد بن عبد الرحمن الأزدي الفراء

٢٩٧

أبو عبد الله بن العطار القرطبي

٢٧٥

محمد بن صالح المعافري

٢٩٨

حضرة تونس ورسالة للسان الدين بن الخطيب

٢٧٦

محمد بن أحمد السرقسطي

٢٩٨

أبو الوليد عبد الله بن محمد الأزدي القرطبي (ابن الفرضي)

٢٧٩

محمد بن عيسى الأنصاري

٢٩٨

أبو بكر محمد بن أحمد الشريشي

٢٨١

محمد بن طاهر الأنصاري الخزرجي الداني

٢٩٩

أبو محمد عبد العزيز البلنسي القيسي

٢٨٢

محمد بن الفرج البزار

٢٩٩

أبو الحكم عبيد الله بن المظفر (المغربي)

٢٨٣

محمد بن الحسين الميورقي

٣٠٠

أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد

٢٨٥

محمد بن عبد الرحمن العبدي الإشبيلي

٣٠٠

عبد الله بن عيسى

٢٨٦

محمد بن أحمد الخزرجي الجياني

٣٠١

أحمد بن علي (ابن شكر)

٢٨٦

محمد بن علي الأنصاري الجياني

٣٠١

القاسم بن أحمد اللورقي

٢٨٦

محمد بن يوسف المرسي

٣٠٢

أبو عبد الله بن أبي الربيع

٢٨٦

محمد بن إبراهيم بن وضاح اللخمي

٣٠٤

أبو عامر محمد بن سعدون العبدري

٢٨٧

محمد بن عبد الرحمن التجيبي

٣٠٤

أبو عبد الله محمد بن سعدون الباجي

٢٨٧

الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي

٣٠٥

أبو بكر محمد بن سعدون الجزيري

٢٨٨

أبو الحسن علي بن عبد الله الششتري النميري

٣٢٥

محمد بن سعد الأعرج

٢٨٨

أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي

٣٢٧

محمد بن سعيد الأموي

٢٨٨

أبو العباس أحمد بن عمر المرسي

٣٣٠

محمد بن سعيد القرطبي

٢٨٨

أبو إسحاق الساحلي المعروف بالطويجن

٣٣٢

محمد بن سليمان المعافري

٢٨٩

علي بن محمد الخزرجي الساعدي

٣٣٣

محمد بن شريح الرعيني

٢٨٩

عبد الحق بن إبراهيم (ابن سبعين)

٣٣٤

محمد بن صالح المالقي

٢٩٠

محمد بن إبراهيم الإشبيلي الشهير بابن غصن

٣٤٢

محمد بن صالح القحطاني

٢٩٠

أحمد بن يوسف اللبلي

٣٤٣

محمد بن طاهر الداني

٢٩٠

محمد بن أحمد القرطبي المفسر

٣٤٥

محمد بن بشير المعافري

٢٩١

أبو القاسم محمد بن أحمد (ابن حاضر)

٣٤٦

محمد بن عيسى

٢٩٥

محمد بن أحمد التجيبي

٣٤٦

محمد بن يحيى الليثي

٢٩٥

محمد بن أحمد المالقي الخزرجي

٣٤٧

محمد بن مروان (ابن أبي جمرة)

٢٩٦

أبو بكر محمد بن أحمد الهاشمي

محمد بن أبي علاقة

٢٩٦


القرطبي

٣٤٧

محمد بن عبد الله البنتي ، ومحمد بن عبد الله الخولاني (ابن القوق)

