
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الباب الثالث في الغسل
ومنه الواجب
والمندوب ، فالكلام فيه يقع في مطلبين :
المطلب الأول
في الواجب وفيه فصول :
الفصل الأول
في غسل الجنابة
، ولما كان له
سبب وغاية وكيفية واجبة وآداب وأحكام متفرعة عليه ، فالبحث فيه يقع في مقاصد خمسة
:
المقصد الأول
في السبب وهو
الجنابة الحاصلة بأحد أمرين : الجماع والانزال ، فلا بد من الكلام عليهما حينئذ في
مقامين :
(المقام الأول)
ـ في الجماع وفيه مسائل : (الأولى) ـ وجوب الغسل على الرجل والمرأة ـ بالجماع في
القبل حتى تغيب الحشفة وان لم ينزل ـ مما انعقد عليه الإجماع نصا وفتوى :
فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد بن إسماعيل قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج فلا ينزلان متى
يجب الغسل؟ فقال : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. فقلت : التقاء الختانين هو
غيبوبة الحشفة؟ قال : نعم».
وصحيحة داود بن
سرحان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أولجه فقد وجب الغسل.».
وصحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا أدخله فقد وجب الغسل.». الى غير ذلك من
الاخبار.
ثم ان جمعا من
الأصحاب (نور الله مراقدهم) صرحوا بان التقاء الختانين المرتب عليه وجوب الغسل في
الاخبار عبارة عن تحاذيهما ، قالوا : لأن الملاقاة حقيقة غير متصورة فإن مدخل
الذكر أسفل الفرج وهو مخرج الولد والحيض وموضع الختان أعلاه وبينهما ثقبة البول ،
وحينئذ فالمراد من الالتقاء في الاخبار التقابل كما يقال : «تلاقى الفارسان
والتقيا» إذا تقابلا ، لكن في صحيحة علي بن يقطين «إذا وقع الختان على الختان فقد وجب الغسل». وهو ظاهر الدلالة على ان
المراد الملاصقة ، وأظهر منها صحيحة الحلبي «إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل». ولعل توسط ثقبة البول بين الموضعين
المذكورين لا يكون مانعا من المماسة والملاصقة لانضغاطها بدخول الذكر فتحمل
الاخبار كملا على ظاهرها.
ثم لا يخفى
عليك ان جملة من الاخبار قد تضمنت تعليق وجوب الغسل بالجماع على التقاء الختانين ،
وصحيحة ابن بزيع المتقدمة قد تضمنت تفسير التقاء الختانين بغيبوبة الحشفة من قبيل
حمل السبب على المسبب ، والمراد انه يحصل بغيبوبة الحشفة ،
__________________
وحينئذ فما ورد من الاخبار بلفظ الإدخال والإيلاج مطلقا يجب تقييده بمقدار
الحشفة لتنتظم الاخبار.
نعم روى ابن
إدريس في مستطرفات السرائر عن كتاب النوادر لمحمد بن علي ابن محبوب في الصحيح عن
محمد بن عذافر قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) متى يجب على الرجل والمرأة الغسل؟ فقال : يجب عليهما
الغسل حين يدخله ، وإذا التقى الختانان فيغسلان فرجهما». وظاهره ان التقاء
الختانين لا يوجب الغسل بل انما يوجب غسل كل منهما فرجه. واحتمل فيه بعض مشايخنا (عطر
الله تعالى مراقدهم) عطف قوله : «وإذا التقى» على قوله : «حين يدخله» اي يجب
عليهما الغسل إذا التقى الختانان ، وقوله : «فيغسلان» حكم آخر. وظني بعده ، ولكن
بمقتضى ما قدمنا نقله عن الأصحاب ـ من ان التقاء الختانين انما هو عبارة عن
تحاذيهما وان موضع دخول الذكر أسفل من ذلك ـ يمكن حينئذ حمل التقاء الختانين في
هذا الخبر على حقيقته بان يضع ذكره على موضع الختان ولا يدخله فيما هو أسفل منه
بقرينة انه جعله مقابلا لدخول الفرج.
(المسألة
الثانية) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في حكم الوطء في دبر المرأة
وكذا دبر الغلام : (اما الأول) ـ فالمشهور وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة فيه على
الفاعل والمفعول بل نقل جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) عن المرتضى (رضياللهعنه)
انه قال : «لا اعلم خلافا بين المسلمين في ان الوطء في الموضع المكروه من ذكر أو
أنثى يجري مجرى الوطء في القبل مع الإيقاب وغيبوبة الحشفة في وجوب الغسل على
الفاعل والمفعول به وان لم يكن انزل ، ولا وجدت في الكتب المصنفة لأصحابنا
الإمامية إلا ذلك ، ولا سمعت ممن عاصرني منهم من شيوخهم نحوا من ستين سنة يفتي إلا
بذلك ، فهذا إجماع من الكل ، واتصل لي في هذه الأيام عن بعض الشيعة الإمامية ان
الوطء في الدبر
__________________
لا يوجب الغسل تعويلا على ان الأصل عدم الوجوب أو على خبر يذكر انه في
منتخبات سعد أو غيره ، وهذا مما لا يلتفت اليه» انتهى. ونقل عن الشيخ في الاستبصار
والنهاية وسلار عدم الوجوب ، وهو ظاهر الصدوق (رحمهالله) في الفقيه حيث روى فيه ما يدل على عدم الوجوب وهو صحيحة الحلبي الآتية ولم ينقل شيئا من اخبار الغسل ، وهو ظاهر ثقة الإسلام
في الكافي أيضا حيث روى فيه مرفوعة البرقي الآتية ولم يورد ما ينافيها.
واستدل على
القول الأول بوجوه : (أحدها) قوله سبحانه : «... أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...» وجه الاستدلال انه جعل الملامسة سببا للتيمم مع فقد
الماء ، والتيمم اما عن الوضوء أو عن الغسل ، لا سبيل إلى الأول إذ الإجماع منا
منعقد على عدم إيجاب فرد من افراد الملامسة الوضوء فتعين الثاني ، خرج منه
الملامسة في غير القبل والدبر بالإجماع وبالنقل عن أهل الذكر (عليهمالسلام) كما رواه أبو مريم الأنصاري في الصحيح عن ابي جعفر (عليهالسلام) حيث سأله فقال : «ما تقول في الرجل يتوضأ ثم يدعو
جاريته فتأخذ بيده حتى ينتهي الى المسجد فان من عندنا يزعمون أنها الملامسة؟ فقال
: لا والله ما بذلك بأس وربما فعلته ، وما يعنى بهذا : «أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ» إلا المواقعة
في الفرج». والفرج شامل للقبل والدبر لغة وشرعا (اما الأول) فلتصريح أهل اللغة
بذلك. و (اما الثاني) فلقوله سبحانه : «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ» مراد به الذكر من الرجل.
__________________
وأنت خبير بان
مرجع هذا الاستدلال الى صدق الفرج على الدبر في هذا المقام وفيه انه وان صح إطلاقه
عليه الا ان المتبادر منه فيما نحن فيه بقرينة المقام هو القبل خاصة لأنه المتعارف
المتكرر والمندوب اليه وغيره منهي عنه فينصرف الإطلاق لذلك اليه ، ويؤيده ما صرح
به الفيومي في كتاب المصباح المنير ، حيث قال : «والفرج من الإنسان القبل والدبر ،
وأكثر استعماله في العرف في القبل» انتهى. ويؤيد ذلك ايضا التعبير في جملة من
الاخبار بالتقاء الختانين المختص بالقبل ، وسيجيء ما فيه مزيد تحقيق لذلك ان شاء
الله تعالى ، وكيف كان فلا أقل من حصول الاحتمال بما ذكرنا احتمالا مساويا لما
ذكروه ان منع الرجحان ، وهو كاف في بطلان الاستدلال.
و (ثانيها) ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ فقال :
إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم». والإدخال صادق فيهما.
وفيه ما تقدم
في الوجه الأول ، وزيادة ما عرفت آنفا من تقييد هذه الرواية وأمثالها بالتقاء
الختانين المفسر بغيبوبة الحشفة في صحيح ابن بزيع المؤذن بالاختصاص بالقبل.
و (ثالثها) ـ صحيحة
زرارة الواردة في قضية المهاجرين والأنصار واختلافهم في من يخالط اهله ولا ينزل
، حيث قالت الأنصار : الماء من الماء. وقالت المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد
وجب الغسل. وقول أمير المؤمنين (عليهالسلام) فيها : «أتوجبون عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه
صاعا من ماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل». الدال بالاستفهام الإنكاري
على ان إثبات الحد والرجم مع عدم إيجاب الصاع من الماء الذي هو كناية عن الغسل
كالجمع بين النقيضين ، إذ هما معلولا علة واحدة وإثبات أحدهما مع نفي الآخر يؤدي
الى إثبات العلة ورفعها في وقت واحد وهو محال ، أو على ان إيجاب الصاع من الماء
اولى بالإثبات من إيجاب الحد لكون الحد مبنيا
__________________
على التخفيف بخلاف إيجاب الصاع ، وحينئذ يقال : كلما ثبت الحد والرجم ثبت
الغسل أو كان اولى بالثبوت ، والمقدم ثابت بالإجماع والروايات فيثبت التالي ، كذا
قرره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين.
ويرد عليه ان
هذا الاستدلال وان وجهه بما قال الا انه لا يخرج بذلك عن القياس ولا يبرز عن ظلمة
الالتباس وان كان على الثاني يكون من قبيل قياس الأولوية ، فإنا لا نسلم ان العلة
في وجوب كل من الغسل والحد هو الإيلاج ، بل العلة هي أمر الشارع بذلك عند وقوع
الإيلاج ، ولئن أطلق على ذلك علة فهو كما في سائر علل الشرع لما صرحوا به انها من
قبيل الأسباب والمعرفات ، لا انها علل حقيقية يدور المعلول معها وجودا وعدما
كالعلل العقلية حتى يلزم المحال بإثبات العلة ورفعها في وقت واحد ، وحينئذ فحمل
الغسل على الحد والرجم لاشتراكهما في جامع الإيلاج قبلا قياس محض ، إذ ليس القياس
إلا عبارة عن تعدية الحكم من جزئي إلى آخر لاشتراكهما في جامع ، وهو هنا كذلك فإنه
قد عدي الحكم وهو الوجوب من الحد والرجم الى الغسل لاشتراكهما في العلة الجامعة
وهو النكاح في القبل ، فاثبت وجوب الغسل في كل موضع ثبت فيه الحد والرجم ،
والاخبار الدالة على بطلان القياس في الشريعة أظهر من ان يتعرض لنقلها في المقام.
واما قياس الأولوية فهو وان سلم ثبوته هنا وذهب بعض الأصحاب إلى القول به الا ان
جملة من الأخبار تدفعه كما تقدم ذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب وحينئذ فالأظهر في معنى الخبر المذكور ان يقال : ان
كلامه (عليهالسلام) انما هو على طريق الإلزام لأولئك المخالفين حيث انهم
قائلون بالقياس ، أو انه (عليهالسلام) أنكر عليهم ذلك مع مخالفته لاعتقادهم ، بمعنى انه كيف
تقولون بهذا القول مع انه مخالف لمعتقدكم؟ ثم بين (عليهالسلام) الحكم بقوله : «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل». قال
المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر المذكور : «قد جادلهم (عليه
__________________
السلام) بالتي هي أحسن ، لأنهم كانوا أصحاب قياس وكان مثل هذا التمثيل
والمقايسة أوقع في نفوسهم وأقرب لقبولهم ، وحاشاه (عليهالسلام) ان يقيس في الدين أو يكون طريق (عليهالسلام) معرفته بالأحكام القياس» انتهى.
و (رابعها) ـ رواية
حفص بن سوقة عمن أخبره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) حيث «سأله عن الرجل يأتي المرأة من خلفها. قال : هو أحد
المأتيين فيه الغسل». وهو صريح الدلالة الا انه ـ مع ضعف السند ـ معارض بما يأتي.
و (خامسها) ـ الإجماع
المنقول في كلام السيد (رضياللهعنه). وفيه ان الإجماع المذكور وان كثر نقله في
كلامهم وتداولوه على رؤوس أقلامهم الا انه لم تثبت حجيته عندنا ، كما تقدم القول
فيه مفصلا في المقدمة الثالثة .
واستدل على
القول الثاني أيضا بوجوه : (أحدها) ـ صحيحة الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج أعليها غسل ان هو
انزل ولم تنزل هي؟ قال : ليس عليها غسل ، وان لم ينزل هو فليس عليه غسل».
وأجيب بأن
الفرج هنا لا خصوصية له بالقبل بل هو شامل للدبر ايضا. لصدق الفرج عليه كما تقدم.
وفيه (أولا) ـ ان
المتبادر من الفرج ـ كما قدمنا ذكره ـ هو القبل وعليه بناء الاستدلال ، فان الظاهر
المتبادر من لفظ الإصابة هنا هو الكناية عن الوطء والنكاح ، كما غبر به وبأمثاله
في غير موضع من الاخبار الإمامية والآيات القرآنية ، وذلك لا يكون في غير الفرجين.
و (ثانيا) ـ ان
الصدوق في الفقيه روى الخبر المذكور بقوله : «فيما دون
__________________
ذلك» عوض قوله : «فيما دون الفرج» ومن الظاهر ـ سيما بانضمام افراد اسم
الإشارة دون تثنيته ـ ظهوره في القبل ، إذ هو المعهود والمتكرر فيختص بالإشارة ،
وبالجملة فتطرق احتمال الدبر على بعد ـ كما يدعيه الخصم ـ وان سلم الا انه لا
يقاوم الظاهر المتبادر من اللفظ وما يتناقل في عباراتهم ويدور في محاوراتهم ـ من
انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري وخطاب جدلي ، إذ لو تم لانسد باب
الاستدلال ، إذ لا لفظ الا وهو قابل للاحتمال ولا دليل الا وللمنازع فيه بذلك مجال
وبه ينسد باب إثبات الإمامة والنبوة والتوحيد ، كما لا يخفى على الماهر الوحيد ومن
القى السمع وهو شهيد.
و (ثانيها) ـ ما
رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن البرقي رفعه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا اتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل
عليهما ، وان انزل فعليه الغسل ولا غسل عليها».
وأجيب بضعف
الرواية بالإرسال ، مع المعارضة برواية حفص المتقدمة ، وباحتمال الحمل على عدم
غيبوبة الحشفة.
و (ثالثها
ورابعها) ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن محبوب عن بعض الكوفيين رفعه الى ابي
عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة؟ قال : لا ينقض صومها وليس عليها
غسل». وما رواه أيضا في الصحيح عن علي بن الحكم عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا اتى الرجل المرأة في دبرها وهي صائمة لم
ينقض صومها وليس عليها غسل».
وأنت خبير بان
هذه الروايات الثلاث وان ضعف سندها بهذا الاصطلاح المحدث الا انها لما كانت صريحة
الدلالة على المطلوب ـ معتضدة بظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة مع انها لا معارض لها
في صراحتها بل مطلقا على ما حققناه آنفا إلا مرسلة حفص وهي لذلك تضعف عن المعارضة
ـ كان أظهر القولين هو الثاني. الا ان الحكم بعد لا يخلو
__________________
من شوب الاشكال ، لما ذكره السيد (قدسسره) من شيوع الفتوى في عصره بما ذكره وعدم المخالف سابقا
في ذلك ، فهو مما يثمر الظن الغالب بكون أصحاب الطبقة المتصلة بأصحاب العصمة (سلام
الله عليهم) كانوا على ذلك القول. لكن فيه ما ذكرنا من اقتصار ثقة الإسلام والصدوق
(قدسسرهما) في كتابيهما الكافي والفقيه على الاخبار الدالة على
عدم الغسل مع ما علم من حالهما في ديباجتي كتابيهما سيما الصدوق. وكيف كان
فالاحتياط ـ بان يغتسل ثم يحدث ثم يتوضأ ـ سبيل النجاة ، عجل الله تعالى الفرج لمن
بزبل عنا أمثال هذه الرتج.
ثم العجب من
شيخ الطائفة (نور الله مرقده) حيث عمل في هذا المقام على هذه الروايات واستند
إليها في الحكم المذكور ، وطعن في رواية حفص المعارضة لها ثم حملها على التقية وفي كتاب الصوم من التهذيب طعن في مرسلة علي بن الحكم
بأنه خبر غير معمول عليه وهو مقطوع الاسناد ولا يعول عليه.
هذا. وصريح
كلام السيد المتقدم هو وجوب الغسل بالوطء في الدبر على كل من الفاعل والمفعول ،
وهو ظاهر كل من قال بالوجوب ، الا ان المفهوم من كلام العلامة في المنتهى انه تردد
في الوجوب على المرأة ، حيث قال : «وهل يجب على المرأة الموطوأة في الدبر الغسل مع
عدم الانزال؟ فيه تردد» ونقل عن ظاهر كلام ابن إدريس الوجوب ، واستدل له بقوله (عليهالسلام) : «أتوجبون عليه الحد والرجم. الى آخر
__________________
كلامه» ويظهر ايضا من المحدث الكاشاني في المفاتيح والوافي حيث قال في
الثاني : «وأكثر أصحابنا على وجوب الغسل عليهما في ذلك ، ولم تجد على وجوبه حديثا
لا قول أمير المؤمنين (عليهالسلام): «أتوجبون عليه الحد. إلخ ان أفاد ذلك» انتهى.
أقول : يمكن
الاستدلال على ذلك بظاهر قوله (عليهالسلام) في رواية حفص التي هي أصرح أدلة الوجوب : «هو أحد
المأتيين» فإنه يظهر منه وجوب الغسل على كل منهما في هذا المأتي كما انه في الآخر
كذلك. ولا يخلو من شوب الاشكال. هذا بالنسبة إلى دبر المرأة.
واما دبر
الغلام فالأكثر ايضا على وجوب الغسل على الفاعل والمفعول استنادا إلى الإجماع
المركب الذي ادعاه المرتضى (رضياللهعنه) فإنه ادعى ان كل من أوجب الغسل
بالغيبوبة في دبر المرأة أوجبه في دبر الذكر وكل من نفاه هناك نفاه هنا ، ولما كان
الأول ثابتا بالأدلة علمنا ان الامام (عليهالسلام) قائل به ، فيكون قائلا بالوجوب في الثاني ، هكذا ذكره
جملة من الأصحاب.
وفيه (أولا) ـ ان
صريح كلام السيد ـ كما قدمنا ذكره ـ دعوى الإجماع على الوجوب في الموضعين فلا حاجة
الى دعوى الإجماع المركب هنا.
و (ثانيا) ـ ان
هذه الدعوى ممنوعة بما عرفته سابقا.
الا ان بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ حيث انه ممن ذهب الى القول بالوجوب في
المسألة الأولى واستدل بما نقلناه آنفا وأجبنا عنه ـ استدل هنا على الوجوب بصحيحة
زرارة المتقدمة في قضية المهاجرين والأنصار ، بناء على ما قرره ثمة من دلالتها على
الوجوب في دبر المرأة بما ذكره من الكلية القائلة : كلما ثبت الحد والرجم ثبت الغسل
أو كان اولى بالثبوت ، والمقدم ثابت بالإجماع والروايات فيثبت التالي ، وقد ثبت
الحد في وطء الغلام فيثبت الغسل. وقد عرفت ما فيه مما كشف عن باطنه وخافية ، الا
ان الأحوط ـ كما قدمنا ـ هو الغسل ثم الحدث بعده ثم الوضوء.
ويمكن ان يستدل
لوجوب الغسل بظاهر حسنة الحضرمي المروية في الكافي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : من جامع غلاما جاء جنبا يوم القيامة لا ينقيه ماء
الدنيا. الحديث». فإنه ظاهر في ثبوت الجنابة له مطلقا ، وإطلاقه شامل للجماع مع
الانزال وعدمه ، واما كونه لا ينقيه ماء الدنيا يعني ان غسله في الدنيا لا ينقيه
من الجنابة ، فهو محمول على تغليظ الحكم في المنع والردع عن ذلك ، وبذلك يظهر قوة
القول بالوجوب.
هذا. وقد صرح
جملة من الأصحاب بأنه لا فرق في الموضعين بين كون المفعول حيا أو ميتا ، لعموم «حرمة
المؤمن ميتا كحرمته حيا» . وفيه نظر ، فإن أقصى ما يستفاد منه حصول الإثم بهتك
حرمته بذلك ، واما ترتب الغسل على ذلك فظني ان الخبر لا بفي به ، إذ وجوب الغسل
على الفاعل لا تعلق له بحرمة الميت.
وربما استدل
على ذلك بالظواهر المتضمنة لوجوب الغسل على من أولج في الفرج وفيه ان أمثال ذلك
انما يحمل على المتكرر المعهود ـ كما أشرنا إليه في غير موضع ـ دون الأفراد
النادرة الوقوع ، واما وجوب الغسل على الميت لو فعل به ذلك فالظاهر عدمه ، لعدم
الدليل عليه وعدم توجه التكليف اليه. وكذا لا دليل على الوجوب على الولي ولا على
غيره من سائر المسلمين.
(المسألة
الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الإيلاج في فرج البهيمة ، فنقل عن
الشيخ في الخلاف والمبسوط العدم لعدم النص ، واستحسنه المحقق وجمع من المتأخرين
ومتأخريهم ، والظاهر انه المشهور ، وخالف فيه العلامة في المختلف ، ونقل عن السيد
المرتضى (رضياللهعنه) في تتمة كلامه المتقدم ما يدل
__________________
على دعوى الإجماع عليه ايضا ، واستدل عليه في المختلف بإنكار علي (عليهالسلام) على الأنصار في صحيحة زرارة المتقدمة. وفيه ما عرفت
سابقا ، مع ان المنقول عن العلامة التعزير بوطء البهيمة دون الحد. وقال في الذكرى
: «اما فرج البهيمة فلا نص فيه ، والحمل على ختان المرأة قوى ، ولفحوى قضية الأنصار»
انتهى. وضعفه ظاهر.
(المسألة
الرابعة) ـ لو أولج الرجل في دبر الخنثى وجب الغسل عليهما بناء على ما تقدم من
الوجوب في الدبر. ولو أولج في قبله أو أولج الخنثى في فرج امرأة لم يجب الغسل ،
لاحتمال الزيادة في أحد هذين الفرجين وان يكون رجلا على الأول وأنثى على الثاني ،
فلا يتعلق به حكم. وقال في التذكرة بالنسبة إلى الأول بعد ان نقل عن بعض علمائنا
عدم الوجوب لما ذكرنا : «ولو قيل بالوجوب كان وجها ، لقوله (عليهالسلام): «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» .، ولوجوب الحد به» انتهى. وقال بالنسبة الى الثاني بعد
ان افتى بالعدم لما قدمنا : «ويحتمل الوجوب للعموم» وضعف ما ذكر من دليل الوجوب في
الموضعين ظاهر. ولو أولج الرجل في قبل الخنثى والخنثى في قبل المرأة كان الخنثى
جنبا والرجل والمرأة كواجدي المني في الثوب المشترك ، ويأتي على ما ذكره العلامة
من الاحتمال الحكم بجنابة الجميع. هذا كله بالنسبة إلى الخنثى المشكل وإلا فالواضح
يتبع في حكمه ما يلحق به.
(المسألة
الخامسة) ـ قد صرح الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) بان مقطوع الحشفة يجب الغسل
عليه بغيبوبة قدرها من الذكر ، واستدل عليه في المنتهى وتبعه جمع منهم بصحيحة محمد
بن مسلم المتقدمة في المسألة الأولى الدالة على وجوب الغسل بمجرد الإدخال. وأنت
خبير بان هذه الرواية وأمثالها مما دل على وجوب الغسل بمجرد الإدخال ان عمل بها
على ظاهرها في ما اتفقوا عليه ووردت به جملة من الاخبار من التخصيص بإدخال الحشفة
، فلا بد حينئذ من تقييدها بذلك كما قدمنا ذكره ، وبه تنتفي دلالة الرواية
__________________
المذكورة وأمثالها على المدعى ، فيقى الحكم عاريا عن الدليل والأصل البراءة
، الا ان الاحتياط يقتضي الوقوف على ما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) سيما مع
عدم المخالف ظاهرا.
(المقام الثاني)
ـ في الانزال وفيه أيضا مسائل (الأولى) ـ لا ريب انه كما يجب على الرجل والمرأة
الغسل بالجماع على الوجه المتقدم كذا يجب عليهما بإنزال الماء الأكبر يقظة ونوما
على المعروف من مذهب الأصحاب بل لم ينقل فيه خلاف ، الا انه يظهر من كلام الصدوق (قدسسره) في المقنع الخلاف في المرأة إذا أنزلت بالاحتلام حيث
قال : «وان احتلمت المرأة فأنزلت فليس عليها غسل ، وروى ان عليها الغسل إذا أنزلت»
وهو في الرجل مجمع عليه رواية ، واما في المرأة فعلى أشهرها :
فمن الأخبار
الدالة عليه في الرجل حسنة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المفخذ عليه غسل؟ قال : نعم إذا أنزل».
وحسنة الحسين
بن ابي العلاء عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان علي (عليهالسلام) يقول : انما الغسل من الماء الأكبر».
ورواية عنبسة
بن مصعب عنه (عليهالسلام) قال : «كان علي (عليهالسلام) لا يرى في شيء الغسل إلا في الماء الأكبر».
والحصر في هذه
الاخبار وأمثالها إضافي بالنسبة الى ما يخرج من الذكر من المذي ونحوه ، فلا ينافي
ما دل على الوجوب بمجرد التقاء الختانين كما تفصح عنه رواية عنبسة عنه (عليهالسلام) قال : «كان علي (عليهالسلام) لا يرى في المذي وضوء ولا غسلا ما أصاب الثوب منه الا
في الماء الأكبر». الى غير ذلك من الاخبار.
__________________
واما المرأة
فمما يدل على وجوب الغسل عليها بذلك أيضا صحيحة محمد بن إسماعيل عن الرضا (عليهالسلام) «في الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج وتنزل المرأة هل عليها غسل؟ قال :
نعم».
وصحيحة الحلبي
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل.
قال : ان أنزلت فعليها الغسل وان لم تنزل فليس عليها الغسل».
ورواية معاوية
بن حكيم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا أمنت المرأة والأمة من شهوة ـ جامعها الرجل
أو لم يجامعها ، في نوم كان ذلك أو في يقظة ـ فإن عليها الغسل».
وحسنة أديم بن
الحر قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل عليها غسل؟ قال
: نعم ولا تحدثوهن فيتخذنه علة».
أقول : ولعل
المراد باتخاذ ذلك علة يعني للزناء أو الخروج الى الحمامات.
الى غير ذلك من
الاخبار كصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة إسماعيل ابن سعد الأشعري وصحيحة محمد بن إسماعيل الأخرى واخبار أخر أيضا.
وبإزاء هذه
الاخبار ما يدل على عدم الوجوب كصحيحة عمر بن يزيد قال : «اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ولبست ثيابي وتطيبت
، فمرت بي وصيفة ففخذت لها فأمذيت انا وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق ، فسألت أبا عبد
الله (عليهالسلام) عن ذلك. فقال : ليس عليك وضوء ولا عليها غسل».
ورواية عبيد بن
زرارة قال : «قلت له : هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال :
لا ، وأيكم يرضى ان يرى أو يصبر على ذلك ان يرى
__________________
ابنته أو أخته أو امه أو زوجته أو أحدا من قرابته قائمة تغتسل فيقول مالك؟
فتقول احتلمت وليس لها بعل. ثم قال : لا ليس عليهن ذلك ، وقد وضع الله ذلك عليكم ،
قال : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» ولم يقل ذلك لهن».
وصحيحة محمد بن
مسلم قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : كيف جعل على المرأة إذا رأت في النوم ان الرجل يجامعها
في فرجها الغسل ولم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟ قال :
لأنها لما رأت في منامها ان الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل ، والآخر
انما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها الغسل لانه لم يدخله ، ولو كان ادخله في
اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن». ومثلها صحيحة عمر بن يزيد الأخرى وصحيحة ابن أذينة .
وقد تأول الشيخ
(رضوان الله عليه) ومن تأخر عنه هذه الاخبار بتأويلات في غاية البعد ، وصحتها
وصراحتها في عدم الوجوب مما لا سبيل إلى إنكاره ، فالأولى ردها الى العالم من آل
محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) والعمل على تلك الأخبار الأولة ، لاعتضادها بعمل
الطائفة المحقة قديما وحديثا ، وموافقتها للاحتياط في الدين الذين هما من جملة
المرجحات المنصوصة.
ويقرب عندي
خروج هذه الاخبار مخرج التقية (أما أولا) ـ فلجواز وجود القائل به في تلك الأعصار وان لم ينقل عن أحد
الأربعة المشهورة الآن بينهم ، فإن شهرة هذه الأربعة وحصر مذهبهم فيها انما تجدد
في الأعصار المتأخرة بقرب
__________________
سنة الستمائة. والا فمذاهبهم في أعصار الأئمة (عليهمالسلام) لا تكاد تحصى كثرة وانتشارا ، كما نبه عليه جملة من
علمائنا وعلمائهم ، وأوضحناه في مواضع من رسائلنا.
و (اما ثانيا)
ـ فلان المستفاد من الاخبار وان كان خلاف ما اشتهر بين أصحابنا (رضوان الله عليهم)
الا ان فتواهم (عليهمالسلام) بالتقية أحيانا لا يختص بوجود القائل بذلك من العامة ،
بل كثيرا ما يقصدون (عليهمالسلام) الى مجرد إيقاع الاختلاف في الحكم تقية كما مر بك
تحقيقه في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب واما ما يفهم من كلام المقنع ـ من
العمل بما ورد من هذه الروايات في الاحتلام دون ما ورد في اليقظة ـ فلا اعرف له
وجها وجيها.
ولقد أشكل
الأمر في هذه الاخبار على أصحاب هذا الاصطلاح المتأخر من تقسيم هذه الاخبار الى
الأقسام الأربعة ، لصحتها وصراحتها فلم يستطيعوا ردها بضعف الاسناد كما هو المقرر
بينهم والمعتاد. حتى قال صاحب المنتقى الذي هو من جملة من شيد أركان هذا الاصطلاح
بل زاد بزعمه في الإصلاح بعد نقله هذه الاخبار : «والعجب من اضطراب هذه الاخبار مع
ما لأسانيدها من الاعتبار».
فرع
ينبغي ان يعلم
انه لو كان الخارج من المرأة انما هو من مني الرجل يقينا أو مشكوكا في مصاحبته
منيها ، فإنه لا يوجب الغسل يقينا على الأول وفي الثاني على الظاهر تمسكا بالأصل
سيما بعد الغسل ، كما تدل عليه صحيحة سليمان بن خالد المتضمّنة للسؤال عن المرأة يخرج منها شيء من بعد
الغسل فقال : «لا تعيد». وعلله بان ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل ،
ومثلها صحيحة منصور ويدل على الأول أيضا رواية عبد الرحمن البصري قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة تغتسل
__________________
من الجنابة ثم ترى نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل؟ فقال : لا». اما لو حصل
الاشتباه في غير مورد الصحيحة المتقدمة فالظاهر الرجوع الى الأوصاف المعتبرة عند
الاشتباه كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، إذ هذه الأوصاف إنما توجد عند خروج منيها
لا مطلق المني كما هو الظاهر.
(المسألة
الثانية) ـ لو انزل من غير الموضع المعتاد فهل يكون موجبا للغسل مطلقا مع تيقن
كونه منيا. أو يلحق بالحدث الأصغر الخارج من غير الموضع المعتاد على القول به هناك
فيشترط في حدثيته الاعتياد أو انسداد الخلقي؟ قولان ، وبالأول صرح العلامة في
التذكرة والمنتهى ، وبالثاني الشهيد في الذكرى.
ويدل على الأول
إطلاق جملة من الاخبار الدالة على وجوب الغسل بخروج المني كقولهم (عليهمالسلام) في جملة منها : «انما الغسل من الماء الأكبر». وقولهم في بعض منها : «إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل». ولعل
مستند القول الثاني ما تقدم في الحدث الأصغر.
وتردد بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين في المسألة ، نظرا إلى أصالة البراءة من
الوجوب ، ووجوب استصحاب حكم الطهارة حتى يعلم المزيل ، والى إطلاق الاخبار.
وأنت خبير بان
الظاهر ان إطلاق الاخبار موجب للخروج عن الأصالة المذكورة والاستصحاب المذكور ،
الا ان يمنع الاعتماد على الإطلاق في الدلالة والظاهر انه لا قائل به. نعم لو كان
الشك في العمل بالإطلاق من حيث احتمال تقييده بالحمل على ما هو المعهود المتعارف
من الخروج من الموضع الخلقي فيحمل إطلاق الاخبار عليه لكان وجها ، الا انه يحتمل
ان ذكر الخروج من الفرجين في بعض الاخبار باعتبار كونه المتعارف المعتاد لا يدل
__________________
على الانحصار بوجه فلا يصلح لتقييد ما أطلق منها ، والى هذا يميل كلام
المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في مسألة خروج الحدث الأصغر من غير الموضع المعتاد ،
والمسألة لا تخلو من تردد.
ومن هنا يعلم
الحكم في الخنثى لو خرج من أحد مخرجيها لا مع الاعتباد من أحدهما كما هو أحد
القولين بل الظاهر انه أشهرهما ، والقول الآخر اعتباره منهما الا مع الاعتياد من
أحدهما ، واليه ذهب ثاني المحققين وثاني الشهيدين.
(المسألة
الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ كما نقله جملة
منهم ـ في وجوب الغسل مع تيقن كون الخارج منيا وان لم يكن على الصفات الآتية ، وان
الرجوع إليها كلا أو بعضا انما هو مع الاشتباه ، ويدل عليه الاخبار الكثيرة
المتضمنة لترتب الغسل على مطلق الانزال وخروج الماء وحينئذ فما ورد في بعض الاخبار ـ من تقييد وجوب الغسل
بالقيود الثلاثة من الشهوة والدفع وفتور الجسد وانه مع عدم ذلك فلا بأس ، كصحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبلها فيخرج
منه المني فما عليه؟ قال : إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر فعليه الغسل ، وان كان انما
هو شيء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس». أو الشهوة فقط كصحيحة إسماعيل بن سعد
الأشعري قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير ان
يباشر ، يعبث بها بيده حتى تنزل. قال : إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل». ومثلها رواية
محمد بن الفضيل قال : «إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل».
ـ فمحمول على حال الاشتباه. قال الشيخ (قدسسره) في التهذيب بعد نقل صحيحة علي بن جعفر المذكورة : «ان
قوله (عليهالسلام) ـ : «وان كان انما هو شيء لم يجد له
__________________
فترة ولا شهوة فلا يأس». ـ معناه إذا لم يكن الخارج الماء الأكبر ، لأن من
المستبعد من العادة والطبائع ان يخرج المني من الإنسان ولا يجد له شهوة ولا لذة.
وانما أراد انه إذا اشتبه على الإنسان فاعتقد انه مني وان لم يكن في الحقيقة منيا
يعتبره بوجود الشهوة من نفسه ، فإذا وجد وجب عليه الغسل وإذا لم يجد علم ان الخارج
منه ليس بمني» انتهى. وهو جيد مطابق لما يحكم به الوجدان ويحققه العيان ، على انه
لو أريد به ظاهره لوجب حمله على التقية لموافقته لأشهر مذاهب العامة ، فإنه منقول
عن أبي حنيفة ومالك واحمد مع ان فيه ايضا انه دلالة بمفهوم الشرط ، وهو انما يكون
حجة إذا لم يظهر للشرط فائدة سوى التعليق والتقييد ، ومن المحتمل خروج ذلك مخرج
الغالب ان لم يدع اللزوم الكلي مع عدم العارض من مرض ونحوه ، وبه تنتفي حجية
المفهوم في نفسه فضلا ان يصلح لتقييد ظواهر الأخبار المستفيضة.
ثم انه مع
اشتباه الخارج فقد ذكر جمع من الأصحاب انه يعتبر في الصحيح باللذة والدفق وفتور
البدن ، وفي المريض باللذة والفتور ولا يعتبر الدفق لأن قوة المريض ربما عجزت عن
دفعه ، وزاد الشهيد في الذكرى والدروس علامة أخرى للاشتباه ايضا وهو قرب رائحته من
رائحة الطلع والعجين إذا كان رطبا وبياض البيض جافا.
واحتجوا على
اعتبار الأوصاف الثلاثة في الصحيح بأنها صفات لازمة في الأغلب فمع الاشتباه يرجع
إليها. وبصحيحة علي بن جعفر المتقدمة ، وفي المريض بما تقدم من العجز ، وبصحيحة
عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له : الرجل يرى في المنام ويجد الشهوة
فيستيقظ وينظر فلا يجد شيئا ثم يمكث بعد
__________________
فيخرج؟ قال : ان كان مريضا فليغتسل وان لم يكن مريضا فلا شيء عليه ، قال :
فقلت : فما فرق بينهما؟ فقال : لان الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة وقوة وإذا
كان مريضا لم يجيء إلا بعد».
أقول : ومن
الاخبار الواردة أيضا في المريض صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا
فقال : ليس بشيء الا ان يكون مريضا فإنه يضعف فعليه الغسل».
وصحيحة زرارة قال : «إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنه ربما كان هو
الدافق لكنه يجيء ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا فاغتسل
منه».
ورواية محمد بن
مسلم قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : رجل رأى في منامه فوجد اللذة والشهوة ثم قام فلم ير
في ثوبه شيئا؟ فقال : ان كان مريضا فعليه الغسل وان كان صحيحا فلا شيء عليه».
إلا ان هذه
الرواية لا تخلو من اشكال لتضمنها وجوب الغسل على المريض بمجرد وجود اللذة والشهوة
مع عدم رؤية شيء بعد انتباهه. ولم يذهب اليه ذاهب من الأصحاب ولم يرد به خبر آخر
في الباب ، بل ربما دلت الاخبار على خلافه ، ومنها ـ
حسنة الحسين
ابن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يرى في المنام حتى يجد الشهوة فهو يرى انه قد
احتلم فإذا استيقظ لم ير في توبة الماء ولا في جسده. قال : ليس عليه الغسل». وحينئذ
فالواجب حمل تلك الرواية على وجود شيء وإلا فطرحها رأسا. ثم لا يخفى ان غاية ما
يستفاد من هذه الاخبار هو البناء على الظن بواسطة أحد
__________________
هذه الأشياء في المريض بل الصحيح ايضا حال الشك ، ومن المقطوع به نصا وفتوى
انه لا يعارض يقين الطهارة ، لكن الظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق
على العمل بما دلت عليه هذه الأخبار وعدم الراد لها ، ولعله على الاستثناء من
قاعدة عدم نقض اليقين بالشك وتخصيصها بهذه الأخبار ، إذ المراد بالشك هنا ما يشمل
الظن كما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة.
(المسألة
الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان من نام ولم
ير في منامه انه احتلم ثم وجد بعد الانتباه في ثوبه أو على بدنه منيا فإنه يجب
عليه الغسل للعلم بتحقق الجنابة بذلك ، وكثير من الأصحاب عبروا في هذا المقام بان
واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ، ومن الظاهر بعده عن مورد الأخبار
المتعلقة بهذه المسألة :
ومنها ـ موثقة
سماعة قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما يصبح ولم يكن رأى في
منامه انه قد احتلم. قال : فليغتسل وليغسل ثوبه ويعيد صلاته».
وموثقته الأخرى
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل ينام ولم ير في نومه انه احتلم فيجد في ثوبه
أو على فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال : نعم».
واما ما رواه
أبو بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يصيب في ثوبه منيا ولم يعلم انه احتلم. قال
ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ». فحمله الشيخ (رحمهالله) على ما إذا شاركه في الثوب غيره جمعا بين الاخبار.
ولعل الأقرب في وجه الجمع حمل موثقتي سماعة على من وجد المني بعد النوم بغير فصل
مدة بحيث يحصل له العلم أو الظن الغالب باستناد المني اليه لا الى غيره كما يظهر
من سياقهما ، ورواية أبي بصير على وجدانه في الثوب في الجملة من غير تعقبه للنوم
على الوجه المتقدم.
وكيف كان
فالظاهر ان مفاد الموثقتين المذكورتين لا يخرج عن مجرد الظن
__________________
بخروج المني منه ، إذ دعوى حصول اليقين بمجرد وجوده كذلك بعيدة ، وحينئذ
فلا بد من تخصيص قاعدة عدم نقض اليقين بالشك بذلك أيضا الا ان يقيد بذلك والمفهوم
من كلام المحدث الكاشاني في الوافي اعتبار حصول اليقين بحصول حدث الجنابة بتلك
العلامة ، نظرا الى ان يقين الطهارة لا يرتفع الا بيقين الحدث.
وبالجملة
فالجمع بين الأخبار المذكورة لا ينحصر فيما ذكروه ، حتى انهم بسبب ذلك جعلوها
مسألة برأسها في البين وفرعوا عليها فروعا لا اثر لها في النصوص ولا عين إذ من
الممكن حمل الموثقين المذكورتين على ما ذكرنا من انه وجد المني بعد الانتباه على
وجه يحصل له العلم باستناده اليه كما يظهر من سياقهما ، وحمل رواية أبي بصير على
وجدانه في الثوب في الجملة ، فإنه يستصحب البقاء على يقين الطهارة لعدم حصول العلم
في الصورة المذكورة باستناده اليه ، وغاية ما يمكن دعواه الظن وان كان غالبا وهو
لا يعارض اليقين السابق ، والى هذا يميل كلام المحدث الكاشاني في الجمع بين
الاخبار المذكورة ولا ريب انه أقرب مما ذكروه ، إذ لا قرينة في خبر تؤنس بالمشاركة
في ذلك الثوب بل المتبادر من إضافته إلى الضمير الاختصاص بصاحبه ، والأصحاب (رضياللهعنهم) ـ بناء على ما صوروه من هذه المسألة التي طرحوها
وجعلوها مقرا للبحث ـ عبروا بان واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ،
ومن الظاهر بعده عن ظاهر الموثقتين المذكورتين. إذ الظاهر منهما ـ كما عرفت ـ هو
رؤية المني على وجه يوجب اليقين باستناده اليه لا مجرد وجوده ، فإنه لا يوجب ذلك ،
ومن الممكن احتماله لدفع سورة الاستبعاد انه يجوز ان يكون احتلم في الثوب واغتسل
ولم يعلم بالمني ثم رآه بعد يومين أو ثلاثة مثلا ، فمجرد وجوده لا يوجب الحكم عليه
بالجنابة مع ان يقين الطهارة لا يخرج عنه الا بيقين النجاسة ، وهذا بحمد الله ظاهر
لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.
فوائد : (الأولى)
ـ لو كان الثوب الذي رأى فيه المني مشتركا بينه وبين
غيره ـ اما بان يكونا معا مجتمعين فيه دفعة كالكساء الذي يفترش أو يلتحف به
، أو كان بينهما على سبيل النوبة ـ فأكثر الأصحاب على انه لا يجب الغسل عملا
باستصحاب يقين الطهارة وعدم الخروج عنها الا بيقين النجاسة. وفي حكمه المختص أيضا
إذا احتمل كون المني الموجود عليه من غيره كما حملنا عليه رواية أبي بصير ، وظاهر
جمع : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين تخصيص الاشتراك الموجب لسقوط الغسل بما
كان على سبيل المعية ، اما المتناوب بينهما فأوجبوا الغسل فيه على صاحب النوبة وان
احتمل جواز التقدم كما صرح به في الروض واليه يميل كلام الدروس ايضا ، ولهذا فسر
شيخنا الشهيد الثاني (نور الله مرقده) في الروض الثوب المختص الذي يوجب رؤية
الجنابة فيه الغسل بما اختص بلبسه أو النوم عليه حين الوجدان وان كان يلبسه أو
ينام عليه هو وغيره تناوبا. وفيه ان المسألة لما كانت خالية من النص فالواجب فيها
الوقوف على مقتضى القواعد المقررة التي من جملتها عدم جواز نقض اليقين بالشك كما
هو المتفق عليه نصا وفتوى ، فالحكم بالوجوب على صاحب النوبة مطلقا وان احتمل جواز
التقدم مدفوع بعدم جواز الخروج عن يقين الطهارة إلا بالعلم يكون المني من واجده ،
نعم لو علم ذو النوبة انه منه بوجه من الوجوه وجب الغسل عليه الا انه لا من حيث
كونه صاحب النوبة ، وكذا لو علم السبق سقط عنه قطعا ولم يجب على الأول الا مع
التحقق ايضا وبالجملة فالمعتبر في الخروج عن يقين الطهارة اليقين بكون المني من
واجده والا لم يجب عليه شيء.
(الثانية) ـ الأشهر
الأظهر انه لا يحكم على هذا الواجد المحكوم عليه بوجوب الغسل بإعادة شيء من
الصلوات الا ما جزم بتأخره عن الجنابة ، وهي المتعقبة لآخر نومة وجد عقيبها المني
المذكور ، عملا بأصالة عدم التقدم ، واستصحابا للطهارة المتيقنة الى ان يتيقن
الحدث ، وحينئذ يحكم عليه بكونه محدثا ويجب عليه قضاء ما يتوقف على الطهارة من ذلك
الوقت الى ان تحصل منه طهارة رافعة. خلافا للشيخ (رحمهالله) في المبسوط
حيث حكم ـ كما نقل عنه ـ بوجوب قضاء كل صلاة صلاها بعد آخر غسل رافع ،
ولعله أخذ بالاحتياط كما حمله عليه جملة من الأصحاب. الا ان فيه (أولا) ـ ان
الاحتياط هنا ليس بدليل للوجوب. و (ثانيا) ـ انه لا احتياط في إعادة ما وقع من
الصلوات بعد آخر الأغسال الرافعة وقبل النوم. و (ثالثا) ـ ان مقتضى الاحتياط ان
يعيد ما صلاه قبل آخر الأغسال أيضا متى احتمل ان يكون خروج المني سابقا عليه ،
وحينئذ فمتى أريد سلوك جادة الاحتياط فالطريق إليها ان يعيد كل صلاة لا يعلم سبقها
على المنى ولم يفصل بينها وبينه على تقدير سبقه غسل رافع هذا بالنسبة إلى الحدث.
واما بالنسبة
إلى الخبث فتبني الإعادة منه على ما سيأتي ان شاء الله في محله من الخلاف في وجوب
إعادة المصلي في النجاسة جاهلا ، فعلى القول بالوجوب يمكن ان يستند وجوب الإعادة
هنا على تقديره الى كل من الحدث والخبث ، والى الحدث خاصة كما لو حصل إزالة
النجاسة ولو اتفاقا ، والى الخبث خاصة كما لو اتفق الغسل الرافع في البين. ونقل عن
الشيخ في المبسوط هنا انه يستحب ان يعيد كل صلاة صلاها من أول نومة نامها في ذلك
الثوب. ويجب ان يعيد ما صلاه من آخر نومة نامها فيه. ثم قوى عدم وجوب إعادة شيء
من الصلوات الا ما لم يخرج وقتها. والظاهر ان تقويته عدم اعادة ما خرج وقته بناء
على عدم وجوب الإعادة على جاهل النجاسة بعد خروج الوقت كما هو المنقول عنه في
المبسوط في المسألة المشار إليها ، وبذلك يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك
في هذا الموضع من الغفلة ان ثبت ما نقل عن المبسوط في الموضعين المتقدمين فان
الكتاب لا يحضرني الآن لاحقق ذلك منه ، حيث قال السيد (قدسسره) في الكتاب المذكور حاكيا خلاف الشيخ في المبسوط ما
لفظه : «وذهب الشيخ في المبسوط أولا إلى إعادة كل صلاة لا يعلم سبقها على الحدث ثم
قوى ما اخترناه وقوته ظاهرة» انتهى. وأشار بما اختاره الى ما ذكره أولا من انه
انما يحكم على واجد المني بالجنابة من آخر أوقات إمكانها.
(الثالثة) ـ اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم المشتركين في الثوب الموجود عليه المني مع عدم
تيقن اختصاصه بأحدهما بعد الاتفاق على سقوط أحكام الجنب عن كل منهما في حد ذاته من
وجوب الغسل وتحريم قراءة العزائم ونحوهما من الأحكام الآتية ، فيجوز لهما معا دخول
المسجد دفعة وقراءة العزائم كذلك ، وانما تظهر فائدة الخلاف هنا في انعقاد الجمعة
بهما وائتمام أحدهما بصاحبه ، فقيل بالقطع بوجود جنب فلا يصح انعقاد الجمعة بهما
لأن أحدهما جنب البتة ، ولا تصح صلاة المأموم منهما لانه نفسه أو امامه جنب ،
واليه ذهب المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس وثاني المحققين وثاني الشهيدين ،
ورجحه بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وقيل بسقوط هذه الجنابة عن الجميع
في نظر الشارع ، ومال إليه العلامة في جملة من كتبه ، واختاره السيد السند في
المدارك وغيرهما.
حجة الأول
القطع بجنابة أحدهما البتة ، وسقوط بعض أحكام الجنب انما كان لتعذر العلم بالجنب
المستلزم للمحذور وهو منتف في موضع النزاع.
وأجيب بأنه ان
أريد القطع بخروج المني من أحدهما فمسلم لكن خروج المني من واحد لا بعينه لا يوجب
حكما ، وان أريد القطع بكون أحدهما لا بعينه جنبا لا تصح منه الأفعال التي لا تصح
من الجنب ويتعلق به أحكامه فظاهر الفساد ، لان عدم صحة أفعال واحد منهما لا بعينه
وتعلق أحكام الجنب به مع ان كل واحد بعينه أفعاله صحيحة فلا يتعلق به حكم الجنب
مما لا معنى له ، وبالجملة القدر المسلم في اشتراط انعقاد الجمعة ان تكون صلاة كل
من العدد صحيحة في الواقع وههنا كذلك ، واما ما وراء ذلك فلا ، وكذا يلزم في صحة
صلاة المأموم عدم علمه بفساد صلاة الامام وقد تحقق هنا ، ومن يدعي زيادة على ذلك
فعليه البيان.
حجة القول
الآخر ـ زيادة على ما علم من الجواب المذكور ـ التمسك بيقين الطهارة ولم يعارضه
الا الشك في الحدث وكل منهما متيقن الطهارة شاك في الحدث.
أقول :
والمسألة لخلوها من نصوص أهل الخصوص لا تخلو من الاشكال وان كان القول الثاني أوفق
بالقواعد الشرعية وادخل في تلك الضوابط المرعية.
(أما أولا) ـ فلما
ذكر من التمسك بأصالة يقين الطهارة التي هي أقوى متمسك
و (اما ثانيا)
ـ فلان المفهوم من النصوص ان الشارع لم يجعل الواقع مناطا لشيء من الأحكام وانما
بناها على ما يظهر للمكلف ، ويعضده ان الذي دلت عليه نصوص هذا الباب هو ان الشارع
قد ناط حكم الجنابة بالنسبة إلى خروج المني ، إما بالعلم بخروجه كما تضمنته النصوص
المستفيضة ، أو بوجوده على بدن الجنب أو ثوبه المختص به كما تقدم في موثقتي سماعة
، وما عدا ذلك فلم يدل عليه دليل ، ولا يخفى على من تتبع مظان الإحكام انه كثيرا
ما يغلب على الظن بالقرائن الحالية أحد الأحكام الشرعية من نجاسة وحرمة ونحوهما ،
والشارع بمجرد معارضة احتمال ينافي ذلك وان بعد لا يلتفت الى ما غلب على الظن
وترجح عنده كما في موثقة عمار الواردة في الفأرة المتفسخة ونحوها.
و (اما ثالثا)
ـ فلان القول بثبوت الجنابة على واحد لا بعينه ـ مع اتفاقهم على صحة أفعال كل واحد
منهما وسقوط أحكام الجنب عنه وان مظهر الخلاف انما هو في الصورتين المذكورتين ـ لا
يخلو من تدافع.
الا ان الحكم
بعد لا يخلو عندي من شوب الاشكال ، نظرا الى ان المفهوم من النصوص في غير موضع من
الأحكام ـ كما تقدم بسط الكلام عليه في مسألة الإناءين ـ ان الشارع قد اعطى
المشتبه بالنجس حكم النجس والمشتبه بالحرام حكم الحرام في الافراد المحصورة ، ولم
يلتفت الى أصالة الحلية والطهارة في تلك المواضع ، كما في مسألة الإناءين واللحم
المختلط ذكية بميتة ، والصلاة في كل من الثوبين المتيقن نجاسة أحدهما لا بعينه ،
ووجوب تطهير الثوب الذي أصاب بعض أجزائه النجاسة مع اشتباه موضع الإصابة بباقي
__________________
الثوب ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، فان النصوص في
جميع هذه المواضع قد أعطت المتيقن الطهارة والحلية حكم المشتبه به ، وربما ظهر من
ذلك تخصيص اخبار التمسك بيقين الطهارة والحلية بغير مورد هذه الاخبار وهو الأشياء
المعلومة بشخصها ويكون ذلك هو وجه الجمع بين اخبار الطرفين. وكيف كان فالوقوف على
ساحل الاحتياط ـ بالغسل لكل منهما واجتناب ما يجتنبه الجنب قبله ـ سبيل السلامة
والنجاة ، عجل الله تعالى الفرج والظهور لمن به تحل مشكلات الأمور.
وجملة من
أصحابنا بناء على اتفاقهم على سقوط وجوب الغسل في المسألة صرحوا باستحبابه ،
والظاهر ان منشأه الاحتياط لعدم دليل له على الخصوص.
(المسألة
الخامسة) ـ لو خرج منه بلل بعد الغسل فلا يخلو اما ان يعلم انه مني أو بول أو يعلم
انه غيرهما أو لا يعلم شيئا من ذلك ، ولا خلاف ولا إشكال انه في الصورة الاولى
يكون موجبا للغسل وفي الثانية للوضوء وفي الثالثة لا يوجب شيئا ، واما الصورة
الرابعة فلا يخلو اما أن يكون قد بال قبل الغسل واجتهد أو لم يأت بشيء منهما أو
اتى بأحدهما أما البول أو الاجتهاد ، ثم انه مع الإتيان بالاجتهاد خاصة فاما ان يكون
مع إمكان البول أو مع عدم إمكانه ، فههنا صور خمس :
(الاولى) ـ ان
يغتسل ثم يجد بللا مشتبها وقد بال واجتهد ، والظاهر انه لا خلاف في عدم وجوب شيء
عليه من غسل أو وضوء ، ومما يدل على ذلك عمومات الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين
بالشك وخصوصا ، اما بالنسبة إلى سقوط الغسل فالأخبار لدالة على انه بالبول قبل
الغسل يسقط عنه الغسل ، كقول الصادق (عليهالسلام) في حسنة الحلبي : «ان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد وهو ابن مسلم : «... الا ان يكون بال قبل أن يغتسل فإنه
__________________
لا يعيد غسله». ومثلهما أخبار كثيرة طوينا نشرها للاتفاق على الحكم المذكور
فتوى ورواية ، واما بالنسبة إلى سقوط الوضوء فللأخبار الدالة على انه بالاجتهاد لا
ينتقض بما يخرج كذلك ، كقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة حفص بن البختري : «ينتره ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي». وغيرها
من الاخبار التي تقدمت في مسألة الاستبراء من البول.
واما ما رواه
ابن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ثلاث يخرجن من الإحليل وهن المني فمنه الغسل ،
والودي فمنه الوضوء لانه يخرج من دريرة البول.». فمحمول على ما قبل الاستبراء جمعا
لصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله
ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء ، انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».
واما صحيح محمد
بن عيسى قال : «كتب اليه رجل هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر
بعد الاستبراء؟ قال : نعم». فحمله في التهذيبين على الاستحباب ، وزاد في الاستبصار
حمله على التقية لموافقته لمذهب أكثر العامة .
أقول : وهو
الأقرب ، ويحتمل ايضا حمل ذلك على ما إذا كان الخارج بولا ، لتطرق الوهم الى ان ما
خرج بعد الاستبراء لا ينقض وان كان بولا ، ولعله (عليهالسلام) علم ذلك ، فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يجيبون
على علمهم من حال السائل وان لم يفصح عنه السؤال.
(الثانية) ـ خروج
البلل مع عدم البول والاستبراء ، والمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى ابن إدريس عليه
الإجماع ـ وجوب الغسل ، وظاهر الفقيه والمقنع الاكتفاء بالوضوء في هذه الصورة.
__________________
ويدل على
المشهور روايات : منها ـ موثقة سماعة قال : «سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل ان يبول فيجد
بللا بعد ما يغتسل. قال يعيد الغسل.».
وصحيحة سليمان
بن خالد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل ان يبول فخرج منه
شيء. قال : يعيد الغسل». وفي الصحيح عن منصور بن حازم مثله.
وصحيحة محمد بن
مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما يغتسل شيء. قال :
يغتسل ويعيد الصلاة الا ان يكون بال قبل ان يغتسل فإنه لا يعيد غسله. قال محمد :
وقال أبو جعفر (عليهالسلام) : من اغتسل وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فقد انتقض
غسله ، وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينتقض غسله ولكن عليه الوضوء ، لان
البول لم يدع شيئا».
وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة معاوية بن ميسرة : «... وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».
ويدل عليه ايضا
مفهوم الشرط في جملة من الاخبار : منها ـ حسنة الحلبي المتقدمة لقوله : «ان كان
بال قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».
(لا يقال) : ان
هذه الاخبار انما تدل على خروج البلل مع عدم البول بعد الغسل ولا تعرض فيها
للاستبراء كما هو المدعى.
(لأنا نقول) :
تعليق الحكم فيها على عدم البول ـ الذي هو أعم من ان يكون مع عدم الاستبراء كما هو
موضوع هذه الصورة ، أو معه مع إمكان البول أو عدمه كما هو موضوع الصورة الآتية ـ كاف
في الاستدلال ، وحينئذ فالاستدلال بها من حيث الإطلاق.
الا انه قد ورد
بإزاء هذه الاخبار ما يدل على عدم الوجوب في الصورة المذكورة
__________________
ومنه ـ رواية
جميل قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثم
يرى بعد الغسل شيئا أيغتسل ايضا؟ قال : لا قد تعصرت ونزل من الحبائل».
ورواية أحمد بن
هلال قال : «سألته عن رجل اغتسل قبل ان يبول. فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان
يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل».
ورواية عبد
الله بن هلال قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجامع اهله ثم يغتسل قبل أن يبول ثم يخرج منه
شيء بعد الغسل. فقال : لا شيء عليه ان ذلك مما وضعه الله عنه».
ورواية زيد
الشحام عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل أجنب ثم اغتسل قبل ان يبول ثم رأى
شيئا. قال لا يعيد الغسل ، ليس ذلك الذي رأى شيئا».
ومما يعارضها
أيضا الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك
والشيخ جمع في
بعضها بالحمل على ترك البول ناسيا وفي بعض بالحمل على من اجتهد قبل الغسل ولم يتأت
له البول ، وأورد على الحمل الأول دليلا مضمرة أحمد بن هلال المذكورة ولم يورد
للحمل الآخر مستندا.
ولا يخفى ما
فيه من البعد ، اما الحمل على النسيان فلان النسيان وان وقع في رواية جميل الا انه
(أولا) ـ في كلام الراوي فلا يصلح للتقييد ، مع ضعف سند الرواية باشتماله على علي
بن السندي وهو مهمل في كتب الرجال ، بل ظاهر التعليل في الرواية بقوله : «تعصرت
ونزل من الحبائل» الدلالة على عدم الفرق بين حالتي النسيان والعمد. و (ثانيا) ـ ان
الخارج مع عدم البول متى حكم بكونه منيا فكيف يعذر الناسي فيه ، إذ الأسباب لا
يفرق فيها بين الناسي والعامد. واما الحمل على من اجتهد ولم يتمكن من
__________________
البول ففيه ـ مع عدم الدليل عليه في الاخبار ـ ان عدم القدرة على البول لا
يخرج الخارج عن كونه منيا ليسقط وجوب الغسل ، فان مقتضى العلة المستنبطة من جملة
من الاخبار بل المنصوصة في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن الباقر (عليهالسلام) حيث قال في آخرها : «لان البول لم يدع شيئا». ان مع
عدم البول وان تعذر لا يقطع بزوال المني ونظافة المخرج منه.
واما الجمع بين
الاخبار ـ بالحمل على الاستحباب كما صار إليه جملة من متأخري المتأخرين ـ
ففيه (أولا) ـ انه
وان اشتهر بينهم البناء على هذه القاعدة في الجمع بين الاخبار بحمل ما يدل على
الوجوب على الاستحباب وما يدل على التحريم على الكراهة الا انه لم يرد بها اثر من
الآثار ، والقواعد المقررة عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) في اختلاف الأخبار
خالية عنها.
و (ثانيا) ـ انه
لا ريب ان الحمل على ذلك مجاز لا يصار اليه الا مع القرينة ، ووجود المعارض ليس
قرينة ، لجواز خروجه مخرج التقية أو احتماله لمعنى آخر.
وبالجملة
فالتحقيق ان الاخبار المذكورة صريحة المنافاة في الحكم المذكور ، وطريق الجمع
بينها وبين ما تقدمها بعيد ، فالواجب النظر في الطرق المرجحة للحمل على أحد
الطرفين ورمى الطرف الآخر من البين ، ولا ريب انها مع اخبار الإعادة لصحتها سندا
وكثرتها وصراحتها دلالة وتعددها منطوقا ومفهوما ، واعتضادها بعمل الطائفة قديما
وحديثا ، وموافقتها للاحتياط في الدين ، وضعف ما يعارضها ، فاما رواية جميل فيما
__________________
عرفت من اشتمال سندها على علي بن السندي ، واما رواية أحمد بن هلال فبضعف
الراوي المذكور حتى ورد فيه انه كان غاليا متهما في دينه ، وورد فيه ذموم عن سيدنا
ابي محمد العسكري (عليهالسلام) مضافا الى إضماره ، مع انه لا دلالة فيه على موضع
البحث بوجه ، لعدم اشتماله على خروج شيء بعد الغسل ، واما رواية عبد الله بن هلال
فبعدم ذكره في كتب الرجال بمدح أو قدح ، واما رواية الشحام فباشتمالها على ابي
جميلة المفضل بن صالح ، وقد رمي بالكذب ووضع الحديث كما ذكره العلامة في الخلاصة.
هذا. والأقرب عندي خروج الاخبار المشار إليها مخرج التقية ، إذ هي السبب التام في
اختلاف اخبارهم (عليهمالسلام) وان لم يعرف بذلك قائل من العامة كما تقدم تحقيقه في
المقدمة الاولى. واما المعارضة بأخبار عدم نقض اليقين بالشك فلا ورود لها ، إذ هو
عام مخصوص كما تقدم تخصيصه غير مرة.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور
من التوقف في الحكم لتعارض الاخبار في المسألة وجبر ضعف الأخبار الأخيرة بالاعتضاد
بالأصل وباخبار عدم نقض اليقين بالشك. وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان الترجيح
بالأصل لا يعرف له أصل والا لذكر في جملة المرجحات المنصوصة عن أهل الذكر (سلام
الله عليهم).
واما ما ذهب
اليه الصدوق (قدسسره) ـ من الاكتفاء هنا بالوضوء ، حيث قال في الفقيه ـ بعد نقل صحيحة الحلبي الآتية المتقدم عجزها في أدلة
وجوب الإعادة ـ ما لفظه : «وروي في حديث آخر «ان كان قد رأى بللا ولم يكن بال
فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل». قال مصنف هذا الكتاب رحمة الله عليه :
اعادة الغسل أصل والخبر الثاني رخصة» ونحوه في المقنع ، واليه يميل ظاهر المحدث
الكاشاني (طاب ثراه) في الوافي ، حيث قال بعد نقل كلام الفقيه : «أقول وبه يجمع
بين الاخبار المتقدمة والآتية» ـ
__________________
ففيه ان الخبر
المذكور مع صحته وثبوته لا يعارض الأخبار المتقدمة لما ذكرنا آنفا وان كان فتواه
به لا يخلو من تأييد له ، الا ان الخبر المذكور لا يخلو من اشكال ، لأن الحكم فيه
بالوضوء مع قوله في آخره : «انما ذلك من الحبائل». لا يخلو من تدافع ، إذ ما يخرج
من الحبائل لا يوجب وضوء ، ولم أر من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ولو
حمل الوضوء في الخبر المذكور على مجرد الغسل لذلك البلل لما ذكرنا لكان وجها ، وبه
يخرج عن صلاحية الاستدلال.
وبالجملة فقوة
القول المشهور مما لا ينبغي ان يرتاب فيها بوجه ، لكن شيخنا الشهيد في الذكرى نقل
عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر هذه الصورة هكذا : «قال محمد قال أبو جعفر
(عليهالسلام) : من اغتسل وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فليس ينقض
غسله ولكن عليه الوضوء».
ونزل رواية
الفقيه التي استند إليها في الرخصة على هذه حيث قال : «ورواه الصدوق بعد رواية
إعادة الغسل مع ترك البول» انتهى.
وأنت خبير بان
ما نقله لم نقف عليه في شيء من كتب الاخبار بل ولا كتب الاستدلال ، بل الموجود في
التهذيب والاستبصار وكذا في المنتهى هو ما قدمناه ، والذي يخطر بالبال هو وقوع
السهو في النقل أو الغلط في المنقول عنه بترك ما بين «بللا» الأول إلى «بللا»
الثاني. والله أعلم.
(الثالثة) ـ خروج
البلل بعد البول بدون الاجتهاد ، والمعروف من مذهب أكثر الأصحاب وجوب الوضوء خاصة
، ويدل عليه مفهوم الأخبار الدالة على انه «بعد الاستبراء ان سال حتى يبلغ الساق
فلا يبالي» كما في صحيحة حفص ،. و «ان خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من
الحبائل» كما في حسنة محمد بن مسلم ،. وقد تقدمتا في مسألة الاستبراء من البول وخصوص منطوق صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر الصورة
الثانية. وموثقة سماعة قال : «سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل
__________________
ان يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال : يعيد الغسل ، وان كان بال قبل ان
يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي». ورواية ابن ميسرة قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئا قال : ان كان بال بعد
جماعه قبل الغسل فليتوضأ وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».
وإطلاق هذه
الروايات وان شمل وجوب الوضوء مع الاستبراء بعد البول حيث رتب الوضوء فيها على
البول خاصة أعم من ان يكون معه استبراء أم لا. الا ان تصريح صحيحة حفص وحسنة محمد
بن مسلم المشار إليهما آنفا ـ بنفي كون الخارج بعد الاستبراء من البول بولا وان
بلغ الساق ، مضافا الى عدم القائل بالوضوء مع الاجتهاد ـ يوجب تقييد إطلاق الاخبار
المذكورة ، وبالجملة فالصورة المفروضة ترجع الى ما قدمنا في مسألة الاستبراء من
البول ، إذ هي فرد من إفرادها وعدد من أعدادها ، والظاهر انه لا مدخل لخصوصية
الجنابة في المقام ، ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الوضوء في الحال
المذكورة استنادا الى المفهوم المتقدم ذكره. واما ما عارضه من صحيحتي ابن ابي يعفور
وحريز فقد تقدم الجواب عنه ثمة .
الا انه ربما
ظهر من كلام الشيخين (قدسسرهما) في المقنعة والتهذيب والاستبصار عدم وجوب الوضوء في
الصورة المذكورة ، قال في المقنعة : «وإذا وجد المغتسل من الجنابة بللا على رأس
إحليله أو أحس بخروج شيء منه بعد اغتساله ، فإنه ان كان قد استبرأ بما ذكرناه قبل
هذا من البول أو الاجتهاد فليس عليه وضوء ولا اعادة غسل ، لان ذلك ربما كان وذيا
أو مذيا وليس ينتقض من هذين ، وان لم يكن استبرأ بما ذكرناه أعاد الغسل» وأشار
بقوله : «بما ذكرناه» الى ما قدمه قبيل هذا الكلام حيث قال : «وإذا عزم الجنب على
التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر
له ذلك فليجتهد في الاستبراء : بمسح تحت الأنثيين
__________________
الى أصل القضيب الى آخره» والمفهوم من هذا الكلام انه بعد خروج البلل
المشتبه بعد الغسل ان كان قد استبرأ أما بالبول مع إمكانه أو بالاجتهاد خاصة مع
عدم إمكانه فلا وضوء عليه ولا غسل ، وهو ظاهر في نفي الوضوء مع البول الخالي من
الاجتهاد.
واما الشيخ في
التهذيب فإنه بعد ان أورد صحيحة محمد بن مسلم ورواية معاوية ابن ميسرة قال : «فما
تضمن هذان الحديثان من ذكر اعادة الوضوء فإنما هو على طريقة الاستحباب ، لأنه إذا
صح بما قدمنا ذكره ان الغسل من الجنابة مجزئ عن الوضوء ولم يحدث هنا ما ينقض
الوضوء فينبغي ان لا تجب عليه الطهارة ولا تعلق على ذمته الطهارة إلا بدليل قاطع ،
وليس ههنا دليل يقطع العذر ، ويحتمل ايضا ان يكون ما خرج منه بعد الغسل كان بولا
فيجب عليه حينئذ الوضوء وان لم يجب الغسل حسبما تضمنه الخبر» ونحوه قال في
الاستبصار وظاهر هذا الكلام بل صريحه ان البلل المشتبه بعد البول
بدون الاستبراء لا يوجب اعادة الوضوء مطلقا.
ولا يخفى ما
فيه (اما أولا) ـ فلما قدمنا في مسألة الاستبراء من البول من دلالة مفهوم تلك
الاخبار على ذلك ، مع انه نقل الروايات المذكورة في باب وجوب الاستبراء من البول
في أحكام الوضوء من الاستبصار ثم ذكر بعدها في المنافي رواية محمد بن عيسى الدالة
على اعادة الوضوء بعد الاستبراء وحملها على الاستحباب ، وكيف يتم الحمل على
الاستحباب بعد الاستبراء مع عدم الوجوب قبله ، مع انه أفتى في المبسوط بما يوافق
الجماعة من انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه إذا لم يستبرئ. وما استند اليه من اجزاء
غسل
__________________
الجنابة عن الوضوء مسلم بالنسبة الى ما قبل الغسل ، فان كل ما يتجدد من
الأحداث يندرج تحت الجنابة ، اما بعد الغسل فلا. ومنعه من إيجاب البلل المشتبه
الوضوء ممنوع ، لدلالة مفاهيم تلك الاخبار مع مناطيق هذه على ذلك معتضدا بالبلل
المشتبه الخارج بعد الغسل مع عدم البول الموجب للغسل.
و (اما ثانيا)
ـ فلبعد ما ذكره من التأويل بمعنييه ، اما الحمل على الاستحباب فمردود بما سيأتي
بيانه ان شاء الله تعالى من استفاضة الاخبار بعدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة ،
واما الحمل على كون الخارج بولا ففيه انه لو كان كذلك فكيف يتجه التفصيل في تلك
الأخبار بأنه ان كان قبل البول فيجب اعادة الغسل به أو بعده فلا يجب اعادة الغسل
بل الوضوء ، إذ البول لا يوجب الغسل سواء بال قبل الغسل أو لم يبل.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور
، حيث جمد على كلام الشيخين بعد نقله ، واثبت الخلاف في المسألة بظاهر كلاميهما ،
وقوى القول بعدم الوضوء بخروج البلل المشتبه في شيء من الأحوال ، وأوجب حمل ما دل
على الإعادة مطلقا أو في بعض الأحوال منطوقا أو مفهوما على الاستحباب أو التقية أو
على تخصيص الخارج بالناقض.
(الرابعة) ـ خروج
البلل المذكور بعد الاجتهاد خاصة بدون البول مع إمكانه والظاهر من كلام الأكثر
وجوب الغسل ، وربما ظهر من عبارتي الشرائع والنافع هنا العدم وهو ضعيف ، وعموم
الأخبار ـ الدالة على إيجاب الغسل مع عدم البول كما تقدم في الصورة الثانية ـ يدفعه.
(الخامسة) ـ الصورة
المذكورة مع عدم إمكان البول ، وظاهر الأكثر ـ ومنهم الشيخان فيما تقدم من
كلاميهما في الصورة الثالثة ـ عدم وجوب شيء هنا من غسل أو وضوء ، وتوقف في النهاية
والمنتهى.
احتجوا على ذلك
بالأخبار المتقدمة في الصورة الثانية الدالة على عدم الغسل مع
عدم البول بحملها على عدم إمكانه. وقد عرفت ما في هذا الحمل آنفا.
واحتج المحقق
الثاني في شرح القواعد ايضا على ذلك بأصالة البراءة لعدم العلم بكون الخارج منيا ،
قال : «وإيجاب الإعادة فيما تقدم للدليل لا يقتضي الوجوب هنا».
ولا يخفى عليك
ما فيه من الوهن ، فإن أصالة البراءة يجب الخروج عنها بعموم الأخبار المتقدمة
الموجبة للإعادة مع عدم البول مطلقا ، وبه يظهر ما في باقي كلامه.
واستند
الشهيدان (قدسسرهما) في الذكرى والروض الى
قوله (عليهالسلام) في رواية جميل المتقدمة في الصورة الثانية : «قد تعصرت
ونزل من الحبائل».
وفيه (أولا) ـ ان
ذلك فرع الحمل على التعذر كما هو المدعى ، وليس في الخبر المذكور ولا في غيره من
الأخبار قرينة تؤنس به فضلا عن الدلالة عليه. و (ثانيا) ـ ان مورد الخبر حال النسيان
والمدعى أعم من ذلك فلا يقوم حجة. و (ثالثا) ـ ان التعليل المذكور لا يخلو من
الإشكال ، إذ حملهم له على ان المراد انه مع ترك البول نسيانا اجتهد واستبرأ لا
يساعده لفظ الرواية وغيره غير ظاهر في البين.
وبالجملة
فالأظهر والأحوط هو القول بوجوب الإعادة عملا بعموم تلك الأخبار ، واليه مال جملة
من فضلاء متأخري المتأخرين.
فرع
المعروف من
مذهب الأكثر عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بعد الغسل وقبل خروج ذلك البلل الموجب
له أو للوضوء ، لانه حدث جديد والصلاة الواقعة قبله مستكملة لشرائط الصحة. وتخيل
فساد الغسل ببقاء المني في مخرجه واحتباسه في الطريق باطل ، لان موجب الجنابة
خروجه من الفرج لا بروزه من مقره الأصلي وان احتبس في المجرى.
ونقل عن بعض
الأصحاب الميل الى بطلان الصلاة المذكورة ، وهو باطل بما
ذكرنا. وربما استدل له بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر الصورة الثانية
، والظاهر حملها على من صلى بعد وجدان البلل وعدم الغسل منه ، ورجح بعض حملها على
الاستحباب وهو بعيد الا انه أحوط. وربما احتج على ذلك أيضا بمرسلة أحمد بن هلال
المتقدمة لدلالتها على ان الغسل قبل البول لا اعتداد به. وفيه مع ضعفها التقييد
بحال العمد.
تذنيب
المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد يكون إجماعا انه يجب الغسل على الكافر لان
الكفار مكلفون بالفروع ، ولم ينقلوا في المسألة خلافا عن أحد من الخاصة بل من
العامة إلا عن أبي حنيفة ، قالوا : لكن لا يصح منه حال كفره لاشتراط الصحة
بالإسلام ولا يجبه الإسلام وان جب الصلاة لخروجها بدليل خاص.
وما ذكروه (نور
الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم) منظور فيه عندي من وجوه :
(الأول) ـ عدم
الدليل على التكليف المذكور وهو دليل العدم كما هو مسلم بينهم ، وما استدلوا به
مما سيأتي ذكره مدخول بما سنذكره.
(الثاني) ـ الاخبار
الدالة على توقف التكليف على الإقرار والتصديق بالشهادتين ، ومنها ـ ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي في الصحيح عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال
: ان الله بعث محمدا (صلىاللهعليهوآله) الى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على خلقه في أرضه ،
فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فان معرفة الإمام منا واجبة عليه ،
ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة
الامام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ
__________________
صريح الدلالة على خلاف ما ذكروه ، فإنه متى لم تجب معرفة الإمام قبل
الإيمان بالله ورسوله فبطريق الأولى معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من الامام (عليهالسلام) والحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدلالة ، فلا وجه
لرده وطرحه والعمل بخلافه إلا مع الغفلة عن الوقوف عليه.
والى العمل
بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني (قدسسره) حيث قال في كتاب الوافي بعد نقله ما صورته : «وفي هذا
الحديث دلالة على ان الكفار ليسوا مكلفين بشرائع الإسلام كما هو الحق خلافا لما
اشتهر بين متأخري أصحابنا» انتهى.
ويظهر ذلك ايضا
من المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في كتاب الفوائد المدنية ، حيث صرح
فيه بأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون تعلق التكاليف بالناس على التدريج ، بان
يكلفوا أولا بالإقرار بالشهادتين ثم بعد صدور الإقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به
النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : ومن الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة
المذكورة في الكافي ، ثم ساق الرواية بتمامها ، وقال ايضا ـ بعد نقل جملة من اخبار
الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر بالتوحيد والإمامة ونقل جملة من الاخبار
الدالة على فطرة الناس على التوحيد وان المعرفة من صنع الله ـ ما لفظه : «أقول : هنا
فوائد. الى ان قال : الثالثة ـ انه يستفاد منها ان ما زعمه الا شاعرة ـ من ان مجرد
تصور الخطاب ـ من غير سبق معرفة الهامية بخالق العالم وبان له رضى وسخطا وانه لا
بد من معلم من جهته ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ـ كاف في تعلق التكليف بهم ـ
ليس بصحيح» انتهى.
ومنها ـ ما
رواه الثقة الجليل احمد بن ابي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في حديث الزنديق الذي جاء اليه مستدلا بآي من القرآن
قد اشتبهت عليه ، حيث قال (عليهالسلام): «فكان أول
__________________
ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة ان لا إله إلا الله ،
فلما أقروا بذلك تلاه بالإقرار لنبيه (صلىاللهعليهوآله) بالنبوة والشهادة بالرسالة ، فلما انقادوا لذلك فرض
عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج. الحديث».
ومنها ـ ما
رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدسسره) في تفسيره عن الصادق (عليهالسلام) في تفسير قوله تعالى : «... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» حيث قال (عليهالسلام) : «أترى ان الله عزوجل طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول :
«وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ» وانما دعى
الله العباد للايمان به. فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرائض».
قال المحدث
الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الحديث المذكور : «أقول : هذا الحديث يدل على ما
هو التحقيق عندي من ان الكفار غير مكلفين بالأحكام الشرعية ما داموا باقين على
الكفر» انتهى.
ومما يدل على
ذلك ايضا ما روي عن الباقر (عليهالسلام) في تفسير قوله : «... أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...» حيث قال : «كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم؟ انما
قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول».
(الثالث) ـ لزوم
تكليف ما لا يطاق ، إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصورا وتصديقا عين تكليف ما لا
يطاق ، وهو مما منعته الأدلة العقلية والنقلية ، لعين ما تقدم في المقدمة الخامسة
في حكم معذورية الجاهل.
والى ذلك يشير
كلام الفاضل الخراساني (طاب ثراه) في الذخيرة في مسألة الصلاة مع النجاسة عامدا ،
حيث نقل عن بعضهم الإشكال في إلحاق الجاهل بالعامد وقال
__________________
بعده : «والظاهر ان التكليف متعلق بمقدمات الفعل كالنظر والسعي والتعلم ،
وإلا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق ، والعقاب يترتب على ترك النظر ،
الى ان قال : ولا يخفى انه يلزم على هذا ان لا يكون الكفار مخاطبين بالأحكام وانما
يكونون مخاطبين بمقدمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرره الأصحاب ، وتحقيق هذا المقام
من المشكلات» انتهى.
أقول : لا
اشكال ـ بحمد الله ـ فيما ذكره بعد ورود الأخبار بمعذورية الجاهل حسبما مر بك
مشروحا في المقدمة الخامسة ، وورودها بخصوص الكافر كما نقلنا هنا ، ولكنهم (قدسسرهم) يدورون مدار الشهرة في جميع الأحكام وان خلت عن الدليل
في المقام ، سيما مع عدم الوقوف على ما يضادها من اخبار أهل الذكر (عليهمالسلام).
(الرابع) ـ الأخبار
الدالة على وجوب طلب العلم كقولهم (عليهمالسلام): «طلب العلم فريضة على كل مسلم» . فان موردها المسلم دون مجرد البالغ العاقل.
(الخامس) ـ انه
كما لم يعلم منه (صلىاللهعليهوآله) انه أمر أحدا ممن دخل في الإسلام بقضاء صلواته كذلك لم
يعلم منه انه أمر أحدا منهم بالغسل من الجنابة بعد الإسلام مع انه قلما ينفك أحد
منهم من الجنابة في تلك الأزمنة المتطاولة ، ولو أمر بذلك لنقل وصار معلوما كغيره
، واما ما رواه في المنتهى عن قيس بن عاصم وأسيد ابن حصين ـ مما يدل على أمر النبي
(صلىاللهعليهوآله) بالغسل لمن أراد الدخول في الإسلام فخبر عامي لا ينهض حجة.
(السادس) ـ اختصاص
الخطاب القرآني ب (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وورود«يا أَيُّهَا
__________________
النّاسُ» في بعض وهو الأقل يحمل على المؤمنين حمل المطلق على
المقيد والعام على الخاص كما هو القاعدة المسلمة بينهم.
احتج العلامة (قدسسره) في المنتهى على ان الكفار مخاطبون بفروع العبادات
بوجوه :
(منها) ـ قوله
سبحانه : «...
وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...» و «يا
أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...» .
و (منها) ـ ان
الكفر لا يصلح للمانعية حيث ان الكافر متمكن من الإتيان بالايمان أولا حتى يصير
متمكنا من الفروع.
و (منها) ـ قوله
تعالى : «لَمْ
نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» وقوله تعالى : «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى» وقوله تعالى : «... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ...» .
والجواب عن الأول
بما عرفته من الاخبار الدالة على عدم التكليف الا بعد معرفة المكلف والمبلغ ، وبما
ذكر في الوجه الثالث والسادس.
وعن الثاني انه
مصادرة محضة.
وعن الثالث بعد
تسليم جواز الاستدلال بظواهر الآيات القرآنية ، أما الآية الأولى فبالحمل على
المخالفين المقرين بالإسلام ، إذ لا تصريح فيها بالكفار ، ويدل عليه ما ورد في
تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (رضياللهعنه) من تفسيرها باتباع الأئمة
(عليهمالسلام) اي لم نك من اتباع الأئمة (عليهمالسلام) وهو مروي عن الصادق (عليهالسلام) وفسر (عليهالسلام) المصلى في الآية بمعنى الذي يلي السابق في الحلبة ،
قال فذلك الذي عنى حيث قال : «لَمْ
نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» اي لم نك من اتباع
__________________
السابقين ، وعن الكاظم (عليهالسلام) يعني انا لم نتول وصي محمد (صلىاللهعليهوآله) والأوصياء من بعده ولم نصل عليهم. وفي هذه الاخبار
وأشباهها ما يؤيد ما حققناه في المقدمة الثالثة من عدم جواز المسارعة إلى
الاستدلال بالظواهر بدون مراجعة التفسير عنهم (عليهمالسلام) واما الآية الثانية فبجواز حمل الصلاة فيها على ما دلت
عليه الاخبار في الآية الأولى ، فإن اللفظة من الألفاظ المجملة المتشابهة المحتاج
في تعيين المراد منها الى التوقيف ، فالاستدلال بها والحال كذلك مردود بتصادم
الاحتمالات فيها والدخول تحت قوله : «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ... الآية» على ان ما ذكرنا من المعنى هو الموجود في تفسير
الثقة الجليل علي بن إبراهيم كما لا يخفى على مراجعة. واما الآية الثالثة فيما
عرفت في الوجه الأول من الخبر الوارد بتفسيرها.
وقد جرى بيني
وبين بعض مشايخي المعاصرين من علماء بلادنا البحرين كلام في هذه المسألة ، فأظهرت
له صحيح زرارة المتقدم والخبر الوارد في تفسير قوله سبحانه : «... وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ ...» ولم يحضر ببالي في ذلك الوقت سواهما ، فلم يجب عنهما بمقنع ، وهو لم يرجع
عن القول المشهور متمسكا بالإجماع عليه وعدم المخالف ، وعلى هذا كانت طريقتهم (رضياللهعنهم) من الجمود على المشهورات سيما مع زخرفتها بالإجماعات.
المقصد الثاني
في الغاية والمراد
بها ما لا يستباح فعله الا بالغسل ، ومنها الواجب أصالة أو بعارض فيجب المغيا بها
، ومنها ما ليس كذلك فيكون شرطا في استباحته ، وهي أمور :
(الأول) ـ الصلاة
وهي ان كانت واجبة فوجوب الغسل لها مما انعقد عليه الإجماع فتوى ودليلا آية
ورواية.
لكن الوجوب هنا
محتمل لمعنيين : (أحدهما) ـ ان المراد وجوب الغسل بمعنى أمر الشارع به امرا حتميا
يترتب على مخالفته الإثم للصلاة ، وهذا انما يتم بقوله :
«اغتسل للصلاة» ونحوه مما يؤدي هذا المعنى.
و (ثانيهما) ـ ان
المراد شرطيته لها بمعنى انها لا تصح بدونه.
وغاية ما
يستفاد من الأدلة آية ورواية هو الثاني ، وهذا هو القدر الثابت بالضرورة من الدين.
اما الآية وهي
قوله سبحانه : «...
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، الى قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» فدلالتها على المعنى الأول مبني على عطف قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً» على جزاء
الشرط الذي هو جملة «فَاغْسِلُوا» ودخولها في حيز «إِذا قُمْتُمْ» الا انه يحتمل العطف على جملة «إِذا قُمْتُمْ» وحينئذ فلا دلالة فيها. وفيه (أولا) ـ ان العطف ب «ان»
دون «إذا» يأبى ذلك. و (ثانيا) ـ ان قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» وما بعده الواقع بعد قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً» مندرج تحت
الشرط البتة ، فلو كان قوله : «وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً» الذي هو متوسط بينهما معطوفا على قوله : «إِذا قُمْتُمْ» أو كان مستأنفا لم يتناسق المتعاطفان ، وللزم ان لا
يستفاد الارتباط بين الغسل والصلاة من الآية ، والمعلوم من الاخبار خلافه ، ومن
هنا يستفاد من الآية الوجوب الغيري كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. الا انه قد
تقدم في موثقة ابن بكير تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم ، مع
الإجماع المنقول عن المفسرين على هذا المعنى ، وحينئذ فوجوب الغسل للصلاة في غير
الصورة المذكورة يرجع فيه الى السنة المطهرة ، أو يضم الى ذلك تنقيح المناط القطعي
، للجزم بعدم مدخلية النوم في ذلك الا من حيث أغلبية تأخير الغسل الواقع سببه ليلا
الى الصبح ، وذلك لا مدخل له في ترتب وجوب الغسل على الصلاة.
ومما يدل من
الاخبار على ذلك روايات متفرقة في جزئيات الأحكام المرتبطة
__________________
بذلك ، و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) في رواية زرارة في من ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة حتى
دخل في الصلاة : «... وان رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة.». و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) في رواية الحلبي في من أجنب في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى خرج الشهر :
«عليه ان يغتسل ويقضي الصلاة والصيام». و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) في رواية الحسن الصيقل في من تيمم وقام يصلى فمر به نهر وقد صلى ركعة : «فليغتسل
وليستقبل الصلاة». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.
(الثاني) ـ الطواف
وسيأتي الكلام عليه بقسميه ان شاء الله تعالى في كتاب الحج
(الثالث) ـ مس
كتابة القرآن ، وهو ان كان واجبا فالغسل له واجب والا فهو شرط في استباحته. وكل
منهما مبني على تحريم المس على المحدث حدثا أكبر ، والظاهر انه إجماعي كما نقله
غير واحد من معتمدي الأصحاب ، بل نقل في المعتبر والمنتهى انه إجماع علماء الإسلام
، ونقل عن العلامة في النهاية انه لا خلاف هنا في تحريم المس وان وقع الخلاف في
الحدث الأصغر. ونقل الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد القول بالكراهة ، وذكر انه
كثيرا ما يطلق الكراهة ويريد التحريم فينبغي ان يحمل كلامه عليه. وهو جيد فإن
إطلاق الكراهة في كلام المتقدمين كما في الاخبار شائع. واما نقل ذلك عن المبسوط
كما في المدارك فقد رده جمع ممن تأخر عنه بأنه سهو وانه انما صرح بذلك في الحدث
الأصغر واما الأكبر فقد صرح فيه بالتحريم ، وجنح في المدارك بعد نقل القول
بالكراهة عن ابن الجنيد والمبسوط الى ذلك زاعما ضعف الأدلة سندا ودلالة. وتحقيق
البحث في هذه المسألة وفروعها قد تقدم مستوفى في المطلب الثاني من الباب الثاني
__________________
الا انه نقل
هنا عن السيد المرتضى (رضياللهعنه) تحريم مس هامش القرآن للجنب والحائض ، ولم
نقف له على دليل ، وربما استدل له على ذلك بحسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب
ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة.». ورواية إبراهيم بن عبد الحميد عن ابي
الحسن (عليهالسلام) قال : «المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمسه
خطه ولا تعلقه.». ولا يخفى ما فيهما من قصور الدلالة على ذلك.
(الرابع) ـ مس
ما عليه اسم الله تعالى من دراهم وغيرها ، وقد وقع في كلام جملة من الأصحاب
التعبير بمثل ما ذكرنا الا ان الظاهر ان المراد من ذلك مس نفس الاسم كما هو صريح
المحقق (رحمهالله تعالى) في المعتبر ، حيث قال : «ويحرم عليه مس اسم الله
سبحانه ولو كان على درهم أو دينار أو غيرهما» والمعروف من كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) من غير خلاف هو التحريم.
واستدل عليه في
المعتبر بموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله».
وطعن جملة من
متأخري المتأخرين في الخبر المذكور بضعف السند ومعارضته بما رواه في المعتبر من
كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن ابي الربيع عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله؟ قال : لا بأس به ربما
فعلت ذلك».
ومما يعضد
موثقة عمار ظاهر القرآن من قوله سبحانه : «... وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» الدال ظاهرا على ان عدم التعظيم صادر عن عدم التقوى
__________________
لما قيل من ان علة النقيض نقيض العلة.
وظاهر حسنة
داود بن فرقد عنه (عليهالسلام) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض. قال نعم لا
بأس. قال وقال : تقرأه ولا تكتبه ولا تصيبه يدها».
ورواية منصور
بن حازم الدالة على ان جواز تعليق التعويذ على الحائض مشروط بما
إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة أو حديد لئلا يستلزم مس الكتابة.
ومما يعضد
رواية أبي الربيع ايضا ما رواه في المعتبر من جامع البزنطي عن محمد ابن مسلم عن
ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب. فقال
: اي والله اني اوتى بالدرهم فآخذه واني لجنب. وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا الا
ان عبد الله بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا ، يقول جعلوا سورة من القرآن في الدرهم
فيعطى الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير». وقوله : «وما سمعت أحدا. إلخ»
يحتمل لان يكون من كلام الامام (عليهالسلام) وان يكون من كلام محمد بن مسلم ، والأول أظهر ، وبه
يقوى الاستدلال بالخبر على الجواز.
وموثقة إسحاق
بن عمار عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجنب والطامث يمسان بأيديهما الدراهم
البيض. قال : لا بأس».
ويمكن الجمع
بحمل موثقة عمار على مس نفس الاسم وان عبر عنه بمس الدرهم والدينار كما وقع في
جملة من عبائر الأصحاب ، وخبر ابي الربيع على مس الدرهم من غير تعد الى الاسم الذي
عليه. واما العمل بروايات الجواز لموافقتها الأصل وحمل ما دل على المنع على
الكراهة فظني بعده ، إذ نسبته (عليهالسلام) ذلك الى نفسه في رواية أبي الربيع مما يبعد ذلك. وكيف
كان فسبيل الاحتياط واضح.
والحق جملة من
الأصحاب تبعا للشيخين (قدسسرهما) باسمه سبحانه أسماء
__________________
الأنبياء والأئمة (عليهمالسلام) ولم نقف له على مستند ولعله مجرد التعظيم. والله اعلم.
(الخامس) ـ دخول
المسجدين ولو اجتيازا ، ولا خلاف فيه بين الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) فيما
اعلم.
ويدل عليه حسنة
جميل قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال : لا ولكن يمر فيها
كلها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله)». وروايته الأخرى ورواية محمد بن حمران وحسنة محمد بن مسلم .
ونقل في الذكرى
عن الصدوقين والمفيد انهم أطلقوا المنع عن دخول المساجد الا اجتيازا ، وربما أشعر
ذلك بجواز الاجتياز في المسجدين ، وهو ضعيف بما ذكرنا من الاخبار
بقي هنا شيء
لم يتنبه له لأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما وقفت عليه من كتبهم وهو جواز دخول
مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) له وللمعصومين من آله (صلوات الله عليهم) مع الجنابة
بل اللبث فيه وان ذلك من جملة خصائصهم.
فمما وقفت عليه
من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده فيه عن الرضا عن آبائه عن
أمير المؤمنين (عليهمالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : لا يحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد إلا انا وعلي
وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنه مني».
وما رواه فيه
ايضا وفي كتاب عيون اخبار الرضا (عليهالسلام) في حديث طويل عنه (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : ألا ان هذا المسجد لا يحل لجنب الا لمحمد وآله».
وما رواه في
كتاب العلل بسنده الى ابي رافع قال : «ان رسول الله (صلى
__________________
الله عليه وآله) خطب الناس فقال : ايها الناس ان الله أمر موسى وهارون ان
يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء
إلا هارون وذريته ، وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى ، ولا يحل لأحد ان يقرب
النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب الا على وذريته.».
ورواه فيه ايضا بسند آخر قريبا من ذلك وقال فيه : «ثم أمر موسى ان
لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله جنب إلا هارون وذريته ، وان عليا مني بمنزلة
هارون من موسى وهو أخي دون أهلي ، ولا يحل لأحد ان ينكح فيه النساء الا علي
وذريته.».
وفيها زيادة
على ما ذكرنا حل النكاح لهم فيه فضلا عن الدخول بالجنابة وما رواه في تفسير الامام
(عليهالسلام) روى عن آبائه (عليهمالسلام) عن النبي (صلىاللهعليهوآله) في حديث سد الأبواب انه قال : «لا ينبغي لأحد يؤمن
بالله واليوم الآخر ان ببيت في هذا المسجد جنبا الا محمد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم.
(السادس) ـ اللبث
فيما عدا المسجدين من المساجد ، والظاهر ان الحكم موضع وفاق بين الأصحاب ما عدا
سلار حيث نقل عنه القول بالكراهة.
ويدل على
المشهور قوله سبحانه : «...
وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ...» المفسر في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) المروية في كتاب العلل بذلك حيث قالا : «قلنا له : الحائض والجنب يدخلان
المسجد أم لا؟ فقال : الجنب والحائض لا يدخلان المسجد الا مجتازين ، ان الله تبارك
وتعالى يقول : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا. الحديث».
ورواه العياشي
في تفسيره عن الباقر (عليهالسلام) والثقة الجليل علي بن إبراهيم
__________________
القمي في تفسيره عن الصادق (عليهالسلام) وبه يظهر لك ضعف كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين حيث
قال : «واما الاستدلال بالآية فمشكل ، لعدم تعين هذا المعنى فيه واحتمال غير ذلك
كما عرفت سابقا» انتهى. وفيه ان الاحتمالات المذكورة في كلام سائر المفسرين لا
تعارض تفسير أهل البيت (عليهمالسلام) سيما مع صحة سند الرواية وتعدد الناقل لها عنهم (عليهمالسلام) إذ القرآن عليهم انزل وإليهم يرجع فيما أبهم منه
وأجمل.
ويدل على ذلك
أيضا الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ حسنة جميل المتقدمة والروايات الأخر التي بعدها واخبار أخر طوينا ذكرها.
ولم نقف لسلار
على دليل سوى التمسك بالأصل ، ولا ريب في ضعف التمسك به بعد ما عرفت.
وربما يستدل له
بصحيحة محمد بن القاسم قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال : يتوضأ ولا بأس ان
ينام في المسجد ويمر فيه».
وفيه (أولا) ـ انها
أخص من المدعى. و (ثانيا) ـ انها مخالفة للآية والرواية المستفيضة فيجب طرحها ،
قال في المعتبر بعد نقلها : «انها متروكة بين أصحابنا لأنها منافية لظاهر التنزيل»
واحتمل بعض الأصحاب حملها على التقية لموافقتها لمذهب بعض العامة. وهو جيد فإنه
منقول عن احمد بن حنبل حيث قال : «إذا توضأ الجنب جاز ان يقيم في المسجد كيف
شاء» بل لو لم ينقل القول بذلك عن أحد منهم فالحمل على التقية متعين كما نبهنا
عليه غير مرة.
__________________
واما حمل
المحدث الكاشاني في الوافي ـ التوضؤ المأمور به على تطهير البدن بالغسل ـ فظني
بعده.
وظاهر الصدوق (قدسسره) في الفقيه القول بمضمون الرواية المذكورة ، حيث قال : «ولا
بأس ان يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب ، الى ان قال : وينام في المسجد ويمر فيه»
ومثله في المقنع ، وظاهره تخصيص الإباحة بالنوم من افراد اللبث ، ولم يذكر التوضؤ
الذي في الرواية.
وكيف كان فهو
محجوج بالآية والرواية المستفيضة ، فروايته مطروحة لمخالفتها القرآن الذي هو
المحكم في الاخبار عند تعارضها ، بل مع عدم التعارض ايضا كما تقدم تحقيقه في
مقدمات الكتاب ، وضعفها عن معارضة ما ذكرنا من الاخبار.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام بعض محققي متأخري المتأخرين ، حيث قال ـ بعد نقل الرواية المذكورة ونقل
كلام المعتبر واحتمال الحمل على التقية ـ ما صورته : «ولا يذهب عليك انه لو لم تكن
الشهرة العظيمة بين الأصحاب لأمكن الجمع بين الروايات بحمل ما تقدم على الكراهة
وبحمل هذه الرواية على نفي الحرمة ، لكن الاولى اتباع الشهرة» انتهى.
ولا أراك في شك
من ضعف هذا الكلام ان أحطت خبرا بالقواعد المقررة عن أهل الذكر (عليهمالسلام) والعجب منه (قدسسره) ومن أمثاله انهم يعتمدون على الشهرة بين الأصحاب
ويلتجؤون إليها في جميع الأبواب ، ويتركون الشهرة في الأخبار التي هي أحد المرجحات
المروية في هذا المضمار ، ويبنون في الجمع بين الاخبار على ارتكاب المجاز في الأمر
والنهى. وفيه ـ مع انه لا مستند له في الشريعة ـ انه لا قرينة ثمة لتكون الوسيلة
الى ذلك والذريعة ، وقد تقدم لك في مقدمات الكتاب ما في البناء على هذه القاعدة من
الاضطراب.
بقي هنا شيء
وهو ان المحرم هنا انما هو اللبث اما الاجتياز فهو جائز بالآية
والرواية ، لكن هل المراد بالاجتياز ان يدخل من باب ويخرج من آخر ، أو يشمل
الدخول والخروج من باب واحد من غير لبث ولا تردد ، أو يشمل التردد مغدا ومجيئا في
نواحي المسجد؟ المقطوع به من ظاهر الآية والرواية الواردة في تفسيرها هو الأول ،
وفي شمولها للثاني احتمال ليس بذلك البعيد ، واما الثالث فالظاهر القطع بعدمه ،
وبه صرح العلامة على ما نقل عنه ، لكن في رواية العلل المشار إليها آنفا قال : «للجنب ان يمشي في المساجد كلها ولا يجلس فيها
الا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله)». والظاهر ان إطلاقها يحمل على ما افاده غيرها من
التقييد.
وألحق جملة من
متأخري أصحابنا بالمساجد الضرائح المقدسة والمشاهد المشرفة ، ورده جملة من متأخري
المتأخرين بعدم المستند الموجب للتحريم.
أقول : ويمكن
الاستدلال عليه بظاهر آية تعظيم شعائر الله وبالأخبار الدالة على عدم جواز دخول الجنب بيوتهم احياء
، ولا ريب ان حرمتهم أمواتا كحرمتهم احياء
ومن تلك
الاخبار ما رواه الصفار في كتاب بصائر الدرجات في الصحيح عن بكر بن محمد قال : «خرجنا من المدينة نريد
أبا عبد الله (عليهالسلام) فلحقنا أبو بصير خارجا من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم
حتى دخلنا على أبي عبد الله (عليهالسلام) فرفع رأسه الى ابي بصير فقال : يا أبا محمد أما تعلم
انه لا ينبغي لجنب ان يدخل بيوت الأنبياء؟ قال : فرجع أبو بصير ودخلنا». ومثله روي
في كتاب قرب الاسناد.
وروى الكشي في
كتاب الرجال بسنده عن بكير قال : «لقيت أبا بصير فقال اين تريد؟
فقلت : أريد مولاك. قال انا أتبعك. فمضى فدخلنا عليه ، واحد
__________________
النظر اليه وقال : هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب؟ فقال أعوذ بالله من
غضب الله وغضبك وقال استغفر الله ولا أعود». وروى نحوه الشيخ المفيد في الإرشاد
ورواه في كشف الغمة نقلا عن دلائل الحميري.
وظاهر الاخبار
المذكورة تحريم مجرد الدخول وان كان لا مع اللبث ، الا ان يقال ان إنكاره (عليهالسلام) على ابي بصير لعلمه بإرادته اللبث ، والأول أقرب.
(السابع) ـ وضع شيء في المساجد دون الأخذ منها ، وهو موضع وفاق ايضا ما
عدا سلار ، فإنه نقل عنه القول بالكراهة ، ويضعف بالأخبار الدالة على المنع :
و (منها) ـ صحيحة
عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟
قال : نعم ولكن لا يضعان في المسجد شيئا».
وصحيحة زرارة
ومحمد بن مسلم المنقولة آنفا من كتاب العلل حيث قال (عليهالسلام) بعد ذكر ما قدمنا نقله منها : «ويأخذان من المسجد ولا
يضعان فيه شيئا قال زرارة فقلت له : فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال :
لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه الا منه ويقدران على وضع ما بأيديهما في غيره.
الحديث».
ونقل عن بعض
المتأخرين تخصيص التحريم بالوضع المستلزم للبث في سائر المساجد والدخول في
المسجدين ، ونقل عنه الاستدلال بأنه قد تعارض إطلاقا تحريم الوضع وتجويز المشي
والمرور فيتساقطان ويرجع الى حكم الأصل خصوصا مع أغلبية اقتران الوضع باللبث. ورد
بان ظاهر النص تعليق التحريم على الوضع مطلقا ولو كان من خارج والا لم يبق لتعلق
التحريم على الوضع معنى ، لان فيه أخذ ما ليس بعلة ولا مستلزم للعلة مكانها ، ومنه
يظهر ان إطلاق تحريم الوضع لا ينافي إطلاق تجويز المرور والمشي ليتساقطا ويرجع الى
حكم الأصل كما احتج به ، إذ تحريم أحد المتقارنين اللذين لا تلازم بينهما
__________________
يجامع تجويز الآخر كما لا يخفى ، وأيضا فإن الخبر المذكور الذي هو مستند
الحكم في تحريم الوضع دل على اباحة التناول وتحريم الوضع ، فلو خص تحريمه بما ذكر
لم يظهر للفرق بينه وبين التناول وجه ، إذ إباحة التناول مقيدة بما إذا لم يستلزم
لبثا كما هو الظاهر فتوى ودليلا (فان قيل) : ان التناول من حيث هو مباح وان كان
مقارنه محرما (قلنا) : ان الوضع من حيث هو محرم وان كان مقارنه مباحا ، بل ما نحن
فيه أولى ، إذ مقارنة المباح للحرام ان لم توجب حرمة المباح فان لا توجب اباحة
الحرام اولى ، هذا كله مع قطع النظر عن ظاهر التعليل الذي في رواية العلل ، والا
فمع النظر اليه لا يبقى لاعتبار القول المذكور ما يوجب النقل في السطور.
(الثامن) ـ قراءة
إحدى العزائم الأربع وهي سجدة «ألم السجدة» و «حم السجدة» و «النجم» و «اقرأ» ومن
العجب سهو جملة من المتقدمين : منهم ـ الصدوق (رحمهالله) في المقنع والفقيه وجرى عليه جملة من تأخر عنه من عد
سجدة «لقمان» عوض «الم السجدة» مع ان سورة «لقمان» ليس فيها سجدة وانما السجدة في
السورة التي تليها وهي «الم».
هذا ، والظاهر
ان الحكم موضع وفاق كما نص عليه في المعتبر والمنتهى ، الا ان جل المتأخرين ناطوا
الحكم بمجموع السورة حتى البسملة إذا قصد بها احدى السور الأربع ، وظاهر الاخبار
لا يساعدهم على ذلك.
فمن الأخبار الدالة
على الحكم المذكور حسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) المتقدمة في حكم مس كتابة القرآن .
وموثقة زرارة
ومحمد بن مسلم عنه (عليهالسلام) قال : «الحائض والجنب يقرءان شيئا؟ قال : نعم ما شاء
الا السجدة ويذكران الله على كل حال».
وروى ذلك في
المعتبر عن جامع البزنطي عن الصيقل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) .
__________________
وأنت خبير بان
الظاهر من هذه الاخبار هو قصر الحكم على نفس السجدة دون سورتها. ووجهه شيخنا
المحقق في كتاب رياض المسائل بأن السجدة في الأصل مصدر للمرة من السجود ، وليس
المراد به هنا حقيقته بل معناه المجازي وهو سبب السجدة أو محلها ، وليس شيء من
أبعاض السورة المذكورة سوى موضع الأمر بالسجود سببا ولا محلا. ومن ذلك يظهر ان لا
مستند لعموم الحكم سوى الإجماع المدعى في المسألة. وقد عرفت في المقدمة الثالثة ما
في هذه الإجماعات المتناقلة في أمثال هذه المقامات ، سيما مع معارضة الأصل له هنا
والعمومات من الكتاب والسنة الدالة على استحباب قراءة القرآن ، وحينئذ فالأظهر ـ كما
استظهره جملة من متأخري المتأخرين ـ قصر الحكم بالتحريم على موضع ذكر السجود.
الا انه قد ورد
في جملة من الاخبار ـ منها الصحيح وغيره ـ جواز ان يقرأ الجنب من القرآن ما شاء :
فمن ذلك صحيحة
الفضيل بن يسار عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «لا بأس ان تتلو الحائض والجنب القرآن».
وفي صحيحة
الحلبي «في النفساء والحائض والجنب والمتغوط يقرأون القرآن؟ فقال يقرأون ما شاءوا».
ومن أجل هذه
الاخبار مضافا الى عموم ظاهر الكتاب لم يعتمد شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل
الا على الإجماع المدعى في المقام ، مؤيدا ذلك بالطعن في دلالة تلك الاخبار على
المدعى بأنه كما يحتمل الاستثناء في قوله : «نعم ما شاءا إلا السجدة» ان يكون
استثناء من أصل جواز قراءة القرآن يحتمل ان يكون استثناء من استحبابها ولا يفيد
الا رفع الاستحباب ولا يقتضي التحريم. وفيه ان اخبار السجدة مقيدة وتلك مطلقة
والمقيد يحكم على المطلق ، وعمومات الكتاب وإطلاقاته تخصص بالسنة كما وقع
__________________
في غير موضع ، وقد مر تحقيق القول فيه في مقدمات الكتاب ، واحتمال
الاستثناء من الاستحباب بعيد من سياق الأخبار ، إذ سياق ما فيها من الأحكام
المشتملة عليها في غير موضع النزاع كله بالنسبة إلى الجواز وعدمه من دخول المساجد
واللبث فيها ودخول مسجدي الحرمين والوضع في المسجد والأخذ منه ، على انه لا معنى
هنا للاستثناء من الاستحباب بعد ثبوت أصل الجواز ، إذ بعد ثبوت الجواز يلزم
الاستحباب الذي هو عبارة عما يوجب ترتب الثواب على ذلك ، إذ قراءة القرآن من جملة
العبادات البتة فالمناسب هو السؤال عن أصل الجواز وعدمه.
ونقل عن الشيخ
في التهذيب انه استدل على الحكم المذكور بان في هذه السور سجودا واجبا ولا يجوز
السجود الا لطاهر من النجاسات بلا خلاف ، مع انه قال بعيد هذا باستحباب السجود
للطامث.
(التاسع) ـ الصوم
، ووجوب الغسل للواجب منه وشرطيته للمستحب هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ونقل عن الصدوق (رضياللهعنه) القول بعدم الوجوب ، واليه مال المحقق
الأردبيلي ، واختاره العلامة الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد كما صرح به في
رسالته الموضوعة في مسائل التنزيل. والاخبار من الطرفين متعارضة الا أن الاخبار
الدالة على القول المشهور أكثر عددا وأصرح دلالة ، وسيجيء نشر الاخبار في المسألة
ان شاء الله تعالى في كتاب الصوم.
والأظهر العمل
على المشهور (اما أولا) ـ فلاعتضاد اخباره بعمل الطائفة قديما وحديثا بذلك ، ولم
ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من متقدمي الأصحاب إلا عن الصدوق وفي ثبوت النقل إشكال
، فإنه لم يصرح بذلك في فقيهه ولا في شيء من كتبه ، وانما نسب اليه القول بذلك
برواية رواها في المقنع حيث قال : «وسأل حماد بن عثمان أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان من أول الليل فاخر الغسل
__________________
الى ان يطلع الفجر. فقال : قد كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يجامع نساءه من أول الليل ويؤخر الغسل الى ان يطلع
الفجر ، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوما مكانه». قالوا : ومن عادته في
الكتاب المذكور الإفتاء بمتون الاخبار. وفي ثبوت نسبة القول المذكور له بذلك تأمل
، سيما مع نقله في فقيهه جملة من الاخبار الدالة على القضاء بترك الغسل وان كان
نسيانا المؤذن بموافقة القول المشهور. والمعهود منه عدم الاختلاف في الفتوى في
كتبه كما هو الطريق الذي عليه غيره من المحدثين.
و (اما ثانيا)
ـ فلان من القواعد المقررة عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) عرض الاخبار عند
اختلافها على مذهب العامة والأخذ بخلافه ، والاخبار المخالفة للمشهور موافقة لهم ،
وفي بعض منها ما يؤذن بذلك كإسناد الإمام (عليهالسلام) النقل إلى عائشة في رواية إسماعيل بن عيسى واشعار ظاهر رواية حماد المتقدمة بمداومته (صلىاللهعليهوآله) على ذلك ، ومن البعيد مداومته على المكروه ان لم نقل
بالتحريم وما ربما يقال ـ من ان اخبار المشهور وان ترجحت بمخالفة العامة إلا ان
اخبار القول الآخر معتضدة بظاهر القرآن ، وهو قوله سبحانه : «أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ... الآية» الدال بإطلاقه على التحليل في كل جزء من اجزاء الليل
التي من جملتها الجزء الأخير ـ
فالجواب عنه ـ بعد
تسليم جواز الاستدلال بالظواهر القرآنية بغير تفسير وارد فيها عن أهل العصمة (سلام
الله عليهم) ـ بأنه قد تقدم في المقدمة السادسة الإشارة إلى انه لا يصح الاختلاف
بين هاتين القاعدتين. بمعنى ان كل ما خالف العامة من الاخبار الخارجة عنهم (عليهمالسلام) فهو موافق للقرآن العزيز وان لم يهتدوا الى وجه
الموافقة ولا يجوز ان يكون مخالفا له ، وذلك لان الأحكام الواقعية الخارجة لا على
جهة التقية
__________________
لا يجوز مخالفتها للقرآن كما تقدم بيانه ثمة ، وما عليه العامة فهو خلاف
الحنيفية ، لما استفاض من انهم ليسوا من الحنيفية على شيء ، وانه لم يبق في
أيديهم إلا استقبال القبلة وانهم ليسوا الا مثل الجدر المنصوبة ، ونحو ذلك مما
تقدم ذكره ثمة أيضا ، وحينئذ فنقول فيما نحن فيه ان إطلاق الآية مخصوص بالأخبار
الدالة على وجوب الغسل ، وقد حققنا في المقدمة المشار إليها آنفا انه لا منافاة
بين المطلق والمقيد ولا بين العام والخاص حتى يتجه الترجيح بالآية في هذا المقام.
ثم ان وجوب
الغسل للصوم على القول به هل يختص بما إذا بقي من الليل مقدار ما يغتسل خاصة ،
فعلى هذا لا يكون الصوم غاية للغسل الا مع تضيق الليل بحيث لا يبقى منه الا قدر
فعله علما أو ظنا ، فلو أوقعه المكلف قبل ذلك لم يكن الصوم غاية له لعدم المخاطبة
به حينئذ ، أو يجوز إيقاعه بنية الوجوب من أول الليل وان قيل بوجوبه لغيره؟ قولان
، وظاهر الأكثر الأول ونقل السيد السند في المدارك عن بعض مشايخه ـ والظاهر انه
المولى الأردبيلي (قدسسره) ـ الثاني ، الا انه في المدارك تأوله بالحمل على
الوجوب الشرطي زاعما انتفاء الوجوب بالمعنى المصطلح عليه قطعا على هذا التقدير ،
ويظهر من كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين ان الوجوب هنا
على تقدير القول به هو الوجوب المصطلح ، حيث قال ـ في جواب استدلال القائلين بوجوب
الغسل لنفسه بأنه لو لم يجب لنفسه لم يجب قبل الفجر للصوم لعدم وجوب المغيا قبل
وجوب الغاية ـ ما لفظه : «واما وجوب غسل الجنابة قبل الفجر للصوم فلوجوب توطين
النفس على ادراك الفجر طاهرا والغاية واجبة» انتهى.
أقول : والأظهر
في بيان الوجوب هنا ان يقال انه لا شك ان الغسل مما يتوقف عليه الصوم الواجب ولا
يتم الا به ، وقد تقرر في الأصول ان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ، كما قالوا
ان قطع المسافة واجب للحج مع انه لا يقع الا قبل الحج ، وبالجملة فإنه إذا علم أو
ظن وجوب الغاية في وقتها فإنه لا مانع من وجوب المقدمة وان لم تجب
الغاية بعد لكن وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بتضيق الغاية ، والى ذلك يشير
كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في تعليقاته على المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل كلام
السيد (قدسسره) وتأويله كلام بعض مشايخه ـ ما صورته : «قلت : مقصوده
بالوجوب المعنى المصطلح عليه فإنه صالح للنزاع والترجيح ، وان شئت تحقيق المقام
فاستمع لما نتلو عليك من الكلام والله الموفق ، فنقول : مقدمات الواجب المضيق
كالصوم يجب تحصيلها قبل وقته ، وبعض مقدمات الواجب الموسع وهو ما لا يسعه وقته
كذلك ، ومنه وجوب معرفة الصلاة واجزائها قبل دخول وقتها ، والغسل كالنية من شرائط
صحة الصوم ومقدماته فيجب من الليل وجوبا موسعا ، لان الوجوب من باب المقدمة انما
يكون بحسبه وهو لا يقتضي إلا الوجوب الموسع ، وما ثبت من انه إذا كان من عادته
استمرار نومه الى طلوع الفجر لا يجوز له النوم اختيارا قبل الغسل يدل على وجوبه
وجوبا موسعا ، وايضا تعلق تكليف الشارع بأمر في وقت غير منضبط غير مستقيم. والله
أعلم بحقائق أحكامه. وبعد ما عرضت ذات ليلة في خير البلاد هذه الدقيقة على الأستاذ
العلامة والحبر الفهامة مجتهد زمانه ووحيد أو انه ميرزا محمد باقر الأسترآبادي (أطال
الله بقاءه) سمعت منه انه في عنفوان الشباب تفطن لهذه الدقيقة وذكرها للعالم
الرباني مولانا أحمد الأردبيلي (رحمهالله) فلم يرض بها وطال البحث بينهما من غير فيصل ، ثم رجع
العالم المذكور الى قوله وذكرها في بعض تصانيفه» انتهى كلامه زيد مقامه. وهو جيد
الا انه سيأتي في مسألة وجوب الغسل لنفسه أو لغيره من ظاهر كلامهم ما يدل على
الغفلة عن هذه المسألة.
واما شرطية
الغسل للصوم المستحب فهو قول الأكثر من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ومال جملة من
متأخري المتأخرين إلى العدم ، وتحقيق المسألة مع ما يتعلق بها من الاخبار سيأتي في
موضعه ان شاء الله تعالى.
تكملة
تقييد وجوب
الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقيل بوجوبه في
نفسه ، اختاره القطب الراوندي ، وذهب إليه العلامة ونقله عن والده سديد الدين يوسف
بن المطهر ، ومال اليه من متأخري المتأخرين الفاضل الخراساني في الذخيرة وقبله
السيد السند في المدارك ، والبحث في المسألة وان كان قليل الجدوى عندنا لانحصار
فائدة الخلاف في وجوب نية الوجوب قبل الوقت وعدمه ، مع انك قد عرفت مما قدمنا في
مبحث نية الوضوء عدم الدليل على ذلك ، إلا أنا جريا على منوالهم (قدس الله أرواحهم
وطيب مراحهم) قد قدمنا لك في البحث عن غاية الوضوء ما يفي بتحقيق الحال وازالة
الإشكال ، من ذكر ما يدل على الوجوب الغيري والجواب عما يدل على الوجوب النفسي ، الا
انه بقي مما يدل على الوجوب الغيري في خصوص هذه المسألة مما لم نتعرض له آنفا
الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : «... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً
فَاطَّهَّرُوا ...» وقد تقدم في أول هذا المقصد بيان دلالتها على ذلك. واما
ما أجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك ـ من ان غاية ما يلزم منه وجوبه
لأجل الصلاة وذلك لا ينافي وجوبه لنفسه ايضا ، فيجوز ان يجتمع فيه الوجوبان ، ولا
يفهم منه التخصيص ولا يراد البتة ، لوجوبه لغير الصلاة كالطواف ومس كتابة القرآن
وغيرها بالاتفاق ـ فمدخول بما قدمنا تحقيقه في مبحث غاية الوضوء.
واستدل جملة من
متأخري المتأخرين على ذلك أيضا بأخبار الجنب إذا فاجأها الحيض قبل الغسل :
و (منها) ـ حسنة
عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليهالسلام)
__________________
«في المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل؟ قال : قد جاءها ما يفسد
الصلاة فلا تغتسل».
ورواية سعيد بن
يسار عنه (عليهالسلام) «في المرأة ترى الدم وهي جنب أتغتسل من الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟
فقال : قد أتاها ما هو أعظم من ذلك».
وموثقة حجاج
الخشاب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ ، أتجعله غسلا
واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين؟ قال تجعله غسلا واحدا عند طهرها». ومثلها موثقات
زرارة وابي بصير وعبد الله بن سنان
و (منها) ـ موثقة
عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة بواقعها زوجها ثم تحيض قبل ان
تغتسل؟ قال : ان شاءت ان تغتسل فعلت وان لم تفعل ليس عليها شيء ، فإذا طهرت
اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة».
وجه الاستدلال
بها انها قد اشتركت ما عدا الأخيرة في الدلالة على تأخير غسل الجنابة الى بعد
الطهر من الحيض وجعل الغسلين غسلا واحدا ، وهو مؤذن لا أقل بمرجوحية المبادرة إلى
الفعل حينئذ مع ان قضية الوجوب النفسي لا أقل رجحان المبادرة إلى الواجب وان كان
موسعا ، سيما مع قوله (عليهالسلام) في الرواية الأولى : «قد جاءها ما يفسد الصلاة» مفرعا
عليه قوله : «فلا تغتسل» وقوله في الثانية : «قد أتاها ما هو أعظم من ذلك» المشعر
بطريق الإيماء والتنبيه بأن العلة في وجوب غسل الجنابة رفع المفسد للصلاة الذي هو
حدث الجنابة ، فإذا حصل ما يفسدها واتى ما هو أعظم من ذلك في الإفساد قبل الغسل
انتفت العلة في وجوبه ، فإنه (عليهالسلام) نفى الغسل معللا بفساد الصلاة ، فحاصل كلامه (عليهالسلام) ان الغرض من الغسل الصلاة ولما جاء ما يفسدها فلا غسل
حينئذ.
__________________
ورد باحتمال
حمل الرواية على ان المراد مجيء مفسد الصلاة مانع من الوجوب ، إذ شرط تأثير
المؤثر ارتفاع المانع.
وأجيب بأن حمل
الكلام على هذا المعنى مما يكاد يلحقه بالمعميات والألغاز ، بل الإغراء بالجهل
والخطاب بما له ظاهر مع ارادة خلاف ظاهره من غير نصب قرينة عليه ، وقد ثبت
استحالته على الحكيم في الأصول. فلا يليق نسبته الى سادات الأنام وأبواب الملك
العلام (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
والتحقيق عندي
هو ما افاده بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، من ان الرواية المشار
إليها لا دخل لها في البين ولا تعلق لها بشيء من القولين ، وذلك فان الغرض اللازم
من الغسل هو رفع الحدث أو الاستباحة ، والرواية قد دلت على سقوط الغسل بطرو الحدث
الذي لا يمكن رفعه ولا استباحة الصلاة مع وجوده ، إذ التكليف به والحال كذلك تكليف
بما لا يطاق ، وهو خارج عن حيز الوفاق ولا دخل للوجوب الذاتي أو الغيري فيه ،
وحينئذ فكما ان الرواية المذكورة ترد القول بالوجوب النفسي باعتبار عدم صحة الغسل
في تلك الحال مع ان قضية الوجوب النفسي ذلك ، كذلك ترد القول بالوجوب الغيري
باعتبار ما اتفق عليه القائلون بذلك من صحة الغسل قبل وقت الغاية واجزائه عن الواجب
بعده ، مع انه في تلك الحال غير صحيح ولا مجزئ عن الواجب ، وأيضا فإنه بعد زوال
المانع المذكور يرجع السبب الى مقتضاه ويعود الخلاف بحذافيره ، ومن ذلك يعلم
الكلام في باقي الأخبار. نعم ربما أوهم قوله في موثقة عمار : «ان شاءت ان تغتسل
فعلت» صحة الإتيان بالغسل حينئذ وارتفاع حدث الجنابة. وفيه (أولا) ـ ان ما عدا هذه
الرواية مما هو أكثر عددا وأصرح دلالة قد دل على تأخير الغسل وجعله مع الحيض غسلا
واحدا. و (ثانيا) ـ ان الفريقين متفقون على عدم حصول الرفع والاستباحة بالغسل في
تلك الحال ، فلا ثمرة حينئذ لهذه الصحة ولا اثر يترتب عليها في ذلك المجال ، مع ان
قوله فيها : «فإذا طهرت
اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة» دال على ان الغسل الأول لم يكن مجزئا عن
غسل الجنابة ، فيتعين ان يكون المراد بالغسل المذكور مجرد رفع الأوساخ البدنية
وازالة الأدناس الحسية ، ومن ثم احتمل بعض انه يستنبط من الخبر المشار إليه صحة
الغسل لذلك على الإطلاق أو عند تعذر قصد رفع الحدث ، وأيده بشرعية غسل الاستحاضة ،
وكون الأغسال الواجبة والمستحبة إذا علم من الشارع ان أصل مشروعيتها لذلك كغسل
الجمعة والإحرام لا تتوقف على الطهارة من الحدث وان كانت بحيث لو خلت منه لأفادت
رفعه ، كما قدمنا بيانه في بحث نية الوضوء وينبه على ذلك ما ورد من أمر الحائض
بغسل الإحرام. واما ما ورد في موثقة سماعة عن ابي عبد الله وابي الحسن (عليهماالسلام) : «في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من
الجنابة؟ قال : غسل الجنابة عليها واجب». فغاية ما يدل عليه ان غسل الجنابة لا
يسقط عنها بعروض الحيض بل يجب عليها الغسل إذا طهرت من الحيض وأرادت عبادة وان
اتحد الغسلان كما دلت عليه الأخبار المتقدمة. واما حملها على استحباب غسل الجنابة
في تلك الحال ـ كما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار مستندا إلى موثقة عمار الآنفة ،
فيستفاد منها حينئذ استحباب الغسل في نفسه وان كان واجبا لغيره كما ذكره بعضهم ـ فتكلف
لا ضرورة تلجئ اليه بعد ما ذكرنا ، وكيف يتم الحمل على الاستحباب وقد صرح في
الرواية بالوجوب ، وأي ثمرة لهذا الاستحباب مع وجوب إعادته كما عرفت من موثقة عمار.
وبالجملة ان ما ذكرناه هو المتبادر من حاق اللفظ والمراد مع سلامته من الطعن
والإيراد. نعم يبقى الكلام هنا في ان جملة من القائلين بالوجوب الغيري صرحوا
باستحباب الغسل قبل اشتغال الذمة بالغاية الواجبة ، حتى أورد عليهم الغسل لأجل
الصوم ، فأجاب بعضهم بأن الغاية انما هي توطين النفس على ادراك الفجر متطهرا كما
عرفته آنفا من كلام شيخنا البهائي (عظم الله مرقده) وأجاب آخر بالتخصيص بما عدا
الصوم
__________________
وأنت قد عرفت آنفا ان قضية توقف الواجب عليه وكونه مما لا يتم الواجب إلا
به هو وجوبه متى علم وجوب الغاية في وقتها كما عرفت ، ومن الظاهر ان الصلاة متوقفة
على الغسل فيكون واجبا لأجلها ، وهو كما يحصل بعد دخول الوقت وتستباح به العبادة
حينئذ يحصل ايضا قبل دخوله وتحصل به الاستباحة أيضا ، فكل من الأمرين فرد للواجب ،
فيكون الغسل قبل الوقت واجبا وان قلنا بأنه واجب لغيره ، وحينئذ تضمحل فائدة
الخلاف من البين بناء على وجوب نية الوجه والا فقد عرفت انه لا ثمرة ايضا للبحث في
المقام ، وكذا لو قلنا بوجوبها وقلنا ان قصد الوجوب في المندوب غير ضائر كما
اختاره الشهيد (رحمهالله تعالى).
المقصد الثالث
في الكيفية ،
وهي ـ على ما وردت به نصوص أهل الخصوص (سلام الله عليهم) ـ على وجهين :
(أحدهما) ـ الترتيب
، وهو غسل الرأس أولا ، ومنه الرقبة من غير خلاف يعرف بين الأصحاب ولا اشكال يوصف
في هذا الباب ، الى ان انتهت النوبة إلى جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل
الخراساني في الذخيرة وشيخنا المحقق صاحب رياض المسائل في الكتاب المذكور ،
فاستشكلوا في الحكم لفقد صريح النص في الدخول وعدمه كما ذكره شيخنا المشار اليه ،
ووقع مثل ذلك لشيخنا المعاصر المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (طيب الله
تعالى مرقده) فاستشكل في المسألة وجعلها من المتشابهات ، وطول زمام الكلام في ان
الرقبة غير داخلة في غسل الرأس ، وقال : ان المعروف من كتب اللغة والشرع ان الرقبة
ليست من الرأس ، وانه لم يعرف في كلام أهل العصمة (سلام الله عليهم) نص يتضمن دخول
الرقبة في الرأس وان هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي افتى بها المجتهدون
من غير دليل ، وعين فيها الاحتياط بالجمع
بين غسلها مع الرأس حينئذ كما قاله الأصحاب وغسلها مع البدن كما استظهره.
وقد أجاب الوالد (نور الله ضريحه وطيب ريحه) عن ذلك بما يطول به زمام الكلام ، الا
انه مع طوله لجودة محصوله مما يستحق ان يسطر في المقام ، قال (قدسسره) بعد نقل كلام المحدث المشار إليه : «أقول : المفهوم من
كلام علمائنا (قدس الله أرواحهم) ـ تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى بحيث لم يعلم
خلاف منهم بل هو كالإجماع فيما بينهم ـ ان الواجب هو غسل الرقبة مع الرأس من غير
فرق بين كون الرقبة جزء من الرأس أو خارجة ، وكون إطلاق الرأس على ما يشمل الرقبة
حقيقة على سبيل الاشتراك اللفظي أو مجازا على سبيل التبع ، بل المراد انهما من حيث
تعلق حكم الغسل بهما أمر واحد وعضو واحد بحيث يغسلان معا بلا ترتيب بينهما ويجوز مقارنة
النية لكل منهما ، ولذا ترى الأصحاب (رضوان الله عليهم) تارة يقولون يجب غسل الرأس
مطلقا ، وتارة يقولون غسل الرأس والرقبة ، وتارة غسل الرأس ومنه الرقبة ، وتارة
يصرحون بان الرأس والرقبة في الغسل عضو واحد ، الى غير ذلك من العبارات التي غرضهم
منها وقصدهم مجرد كون الرقبة تغسل مع الرأس سواء كانت جزء من الرأس أو خارجة عنه ،
فلا فائدة حينئذ في هذا الخلاف بعد تصريح الأصحاب بل اتفاقهم على غسلها مع الرأس.
ولنعم ما قال شيخنا في بعض مؤلفاته : «ولا ثمرة في هذا الخلاف بعد الاتفاق على عدم
الترتيب بينهما» انتهى وهو ـ كما ترى ـ صريح في الإجماع على غسلها مع الرأس ،
ويؤيد ذلك ما صرح به بعض المحققين من علمائنا المتأخرين ، حيث قال : «ان الرأس عند
الفقهاء (رضوان الله عليهم) يقال على معان : (الأول) ـ كرة الرأس التي هي منبت
الشعر وهو رأس المحرم (الثاني) ـ انه عبارة عن ذلك مع الأذنين وهو رأس الصائم (الثالث)
ـ انه ذلك مع الوجه وهو رأس الجناية في الشجاج (الرابع) ـ انه ذلك كله مع الرقبة
وهو رأس المغتسل» انتهى كلامه زيدا كرامة ، وهو صريح في ان الرأس في الغسل عند
الفقهاء عبارة عما يشمل الرقبة ، وكأنه حقيقة عرفية عندهم في ذلك. وظاهره الإجماع
على ذلك
كما يفهم من الجمع المحلى. وأنت خبير بان جميع تلك المعاني المذكورة للرأس
مفهومة من الاخبار المروية عن العترة الاطهار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك
الديار ونظر بعين التأمل والاعتبار ، لا انه مجرد اجتهاد بحت وقول على الله بلا
دليل ، كما زعمه ذلك الفاضل الجليل نسجا منه على منوال طائفة من المتأخرين قد سموا
أنفسهم بالأخباريين. وادعوا انهم وفقوا لتحصيل الحق واليقين واطلعوا على اسرار
الدين التي قد خفيت على المجتهدين ، كما يتبجح به مقدمهم في ذلك صاحب الفوائد محمد
أمين ومما يمكن ان يستدل به من الاخبار على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس حسنة
زرارة المذكورة آنفا حيث قال (عليهالسلام): «... ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن
مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين.». فان الخبر ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة بل صريح في
دخول الرقبة في غسل الرأس ، إذ لا تدخل في المنكبين قطعا ، ولا تبقى متروكة بلا
غسل قطعا ، ولا تغسل عضوا واحدا بانفرادها قطعا ، فتحتم دخولها في غسل الرأس وهو
المطلوب ، سواء كان اسم الرأس شاملا لها حقيقة أم مجازا ، فلا يلتفت اذن الى ما
ذكره المعاصر (سلمه الله) واستظهره من خروج الرقبة عن الرأس كما عرفته ، واستناده
ـ فيما استظهره إلى انه المعروف في كتب اللغة والشرع ـ وهم ظاهر ، لأن غاية ما
قاله أهل اللغة ان رأس الإنسان معروف ، وهو لا يفهم منه شيء ، واما في كتب الشرع
فإن أراد بها كتب الفقهاء فقد عرفت دلالتها على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس
تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى ، وان أراد بها كتب الاخبار فلا يخفى انه ليس في
شيء دلالة ظاهرة فضلا عن الصريحة على خروجها عن حكم غسل الرأس ، بل فيها ما هو
صريح في دخولها كحسنة زرارة المذكورة آنفا ، اما ما في صحيحة يعقوب بن يقطين من عطف الوجه على الرأس لقوله (عليهالسلام): «... ثم يصب الماء على
__________________
رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله.». فالظاهر ان المراد به التنصيص على غسل
الوجه من قبيل عطف الجزء على الكل ، لا لكونه خارجا عن اسم الرأس وان غسل الرأس لا
يشمله لو لم يذكر حتى تكون الرقبة خارجة عن غسل الرأس بالطريق الأولى ، إذ لو تم
ذلك لزم الإخلال بذكر غسل الوجه في الاخبار الخالية عن التصريح بالوجه مع ورودها
في معرض البيان وجواب السؤال عن كيفية الغسل ، فلا مندوحة عن التزام دخوله في
الرأس البتة كالتزام دخول الرقبة فيه في حسنة زرارة بل في سائر الأخبار. هذا ،
والعجب منه (سلمه الله) انه جعل المسألة من المتشابهات ، والظاهر انه عنى بها ـ كما
فسره جماعة من الأخباريين ـ ما حصل فيه الاشتباه في نفس الحكم الشرعي بحيث لم يعلم
وجهه ولذا عين فيها الاحتياط ، والحال انه استظهر خروج الرقبة عن حكم غسل الرأس
كما هو صريح عبارته ، فان كان هذا الاستظهار علم مأخذه من الاخبار وظهر لديه صحته
من الآثار ، فالواجب عليه العمل بمقتضاه وعدم الالتفات الى ما سواه ، فمن اين يجب
إذ ذاك الاحتياط؟ ومن اين تكون المسألة من المتشابهات التي حصل فيها الاشتباه؟ إذ
مع الاستظهار للخروج لا اشتباه في الحكم الشرعي عنده ، نعم الاحتياط أمر راجح
للخروج عن عهدة التكليف على اليقين لكنه ليس بواجب على التعيين الا مع عدم ظهور
الحكم الشرعي واشتباهه ، وان كان منشأ هذا الاستظهار مجرد التخمين والاعتبار من
غير دليل واضح من الاخبار ، فهو خلاف ما يتفوه به (سلمه الله) من عدم تعدي الآثار
والوقوف على مقتضى ما ورد عن الأئمة الأطهار ، وبالجملة فالمسألة ليست من الشبهات
كما ادعاه (سلمه الله) اما عندنا فلحكمنا بل جزمنا بدخول الرقبة في حكم غسل الرأس
كما حققناه فيما سلف ، واما عنده فلتصريحه باستظهار خروجها عن غسل الرأس والشبهة
لا تجامع ظهور أحد الطرفين كما هو ظاهر» انتهى كلام الوالد عطر الله مرقده.
أقول : حيث كان
شيخنا المحدث الصالح (قدسسره) شديد التصلب في مذهب الأخباريين اجترأ قلمه على
المجتهدين ، وكان الوالد (نور الله تربته) شديد
التعصب للمجتهدين جرى قلمه بالتعريض بالأخباريين ، وقد عرفت في المقدمة
الثانية عشرة من مقدمات الكتاب ما هو الأليق بالعلماء الأنجاب ، من سد هذا الباب
حذرا من طغيان الأقلام بمثل هذا الخطاب ، وانجراره للقدح في العلماء الأطياب ،
وارتكاب مخالفة السنة في ذلك والكتاب ، وقد أخبرني بعض الثقات انه بعد وقوف المحدث
الصالح على كلام الوالد (قدسسرهما) رجع عما هو عليه إلى موافقة الأصحاب ، وحينئذ فالظاهر
ان ما ذهب اليه ناشىء عن عدم التأمل في المسألة وملاحظة أدلتها. واما الفاضلان
الآخران فظاهر كلاميهما يؤذن بالوقوف على الحسنة المتقدمة لكنهما يدعيان عدم
صراحتها في الحكم المذكور. وفيه ما عرفت من كلام الولد (قدسسره)
أقول : ومما
يستأنس به لدخول الرقبة في غسل الرأس ظاهر موثقة سماعة حيث قال فيها : «... ثم ليصب على رأسه ثلاث مرات ملء
كفيه ثم يضرب بكف من ماء على صدره وكف بين كتفيه ثم يفيض الماء على جسده كله.
الحديث».
ثم ان وجوب
الترتيب بين غسل الرأس والبدن مما انعقد عليه إجماعنا واستفاضت به أخبارنا ، وربما
نقل عن الصدوقين وابن الجنيد العدم ، الا ان كلام الفقيه في صدر الباب فيما نقله
عن أبيه في رسالته اليه وان أشعر بذلك ، حيث انه في بيان الكيفية عطف البدن على
الرأس بالواو ، الا انه في آخر الباب قال فيما نقله عن الرسالة أيضا : «فإن بدأت
بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل رأسك» وهذا الكلام وما قبله مما
أسنده إلى رسالة أبيه عين عبارة كتاب الفقه الرضوي ، وبذلك يظهر لك ما في كلام
صاحب المدارك من توهم عدم اعتبار الصدوقين الترتيب هنا لعدم تعرضهما له في بيان
الكيفية مع اشمال ما ذكراه على الواجب والمستحب ، ولهذا ان جملة من متأخري
المتأخرين إنما نقلوا خلاف الصدوقين وابن الجنيد في نفس البدن.
ومما يدل على
وجوب الترتيب هنا من الاخبار حسنة زرارة قال : «قلت كيف
__________________
يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه شيء غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه
فأنقاه بثلاث غرف ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى
منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وقد رواه في المعتبر عن
زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) وحينئذ فيخرج عن وصمة الإضمار الذي ربما طعن به في
الاخبار ولعله (قدسسره) نقله عن بعض الأصول القديمة التي كانت عنده.
وصحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك
فتغسلهما ثم تغسل فرجك ، ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما
جرى عليه الماء فقد طهر».
وموثقة سماعة
المتقدمة آنفا وحسنة زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثم بدا له ان
يغسل رأسه لم يجد بدا من اعادة الغسل».
ومقطوعة حريز قال فيها : «وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. الحديث».
واما ما ورد
بإزاء هذه الاخبار مما يدل بظاهره على عدم وجوب الترتيب مطلقا ـ
كصحيحة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك
على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق ، ثم تغسل جسدك من لدن قرنك الى
قدميك ، ليس بعده ولا قبله وضوء ، وكل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته. الحديث».
وصحيحة أحمد بن
محمد قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى ، الى ان قال
: ثم أفض على رأسك وجسدك ، ولا وضوء فيه».
__________________
وصحيحة يعقوب
بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) وفيها «ثم يصب الماء على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله
ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه». فان ظاهرها من حيث إطلاقها وإجمالها وورودها في
مقام البيان وجواب السؤال عن الكيفية عدم وجوب الترتيب بين الرأس والجسد ـ فمقتضى
الجمع بينه وبين ما تقدم تقييد إطلاق هذه الاخبار بالاخبار المتقدمة كما هو مقتضى
القاعدة المسلمة.
واما ما ورد في
صحيحة هشام بن سالم ـ قال : «كان أبو عبد الله (عليهالسلام) فيما بين مكة والمدينة ومعه أم إسماعيل فأصاب من جارية
له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها. الحديث». ـ ففيه ان هشام المذكور قد روى القصة
المشار إليها في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه ، فقال : ادن هذه
أم إسماعيل جاءت وانا أزعم ان هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول ، كنت
أردت الإحرام فقلت ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية بالماء فوضعته
فاستخففتها فأصبت منها ، فقلت اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك
فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط
مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها
وضربتها ، فقلت لها هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك». ومن ثم حمل الشيخ (رحمهالله) ومن تأخر عنه الخبر الأول على وهم الراوي في النقل
وغلطه.
واحتمل شيخنا
صاحب رياض المسائل ان يكون الغسل المأمور فيه بغسل الجسد أولا وترك الرأس ليس غسل
الجنابة بل غسل الإحرام ، كما أشعرت به الرواية الثانية
__________________
حيث قال فيها : «فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك» قال : «وهو
لا يشترط فيه الترتيب عندنا لعدم الدليل عليه».
أقول : ولعله ـ
وان كان بعيدا ـ أقرب من الحمل على السهو والغلط ، لإيجابه القدح في الراوي
المذكور بعدم التثبت في النقل الذي ربما قدح في العدالة ، مع ان الرجل المذكور من
أجلاء الرواة ومعتمديهم.
ويمكن أيضا ان
يقال ـ ولعله الأقرب ـ ان المأمور به منه (عليهالسلام) غير مذكور ، ولعل فعلها من غسل الجسد وترك الرأس كان
خطأ منها وخلاف ما أمرت به ثم انه (عليهالسلام) أمرها بغسل رأسها وقت الركوب وتأخير غسل البدن الى وقت
آخر وان لم ينقله الراوي في تتمة الكلام ، إذ لعل همه انما تعلق بنقل ما وقع من أم
إسماعيل وما أنكر به (عليهالسلام) عليها.
واما الترتيب
في الجسد بين يمينه ويساره بتقديم الأول على الثاني فهو المشهور بين أصحابنا بل
ادعى عليه الإجماع الا ان كلام الصدوق وكذا ابن الجنيد على ما نقل عنه خال منه ،
والمنقول ايضا عن ابن ابي عقيل عطف الأيسر على الأيمن بالواو كما في الاخبار
وقد اعترض ذلك
المحقق في المعتبر ، حيث قال : «واعلم ان الروايات قد دلت على وجوب تقديم الرأس
على الجسد ، واما اليمين على الشمال فغير صريحة بذلك ، ورواية زرارة دلت على تقديم
الرأس على اليمين ، ولا تدل على تقديم اليمين على الشمال ، لان الواو لا تقتضي
ترتيبا ، فإنك لو قلت : «قام زيد ثم عمرو وخالد» دل ذلك على تقديم قيام زيد على
عمرو ، واما تقديم عمرو على خالد فلا ، ولكن فقهائنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم
اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا في صحة الغسل ، وقد افتى بذلك الثلاثة واتباعهم»
انتهى. وهو جيد وعلى حذوه جرى جملة من متأخري المتأخرين.
احتج شيخنا
الشهيد الثاني في الروض على وجوب الترتيب هنا بان هذه الروايات وان دلت صريحا على
تقديم الرأس على غيره لعطف اليمين عليه ب «ثم» الدالة على التعقيب
لكن تقديم الأيمن على الأيسر استفيد من خارج ان لم نقل بإفادة الواو
الترتيب كما ذهب اليه الفراء ، بل على الجمع المطلق أعم من الترتيب وعدمه كما هو
رأى الجمهور ، إذ لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن والفرق احداث قول ثالث
، ولان الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه وكل من قال بالترتيب فيها
قال بالترتيب في غسل الجنابة ، فالفرق مخالف للإجماع المركب فيهما ، وما ورد من
الاخبار أعم من ذلك يحمل مطلقها على مقيدها. انتهى. ولا ريب في ضعف هذا الكلام
لدخوله في باب المجازفة في أحكام الملك العلام. واستدل ايضا بوجوه أخر لا فائدة في
التطويل بذكرها.
ولا بأس ببسط
جملة من الاخبار الواردة في هذا المضمار زيادة على ما قدمناه ليظهر للناظر حقيقة
الحال وجلية المقال :
فمن ذلك صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك
فتغسلهما ثم تغسل فرجك ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما
جرى عليه الماء فقد طهر».
وموثقة أبي
بصير أو صحيحته على الخلاف فيه وان كان الأرجح الثاني قال : «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك
ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق وتصب الماء على رأسك ثلاث مرات وتغسل
وجهك ، وتفيض على جسدك الماء».
وصحيحة حكم بن
حكيم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء
فاغسلها ، ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثم اغسل فرجك ، وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل
، فان كنت في مكان
__________________
نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك.
الحديث».
الى غير ذلك من
الاخبار الواردة على هذا المنوال ، وكلها ـ كما ترى ـ جارية على خلاف ما ذكروه.
الا ان للوالد (نور
الله تعالى تربته وأعلى رتبته) هنا تحقيقا حسنا لم أعثر عليه لا حد قبله في المقام
، به يندفع الإيراد عما هو المشهور بين علمائنا الأعلام. قال ـ (طيب الله مرقده)
بعد نقل جملة من الاخبار وشطر من كلام علمائنا الأبرار ـ ما صورته : «هذا وقد
يستدل على وجوب الترتيب ـ كما هو المشهور ـ بالأخبار الواردة في غسل الميت الصريحة
في الترتيب مضافا الى الاخبار الواردة بأن غسل الميت كغسل الجنابة ، وحينئذ
فيستفاد من مجموع الاخبار ان غسل الجنابة مرتب ، اما الروايات بالترتيب في غسل
الميت فكثيرة ، كرواية يونس ورواية عبد الله الكاهلي ورواية عمار بن موسى وغيرها واما الروايات المتضمنة ان غسل الميت كغسل الجنابة
فكثيرة أيضا ، كرواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «غسل الميت كغسل الجنابة.». ورواية محمد بن
سليمان الديلمي عن أبيه عن ابي عبد الله قال في حديث : «ان رجلا سأل أبا جعفر (عليهالسلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : إذا خرجت الروح
من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه كائنا ما كان صغيرا كان أو كبيرا
ذكرا أو أنثى ، فلذلك يغسل غسل الجنابة.». وفي حديث عن الكاظم (عليهالسلام) وقد سئل عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ فذكر حديثا يقول
فيه : «إذا مات الميت سالت منه تلك النطفة بعينها ـ يعني التي خلق منها ـ فمن ثم
صار يغسل غسل الجنابة». وروى الصدوق قال : «سئل الصادق (عليهالسلام) لأي علة يغسل الميت؟ قال :
__________________
تخرج منه النطفة التي خلق منها ، تخرج من عينيه أو من فيه. الحديث». وفي
كتاب العلل قال : «سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهماالسلام) عن غسل الميت لأي علة يغسل ولأي علة يغتسل الغاسل؟ قال
: يغسل الميت لانه جنب. الحديث». الى غير ذلك من الاخبار الصريحة في ان الكيفية
والترتيب الثابتين في غسل الأموات هما بعينهما الثابتان في غسل الجنابة ، معللا
ذلك بان الميت جنب لخروج النطفة التي خلق منها منه فأوجب ذلك تغسيله غسل الجنابة ،
وذلك صريح في الدلالة على ان غسل الجنابة مرتب كما لا يخفى على ذي الذوق السليم
والذهن المستقيم ، ويمكن ان يجعل ذلك من قبيل الاستدلال بالشكل الثالث ، هكذا :
غسل الميت غسل الجنابة ، وغسل الميت مرتب ، ينتج غسل الجنابة مرتب وهو المطلوب. (فان
قلت) : ان المعلوم الثابت من الحديث ـ خصوصا الأول ـ ان غسل الأموات كغسل الجنابة
، والمشابهة لا تقتضي المساواة من كل وجه بل تحقق المشاركة في الجملة كاف (قلت) :
ان ذا الذوق السليم إذا تأمل مضمون هذه الاخبار وما اشتملت عليه من التعليل لا يشك
في ان الكيفية الترتيبية الثابتة في غسل الأموات مطابقة للكيفية الثابتة في غسل
الجنابة ، كما هو قضية الحكم بكونه غسل جنابة وقضية التعليل بخروج النطفة منه وقت
خروج روحه ، ولذا ورد في الخبر المذكور في العلل ان الميت جنب ، ومع تمام هذا
الاستدلال يؤيد بالإجماع المنقول عن الشيخ (رحمهالله) فلا يبعد تقييد إطلاق تلك الاخبار بذلك ، فتأمل المقام
فإنه حرى بالتأمل التام» انتهى كلامه رفعت في أوج العلاء أعلامه.
أقول : ومن
الاخبار الدالة على ما ذكره الوالد زيادة على ما نقله (قدسسره) ما رواه في كتاب العلل وعيون الاخبار عن الرضا (عليهالسلام) في العلل التي رواها عنه محمد بن سنان في حديث قال فيه
: «وعلة اخرى انه يخرج منه الأذى الذي
__________________
منه خلق فيجنب فيكون غسله له. الحديث».
وما رواه أيضا
في كتاب العلل بسنده عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) انه «سئل ما بال الميت يغسل؟ قال النطفة التي خلق منها
يرمى بها».
وما رواه فيه
ايضا بسنده الى عبد الرحمن بن حماد قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : ان الله تبارك
وتعالى ، وساق الحديث الى ان قال : فإذا مات سالت منه تلك النطفة بعينها لا غيرها
فمن ثم صار الميت يغسل غسل الجنابة».
وأنت خبير بان
مقتضى هذه الاخبار المستفيضة ـ من حيث التعليل بكون الميت جنبا في بعض وبخروج
النطفة في بعض ـ ان غسل الميت في الحقيقة غسل جنابة ، ولا ينافيه التشبيه الواقع
في صحيحة محمد بن مسلم لإشعاره بالمغايرة ، إذ الظاهر ان المراد منه الإيماء الى
ما ذكر من العلة والا لم يكن لتخصيص التشبيه به نكتة ، ولكن حيث كان اندراج غسل
الميت في غسل الجنابة خفيا لخفاء علته ، صح التشبيه للمغايرة بين طرفي التشبيه ،
إذ المعنى ان غسل الميت كغسل الجنابة المتعارف يومئذ لكونهما فردين من افراد غسل
الجنابة الواقعي ، والمغايرة بين افراد الماهية واضحة ، وحينئذ فالظاهر ان خروج
بعض الاخبار ـ الواردة في بيان الكيفية بالواو في عطف الأيسر على الأيمن ، أو
مشتملة على ذكر الجسد بعد الرأس من غير تعرض للجانبين ـ اعتماد على معلومية الحكم
في زمانهم (صلوات الله عليهم) كما تقدم مثله في الترتيب بين الرأس والجسد ، فليحمل
مطلقها على مقيدها في الموضعين. والى القول بالترتيب كما هو المشهور يميل كلام
المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدسسره) في كتاب الوسائل.
و (ثانيهما) ـ الارتماس
، وهو عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) عبارة عن الدخول تحت الماء دفعة واحدة عرفية
، قالوا : ولا ينافي الدفعة الاحتياج الى التخليل
__________________
لو كان كثيف الشعر أو كان لجلده مكاسر أو نحو ذلك ، لعدم إمكان التخلص عن
مثل هذه الأشياء عادة ، ولا خلاف بينهم في قيامه مقام الترتيب المتقدم ذكره.
والأصل في ذلك
الأخبار الواردة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم) :
ومنها ـ صحيحة
زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال في حديثه المتقدم : «... ولو ان رجلا ارتمس في
الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده».
وحسنة الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه
ذلك من غسله».
ورواية السكوني
عن ابي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة
واحدة ويخرج يجزئه ذلك عن غسله؟ قال : نعم».
وصحيحة الحلبي قال : «حدثني من سمعه ـ يعني أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ يقول : إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة
أجزأه ذلك من غسله».
وظاهر هذه
الاخبار ان الارتماس رخصة وتخفيف والأصل هو الترتيب ، كما يومي اليه لفظ الاجزاء
من غسله اي بدل غسله المعهود ، ف «من» فيه مثلها في قوله سبحانه «... أَرَضِيتُمْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ...» اي بدلا من الآخرة ، ولهذا جعل بعض محدثي متأخري
المتأخرين الترتيب أفضل.
وظاهر اشتراط
الدفعة الواحدة العرفية ـ كما عرفت من كلام الأصحاب ـ انه لو حصل نوع تأن ينافي
ذلك بطل الغسل ، ولعلهم استندوا في اعتبار الدفعة المذكورة إلى قولهم (عليهمالسلام) في الاخبار المذكورة : «ارتماسة واحدة» والذي يظهر عند
التأمل في الاخبار المشار إليها ان الظاهر ان المراد بالارتماسة الواحدة انما هو
المقابلة بالارتماسات المتعددة ، وبيان ذلك انه حيث كان الغسل الأصلي الذي استفاضت
به
__________________
الاخبار وفعله النبي (صلىاللهعليهوآله) والأئمة (عليهمالسلام) من بعده انما هو الترتيبي الذي هو عبارة عن التعدد في
الغسل مرتين أو ثلاثا ، والغسل الارتماسي انما وقع رخصة كما عرفت ، نبه (عليهالسلام) على انه لا يحتاج في الغسل الارتماسي الى رمس كل عضو
على حدة أو الى ارتماسات متعددة لأجل كل عضو ، بل تكفي ارتماسة واحدة ، فالوحدة
هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي لا بمعنى الدفعة ، وحينئذ فلو حصل
فيها تأن ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل ، الا ان ما ذكروه (رضوان الله
عليهم) أحوط.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الظاهر انه لا ترتيب حكميا في الغسل الارتماسي كما هو اختيار الشيخ في
المبسوط ، ونقل فيه عن بعض الأصحاب انه يترتب حال الارتماس حكما ، قال شيخنا
الشهيد في الذكرى بعد نقله ذلك عنه : «وما نقله الشيخ يحتمل أمرين : (أحدهما) ـ وهو
الذي عقله عنه الفاضل انه يعتقد الترتيب حال الارتماس ، ويظهر ذلك من المعتبر حيث
قال : وقال بعض الأصحاب يرتب حكما. فذكره بصيغة الفعل المتعدي وفيه ضمير يعود الى
المغتسل ، ثم احتج بأن إطلاق الأمر لا يستلزم الترتيب والأصل عدم وجوبه ، فيثبت في
موضع الدلالة ، فالحجة تناسب ما ذكره الفاضل. (الأمر الثاني) ـ ان الغسل بالارتماس
في حكم الغسل المرتب بغير الارتماس ، وتظهر الفائدة لو وجد لمعة مغفلة فإنه يأتي
بها وبما بعدها ، ولو قيل بسقوط الترتيب بالمرة أعاد الغسل من رأس لعدم الوحدة
المذكورة في الحديث ، وفيما لو نذر الاغتسال مرتبا فإنه يبرأ بالارتماس. لا على
معنى الاعتقاد المذكور لانه ذكره بصورة اللازم المسند الى الغسل اي يترتب الغسل في
نفسه حكما وان لم يكن فعلا ، وقد صرح في الاستبصار بذلك لما أورد وجوب الترتيب في
الغسل وأورد إجزاء الارتماس ، فقال : لا ينافي ما قدمناه من وجوب الترتيب لان
المرتمس يترتب حكما وان لم يترتب فعلا ، لأنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة
رأسه ثم جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر ، فيكون على هذا التقدير مرتبا ،
قال : ويجوز ان يكون عند الارتماس يسقط مراعاة الترتيب كما يسقط عند غسل
الجنابة فرض الوضوء. قلت : هذا محافظة على وجوب الترتيب المنصوص عليه بحيث إذا ورد
ما يخالفه ظاهرا أول بما لا يخرج عن الترتيب ، ولو قال الشيخ إذا ارتمس حكم له
أولا بطهارة رأسه ثم الأيمن ثم الأيسر ويكون مرتبا ، كان أظهر في المراد ، لأنه
إذا خرج من الماء لا يسمى مغتسلا ، وكأنه نظر الى انه ما دام في الماء ليس الحكم
بتقدم بعض على الآخر اولى من عكسه ، لكن هذا يرد في الجانبين عند خروجه إذ لا يخرج
جانب قبل آخر» انتهى كلام الذكرى.
أقول : والظاهر
ان أصل القول المذكور وما وجه به من الاحتمالين وفرع عليه من الفائدتين تكلف محض
في البين : (أما أولا) ـ فلان صريح الأخبار الواردة في المسألة الدلالة على اجزاء
الارتماس دفعة واحدة وفراغ الذمة به من الغسل الواجب ، وهو بيان لأحد نوعي الغسل ،
فإنه كما يقع ترتيبا ـ كما تقدم ـ يقع ارتماسا ، فلا حاجة الى الجمع بين اخبار
الطرفين كما ذكره الشيخ (قدسسره) ووجهه في الذكرى بأنه محافظة على وجوب الترتيب المنصوص
، إذ لا دلالة في اخبار الترتيب على الاختصاص والحصر فيه ليحتاج الى حمل هذه
الاخبار على الترتيب الحكمي كما ذكروه. و (اما ثانيا) ـ فلانه لا معنى لهذا
الترتيب الحكمي بكلا معنييه ، اما ما ذكره الشيخ في الاستبصار فيما أورده عليه في
الذكرى ، واما ما ذكره الفاضلان فلان قصد الترتيب واعتقاده فيما لا ترتيب فيه
خارجا غير معقول ، ومن ذلك يعلم حال التفريع على القولين.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان مورد اخبار الارتماس غسل الجنابة خاصة ، وظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم)
تعدية الحكم الى ما عداه من الأغسال ، والظاهر انه من باب العمل بتنقيح المناط
القطعي لعدم معلومية الخصوصية للجنابة في المقام ، قال شيخنا الشهيد (قدسسره) في الذكرى ـ بعد إيراد روايتي زرارة والحلبي
المتقدمتين ـ ما لفظه : «والخبران وان وردا في غسل الجنابة ولكن لم يفرق أحد بينه
وبين غيره
من الأغسال» انتهى. وأيده بعضهم برواية الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «غسل الجنابة والحيض واحد». أقول : ويؤيده أيضا
الأخبار المتظافرة بأن غسل الميت كغسل الجنابة كما تقدم بيانه.
وتنقيح البحث
في هذا المقصد يتم برسم مسائل (الأولى) ـ اجرى الشيخ في المبسوط الوقوف تحت المجرى
والمطر الغزير مجرى الارتماس في سقوط الترتيب ، ونقل ذلك عن العلامة في جملة من
كتبه ، وطرد الحكم في التذكرة في الميزاب وشبهه ، ونقل عن بعض الأصحاب انه أجرى
الصب من الإناء الشامل للبدن مجرى ذلك ايضا ، قال في الذكرى : «وهو لازم للشيخ
ايضا» ومنع ابن إدريس من ذلك وخص الحكم بالارتماس بالدخول تحت الماء دون هذه
المذكورات ، واليه يشير كلام المحقق في المعتبر كما سيأتي
والأصل في هذه
المسألة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يجنب هل يجزيه من غسل الجنابة ان
يقوم في المطر حتى يغسل رأسه وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ فقال : ان كان يغسله
اغتساله بالماء أجزأه ذلك».
ومرسلة محمد بن
أبي حمزة عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده
أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال نعم».
قال في المعتبر
بعد نقل صحيحة علي : «وهذا الخبر مطلق وينبغي ان يقيد بالترتيب في الغسل» وجعله في
الذكرى أحوط ، وقربه بعض فضلاء متأخري المتأخرين بناء على اعتبار ما دل على وجوب
الترتيب في غسل الجنابة ، لعموم دلالته الا ما خرج بالأخبار المختصة بالارتماس من
كونه بالدخول تحت الماء فيكون غيره داخلا تحت العموم.
أقول : وقد
تلخص من ذلك ان هنا شيئين : (أحدهما) ـ ان الغسل بالمطر هل يقع ترتيبا وارتماسا أو
يخص بالترتيب؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول وابن إدريس
__________________
ومن تبعه على الثاني ، وأنت خبير بان ظاهر الخبرين المذكورين لا يأبى
الانطباق على كلام الشيخ (رحمهالله) فان قوله في الخبر الأول ـ : «ان كان يغسله اغتساله
بالماء أجزأه» وتقييده الاجزاء في الثاني بالسيلان على جسده ـ لا يأبى ان يكون
الاغتسال به ارتماسا مع كثرته وحصول الدفعة العرفية سيما على ما فسرنا به الدفعة
آنفا ، وترتيبا ان لم يكن كذلك ، فيجوز للمغتسل قصد الارتماس به على الأول
والترتيب على الثاني ، ولعل في ذكر الشيخ الغزارة في عبارة المبسوط إشارة الى ذلك.
والى ما ذكرنا يشير كلام شيخنا البهائي وشيخنا المحقق في كتاب الحبل المتين ورياض
المسائل. وما يوهمه كلام ذلك الفاضل ـ من عموم أدلة الترتيب الا ما خرج بالدليل ـ فيه
ان الأدلة المشار إليها لا عموم فيها بل بالخصوص انسب ، لدلالة أكثرها على ان
الغسل بالاغتراف من الأواني القليلة المياه ، وما يوهمه إطلاق بعضها في ذلك يمكن
حمله على المقيد منها ، فلا دلالة حينئذ على حكم الاغتسال بغير ذلك الفرد. و (ثانيهما)
ـ انه هل يلحق بالمطر على تقدير جواز الارتماس به ما ذكر من تلك الأشياء أم لا؟
إشكال ينشأ من فقد النص عليه بخصوصه ، لاختصاص الخبرين المذكورين بالمطر مع ما
عرفت من المناقشة في الدلالة أيضا ، ومن العلة المشار إليها بالتعليق على الشرط في
قوله في صحيحة علي : «ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» وإطلاق قوله في صحيحة
زرارة : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه». وما يقرب
منه ويؤدي مؤداه ، فإنه علق الاجزاء على جريان الماء على الجسد مطلقا ، فإذا جرى
دفعة بأي وجه وجب الحكم بالاجزاء وعدم الافتقار الى الترتيب. ولعله الأقرب.
(الثانية) ـ هل
يجب في الغسل ارتماسا في الماء الكثير الخروج من الماء بالكلية ثم إلقاء نفسه فيه
دفعة ، أم يجوز وان كان بعضه في الماء بحيث ينوي ويدفع نفسه الى موضع آخر تحت
الماء على وجه تختلف عليه سطوح الماء؟ ظاهر كلام جملة من متأخري
__________________
المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الكفاية وشيخنا المحدث الصالح
الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني (عطر الله مرقديهما) الأول ، والمفهوم من كلام
الأصحاب ـ كما تقدم في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر من نقل شطر من
عبائرهم الدالة على النية بعد الارتماس في الماء ـ هو الثاني ، وهو الذي سمعته من
والدي (عطر الله مرقده) غير مرة ، وهو الظاهر عندي : (أما أولا) ـ فلإطلاق الأخبار
الواردة بالارتماس فإنها أعم من ان يكون المرتمس خارج الماء بكله أو بعضه.
و (اما ثانيا) ـ فلان الغسل المأمور به شرعا ليس إلا عبارة عن غسل البشرة المقارن
للنية ، والغسل ليس إلا عبارة عن جرى جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو
بمعاون كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا يخفى حصول جميع ذلك في موضع
البحث ، فان المغتسل متى كان بعضه في الماء بل كله وقصد الغسل ثم دفع نفسه الى
موضع آخر بحيث اختلفت عليه سطوح الماء الذي به يتحقق الجريان ، فقد حصل الغسل
المطلوب شرعا.
ولم أقف لأحد
من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في هذا المقام سوى الفاضل الشيخ علي سبط
شيخنا الشهيد الثاني ، فإنه قال في كتاب الدر المنظوم والمنثور بعد نقل كلام في
المقام : «وما أحدث في هذا الزمان ـ من كون الإنسان ينبغي ان يلقي نفسه في الماء
بعد ان يكون جميع جسده خارجا عنه ـ ناشىء عن الوسواس المأمور بالتحرز منه ، ومن
توهم كون الارتماس في الماء يدل على ذلك. وهذا ليس بسديد ، لان الارتماس في الماء
يصدق على من كان في الماء بحيث يبقى من بدنه جزء خارج وعلى من كان كله خارجا ، بل
ربما يقال انه صادق على من كان جميع بدنه في الماء ونوى الغسل بذلك مع حركة ما بل
بغير حركة ، ومثله ما لو كان الإنسان تحت المجرى أو المطر الغزير فإنه لا يحتاج
الى ان يخرج أو يحصل له مكانا خاليا من نزول المطر أو الميزاب ثم يخرج اليه ،
وينبغي على هذا ان لا يجوز غسل الترتيب في حال نزول المطر عليه ونحو ذلك.
__________________
نعم لو قال (عليهالسلام) : «وقع في الماء دفعة واحدة» دل على ذلك ، على انه لم
ينقل عن أحد من علمائنا المتقدمين والمتأخرين فعل ذلك ، وهو مما يتكرر فتتوفر
الدواعي على نقله لغرابته فلو فعل لنقل ، مع منافاته للشريعة السهلة السمحة خصوصا
في أمر الطهارة ، وإلقاء النفس الى ما يحتمل معه تعطل بعض الأعضاء لا ظهور له من
الحديث ، وكأن الشيطان (لعنه الله) يريد ان يسر بكسر أحد أعضاء بعض المؤمنين
فيوسوس لهم ذلك ويحسنه.» انتهى. وهو جيد. وبما ذكرنا يظهر انه لا مانع من الغسل
ترتيبا في الماء على الوجه المذكور ، ويؤيده صحيحة علي بن جعفر ومرسلة محمد بن أبي
حمزة السالفتان وصحيحة علي بن جعفر الواردة في الوضوء بالمطر حال تقاطره وقد أشبعنا في هذه المسألة الكلام زيادة على ما في هذا
المقام في أجوبة مسائل بعض الأعلام.
(الثالثة) ـ الظاهر
انه لا خلاف في عدم وجوب الموالاة في الغسل بشيء من التفسيرين المتقدمين في
الوضوء.
ويدل عليه ما
تقدم في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في قضية أم إسماعيل .
وحسنة إبراهيم
بن عمر اليماني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان عليا (عليهالسلام) لم ير بأسا ان يغسل الرجل رأسه غدوة ويغسل سائر جسده
عند الصلاة».
وفي صحيحة حريز
المتقدمة في مسألة الموالاة في الوضوء «... وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم».
وما ورد في
كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر
غسل جسدك الى وقت الصلاة
__________________
ثم تغسل إن أردت ذلك».
إلا ان الأصحاب
صرحوا باستحبابها هنا ، ولم يفسروها بشيء من المعنيين المتقدمين ، ولم يوردوا على
ذلك ايضا دليلا في المقام ، وربما استدل على ذلك بمواظبة السلف والخلف من العلماء
والفقهاء على مرور الأعصار بل الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم) الا انه لا يخلو
من شوب الإشكال ، إذ ربما يقال ان ذلك لما كان من الأفعال العادية التي هي أسهل
وأقل كلفة في غالب الأحوال حصل المواظبة عليها لذلك. نعم ربما يمكن ان يستدل على
ذلك بعموم آيات المسارعة إلى المغفرة والاستباق الى الخير والتحفظ من طريان المفسد. والمتابعة لفتوى جمع من
الأصحاب بالاستحباب. ولا يخفى ما فيه ايضا.
وهل تجب متى
خاف فجأة الحدث الأصغر كما في السلس والمبطلون؟ احتمال مبني على وجوب الإعادة
بتخلل الحدث الأصغر كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. اما إذا خاف فجأة الحدث
الأكبر فهل تجب محافظة على سلامة العمل من الابطال ، أم لا لعدم استناد الابطال
اليه مع وجوب الاستئناف؟ احتمالان أظهرهما الثاني لما ذكر ، اما لو كان الحدث
الأكبر مستمرا فالأقرب الأحوط اشتراطها في صحة الغسل ، لعدم العفو عما سوى القدر
الضروري كما تقدم مثله في الوضوء.
(الرابعة) ـ قد
عرفت ان الأظهر الأشهر وجوب الترتيب في الغسل الترتيبي بين الأعضاء الثلاثة ،
وحينئذ فلو أغفل المغتسل ترتيبا لمعة من بدنه فقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه ان كان في الجانب الأيسر غسلها وان كان في الأيمن فكذلك مع اعادة غسل الأيسر
تحصيلا للترتيب.
والذي وقفت
عليه من الاخبار مما يتعلق بذلك صحيحة أبي بصير عن ابي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) قال : «اغتسل ابي من الجنابة فقيل له قد بقيت لمعة من
ظهرك لم يصبها الماء. فقال له : ما كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده».
وقد يستشكل في
هذه الرواية من حيث إباء العصمة ذلك. وأجيب بأنه لعل الترك لقصد التعليم. ولا يخفى
بعده. والأقرب عندي حمل الخبر على عدم فراغه (عليهالسلام) من الغسل وانصرافه عنه ، فمعنى قوله (عليهالسلام) : «اغتسل أبي» اي اشتغل بالغسل فقيل له في حال الغسل ،
والتجوز في مثل ذلك شائع في الكلام ، فلا منافاة فيه للعصمة. وما ربما يتراءى من
دلالة قول المخبر : «قد بقيت لمعة» على ذلك ، فإن مرمى هذه العبارة انما يكون
بالنسبة الى من فرغ من الغسل ، فإنه يمكن ان يقال انه (عليهالسلام) في حال الاشتغال بالغسل وتعديه إلى أسافل البدن مع
بقاء تلك اللمعة في أعاليه استعجل الرائي لها باخباره بها ، والا فهو كان يرجع
إليها بإمرار يده عليها مرة أخرى. نعم قوله (عليهالسلام) : «ما كان عليك لو سكت» فيه تعليم للمخبر بعدم وجوب
الاخبار بمثل ذلك.
وروى مثل ذلك القطب
الراوندي في نوادره بسنده فيه عن موسى بن إسماعيل عن أبيه عن جده موسى بن جعفر عن
آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال علي (عليهالسلام) اغتسل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من جنابة فإذا لمعة من جسده لم يصبها ماء فأخذ من بلل
شعره فمسح ذلك الموضع ثم صلى بالناس».
وصحيحة زرارة
عن ابي جعفر (عليهالسلام) في حديث قال فيه : قال حماد وقال خريز قال زرارة : «قلت
له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة فقال : إذا شك ثم كانت به بلة
وهو في صلاته مسح بها عليه ، وان كان استيقن رجع وأعاد الماء عليه ما لم يصب بلة ،
فإن دخله الشك وقد دخل في حال اخرى فليمض في
__________________
صلاته ولا شيء عليه ، وان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ، وان رآه وبه بلة
مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وان كان شاكا فليس عليه في شكه شيء فليمض في
صلاته».
وأنت خبير بأن
غاية ما يفهم من هذه الاخبار هو غسل موضع الخلل خاصة أعم من ان يكون في طرف اليمين
أو اليسار ، الا ان يقيد إطلاقها بما علم من الترتيب المتقدم وهو قريب في الخبرين
الأولين باحتمال كون المغفل من الظهر في الأول والجسد في الثاني داخلا في الجانب
الأيسر الا انه في الثالث بعيد ، أو يقال باستثناء موضع البحث ويؤيده ان إثبات
وجوب الترتيب من الاخبار المتقدمة بحيث يشمل مثل هذه الصورة لا يخلو من الاشكال ،
وظاهر الاخبار المذكورة أيضا الاكتفاء بمجرد مسحه بالبلة الباقية الا ان يحمل
المسح على ما يحصل به الجريان ولو قليلا والظاهر بعده ، أو يقال بالاكتفاء بالمسح
في مثل ذلك خاصة. وكيف كان فلا ريب ان الأحوط هو ما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى
مقاعدهم).
ولو كان إغفال
اللمعة في الغسل الارتماسي فهل يعيد مطلقا ، أو يكتفي بغسل اللمعة مطلقا ، أو
يغسلها وما بعدها كالمرتب ، أو يفصل بطول الزمان فالإعادة وعدمه فالاجتزاء بغسل
اللمعة؟ احتمالات ، وبالأول صرح الشهيد في الدروس والبيان ، وقواه العلامة في
المنتهى بعد ان نقله عن والده ، معللا له بأن المأخوذ عليه الارتماس دفعة واحدة
بحيث يصل الماء إلى سائر الجسد في تلك الدفعة ، لقول ابي عبد الله (عليهالسلام) : «إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه». ومن المعلوم عدم
الاجزاء مع عدم الوصول. وبالثاني صرح العلامة في القواعد ، واحتج عليه في المنتهى
بعد ذكره احتمالا بان الترتيب سقط في حقه وقد غسل أكثر بدنه فأجزأه ، لقول ابي عبد
الله (عليهالسلام) : «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». واما الثالث فذكره
في القواعد احتمالا مقويا له على الأول ، وكأن وجهه البناء على ان الارتماس يترتب
حكما أو نية وإلا فلا وجه له ، واما الرابع فاختاره المحقق
__________________
الشيخ علي في شرح القواعد ولم يذكر الوجه فيه ، والظاهر ان وجهه انه مع عدم
الفصل الكثير تصدق الوحدة العرفية فيكون غسل اللمعة فقط مجزئا ، ومع الفصل كذلك لا
تصدق الوحدة المذكورة فتجب الإعادة.
وأنت خبير بان
الحكم المذكور لخلوه من النص لا يخلو من الاشكال ، لتدافع ما ذكروه من الوجوه في
هذا المجال ، بل ورود النقض فيها والاختلال : (اما الأول) فلاحتمال صدق الارتماسة
الواحدة عرفا وان لم يصل الماء الى بعض يسير من جسده ولا سيما إذا كان ذلك لمانع.
إذ الفرض ان جميع البدن تحت الماء ، واما الحيثية المذكورة فغير مفهومة من
الارتماسة الواحدة. و (اما الثاني) فلان سقوط الترتيب في حقه لا مدخل له في عدم
وجوب الإعادة ، وغسل أكثر البدن لا مدخل له في العلية بل هو محض مصادرة ، والخبر
الذي ذكره مورده الترتيب. و (اما الثالث) فقد عرفت انه لا وجه له الا البناء على
الترتيب الحكمي وقد تقدم ما فيه. و (اما الرابع) فإنه انما يتم لو لم يخرج المغتسل
من الماء ، واما إذا خرج فإنه لا يخلو اما ان يقول بدلالة الخبر الذي هو مستند
الغسل الارتماسي على غسل جميع الأعضاء في الارتماسة الواحدة أم لا ، فعلى الأول لا
يخفى انه بعد الخروج وان لم يقع فصل كثير لا يصدق على غسل اللمعة خارجا انه وقع في
الارتماسة الواحدة ، وعلى الثاني لا وجه للفرق بالاجزاء وعدمه بين طول الزمان
وعدمه كما لا يخفى ، وحينئذ فالواجب الوقوف على ساحل الاحتياط بالإعادة من رأس.
(الخامسة) ـ لا
خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب اجراء الماء في الغسل تحقيقا لمسمى
الغسل الوارد في الآية والرواية ، ولورود جملة من الاخبار بذلك ، كقوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «... فما جرى عليه الماء فقد طهر». وقوله في صحيحة
زرارة : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره
__________________
فقد أجزأه». وغيرهما ، وحينئذ فما يدل بظاهره على خلاف ذلك ـ كرواية إسحاق
بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) قال : الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزأ من
الدهن الذي يبل الجسد». ونحوها ـ محمول على أقل ما يحصل معه الجريان أو عوز الماء
، ويؤيد الثاني ما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال «ويجزئ من الغسل عند عوز الماء الكثير ما يجزئ من الدهن». وقد تقدم في بحث
الوضوء من التحقيق في المقام ما له مزيد نفع في إيضاح المرام.
(السادسة) ـ المفهوم
من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى انه لا يجب
غسل شعر الجسد كائنا ما كان خفيفا كان أو كثيفا ، نعم يجب تخليله لا لإيصال الماء
الى ما تحته ، وظاهر المعتبر والذكرى الإجماع على الحكم المذكور ، وربما ظهر من
عبارة المقنعة الخلاف في ذلك ، حيث قال : «وإذا كان الشعر مشدودا حلته» الا ان
الشيخ (رحمهالله) في التهذيب حملها على ما إذا لم يصل الماء إلى أصول
الشعر الا بعد حله ، واما مع الوصول فلا يجب ذلك.
واستدل بعض
الأصحاب على ذلك بأصالة العدم مما لم يرد الأمر بالتكليف به ، إذ قصارى ما تدل
عليه الاخبار الأمر بغسل الجسد : والشعر لا يسمى جسدا ، وصحيحة الحلبي عن رجل عن
ابي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة».
وللنظر في ذلك
مجال : (أما أولا) ـ فلمنع خروجه من الجسد ولو مجازا ، كيف وهم قد حكموا بوجوب
غسله في يدي الوضوء كما تقدم ، معللين ذلك تارة بدخوله في محل الفرض واخرى بأنه من
توابع اليد ، وحينئذ فإذا كان داخلا في اليد بأحد الوجهين المذكورين واليد داخلة
في الجسد كان داخلا في الجسد البتة ، ولو سلم خروجه عن الجسد
__________________
فلا يخرج عن الدخول في الرأس والجانب الأيمن والأيسر المعبر بها في جملة من
الاخبار
و (اما ثانيا)
ـ فلانه لا يلزم من عدم النقض في صحيحة الحلبي عدم وجوب الغسل ، لإمكان الزيادة في
الماء حتى يروى ، كما في حسنة الكاهلي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في المرأة التي في رأسها مشطة حيث قال (عليهالسلام): «... فإذا أصابها الغسل بقذر مرها ان تروي رأسها من
الماء وتعصره حتى يروى فإذا روى فلا بأس عليها. الحديث».
و (اما ثالثا)
ـ فلما روي في صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار».
والتأويل بالحمل على ان المراد بالشعرة ما هو قدرها من الجسد لكونه مجازا شائعا
كما ذكروا وان احتمل الا انه خلاف الأصل فلا يصار اليه الا بدليل ، إذ وجوب غسل
الجسد كملا في الغسل وعدم صحته الا بذلك مما تكفلت به الأخبار المستفيضة ، ويزيد
ذلك بيانا وتأكيدا ما روي عنه (صلىاللهعليهوآله) مرسلا من قوله : «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر
وانقوا البشرة» . وما ورد في حسنة جميل قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عما تصنع النساء في الشعر والقرون. فقال : لم تكن هذه
المشطة إنما كن يجمعنه ثم وصف أربعة امكنة ثم قال يبالغن في الغسل». وصحيحة محمد
بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «حدثتني سلمى خادمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قالت : كان اشعار نساء النبي (صلىاللهعليهوآله) قرون رؤوسهن مقدم رؤوسهن فكان يكفيهن من الماء شيء
قليل ، فاما النساء الآن فقد ينبغي لهن ان يبالغن في الماء». ومن ثم قوى بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وجوب غسله ، قائلا
__________________
بعد الطعن في أدلة المشهور : «انه ان ثبت إجماع فعليه المعتمد في الفتوى
والا فوجوب غسل الشعر كما هو الموافق للاحتياط والتقوى هو الأقوى» والى ذلك ايضا
يميل كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في الحبل المتين.
والعجب من
شيخنا الشهيد الثاني (رحمهالله) في شرح الألفية ، حيث قال ـ بعد ان صرح بعدم وجوب غسل
الشعر الا ان يتوقف عليه غسل البشرة ـ ما لفظه : «والفرق بينه وبين شعر الوضوء
النص» انتهى. فانا لم نقف على نص في هذا الباب ولا نقله ناقل من الأصحاب سوى ما
ذكرنا هنا من الاخبار ، وهي ان لم تدل على غسل الشعر فلا أقل ان لا تدل على عدمه ،
واما في الوضوء فغاية ما تمسكوا به بالنسبة إلى شعر الوجه دخوله فيما يواجه به
وبالنسبة إلى اليد فبدعوى التبعية والتغليب لاسم اليد على جميع ما عليها كما عرفت.
وبالجملة انه لا دليل لهم في الفرق إلا الإجماع ان تم.
(السابعة) ـ لا
خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب تخليل ما يمنع وصول الماء الى الجسد
من شعر وغيره ، ويدل عليه عموم ما علق فيه الحكم على الجسد من الاخبار. وخصوص صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض
ذراعها لا تدري يجري الماء تحتهما أو لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال :
تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. الحديث». وحينئذ فما أشعر بخلاف ذلك ـ كحسنة
الحسين بن ابى العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخاتم إذا اغتسلت قال : حوله من مكانه ، وقال في
الوضوء تديره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة». حيث دلت
على اغتفاره مع النسيان وان ذكره بعده ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، وبمضمون هذه الرواية
صرح في الفقيه فقال : «فإذا كان مع
__________________
الرجل خاتم فليدره في الوضوء ويحوله عند الغسل. وقال الصادق (عليهالسلام): ان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد». وصحيحة
إبراهيم بن ابى محمود قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) : الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشيء
اللكد مثل علك الروم والطرار وما أشبهه ، فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئا قد بقي في جسده
من اثر الخلوق والطيب وغيره؟ قال : لا بأس». ـ يجب ارتكاب جادة التأويل فيه بحمل
الخبر الأول على الخاتم الذي لا يمنع وصول الماء ويكون الأمر بالإدارة والتحويل
محمولا على الاستحباب. والخبر الثاني بالحمل على الأثر الذي لا يمنع الوصول.
ويظهر من بعض
فضلاء متأخري المتأخرين الميل الى العمل بظاهر الخبرين المذكورين من عدم الاعتداد
ببقاء شيء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن اما مطلقا أو مع النسيان لو لم يكن
الإجماع على خلافه ، ثم قال : «لكن الاولى ان لا يجترأ عليه» انتهى. والأقرب
ارتكاب التأويل فيهما بما ذكرناه. وأظهر منهما في قبول التأويل المذكور رواية
إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «كن نساء النبي (صلىاللهعليهوآله) إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن ،
وذلك ان النبي (صلىاللهعليهوآله) أمرهن أن يصببن الماء صبا على أجسادهن».
(الثامنة) ـ محل
الغسل هو الظواهر من الجسد بلا خلاف ، قال في المنتهى : «ويجب عليه إيصال الماء
الى جميع الظاهر من بدنه دون الباطن منه بلا خلاف».
أقول : ويدل
على ذلك مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الجنب يتمضمض ويستنشق؟ قال : لا انما يجنب الظاهر».
__________________
ورواية عبد
الله بن سنان قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : لا يجنب الأنف والفم لأنهما سائلان».
وروى الصدوق في
العلل عن أبي يحيى الواسطي عمن حدثه قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الجنب يتمضمض؟ فقال : لا انما يجنب الظاهر ولا يجنب
الباطن ، والفم من الباطن».
قال : وروي في
حديث آخر ان الصادق (عليهالسلام) قال في غسل الجنابة : «ان شئت ان تتمضمض أو تستنشق
فافعل وليس بواجب ، لان الغسل على ما ظهر لا على ما بطن».
أقول : وبهذه
الاخبار يجمع بين ما دل على الأمر بالمضمضة والاستنشاق وما دل على نفيهما كما
سيأتي ذكره ان شاء الله بحمل ما دل على النفي على نفي الوجوب وما دل على الأمر على
الاستحباب ، وفي خبر زرارة أيضا : «... إنما عليك ان تغسل ما ظهر».
ومن البواطن
الثقب الذي يكون في الاذن للحلقة إذا كان بحيث لا يرى باطنه للناظر ، وبه صرح في
المدارك وجزم به شيخه المولى الأردبيلي ، ونقل عن المحقق الشيخ علي (ره) في حاشية
الشرائع انه حكم بإيصال الماء الى باطنه مطلقا. ولا يخفى ما فيه. وينبغي ان يعلم
ايضا ان الظاهر وجوب غسل باطن الأذنين وهو ما يرى للناظر من سطح باطنهما عند تعمد
الرؤية لدخوله في الظاهر وان توقف على التخليل وجب ، قال في التذكرة في تعداد
واجبات الغسل : «ويغسل أذنيه وباطنهما ولا يدخل الماء فيما بطن من صماخه» وعلى ذلك
يحمل ايضا ما ذكره في المقنعة حيث قال : «ويدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه فيغسل
باطنهما ويلحق ذلك بغسل ظاهرهما».
(التاسعة) ـ قال
شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : «ولا ينبغي له ان يرتمس في الماء
الراكد ، فإنه ان كان قليلا أفسده وان كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه».
__________________
واستدل له
الشيخ (رحمهالله) في التهذيب بالنسبة إلى الحكم الأول بأن الجنب حكمه
حكم النجس الى ان يغتسل فمتى لاقى الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد ، وبالنسبة
الى الثاني بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «كتبت الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء
السماء أو يستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب. ما
حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ثم قال (قدسسره) قوله : «لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» يدل
على كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال
الضرورة. انتهى.