٣٧١

٣٧١

محمد بن أحمد بن سلمان الزهري الإشبيلي

٣٤٨

محمد اللوشي ، ومحمد بن عبدون

٣٧١

محمد بن أحمد القرطبي الورشي

٣٤٨

عبد الملك بن أبي بكر

٣٧٢

محمد بن أحمد الباجي اللخمي

٣٤٨

محمد بن مروان ، وأبو العلاء زهر بن عبد الملك

٣٧٢

محمد بن أحمد العتبي القرطبي

٣٤٩

أبو العلاء زهر بن عبد الملك

٣٧٤

محمد بن أحمد المعافري الفرضي

٣٥٠

أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم الساحلي

٣٧٩

محمد بن أحمد الطليطلي

٣٥٠

يحيى بن الحكم الغزال

٣٧٩

محمد بن أحمد القيسي

٣٥٠

أبو الحسن علي بن موسى العنسي

٣٨٦

محمد بن أحمد الوائلي

٣٥١

نقول من ابن سعيد : متنزه الفاطميين بمصر

٤١٣

أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي

٣٥١

نقول من المحلى لابن سعيد : خبر طراد بن مهلهل الطائي

٤١٤

محمد بن أحمد الوضاحي القيسي

٣٥٢

نقول من ابن سعيد : مكين الدولة أبو طالب ابن حديد

٤١٥

محمد بن أحمد العبدري البلنسي

٣٥٢

نقول من ابن سعيد : مقتل الآمر الفاطمي في طريق الهودج

٤١٦

محمد بن أحمد الإشبيلي

٣٥٣

نقول من ابن سعيد : بعض خبر شهاب الدين التلعفري وشعره

٤١٧

محمد بن أسباط المخزومي

٣٥٣

نقول من ابن سعيد : بعض أخبار الملك العادل بن أيوب

٤١٧

محمد بن إسحاق القاضي

٣٥٣

نقول من ابن سعيد : من أخبار أحمد بن سعيد المرذغاني ، وأخبار أحمد عبد الكريم الدمشقي

٤٢٠

موسى بن بهيج الواعظ

٣٥٣

نقول من ابن سعيد : بين الرباطي وابن الربيب

٤٢١

أبو عمران موسى بن سعادة

٣٥٣

نقول من ابن سعيد : بعض أخبار أبي الجسر الرباطي

٤٢٢

عبد الله بن طاهر الأزدي

٣٥٤

أبو عبد الله محمد بن الحسين بن سعيد

٤٣٨

محمد بن عبد الله بن مالك الجياني

٣٥٤

عود إلى أخبار الرئيس ابن الحسين

٤٣٥

محمد بن طاهر التدميري القيسي (الشهيد)

٣٦٤

بعض أخبار السلطان المستنصر الحفصي ملك إفريقية

٤٤١

محمد بن عبد الجليل القبجاطي ، ومحمد بن عبد الرحيم القيسي الغرناطي

٣٦٥

رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن

محمد بن عبد السلام ، ومحمد بن عبد الملك القرطبي

٣٦٦

ابن ضيفون اللخمي ، ومحمد الخزرجي ، وابن السراج

٣٦٧

محمد العنسي ، وابن الدفاع ، ومحمد المعافري

٣٦٨

محمد الأنصاري البلنسي

٣٦٨

محمد القرطبي (ابن خيرة)

٣٦٩

محمد بن عبد الله السلمي المرسي

٣٦٩


سعيد وشعره

٤٤٣

وصف القاهرة

٤٥٤

مقتبسات من خطبة المغرب

٤٤٦

بعض أخبار أبي الحسن بن سعيد

٤٦٣

قلعة بني سعيد ، وأولية بني سعيد

٤٤٨

وصية موسى بن سعيد لابنه أبي الحسن

٤٦٥

ترجمة أبي العباس أحمد الغساني من المغرب

٤٤٩

رسالة موسى بن سعيد إلى عبد الواحد بن عبد المؤمن الموحدي موسى بن سعيد يمدح سلطان تونس أبا زكريا

٤٧٣

شعر لابن سعيد

٤٥٠

موسى بن سعيد يخاطب مأمون بني عبد المؤمن ملك المغرب

٤٧٥

ترجمة أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد (من المغرب)

٤٥١

رجع إلى أبي الحسن بن سعيد

٤٧٦

وصف ابن سعيد للفسطاط

٤٥٣

نفح الطيب - ٢

المؤلف:
الصفحات: 488