ولا يخفى عليك
ما في أول استدلاليه ، فإنه مجرد دعوى لم يقم عليها دليل ، ولم يقل بها أحد قبله
ولا بعده من الأصحاب جيلا بعد جيل ، وإطلاق أخبار الارتماس شامل لما لو كان الغسل
بالماء القليل ، وقد ادعى المحقق في المعتبر الإجماع على طهارة غسالة الجنب الخالي
بدنه من النجاسة العينية ، وعبارة المقنعة وان أشعرت بذلك ظاهرا الا انه يمكن
حملها على تلوث بدن الجنب بالنجاسة كما هو الغالب الذي انصبت عليه أخبار كيفية
الغسل حسبما تقدم بيانه ، مع ان رواية محمد بن ميسر عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في
الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده
ويتوضأ ثم يغتسل ، هذا مما قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...»
. ـ تدل بظاهر إطلاقها على جواز الغسل وان كان ارتماسا مع إمكانه استنادا
الى نفي الحرج الدال على الامتنان المناسب للتعميم.
__________________
واما ما أجاب
به (قدسسره) عن هذا الخبر ـ حيث قال بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه من
الاستدلال الأول : «وليس ينقض هذا الحديث الذي رواه محمد بن يعقوب ثم ساق الخبر
وقال : لان معنى هذا الخبر ان يأخذ الماء من المستنقع بيده ولا ينزله بنفسه ويغتسل
بصبه على بدنه ، فاما إذا نزله فسد حسبما بيناه» انتهى ـ ففيه ان التخصيص بما ذكره
يحتاج الى دليل ، وما ذكره من التعليل الأول قد عرفت ما فيه فلا يصلح للتخصيص
نعم ربما يقال
ان مبنى كلام الشيخين (نور الله تعالى مرقديهما) هنا على ما ذهبا اليه من المنع من
استعمال الماء المستعمل في الحدث الأكبر ، كما تقدم بيانه في محله ويشير اليه
تعبيرهما بالإفساد ، وحاصل مرادهما انه بعد الارتماس فيه يفسد بمعنى يمتنع
استعماله في طهارة أخرى ، حيث ان حكم الجنب في اغتساله من القليل وإفساده له حكم
النجس في ملاقاته للقليل وتنجيسه له كما علله في التهذيب ، لا ان المراد بإفساد
الماء تنجيسه كما ذكرنا أولا ، وهو الذي عقله عنهما جمع من فضلاء المتأخرين ، ليرد
عليه ما ذكرنا آنفا ، بل المراد بإفساده سلب طهوريته كما هو مذهبهما (رضياللهعنهما) لكن لا بالنسبة إلى المغتسل بمعنى انه بالارتماس يصير
الماء بأول ملاقاة الجنب له بقصد الاغتسال مستعملا مسلوب الطهورية ، ليرد عليه ما
ذكره شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل ، من انهم ان أرادوا بصيرورته مستعملا
بالملاقاة المذكورة انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى المغتسل والى غيره فهو واضح
الفساد ، والا لزم عدم طهارة المغتسل ولو مرتبا لانه لا ينفك عن جريان الماء من
جزء بدنه الى جزء آخر ، وان أرادوا بها انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى غيره فلا
ينفعهم. انتهى ملخصا ، فان فيه انه لم يصرح في المقنعة بما ينافي ذلك أو ينافره ،
وانما غرضه التنبيه على حكم في البين وهو ان الارتماس في الماء القليل يوجب إفساده
وعدم رفع الحدث به فلا ينبغي للجنب ذلك ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه ولا يتوجه
القدح اليه ، وفي التعبير ب «لا ينبغي» إشعار بذلك.
واما ثاني
استدلالية فقد مر ما يتضح الحال به صحة وإبطالا في الفائدة الحادية
عشرة من مسألة الماء المستعمل في الطهارة الكبرى .
(العاشرة) ـ لا
يخفى انه حيث لا مفصل محسوس بين الجانب الأيمن والأيسر في أعالي البدن فالواجب في
الغسل الترتيبي ـ بناء على المشهور من وجوب الترتيب بينهما ـ غسل الحد المشترك مع
كل من الجانبين من باب المقدمة ، واستظهر جمع من الأصحاب الاكتفاء بغسل العورة مع
أحد الجانبين ، وحكم بعض بغسلها مع كل من الجانبين ، ويمكن توجيه الأول بأن العورة
لما كانت عضوا مستقلا وليست داخلة في الحد المشترك بين الجانبين ليجب غسلها مرتين
فالواجب غسلها مرة واحدة مع اي الطرفين كان ، والتكليف بالتعدد يحتاج الى دليل.
ويمكن خدشه بان مقتضى ما دلت عليه الاخبار المشتملة على ذكر الجانبين غسل كل منهما
، وحينئذ فلو كانت العورة عضوا زائدا لكانت متروكة الذكر في تلك الاخبار ، وبذلك
يظهر رجحان القول الثاني مضافا الى أوفقيته للاحتياط.
(الحادية عشرة)
ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب المباشرة إلا ما ينقل عن ظاهر ابن الجنيد من جواز
تولي الغير ، وظاهر الآية والاخبار يرده لظهورها في فعل المكلف نفسه ، حتى انه لو
اضطر إلى التولية فلا بد من حصول القصد منه ، قال عزوجل : «...
حَتَّى تَغْتَسِلُوا ...» وقال : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا
...» وهو ظاهر في توجه الخطاب للمكلف نفسه فلا يجزيه فعل
غيره به ذلك. ونحوها الاخبار. وقول ابن الجنيد هنا جار على ما تقدم نقله عنه في
الوضوء ، وقد تقدم الكلام في المسألة مستوفى ، والمنقول عنه هنا على ما ذكره في
الذكرى انه قال : «وان كان غيره يصب عليه الماء من إناء متصل الصب أو كان تحت
أنبوب قطع ذلك ثلاث مرات يفصل بينهن بتخليل الشعر بكلتا يديه» وهو ظاهر في التولية
، وفيه ما عرفت.
__________________
ويمكن
الاستدلال على ذلك ايضا بقوله عزوجل : «فَمَنْ
كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ
رَبِّهِ أَحَداً» بالتقريب الذي ذكره مولانا الرضا (عليهالسلام) في رواية الوشاء حيث استدل على تحريم التولية بالآية المذكورة والرواية
وان كان موردها الوضوء وصب الحسن الوشاء عليه الماء انما هو للوضوء الا ان قوله (عليهالسلام) في الخبر المذكور بعد الاستدلال بالآية : «وها انا ذا
أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد». يشعر بأن التولية في طهارة
العبادة التي لا تستباح الا بها مطلقا نوع من أنواع الشرك ، وقد تقدم بيان معنى
الخبر المذكور ودلالته على التحريم وان مورده التولية دون الاستعانة كما توهمه
جملة من أصحابنا (رضياللهعنهم).
(الثانية عشرة)
ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بإزالة النجاسة عن البدن أولا ثم الغسل ثانيا ،
الا انهم اختلفوا في ان ذلك هل هو على جهة لوجوب أو الاستحباب؟ قولان : ظاهر
القواعد الأول ، ونقله بعض مشايخنا عن جملة من الأصحاب أيضا ، وصريح العلامة في
النهاية الثاني ، وبه جزم ثاني المحققين في شرح القواعد ، وقبله أيضا أول الشهيدين
على ما نقله شيخنا المتقدم ذكره ، بمعنى ان الواجب انما هو تطهير المحل النجس أولا
قبل اجراء ماء الغسل عليه بحيث كلما طهر شيئا غسله تدريجا ، واما تقديم ذلك على
أصل الغسل فهو الأفضل.
وربما أيد
الأول ظواهر الأخبار الواردة في كيفية الغسل حيث اشتملت على عطف الغسل على الأمر بالإزالة ب «ثم»
المرتبة ولعل «ثم» في هذا المقام منسلخة عن الترتيب ، إذ لا يعقل لوجوب التقديم
على أصل الغسل وجه ، لان الغرض
__________________
انما هو اجراء الغسل على محل طاهر وهو يحصل بالتدريج. ويمكن ان يكون مخرج
الأخبار ـ كما هو ظاهرها ـ انما هو بالنسبة إلى العورة التي هي محل النجاسة
المعهودة أو نحوها من الأماكن اليسيرة كالإصبع ونحوها ، وفرض المسألة في نجاسة
منتشرة أو متعددة بحيث يندرج فيها كما هو محل البحث بعيد عن سياق الاخبار المشار
إليها كما لا يخفى على من راجعها.
وكيف كان فمرجع
القولين الى وجوب إزالة النجاسة قبل اجراء ماء الغسل ، وانه لا يجزئ اجراء ماء
الغسل المقصود به رفع الحدث لإزالة النجاسة الخبثية.
وهو المشهور في
كلام المتأخرين خلافا للشيخ في المبسوط كما سيأتي نقل كلامه ، معللين ذلك (أولا) ـ
بأنهما سببان متغايران فيجب تغاير مسببيهما ، والأصل عدم التداخل. و (ثانيا) ـ بان
الماء القليل ينجس بالملاقاة فإذا ورد على المحل النجس تنجس به فلا يقوى على رفع
الحدث فلا بد من طهارة المحل أولا. قال الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف (رحمهالله) : «لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من الجنابة بل
يجب إزالة النجاسة أولا ثم الاغتسال ثانيا» ما صورته : «انما وجب ذلك لأنهما سببان
فوجب تعدد حكمهما ، لان التداخل خلاف الأصل ، ولأن ماء الغسل لا بد أن يقع على محل
طاهر والا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ولانفعال القليل وماء الطهارة يشترط
ان يكون طاهرا إجماعا» انتهى ، وعلى هذا المنوال جرى كلام غيره في هذا المجال.
وفيه ان ما
ذكروه ـ من ان تعدد السبب يقتضي تعدد المسبب وان الأصل عدم التداخل ـ لم نقف له
على دليل يعتد به بل ظواهر النصوص ترده كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في
مسألة تداخل الأغسال ، على انه قد أورد عليه ايضا انا لا نسلم ان اختلاف السبب
يقتضي تعدد المسبب ، لان مقتضى التكليف وجود المسبب عند حصول السبب ، اما كونه
مغايرا للأمر المسبب عن سبب آخر فتكليف آخر يحتاج الى دليل
والأصل عدمه ، فما ذكره من ان التداخل خلاف الأصل ضعيف. انتهى. وهو جيد
واما ما ذكروه من ان ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر فهو على إطلاقه ممنوع ،
وما استندوا اليه من انه لو لم يكن كذلك للزم اجزاء ماء الغسل مع بقاء عين النجاسة
، ان أريد به مع بقائها بحيث تمنع من وصول الماء الى البدن فبطلان الثاني مسلم لكن
الملازمة ممنوعة ، لجواز وقوع الغسل على المحل النجس بشرط عدم المنع ، وان أريد مع
عدم بقائها أو بقائها مع عدم المنع فبطلان الثاني ممنوع لعدم الدليل عليه. واما ما
ذكروه من انفعال القليل واشتراط طهارة الماء إجماعا ، ان أريد به الإجماع على
طهارته قبل الوصول فمسلم لكن لا ينفعهم ، وان أريد به الإجماع على الطهارة بعد
الوصول فهو ممنوع إذ هو مصادرة على المطلوب حيث انه محل النزاع ، ونظيره غسل
النجاسات ، فإنه لا يكون الا بماء طاهر قبل الورود. ونجاسته بعد الورود ـ بنجاسة
المحل المغسول على تقدير القول بنجاسة القليل ـ لا تسلبه الطهورية ، على ان مذهب
العلامة انه حال الورود ايضا طاهر لانه لا ينجس عنده الا بعد الانفصال.
ومما يؤيد ما
ذكرنا في هذا المقام ان ازالة النجاسة في التحقيق ترجع الى التروك وتصير من قبيلها
حيث ان المطلوب ترك النجاسة دون الأفعال ، فلا تقتضي فعلا يختص بها ، بل يكتفى
فيها بتحققها بأي وجه اتفق مع صدق مسمى الغسل المعتبر على ذلك التقدير ، الا ترى
انه لو وقع الثوب النجس في الماء اتفاقا أو اصابه المطر طهر البتة واصابة ماء
الغسل من هذا القبيل.
نعم ربما يستدل
لهم بظواهر الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة المشتملة على تقديم الإزالة وعطف الغسل عليها ب «ثم»
المرتبة. ويضعف باشتمالها على جملة من المستحبات وعد ذلك في قرنها كغسل اليدين
والمضمضة والاستنشاق ونحوها. الا ان يجيبوا عن ذلك بأنه قد قام الدليل على
الاستحباب في تلك الأشياء ، فحمل الأمر
__________________
في الاخبار المذكورة عليه لا اشكال فيه ، واما ما لم يقم فيه دليل فيجب
إبقاء الأمر فيه على حقيقته من الوجوب. إلا انك قد عرفت ان جملة من القائلين بوجوب
تقديم الإزالة لا يقولون به قبل الغسل وانما يوجبونه تدريجا ، وعلى تقديره لا يمكن
حمل الأوامر المذكورة في الأخبار على الوجوب ، مع انه من المحتمل قريبا ان الأمر
بتقديم الإزالة في الأخبار المشار إليها وعدم الاكتفاء بماء الغسل انما هو من حيث
خصوص نجاسة المني الذي هو مورد تلك الأخبار ولا سيما بعد يبسه ، فإنه يحتاج الى
مزيد كلفة وذلك لثخانته ولزوجته ، فلذا وقع الأمر بالإزالة أولا ، واحتمال غيره من
النجاسات بعيد عن سياق الأخبار المشار إليها.
وربما يستدل
لهم أيضا بصحيحة حكم بن حكيم حيث قال (عليهالسلام) في آخرها بعد ذكر الغسل : «فان كنت في مكان نظيف فلا
يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك». فإنه ظاهر في
عدم الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية بل لا بد من ماء آخر لإزالتها.
ويمكن تطرق القدح الى ذلك بأنه لا ظهور له في تقديم إزالة النجاسة بل غايته
الدلالة على وجوب غسل آخر ، ومن المحتمل ان يكون ذلك بعد تمام الغسل ، لعدم زوال
النجاسة بماء الغسل وان ارتفع به الحدث كما هو المفهوم من كلام الشيخ (رحمهالله) الآتي ذكره ، وإذا تطرق الاحتمال لم يتم الاستدلال
بها.
وقال في
المبسوط : «وان كان على بدنه نجاسة أزالها ثم اغتسل ، وان خالف واغتسل أولا ارتفع
حدث الجنابة وعليه ان يزيل النجاسة ان كانت لم تزل ، وان زالت بالاغتسال فقد أجزأ
عن غسلها» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ يدل على أحكام ثلاثة : (أحدها) ـ ان طهارة المحل
ليست شرطا في الغسل كما ادعاه المتأخرون. و (ثانيها) ـ ان الغسل الواحد يجزئ لرفع
الحدث والخبث معا ، خلافا لما ذكروه أيضا
__________________
من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب. و (ثالثها) ـ انه لو لم تزل النجاسة
الخبثية ارتفع حدثه ووجب عليه ازالة النجاسة الخبثية بعد الغسل ، الا انه يجب
تقييد هذا الحكم بما إذا لم يكن للنجاسة عين مانعة من وصول الماء الى البدن ، والا
فلا ريب في بطلان الغسل لوجوب إيصال الماء إلى البشرة.
وجملة من
المتأخرين بعد نقل كلام الشيخ المذكور اعترضوه : منهم ـ العلامة في المختلف حيث
قال بعد نقله : «والحق عندي ان الحدث لا يرتفع الا بعد إزالة النجاسة ، لأن
النجاسة إذا كانت عينية ولم تزل عن البدن ولم يحصل إيصال الماء الى جميع البدن فلا
يزول حدث الجنابة ، وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» وقال في الذكرى بعد
نقله ايضا : «ويشكل بان الماء ينجس فكيف يرفع الحدث ، والاجتزاء بغسلها عن الأمرين
مشكل أيضا.
أقول : اما ما
ذكره العلامة (رحمهالله) فقيه أن صحة الغسل مع بقاء النجاسة لا ينحصر في بقاء
عينها على البدن على وجه يمنع وصول الماء إلى البشرة حتى انه يمنع ارتفاع النجاسة
، بل يمكن ذلك مع بقائها على وجه لا يمنع من وصول الماء وانتقالها من محل الى آخر
، ومن الظاهر البين ان الشيخ لم يرد الا ما ذكرناه كما قدمنا الإشارة إليه ، إذ لا
يخفى على من هو دونه وجوب إيصال الماء إلى البشرة ، وحينئذ فيطهر عنده البدن من
النجاسة الحدثية وان بقيت الخبثية. بقي الكلام في قوله (رحمهالله) : «وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» والظاهر انه
أراد بالحكمية ما لا عين له من النجاسات بقرينة وقوع التقسيم في النجاسة المفروضة
في عبارة الشيخ ومحل البحث هو النجاسة الخبثية ، فهو حينئذ قسيم لقوله : «فان كانت
عينية» ومعطوف عليه ، وحينئذ فمقتضاه موافقة الشيخ (رحمهالله) في الاكتفاء بماء الغسل في الطهارة عما لا عين له من
النجاسات. واما ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمهالله) فقد عرفت جوابه.
وبالجملة فحاصل
كلام الشيخ (رحمهالله) انه مأمور بتقديم إزالة النجاسة قبل
الاغتسال بالأخبار التي تقدمت الإشارة إليها ، فإن خالف واغتسل أولا ، فإن
زالت النجاسة بماء الغسل ارتفعت النجاستان الحدثية والخبثية ، والا فالحدثية خاصة
واحتاج في إزالة الخبثية إلى غسل آخر ، وهذا لا ينافي ما يستفاد من الاخبار المشار
إليها ، فإن غايته القول بوجوب إزالة النجاسة ثم الغسل بعد ذلك ، ولا يلزم ان يكون
منهيا عن تقديم الغسل أو المقارنة إلا على تقدير القول باقتضاء الأمر بالشيء
النهي عن ضده الخاص ، وهو مما لم يقم عليه دليل ، ومع تسليمه فلا يلزم من النهي
هنا ايضا بطلان الغسل ، لأن النهي لم يتوجه إلى العبادة ولا إلى جزئها ولا شرطها
بل الى خارجها اللازم ، فلم يبق للبطلان وجه الا ما ادعوه مما عرفت بطلانه آنفا.
والى هذا القول
مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخوانساري في شرح الدروس حيث قال
بعد نقل عبارة المبسوط ما ملخصه : وهذا يدل على ان طهارة المحل ليست شرطا في الغسل
، وعلى ان الغسل الواحد يجزئ عن رفع الحدث والخبث معا. وما ذكره هو الظاهر : (اما
الأول) فلأن الأمر بالاغتسال مطلق والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر. نعم لا بد
من وصول الماء إلى البشرة فيجب ان لا يكون للنجاسة عين مانع عن الوصول ، اما إذا
لم يكن لها عين أو كان ولم يكن مانعا فلا دليل على بطلانه ، وان لم يطهر بصب الماء
للغسل كما إذا كان لها عين غير مانع ولم تزل أو لم يكن لها عين ولكن لا بد في
تطهيرها من الصب مرتين. و (اما الثاني) فلمثل ذلك أيضا ، لأن الأمر بالاغتسال مطلق
وكذا الأمر بالتطهير ، فإذا صب الماء على العضو فقد امتثل الأمرين ، فلو كانت
النجاسة مما يكفيه صب واحد فقد ارتفع الحدث والخبث ، وان لم يكفها صب واحد بل لا
بد فيها من مرتين كما إذا كانت بولا فيحسب هذا الصب بواحد ويجب صب آخر ، واما
النجاسة الحكمية فقد ارتفعت بالصب الأول. انتهى.
أقول :
والتحقيق عندي في هذا المقام ان يقال لا ريب ان ما ادعوه ـ من وجوب إزالة الخبثية
ثم الغسل بعد ذلك وان ماء الغسل لا يجزئ لهما متى زال عين النجاسة الخبثية
فلا دليل عليه ، وأضعف منه ما ادعوه من تعدد المسببات بتعدد الأسباب ،
فيبقى ما ذكره الشيخ (رحمهالله) سالما مما ذكروه. نعم يبقى الاشكال فيما ذكره (قدسسره) من وجه آخر ، وهو انهم قد أجمعوا إلا من شذ على نجاسة
الماء القليل بالملاقاة ، والمشهور بينهم نجاسة الغسالة من الخبث ، وقد أجمعوا
أيضا من غير خلاف يعرف على ان ما كان نجسا قبل التطهير لا يكون مطهرا ، فبناء على
هذه المقدمات الثلاث متى اغتسل المكلف وعلى بدنه نجاسة لم تزل عنه بالغسل وان كانت
لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة أو زالت عينها من ذلك الموضع الى موضع آخر أو
زالت عينها بالكلية ولكن تعدت غسالتها الى موضع آخر من البدن ، فالقول بصحة الغسل
هنا بناء على هذه المقدمات الثلاث مشكل جدا ، لان الماء بملاقاة النجاسة لا ريب في
تنجسته بناء على المقدمة الاولى وحينئذ فإن طهر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة إذ لا
منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة وتطهيره كما تقدم تحقيقه في مسألة نجاسة الماء
القليل بالملاقاة ، الا انه بعد التعدي عن ذلك الموضع الى موضع آخر خال من النجاسة
يكون منجسا له بمقتضى المقدمة الثانية ، والماء النجس لا يرفع حدثا ، ولو بنى
الحكم على طهارة الغسالة أو عدم انفعال القليل بالملاقاة زال الاشكال ، والشيخ (رحمهالله) وان لم يقل بعدم نجاسة القليل بالملاقاة الا أنه قائل
بطهارة الغسالة فيتجه كلامه هنا بناء على ذلك. واما ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره
في توجيه كلام الشيخ فهو جيد ان وافق على ما ذكرنا ، والا فالنظر متوجه اليه حسبما
شرحناه.
وصرح العلامة
في النهاية بالاكتفاء بغسلة واحدة لكل من إزالة النجاسة الحدثية والخبثية فيما إذا
كان الغسل فيما لا ينفعل بالملاقاة كالكثير ، وفي القليل بشرط ان تكون النجاسة في
آخر العضو فإن الغسلة تطهره. وهو جيد بناء على القول بنجاسة الغسالة كما هو مذهبه (رحمهالله).
واعترضه الشيخ
علي في شرح القواعد فقال بعد نقل ذلك عنه : «والتحقيق ان محل الطهارة ان لم يشترط
طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع
الصور ، ولا حاجة الى التقييد بما ذكره ، خصوصا على ما اختاره من ان القليل
الوارد انما ينجس بعد الانفصال ، وان اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة لفقد
الشرط ، والشائع على السنة الفقهاء هو الاشتراط فالمصير اليه هو الوجه» انتهى.
أقول : فيه ان
ما ذكره على تقدير عدم الاشتراط من اجزاء الغسل مع وجود عين النجاسة على إطلاقه
ممنوع بناء على ما ذكرنا من المقدمات المتقدمة ، فإنه متى حكم بنجاسة الماء القليل
بالملاقاة ونجاسة الغسالة فكيف يجزئ الغسل مع تعدي الغسالة إلى سائر أجزاء البدن؟
والكلام ليس في خصوص موضع النجاسة كما يشير اليه قوله : «خصوصا على ما اختاره. إلخ»
ومن أجل ما ذكرناه التجأ في النهاية إلى قصر التطهير وصحة الغسل بغسلة واحدة على
الغسل في الماء الكثير الذي لا ينفعل بالملاقاة وفي القليل بالشرط الذي ذكره. نعم
يأتي بناء على ما ادعوه من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب العدم ، ولهذا ان شيخنا
في الذكرى بناء على القاعدة المذكورة صرح بعدم الاكتفاء بالمرة في الكثير لازالة
حدث الجنابة والنجاسة الخبثية ، قال : لأنهما سببان فيتعدد حكمهما. وفيه ما عرفت.
والله العالم.
المقصد الرابع
في الآداب.
ومنها ما هو مقدم ومنها ما هو مقارن ، وهي أمور :
(الأول) ـ البول
مع إمكانه على المشهور بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى وابن إدريس والعلامة ومن
تأخر عنه ، وقيل بالوجوب ، ونقله في الذكرى عن جمع من متقدمي الأصحاب : منهم ـ الشيخ
في المبسوط وابن حمزة وابن زهرة والكيدري وابن البراج في الكامل وأبو الصلاح وظاهر
صاحب الجامع ، وفي من لا يحضره الفقيه : «من ترك البول على اثر الجنابة أو شك تردد
بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الذي لا دواء له» قال في الذكرى : «وهو مروي في
الجعفريات عن النبي (صلى الله
عليه وآله)» وفي عبائر جملة منهم كالشيخ المفيد والجعفي وابني
بابويه وابن البراج في غير الكتاب المتقدم وابن الجنيد (رحمهالله) الأمر بذلك.
ونقل في
المختلف عن الشيخ انه احتج بالأحاديث الدالة على وجوب الغسل مع وجود البلل ثم أجاب بأنها غير دالة على محل النزاع فانا نسلم انه
يجب عليه مع وجود البلل اعادة الغسل. واحتج في المختلف للاستحباب بالأصل ، وبقوله عزوجل : «وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» ولم يوجب الاستبراء. وقال في الذكرى : «ولا بأس بالوجوب
محافظة على الغسل من طريان مزيله ، ومصيرا الى قول معظم الأصحاب ، وأخذا بالاحتياط»
انتهى وفي البيان حكم بأن الأصح الاستحباب.
أقول : اما ما
ذكره الشيخ (رحمهالله) ـ من الاستدلال بالأخبار المشار إليها كما صرح به في
الاستبصار ـ ففيه ما ذكره في المختلف ، فان وجوب الإعادة بدون الاستبراء لا دلالة
له على أصل وجوب الاستبراء بوجه. واما ما ذكره في الذكرى من قوله : «ولا بأس
بالوجوب. إلخ» فإن كان المراد منه اختيار القول بالوجوب كما هو ظاهر كلامه فهذه
الوجوه التي ذكرها لا تصلح دليلا له كما لا يخفى ، وان أراد ان الاحتياط في ذلك
فلا ريب فيه.
والأظهر
الاستدلال على ذلك بما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن احمد بن محمد
بن ابي نصر البزنطي قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. قال تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى
أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ، ثم تدخل يدك في الإناء ثم اغسل ما أصابك منه.
الحديث».
ومضمرة أحمد بن
هلال المتقدمة في المقصد الثاني قال : «سألته عن رجل
__________________
اغتسل قبل ان يبول فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان يكون ناسيا فلا يعيد
منه الغسل».
وفي الفقه
الرضوي «فإذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد ان تبول حتى تخرج فضلة المني التي في
إحليلك ، وان جهدت ولم تقدر على البول فلا شيء عليك وتنظف موضع الأذى منك. إلخ». وبصدر
هذه العبارة عبر ابنا بابويه على ما نقل عنهما
والظاهر انه
على هذه الاخبار اعتمد المتقدمون فيما صرحوا به من الوجوب أو ذكر الأمر بذلك في
كلامهم ، ولا سيما الشيخ علي بن بابويه في رسالته ، فإنها إلا الشاذ النادر منقولة
من الفقه الرضوي كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية من هذا الكتاب
، والصدوق في الفقيه كثيرا ما يعبر ايضا بعبارات الكتاب من غير استناد ولا نسبة
الى الرواية ، وعبارة الكتاب المذكور هنا ظاهرة في الوجوب للأمر بذلك الذي هو
حقيقة في الوجوب كما أوضحناه في مقدمات الكتاب ، ونحوها صحيحة البزنطي وان كان
الأمر فيها بالجملة الفعلية ، لما حققنا ثم ايضا من انه لا اختصاص للوجوب بمفاد
صيغة الأمر بل كل ما دل على الطلب ، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والأحاديث
المعصومية حسبما تقدم تحقيقه في الموضع المشار اليه ، وبذلك يندفع ما أورده بعضهم
على الاستدلال بالرواية لذلك. وما ربما يورد عليها ايضا ـ من ان ورود الأمر بذلك
في قرن هذه المستحبات يؤذن بالاستحباب ـ فهو مردود بان الأمر حقيقة في الوجوب ،
وقيام الدليل على خلافه في بعض الأوامر لا يستلزم انسحابه الى ما لا معارض له ولا
دليل على خلافه كما صرحوا به ، وهل هو الا من قبيل العام المخصوص فإنه يصير حجة في
الباقي ، وبما ذكرناه يظهر قوة ما ذهب اليه المتقدمون (رضوان الله عنهم) ويظهر ضعف
ما ذكره في المختلف من الاستناد في الاستحباب الى الأصل ، فإنه يجب الخروج عنه
بالدليل ، والآية مطلقة يجب تقييدها ايضا به كما وقع لهم في غير مقام.
بقي الكلام هنا
في موضعين (الموضع الأول) ـ انه هل ينسحب الحكم الى
__________________
المرأة فيجب أو يستحب لها البول أيضا أم لا؟ قولان ، ظاهر المقنعة والنهاية
الأول ، حيث قال في المقنعة : «ينبغي للمرأة ان تستبرئ نفسها قبل الغسل بالبول ،
فان لم يتيسر لها ذلك لم يكن عليها شيء» وقال في النهاية بعد ذكر الرجل وانه
يستبرئ نفسه بالبول : «وكذلك تفعل المرأة» وظاهر العلامة ومن تأخر عنه الثاني ،
قال في المختلف ـ بعد ان نقل عن الشيخ في الجمل تخصيص الحكم بالرجل ـ ما صورته : «وهو
الحق لأن المراد منه استخراج المتخلف من بقايا المني في الذكر ، وهذا المعنى غير
متحقق في طرف المرأة ، لأن مخرج البول ليس هو مخرج المني فلا معنى لاستبرائها»
انتهى.
والأجود
الاستناد في ذلك الى عدم الدليل الذي هو دليل على العدم ، والإلحاق بالرجل قياس مع
الفارق ، ولان الغرض من الاستبراء ـ كما يفهم من الاخبار ـ انما هو لعدم اعادة
الغسل ومورد الأخبار المذكورة انما هو الرجل ، ويعضده ان يقين الطهارة لا يرتفع
بالشك ، والرجل قد خرج بالنصوص الصحيحة الصريحة فتبقى المرأة لعدم الدليل وحينئذ
فما تجده المرأة من البلل المشتبه لا يترتب عليه حكم.
وأورد على ما
ذكره العلامة من عدم ترتب الفائدة عليه لتغاير المخرجين بأنه يمكن ان يعصر البول
بعد خروجه مخرج المني فيخرجه ، مع ان الحال في الرجل ايضا كذلك لان مخرج منيه غير
مخرج بوله إلا أنهما أشد تقاربا من مخرجي المرأة ، ومن أجل ذلك انا ضربنا صفحا عن
الاعتماد عليه وان أمكن الجواب عنه بالفرق بين مخرجي الرجل والمرأة ، لاشتراك
مخرجي الرجل في نفس الذكر ومخرج الجميع من مخرج واحد ، بخلاف مخرجي المرأة فإنهما
مفترقان الى وقت الخروج ، فالحكم هنا ـ بعصر البول عند خروجه لمخرج المني كما
ادعاه القائل المذكور ـ غير معلوم.
واما ما ذكره
صاحب رياض المسائل ـ من التوقف في هذه المسألة لإطلاق قوله (عليهالسلام) في مضمرة أحمد بن هلال : «ان الغسل بعد البول». وان خصوص
__________________
السؤال عن الرجل لا يخصص ومن حيث خصوص أكثر الروايات المشتملة على حكمه
الأمر به وهو اعادة الغسل لو وقع قبله عند خروج بلل مشتبه بعده بالرجل ، مع
التصريح في البعض بالفرق بينهما بالإعادة فيه دونها معللا بان ما يخرج من المرأة
إنما هو من ماء الرجل ـ فلا يخفى ما فيه : (اما أولا) ـ فلان الاستناد الى هذا
الإطلاق الذي ذكره وان خصوص السؤال عن الرجل لا يخصص انما يتم لو كان الجواب
مقصورا على هذه العبارة التي ذكرها ، ولكن الضمائر الواقعة في الجواب بعدها لا مرجع
لها الا الرجل المذكور في السؤال ، وحينئذ فما ادعاه من الإطلاق غير تام بل الجواب
ظاهر في خصوص الرجل المسؤول عنه ، واحتمال عود الضمير الى المغتسل المفهوم من قوله
: «ان الغسل» خلاف الظاهر.
و (اما ثانيا)
ـ فلما في متن هذه الرواية من العلة زيادة على ضعف سندها بالراوي المذكور ، حيث ان
ظاهرها يشعر بأنه لو تعمد الغسل قبل البول فإنه يعيد الغسل فان تقدير الكلام
باعتبار إضمار المستثنى منه في قوة أن يقال : الغسل بعد البول فلا يصح قبله الا ان
يكون ناسيا فإنه يصح ولا يعيد الغسل منه. وهو باطل إجماعا نصا وفتوى.
و (اما ثالثا)
ـ فلان الأصل العدم ، ويعضده ما ذكره في الوجه الثاني من خصوص الروايات المشتملة
على حكمه الأمر به المعتضدة بالتصريح بالفرق بين ما يخرج من الرجل وما يخرج من
المرأة ، والرواية التي ذكرها لا تبلغ قوة المعارضة لشيء من ذلك متنا وسندا بل هي
ساقطة مرجوعة إلى قائلها ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور.
هذا كله فيما
إذا لم يعلم ان الخارج مني ، والا فلو علم فالذي دل عليه موثق سليمان بن خالد
المتقدم ان الذي يخرج منها انما هو مني الرجل ، وقطع ابن إدريس
__________________
بوجوب الغسل عليها في الصورة المذكورة ولم يعمل بالرواية لعموم «الماء من
الماء» . ولا يخفى ضعفه. فان حديثه عام أو مطلق وهذا خاص أو
مقيد ومقتضى القاعدة تقديم العمل به.
(الموضع الثاني)
ـ لو أجنب ولم ينزل فهل يستحب ايضا له الاستبراء بالبول أم لا؟
ظاهر جملة من
الأصحاب (رضياللهعنهم) الثاني ، قال في المنتهى : «لو جامع ولم ينزل لم يجب
عليه الاستبراء ، ولو رأى بللا يعلم انه مني وجب عليه الإعادة ، اما المشتبه فلا
لأنا إنما حكمنا هناك بكون البلل منيا بناء على الغالب من استخلاف الاجزاء بعد
الانزال ، وهذا المعنى غير موجود مع الجماع الخلي من الانزال» وبذلك صرح الشهيدان
والمحقق الشيخ علي (رحمهمالله) قال في الذكرى : «انما يجب الاستبراء أو يستحب ويتعلق
به الأحكام للمنزل ، اما المولج بغير إنزال فلا لعدم سببه. هذا مع تيقن عدم
الانزال ، ولو جوزه أمكن استحباب الاستبراء أخذا بالاحتياط ، اما وجوب الغسل
بالبلل فلا. لان اليقين لا يرفع بالشك» انتهى.
واعترضهم في
الذخيرة فقال : «ويرد عليهم عموم الروايات كما ستطلع عليه من غير تفصيل ، وانتفاء
الفائدة ممنوع إذ عسى ان ينزل ولم يطلع عليه واحتبس شيء في المجاري لكون الجماع
مظنة نزول الماء» انتهى.
أقول : لا ريب
في ان الروايات في هذه المسألة وان كانت مطلقة كما ذكره الا ان إطلاقها انما وقع
من حيث معلومية الحكم وظهوره ، فإنه لا يخفى على ذي مسكة ان المستفاد من الاخبار
المذكورة ان العلة في الأمر بالبول هو تنقية المخرج لئلا يخرج بعد ذلك شيء يوجب
اعادة الغسل ، ولا يعقل لاستحباب البول بمجرد الإيلاج سيما مع تيقن عدم الانزال
وجه وان شمله إطلاق الاخبار المذكورة. واما قوله : «وعسى ان ينزل.»
__________________
ففيه أن الإنزال مقرون بعلامات موجبة للعلم به مثل الشهوة وفتور الجسد
والدفق ونحوها ، وفرض ما ذكره ـ مع كونه من النادر الذي لا تبنى عليه الأحكام
الشرعية ـ لا يوجب قصر الحكم عليه ، فلا يكون ما ذكره من الحكم كليا وهو خلاف ظاهر
كلامه. وبالجملة فإن خروج الاخبار في هذا المقام مطلقة انما هو من حيث معلومية ذلك
(الثاني) ـ غسل
اليدين ان لم يصبهما قذر قبل إدخالهما الإناء إذا كان الغسل منه ، كما هو المعروف
في الأزمنة السابقة وبه وردت الاخبار ، وان استحباب ذلك ثابت إجماعا فتوى ورواية.
ويجزئ غسل
الكفين من الزندين كما اشتمل عليه أكثر الاخبار وهو المشهور ، ونقل في الذكرى عن
الجعفي أنه يغسلهما الى المرفقين أو الى نصفهما لما فيه من المبالغة في التنظيف
والأخذ بالاحتياط :
ففي صحيحة محمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك
فتغسلهما ثم تغسل فرجك. الحديث».
وفي موثقة أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك
ثم تدخل يدك فتغسل فرجك. الحديث».
وفي صحيحة
زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك.».
ويجزئ غسل الكف
الأيمن كما تضمنته صحيحة حكم بن حكيم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء
فاغسلها. الحديث».
والأفضل دون
المرفق كما تضمنته موثقة سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على
كفيه فليغسلهما دون المرفق.».
__________________
أو الى نصف الذراع كما تشعر به رواية يونس عنهم (عليهمالسلام) المتضمنة لغسل الميت وانه يغسل يده ثلاث مرات كما يغتسل
الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع.
والا كمل من
المرفق لما تضمنته صحيحة يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) «يبدأ فغسل يديه الى المرفقين قبل ان يغمسهما في الماء.». وصحيحة أحمد ابن
محمد بن ابي نصر قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن غسل الجنابة فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين
إلى أصابعك وتبول. الحديث». وقد تقدم قريبا ، ورواية قرب الاسناد عن احمد بن محمد
بن عيسى عن احمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليهالسلام) انه قال في غسل الجنابة : «تغسل يدك اليمنى من المرفق
إلى أصابعك.». والظاهر ان تثنية المرفق وافراد اليد في الرواية الثانية من سهو قلم
الشيخ (رحمهالله) ورواية الحميري تؤيد الأول ، قال في الوافي بعد نقل
الخبر المذكور : «وفي بعض النسخ تغسل يديك الى المرفقين وهو الصواب».
وتكفي المرة
والأفضل الثلاث لصحيحة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سأل كم يفرغ الرجل على يده قبل ان يدخلها في
الإناء؟ قال : واحدة من حدث البول وثنتين من الغائط وثلاثا من الجنابة». وروى في
الفقيه مرسلا قال قال الصادق (عليهالسلام) : «اغسل يدك من البول مرة ومن الغائط مرتين ومن الجنابة
ثلاثا». ورواية حريز عن الباقر (عليهالسلام) قال : «يغسل الرجل يده من النوم مرة ومن الغائط والبول
مرتين ومن الجنابة ثلاثا». وفي الفقه الرضوي «وتغسل يديك الى المفصل ثلاثا قبل ان تدخلهما الإناء وتسمى بذكر الله تعالى
قبل إدخال يدك
__________________
الإناء». ومن المحتمل قريبا تعين الثلاث. فإنه لا دليل للمرة إلا إطلاق
الاخبار المتقدمة ويمكن تقييده بهذه الروايات.
وهل الحكم مختص
بالغسل من الإناء الواسع الرأس القليل الماء ، أو ينسحب الى الارتماس والغسل تحت
المطر أو من إناء يصب عليه ونحو ذلك؟ ظاهر الاخبار الأول ، وصرح العلامة بالثاني
محتجا بأنه من سنن الغسل ، قال في الذخيرة بعد نقل ذلك عنه : «وهو حسن لعموم صحيحة
زرارة وصحيحة محمد بن مسلم وصحيحة حكم ابن حكيم ورواية أبي بكر الحضرمي» وفيه ان سياق أكثر روايات الغسل بل روايات الوضوء ايضا
ظاهر في كون الطهارة انما هي من الأواني الواسعة الرأس القليلة الماء كالطشوت
ونحوها ، وما أطلق وأجمل منها وهو القليل يحمل على المقيد والمبين ، والقول بعموم
الاستحباب ـ كما ذكر ـ يحتاج الى دليل واضح وليس فليس. والله العالم.
(الثالث) ـ المضمضة
والاستنشاق ومحلهما بعد إزالة النجاسة كما يفهم من الاخبار
ففي صحيحة
زرارة عن الصادق (عليهالسلام) «تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض
واستنشق.».
وفي رواية أبي
بصير عنه (عليهالسلام) «تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق.».
وحملتا على
الاستحباب جمعا بينهما وبين ما تقدم في المسألة الثامنة من المقصد المتقدم من الأخبار الدالة على نفيهما في الغسل بحملها على نفي
الوجوب كما تقدمت الإشارة اليه.
والمشهور استحباب
التثليث مقدما لثلاث الاولى على الثانية ، وجملة منهم ذكروا الحكم المذكور هنا وفي
الوضوء ولم يوردوا له دليلا ، وبعضهم اعترف بعدم الوقوف على
__________________
الدليل في الموضعين ، والذي وقفت عليه من الدليل هنا ما ذكره في الفقه
الرضوي حيث قال (عليهالسلام): «وقد نروى أن يتمضمض يستنشق ثلاثا ويروى مرة مرة
تجزيه وقال الأفضل الثلاث وان لم يفعل فغسله تام». واما الوضوء فقد تقدم دليله .
(الرابع) ـ التسمية
على ما ذكره جملة من الأصحاب ، وأسندها في الذكرى الى الجعفي ، قال : «وقال الشيخ
المفيد (رحمهالله) : يسمى الله عزوجل عند اغتساله ويمجده ويسبحه. ونحوه قال ابن البراج في
المهذب ، والأكثر لم يذكروها في الغسل ، والظاهر انهم اكتفوا بذكرها في الوضوء
تنبيها بالأدنى على الأعلى» انتهى. أقول : لا يخفى ما في هذا العذر من البعد ، بل
الظاهر ان عدم ذكرهم لها انما هو لعدم وقوفهم على دليل لذلك ، ومن ذكرها فلعله وقف
على الدليل.
واستدل في
الذكرى على ذلك بإطلاق صحيحة زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا وضعت يدك في الماء فقل بسم الله وبالله
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإذا فرغت فقل الحمد لله رب
العالمين». وهذا الخبر انما أورده الأصحاب في الوضوء ولهذا ان صاحب رياض المسائل
إنما استند في استحبابها الى الخبر العام ، والظاهر انه أشار به الى قوله (عليهالسلام): «كل أمر لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» . ثم قال : «ويتخير في جعلها عند غسل اليدين وعند
المضمضة والاستنشاق وعند ابتداء غسل الرأس لصدق البدأة في الكل» أقول : ما ذكره من
التخيير جيد بالنسبة
__________________
الى ما خرجه من الدليل ، والمستفاد من كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي ـ كما قدمنا ذكره قريبا ـ هو استحباب
التسمية وان محلها قبل إدخال اليد في الإناء ، وهذا مما اختص ببيان دليله الكتاب
المذكور. والله العالم.
(الخامس) ـ الدلك
باليد ، ذكره الأصحاب (رض) وعللوه بما فيه من الاستظهار والمبالغة في إيصال ماء
الغسل ، وقال في المعتبر انه اختيار علماء أهل البيت (عليهمالسلام) وفي المنتهى انه مذهب أهل البيت ، وظاهر كلاميهما دعوى
الإجماع عليه ، وظاهر كلام الجميع عدم الوقوف فيه على نص ، والحكم المذكور قد صرح
به في الفقه الرضوي فقال بعد ان ذكر صفة الغسل وانه يصب على رأسه ثلاث أكف
وعلى جانبه الأيمن مثل ذلك وعلى جانبه الأيسر مثل ذلك الى ان قال : «ثم تمسح سائر
بدنك بيديك وتذكر الله تعالى فإنه من ذكر الله تعالى على غسله وعند وضوئه طهر بدنه
كله. الحديث».
أقول : لا ريب
انه متى كان غسل الأعضاء الثلاثة انما هو بالأكف الثلاثة ونحوها كما تضمنه هذا
الخبر وغيره ، فإنه لا يبعد وجوب الدلك ليحصل يقين إيصال الماء الى جميع البدن.
وبالجملة فالحكم المذكور مما لا اشكال فيه ويشير إليه أيضا قوله في صحيحة زرارة عن
الصادق (عليهالسلام) : «... ولو ان جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه
ذلك وان لم يدلك جسده».
(السادس) ـ تخليل
ما يصل اليه الماء بدون التخليل استظهارا كالشعر الخفيف ومعاطف الأذنين والإبطين
والسرة وعكن البطن في السمين وما تحت ثدي المرأة ونحو ذلك ، اما ما لا يصل اليه
الماء بدون التخليل فإنه يجب تخليله كما تقدم ، ويشير الى الحكم المذكور ما تقدم
في المسألة السادسة من سابق هذا المقصد من
__________________
قوله (عليهالسلام) في حسنة جميل : «ثم قال يبالغن في الغسل». وفي صحيحة
محمد بن مسلم : «يبالغن في الماء». وفي الفقه الرضوي : «والاستظهار فيه إذا أمكن».
ولا ينافي ذلك ما تقدم في المسألة السابعة من سابق هذا المقصد في صحيحة إبراهيم بن ابي محمود ورواية إسماعيل بن ابي
زياد ، فإن غاية ما تدلان عليه صحة الغسل مع عدم التخليل وهو لا ينافي استحبابه ،
على انك قد عرفت ثمة ارتكاب التأويل فيهما. ونقل في الذكرى عن العلامة انه حكم
باستحباب تخليل المعاطف والغضون ومنابت الشعر والخاتم والسير قبل إفاضة الماء
للغسل ليكون أبعد عن الإسراف وأقرب الى ظن وصول الماء قال : وقد نبه عليه قدماء
الأصحاب. انتهى. وفيه ما لا يخفى.
(السابع) ـ الدعاء
لما رواه الشيخ (رحمهالله) عن عمار الساباطي قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا اغتسلت من جنابة فقل اللهم طهر قلبي وتقبل سعيي
واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، وإذا
اغتسلت للجمعة فقل اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي اللهم اجعلني من
التوابين واجعلني من المتطهرين».
وما رواه عن
محمد بن مروان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «تقول في غسل الجمعة اللهم طهر قلبي من كل آفة
تمحق ديني وتبطل عملي ، وتقول في غسل الجنابة اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما
عندك خيرا لي». وفي كتاب المصباح تقول عند الغسل : «اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري
وأجر على لساني مدحتك والثناء عليك اللهم اجعله لي طهورا وشفاء ونورا انك على كل
شيء قدير». وقال المفيد (رحمهالله) في المقنعة : «ويسمى الله تعالى عند اغتساله ويمجده
ويسبحه ، فإذا فرغ من غسله فليقل اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» والظاهر حصول الامتثال بالدعاء
حال الاغتسال
__________________
وبعده والاخبار المذكورة لا تأباه ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال
: «ولعل استحباب الدعاء للغسل شامل حال الاغتسال وبعده».
(الثامن) ـ الاستبراء
بالاجتهاد على المشهور سيما بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى (رضياللهعنه) وابن
إدريس ومن تأخر عنه ، ونقل عن الشيخ في المبسوط والجمل وجوبه وعبارته تدل على وجوب
الاستبراء بالبول أو الاجتهاد على الرجل ، وظاهر هذا الكلام هو ان الواجب
الاستبراء بالبول إن أمكن والا فبالاجتهاد ، وهو الظاهر من كلام الشيخ المفيد (رحمهالله) في المقنعة حيث قال : «وإذا عزم الجنب على التطهير
بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر له ذلك
فليجتهد في الاستبراء بمسح ما تحت الأنثيين إلى أصل القضيب وعصره الى رأس الحشفة
ليخرج ما لعله باق فيه من نجاسة» ونقل مثله ايضا عن ابن البراج. وعن ظاهر الجعفي
وجوب البول والاجتهاد معا. وجملة من عبائر القائلين بالوجوب مجملة حيث صرحوا بوجوب
الاستبراء ولم يفسروه بالبول أو الاجتهاد أو هما معا. وكيف كان فالظاهر هو القول
المشهور وضعف القول المذكور ، لعدم الدليل عليه ، والدليل الذي أورده الشيخ على
وجوب الاستبراء بالبول ـ وهو الروايات الدالة على وجوب اعادة الغسل بدونه ـ لا يمكن الاستدلال به هنا سيما في صورة ما إذا بال.
وبالجملة فإنا لم نقف في شيء من اخبار الغسل على الأمر للمنزل بالاستبراء
بالاجتهاد وانما ورد ذلك بعد البول.
وهل يستحب
الاستبراء للمرأة أيضا؟ قولان.
واما كيفية
الاستبراء بالاجتهاد فقد تقدم تحقيق القول فيه في بحث الوضوء
(التاسع) ـ الموالاة
ذكرها جملة من متأخري الأصحاب ، وعللوه بما فيه من المبادرة إلى الواجب والتحفظ من
طريان المفسد للغسل ، ولان المعلوم من صاحب الشرع وذريته المعصومين (صلوات الله
عليهم) فعل ذلك ، وظاهر كلامهم الاتفاق
__________________
على عدم وجوبها هنا بكل من المعنيين المذكورين في الوضوء ، وقد تقدم الكلام
في ذلك في المسألة الثالثة من المسائل الملحقة بالمقصد المتقدم .
(العاشر) ـ الغسل
بصاع ، وعليه إجماع علمائنا وأكثر العامة ، ونسب الى ابى حنيفة القول بوجوب الصاع .
ويدل على
الاستحباب ـ مضافا الى الإجماع ـ الروايات الدالة على الاكتفاء بمجرد الجريان ولو
كالدهن ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال تبدأ بكفيك فتغسلهما
، الى ان قال : ثم تصب على سائر جسدك مرتين فما جرى عليه الماء فقد طهر». وفي
صحيحة زرارة أو حسنته قال : «قلت كيف يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه
شيء ، الى ان قال : فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وفي صحيحته الأخرى «... وكل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته.». وفي موثقته ايضا «أفض على رأسك ثلاث أكف وعن يمينك وعن يسارك انما يكفيك مثل الدهن». وفي
حسنة هارون بن حمزة الغنوي قال : «يجزيك من الغسل والاستنجاء ما بلت يدك». الى غير
ذلك من الاخبار.
ومما يدل على
استحباب الصاع هنا ما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : كان رسول الله (صلى الله
__________________
عليه وآله) يغتسل بصاع وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد». وعن زرارة
في الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمدر طل ونصف والصاع ستة
أرطال». قال الشيخ (رحمهالله) : «أراد به أرطال المدينة فيكون تسعة أرطال بالعراقي» وعن
زرارة ومحمد بن مسلم وابي بصير في الصحيح عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) انهما قالا : «توضأ رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بمد واغتسل بصاع ، ثم قال : اغتسل هو وزوجته بخمسة
أمداد من إناء واحد. قال زرارة فقلت كيف صنع هو؟ فقال بدأ هو فضرب يده في الماء
قبلها وأنقى فرجه ثم ضربت هي فأنقت فرجها ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا
، فكان الذي اغتسل به رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ثلاثة أمداد والذي اغتسلت به مدين ، وانما أجزأ عنهما
لأنهما اشتركا جميعا ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع».
أقول : قوله (عليهالسلام) : «ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع» لا ينافي
ما قدمنا من الاخبار ، لانه محمول على سنة الإسباغ جمعا بينه وبين الاخبار
المتقدمة ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب (رضياللهعنهم) قال شيخنا المفيد (رحمهالله) : «والغسل بصاع من الماء وقدره تسعة أرطال بالبغدادي ،
وذلك إسباغ ودون ذلك مجزئ في الطهارة» وقال الشيخ في المبسوط : «والإسباغ بتسعة أرطال»
وفي النهاية «والإسباغ يكون بتسعة أرطال من ماء» وفي الخلاف «الفرض في الغسل إيصال
الماء الى جميع البدن وفي الوضوء إلى أعضاء الطهارة ، وليس له قدر لا يجوز أقل منه
الا ان المستحب ان يكون الغسل بتسعة أرطال والوضوء بمد».
وهذه العبارات
كلها ولا سيما عبارة الخلاف مطابقة للأخبار المتقدمة متوافقة في ان المجزئ هو ما
صدق عليه الغسل وان نهاية ما يستحب من الزيادة لسنة الإسباغ هو
__________________
الصاع ، وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة في المنتهى وقبله المحقق في
المعتبر من ان المستحب هو الصاع فما زاد ، قال في المعتبر في تعداد سنن الغسل : «والغسل
بصاع فما زاد لا خلاف بين فقهائنا في استحبابه» وقال في المنتهى : «الغسل بصاع فما
زاد مستحب عند علمائنا اجمع» وقال الشهيد في الذكرى : «والشيخ وجماعة ذكروا
استحباب الغسل بصاع فما زاد ، والظاهر انه مقيد بعدم أدائه إلى السرف المنهي عنه»
انتهى.
أقول : لا يبعد
ان ما نسبه الشهيد الى الشيخ وجماعة انما نشأ من نظره الى عبارتي المعتبر والمنتهى
، حيث ادعوا ان الحكم بذلك إجماعي ، والا فعبارات الشيخ (رحمهالله) التي قدمناها خالية عما نقله عنه ، واحتمال كون ذلك في
موضع آخر من كتبه الظاهر بعده ، فان هذه الكتب الثلاثة هي المعول عليها في نقل
مذاهبه غالبا ، وايضا لو كان كذلك لم ينقل ذلك على الإطلاق. ومما يدفع ما ادعاه
الفاضلان المذكوران من الإجماع (أولا) ـ تصريح الأصحاب المتقدم ذكرهم بعدم الزيادة
بل ظاهر كلامهم ان هذا نهاية الاستحباب. و (ثانيا) ـ ما تقدم في بحث الوضوء من مرسلة
الفقيه عنه (صلىاللهعليهوآله) قال : «الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي أقوام من بعدي
يستقلون ذلك فأولئك على خلاف سنتي والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس». وربما
استفيد من اخبار كيفية الغسل دخول ماء الاستنجاء والغسل المستحب والمضمضة
والاستنشاق في الصاع المذكور ، وصحيحة الفضلاء المتقدمة ظاهرة في دخول ماء
الاستنجاء. واما تحقيق الصاع وقدره فسيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الزكاة.
المقصد الخامس
في الأحكام وفيه
مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء مع كل غسل إلا غسل الجنابة فإنه
لا يجب معه إجماعا ، وهل يستحب معه أم لا؟ قولان
__________________
المشهور العدم. فالكلام هنا يقع في مقامين :
(الأول) ـ في
وجوب الوضوء مع كل غسل ، وعليه جل الأصحاب ، وذهب المرتضى (رضياللهعنه) إلى انه
لا يجب الوضوء مع الغسل سواء كان فرضا أو نفلا ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد
ايضا ، واليه مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.
احتج الأولون
بقوله عزوجل : «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ ... الآية» فإنه شامل لمن اغتسل وغيره ، خرج منه الجنب بالنص
والإجماع وبقي ما عداه.
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل غسل قبله وضوء الا غسل الجنابة». قال في
الكافي : «وروي انه ليس شيء من الغسل فيه وضوء الا غسل يوم
الجمعة فان قبله وضوء» قال : «وروي اي وضوء اطهر من الغسل؟».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن ابن ابي عمير عن حماد بن عثمان أو غيره عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «في كل غسل وضوء إلا الجنابة». وهذه الرواية
رواها في المختلف في الحسن عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليهالسلام). وفيه ان سندها في كتب الاخبار عن حماد بن عثمان أو
غيره فهي لا تخرج عن الإرسال ، ولهذا ردها المتأخرون بالإرسال كسابقتها بل جعلها
في المدارك رواية واحدة وردها بضعف السند وشنع على من جعلهما روايتين ، واما نقل
العلامة لها عن حماد عنه (عليهالسلام) فالظاهر انه من سهو القلم حيث ان الموجود في كتب
الاخبار انما هو ما ذكرناه.
وعن علي بن
يقطين في الصحيح عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام)
__________________
قال : «إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ واغتسل».
أقول : ويدل
عليه ما ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام): «والوضوء في كل غسل ما خلا غسل الجنابة ، لأن غسل
الجنابة فريضة تجزئه عن الفرض الثاني ولا يجزئه سائر الغسل عن الوضوء لان الغسل
سنة والوضوء فريضة ولا تجزئ سنة عن فرض ، وغسل الجنابة والوضوء فريضتان فإذا
اجتمعا فأكبرهما يجزئ عن أصغرهما ، وإذا اغتسلت لغير جنابة فابدأ بالوضوء ثم اغتسل
ولا يجزيك الغسل عن الوضوء. فان اغتسلت ونسيت الوضوء فتوضأ وأعد الصلاة». انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الصراحة والمبالغة في وجوب الوضوء ، وبهذه العبارة بعينها عبر
الصدوق في الفقيه من غير اسناد إلى الرواية ، وهو قرينة ظاهرة في الاعتماد على
الكتاب المذكور والإفتاء بعبارته كما جرى عليه أبوه قبله في رسالته اليه ، وسيظهر
لك ذلك ان شاء الله تعالى في الأبواب الآتية ظهورا لا يعتريه الشك والريب.
واما ما يدل
على القول الثاني وهو المختار فجملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح
عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الغسل يجزئ عن الوضوء واي وضوء اطهر من الغسل؟».
وفي الصحيح عن حكم بن حكيم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى ، الى ان
قال : قلت ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل ، فضحك (عليهالسلام) وقال : واي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ؟». وعن عبد الله
بن سليمان قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن سليمان بن خالد في
الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن الحسن بن علي ابن
إبراهيم بن محمد عن جده إبراهيم بن محمد ان محمد بن عبد الرحمن الهمداني
__________________
«كتب الى ابي الحسن الثالث (عليهالسلام) يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة. فكتب : لا وضوء
للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره». وعن حماد بن عثمان عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك أيجزيه من الوضوء؟
فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : واي وضوء اطهر من الغسل؟». وعن عمار الساباطي في
الموثق قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو يوم جمعة أو يوم عيد ،
هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل ،
والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد
قد أجزأها الغسل». وعن محمد بن احمد بن يحيى مرسلا «ان الوضوء بعد الغسل بدعة». وبهذا الاسناد قال : «الوضوء قبل الغسل وبعده
بدعة».
ومما يعضد هذه
الاخبار ويعلى هذا المنار الأخبار الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة والنفساء ،
فإنها قد اشتملت على الغسل خاصة ولا سيما في مقام التقسيم الى الغسل في بعض
والوضوء في بعض ، والمقام مقام البيان فلو كان الوضوء مع الغسل واجبا لذكروه (عليهمالسلام) ففي صحيحة زرارة «... وان جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر
يغسل.». وفي صحيحة ابن سنان «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلى الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب
وتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح وتصلي الفجر.». وفي صحيحة عبد الرحمن بن
الحجاج «ان كانت صفرة فلتغتسل ولتصل. الى ان قال : وان كان دما ليس بصفرة فلتمسك
عن الصلاة أيام قرئها ثم لتغتسل ولتصل». وفي صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف
__________________
«... فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل.». وفي صحيحة معاوية بن
عمار «... فإذا جازت
أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر ، الى قوله : وان كان الدم لا
يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.». الى غير ذلك من الأخبار.
أقول : هذا ما
وقفت عليه من اخبار المسألة ، والظاهر عندي هو القول الثاني لدلالة جملة هذه
الأخبار عليه ، وجمهور أصحابنا (رضياللهعنهم) لم يوردوا في مقام الاستدلال للقول الثاني إلا اليسير
منها ، وقد اختلف كلامهم في الجواب عنها :
فاما الشيخ (رحمهالله) في التهذيب فإنه بعد ان ذكر موثقة عمار ورواية حماد
ابن عثمان ومحمد بن عبد الرحمن الهمداني حملها على ما إذا اجتمعت هذه الأغسال مع
غسل الجنابة ، ولا يخفى بعده إذ لا قرينة ولا إشارة في شيء من الاخبار المذكورة
تدل على ذلك
واما الشهيد في
الذكرى فإنه لم يورد إلا مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان ثم قال : «وهي دليل
المرتضى (رضياللهعنه) وابن الجنيد على اجزاء الغسل فرضه ونفله عن الوضوء ، الى
ان قال بعد كلام في البين : والحق ان الترجيح بالشهرة بين الأصحاب وكاد يكون
إجماعا. والروايات معارضة بمثلها وبما هو أصح إسنادا منها» ولا يخفى ما فيه فان
الترجيح بالشهرة في الفتوى لم يدل عليه دليل وانما الشهرة الموجبة للترجيح بين
الاخبار هي الشهرة في الرواية كما اشتملت عليه مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، وهو ثابت في جانب روايات القول الثاني. وما
ذكره من ان الروايات متعارضة فهو كذلك لكن الترجيح في جانب روايات القول الثاني
لكثرتها واستفاضتها وضعف ما يقابلها سندا ودلالة كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ،
وليس الدليل منحصرا في هاتين الروايتين المذكورتين في كلامه كما يوهمه ظاهر كلامه.
__________________
واما المحقق في
المعتبر فإنه بعد نقل القولين قال : «لنا ان كل واحد من الحدثين لو انفرد لا وجب
حكمه ولا منافاة فيجب حكماهما لكن ترك العمل بذلك في غسل الجنابة فيبقى معمولا به
هنا ، ويؤكد ذلك رواية ابن ابي عمير ، ثم أورد روايتيه المتقدمين ، ثم قال : فان
احتج المرتضى (رضياللهعنه) بما رواه محمد بن مسلم ، ثم أورد الرواية الاولى ، ثم
قال عاطفا عليها : وما روى من عدة طرق عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة» . فجوابه ان خبرنا يتضمن التفصيل والعمل بالمفصل اولى»
انتهى.
أقول : اما ما
أورده أولا ـ من الدليل العقلي الذي هو بزعمهم أقوى من الدليل النقلي حتى انه انما
جعل الدليل النقلي مؤيدا ـ ففيه (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية ليس للعقول
فيها مسرح كما حققناه في مقدمات الكتاب ، بل المرجع فيها الى الكتاب العزيز والسنة
المطهرة. و (ثانيا) ـ انه من الجائز الممكن انه وان كان كل من الحدثين لو انفرد
لأوجب حكمه الا انه بالاجتماع يندرج الأصغر تحت الأكبر كما في الجنابة ، وكما خرجت
الجنابة بالدليل ـ كما اعترف به ـ كذلك غيرها بالأدلة التي قدمناها غاية الأمر ان
الجنابة قد أجمعوا عليها وهذه محل خلاف بينهم ، ولكن بالنظر الى الأدلة الشرعية
والأخبار المعصومية التي هي المعتمد وعليها المدار فالاندراج حاصل والاكتفاء
بالغسل ثابت.
واما ما أجاب
به عن احتجاج المرتضى (رضياللهعنه) ففيه (أولا) ـ ان دليل المرتضى غير منحصر
فيما نقله ، فلو تم له ما ذكره في هذين الخبرين فإنه لا يتم في غيرهما من الاخبار
المتقدمة المشتملة على بعض من الأغسال المعينة ، مثل مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد
بن عثمان وموثقة عمار وروايات الحائض والمستحاضة. و (ثانيا) ـ ان الظاهر ـ كما
حققه جملة من متأخري المتأخرين ـ ان المراد من المفرد
__________________
المعرف باللام في أمثال هذه المواضع العموم ، إذ لا يجوز ان يكون للعهد
لعدم تقدم معهود ولا للعهد الذهني إذ لا فائدة فيه فتعين أن يكون للاستغراق ،
ويؤيده التعليل المستفاد من قوله : «واي وضوء اطهر من الغسل؟» فإنه ظاهر في العموم
، إذ لا خصوصية لغسل الجنابة بذلك ، ولوروده في غسل الجمعة في مرسلة حماد بن عثمان
المتقدمة ، وكذا في صحيحة حكم بن حكيم وان كان أصل السؤال فيها عن غسل الجنابة الا
انه قد تقرر ان خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب. وما ربما يقال ـ ان غسل الجنابة
هو الشائع المتكرر فيكون في قوة المعهود فينصرف الإطلاق إليه ـ ممنوع فان غسل
الحيض والاستحاضة لا يقصران في التكرار والشيوع عنه فالحمل عليه بعد ما عرفت تحكم
محض ، على ان الحق في ذلك ان يقال ان ما أوردناه من الروايات في الاستدلال للقول
المذكور ما بين مفصل ومجمل فيحمل مجملها على مفصلها.
واما العلامة
في المنتهى فإنه ذكر أكثر الروايات المتقدمة ثم أجاب عن صحيحة محمد بن مسلم بان
اللام لا تدل على الاستغراق فلا احتجاج فيه فيصدق بصدق أحد اجزائه وقد ثبت هذا
الحكم لبعض الأغسال فيبقى الباقي على الأصل ، وايضا تحمل الالف واللام على العهد
جمعا بين الأدلة ، ثم أجاب عن الروايات الباقية بضعف السند ، ثم احتمل ما أجاب به
الشيخ (رحمهالله) مما قدمنا ذكره ، ثم قال : «ويمكن ان يقال في الجواب
عن الأحاديث كلها انها تدل على كمالية الأغسال والاكتفاء بها فيما شرعت له ونحن
نقول به ، والوضوء لا نوجبه في غسل الحيض والجمعة مثلا ليكمل الغسل عنهما وانما
نوجب الوضوء للصلاة ، فعند غسل الحيض يرتفع حدث الحيض وتبقى المرأة كغيرها من المكلفين
إذا أرادت الصلاة يجب عليها الوضوء ، وكذا باقي الأغسال» انتهى.
أقول : اما ما
أجاب به عن صحيحة محمد بن مسلم فقد تقدم الكلام فيه. واما طعنه في الأخبار الباقية
بضعف السند فهو ضعيف عندنا غير معمول عليه ولا معتمد ، على انه متى ألجأته الحاجة
الى الاستدلال بأمثالها من الاخبار الضعيفة باصطلاحه استدل
بها وأغمض عن هذا الطعن كما لا يخفى على من راجع كتبه وكتب غيره من أرباب
هذا الاصطلاح ، ولو انهم يقفون على هذا الاصطلاح حق الوقوف ولا يخرجون عنه لما
استطاعوا تصنيف هذه الكتب ولا تفريع هذه الفروع ، إذ الصحيح من الأخبار باصطلاحهم
لا يفي لهم بعشر معشار الأحكام التي ذكروها كما لا يخفى على من تأمل بعين الإنصاف.
واما ما ذكره من جواب الشيخ فقد تقدم ما فيه. واما ما ذكره أخيرا في الجواب عن
الاخبار كلها ـ من ان مشروعية الوضوء هنا ليس لتكميل الأغسال وانما هو لرفع موجبه
وهو الحدث الأصغر فإذا أراد الصلاة وجب عليه الوضوء لذلك ـ ففيه أن مكاتبة
الهمداني التي هي إحدى الروايات التي نقلها قد تضمنت انه لا وضوء للصلاة في غسل
الجمعة ولا غيره. واما ما أجاب به في المختلف من التقييد بما إذا لم يكن وقت صلاة
فمع ظهور انه تعسف محض يرده قوله في موثقة عمار : «ليس عليه قبل الغسل ولا بعد قد
أجزأه الغسل». وكذا الأخبار الدالة على انه بعد الغسل بدعة ، وبذلك اعترف في
الذكرى ايضا.
وبالجملة فإن
الروايات المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المذكور غاية الظهور لا يعتريها فتور
ولا قصور.
نعم يبقى
الكلام في الجواب عن أدلة القول المشهور ، اما الآية فالجواب عنها ان إطلاقها مقيد
بالأخبار المذكورة ، كما هو معلوم في جملة من الأحكام من تقييد إطلاقات الكتاب
العزيز وتخصيص عموماته بالسنة المطهرة ، على انه قد ورد تفسير الآية في موثق ابن
بكير بالقيام من حدث النوم ، وادعى عليه العلامة في المنتهى وقبله الشيخ في
التبيان الإجماع كما تقدم في بحث الوضوء ، وحينئذ فيجب تخصيص المأمور بالوضوء
بالمحدث حدثا أصغر ان ضم إليها الإجماع المركب أو المحدث بالنوم ، ولا تدل على ان
من كان محدثا حدثا أكبر بل غير النوم مأمور بالوضوء لا منفردا ولا مع ضميمة
__________________
الغسل ، وبالجملة فالتحقيق ان سياق الآية الشريفة ظاهر في ان الجنب مأمور
بالغسل وغيره مأمور بالوضوء ، وامتثال كل منهما ما أمر به يقتضي الاجزاء ، الا انه
لما ورد عنهم (عليهمالسلام) تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم وتأكد
ذلك بدعوى الإجماع وجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر أو النوم كما
قدمنا. واما روايتا ابن ابى عمير وصحيحة علي بن يقطين فقد أجاب عنها جملة من
متأخري المتأخرين بالحمل على الاستحباب جمعا بين الاخبار ، وأيدوا ذلك بما ذكره
المحقق (رحمهالله) في مسألة وضوء الميت ، حيث قال بعد إيراد روايتي ابن
ابى عمير : «لا يلزم من كون الوضوء في الغسل ان يكون واجبا بل من الجائز ان يكون
غسل الجنابة لا يجوز فعل الوضوء فيه وغيره يجوز ، ولا يلزم من الجواز الوجوب» وتبعه
في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه كالعلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروض.
وهو مما يقضى منه العجب فإنهم مع اعترافهم بذلك في مسألة وضوء الميت يستدلون
بالخبرين المذكورين هنا على وجوب الوضوء في غير غسل الجنابة. والأظهر عندي حمل
الأخبار المذكورة وكذا كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي على التقية التي هي في اختلاف الأحكام
الشرعية أصل كل بلية ، وعليه تجتمع أخبار المسألة ، وذلك فإن العامة بالنسبة إلى
الوضوء مع غسل الجنابة على قولين ، فالمشهور بينهم استحباب الوضوء معه بان يكون
قبله كما نقله في المنتهى حيث قال : لا يستحب الوضوء عندنا خلافا للشيخ في التهذيب
، وأطبق الجمهور على استحبابه قبله . ونقل في صدر المسألة عن الشافعي في أحد قوليه وهو
رواية عن احمد ومثل ذلك عن داود وابي ثور الوجوب لو جامعه حدث أصغر واما سائر الأغسال
__________________
واجبة أو مستحبة فالظاهر انه لا خلاف بينهم في الوجوب كما عليه جمهور أصحابنا (رضياللهعنهم) وحينئذ فمعنى خبري ابن ابي عمير ان كل غسل معه وضوء
واجب إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب الوضوء معه وانما يستحب.
ثم انه على
القول بوجوب الوضوء مع الغسل كما هو المشهور فهل يجب تقديمه على الغسل أم يتخير
وان كان التقديم أفضل؟ المشهور الثاني ، وعن الشيخ في بعض كتبه الأول ، وبه صرح
أبو الصلاح وهو ظاهر كلام المفيد وابني بابويه على ما نقله في المختلف ويدل عليه
مرسلة ابن ابي عمير المتقدمة ، وأجاب عنها في المختلف بالحمل على الاستحباب وربما
أيد هذا القول ايضا بقولهم (عليهمالسلام) فيما قدمناه : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وظاهر ابن
إدريس دعوى الإجماع على عدم وجوب التقديم حيث قال : «وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا
في كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنابة ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ،
وهذا غير واضح من قائله بل الزيادة على غسل الجنابة ان لا تستبيح الحائض إذا طهرت
بغسل حيضها وبمجرده الصلاة كما يستبيح الجنب سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، وان أراد
انه يجب تقديم الوضوء على الغسل فغير صحيح بلا خلاف» انتهى. وكلامه وان كان في غسل
الحائض الا انه خرج مخرج التمثيل ، إذ لا فرق في هذا المعنى بين غسل الحائض
والأغسال المندوبة التي أوجبوا فيها الوضوء. وكيف كان فالبحث في ذلك عندنا مفروغ
عنه وان كان على تقدير القول المذكور فالأقرب وجوب
__________________
التقديم ، لدلالة مرسلة ابن ابي عمير المشار إليها على ذلك ، ومثلها الخبر
المرسل من الكافي وان كان مورده غسل الجمعة ، وأصرح من ذلك عبارة الفقه الرضوي حيث قال : «فابدأ بالوضوء ثم اغتسل». ورواية أبي بكر
الحضرمي الآتية ، وما في صحيح حكم ابن حكيم من قوله : «... ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل
الغسل.». وهذه الروايات لا معارض لها إلا إطلاق بعض الاخبار فيحمل عليها. وكيف كان
فالاحتياط ـ بالوضوء مع هذه الأغسال وتقديمه عليها ـ مما لا ينبغي تركه.
(المقام الثاني)
ـ هل يستحب الوضوء مع غسل الجنابة أم لا؟ المشهور الثاني ، وذهب الشيخ في التهذيب
إلى الأول استنادا الى ما رواه عن ابي بكر الحضرمي عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال : اغسل كفك وفرجك
وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل». بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل من
الاخبار على عدم الوضوء مع غسل الجنابة كصحيحة حكم بن حكيم ونحوها ، ويدل عليه
ايضا ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن عبد الله بن
مسكان وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه عن محمد بن ميسر وهو غير موثق
في كتب الرجال قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق
ويريد ان يغتسل وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضأ ويغتسل
، هذا مما قال الله عزوجل : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» . والجواب عن الخبر الأول ان الأظهر في مدلوله هو الحمل
على التقية ، لما قدمناه من ان العامة في ذلك على قولين في الوضوء مع غسل الجنابة
، فالمشهور الاستحباب والقول الآخر الوجوب ويشير الى ذلك قوله (عليهالسلام) في صحيحة حكم بن حكيم
__________________
«ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل». فان المراد بالناس هم
المخالفون وأظهر من ذلك ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان أهل الكوفة يروون عن علي (عليهالسلام) انه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة؟ قال كذبوا
على علي ما وجدوا ذلك في كتاب علي ، قال الله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» . ويعضده ايضا ما تقدم من مرسلة محمد بن احمد بن يحيى وقوله : «الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة». وكذا غيرها مما
دل على كونه مع الغسل بدعة. ورد الشيخ (رحمهالله) الخبر الأول بالإرسال واحتمل في الخبرين الآخرين
التخصيص بما عدا غسل الجنابة ، قال : «لان المسنون في هذه الأغسال ان يكون الوضوء
فيها قبلها» ولا يخفى ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق. واما الخبر الثاني فالظاهر
ان الوضوء فيه ليس بالمعنى المعروف وانما هو بمعنى الغسل كما يدل عليه سياق الكلام
، وكيف كان فإنه مع هذا الاحتمال لا يصلح للاستدلال. وبالجملة فالاستحباب كالوجوب
ونحوه أحكام شرعية لا تثبت إلا بالدليل الواضح.
(المسألة
الثانية) ـ اختلف الأصحاب (رضياللهعنهم) فيما إذا اغتسل مرتبا وأحدث في أثناء الغسل على أقوال
: فقيل بوجوب الإعادة من رأس ، وهو مذهب الشيخ (رحمهالله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه ، واختاره العلامة في
جملة من كتبه والشهيد في الدروس والذكرى. وقال ابن البراج يتم الغسل ولا شيء عليه
، وهو اختيار ابن إدريس واختاره من أفاضل متأخري المتأخرين مير محمد باقر الداماد
والخراساني في الذخيرة وشيخنا الشيخ سليمان البحراني. وقال المرتضى (رضياللهعنه)
انه يتم الغسل ويتوضأ إذا أراد الدخول في الصلاة ، واختاره المحقق والفاضل
الأردبيلي وتلميذه السيد في المدارك وجده الشهيد الثاني وتلميذه الشيخ عز الدين
الحسين بن عبد الصمد
__________________
الحارثي وابنه الشيخ بهاء الملة والدين.
احتج في الذكرى
للقول الأول حيث اختاره فقال بعد نقل الأقوال الثلاثة : «والأقرب الأول لامتناع
الوضوء في غسل الجنابة عملا بالأخبار المطلقة ، وامتناع خلو الحدث عن أثره مع
تأثيره بعد الكمال» واحتج في المختلف لهذا القول ايضا ـ حيث اختاره ـ بان الحدث
الأصغر ناقض للطهارة بكمالها فلابعاضها اولى ، وإذا انتقض ما فعله وجب عليه اعادة
الغسل ، لانه جنب لم يرتفع حكم جنابته بغسل بعض أعضائه ، ولا اثر للحدث الأصغر مع
الأكبر. ومرجع الكلامين الى دليل واحد ، وينحل إلى أمرين : (أحدهما) ـ الاستدلال
بالأخبار الدالة على انه لا وضوء مع غسل الجنابة ، وهذا جنب في هذه الحال. و (ثانيهما)
ـ ان الحدث الأصغر مؤثر في نقض الطهارة بعد كمال الغسل بلا خلاف فلان يؤثر في نقض
بعضها اولى ، وحينئذ فإذا كان الوضوء لا يجامع الجنابة ولا يؤثر في الصورة
المذكورة ـ وفيه رد على القول بإيجاب الوضوء ـ والحدث الأصغر مؤثر في نقض ما اتى
به من الطهارة ـ وفيه رد على من ذهب الى الاكتفاء بإتمام الغسل ـ وجب اعادة الغسل
من رأس.
وأورد على هذا
الدليل منع الأولوية المذكورة بل نقول القدر المسلم ان الحدث الأصغر إذا لم يجامع
الأكبر فهو سبب لوجوب الوضوء وإذا جامع الأكبر فلا تأثير له أصلا ، فلا بد لما
ذكروه من دليل ، ألا ترى انه بعد الغسل يقتضي الوضوء وفي الأثناء لا يقتضيه عندكم
، فلم لا يجوز ان لا يؤثر في الأثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل؟
وقريب مما
ذكرناه ما أورده في المدارك ايضا ، حيث قال : «والقول بالإعادة للشيخ (رحمهالله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه وجماعة ، ولا وجه له
من حيث الاعتبار ، وما استدل به عليه ـ من ان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بتمامها
فلأبعاضها اولى ، وان الحدث المتخلل قد أبطل تأثير ذلك البعض في الرفع والباقي من
الغسل غير صالح
للتأثير ـ ففساده ظاهر ، لمنع كونه ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء
به خاصة ثم قال (رحمهالله) ولعل مستندهم ما رواه الصدوق (رحمهالله) في كتاب عرض المجالس عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يدك وفرجك ورأسك
وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك ، فإن أحدثت حدثا من بول
أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من اوله».
ولو صحت هذه الرواية لما كان لنا عنها عدول لصراحتها في المطلوب الا اني لم أقف
عليها مسندة ، والواجب المصير إلى الأول الى ان يتضح السند» انتهى.
أقول : اما ما
ذكره ـ من منع كون الحدث الأصغر ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة ـ فلا
يخلو من اشكال ، فإنه ان أراد بخصوص هذا الموضع من حيث انه لا تأثير له مع الجنابة
واندراجه تحتها فجيد لكن ينافيه قوله : «وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة» وان أراد
مطلقا فهو خلاف الإجماع بين الأصحاب (رضياللهعنهم) من عد هذه الأحداث نواقض ومبطلات للطهارة المتقدمة ،
وبه سميت نواقض وأسبابا وموجبات باعتبار إيجابها الوضوء. واما ما ذكره من الخبر ـ وقبله
جده ـ فقد اعترضه جملة من الأصحاب (رضياللهعنهم) بأنهم لم يقفوا عليه في الكتاب المذكور ، إذ الظاهر ان
مراده بالكتاب المذكور هو كتاب الأمالي المشهور ايضا بمجالس الصدوق وقد صرح في
الذكرى بذلك ايضا فقال بعد نقل القول المذكور : «وقد قيل انه مروي عن الصادق (عليهالسلام) في كتاب عرض المجالس للصدوق» ولعل السيد وجده اعتمدا
على هذا النقل من غير مراجعة الكتاب المشار اليه. نعم هذه الرواية مذكورة في الفقه
الرضوي حيث قال (عليهالسلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر
غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل إن أردت ذلك
__________________
فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل
جسدك فأعد الغسل من اوله ، وإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد
غسل الرأس». انتهى. وهذه العبارة بعينها نقلها الصدوق في الفقيه عن أبيه في رسالته
اليه فقال : وقال ابي (رحمهالله) في رسالته الي : ولا بأس بتبعيض الغسل ثم ساق الكلام
الى آخر ما نقلناه ، وفيه دلالة على ما قدمناه من اعتماده على الكتاب المذكور.
واما القول
الثاني فاستدل عليه الشيخ سليمان البحراني المتقدم ذكره في بعض فوائده ـ واليه
يرجع في التحقيق ما ذكره في الذخيرة ـ بأنه ينبغي ان يعلم ان الوضوء هو الرافع
للحدث الأصغر لكن في غير صورة مجامعته للجنابة ، لأنه لا يكون للأصغر مع الجنابة
أثر أصلا لانقهاره معها فلا يتمكن من التأثير ، فيسقط حكم الوضوء ما دامت الجنابة
باقية بالفعل البتة. فلا يكون للأصغر أثر في إيجاب الوضوء أصلا بالتقريب المتقدم
ومن الظاهر البين انه لا تأثير له في إيجاب الغسل بوجه من الوجوه ، وعلى هذا فمتى
أكمل الغسل تم السبب التام لرفع الجنابة. وبالجملة فإنه بالنظر الى ما دامت
الجنابة باقية فإنه مقهور بها ومندرج تحتها ، ومن المعلوم انه ما لم يتم الغسل
فالجنابة باقية ، فلا وجه للقول بما ذهب اليه المرتضى (رضياللهعنه) ومن تبعه ،
ويؤيده عموم الأخبار الدالة على نفي الوضوء والمنع منه مع غسل الجنابة وتحريمه
وعدم مشروعيته .
أقول : وبهذا
التقرير يظهر ضعف ما ذكره في المعتبر في رد هذا القول ـ كما سيأتي نقله من انه
يلزم ان لو بقي من الغسل مقدار درهم من الجانب الأيسر ثم تغوط ان يكتفي عن الوضوء
بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل ، فإنه ـ مع كونه مجرد استبعاد لا يجدي في دفع
الأحكام الشرعية ـ مردود بأنه إذا كان حدث الجنابة باقيا مع بقاء هذا المقدار وكذا
ما يترتب على الجنابة من الأحكام ولا يرتفع ذلك الحدث ولا يستبيح ما يحرم على
الجنب إلا بغسل هذا المقدار فأي استبعاد في ارتفاع الحدث الأصغر به
__________________
أيضا؟ بقي الكلام في انه بناء على هذا التقرير وان كان هذا الدليل بحسب
الظاهر لا يخلو من متانة وقرب ، إلا ان لقائل أن يقول ان ما ذكروه من انقهار الحدث
الأصغر تحت الجنابة وانه لا تأثير له معها انما استنبطوه من الأخبار الدالة على
تحريم الوضوء مع غسل الجنابة وانه معه بدعة ، إذ ليس ثمة دليل غير ذلك ، ومن
المحتمل قريبا حمل الأخبار المذكورة على ما هو الشائع المتكرر المتكثر من وقوع
الحدث قبل الغسل دون هذا الفرد النادر الذي لا يتبادر اليه الذهن عند الإطلاق ،
لما قرروه في غير مقام من ان الأحكام المودعة في الاخبار انما تحمل على ما هو
المعهود المتكرر الشائع الذي ينساق اليه الذهن عند الإطلاق دون الفروض النادرة
القليلة الدوران ، وبهذا يضعف القول المذكور.
واما القول
الثالث فاحتج عليه المحقق في المعتبر بان الحدث الأصغر يوجب الوضوء وليس موجبا
للغسل ولا لبعضه ، فيسقط وجوب الإعادة ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل ، ثم
ألزم القائلين بسقوط الوضوء انه يلزم لو بقي من الغسل قدر الدرهم من جانبه الأيسر
ثم تغوط ان يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل أقول :
فيه (أولا) ـ منع
ما ذكره من ان الحدث الأصغر يوجب الوضوء ، فإنه على إطلاقه ممنوع بل القدر المعلوم
هو إيجابه ما لم يجامع الجنابة واما مع مجامعتها فإنه يندرج تحتها كما تقدم ذكره. و
(ثانيا) ـ منع قوله : ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل للإلزام الذي ذكره ، بل
هو ساقط بما بقي لانقهار الحدث الأصغر تحت الأكبر ما دام باقيا. واما الإلزام الذي
ذكره فقد عرفت ما فيه.
واستدل في
المدارك لهذا القول حيث اختاره فقال : «اما وجوب الإتمام فلان الحدث الأصغر ليس
موجبا للغسل ولا لبعضه قطعا فيسقط وجوب الإعادة ، واما وجوب الوضوء فلان الحدث
المتخلل لا بد له من رافع وهو اما الغسل بتمامه أو الوضوء والأول منتف لتقدم بعضه
فتعين الثاني» وفيه ما عرفت من تقرير دليل القول الثاني من ان الحدث الأصغر لا اثر
له مع الجنابة. وبالجملة فإن هذا القول بالنظر الى تقرير الدليل
المشار اليه ـ كما قدمناه ـ يظهر ضعفه ، وبالنظر الى ما أوردناه من الاشكال
على الدليل المذكور يظهر قوته.
وكيف كان
فالمسألة لما عرفت لا تخلو من شوب الاشكال وان كان القول الأول ـ بالنظر الى رواية
الفقه الرضوي المعتضدة برواية المجالس وفتوى الشيخ علي ابن الحسين بن بابويه بها ،
وهم ممن يعدون فتاويه في عداد النصوص إذا اعوزتهم ، مع أوفقيته للاحتياط ـ لا يخلو
من قوة وان كان الاحتياط في الإتمام ثم الوضوء ثم الإعادة. والله العالم.
وينبغي التنبيه
على فوائد (الأولى) ـ قال في الذكرى : «لو كان الحدث من المرتمس فان قلنا بسقوط
الترتيب حكما فان وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن يوجب الوضوء لا غير والا فليس
له اثر ، وان قلنا بوجوب الترتيب الحكمي القصدي فهو كالمرتب ، وان قلنا بحصوله في
نفسه وفسرناه بتفسير الاستبصار أمكن انسحاب البحث فيه» انتهى. وظاهره انه مع عدم
القول بالترتيب الحكمي في الغسل الارتماسي فإنه لا يتفق فيه تخلل الحدث في أثناء
الغسل فيختص البحث بالغسل الترتيبي. وقال في المدارك : «الظاهر عدم الفرق في غسل
الجنابة بين كونه غسل ترتيب أو ارتماس ، ويتصور ذلك في غسل الارتماس بوقوع الحدث
بعد النية وقبل إتمام الغسل ، ثم نقل صدر كلام الذكرى وقال : وهو مشكل لإمكان
وقوعه في الأثناء» وجرى على منواله في الذخيرة.
أقول : الظاهر
ان مبنى كلام السيد (رحمهالله) على ان الدفعة المشترطة في الارتماس انما هي الدفعة
العرفية ، وحينئذ فيمكن حصول الحدث بعد النية وقبل استيلاء الماء على جميع البدن.
الا ان فيه ان الظاهر ان مبنى كلام الشهيد (رحمهالله) انما هو على ان الارتماس لا يحصل الا بعد الدخول تحت
الماء واستيلاء الماء على جميع اجزاء البدن ، واما الدخول شيئا فشيئا فإنما هو من
مقدماته ، وعلى هذا فلا يمكن تخلل الحدث للغسل
لان وصول الماء الى الجميع بعد الولوج دفعي ، وعلى هذا المعنى الذي ذكرناه
يدل ظاهر كلام أهل اللغة أيضا قال في المصباح المنير : «رمست الميت رمسا من باب
قتل : دفنته الى ان قال : ورمست الخبر : كتمته ، وارتمس في الماء : انغمس» وفي
القاموس «الارتماس الانغماس» وفي مجمع البحرين «وأصل الرمس الستر ، ورمست الميت رمسا
من باب قتل : دفنته ، وارتمس في الماء مثل انغمس» انتهى. وهذه العبارات كلها ظاهرة
ـ كما ترى ـ في عدم صدق الارتماس إلا بعد الدخول تحت الماء ، وحينئذ فلا يظهر فرض
هذا الحكم فيه. واما ما ذكره في الذكرى ـ من بناء ذلك على الترتيب الحكمي ففيه ما
تقدم بيانه من انه لم يقم دليل على الترتيب الحكمي بشيء من معنييه المذكورين فلا
ضرورة إلى تكلف التفريع عليه في البين.
(الثانية) ـ قال
في الذكرى ايضا : «لو تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء أمكن المساواة في طرد
الخلاف وأولوية الاجتزاء بالوضوء هنا لان له مدخلا في إكمال الرفع والاستباحة ،
وبه قطع الفاضل في النهاية مع حكمه بالإعادة في غسل الجنابة» انتهى.
أقول : لا ريب
ان الظاهر انه متى قلنا بعدم وجوب الوضوء في سائر الأغسال ـ كما هو الحق في
المسألة ـ فإنه يطرد الخلاف فيها كما في غسل الجنابة ، وانما يبقى الكلام بناء على
القول المشهور من وجوب الوضوء معها ، فظاهر كلامه في الذكرى احتمال طرد الخلاف
ايضا وان كان الاولى هنا الاجتزاء بالوضوء ، والظاهر بعد ما احتمله من طرد الخلاف
مع إيجاب الوضوء ، بل الظاهر وجوب الإتمام والوضوء كما اختاره في المدارك. ولعل
الوجه في إيجاب العلامة الوضوء هنا مع إيجابه الإعادة في غسل الجنابة هو سقوط
الوضوء مع غسل الجنابة لعدم تأثير الحدث الأصغر ثمة بخلاف ما نحن فيه فإنه ثابت
بثبوت موجبه. وربما احتمل اعادة الغسل هنا بناء على ان كل واحد من الوضوء والغسل
مؤثر ناقص في رفع الحدث المطلق ، فحصول تأثيرهما موقوف على حصولهما تامين ، فإذا
حصل الحدث في الأثناء لم يكف الإتمام والوضوء ويحتاج إلى إعادة الغسل. والتحقيق
انا متى وقفنا على مورد الاخبار فإنه لا اشكال لا في غسل الجنابة ولا غيره
إذ الواجب العمل بما دلت عليه ، واما مع عدم ذلك فالمسألة لا تخلو من الإشكال في
الموضعين ، فان مجال التخريجات العقلية والاعتبارات الفكرية في هذه المسألة وغيرها
واسع لا ينتهي إلى ساحل ، ولذا ترى المتقدم يعلل بتعليل حسبما وصل اليه فهمه
ويجعلها أدلة ويأتي من بعده وينقضها ويأتي بأدلة اخرى حسبما ادى اليه فكره وهكذا ،
فالحق هو الوقوف على الاخبار ان وجدت في هذه المسألة وغيرها والا فالوقوف على جادة
الاحتياط كما أمرت به اخبارهم (عليهمالسلام).
(الثالثة) ـ نقل
في المدارك عن بعض المتأخرين القائلين بوجوب الإتمام والوضوء الاكتفاء باستئناف
الغسل إذا نوى قطعه ، لبطلانه بذلك فيصير الحدث متقدما على الغسل ، ثم تنظر فيه
بأن نية القطع انما تقتضي بطلان ما يقع بعدها من الأفعال لا ما سبق كما صرح به
المصنف وغيره.
أقول : ما ذكره
(رحمهالله) على إطلاقه لا يخلو من اشكال ، لأنه لا يخلو اما ان
تكون نية القطع بمجردها موجبة للبطلان أو ان البطلان انما يحصل مع الإتيان بشيء
من أفعال العبادة بعد هذه النية ، ونظره انما يتمشى على الثاني ، ولعل مراد هذا
القائل انما هو الأول. وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض مقامات النية في
الوضوء.
(المسألة
الثالثة) ـ هل يجب ماء الغسل عينا أو ثمنا على الزوج أم لا؟ قال في المنتهى : «فيه
تفصيل : قال بعضهم لا يجب مع غنائها ومع الفقر يجب على الزوج تخليتها لتنتقل الى
الماء أو ينقل الماء إليها ، وقال آخرون يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب والجامع
ان كل واحد منهما مما لا بد منه. والأول عندي أقرب» انتهى. والمفهوم من كلام
الذكرى الثاني وهو الوجوب على الزوج مطلقا ، قال (رحمهالله) : «ماء الغسل على الزوج في الأقرب لأنه من جمله النفقة
فعليه نقله إليها ولو بالثمن أو تمكينها من الانتقال اليه ، ولو احتاج
الى عوض كالحمام فالأقرب وجوبه عليه ايضا مع تعذر غيره دفعا للضرر ، ووجه
العدم ان ذلك مؤنة التمكين الواجب عليها. وربما فرق بين غسل الجنابة وغيره إذا كان
سبب الجنابة من الزوج. واما الأمة فالأقرب أنها كالزوجة لانه مؤنة محضة ،
وانتقالها الى التيمم مع وجود الماء بعيد. وحمله على دم التمتع قياس من غير جامع ،
ويعارض بوجوب فطرتها فكذا ماء طهارتها» انتهى. والمسألة عندي محل توقف ، لعدم النص
الذي هو المعتمد في الأحكام وتدافع التعليلات المذكورة ، مع عدم صلاحيتها لو سلمت
من ذلك لتأسيس الأحكام الشرعية.
(المسألة
الرابعة) يكره للجنب أمور (الأول) ـ الأكل والشرب ما لم يتمضمض ويستنشق على
المشهور بل قال في التذكرة انه مذهب علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ونقل عن
ابن زهرة دعوى الإجماع على ذلك ، وفي المعتبر انه مذهب الخمسة واتباعهم ، وقال
الصدوق في الفقيه : «والجنب إذا أراد ان يأكل أو يشرب قبل الغسل لم يجز له الا ان
يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق ، فإنه ان أكل أو شرب قبل ان يفعل ذلك خيف عليه من
البرص» وظاهره التحريم ثم قال : «وروى ان الأكل على الجنابة يورث الفقر» .
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن
ابي عبد الله قال : «قلت للصادق (عليهالسلام) أيأكل الجنب قبل ان يتوضأ؟ قال : انا لنكسل ولكن ليغسل
يده والوضوء أفضل». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : «هكذا يوجد في النسخ ويشبه
ان يكون مما صحف وكان «انا لنغتسل» لأنهم (عليهالسلام) أجل من ان يكسلوا في شيء من عبادات ربهم عزوجل» انتهى. أقول : لا يخفى ان الخبر المذكور على ما رواه
المحدثون ونقله الأصحاب في كتب الفروع انما هو بلفظ «نكسل» والظاهر ان المراد به
انما هو مطلق
__________________
الناس بمعنى ان الناس ليكسلون وان عبر عن ذلك بصيغة تشمله (عليهالسلام) وغيره ، ونظيره ما روى عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) من قوله : «اني اكره السلام على المرأة الشابة مخافة ان
يعجبني صوتها». فان الظاهر ان مراده انما هو منع الناس عن ذلك خوفا مما ذكره ، لان
عصمته تمنع من حمل هذا اللفظ على ظاهره فكذا ما نحن فيه. واما ما احتمله بعض
المحققين من متأخري المتأخرين من ان قوله : «لنكسل» يعني عن الأكل ولم نتسارع اليه
قبل الغسل فالظاهر بعده سيما بالنظر الى الاستدراك ب «لكن» بعد هذا الكلام.
وما رواه الشيخ
في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «الجنب إذا أراد ان يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل
وجهه وأكل وشرب».
وما رواه
الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ».
وبإسناده عن
الحسين بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهمالسلام) في حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الأكل على الجنابة وقال انه يورث الفقر».
وما رواه في
الكافي عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «لا يذوق الجنب شيئا حتى يغسل يديه ويتمضمض فإنه
يخاف منه الوضح». أقول : الوضح البرص.
وفي الفقه
الرضوي قال (عليهالسلام): «وإذا أردت أن تأكل على جنابتك فاغسل يديك وتمضمض
واستنشق ثم كل واشرب الى ان تغتسل ، فإن أكلت أو شربت قبل ذلك أخاف عليك البرص ولا
تعود الى ذلك». انتهى
__________________
ومما يدل على
ان المراد بهذه الأخبار الكراهة ما رواه في الكافي في الموثق عن ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : نعم يأكل
ويشرب ويقرأ ويذكر الله عزوجل ما شاء».
والمفهوم من
هذه الاخبار بضم بعضها الى بعض هو ما ذكره الأصحاب (رضياللهعنهم) من كراهية الأكل والشرب وانها تزول بما ذكر فيها ،
وقال في المدارك ـ بعد ان نقل صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله أولا ثم صحيحة
زرارة ـ ما لفظه : «ومقتضى الرواية الأولى استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب أو
غسل اليد خاصة ، ومقتضى الرواية الثانية الأمر بغسل اليد والوجه والمضمضة ، وليس
فيهما دلالة على كراهة الأكل والشرب بدون ذلك ، ولا على توقف زوال الكراهة على
المضمضة والاستنشاق أو خفتها بذلك» وجرى على منواله في الذخيرة كما هي قاعدته
غالبا.
أقول : لما كان
نظر السيد المذكور مقصورا على صحاح الاخبار اقتصر على هاتين الصحيحتين وهما وان
أوهما ما ذكره الا ان جملة ما عداهما مما قدمناه ولا سيما عبارة كتاب الفقه الرضوي
ظاهر فيما ذكره الأصحاب ، فيجب تقييد هاتين الصحيحتين بها ، والعجب منه انه خفي
عليه الوقوف على صحيحة الحلبي المروية في الفقيه وهي صحيحة صريحة في كراهة الأكل
والشرب بدون ذلك.
بقي الكلام في
ان صحيحة زرارة قد دلت على غسل اليد والمضمضة وغسل الوجه وصحيحة عبد الرحمن بن ابي
عبد الله دلت على الوضوء أو غسل اليد وان الأول أفضل وصحيحة الحلبي دلت على الوضوء
خاصة ، ورواية السكوني دلت على غسل اليد والمضمضة وكتاب الفقه على غسل اليد
والمضمضة ، والاستنشاق غير موجود إلا في عبارة هذا الكتاب ، والظاهر ان الصدوق في
عبارته المتقدمة إنما أخذه منه وتبعه الأصحاب في عبائرهم ، والظاهر ترتب هذه
الأمور في الفضل وزوال الكراهة بها بان يكون أكمل
__________________
الجميع الوضوء ثم غسل اليد والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ثم الثلاثة
الأول ثم الأولين خاصة وهو ادنى المراتب ، والمفهوم من كلام الأصحاب (رضياللهعنهم) انه بهذه الأمور ترتفع الكراهة ويزول المحذور المذكور
في النصوص ، وظاهر عبارة الشرائع بقاء الكراهة وان كانت تخف بهذه الأشياء ، ويمكن
ان يستدل له بما تقدم من الروايتين على ان الأكل على الجنابة يورث الفقر ، فإنه
بالوضوء ونحوه من تلك الأمور لا يخرج عن كونه جنبا ، الا انه يمكن تقييد إطلاقهما
بالأخبار الأخر بمعنى انه يورث الفقر ما لم يأت بالوضوء ونحوه من تلك الأشياء
المذكورة في الاخبار.
وهل يكفي
الإتيان بالأمور المذكورة مرة واحدة ، أو لا بد ان يكون عند كل أكل مع الفصل
بالمعتاد بين الاكلين ، أو مع تخلل الحدث ، أو مع التعدد عرفا؟ احتمالات وإطلاق
الاخبار يؤيد الأول وان كان الأخير أحوط. والله العالم.
(الثاني) ـ النوم
حتى يغتسل أو يتوضأ ، فأما ما يدل على جواز النوم وهو جنب بدون الوضوء والغسل فهو ما
رواه الشيخ (رحمهالله) في الصحيح عن سعيد الأعرج قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب». واما
ما يدل على الكراهة فصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال ان الله تعالى
يتوفى الأنفس عند منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية ، إذا فرغ فليغتسل.». واما
ما يدل على انتفاء الكراهة مع الوضوء فهو ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبيد الله
الحلبي قال «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل أينبغى له ان ينام وهو جنب؟ قال : يكره ذلك
حتى يتوضأ». قال وفي حديث آخر «انا أنام على ذلك حتى أصبح وذلك اني أريد أن أعود».
ومما يدل على الثلاثة ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم. قال : ان
أحب ان يتوضأ فليفعل
__________________
والغسل أفضل من ذلك ، فان هو نام ولم يتوضأ ولم يغتسل فليس عليه شيء ان
شاء الله تعالى». وروى الصدوق في العلل بسنده عن ابي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير
المؤمنين (عليهمالسلام) قال : «لا ينام المسلم وهو جنب ولا ينام إلا على طهور
فان لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد. الحديث». واما ما ذكره المحقق الخوانساري في
شرح الدروس ـ من ان صحيحة عبد الرحمن المذكورة لا دلالة لها على الكراهة وانما تدل
على استحباب الغسل قبل النوم وفضله على الوضوء واما كراهة النوم بدونه فلا ـ ففيه
ان غايتها ان تكون مطلقة في ذلك فيجب تقييد إطلاقها بالروايات الأخر حسبما تقدم في
مسألة الأكل والشرب ، فإن موثقة سماعة دلت ايضا على استحباب الوضوء له والغسل مع
انه (عليهالسلام) غيابها الكراهة في صحيحة الحلبي ، ورواية العلل دلت
على الكراهة إلا مع الطهور بغسل كان أو وضوء أو تيمم ، وبذلك يظهر ان الأمر بالغسل
في تلك الصحيحة انما هو لإزالة الكراهة التي دلت عليها هذه الاخبار.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ظاهر كلام جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ المحقق المشار اليه
والشيخ الحر في الوسائل ان المراد من قوله (عليهالسلام) في الحديث المرسل الذي رواه الصدوق وهو قوله : «انا
أنام على ذلك حتى أصبح لأني أريد أن أعود» انما هو العود في الجماع. ولا يخفى ما
فيه. بل الظاهر ان المراد انما هو العود في الانتباه وانه لا يموت في تلك الليلة ،
وذلك فان المفهوم من صحيحة عبد الرحمن ان كراهة النوم على الجنابة انما هو من حيث
خوف الموت في تلك الليلة للآية المذكورة ، فإنه ربما أمسك الروح وقضى عليه الموت ،
وحيث كان (عليهالسلام) عالما بوقت موته كما دلت عليه الاخبار وانه لا يموت في
تلك الليلة بل يعود سقطت الكراهة في حقه ، وحينئذ فلا ينافي ما دل على الكراهة
بالنسبة إلى غيرهم (عليهمالسلام).
(الثالث) ـ قراءة
ما زاد على سبع آيات على المشهور ، وعن ابن البراج
__________________
انه لم يجوز الزيادة على ذلك ، وعن سلار تحريم القراءة مطلقا ، نقل ذلك
عنهما في الدروس والذكرى ، ونقل في المنتهى والسرائر عن بعض الأصحاب تحريم ما زاد
على سبعين ، وقال في المختلف : «المشهور كراهة ما زاد على سبع آيات أو سبعين من
غير العزائم ، أما العزائم وأبعاضها فإنها محرمة حتى البسملة إذا نوى انها منها»
وقال الصدوق : «لا بأس ان تقرأ القرآن كله ما خلا العزائم» وقال الشيخ في النهاية
: «ويقرأ من القرآن من اي موضع شاء ما بينه وبين سبع آيات إلا أربع سور» وفي
المبسوط «يجوز له ان يقرأ من القرآن ما شاء الا العزائم ، والاحتياط ان لا يزيد
على سبع آيات أو سبعين آية» وقال ابن إدريس : «له ان يقرأ جميع القرآن سوى العزائم
الأربع من غير استثناء لسواهن على الصحيح من الأقوال ، وبعض أصحابنا لا يجوز إلا
ما بينه وبين سبع آيات أو سبعين آية والزائد على ذلك محرم مثل السور الأربع ،
والأظهر الأول ، والحق عندي كراهة ما زاد على السبعين لا تحريمه ، والظاهر من كلام
الشيخ (رحمهالله) في كتابي الأخبار التحريم» انتهى المقصود من كلامه (رحمهالله) وما نقله عن ظاهر كلام الشيخ في كتابي الأخبار غير
ظاهر حيث ان الشيخ قصد الجمع بين الاخبار كصحيحة الحلبي الآتية الدالة على قراءة
ما شاء ومقطوعتي سماعة الآتيتين ان شاء الله تعالى الدالتين إحداهما على السبع
والأخرى على السبعين ، بحمل المثبتة المطلقة في القراءة على هذا العدد ، ثم انه
احتمل ايضا الجمع بينها بحمل الاقتصار على العدد المذكور على الاستحباب والباقي
على الجواز ، ومن هنا يعلم انه غير جازم بالتحريم حتى ينسب قولا اليه ، ولو عدت
احتمالاته في الجمع بين الاخبار أقوالا ومذاهب له لم تنحصر أقواله ، وليس في
تأويله الثاني أيضا تصريح بالكراهة بل غايته انه ترك الأفضل.
وكيف كان
فالواجب الرجوع الى الاخبار ونقلها وبيان ما يفهم منها :
و (منها) ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن الباقر
(عليهالسلام) قال : «لا بأس ان تتلو الحائض والجنب القرآن». وفي
الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل
يتغوط القرآن؟ قال : يقرأون ما شاءوا». وفي الموثق عن ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : نعم يأكل
ويشرب ويقرأ القرآن ويذكر الله عزوجل ما شاء». وعن محمد بن مسلم في الصحيح قال قال أبو جعفر (عليهالسلام) : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان
من القرآن ما شاءا إلا السجدة. الحديث». وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن
بإبراهيم بن هاشم عن زيد الشحام عن الصادق (عليهالسلام) قال : «تقرأ الحائض القرآن والنفساء والجنب ايضا». وما
رواه الصدوق في العلل في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قالا : «قلنا له الحائض والجنب هل يقرءان من القرآن
شيئا؟ قال : نعم ما شاءا إلا السجدة ويذكران الله تعالى على كل حال». ورواه الشيخ (رحمهالله) في الموثق مثله ، وما رواه في الفقيه عن ابي سعيد الخدري في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله» لعلي (عليهالسلام) انه قال : «يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته
فلا يقرأ القرآن فإني أخشى ان تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما». قال الصدوق (رحمهالله) : «يعنى به قراءة العزائم دون غيرها» وما رواه الشيخ
في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال ما بينه
وبين سبع آيات». ثم قال الشيخ (رحمهالله) وفي رواية زرعة عن سماعة قال «سبعين آية». وفي الفقه الرضوي «ولا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن وأنت جنب إلا العزائم التي تسجد
فيها وهي الم تنزيل وحم السجدة والنجم وسورة اقرأ باسم ربك». وبهذه العبارة
__________________
عبر الصدوق في الفقيه بتغيير يسير ، وما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن السكوني عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «سبعة لا يقرأون القرآن : الراكع والساجد وفي
الكنيف وفي الحمام والجنب والنفساء والحائض». وقال في المعتبر : «يجوز للجنب والحائض ان يقرءا ما شاءا من القرآن إلا
سور العزائم الأربع وهي اقرأ باسم ربك والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة ، روى ذلك
البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصيقل عن ابي عبد الله (عليهالسلام)».
هذا ما وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بالمسألة ، وأكثرها وأصحها صريح في جواز قراءة ما شاء ،
نعم في بعضها تصريح باستثناء السجدة أو سورة السجدة خاصة ، والأصحاب (رضياللهعنهم) قد حملوا هذه الاخبار على الكراهة جمعا بينها وبين
روايتي سماعة المذكورتين وخصوا الجواز بلا كراهة بالسبع أو السبعين ، والأظهر عندي
حمل ما دل على المنع مطلقا أو ما دون سبع أو سبعين على التقية ، فإن العامة قد
شددوا في المنع فما بين محرم ومكره ، فعن الشافعي القول بتحريم قراءة الجنب
والحائض شيئا منه ، وقال أبو حنيفة يجوز قراءة ما دون الآية وتحريم الآية ، وعن
احمد تفصيل في بعض الآية ، وعن مالك الجواز للحائض دون الجنب ، ورووا كراهة قراءة
القرآن للجنب عن علي (عليهالسلام) وعمر والحسن البصري والنخعي والزهري وقتادة . أقول : ومن هنا
__________________
يظهر حمل روايتي الخدري والسكوني على التقية ، وما تكلفه شيخنا الصدوق في
الرواية الأولى فمع بعده لا ضرورة تلجئ اليه والحال كما عرفت واما موثقتا سماعة
فهما وان لم يرو القول بمضمونهما عن العامة إلا انه لا مانع من حملهما على التقية
من حيث موافقتهما لهم في الجملة ومخالفتهما للاخبار الصحاح الصراح في الجواز مطلقا
، على انه لا يشترط عندنا في الحمل على التقية وجود القول بذلك من العامة كما تقدم
تحقيقه في مقدمات الكتاب ، وقد ردهما جملة من الأصحاب أيضا : منهم ـ العلامة في
المنتهى وغيره بضعف السند مع معارضتهما بعموم الاذن المستفاد من الروايات الصحيحة
، وبذلك يظهر ان الأقوى هو القول بالجواز مطلقا.
بقي الكلام هنا
في شيء آخر وهو ان المشهور بين أصحابنا (رضياللهعنهم) هو تحريم سور العزائم بأجمعها ، واعترضهم جملة من
متأخري المتأخرين بأن الروايات انما دلت على تحريم آية السجدة خاصة دون السورة ،
مثل صحيحتي محمد بن مسلم المتقدمتين الدالتين على ان الجنب والحائض يقرءان ما شاءا
إلا السجدة ، يعني إلا الآية المشتملة على السجود ، ونحن قد أسلفنا القول في ذلك ،
ولكن الظاهر هنا من عبارة كتاب الفقه الرضوي وعبارة المعتبر المنسوبة إلى رواية
جامع البزنطي هو تحريم السورة ، وعبارة كتاب الفقه وان أمكن ارتكاب التأويل فيها
إلا ان عبارة الجامع لا تقبل التأويل لأنه استثنى فيها نفس السورة ، ولعل هذين
الخبرين هما مستند من قال بتحريم السورة كملا ،
__________________
وقبول صحيحتي محمد بن مسلم للتأويل بما دلا عليه غير بعيد بان المراد من
السجدة سورة السجدة لا آية السجدة. وبالجملة فالاحتياط يقتضي القول بتحريم نفس
السورة لما عرفت ، وبه يظهر قوة القول المشهور. والله العالم.
(الرابع) ـ مس
المصحف والمراد ما عدا كتابة القرآن من الورق والجلد ، وهو مذهب الشيخين
وأتباعهما. ونقل عن المرتضى (رضياللهعنه) القول بالمنع لرواية إبراهيم ابن عبد
الحميد الآتية ، وقال الصدوق في الفقيه : «ومن كان جنبا أو على غير وضوء فلا يمس
القرآن وجاز له ان يمس الورق» وهو مؤذن بعدم الكراهة.
والذي وقفت
عليه في هذه المسألة من الاخبار رواية إبراهيم بن عبد الحميد المشار إليها عن ابي
الحسن (عليهالسلام) قال : «المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمس
خطه ولا تعلقه ، ان الله تعالى يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ)» . وقال (عليهالسلام) في كتاب الفقه : «ولا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو على غير وضوء ومس
الأوراق». وعبارة الصدوق مأخوذة من هذه العبارة على القاعدة التي عرفت وستعرف ان
شاء الله تعالى ، وبالرواية الأولى تعلق المرتضى (رضياللهعنه) قال في المدارك
بعد الاستدلال بها على ما ذهب اليه الشيخان وأتباعهما من الكراهة : «وانما حمل
النهي على الكراهة لضعف سند الرواية باشتماله على عدة من المجاهيل والضعفاء فلا
تبلغ حجة في إثبات التحريم» أقول : الأظهر في الجواب عنها انما هو عدم صراحتها بل
ولا ظهورها في المدعى ، بل الظاهر من قوله (عليهالسلام) : «المصحف لا تمسه» انما هو نفس القرآن الذي تقدم
القول في تحريم مسه ، ويؤيده قوله (عليهالسلام) : «ولا تمس خطه» بان يكون عطفا تفسيريا لما قبله وان
وجد في بعض النسخ «خيطه» والظاهر انه تصحيف ، وعلى تقدير صحته فيبقى الكلام فيه
وفي النهي عن التعليق ،
__________________
وينبغي حمل ذلك على الكراهة لمناسبة التعظيم فلا تكون الرواية من محل البحث
في شيء نعم فيها إشعار بكراهة مس الورق والجلد من حيث النهي عن مس الخيط ـ بناء
على النسخة المشار إليها ـ والتعليق ، وحينئذ فما ذكره في المدارك ـ من الاستدلال
بها للشيخين على الكراهة وقوله انه لولا ضعف السند لكانت دليلا للمرتضى (رضياللهعنه)
على القول بالتحريم في هذه المسألة ـ ليس في محله ، فإن الرواية لا تعلق لها بهذه
المسألة بوجه ، وهذه الرواية هي مستند الأصحاب في القول بتحريم مس خط المصحف على
المحدث حدثا أصغر أو أكبر كما تقدم بيانه ، والعجب من غفلة جملة من الأصحاب عن ذلك
بإيرادها في هذه المسألة والحال كما عرفت ، وعبارة كتاب الفقه ـ كما عرفت ـ ظاهرة
في الجواز وهو فتوى الصدوق ، وهو الظاهر وان كان القول بالكراهة ـ لما عرفت من
اشعار رواية إبراهيم بن عبد الحميد بذلك ـ لا بأس به ، ويؤيده ما تقدم في صحيحة
محمد بن مسلم من قوله (عليهالسلام): «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب.». والله
العالم.
(الخامس) ـ الخضاب
على المشهور ، وهو مذهب المفيد والمرتضى والشيخ في جملة من كتبه ، وقال الصدوق في
الفقيه : «ولا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب ويحتجم ويذكر الله تعالى
ويتنور ويدبح ويلبس الخاتم وينام في المسجد ويمر فيه» وهو ظاهر في عدم الكراهة.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ عن ابي سعيد قال : «قلت لأبي إبراهيم (عليهالسلام) : أيختضب الرجل وهو جنب؟ قال : لا. قلت : فيجنب وهو
مختضب؟ قال : لا. ثم سكت قليلا ثم قال : يا أبا سعيد ألا ادلك على شيء تفعله؟ قلت
: بلى. قال إذا اختضبت بالحناء وأخذ الحناء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع». وعن كردين
المسمعي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : لا يختضب الرجل وهو
__________________
جنب ولا يغتسل وهو مختضب». وعن جعفر بن محمد بن يونس «ان أباه كتب الى ابي الحسن الأول (عليهالسلام) يسأله عن الجنب يختضب أو يجنب وهو مختضب؟ فكتب : لا
أحب ذلك». وعن عامر بن جذاعة عن الصادق (عليهالسلام) قال «سمعته يقول : لا تختضب الحائض ولا الجنب ولا تجنب
وعليها خضاب ولا يجنب هو وعليه خضاب ولا يختضب وهو جنب». وروى الفضل بن الحسن
الطبرسي في مكارم الأخلاق من كتاب اللباس للعياشي عن علي بن موسى الرضا (عليهالسلام) قال : «يكره ان يختضب الرجل وهو جنب ، وقال من اختضب
وهو جنب أو أجنب في خضابه لم يؤمن عليه ان يصيبه الشيطان بسوء». وعن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) قال : «لا تختضب وأنت جنب ولا تجنب وأنت مختضب ، ولا
الطامث فان الشيطان يحضرها عند ذلك ، ولا بأس به للنفساء».
وهذه كلها ـ كما
ترى ـ متطابقة الدلالة على النهي ، وانما حمل الأصحاب النهي فيها على الكراهة دون
التحريم جمعا بينها وبين ما دل على الجواز من الاخبار ، ومنها ـ ما رواه في الكافي
عن أبي جميلة عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «لا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب المختضب ويطلي
بالنورة». قال في الكافي : «وروى ايضا ان المختضب لا يجنب حتى يأخذ الخضاب واما
في أول الخضاب فلا». وعن السكوني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بأن يختضب الرجل ويجنب وهو مختضب. الحديث».
وما رواه الشيخ عن علي ـ والظاهر انه ابن أبي حمزة ـ عن العبد الصالح (عليهالسلام) قال : «قلت : الرجل يختضب وهو جنب؟ قال : لا بأس. وعن
المرأة تختضب وهي حائض؟ قال : ليس به بأس». وفي الموثق عن سماعة قال : «سألت العبد الصالح (عليهالسلام) عن الجنب والحائض يختضبان
__________________
قال : لا بأس». وما رواه في الكافي في الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس ان يختضب الرجل وهو جنب». الا ان في بعض
نسخ الكافي «يحتجم» بدل «يختضب» أقول : ويؤيد ما ذكروه من الجمع ظاهر روايتي مكارم
الأخلاق وظاهر رواية جعفر بن محمد بن يونس. وعن المفيد في المقنعة انه علل الكراهة
بأن الخضاب يمنع وصول الماء الى ظاهر الجوارح التي عليها الخضاب. وأنت خبير بان
مقتضى هذا التعليل هو التحريم لا الكراهة ، ومن أجل ذلك اعتذر عنه في المعتبر فقال
: «وكأنه نظر الى ان اللون عرض وهو لا ينتقل فيلزم حصول اجزاء من الخضاب في محل
اللون ليكون وجود اللون بوجودها ، لكنها حقيقة لا تمنع الماء منعا تاما فكرهت لذلك»
انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف.
بقي هنا شيء
وان كان خارجا عن محل البحث وهو ان ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة جواز نوم الجنب في
المسجد ، وهو باطل إجماعا للأخبار المستفيضة الصريحة في المنع عن اللبث في المسجد وتخصيص الجواز بالمشي دون اللبث ، الا انه قد روى الشيخ
عن الحسين بن سعيد عن محمد بن القاسم قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال : يتوضأ ولا بأس ان
ينام في المسجد ويمر فيه». وحينئذ فإن كان اعتماد الصدوق (رحمهالله) على هذه الرواية فهي ـ مع الإغماض عما فيها من مخالفة
الإجماع والروايات المستفيضة ـ مقيدة بالوضوء أولا وعبارته (رحمهالله) مطلقة ، وأيضا فإن العمل بها في مقابلة تلك الاخبار
موجب لطرح تلك الأخبار المشار إليها وهو مشكل. وبعض المحشين على الكتاب تكلف لها
من الاحتمالات ما هو في البعد أظهر من ان يخفى ، قال (قدسسره) : «يحتمل ان يكون المراد النوم في حال الاجتياز من غير
لبث وان كان الفرض بعيدا ، ويحتمل ان يكون المراد انه
__________________
يجوز النوم في المسجد وان عرض له الجنابة بعد النوم ، فلا بأس بهذا النوم
وان كان معرضا للجنابة ، والمراد بالجنب حينئذ من تعرض له الجنابة. وفيه بعد بحسب
العبارة. وربما يقرأ «في المسجد» بلفظ الاسم لا الحرف اي ينام في ظل المسجد ويحذف
ويوصل المفعول. وهو بعيد» انتهى. وبالجملة فظاهر كلامه غير موجه ، والرواية
المذكورة محمولة على الضرورة أو التقية ، ونقل بعض مشايخنا المتأخرين عن أحمد أحد
الأئمة الأربعة انه إذا توضأ جاز له اللبث وأيد بعض الحمل على التقية بأن الرواية عن الرضا (عليهالسلام) وأكثر الأخبار المروية عنه (عليهالسلام) ظاهرة في التقية ، لأنه (عليهالسلام) كان في خراسان وفي أكثر الأوقات كان في مجلسه جماعة من
رؤسائهم كما هو الشائع من الآثار. انتهى.
(المسألة
الخامسة) ـ إذا اجتمعت أغسال واجبة أو مستحبة أجزأ عنها غسل واحد عندنا للأخبار
الدالة على التداخل ، وقد مر تحقيق المسألة مستوفى في المقام الحادي عشر من مقامات
الركن الأول في نية الوضوء فليراجع. والله العالم.
الفصل الثاني
في غسل الحيض ،
والكلام فيه يتوقف على بيان الحيض وانه عبارة عما ذا ، وما يترتب عليه من الأحكام
، وأحكام الحائض وما يجوز لها وما لا يجوز ، وحينئذ فالبحث هنا يقع في مقاصد ثلاثة
:
(الأول) ـ في
بيان الحيض ، وهو الدم المتصف بالصفات الآتية ، الذي لا ينقص عن ثلاثة ولا يزيد
على عشرة ، الخارج من الجانب الأيسر أو الأيمن على الخلاف الآتي المستنقع مع
اشتباهه بالعذرة ، الذي تراه المرأة بعد بلوغ تسع سنين الى ان تبلغ سن اليأس وفي
مجامعته الحمل قولان ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل :
__________________
(الأولى) ـ دم
الحيض في الأغلب هو الأسود الحار الخارج بحرقة ولذع ، وانما قيد بالأغلب لما سيجيء
ان شاء الله تعالى من ان ما تراه المرأة في أيام العادة وان كان حمرة أو صفرة فهو
حيض.
ويدل على ذلك
من الأخبار روايات عديدة : منها ـ ما في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن
هاشم عن حفص بن البختري قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري حيض
هو أو غيره؟ قال فقال لها : ان دم الحيض حار عبيط اسود له دفع وحرارة ، ودم
الاستحاضة اصفر بارد ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة. قال : فخرجت
وهي تقول : والله لو كان امرأة ما زاد على هذا».
وعن معاوية بن
عمار في الصحيح قال قال أبو عبد الله (عليهالسلام): «ان دم الاستحاضة والحيض ليسا يخرجان من مكان واحد ،
ان دم الاستحاضة بارد وان دم الحيض حار».
وعن إسحاق بن
جرير في الموثق قال : «سألتني امرأة منا ان أدخلها على ابي عبد الله (عليهالسلام) فاستأذنت لها فاذن لها فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت
له يا أبا عبد الله ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ فقال ان كان أيام
حيضها دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة. قالت فان الدم استمر بها
الشهر والشهرين والثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل
صلاتين قالت ان أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين والثلاثة
ويتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له حرقة ،
ودم الاستحاضة دم فاسد بارد. قال فالتفتت الى مولاتها فقالت أتراه كان امرأة مرة؟».
__________________
والمستفاد من
هذه الاخبار انه حيثما وجدت هذه الأوصاف يجب الحكم بالحيض وحيث انتفت انتفى إلا ما
خرج بدليل.
(الثانية) ـ لو
اشتبه دم الحيض بدم العذرة ـ بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة : البكارة
بفتح الباء الموحدة ـ اعتبر بخروج القطنة بعد وضعها في الفرج على الوجه الآتي ،
فإن خرجت مطوقة حكم به للعذرة ، وان خرجت مستنقعة حكم به للحيض ، صرح به الشيخ ومن
تأخر عنه من الأصحاب.
والمستند فيه ما
رواه في الكافي عن خلف بن حماد الكوفي في الصحيح قال : «تزوج بعض أصحابنا جارية معصرا لم تطمث ، فلما
افتضها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام ، قال : فاروها القوابل
ومن ظنوا بأنه يبصر ذلك من النساء فاختلفن : فقال بعض هذا من دم الحيض وقال بعض هو
من دم العذرة ، فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا : هذا
شيء قد أشكل والصلاة فريضة واجبة ، فلتتوضأ ولتصل وليمسك عنها زوجها حتى ترى
البياض ، فان كان دم الحيض لم تضرها الصلاة وان كان دم العذرة كانت قد أدت الفريضة
، ففعلت الجارية ذلك ، وحججت في تلك السنة فلما صرنا بمنى بعثت الى ابى الحسن موسى
(عليهالسلام) فقلت : جعلت فداك ان لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعا فإن
رأيت أن تأذن لي فآتيك وأسألك عنها؟ فبعث الي إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فاقبل
ان شاء الله تعالى قال خلف فرعيت الليل حتى إذا رأيت الناس قد قل اختلافهم بمنى
توجهت الى مضربه ، فلما كنت قريبا إذا أنا بأسود قاعد على الطريق فقال من الرجل؟
فقلت رجل من الحاج فقال ما اسمك؟ قلت خلف بن حماد. فقال ادخل بغير اذن فقد أمرني
أن اقعد ههنا فإذا أتيت أذنت لك ، فدخلت فسلمت فرد السلام وهو جالس على فراشه وحده
ما في الفسطاط غيره ، فلما صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله فقلت له : ان رجلا
__________________
من مواليك تزوج جارية معصرا لم تطمث فلما افتضها سال الدم فمكث سائلا لا
ينقطع نحوا من عشرة أيام ، وان القوابل اختلفن في ذلك فقال بعضهن دم الحيض وقال
بعضهن دم العذرة فما ينبغي لها ان تصنع؟ قال : فلتتق الله تعالى فان كان من دم
الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها ، وان كان من العذرة
فلتتق الله تعالى ولتتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها ان أحب ذلك. فقلت : وكيف لهم ان
يعلموا مما هو حتى يفعلوا ما ينبغي؟ قال فالتفت يمينا وشمالا في الفسطاط مخافة ان
يسمع كلامه أحد قال ثم نهد الي فقال : يا خلف سر الله سر الله فلا تذيعوه ولا
تعلموا هذا الخلق أصول دين الله بل ارضوا لهم ما رضي الله تعالى لهم من ضلال ، قال
ثم عقد بيده اليسرى تسعين ثم قال تستدخل القطنة ثم تدعها مليا ثم تخرجها إخراجا
رفيقا فان كان الدم مطوقا في القطنة فهو من العذرة وان كان مستنقعا في القطنة فهو
من الحيض. قال خلف فاستخفني الفرح فبكيت فلما سكن بكائي قال ما أبكاك؟ قلت : جعلت
فداك من يحسن هذا غيرك؟ قال فرفع يده الى السماء وقال : انى والله ما أخبرك إلا عن
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن جبرئيل عن الله عزوجل».
وما رواه في
التهذيب عن خلف بن حماد قال : «قلت لأبي الحسن الماضي : جعلت فداك ان رجلا من
مواليك سألني أن أسألك عن مسألة فتأذن لي فيها؟ فقال لي هات فقلت جعلت فداك رجل
تزوج جارية أو اشترى جارية طمثت أو لم تطمث أو في أول ما طمثت فلما افترعها غلب
الدم فمكث أياما وليالي ، فأريت القوابل فبعض قال من الحيضة وبعض قال من العذرة؟
قال فتبسم وقال : ان كان من الحيض فليمسك عنها بعلها ولتمسك عن الصلاة وان كان من
العذرة فلتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها ان أحب. قلت جعلت فداك وكيف لها ان تعلم من
الحيض هو أو من العذرة؟ فقال : يا خلف سر الله فلا تذيعوه تستدخل قطنة ثم
__________________
تخرجها فان خرجت القطنة مطوقة بالدم فهو من العذرة وان خرجت مستنقعة بالدم
فهو من الطمث».
وما رواه في
الكافي والشيخ أيضا في التهذيب في الصحيح عن زياد بن سوقة قال : «سئل أبو جعفر (عليهالسلام) عن رجل افتض امرأته أو أمته فرأت دما كثيرا لا ينقطع
عنها يومها كيف تصنع بالصلاة؟ قال تمسك الكرسف فان خرجت القطنة مطوقة بالدم فإنه
من العذرة تغتسل وتمسك معها قطنة وتصلي ، فإن خرج الكرسف منغمسا بالدم فهو من
الطمث تقعد عن الصلاة أيام الحيض».
وفي الفقه
الرضوي «وان افتضها زوجها ولم يرق دمها ولا تدري دم الحيض هو أم دم العذرة فعليها
ان تدخل قطنة فان خرجت القطنة مطوقة بالدم فهو من العذرة وان خرجت منغمسة فهو من
الحيض ، واعلم ان دم العذرة لا يجوز الشفرين ودم الحيض حار يخرج بحرارة شديدة ودم
الاستحاضة بارد يسيل وهي لا تعلم». انتهى. وهذه العبارة بلفظها نقلها في الفقيه عن
أبيه في رسالته اليه.
وهذه الاخبار كلها
متطابقة الدلالة على الحكم المذكور. وظاهر كلام المحقق في الشرائع والنافع وصريحه
في المعتبر التوقف في الحكم بكونه حيضا مع الاستنقاع ، قال في المعتبر : «لا ريب
انها إذا خرجت مطوقة كان من العذرة فإن خرجت مستنقعة فهو محتمل ، فإذن يقتضي انه
من العذرة مع التطوق قطعا فلهذا اقتصر في الكتاب على الطرف المتيقن» واعترضه في
المدارك بان فيه نظرا من وجهين : (أحدهما) ـ ان المسألة في كلامه في المعتبر
مفروضة فيما إذا جاء الدم بصفة دم الحيض ومعه لا وجه للتوقف في كونه مع الاستنقاع
حيضا ، لاعتبار سند الخبرين وصراحتهما في الدلالة على الحكمين ومطابقتهما للروايات
الدالة على اعتبار الأوصاف. و (ثانيهما) ـ انه (رحمهالله) صرح بعد ذلك بان ما تراه المرأة من الثلاثة إلى العشرة
يحكم بكونه حيضا وبأنه لا عبرة
__________________
بلونه ما لم يعلم انه لقرح أو لعذرة ونقل عليه الإجماع ، وهو مناف لما ذكره
هنا من التوقف في هذه المسألة ، إذ المفروض فيها انتفاء العلم بكون الدم للعذرة بل
انتفاء الظن بذلك باعتبار استنقاعه كما هو واضح. انتهى. وهو جيد وان كان ما ذكره
المحقق لا يخلو من وجه بالنظر الى الاعتبار ، إلا انه لا وجه له في مقابلة الاخبار
ولا سيما مع تصريحه بما نقله عنه في الموضعين. ثم انه لا يخفى ان ما ذكره المحقق
هنا من تقييد الدم الذي هو محل البحث بان يكون بصفة دم الحيض تقييد للنص بغير دليل
، واي مانع من الحكم بكونه حيضا مطلقا مع عدم التطوق؟ سيما على القاعدة المقررة
المعتمدة عندهم من ان ما أمكن ان يكون حيضا فهو حيض ، واليه يشير كلامه في الوجه
الثاني الذي نقله عنه في المدارك.
بقي هنا شيء
وهو انه قد نقل في المدارك عن الشهيد (رحمهالله) في الشرح ان طريق معرفة التطوق وعدمه ان تضع قطنة بعد ان
تستلقي على ظهرها وترفع رجليها ثم تصبر هنيئة ثم تخرج القطنة إخراجا رفيقا ، ونقل
عن جده أيضا في الروض ان مستند هذا الحكم روايات عن أهل البيت (عليهمالسلام) لكن في بعضها الأمر باستدخال القطنة من غير تقييد
بالاستلقاء وفي بعضها إدخال الإصبع مع الاستلقاء ، وطريق الجمع حمل المطلق على
المقيد والتخيير بين الإصبع والكرسف الا ان الكرسف أظهر في الدلالة ، ثم اعترضه
بان ما ذكره (رحمهالله) لم أقف عليه في شيء من الأصول ولا نقله ناقل في كتب
الاستدلال. انتهى. وما ذكره (رحمهالله) جيد وجيه ، فانا لم نقف في المسألة إلا على ما قدمنا
من الاخبار وليس في شيء منها ما يدل على الاستلقاء ولا وضع الإصبع ، ولا يبعد
عندي ان منشأ توهم شيخنا المشار اليه هو رواية القرحة الآتية للأمر فيها
بالاستلقاء ووضع الإصبع ، فربما جرى على خاطره وقت الكتابة ان مورد الرواية هو
افتضاض البكر وزوال العذرة فعدها في جملة روايات المسألة وجمع بينها بما ذكره من
غير ان يراجعها ، وجريان الأقلام على الاستعجال بأمثال هذا المقال غير عزيز في
كلامهم.
(المسألة
الثالثة) ـ لو اشتبه دم الحيض بدم القرحة فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقيل ان كان
خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض وان كان من الجانب الأيمن فهو من القرحة ،
وبه صرح الصدوق في كتابه والشيخ في النهاية واتباعه قال في الفقيه : «وان اشتبه
عليها دم الحيض ودم القرحة فربما كان في فرجها قرحة ، فعليها أن تستلقي على قفاها
وتدخل إصبعها فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من القرحة وان خرج الدم من الجانب
الأيسر فهو من الحيض» وظاهر هذا الكلام ان مخرج دم الحيض دائما انما هو من الجانب
الأيسر ، وعن ابن الجنيد انه عكس ذلك فقال : «دم الحيض اسود عبيط تعلوه حمرة يخرج
من الجانب الأيمن وتحس المرأة بخروجه ، ودم الاستحاضة بارد رقيق يخرج من الجانب
الأيسر» واضطرب كلام الشهيد فأفتى في البيان بالأول وفي الدروس والذكرى بالثاني ،
قيل : ومنشأ الاختلاف هنا اختلاف متن الرواية حيث انه قد روى في الكافي عن محمد بن
يحيى رفعه عن ابان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) فتاة منا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم
الحيض أم من دم القرحة؟ فقال : مرها فلتستلق على ظهرها ثم ترفع رجليها ثم تستدخل
إصبعها الوسطى ، فان خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض وان خرج من الجانب
الأيسر فهو من القرحة». والشيخ قد نقل الرواية المذكورة بعينها في التهذيب وساق
الحديث الى ان قال : «فان خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض وان خرج من
الجانب الأيمن فهو من القرحة». وربما قيل بترجيح رواية التهذيب لان الشيخ اعرف
بوجوه الحديث وأضبط خصوصا مع فتواه بمضمونها في النهاية والمبسوط. وفيه انه لا
يخفى على من راجع التهذيب وتدبر اخباره ما وقع للشيخ (رحمهالله) من التحريف والتصحيف في الاخبار سندا ومتنا وقلما يخلو
حديث من أحاديثه من علة في سند أو متن ، واما فتواه (رحمهالله) فالكلام فيها أظهر من ان يخفى على
__________________
من ملوس الفن ، والترجيح بهذه القاعدة في جانب رواية الكافي أظهر ، ويعضده
ان في الذكرى نقل انه وجد الرواية في كثير من نسخ التهذيب كما في الكافي ، وفي
المدارك عن ظاهر كلام ابن طاوس ان نسخ التهذيب القديمة كلها موافقة له ايضا وبه
يظهر ترجيحها. نعم عبارة الفقه الرضوي صريحة في القول الأول حيث قال (عليهالسلام) : «وان اشتبه عليها الحيض بدم القرحة فربما كان في
فرجها قرحة فعليها أن تستلقي على قفاها وتدخل إصبعها فإن خرج الدم من الجانب
الأيمن فهو من القرحة وان خرج من الجانب الأيسر فهو من الحيض». وعبارة الصدوق
المتقدمة عين هذه العبارة ، ومنه يعلم أنه أخذها من الكتاب المذكور وافتى بها وان
مستنده في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور ، والصدوق في كتابه قد ذكر بعد هذه
العبارة بلا فصل عبارة كتاب الفقه المتقدمة في اشتباه دم الحيض بدم العذرة وقال بعدها ذكره أبي في
رسالته الي ، ومنه يعلم ـ كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى في مطاوي أبحاث هذا
الكتاب ـ اعتماد الصدوقين على الكتاب المذكور وأخذ عبائره والإفتاء بها ، والظاهر
ان مستند من قال بالقول الأول انما هو ما في رسالة علي بن الحسين بن بابويه من
العبارة المأخوذة من كتاب الفقه لا من رواية التهذيب كما قيل ، لما عرفت من نقل
الشيخين المتقدمين ان نسخ التهذيب القديمة موافقة للكافي ، وحينئذ فالتعارض انما
هو بين رواية الكافي وكتاب الفقه ، والمسألة لذلك لا تخلو من اشكال ، ويؤكده ان
احتمال القرحة لا يختص بجانب دون جانب فلا يتم الحكم كليا بكونها في جانب اليمين
كما في كتاب الفقه أو الأيسر كما في رواية الكليني. والله العالم.
(المسألة
الرابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضياللهعنهم) في ان أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة ، وهي أقل
الطهر ، واما أكثره فلا حد له على الأشهر الأظهر.
__________________
فأما الأول
فالأخبار به مستفيضة : (منها) ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام وأكثره ما يكون
عشرة أيام». وعن صفوان بن يحيى قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن ادنى ما يكون من الحيض؟ فقال أدناه ثلاثة وأبعده
عشرة». وما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) : «ادنى الحيض ثلاثة وأقصاه عشرة». الى غير ذلك من
الأخبار الكثيرة. واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) من «ان أكثر ما يكون الحيض ثمان وادنى ما يكون منه
ثلاثة». فقد أجاب الشيخ عنه بأنه خبر شاذ أجمعت العصابة على ترك العمل به ، قال : «ولو
صح لكان معناه ان المرأة إذا كان من عادتها ان لا تحيض أكثر من ثمانية أيام ثم
استحاضت واستمر بها الدم وهي لا يتميز لها دم الحيض من دم الاستحاضة ، فإن أكثر ما
تحتسب به أيام الحيض ثمانية أيام حسبما جرت عادتها قبل استمرار الدم» انتهى. ولا
يخفى بعده. وحمله في المنتقى على إرادة الأكثر بحسب العادة والغالب في الشرع. وهو
جيد فان بلوغ العشرة في العادة نادر.
واما الثاني
فيدل عليه بعد الإجماع الأخبار الكثيرة ، ومنها ـ مرسلة يونس الآتية ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن
مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا يكون القرء في أقل من عشرة أيام فما زاد ،
أقل ما يكون عشرة من حين تطهر الى ان ترى الدم». وهي متضمنة لحكم الأقل وانه عشرة
ولحكم الأكثر وهو عشرة فما زاد من غير الانتهاء الى حد ، وعن ابي الصلاح انه حد
الأكثر بثلاثة أشهر ، ولم نقف له على مستند ، وحمله العلامة على ان مراده باعتبار
الغالب. وفي صحيحة محمد بن مسلم
__________________
الآتية ونحوها موثقته «إذا رأت الدم بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة».
وكيف كان فكل
من هذه الأحكام لا خلاف فيه ، انما الخلاف في اشتراط التوالي في الثلاثة التي تكون
أقل الحيض فهل يشترط تواليها أم يكفي كونها في جملة العشرة؟
المشهور الأول
وبه قال الشيخ (رحمهالله) في الجمل والمرتضى وابنا بابويه ، قال في الفقيه نقلا
عن أبيه في رسالته إليه : «فإن رأت الدم يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر
الدم ثلاثة أيام متواليات ، وعليها ان تقضي الصلاة التي تركتها في اليوم أو
اليومين».
أقول : وهذه
العبارة عين عبارة الفقه الرضوي كما سيأتي نقله في هذا المقام ان شاء الله تعالى ،
وهكذا ما بعدها
وقال الشيخ في
النهاية : «ان رأت يوما أو يومين ثم رأت قبل انقضاء العشرة ما يتم به الثلاثة فهو
حيض ، وان لم تر حتى تمضي عشرة فليس من الحيض» والى هذا القول ذهب ابن البراج ،
واليه مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ المولى الأردبيلي (رحمهالله) في شرح الإرشاد والشيخ الحر في رسالته والشيخ عبد الله
بن صالح البحراني ، ونقله عن الشيخ احمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني صاحب رياض
المسائل ، وهو الأظهر عندي.
ويدل عليه
روايات : (منها) ـ ما رواه الشيخ عن يونس عن بعض رجاله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ادنى الطهر عشرة أيام ، وذلك ان المرأة أول ما
تحيض ربما كانت كثيرة الدم فيكون حيضها عشرة أيام ، فلا تزال كلما كبرت نقصت حتى
ترجع إلى ثلاثة أيام فإذا رجعت الى ثلاثة أيام ارتفع حيضها ولا يكون أقل من ثلاثة
أيام ، فإذا رأت المرأة الدم في أيام حيضها تركت الصلاة ، فإن استمر بها الدم
ثلاثة أيام فهي حائض
__________________
وان انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت وانتظرت من يوم رأت
الدم إلى عشرة أيام ، فإن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين
حتى يتم لها ثلاثة أيام فذلك الذي رأته في أول الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في
العشرة فهو من الحيض ، وان مر بها من يوم رأت الدم عشرة أيام ولم تر الدم فذلك
اليوم واليومان الذي رأته لم يكن من الحيض انما كان من علة اما قرحة في جوفها واما
من الجوف ، فعليها ان تعيد الصلاة تلك اليومين التي تركته لأنها لم تكن حائضا فيجب
ان تقضى ما تركت من الصلاة في اليوم واليومين ، وان تم لها ثلاثة أيام فهو من
الحيض وهو ادنى الحيض ولم يجب عليها القضاء ولا يكون الطهر أقل من عشرة أيام ،
وإذا حاضت المرأة وكان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت ، فإن رأت بعد
ذلك الدم ولم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام فذلك من الحيض تدع الصلاة ، وان رأت
الدم من أول ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام ودام عليها عدت من أول ما
رأت الدم الأول والثاني عشرة أيام ثم هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة ، وقال
كل ما رأت المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض وكل ما رأته بعد
أيام حيضها فليس من الحيض».
أقول : لا يخفى
ما في الخبر المذكور من الصراحة والظهور في الدلالة على القول المذكور ، وظاهره
ايضا ان النقاء الذي بين أيام الدم المتفرقة طهر حيث خص الحيض بأيام الدم المتقدمة
والمتأخرة (لا يقال) : انه قد استفاضت الأخبار بان أقل الطهر عشرة أيام (لأنا نقول)
: نعم وهذا الخبر من جملتها ايضا حيث قال فيه : «ولا يكون الطهر أقل من عشرة أيام»
ولكن وجه الجمع ـ بين ما دل عليه الخبر المذكور ونحوه من الحكم بكون النقاء
المتخلل بين الثلاثة الأيام المذكورة هنا طهرا وبين تلك الاخبار ـ بحمل الطهر في
تلك الأخبار على ما كان بين حيضتين مستقلتين كما في العدد ونحوها فلا ينافيه ما
كان في أثناء الحيضة الواحدة ، ويشير الى ذلك ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم
المتقدمة التي هي مستندهم في هذا الحكم من قوله (عليهالسلام) : «أقل ما يكون عشرة من حين تطهر الى ان ترى الدم» بعد
قوله : «لا يكون القرء في أقل من عشرة» وقوله (عليهالسلام) ـ : «فإن رأت بعد ذلك الدم ولم يتم لها من يوم طهرت
عشرة أيام فذلك من الحيض» ـ معناه انه إذا كان حيضها خمسة أيام ـ مثلا ـ ثم انقطع
الدم فإنها تغتسل وتصلي ، فإن عاد الدم بعد مضي عشرة أيام من انقطاعه فلا إشكال في
كونه حيضة ثانية لتوسط أقل الطهر بين الدمين ، وان كان قبل تمام العشرة فإنه يكون
من الحيضة الاولى وما بينهما طهر حسبما تقدم في الثلاثة المتفرقة ، نعم انما يحكم
بكون الدمين حيضا ما لم يتجاوز الجميع عشرة أيام التي هي أكثر الحيض وإلا فلو
تجاوز كان ما زاد على العشرة استحاضة ، والى هذا أشار (عليهالسلام) بقوله في تتمة الخبر : «وان رأت الدم من أول ما رأت
الثاني. إلخ» بمعنى انه ان رأت هذا الدم الثاني من أول ما رأته متمما للعشرة التي
مبدأها أول اليوم الأول ثم دام وتجاوز العشرة عدت أيام الدم الأول وأيام الدم
الثاني وجعلت حيضها منه عشرة أيام وعملت في الباقي ما تعمله المستحاضة ، وفي قوله
: «عدت من أول ما رأت الدم الأول والثاني عشرة أيام» إشارة الى ان ما بين الدمين
طهر لأنها انما تعد أيام الدم خاصة.
و (منها) ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيام فهو من
الحيضة الاولى وان كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة».
وما رواه الشيخ
في الموثق عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام ، وإذا رأت الدم
قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الاولى ، وإذا رأته بعد عشرة أيام فهو من حيضة أخرى
مستقبلة».
__________________
والتقريب فيهما
انهما ظاهرتان في انه إذا رأت المرأة الدم بعد ما رأته أولا سواء كان الأول يوما
أو أزيد ، فإن كان بعد توسط عشرة أيام خالية من الدم كان الدم الثاني حيضة مستقلة
، وان كان قبل ذلك كان من الحيضة الاولى.
واما ما ذكره
في المدارك ـ بعد ان نقل عن الشيخ الاستدلال على هذا القول برواية يونس وصحيحة
محمد بن مسلم حيث قال : «والجواب ان الرواية الأولى ضعيفة مرسلة والثانية غير دالة
على المطلوب صريحا ، إذ مقتضاها ان ما تراه في العشرة فهو من الحيضة الاولى ولا
نزاع فيه لكن لا بد من تحقق الحيض أولا ، قال في المعتبر بعد ان ذكر نحو ذلك :
ونحن لا نسمي حيضا إلا ما كان ثلاثة فصاعدا ، فمن رأت ثلاثة ثم انقطع ثم جاء في
العشرة ولم يتجاوز فهو من الحيضة الأولى لا انه حيض مستأنف ، لأنه لا يكون بين
الحيضتين أقل من عشرة. وهو حسن» انتهى ـ
ففيه (أولا) ـ ان
ما طعن به على رواية يونس من الضعف لا يقوم حجة على الشيخ ونحوه من المتقدمين
الذين لا اثر لهذا الاصطلاح عندهم ، بل اعترف جملة من محققي أصحاب هذا الاصطلاح
كالمحقق الشيخ حسن في المنتقى والبهائي في مشرق الشمسين بصحة الأخبار كملا عند
المتقدمين لوضوح الطرق الدالة على صحتها لديهم ، وان هؤلاء المتأخرين إنما جددوا
هذا الاصطلاح لخفاء تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدمين عليهم. و (ثانيا)
ـ ما قدمناه في مقدمات هذا الكتاب من بطلان هذا الاصطلاح. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره
في صحيحة محمد بن مسلم من عدم دلالتها على المطلوب صريحا مؤذن بأنها دالة عليه
ظاهرا وهو كاف في الاستدلال ، فإنها وان لم تكن في الصراحة كرواية يونس المذكورة
إلا انها ظاهرة في ذلك ، وما ارتكبوه في تأويلها خلاف الظاهر بل تعسف محض كما لا
يخفى على الخبير الماهر ، وذلك فان ظاهر الخبر المذكور ومثله الموثقة التي بعده ان
العشرة التي وقع التفصيل فيها في الخبر بكون رؤية الدم قبل تمامها فيكون من الحيضة
الأولى أو بعده فيكون حيضة مستقلة انما هي عشرة
واحدة وهي ما بعد رؤية الدم الأول سواء كان يوما أو يومين أو ثلاثة ،
ومبدأها انقطاع الدم الأول ، واللام في العشرة الثانية عهدية كما في قوله تعالى : «... أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ...» وعلى هذا بنى الاستدلال بالرواية المذكورة ، وعلى ما
ذكروه يلزم ان يكون مبدأ العشرة من أول الدم ، وهو وان تم لهم بالنسبة إلى أول
الترديدين إلا انه لا يتم لهم بالنسبة إلى الترديد الثاني وهو قوله : «وان كان بعد
العشرة» فإنها عبارة عن عشرة أيام الطهر البتة ، وبالجملة فإن مبنى كلامهم على ان
المراد بالعشرة الاولى مبدأ الدم الأول والعشرة الثانية من انقطاعه. ولا يخفى ما
فيه من التمحل بل البطلان ، إذ المتبادر من الترديد المذكور هو اتحاد العشرة لا
تعددها.
ومما يؤيد ما
ذكرناه من ان العشرة التي وقع الترديد فيها هي عشرة الطهر ما رواه الشيخ في
التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة إذا طلقها زوجها متى تكون أملك بنفسها؟ فقال
إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها. قلت فان عجل الدم عليها قبل أيام
قرءها؟ فقال : إذا كان الدم قبل العشرة أيام فهو أملك بها وهو من الحيضة التي طهرت
منها ، وان كان الدم بعد العشرة فهو من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها».
والتقريب فيها
كما مر في صحيحة محمد بن مسلم الا ان هذه أظهر في كون الطهر يكون أقل من عشرة أيام
، وان ما ذكروه من حمل العشرة الاولى في تلك الرواية على مبدأ الدم الأول لا يجري
في هذه الرواية ، بل المراد بالعشرة فيها في الموضعين هي عشرة الطهر الخالي من
الدم ، وذلك فان معناها انها إذا حاضت الحيضة الثانية وطهرت ثم أتاها الدم ، فان
كان قبل تمام العشرة أيام الطهر فله الرجوع فيها لأنها باقية في العدة ، وان
__________________
كان بعد تمام العشرة فقد خرجت عن عدته لحصول الأقراء الثلاثة التي هي عبارة
عن الاطهار وتقريب الاستدلال بهذه الروايات الثلاث بناء على ما ذكرناه زيادة على
ما عرفت ان الحكم بكون ما تراه قبل تمام العشرة من الحيضة الأولى انما يتم على
إطلاقه بناء على الحكم بكون أيام النقاء المتخللة طهرا ، والا فلو فرضنا ان حيضها
الأول خمسة أيام أو ستة أيام ثم بعد الطهر والغسل رأت الدم في اليوم السابع أو
الثامن من طهرها قبل تمام العشرة فإنه (عليهالسلام) في هذه الاخبار حكم بكون الدم من الحيضة الاولى ، فلو
حكم بكون النقاء ايضا حيضا كما يدعونه للزم زيادة الحيض على عشرة أيام ، وهو باطل
إجماعا نصا وفتوى ، وفي معنى هذه الرواية ما صرح به في الفقه الرضوي حيث قال : «وربما تعجل الدم من الحيضة الثانية ، والحد
بين الحيضتين القرء وهو عشرة أيام بيض ، فإن رأت الدم بعد اغتسالها من الحيض قبل
استكمال عشرة أيام بيض فهو ما بقي من الحيضة الاولى ، وان رأت الدم بعد العشرة
البيض فهو ما تعجل من الحيضة الثانية». انتهى. وهو ظاهر في ان ما تخلل من النقاء
بين الدمين ـ متى كان في العشرة ـ طهر لما فرضناه من المثال المتقدم ونحوه ، وفي
هذا الكلام ما يشير الى ما قدمناه من حمل روايات «أقل الطهر عشرة». على ما كان بين
حيضتين لا مطلقا.
ومما حققناه في
هذا المقام يظهر ان ما يأتي ان شاء الله تعالى في كلامهم ـ من انه متى رأت الدم
ثلاثة ـ مثلا ـ وانقطع ثم رأته قبل العاشر ولم يتجاوز العشرة فإن جميع العشرة حيضة
ـ لا وجه له ، فان ظاهر هذه الاخبار ان الحيض أيام الدم خاصة كما عرفت واما قول
صاحب المعتبر فيما نقله عنه في المدارك : «ونحن لا نسمي حيضا الا ما كان ثلاثة
فصاعدا. إلخ» ففيه انه أول المسألة لأن مراده بالثلاثة يعنى المتوالية ، وإطلاق
الحيض في الرواية على الدم المتقدم وان كان أقل من ثلاثة كما ندعيه انما وقع من
حيث رجوع الدم في العشرة الموجب لكون المتقدم بانضمام المتأخر اليه حيضا واحدا
وبهذا يصح إطلاق الحيض على الدم الأول وان كان أقل من ثلاثة ، لظهور كونه حيضا
__________________
بانضمام الدم الأخير اليه. وبالجملة فالرواية مطلقة بالنسبة إلى الدم
المتقدم ، وإطلاق الحيض على ما كان أقل من ثلاثة أيام صحيح بما ذكرناه ، فالعمل
بها على إطلاقها لا يعتريه وصمة الإشكال.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ما استدلوا به على ما ذكروه من القول المشهور أمور :
(الأول) ـ ان
الصلاة ثابتة في الذمة بيقين فلا يسقط التكليف بها إلا مع تيقن السبب ولا تيقن
بثبوته مع انتفاء التوالي.
(الثاني) ـ ان
المتبادر من قولهم : «ادنى الحيض ثلاثة وأقله ثلاثة» . كونها متوالية ، ذكر ذلك في المدارك والأول منهما
العلامة في المختلف ايضا.
(الثالث) ـ ان
تقدير الحيض أمر شرعي غير معقول فيقف على مورد الشرع. ولم يثبت في المتفرق التقدير
الشرعي ، احتج به العلامة في المختلف.
(الرابع) ـ ان
اللازم من القول بخلاف القول المشهور كون الطهر أقل من عشرة وهو خلاف الإجماع نصا
وفتوى.
(الخامس) ـ ما
ذكره (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال : «وان رأت يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما
لم تر ثلاثة أيام متواليات ، وعليها ان تقضى الصلاة التي تركتها في اليوم واليومين».
وهذه العبارة عين العبارة المتقدم نقلها عن الصدوق في رسالة أبيه اليه وكذا ما
بعدها ايضا ، ومنه يعلم ان مستنده في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور كما عرفت
وستعرف ان شاء الله تعالى.
والجواب (اما
عن الأول) فإن ما ذكروه من ثبوت الصلاة في الذمة بيقين مسلم الا انه قد دلت
الأخبار المتفق عليها على انها تسقط بالحيض الذي أقله ثلاثة ، وهي مطلقة شاملة
بإطلاقها لما لو كانت متوالية أو متفرقة في ضمن العشرة ، ومدعى التقييد بالتوالي
عليه الدليل وليس فليس ، بل الأدلة بصريحها وظاهرها عاضدة لهذا الإطلاق كما عرفت.
__________________
و (اما عن
الثاني) فبالمنع من هذه الدعوى (اما أولا) ـ فلأنه لو نذر المكلف صيام ثلاثة أيام
على الإطلاق فاللازم بمقتضى ما ذكره وجوب التوالي فيها وهو لا يلتزمه و (اما ثانيا)
ـ فلانه لو تم ذلك في الثلاثة للزم مثله في العشرة لاشتراكهما في الإطلاق في اخبار
هذه المسألة كما تقدم وهم لا يقولون به. و (اما ثالثا) ـ فلانه لو سلم ذلك فإنه
يجب الخروج عنه بقيام الدليل على خلافه وهو الاخبار المتقدمة.
و (اما عن
الثالث) فبما عرفت من ان غاية ما دلت عليه الاخبار ان أقله ثلاثة وهي أعم من ان
تكون متوالية أو متفرقة ، ومدعى التقييد بالتوالي يحتاج الى الدليل ، وتخرج
الأخبار التي ذكرناها شاهدة على ذلك.
و (اما عن
الرابع) فيما تقدم آنفا من ان وجه الجمع بين الاخبار يقتضي حمل أخبار «أقل الطهر
عشرة أيام» على الطهر الواقع بين حيضتين بمعنى انه لا يحكم بتعدد الحيض إلا مع
توسط العشرة لا الواقع في حيضة.
ومما يعضد ما
ذكرناه من وقوع الطهر في أقل من عشرة أيام ما رواه الشيخ في الموثق عن يونس بن
يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : المرأة ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع
الصلاة. قلت : فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟
قال : تصلي.
قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى الطهر
ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي. قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع
الصلاة تصنع ما بينها وبين شهر فان انقطع الدم عنها والا فهي بمنزلة المستحاضة». ونحوها
رواية أبي بصير ايضا .
و (اما عن
الخامس) فالظاهر ان كلامه (عليهالسلام) هنا خرج مخرج البناء على الغالب لا انه حكم كلي ، لأنه
قد صرح قبيل هذا الكلام بما قدمنا نقله عنه قريبا مما هو ظاهر المنافاة لو حمل هذا
الكلام على ظاهره ، فان ظاهر الكلام هو انه قد يكون
__________________
الطهر أقل من عشرة إذا كان في حيضة واحدة ، فلا بد من حمل هذا الكلام على
ما ذكرناه جمعا.
وينبغي التنبيه
على أمور (الأول) ـ قال في الروض : «وعلى هذا القول ـ يعني عدم اعتبار التوالي ـ لو
رأت الأول والخامس والعاشر فالثلاثة حيض لا غير» واعترضه سبطه بان مقتضاه ان أيام
النقاء المتخللة بين أيام رؤية الدم تكون طهرا ، وهو مشكل لان الطهر لا يكون أقل
من عشرة أيام إجماعا ، وايضا قد صرح المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى
وغيرهما من الأصحاب بأنها لو رأت ثلاثة ثم رأت العاشر كانت الأيام الأربعة وما
بينهما من النقاء حيضا ، والحكم في المسألتين واحد انتهى. وفيه نظر من وجهين : (أحدهما)
ـ ان قوله : «ان الطهر لا يكون أقل من عشرة إجماعا» على إطلاقه ممنوع ، فان ذلك
انما هو فيما إذا كان بين حيضتين يعني لا يحكم بتعدد الحيض الا مع توسط العشرة ،
كما يشير اليه كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حسبما نبهنا عليه آنفا ، وقد عرفت
دلالة الأخبار على انه لا مانع منه في الحيضة الواحدة ، وهذا معظم الشبهة عندهم في
اطراح هذا القول ، وفيه ما عرفت. و (ثانيهما) ـ ان ما نقله عن المعتبر والمنتهى
وغيرهما انما استندوا فيه الى صحيحة محمد بن مسلم وموثقته المتقدمتين بناء على ما
توهموه من المعنى الذي زعموه ، وقد أوضحنا بعده ومخالفته لظاهر الخبرين المذكورين
كما يفصح عنه خبر عبد الرحمن بن ابي عبد الله وكلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه ، فإنهما صريحان في المدعى كما أوضحناه
آنفا ، وحينئذ فما ذكروه خال من الدليل بل الدليل على خلافه واضح السبيل. وبالجملة
فإن الروايات المذكورة كملا قد اشتركت في الدلالة على ان ما تراه في عشرة الطهر
قبل تمامها فهو من الحيضة الاولى وان ما بين الدمين طهر ، وإلا لزم المحذور الذي
قدمنا ذكره من زيادة الحيض على العشرة وهو باطل ، الا انها مختلفة في الظهور شدة
وضعفا ، وهم انما حكموا بكون النقاء المتوسط حيضا بشبهة ان الطهر لا يكون أقل من
عشرة ، وقد أوضحنا فساده فلا اشكال بحمد الله المتعال.
(الثاني) ـ اعلم
ان ظاهر الأصحاب (رضياللهعنهم) ان محل الخلاف في هذه المسألة الثلاثة مطلقا أعم من ان
تكون في أيام العادة أم لا ، وصريح رواية يونس هو كونها في أيام العادة ، وظاهر
روايتي محمد بن مسلم وان كان الإطلاق بناء على ما ذكرناه من معناهما الا انه يمكن
حمله على رواية يونس حمل المطلق على المقيد ، وبذلك يجمع بين هذه الاخبار وكلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه بحمله على غير أيام العادة ، ولا بأس به
اقتصارا في الخلاف على القدر المتيقن ، الا انه صلح من غير تراضي الخصمين.
(الثالث) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد الثاني في الروض بان المراد بالأيام الثلاثة
ما يدخل فيها الليالي اما تغليبا واما لدخول الليل في مسمى اليوم عرفا ، قال : «وقد
صرح بدخولها في بعض الاخبار وفي عبارة بعض الأصحاب» أقول : هو ابن الجنيد على ما
نقله عنه بعض أصحابنا. والظاهر ان المراد بالثلاثة مقدارها من الزمان ولو بالتلفيق
لا خصوص الثلاثة ، فلو رأته من أول الظهر ـ مثلا ـ اعتبر الامتداد الى ظهر اليوم
الرابع.
(الرابع) ـ اختلف
الأصحاب في المعنى المراد من التوالي على تقدير القول المشهور فقيل بأنه عبارة عن
استمراره في الثلاثة بلياليها بحيث متى وضعت الكرسف تلوث ، وهو اختيار الشيخ علي
في شرح القواعد بعد ان ذكر انه لا يعرف الآن في كلام أحد من المعتبرين تعيينا له ،
ثم قال : «وقد يوجد في بعض الحواشي الاكتفاء بحصوله فيها في الجملة وهو رجوع الى
ما ليس له مرجع» ونقل هذا القول عن الشيخ جمال الدين ابن فهد في التحرير. وقيل
بالاكتفاء بوجوده في كل يوم من الثلاثة وقتاما ، ونقله في المدارك عن ظاهر الأكثر
عملا بالعموم ، وهو اختيار الروض قال : «ظاهر النص الاكتفاء بوجوده في كل يوم من
الثلاثة وان لم يستوعبه لصدق رؤيته ثلاثة أيام لأنها ظرف له ، ولا تجب المطابقة
بين الظرف والمظروف ، وهذا هو الظاهر من كلام المصنف» انتهى وقيل انه يعتبر ان
يكون في أول الأول وآخر الآخر وفي أي جزء من الوسط ، فإذا
رأته في أول جزء من أول ليلة من الشهر فلا بد ان تراه في آخر جزء من اليوم
الثالث بحيث يكون عند غروبه موجودا وفي اليوم الوسط يكفي أي جزء كان ، ونسب هذا
القول الى الفاضل السيد حسن ابن السيد جعفر معاصر شيخنا الشهيد الثاني ، واستبعده
في المدارك ونفى عنه البعد في الحبل المتين ، قال بعد نقله : «وهذا التفسير لبعض
مشايخنا المتأخرين وهو غير بعيد ، وانما اعتبر وجود الدم في أول الأول وآخر الآخر
عملا بما ثبت بالنص والإجماع من انه لا يكون أقل من ثلاثة أيام. إذ لو لم يعتبر
وجوده في الطرفين المذكورين لم يكن الأقل مما جعله الشارع أقل فلا تغفل» انتهى.
أقول : والمسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الموضح لهذا الإجمال
والتعليلات متدافعة ، وان كان القول بما عليه ظاهر الأكثر لا يخلو عن قرب. والله
العالم.
(المسألة
الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان ما تراه المرأة من الدم قبل إكمال التسع
فليس بحيض وما تراه بعد بلوغ سن اليأس فليس بحيض ، فالكلام هنا يقع في مقامين :
(الأول) ـ في
ما تراه قبل التسع ، وهو ـ كما عرفت ـ إجماعي حتى من العامة ويدل عليه من الاخبار صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ثلاث يتزوجن على كل حال ، وعد منها التي لم تحض
ومثلها لا تحيض ـ قال قلت وما حدها؟ قال : إذا اتى لها أقل من تسع سنين ـ والتي لم
يدخل بها والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض. قال قلت وما حدها؟ قال : إذا
كان لها خمسون سنة».
__________________
وعن عبد الرحمن
بن الحجاج أيضا في الموثق قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : ثلاث يتزوجن على كل حال : التي يئست من المحيض
ومثلها لا تحيض ـ قلت ومتى تكون كذلك؟ قال إذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض
ومثلها لا تحيض ـ والتي لم تحض ومثلها لا تحيض ـ قلت ومتى تكون كذلك؟ قال ما لم
تبلغ تسع سنين فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض ـ والتي لم يدخل بها».
وههنا اشكال
مشهور وهو ان الأصحاب ذكروا من علامات بلوغ المرأة الحيض وحكموا ههنا بان ما تراه
المرأة قبل التسع فليس بحيض ، وهو بحسب الظاهر مدافع للأول ، فما الذي يعلم به
البلوغ؟
وأجيب عن ذلك
بحمل ما هنا على من علم بلوغها التسع ، فإنه لا يحكم على الدم الذي تراه قبل التسع
بكونه حيضا ، وحمل ما ذكروه من ان الحيض علامة البلوغ على من جهل سنها مع خروج
الدم الجامع لصفات الحيض ، فإنه يحكم بكونه حيضا ويعلم به البلوغ كما ذكره الأصحاب
ونقلوا عليه الإجماع.
أقول : ويؤيده رواية
عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة
وكتبت عليه السيئة وعوقب ، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك ، وذلك انها تحيض
لتسع سنين». ويستفاد من هذه الرواية ان الحيض لازم للتسع ، وحينئذ فمتى كان سنها
مجهولا وحصل لها الحيض فإنه دليل على بلوغ التسع.
واما ما أجيب
به عن الاشكال المذكور ـ من ان البلوغ مما اختلف فيه فقيل انه بالتسع وقيل بالعشر
فلو رأت دما بعد التسع وقبل بلوغ العشر حكم بالبلوغ ـ فأورد عليه بان هذا انما يتم
على قول من قال بالعشر واما من قال بان بلوغها بالتسع فإنه لا يكون
__________________
الدم هنا دليلا على البلوغ عنده ، بل الحق هو الأول.
(الثاني) ـ في
ما تراه بعد بلوغ سن اليأس ، وقد عرفت انه لا خلاف بينهم في انه ليس بحيض ، وعليه
تدل الأخبار التي في المسألة.
انما الخلاف في
ما به يتحقق اليأس ، فقيل بأنه يتحقق ببلوغ خمسين سنة مطلقا ، ذهب اليه الشيخ في
النهاية والجمل واختاره المحقق في كتاب الطلاق من الشرائع. وقيل ببلوغ الستين
مطلقا ، واختاره العلامة في بعض كتبه والمحقق في الشرائع في باب الحيض. وقيل
بالتفصيل بين القرشية وغيرها واعتبار الستين فيها والخمسين في غيرها ، واختاره
الشيخ في أكثر كتبه ، وهو ظاهر الصدوق في الفقيه ايضا حيث قال : «وقال الصادق (عليهالسلام) : المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلا ان تكون
امرأة من قريش ، وهو حد المرأة التي تيأس من الحيض». انتهى. وهذا الكلام بعينه عين
مرسلة ابن ابي عمير الآتية ، ورجحه المحقق في المعتبر ، والظاهر انه المشهور.
وربما الحق بعض أصحاب هذا القول بالقرشية النبطية كالشهيد في كتبه الثلاثة.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في هذه المسألة روايتا عبد الرحمن المتقدمتان وصحيحة أخرى له ايضا
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «حد التي يئست من المحيض خمسون سنة». ورواية أحمد
بن محمد بن ابي نصر عن بعض أصحابنا قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : المرأة التي قد يئست من المحيض حدها خمسون سنة». رواها
الكليني والشيخ في الضعيف والمحقق في المعتبر عن كتاب احمد بن محمد بن ابى نصر وعلى
هذا فلا يضر ضعف السند بناء على الاصطلاح الغير المعتمد ، ومرسلة ابن ابي عمير عن
بعض أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة الا ان
تكون امرأة من قريش».
__________________
حجة القول
الأول رواية عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في المقام الأول وصحيحته المنقولة هنا
ورواية ابن ابي نصر.
وحجة القول
الثاني موثقة عبد الرحمن الثانية من روايتيه المتقدمتين في المقام الأول ، ورواية
مرسلة ذكرها في الكافي بعد نقل رواية أحمد بن محمد بن ابي نصر قال : «وروى
ستون سنة ايضا».
حجة القول
الثالث الجمع بين الاخبار ، ومستند هذا الجمع مرسلة ابن ابي عمير التي هي في عداد
المسانيد عندهم ، حيث دلت على الخمسين الا ان تكون امرأة من قريش وأورد على ذلك
عدم صراحة الرواية في كون الحمرة التي تراها القرشية بعد الخمسين حيضا ، إذ لا
منافاة بين رؤيتها الحمرة وعدم اعتبار الشارع تلك الحمرة حيضا ، مع انه ليس في
الخبر ذكر الستين.
أقول : يمكن
الجواب عن الأول بأن الظاهر ان لفظ الحمرة هنا كناية عن الحيض والا فإنه يصير معنى
الكلام مغسولا متهافتا يجل عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام وعن الثاني (أولا)
ـ بأنه لما كانت الروايات عنهم (عليهمالسلام) قد صرحت بالخمسين مطلقا تارة وبالستين كذلك اخرى وقد
نفى الخمسين عن القرشية فإنه يعلم منه ان مراده الستون ، إذ لم يخرج عنهم سوى هذين
العددين وبنفي أحدهما يتعين الآخر. و (ثانيا) ـ انه نقل عن المبسوط انه قال : «تيأس المرأة إذا بلغت خمسين سنة إلا ان تكون امرأة
من قريش فإنه روى انها ترى دم الحيض الى ستين سنة». وقال المفيد في المقنعة «روى ان القرشية من النساء والنبطية تريان الدم الى ستين سنة». وكلام
الشيخين المذكورين مؤذن بوصول رواية لهما دالة على الستين في القرشية بل النبطية ،
ومراسيل هذين الشيخين لا تقصر عن مراسيل ابن ابي عمير ونحوه ، وحينئذ فيجب تقييد
إطلاق المرسلة المذكورة بهذه الرواية المرسلة في كلام الشيخين ، وبه يظهر قوة
القول بالتفصيل ، وبذلك يظهر
__________________
ايضا لك ما في كلام جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ صاحب المدارك من
الطعن على المفيد ومن تبعهم بأنهم ذكروا النبطية معترفين بعدم النص عليها ، وعبارة
المفيد ـ كما سمعت ـ ظاهرة في وصول النص اليه بذلك.
وأنت خبير بان
من يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث يترجح عنده العمل بروايات الخمسين لصحة سند
بعضها وتأيده بالباقي وضعف ما يعارضها ولذلك مال في المدارك الى هذا القول ، واما
من يرى العمل بالاخبار مطلقا فيمكن القول بالتفصيل لما ذكرناه الا انه غير خال من
شوب الاشكال. وبالجملة فالمعلوم من الأخبار المذكورة عدم اليأس قبل الخمسين وتحققه
بعد الستين مطلقا وانما يبقى الشك فيما بين ذلك.
واما ما قيل ـ من
انه لا تعارض بين روايات عبد الرحمن في المنطوق إذ التحديد بالخمسين يستدعي كون
ذات الستين آيسة البتة ، نعم مفهوم موثقة الستين يعطى عدم اليأس بدون بلوغ الستين
فيشمل الخمسين فيكون ذلك المفهوم بعمومه منافيا لتحديد الخمسين ، والمفهوم مع
خصوصه لا يصلح لمعارضة المنطوق بل يجب إلغاؤه معه فكيف مع عمومه وخصوص المنطوق؟ بل
يجب تخصيصه به كما هي القاعدة حتى في غيره فلا تعارض. انتهى ـ فظني بعده بل عدم
استقامته ، وذلك لان ثبوت التعارض بين الروايتين أظهر من ان ينكر وانما هذه شبهة
عرضت لهذا القائل ، وبيان ذلك انه قد علم من الشارع تكليف النساء بأحكام مخصوصة من
الحيض وما يترتب عليه من الصوم والصلاة والعدد وما يترتب عليها ونحو ذلك ، وجعل
لهذه الأحكام غاية وحدّا تنقطع وترتفع ببلوغه وهو سن اليأس ، وهاتان الروايتان قد
تصادمتا وتخاصمتا في بيان هذا الحد الذي تسقط عنده هذه الأحكام ، فمقتضى رواية
الخمسين سقوطها ببلوغ هذا الحد ومقتضى رواية الستين انها تستمر بعد الخمسين ولا
تسقط إلا ببلوغ هذا الحد وبذلك حصل التعارض ، فيجب بناء على الرواية الأولى العمل
بتلك الأحكام واستصحابها الى حد الخمسين خاصة ويجب على الثانية إلى حد الستين ،
والروايتان لم تتعارضا في أصل ثبوت
التكاليف وعدمه حتى يقال ان رواية الستين تدل على عدمه بالمنطوق والمفهوم
يضعف عن معارضة المنطوق ، فان تلك الأحكام ثابتة معلومة من الشارع واجب استصحابها
والعمل بها الى وجود المانع والتعارض هنا وقع في بيان هذا الحد ، فان ثبت كونه
الخمسين وجب استصحاب الأحكام إليها خاصة وان ثبت كونه الستين فكذلك ، وهذا بحمد
الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، ونظير
ذلك اخبار البلوغ المختلفة ببلوغ الأربعة عشرة والخمسة عشرة والثلاثة عشرة والعشر
، الا ان اخبار البلوغ اختلفت في الحد الموجب للاحكام وهذه اختلفت في الحد الذي به
تسقط تلك الأحكام. على ان ما ذكره من ضعف المفهوم وعدم معارضة المنطوق ممنوع وان
كان قد ذكره غيره من الأصوليين ، فإن المفهوم هنا مفهوم شرط وقد قدمنا لك في
مقدمات الكتاب الآيات والأخبار الدالة على حجيته شرعا فهو لا يقصر في الحجية عن
المنطوق ، وكلام الأصوليين مبني على ما استدلوا به على الحجية من الأدلة الاقناعية
والوجوه التخريجية التي قد طال فيها التشاجر إبراما ونقضا ، واما ما دلت عليه
الآيات والروايات ـ كما أوضحناه في المقدمات ـ فليس كذلك ، فإنه متى كان الدليل من
الطرفين انما هو الاخبار والآيات فالطعن بالضعف غير متجه وانما الواجب الترجيح
بالمرجحات الخارجة كما هو القاعدة المعروفة.
وبالجملة
فالاحتياط في المسألة لما عرفت مما لا ينبغي تركه ، وهو من بعد كمال الخمسين الى
كمال الستين بان تعمل ما تعمله الطاهر في وقت الدم وتقضي الصوم بعد ذلك ، هذا
بالنسبة إلى العبادة ، واما بالنسبة إلى العدة فتعتد بالأشهر إن طابقت الاطهار المحتملة
بأن تقع الأطهار الثلاثة في ثلاثة أشهر وإلا فأكثر الأمرين بمعنى انه إذا لم تحصل
المطابقة المذكورة بأن تقع الأطهار الثلاثة في أربعة أشهر أو شهرين ففي الأول تعتد
بالأطهار وفي الثاني بالأشهر الثلاثة لكونهما أكثر الأمرين ، ولا ينبغي لزوجها ان
يراجعها في هذه العدة وان يجري عليها النفقة فيها ونحو ذلك. والله العالم.
فوائد
(الأولى) ـ اعلم
ان المراد بالقرشية هي المنتسبة الى قريش وهو النضر بن كنانة جدهم ، وظاهر جملة من
الأصحاب ان المراد الانتساب اليه ولو بالأم وبعضهم جعله احتمالا من حيث ان للام
مدخلا في ذلك بسبب تقارب الأمزجة ، ومن ثم اعتبر نحو ذلك في المبتدأة كما سيأتي ان
شاء الله تعالى من الرجوع الى الخالات وبناتها ، إلا انه لا يخفى انه لا يعلم في
مثل هذه الأزمان من هؤلاء سوى الهاشميين فالأصل يقتضي عدم القرشية واستصحاب
التكليف في غير الهاشمية بناء على القول المشهور.
(الثانية) ـ قد
اختلف في معنى النبط ، قال في المصباح المنير : «النبط جيل من الناس كانوا ينزلون
سواد العراق ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم ، والجمع أنباط مثل سبب وأسباب ،
الواحد نباطي بزيادة الألف والنون تضم وتفتح ، قال الليث ورجل نبطي ومنعه ابن الأعرابي»
انتهى. وقيل انهم عرب استعجموا أو عجم استعربوا. وقيل انهم قوم من العرب دخلوا في
العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم ، وذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي
استخراجه لكثرة فلاحتهم ، ونقل في الصحاح عن بعضهم ان أهل عمان عرب استنبطوا وأهل
البحرين نبط استعربوا. وفي النهاية الأثيرية «أنهم جيل معروف كانوا ينزلون
بالبطائح بين العراقين. قال وفي حديث ابن عباس نحن معاشر قريش من النبط من أهل
كوثى ، قيل لأن إبراهيم الخليل (عليهالسلام) ولد بها وكان النبط سكانها ، ومنه حديث عمرو بن معدي
كرب سأله عمر عن سعد ابن ابي وقاص فقال أعرابي في حبوته نبطي في جبوته ، أراد انه
في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقا بها ومهارة فيها لأنهم كانوا سكان
العراق وأربابها ، وفي حديث الشعبي ان رجلا قال لآخر يا نبطي فقال لا حد عليه كلنا
نبط يريد الجوار والدار دون الولادة» انتهى. ومنه يستفاد سيما من هذه الاخبار التي
نقلها ان النبط جيل من العرب يسكنون العراق ، وكيف كان فهم
لا وجود لهم في أمثال هذه الأيام وانما الغرض بيان الخلاف وتحقيق المقام.
(الثالثة) ـ قال
المحقق الشيخ علي بعد اعترافه بان الحكم في النبطية خال عن مستند قوي سوى الشهرة :
«ويمكن ان يستأنس له بأن الأصل عدم اليأس فيقتصر فيه على موضع الوفاق ، وفي بعض
الأخبار الصحيحة عن الصادق (عليهالسلام) «حد التي يئست من الحيض خمسون سنة». وفي بعضها استثناء القرشية ، والأخذ
بالاحتياط ـ في بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية استصحابا لما كان لعدم القطع
بالمنافي ـ أولى» وتنظر فيه في الذخيرة قال : «لان التمسك بأن الأصل العدم
والاستصحاب ضعيف عندي لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي عليه وان اشتهر الاستناد اليه
بين كثير من المتأخرين ، وتمام تحقيقه في الأصول ، والاحتياط الذي ذكره معارض
بمثله» انتهى.
أقول : لا يخفى
ان التمسك بأصالة العدم والاستصحاب هنا انما هو تمسك بعموم الدليل ، وهذا أحد
معاني الأصل والاستصحاب كما تقدم في مقدمات الكتاب ، وذلك فإن الأخبار دلت على ان
الدم الذي تراه المرأة بعد بلوغ التسع بالشروط المقررة ثمة حيض ودلت على أحكام
تتعلق بكونه حيضا وعلى هذا اتفقت كلمة الأصحاب ، واختلفت الاخبار وكذا كلمة
الأصحاب في الحد الذي يرتفع به الحيض وترتفع به تلك الأحكام ، فالمحقق المذكور
ادعى العمل بعموم تلك الأدلة والاقتصار على موضع الوفاق في النبطية إلى بلوغ
الستين إذ لا خلاف بعد بلوغ الستين في حصول اليأس وانقطاع تلك الأحكام ، هذا حاصل
كلامه ، وليس الاستصحاب في كلامه عبارة عن الاستصحاب المختلف في حجيته كما يوهمه
ظاهر كلامه ، بل هذا من قبيل استصحاب عموم الدليل أو إطلاقه الى ان يثبت الرافع ،
وكذا الاستصحاب في قوله : «والأخذ بالاحتياط في بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية
استصحابا لما كان» فإنه أيضا من قبيل الأول ، فإن الأدلة مطلقة أو عامة في وجوب
العدة على المطلقة وأحكام الزوجية من النفقة والكسوة والسكنى في العدة ونحو ذلك
فيجب استصحابها الى ان
__________________
يثبت الرافع ، ومن هذا الباب في الأحكام الفقهية ما لا يحصى ، كما إذا وقع
الخلاف في صحة الطلاق مثلا أو البيع أو نحو ذلك ، فإن للقائل أن يقول الأصل صحة
النكاح الى ان يثبت المزيل والأصل بقاء الملك الى ان يثبت الناقل ونحو ذلك ،
وبالجملة فالظاهر ان مناقشته غير واضحة. نعم يمكن المناقشة فيه بان هذا الأصل قد
انتفى بما ورد من النصوص في هذه المسألة الدال بعضها على التفصيل القاطع للشركة
وبعضها على الإطلاق فلا يمكن العمل عليه ولا استصحابه ، بل الواجب الرجوع الى
الأخبار المذكورة والجمع بينها واستنباط الحكم منها ، والاحتياط المذكور معارض
بمثله فان الحكم بصحة الرجعة ولحوق أحكام الزوجية مع وجود الدليل الدال على نفيها
يوجب التهجم على الفروج والأموال بما لا يصلح سندا ، والاستصحاب المدعى قد انقطع
بالدليل المذكور. والله العالم.
(المسألة
السادسة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحبلى هل تحيض أم لا؟ قيل بالأول
وعليه الأكثر ، ومنهم الصدوق والمرتضى ، وقال الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار : «ما
تجده المرأة الحامل في أيام عادتها يحكم بكونه حيضا وما تراه بعد عادتها بعشرين
يوما فليس بحيض» وقال في الخلاف انه حيض قبل ان يستبين الحمل لا بعده ونقل فيه
الإجماع ، وقال المفيد وابن الجنيد لا يجتمع حيض مع حمل ، وهو اختيار ابن إدريس ،
وكلام الخلاف يرجع الى هذا القول.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن الحلبي ترى الدم أتترك الصلاة؟
فقال : نعم ان
الحبلى ربما قذفت بالدم».
وفي الصحيح عن
صفوان قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة أيام تصلي؟
قال : تمسك عن الصلاة».
وفي الصحيح عن
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الحبلى
__________________
ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر؟ قال : تمسك عن الصلاة
كما كانت تصنع في حيضها فإذا طهرت صلت».
وعن حريز عمن
أخبره عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) «في الحبلى ترى الدم؟ قالا : تدع الصلاة فإنه ربما بقي في الرحم الدم ولم
يخرج وتلك الهراقة».
وعن ابي بصير
في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحبلى ترى الدم؟ قال : نعم انه ربما
قذفت المرأة الدم وهي حبلى».
وعن سماعة قال : «سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل؟ قال : تقعد
أيامها التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة
أيام ثم هي مستحاضة».
وما رواه
الكليني في الحسن عن سليمان بن خالد قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك الحبلى ربما طمثت؟ فقال : نعم وذلك ان الولد
في بطن امه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه فإذا فضل دفقته فإذا دفقته حرمت عليها
الصلاة». قال وفي رواية أخرى «إذا كان كذلك تأخر الولادة».
وعن عبد الرحمن
بن الحجاج في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الحبلى ترى الدم وهي حامل كما كانت ترى قبل ذلك في
كل شهر هل تترك الصلاة؟ قال تترك الصلاة إذا دام».
وهذه الاخبار
هي مستند القول المشهور وهي ظاهرة فيه تمام الظهور.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ان أم ولدي ترى الدم وهي حامل كيف تصنع بالصلاة؟ قال
فقال لي : إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت ترى فيه
الدم من الشهر الذي كانت تقعد فيه فان ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث فلتتوضأ
__________________
ولتحتش بكرسف وتصل ، وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت ترى فيه
الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد أيامها
التي كانت تقعد في حيضها فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل. الحديث». وبهذه
الرواية احتج الشيخ (رحمهالله) في كتابي الاخبار على ما قدمنا نقله عنه في النهاية
وفي كتابي الاخبار.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) : ما كان الله تعالى ليجعل حيضا مع حبل يعني إذا رأت
المرأة الدم وهي حامل لا تدع الصلاة الا ان ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق
ورأت الدم تركت الصلاة».
وعن حميد بن
المثنى في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) عن الحبلى ترى الدفقة والدفقتين من الدم في الأيام وفي
الشهر والشهرين؟فقال تلك الهراهة ليس تمسك هذه عن الصلاة».
وبهاتين
الروايتين استدل في المختلف لابن الجنيد ومن تبعه ثم زاد في الاحتجاج قال : «ولانه
زمن لا يصادفها الحيض فيه غالبا فلا يكون ما رأته فيه حيضا كاليائسة ، ولانه يصح
طلاقها مع رؤية الدم إجماعا ولا يصح طلاق الحائض إجماعا فلا يكون الدم حيضا».
أقول وبالله
التوفيق : اما ما نقل دليلا لقول المفيد وابن الجنيد وابن إدريس من رواية السكوني
فقد حملها أصحابنا على محامل أقربها عندي الحمل على التقية ، فإن هذا القول قد
نقله في المنتهى عن أكثر العامة وهو المشهور بينهم واما رواية حميد بن
__________________
المثنى فلا دلالة فيها وان ما ذكر فيها لم يستجمع شرائط الحيض. واما ما
ذكره العلامة في المختلف من التعليلات فمع قطع النظر عن انها لا تصلح لتأسيس
الأحكام الشرعية ، فإنه قد أجاب عن الأول بالفرق بأن اليائسة لا يصح منها الحيض
لارتفاعه منها بالكلية بخلاف الحامل التي يكون لحرارة مزاجها وفور دم الحيض بحيث
يفضل عن غذاء الصبي ما تقذفه المرأة من الرحم ، واما عن الثاني ـ وبه استدل ابن
إدريس حيث قال : «أجمعنا على بطلان طلاق الحائض مع الدخول والحضور وعلى صحة طلاق
الحامل مطلقا ولو كانت تحيض لحصل التناقض» ـ فأجاب بالمنع عن كون الحائض لا يصح
طلاقها ولهذا جوزنا طلاق الغائب مع الحيض. انتهى. وبالجملة فهذا القول بمكان من
الضعف لا يخفى لعدم الدليل الواضح. بقي الكلام فيما ذهب اليه الشيخ في النهاية
وكتابي الأخبار فإن صحيحة الصحاف المذكورة ظاهرة فيه ، واما ما أجاب به عنها في
المنتهى ـ من ان الغالب ان المرأة إذا تجاوزت عادتها وقتها لا يكون الدم حيضا ـ فالظاهر
بعده والذي يقرب عندي هو حمل الأخبار المتقدمة على هذه الصحيحة بأن يقال ان ما
تجده الحبلى في أيام العادة كما كانت تراه قبل فإنه يجب الحكم بكونه حيضا وما لم
يكن كذلك فلا ، وفي بعض الاخبار المشار إليها إشارة الى ذلك مثل صحيحة عبد الرحمن
بن الحجاج وصحيحة محمد ابن مسلم ، وبالجملة فأخبار المسألة ما بين مطلق في ذلك
ومقيد وان كان التقييد في بعضها أظهر من بعض ، والواجب بمقتضى القاعدة المقررة حمل
مطلقها على مقيدها ، وبه يظهر ان ما اشتهر بينهم من القول بحيضها مطلقا ليس كذلك ،
قال في المدارك ـ بعد نقل جملة
__________________
من روايات القول المشهور ثم الاستدلال للشيخ بصحيحة الصحاف ـ ما صورته : «وهي
مع صحتها صريحة الدلالة في المدعى فيتجه العمل بها وان كان الأول لا يخلو من قوة»
انتهى وفيه من الإجمال والاشكال ما لا يخفى ، فإنه لا يخفى ان اتجاه العمل بهذه
الرواية لا يتم إلا بتقييد تلك الأخبار بها ، وإلا للزم الترجيح من غير مرجح لصحة
الأخبار التي قدمها بل الترجيح لتلك الاخبار لكثرتها ، وكون الأول لا يخلو من قوة
انما يتم مع طرح هذه الصحيحة الصريحة باعترافه والا كان الواجب عليه بيان معنى لها
تحمل عليه
بقي هنا شيء
يجب التنبيه عليه وهو ان الأصحاب قد نقلوا عن الصدوق القول بما هو المشهور من كون
الحامل كالحائل في التحيض ، وعبارة الفقيه لا تساعد على هذا الإطلاق حيث قال : «والحلبي
إذا رأت الدم تركت الصلاة فإن الحبلى ربما قذفت الدم وذلك إذا رأت الدم كثيرا احمر
فان كان قليلا اصفر فلتصل وليس عليها الا الوضوء» وظاهر هذه العبارة التحيض بخصوص
ما كان بصفة دم الحيض والرجوع الى التمييز ، ويدل على ذلك ايضا ظواهر جملة من
الأخبار : منها ـ رواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن المرأة الحبلى قد استبان حبلها ترى ما
ترى الحائض من الدم؟ قال تلك الهراقة من الدم ان كان دما احمر كثيرا فلا تصل وان
كان قليلا اصفر فليس عليها الا الوضوء». والظاهر ان عبارة الصدوق مأخوذة من هذه
الرواية ، ومنها ـ
صحيحة أبي
المغراء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحبلى قد استبان ذلك منها ترى كما ترى الحائض من
الدم؟ قال تلك الهراقة ان كان دما كثيرا فلا تصلين وان كان قليلا فلتغتسل عند كل
صلاتين». وموثقة إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم واليومين؟ قال ان كان
دما عبيطا فلا تصل ذينك اليومين وان كانت صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين». والظاهر ان
المراد بالكثرة والقلة في صحيحة أبي المغراء ما هو عبارة عن
__________________
الثخانة والغلظة وقوة الدفع التي هي من صفات دم الحيض وما قابلها الذي هو
من صفات دم الاستحاضة. وفي الفقه الرضوي قال (عليهالسلام): «والحامل إذا رأت الدم في الحمل كما كانت تراه تركت
الصلاة أيام الدم فإن رأت صفرة لم تدع الصلاة». وهذه الاخبار كلها ظاهرة في اعتبار
التمييز في دمها بأنه ان كان بصفة الحيض تحيضت والا عملت عمل المستحاضة ، ولم أقف
على من تنبه لهذا التفصيل من كلام الصدوق ولا من هذه الاخبار مع ظهور الجميع في
ذلك. وبالجملة فإن ظاهر الأصحاب القائلين بتحيضها هو التحيض بما تراه لا سيما في
أيام العادة مطلقا وعليه تدل ظواهر الأخبار المتقدمة ، وهذه الاخبار صريحة في
التفصيل كما ترى ، ووجه الجمع بينها وبين الاخبار المتقدمة ممكن اما بحمل الأخبار
الأولة على الدم في أيام العادة وهذه على ما لم يكن كذلك ، واما بإبقاء الأدلة على
إطلاقها وتقييدها بهذه الاخبار وحينئذ فيعتبر التمييز فيها. والله العالم.
(المقصد الثاني)
ـ في ما يترتب عليه بعد معلومية كونه حيضا ، وذلك اما ان تكون مبتدأة أو ذات عادة
أو مضطربة ، ويدل على هذا التقسيم مع بعض أحكام كل من الأقسام الثلاثة رواية يونس
الطويلة ، وانا اذكرها بطولها لعموم نفعها وجودة محصولها ، وهي ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن يونس عن غير واحد «سألوا أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحيض والسنة في وقته فقال (عليهالسلام) : ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) سن في الحيض ثلاث سنن بين فيها كل مشكل لمن سمعها
وفهمها حتى لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي ، أما إحدى السنن فالحائض التي لها أيام
معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثم استحاضت واستمر بها الدم وهي في ذلك تعرف أيامها
ومبلغ عددها ، فإن امرأة يقال لها فاطمة بنت ابى حبيش استحاضت فاتت أم سلمة فسألت
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن ذلك فقال تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها وقال
انما هو عزف وأمرها ان تغتسل وتستثفر بثوب وتصلي ، قال أبو عبد الله
__________________
(عليهالسلام) : هذه سنة النبي (صلىاللهعليهوآله) في التي تعرف أيام أقرائها لم تختلط عليها ، ألا ترى
انه لم يسألها كم يوم هي؟ ولم يقل إذا زادت على كذا يوما فأنت مستحاضة وانما سن
لها أياما معلومة ما كانت من قليل أو كثير بعد ان تعرفها ، وكذلك أفتى ابى (عليهالسلام) وسئل عن المستحاضة فقال : انما ذلك عزف عامر أو ركضة
من الشيطان فلتدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة. قيل وان سال؟ قال
: وان سال مثل المثعب ، قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : هذا تفسير حديث رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وهو موافق له ، فهذه سنة التي تعرف أيام أقرائها لا
وقت لها إلا أيامها قلت أو كثرت. واما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط
عليها من طول الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر فان سنتها غير
ذلك ، وذلك ان فاطمة بنت ابى حبيش أتت النبي (صلىاللهعليهوآله) فقالت إني أستحاض فلا اطهر؟ فقال النبي : ليس ذلك بحيض
انما هو عزف فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي.
وكانت تغتسل في كل صلاة وكانت تجلس في مركن لأختها وكانت صفرة الدم تعلو الماء ،
قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : أما تسمع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أمر هذه بغير ما أمر به تلك ، ألا تراه لم يقل لها دعي
الصلاة أيام أقرائك ولكن قال لها إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي
وصلي ، فهذا يبين ان هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف عددها ولا وقتها ،
ألا تسمعها تقول إني أستحاض فلا اطهر. وكان ابي (عليهالسلام) يقول انها استحيضت بسبع سنين ، ففي أقل من هذا تكون
الريبة والاختلاط فلهذا احتاجت الى ان تعرف إقبال الدم من إدباره وتغير لونه من
السواد الى غيره وذلك ان دم الحيض اسود يعرف ، ولو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلى
معرفة لون الدم لأن السنة في الحيض ان تكون الصفرة والكدرة فما فوقها في أيام
الحيض إذا عرفت حيضا كله ان كان الدم أسود أو غير ذلك ، فهذا يبين لك ان قليل الدم
وكثيره أيام الحيض حيض كله إذا كانت
الأيام معلومة ، فإذا جهلت الأيام وعددها احتاجت الى النظر حينئذ إلى إقبال
الدم وإدباره وتغير لونه ثم تدع الصلاة على قدر ذلك ، ولا أرى النبي (صلىاللهعليهوآله) قال اجلسي كذا وكذا يوما فما زادت فأنت مستحاضة كما لم
يأمر الأولى بذلك وكذلك ابي (عليهالسلام) أفتى في مثل هذا ، وذلك ان امرأة من أهلنا استحاضت
فسألت ابي عن ذلك فقال : إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة وإذا رأيت الطهر ولو
ساعة من نهار فاغتسلي وصلي. قال أبو عبد الله وارى جواب ابي ههنا غير جوابه في
المستحاضة الأولى ، ألا ترى انه قال تدع الصلاة أيام أقرائها لأنه نظر الى عدد
الأيام وقال ههنا إذا رأت الدم البحراني فلتدع الصلاة وأمرها ههنا ان تنظر الى
الدم إذا اقبل وأدبر وتغير ، وقوله البحراني شبه معنى قول النبي (صلىاللهعليهوآله) ان دم الحيض اسود يعرف ، وانما سماه ابى بحرانيا
لكثرته ولونه ، فهذه سنة النبي (صلىاللهعليهوآله) في التي اختلط عليها أيامها حتى لا تعرفها وانما
تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيام وكثيرها. قال : واما السنة الثالثة ففي التي
ليس لها أيام متقدمة ولم تر الدم قط ورأت أول ما أدركت واستمر بها فإن سنة هذه غير
سنة الاولى والثانية ، وذلك ان امرأة يقال لها حمنة بنت جحش أتت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالت اني استحضت حيضة شديدة فقال احتش كرسفا فقالت
انه أشد من ذلك اني أثجه ثجا؟ فقال تلجمي وتحيضي في كل شهر في علم الله تعالى ستة
أيام أو سبعة ثم اغتسلي غسلا وصومي ثلاثة وعشرين يوما أو أربعة وعشرين ، واغتسلي
للفجر غسلا واخرى الظهر وعجلي العصر واغتسلي غسلا واخرى المغرب وعجلي العشاء
واغتسلي غسلا. قال أبو عبد الله (عليهالسلام) فأراه قد سن في هذه غير ما سن في الاولى والثانية وذلك
لان أمرها مخالف لأمر تينك ، ألا ترى ان أيامها لو كانت أقل من سبع وكانت خمسا أو
أقل من ذلك ما قال لها تحيضي سبعا فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما وهي مستحاضة
غير حائض ، وكذلك لو كان حيضها أكثر من سبع وكانت أيامها عشرة أو أكثر لم يأمرها
بالصلاة وهي حائض ، ثم مما يزيد هذا بيانا قوله (صلىاللهعليهوآله) لها : «تحيضي» وليس يكون التحيض
إلا للمرأة التي تريد ان تكلف ما تعمل الحائض ، إلا تراه لم يقل لها أياما
معلومة تحيضي أيام حيضك ، ومما يبين هذا قوله لها : «في علم الله تعالى» لانه قد
كان لها وان كانت الأشياء كلها في علم الله وهذا بين واضح ان هذه لم يكن لها أيام
قبل ذلك قط ، وهذه سنة التي استمر بها الدم أول ما تراه أقصى وقتها سبع وأقصى
طهرها ثلاث وعشرون حتى تصير لها أيام معلومة فتنتقل إليها. فجميع حالات المستحاضة
تدور على هذه السنن الثلاث لا تكاد ابدا تخلو من واحدة منهن ، ان كانت لها أيام
معلومة من قليل أو كثير فهي على أيامها وخلقها الذي جرت عليه ليس فيه عدد معلوم
موقت غير أيامها ، وان اختلطت الأيام عليها وتقدمت وتأخرت وتغير عليها الدم ألوانا
فسنتها إقبال الدم وإدباره وتغير حالاته وان لم يكن لها أيام قبل ذلك واستحاضت أول
ما رأت فوقتها سبع وطهرها ثلاث وعشرون فان استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر
كما قال لها ، فان انقطع الدم في أقل من سبع أو أكثر من سبع فإنها تغتسل ساعة ترى
الطهر وتصلي فلا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني ، فإن انقطع الدم
لوقته من الشهر الأول سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن ان ذلك قد
صار لها وقتا وخلقا معروفا تعمل عليه وتدع ما سواه وتكون سنتها فيما يستقبل ان
استحاضت قد صارت سنة الى ان تجلس أقراءها وانما جعل الوقت ان توالى عليها حيضتان
أو ثلاث لقول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) للتي تعرف أيامها : «دعي الصلاة أيام أقرائك» فعلمنا
انه لم يجعل القرء الواحد سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام قرءك ولكن سن لها الأقراء
وأدناه حيضتان فصاعدا ، وان اختلط عليها أيامها وزادت ونقصت حتى لا تقف منها على
حد ولا من الدم على لون عملت بإقبال الدم وإدباره وليس لها سنة غير هذا لقول رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) : «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي»
ولقوله : «ان دم الحيض اسود يعرف» كقول أبي «إذا رأيت الدم البحراني» فان لم يكن
الأمر كذلك ولكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارة وكان الدم على لون واحد
وحالة واحدة فسنتها السبع والثلاث والعشرون لأن قصتها كقصة حمنة حين قالت :
إني أثجه ثجا».
أقول : ويستفاد
من هذه الرواية أحكام عديدة يطول الكلام بنقلها الا ان (منها) ـ ان سنة المضطربة
التحيض بما كان بصفة دم الحيض مطلقا وانه لا تقييد بما قيدوه به من الشروط الآتية
، وهذا ايضا هو المفهوم من إطلاق موثقة إسحاق بن جرير وكذا إطلاق حسنة حفص بن
البختري المتقدمتين في المسألة الاولى من المقصد الأول فإن موردهما وكذا مورد هذا الخبر هو الدم المستمر ، وقد
أمر (عليهالسلام) في كل من الاخبار الثلاثة بالتحيض بما كان بصفة دم
الحيض قليلا كان أو كثيرا فيمكن ان يخص هذا الحكم بهذا الموضع ، ويؤيد ذلك موثقة
يونس بن يعقوب وموثقة أبي بصير المتقدمتان في المسألة الرابعة وتحمل الأخبار الدالة على ان أقل الحيض ثلاثة وأكثره
عشرة على غير هذا الموضع ، ويشير الى ذلك ايضا انه في آخر هذه الرواية جعل العدول
الى التحيض بالسبعة للمضطربة تفريعا على كون الدم على لون واحد وحالة واحدة يعني
لم يحصل فيه اختلاف بالكلية ، ومفهومه انه مع الاختلاف كيف كان تتحيض به ،
والأصحاب قد حكموا عليها بالرجوع الى الروايات وان اختلف الدم إذا فقدت الشرائط
المعتبرة عندهم وهو خلاف ظاهر الخبر كما ترى. و (منها) ـ ان ظاهر الخبر انه مع عدم
التمييز بان يكون دمها لونا واحدا فإنه يجب عليها التحيض بسبعة أيام لا غير ،
والأصحاب قد أوجبوا عليها الرجوع الى الروايات التي هي موثقة سماعة وموثقتا ابن
بكير الآتيات بأي عدد كان من ايها ، ومورد الروايات المذكورة انما هو
المبتدأة كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى وليس في شيء من الاخبار ما يدل على
رجوع المضطربة إلى الأيام بعد فقد التمييز الا هذه الرواية الدالة على السبع كما
عرفت. و (منها) ـ ان حكم المبتدأة الرجوع من أول الأمر إلى الأيام كما في موثقتي
ابن بكير الآتيتين ان شاء الله تعالى ، الا ان موثقة
__________________
سماعة دلت على رجوعها أولا إلى نسائها ثم مع تعذر ذلك الى الأيام وحينئذ
يقيد بها إطلاق ما عداها ، والأصحاب قد ذكروا أولا رجوعها الى التمييز ثم مع فقده
الى الروايات والروايات الدالة على التمييز كما تحتمل تقييد روايات المبتدأة بها
كذلك تحتمل العكس وقصر التمييز على المضطربة كما هو ظاهر هذا الخبر ورواية إسحاق
بن جرير المشار إليها آنفا إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذا المقصد يستدعي
بسطه في مطالب ثلاثة
(الأول) ـ في
المبتدأة بكسر الدال أو فتحها اسم فاعل أو اسم مفعول وهي التي ابتدأت الحيض أو
ابتدأها الحيض ، وفسرها المحقق في المعتبر بأنها التي رأت الدم أول مرة ، وربما
قيل بأنها من لم تستقر لها عادة والظاهر ضعفه ، والذي دلت عليه الاخبار انما هو
الأول كما عرفت من رواية يونس المذكورة ، ومثلها ما سيأتي ان شاء الله تعالى في
المقام من موثقتي سماعة وابن بكير. والبحث في هذا المطلب يقع في مقامين
(الأول) ـ هل
تتحيض المبتدأة بمجرد رؤية الدم أو بعد مضي ثلاثة أيام تستظهر فيها بالعبادة؟
قولان : أولهما للشيخ والعلامة في المنتهى والمختلف وغيرهما ، وثانيهما للمرتضى
وابن الجنيد وابي الصلاح وابن إدريس والمحقق والعلامة في بعض كتبه ، وفي المدارك
ان موضع الخلاف ما إذا كان الدم المرئي بصفة الحيض كما صرح به في المختلف وغيره.
وفيه ان ما نقله عن العلامة وغيره ليس كذلك بل ظاهر كلام الجميع هو عموم مجل
الخلاف لا تخصيصه بما ذكر ، قال في المختلف «قال الشيخ : المبتدأة تترك الصلاة والصوم
إذا رأت الدم يوما أو يومين كذات العادة وقال المرتضى : لا تترك الصلاة والصوم حتى
يمضي لها ثلاثة أيام وهو اختيار ابي الصلاح وابن إدريس ، والوجه عندي الأول وهو
الذي اخترناه في كتاب منتهى المطلب ، واخترنا في التحرير الثاني» انتهى. وهو ظاهر
ـ كما ترى ـ في العموم ، ويؤكده ما يشير اليه كلام الشيخ حيث شبه المبتدأة هنا
بذات العادة التي لا خلاف في تحيضها بمجرد رؤية الدم أعم من ان يكون بصفة دم الحيض
أم لا ، نعم ان العلامة قد استدل
على ما اختاره من التحيض برؤية الدم ببعض اخبار التمييز ، ومجرد هذا
الاستدلال لا يوجب تخصيص محل الخلاف ولهذا اعترضه في الذكرى بان الدليل أخص من
المدعى. وقال في الروض : «واعلم انه مع رؤية المعتادة الدم قبل العادة كما هو
المفروض هنا هل تترك العبادة بمجرد رؤيته أم يجب الصبر الى مضى ثلاثة أو الى وصول
العادة؟ يبنى على إيجاب الاحتياط بالثلاثة على المبتدأة والمضطربة وعدمه ، فان لم
نوجبه عليهما كما هو اختيار المصنف في المختلف لم يجب عليها بطريق اولى ، وان
أوجبناه كما اختاره المرتضى وابن الجنيد والمحقق في المعتبر احتمل إلحاقها بهما.
الى آخره» ولا أراك في شك من ظهور العبارة المذكورة في العموم غاية الظهور ، ونحو
ذلك كلام المعتبر والذكرى الا ان المحقق رجح مذهب السيد والشهيد رجح مذهب الشيخ ،
واما في الدروس والبيان فرجح مذهب المرتضى على تفصيل في الثاني منهما ، فقال فيه :
«وفي المبتدأة قولان أقواهما قول المرتضى بمضي ثلاثة أيام بالنسبة إلى الأفعال
واما التروك فالأحوط تعلقها برؤية الدم المحتمل» انتهى. والظاهر انه أشار بالمحتمل
الى ما كان بصفة الحيض وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في المسألة ، وإذا أضيف الى ذلك
ما اختاره في المدارك من التحيض بما إذا كان بصفة دم الحيض صار قولا رابعا أيضا.
أقول : والظاهر
عندي من هذه الأقوال هو مذهب الشيخ ، وعليه تدل من الاخبار موثقة سماعة قال : «سألته عن الجارية البكر أول ما تحيض تقعد في
الشهر يومين وفي الشهر ثلاثة أيام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام
سواء؟ قال فلها ان تجلس وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة فإذا اتفق
شهران عدة أيام سواء فتلك أيامها». ولا يخفى ظهور دلالتها في المراد على وجه لا
يتطرق إليه الإيراد.
وموثقة ابن
بكير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «المرأة إذا رأت الدم
__________________
في أول حيضها فاستمر الدم تركت الصلاة عشرة أيام. الحديث».
وموثقته الأخرى
قال : «في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة إنها تنتظر
بالصلاة فلا تصلي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض ، فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيام
فعلت ما تفعل المستحاضة.».
والمناقشة في
ذلك ـ بأنه لا يصدق أول حيضها كما في الاولى وأول ما تحيض كما في الثانية إلا بعد
ثلاثة أيام ، إذ بذلك يعلم كونه حيضا كما ذكره في الذخيرة ـ مردودة بأن باب المجاز
واسع وإطلاق الحيض على أول الدم انما هو باعتبار ما يؤول اليه ، والرواية الثانية
ظاهرة فيما ذكرناه تمام الظهور ، فان قوله فيها : «انها تنتظر بالصلاة فلا تصلي
حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعل
المستحاضة» ظاهر في كون مبدإ العشرة التي تركت الصلاة فيها هو أول الدم كما لا
يخفى.
ويؤيد هذه
الاخبار ايضا إطلاق جملة من الروايات كصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «اي ساعة رأت الدم فهي تفطر الصائمة.».
وموثقة محمد بن
مسلم عن الباقر (عليهالسلام) وقد سأله عن المرأة التي ترى الدم غدوة أو ارتفاع
النهار أو عند الزوال قال : «تفطر.».
وموثقة ثانية
له ايضا عن الباقر (عليهالسلام) «في المرأة تطهر في أول النهار في رمضان ، الى ان قال وفي المرأة ترى الدم
من أول النهار في شهر رمضان أتفطر أم تصوم؟ قال تفطر انما فطرها من الدم».
ورواية أبي
الورد قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن المرأة التي تكون في صلاة الظهر وقد صلت ركعتين ثم
ترى الدم؟ قال تقوم من مسجدها ولا
__________________
تقضي الركعتين. الحديث». ونحو ذلك موثقة عمار وموثقة الفضل بن يونس
وفي المعتبر قد
نقل بعض هذه الاخبار حجة للشيخ ثم أجاب عنها بان الحكم بالإفطار عند رؤية الدم غير
مراد فينصرف الى المعهود وهو دم الحيض ولا يحكم بكونه حيضا إلا إذا كان في العادة
فيحمل على ذلك. وفيه ان دعوى المعهودية ممنوعة والاخبار بعمومها أو إطلاقها شاملة
لموضع النزاع ، ولو فرض خروج بعض الأفراد فإنها تبقى حجة في الباقي ، على انه يمكن
ان يقال ان كون الدم حيضا اما ان يكتفى فيه بصلاحيته لان يكون حيضا أو يعتبر فيه وجود
ما يعلم به كونه حيضا ، وعلى الثاني يلزم ان ما تراه ذات العادة من أول الدم لا
يتحقق كونه حيضا لجواز ان ينقطع قبل الثلاثة ، مع انه قائل بوجوب تحيضها به وليس
الا للصلاحية المذكورة وهي مشتركة بين ذات العادة وما نحن فيه.
هذا. وما ذكره
الأصحاب من الاحتياط بالثلاثة في أول الحيض لم أقف له على دليل من الأخبار في شيء
من أقسام الحائض بالكلية معتادة كانت أم مبتدأة أم مضطربة وانما الموجود الاستظهار
في آخر الدم كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ، وغاية ما استدل به في المعتبر
على هذا القول الذي اختاره ان مقتضى الدليل لزوم العبادة حتى يتيقن المسقط ولا
يتيقن قبل استمراره ثلاثة. وفيه ان المسقط الأخبار التي قدمناها لدلالتها على
التحيض بمجرد رؤية الدم خصوصا وعموما ، ثم مع قطع النظر عن الاخبار المذكورة فدعوى
التيقن ممنوعة بل يكفي الظهور والظن والا لم يتم الحكم بوجوب التحيض بمجرد الرؤية
لذات العادة لجواز انقطاعه قبل بلوغ الثلاثة كما ذكرنا ، بل لا يتم الحكم بكون
الثلاثة بعد كمالها حيضا يقينا لجواز ان يكون الحيض انما هو ما بعدها ، ثم قال
موردا على نفسه ومجيبا : «ولو قيل لو لزم ما ذكرته قبل الثلاثة لزم بعدها لجواز ان
ترى ما هو أسود
__________________
ويتجاوز فيكون هو حيضها لا الثلاثة. قلنا الفرق ان اليوم واليومين ليس حيضا
حتى يستكمل ثلاثة والأصل عدم التتمة حتى يتحقق ، واما إذا استمر ثلاثا فقد كمل ما
يصلح ان يكون حيضا ولا يبطل هذا الا مع التجاوز والأصل عدمه ما لم يتحقق» انتهى. واعترضه
في المدارك بأن أصالة العدم لا تكفي في حصول اليقين الذي قد اعتبره سابقا.
أقول : وتوضيح
جوابه في بيان الفرق المذكور ان الدم في اليوم واليومين وان صلح لان يكون حيضا الا
ان الأصل عدم بلوغ الثلاثة لجواز انقطاعه قبلها فلا يكون حيضا حتى تتم الثلاثة
ويتحقق الحيض ، واما إذا كملت الثلاثة فقد كمل ما يصلح ان يكون حيضا ولا يبطل هذا
الحكم الا مع تجاوزه عنه الى الدم الذي بعد الثلاثة والأصل عدمه. ووجه ما أورده عليه
في المدارك انه قد حكم سابقا بوجوب العبادة حتى يتيقن المسقط وما التجأ إليه هنا
من ان الأصل عدم سقوط هذا الحكم عن الثلاثة لا يوجب التيقن بوجود المسقط ، لأن
أصالة العدم لا تفيد يقين العدم فيبقى وجوب التكليف بالعبادة في الثلاثة ثابتا حتى
يتحقق المسقط ، إذ غاية ما يفيده الأصل المذكور رجحان العدم وظنه لا يقينه.
وبالجملة فباب المناقشات في التعليلات العقلية واسع ومن ثم ذكرنا في غير موضع انها
لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
(المقام الثاني)
ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في أن المبتدأة إذا انقطع دمها لدون العشرة وكذا
المعتادة إذا انقطع دمها على العادة فعليها الاستبراء بالقطنة فإن خرجت نقية
اغتسلت وان خرجت ملطخة صبرت حتى تنقى أو تمضي لها عشرة أيام.
اما الحكم
الأول وهو وجوب الاستبراء فيدل عليه جملة من الاخبار :
منها ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا أرادت الحائض ان تغتسل فلتستدخل قطنة فان
خرج فيها شيء من الدم فلا تغتسل وان لم تر شيئا فلتغتسل وان رأت بعد ذلك صفرة
فلتتوضأ ولتصل».
__________________
ورواية يونس
عمن حدثه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدري أطهرت أم
لا؟ قال تقوم قائما وتلزق بطنها بحائط وتستدخل قطنة بيضاء وترفع رجلها اليمنى فان
خرج على القطنة مثل رأس الذباب دم عبيط لم تطهر وان لم يخرج فقد طهرت تغتسل وتصلي».
وموثقة سماعة
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له المرأة ترى الطهر وترى الصفرة أو الشيء
فلا تدري طهرت أم لا؟ قال : فإذا كان كذلك فلتقم فلتلصق بطنها إلى حائط وترفع
رجلها على حائط كما رأيت الكلب يصنع إذا أراد ان يبول ثم تستدخل الكرسف فإذا كان
ثمة من الدم مثل رأس الذباب خرج ، فان خرج دم فلم تطهر وان لم يخرج فقد طهرت».
ورواية شرحبيل
الكندي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له كيف تعرف الطامث طهرها؟ قال تعمد برجلها
اليسرى على الحائط وتستدخل الكرسف بيدها اليمنى فان كان ثم مثل رأس الذباب خرج على
الكرسف».
وفي الفقه
الرضوي «وإذا رأت الصفرة أو شيئا من الدم فعليها ان تلصق بطنها بالحائط وترفع
رجلها اليسرى كما ترى الكلب إذا بال وتدخل قطنة فان خرج فيها دم فهي حائض وان لم
يخرج فليست بحائض». وهذه العبارة مع ما بعدها نقلها الصدوق في الفقيه من رسالة
أبيه اليه.
وهل يكفي وضع
القطنة كيف اتفق عملا بإطلاق صحيحة محمد بن مسلم وحملا للروايات المذكورة بعدها
على الاستحباب ، أو يجب الرفع على الكيفية التي تضمنتها هذه الاخبار ويحمل إطلاق
صحيحة محمد بن مسلم عليها؟ وجهان اختار أولهما في المدارك والذخيرة ، والظاهر
الثاني كما يدل عليه لفظة «عليها» في عبارة الفقه الرضوي ، والظاهر فتوى الصدوقين
بذلك ، ويؤيده أنه الأحوط. بقي ان رواية يونس دلت على الأمر
__________________
برفع الرجل اليمنى ورواية شرحبيل وكذا عبارة صاحب الفقه على الرجل اليسرى
والظاهر حصوله بأيهما اتفق.
واما ما يدل
على الثاني وهو الصبر حتى تنقى أو تمضي عشرة أيام زيادة على الإجماع المدعى في
المقام فقوله (عليهالسلام) في موثقة سماعة المتقدمة : «فلها ان تجلس وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم
يجز العشرة.». ونحوها في الدلالة على الانتهاء إلى العشرة ـ موثقتا ابن بكير .
ولو استمر دمها
بعد العشرة فقد امتزج حيضها بطهرها ، والمذكور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم)
انها ترجع الى التمييز واعتبار الدم فما شابه الحيض تجعله حيضا وما شابه دم
الاستحاضة تجعله طهرا بشرط ان يكون دم الحيض لا ينقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على
عشرة ، فان لم يحصل لها شرائط التمييز رجعت الى عادة نسائها إن اتفقن. وقيل أو
عادة ذوي أسنانها من بلدها ، فان اختلفن رجعت الى الروايات الآتية وتفصيل هذه
الجملة يقع في مواضع
(الأول) ـ في
حكمهم (رضوان الله عليهم) مع الاستمرار بأنها ترجع الى التمييز بالشروط المتقدمة.
وهذا مجمع عليه بينهم كما يظهر من المعتبر والمنتهى حيث أسنداه إلى علمائنا مؤذنين
بدعوى الإجماع عليه ، واستدلوا عليه بالروايات المشتملة على أوصاف الحيض وقد تقدمت
في المسألة الاولى من المقصد الأول واشترطوا في العمل بالتمييز أمورا : (أحدها) ـ ان لا
يقصر ما شابه دم الحيض عن أقله ولا يتجاوز أكثره. و (ثانيها) ـ توالي الثلاثة بناء
على المشهور من اشتراط التوالي فيها كما تقدم. و (ثالثها) ـ بلوغ الضعيف مع أيام
النقاء أقل الطهر ، وقيل هنا بالعدم للعموم ، قال في المدارك : «وضعفه ظاهر» ثم ان
المشابهة تحصل باللون فالأسود قوي الأحمر وهو قوي الأشقر وهو قوي الأصفر ، والقوام
فالثخين قوى الرقيق ، والرائحة فالنتن قوي بالنسبة إلى غيره ، ومتى اجتمع في دم
خصلة وفي آخر اثنتان فهو
__________________
أقوى ، ولو استوى العدد كما لو كان في أحدهما الثخانة وفي الأخر الرائحة
فلا تمييز ، هذا ملخص كلامهم هنا.
وعندي فيه
اشكال من وجوه : (الأول) ـ ان الذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمبتدأة وبيان
ما يجب عليها مع استمرار الدم لم يشتمل شيء منه على ما يدل على الأخذ بصفات الدم
والتمييز فيه بالكلية فضلا عن اعتبار الشروط المتفرعة عليه ، وانما دلت على الأخذ
بالأيام ، ومنها رواية يونس المتقدمة فإنها قد دلت على ذلك على أبلغ وجه حيث صرح فيها بذلك
مع ما في صدرها من «انه سن في الحيض ثلاث سنن بين فيها كل مشكل لمن سمعها وفهمها
حتى لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي» وجعل التمييز سنة المضطربة خاصة وسنة المبتدأة
انما هو الرجوع الى الأيام وكرر ذلك في الرواية ، ومثلها ـ وان لم يكن بهذا
التأكيد ـ موثقة ابن بكير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر تركت الصلاة عشرة أيام ثم تصلي
عشرين يوما فان استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام وصلت سبعة وعشرين
يوما». قال الحسن : وقال ابن بكير : وهذا مما لا يجدون منه بدا. وما رواه الشيخ في
الموثق عن ابن بكير ايضا قال : «في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون
مستحاضة إنها تنتظر بالصلاة فلا تصلي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض ، فإذا مضى
ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة ثم صلت فمكثت تصلي بقية شهرها ، ثم
تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة وتجلس أقل ما يكون من الطمث
وهو ثلاثة أيام ، فإن دام عليها الحيض صلت في وقت الصلاة التي صلت وجعلت وقت طهرها
أكثر ما يكون من الطهر وتركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض».
وموثقة سماعة قال : «سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة
أشهر وهي لا تعرف أيام أقرائها؟ قال أقراؤها مثل أقراء نسائها فإن كانت نساؤها
مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام وأقله ثلاثة أيام». وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة فيما
قلناه ، فلو كان الرجوع
__________________
الى التمييز فيها واجبا كما ذكروه لذكر ولو في بعضها لان المقام فيها مقام
البيان ، وبالجملة فإني لا اعرف لهم مستندا في الحكم المذكور سوى ما يدعونه من
الإجماع ، وكأنهم خصصوا هذه الاخبار بروايات التمييز لأنها أظهر في الحكم بالتحيض
متى حصلت شرائط التمييز ، الا ان فيه (أولا) ـ ما قدمنا ذكره ذيل رواية يونس من
انه يمكن العكس وهو تخصيص روايات التمييز بهذه الاخبار. و (ثانيا) ـ ان هذا
التخصيص في رواية يونس بعيد ، حيث جعل التمييز فيها سنة المضطربة خاصة وانها بعد
اختلال شرائط التمييز ترجع إلى الأيام ، فلو كانت المبتدأة كذلك لشركها معها في
الحكم المذكور.
(الثاني) ـ ان
ما اشترطوه هنا من انه لا يقصر ما شابه دم الحيض عن أقله وهو الثلاثة ولا يتجاوز
أكثره لا تساعده الروايات الواردة في هذه المسألة ، فإنها مطلقة في التحيض بما
شابه دم الحيض قليلا كان أو كثيرا كما أشرنا إليه آنفا ذيل رواية يونس.
(الثالث) ـ ان
ما اشترطوه من بلوغ الضعيف مع أيام النقاء أقل الطهر لا دليل عليه هنا بل ظاهر
الاخبار يرده ، ومنها ـ موثقة أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى الدم خمسة أيام والطهر خمسة أيام وترى
الدم أربعة أيام وترى الطهر ستة أيام؟ فقال : ان رأت الدم لم تصل وان رأت الطهر
صلت ما بينها وبين ثلاثين يوما ، فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت
واستثفرت واحتشت بالكرسف في وقت كل صلاة فإذا رأت صفرة توضأت». وموثقة يونس بن
يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) المرأة ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة.
قلت فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي. قلت : فإنها ترى الدم ثلاثة
أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال
تصلي قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة تصنع ما بينها وبين
شهر فان انقطع عنها الدم والا فهي بمنزلة المستحاضة». وحملها في الاستبصار على
مضطربة اختلط حيضها
__________________
أو مستحاضة استمر بها الدم واشتبهت عادتها قال : «ففرضها ان تجعل ما يشبه
دم الحيض حيضا والآخر طهرا صفرة كانت أو نقاء ليتبين حالها» وفيه ـ كما ترى ـ دلالة
ظاهرة على انه لا يشترط في مقام استمرار الدم كون الدم الضعيف أقل الطهر وهو
العشرة ، ونحوه ما ذكره في المبسوط حيث صرح بأنه إن اختلط عليها أيامها فلا تستقر
على وجه واحد تركت العبادة كلما رأت الدم وصلت كلما رأت الطهر الى ان تستقر عادتها
، وهو جار على ظاهر الخبرين المذكورين ، وبنحو ذلك صرح في الفقيه ايضا فقال : «وإذا
رأت الدم خمسة أيام والطهر خمسة أيام أو رأت الدم أربعة أيام والطهر ستة أيام فإذا
رأت الدم لم تصل وإذا رأت الطهر صلت ، تفعل ذلك ما بينها وبين ثلاثين يوما. الى
آخره» وكذا الشيخ في النهاية ، وبالجملة فظاهر أكثر من تعرض لهذه المسألة هو القول
بمضمون الخبرين وان اختلفوا في تنزيلهما على المبتدأة أو ذات العادة التي اضطربت
عادتها ، وقال المحقق بعد نقل تأويل كلام الشيخ : «وهذا تأويل لا بأس به ، ولا
يقال : الطهر لا يكون أقل من عشرة ، لأنا نقول : هذا حق لكن ليس هذا طهرا على
اليقين ولا حيضا بل دم مشتبه تعمل فيه بالاحتياط» وفيه ما قدمنا ذكره في مسألة
اشتراط توالي الأيام الثلاثة التي هي أقل الحيض وعدمه من ان اشتراط كون أقل الطهر
عشرة على إطلاقه ممنوع ، ومما ذكرنا يعلم ان اشتراط هذا الشرط هنا لا وجه له وان
الأظهر هو القول الآخر للعموم كما عرفت. وظاهر الذكرى يميل الى ذلك حيث قال بعد
نقل خبر يونس المذكور وتأويل الشيخ له بما ذكرناه : «وهو تصريح بعدم اشتراط كون
الضعيف أقل الطهر» واما في البيان والدروس فلم يذكر هذا الشرط في شروط التمييز
بالكلية وهو مؤذن بعدم اشتراطه ، والى ما ذكرنا ايضا يميل كلام الذخيرة ، وهو
الأظهر كما عرفت.
(الرابع) ـ انهم
ذكروا تفريعا على الخلاف في اشتراط هذا الشرط انها لو رأت خمسة أسود ثم أربعة اصفر
ثم عاد الأسود عشرة فعلى الأول لا تمييز لها وعلى الثاني حيضها خمسة ، كذا صرح في
المدارك ومثله الشهيد في الذكرى تفريعا على الخلاف
المذكور ، حيث قال : «فلو رأت خمسة أسود ثم تسعة اصفر وعاد الأسود ثلاثة
فصاعدا فعلى الأول لا تمييز لها وهو ظاهر المعتبر وعلى الثاني حيضها خمسة» ثم نقل
عن ظاهر المبسوط تخصيص الحيض بالدم العائد بعد الدم الأصفر ان لم يتجاوز العشرة
قال : «لأن الصفرة لما خرجت عن الحيض خرج ما قبلها» انتهى. أقول : وعبارة المبسوط
على ما في الذخيرة هكذا : «فإن رأت ثلاثة أيام مثلا دم الحيض ثم رأت ثلاثة أيام دم
الاستحاضة ثم رأت إلى تمام العشرة دم الحيض ، الى ان قال : وان جاوز العشرة الأيام
ما هو بصفة الحيض فبلغ ستة عشر يوما كانت العشرة الأيام كلها حيضا وقضت الصوم
والصلاة في الستة الأولى» انتهى. أقول : ان كلامهم في هذا المقام لا يخلو عندي من
الإشكال ، فإن تخصيص الحيض بالدم المتقدم كما هو ظاهر عبارتي المدارك والذكرى أو
المتأخر كما هو ظاهر عبارة المبسوط لا اعرف له وجها ، إذ لا يخفى ان قضية الرجوع
الى التمييز مع إلغاء هذا الشرط كما هو المفروض هو التحيض بالدم المتقدم والمتأخر
في الأمثلة المذكورة في كلامهم ، لأنهم قرروا في التمييز مع اختلاط الدم هو انه متى
رأت المرأة الدم بصفة الحيض ولم ينقص عن ثلاثة أيام ولم يزد على العشرة فإنها
تتحيض به والدم الأخر المخالف له تتعبد فيه وان كان أقل من عشرة بناء على إلغاء
هذا الشرط ، ومما يعضد ذلك موثقتا ابى بصير ويونس بن يعقوب المتقدمتان ، وبذلك
اعترف أيضا في الذكرى حيث قال بعد نقل خبر يونس وعبارة المبسوط على أثره : «وهو
مطابق لظاهر الخبر» ومراده المطابقة له في عدم اعتبار مضي الأقل بين الدمين اللذين
هما بصفة دم الحيض ، وكل هذا ظاهر في التحيض بما كان بصفة دم الحيض متقدما ومتأخرا
كما ذكرناه والتعبد فيما خالف ذلك الدم في صفاته.
(الموضع الثاني)
ـ في الحكم بالرجوع إلى نسائها ثم ذوي أقرانها ، والمراد بنسائها على ما صرحوا به
هم الأقارب من الأبوين أو أحدهما ، قيل ولا تعتبر العصبة هنا لأن المعتبر الطبيعة
وهي جارية من الطرفين ، صرح بذلك جملة من الأصحاب ،
واعترضهم بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين قال : «أقول : في إخراج
العصبة نظر لصدق إطلاق نسائها عليها عرفا» أقول : الظاهر ان مرادهم من هذه العبارة
انما هو نفي تخصيص العصبة كما صرح به في الذكرى فقال : «ولا اختصاص للعصبة هنا لان
المعتبر الطبيعة وهي جارية من الطرفين» لا إخراج العصبة بالكلية كما توهمه ، وقد
صرحوا بان المراد الأقارب من الأبوين أو أحدهما.
والحكم بالرجوع
إلى نسائها بعد فقد التمييز مما لا خلاف فيه عندهم ، وعزاه في المعتبر إلى الخمسة
واتباعهم ، واحتج عليه بان الحيض يعمل فيه بالعادة وبالأمارة كما يرجع الى صفات
الدم ومع اتفاقهن يغلب أنها كإحداهن إذ من النادر ان تشذ واحدة عن جميع الأهل ،
قال : ويؤكد ذلك ما رواه محمد بن يعقوب عن احمد بن محمد رفعه عن زرعة عن سماعة قال : «سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة
أشهر وهي لا تعرف أيام أقرائها؟ قال أقراؤها مثل أقراء نسائها ، فإن كان نساؤها
مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيام وأقله ثلاثة». وعن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي
بأقرائها ثم تستظهر على ذلك بيوم». ثم قال : «واعلم ان الروايتين ضعيفتان ، أما
الأولى فمقطوعة السند والمسؤول فيها مجهول ، والثانية في طريقها علي بن فضال وهو
فطحي ومع ذلك تتضمن الرجوع الى بعض نسائها وهو خلاف الفتوى ، ولان الاقتراح في
الرجوع الى واحدة من النساء مع إمكان مخالفة الباقيات معارض للرواية الأولى ، لكن
الوجه في ذلك اتفاق الأعيان من فضلائنا على الفتوى بذلك ، وقوة الظن بأنها كإحداهن
مع اتفاقهن كلهن على تردد عندي» وتبعه في المدارك على الطعن بضعف السند في الخبرين
المذكورين فقال : «ان في الروايتين قصورا من حيث السند ، أما الأولى فبالإرسال
والإضمار واشتمال سندها على عدة من الواقفية ، واما الثانية فلان في طريقها علي بن
الحسن بن فضال وهو
__________________
فطحي ، وأيضا فإنها تتضمن الرجوع الى بعض نسائها وهو خلاف الفتوى ، لكن
الشيخ في الخلاف نقل على صحة الرواية إجماع الفرقة فإن تم فهو الحجة والا أمكن
التوقف في هذا الحكم لضعف مستنده» انتهى.
أقول : اما ما
ذكره في المعتبر من التعليل العقلي فهو تعليل عليل لا يهدي الى سبيل فلا اعتماد
عليه ولا تعويل ، والحجة في الحقيقة هي الروايتان المذكورتان ، واما طعنه في سند
الخبرين المذكورين فهو مناف لما صرح به في صدر كتابه حيث قال : «أفرط الحشوية في
العمل بخبر الواحد حتى انقادوا الى كل خبر وما فطنوا الى ما تحته من التناقض ، فان
من جملة الأخبار قول النبي (صلىاللهعليهوآله): «ستكثر بعدي القالة علي». وقول الصادق (عليهالسلام): «ان لكل رجل منا رجلا يكذب عليه». واقتصر بعض عن هذا
الإفراط فقال كل سليم السند يعمل به ، وما علم ان الكاذب قد يصدق ، وما تنبه ان
ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنف الا وهو يعمل بخبر المجروح
كما يعمل بخبر العدل ، وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله عقلا ونقلا
، واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن به ، وكل هذه الأقوال
منحرفة عن السنن والتوسط أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به
، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ وجب إطراحه» ثم استدل على ذلك بأدلة تركنا التعرض
لها اختصارا ، والمناقضة بين الكلامين ظاهرة. واما ما ذكره في المدارك فهو من
المناقشات الواهية (أما أولا) ـ فلما ذكرنا في غير موضع ان الطعن بضعف سند الاخبار
لا يصلح حجة على المتقدمين الذين لا اثر لهذا الاصطلاح عندهم بل الأخبار عندهم
كلها صحيحة ، والصحة والبطلان انما هو باعتبار متون الاخبار وما اشتملت عليه لا
باعتبار الأسانيد ، وقد اعترف بذلك جملة من أرباب هذا الاصطلاح : منهم ـ صاحب
المنتقى فيه والبهائي في مشرق الشمسين وغيرهما ، حيث ذكروا ان الاخبار كلها صحيحة
عند المتقدمين لوفور القرائن الدالة على صحتها وقرب العهد ، وان المتأخرين
إنما عدلوا عنه الى هذا الاصطلاح المحدث لما بعدت المدة وخفيت القرائن كما
تقدم ذكره منقحا في مقدمات الكتاب. و (اما ثانيا) ـ فلتصريحه في غير موضع في شرحه
بان الإضمار في الاخبار غير مضر ، فكيف يطعن هنا في موثقة سماعة بذلك وهو قد قبلها
ونحوها في غير موضع من الأحكام؟ و (اما ثالثا) ـ فلأن الحكم متفق عليه كما ذكره هو
نفسه في صدر البحث. فقال : «وهذا اعنى رجوع المبتدأة مع فقد التمييز إلى عادة
نسائها هو المعروف من مذهب الأصحاب» وهو قد وافق الأصحاب في أمثال ذلك مع ضعف
دليلهم بزعمه في غير موضع من شرحه ، وقد أوضحنا جملة من ذلك في شرحنا على الكتاب.
نعم يبقى
الإشكال في الجمع بين الخبرين المذكورين حيث ان ظاهر موثقة سماعة اشتراط اتفاق
نسائها في الرجوع إليهن فلو اختلفن فلا رجوع ، وبه صرح العلامة في النهاية فقال : «حتى
لو كن عشرا فاتفق فيهن تسع رجعت الى الأقران» وظاهر موثقة زرارة ومحمد بن مسلم
الاكتفاء بالبعض الا انه لا قائل به من الأصحاب. ويمكن حملها على تعذر الرجوع الى
جميع نسائها لتفرقهن في البلد فيكتفى بالرجوع الى البعض الا اني لم أعلم قائلا به
، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، قال في المدارك : «ورجح الشهيد
اعتبار الأغلب مع الاختلاف وهو ضعيف جدا ، لأنه ان استند في الحكم إلى مقطوعة
سماعة وجب القطع بالانتقال عن نسائها لمجرد الاختلاف كما هو منطوق الرواية ، وان
استند إلى رواية زرارة ومحمد بن مسلم وجب القول برجوعها الى بعض نسائها مطلقا ولا
قائل به» انتهى.
ثم ان ظاهر
موثقة زرارة ومحمد بن مسلم الاستظهار بيوم بعد الاقتداء بأقرائها ، وبذلك صرح في
الذكرى وأوجب على المبتدأة الاستظهار بيوم بعد الرجوع الى نسائها
__________________
للرواية المذكورة ، وأنت خبير بان بحث الأصحاب عن هذه الرواية في حكم
المبتدأة ـ في جميع ما ذكرناه ونقلناه عنهم مع انها لم تشتمل على ذكر المبتدأة
وانما المذكور فيها المستحاضة بقول مطلق ـ لا يخلو من اشكال ، وكلهم فهموا ذلك من
الأمر بالرجوع الى بعض نسائها حيث انه لم يقع الأمر بالرجوع الى النساء إلا في
المبتدأة.
بقي الكلام
فيما ذكروه من الرجوع الى الأقران فإني لم أقف فيه على خبر يدل عليه ، وهذا الحكم
ذكره الشيخ وتبعه عليه جملة من الأصحاب ، ورده في المعتبر فقال بعد نقله عنه : «ونحن
نطالب بدليله فإنه لم يثبت. ولو قيل كما يغلب في الظن انها كنسائها مع اتفاقهن
يغلب في الأقران ، منعنا ذلك فان ذوات القرابة بينها مشابهة في الطباع والجنسية
والأصل فقوى الظن مع اتفاقهن بمساواتها لهن ، ولا كذا الأقران إذ لا مناسبة تقتضيه
لأنا قد نرى النسب يعطي شبها ولا نرى المقارنة لها أثر فيه» انتهى. وأجاب عنه في
الذكرى فقال بعد نقل ذلك عنه : «ولك ان تقول لفظ «نسائها» دال عليه فان الإضافة
تصدق بأدنى ملابسة وما لابستها في السن والبلد صدق عليهن النساء ، واما المشاكلة
فمع السن واتحاد البلد تحصل غالبا ، وحينئذ ليس في كلام الأصحاب منع منه وان لم
يكن تصريح به ، نعم الظاهر اعتبار اتحاد البلد في الجميع لان للبلد أثرا ظاهرا في
تخالف الأمزجة» وأورد عليه ان الملابسة المذكورة لو كانت كافية في صحة المراجعة لم
يستقم اشتراط اتحاد البلد والسن بل يلزم صحة الاكتفاء بأحدهما لصدق الملابسة معه ،
بل لا تنحصر الملابسة في أحدهما لتكثر وجوه الملابسات وذلك يؤدي الى ما هو منفي
بالإجماع ، وتوقف تمامية المشاكلة ومقارنة الطبيعة على اجتماع الأمرين لا يصلح
مخصصا لعموم النص.
أقول :
والتحقيق هو ما أشرنا إليه في غير موضع من ان بناء الأحكام الشرعية على هذه
التخريجات العقلية والتقريبات الظنية لا يخلو من مجازفة في الأحكام الشرعية ،
والنص المذكور ظاهر في الأقارب خاصة إذ هو المتبادر من حاق هذا اللفظ ، والتعدي
عنه يحتاج الى دليل واضح والا لدخل في القول على الله عزوجل بغير علم كما لا يخفى على المنصف
وحينئذ فالظاهر اطراح هذا القول من البين. والله العالم.
(الموضع الثالث)
ـ في الرجوع الى الروايات بعد تعذر الرجوع الى المراتب المتقدمة ، وقد اختلف كلام
الأصحاب في ذلك على أقوال عديدة : منها ـ انها تتخير بين التحيض في الشهر الأول
ثلاثة أيام وفي الشهر الثاني عشرة وبين التحيض في كل شهر سبعة ، وهذا قول الشيخ في
الجمل وموضع من المبسوط. ومنها ـ انها تجعل عشرة أيام حيضا وعشرة أيام طهرا وعشرة
أيام حيضا وهكذا ، وهو قول الشيخ في موضع من المبسوط. ومنها ـ التخيير بين التحيض
في كل شهر بسبعة أيام وبين التحيض في الشهر الأول عشرة وفي الشهر الثاني ثلاثة ،
وهو ظاهره في النهاية ، هكذا نقله عنه في الذخيرة ، والذي في النهاية انها تترك
الصلاة والصوم في كل شهر سبعة أيام وتصلي وتصوم ما بقي ثم لا تزال هذا دأبها الى
ان تعلم حالها وتستقر على حال ، وقد روى انها تترك الصلاة والصوم في الشهر الأول
عشرة أيام وتصلي عشرين يوما وهي أكثر أيام الحيض ، وفي الشهر الثاني ثلاثة أيام
وتصلي سبعة وعشرين يوما وهي أقل الحيض ، وهو ظاهر في ان مذهبه فيه انما هو التحيض
بالسبعة دائما واما العشرة والثلاثة فإنما نسبها إلى الرواية ، فما ذكره من نسبة
التخيير بين الأمرين المذكورين اليه ليس في محله كما لا يخفى ومنها ـ التخيير بين
الثلاثة من الأول والعشرة من الثاني وبين الستة وبين السبعة ، وهو قوله في الخلاف
، كذا نقله عنه في الذخيرة أيضا ، والذي نقله عنه في المختلف انما هو التحيض
بالثلاثة من الأول والعشرة من الثاني ، ثم قال : وقد روى انها تترك الصلاة في كل
شهر ستة أيام أو سبعة ، ونسبته إلى الرواية بعد إفتائه بالأول يؤذن بأن مذهبه هو
الأول وانما حكى هذا رواية ، فنسبة القول له بالتخيير كما ذكره (قدسسره) ليس في محله ، وحينئذ فمذهبه هنا يرجع الى ما نقل عن
ابن البراج. ومنها ـ التخيير بين الثلاثة من شهر وعشرة من آخر وبين الستة وبين
السبعة ، وهو مختار العلامة وجمع من الأصحاب. ومنها ـ التحيض في الشهر الأول بثلاثة
وفي الشهر الثاني بعشرة ، وهو قول ابن البراج
ومنها ـ عكس ذلك ، نقله ابن إدريس عن بعض الأصحاب. ومنها ـ التحيض في كل
شهر بعشرة أيام ، نقله في المعتبر عن بعض فقهائنا. ومنها ـ ان تجلس بين ثلاثة إلى
عشرة وهو قول المرتضى (رضياللهعنه) وهو ظاهر ابن بابويه حيث قال : «أكثر جلوسها
عشرة أيام في كل شهر» ومنها ـ انها تترك الصلاة في كل شهر ثلاثة أيام وتصلي سبعة
وعشرين يوما ، وهو قول ابن الجنيد واختاره في المعتبر.
واختلاف أكثر
هذه الأقوال انما نشأ من اختلاف أخبار المسألة المتقدمة في الموضع الأول ومنها ـ رواية يونس الطويلة وفيها التخيير بين الستة والسبعة ، وبهذه الرواية استدل
الشيخ ومن تبعه على التحيض بالسبعة كما هو مذهبه في النهاية على ما أوضحناه وفيه
ان ظاهر الرواية التخيير بين الستة والسبعة فهي غير منطبقة على المدعى ومنها ـ موثقتا
ابن بكير وبهما استدلوا على التحيض بالعشرة من الأول وبالثلاثة
من الثاني وهكذا ، وظاه رهما انما هو التحيض بالعشرة في الدور الأول والثلاثة بعد
ذلك دائما لا ان العشرة والثلاثة دائما في كل دور كما ذكروه ، وأيضا فإن الشيخ في
الجمل والمبسوط جعل الثلاثة في الدور الأول والعشرة في الثاني مع ان الموثقتين
صريحتان في عكس ذلك ، ومنها ـ موثقة سماعة وظاهرها يدل على مذهب المرتضى وابن بابويه ومنه يعلم
عدم انطباق الأخبار المذكورة على أكثر الأقوال المتقدمة ، فإن هذه أخبار المسألة
الموجودة في كتب الأخبار وكلام الأصحاب. وطعن جملة من متأخري المتأخرين في هذه
الاخبار بضعف الأسانيد وتقدمهم في ذلك المحقق في المعتبر ، فقال بعد نقل رواية
يونس وموثقة ابن بكير الاولى : «واعلم ان الروايتين ضعيفتان (أما الأولى) فلما ذكره
ابن بابويه عن ابن الوليد انه لا يعمل بما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس.
و (اما الثانية)
فرواية عبد الله بن بكير وهو فطحي لا اعمل بما ينفرد به لكن لما كان الغالب في
عادة النساء الستة والسبعة قضينا بالغالب. والوجه عندي ان تتحيض
__________________
كل واحدة منهما ثلاثة أيام لأنه اليقين في الحيض وتصلي وتصوم بقية الشهر
استظهارا وعملا بالأصل في لزوم العبادة» انتهى. قال في المدارك بعد نقل ذلك : «هذا
كلامه ولا يخلو من قوة ، وتؤيده الروايتان المتقدمتان والإجماع ، فإن الخلاف واقع
في الزائد عن الثلاثة».
أقول : لا يخفى
ما في هذا الكلام من الضعف والوهن الظاهر لمن أعطى التأمل حقه في المقام (اما أولا)
ـ فإن ما طعن به في سند الروايتين بما ذكره فيه ان هذا مناف لما صرح به في صدر
كتابه كما قدمنا نقله عنه قريبا.
و (اما ثانيا)
ـ فإنه قال في باب غسل النفاس بعد نقل موثقة عمار الساباطي ما لفظه : «وهذه وان
كان سندها فطحية لكنهم ثقات في النقل» وقال بعد نقل رواية السكوني : «والسكوني
عامي لكنه ثقة» وأنت خبير بان ما ورد في حق عبد الله بن بكير من المدح حتى عد في
جملة من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه لا يكاد يوجد في أحد من هؤلاء الذين
قد حكم هنا بتوثيقهم. وقد أجاب في الذكرى عن ذلك فقال ـ ونعم ما قال ـ ان الشهرة
في النقل والإفتاء بمضمونه حتى عد إجماعا يدفعهما ، قال : «ويؤيده ان حكمة الباري
أجل من ان يدع امرا مبهما يعم به البلوى في كل زمان ومكان ولم يبينه على لسان صاحب
الشرع مع لزوم العسر والحرج فيما قالوه ، وهما منفيان بالآي والاخبار وغير مناسبين
للشريعة السمحة».
و (اما ثالثا)
ـ فلانه لا يخفى ان إثبات الأحكام الشرعية التوقيفية على الوقف من الشارع بهذه
التخريجات لا يخلو من المجازفة سيما مع وجود الأخبار في المسألة (فإن قيل) : ان
كلامه هذا مبني على الاحتياط الذي صرحتم في غير موضع بأنه يجب الأخذ به مع عدم
وجود النصوص ، والفرض هنا كذلك حيث ان هذه النصوص عندهم غير ثابتة ، فالوقوف على
الاحتياط لا بأس به (قلنا) : لا يخفى انه مع الإغماض عن المناقشة في طرح النصوص
المذكورة فإن هذا الاحتياط للعبادة فيما زاد على الأيام الثلاثة المحتملة
لكونها حيضا معارض بمخالفة الاحتياط في تحليل ما حرم الله تعالى على الحائض
من نكاحها وجلوسها في المساجد وأمثال ذلك من المحرمات والمكروهات ، وحينئذ
فالاحتياط المدعى غير تام بجميع موارده.
و (اما رابعا)
ـ فلان الظاهر من اخبار «ان أقل الحيض ثلاثة» . انما هو بالنسبة الى من انقطع عنها الدم لدون ثلاثة ،
فإنه لا يحكم بكونه حيضا وبها يستدل في هذا المقام ، واما من دام دمها بعد الثلاثة
واستمر وحكم بكونه حيضا قطعا ولكن وقع التردد في مقداره كمحل البحث فإنه لا مجال
للاستدلال بالأخبار المذكورة ، لأن الشارع قد جعل ما تراه من الدم الى تمام العشرة
صالحا لان يكون حيضا وعادات النساء قد جرت على ذلك ، فكل فرد فرد من افراد هذه
الاعداد صالح لان يكون فردا وترجيح بعضها على بعض يحتاج الى مرجح شرعي ، ويشير الى
ذلك ما في موثقة سماعة من التخيير بين الثلاثة إلى تمام العشرة ، حيث ان هذا
المقدار هو الذي علم من الشارع جعله حيضا ، وبذلك يظهر ان قوله : «لانه اليقين في
الحيض» على إطلاقه ممنوع بل انما يتعين بالنسبة الى ما نقص عن هذا العدد ، واما ما
زاد عليه إلى العشرة وهو حد الأكثر من الحيض فالحكم باليقينية ممنوع ، نعم العشرة
يقين بالنسبة الى ما زاد عليها كما لا يخفى.
و (اما خامسا)
ـ فلان قوله : «الأصل لزوم العبادة» مدفوع بأنه يجب الخروج عن هذا الأصل بتحقق
الحيض ، والحيض هنا متحقق وانما وقع الشك في أيامه زيادة ونقيصة ، وترجيح بعضها
على بعض من غير مرجح ممتنع ، والاستناد الى اخبار «أقل الحيض ثلاثة» . غير مجد هنا لما عرفت ، على ان هذا الأصل معارض بأصالة
تحريم ما حرم الله تعالى على الحائض من المحرمات المشار إليها آنفا ، وهذه حائض
بالاتفاق وبالجملة فما ذكراه هنا وفي المضطربة كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ من
التحيض بالثلاثة خاصة استضعافا للاخبار ـ ضعيف.
__________________
و (اما سادسا)
ـ فان المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه الشك والإنكار هو انه متى تعذر
الوقوف على الدليل في الحكم الشرعي فالواجب الوقوف عن الفتوى والعمل بالاحتياط متى
احتيج الى العمل ، ومن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم (عليهالسلام) الواردة في جزاء الصيد قال فيها : «قلت ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر
ما عليه؟ فقال (عليهالسلام) : إذا أصبتم بمثل ذلك فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى
تسألوا عنه فتعلموا». وفي رواية زرارة عن الباقر (عليهالسلام) «ما حق الله تعالى على العباد؟ فقال : ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما
لا يعلمون». ومثلها موثقة هشام بن سالم الى غير ذلك من الاخبار.
إذا عرفت ذلك
فالظاهر عندي هو التخيير بين ما دلت عليه هذه الروايات ، إذ لا اعرف طريقا الى
الجمع بينها بعد صحتها وصراحتها فيما دلت عليه غير ذلك.
فوائد
(الأولى) ـ هل
المراد بقوله (عليهالسلام) في رواية يونس : «ستة أو سبعة». التخيير أو العمل بما يؤدي إليه
اجتهادها وظنها بأنه الحيض؟ قيل بالثاني ، وعن العلامة في النهاية قال : «لانه لو
لا ذلك لزم التخيير بين فعل الواجب وتركه» ونقض بأيام الاستظهار. ونقل عن المحقق (رحمهالله) الأول تمسكا بظاهر اللفظ قال : «وقد يقع التخيير في
الواجب كما يتخير المسافر بين القصر والإتمام في بعض المواضع» وهو جيد
(الثانية) ـ قد
صرح الشهيد الثاني ـ بعد ان ذكر أنها مخيرة في أخذ عشرة من شهر وثلاثة من آخر أو
سبعة من كل شهر أو الستة ـ ان الأفضل اختيار
__________________
ما يوافق مزاجها ، فتأخذ ذات المزاج الحار السبعة والبارد الستة والمتوسط
الثلاثة والعشرة وفيه انه تقييد للنص من غير دليل واجتهاد في مقابلة النص فلا عمل
عليه.
(الثالثة) ـ قال
في الذكرى : معنى قوله (عليهالسلام) : «في علم الله» اختصاص علمه بالله إذ لا حيض لها معلوم
عندها ، أو فيما علمك الله من عادات النساء فإنه القدر الغالب عليهن ، ثم حمل خبري
الرجوع الى نسائها على المعنى الثاني ، قال : «فيكون قوله ستة أو سبعة
للتنويع اي ان كن يحضن ستة فتتحيض ستة وان كن يحضن سبعة فتتحيض سبعة فإن زدن عن
السبع أو نقصن عن الست فالمعتبر عادتهن ، لأن الأمر بالستة أو السبعة بناء على
الغالب ، ويمكن أخذ الستة ان نقصن والسبعة ان زدن عملا بالأقرب الى عادتهن في
الموضعين» أقول : لا يخفى ما في حمل الخبر المذكور على المعنى الذي ذكره وفرع عليه
ما بعده من البعد ، بل الظاهر انما هو المعنى الأول كما يدل عليه سياق الخبر من
قوله (عليهالسلام) بعد ما ذكر ان أمر هذه مخالف للأوليين وانه ليس لها
أيام سابقه : «ومما يبين هذا قوله لها : «في علم الله» لانه قد كان لها وان كانت
الأشياء كلها في علم الله» قال في الوافي : «قوله : «لانه قد كان لها» لعل المراد
به قد كان لها في علم الله ستة أو سبعة وذلك لانه ليس لها قبل ذلك أيام معلومة».
(الرابعة) ـ قد
صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه متى اختارت عددا كان لها وضعه متى شاءت من
الشهر وان كان الأول أولى ، ومقتضى موثقتي ابن بكير أخذ الثلاثة بعد العشرة ثم أخذها بعد السبعة والعشرين
دائما ، قال في المدارك : «ولا ريب انه الأولى».
(المطلب الثاني)
ـ في ذات العادة وفيه مسائل (الأولى) ـ لا يخفى ان العادة مشتقة من العود فما لم
يعد مرة أخرى لم يصدق اسم العادة ، وهو اتفاق بين
__________________
أصحابنا وأكثر العامة ، وقال بعض العامة تثبت بالمرة الواجدة وهو باطل لما ذكرنا وتصير ذات عادة بأن ترى الدم
مستكملا لصفات الحيض دفعة ثم ينقطع أقل الطهر فصاعدا ثم تراه ثانيا مثل ذلك العدد
الأول ، ويدل على ثبوتها بالمرتين مضافا الى الاتفاق على ذلك قول ابي عبد الله (عليهالسلام) في رواية يونس الطويلة المتقدمة في صدر المقصد : «... فان انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء حتى
توالت عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن ان ذلك قد صار لها وقتا وخلقا معروفا
تعمل عليه وتدع ما سواه وتكون سنتها فيما تستقبل ان استحاضت قد صارت سنة الى ان
تجلس أقراءها ، وانما جعل الوقت ان توالى عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) للتي تعرف أيامها : دعي الصلاة أيام أقرائك ، فعلمنا
انه لم يجعل القرء الواحد سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام قرءك ولكن سن لها الأقراء
وأدناه حيضتان.». وقوله (عليهالسلام) في موثقة سماعة : «... إذا اتفق شهران عدة أيام سواء فتلك عادتها».
ثم ان ذات
العادة اما ان تكون متفقة عددا ووقتا أو عددا خاصة أو وقتا خاصة فههنا أقسام ثلاثة
: (الأول) ـ ان يتفق عددا ووقتا وهذه أنفع العادات تتحيض بمجرد رؤية الدم وترجع
اليه بعد التجاوز عند الأصحاب ، كأن تراه سبعة في أول الشهر ثم تراه في أول الثاني
أيضا سبعة.
(الثاني) ـ ان
يتفق في العدد دون الوقت كما إذا رأت في أول الشهر سبعة ثم رأت بعد مضي أقل الطهر
سبعة فقد استقر عددها ولكن تكون بالنسبة إلى الوقت كالمضطربة عند الأصحاب ، فإذا
رأت دما ثالثا وتجاوز العشرة رجعت الى العدد عندهم ، وهذه تستظهر عندهم في أول
الدم لعدم استقرار الوقت بناء على القول باستظهار المضطربة والمبتدأة.
(الثالث) ـ ان
يتفق في الوقت خاصة كما لو رأت سبعة في أول الشهر وثمانية
__________________
في أول الآخر فتستقر بحسب الوقت فإذا رأت الدم الثالث في الوقت تركت
العبادة ، وهل تكون مضطربة بحسب العدد فتستظهر بتحيض ثلاثة أو يثبت لها أقل
العددين لتكرره؟ وجهان ، نقل أولهما عن المحقق الشيخ علي واستجوده الشهيد الثاني ،
قال : «لعدم صدق الاستواء والاستقامة» وثانيهما عن العلامة في النهاية والشهيد في
الذكرى.
وهل يشترط في
استقرار العادة عددا ووقتا استقرار عادة الطهر وهو تكرر طهرين متساويين وقتا أم لا؟
قولان ، أولهما للشهيد في الذكرى فاشترط تكرر الطهرين متساويين وقتا ، ولو تساويا
عددا واختلفا وقتا استقر العدد لا غير فحينئذ تستظهر برؤية الدم الثالث ثلاثة على
تقدير القول بوجوب الاستظهار على المبتدأة والمضطربة ، وثانيهما للعلامة واختاره
في الروض ، فعلى هذا لو رأت سبعة في أول الشهر وسبعة في أول الثاني فقد ثبتت
العادة وقتا وعددا على القول الثاني ، وعلى القول الأول لا تثبت الوقتية حتى تعود
الى الطهر مرة ثانية في الوقت المتقدم فلو تقدم عليه لم تثبت الوقتية وانما يثبت
العدد خاصة ، قال في الذكرى بعد نقل القول الثاني عن العلامة : «وتظهر الفائدة لو
تغاير في الوقت الثالث فان لم نعتبر استقرار الطهر جلست لرؤية الدم وان اعتبرناه
فبعد الثلاثة أو حضور الوقت ، هذا ان تقدم على الوقت ولو تأخر أمكن ذلك استظهارا
ويمكن القطع بالحيض هنا».
أقول : لا يخفى
ان ظاهر الخبرين المتقدمين انه بمجرد رؤية الدم بعد استقرار العادة بمضي شهرين عدة
أيام سواء فإنها تتحيض به ، فعلى هذا لو رأت سبعة من أول الشهر الأول ثم سبعة من
أول الثاني فقد تحققت العادة الموجبة للتحيض بمجرد رؤية الدم بعد مضي أقل الطهر ،
فلو رأت الدم الثالث بعد عشرة من الشهر الثاني تحيضت بمجرد رؤيته ، وما ذكره (قدسسره) من الشرط المذكور لا اعرف له وجها وجيها.
وهل المراد
بالشهر في تحقق العادة هو الهلالي كما هو الشائع في الاستعمال المتبادر إلى
الأفهام الغالب وقوع الحيض فيه للنساء ، أم ما يمكن ان يفرض فيه حيض وطهر
صحيحان المعبر عنه بشهر الحيض؟ قولان ، صرح بأولهما جملة من الأصحاب : منهم
ـ الشيخ علي لما ذكرناه ، وثانيهما صرح به العلامة في النهاية حيث قال بعد قوله :
وتثبت العادة بتوالي شهرين ترى فيهما الدم أياما سواء : «والمراد بشهرها المدة
التي لها فيها حيض وطهر وأقله عندنا ثلاثة عشر يوما» وبذلك صرح ابنه فخر المحققين
وكتبه الشهيد على قواعده ناقلا له عنه ، وعبارات الأصحاب في المقام مجملة قابلة
لاحتمال كل منهما وان كان المفهوم من إطلاق الأخبار انما هو الهلالي ، وقال في
الذكرى : «لا يشترط في العادة تعدد الشهر وما ذكر في الخبر من الشهرين بناء على
الغالب ، فلو تساوى الحيضان في شهر واحد كفى في العددية ، صرح به في المبسوط
والخلاف ، وكذا لو تساويا في زيادة على شهرين» قال في الروض : «ويرجح اعتبار الهلالي
ايضا ان اتفاق الوقت بدمين فيما دونه لا يتفق إلا مع تكرر الطهر وهو خروج عن
المسألة ، لكن قبل تكرر الطهر تثبت العادة بالعدد خاصة فيرجع في الثالث اليه مع
عبوره العشرة بعد احتياطها بالطهر ثلاثة في أوله» أقول : ثبوت الاتفاق في الوقت
بتكرر الطهر كما ذكره لا يخلو من غموض واشكال ولا سيما بالنظر الى ظاهر النصوص
الدالة على الشهر الهلالي ، وان المتبادر من الوقت هو الزمان المعين مثلا أول
الشهر أو وسطه أو آخره ونحو ذلك لا ما كان بعد أيام معينة وعدد مخصوص ، قال الشيخ
علي تفريعا على ما اختاره من الشهر الهلالي : «ان العادة الوقتية لا تحصل الا
بالشهرين الهلاليين لان الشهر في كلام النبي والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم)
انما يحمل على الهلالي نظرا إلى أنه الأغلب في عادات النساء وفي الاستعمال ، فلو
رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأته وعبر العشرة فلا وقت
لها لعدم تماثل الوقت باعتبار الشهر» واعترضه في الروض بان فيما ذكره نظرا لان
تكرر الطهر يحصل الوقت كما قلناه ، وقد صرح بذلك في المعتبر والذكرى وحكاه فيه عن
المبسوط والخلاف ناقلا عبارتهما في ذلك ، واحتجاجه بان الشهر في كلامهم (عليهمالسلام) يحمل على الهلالي انما يتم لو كان في النصوص المقيدة
الدالة على العادة
ذكر الشهر ، وقد بينا في أول المسألة حكايتها خالية من ذكر الشهر فيما عدا
الحديثين الأخيرين ، وفي الاحتجاج بهما اشكال لضعف أولهما بالإرسال وثانيهما بجرح
سماعة وانقطاع خبره. انتهى.
أقول : لا يخفى
انه ليس عندهم دليل على تفسير العادة بالمعنى المعروف بينهم سوى هذين الخبرين كما
لا يخفى على من راجع كلامهم وراجع الاخبار ، وقوله : «انه قد بين في أول المسألة
الأخبار خالية من ذكر الشهر فيما عدا الحديثين» عجيب فإنه لم يذكر سواهما وكذا
غيره إذ ليس في الباب سواهما ، وحينئذ فإن عمل بهما ففي الموضعين وإلا فلا ، على
ان حديث يونس مما استدلوا به في أحكام عديدة حتى قال هو نفسه بعد
الاستدلال بجملة منه على أحكام في كتابه المشار اليه : «وهو حديث شريف يدل على
أمور مهمة في هذا الباب» وبذلك يظهر لك قوة ما ذكره المحقق الشيخ علي ومن وافقه
على القول المذكور وضعف ما اعترض به هنا ، ومنه يظهر ضعف القول الآخر أيضا.
(المسألة
الثانية) ـ اعلم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد صرحوا بان ذات العادة تتحيض
بمجرد رؤية الدم ، قال في المعتبر : «تترك ذات العادة الصلاة والصوم برؤية الدم في
أيامها وهو مذهب أهل العلم ، لان المعتاد كالمتيقن ، ولما رواه يونس عن بعض رجاله
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «... إذا رأت المرأة الدم في أيام حيضها تركت
الصلاة». أقول : ويدل على ذلك أيضا صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى الصفرة في أيامها؟ فقال لا تصلي حتى
تنقضي أيامها فإن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت». وفي رواية يونس عن بعض
رجاله عنه (عليهالسلام) «... كل ما رأت المرأة في أيام حيضها فهو حيض وإذا رأت بعدها فليس من الحيض».
الى غير ذلك من الاخبار. وبالجملة فإن الحكم لا اشكال فيه
__________________
نعم يبقى
الكلام في الحمل على معاني المعتادة المتقدمة ، والظاهر انه لا إشكال في الحمل على
المعتادة بالمعنى الأول وانها تتحيض بمجرد الرؤية. وكذا بالمعنى الثالث إذا وقعت
الرؤية في أيام العادة ، كما لا اشكال ولا خلاف بينهم في عدم الحمل على المعتادة
بالمعنى الثاني ، فإنها عندهم لا تتحيض بمجرد الرؤية بل حكمها عندهم كرؤية
المبتدأة والمضطربة في إيجاب الاستظهار عليها بالثلاثة ، وتفصيل هذه الجملة بالنسبة
إلى المعنى الأول والثالث انه لا يخلو اما ان تكون رؤية الدم في وقت العادة
وأيامها أو قبل ذلك أو بعده ، فأما الأول فإنه لا إشكال في التحيض بمجرد الرؤية
للأخبار المتقدمة. واما قبل العادة فظاهر كلام جملة من الأصحاب الحكم بكونه حيضا
لأن الحيضة ربما تقدمت وتأخرت ، قال في المبسوط : «إذا استقرت العادة ثم تقدمها أو
تأخر عنها الدم بيوم أو يومين إلى العشرة حكم بأنه حيض وان زاد على العشرة فلا»
وظاهر كلام الشهيد الثاني في المسالك الاستظهار كالمبتدأة والمضطربة حيث قال بعد
حكمه بالتحيض برؤية الدم في القسم الأول من أقسام المعتادة والقسم الثالث بشرط ان
تراه في أيام العادة : «واما القسم المتوسط وما تراه متقدما عنها فهو كرؤية
المبتدأة والمضطربة» واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك : «هذا كلامه وهو
يقتضي ثبوت الاحتياط لذات العادة في أغلب الأحوال بناء على وجوبه في المبتدأة
لندرة الاتفاق في الوقت ، وهو مع ما فيه من الحرج مخالف لظاهر الأخبار المستفيضة
كما ستقف عليه ان شاء الله تعالى» ثم نقل عن المصنف في كتبه الثلاثة ان الذي يلوح
منه عدم وجوب الاحتياط لذات العادة مطلقا ، ثم انه (قدسسره) استظهر ان ما تجده المعتادة في أيام العادة يحكم بكونه
حيضا مطلقا وكذا المتقدم والمتأخر مع كونه بصفة الحيض ، وتبعه على ذلك جملة من
أفاضل متأخري المتأخرين كالفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره ، وحينئذ يصير هذا
قولا ثالثا في المسألة ، وقال في الروض : واعلم انه مع رؤية المعتادة الدم قبل
العادة كما هو المفروض هنا هل تترك العبادة بمجرد رؤيته أو يجب الصبر الى مضي
ثلاثة أو وصول العادة؟ يبنى على إيجاب الاحتياط بالثلاثة على
المبتدأة والمضطربة وعدمه ، فان لم نوجبه عليهما كما هو اختيار المصنف في
المختلف لم يجب عليها بطريق اولى ، وان أوجبناه كما اختاره المرتضى وابن الجنيد
والمحقق في المعتبر احتمل إلحاقها بهما ، لان تقدمه على العادة الملحقة بالأمور
الجبلية يوجب الشك في كونه حيضا فتكون فيما سبق على أيام العادة كمعتادة العدد
المضطربة الوقت ، ولظاهر قول ابي عبد الله (عليهالسلام) : «... إذا رأت المرأة الدم أيام حيضها تركت الصلاة.». إذ
الظاهر ان المراد بأيام حيضها العادة ، ومثله قوله (عليهالسلام) : «المرأة ترى الصفرة أيام حيضها لا تصلي». ويحتمل قويا
عدمه لصدق الاعتياد عليها ، ولأن العادة تتقدم وتتأخر وعموم رواية منصور بن حازم
عنه (عليهالسلام) «اي ساعة رأت الصائمة الدم تفطر.». ومثله خبر محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) «تفطر انما فطرها من الدم».
أقول : الأظهر
الاستدلال للقول الأول وهو التحيض برؤية الدم بما ورد من الاخبار دالا على تقدم
العادة وانها تتحيض برؤية الدم قبل العادة وان كان بغير صفة دم الحيض ، مثل موثقة
سماعة قال : «سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها؟ قال فلتدع الصلاة فإنه
ربما تعجل بها الوقت». وموثقة أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في المرأة ترى الصفرة؟ فقال ان كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض وان كان
بعد الحيض فليس من الحيض». ورواية علي بن محمد قال : «سئل
__________________
أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن المرأة ترى الصفرة؟ قال ما كان قبل الحيض
فهو من الحيض وما كان بعد الحيض فليس منه». ورواه الشيخ عن علي بن أبي حمزة قال سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وذكر مثله ،. وموثقة معاوية بن حكيم قال : قال : «الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من الحيض
وبعد أيام الحيض ليس من الحيض وهي في أيام الحيض حيض». وفي الفقه الرضوي «والصفرة قبل الحيض حيض وبعد أيام الحيض ليست من الحيض». ويؤيده أيضا صحيحة
العيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة ذهب طمثها سنين ثم عاد إليها شيء قال تترك
الصلاة حتى تطهر». وأيده بعضهم بلزوم الحرج والعسر في الاستظهار ، وان تقدم العادة
كثيرا غالب. واما ما ذكره (رحمهالله) من بناء الحكم في هذه المسألة على ما ذكره من الخلاف
في المبتدأة والمضطربة ففيه (أولا) ـ انك قد عرفت انه لا دليل على ما ذكروه من
وجوب الاستظهار عليها. و (ثانيا) ـ انه مع وجود الدليل فيهما فإلحاق المعتادة بهما
قياس لا يوافق قواعد مذهبنا لتغاير الفردين وتقابل القسمين. وبالجملة فالأظهر هو
القول بالتحيض بمجرد الرؤية من غير استظهار للأخبار التي ذكرناها ، ويؤيدها إطلاق
الأخبار المذكورة في كلام شيخنا المذكور. واما ما ذكره في المدارك من تقييد ذلك باتصافه
بصفات دم الحيض مستدلا على ذلك بعموم قوله (عليهالسلام) في حسنة حفص بن البختري : «... إذا كان للدم دفع وحرارة وسواد فلتدع الصلاة». ففيه
(أولا) ـ ان إطلاقها مقيد بالروايات التي ذكرناها
__________________
و (ثانيا) ـ ان دلالتها انما هو بالمفهوم وما ذكرناه من الاخبار بالمنطوق
وهو أقوى دلالة فيجب تقديم العمل به.
واما رؤية الدم
بعد العادة فالذي دلت عليه الأخبار ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى نقلها في محلها
ـ هو ان الدم متى تجاوز العادة وجب عليها الاستظهار بترك العبادة يومين أو ثلاثة
ثم تعمل عمل المستحاضة ان استمر الدم ، وحينئذ فما دلت عليه الاخبار المتقدمة من
ان الصفرة قبل الحيض حيض وبعده ليست بحيض ينبغي حملها على البعدية عن أيام
الاستظهار لدخول أيام الاستظهار في الحيض كما عرفت ، فيصدق انه بعد الحيض اي ما
حكم الشارع بكونه حيضا لا ما كان حيضا من حيث العادة. والعجب من الفاضل الخراساني
في الذخيرة فإنه قال بعد ان اختار مذهب المدارك. من تخصيص دم القبلية والبعدية
بالمتصف بصفات التمييز واستدل بدليله قال : واما ما رواه الكليني والشيخ ، ثم أورد
رواية أبي بصير ، ورواية علي بن أبي حمزة التي قدمنا نقلها عن علي بن محمد ،
وموثقة معاوية بن حكيم ثم قال : «فلا ينافي ما ذكرناه لان قوله (عليهالسلام) : «ما كان بعد الحيض فليس من الحيض» المراد به ما إذا
رأت الدم في أيام العادة وانقضت فما كان بعد ذلك بيومين ليس من الحيض ، بل لا يبعد
ان يقال تلك الأخبار مؤيدة لما ذكرناه في الجملة» انتهى.
أقول : وجه
المدافعة في هذه الاخبار لما اختاروه انما هو من حيث انهم قيدوا الدم المتقدم على
العادة بالاتصاف بصفات دم الحيض ، وهو مؤذن بان ما لم يتصف بصفات دم الحيض فلا
يحكم بكونه حيضا ، وعلى هذا فالصفرة قبل العادة ليست بحيض مع ان الاخبار المذكورة
دلت على كونها حيضا وكان الواجب عليه الجواب عن ذلك ، على ان في كلامهم أيضا
مناقشة أخرى وهو انهم قيدوا الدم المتأخر عن العادة بذلك ايضا ، ومقتضاه ان ما لم
يكن كذلك لا يحكم بكونه حيضا ، والمستفاد من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) من
غير خلاف يعرف ـ كما سيأتي ذكره في موضعه ان شاء
الله تعالى ـ ان الدم متى تجاوز العادة فإنها تستظهر بيوم أو يومين أو
ثلاثة وبعد أيام الاستظهار تعمل ما تعمله المستحاضة من غير تفصيل في الدم باتصافه
بصفات دم الاستحاضة وعدمه ، والاخبار وان اختلفت في الاستظهار وعدمه الا انه لا
تفصيل في شيء منها بين الاتصاف بذلك وعدمه فما ذكروه من هذا التفصيل في الدم
الأخير لا مستند له من الاخبار ولا من كلام الأصحاب ، وبه يظهر سقوط هذا القول
بالكلية والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف انه مع
تجاوز الدم أيام العادة فإنها تستظهر إذا كانت عادتها أقل من عشرة ثم تعمل أعمال
المستحاضة فإن انقطع الدم بعد الاستظهار أو على العاشر فالجميع حيض فتقضي الصيام
ان عملته استظهارا إلى العشرة ، وان تجاوز العشرة تحيضت بأيام عادتها خاصة وقضت ما
أخلت به أيام الاستظهار ، ولو اجتمع لها مع العادة تمييز فهل تعمل على العادة أو
التمييز أو تتخير؟ أقوال : وبيان ما اشتملت عليه يقع في مواضع :
(الأول) ـ أجمع
الأصحاب على ثبوت الاستظهار لذات العادة مع تجاوز دمها العادة إذا كانت عادتها دون
عشرة كما قدمناه ، والمراد بالاستظهار طلب ظهور الحال باستصحاب ما كانت عليه سابقا
من التحيض بعد العادة ثم الغسل بعد ذلك ، وهل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟
قولان ، نقل أولهما عن الشيخ في النهاية والجمل والمرتضى في المصباح ، والثاني
نقله في المدارك عن عامة المتأخرين ، وقال في المعتبر بعد نقل القولين المذكورين :
«والأقرب عندي انه على الجواز أو ما يغلب عند المرأة في حيضها» ويظهر من كلامه ان
هذا قول ثالث في المسألة ، وقد نقل في الذخيرة القول بالجواز ايضا قولا ثالثا
ولعله استند فيه الى عبارة المعتبر ، والظاهر ان صاحب المعتبر انما أراد بالعبارة
بذلك الاستحباب كما فهمه صاحب المدارك ، حيث نقل القول بالاستحباب عنه وعمن تأخر
عنه.
والأصل في هذا
الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن
محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) : «في الحائض إذا رأت دما بعد أيامها التي كانت ترى
الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فان صبغ القطنة دم لا
ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل».
وفي الصحيح عن
احمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحائض كم تستظهر؟ فقال : تستظهر بيوم
أو يومين أو ثلاثة».
وفي الصحيح عن
محمد بن عمرو بن سعيد عن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الطامث كم حد جلوسها؟ قال تنتظر عدة ما
كانت تحيض ثم تستظهر بثلاثة أيام ثم هي مستحاضة».
وعن زرارة في
الصحيح قال : «قلت له النفساء متى تصلي؟ قال تقعد قدر حيضها
وتستظهر بيومين فان انقطع الدم والا اغتسلت ، الى ان قال : قلت فالحائض؟ قال مثل
ذلك سواء فان انقطع عنها الدم وإلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء ثم تصلي.».
وعن سعيد بن
يسار في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة تحيض ثم تطهر فربما رأت بعد ذلك الشيء من
الدم الرقيق بعد اغتسالها من طهرها؟ قال تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم
تصلي».
وعن زرارة في
الموثق بابن بكير عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الطامث
__________________
تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة.
الحديث».
وعن سماعة في
الموثق قال : «سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها؟ قال
فلتدع الصلاة فإنه ربما تعجل بها الوقت ، فإذا كان أكثر من أيامها التي كانت تحيض
فيهن فلتتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها ، فإذا تربصت ثلاثة أيام فلم ينقطع
الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة».
وعن عبد الله
بن المغيرة عن رجل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) : «في المرأة ترى الدم؟ فقال ان كان قرؤها دون العشرة
انتظرت العشرة وان كانت أيامها عشرة لم تستظهر».
وعن داود مولى
ابي المغراء عمن أخبره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة تحيض ثم يمضي وقت طهرها وهي ترى
الدم؟ قال فقال تستظهر بيوم ان كان حيضها دون العشرة أيام فإن استمر الدم فهي
مستحاضة وان انقطع الدم اغتسلت وصلت».
وعن زرارة في
الموثق عن الباقر (عليهالسلام) قال : «المستحاضة تستظهر بيوم أو يومين».
وروى المحقق في
المعتبر عن الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن أبي أيوب الثقة عن محمد بن مسلم عن
الباقر (عليهالسلام) «في الحائض إذا رأت دما بعد أيامها التي كانت ترى الدم فيها فلتقعد عن
الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فان صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل
صلاتين بغسل ويصيب منها زوجها ان أحب وحلت لها الصلاة».
أقول : وهذه
الاخبار كلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة في القول بالوجوب لورود الأمر فيها بذلك ،
وهو حقيقة في الوجوب كما تقرر في محله.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله
__________________
(عليهالسلام) قال : «المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها ولا يقربها
بعلها فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر. الحديث». وعن
عبد الله بن سنان في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : المرأة المستحاضة التي لا تطهر قال
تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي ، الى ان قال لا بأس بأن يأتيها بعلها متى شاء إلا
أيام قرئها.».
وعن سماعة في
الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المستحاضة؟ قال فقال : تصوم شهر رمضان إلا الأيام
التي كانت تحيض فيها.».
وعن ابن ابي
يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها اغتسلت واحتشت.
الحديث».
وفي رواية يونس
الطويلة المتقدمة نقلا عنه (صلىاللهعليهوآله) «تحيضي أيام أقرائك».
وبهذه الأخبار
أخذ القائل بالاستحباب جمعا بينها وبين الاخبار المتقدمة كما هي قاعدتهم المطردة
عندهم في الجمع بين الاخبار.
وفيه نظر (أما
أولا) ـ فإنه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب وان اشتهر بين الأصحاب. و (اما ثانيا)
ـ فان الاستحباب من جملة الأحكام الشرعية المتوقف ثبوتها على الدليل كالوجوب
والتحريم ونحوهما ، ومجرد اختلاف الاخبار ليس دليلا من الأدلة المقررة لإثبات
الأحكام. و (اما ثالثا) ـ فلان حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب لا يصار اليه
إلا مع القرينة ، ووجود المعارض ليس من قرائن المجاز. قال في المدارك بعد ان نقل
القول بالاستحباب عن المعتبر ومن تأخر عنه جمعا بين الاخبار : «ويمكن الجمع بينها
بحمل اخبار الاستظهار على ما إذا كان الدم بصفة دم الحيض والاخبار المتضمنة للعدم
على ما إذا لم يكن كذلك ، قال واحتمله المصنف في المعتبر» انتهى. واعترضه في
الذخيرة
__________________
بان هذا التفصيل غير مستفاد من نص دال عليه والقول به بدون ذلك تحكم ، ورد
الحمل على الاستحباب أيضا بأن استحباب ترك العبادة لا وجه له ، والتزام وجوب
العبادة أو استحبابها على تقدير الغسل بعيد جدا ، واختار فيها حمل اخبار الاستظهار
على الجواز ، والظاهر انه يرجع الى التخيير بين الاستظهار وعدمه وإلا فالعبادة لا
تتصف بالجواز ، إلا ان جواز الاستظهار وعدمه يرجع الى جواز العبادة وعدمه وهو
باطل. وكيف كان فلا ريب في بعده. هذا. واما ما اعترض به كلام السيد في المدارك ـ من
انه تحكم إذ لا يستفاد من النصوص ـ ففيه انه لا يخفى ان الظاهر ان السيد (رحمهالله) انما قيد اخبار الاستظهار مع إطلاقها بالاتصاف بصفة دم
الحيض بناء على ما تقدم نقله عنه في سابق هذه المسألة من ان المتقدم على العادة
والمتأخر عنها يحكم بكونه حيضا بشرط اتصافه بصفة دم الحيض ، وهو قد وافق السيد على
هذه المقالة كما قدمنا نقله عنه ، ولا ريب ان ما نحن فيه أحد جزئيات تلك المسألة
فكيف يعترضه بما ذكره مع لزوم ذلك له؟
والذي يقرب
عندي في الجمع بين الاخبار المذكورة أحد وجهين : إما حمل الأخبار الأخيرة على
التقية ، ويعضده اتفاق الأصحاب على العمل بالأخبار الأولة وان اختلفوا في كونه
وجوبا أو استحبابا ، ومنشأ الاستحباب عندهم هو الجمع بين الاخبار كما عرفت ،
والعمل بالأخبار الأولة متفق عليه في الجملة ، والقول بالاقتصار على العادة من دون
استظهار مذهب الجمهور إلا مالكا على ما ذكره في المنتهى ، قال ـ بعد ان نقل عن
مالك الاستظهار بثلاثة أيام : «وخالف باقي الجمهور في الاستظهار واقتصروا على
العادة خاصة»
__________________
وإما تخصيص إطلاق أخبار الاستظهار بغير مستقيمة الحيض وتقييد الأخبار
الأخيرة بمن كانت مستقيمة الحيض لا زيادة فيها ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر
كالوقتية العددية التي لا يتقدم دمها ولا يتأخر والعددية كذلك ، وحيث ان وجود
الحيض بهذا التقييد نادر جدا ـ والأغلب مع الاعتياد هو التقدم والتأخر والزيادة
والنقصان ـ تكاثرت الاخبار بالاستظهار لها لأجل ذلك ، والمستند في هذا الجمع صحيحة
عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المستحاضة أيطأها زوجها وهل تطوف بالبيت؟ قال تقعد
قرءها الذي كانت تحيض فيه فان كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به وان كان فيه خلاف
فلتحتط بيوم أو يومين ولتغتسل. الحديث». ويشير الى ذلك ايضا قول الباقر (عليهالسلام) في رواية مالك بن أعين وقد سأله عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال : «ينظر
الأيام التي كانت تحيض فيها وحيضتها مستقيمة فلا يقربها في عدة تلك الأيام من ذلك
الشهر ويغشاها فيما سوى ذلك من الأيام ، ولا يغشاها حتى يأمرها فتغتسل ثم يغشاها
ان أراد».
ثم لا يخفى انه
على تقدير القول باستحباب الاستظهار ـ كما هو المشهور بين المتأخرين ـ فقد أورد
عليه انه متى كان الاستظهار مستحبا فإنه يجوز تركه واختيار العبادة وحينئذ يلزم
الإشكال في اتصاف العبادة بالوجوب ، إذ يجوز تركها واختيار العبادة ، وحينئذ يلزم
الإشكال في اتصاف العبادة بالوجوب ، إذ يجوز تركها لا الى بدل ولا شيء من الواجب
كذلك. وأجيب بأن العبادة واجبة مع اختيارها عدم الاستظهار
__________________
لا مطلقا ، بمعنى ان التخيير انما وقع في الاستظهار نفسه فلها ان تستظهر
نفسه ولها ان تترك الاستظهار لكنها متى اختارت ترك الاستظهار وجبت عليها الصلاة ،
فوجوب الصلاة عليها منوط باختيارها عدم الاستظهار فقط لا ان التخيير بين الفعل
والترك يتعلق بالصلاة نفسها فحينئذ لا يخرج الواجب عن الوجوب. أقول : لا يخفى ما
فيه فان التخيير في الاستظهار يوجب التخيير في العبادة فإن اختارت الاستظهار فلا
عبادة وان اختارت عدم الاستظهار وجبت العبادة ، غاية الأمر ان التخيير في العبادة
هنا وان لم يكن أولا وبالذات لكنه ثانيا وبالعرض ، فالتخيير لازم البتة وان كان
متفرعا على التخيير في الاستظهار ، فهي مخيرة حينئذ بين العبادة ان اختارت عدم
الاستظهار وبين تركها ان اختارت الاستظهار ، فقول شيخنا البهائي في الحبل المتين
بعد نقل الاستحباب عن متأخري الأصحاب : «ولا استبعاد في وجوب العبادة عليها
باختيارها عدم الاستظهار ولا يلزم جواز ترك الواجب لا الى بدل كما لا يخفى» لا
اعرف له وجها وجيها ، والظاهر انه قصد بهذا الكلام الرد على صاحب المدارك حيث قال
في هذه المسألة : «ثم ان قلنا بالاستحباب واختارت فعل العبادة ففي وصفها بالوجوب
نظر من حيث جواز تركها لا الى بدل ولا شيء من الواجب كذلك اللهم الا ان يلتزم
وجوب العبادة بمجرد الاغتسال. وفيه ما فيه» انتهى. وهو جيد ، وبذلك يظهر ترجيح
القول بالوجوب كما اخترناه زيادة على ما تقدم.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب في قدر الاستظهار واجبا كان أو مستحبا ، فقال الشيخ في النهاية تستظهر بعد
العادة بيوم أو يومين ، وهو مذهب ابن بابويه والمفيد وقال الشيخ في الجمل ان خرجت
ملوثة بالدم فهي بعد حائض تصبر حتى تنقى. وقال المرتضى تستظهر عند استمرار الدم
إلى عشرة أيام فإن استمر عملت ما تعمله المستحاضة ونقل ذلك عن ابن الجنيد ايضا ،
وقواه في الذكرى مطلقا وفي البيان مقيدا بظنها بقاء الحيض ، قال في الروض : «وكأنه
يريد به ظن الانقطاع على العشرة وإلا فمع التجاوز ترجع ذات العادة إليها وان ظنت
غيرها» واختار في المدارك التخيير بين اليوم واليومين
والثلاثة ، وهو المفهوم من الاخبار المتقدمة. واما ما في المنتهى ـ من عدم
جواز الحمل على التخيير لعدم جواز التخيير في الواجب ، ثم قال : «بل التفصيل
اعتمادا على اجتهاد المرأة في قوة المزاج وضعفه الموجبين لزيادة الحيض وقلته» ـ فالظاهر
ضعفه ، وكيف والتخيير في الواجب واقع في جملة من الأحكام ، مثل تخيير المسافر في
المواضع الأربعة والتخيير في ذكر الأخيرتين والتخيير في ذكري الركوع والسجود
وأمثال ذلك ، واما حمل الأخبار المذكورة على مزاج المرأة فبعده أظهر من ان يخفى.
واما ما نقل عن المرتضى فيدل عليه مرسلة عبد الله بن المغيرة المتقدمة وموثقة يونس بن
يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) امرأة رأت الدم في حيضها حتى جاوز وقتها متى ينبغي لها
ان تصلي؟ قال تنتظر عدتها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام فإن رأت الدم دما
صبيبا فلتغتسل في وقت كل صلاة». قال الشيخ (رحمهالله) : «معنى قوله بعشرة أيام إلى عشرة أيام وحروف الصفات
يقوم بعضها مقام بعض» وطعن فيهما في المدارك بضعف السند. وفيه ما عرفت في غير
موضع. وكيف كان فالعمل بكل ما دلت عليه الأخبار المذكورة وجه الجمع بينها. والله
العالم.
(الثالث) ـ قد
صرح الأصحاب انه ان انقطع دمها على العاشر كان ذلك كاشفا عن كون العشرة حيضا فتقضي
صوم العشرة وان كانت قد صامت بعضها ، وان تجاوز العشرة كان ذلك كاشفا عن كون
الزائد على العادة طهرا وان صومها وصلاتها بعد أيام الاستظهار كانا صحيحين ووجب
عليها قضاء ما أخلت به منهما أيام الاستظهار. ولم نقف لهم في هذا التفصيل على دليل
بل ظواهر الأخبار ترده ، وكأنهم بنوا الحكم بكون العشرة كملا حيضا لو انقطع الدم
عليها على القاعدة المشهورة بينهم بان كل ما أمكن كونه حيضا فهو حيض. وهي محل
البحث كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في محله ، مع ان الأخبار المتقدمة ظاهرة
في انه متى زاد الدم على أيام العادة فان الواجب عليها الاستظهار بالأيام المذكورة
__________________
ثمة ، ثم انها بعد الاستظهار تعمل عمل المستحاضة وتصلي وتصوم من غير فرق
بين تجاوز الدم العشرة وانقطاعه عليها أو دونها ، وما ذكروه ـ من التكليف المتفرع
على الانقطاع على العشرة وكذا التكليف المتفرع على تجاوز العشرة ـ لا مستند له ،
ويعضدها الأخبار الأخيرة الدالة على انها تعمل ما تعمل المستحاضة بعد مضي أيام
العادة من غير استظهار ، ولو كان لما ذكروه من هذا التفصيل أصل لوقعت الإشارة اليه
ولو في خبر من هذه الأخبار على كثرتها وتعددها وليس فليس ، ومما يدل على ذلك زيادة
على الأخبار المتقدمة صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف وفيها «... وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت
ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد
أيامها التي كانت تقعد في حيضها ، فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل ،
وان لم ينقطع الدم عنها إلا بعد ما تمضي الأيام التي كانت ترى فيها الدم بيوم أو
يومين فلتغتسل ثم تحتش وتستذفر وتصل الظهر والعصر. الحديث». ثم ذكر أعمال
المستحاضة الى ان قال : «وكذلك تفعل المستحاضة فإنها إذا فعلت ذلك اذهب الله تعالى
بالدم عنها». وموثقة سماعة قال : «سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل؟ قال تقعد
أيامها التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة
أيام ثم هي مستحاضة».
قال بعض فضلاء متأخري
المتأخرين ـ بعد اعترافه بان الدليل على القول المشار اليه غير صريح ـ ما صورته : «قلت
: قد يستفاد من رواية يونس عن غير واحد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) الرجوع الى العادة مع التجاوز ومع الرجوع الى العادة
يثبت ما ذكروه من الأحكام ، وهو وان كان غير صحيح الا ان الأصحاب قد أجمعوا على
العمل بمضمونه ، واما الرجوع الى العشرة مع عدم التجاوز فلما روي عنهم (عليهم
__________________
السلام) من «ان الدم في أيام الحيض حيض» . وفسره الشيخ وجماعة بما يمكن ان يكون حيضا ، ومع عدم
التجاوز الإمكان ثابت ، وبالجملة هذه الأحكام تستنبط من الروايات وان لم يكن عليها
بصراحتها رواية ، فتأمل» انتهى.
أقول : لا يخفى
ما فيه ، اما ما استند اليه من رواية يونس ففيه ان مورد الرواية من أولها إلى
آخرها وما اشتملت عليه من السنن الثلاث انما هو فيما إذا استمر الدم ودام عليها
أشهرا عديدة بل سنين عديدة ، فإن سنة ذات العادة ان تتحيض بأيام عادتها ، وسنة
المضطربة التمييز ان أمكن والا فالرجوع الى العدد المذكور فيها ، وسنة المبتدأة
العمل بالستة أو السبعة ، ومحل البحث هنا ـ كما هو مورد الأخبار المتقدمة وصريح
كلام الأصحاب ـ انما هو بالنسبة إلى أول الدم إذا تجاوز العادة ، ولهذا يفصلون بين
انقطاعه على العشرة وتجاوزه لها وان لكل منهما حكما غير الآخر ، وبذلك يظهر لك ان
ما استند اليه ليس من محل البحث في شيء. واما ما استند اليه من قولهم : «ان الدم
في أيام الحيض حيض» فالمراد بأيام الدم أيام العادة لا ما يمكن ان يكون حيضا ، فان
تفسيره بذلك تعسف محض سواء وقع من الشيخ أو غيره ، ويؤيد ما قلناه ما تقدم من
الاخبار ومثله في كلام الأصحاب «ان الصفرة في أيام الحيض حيض» . فان المراد انما هي أيام العادة كما عليه اتفاق كلمة
الأصحاب ، وبالجملة فإن كلامه في البطلان أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان.
(الرابع) ـ لو
اجتمع لها مع العادة تمييز فلا يخلو اما ان يتفقا وقتا وعددا وحينئذ فلا اشكال ،
واما ان يختلفا وحينئذ فان مضى بينهما أقل الطهر فالذي صرح به جملة من الأصحاب
انها تتحيض بهما معا لتوسط أقل الطهر بينهما ، واستشكل فيه بعض فضلاء متأخري
المتأخرين نظرا الى النصوص ، فان مقتضاها ان المستحاضة تجعل أيامها حيضا والباقي
استحاضة ، قال : «والظاهر الرجوع الى العادة» وهو جيد. ويظهر من
__________________
العلامة في النهاية التردد بين جعلهما حيضا وبين التعويل على التمييز وبين
التعويل على العادة والظاهر ضعفه لما عرفت من ان ظاهر الأخبار التعويل على العادة
مطلقا ، ومن أظهر الأخبار زيادة على ما قدمنا موثقة إسحاق بن جرير قال : «سألتني امرأة منا ان أدخلها على ابي عبد الله (عليهالسلام) فاستأذنت لها فاذن لها فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت
له : يا أبا عبد الله ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ قال : ان كان أيام
حيضها دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة. قالت : فان الدم يستمر بها
الشهر والشهرين والثلاثة فكيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل
صلاتين. قالت له : ان أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين
والثلاثة ويتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له
حرقة ودم الاستحاضة دم فاسد بارد.». ألا ترى كيف شدد عليها الرجوع الى العادة كلما
راجعته في الكلام ولم يأمرها بالرجوع الى التمييز إلا حيث أخبرته باختلاف العادة
واضطرابها ، وبالجملة فإن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدل على العموم في
المقال كما قرروه في غير موضع. وان لم يمض بينهما أقل الطهر فإن أمكن الجمع بينهما
بان لا يتجاوز المجموع العشرة فالمنقول عن غير واحد من المتأخرين انه يجمع بينهما
، وعن الشيخ فيه قولان أحدهما ترجيح التمييز والآخر ترجيح العادة ولعله الأقرب الى
الأخبار. وان لم يمكن الجمع بينهما كما إذا رأت في أيام العادة صفرة وقبلها أو
بعدها بصفة دم الحيض وتجاوز الجميع العشرة فالمشهور بين الأصحاب ـ ومنهم الشيخ في
الجمل والمبسوط وابن الجنيد والمرتضى ـ الرجوع الى العادة ، وقال الشيخ في النهاية
بالرجوع الى التمييز ، وحكى في الشرائع قولا بالتخيير ولم ينقل هذا القول في
المعتبر ولا نقله ناقل من الأصحاب كما اعترف به في المدارك ، وكيف كان فالمعتمد هو
القول الأول للأخبار الكثيرة المتقدمة ونقل في المدارك عن الشيخ انه احتج لما ذهب إليه في
النهاية بصحيحة حفص بن البختري
__________________
المتقدمة ونحوها من الأخبار الدالة على صفات دم الحيض ، ثم أجاب
بأن صفة الدم يسقط اعتبارها مع العادة لأن العادة أقوى في الدلالة ، ولما رواه
محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى الصفرة والكدرة في أيامها؟ قال لا تصل
حتى تنقضي أيامها فإن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت». أقول : قد سبقه الى
ما ذكره هنا جده (قدسسره) في الروض ، والظاهر ان وجه استدلالهما بصحيحة محمد بن مسلم
المذكورة هو انه لما كانت الصفرة والكدرة ليستا من صفات الحيض بل من صفات الطهر
فلو رجح العمل بالتمييز لحكم بالطهر بوجودهما في أيام العادة مع ان الأمر بالعكس
في الخبر ، فهو يدل على انه إذا تعارضت العادة والتمييز قدمت العادة فيجب تقديمها
في محل البحث. وهو جيد. اما ما ذكره من التعليل الأول فإنه محض مصادرة لانه عين
الدعوى ، نعم يصلح ان يكون وجها للنص المذكور وبيانا لوجه الحكمة فيما اشتمل عليه
من الحكم. والأظهر هو الاستدلال على ذلك بموثقة إسحاق بن جرير المذكورة ، حيث انه (عليهالسلام) أمرها أولا مع استمرار الدم بالجلوس أيام الحيض حصل
لها تمييز أم لم يحصل ثم بعد ان أخبرته باضطراب عادتها بالتقدم والتأخر والزيادة
والنقصان أمرها بالرجوع الى التمييز ، وعلى هذا ينبغي ان تحمل حسنة حفص ونحوها. وفي المختلف بعد ان أورد حسنة حفص المذكورة حجة
للشيخ أجاب بان ما دلت عليه حكم المضطربة والمبتدأة ، اما ذات العادة المستقرة
فممنوع. وبالجملة فروايات التمييز مطلقة وهذه الروايات مختصة بذات العادة فيجب
تخصيص اخبار التمييز بهذه الاخبار.
والمراد
بالعادة التي يجب الأخذ بها هنا ما هو أعم من العادة الحاصلة بالأخذ والانقطاع
بالنسبة إلى ذات العادة والعادة الحاصلة من التمييز بالنسبة الى ما عداها من
المبتدأة والمضطربة عند الأصحاب والمضطربة خاصة عندنا إذ لم نجد للتمييز في
المبتدأة مستندا
__________________
وعن المحقق الشيخ علي انه رجح تقديم العادة المستفادة من الأخذ والانقطاع
دون المستفادة من التمييز حذرا من لزوم زيادة الفرع على أصله ، قال في المدارك : «وهو
ضعيف» وهو كذلك. والله العالم.
(المسألة
الرابعة) ـ قد صرح الأصحاب بأن العادة كما تحصل بالأخذ والانقطاع كذا تحصل
بالتمييز ، فلو مر بها شهران قد رأت الدم فيهما بصفات دم الحيض متفقا في الوقت ثم
اختلف الدم في باقي الأشهر فإنها ترجع الى عادتها في الشهرين وتتحيض بها ولا تعتبر
باختلاف الدم لأن الأول صار عادة ، قال في المنتهى : «العادة تثبت بالتمييز فإن
رأت في الشهرين الأولين خمسة أيام دما اسود وما بينهما دما احمر ثم رأت في الثالث
وما بينهما تحيضت بالخمسة. لنا ان المبتدأة ترجع الى التمييز لما يأتي فتتحيض به
فإذا عاودها صار عادة فوجب الرجوع في الثالث اليه ولا نعرف فيه خلافا» انتهى. وما ذكره من
رجوع المبتدأة إلى التمييز قد عرفت انه لا دليل عليه وانما هو في المضطربة كما
سيأتي ان شاء الله تعالى بيانه ، وحينئذ فالعادة الحاصلة من التمييز انما هو
بالنسبة إليها حيث انها هي التي ورد في حقها العمل بالتمييز ، والوجه في حصول
العادة بذلك هو ان الشارع قد جعل التمييز ـ متى حصل ـ قرء لها تتحيض به فمتى تكرر
في الشهر الثاني وقتا وعددا فقد حصلت العادة بتقريب ما تقدم في العادة الحاصلة من
الأخذ والانقطاع ، وتدخل حينئذ تحت إطلاق تلك الأخبار مثل قوله (عليهالسلام) في موثقة سماعة المتقدمة : «إذا اتفق شهران عدة أيام سواء فتلك عادتها». وقوله (صلىاللهعليهوآله) في حديث يونس : «تحيضي أيام أقرائك». وأدناه حيضتان بالتقريب الذي
ذكره الصادق (عليهالسلام) في الخبر المشار اليه. وبالجملة فالظاهر ان الحكم لا
اشكال فيه بالنسبة الى من ورد في حقها العمل بالتمييز. واما ما ذكره الأصحاب من
التمييز في المبتدأة فقد عرفت انه لا مستند له. وما ذكروه في ذات العادة إذا استمر
بها الدم ففيه ايضا ما عرفت
__________________
في سابق هذه المسألة من انه لا دليل عليه وانما حكمها الرجوع الى العادة
اعني الأيام التي اعتادتها بالأخذ والانقطاع.
وينبغي التنبيه
على فوائد (الأولى) ـ قد صرح الأصحاب بان ما
تراه المرأة من الثلاثة إلى العشرة مما يمكن ان يكون حيضا فهو حيض تجانس أو اختلف
، قال في المعتبر :
«وهو إجماع»
وقال الشهيد الثاني : «والمراد بالإمكان هنا معناه العام وهو سلب الضرورة عن
الجانب المخالف للحكم ، فيدخل فيه ما تحقق كونه حيضا لاجتماع شرائطه ولارتفاع
موانعه كرؤية ما زاد على الثلاثة في زمن العادة الزائدة عنها بصفة دم الحيض
وانقطاعه عليها ، وما احتمله كرؤيته بعد انقطاعه على العادة ومضى أقل الطهر متقدما
على العادة فإنه يحكم بكونه حيضا لإمكانه ، ويتحقق عدم الإمكان بقصور السن عن
التسع سنين وزيادته على الخمسين أو الستين وبسبق حيض محقق لم يتخلل بينهما أقل
الطهر أو نفاس كذلك وكونها حاملا على مذهب المصنف وغير ذلك» انتهى. وظاهر المدارك
التوقف في أصل الحكم المذكور حيث قال بعد نقل ذلك عنهم : وهو مشكل جدا من حيث ترك
المعلوم ثبوته في الذمة تعويلا على مجرد الإمكان ، ثم قال : والأظهر انه انما يحكم
بكونه حيضا إذا كان بصفة دم الحيض لعموم قوله (عليهالسلام) : «إذا كان للدم دفع وحرارة وسواد فلتدع الصلاة». أو كان في
العادة لصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى الصفرة في أيامها. الحديث». وقد تقدمت
قريبا .
أقول : يمكن
الاستدلال لما ذكره الأصحاب من انه بعد تحقق الحيض فكل ما رأته المرأة في العشرة
التي مبدأها الدم الأول فهو حيض برواية يونس الدالة على عدم اعتبار التوالي في
الأيام الثلاثة التي هي أقل الحيض ، وقد تقدمت في المسألة المشار إليها ونحوها صحيحة محمد بن مسلم وموثقته المتقدمتان ثمة الدالتان على انه إذا رأت
__________________
الدم قبل إتمام العشرة فهو من الحيضة الاولى ، ونحو ذلك كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي حيث قال : «فإن رأت الدم بعد اغتسالها
من الحيض قبل استكمال عشرة أيام بيض فهو ما بقي من الحيضة الاولى ، وان رأت الدم
بعد العشرة البيض فهو ما تعجل من الحيضة الثانية». انتهى. وكان الاولى في الاستدلال لما ذكروه هو هذه الاخبار
لا التعليل بمجرد الإمكان الذي جعلوه كالقاعدة الكلية في غير مكان فإنه عليل لا
يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية حسبما أورده عليهم في المدارك. نعم يبقى الإشكال في
انه قد دلت الأخبار المتقدمة على ان ما تراه المرأة بعد أيام العادة والاستظهار أو
العادة خاصة كما في الاخبار الأخر فهو استحاضة أعم من ان ينقطع على العشرة أو
يتجاوز ، ويمكن الجمع بتخصيص عموم الاخبار المشار إليها بهذه الاخبار بان يستثني
منها حكم ذات العادة ويقال ان كل دم رأته المرأة في العشرة فهو حيض ما عدا مورد
هذه الاخبار المتعلقة بذات العادة. هذا. واما ما استظهره في المدارك من الحكم
بكونه حيضا مع الإنصاف بضفة دم الحيض فلا يتم كليا لان من فروع هذه القاعدة عندهم
من زاد دمها على العادة ثم استمر حتى انقطع على العاشر فإنهم حكموا بكون الجميع
حيضا ، اما دم العادة فظاهر واما ما زاد فبهذه القاعدة وهو انه يمكن ان يكون حيضا
فيجب ان يكون حيضا ، والمستفاد ـ كما عرفت آنفا ـ من اخبار المسألة ان ما زاد على
أيام العادة أو مع أيام الاستظهار فهو استحاضة مطلقا انقطع على العاشر أم لا بصفة
الحيض كان أم لا ، وبذلك صرح هو نفسه في الموضع الخامس من شرح قول المصنف (رحمهالله) : «الثالثة ـ إذا انقطع الدم لدون العشرة فعليها
الاستبراء» حيث قال : «والمستفاد من الاخبار ان ما بعد
أيام الاستظهار استحاضة. إلخ» واما على ما ذكرنا من الاستناد الى ما نقلناه من
الأخبار والجمع بينها بما ذكرناه فلا إشكال في المقام بتوفيق الملك العلام.
__________________
(الثانية) ـ قد
صرحوا بأنه لو رأت الدم ثلاثة ثم انقطع ورأته قبل العاشر كان الجميع من الدمين وما
بينهما من النقاء حيضا ، اما الدم الأول فلا يخلو اما ان يكون دم عادة فلا إشكال
أولا فيكون مما يمكن ان يكون حيضا ، واما الثاني فهو مما يمكن ان يكون حيضا فيجب
الحكم بكونه حيضا ، واما النقاء فلكونه أقل من عشرة فلا يمكن الحكم بكونه طهرا.
ولو تأخر بمقدار عشرة أيام ثم رأته كان الأول حيضا منفردا والثاني يمكن ان يكون
حيضا مستأنفا لمضي أقل الطهر بينهما ، قال في المدارك : «فان ثبتت الكلية المدعاة
في كلامهم تحيضت برؤيته ـ يعني الدم الثاني الذي بعد العشرة ـ وإلا وجب مراعاة
الصفات على ما تقدم من التفصيل».
أقول : اما ما
ذكروه من الحكم بكون النقاء المتوسط بين الدمين حيضا متى كان أقل من عشرة فقد تقدم
الكلام فيه ، لان كلامهم هذا مبني على قاعدة أقل الطهر عشرة مطلقا ، وهو ممنوع لما
قدمناه من انه مخصوص بالطهر المتوسط بين حيضتين ، بمعنى انه لا يحكم بتعدد الحيض
إلا بتوسط العشرة اما إذا كان في حيضة واحدة فلا مانع منه ، وعليه تدل الأخبار
المتقدمة في مسألة اشتراط توالي الثلاثة وعدمه كما أوضحناه ثمة والمستفاد منها انه متى رأت الدم المحكوم بكونه حيضا ثم
انقطع فان مضت عشرة أيام خالية من الدم ثم عاد فإنه يحكم بكونه حيضا ثانيا مع
بلوغه الثلاثة وان لم تمض العشرة فإنه من الحيضة الاولى ، وهو صريح في إبطال
كلامهم في هذه المسألة ، لان من جملة فروض المسألة ما لو تحيضت أولا بخمسة أيام ثم
انقطع الدم ثمانية أيام مثلا ثم عاد خمسة ، فمقتضى قواعدهم من البناء على قاعدة
الإمكان بتقدير إجرائه في هذا المكان لانه لا يمكن الحكم بالتحيض على ما عدا الدم
الأول فالدم الثاني عندهم استحاضة ، ولا يمكن الحكم بكونه حيضا مستقلا لعدم توسط
أقل الطهر عندهم ، ولا بانضمامه الى الدم الأول مع النقاء المتوسط للزوم الزيادة
على العشرة التي هي أكثر
__________________
الحيض ، والمفهوم من الاخبار المشار إليها ان الدم الثاني من الحيضة الأولى
، ومنه يلزم ان النقاء المتوسط طهر وإلا لزم المحذور المذكور ، ومن أظهر الروايات
الدالة على ذلك رواية الفقه الرضوي المتقدمة قريبا ، ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد
الله المتقدمة في مسألة توالي الأيام الثلاثة ونحوهما روايتا محمد بن مسلم واما ما ذكره في المدارك ـ من ان التحيض بالدم الثاني
الذي بعد العشرة مبني على الكلية المدعاة فإن ثبتت والا وجب مراعاة الصفات ـ ففيه
ان الحكم المذكور ثابت بالنصوص التي أشرنا إليها ، ولعلها مستند الأصحاب في هذه
الكلية ، الا انه لا عموم فيها على الوجه الذي يدعونه بحيث يكون حكما كليا بل يجب
الاقتصار فيها على مواردها. والله العالم.
(الثالثة) ـ قد
صرح الأصحاب بان ما تراه المرأة في أيام الحيض من الصفرة والكدرة حيض وما تراه في
أيام الطهر طهر ، وفسر في الروض أيام الحيض بما يمكن ان يكون حيضا ، قال : «والمراد
بأيام الحيض ما يحكم على الدم الواقع فيها بأنه حيض سواء كانت أيام العادة أم
غيرها فتدخل المبتدأة ومن تعقب عادتها دم بعد أقل الطهر ، وضابطه ما أمكن كونه
حيضا ، وربما فسرت بأيام العادة والنصوص دالة بعمومها على الأول» قال في المدارك
بعد ان نقل عن جده ذلك : «هذا كلامه (رحمهالله) وأقول ان هذا التفسير أولى ، إذ الظاهر اعتبار الأوصاف
في غير المعتادة مطلقا كما بيناه» أقول : أشار بقوله «هذا التفسير» الى التفسير
الأخير وهو التفسير بأيام العادة. وهو الظاهر فإنه المتبادر من النصوص بالخصوص لا
العموم كما ادعاه ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة ترى الصفرة في أيامها؟ فقال لا تصل حتى
تنقضي أيامها وان رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت».
وموثقة معاوية
بن حكيم قال قال : «الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من
__________________
الحيض وبعد أيام الحيض ليس من الحيض وفي أيام الحيض حيض». وفي مرسلة يونس
عن بعض رجاله عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «كل ما رأت المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض ، وكل ما
رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض». ورواية إسماعيل الجعفي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيام عادتها
لم تصل وان كانت صفرة بعد انقضاء أيام قرئها صلت». الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة
في المراد ، فان التعبير بأيامها في الخبر الأول انما ينصرف الى المعهود من أيام
عادتها لا ما يمكن كونه حيضا ، وقرينة التقسيم في الثانية ظاهرة في العادة ، وكذا
في الثالثة والرابعة ، وبالجملة فإن تبادر ذلك من الاخبار أظهر من ان ينكر. واما
ما ذكره في المدارك من ان الظاهر اعتبار الأوصاف في غير المعتادة مطلقا فهو على
إطلاقه ممنوع بل الأظهر الوقوف على الأخبار ان وجدت وإلا فالرجوع إلى الأوصاف كما
ذكره ، وقد قدمنا جملة من الاخبار الدالة على التحيض بما يتفق في العشرة ونحوها
الأخبار الدالة على التحيض بالدم الثاني بعد توسط أقل الطهر ، ومثل ذلك أخبار
المبتدأة فإنه قد تقدم ما يدل على تحيضها برؤية الدم مطلقا ، وهذه كلها خارجة عن
أيام العادة مع دلالة الاخبار على التحيض فيها برؤية الدم وافق دم الحيض أو خالفه.
والله العالم.
(المطلب الثالث)
ـ في المضطربة وفيه مسائل (الأولى) ـ قد اضطرب كلامهم في تفسير المضطربة ، ففسرها
في المعتبر بأنها التي لم تستقر لها عادة وجعل الناسية للعادة قسيما لها ، والذي
صرح به العلامة ومن تأخر عنه انها من استقرت لها عادة ثم اضطرب عليها الدم
ونسيتها. أقول : وهذا المعنى الثاني هو الذي صرحت به رواية يونس الطويلة المتقدمة حيث قال (عليهالسلام): «واما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط
عليها من طول الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر. الحديث». وظاهره
ان المضطربة هي ناسية الوقت والعدد ، وتعرف هذه
__________________
عند الفقهاء بالمتحيرة لتحيرها في نفسها والمحيرة للفقيه في أمرها ، وظاهر
الأصحاب رجوع المضطربة بتفسيريها الى التمييز ، وعلله في المدارك بعموم الأدلة
الدالة على ذلك ثم نقل عن بعض المحققين انه قال : وقد تقدم ان المضطربة من نسيت
عادتها اما عددا أو وقتا أو عددا ووقتا ، والحكم برجوعها الى التمييز مطلقا لا
يستقر لأن ذاكرة العدد الناسية للوقت لو عارض تمييزها عدد أيام العادة لم ترجع الى
التمييز بناء على ترجيح العادة على التمييز ، وكذا القول في ذاكرة الوقت ناسية
العدد ، ويمكن الاعتذار عنه بان المراد برجوعها الى التمييز ما إذا طابق تمييزها العادة
بدليل ما ذكره من ترجيح العادة على التمييز. هذا كلامه (رحمهالله) ثم قال : «ولا يخفى انه على هذا الاعتذار لا يظهر
لاعتبار التمييز فائدة ، ويمكن ان يقال باعتبار التمييز في الطرف المنسي خاصة أو
تخصيص المضطربة بالناسية للوقت والعدد» انتهى.
أقول : لا يخفى
انه لم يرد في الاخبار ما يدل على معنى المضطربة وحكمها من الرجوع الى التمييز إلا
رواية يونس المشار إليها وقد عرفت ان الذي تضمنته انما هو ناسية الوقت والعدد
خاصة ، واما من لم تستقر لها عادة ـ كما فسرها به في المعتبر أو ناسية العدد خاصة
كما ذكره المحقق المشار اليه ـ فلا اعرف له مستندا ، ومنه يظهر عدم ورود ما أورده
من الإشكال الذي تكلف الجواب عنه. ويمكن استفادة المضطربة بالمعنى الذي ذكره
المحقق المشار اليه وهي الناسية للعدد خاصة أو الوقت خاصة بما ورد في رواية إسحاق
بن جرير حيث قال فيها : «قالت فان الدم يستمر بها الشهر
والشهرين والثلاثة فكيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين.
قالت له ان أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين والثلاثة
ويتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال : دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له حرقة
ودم الاستحاضة
__________________
دم فاسد بارد. الحديث». والتقريب فيه انه إذا كان الاضطراب يحصل بالتقدم
والتأخر على الوجه المذكور فلان يحصل بنسيان العدد أو الوقت بطريق اولى. وفيه ما
فيه ، على انه يحتمل ان يكون المعنى في الخبر المذكور انه تنظر الى هذا الدم الذي
يأتيها في أيام العادة مع ما هي عليه من التقدم والتأخر على الوجه المذكور فتجعل
ما تجده بصفة الحيض حيضا وما كان بصفة الاستحاضة استحاضة ، وبذلك يظهر انه لا يكون
حكما كليا كما هو المدعى. والتحقيق انه ان عارض التمييز العادة فالترجيح للعادة
لما عرفت فيما تقدم ، وإلا فإن وجد في الأخبار ما يدل على التحيض بذلك الدم مطلقا
فالواجب الأخذ به والا فالعمل على التمييز ، إذ الظاهر من اخبار التمييز هو الرجوع
إليه في مقام اشتباه الدم ، ففي صحيحة حفص بن البختري قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري حيض
هو أو غيره؟ قال فقال لها : ان دم الحيض حار عبيط اسود له دفع وحرارة ودم
الاستحاضة اصفر بارد فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة.». وحينئذ فيجب
الرجوع الى التمييز في جميع أقسام المضطربة ما لم تعارضه ثمة عادة ، هذا بالنسبة
إلى العادة العددية الوقتية ، اما العددية خاصة فلو عارضها التمييز كان تكون
عادتها خمسة مثلا ورأت الدم بصفات دم الحيض أقل أو أكثر منها فظاهر إطلاق كلام
الأصحاب هو الرجوع الى التمييز حيث انهم أطلقوا رجوع المضطربة بجميع أقسامها إلى
التمييز ، واحتمال الرجوع الى العادة قوى ، والأحوط هنا الجمع بينهما بجعل الجميع
حيضا وقضاء عبادات ما زاد أو نقص عن أيام العادة ، واما الوقتية فمتى عارضها
التمييز فالظاهر رجحان العادة ، فلو رأت في ذلك الوقت ما هو بصفة دم الاستحاضة وفي
غيره ما هو بصفة دم الحيض فالأقرب تحيضها بما رأته في الوقت المذكور لقوة دلالة
الوقت وعموم الأخبار الدالة على ان الصفرة والكدرة في وقت
__________________
الحيض حيض . والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ قد تقدم ان ظاهر كلام الأصحاب انه يجب الاستظهار على المبتدأة
والمضطربة بان تتعبد في أول الدم ثلاثة أيام ليتحقق كونه حيضا ، وقد عرفت انه في
المبتدأة لا دليل عليه بل الدليل واضح في خلافه ، وكذا هنا ، قال في المدارك ـ بعد
ان نقل عن المصنف وجوب الاحتياط على المضطربة بأقسامها الثلاثة المتقدمة ـ ما لفظه
: «والحكم بوجوب الاحتياط عليها انما يتم في ناسية الوقت اما ذاكرته فإنها تتحيض
برؤية الدم قطعا ، وقد تقدم ان الأظهر تحيض الجميع برؤية الدم إذا كان بصفة دم
الحيض» أقول : اما ما ذكره ـ من تحيض ذاكرة الوقت بمجرد رؤية الدم ـ فلا اشكال فيه
، واما ما ذكره ـ من ان الأظهر كما تقدم تحيض الجميع برؤية الدم إذا كان بصفة دم
الحيض إشارة الى ما قدمه في المبتدأة ـ فقد عرفت ما فيه ثمة ، الا ان الحكم في
المضطربة لما كان هو الرجوع الى التمييز الذي هو الأخذ بصفات دم الحيض فإنه يختص
التحيض بما إذا كان الدم بصفة دم الحيض البتة ، واما ما ذكره الأصحاب من الاحتياط
بان لا تترك العبادة ثلاثة أيام فإن أرادوا به الاحتياط في صورة كون الدم بصفة دم
الحيض فهو خلاف النص الذي هو رواية يونس المتقدمة فإنه قد تكرر فيها الأمر بالتحيض بصفات الدم كقوله (صلىاللهعليهوآله): «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي
عنك الدم وصلي». وقول الباقر (عليهالسلام): «إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة وإذا رأيت الطهر
ولو ساعة من نهار فاغتسلي». وان أرادوا به الاحتياط في غير الصورة المذكورة فهو
ليس باحتياط بل هو الحكم الشرعي في ذلك ، فإنها مع عدم اتصاف الدم بصفات دم الحيض
فالحكم الشرعي فيها وجوب العبادة عليها كما عرفت من قوله (صلىاللهعليهوآله) : «وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» والمراد بإقبال
الدم وإدباره هو الاتصاف بصفات دم الحيض وعدمه ، ونحوه قول الباقر
__________________
(عليهالسلام) : «وإذا رأيت الطهر ساعة» يعني ما ليس بصفة دم الحيض ،
وبالجملة فإني لا اعرف لهذا الاحتياط هنا محلا ولا دليلا.
(المسألة
الثالثة) ـ قد صرح الأصحاب بأن المضطربة متى فقدت التمييز فلا يخلو اما ان تكون
ناسية الوقت والعدد معا أو ناسية للوقت خاصة ذاكرة للعدد أو بالعكس فههنا صور ثلاث
:
(الأولى) ـ ناسية
الوقت والعدد وهي المشهورة بالمتحيرة كما تقدم ، قيل بأنها ترجع الى الروايات بان
تتحيض في كل شهر بستة أيام أو سبعة أو عشرة من شهر وثلاثة من آخر ، ومتى اختارت
عددا جاز لها وضعه في أي موضع شاءت لعدم الترجيح في حقها ولا اعتراض للزوج ، وهل
يجب في الشهر الثاني وما بعده المطابقة في الوقت لما عليه في الأول أو يكون
التخيير باقيا وكذا التخيير في الأعداد؟ احتمالان ، وهذا هو المشهور عندهم بل نقل
عليه الشيخ في الخلاف الإجماع ، مع انه في المبسوط افتى بوجوب الاحتياط عليها بان
تعمل في الزمان كله ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل للحيض في كل وقت يحتمل انقطاع
الدم فيه وهو بعد الثلاثة لكل صلاة ، لاحتمال انقطاع الدم عنها إذ ما من زمان بعد
الثلاثة الا ويحتمل الحيض والطهر والانقطاع ، وتقضي صوم عادتها وأوجب عليها اجتناب
ما تجنبه الحائض ، وجعل العلامة في القواعد هذا القول أحوط. وقال الشيخ في الجمل
ترجع الى التمييز فان فقدته تركت الصلاة في كل شهر سبعة أيام. وقال في النهاية : «فإن
كانت المرأة لها عادة الا انه اختلطت عليها العادة واضطربت وتغيرت عن أوقاتها
وأزمانها فكلما رأت الدم تركت الصوم والصلاة وكلما طهرت صلت وصامت الى ان ترجع الى
حال الصحة. وقد روى انها تفعل ذلك ما بينها وبين شهر ثم تفعل ما تفعله المستحاضة»
وقريب منه كلام الصدوق في الفقيه ، وقال أبو الصلاح انها ترجع إلى عادة نسائها فان
لم يكن لها نساء تعرف عادتهن اعتبرت صفة الدم ، فان كان الدم بصفة واحدة تحيضت في
كل شهر سبعة أيام ، قال في المختلف : «وهذا القول مخالف للمشهور في
أمرين : (الأول) ـ انه جعل للمضطربة رجوعا إلى نسائها والمشهور ان ذلك
للمبتدأة خاصة (الثاني) ـ انه جعل التمييز مرجوعا اليه بعد فقد النساء» وقال ابن
إدريس : إذا فقدت التمييز كان فيها الأقوال الثلاثة المذكورة في المبتدأة ، وكان
قد ذكر في المبتدأة ستة أقوال : (الأول) ـ انها تتحيض في الشهر الأول بثلاثة أيام
وفي الثاني بعشرة. (الثاني) ـ عكسه (الثالث) ـ سبعة أيام (الرابع) ـ ستة أيام (الخامس)
ـ ثلاثة أيام في كل شهر (السادس) ـ عشرة في كل شهر. ورجح المحقق في المعتبر انها
تتحيض بثلاثة أيام وتصلي وتصوم بقية الشهر استظهارا وعملا بالأصل في لزوم العبادة.
قال في المدارك بعد نقله عنه : «وهو متجه» هذا ما وقفت عليه من أقوالهم في هذه
المسألة. والذي وقفت عليه من الاخبار في هذه المسألة رواية يونس المتقدمة وقد تضمنت انها مع فقد التمييز تتحيض بسبعة أيام حيث
قال (عليهالسلام) في آخر الرواية بعد الأمر بالعمل بالتمييز والأخذ
بإقبال الدم وإدباره : «فان لم يكن الأمر كذلك ولكن الدم أطبق عليها فلم تزل
الاستحاضة دارة وكان الدم على لون واحد وحالة واحدة فسنتها السبع والثلاث
والعشرون. الحديث». ومن ذلك يظهر قوة ما ذهب إليه في الجمل لدلالة هذا الخبر عليه.
واما القول المشهور فهو مبني على الاستدلال بموثقتي ابن بكير وموثقة سماعة
المتقدمات في بحث المبتدأة وموردها انما هو المبتدأة كما عرفت فالاستدلال بها هنا
لا اعرف له وجها ، والعجب من غفلة الجميع عن ذلك ولا سيما متأخري المتأخرين الذين
عادتهم المناقشة في الأدلة كصاحب المدارك ونحوه. واما قول الشيخ في النهاية ونحوه
الصدوق فمستنده موثقتا يونس بن يعقوب وابي بصير المتقدمتان في الموضع الأول من
المقام الثاني من المطلب الأول في المبتدأة من المقصد الثاني بحمل الروايتين على من اختلط دمها كما عبر به في
النهاية ونحوه في الاستبصار كما تقدم ثمة. وفيه ان الظاهر ان الحكم المذكور كلي في
جميع أفراد المضطربة والخبران لا يساعدان
__________________
عليه لتخصيصهما ذلك بالشهر أو الثلاثين يوما ثم تعمل عمل المستحاضة ،
وبالجملة فالظاهر هو القول بهما والوقوف على موردهما كما يشعر به كلام الصدوق وان
كان ظاهر عبارة الفقيه كونه حكما كليا حيث أوجب عليها ذلك الى ان ترجع الى حال
الصحة ، فإنه لا دليل عليه في المقام سوى الخبرين المذكورين وهما قاصران عن
الدلالة على ما ادعاه. واما ما ذهب إليه أبو الصلاح من التحيض بسبعة بعد فقد
التمييز فهو جيد لما عرفت من الدليل وان كان ما ادعاه من الرجوع الى نسائها أولا
لا دليل عليه. واما ما ذكره ابن إدريس فقد عرفت ما فيه مما أوردناه على القول
المشهور. واما ما ذكره المحقق فقد تقدم الكلام فيه وأوضحنا ما يكشف عن ضعف باطنه
وخافية في بحث المبتدأة في الموضع الثالث من المقام الثاني من المطلب الأول في
المبتدأة من المقصد الثاني. واما ما ذكره الشيخ من الاحتياط المذكور فقد رده جملة
من الأصحاب باستلزامه الحرج المنفي في الآية والاخبار ، قال في الذكرى : «والقول
بالاحتياط عسر منفي بالآية والرواية» وقال في البيان : «الاحتياط هنا بالرد الى
أسوأ الاحتمالات ليس مذهبا لنا» وفيه إشارة إلى كونه قولا للعامة ، وهو كذلك فإنه
نقله في المنتهى عن الشافعي ، وبالجملة فهو قول لا دليل عليه بل الدليل ظاهر في
خلافه كما عرفت. وبالجملة فالظاهر عندي في المسألة هو ما ذهب اليه الشيخ في الجمل
لما عرفت. والله العالم.
(الثانية) ـ ناسية
الوقت ذاكرة العدد ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انها تعمل على العدد
المذكور وتتخير في وضعه في أي موضع أرادت من الشهر ، وعن المبسوط انها تعمل
بالاحتياط المتقدم ، واختاره العلامة في الإرشاد ونسبه في الشرائع إلى القيل
واقتصر عليه ، ومثله في المعتبر حيث نقل ذلك عن الشيخ واقتصر عليه ، وهو مؤذن
باختياره ، وقال في الروض : «ويتفرع على هذا القول فروع جليلة ومسائل مشكلة» ثم
انه ينبغي ان يعلم ان موضع الخلاف هنا ما إذا لم يحصل لها وقت معلوم في الجملة
بحيث يتحقق فيه الحيض كما لو لم تعرف قدر الدور وابتداءه فإنها لا تخرج
عن المتحيرة إلا في نقصان العدد التي حفظته أو زيادته عما في الروايات ،
كما لو قالت كان حيضي سبعة لكن لا أعلم في كم أضللتها ، أو قالت مع ذلك دوري
ثلاثون ولكن لا اعلم ابتداءه ، أو قالت دوري يبتدئ يوم كذا ولكن لا اعرف قدره ،
ففي هذه الصور ترجع الى الروايات على المشهور لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في
كل وقت ، أو تعمل بالاحتياط في كل الزمان عند من ذهب اليه ، وان حفظت قدر الدور
وابتداءه مع العدد كما لو قالت حيضي سبعة في كل شهر هلالي فقدر العدد من اوله لا
يحتمل الانقطاع وانما يحتمل الحيض والطهر وبعده يحتمل الثلاثة إلى آخر الدوران كان
الإضلال فيه اجمع ، وان تيقنت سلامة بعضه كالعشرة الأخيرة من الشهر ـ مثلا ـ حكمت
بكونه طهرا ، والحكم حينئذ في العشرين الباقية انها تتحيض بالعدد المذكور وتتخير
في وضعه بين الأيام التي أضلت فيها وتجعل الدور استحاضة ، أو تعمل بالاحتياط عند
من ذهب إليه في جميع أوقات الإضلال ، وهو ان تغتسل للحيض في كل وقت يحتمل الانقطاع
وهو ما زاد على العدد من أول الدور لعدم إمكان الانقطاع قبل انقضائه وهكذا ما بعده
من الأوقات التي يحتمل فيها الانقطاع ، تغتسل لكل عبادة مشروطة به ، وتترك تروك
الحائض ، ولزمها مع ذلك تكليف المنقطعة من العبادات والأغسال أو الوضوءات ، وتقضي
صوم عادتها خاصة وهو العدد الذي حفظته ان علمت عدم الكسر والا لزمها قضاء يوم آخر
، وبالجملة فإن الاحتياط على القول به وعدم تحقق الحيض انما يكون فيما إذا لم يحصل
لها وقت معلوم في الجملة بأن تضل العدد في وقت يزيد نصفه عن ذلك العدد أو يساويه ،
كما لو أضلت خمسة أو أربعة في عشرة فإنها لا حيض لها متيقن لمساواة العدد لنصف
الزمان ونقصانه ، اما لو زاد العدد على نصف الزمان كما إذا أضلت سبعة في عشرة فإنه
يتعين كون الزائد وضعفه حيضا بيقين وهو السادس والخامس لاندراجهما بتقدير تقدم
الحيض وتأخره وتوسطه ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس الى تمام العشرة ، فعلى العمل
بالمشهور تضم الى هذين اليومين بقية العدد المذكور متقدما
أو متأخرا أو بالتفريق ، وعلى العمل بالاحتياط تجمع في الأربعة الأولى بين
أفعال المستحاضة وتروك الحائض وفي الأربعة الأخيرة تزيد على ذلك غسل الانقطاع عند
كل صلاة ، ولو أضلت خمسة في التسعة الأولى فالخامس خاصة حيض لان العدد يزيد عن نصف
الوقت الذي وقع فيه الضلال بنصف يوم فهو مع ضعفه يوم كامل حيض ، ولو أضلت سبعة في
العشرة فالمتحقق حيضا أربعة وهو الرابع والسابع وما بينهما ، والحكم في ذلك بناء
على القولين ما تقدم في مسألة إضلال الستة في العشرة ، ومن هنا يعلم أحكام مسائل
المزج المشهورة في كلامهم وأمثلتها كثيرة ، ولنذكر منها مثالين للتدرب بهما في
تحصيل نظائرهما (فمنها) ـ ما لو قالت حيضي ستة وكنت أمزج أحد نصفي الشهر بالآخر
بيوم ، فهذه أضلت ستة في العشرة الأواسط فلها يومان حيض متيقن وهما الخامس عشر
والسادس عشر والعشرة الأولى من الشهر طهر بيقين ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس
عشر الى العشرين ، والعمل في الأربعة المتقدمة والمتأخرة كما تقدم. و (منها) ـ ما
لو قالت حيضي عشرة وكنت أمزج أحد نصفي الشهر بالآخر بيوم فقد اضلتها في ثمانية عشر
، فالزائد من العشرة عن نصفها وهو يوم وضعفه حيض في وسط وقت الضلال وهو ما بين
السادس والخامس والعشرين ، والخامس عشر والسادس عشر حيض متيقن كما ان الستة الاولى
من الشهر والستة الأخيرة طهر متيقن ، ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس عشر الى
الرابع والعشرين ، فعلى الاحتياط تغتسل عليها للحيض وتجمع في الثمانية السابقة على
اليومين والثمانية اللاحقة بين أفعال المستحاضة وتروك الحائض ، وعلى المشهور تضم
اي الثمانيتين شاءت الى اليومين ، وعلى ذلك فقس.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المسألة المذكورة لما كانت عارية من النصوص على العموم والخصوص فالواجب
فيها الرجوع الى الاحتياط كما أمروا به (عليهمالسلام) في مقام اشتباه الأحكام ، اما لعدم الدليل أو لاشتباهه
وعدم ظهور المعنى المراد منه ، وبذلك يظهر قوة ما ذهب اليه الشيخ (رحمهالله) هنا ، وما رده به بعض الأصحاب من لزوم
العسر والحرج غير مسموع في مقابلة النصوص الدالة على وجوبه في مثل ذلك ،
ولو لا ان الدليل في الصورة الأولى موجود لما كان عن القول بالاحتياط فيها ايضا
معدل.
(الثالثة) ـ ذاكرة
الوقت ناسية العدد ، وهذه لا تخلو اما ان تذكر أول الوقت أو آخره أو وسطه أو شيئا
منه في الجملة ، فههنا ايضا صور أربع :
(الاولى) ـ ان
تذكر اوله وحينئذ فيجب أن تكمله بيومين لتبين كون الجميع حيضا ويبقى الزائد عنها
الى تمام العشرة محل شك واشكال لاحتمال الطهر والحيض فيها ، فيحتمل ان تجعل طهرا
بناء على ان تلك الثلاثة هي وظيفة الشهر والحيض المتيقن ، واختاره الشهيد في
البيان ، ونقله في المدارك عن المعتبر واستحسنه جريا على ما قدمنا نقله عنه سابقا.
وفيه ما عرفت ثمة. وقيل ـ وهو المشهور ـ ترجع الى الروايات بان تجعل حيضها عشرة أو
ستة أو سبعة فتضم إلى الثلاثة ما تكمل بما تختاره منها ، لصدق النسيان الموجب
للحكم في حديث السنن وتجعل الباقي استحاضة ، ونقله في الروض عن الشهيد ايضا.
وفيه ان ظاهر مورد حديث السنن انما هو ناسية الوقت والعدد معا كما قدمنا ذكره لا
ناسية أحدهما ، حيث قال فيه : «واما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط
عليها من طول الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر ، ثم قال (عليهالسلام) بعد كلام في البين : فهذا يبين ان هذه امرأة قد اختلط
عليها أيامها لم تعرف عددها ولا وقتها. الحديث» وحينئذ فلا دلالة في الخبر على هذه
الصورة كما لا دلالة فيه على سابقتها. وقيل بالعمل بالاحتياط كما ذكره الشيخ ومن
تبعه بالجمع بين التكاليف الثلاثة : الحيض والاستحاضة والانقطاع ، فتغتسل للانقطاع
بعد الثلاثة وعند كل صلاة أو غاية مشروطة بالطهارة ، وحينئذ ان قلنا بالتداخل بين
الأغسال ـ كما هو الحق في المسألة ـ يجب عليها للصلوات الخمس خمسة أغسال ، وان
قلنا بعدم التداخل يجب عليها للصلوات الخمس ثمانية أغسال مع كثرة الدم ، خمسة
للانقطاع وثلاثة للاستحاضة.
__________________
(الثانية) ـ ان
تذكر آخره فيكون نهاية الثلاثة فتجعلها حيضا بيقين ، والكلام في السبعة المتقدمة
حسبما تقدم ، الا انه لا مجال هنا لإمكان الانقطاع فتقتصر على أفعال المستحاضة
وتروك الحائض ، وغسل الانقطاع انما يكون بعد الثلاثة المتيقنة.
(الثالثة) ـ ان
تذكر وسطه خاصة بالمعنى المعروف لغة وهو ما بين الطرفين ومرجعه الى ان تعرف كونه
في أثناء الحيض ، فان ذكرت يوما واحدا حفته بيومين حيضا محققا وضمت إلى الثلاثة ما
يكمل باختيارها من الروايات ـ على القول بالرجوع الى الروايات ـ قبل المتيقن أو
بعده أو بالتفريق ، وان ذكرت يومين حفتهما بيومين آخرين فيتحقق لها أربعة أيام
حيضا محققا وتضم إليها تمام الرواية التي تختارها ، وعلى القول بالاحتياط تكمل ما
تحققته عشرة قبله أو بعده أو بالتفريق وتعمل في الزائد على ما تحققته بالتكاليف
الثلاثة متى كان متأخرا عما تحققته والا بما عدا الانقطاع لو كان متقدما ، ولو
ذكرت الوسط بالمعنى الحقيقي أعني المحفوف بمتساويين ، فان كان يوما فالحكم فيه ما
تقدم في اليوم من الوسط بالمعنى الأول ، الا انها هنا على تقدير العمل بالروايات
لا تختار من الروايات زوجا كالستة لعدم تحقق الحافتين بل اما تأخذ سبعة أو ثلاثة ،
وعلى تقدير القول بالاحتياط تضم إلى الثلاثة المتيقنة ثلاثة أخرى قبلها وثلاثة
أخرى بعدها وتكتفي بالتسعة للعلم بانتفاء العاشر حينئذ.
(الرابعة) ـ ان
تذكر شيئا منه في الجملة فهو الحيض المتيقن ، فعلى القول بالرجوع الى الروايات ان
ساوى إحداها أو زاد اقتصرت عليه حسبما يتصور وان قصر عنها أكملته بإحداها قبله أو
بعده أو بالتفريق ، وعلى القول بالاحتياط تكمله عشرة أو تجعله نهاية عشرة. إذا
عرفت ذلك فاعلم ان الواجب في هذه الصورة بمقتضى ما قدمناه من عدم وجود النص ووجوب
العمل بالاحتياط في أمثال ذلك هو العمل بالاحتياط الذي ذكره الشيخ فيما زاد على
المتيقن من الفروض المذكورة. والله العالم.
(المقصد الثالث)
ـ في الأحكام وفيه أيضا مسائل (الأولى) المشهور بين الأصحاب جواز وطء الحائض بعد
انقطاع الدم قبل الغسل على كراهية ، ونقلوا عن الصدوق في الفقيه القول بالتحريم ،
واعترضهم جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ بل ربما كان أولهم ـ صاحب المدارك
وتبعه من تبعه بان كلامه في الفقيه غير ظاهر في التحريم لتصريحه بجواز مجامعتها لو
كان الزوج شبقا. أقول وعبارة الفقيه هكذا : «ولا يجوز مجامعة المرأة في حيضها لان
الله عزوجل نهى عن ذلك فقال : «... وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى
يَطْهُرْنَ ...» يعني بذلك الغسل من الحيض ، فان كان الرجل شبقا وقد
طهرت المرأة وأراد ان يجامعها قبل الغسل أمرها ان تغسل فرجها ثم يجامعها» انتهى.
ومن نقل عنه القول بالتحريم استند الى صدر عبارته الدال على ان الله سبحانه نهى عن
ذلك حتى تغتسل ، ولا ريب ان هذا الكلام صريح فيما ذكروه ونسبوه اليه من القول
بالتحريم ، ومن نقل عنه القول بالجواز استند الى قوله : «فان كان الرجل شبقا. إلخ»
وأنت خبير بان المفهوم من هذه العبارة انه يرى التحريم كما هو صريح صدر عبارته
ولكنه يستثني هذا الفرد للأخبار الدالة عليه فكأنه يخصص عموم الآية بالأخبار المذكورة ولو لا ذلك
لكان التدافع في كلامه أظهر ظاهر ، فان صدر كلامه ظاهر في التحريم حتى تغتسل عملا
بظاهر الآية التي استند إليها وهي قراءة «يطهرن» بالتشديد ، إذ المراد بالطهارة
الغسل البتة ، وبالجملة فالظاهر عندي هو صحة ما نسبوه اليه من القول بالتحريم وان
استثنى منه هذا الفرد بخصوصه.
والواجب أولا
تحقيق الكلام في معنى الآية ثم العطف على الأخبار الواردة في المسألة ، فنقول : قد
استدل على القول المشهور بقراءة السبعة : «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ» بالتخفيف اي يخرجن من الحيض ، يقال طهرت المرأة إذا
انقطع حيضها ، فجعل سبحانه
__________________
غاية التحريم انقطاع الدم فيثبت الحل بعده عملا بمفهوم الغاية ، لأن الحق
انه حجة بل صرح الأصوليون بأنه أقوى من مفهوم الشرط ، قالوا : ولا ينافي ذلك قراءة
التشديد (أما أولا) ـ فلان «تفعل» قد جاء في كلامهم بمعنى «فعل» كقولهم تبين وتبسم
وتطعم بمعنى بان وبسم وطعم ، قيل ومن هذا الباب المتكبر في أسماء الله تعالى بمعنى
الكبير ، وإذا ثبت إطلاق هذه البنية على هذا المعنى كان الحمل عليه اولى صونا
للقراءتين عن التنافي. و (اما ثانيا) ـ فلا مكان حمل النهي في هذه القراءة على
الكراهة توفيقا بين القراءتين وكون النهي عن المباشرة بعد انقطاع الدم لسبق العلم
بتحريمها حالة الحيض من صدر الآية أعني قوله تعالى : «... فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ
...» هكذا قرره في المدارك. وفيه (أولا) ـ ان مدار الاستدلال
على حجية مفهوم الغاية كما ذكره ، وهو وان سجل على حجيته بما ذكره الا انه غير
ظاهر عندي لما قدمناه في مقدمات الكتاب من انه لم يقم دليل شرعي على حجية شيء من
المفاهيم المذكورة سوى مفهوم الشرط كما تقدم ، والتعويل على مجرد ما يذكر في
الأصول من الدعاوي التي يزعمونها أدلة غير ثابت عندي ، بل المدار عندي في
الاستدلال انما هو على الكتاب والسنة وهما الثقلان اللذان أمر (صلىاللهعليهوآله) بالتمسك بهما بعده. و (ثانيا) ـ فان ما ادعاه ـ من ان «يطهرن»
بالتخفيف اي يخرجن من الحيض ـ مبني على تفسير الطهارة بالمعنى اللغوي ، ولم لا
يجوز الحمل على المعنى الشرعي؟ سيما مع القول بالحقائق الشرعية لا بد لنفيه من
دليل. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره من حمل صيغة «تَطَهَّرْنَ» بالتشديد على «طهرن» مجاز لا يصار اليه مع إمكان الحمل
على الحقيقة ، وما ادعاه ـ من ان الحمل عليه اولى لصون القراءتين عن التنافي ـ مردود
بأنه يمكن دفع التنافي بحمل الطهارة في قراءة التخفيف على المعنى الشرعي فتجتمع مع
قراءة التشديد الصريحة في المعنى الشرعي. و (رابعا) ـ ان التعارض انما وقع بين
مفهوم الغاية على تقدير قراءة التخفيف وبين
__________________
منطوق قراءة التشديد ، ومع تسليم حجية المفهوم المذكور في حد ذاته فترجيحه
على المنطوق ممنوع بل حجية المنطوق أقوى ، ويؤيده أيضا مفهوم الشرط في قوله سبحانه
: «...
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ...» فإن الأمر للإباحة ومفهومه ان قبل التطهر غير مباح
إتيانهن وكذا قوله في آخر الآية : «... إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» فان هذه المحبة إنما تترتب على من فعل الطهارة واتى
بها التي هي عبارة عن الغسل لا على من حصلت له قهرا بانقطاع الدم.
وكيف كان
فالاستناد الى الآية المذكورة مما لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت من تعدد
الاحتمال فلم يبق الا الرجوع الى الاخبار :
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) : «في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها؟ قال
إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغسل فرجها ثم يمسها ان شاء قبل ان تغتسل».
وما رواه الشيخ
في الموثق عن علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحائض ترى الطهر أيقع عليها زوجها قبل
ان تغتسل؟ قال لا بأس وبعد الغسل أحب الي».
وفي الموثق عن
عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا انقطع الدم ولم تغتسل فليأتها زوجها ان شاء».
وعن عبد الله
بن المغيرة عمن سمعه عن العبد الصالح (عليهالسلام) «في المرأة إذا طهرت من الحيض ولم تمس الماء فلا يقع عليها زوجها حتى تغتسل
وان فعل فلا بأس به ، وقال تمس الماء أحب الي».
أقول : وبهذه
الأخبار أخذ من قال بالقول المشهور.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام)
__________________
قال : «سألته عن امرأة كانت طامثا فرأت الطهر أيقع عليها زوجها قبل ان
تغتسل؟ قال : لا حتى تغتسل. قال : وسألته عن امرأة حاضت في السفر ثم طهرت فلم تجد
ماء يوما أو اثنين أيحل لزوجها ان يجامعها قبل ان تغتسل؟ قال : لا يصلح حتى تغتسل».
وفي الموثق عن
ابان بن عثمان عن عبد الرحمن قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة حاضت ثم طهرت في سفر فلم تجد الماء يومين أو
ثلاثة هل لزوجها ان يقع عليها؟ قال لا يصلح لزوجها ان يقع عليها حتى تغتسل».
وعن سعيد بن
يسار في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له المرأة تحرم عليها الصلاة ثم تطهر فتتوضأ
من غير ان تغتسل أفلزوجها أن يأتيها قبل ان تغتسل؟ قال : لا حتى تغتسل».
وهذه الاخبار
مما دل بظاهرها على التحريم قبل الغسل والأصحاب قد حملوها على الكراهة جمعا بين
الاخبار. أقول : لا إشكال في الحكم بالكراهة لدلالة الأخبار المتقدمة عليها ،
والأظهر عندي في هذه الاخبار الحمل على التقية فإن جل العامة على التحريم في هذه
المسألة ونقله في المنتهى عن الشافعي والزهري وربيعة ومالك
والليث والثوري واحمد وإسحاق وابي ثور ، ونقل عن أبي حنيفة انه ان انقطع الدم
لأكثر الحيض حل وطؤها وان انقطع لدون ذلك لم يبح حتى تغتسل أو تتيمم أو يمضي عليها
وقت الصلاة .
أقول : ومن
اخبار المسألة ما رواه في الكافي عن ابي عبيدة قال : «سألت
__________________
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر في السفر وليس معها من
الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ فقال : إذا كان معها بقدر ما تغسل به
فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي. قلت : فيأتيها زوجها في تلك الحال؟ قال : نعم إذا
غسلت فرجها وتيممت فلا بأس».
وعن عمار
الساباطي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة إذا تيممت من الحيض هل تحل
لزوجها؟ قال : نعم».
وربما يفهم من
هذين الخبرين توقف الحل متى تعذر الغسل على التيمم بل وغسل الفرج ، وفي المعتبر ان
ظاهر بعض عباراتهم وجوب غسل الفرج. أقول : لا يبعد حمل توقف الحل على التيمم في
هذين الخبرين على التقية لموافقته لمذهب أبي حنيفة كما قدمنا نقله والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب انه متى حاضت وقد مضى من الوقت ما يسع الطهارة
والصلاتين معا ولم تصلهما وجب عليها قضاؤهما بعد الطهر ولو لم يسع إلا الاولى ولم
تصلها وجب قضاؤها خاصة ، وكذا المشهور ـ بل ادعى عليه الإجماع ـ انها متى طهرت من
حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع الطهارة والصلاتين وجب عليها الأداء ومع التفريط
القضاء حتى لو لم تدرك إلا بقدر الطهارة وركعة وجب عليها الإتيان بما أدركت وقته
والا فالقضاء ، فههنا مقامان :
(الأول) ـ فيما
لو حاضت وقد مضى من الوقت ما يسع الطهارة والصلاة ، فإنه يجب عليها الأداء ومع
التفريط القضاء ، ولو لم يمض القدر المذكور فإنه لا يجب عليها القضاء ، ويدل على
الحكم الأول موثقة يونس بن يعقوب عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «في امرأة دخل عليها وقت الصلاة وهي طاهر فأخرت
الصلاة حتى
__________________
حاضت؟ قال : تقضي إذا طهرت». ورواية عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألته عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس ولم تصل
الظهر هل عليها قضاء تلك الصلاة؟ قال : نعم». ويؤيده عموم ما دل على وجوب قضاء
الفوائت واما الحكم الثاني فاستدل عليه العلامة في المنتهى بان وجوب الأداء ساقط
لاستحالة التكليف بما لا يطاق ووجوب القضاء تابع لوجوب الأداء. وفيه انه منقوض
بوجوب الصلاة على الساهي والنائم وقضاء الصوم على الحائض. والتحقيق ان يقال ان
الأصل براءة الذمة مما لم يقم دليل على التكليف به ، وان القضاء لا ترتب له على
الأداء بل انما يجب بأمر جديد كما عليه جملة من المحققين ، ويدل على ذلك موثقة
سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة صلت من الظهر ركعتين ثم انها طمثت وهي جالسة؟
فقال : تقوم من مكانها ولا تقضي الركعتين». بحملها على كون صلاتها في أول الوقت.
ونقل هنا عن المرتضى والصدوق (رضياللهعنهما) الاكتفاء في وجوب القضاء بخلو الوقت عن الحيض بمقدار
أكثر الصلاة. ورده الأصحاب بعدم الوقوف على مأخذه. أقول : يمكن ان يكون مأخذه رواية
أبي الورد المروية في الكافي والتهذيب قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن المرأة التي تكون في صلاة الظهر وقد صلت ركعتين ثم
ترى الدم؟ قال : تقوم من مسجدها ولا تقضي الركعتين ، قال : فإن رأت الدم وهي في
صلاة المغرب وقد صلت ركعتين فلتقم من مسجدها فإذا تطهرت فلتقض الركعة التي فاتتها
من المغرب». وبهذه الرواية عبر الصدوق في الفقيه فقال : «فان صلت المرأة من الظهر
ركعتين ثم رأت الدم قامت من مجلسها وليس عليها ان طهرت قضاء الركعتين ، فان كانت
في صلاة المغرب وقد صلت منها ركعتين قامت من مجلسها فإذا طهرت قضت الركعة»
والتقريب في الرواية المذكورة بالحمل على الصلاة في أول الوقت ، حيث فرق فيها بين
الظهر والمغرب فأوجب قضاء الباقي من المغرب دون الباقي من الظهر ، لمضي أكثر
الصلاة بالنسبة إلى المغرب دون الظهر.
__________________
وظاهر الرواية المذكورة انما هو قضاء الباقي من الصلاة ، والمعروف من كلام
الأصحاب ـ وهو الموافق للأدلة ـ انما هو قضاء الصلاة كملا لو مضى من الوقت مقدارها
مع الطهارة ثم طرأ الحدث لا البناء على ما مضى والإتمام لها ، وان كان هذا مما
ينطبق على مذهب الصدوق في من نسي ركعة أو ركعتين ثم ذكر فإنه يقضي ما بقي ولو بلغ
الصين ، وبالجملة فهذا القول ضعيف مرغوب عنه وروايته ضعيفة متهافتة وهي مردودة إلى
قائلها وهو اعلم بها. واما ما أجاب به العلامة في المختلف ـ من حملها على انها
فرطت في المغرب دون الظهر ، قال : «وانما يتم قضاء الركعة بقضاء الباقي ويكون
إطلاق الركعة على الصلاة مجازا» انتهى ـ فلا يخفى بعده.
(المقام الثاني)
ـ فيما لو طهرت من حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع الطهارة والصلاتين أو إحداهما ،
فإنه يجب عليها الأداء ومع التفريط القضاء.
ويدل عليه جملة
من الاخبار : منها ـ صحيحة عبيد بن زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال قال : «أيما امرأة رأت الطهر وهي قادرة على ان
تغتسل في وقت صلاة ففرطت فيها حتى يدخل وقت صلاة اخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة
التي فرطت فيها ، وان رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك فجاز وقت الصلاة
ودخل عليها وقت صلاة أخرى فليس عليها قضاء وتصلي الصلاة التي دخل وقتها».
ومنها ـ صحيحة
ابي عبيدة الحذاء عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا رأت المرأة الطهر وهي في وقت الصلاة ثم أخرت
الغسل حتى يدخل وقت صلاة اخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها ، وإذا
طهرت في وقت فأخرت الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى ثم رأت دما كان عليها قضاء تلك
الصلاة التي فرطت فيها».
ورواية منصور
بن حازم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا طهرت
__________________
الحائض قبل العصر صلت الظهر والعصر فان طهرت في آخر وقت العصر صلت العصر».
ورواية أبي
الصباح الكناني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلت المغرب
والعشاء وان طهرت قبل ان تغيب الشمس صلت الظهر والعصر».
وصحيحة عبد
الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل الظهر
والعصر وان طهرت من آخر الليل فلتصل المغرب والعشاء».
ونحوها رواية
داود الزجاجي ورواية عمر بن حنظلة فإنهما مشتملتان على هذا التفصيل بالنسبة إلى الظهرين
والعشاءين حسبما في سابقتيهما.
وبإزاء هذه
الأخبار ما هو ظاهر المنافاة ، ومنه ـ صحيحة معمر بن يحيى قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الحائض تطهر عند العصر تصلي الاولى؟ قال : لا انما
تصلي الصلاة التي تطهر عندها». وبهذا المضمون عبر في الفقيه فقال : «والمرأة التي
تطهر من حيضها عند العصر فليس عليها ان تصلي الظهر انما تصلي الصلاة التي تطهر
عندها» والرواية المذكورة محمولة على الوقت المختص جمعا بينها وبين ما تقدم ،
وحينئذ فإن أراد الصدوق ذلك والا كان ما ذكره مخالفا للمشهور بين الأصحاب.
ومنه ـ موثقة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت المرأة ترى الطهر عند الظهر فتشتغل في شأنها
حتى يدخل وقت العصر؟ قال تصلى العصر وحدها فان ضيعت فعليها صلاتان». ويجب حملها
ايضا على الوقت المختص. والمراد باشتغالها في شأنها يعني السعي في تحصيل أسباب
الغسل.
ورواية أبي
همام عن ابي الحسن (عليهالسلام) «في الحائض إذا اغتسلت
__________________
في وقت العصر تصلي العصر ثم تصلي الظهر». ويجب حملها على ما إذا طهرت في
وقت يسع الظهر والعصر ثم توانت بالغسل الى الوقت المختص.
ومن ذلك ـ موثقة
الفضل بن يونس قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) قلت : المرأة ترى الطهر قبل غروب الشمس كيف تصنع
بالصلاة؟ قال : إذا رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلا تصلي إلا
العصر ، لان وقت الظهر دخل عليها وهي في الدم وخرج عنها الوقت وهي في الدم فلم يجب
عليها ان تصلى الظهر ، وما طرح الله تعالى عنها من الصلاة وهي في الدم أكثر ، قال
: وإذا رأت المرأة الدم بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلتمسك عن الصلاة
فإذا طهرت من الدم فلتقض صلاة الظهر ، لان وقت الظهر دخل عليها وهي طاهر وخرج عنها
وقت الظهر وهي طاهر فضيعت صلاة الظهر فوجب عليها قضاؤها».
وظاهر الشيخ في
التهذيب الجمع بين الاخبار المتقدمة بهذا الخبر حيث قال : «ان المرأة إذا طهرت بعد
زوال الشمس الى ان يمضي منه أربعة أقدام فإنه يجب عليها قضاء الظهر والعصر معا.
وإذا طهرت بعد أن يمضي أربعة أقدام فإنه يجب عليها قضاء العصر لا غير ويستحب لها
قضاء الظهر إذا كان طهرها الى مغيب الشمس».
والى هذا القول
مال في الذخيرة فقال بعد نقل كلام الشيخ : «وبهذا الوجه جمع بين الاخبار المختلفة
الواردة في هذا الباب ، ونحوه قال في النهاية والمبسوط ، وما ذكره الشيخ طريقة
حسنة في الجمع بين الاخبار» ثم نقل جملة من روايات الطرفين وقال بعدها : «ويمكن
الجمع بين هذه الأخبار بوجهين : (الأول) حمل خبر الفضل على التقية. و (الثاني) حمل
خبر ابن سنان وما في معناه على الاستحباب ، والثاني أقرب لعدم ظهور كون مدلول خبر
الفضل معمولا به بين العامة بل المشتهر بينهم خلافه
__________________
فتعين الثاني ، فظهر ان قول الشيخ قوي متجه» انتهى.
أقول : فيه (أولا)
ـ ما عرفت من ان ما عدا رواية الفضل فإنه محمول على وجه يمكن انطباقه على الأخبار
الأولة وبه يرتفع التنافي بينهما فيجب المصير اليه جمعا بين الاخبار المذكورة ،
والحمل على الاستحباب ـ كما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه من الأصحاب في جملة الأبواب ـ
قد عرفت انه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ، مع انه مجاز لا يصار اليه إلا بقرينة
في الباب ، واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز كما لا يخفى على ذوي الألباب.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره الشيخ من حمل الأخبار الثانية على ما دلت عليه موثقة الفضل بن يونس موجب
للحكم بكون آخر وقت الظهر هو مضى أربعة أقدام ، وهو وان كان منقولا عنه في باب
الأوقات إلا انه مردود بالآية والروايات التي ربما بلغت التواتر المعنوي من امتداد
وقت الظهرين الى الغروب إلا بمقدار صلاة العصر
__________________
واتفاق الأصحاب سلفا وخلفا على ذلك ، وليس المخالفة منحصرة في اخبار هذه
المسألة كما ظنه فزعم قوة ما ذهب اليه الشيخ هنا للجمع بينها ، بل المخالفة في تلك
الاخبار المشار إليها المتفق عليها أظهر وأشنع ، وحينئذ فما جنح اليه من موافقة
الشيخ على هذا الحمل مما لا ينبغي ان يلتفت اليه.
و (ثالثا) ـ ان
الحمل على التقية لا يختص بوجود القائل من العامة كما حققناه في المقدمة الاولى من
مقدمات الكتاب ، على ان مذاهب العامة في الصدر الأول لا انحصار لها في عدد بل لهم
في كل عصر مذهب ، والانحصار في هذه الأربعة انما وقع أخيرا في سنة ستمائة تقريبا
كما صرح به علماؤنا وعلماؤهم ، وبالجملة فإن الخبر المذكور ظاهر المخالفة للقرآن
العزيز والسنة المستفيضة بل المتواترة معنى وما عليه كافة العلماء سلفا وخلفا
ومنهم هذا القائل ، فيجب طرحه في مقابلتها ويتعين حمله على ما ذكرنا. والله العالم
(المسألة
الثالثة) ـ يحرم عليها أمور
(الأول) ـ كل
ما يشترط فيه الطهارة كالصلاة والطواف ومس كتابة القرآن إجماعا في الأولين وعلى
المشهور في الثالث ، وعن ابن الجنيد انه مكروه ، وحمله على التحريم غير بعيد فإن
عبائر المتقدمين تجري على الاخبار التي قد كثر فيها إطلاق الكراهة على التحريم.
ومن الاخبار في
المسألة زيادة على الاتفاق ما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها الصلاة.».
وما رواه في
العلل والعيون عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليهالسلام) قال : «إذا حاضت المرأة فلا تصوم ولا تصلي ، لأنها في
حد نجاسة فأحب الله تعالى ان لا يعبد إلا طاهرا ، ولانه لا صوم لمن لا صلاة له.
الحديث». وما في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «معاشر الناس ان النساء نواقص الايمان نواقص
العقول نواقص الحظوظ ، فاما نقصان ايمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام
حيضهن ،
__________________
واما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد ، واما نقصان حظوظهن
فمواريثهن على الإنصاف من مواريث الرجال».
واما الطواف
فستأتي الأخبار الدالة عليه في كتاب الحج ان شاء الله تعالى ، واما مس كتابة
القرآن فقد مر ما يدل عليه في مبحث الوضوء وفي غسل الجنابة
(الثاني) ـ الصوم
الا انه يجب قضاؤه عليها دون الصلاة ، ويدل على ذلك زيادة على ما تقدم في الاخبار
السابقة ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المستحاضة؟ فقال تصوم شهر رمضان إلا الأيام التي
كانت تحيض فيها ثم تقضيها بعد». وفي قضاء المنذور وشبهه الذي وافق الحيض وجهان
أقربهما عند العلامة عدم الوجوب ، واختار الشهيد الوجوب وهو الأحوط. واما عدم قضاء
الصلاة فإجماعي نصا وفتوى ، وفي جملة من الأخبار تعليل قضاء الصوم دون الصلاة بأنه
محض تعبد ، وفي بعضها بأنه دليل على بطلان القياس ، ففي رواية الحسن بن راشد عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) لما سأله عن وجه الفرق بينهما قال : «ان أول من قاس
إبليس». وفي بعضها بان الصوم انما هو في السنة مرة والصلاة في كل يوم وليلة ، وأكثر
الاخبار على الثاني. ثم انه لا يخفى ان ظاهر النصوص الاختصاص بالصلوات اليومية ،
وهل يلحق بها غيرها من الصلوات الواجبة عند عروض أسبابها في وقت الحيض كالكسوف
والخسوف؟ وجهان أحوطهما العدم. واما الزلزلة فالظاهر ان وقتها العمر كما سيأتي
تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى. وهل تتوقف صحة صومها على الغسل أم لا؟
قولان يأتي
الكلام فيهما ان شاء الله في كتاب الصوم.
(الثالث) ـ اللبث
في المساجد والاجتياز في المسجدين الحرمين ، قال في
__________________
المدارك بعد ذكر الحكم الأول : «هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب بل قال في
المنتهى انه مذهب عامة أهل العلم» أقول : لا يخفى ان دعوى الإجماع هنا لا تخلو من
غفلة عن خلاف سلار في المسألة حيث قال في التحرير في أحكام الحائض : «يحرم عليها
اللبث في المساجد إجماعا إلا من سلار» وقال في الروض : «وعد سلار اللبث في المساجد
للجنب والحائض ووضع شيء فيها مما يستحب تركه ولم يفرق بين المسجدين وغيرهما»
والحق انه متحقق اللهم إلا ان يقال الإجماع انعقد بعده أو ان مخالفة معلوم النسب
غير قادح في الإجماع.
ويدل على الحكم
المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن على المشهور عن محمد بن مسلم قال قال أبو جعفر (عليهالسلام): «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان
من القرآن ما شاءا إلا السجدة ويدخلان المسجد مجتازين ولا يقعدان فيه ولا يقربان
المسجدين الحرمين».
وما رواه
الصدوق في العلل في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قالا : «قلنا له الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟
فقال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين. الحديث».
ولم نقف لسلار
على دليل معتد به إلا التمسك بالأصل ولا ريب في وجوب الخروج عنه بما ذكرناه من
الدليل.
(الرابع) ـ وضع
شيء في المساجد ، ولا خلاف فيه إلا من سلار فإنه نقل عنه الكراهة ، ويدل على
المشهور صحيحة عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟
قال : نعم
__________________
ولكن لا يضعان في المسجد شيئا». وصحيحة زرارة وابن مسلم المتقدم نقلها من
العلل حيث قال فيها : «ويأخذ ان من المسجد ولا يضعان فيه. قال زرارة فقلت له فما
بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال : لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلا منه
ويقدران على وضع ما بيدهما في غيره. الحديث». وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح
عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته كيف صارت الحائض تأخذ ما في المسجد ولا
تضع فيه؟ فقال : لأن الحائض تستطيع ان تضع ما في يدها في غيره ولا تستطيع أن تأخذ
ما فيه إلا منه».
(الخامس) ـ قراءة
سور العزائم ، وقصر جملة من متأخري المتأخرين التحريم على آية العزيمة هنا وفي
الجنب ، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة من المقصد الخامس من
مقاصد غسل الجنابة واما ما يدل على ذلك ويتعلق به من البحث فقد تقدم في
المقصد الثاني من فصل غسل الجنابة .
بقي الكلام هنا
في موضعين (الأول) ـ لو تلت السجدة أو سمعتها هل يجب عليها السجود أم لا؟ ظاهر
الأكثر ذلك ، وعن الشيخ انه حرم عليها السجود مستندا إلى انه يشترط في السجود
الطهارة من النجاسات مدعيا على ذلك الاتفاق ، والأظهر هو القول المشهور لما رواه
الكليني في الصحيح والشيخ في الموثق عن ابي عبيدة الحذاء قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الطامث تسمع السجدة؟ قال : ان كانت من العزائم
فلتسجد إذا سمعتها». وفي الموثق عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان صليت مع قوم فقرأ الامام «اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ ...» الى ان قال والحائض تسجد إذا سمعت السجدة». وعن ابي بصير ايضا قال قال : «إذا
__________________
قرئ شيء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وان كنت على غير وضوء وان كنت
جنبا وان كانت المرأة لا تصلي ، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار ان شئت سجدت وان شئت
لم تسجد».
واما ما رواه
الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ـ قال : «سألته عن الحائض هل تقرأ القرآن وتسجد سجدة
إذا سمعت السجدة؟ قال تقرأ ولا تسجد». قال في الوافي : وفي بعض النسخ «لا تقرأ ولا
تسجد» وحمله في الاستبصار على جواز الترك ، ومثله ما رواه ابن إدريس في مستطرفات
السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى
الخزاز عن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «لا تقضى الحائض الصلاة ولا تسجد إذا سمعت السجدة».
ـ فسيأتي الجواب عنهما.
ومن العجيب ان
الشيخ (رحمهالله) في التهذيب حمل خبر ابي عبيدة وخبر ابي بصير الثاني على
الاستحباب مع انه حكم بتحريم السجود وانه لا يجوز إلا لطاهر من النجاسات استنادا
إلى صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله المذكورة.
وأجاب في
المختلف عن صحيحة عبد الرحمن المذكورة بالحمل على المنع من قراءة العزائم ، قال «وكأنه
(عليهالسلام) قال «تقرأ القرآن ولا تسجد» اي ولا تقرأ العزيمة التي
تسجد فيها وإطلاق المسبب على السبب مجازا جائزا» ولا يخفى ما فيه من البعد. وأجاب
عنها المتأخرون بالحمل على السجدات المستحبة بدليل قوله «تقرأ» وحينئذ فالدلالة
منتفية. وفي المدارك انه يمكن حملها على السماع الذي لا يكون معه الاستماع ، قال
فإن : صحيحة أبي عبيدة إنما تضمنت وجوب السجود عليها مع الاستماع.
أقول : والكل
تكلف مستغنى عنه ، والأظهر حمل الخبر المذكور وكذا خبر غياث على التقية فإن جمهور
الجمهور على المنع من السجود ، ونقله في المنتهى عن أبي حنيفة
__________________
والشافعي واحمد ، ونقل عن بعض أنها تومئ برأسها واما على ما نقله في الوافي من نسخة «لا تقرأ ولا تسجد»
فلا منافاة في الخبر المذكور ، وبذلك يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة تبعا لبعض نسخ
المدارك من التوقف في المسألة وانها موضع إشكال ينشأ من الاحتمالات السابقة في حمل
الصحيحة المشار إليها ، وعلى ما ذكرناه فلا اشكال ، ولكنهم حيث ضربوا صفحا عن
الترجيح بين الاخبار بهذه القاعدة مع استفاضة النصوص بها وقعوا في ما وقعوا فيه.
والله العالم.
(الثاني) ـ اختلف
الأصحاب في موجب سجود التلاوة في هذا الموضع وغيره هل هو مجرد السماع وان كان من
غير قصد أو الاستماع الذي هو عبارة عن الإصغاء والقصد الى ذلك؟ قولان يأتي تحقيق
الكلام فيهما في بحث السجود من كتاب الصلاة ان شاء الله تعالى.
(المسألة
الرابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب في انه لا يصح طلاقها بعد الدخول وحضور الزوج أو
ما في حكمه وهو قربه منها بحيث يمكنه استعلام حالها كالمحبوس ونحوه ، فغير المدخول
بها يصح طلاقها وان كانت حائضا وكذا مع غيبة الزوج ، الا انه قد وقع الخلاف في حد
الغيبة المجوزة ، فقيل انه ثلاثة أشهر ، وقيل شهر ، وقيل المعتبر ان يعلم انتقالها
من الطهر الذي واقعها فيه الى آخر بحسب عادتها وهو المشهور بين المتأخرين ، وسيأتي
تحرير الكلام في المسألة في محلها ان شاء الله تعالى من كتاب الطلاق.
__________________
(المسألة
الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب في تحريم وطء الحائض في القبل بل نقل عن جمع منهم
التصريح بكفر مستحله حيث انه من ضروريات الدين ، إلا ان يدعى في ذلك شبهة ممكنة
كقرب عهده بالإسلام أو نشوه في بادية بعيدة عن العلم بمعالم الدين وتحقيق البحث في
المقام يقع في مواضع
(الأول) ـ قال
في المدارك : «ولا ريب في فسق الواطئ بذلك ووجوب تعزيره بما يراه الحاكم مع علمه
بالحيض وحكمه ، ويحكى عن ابى علي ولد الشيخ تقديره بثمن حد الزاني ولم نقف على
مأخذه» وتبعه في هذه المقالة الفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره ، وتقدمه فيها جده
في الروض وغيره ، والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في عدم وقوفهم على حد التعزير في
الصورة المذكورة حتى أرجعوه إلى الحاكم مع تكاثر الاخبار بذلك ، ومنها ـ ما رواه
ثقة الإسلام والشيخ عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : «سألت أبا الحسن عن رجل أتى اهله وهي حائض؟ قال
يستغفر الله ولا يعود. قلت فعليه أدب؟ قال : نعم خمسة وعشرون سوطا ربع حد الزاني
وهو صاغر لانه اتى سفاحا». وروى الشيخان المذكوران ايضا عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يأتي المرأة وهي حائض؟ قال : يجب عليه في
استقبال الحيض دينار وفي استدباره نصف دينار. قلت جعلت فداك يجب عليه شيء من الحد؟
قال : نعم خمسة وعشرون سوطا ربع حد الزاني لانه اتى سفاحا». وروى الثقة الجليل علي
بن إبراهيم القمي في تفسيره عن ابى عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «من اتى امرأته في الفرج في أول أيام حيضها
فعليه ان يتصدق بدينار وعليه ربع حد الزاني خمسة وعشرون جلدة ، وان أتاها في آخر
أيام حيضها فعليه ان يتصدق بنصف دينار ويضرب اثنتي عشرة جلدة ونصفا». وظاهر
الخبرين الأولين التعزير بالخمسة والعشرين مطلقا في أول الحيض أو آخره وظاهر الخبر
الثالث التخصيص بأوله ، ويمكن الجمع بتقييد إطلاق الخبرين الأولين بالخبر
__________________
الثالث ، ويمكن ترجيح الخبرين الأولين برواية الشيخين المشار إليهما لما
ذكراه مسندا وإرسال هذه الرواية. ولو جهل الحيض أو نسيه أو جهل الحكم أو نسيه
فالظاهر انه لا شيء عليه لعدم توجه الخطاب في هذه الحالات اليه ، وبذلك صرح جملة
منهم (رضوان الله عليهم).
(الثاني) ـ قال
في المدارك : «ولو اشتبه الحال فان كان لتحيرها فسيأتي حكمه وان كان لغيره كما في
الزائد على العادة فالأصل الإباحة ، وأوجب عليه في المنتهى الامتناع ، قال لان
الاجتناب حالة الحيض واجب والوطء حالة الطهر مباح فيحتاط بتغليب الحرام لان الباب
باب الفروج. وهو حسن إلا انه لا يبلغ حد الوجوب» انتهى أقول : لا يخفى ان هذا
الكلام انما يتمشى على ما هو المشهور في كلامهم من ان ما زاد على العادة يراعى
بالانقطاع قبل العشرة أو تجاوزها ، فان انقطع حكم بكون الجميع حيضا وان تجاوز علم
ان ما زاد على العادة استحاضة ، فعلى هذا يكون الدم بعد العادة وقبل وصول العشرة
محتملا للحيض والطهر ، وبه يتجه ما قاله هنا من ان الأصل الإباحة وكذا ما نقله عن
العلامة ، واما على ما هو المفهوم من الاخبار ـ كما نبهنا عليه فيما تقدم من انه
بعد تجاوز الدم عن أيام العادة فإنها تستظهر بيومين أو ثلاثة ثم بعد ذلك تعمل عمل
المستحاضة انقطع الدم على العشرة أو تجاوز ـ فلا وجه لهذا الكلام بل التحقيق فيه
ان الدم في أيام الاستظهار ـ حيث الحقه الشارع بالحيض ـ في حكم الحيض بالنسبة إلى
ترك العبادة وجماع الزوج ونحو ذلك من أحكام الحائض ، وما بعد أيام الاستظهار
فالواجب عليها العمل بما تعمله المستحاضة وتكون بذلك طاهرة يجوز لزوجها إتيانها ،
وحينئذ فلا يكون ما بعد أيام العادة محل احتمال ولا شك لا في أيام الاستظهار ولا
فيما بعدها. والعجب منه انه ناقش الأصحاب فيما تقدم في هذا الحكم الذي ذكرناه
وصرحوا بان الروايات لا تساعده ومع هذا تبعهم في هذا المقام وحذا حذوهم بهذا
الكلام.
(الثالث) ـ الظاهر
انه لا اشكال ولا خلاف في قبول قولها لو أخبرت بالحيض ما لم تكن متهمة بتضييع حق
الزوج ، لظاهر قوله تعالى : «...
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ
ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ...» ولولا وجوب القبول لما حرم الكتمان ، ويدل عليه من
الاخبار ايضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) انه قال : «العدة والحيض الى النساء». وما رواه الكليني
في الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) انه قال : «العدة والحيض الى النساء إذا ادعت صدقت». واما
ما يشير الى عدم القبول مع التهمة فهو ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن ابى زياد عن
جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال في امرأة ادعت انها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض
فقال كلفوا نسوة من بطانتها ان حيضها كان فيما مضى على ما ادعت فان شهدن صدقت وإلا
فهي كاذبة». ورواه الصدوق مرسلا وحمل الشيخ هذا الخبر على صورة تكون المرأة متهمة ، قال
بعض الأصحاب : «ومفاد الخبر على تقدير العمل به أخص مما ذكره الشيخ ، إذ الدعوى
فيه مخالفة للعادة الجارية قليلة الوقوع» وهو جيد إلا انه غير خال من الاشعار
بذلك. ولو ظن الزوج كذبها قيل : لا يجب القبول واليه مال الشهيد الثاني ، وقيل يجب
وهو اختيار العلامة في النهاية والشهيد في الذكرى ، وهو الأقوى عملا بظاهر الخبرين
المتقدمين.
(الرابع) ـ المشهور
بين الأصحاب تخصيص التحريم بالجماع في القبل وانه يجوز له الاستمتاع بما عدا ذلك ،
وعن المرتضى في شرح الرسالة انه قال : «لا يحل الاستمتاع منها إلا بما فوق المئزر
ومنه الوطي في الدبر».
احتج المجوزون
بقوله عزوجل : «وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» وهو ظاهر في عدم اللوم على الاستمتاع كيف كان ، خرج منه
موضع الدم بالنص وبقي الباقي على أصل الجواز ، وبالأخبار الكثيرة
__________________
ومنها ـ موثقة عبد الله بن بكير عن بعض بأصحابه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا حاضت المرأة فليأتها زوجها حيث شاء ما اتقى
موضع الدم». ورواية عبد الملك بن عمرو قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عما لصاحب المرأة الحائض منها؟ قال كل شيء ما عدا
القبل بعينه». وصحيحة عمر بن يزيد قال «قلت : لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما للرجل من الحائض؟ قال ما بين أليتيها ولا يوقب». ورواية
معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال : ما
دون الفرج». ورواية عبد الله بن سنان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال : ما دون الفرج».
وموثقة هشام بن سالم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يأتي المرأة فيما دون الفرج وهي حائض؟ قال : لا بأس إذا اجتنب
ذلك الموضع». ونحوها روايات أخر أعرضنا عن التطويل بذكرها.
احتج المرتضى
بقوله عزوجل : «...
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ...» وقوله تعالى : «... فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي
الْمَحِيضِ ...» أي في وقت الحيض ، وصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) «في الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال : تتزر بإزار إلى الركبتين وتخرج سرتها
ثم له ما فوق الإزار.». أقول : ويدل عليه أيضا موثقة أبي بصير عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال : تتزر
بإزار إلى الركبتين وتخرج ساقيها وله ما فوق الإزار». ويؤيد ذلك أيضا رواية حجاج
الخشاب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحائض والنفساء ما يحل لزوجها منها؟ قال : تلبس
درعا ثم تضطجع معه».
__________________
والظاهر هو
القول المشهور المؤيد بالأدلة المذكورة ، واما ما يدل على مذهب المرتضى (رضياللهعنه)
فقد أجاب في المختلف عن الآية الأولى بأن حقيقة القرب ليست مرادة بالإجماع فيحمل
على المجاز المتعارف وهو الجماع في القبل لان غيره نادر ، وعن الثانية بأنه يحتمل
ارادة موضع الحيض بل هو المراد قطعا فان اعتزال النساء مطلقا ليس مرادا بل اعتزال
الوطء في القبل. أقول : اما ما أجاب به عن الاولى فهو جيد ، لما عرفت في غير موضع
من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكررة وبعد تعذر الحمل على
الحقيقة فالفرد المتكرر انما هو الجماع في القبل ، ويؤيده ما ذكره المفسرون في سبب
النزول من ان اليهود كانوا يعتزلون النساء فلا يواكلوهن ولا يباشروهن مدة الحيض
فسئل النبي (صلىاللهعليهوآله) عن ذلك فنزلت هذه الآية فقال النبي : «اصنعوا كل شيء
إلا النكاح» واما ما أجاب به عن الثانية فتوضيحه ان الظاهر ان
المحيض هنا اسم مكان بمعنى موضع الحيض كالمبيت والمقيل واحتمال كونه مصدرا أو اسم
زمان يوجب الإضمار والتخصيص للإجماع على عدم وجوب اعتزالهن بالكلية. وأيده بعضهم
بان الحكم بالاعتزال على تقدير ان يكون اسم زمان أو مصدرا لا يشمل ما بعد زمان
الحيض بوجه فكان منتهاه معلوما فتقل الفائدة في قوله تعالى : «حَتّى يَطْهُرْنَ».
واما الأخبار
فالجواب عنها من وجوه : (أحدها) ـ انها معارضة بما هو أكثر عددا وأصرح دلالة فيجب
الجمع بينهما بحمل هذه الروايات على كراهة ما تحت الإزار و (ثانيها) ـ ان قصارى ما
دلت عليه هذه الاخبار ان له الاستمتاع بما فوق المئزر ونحن نقول به ، ودلالتها على
تحريم ما عداه انما هو بمفهوم اللقب وهو ضعيف كما قرروه في الأصول. و (ثالثها) ـ ان
المراد بما يحل هو المعنى المتعارف عند الفقهاء والأصوليين وهو ما يتساوى طرفاه
المرادف للمباح ، ولا ريب ان نفيه لا يستلزم الحرمة لجواز إرادة الكراهة ، ونحن لا
نخالف فيها جمعا بين الأدلة لان من حام حول الحمى
__________________
أو شك ان يقع فيه و (رابعها) ـ وهو المعتمد ـ حمل هذه الاخبار على التقية ،
لموافقتها لمذهب العامة كما ذكره الشيخ ، لأن العامة ما بين محرم ومكره ، فنقل في
المنتهى التحريم عن أبي حنيفة والشافعي ومالك وابي يوسف والكراهة عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق
والأوزاعي وابي ثور وداود ومحمد بن الحسن والنخعي وابي إسحاق المروزي وابن المنذر وبذلك يظهر ان ما دلت عليه هذه الاخبار ـ من عدم حل ما
تحت الإزار تحريما أو كراهة ـ فهو محمول على التقية ، وبه يظهر ضعف حمل الأخبار
المذكورة على الكراهة كما هو المشهور. والله العالم.
(المسألة
السادسة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الكفارة بالوطء في الحيض
واستحبابها ، والمشهور بين المتقدمين الأول وبه قال الشيخ في الجمل والمبسوط
والمفيد والمرتضى وابنا بابويه وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس ، والمشهور بين
المتأخرين الثاني وبه قال الشيخ في النهاية ، واما الاخبار الواردة في المسألة
فأكثرها ـ وان ضعف سند جملة منها بالاصطلاح المحدث ـ يدل على الوجوب :
(منها) ـ ما
رواه الشيخ عن داود بن فرقد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في كفارة الطمث انه يتصدق إذا كان في أوله بدينار وفي أوسطه بنصف دينار
وفي آخره بربع دينار. قلت : فان لم يكن عنده ما يكفر؟ قال : فليتصدق على مسكين
واحد وإلا استغفر الله تعالى ولا يعود ، فان الاستغفار توبة وكفارة لمن لم يجد
السبيل إلى شيء من الكفارة».
__________________
وعن عبد الملك
بن عمرو قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل اتى جاريته وهي طامث؟ قال : يستغفر الله ربه.
قال عبد الملك : فان الناس يقولون عليه نصف دينار أو دينار؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : فليتصدق على عشرة مساكين».
وعن محمد بن
مسلم قال : «سألته عن من اتى امرأته وهي طامث؟ فقال يتصدق بدينار ويستغفر الله
تعالى».
وعن ابي بصير
في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من اتى حائضا فعليه نصف دينار يتصدق به».
وعن عبيد الله
بن علي الحلبي في الحسن عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يقع على امرأته وهي حائض ما عليه؟ قال يتصدق على مسكين بقدر شبعه».
وقد حمل
الأصحاب إطلاق ما بعد الرواية الأولى على ما تضمنته من التفصيل في افراد الكفارة ،
وهو جيد ، وقال في المقنع : «روى ان من جامعها في أول الحيض فعليه ان يتصدق
بدينار وان كان في نصفه فنصف دينار وان كان في آخره فربع دينار». أقول : وقد تقدم
في الموضع الأول رواية محمد بن مسلم الدالة على انه يجب عليه في استقبال
الدم دينار وفي استدباره نصف دينار ، ونحوها رواية تفسير علي بن إبراهيم.
واما ما يدل
على القول الثاني فما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل واقع امرأته وهي طامث؟ قال : لا يلتمس فعل ذلك
وقد نهى الله تعالى ان يقربها. قلت فان فعل أعليه كفارة؟ قال : لا اعلم فيه شيئا
يستغفر الله تعالى».
وعن زرارة في
الموثق عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الحائض
__________________
يأتيها زوجها؟ قال : ليس عليه شيء يستغفر الله تعالى ولا يعود».
وعن ليث
المرادي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن وقوع الرجل على امرأته وهي طامث خطأ؟ قال : ليس
عليه شيء وقد عصى ربه».
وحمل المتأخرون
الأخبار الأولة لضعف أسانيدها على الاستحباب وأيدوا ذلك باختلافها في تقدير
الكفارة. وفيه ما عرفت فيما تقدم في غير مقام.
وفي المدارك عن
المحقق في المعتبر انه قال بعد طعنه في الاخبار بضعف الأسانيد : «ولا يمنعنا ضعف
طريقها عن تنزيلها على الاستحباب لاتفاق الأصحاب على اختصاصها بالمصلحة الراجحة
اما وجوبا أو استحبابا ، فنحن بالتحقيق عاملون بالإجماع لا بالرواية» ثم قال في
المدارك : وهو حسن.
أقول : بل هو
عن الحسن بمعزل (أما أولا) ـ فلمنافاة هذا الكلام لما قدمه في صدر كتابه مما هو
كالقاعدة في أمثال المقام من قوله : «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد. إلخ» وقد
تقدم نقله في الموضع الثاني من المقام الثاني من المطلب الأول في المبتدأة من
المقصد الثاني وملخصه عدم الطعن في الاخبار بضعف السند وانما المرجع
الى قبول الأصحاب للخبر أو دلالة القرائن على صحته ، والأمران المذكوران حاصلان في
جانب هذه الاخبار ، اما قبول الأصحاب لها فظاهر لما عرفت من ان القول بها هو
المشهور بين المتقدمين ، ولهذا ان الشهيد في الذكرى استند الى جبرها بالشهرة ،
واما دلالة القرائن فلتدوينها في الأصول المعتمدة التي عليها المدار.
و (اما ثانيا)
ـ فلان مرجع هذا الإجماع الذي استند اليه في الاستحباب انما هو الاخبار المذكورة ،
حيث انهم أجمعوا على العمل بها وجوبا عند بعض واستحبابا عند آخرين ، وكيف كان
فحملها على الاستحباب مع دلالتها بظاهرها على الوجوب لا يخرج عن طرحها ، إذ مقتضى
الوجوب هو تحتم الفعل مع ثبوت العقوبة على تركه ، ومقتضى
__________________
الاستحباب جواز الترك وعدم العقوبة ، والقول بالاستحباب ظاهر في طرحها وعدم
العمل بما دلت عليه من الوجوب الذي إنما خرجوا عنه لضعف السند وإلا فلو صحت
أسانيدها لحكموا بالوجوب.
و (اما ثالثا)
ـ فان ظاهر كلامهم انهم انما حملوا هذه الاخبار على الاستحباب من حيث ضعف أسانيدها
تفاديا من طرحها والا فلو صحت أسانيدها لقالوا بالوجوب كما هو ظاهرها ، وأنت خبير
بان الحمل على الاستحباب حينئذ مجاز لا يصار اليه الا مع القرينة الظاهرة ، وضعف
الأسانيد ليس من جملة قرائن المجاز ، ولا وجود المخالف من الاخبار في ذلك الحكم ،
ويرجح القول بالوجوب أنه الأوفق بالاحتياط وهو أحد المرجحات الشرعية ، وبالجملة
فإن حمل الأخبار المشار إليها على الاستحباب بعيد عن جادة الصواب. وحمل الشيخ (رحمهالله) الأخبار الأخيرة على الجاهل بالحيض. ولا يخفى بعده في
الخبر الأول.
والأقرب عندي
حمل الأخبار الأخيرة على التقية التي هي في اختلاف الاخبار والأحكام الشرعية أصل
كل بلية ، فإن ذلك مذهب جمهور المخالفين ، قال في المنتهى بعد نقل القول بالوجوب :
«وهو احدى الروايتين عن احمد وأحد قولي الشافعي» وقال بعد نقل القول بالاستحباب : «وهو
قول مالك وابى حنيفة وأكثر أهل العلم» واما ما طعنوا به من اختلاف المقادير في
الكفارة فقد عرفت انه محمول على ما صرحت به الرواية الاولى من المراتب في الصدقة
ومع تعذرها فالاستغفار. وبالجملة فإنك قد عرفت في غير مقام ما في الجمع بين
الأخبار بالاستحباب ، فإن القاعدة المروية عنهم (عليهمالسلام) هو العرض على مذهب العامة في مقام اختلاف الأخبار والأخذ
بما يخالفه وهو هنا في روايات القول بالوجوب ، وبه يظهر ان القول بالوجوب هو
الأقوى. قال في الذكرى : «واما التفصيل بالمضطر وغيره والشاب وغيره ـ كما قاله
الراوندي ـ فلا عبرة به» والله العالم
وههنا فوائد (الأولى)
ـ المشهور انه على تقدير القول بالكفارة وجوبا
أو استحبابا فهي دينار في اوله ونصف دينار في وسطه وربع دينار في آخره كما
دلت عليه رواية داود المتقدمة ، والمراد بأوله الثلث الأول منه وبوسطه الثلث
الثاني وبآخره الثلث الثالث ، فالأول لذات الثلاثة اليوم الأول ولذات الأربعة هو
مع ثلث الثاني ولذات الخمسة هو مع ثلثيه ولذات الستة اليومان الأولان وعلى هذا
القياس ، ومثله في الوسط والأخير ، وعن سلار ان الوسط ما بين الخمسة إلى السبعة ،
واعتبر الراوندي العشرة دون العادة ، ويلزم على قوليهما خلو بعض العادات عن الوسط
والأخير ، والظاهر ان مرجع قولي سلار والراوندي إلى جعل محل هذا التقدير هو العشرة
خاصة دون العادة ، لكن سلار يعتبر الوسط منها ما بين الخمسة إلى السبعة فما تحت
الخمسة وهو الأربعة يجعله أولا وما فوق السبعة وهي الثلاثة يجعله أخيرا فالوسط على
هذا ثلاثة ، والراوندي يثلث العشرة كما يقوله الأصحاب في ذات العشرة ، فخلافه
للأصحاب في تخصيص ذلك بالعشرة دون العادة ، وخلاف سلار في ذلك في عدم التثليث في
العشرة ، وعلى هذا فإذا كانت العادة سبعة ـ مثلا ـ فلا آخر لها عندهما ولو كانت
ثلاثة ـ مثلا ـ فلا آخر ولا وسط لها عندهما ايضا. ويدفعهما ـ زيادة على ندورهما ـ رجوع
الضمير في قوله (عليهالسلام) : «يتصدق إذا كان في أوله بدينار». الى الحيض من غير
تفصيل وعن الصدوق في المقنع انه قال : «يتصدق على كل مسكين بقدر شبعه» ونسب دليل
القول المشهور إلى الرواية مع انه في الفقيه وافق الأصحاب ، والظاهر انه استند الى
حسنة الحلبي المتقدمة وهي محمولة على ما عرفت من عدم إمكان ما زاد على ذلك.
(الثانية) ـ قد
ذكر الأصحاب ان المراد بالدينار هو المثقال من الذهب المضروب الخالص وكانت قيمته
في زمانه (عليهالسلام) عشرة دراهم ، فلا تجزئ القيمة كباقي الكفارات ولا
التبر لعدم تناول النص لهما ، وقد قطع العلامة في جملة من كتبه بعدم اجزاء القيمة
، وهو كذلك كما عرفت. قال في الذكرى : «قدر الشيخان
__________________
الدينار بعشرة دراهم والخبر خال منه ، فان لم نقل به ففي جواز إخراج القيمة
نظر التفاتا الى عدم اجزاء القيم في الكفارات ، وعلى قولهما لا يجزئ دينار قيمته
أقل من عشرة ، والظاهر ان المراد به المضروب فلا يجزئ التبر لانه المفهوم من
الدينار» انتهى. وقال في المنتهى : «لا افرق في الإخراج بين المضروب والتبر لتناول
الاسم لهما. ويشترط ان يكون صافيا من الغش ، وفي إخراج القيمة نظر أقربه عدم
الاجزاء لأنه كفارة فاختص ببعض أنواع المال كسائر الكفارات» ونحوه في التحرير ،
وظاهره اجزاء التبر وهو غير المضروب ، وفي تناول الاسم له ـ كما ادعاه ـ إشكال ،
إذ المتبادر منه انما هو المضروب بسكة المعاملة كما عرفت من كلام الذكرى.
(الثالثة) ـ قد
صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بان مصرف هذه الكفارة الفقراء والمساكين من أهل
الايمان ، ويكفي الواحد ولا يجب التعدد عملا بإطلاق الخبر ، وهو كذلك.
وظاهرهم ايضا
انه لا فرق في الزوجة بين الدائمة والمنقطعة الحرة والأمة للإطلاق ، وهو كذلك
ايضا.
قيل : وهل يلحق
بها الأجنبية المشتبهة أو المزني بها؟ وجهان منشأهما استلزام ثبوت الحكم في الأدنى
ثبوته في الأعلى ، ومن حيث عدم النص سيما مع احتمال كون الكفارة مسقطة للذنب ، فلا
يتعدى الى الأقوى لأنه بتفاحشه قد لا يقبل التكفير وانما يناسبه الانتقام كما في
كفارة الصيد ثانيا.
أقول : والأظهر
هو الأول ، لا لما ذكروه بل لما تقدم في رواية أبي بصير من قوله (عليهالسلام): «من اتى حائضا.». فإنه شامل بإطلاقه للزوجة والأجنبية
، ونقل القول بذلك عن العلامة والشهيد استنادا إلى الرواية المذكورة. أقول :
ونحوها ايضا قوله في رواية محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يأتي
__________________
المرأة وهي حائض؟ قال : يجب عليه في استقبال الحيض دينار. الحديث». وقد
تقدم.
ولو كانت
الحائض الموطوءة امة قال الشيخ في النهاية والصدوق انه يتصدق بثلاثة أمداد من طعام
، وبه قال العلامة أيضا في المنتهى الا انه حمل التصدق على الاستحباب ، قال في
المقنع : «وان جامعت أمتك وهي حائض تصدقت بثلاثة أمداد من طعام» ونقل الأصحاب في
كتب الاستدلال ان بذلك رواية وان ردوها بضعف السند ، ولم أقف عليها ، مع انه قد
تقدم في رواية عبد الملك بن عمرو ما يدل على التصدق على عشرة مساكين على من اتى جاريته ،
قال في الروض : «ولا فرق حينئذ بين أول الحيض وأوسطه وآخره لإطلاق الرواية والفتوى
، ولا بين الأمة القنة والمدبرة وأم الولد والمزوجة وان حرم الوطء».
(الرابعة) ـ اختلف
الأصحاب فيما لو تكرر الوطء فهل تتكرر الكفارة مطلقا أولا مطلقا أو تتكرر مع
اختلاف الزمان كما إذا كان بعضه في أول الحيض وبعضه في وسطه مثلا أو سبق التكفير
وعدمه بدونهما؟ أقوال : اختار أولها الشهيد الثاني في الروض والأول في البيان
وثانيها ابن إدريس على ما نقله في المختلف ، قال : «وقال ابن إدريس إذا كرر الوطء
فالأظهر ان عليه تكرار الكفارة ، لأن عموم الأخبار يقتضي ان عليه بكل دفعة كفارة ،
ثم قال : والأقوى عندي والأصح ان لا تكرار في الكفارة ، لأن الأصل براءة الذمة
وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعية ، واما العموم فلا يصح التعلق به في
أمثال هذه المواضع لأن هذه أسماء الأجناس والمصادر ، ألا ترى ان من أكل في نهار
رمضان متعمدا وكرر الأكل لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف» وهذا القول ظاهر
الشيخ ايضا حيث قال في المبسوط : «انه لا نص لأصحابنا في ذلك وعموم الأخبار يقتضي
ان يكون عليه بكل دفعة كفارة ، ثم قال : وان قلنا انه لا يتكرر لانه لا دليل عليه
والأصل براءة الذمة كان قويا» وثالثها لجملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في
المختلف
__________________
والمنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهما من الأصحاب واختاره في المدارك.
حجة القول
الأول ـ كما قرره في الروض ـ ان كل وطء سبب في الوجوب والأصل عدم التداخل بل
اختلاف الأسباب يوجب اختلاف المسببات ، قال : «وعلى هذا يصدق تكرر الوطء بالإدخال
بعد النزع في وقت واحد ويتحقق الإدخال بغيبوبة الحشفة لأنه مناط الوطء شرعا» حجة
القول الثاني ما سمعت من كلام ابن إدريس. حجة القول الثالث كما ذكره في المختلف
فقال : «لنا على التكرر مع تغاير الوقت انهما فعلان مختلفان في الحكم فلا يتداخلان
كغيرهما من العقوبات المختلفة على الأفعال المختلفة ، وعلى التكرر مع تخلل
التكفيران الكفارة انما تجب أو تستحب بعد موجب العقوبة فلا تؤثر المتقدمة في إسقاط
ما يتعلق بالفعل المتأخر ، وعلى عدم التكرر مع عدم أحد الأمرين ان الكفارة معلقة
على الوطء من حيث هو هو وكما يصدق في الواحد يصدق في المتعدد فيكون الجزاء واحدا
فيهما».
أقول : ويرد
على الحجة الاولى ان ما ادعوه ـ من ان اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف المسببات ـ مما
لم يقم عليه دليل ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل لما قدمنا في أبحاث النية في
الوضوء من دلالة الأخبار على تداخل الأغسال بما لا يداخله شك
ولا اشكال ، وغاية ما يلزم من وجوب السبب الذي هو الوطء هنا ـ وان تكرر ـ وجوب الكفارة
واما كونها كفارة مغايرة لما يلزم بسبب آخر فلا ، وهذا غاية ما يفهم من إطلاق
الأدلة ، فمن ادعى تخصيص كل سبب بفرد من الكفارة غير الآخر فعليه البيان ، وبه
يظهر ضعف قولهم بأن الأصل عدم التداخل. ويرد على الحجة الثانية ما قرروه في الحجة
الثالثة. وعلى الحجة الثالثة ان ما ذكروه في الاستدلال على عدم التكرر مع عدم
الأمرين من ان الكفارة معلقة على الوطء من حيث هو هو لو تم للزم مثله مع تغاير
الوقت ، لان حاصله ان وجوب الكفارة معلق على الوطء من حيث هو هو بحيث لا مدخل
__________________
للافراد فلا يؤثر في ذلك تغاير الوقت على وجه يقتضي التعدد.
وكيف كان
فالمسألة لخلوها عن النص لا تخلو من الاشكال ، والركون الى هذه التعليلات مع
سلامتها من الإيرادات لا يخلو من المجازفة في الأحكام الشرعية التي أوجب فيها
الشارع الرجوع الى الأدلة القطعية من آية قرآنية أو سنة نبوية.
(المسألة
السابعة) ـ المشهور بين الأصحاب انه يستحب للحائض أن تتوضأ في وقت كل صلاة وتجلس
في مصلاها فتذكر الله تعالى بمقدار صلاتها ، وفي المختلف عن علي بن بابويه القول
بالوجوب ، ونقل ذلك جملة من الأصحاب عن ابنه ايضا ، وقال في الفقيه : «وقال ابي في
رسالته الي : اعلم ان أقل الحيض ثلاثة أيام ، الى ان قال : ويجب عليها عند حضور كل
صلاة ان تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة وتذكر الله بمقدار صلاتها كل يوم»
والأصحاب قد استدلوا على الاستحباب بحسنة زيد الشحام قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : ينبغي للحائض أن تتوضأ عند وقت كل صلاة ثم
تستقبل القبلة فتذكر الله تعالى مقدار ما كانت تصلي». قال في المدارك : «ولفظ
ينبغي ظاهر في الاستحباب» ثم نقل عن ابن بابويه القول بالوجوب لحسنة زرارة عن
الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها الصلاة
وعليها ان تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ثم تقعد في موضع طاهر فتذكر الله عزوجل وتسبحه وتهلله وتحمده بمقدار صلاتها ثم تفرغ لحاجتها». قال
: «وهو مع صراحته في الوجوب محمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة» أقول : اما
الاستناد في الاستحباب الى لفظ «ينبغي» في الرواية الأولى ففيه ما عرفت في غير
موضع من ان لفظ «ينبغي ولا ينبغي» وان اشتهر في العرف انه بمعنى الاولى وعدم
الأولى إلا أنه في الاخبار ربما استعمل في الاستحباب والكراهة وربما استعمل في
الوجوب والتحريم بل هو الغالب في الاخبار كما لا يخفى على من له بها مزيد انس ،
وحينئذ فينبغي ان يكون
__________________
التأويل في جانب هذه الرواية لصراحة الأخيرة ـ كما اعترف به ـ في الوجوب
وإجمال هذه فينبغي ان يحمل لفظ «ينبغي» هنا على الوجوب جمعا. واما ما استدل به لابن
بابويه من حسنة زرارة فليس في محله ، بل الظاهر ان دليل ابن بابويه انما هو الفقه
الرضوي فإن عبارة أبيه في الرسالة التي قدمنا نقلها عن الفقيه عين عبارة كتاب
الفقه الرضوي ، حيث قال (عليهالسلام) : «ويجب عليها عند حضور كل صلاة ان تتوضأ وضوء الصلاة
وتجلس مستقبلة القبلة وتذكر الله تعالى بمقدار صلاتها كل يوم». وكذا ما بعد هذه
العبارة مما نقله في الفقيه عين عبارة الكتاب المذكور ، ومنه يعلم ان مستنده انما
هو الكتاب المذكور وان كانت الرواية المشار إليها دالة على ذلك ، ولكن أصحابنا حيث
لم يقفوا على ذلك استدلوا له بهذه الرواية. ثم انه لا يخفى ان ظاهر صاحب الكافي
أيضا القول بالوجوب حيث عنون به الباب فقال : «باب ما يجب على الحائض في أوقات
الصلاة» ثم ذكر الأخبار الواردة في المسألة المشتملة على الحكم
المذكور ، ومن ذلك يظهر ان القول بالوجوب أرجح ، وقد تقدم مزيد بحث في المسألة
ونقل جملة من رواياتها في المقصد الثاني في الغاية المستحبة من المطلب الثاني من
الباب الثاني في الوضوء .
(المسألة
الثامنة) ـ قد صرح الأصحاب بأنه يكره لها أشياء : (منها) ـ الخضاب ويدل عليه ما
رواه الشيخ عن عامر بن جذاعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول : لا تختضب الحائض ولا الجنب. الحديث».
وعن ابي بصير في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «هل تختضب الحائض؟ قال : لا ، يخاف عليها الشيطان عند ذلك». ورواه الصدوق
في العلل عن ابي بكر الحضرمي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) مثله إلا انه قال : «لا لانه يخاف عليها الشيطان». وروى
الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن عبد الحميد عن أبي جميلة عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال :
__________________
«لا تختضب
الحائض».
وحمل الأصحاب
هذه الاخبار على الكراهة لما ورد من نفي البأس عنه في عدة اخبار : منها ـ ما رواه
الكليني عن محمد بن سهل بن اليسع عن أبيه قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن المرأة تختضب وهي حائض؟ قال : لا بأس به». وعن علي
بن أبي حمزة قال : «قلت لأبي إبراهيم (عليهالسلام) تختضب المرأة وهي طامث؟ قال : نعم». وما رواه الشيخ عن
ابي المغراء عن العبد الصالح (عليهالسلام) في حديث قال : «قلت : المرأة تختضب وهي حائض؟ قال : ليس
به بأس». ونحو ذلك موثقة سماعة «الجنب والحائض يختضبان؟ قال : لا بأس».
و (منها) ـ مس
ورق المصحف غير الكتابة وحمله ، وقد تقدم الكلام فيه مستوفى في بحث غسل الجنابة .
و (منها) ـ قراءة
ما عدا العزائم الأربع من القرآن من غير استثناء للسبع أو السبعين المجوز للجنب
قراءتها ، قال في المسالك ـ بعد قول المصنف : «لا يجوز لها قراءة شيء من العزائم
، ويكره لها ما عدا ذلك ـ ما لفظه : «مقتضاه كراهة السبع المستثناة للجنب ، وهو
حسن لانتفاء النص المقتضى للتخصيص» انتهى. واعترضه سبطه في المدارك بأنه غير جيد
قال : «بل المتجه عدم كراهة قراءة ما عدا العزائم بالنسبة إليها مطلقا ، لانتفاء
ما يدل على الكراهة بطريق الإطلاق أو التعميم حتى يحتاج استثناء السبع الى المخصص
، ورواية سماعة التي هي الأصل في كراهة قراءة ما زاد على السبع مختصة بالجنب فتبقى
الأخبار الصحيحة المتضمنة لإباحة قراءة الحائض ما شاءت سالمة عن المعارض» انتهى. أقول
: قد تقدم في باب الجنب رواية الصدوق في الخصال عن السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «سبعة لا يقرأون القرآن.».
__________________
وعد منهم الجنب والنفساء والحائض ، قال الصدوق في الكتاب المذكور بعد نقل
الخبر : «هذا على الكراهة لا على النهي وذلك ان الجنب والحائض مطلق لهم قراءة
القرآن إلا العزائم الأربع» والخبر المذكور ظاهر في إطلاق المنع للحائض من قراءة
القرآن ، مضافا ذلك الى ما ادعوه من الإجماع في المسألة كما يشعر به كلامه في
الروض ، والظاهر ان السيد لم يقف على الرواية بل الظاهر انه لو وقف عليها لردها
بضعف السند بناء على الاصطلاح الغير المعتمد ، ومما ذكرنا يظهر وجه القول المشهور
من كراهة ما عدا العزائم ، إلا انه قد قدمنا في بحث الجنابة ان الأظهر حمل ما دل
على المنع من قراءة الجنب والحائض القرآن على التقية والله العالم.
و (منها) ـ الجواز
في المسجد ، ذكره في الخلاف وتبعه الأصحاب ، وقال في المنتهى انه لم يقف فيه على
حجة ثم احتمل كون سبب الكراهة اما جعل المسجد طريقا واما إدخال النجاسة اليه.
وأورد على الأول بأنه لا وجه لتخصيص الكراهة بالحائض بل يعم كل مجتاز ، وعلى
الثاني ان ذلك محرم عنده فكيف يكون سببا في الكراهة؟ وعللها في الروض بالتعظيم ولا
بأس به. والحق جماعة من الأصحاب بالمساجد المشاهد ، قال في الروض : «وهو حسن بل
الأمر في المشاهد أعظم لتأديتها فائدة المسجد وتزيد بشرف المدفون بها» والله
العالم.
الفصل الثالث
في غسل
الاستحاضة ، قيل وهي في الأصل استفعال من الحيض يقال استحيضت المرأة بالبناء
للمفعول فهي تستحاض لا تستحيض إذا استمر بها الدم بعد أيامها فهي مستحاضة ، ذكره
الجوهري وهو يعطي ان بناء المعلوم غير مسموع ، ثم استعمل في دم فاسد يخرج من عرق
في أدنى الرحم يسمى العاذل ، وتعريفه يعلم مما قدمناه في تعريف
__________________
الحيض ، فهو في الأغلب دم اصفر بارد رقيق يخرج بفتور ، وانما قيدناه
بالأغلب لأنه قد يكون بهذه الصفات حيضا وقد يكون بصفة الحيض استحاضة ، ومنه ايضا
ما نقص عن الثلاثة التي هي أقل الحيض ما لم يكن دم قرح ولا عذرة وما زاد على
العادة بعد الاستظهار والأصحاب عبروا هنا بما زاد عن أيام العادة مع تجاوز العشرة
، وقد تقدم ما فيه ، ومنه ما تراه قبل بلوغ التسع وان لم يوجب الأحكام في الحال لكن
عند البلوغ يجب عليها الغسل والوضوء كما تقدم في بحث الوضوء من انه قد يتخلف
المسبب عن السبب لفقد شرطه ، ومنه ما يكون بعد بلوغ سن اليأس.
وكيف كان
فالبحث هنا يقع في مقامات (الأول) ـ لا يخفى ان المستحاضة اما ان يثقب دمها الكرسف
أولا وعلى الأول فاما ان يسيل أو لا ، فان لم يثقب الكرسف فهي قليلة وان ثقب ولم
يسل عنه فهي متوسطة وان سال فهي كثيرة ، فههنا أقسام ثلاثة :
(الأول) ما لم
يثقب الكرسف ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجب عليها عند كل صلاة
تغيير القطنة والوضوء ، وعن ابن ابي عقيل انه لا غسل عليها ولا وضوء ، وعن ابن
الجنيد ان عليها في اليوم والليلة غسلا واحدا ، قال ابن ابي عقيل على ما نقله في
المختلف : «يجب عليها الغسل عند ظهور دمها على الكرسف لكل صلاتين غسل ، تجمع بين
الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء بغسل وتفرد الصبح بغسل ، واما ان لم يظهر
الدم على الكرسف فلا غسل عليها ولا وضوء» وقال ابن الجنيد : «المستحاضة التي يثقب
دمها الكرسف تغتسل لكل صلاتين آخر وقت الاولى وأول وقت الثانية منهما وتصليهما ،
وتفعل للفجر مفردا كذلك ، والتي لا يثقب دمها الكرسف تغتسل في اليوم والليلة مرة
واحدة ما لم يثقب» وظاهر هاتين العبارتين ان المستحاضة منحصر في فردين خاصة فادرجا
المتوسطة في الكبرى ، واما الصغرى فابن ابي عقيل نفى عنها الغسل والوضوء وابن
الجنيد أوجب عليها غسلا واحدا في اليوم والليلة.
حجة المشهور
فيما ذكروه ، اما بالنسبة إلى تغيير القطنة فعلل بعدم العفو عن هذا
الدم في الصلاة قليله وكثيره ، قال في المنتهى : «ولا خلاف عندنا في وجوب
الأبدال» وهو مؤذن بدعوى الإجماع عليه ولعله الحجة عندهم وإلا فعدم العفو عن هذا
الدم قليله وكثيره كما ادعوه لم يقم عليه دليل وانما هو إلحاق من الشيخ بدم الحيض
كما سيأتي بيانه في موضعه ان شاء الله تعالى ، مع انه قد ورد العفو عما لا تتم
الصلاة فيه وبه قال الأصحاب وهذا من جملته ، واما بالنسبة إلى الوضوء لكل صلاة فما
رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال
: تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلى كل صلاة
بوضوء ما لم يثقب الدم. الحديث». ووصف هذه الرواية في المدارك بالصحة وهو سهو فإن
الراوي عن زرارة فيها ابن بكير وهو ربما رد حديثه في غير موضع من شرحه. وفي صحيحة
معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «... وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.».
وفي صحيحة الصحاف «... وان كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ
ولتصل عند وقت كل صلاة.». وفي الفقه الرضوي «فان لم يثقب الدم القطن صلت صلاتها كل صلاة بوضوء. الحديث». وسيأتي تمامه
ان شاء الله تعالى.
وعن ابن أبي
عقيل انه احتج بصحيحة ابن سنان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلي الظهر
والعصر ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر.».
قال : وترك الوضوء يدل على عدم الوجوب وهذه الرواية قد احتج بها له في المختلف ،
والظاهر انه تكلفها له حيث لم يقف له على دليل وإلا فإن هذه الرواية لا تعلق لها
بالمسألة أصلا ، إذ غاية ما تدل
__________________
عليه عدم وجوب الوضوء مع الأغسال الثلاثة الواجبة في الكبرى وهو بمعزل عما
نحن فيه
وعن ابن الجنيد
انه احتج بموثقة سماعة قال قال : «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل
صلاتين غسلا وللفجر غسلا ، وان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة
والوضوء لكل صلاة.». وأجاب عنه في المختلف بأنه محمول على نفوذ الدم الكرسف واليه
أشار بقوله : «وان لم يجز الدم الكرسف» يعني إذا نفذ الى ظاهره ولم يتجاوز. وهو
جيد وسيأتي مزيد تحقيق له ان شاء الله تعالى.
واما ما ذكره
في الذخيرة من حمل الخبر المذكور على الاستحباب فهو بعيد عن جادة الصواب كما سيظهر
لك ان شاء الله تعالى في الباب ، واما ما ادعى انه مؤيد للاستحباب حيث قال ـ :
ومما يؤيد ذلك ما رواه الشيخ عن إسماعيل الجعفي في القوى عن الباقر (عليهالسلام) قال : «المستحاضة تقعد أيام قرئها ثم تحتاط بيوم أو
يومين فإن هي رأت طهرا اغتسلت ، وان هي لم تر طهرا اغتسلت واحتشت فلا تزال تصلي
بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف فإذا ظهر أعادت الغسل وأعادت الكرسف». ـ ففيه
ان الرواية المذكورة وان كانت مجملة بالنسبة إلى الوضوء لكل صلاة لكنها يجب حملها
على الاخبار المتقدمة والغسل المذكور في صدرها «إن رأت الطهر أو لم تره» انما هو
غسل الحيض لانقطاعه بعد الاستظهار وجد الدم أو انقطع فكأنه قال تغتسل للانقطاع على
كلا التقديرين ، ولعل منشأ توهمه من قوله (عليهالسلام) : «فلا تزال تصلى بذلك الغسل» وباب المجاز أوسع من ان
ينكر. وربما أشعرت هذه الرواية بما هو المشهور من تغيير القطنة إلا انك قد عرفت
قيام الدليل الصحيح الصريح على العفو عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه ، واستثناء دم
الاستحاضة مما لم يقم عليه دليل فينبغي حمل هذه الرواية ونحوها على الاستحباب
(القسم الثاني)
ـ أن يثقبه ولا يسيل عنه ، والمشهور انه يجب عليها مع ذلك تغيير الخرقة والغسل
لصلاة الغداة ، أما تغيير الخرقة فلما تقدم في تغيير القطنة وقد
__________________
عرفت ما فيه ، واما الغسل لصلاة الغداة فهو المشهور. وقد تقدم عن ابن ابي
عقيل وابن الجنيد انهما ساويا بين هذا القسم والقسم الثالث في وجوب الأغسال
الثلاثة ، وبه جزم في المعتبر فقال : «والذي ظهر لي انه ان ظهر الدم على الكرسف
وجب ثلاثة أغسال وان لم يظهر لم يكن عليها غسل وكان عليها الوضوء لكل صلاة» وتبعه
العلامة في المنتهى كما هي عادته غالبا حيث انه في الأكثر يحذو حذو المعتبر وان
زاد عليه في البحث والاستدلال والى هذا القول ايضا مال في المدارك ، ونقله عن شيخه
المعاصر والمراد به المحقق الأردبيلي (رحمهالله) كما أشار إليه بذلك في غير موضع ، وتبعهم في ذلك
الفاضل الخراساني في الذخيرة والمحقق الشيخ حسن والشيخ البهائي وغيرهم.
قال في المدارك
في الاستدلال على ذلك : «لنا ما رواه الشيخ في الصحيح ، ثم نقل صحيحة معاوية بن
عمار وصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة صفوان بن يحيى الآتيات في القسم الثالث ، قال
: وهي مطلقة في وجوب الأغسال الثلاثة خرج منها من لم يثقب دمها الكرسف بالنصوص
المتقدمة فيبقى الباقي مندرجا في الإطلاق ، ثم قال : احتج المفصلون بصحيحة الحسين
بن نعيم الصحاف عن ابى عبد الله (عليهالسلام) حيث قال فيها : «ثم لتنظر فان كان الدم فيما بينها وبين
المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف ،
فان طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل ، وان طرحت الكرسف ولم يسل الدم
فلتتوضأ ولتصل ولا غسل عليها ، قال وان كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف
الكرسف صبيبا لا يرقأ فإن عليها ان تغتسل في كل يوم وليلة ثلاث مرات». وصحيحة
زرارة قال : «قلت له النفساء متى تصلي؟ قال تقعد قدر حيضها وتستظهر بيومين فان
انقطع الدم والا اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلت ، فان جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت
ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل ،
__________________
وان لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد.». والجواب عن الرواية الاولى ان
موضع الدلالة فيها قوله (عليهالسلام) : «فان طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل» وهو
غير محل النزاع فان موضع الخلاف ما إذا لم يحصل السيلان ، مع انه لا إشعار في
الخبر بكون الغسل للفجر فحمله على ذلك تحكم ، ولا يبعد حمله على الجنس ويكون تتمة
الخبر كالمبين له. وعن الرواية الثانية انها قاصرة من حيث السند بالإضمار ، ومن
حيث المتن فإنها لا تدل على ما ذكروه نصا ، فان الغسل لا يتعين كونه لصلاة الفجر
بل ولا للاستحاضة لجواز ان يكون المراد به غسل النفاس ، فيمكن الاستدلال بها على
المساواة بين القسمين» انتهى كلامه.
أقول : لا يخفى
ان صحيحة الصحاف التي ذكرها لا تخلو من الإجمال في هذا المجال ، وغاية ما يستفاد
منها انه مع وضع الكرسف فان كان الدم لا يسيل من خلف الكرسف فعليها الوضوء خاصة
وان سال من خلفه فان عليها اغسالا ثلاثة ، وهذا التفصيل بحسب الظاهر لا ينطبق على
شيء من القولين ، لأن المتوسطة عندهم هي التي يظهر دمها على الكرسف ولا يسيل عنه
، فهي لا تدخل في ذات الأغسال الثلاثة لأنها مخصوصة بمن يسيل دمها عن الكرسف صبيبا
، ولا في الاولى ـ وان احتملها لفظ العبارة ـ لأنه جعل حكمها الوضوء خاصة والفتوى
في المتوسطة على وجوب الغسل متحدا أو متعددا على القولين المذكورين. فاما التفصيل
الآخر في الرواية بالسيلان وعدمه بعد طرح الكرسف عنها فلا يصلح للاستدلال ولا يدخل
في هذا المجال ، لان التقسيم إلى الأقسام الثلاثة مرتب على وضع الكرسف وانه هل
يثقبه الدم أم لا ومع ثقبه هل يسيل عنه أم لا؟ فسيلان الدم مع عدم وضع الكرسف خارج
عن موضع المسألة ، وكما يحتمل في هذا الغسل هنا الاتحاد كما ادعاه من استدل بالرواية
على ما ذكره السيد (رحمهالله) هنا يحتمل الجنس ايضا فيكون المراد به الأغسال الثلاثة
ويكون الكلام في آخر الرواية من قبيل التفصيل بعد الإجمال. واما طعنه في صحيحة
زرارة بالإضمار فهو مناف لما صرح به في غير موضع من شرحه هذا بأن الإضمار
غير مناف ولا مضر بصحة الرواية ولا سيما إذا كان المضمر مثل زرارة ممن لا
يعتمد في أحكام دينه على غير الامام (عليهالسلام) ولكنه (قدسسره) كما أشرنا إليه في غير موضع ليس له قاعدة يقف عليها
فان احتاج الى العمل بالرواية اعتذر عن جميع ما ربما يتطرق إليها من القدح وان لم
توافق ما ذهب اليه قدح فيها بما منع القدح به في غير ذلك المقام. واما طعنه في
متنها بأنه لا يدل على ما ذكروه نصا ففيه إشعار بأنه يدل عليه ظاهرا وهو كاف في
الاستدلال ، إذ لا يشترط في الدلالة خصوص النص بل يكفي ما هو الظاهر المتبادر الى
الفهم. واما ما ذكره ـ من ان الغسل لا يتعين كونه لصلاة الفجر ولا للاستحاضة لجواز
ان يكون المراد به غسل النفاس ـ فإنه مردود بأن الأول منهما وان كان متجها بالنظر
الى ظاهر اللفظ إلا انه سيظهر لك الجواب عنه في المقام. واما الثاني فإنه بعيد
غاية البعد بل ربما يقطع بفساده ، والظاهر ان أول من أجاب بهذا الجواب السيد السند
وتبعه جمع من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق الشيخ حسن في المنتقى والشيخ البهائي
في الحبل المتين والفاضل الخراساني في الذخيرة وغيرهم ، وبيان بعده بل فساده ان
سياق الخبر يدل بظاهره على انه مع عدم انقطاع الدم بعد قعودها بقدر حيضها واستظهارها
بيومين فإنها تعمل عمل المستحاضة ، ثم فصل الكلام في الاستحاضة بين تجاوز الدم
الكرسف فتغتسل الأغسال الثلاثة وعدم التجاوز فتغتسل غسلا واحدا ، غاية الأمر انه
ربما يقال ان عدم تجاوز الدم الكرسف شامل لصورتي القليلة والمتوسطة ، والجواب عنه
انه قد قام الدليل في القليلة انه لا غسل عليها فيختص بالمتوسطة.
بقي الكلام في
عدم تعين ذلك الغسل للصبح ، والجواب عنه انه وان أجمل هذا الحكم في هذه الرواية
ونحوها مما سيأتي في المقام إلا انه قد وقع التصريح به في الفقه الرضوي ، ومنه أخذ
الشيخ علي بن الحسين بن بابويه ذلك في رسالته الى ابنه كما نقله في الفقيه ، وقد
أشرنا في غير موضع الى ان جملة من الأحكام التي ذهب إليها المتقدمون ولم تصل
أدلتها إلى المتأخرين حتى اعترضوا عليهم بعدم وجود الدليل قد وحدت أدلتها
في هذا الكتاب ، وهو دليل على شهرته سابقا بينهم ولا سيما الشيخ علي بن الحسين
بن بابويه المذكور ، فان رسالته المذكورة كلها أو جلها إلا القليل عين عبارة
الكتاب المشار اليه كما ستقف عليه ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية ، حيث قال (عليهالسلام) في الكتاب المذكور : «وان رأت الدم أكثر من عشرة أيام
فلتقعد عن الصلاة عشرة ثم تغتسل يوم حادي عشر وتحتشي ، فان لم يثقب الدم القطن صلت
صلاتها كل صلاة بوضوء ، وان ثقب الدم الكرسف ولم يسل صلت صلاة الليل والغداة بغسل
واحد وسائر الصلوات بوضوء ، وان ثقب الدم الكرسف وسال صلت صلاة الليل والغداة بغسل
والظهر والعصر بغسل وتؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر وتصلي المغرب والعشاء الآخرة
بغسل واحد وتؤخر المغرب قليلا وتعجل العشاء الآخرة».
ثم انه مما
يؤيد صحيحة زرارة المذكورة في الدلالة على الأقسام الثلاثة المشهورة ما رواه الشيخ
في الموثق عن سماعة قال قال : «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل
صلاتين وللفجر غسلا ، وان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة والوضوء لكل
صلاة ، وان أراد زوجها ان يأتيها فحين تغتسل ، هذا ان كان دمها عبيطا وان كانت
صفرة فعليها الوضوء». والمعنى فيها انه ان ثقب الدم الكرسف اي سال عنه بقرينة
الأمر بالأغسال الثلاثة ، وقوله : «وان لم يجز الدم الكرسف» بمعنى أنه ثقبه ولم
يسل عنه بقرينة المقابلة ، وقوله : «وان كانت صفرة» كناية عن عدم ثقب الدم وهي
القليلة ، وكنى عنها بالصفرة لقلتها وضعف الدم وعدم نفوذه ، فتكون الرواية منطبقة
على الأقسام الثلاثة.
ونحوه ما رواه
في الكافي في الموثق عن سماعة أيضا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «غسل الجنابة واجب وغسل الحائض إذا طهرت واجب
وغسل المستحاضة واجب ،
__________________
إذا احتشت الكرسف فجاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين وللفجر غسل ،
وان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة والوضوء لكل صلاة. الحديث». والتقريب
فيه انه قد اشتمل على قسمي المستحاضة الكبرى والمتوسطة ولم يذكر الصغرى.
بقي الكلام في
عدم اشتمالها على كون هذا الغسل للصبح فيجب تقييدهما بكلامه في الفقه الرضوي
المعتضد بعمل أولئك الفضلاء المتقدمين الذين هم أساطين الدين بعد الأئمة الطاهرين
، وبذلك يتجه الجواب ـ عما احتج به السيد السند لذلك القول من إطلاق تلك الصحاح
المشار إليها ـ بأنه يمكن تقييد إطلاقها بهذه الاخبار كما اعترف بتقييد بعضها
باخبار الصغرى ، لان هذه الاخبار بمعونة ما ذكرناه قد اشتملت على التفصيل بين
السيلان عن الكرسف ومجرد الظهور عليه من غير سيلان ، وانه في الصورة الأولى تجب
الأغسال الثلاثة وفي الثانية يجب غسل واحد ، فيجب تقييد اخبارهم بهذه الاخبار وتكون
اخبارهم مخصوصة بالكبرى. والله العالم.
(القسم الثالث)
ـ ان يثقبه ويسيل عنه ، والظاهر انه لا خلاف هنا في وجوب الأغسال الثلاثة ، قال في
المنتهى : «وهو مذهب علمائنا اجمع» إنما الخلاف في انه هل يجب الوضوء مع هذه
الأغسال ويتعدد بتعدد الصلاة أم لا يجب بالكلية أم يجب وضوء واحد مع الغسل؟ أقوال
: فذهب جمع من متقدمي الأصحاب : منهم ـ الشيخ في النهاية والمبسوط والمرتضى وابنا
بابويه وابن الجنيد الى الثاني ، وعن ابن إدريس الأول واليه ذهب عامة المتأخرين
على ما نقله في المدارك ، وعن المفيد الثالث ، وهو انها تصلي بوضوئها وغسلها الظهر
والعصر على الاجتماع ثم تفعل ذلك في المغرب والعشاء وتفعل مثل ذلك لصلاة الليل
والغداة ، واختاره المحقق في المعتبر.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذا القسم روايات : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن
معاوية بن عمار قال : «المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي
__________________
فيها ولا يقربها بعلها فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت
للظهر والعصر تؤخر هذه وتعجل هذه وللمغرب والعشاء غسلا تؤخر هذه وتعجل هذه وتغتسل
للصبح وتحتشي وتستثفر ، الى ان قال : وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت
المسجد وصلت كل صلاة بوضوء وهذه يأتيها بعلها إلا في أيام حيضها». وهذه الرواية
وان كان ظاهرها ترتب الأغسال الثلاثة على مجرد ثقب الدم الكرسف الذي هو أعم من
السيلان وعدمه إلا انها مخصوصة بما قدمناه من الروايات الظاهرة في انه مع عدم
السيلان فليس إلا غسل واحد ، وحينئذ فتحمل هذه الرواية على السيلان كما لا يخفى
وما رواه
الكليني في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي الظهر
والعصر ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر
، ولا بأس ان يأتيها بعلها إذا شاء إلا أيام حيضها فيعتزلها بعلها ، قال وقال : لم
تفعله امرأة قط احتسابا إلا عوفيت من ذلك». وهذه الرواية وان كانت مطلقة شاملة
بإطلاقها لأقسام المستحاضة الثلاثة إلا انه يجب تقييدها باخبار القسمين المتقدمين.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي أيضا في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت له : جعلت فداك إذا مكثت المرأة عشرة أيام
ترى الدم ثم طهرت فمكثت ثلاثة أيام ظاهرة ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟
قال لا هذه مستحاضة تغتسل وتستدخل قطنة بعد قطنة وتجمع بين صلاتين بغسل ويأتيها
زوجها ان أراد». وهي أيضا مطلقة يجب تقييد إطلاقها بما ذكرناه في سابقتها.
وما رواه الشيخ
في الموثق عن فضيل وزرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها وتحتاط
بيوم أو اثنين ثم تغتسل كل يوم وليلة ثلاث مرات وتحتشي لصلاة الغداة وتغتسل وتجمع
بين الظهر والعصر بغسل
__________________
وتجمع بين المغرب والعشاء بغسل فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها ان يغشاها».
ومنها ـ صحيحة
الصحاف وقد تقدمت في القسم الثاني وكلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي وقد تقدم وهو أصرح الاخبار في بيان الأقسام الثلاثة وحكم كل منها
فينبغي ان يحمل عليه إطلاق ما عداه من اخبار الأقسام الثلاثة وإجماله.
ومنها ـ صحيحة
أبي المغراء وموثقة إسحاق بن عمار وقد تقدمتا في مسألة اجتماع الحيض مع الحبل ورواية يونس الطويلة المتقدمة المشهورة برواية السنن ، الى غير ذلك من الاخبار.
وكلها ـ كما
ترى ـ ظاهرة في عدم الوضوء متحدا أو متعددا ، إذ المقام مقام البيان فلو كان واجبا
لوقع ذكره ولو في بعضها ليحمل عليه الباقي وليس فليس. وغاية ما احتج به من قال
بوجوبه لكل صلاة عموم قوله تعالى : «... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا ... الآية» وفيه (أولا) ـ ما عرفت آنفا من دلالة النص المعتضد بدعوى الإجماع من الشيخ والعلامة
على التخصيص بالقيام من حدث النوم. و (ثانيا) ـ انه من المعلوم تقييد ذلك
بالمحدثين ولم يثبت كون الدم الخارج بعد الغسل على هذا الوجه حدثا لأن الأحكام
الشرعية مبنية على التوقيف. وقد بالغ المحقق في المعتبر في رد هذا القول والتشنيع
على قائله فقال : «وظن غالط من المتأخرين انه يجب على هذه مع الأغسال وضوء مع كل
صلاة ، ولم يذهب الى ذلك أحد من طائفتنا ، ويمكن ان يكون غلطه لما ذكره الشيخ في
المبسوط والخلاف ان المستحاضة لا تجمع بين فرضين بوضوء فظن انسحابه على مواضعها
وليس على ما ظن بل ذلك مختص بالموضع الذي يقتصر فيه على الوضوء» واما ما ذكره
المفيد والمحقق فالظاهر ان مرجعه الى وجوب الوضوء مع الغسل حيثما كان إلا غسل
الجنابة ، وبذلك صرح في المعتبر بعد ان اختار فيه مذهب المفيد والزم به الشيخ أبا
جعفر
__________________
هنا حيث ان عنده ان كل غسل لا بد فيه من الوضوء إلا غسل الجنابة ، قال : «وإذا
كان المراد بغسل الاستحاضة الطهارة لم يحصل المراد به إلا مع الوضوء ، اما علم
الهدى فلا يلزمه ذلك لان الغسل عنده يكفي عن الوضوء» أقول : يمكن الجواب عما الزم
به الشيخ بتخصيص خبر ابن ابي عمير الذي هو معتمدهم في إيجاب الوضوء مع كل غسل عدا غسل
الجنابة بهذه الأخبار الظاهرة في عدم الوضوء في هذه الصورة ، وقد تقدم تحقيق البحث
في ذلك مستوفى في غسل الجنابة وان الحق عدم وجوب الوضوء مع الأغسال كائنة ما كانت.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن تنقيح البحث في المقام يتوقف على بيان أمور :
(الأول) ـ صرح شيخنا
الشهيد الثاني في الروض ـ ونحوه غيره ـ بان وجوب الأغسال الثلاثة في هذه الحالة
انما هو مع استمرار الدم سائلا إلى وقت العشاءين فلو طرأت القلة بعد الصبح فغسل
واحد أو بعد الظهرين فغسلان خاصة. وهو حسن فإنه الظاهر من الاخبار وان كان في فهمه
من بعضها نوع غموض ، وأصرح الروايات في بيان أحكام الاستحاضة بأقسامها الثلاثة
عبارة الفقه الرضوي والظاهر من التقسيم فيها إلى الأقسام الثلاثة من عدم
ثقب الدم أو ثقبه ولم يسل أو ثقبه وسيلانه هو كون استمرار كل من هذه الحالات في
الأوقات الثلاثة كما لا يخفى ، وعليها يحمل غيرها.
(الثاني) ـ انه قد صرح
غير واحد منهم بان اعتبار الجمع بين الصلاتين انما هو لأجل الاكتفاء بغسل واحد
وإلا فلو فرقت وأفردت كل صلاة بغسل جاز بل استحب كما نقله في المدارك عن المنتهى ،
قيل : وفي بعض الروايات الموثقة أنها تغتسل عند وقت كل صلاة ، وهو مؤيد لذلك بان
يحمل على عدم الجمع ، ويمكن حمله على الأوقات الثلاثة ، والأول أقرب ، وفي رواية
يونس الطويلة «ان فاطمة بنت ابى حبيش كانت تغتسل في كل صلاة».
انتهى. أقول :
لا يخفى ان الأمر بالاغتسال وقت كل صلاة لا يستلزم
__________________
الإتيان بصلاة واحدة خاصة ، وقد أوضح هذا الإجمال في صحيحة عبد الله بن
سنان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي الظهر
والعصر ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب والعشاء».
(الثالث) قد
صرح جملة من الأصحاب بأنه يشترط معاقبة الصلاة للغسل بان تقع بعده بلا فصل ، قالوا
: ولا يقدح في ذلك الاشتغال بعده بالستر وتحصيل القبلة والأذان والإقامة لأنها
مقدمات للصلاة ، واستثنى العلامة في النهاية والشهيد في الدروس انتظار الجماعة ،
وربما منع ذلك لعدم الضرورة. أقول : لا ريب انه الأحوط وان كان في فهمه من الاخبار
نظر.
واختلفوا في
اعتبار معاقبة الصلاة للوضوء في الصغرى على قولين ، قال في المختلف : «قال الشيخ
إذا توضأت المستحاضة في أول الوقت ثم صلت آخر الوقت لم تجزها تلك الصلاة. وهو
اختيار ابن إدريس. وعندي فيه نظر أقربه الجواز ، لنا ـ العموم الدال على تجويز فعل
الطهارة في أول الوقت والعموم الدال على توسعة الوقت» ثم نقل عن الشيخ انه احتج
بأن الأخبار تدل على انه يجب عليها تجديد الوضوء عند كل صلاة وذلك يقتضي أن يتعقبه
فعل الصلاة ، ولأنها مع مقارنة الصلاة تخرج عن العهدة بيقين ومع التأخير لا تخرج
عن العهدة إلا بالدليل وهو منتف. ثم أجاب عن الأول بالمنع من دلالة الاخبار على ما
ادعاه فان بعضها ورد بقوله : «فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة». ولا دلالة في ذلك
على ما ادعاه ، وفي بعضها «وصلت كل صلاة بوضوء». ولا دلالة فيه ايضا ، وفي بعضها «الوضوء
لكل صلاة». ولا شيء من هذه الاخبار دال على ما ذكره الشيخ. وعن الثاني ان الدليل
على خروجها عن العهدة قائم وهو الامتثال. انتهى. أقول : اما ما أجاب به عن الأول
فحسن فإن الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على ما ادعاه الشيخ. واما ما أجاب به عن
الثاني فهو لا يخرج عن المصادرة ، فإن مقتضى كلام الشيخ انه لا يحصل الامتثال
__________________
الموجب للخروج عن العهدة إلا بالمقارنة فكيف يدعي ان الدليل على الخروج عن
العهدة الامتثال؟ وربما أيد مذهب الشيخ هنا بان العفو عن حدثها المستمر الواقع في
الصلاة أو بينها وبين الطهارة انما وقع للضرورة فيقتصر فيها على ما تقتضيه مما لا
يمكن الانفكاك عنه ، واعتبار الجمع بين الفرضين بغسل ايضا يدل عليه. وبالجملة
فالمسألة لفقد النص لا تخلو من الاشكال ، والاحتياط فيها بما ذكره الشيخ مطلوب على
كل حال.
(الرابع) ـ هل
الاعتبار في كمية الدم وقلته وكثرته بوقت الصلاة لأنه وقت الخطاب بالطهارة فلا اثر
لما قبله ، أو انه كغيره من الأحداث متى حصل كفى في وجوب موجبه لأنه حدث فيمنع
سواء كان حصوله في وقت الصلاة أم في غيره؟ قولان ، اختار أولهما في الدروس
وثانيهما في البيان ورجحه في الروض ونقله عن ظاهر العلامة ، وفي الذكرى نسب القول
الأول إلى لفظ «قيل» بعد ان ذكر فيها ان ظاهر خبر الصحاف يشعر به ، واستدل على
القول الثاني بإطلاق الروايات المتضمنة لكون الاستحاضة موجبة للوضوء أو الغسل ، وبقوله
(عليهالسلام) في خبر الصحاف : «فلتغتسل وتصلي الظهرين ثم لتنظر فان كان الدم لا
يسيل فيما بينها وبين المغرب فلتتوضأ ولا غسل عليها وان كان إذا أمسكت يسيل من
خلفه صبيبا فعليها الغسل». واستند في الدروس ايضا الى خبر الصحاف كما في الذكرى
فقال : «والاعتبار في كميته بأوقات الصلاة في ظاهر خبر الصحاف» وفيه ما عرفت من
ظهور دلالة الخبر المذكور في القول الآخر. واما ما استندوا اليه ـ من ان وقت
الصلاة هو وقت الخطاب بالطهارة فلا اثر لما قبله ـ ففيه ان الحدث مانع سواء كان في
الوقت أم لا والا لم تجب الطهارة من غيره من الأحداث إذا طرأ قبل الوقت ، ومن ذلك
يظهر قوة القول الثاني. ويتفرع على الخلاف المذكور ما لو كثر قبل الوقت ثم طرأت
القلة ، فعلى القول الأول لا غسل عليها ما لم توجد في الوقت متصلة أو طارئة ، وعلى
الثاني يجب الغسل للكثرة المتقدمة. ولو طرأت الكثرة
__________________
بعد صلاة الظهرين فلا غسل لهما ، واما بالنسبة إلى العشاءين فيراعى استمرار
الكثرة إلى وقتهما على الأول وعلى الثاني يجب الغسل لهما وان لم يستمر. وهل يتوقف
صوم اليوم الحاضر على هذا الغسل الطارئ سببه بعد الظهرين؟ الظاهر العدم على كل من
القولين اما على الأول فلانه لا يوجب الغسل إلا بعد وجوده في وقت العشاءين وقد
انقضى الصوم ، واما على الثاني فلانه وان حكم بكونه حدثا في الجملة لكنهم حكموا
بصحة الصوم مع إتيانها بالأغسال ، والغسل لهذا الحدث انما هو في الليلة المستقبلة
فلا يتوقف عليه صحة صوم اليوم الماضي ، واختار في الذكرى وجوبه هنا للصوم في سياق
التفريع على ان الاعتبار في كميته بأوقات الصلاة ، وتوقف العلامة في التذكرة.
(الخامس) ـ ظاهر
الاخبار المتقدمة ان المدار في ثبوت الكثرة الموجبة للأغسال الثلاثة هو ثقب الدم
الكرسف وخروجه منه أعم من ان يكون يخرج من الخرقة التي يشد بها الكرسف أم لا ، وهو
ايضا ظاهر كلام أكثر الأصحاب ، وظاهر عبارة المفيد في المقنعة انه لا بد من خروجه
من الخرقة وسيلانه منها ، وجعل المتوسطة هي التي يثقب دمها الكرسف ويرشح على الخرق
ولكن لا يسيل منها ، وهذه هي الكثيرة عند الأصحاب ، ولم أر في الاخبار ما يدل عليه
، إذ الذي جعل فيها مناطا للكثيرة والمتوسطة هو ثقب الكرسف وعدمه من غير تعرض
للخرقة ، ونقل شيخنا المجلسي في بعض حواشيه عن المحقق الشيخ علي في بعض حواشيه انه
ذهب الى ما ذكره الشيخ المفيد (رحمهالله) وفيه ما عرفت.
(السادس) ـ صرح
غير واحد من الأصحاب بأنه لو أرادت ذات الدم المتوسط أو الكثير التهجد في الليل
قدمت الغسل على الفجر واكتفت به ، قال في الذخيرة بعد نقل الحكم المذكور : «ولا
اعلم فيه خلافا بينهم ولم اطلع على نص دال عليه» أقول : قد عرفت ان كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي دال عليه ولكنه لم
__________________
يصل اليه ، والظاهر انه هو المستند لمن ذكر هذا الحكم من المتقدمين ولا
سيما الصدوقين كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى. قال في الروض : «وينبغي
الاقتصار في التقديم على ما يحصل به الغرض ليلا فلو زادت على ذلك هل يجب إعادته؟
يحتمل لما مر في الجمع بين الصلاتين به ، وعدمه للإذن في التقديم من غير تقييد»
أقول : لا يخفى ضعف الوجه الثاني من وجهي الاحتمال المذكور ، وذلك (أولا) ـ لما
تقدم من تصريحهم بوجوب معاقبة الصلاة للغسل وهو المشار إليه في كلامه «لما مر. إلخ»
و (ثانيا) ـ انه ليس في الخبر الذي هو المستند في الحكم المذكور لفظ التقديم حتى
يمكن الاستناد إلى إطلاقه وانما وقع هذا اللفظ في عبارات الأصحاب. والذي في كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي انما هو «ان ثقب الدم الكرسف ولم يسل صلت صلاة الليل
والغداة بغسل». وبنحو ذلك عبر في ذات الأغسال الثلاثة كما تقدم نقل كلامه (عليهالسلام) وظاهره انما هو معاقبة الصلاة للغسل كما تقدم.
(المقام الثاني)
ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنها إذا فعلت ما هو الواجب عليها في الأقسام
الثلاثة فإنها تكون بحكم الطاهر وتستبيح ما تستبيحه الطاهر من الأمور المشروطة
بالطهارة ، فتصح صلاتها وصومها ودخولها المساجد ومس القرآن ونحو ذلك ، الا انه قد
وقع الخلاف في جواز إتيانها قبل الغسل ونحوه. فقيل بالجواز على كراهية ، واختاره المحقق
في المعتبر ، وتبعه جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك والفاضل
الخراساني في الذخيرة وغيرهما ، وقيل بتوقف ذلك على الغسل خاصة ، وقيل بتوقفه على
الوضوء ايضا ، وقيل بتوقفه على جميع ما تتوقف عليه الصلاة ، ونسبه في الذكرى الى
ظاهر الأصحاب ، ونقل عن المفيد القول بتوقفه ايضا على نزع الخرق وغسل الفرج ،
والظاهر عندي هو القول المشهور من توقفه على ما تتوقف عليه الصلاة وانه تابع لها
فمتى حلت لها الصلاة حل لزوجها ان يأتيها وإلا فلا ، وحيث ان أول من تصدى لنصرة
مذهب المحقق في هذه
__________________
المسألة السيد في المدارك فلا بأس بنقل كلامه وبيان ما في نقضه وإبرامه ،
قال ـ بعد ذكر اشتراط إتيانها بما يجب عليها من الغسل والوضوء وتغيير القطنة
والخرقة في كونها بحكم الطاهر ـ ما صورته : «وفي جواز إتيانها قبله أقوال ، أظهرها
الجواز مطلقا وهو خيرة المصنف في المعتبر ، لعموم قوله تعالى : «فَإِذا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ» وقوله (عليهالسلام) في صحيحة ابن سنان : «ولا بأس ان يأتيها بعلها متى شاء إلا في أيام حيضها».
وفي صحيحة صفوان بن يحيى : «ويأتيها زوجها إذا أراد». وقيل بتوقفه على الغسل
خاصة ، لقوله (عليهالسلام) في رواية عبد الملك بن أعين في المستحاضة : «ولا يغشاها حتى يأمرها بالغسل». وفي السند ضعف وفي
المتن إجمال لاحتمال ان يكون الغسل المأمور به غسل الحيض. وقيل باشتراط الوضوء
ايضا لقوله (عليهالسلام) في رواية زرارة وفضيل : «فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها ان يغشاها». وهي مع
ضعف سندها وخلوها من ذكر الوضوء لا تدل على المطلوب ، بل ربما دلت على نقيضه إذ
الظاهر ان المراد من حل الصلاة الخروج من الحيض كما يقال لا تحل الصلاة في الدار
المغصوبة فإذا خرج حلت ، فان معناه زوال المانع الغصبي وان افتقر بعد الخروج منها
إلى الطهارة وغيرها من الشرائط» انتهى. واقتفاه في هذا التقرير جملة ممن تأخر عنه
: منهم ـ الفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره.
أقول : والظاهر
من الاخبار لمن تأمل فيها بعين الفكر والاعتبار هو تبعية حل الوطء لحل الصلاة كما
دلت عليه رواية زرارة وفضيل المذكورة وغيرها ، وها أنا أوضح لك الحال بتوفيق الملك
المتعال بما تنقطع به مادة الإشكال.
فأقول : أما رواية
زرارة وفضيل المشار إليها فهي ما روياه عن أحدهما (عليهما
__________________
السلام) قال : «المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها وتحتاط
بيوم أو اثنين ثم تغتسل كل يوم وليلة ثلاث مرات وتحتشي لصلاة الغداة وتغتسل وتجمع
بين الظهر والعصر بغسل وتجمع بين المغرب والعشاء بغسل ، فإذا حلت لها الصلاة حل
لزوجها ان يغشاها». وما طعن به عليها من ضعف السند فهو غير مسموع عندنا ولا معتمد
لما عرفت في مقدمات الكتاب ، وكذا عند غيرنا من قدماء الأصحاب الذين لا اثر لهذا
الاصطلاح عندهم ، على ان الدلالة على ما ندعيه غير منحصرة في هذه الرواية بل هو
مدلول أخبار عديدة. واما طعنه في متنها من حملها على ما ذكره من ان المراد من حل
الصلاة يعني الخروج من الحيض فهو مبني على رجوع قوله في آخر الرواية : «فإذا حلت
لها الصلاة. إلخ» الى ما ذكره في صدر الرواية من قوله : «تكف عن الصلاة أيام
أقرائها» وهو تعسف ظاهر كما لا يخفى على الخبير الماهر ، فان هذا الكلام انما هو
مرتبط بحكم المستحاضة المذكور بعد حكم الحائض كما سيظهر لك من الاخبار الآتية ان
شاء الله تعالى ، والتقريب فيها انه بعد ذكر الحيض وأيام الاستظهار بين انها تحتاج
في الإتيان بالصلاة الى هذه الأغسال وان الصلاة تتوقف عليها ثم بين انه متى حلت
لها الصلاة بذلك حل لزوجها ان يغشاها.
وأظهر منها في
إفادة هذا المعنى صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المستحاضة أيطأها زوجها وهل تطوف بالبيت؟ قال تقعد
قرءها الذي كانت تحيض فيه فان كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به وان كان فيه خلاف
فلتحتط بيوم أو يومين ولتغتسل وتستدخل كرسفا فان ظهر على الكرسف فلتغتسل ثم تضع
كرسفا آخر ثم تصلي فإذا كان الدم سائلا فلتؤخر الصلاة الى الصلاة ثم تصلي صلاتين
بغسل واحد ، وكل شيء استحلت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت». وهي مع صحة
سندها صريحة في المراد عارية عن وصمة الإيراد ، وهي
__________________
ـ كما ترى ـ مثل الرواية الأولى قد اشتملت أولا على حكم الحيض ثم الاستظهار
ثم حكم المستحاضة وانها تصلي بعد الإتيان بالأغسال الثلاثة ، ثم ذكر ان كل شيء
استحلت به الصلاة وكان مبيحا لها فهو مبيح لإتيان زوجها وطوافها.
ومن الأخبار في
المسألة أيضا ما رواه المحقق في المعتبر من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب في الصحيح
قال : روى الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن أبي أيوب عن محمد بن مسلم عن
ابي جعفر (عليهالسلام) «في الحائض إذا رأت دما بعد أيامها التي كانت ترى الدم
فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فان صبغ القطنة دم لا ينقطع
فلتجمع بين كل صلاتين بغسل ويصيب منها زوجها ان أحب وحلت لها الصلاة».
وما رواه في
قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المستحاضة كيف تصنع؟ قال إذا مضى وقت طهرها الذي
كانت تطهر فيه فلتؤخر الظهر الى آخر وقتها ثم تغتسل ثم تصلي الظهر والعصر فان كان
المغرب فلتؤخرها إلى آخر وقتها ثم تغتسل ثم تصلي المغرب والعشاء فإذا كان صلاة
الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر ثم تصلي ركعتين قبل الغداة ثم تصلي الغداة. قلت
يواقعها زوجها؟ قال إذا طال بها ذلك فلتغتسل ولتتوضأ ثم يواقعها ان أراد». والظاهر
ان المراد بالوضوء المعنى اللغوي وهو غسل الفرج.
ومنها ـ ما
رواه سماعة في الموثق قال : «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل
صلاتين وللفجر غسلا ، وان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة والوضوء لكل
صلاة ، وان أراد زوجها ان يأتيها فحين تغتسل. الحديث». وقد تقدم بيان معناه.
ومنها ـ ما
رواه صفوان بن يحيى في الصحيح عن ابي الحسن (عليهالسلام)
__________________
قال : «قلت له جعلت فداك إذا مكثت المرأة عشرة أيام ترى الدم ثم طهرت فمكثت
ثلاثة أيام طاهرة ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال لا هذه مستحاضة تغتسل
وتستدخل قطنة وتجمع بين صلاتين بغسل ويأتيها زوجها ان أراد».
ومنها ـ ما في
الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) بعد ذكر المستحاضة : «والوقت الذي يجوز فيه نكاح
المستحاضة وقت الغسل وبعد ان تغتسل وتتنظف لان غسلها يقوم مقام الطهر للحائض».
فهذه جملة من
الاخبار واضحة الدلالة ظاهرة المقالة في ان جماع المستحاضة انما هو بعد الغسل وانه
تابع لحل الصلاة ، وحينئذ فما استندوا اليه من إطلاق الآية والاخبار المتقدمة فهو
مخصص بما ذكرنا من الاخبار الواضحة عملا بالقاعدة المقررة المسلمة بينهم ، والعمل
بإطلاق الآية والأخبار موجب لطرح هذه الأخبار ، واما الجمع بحملها على الاستحباب ـ
كما هو قاعدتهم في غير باب ـ فقد عرفت ما فيه في غير موضع من الكتاب من أنه (أولا)
ـ لا دليل عليه. و (ثانيا) ـ بأنه مجاز موقوف على القرينة واختلاف الأخبار ليس من
قرائن المجاز ، ويؤيد ما ذهبنا إليه أنه الأوفق بالاحتياط الذي هو أحد المرجحات
الشرعية في مقام اختلاف الأخبار كما صرحت به رواية زرارة الواردة في طرق الترجيح
والله العالم.
(المقام الثالث)
ـ للظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان المستحاضة متى أخلت بشيء من الأفعال
الواجبة عليها من وضوء أو غسل كما تضمنته الأخبار المتقدمة فإنه لا تصح صلاتها ولا
يباح لها ما يباح للطاهر ، ولو أخلت بالأغسال في المتوسطة أو الكبرى فإنه لا يصح
صومها ، وقد تقدم في الاخبار المتقدمة ما يدل على الحكم الأول واما الحكم الثاني
فاستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : «كتبت إليه : امرأة طهرت من حيضها أو من دم
نفاسها في أول يوم من شهر رمضان ثم استحاضت
__________________
فصلت وصامت شهر رمضان كله من غير ان تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل
صلاتين ، فهل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فكتب تقضي صومها ولا تقضي صلاتها لان رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) كان يأمر فاطمة والمؤمنات من نسائه بذلك». ورواه
الكليني في الصحيح ايضا نحوه ورواه الصدوق في الفقيه بطرق ثلاث فيها الصحيح مثله .
وهذا الخبر من
مشكلات الاخبار ومعضلات الآثار وذلك من وجهين : (أحدهما) ـ ما يشعر به من ان فاطمة
(عليهاالسلام) كانت ترى الدم مع ما تكاثرت به الاخبار من انها لم تر
حمرة قط لا حيضا ولا استحاضة . و (ثانيهما) ـ ما اشتمل عليه من الحكم بعدم قضاء
الصلاة مع الحكم بقضاء الصوم مع ان العكس كان أقرب وبالانطباق على الأصول انسب ،
إذ الصلاة مشروطة بالطهارة بخلاف الصوم فإنه ربما اتفق مع الحدث
__________________
في الجملة ، ويظهر من الشيخ في المبسوط التوقف في هذا الحكم حيث أسنده إلى
رواية الأصحاب ، وهو في محله لما عرفت وجل الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد عملوا
بالخبر في الحكم الأول وتركوا الحكم الثاني ، وربما ظهر من رواية الصدوق له في
الفقيه من غير تعرض للطعن في متنه العمل بمضمونه ، وكذا الشيخ كما يفهم من تأويله
الآتي.
والاشكال الأول
انما يتوجه على رواية الشيخ والكليني للخبر المذكور كما قدمناه واما الصدوق في
الفقيه فإنه رواه هكذا : «لان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك». وكذلك في العلل
رواه كما في الفقيه. وربما أجيب ـ على تقدير صحة هذه الزيادة ـ بأنه كان يأمر
فاطمة ان تأمر المؤمنات بذلك ، ويعضده ما في صحيحة زرارة قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن قضاء الحائض الصلاة ثم تقضي الصوم؟ فقال ليس عليها
ان تقضي الصلاة وعليها ان تقضي صوم شهر رمضان. ثم اقبل علي فقال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يأمر بذلك فاطمة وكانت تأمر بذلك المؤمنات». واحتمل
بعضهم ان المراد بفاطمة هنا بنت ابي حبيش المتقدمة في حديث السنن فإنها كانت مشهورة بكثرة الاستحاضة والسؤال عن مسائلها
في ذلك الزمان كما يفهم من الحديث المشار اليه ويكون ذكر الصلاة والسلام بعد لفظ
فاطمة في الخبر المذكور ناشئا من توهم بعض الرواة ونقلة الخبر انها فاطمة الزهراء (عليهاالسلام).
واما الإشكال
الثاني فقد أجيب عنه بوجوه : (الأول) ـ ما ذكره الشيخ في التهذيب حيث قال : «لم
يأمرها بقضاء الصلاة إذا لم تعلم ان عليها لكل صلاتين غسلا ولا تعلم ما يلزم
المستحاضة ، فاما مع العلم بذلك والترك له على العمد يلزمها القضاء» واعترضه في
المدارك بأنه ان بقي الفرق بين الصوم والصلاة فالإشكال بحاله وان حكم بالمساواة
بينهما ونزل قضاء الصوم على حالة العلم وعدم قضاء الصلاة على حالة الجهل فتعسف ظاهر.
(الثاني) ـ ما
أجاب به المولى الأردبيلي من ان المراد لا يجب عليها قضاء
__________________
جميع الصلوات لان منها ما كان واقعا في الحيض. ورده في الحبل المتين بأنه
مع بعده محل كلام فإن الصلاة في قول السائل : «هل يجوز صومها وصلاتها» المراد بها
الصلاة التي أتت بها في شهر رمضان وهو الزمان الذي استحاضت فيه كما يدل عليه قوله
: «طهرت من حيضها أو نفاسها من أول شهر رمضان» وليس الكلام في الصلاة التي قعدت
عنها أيام حيضها قبل دخول شهر رمضان ، واما تعليق الجار في قوله : «من أول شهر
رمضان» بالحيض أو النفاس فمع انه بعيد عن ظاهر الكلام بمراحل لا يجدي نفعا. انتهى.
وهو جيد
(الثالث) ـ ما
ذكره في المنتقى قال : «والذي يختلج في خاطري ان الجواب الواقع في الحديث غير
متعلق بالسؤال المذكور والانتقال الى ذلك من وجهين : (أحدهما)
ـ قوله فيه : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يأمر فاطمة. إلخ» فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما يكثر وقوعه ويتكرر ،
وكيف يعقل كون تركهن ما تعمله المستحاضة في شهر رمضان جهلا كما ذكره الشيخ أو
مطلقا مما يكثر وقوعه؟ و (ثانيهما) ـ ان هذه العبارة بعينها مضت في حديث من
اخبار الحيض في كتاب الطهارة مرادا بها قضاء الحائض للصوم دون الصلاة وبينا وجه
تأويلها على ما يروى في أخبارنا من ان فاطمة (عليهاالسلام) لم تكن تطمث ، ولا يخفى أن للعبارة بذلك الحكم مناسبة
ظاهرة تشهد بذلك السليقة لكثرة وقوع الحيض وتكرره والرجوع إليه في حكمه ، وبالجملة
فارتباطها بذلك الحكم ومنافرتها لقضية الاستحاضة مما لا يرتاب فيه أهل الذوق
السليم ، وليس بالمستبعد ان يبلغ الوهم الى وضع الجواب مع غير سؤاله ، فإن من شأن
الكتابة في الغالب ان تجمع الأسئلة المتعددة فإذا لم ينعم الناقل نظره فيها يقع له
نحو هذا الوهم» وهو جيد إلا ان فتح هذا الباب في الاخبار مشكل.
(الرابع) ـ ما
أفاده الأمين الأسترآبادي حيث قال : «السائل سأل عن حكم المستحاضة التي صامت وصلت
في شهر رمضان ولم تعمل أعمال المستحاضة والامام ذكر حكم الحائض وعدل عن جواب
السؤال من باب التقية ، لأن الاستحاضة من باب الحدث
الأصغر عند العامة فلا توجب غسلا عندهم واما ما افاده الشيخ فلم يظهر له وجه ، بل أقول : لو
كان الجهل عذرا لكان عذرا في الصوم ايضا ، مع ان سياق كلامهم (عليهمالسلام) الوارد في حكم الأحداث يقتضي ان لا يكون فرق بين
الجاهل بحكمها ولا بين العالم به» انتهى. وهو لا يخلو من قرب.
(الخامس) ـ ما
نقل عن بعض الأفاضل حيث قال : «خطر لي احتمال لعله قريب لمن تأمله بنظر صائب ، وهو
انه لما كان السؤال مكاتبة وقع (عليهالسلام) تحت قول السائل «فصلت» «تقضي صلاتها» وتحت قوله «صامت»
«تقضي صومها
__________________
ولاء» اي متواليا ، والقول بالتوالي ولو على وجه الاستحباب ودليله كذلك فهذا من جملته ، وذلك كما هو متعارف في
التوقيع من الكتابة تحت كل مسألة ما يكون جوابا لها حتى انه قد يكتفى بنحو «لا» و
«نعم» بين السطور ، أو انه (عليهالسلام) كتب ذلك تحت قوله : «هل يجوز صومها وصلاتها» وهذا أنسب
بكتابة التوقيع وبالترتيب من غير تقديم وتأخير ، والراوي نقل ما كتبه (عليهالسلام) ولم يكن فيه واو يعطف «تقضي صلاتها» أو انه كان «تقضي
صومها ولا وتقضي صلاتها» بواو العطف من غير إثبات همزة فتوهمت زيادة الهمزة التي
التبست الواو بها ، أو انه «ولا تقضي صلاتها» على معنى النهي فتركت الواو لذلك ،
وإذا كان التوقيع تحت كل مسألة كان ترك الهمزة أو المد في خطه (عليهالسلام) وجهه ظاهرا لو كان ، فان قوله : «تقضي صومها ولاء» مع
انفصاله لا يحتاج فيه الى ذلك ، فليفهم ، ووجه توجيه الواو احتمال ان يكون (عليهالسلام) جمع في التوقيع بالعطف أو ان الراوي ذكر كلامه وعطف
الثاني على الأول» انتهى. أقول : لا يخفى ان ما ذكره هذا الفاضل لا يخلو من قرب لو
اقتصر في الجواب على ما ذكره من هذين اللفظين ، واما بالنظر الى التعليل المذكور
في الخبر فلا يخلو من بعد لانه من تتمة الجواب ، وإردافه باللفظين المذكورين بين
السطور بعيد وفصله عنهما أبعد.
(السادس) ـ ما
ذكره بعضهم من الحمل على الاستفهام الإنكاري. ولا يخفى بعده سيما في المكاتبة ،
مضافا الى التعليل المذكور في الخبر.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الظاهر من كلام جملة من الأصحاب فساد الصوم بالإخلال بشيء من الأغسال ،
وقيد ذلك جمع من المتأخرين بالأغسال النهارية وحكموا بعدم توقف صحة الصوم على غسل
الليلة المستقبلة لسبق تمامه ، وترددوا في التوقف على غسل الليلة الماضية ، قال في
الروض : «وهل يشترط في اليوم الحاضر غسل ليلته الماضية؟ وجهان ، والحق انها ان
قدمت غسل الفجر ليلا أجزأ عن غسل العشاءين بالنسبة إلى الصوم
__________________
وان أخرته الى الفجر بطل الصوم هنا وان لم نبطله لو لم يكن غيره» انتهى.
وظاهره التفصيل بالاشتراط إن أخرت غسل الفجر الى طلوع الفجر وعدمه ان قدمته على
طلوع الفجر فإنه يجزئ عنه لوقوعه ليلا ، ولو لم يكن عليها إلا غسل الفجر خاصة دون
غسل العشاءين فإنه لا يبطل صومها وان أخرته إلى طلوع الفجر. وفي استفادة هذه
التفاصيل من النص اشكال ، والمستفاد من النصوص المتقدمة هو ان هذه الأغسال انما هي
للصلاة ليلا كانت أو نهارا ومقتضى ذلك وجوبها في أوقات تلك الصلوات ، غاية الأمر
ان صحيحة ابن مهزيار دلت على انه بالإخلال بها كملا يجب عليها قضاء الصوم ، وحينئذ
فكما ان المعتبر منها للصلاة ما كان بعد الوقت فليكن للصوم ايضا كذلك ، ومنه يظهر
ان الأظهر عدم وجوب تقديم غسل الفجر عليه للصوم ، واحتمل في الروض وجوب تقديمه هنا
، قال : «لانه حدث مانع من الصوم فيجب تقديم غسله عليه كالجنابة والحيض المنقطع ،
ولان جعل الصوم غاية لوجوب غسل الاستحاضة مع الغمس يدل عليه» وفي كل من الأمرين
المذكورين منع ظاهر ، إذ لم يقم دليل على كونه حدثا مانعا من الصوم كما ادعاه بل
هو أول المسألة ، ولم يرد ما يدل على ان الصوم غاية لوجوب غسل الاستحاضة مع الغمس
كما ادعاه وان وقع في كلامهم ، إذ ليس في وجوب توقف الصوم على الأغسال المذكورة
غير صحيحة ابن مهزيار المتقدمة وهي خالية من ذلك. ثم نقل في الروض عن الشهيد هنا وجوب
التقديم وعن العلامة في النهاية التوقف في المسألة ، وهما ضعيفان بما ذكرنا.
وتنقيح البحث
في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) ـ نقل جملة من الأصحاب عن الشيخ في
المبسوط انه حكم بان انقطاع دم الاستحاضة موجب للوضوء ، وظاهره انه أعم من ان يكون
انقطاعه للبرء أو لا ، ونقل عن بعض الأصحاب انه قيده بالانقطاع للبرء ، وبذلك صرح
العلامة في التحرير ، وقال في الذكرى : «والأصل فيه ان انقطاع الدم يظهر معه حكم
الحدث أو ان الصلاة أبيحت مع الدم للضرورة وقد زالت ،
__________________
وعلى التقديرين تنتقض الطهارة الاولى» ويرد عليه ان دم الاستحاضة يوجب
الغسل تارة والوضوء أخرى فإيجاب الوضوء خاصة تحكم ، والأظهر على هذا ان يقال ان
الانقطاع للبرء يوجب ما أوجبه الدم قبل الانقطاع من الوضوء أو الغسل لا الوضوء
خاصة كما قالوه وتوضيحه ان الموجب في الحقيقة هو الدم السابق على الانقطاع لا نفس
الانقطاع لانه ليس بحدث ودم الاستحاضة في حد ذاته حدث يوجب الغسل أو الوضوء ، فمع
الانقطاع للبرء بعد الطهارة سابقا يظهر حكم الحدث إذ الموجب هو خروج الدم وقد حصل
بعد الطهارة فيترتب عليه حكمه ، والطهارة السابقة أباحت الصلاة بالنسبة الى ما سبق
قبلها من الدم ، ولا يلزم من صحة الصلاة مع الدم بعد الطهارة الاولى عدم تأثيره في
الحدث ، وظاهر المدارك الميل الى ما ذكرنا حيث انه بعد نقل قول الشيخ قال : «وقيده
بعض الأصحاب بكونه انقطع للبرء اي الشفاء ، وهو حسن لكن لا يخفى ان الموجب له في
الحقيقة هو الدم السابق على الانقطاع لا نفس الانقطاع ، وان دم الاستحاضة يوجب
الوضوء تارة والغسل أخرى ، فإسناد الإيجاب إلى الانقطاع والاقتصار على الوضوء خاصة
لا يستقيم» انتهى. وظاهر المعتبر الميل الى عدم بطلان الطهارة الأولى بالانقطاع
فان الانقطاع ليس بحدث. ولو قيل : النصوص مختصة بصورة الاستمرار قلنا فحينئذ إثبات
كون الدم المنقطع يوجب الوضوء يحتاج الى دليل يدل على كونه حدثا وليس هنا ما يصلح
لذلك. وجوابه يعرف بما قدمناه فان ظاهر النصوص يدل على كونه حدثا ، واغتفار حدثيته
بعد الطهارة وقبل الصلاة من حيث الضرورة لا يستلزم الانسحاب فيما لا ضرورة تلجئ
اليه وهو حال الانقطاع للبرء. وبالجملة فالمسألة لخلوها من النصوص لا تخلو من شوب
الاشكال ، قال في الذكرى : «وهذه المسألة لم نظفر فيها بنص من قبل أهل البيت (عليهمالسلام) ولكن ما افتى به الشيخ هو قول العامة بناء منهم على ان
حدث الاستحاضة يوجب الوضوء لا غير فإذا انقطع بقي على ما كان عليه ، ولما كان
الأصحاب يوجبون به الغسل فليكن مستمرا» انتهى. ومرجعه الى ان دم الاستحاضة حدث
كغيره من الأحداث فيجب ان يترتب عليه
مسببه غسلا كان أو وضوء ، والخلاف المتقدم في اعتبار الكثرة بأوقات الصلاة
أو مطلقا جار هنا أيضا.
(الثانية) ـ قال
في المبسوط : «إذا توضأت المستحاضة وقامت إلى الصلاة فانقطع الدم قبل الدخول وجب
عليها الوضوء ثانيا ، لان دم الاستحاضة حدث فإذا انقطع وجب منه الوضوء ، فإذا
انقطع بعد تكبيرة الإحرام ودخولها في الصلاة مضت في صلاتها ولم يجب عليها استئناف
الصلاة لأنه لا دليل عليه» واعترضه ابن إدريس بأنه ان كان انقطاع دمها حدثا وجب
عليها قطع الصلاة واستئناف الوضوء ، قال : «وانما هذا كلام الشافعي أورده الشيخ
لأن الشافعي يستصحب الحال ، وعندنا ان استصحاب الحال غير صحيح ، وما استصحب فيه
الحال فبدليل وهو الإجماع على المتيمم إذا دخل في الصلاة ووجد الماء فانا لا نوجب
عليه الاستئناف بالإجماع لا بالاستصحاب» انتهى. ومال في المختلف الى مذهب الشيخ
قال : «والحق ما قاله الشيخ ، اما وجوب الاستئناف قبل الدخول فلان طهارتها غير
رافعة للحدث على ما قلناه وانما تفيد استباحة الدخول مع وجود الحدث ، فإذا انقطع
الدم وجب عليها نية رفع الحدث لأن الطهارة الأولى كانت ناقصة فلذا أوجبنا عليها
اعادة الوضوء. واما عدمه مع الدخول فلأنها دخلت في صلاة مشروعة فيجب عليها إكمالها
، لقوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم » انتهى.
أقول : لا يخفى
ان ما علل به الشيخ وجوب الوضوء ثانيا في الصورة الأولى غير ما علل به العلامة ذلك
، وكلام ابن إدريس متجه بناء على تعليل الشيخ فان مرجع كلام الشيخ الى ان انقطاع
الدم موجب للوضوء ، وحينئذ فيرد عليه ان الفرق بين الدخول في الصلاة وعدمه غير جيد
إذ الوجه المقتضى لوجوب الاستئناف في الصورة الأولى موجود في الصورة الثانية ،
والحدث كما يمنع من ابتداء الدخول في الصلاة يمنع من استدامتها ، والتمسك
بالاستصحاب ضعيف كما تقدم بيانه في مقدمات الكتاب ، واما على تقدير كلام العلامة
فإن مرجعه
__________________
إلى الفرق بين الرفع والاستباحة وعدمه والمشهور الأول ، فإنهم قد فرقوا
بينهما بأن نية الاستباحة عبارة عن رفع المنع ونية رفع الحدث عبارة عن رفع المانع
، وحينئذ فدائم الحدث كالمستحاضة والسلس والمبطون والمتيمم يقتصر على نية
الاستباحة لأن حدثه دائم غير ان الشارع قد أباح له الدخول في الصلاة بالطهارة ولا
ينوي رفع الحدث لاستمراره منه ، وعليه يتجه كلامه في الصورة الأولى ، الا ان
التحقيق العدم لان الحدث عندنا عبارة عن الحالة المانعة من الدخول في العبادة
المشروطة بالطهارة ، وحينئذ فمتى سوغ الشارع للمكلف الدخول فيها بأحد أنواع
الطهارة فقد علم زوال تلك الحالة وهو معنى الرفع ، غاية الأمر ان زوالها قد يكون
إلى غاية كما في المتيمم ودائم الحدث وقد يكون مطلقا كما في غيرهما ، ولهذا لا
يوجب تخصيص كل قسم باسم بحيث لا ينصرف الى غيره ، وبذلك يظهر ضعف ما بنى عليه في
المختلف في كل من الصورتين وان الأظهر عدم الفرق بين الصورتين المذكورتين ، ويرجع
الكلام هنا الى ما تقدم في المسألة الأولى فكل من قال بالبطلان ثم قال به هنا ومن
قال بالصحة قال بها هنا. واما ما ذهب اليه الشيخ من الفرق والتفصيل فقد عرفت ضعفه.
ويظهر من
المعتبر هنا الميل الى عدم وجوب الاستئناف مطلقا لان خروج دمها بعد الطهارة معفو
عنه فلم يكن مؤثرا في نقضها والانقطاع ليس بحدث ، قال في المدارك بعد نقل كلامه : «وهو
متجه» والشهيد في الذكرى بعد ان نقل كلام المحقق قال : «قلت لا أظن ان أحدا قال
بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة مع تعقب الانقطاع ، انما العفو عنه مع قيد
الاستمرار فلا يتم الاعتراض» واعترضه في المدارك بأنه مدفوع بعموم الاذن لها في
الصلاة بعد الوضوء المقتضى للعفو عما يخرج منها من الدم بعد ذلك مطلقا. أقول : لا
يخفى ان اختياره هنا لما ذهب اليه المحقق مناف لما قدمنا نقله عنه في المسألة
الاولى من استحسانه لما نقله عن ذلك البعض الذي قيد الانقطاع بالبرء كما لا يخفى
على من راجعه ، على ان
ما ادعاه هنا من عموم الاذن لها في الصلاة لا يخلو من المناقشة بل ربما كان
الظاهر من سياق الاخبار المشار إليها عدمه.
(الثالثة) ـ الظاهر
من كلام غير واحد من الأصحاب ـ ومنهم الشهيد في الذكرى ـ انه لو كان انقطاع الدم
بعد الطهارة انقطاع فترة لا برء ـ اما لاعتيادها ذلك أو لاخبار خبير عارف فإنه لا
يؤثر في نقض الطهارة لأنه بعوده كالمستمر الموجود دائما ، وإطلاق كلام الشيخ
المتقدم كما أشرنا إليه آنفا يقتضي حصول النقض به مطلقا وعن العلامة انه اعتبر
قصور زمان الفترة عن الطهارة والصلاة فلو طالت بقدرهما وجبت الإعادة لتمكنها من
طهارة كاملة ، فلو لم تعدها وصلت فاتفق عوده قبل الفراغ على خلاف العادة وجب عليها
إعادة الصلاة لدخولها فيها مع الشك في الطهارة. قال في الروض : «ومثله ما لو شكت
في الانقطاع هل هو للبرء أم لا أو هل يطول زمانه بمقدار الطهارة والصلاة أم لا؟
فيجب إعادة الطهارة لأصالة عدم العود ، لكن لو عاد قبل إمكان فعل طهارة والصلاة
فالوضوء بحاله لعدم وجود الانقطاع المانع من الصلاة مع الحدث».
(الرابعة) ـ صرح
الأصحاب بأنه يجب على المستحاضة الاستظهار في منع الدم من التعدي بقدر الإمكان ،
وعليه تدل جملة من الاخبار : منها ـ قوله (عليهالسلام) في صحيحة معاوية بن عمار : «... وتحتشي وتستثفر وتحشى وتضم فخذيها في
__________________
المسجد وسائر جسدها خارج.». وقوله (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي : «... ثم تغتسل وتستدخل قطنة وتستذفر بثوب ثم تصلي حتى
يخرج الدم من وراء الثوب.». وفي موثقة زرارة : «... ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلي
كل صلاة بوضوء. الحديث». وفي حديث يونس المشتمل على السنن الثلاث «وأمرها ان تغتسل وتستثفر
بثوب وتصلي». وفي موضع آخر منه «وتلجمي». الى غير ذلك من الاخبار. والاستثفار
بالسين المهملة ثم التاء المثناة من فوق ثم الثاء المثلثة وفي آخره راء مصدر قولك
: استثفر الرجل بثوبه إذا رد طرفيه بين رجليه الى حجزته بضم الحاء والجيم الساكنة
، أو من استثفر الكلب بذنبه : جعله بين فخذيه ، أو من ثفر الدابة بالثاء المثلثة
الذي يجعل تحت ذنبها ، ومنه الحديث «الاستثفار ان تجعل مثل ثفر الدابة وفي المغرب «استثفر المصارع إزاره وبإزاره إذا اتزر به
ثم رد طرفيه بين رجليه فغرزهما في حجزته» وقد ذكر في الروض ان المراد به هنا
التلجم بان تشد على وسطها خرقة كالتكة وتأخذ خرقة أخرى وتعقد أحد طرفيها بالأولى
من قدام وتدخلها بين فخذيها وتعقد الطرف
__________________
الآخر من خلفها بالأولى ، كل ذلك بعد غسل الفرج وحشوه قطنا قبل الوضوء ،
وبنحو منه فسر ابن الأثير الاستثفار الواقع في حديث المستحاضة.
وكذا يجب
الاستظهار على السلس والمبطون لرواية حريز عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان حين
الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا ثم علقه عليه وادخل ذكره فيه ثم صلى : يجمع بين
الصلاتين الظهر والعصر بأذان وإقامتين. الحديث». وعلل ايضا باشتراك الجميع في
النجاسة فيجب الاحتراز منها بقدر الإمكان ، قال في الروض : «فلو خرج الدم أو البول
بعد الاستظهار والطهارة أعيدت بعد الاستظهار ان كان لتقصير منه وإلا فلا للحرج ،
ويمتد الاستظهار الى فراغ الصلاة ، قال : ولو كانت صائمة فالظاهر وجوبه جميع
النهار ، لأن تأثير الخارج في الغسل وتوقف الصوم عليه يشعر بوجوب التحفظ كذلك وبه
قطع المصنف» أقول : اما ما ذكره من الحكم الأول فجيد ، واما الثاني فمحل اشكال وان
كان هو الأحوط. أما الجرح السائل فلا يجب شده بل تجوز الصلاة وان كان سائلا كما
دلت عليه الاخبار الكثيرة مضافا الى اتفاق الأصحاب ، قالوا : ويفرق السلس
والمبطون والمستحاضة بعدم وجوب تغيير الشداد في الأولين ووجوبه في الثالث لاختصاص
الاستحاضة بالنقل والتعدي قياس. وقد تقدم ما فيه ، ولعله وصل إليهم من الاخبار ما
يدل على التغيير لكل صلاة وإلا فالأخبار الواصلة إلينا خالية من ذلك ، مضافا الى
ما دل على العفو عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه كما تقدم بيانه. والله العالم.
الفصل الرابع
في غسل النفاس وفيه
مسائل (الأولى) ـ النفاس بكسر النون يقال : نفست
__________________
المرأة كفرح ونفست بالبناء للمجهول وفي الحيض بفتح النون لا غير ، والولد
منفوس ، ومنه الحديث : «لا يرث المنفوس حتى يستهل صائحا» . والمرأة نفساء بضم النون وفتح الفاء والجمع نفاس مثل
عشراء وعشار ، قال الجوهري : «ليس في كلام العرب فعلاء يجمع على فعال غير نفساء
وعشراء» ويجمع ايضا على نفساوات كعشراوات. وهو اما مأخوذ من النفس بمعنى الدم كما
يقال ذو نفس سائلة إذا كان يخرج دمه بعد الذبح بقوة ، وانما سمي الدم بذلك لان
النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم ، أو من خروج النفس يعني الولد ، أو
من تنفس الرحم بالدم ، والأشهر في كلام اللغويين المعنى الأول. وكيف كان فقد نقله
الفقهاء عن معناه اللغوي إلى آخر وهو الدم الخارج في الولادة في الجملة. وقد اتفق
الأصحاب على ان الخارج قبل الولادة ليس بنفاس والخارج بعد الولادة نفاس ، واما
المصاحب لخروج الولد فظاهر كلامهم الخلاف فيه ، وقد نص الشيخ في المبسوط والخلاف
ومثله سلار على انه الخارج عقيب الولادة أو معها ، وقال المرتضى في المصباح : «النفاس
هو الدم الذي تراه المرأة عقيب الولادة» ونحوه كلام الشيخ في الجمل وابي الصلاح ،
ومقتضاه ان الخارج مع الولد ليس بنفاس ، قال في المعتبر بعد إيراد القولين : «والتحقيق
ان ما تراه مع الطلق ليس بنفاس وكذا ما تراه عند الولادة قبل خروج الولد ، اما ما
يخرج بعد ظهور شيء من الولد فهو نفاس» وكأنه أراد بذلك الجمع بين القولين
المذكورين بحمل قول المرتضى عقيب الولادة على ما هو أعم من خروج الولد أو شيء منه
، وقال في المختلف بعد نقل القولين ايضا : «والظاهر انه لا منافاة بينهما فان كلام
الشيخ في الجمل محمول على الغالب لا ان النفاس يجب ان يكون عقيب الولادة» وعلل كونه
نفاسا بحصول المعنى المشتق منه وخروجه بسبب الولادة فيشمله عموم الأدلة. وفيهما ما
لا يخفى.
ويمكن
الاستدلال لما ذهب اليه المرتضى ومن تبعه بما رواه ثقة الإسلام في الكافي
__________________
في الموثق عن عمار بن موسى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : «في المرأة يصيبها الطلق أياما أو يوما أو يومين فترى
الصفرة أو دما؟ قال : تصلي ما لم تلد فان غلبها الوجع ففاتتها صلاة لم تقدر ان
تصليها من الوجع فعليها قضاء تلك الصلاة بعد ما تطهر». وما رواه الصدوق بإسناده عن
عمار بن موسى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن امرأة أصابها الطلق اليوم واليومين
وأكثر من ذلك ترى صفرة أو دما كيف تصنع بالصلاة؟ قال : تصلي ما لم تلد فان غلبها
الوجع صلت إذا برأت». والتقريب فيهما انه (عليهالسلام) أوجب عليها الصلاة حتى تلد ، والمتبادر من الولادة
خروج الولد كملا وحينئذ فإيجاب الصلاة عليها قبل خروج الولد كملا يوجب الحكم بكون
دمها قبل خروجه دم استحاضة لا دم نفاس. نعم روى الشيخ في المجالس بسنده عن زريق بن
الزبير الخرقاني قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة حامل رأت الدم؟ فقال : تدع الصلاة. قال فإنها
رأت الدم وقد أصابها الطلق فرأته وهي تمخض؟ قال : تصلي حتى يخرج رأس الصبي فإذا
خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة ، وكل ما تركته من الصلاة في تلك الحال لوجع أو لما
هي فيه من الشدة والجهد قضته إذا خرجت من نفاسها. قال قلت جعلت فداك ما الفرق بين
دم الحامل ودم المخاض؟ قال : ان الحامل قذفت بدم الحيض وهذه قذفت بدم المخاض الى
ان يخرج بعض الولد فعند ذلك يصير دم النفاس فيجب ان تدع في النفاس والحيض ، فاما
ما لم يكن حيضا أو نفاسا فإنما ذلك من فتق في الرحم». وهي صريحة في القول الأول ،
وحينئذ فيجب حمل الخبرين المتقدمين على ما يرجعان به الى هذا الخبر جمعا ، من حمل
قوله «ما لم تلد» على خروج بعض من الولد. وقريب من هذه الرواية ما رواه الشيخ عن
السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) : ما كان الله تعالى ليجعل
__________________
حيضا مع حبل يعني إذا رأت المرأة الدم وهي حامل لا تدع الصلاة إلا ان ترى
على رأس الولد إذا ضربها الطلق ورأت الدم تركت الصلاة». والظاهر ان قوله : «يعني»
من كلامه (عليهالسلام) بعد نقله الحديث النبوي.
ثم انه لا يخفى
ان رواية المجالس لا تخلو من اشكال ، وذلك فإنها قد تضمنت ان الحامل إذا رأت الدم
تدع الصلاة وهو ظاهر في اجتماع الحمل مع الحيض كما هو أصح القولين وأشهرهما ،
وتضمنت انها إذا رأت الدم وقد أصابها الطلق وهي تمخض تصلي حتى يخرج رأس الصبي ،
وهو ظاهر في كون هذا الدم دم استحاضة ، والقائلون باجتماع الحمل مع الحيض لا
يفرقون بين الدمين المذكورين بل الجميع حيض عندهم مع استكمال شرائط الحيض ، وهو
ايضا ظاهر الأخبار الدالة على الاجتماع. نعم اختلف القائلون بالاجتماع في انه هل
يعتبر تخلل أقل الطهر بينه وبين النفاس اما بنقاء أو بما يحكم بكونه استحاضة
كالخارج بعد العادة متجاوزا لأكثره على المشهور أو أعم على ما اخترناه سابقا أم لا؟
قولان ، للأول انهم حكموا بان النفاس كالحيض بل هو حيض محتبس واليه يشير بعض
الأخبار ، وللثاني عدم كونه حيضا حقيقيا والمشابهة لا تستلزم اتحاد الحقيقة وعموم
الأحكام بل يكفي فيها الاتحاد في بعض المواد. واستقرب العلامة في النهاية الأول
وهو ظاهر الذكرى ، وفي المنتهى والتذكرة الثاني ، واختاره جملة ممن تأخر عنه ومنهم
السيد في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة ، ويدل على الأول روايتا عمار
المتقدمتان وظاهر الروض الميل إليه أيضا ، وحينئذ فلو رأت الدم
ثلاثة أيام مثلا ثم ولدت قبل مضى أقل الطهر فهو استحاضة على القول الأول لفقد شرط
ما بين الحيضتين وفصل الولادة لم يثبت انه كاف عن الطهر ، وحيض على الثاني لعدم
اشتراط فصل أقل الطهر في هذا الموضع ، وقد عرفت قوة الأول بدلالة الخبرين
المذكورين.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه يشترط عندهم في صدق الولادة الموجبة للحكم بكون
__________________
الدم المصاحب لها والمتأخر عنها نفاسا خروج جزء مما يسمى آدميا أو مبدأ نشو
آدمي ولو كان مضغة ، وقيدها بعضهم مع اليقين بكونها مبدأ نشو ادمي ، اما العلقة
وهي القطعة من الدم الغليظ فلا لعدم اليقين. قال في المعتبر : «ولو وضعت مضغة كان
كما لو وضعت جنينا لانه دم جاء عقيب حمل ، اما العلقة والنطفة فلا يتيقن معهما
الحمل فيكون حكمه حكم الدم السائل» ونحوه في المنتهى. والحق العلامة في النهاية
العلقة بالمضغة مع شهادة القوابل ، وقال في الذكرى انه لو فرض العلم بكونها مبدأ
نشو انسان بقول اربع من القوابل كان نفاسا. وتوقف فيه بعض المحققين لانتفاء
التسمية ، واعترضه في الروض بأنه لا وجه للتوقف بعد فرض العلم ، قال في المدارك
بعد نقل ذلك عنه : «وفيه ان منشأ التوقف عدم صدق الولادة عرفا وان علم انه علقة
فالتوقف في محله» أقول : لا يخفى ان ما اعترضه على جده هنا مندفع بما ذكره عقيب
هذه العبارة حيث قال بعد نقل كلام الذكرى «وتوقف فيه بعض المحققين لانتفاء التسمية
ولا وجه له بعد فرض العلم ، ولأنا ان اعتبرنا مبدأ النشو فلا فرق بينها وبين
المضغة مع العلم. نعم قد يناقش في إمكان العلم بذلك وهو خارج عن الفرض» انتهى.
ومرجعه إلى انه متى اعتبر مبدأ النشو وقد حصل ذلك في العلقة بشهادة القوابل فإنه
تصدق الولادة بعين ما اتفقوا عليه في المضغة. وهو جيد لا يرد عليه شيء مما ذكره
سبطه.
بقي الكلام في
ترتب صدق الولادة والحكم بالنفاس على ما ذكروه من مبدأ النشو مضغة كانت أو علقة ،
فإن غاية ما يفهم من الأخبار ترتب النفاس على الولادة والمتبادر من هذا اللفظ
باعتبار ما هو الشائع المتكرر المتكثر هو خروج الولد الآدمي ، لما عرفت في غير
مقام من تصريحهم بأن الإطلاقات في الأخبار انما تحمل على الأفراد الشائعة المتكثرة
دون الفروض النادرة ، ويؤيده التصريح بلفظ الولد في جملة من الأخبار ، والحكم بترك
العبادة المفروضة المعلومة بالأدلة القطعية يحتاج الى دليل واضح ، وليس في الأخبار
ما يدل هنا على ما ذكروه من صدق الولادة وحصول النفاس بخروج ما كان
مبدأ نشو آدمي ، والظاهر ان أول من ذكر ذلك المحقق في المعتبر والعلامة
وتبعهما من تأخر عنهما ، وكلام المتقدمين خال من ذلك كما لا يخفى على من راجعه ،
وبالجملة فالحكم بذلك عندي موضع توقف لما عرفت. ثم انه قد ذكر في الروض انه تصدق
المعية بخروج الجزء وان كان منفصلا ولو لحقه الثاني كان كولادة التوأمين فابتداء
النفاس من الأول وغايته من الأخير. انتهى. وللتأمل فيه مجال. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب في انه لأحد لقليل النفاس فيجوز ان يكون لحظة بل
يجوز ان لا ترى دما مطلقا ، كل ذلك لأصالة العدم وتوقف التكاليف الشرعية على
الأدلة القطعية ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ عن ليث المرادي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن النفساء كم حد نفاسها حتى يجب عليها
الصلاة وكيف تصنع؟ قال : ليس لها حد». والشيخ حمله على انه ليس له حد شرعي لا يزيد
ولا ينقص بل ترجع الى عادتها ، والأظهر ان المراد السؤال عن حده في جانب القلة ،
حيث ان الاخبار قد تضمنت حده في جانب الكثرة فسأل عن حده في جانب القلة كما في
الحيض من وجود الحد بذلك فأجاب (عليهالسلام) بأنه لا حد له. وعن علي بن يقطين في الصحيح عن ابي
الحسن (عليهالسلام) «انه سأله عن النفساء فقال : تدع الصلاة ما دامت ترى الدم العبيط.». ونقل
المحقق في المعتبر قال : «وقد حكى ان امرأة وأدت على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فلم تر دما فسميت الجفوف» انما الخلاف في حد أكثره فقيل بأنه عشرة ونقله في
المختلف عن علي بن بابويه والشيخ قال : وبه افتى أبو الصلاح وابن البراج وابن
إدريس. أقول ونسبه في المبسوط الى أكثر
__________________
الأصحاب وهو مؤذن بشهرته بين المتقدمين ، وهو اختيار المحقق في كتبه
الثلاثة. وقيل انه ثمانية عشر ، ونقله في المختلف عن المرتضى والمفيد وابن بابويه
وابن الجنيد وسلار إلا ان المفيد قال : «وقد جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة
النفاس مدة الحيض عشرة أيام وعليه اعمل لوضوحه» وقيل بالتفصيل بأنها ان كانت مبتدأة أو ذات عادة غير
مستقرة فعشرة أيام وان كانت ذات عادة فعادتها. والظاهر انه هو المشهور بين
المتأخرين. وقيل بأنها ان كانت ذات عادة فعادتها وان كانت مبتدأة فثمانية عشر يوما
، وهو اختياره في المختلف حيث قال فيه بعد نقل القولين الأولين : «والذي اخترناه
نحن في أكثر كتبنا ان المرأة ان كانت مبتدأة في الحيض تنفست بعشرة أيام فإن تجاوز
الدم فعلت ما تفعله المستحاضة بعد العشرة ، وان لم تكن مبتدأة وكانت ذات عادة
مستقرة تنفست بأيام الحيض ، وان كانت عادتها غير مستقرة فكالمبتدأة ، والذي نختاره
هنا انها ترجع الى عادتها في الحيض ان كانت ذات عادة ، وان كانت مبتدأة صبرت
ثمانية عشر يوما» انتهى.
والسبب في
اختلاف هذه الأقوال هو اختلاف الأخبار واختلاف الأفكار في الجمع بينها ، وها انا
انقل أولا أخبار المسألة كملا واذيلها ـ ان شاء الله تعالى ـ بما يتضح به الحال
مما ظهر لي منها بتوفيق ذي الجلال :
فمنها ـ ما
رواه الشيخ عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «النفساء تكف عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث
فيها ثم تغتسل وتعمل كما تعمل المستحاضة».
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل بن يسار وزرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «النفساء تكف عن الصلاة أيام أقرائها التي كانت
__________________
تمكث فيها ثم تغتسل وتعمل كما تعمل المستحاضة». ورواه الشيخ بإسناد آخر في
القوى
وعن زرارة في
الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له النفساء متى تصلي؟ قال : تقعد قدر حيضها
وتستظهر بيومين فان انقطع الدم وإلا اغتسلت واحتشت واستثفرت. الحديث».
وعن يونس بن
يعقوب في الموثق قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : النفساء تجلس أيام حيضها التي كانت تحيض ثم
تستظهر وتغتسل وتصلي».
وعن زرارة في
الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تقعد النفساء أيامها التي كانت تقعد في الحيض
وتستظهر بيومين».
وعن يونس في
الموثق ـ والظاهر انه ابن يعقوب ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر مما كانت ترى؟ قال :
فلتقعد أيام قرئها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل
عند وقت كل صلاة.». والمراد بقوله : «عشرة أيام» يعني إلى عشرة كما ذكره الشيخ.
وعن مالك بن
أعين في القوى قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن النفساء يغشاها زوجها وهي في نفاسها من الدم؟ قال
نعم إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد ان
يغشاها زوجها ، يأمرها فتغتسل ثم يغشاها ان أحب».
وعن عبد الرحمن
بن أعين قال : «قلت له ان امرأة عبد الملك ولدت فعد لها أيام
حيضها ثم أمرها فاغتسلت واحتشت وأمرها ان تلبس ثوبين نظيفين وأمرها بالصلاة فقالت
له لا تطيب نفسي ان ادخل المسجد فدعني أقوم خارجا عنه واسجد فيه. فقال قد أمر به
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : فانقطع الدم عن المرأة ورأت الطهر ،
__________________
وأمر علي (عليهالسلام) بهذا قبلكم فانقطع الدم عن المرأة ورأت الطهر ، فما
فعلت صاحبتكم؟ قلت : ما ادري».
وعن ابي بصير
في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «النفساء إذا ابتليت بأيام كثيرة مكثت مثل أيامها
التي كانت تجلس قبل ذلك واستظهرت بمثل ثلثي أيامها ثم تغتسل وتحتشي وتصنع كما تصنع
المستحاضة ، وان كانت لا تعرف أيام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيام أمها أو أختها
أو خالتها واستظهرت بثلثي ذلك ثم صنعت كما تصنع المستحاضة تحتشي وتغتسل». وحمل بعض
الأصحاب الاستظهار بمثل ثلثي ذلك على ما إذا كانت العادة ستة فما نقص لئلا يزيد
أيام العادة والاستظهار عن العشرة.
وهذه الاخبار
كلها ـ كما ترى ـ تدل على التنفس بأيام العادة في الحيض.
ومنها ـ ما رواه
الشيخ عن محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن النفساء كم تقعد؟ قال : ان أسماء بنت عميس نفست
فأمرها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان تغتسل لثمان عشرة ، ولا بأس ان تستظهر بيوم أو
بيومين».
وعن زرارة في
الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) «ان أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن ابي بكر فأمرها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) حين أرادت الإحرام بذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف
والخرق وتهل بالحج ، فلما قدموا ونسكوا المناسك فاتت لها ثمانية عشرة ليلة فأمرها
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان تطوف بالبيت وتصلي ولم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك».
وفي الموثق عن
زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الباقر (عليهالسلام) «ان أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن ابي بكر فأمرها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تغتسل وتحتشي
بالكرسف وتهل بالحج ، فلما
__________________
قدموا ونسكوا المناسك سألت النبي عن الطواف بالبيت والصلاة فقال لها منذ كم
ولدت؟ فقالت منذ ثمانية عشر يوما ، فأمرها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان تغتسل وتطوف بالبيت وتصلي ولم ينقطع عنها الدم
ففعلت ذلك».
وما رواه في
الكافي عن علي عن أبيه رفعه قال : «سألت امرأة أبا عبد الله (عليهالسلام) فقالت اني كنت اقعد في نفاسي عشرين يوما حتى أفتوني
بثمانية عشر يوما؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ولم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل : للحديث الذي
روي عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) انه قال لأسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن ابي بكر.
فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان أسماء سألت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وقد اتى لها ثمانية عشر يوما ولو سألته قبل ذلك لأمرها
أن تغتسل وتفعل ما تفعل المستحاضة».
وما رواه في
المنتقى عن كتاب الأغسال لأحمد بن محمد بن عياش الجوهري عن احمد بن محمد بن يحيى
عن سعد بن عبد الله عن إبراهيم بن هاشم عن عثمان بن عيسى عن عمر بن أذينة عن حمران
بن أعين قال : «قالت امرأة محمد بن مسلم وكانت ولودا اقرأ أبا
جعفر السلام وقل له انى كنت اقعد في نفاسي أربعين يوما وان أصحابنا ضيقوا علي
فجعلوها ثمانية عشر يوما؟ فقال أبو جعفر (عليهالسلام) من أفتاها بثمانية عشر يوما؟ قال فقلت : للرواية التي
رووها في أسماء بنت عميس انها نفست بمحمد بن ابي بكر بذي الحليفة فقالت يا رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) كيف اصنع؟ فقال لها : اغتسلي واحتشي وأهلي بالحج
فاغتسلت واحتشت ودخلت مكة ولم تطف ولم تسع حتى تقضى الحج ، فرجعت الى مكة فاتت
رسول الله فقالت يا رسول الله أحرمت ولم أطف ولم اسع؟ فقال لها رسول الله وكم لك
اليوم؟ فقالت ثمانية عشر يوما. فقال اما الآن فاخرجي الساعة فاغتسلي واحتشي وطوفي
واسعي. فاغتسلت وطافت وسعت وأحلت. فقال
__________________
أبو جعفر (عليهالسلام) : انها لو سألت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل ذلك وأخبرته لأمرها بما أمرها به. قلت فما حد
النفساء؟ قال تقعد أيامها التي كانت تطمث فيهن أيام قرئها فإن هي طهرت وإلا
استظهرت بيومين أو ثلاثة أيام ثم اغتسلت واحتشت فان كان انقطع الدم فقد طهرت وان
لم ينقطع الدم فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل لكل صلاتين وتصلي».
وروى الصدوق في
العلل عن حنان بن سدير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) لأي علة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما ولم تعط أقل
منها ولا أكثر؟ قال : لان الحيض أقله ثلاثة أيام وأوسطه خمسة وأكثره عشرة فأعطيت
أقله وأوسطه وأكثره».
وروى في العيون
عن الرضا (عليهالسلام) فيما كتبه للمأمون قال : «والنفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر
يوما فان طهرت قبل ذلك صلت وان لم تطهر قبل العشرين حتى تجاوز ثمانية عشر يوما
اغتسلت وصلت. الحديث».
وفي الخصال
بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهالسلام) في حديث شرائع الدين قال : «والنفساء لا تقعد أكثر من
عشرين يوما إلا ان تطهر قبل ذلك فان لم تطهر قبل العشرين اغتسلت واحتشت وعملت عمل
المستحاضة».
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : تقعد النفساء سبع عشرة ليلة فإن رأت دما صنعت
كما تصنع المستحاضة».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام): كم تقعد النفساء حتى تصلي؟ قال ثماني عشرة سبع عشرة
ثم تغتسل وتحتشي وتصلي».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تقعد النفساء إذا لم ينقطع عنها الدم ثلاثين أو
أربعين يوما الى الخمسين».
__________________
وعن علي بن
يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الماضي (عليهالسلام) عن النفساء وكم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال تدع الصلاة
ما دامت ترى الدم العبيط الى ثلاثين يوما فإذا رق وكانت صفرة اغتسلت وصلت ان شاء
الله تعالى».
وعن حفص بن
غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «النفساء تقعد أربعين يوما فان طهرت وإلا اغتسلت
وصلت ويأتيها زوجها وكانت بمنزلة المستحاضة تصوم وتصلي».
وعن محمد بن
يحيى الخثعمي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النفساء؟ فقال كما كانت تكون مع ما مضى من أولادها
وما جربت. قلت فلم تلد فيما مضى؟ قال : بين الأربعين إلى الخمسين».
وروى في كتاب
نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «أكثر الحيض عشرة أيام وأكثر النفاس أربعون يوما».
وفي الفقه
الرضوي قال (عليهالسلام): «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها وهي عشرة
أيام وتستظهر بثلاثة أيام ثم تغتسل فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة ، وقد
روى ثمانية عشر يوما ، وروى ثلاثة وعشرون يوما ، وبأي هذه الاخبار من باب التسليم
أخذ جاز».
هذا ما وقفت
عليه من روايات المسألة ، ولا يخفى ما هي عليه من التصادم والاختلاف إلا ان ظاهر
الأصحاب الاعراض عن الروايات الأخيرة المتضمنة لما زاد على الثمانية عشرة ، قال
الصدوق في الفقيه ـ بعد ان افتى بأنها تقعد عن الصلاة ثمانية عشر يوما مستدلا
بحديث أسماء ـ ما صورته : «والأخبار التي رويت في قعودها أربعين يوما وما زاد الى
ان تطهر معلولة كلها وردت للتقية لا يفتي بها إلا أهل الخلاف».
__________________
بقي الكلام في
ان جملة من الأصحاب ـ كما عرفت ـ ذهبوا الى ان أكثره عشرة والشيخ في التهذيب انما
استدل على هذا القول باخبار العادة المتقدمة التي تضمنت انها تكف عن الصلاة أيام
أقرائها التي كانت تمكث فيها. ولا يخفى ما فيه فان أيام الأقراء تختلف باختلاف
عادات النساء فإطلاق القول بأن العشرة أكثر النفاس إذا رأت عشرة ليس بصحيح ، نعم
قال المفيد في المقنعة : «وقد جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة النفاس مدة
الحيض عشرة أيام وعليه اعمل لوضوحه» أقول : ولم يصل إلينا من هذه الاخبار إلا ما
قدمناه في كتاب الفقه ونقل الشيخ محمد بن إدريس في أوائل السرائر قال : «وذكر
الشيخ محمد بن محمد بن النعمان في جواب سائل سأله فقال كم قدر ما تقعد النفساء عن
الصلاة وكم تبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتابك أحكام النساء أحد عشر يوما وفي
الرسالة المقنعة ثمانية عشر يوما وفي كتاب الإعلام أحد وعشرين يوما فعلى ايها
العمل دون صاحبه؟ فأجابه بأن قال الواجب على النفساء ان تقعد عشرة أيام وانما ذكرت
في كتبي ما روى من قعودها ثمانية عشر يوما وما روى في النوادر استظهارا بأحد
وعشرين يوما ، وعملي في ذلك على عشرة أيام لقول الصادق (عليهالسلام) لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض» انتهى.
إذا عرفت ذلك
فالذي يظهر عندي من التأمل في اخبار المسألة هو ان ذات العادة في الحيض ترجع الى
عادتها للأخبار المتقدمة الصحيحة الصريحة في ذلك ، وانما يبقى الإشكال في غيرها
فهل تعمل على روايات الثمانية عشر كما ذهب إليه العلامة في المختلف وجعله وجه جمع
بين أخبار المسألة ، أو على روايات العشرة كما هو المشهور بين المتأخرين؟ إشكال
ينشأ من ان روايات الثمانية عشر لا تخلو من الاضطراب ، فان صريح مرفوعة على بن
إبراهيم ورواية الجوهري المنقولة من كتاب المنتقى هو ان امره (صلىاللهعليهوآله) لأسماء بعد الثمانية عشر بالغسل والطواف انما هو لتأخر
سؤالها
__________________
وإلا فلو سألته قبل ذلك لأمرها بذلك ، وعلى هذا المعنى حمل الشيخ أخبار
المسألة مستندا إلى مرفوعة علي بن إبراهيم المشار إليها. والحمل على هذا المعنى
قريب في بعضها كموثقة محمد بن مسلم وفضيل وزرارة ، ومحتمل على بعد في صحيحة محمد
بن مسلم وصحيحة زرارة المذكورة بعدها ، وممتنع في باقي روايات الثمانية عشر الغير
المتعلقة بقصة أسماء مثل رواية حنان بن سدير المنقولة من العلل وما بعدها من
الاخبار ، وحينئذ فأخبار الثمانية عشر في حد ذاتها تحتاج الى وجه تجتمع عليه حتى
يمكن الاستدلال بها. هذا وجه الإشكال في روايات الثمانية عشر. واما روايات العشر
فقد عرفت انه لم يرد شيء منها مسندا في كتب الاخبار الا ما عرفت من عبارة كتاب
الفقه الرضوي ونقل المفيد وصول الاخبار بذلك اليه ، ويمكن ترجيحه (أولا) ـ بأن
نقله (رحمهالله) لا يقصر عن مراسيل ابن ابي عمير ونحوه من أجلاء
الأصحاب التي قد تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول. و (ثانيا) ـ بدلالة كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي على ذلك ، وقد عرفت ان الكتاب معتمد
لاعتماد الصدوقين عليه وافتائهما بعبائره كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى في
المباحث الآتية من هذا الكتاب وكتاب الصلاة وكتاب الزكاة والصوم والحج. و (ثالثا)
ـ بإمكان التأويل في اخبار الثمانية عشر على وجه لا تصلح به للاستدلال في هذا
المجال بان يحمل المطلق من اخبار أسماء على ما دلت عليه مرفوعة علي بن إبراهيم
ورواية الجوهري حمل المطلق على المقيد وما لم يقبل ذلك فيحمل على التقية وان تضمن
العلة في ذلك ، والى ذلك أشار الشيخ ورجحه المحقق الشيخ حسن في المنتقى الا انه
حمل أخبار أسماء وغيرها من اخبار الثمانية عشر على التقية ، قال بعد ان اختار حمل
أخبار أسماء على التقية : «انه يمكن ان يكون القدر الذي يستبعد فيه ذلك منسوخا
لانه متقدم والحكم بالرجوع إلى العادة متأخر ، وإذا تعذر الجمع تعين النسخ ويكون
تقرير الحكم بعد نسخه محمولا على التقية لما قلناه من ان في ذلك تقليلا للمخالفة ،
ومع تأدي التقية بالأدنى لا يتخطأ إلى الأعلى» انتهى. وظني ان ما ذكرناه
في اخبار أسماء أقرب. و (رابعا) ـ ان الحكم بالرجوع إلى العادة في الاخبار
المتقدمة يدل على ارتباط النفاس بالحيض واختلاف عادات النساء لا يقتضي أكثر من احتمال
كون مدة حيض المبتدأة أقصى العادات وهي لا تزيد على العشرة ، فالقدر المذكور في
اخبار الثمانية عشر من التفاوت بين المبتدأة وذات العادة لا يساعد عليه الاعتبار
الذي هو للجمع ميزان ومعيار. و (خامسا) ـ ان الظاهر من إنكار الإمامين (عليهماالسلام) في مرفوعة إبراهيم بن هاشم وخبر الجوهري لخبر الثمانية
عشران أخبار الثمانية عشر كملا انما خرجت بالنسبة إلى ذات العادة وغيرها مطلقا كما
قال به من قدمنا نقله عنه ، ولهذا انه لما رجع له السائل في الخبر الثاني بعد
إنكاره (عليهالسلام) خبر الثمانية عشر فسأله ما حد النفساء؟ اجابه بالرجوع
إلى العادة ، ولو كان الثمانية عشر انما يعمل عليها في بعض الافراد كما ذهب إليه
في المختلف لم ينكرها (عليهالسلام) مطلقا بل يخبره بأنها مخصوصة بالفرد الفلاني دون غيره.
و (سادسا) ـ ما ذكره جملة من متأخري المتأخرين من ان أسماء تزوجت بابي بكر بعد موت
جعفر بن أبي طالب (رضياللهعنه) وكانت قد ولدت منه عدة أولاد ، ويبعد جدا ان لا
يكون لها في تلك المدة كلها عادة في الحيض ، واخبار العشرة وان كانت مطلقة إلا انه
يجب حملها على ما ذكرناه من التفصيل جمعا بينها وبين أخبار العادة.
وبالجملة
فالأظهر عندي والأقرب هو ان المعتادة ترجع الى عادتها بلا اشكال كما عرفت من
الاخبار المتقدمة ، واما غيرها فالأمر فيها دائر بين الثمانية عشر والعشرة واخبار
الثمانية عشر قد عرفت ما فيها من التعارض وانه لا يمكن الجمع بينها إلا بوجه تخرج
به عن صحة الاستدلال بها مع تأيد القول بالعشرة بما ذكرناه من الوجوه فعليه العمل
وبه الفتوى.
هذا ، ولا يخفى
انه على تقدير القول بالثمانية عشر مطلقا يلزم طرح اخبار العادة المتقدمة مع ما هي
عليه من الكثرة والصحة والصراحة وكذا على تقدير القول بالعشرة
مطلقا ، قال في الذكرى : «تنبيه : الأخبار الصحيحة المشهورة تشهد برجوعها
الى عادتها في الحيض والأصحاب يفتون بالعشرة وبينهما تناف ظاهر ، ولعلهم ظفروا
باخبار غيرها وفي التهذيب قال : جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة النفاس عشرة
وعليها اعمل لوضوحها عندي. ثم ذكر الأخبار الاولى ونحوها حتى ان في بعضها عن
الصادق (عليهالسلام) : «فلتقعد أيام قرئها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة
أيام» قال الشيخ : يعني إلى عشرة أيام إقامة لبعض الحروف مقام بعض. وهذا تصريح بأن
أيامها أيام عادتها لا العشرة ، وحينئذ فالرجوع الى عادتها كقول الجعفي في الفاخر
وابن طاوس والفاضل اولى وكذا الاستظهار كما مر هناك ، نعم قال الشيخ : لا خلاف بين
المسلمين في ان عشرة أيام إذا رأت المرأة الدم من النفاس ، والذمة مرتهنة بالعبادة
قبل نفاسها فلا يخرج عنها إلا بدلالة والزائد على العشرة مختلف فيه ، فان صح
الإجماع فهو الحجة ولكن فيه طرح للأخبار الصحيحة أو تأويلها بالبعيد» انتهى.
والتحقيق في المسألة ما قدمناه. والله العالم بحقائق أحكامه.
(المسألة
الثالثة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان ذات التوأمين فصاعدا
يتعدد نفاسها عملا بالعلة لانفصال كل من الولادتين عن الأخرى فلكل نفاس حكم نفسه ،
فان وضعت الثاني لدون عشرة أيام أمكن اتصال النفاسين ، ولو تراخت ولادة الثاني
بحيث يمكن فرض استحاضة بين النفاسين حكم به ، بل يمكن فرض حيض ايضا وان بعد ،
وربما ظهر من بعض العبارات كونه نفاسا واحدا حيث صرحوا بأنه لو تراخت ولادة
التوأمين فعدد أيامها من التوأم الثاني وابتداؤه من الأول ، وحمل على الغالب من
تعاقب ولادتهما فيتحد النفاس بحسب الصورة وإلا ففي التحقيق لكل واحد نفاس مستقل
لما عرفت آنفا ، ويتفرع على كونهما نفاسين ما لو ولدت الثاني لدون عشرة من ولادة
الأول ولم تر بعد ولادة الأول إلا يوما واحدا مثلا وانقطع في باقي الأيام المتخللة
بينهما فإنه يحكم بكونه طهرا وان رأت بعد ولادة الثاني في العشرة وانقطع عليها
بخلاف
ما لو حكم بكونها نفاسا واحدا كما يقتضيه ظاهر العبارة المتقدمة فإنه يلزم
كون الدمين والنقاء المتخلل بينهما نفاسا. وتردد المحقق في المعتبر في كون الدم
الحاصل قبل ولادة الثاني نفاسا بناء على مذهبه من عدم اجتماع الحيض والحبل ، ثم
اختار كونه نفاسا لحصول مسمى النفاس فيه وهو تنفس الرحم به بعد الولادة فيكون لها
نفاسان.
بقي الكلام في
الولد الواحد لو تقطع وتعدد خروجه فهل يحكم بتعدد النفاس على ذلك التقدير أم لا؟
اشكال ، قال في الذكرى : «لو سقط عضو من الولد وتخلف الباقي فالدم نفاس على الأقرب
، ولو وضعت الباقي بعد العشرة أمكن جعله نفاسا آخر كالتوأمين ، وعلى هذا لو تقطع
بفترات تعدد النفاس ، ولم أقف فيه على كلام سابق» انتهى أقول : ولم أقف في الاخبار
على ما يتعلق بهذه المسألة الا ان ما ذكروه من تعدد النفاس بتعدد الولادة ربما
يمكن الاستناد فيه الى العمومات المتقدمة. والله العالم.
(المسألة
الرابعة) ـ صرح جملة من المتأخرين بأنه لو لم تر دما ثم رأت في العاشر كان ذلك
نفاسا ، وهو بناء على القول بأن أكثر النفاس عشرة مطلقا ظاهر ، واما على القول
بتخصيص المعتادة بأيام عادتها وجعل العشرة لغيرها فيجب تقييد الحكم المذكور في
شموله للمعتادة بما إذا كانت عادتها عشرة أو دونها وانقطع على العاشر كما صرحوا به
والحكم هنا في المعتادة ـ لو كانت عادتها أقل من عشرة ورأت الدم في العادة ثم
انقطع على العشرة فإنه يحكم بكون الجميع نفاسا ـ مبني على ما تقدم نقله عنهم في
الحيض من انه إذا تجاوز العادة وانقطع على العاشر حكم بكون الجميع حيضا. وقد عرفت
ما فيه ثمة.
ولو رأت في
العاشر وتجاوز فعلى مذهب من يرى العشرة مطلقا فإنه يحكم باليوم العاشر خاصة. وعلى
القول بالتفصيل بين ذات العادة فعادتها وغيرها فالعشرة فكذلك أيضا في غير ذات
العادة وفي ذات العادة إذا كانت عادتها عشرة ، اما لو كانت عادتها دون العشرة فإنه
لا نفاس لها إلا ما رأته في شيء من أيام العادة ، وبالجملة فالحكم عندهم هنا تابع
للحيض فكما انه مع تجاوز العشرة عندهم يرجع الى العادة خاصة كذلك هنا
يرجع الى العشرة التي هي بمنزلة العادة ثمة.
وظاهر المدارك
الاستشكال في الحكم الأول أعني الحكم بالنفاس على الدم الذي تراه اليوم العاشر
خاصة ، قال بعد ذكر المسألة : «واعلم ان هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، وهو
محل اشكال لعدم العلم باستناد هذا الدم إلى الولادة وعدم ثبوت الإضافة إليها عرفا».
أقول : هذا
الاشكال لو تم لا خصوصية له بهذه المادة بل يجري فيما تراه في العادة ، فإنها لو
كانت ذات عادة وحكمنا بتنفسها بأيام عادتها وولدت ثم لم تر دما إلا في اليوم
الثالث أو الرابع مثلا فإنه لا يعلم ايضا استناده إلى الولادة لانفصاله عنها وعدم
ثبوت الإضافة إليها عرفا ، فعلى هذا يختص النفاس بما يصاحب خروج الولد أو يكون
بعده بلا فصل وهو بعيد غاية البعد عن ظواهر الأخبار المتقدمة ، فإن ظاهر الحكم
بالتنفس أيام العادة أعم من ان يكون أول الدم من الولادة أم بعد ذلك من أيام
العادة ، وقضية إلحاق النفاس بالحيض ـ وانه حيض في المعنى يترتب أحكام الحيض عليه
ـ هو الحكم بالنفاس على الدم الحاصل بعد الولادة في أي وقت من أيام العادة ان كانت
ذات عادة أو العشرة بناء على ما حققناه آنفا لغير ذات العادة من العمل على العشرة
، ويؤيده قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «ان الحائض مثل النفساء سواء». وحينئذ فكل دم رأته في
ضمن هذه المدة أولا أو آخرا أو وسطا فإنه يحكم عليه بكونه نفاسا ، وقد تقدم منه ما
يشير الى ذلك ايضا عند قول المصنف : «ولو ولدت ولم تر دما. إلخ» حيث قال : «المراد
انها لم تر دما في الأيام المحكوم بكون الدم الموجود فيها نفاسا» وبالجملة فإنه
يحكم على هذا الدم بالنفاس في الصورة المذكورة على قياس الحيض كما لو رأت في أيام
العادة ، غاية الأمر أنه لا بد في الحكم بكونه حيضا من بلوغ الثلاثة التي هي أول
الحيض ليحكم بكونه حيضا واما النفاس فلا حد لأقله كما عرفت ، وبذلك يظهر ان ما
ذكره
__________________
الأصحاب وقطعوا به هو الموافق لمقتضى القاعدة المقررة إلا ان المسألة حيث
كانت عارية عن النصوص بالخصوص فلا ينبغي إهمال الاحتياط فيها.
وقد صرحوا أيضا
بأنه لو رأت الأول والعاشر خاصة كان الدمان وما بينهما من النقاء نفاسا ، وهو مبني
على ما صرحوا به في الحيض من انها لو رأت ثلاثة فانقطع ثم رأت العاشر فانقطع فإن
العشرة حيض ، قال في الذخيرة بعد نقل الحكم المذكور : «وان لم يثبت إجماع على
الكلية المذكورة كان للتأمل في الحكم المذكور مجال لفقد النص الدال عليه» أقول :
وفيه زيادة على ما ذكره ما تقدم تحقيقه في هذه المسألة في باب الحيض من ان الحكم
على النقاء المتخلل بين الدمين بكونه حيضا محل بحث ، وبه يظهر ما في التفريع عليه
وإلحاق النفاس به في ذلك.
ولو فرض تجاوزه
العشرة في الصورة المذكورة فالحكم فيه عندهم كما تقدم من انها ان كانت مبتدأة أو
مضطربة أو عادتها عشرة فالعشرة نفاس والا فنفاسها الدم الأول خاصة إلا ان يصادف
الثاني جزء من العادة فيكون جميع العادة نفاسا لوجود الدم في طرفيها وما بينهما
أقل من عشرة فيكون الجميع نفاسا على قياس الحيض. وفيه ما عرفت. والله العالم.
(المسألة
الخامسة) ـ صرحوا بان حكم النفساء كالحائض في كل الأحكام الواجبة والمندوبة
والمحرمة والمكروهة لأنه في الحقيقة حيض احتبس ، ونفى في المنتهى الخلاف فيه بين
أهل العلم مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وفي المعتبر انه مذهب أهل العلم لا اعلم فيه
خلافا.
وقد استثنوا من
ذلك أشياء : (الأول) ـ الأقل للإجماع على ان أقل الحيض ثلاثة ولأحد في جانب القلة
للنفاس كما تقدم. وهو كذلك.
(الثاني) ـ الأكثر
للخلاف في أكثر النفاس كما تقدم بخلاف الحيض فإن أكثره عشرة اتفاقا نصا وفتوى.
(الثالث) ـ ان
الحيض دليل على سبق البلوغ بخلاف النفاس ، فإن الدلالة حصلت بالحمل لأنه أسبق من
النفاس فدل على سبق البلوغ على الوضع لستة أشهر فما زاد ، قال في الروض : «وهذا
الوجه ذكره المصنف في النهاية وتبعه عليه في الذكرى ، وفيه نظر لأن دلالة الحمل
عليه لا تمنع من دلالة النفاس أيضا لإمكان اجتماع دلالات كثيرة. لأن هذه الأمور
معرفات شرعية لا علل عقلية فلا يمتنع اجتماعها ، كما ان الحيض غالبا لا يوجد إلا
بعد سبق البلوغ بغيره» أقول : الظاهر ان كلام شيخنا المشار اليه هنا لا يخلو من
نظر ، فان الظاهر من كلام الأصحاب ان المراد بالدلالة على البلوغ انما هو باعتبار
ترتب الأحكام من العبادات والحدود ونحو ذلك على العلم بالبلوغ ، فبأي شيء يعرف ما
يترتب عليه هذه الأحكام؟ لا ان المراد الدلالة في الجملة ، ولا ريب انه متى حصل
الحمل للمرأة فقد علم به البلوغ وترتب الأحكام المذكورة عليه فلا ثمرة في دلالة
النفاس حينئذ ولا اثر لهذه الدلالة لمعلومية البلوغ قبله. واما ما ذكره ـ من ان
الحيض غالبا لا يوجد إلا مع سبق البلوغ بغيره ـ ففيه انا لا نقول بكون الحيض مطلقا
دليلا على البلوغ أو على سبق البلوغ وانما نقول بذلك فيمن جهل سنها ، واما من علم
بلوغها التسع فان الحيض بعده لا اثر له في الدلالة كما أشرنا إليه فيما تقدم في
المسألة الخامسة من المقصد الأول من الفصل الثاني في غسل الحيض وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
(الرابع) ـ ان
العدة تنقضي بالحيض دون النفاس ، وذلك لان انقضاء العدة انما يحصل بوضع الولد وان
لم تر دما بالكلية فلو وضعت من غير نفاس خرجت من العدة فلا دخل للنفاس في انقضائها
بخلاف الحيض ، نعم هذا الحكم جار على الغالب ووجه التقييد بالغالب انه ربما اتفق
انقضاء العدة بالنفاس نادرا كما في الحامل من الزنا إذا طلقها زوجها ، فإنه لو
تقدمها قرءان سابقان على الوضع بناء على مجامعة الحيض للحمل ثم رأت بعد الوضع
نفاسا عد في الأقراء وانقضت به العدة ولو لم يتقدمه قرءان عد في الأقراء.
__________________
(الخامس) ـ ان
الحائض ترجع الى عادتها في الحيض عند تجاوز العشرة بخلاف النفساء فإنها لا ترجع
إلى عادة النفاس وانما ترجع إلى عادة الحيض. أقول : لا يخفى ان النفاس ليس له أثر
عادة يبنى عليها في مادة من المواد لما عرفت آنفا من ان ذات العادة تبني على
عادتها وغيرها على العشرة وهكذا بالنسبة إلى سائر الأقوال المتقدمة ، ومن ذلك يعلم
انه ليس في النفاس عادة.
(السادس) ـ ان
الحائض ترجع إلى عادة نسائها على بعض الوجوه بخلاف النفساء فإنها لا ترجع الى ذلك
عند الأصحاب ، وقد تقدم في موثقة أبي بصير الدلالة على الرجوع في النفاس إلى نسائها ، ونسبها في
الروض وقبله العلامة في المنتهى الى الشذوذ. قال في المنتهى : «وهل ترجع إلى عادة
أمها وأختها في النفاس؟ لا نعرف فتوى لأحد ممن تقدمنا في ذلك» ثم نقل موثقة أبي
بصير وردها بالشذوذ وضعف السند ، ثم قال : «والأقوى الرجوع الى أيام الحيض» أقول :
وهو جيد لما تقدم من ان ذات العادة تتنفس بعادتها في الحيض وغيرها بالعشرة أو
الثمانية عشر على الخلاف.
الفصل الخامس
في غسل المس وفيه
مسائل (الأولى) ـ المشهور رواية وفتوى وجوب الغسل على من مس ميتا بعد برده وقبل
تطهيره بالغسل ، وعن المرتضى في شرح الرسالة والمصباح القول بالاستحباب ، وظاهر
كلام الشيخ في الخلاف وجود قائل بذلك قبل المرتضى حيث قال : «وعند بعضهم انه يستحب
وهو اختيار المرتضى» ونسبه سلار إلى إحدى الروايتين مع انا لم نقف على رواية ظاهرة
في الاستحباب كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.
والأظهر الأول
، لنا الأخبار الكثيرة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن
__________________
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «قلت الرجل يغمض عين الميت أعليه غسل؟ فقال : إذا
مسه بحرارته فلا ولكن إذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل. قلت فالذي يغسله يغتسل؟ قال :
نعم. الحديث».
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن حريز عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من غسل ميتا فليغتسل. قلت فان مسه ما دام حارا؟ قال
فلا غسل عليه وإذا برد ثم مسه فليغتسل. قلت فمن ادخله القبر؟ قال لا غسل عليه انما
يمس الثياب».
وعن عبد الله
بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «يغتسل الذي غسل الميت ، وان قبل الميت انسان بعد
موته وهو حار فليس عليه غسل ولكن إذا مسه وقبله وقد برد فعليه الغسل ، ولا بأس ان
يمسه بعد الغسل ويقبله».
وعن عبد الله
بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له أيغتسل من غسل الميت؟ قال نعم. قلت : من
ادخله القبر؟ قال : لا انما يمس الثياب».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عاصم بن حميد قال : «سألته عن الميت إذا مسه انسان أفيه غسل؟ قال
فقال إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل».
وعن إسماعيل بن
جابر في الصحيح قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعل يقبله وهو ميت ،
فقلت جعلت فداك أليس لا ينبغي ان يمس الميت بعد ما يموت ومن مسه فعليه الغسل؟ فقال
اما بحرارته فلا بأس انما ذلك إذا برد».
وعن معاوية بن
عمار في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الذي يغسل الميت عليه غسل؟ قال : نعم. قلت فإذا مسه
وهو سخن؟ قال : لا غسل
__________________
عليه فإذا برد فعليه الغسل قلت : والبهائم والطير إذا مسها عليه غسل؟ قال :
لا ليس هذا كالإنسان».
وعن محمد بن
مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من غسل ميتا وكفنه اغتسل غسل الجنابة».
وعن محمد بن
الحسن الصفار في الصحيح قال : «كتبت اليه : رجل أصابت يده أو بدنه ثوب الميت
الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يده أو بدنه؟ فوقع (عليهالسلام) : إذا أصاب يدك جسد الميت قبل ان يغسل فقد يجب عليك
الغسل».
وعن الحلبي في
الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «عن الرجل يمس الميتة أينبغي أن يغتسل منها؟ قال : لا انما ذلك من الإنسان».
واما ما رواه
الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ـ قال : «يغتسل الذي غسل الميت وكل من مس ميتا فعليه
الغسل وان كان الميت قد غسل». ـ فحمله في التهذيبين على الاستحباب وفيه بعد ،
والاولى طرح الخبر المذكور والرد إلى قائله ولا سيما مع كونه مخالفا لإجماع
المسلمين ومن روايات عمار المتفرد بنقل الغرائب.
واما ما رواه
عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهالسلام) ـ قال : «الغسل من سبعة : من الجنابة وهو واجب ، ومن
غسل الميت وان تطهرت أجزأك ، وذكر غير ذلك». وظاهره ان الوضوء يجزئ عن غسل مس
الميت وان كان الغسل أفضل ـ فقد حمله الشيخ على التقية ، قال : «لأنا بينا وجوب
الغسل على من غسل ميتا وهذا موافق للعامة لا يعمل به» انتهى. وهو جيد ، ويعضده ان
رواة
__________________
الخبر من العامة والزيدية. واما ما ذكره في الوافي ـ بعد نقل ذلك عن الشيخ
حيث قال : «ولا يخفى ان الوجوب بالمعنى الذي اراده غير ثابت» ـ فلا اعرف له معنى
مع تصريحه هو وغيره بوجوب غسل المس.
وروى الطبرسي
أبو منصور احمد بن ابي طالب في الاحتجاج قال : مما خرج عن صاحب الزمان (عليهالسلام) الى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري حيث كتب اليه : «روي
لنا عن العالم انه سئل عن امام صلى بقوم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من
خلفه؟ فقال : يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه؟
التوقيع : ليس
على من مسه إلا غسل اليد وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم الصلاة مع القوم. قال
: وكتب اليه وروى عن العالم ان من مس ميتا بحرارته غسل يده ومن مسه وقد برد فعليه
الغسل ، وهذا الميت في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارته فالعمل في ذلك على ما هو؟
ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع : ان مسه في هذه الحال
لم يكن عليه الا غسل يده».
واما ما ذكره
في الذخيرة ـ حيث قال بعد نقل جملة من اخبار المسألة : «ولا يخفى ان الأمر وما في
معناه في أخبارنا غير واضح الدلالة على الوجوب فالاستناد الى هذه الاخبار في إثبات
الوجوب لا يخلو من اشكال» ـ فهو من جملة تشكيكاته الواهية وفيه خروج من الدين من
حيث لا يشعر قائله (أما أولا) ـ فلما حققناه في مقدمات الكتاب من دلالة الأمر على
الوجوب بالآيات القرآنية والأخبار النبوية.
و (اما ثانيا)
ـ فلانه متى كان الأوامر الواردة في الأخبار في جميع الأحكام لا تدل على الوجوب
والنواهي الواردة كذلك لا تدل على التحريم كما كرره في غير موضع من كتابه هذا فلم
يبق إلا الإباحة ، وبذلك يلزم تحليل المحرمات وترك الواجبات إذ لا تكليف الا بعد
البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ، والفرض بناء على ما ذكره
__________________
انه لا دليل على وجوب ولا تحريم ، واللازم حينئذ سقوط التكليف وان إرسال
الرسل وإنزال الشرائع عبث وهو كفر محض كما لا يخفى.
ولم نقف
للمرتضى هنا على دليل في حمل الاخبار على الاستحباب إلا التمسك بأصالة البراءة وما
رواه الشيخ عن سعد بن ابي خلف قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : «الغسل في أربعة عشر موطنا ، واحد فريضة
والباقي سنة». وما رواه عن القاسم الصيقل قال : «كتبت اليه : جعلت فداك هل اغتسل أمير المؤمنين
حين غسل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عند موته؟ فأجاب (عليهالسلام) ان النبي طاهر مطهر ولكن أمير المؤمنين فعل وجرت به
السنة». ولا يخفى أن الأصالة المذكورة يجب الخروج عنها بالدليل وقد تقدم. واما
الروايتان المذكورتان فقاصرتان سندا ودلالة ، واللازم من العمل بمضمون الاولى من
حمل السنة فيها على المستحب عدم وجوب غسل الحيض وأخويه من الاستحاضة والنفاس وعدم
وجوب غسل الميت ، وهو باطل قطعا ، ويحتمل في الثانية جعل مفعول «فعل» غسل الميت لا
غسل المس وحينئذ فالضمير في قوله : «وجرت به السنة» عائد إليه لا الى غسل المس ،
على ان استعمال السنة في الأخبار فيما وجب بالسنة أو الأعم شائع كثير.
ثم انه صرح
جملة من الأصحاب بأنه لا فرق في وجوب الغسل بالمس بين كون الميت مسلما أو كافرا
عملا بإطلاق الاخبار في وجوب الغسل بمس الميت بعد برده الشامل للمسلم والكافر.
واحتمل في المنتهى عدم الوجوب بناء على ان إيجاب الغسل بالمس قبل التطهير بالغسل
انما يتحقق في من يقبل التطهير اما ما لا يقبل كالبهيمة ونحوها فلا ، والكافر لا
يقبل التطهير فيكون جاريا مجراها. ورد بما تقدم من شمول الأخبار بإطلاقها للمسلم
والكافر. وفيه ان ظاهر الاخبار المشار إليها ـ باعتبار ما دل عليه بعضها من انه
قبل
__________________
الغسل يجب الغسل بمسه وبعد الغسل لا يجب وحمل مطلقها في ذلك على مقيدها
ومجملها على مفصلها ـ هو اختصاص موردها بالمسلم ، لانه لا خلاف ولا إشكال في ان
غسل الكافر لا يفيده طهارة وحينئذ فلا يكون داخلا تحت الاخبار المشار إليها ،
وبذلك يظهر قرب الاحتمال الذي ذكره في المنتهى وان كان الاحتياط في وجوب الغسل
بمسه غسل أو لم يغسل.
واما الميمم ولو
عن بعض الغسلات فالظاهر وجوب الغسل بمسه ، لعدم دخوله تحت الأخبار المذكورة ، لأن
التيمم غير الغسل وبدليته عنه لا تقتضي المساواة من جميع الوجوه.
(الثانية) ـ لو
تقدم غسله على موته كالمرجوم أو غسل مع فقد الخليطين فهل يجب الغسل بمسه أم لا؟
اشكال ، قال في المدارك بعد الكلام في المسألة ونقل بعض اخبارها : «ويندرج في من
غسل من تقدم غسله على موته ومن غسل غسلا صحيحا ولو مع فقد الخليطين».
أقول : لا يخفى
تطرق المناقشة الى كل من الصورتين المذكورتين ، اما من تقدم غسله كالمرجوم ففيه (أولا)
ـ ان هذا الحكم وان دلت عليه رواية مسمع كردين عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «المرجوم والمرجومة يغسلان ويحنطان ويلبسان الكفن
قبل ذلك ثم يرجمان ويصلى عليهما ، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغسل ويحنط ويلبس الكفن
ويصلى عليه». الا انها مع ضعف سندها معارضة بالأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى
الدالة على نجاسة الميت بالموت ولا سيما الأخبار الكثيرة الدالة على ان العلة في
وجوب غسل الميت انما هو خروج النطفة التي خلق منها بالموت وان الميت لذلك كالجنب
يغسل غسل الجنابة كما قدمنا جملة منها في باب غسل الجنابة وتخصيص تلك الاخبار بما هي عليه من الكثرة والصراحة
بهذا الخبر الضعيف مشكل ، على انه لا يعقل
__________________
سبق التطهير على وقوع النجاسة وحصولها كما لا يخفى ، ولو لا اتفاق الطائفة
على هذا الحكم سلفا وخلفا لكان الأظهر الوقوف على تلك الأخبار ، وكيف كان فالأجود
عندي إعادة غسله. و (اما ثانيا) ـ فلانه مع تسليم العمل بالرواية المذكورة والحكم
بصحة هذا الغسل والاكتفاء به عن تغسيله ثانيا فانسحاب أحكام الغسل الصحيح المتعارف
الى هذا الغسل ممنوع ، وذلك فإن إطلاق الأخبار المتقدمة الدالة على وجوب الغسل بمس
الميت بعد برده وقبل غسله وجواز المس بعد الغسل انما ينصرف الى الغسل المتكرر
المتعارف الشائع الوقوع وهو الغسل بعد الموت ، لما صرح به غير واحد من محققي
الأصحاب من ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تنصرف الى الافراد الشائعة
المتعارفة فإنها هي التي ينصرف إليها الإطلاق وتتبادر الى الذهن دون الفروض الشاذة
النادرة ، وبالجملة فإن غاية ما دلت عليه رواية مسمع بعد تسليمها مع مخالفتها
لمقتضى القواعد هو سقوط الغسل بعد الموت واما ما عداه فلا ، ودعوى كون هذه الأمور
مترتبة على الغسل مطلقا ممنوعة لما عرفت ، وقد وافقنا في هذا المقام صاحب الذخيرة
مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا فقال : «وفي وجوب الغسل بمسه بعد الموت تردد»
وتنظر العلامة في المنتهى في المسألة أيضا ، وعن ابن إدريس انه أوجب الغسل بمسه.
واما من غسل مع
فقد الخليطين فلعدم الدليل على صحة هذا الغسل لعدم النص كما يأتي تحقيقه ان شاء
الله تعالى في محله وانما عللوا ذلك بأمور اعتبارية لا تصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية.
(الثالثة) ـ قال
في المنتهى : «الأقرب في الشهيد انه لا يجب الغسل بمسه لأن الرواية تدل بمفهومها
على ان الغسل انما يجب في الصورة التي يجب فيها تغسيل الميت قبل غسله» وظاهره في
المعتبر القطع بالحكم المذكور ، وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : «وهو كذلك لان
ظاهر الروايات ان الغسل انما يجب بمس الميت الذي يجب تغسيله
قبل ان يغسل ، ويعضده أصالة البراءة وانتفاء العموم في الأخبار الموجبة
بحيث يتناول كل ميت».
أقول : لا يخفى
ان أكثر الروايات المتقدمة مطلقة في وجوب الغسل على من مس ميتا ، مثل صحيحة حريز
أو حسنته ورواية عبد الله بن سنان الاولى وصحيحة عاصم بن حميد وصحيحة إسماعيل بن
جابر وصحيحة معاوية بن عمار وصحيحة الحلبي وصحيحة محمد بن مسلم فإنها كلها مطلقة في وجوب الغسل بالمس بعد البرد شاملة
بإطلاقها للشهيد وغيره. واما ما دلت عليه صحيحة الصفار من قوله (عليهالسلام): «إذا أصاب يدك جسد الميت قبل ان يغسل فقد يجب عليك
الغسل». وهي التي تشعر بما ذكروه ـ فيمكن الجواب عنها بان هذا القيد خرج بناء على
ما هو الغالب المتكرر فلا يدل على تقييد إطلاق تلك الأخبار الكثيرة ، وبذلك يظهر
لك ما في دعوى صاحب المدارك (أولا) ـ ان ظاهر الروايات ان الغسل انما يجب بمس
الميت الذي يجب تغسيله قبل ان يغسل ، فإن أكثر الروايات ـ كما عرفت ـ مطلق لا
اشعار فيه بما ذكره وانما ذلك في صحيحة الصفار خاصة. و (ثانيا) ـ دعواه انتفاء
العموم في الاخبار الموجبة بحيث يتناول كل ميت ، فإنه ليس في محله لما عرفت من
شمول الأخبار المذكورة بإطلاقها للشهيد وغيره من الأموات. ووقوع السؤال في بعضها
عمن غسل ميتا لا اشعار فيه بما ادعوه ، لان هذا أحد أفراد المس الذي يترتب عليه
الغسل ، واي ظهور في العموم أظهر من صحيحة عاصم بن حميد وقوله : «سألته عن الميت إذا مسه الإنسان فيه غسل؟ فقال
: إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل»؟. ونحوها صحيحة إسماعيل بن جابر وبالجملة فظواهر الأخبار المذكورة العموم. نعم يمكن ان
يقال ان الظاهر من الروايات الدالة على نجاسة الميت بالموت وطهره بالغسل والروايات
الدالة على ان الشهيد لا يغسل هو طهارة الشهيد وعدم نجاسته بالموت ، وحينئذ فيكون
حكمه حكم غيره
__________________
من الأموات بعد الغسل.
(الرابعة) ـ لا
خلاف بين الأصحاب في انه لو مسه قبل البرد فلا غسل ، وقد تقدم في الأخبار المتقدمة
ما يدل عليه وانما الخلاف في ثبوت النجاسة بذلك ووجوب غسل ما باشره. فقيل بذلك وهو
اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض ونقله عن العلامة أيضا ، وقيل بطهارته وعدم
وجوب غسل ما باشره وهو اختيار الذكرى والدروس والمنتهى ، واليه مال في المدارك
وقبله المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد.
واحتج الأولون
بصدق الموت الموجب للحكم بالنجاسة. وأجاب عنه في الذكرى بأنا إنما نقطع بالموت بعد
البرد. واعترضه في الروض بمنع عدم القطع قبله وإلا لما جاز دفنه قبل البرد ، ولم
يقل به أحد خصوصا صاحب الطاعون ، قال : «وقد أطلقوا القول باستحباب التعجيل مع
ظهور علامات الموت وهي لا تتوقف على البرد ، مع ان الموت لو توقف القطع به على
البرد لما كان لقيد البرد فائدة بعد ذكر الموت».
واحتج الآخرون
بأصالة البراءة فيجب التمسك بها الى ان يقوم دليل على خلافها وعدم القطع بنجاسته
قبل البرد ، وزاد في الذكرى بان نجاسته ووجوب الغسل متلازمان إذ الغسل بمس النجس.
واعترضه في
الروض ـ زيادة على ما تقدم ـ بمنع الملازمة هنا ايضا ، قال : لأن النجاسة علقها
الشارع على الموت والغسل على البرد ، وكل حديث دل على التفصيل بالبرد وعدمه دل على
صدق الموت قبل البرد ، كخبر معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «إذا مسه وهو سخن فلا غسل عليه فإذا برد فعليه الغسل». فان ضمير «مسه»
يعود الى الميت ، وعن عبد الله بن سنان عنه (عليهالسلام) «يغتسل الذي غسل الميت.». ثم ساق الرواية وهي الاولى من روايتيه المتقدمتين الا
انه قال فيها : «وان غسل الميت انسان بعد موته. الى آخر الخبر» ثم قال
بعد هذا : «وهذا الحديث
__________________
كما يدل على صدق الموت قبل البرد كذلك يدل على جواز تغسيله قبله أيضا» أقول
: الموجود فيما حضرني من كتب الأخبار ـ وهو الذي نقله في الوافي وكذلك في الوسائل
ـ انما هو «قبل الميت إنسان. الى آخره» لا «غسل» كما نقله. واستدل به ايضا على
النجاسة بالموت الشامل بإطلاقه لما قبل البرد ، وبعده بصحيحة الحلبي عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) «عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ قال يغسل ما أصاب الثوب». ورواية إبراهيم
بن ميمون قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميت؟ قال ان كان غسل
الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه وان كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه». وهما
دالان على نجاسة الميت بالموت مطلقا ومدعى التقييد بالبرد عليه الدليل.
وبالجملة فهذا
القول لما عرفت لا يخلو من قوة ، إلا ان ظاهر نفي البأس عن مسه بحرارته وتقبيله في
تلك الحال ـ كما في جملة من الاخبار المتقدمة ـ هو الطهارة ولا سيما فعل الصادق (عليهالسلام) بابنه إسماعيل كما تضمنته صحيحة إسماعيل بن جابر وحينئذ فيمكن تقييد إطلاق الميت في الاخبار المتقدمة
بالبرد جمعا بين الاخبار. وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني وقوله : «ان
النجاسة علقها الشارع على الموت والغسل على البرد» من ان الموت بمجرده لا يستلزم
النجاسة بل لا بد من تقييده بالبرد ليتم نفي البأس عن تقبيله ومسه بحرارته كما
تضمنته الاخبار المشار إليها. واما اعتراضه على كلام الشهيد (رحمهالله) حيث ادعى انه انما يقطع بموته بعد البرد بالمنع من ذلك
مستندا إلى انه لم يصرح أحد بعدم جواز دفنه قبل البرد ففيه انه لم يصرح أحد أيضا
بجواز ذلك قبل البرد. واما إطلاقهم القول باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت
وهي ـ لا تتوقف على البرد ـ ففيه ان برد بدن الميت بعد الموت لا يتوقف على زمان
يحصل به المنافاة لاستحباب التعجيل. واما قوله ـ : انه لو توقف القطع بالموت على
البرد لما كان لقيد البرد فائدة ـ ففيه انا لا نمنع الموت حال
__________________
الحرارة وانما نمنع انفصال الروح بكليتها في تلك الحال ، وذلك فان الروح
بعد خروجها من الدن يبقى لها اتصال به كاتصال شعاع الشمس بعد غروبها بما أشرقت
عليه ، وآثار ذلك الاتصال باقية ما دامت الحرارة موجودة ، وبعد البرد ينقطع ذلك
ويقطع بخروجها بجميع متعلقاتها وآثارها فلا منافاة حينئذ. نعم يبقى الكلام فيما
تضمنه التوقيع الخارج من الناحية المقدسة فإنه ظاهر بل صريح في النجاسة قبل البرد وانه يجب غسل
ما مسه به ، وبذلك يظهر ان المسألة لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها مطلوب
على كل حال. والله العالم.
(الخامسة) لو
مس عضوا كمل غسله فهل يجب الغسل بمسه أم لا؟ اشكال ، فقيل بالأول لإطلاق الأمر
بالغسل بمس الميت بعد برده ، خرج منه من غسل بالنص والإجماع وبقي ما عداه ، ولصدق
الميت الذي لم يغسل عليه في هذه الصورة ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة
في بعض كتبه والسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة. وقيل بالثاني
واليه ذهب العلامة أيضا والشهيد في الذكرى والدروس لان الظاهر ان وجوب الغسل تابع
لمسه نجسا للدوران وقد حكم بطهارة العضو المفروض.
والحق في
المقام ان يقال : ان الكلام في هذه المسألة يتوقف على الكلام في نجاسة الميت ، فان
قلنا بأنها عينية محضة ـ كما هو اختيار المحقق في المعتبر محتجا عليه بان الملاقي
لبدن الميت ينجس بملاقاته وليس ذلك إلا لكونه نجسا ـ فلا إشكال في عدم الوجوب وذلك
لان النجاسة العينية لا يشترط في طهارة بعض اجزاء محلها طهارة الباقي ، إذ طهارة
المحل تحصل بمجرد غسله وانفصال لغسالة عنه من غير توقف على أمر آخر ، وان قلنا
بأنها حكمية محضة ـ كما ذهب اليه المرتضى وجعله كالجنب وفرع عليه عدم وجوب غسل
المس ، أو قلنا بأنها حكمية من وجه وعينية من آخر كما هو ظاهر الأكثر وهو الأقرب
__________________
الأظهر ، اما جهة كونها حكمية فللأخبار الكثيرة الدالة على تعليل وجوب غسل
الميت بخروج النطفة منه ، وقد تقدمت في باب غسل الجنابة في مسألة وجوب الترتيب واما جهة كونها عينية فللأخبار الدالة على وجوب غسل
الملاقي لجسد الميت بعد برده وقبل تطهيره بالغسل ، وهي صحيحة الحلبي ورواية
إبراهيم بن ميمون المتقدمتان ـ فإشكال ينشأ من ان الأصل كون هذا الغسل كغيره من
الأغسال الرافعة للحدث في كونه بتمامه سببا تاما في رفع النجاسة الحكمية ولهذا
وجبت فيه النية كغيره من الأغسال وحينئذ فوجوب الغسل بالمس ثابت الى ان يحصل كمال
الغسل لعدم صدق اسمه عليه قبل إكماله ، ومن صدق كمال الغسل بالنسبة الى ذلك العضو
، ولانه لو كان منفصلا لما وجب الغسل بمسه قطعا فكذا مع الاتصال ، لعدم تعقل الفرق
ولأصالة البراءة من وجوب الغسل. والظاهر ضعفه. فالأقرب حينئذ هو الوجوب. نعم ينقدح
هنا اشكال آخر وهو ان مقتضى القواعد الفقهية أن طهارة المحل من الخبث تحصل بانفصال
الغسالة عن المغسول ولا يتوقف بعدها على تطهير جزء آخر كما عرفت ، فعلى هذا إذا
أكمل غسل عضو وجب الحكم بطهارته من الخبث بحيث لا يجب غسل اللامس له ، ولو توقف
طهارة ذلك العضو من الخبث على طهارة المجموع لزم مخالفة القاعدة المشار إليها ،
وحينئذ يبعد الحكم بوجوب الغسل بمسه دون غسل العضو اللامس ، إذ لم يعهد انفكاك
الغسل عن الغسل الا على ما يأتي ان شاء الله تعالى من مذهب الشهيد في إيجابه الغسل
بمس العظم المجرد مع انه قد يكون طاهرا من الخبث لانه مما لا تحله الحياة ، وسيأتي
بيان ضعفه ان شاء الله تعالى والتحقيق في المقام هو الوقوف على ظواهر الأخبار
المتقدمة ، وقد دلت على ان مس الميت بعد برده وقبل غسله موجب للغسل والمتبادر منه
كمال الغسل ، وحينئذ فما لم يكمل غسله لا يحصل مصداق الأخبار المذكورة ، واستبعاد
انفكاك الغسل عن الغسل غير مسموع في مقابلة الأخبار المذكورة ، وحينئذ فالأظهر هو
وجوب الغسل بمس العضو
__________________
المذكور وان لم يوجب غسل ما لاقاه.
(السادسة) ـ الظاهر
من كلام جملة من الأصحاب ان مس الميت على الوجه المتقدم من جملة الأحداث الموجبة
لنقض الطهارة المتوقف ارتفاعها على الغسل اما خاصة كما اخترناه سابقا أو مع الوضوء
على المشهور ، وبذلك صرح الشهيد في الألفية حيث عده من النواقض والشيخ في النهاية
حيث قال : «ومن جملة ما ينقض الوضوء ما يوجب الغسل وهو خمسة أشياء : الجنابة
والحيض والاستحاضة والنفاس ومس الأموات» وهو ايضا ظاهره في الذكرى والدروس ،
والظاهر انه لا خلاف فيه بينهم ، وظاهر المدارك التوقف في ذلك حيث قال : «واما غسل
المس فلم أقف على ما يقتضي اشتراطه في شيء من العبادات. ولا مانع من ان يكون
واجبا لنفسه كغسل الجمعة والإحرام عند من أوجبهما نعم ان ثبت كون المس ناقضا
للوضوء اتجه وجوبه للأمور الثلاثة المتقدمة إلا انه غير واضح» ثم نقل الاستدلال
عليه بعموم قوله (عليهالسلام) : «كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة». ورده بأنه مع
عدم صحة سنده غير صريح في الوجوب كما اعترف به جماعة من الأصحاب.
أقول : لم أقف
في شيء من الاخبار بعد التتبع التام على ما يقتضي كون المس ناقضا مشروطا رفعه
بالغسل الا على ما في الفقه الرضوي ، حيث قال في باب غسل الميت وتكفينه بعد ذكر
غسل المس : «وان نسيت الغسل فذكرت بعد ما صليت فاغتسل وأعد صلاتك».
قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين : «ومثل هذه الرواية لا تفيد حكما
لعدم ثبوت هذا الكتاب عنه (عليهالسلام) والقرائن تدل على عدمه ، ومع ذلك فالإعادة غير نص في
المدعى لاحتمال الاستحباب» انتهى. أقول : لا يخفى على من اعطى التأمل حقه فيما
نقلناه في هذا الكتاب وما سننقله ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية ـ من اعتماد
الصدوقين على هذا الكتاب والإفتاء بعبائره وترجيحها على النصوص
__________________
الصحيحة المستفيضة في مواضع عديدة ، حتى ان الأصحاب نسبوا كثيرا من فتاوى
علي ابن الحسين بن بابويه الى الشذوذ لمخالفتها صحاح الاخبار وهي مأخوذة من هذا
الكتاب كما ستنبه عليه ان شاء الله تعالى في المقامات الآتية مضافا الى ما تقدم ـ ان
الكتاب المذكور من الأصول المعتمدة التي لا تقصر عن نسبة غيره من الأصول إلى
مصنفيها ، ويؤيده ما ذكره شيخنا المجلسي (طاب ثراه) في مقدمات كتاب البحار حيث قال
: «كتاب فقه الرضا أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب ثراه) بعد
ما ورد أصفهان ، قال : قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت الله الحرام ان أتاني جماعة
من أهل قم حاجين وكان معهم كتاب قديم يوافق تأريخه عصر الرضا (عليهالسلام) وسمعت الوالد انه قال : سمعت السيد يقول كان عليه خطه (عليهالسلام) وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء ، وقال السيد
حصل لي العلم بتلك القرائن أنه تأليف الامام فأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ
والدي هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه ، وأكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق
أبو جعفر ابن بابويه في الفقيه من غير سند وما يذكره والده في رسالته اليه ، وكثير
من الأحكام التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم مستندها مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب
العبادات» انتهى كلامه. ونحوه وجدت بخط والده المذكور ايضا ، وبذلك يظهر لك ما في
كلام البعض المشار إليه فإنه ناشىء عن قصور التتبع وعدم اشتهار الكتاب المذكور.
وان الأظهر هو العمل بما دل عليه كلامه (عليهالسلام) كما عليه من عرفت من أصحابنا ، مضافا الى أوفقيته
للاحتياط المطلوب في الدين.
وقال في الذكرى
: «وهذا الغسل يجامعه الوضوء وجوبا ، لما سلف ، ولو أحدث بعد الوضوء المقدم اعاده
، وبعد الغسل المقدم الوضوء لا غير ، وفي أثناء الغسل الأقرب حكمه حكم المحدث في
أثناء غسل الجنابة ، وقطع في التذكرة بأنه لو أحدث في أثناء غسله أتم وتوضأ تقدم
أو تأخر ، ولعله يرى ان الحدث الأكبر يرفعه الغسل والأصغر يرفعه
الوضوء بالتوزيع. وفيه بعد لظهور ان الوضوء والغسل علة لرفع الحدث مطلقا
وهذا ينسحب في جميع الأغسال سوى الجنابة» انتهى. وسياق هذا الكلام وما اشتمل عليه
من الخلاف ظاهر في ان غسل المس رافع عندهم وهو موجب لكون المس عندهم من جملة
النواقض كما سلف ذكره عن جملة منهم واما الحدث في أثناء هذا الغسل فقد تقدم الكلام
في نظيره.
وقال في الدروس
: «ولا يمنع هذا الحدث من الصوم ولا من دخول المساجد في الأقرب نعم لو لم يغسل
العضو اللامس وخيف سريان النجاسة الى المسجد حرم الدخول وإلا فلا» انتهى. أقول :
ظاهر هذا الكلام هو ان حدثية المس الموجبة للغسل كالحدث الأصغر فيجب لما يجب له
الوضوء من الصلاة والطواف ونحوهما ولا يجب للصوم ولا لدخول المساجد للأصل وعدم
الدليل المخرج عنه ، نعم يأتي في دخول المساجد لو لم يغسل العضو اللامس ما يأتي في
سائر النجاسات من تحريم الدخول مطلقا أو بشرط خوف التعدي الى المسجد أو شيء من
الآية.
(السابعة) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب الغسل بمس القطعة المبانة ذات العظم من حي أو
ميت ، وادعى في الخلاف الإجماع عليه ، واستدلوا على ذلك برواية أيوب بن نوح عن بعض
أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسه انسان
فكل ما فيه عظم فقد وجب على كل من يمسه الغسل ، وان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه».
وهذه الرواية شاملة بإطلاقها المبانة من حي أو ميت. أقول : ويدل عليه ايضا قوله (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «وان مسست شيئا من جسد اكلة السبع
فعليك الغسل ان كان فيما مسست عظم ، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسه». وبهذه
العبارة عبر في الفقيه بأدنى تغيير فقال : «ومن مس قطعة من جسد أكيل السبع فعليه
الغسل ان كان
__________________
فيما مس عظم وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه في مسه» انتهى. ومورد العبارة
المذكورة وان كان بالنسبة إلى القطعة المبانة من الميت إلا انه لا دلالة فيها على
الاختصاص
ولم أقف على من
خالف في الحكم المذكور إلا المحقق في المعتبر وتبعه في المدارك قال في المعتبر بعد
ان نقل عن الشيخ دعوى الإجماع على ذلك والاستدلال بالرواية المتقدمة : «والذي أراه
التوقف في ذلك ، فإن الرواية مقطوعة والعمل بها قليل ودعوى الشيخ في الخلاف
الإجماع لم يثبت فاذن الأصل عدم الوجوب ، وان قلنا بالاستحباب كان تفصيا من اطراح
قول الشيخ والرواية» انتهى. قال في المدارك بعد نقل كلامه : «هذا كلامه وهو في
محله».
أقول : فيه (أولا)
ـ ما قدمنا نقله عنه في أوائل المعتبر من وجوب العمل بالخبر وان ضعف سنده متى قبله
الأصحاب ، والأمر هنا كذلك فإنه لا راد له سواه ومن تبعه ، وكل من تأخر عنه من
أصحاب هذا الاصطلاح ما عدا صاحب المدارك فإنهم ردوا كلامه بان ضعف الخبر مجبور
بشهرة العمل به وان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة كما حقق في الأصول ، واما
المتقدمون فقد عرفت في غير موضع مما تقدم انه لا اثر لهذا الاصطلاح عندهم ومن ذكر
المسألة منهم فإنما حكم فيها بما تقدم ومن لم يتعرض لها فإنه لا يدل على إنكارها
وعدم القول بها ، فقوله : «والعمل بها قليل» لا وجه له. و (ثانيا) ـ ان ما ادعاه ـ
من ان في القول بالاستحباب تفصيا عن اطراح قول الشيخ والرواية ـ ليس في محله ،
لانه متى كان قول الشيخ وكذا ظاهر الرواية انما هو الوجوب الموجب مخالفته للمؤاخذة
بالعقاب والقول بالاستحباب موجب لجواز الترك وعدم المؤاخذة ، فكيف يكون فيه تفص عن
مخالفة الشيخ والرواية؟ وبذلك يظهر ان القول المشهور هو المؤيد المنصور.
وهل يجب الغسل
بمس العظم المجرد متصلا أو منفصلا؟ قولان أشهرهما العدم ، وذهب في الذكرى والدروس
الى الوجوب لدوران الغسل معه وجودا وعدما. ورد
بمنع حجية الدوران وجواز كون العلة هي المجموع المركب منه ومن اللحم ، ولان
العظم طاهر في نفسه حيث انه مما لا تحله الحياة فلا يوجب نجاسة غيره ، ولو فرضت
نجاسته فهي عرضية خبثية تزول بتطهيره كباقي المتنجسات بالخبث ، هذا مع انفصاله
واما مع الاتصال فالظاهر وجوب الغسل بمسه لا من حيث هو هو بل من حيث وجوب الغسل
بمس الميت الصادق بمس اي جزء منه. ونحوه ايضا مس الشعر والظفر على اشكال ينشأ مما
ذكرناه من ان مس الشعر والظفر لا يسمى مسا للميت عرفا سيما إذا طالا بخلاف العظم
والضرس لان الظاهر صدق مس الميت بمسهما ، والاحتياط يقتضي الغسل بمس كل من هذه
الأشياء المذكورة حال الاتصال.
ويتفرع على
وجوب الغسل بمس العظم ما لو وجد العظم في مقبرة ، فإن كانت مقبرة المسلمين فلا غسل
لان الظاهر انه دفن بعد الغسل حملا لأفعال المسلمين على الصحة وان كانت مقبرة
الكفار وجب الغسل إذ لا عبرة بغسل الكافر كما تقدم ، ولو تناوب عليها الفريقان
فإشكال لتعارض أصالة عدم الغسل لجواز كونه كافرا ، والشك في حصول الحدث فلا يرفع
يقين الطهارة التي عليها الماس ، إلا ان في عدم رفع يقين الطهارة بمثل هذا الشك
بحثا تقدم الكلام فيه في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب ، ورجح في الدروس
هنا سقوط الغسل. وان جهلت فلم يعلم كونها مقبرة المسلمين أو الكفار تبعت الدار
فيلحق بأهلها.
قال في الروض :
«واعلم ان كل ما حكم في مسه بوجوب الغسل مشروط بمس ما تحله الحياة من اللامس لما تحله
الحياة من الملموس فلو انتفى أحد الأمرين لم يجب الغسل ، فان كان تخلف الحكم
لانتفاء الأول خاصة وجب غسل اللامس خاصة ، وان كان لانتفاء الثاني خاصة فلا غسل
ولا غسل مع اليبوسة ، وكذا ان كان لانتفاء الأمرين معا ، هذا كله في غير العظم
المجرد كالشعر والظفر ونحوهما ، اما العظم فقد تقدم الاشكال فيه ، وهو في السن
أقوى ، ويمكن جريان الإشكال في الظفر ايضا لمساواته العظم في ذلك ، ولا فرق
في الاشكال بين كون العظم والظفر من اللامس أو الملموس» انتهى.
الفصل السادس
في غسل الأموات
وما يستتبعه من أحكام الاحتضار والدفن ونحوهما ، والكلام فيه يقع في مقاصد (الأول)
ـ في الاحتضار ، ولا بأس بتقديم بعض الأخبار المناسبة للمقام والمتعلقة بهذه
الأحكام :
فعن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) رفع رأسه الى السماء فتبسم فسئل عن ذلك فقال : نعم
عجبت لملكين هبطا من السماء إلى الأرض يلتمسان عبدا مؤمنا صالحا في مصلى كان يصلى
فيه ليكتبا له عمله في يومه وليلته فلم يجداه في مصلاه ، فعرجا الى السماء فقالا
ربنا عبدك فلان المؤمن التمسناه في مصلاه لنكتب له عمله ليومه وليلته فلم نصبه
فوجدناه في حبالك ، فقال الله (عزوجل) اكتبا لعبدي مثل ما كان يعمل في صحته من
الخير في يومه وليلته ما دام في حبالي فان علي ان اكتب له أجر ما كان يعمله إذا
حبسته عنه». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان المؤمن إذا غلبه ضعف الكبر أمر الله تعالى الملك ان
يكتب له في حاله تلك مثل ما كان يعمل وهو شاب نشيط صحيح ، ومثل ذلك إذا مرض وكل
الله تعالى به ملكا يكتب له في سقمه ما كان يعمله من الخير في صحته حتى يرفعه الله
ويقبضه ، وكذلك الكافر إذا اشتغل بسقم في جسده كتب الله له ما كان يعمل من الشر في
صحته».
أقول : لعل
الوجه في ذلك ان المؤمن لما كان من نيته المداومة على تلك الأعمال
__________________
الصالحة فمتى حيل بينه وبينها بالمرض أو الكبر فان الله سبحانه يكتب له
ثواب ذلك من حيث نيته ، والكافر ايضا لما كان في نيته المداومة على تلك الأعمال
القبيحة كتب له ، وهو السر في الحديث الوارد بان كلا من أهل الجنة والنار انما
خلدوا فيها بالنيات.
وعن الباقر (عليهالسلام) : «سهر ليلة من مرض أفضل من عبادة سنة». وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «الحمى رائد الموت وهو سجن الله تعالى في الأرض
وهو حظ المؤمن من النار». وبهذا المضمون جملة من الأخبار. وعن الباقر (عليهالسلام) : «حمى ليلة تعدل عبادة سنة وحمى ليلتين تعدل عبادة
سنتين وحمى ثلاث ليال تعدل عبادة سبعين سنة. قال قلت : فان لم يبلغ سبعين سنة؟ قال
فلأبيه وامه. قال قلت : فان لم يبلغا؟ قال : فلقرابته. قال قلت : فان لم يبلغ
قرابته؟ قال : فلجيرانه». وعن الرضا (عليهالسلام) قال : «المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر تعذيب ونقمة ،
وان المرض لا يزال بالمؤمن حتى ما يكون عليه ذنب». وعن جعفر بن محمد عن آبائه في
وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام) قال : «يا علي أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل ونومه
على فراشه عبادة وتقلبه من جنب الى جنب جهاد في سبيل الله تعالى ، فإن عوفي مشى في
الناس وما عليه ذنب». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا أحب الله تعالى عبدا نظر اليه فإذا نظر إليه
أتحفه بواحدة من ثلاث : اما صداع واما حمى واما رمد». وعن علي بن الحسين (عليهماالسلام) قال : «حمى ليلة كفارة سنة وذلك لان ألمها يبقى في
الجسد سنة». وعن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) «انه تبسم فقيل له تبسمت يا رسول الله؟ فقال عجبت للمؤمن وجزعه من السقم
ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب ان لا يزال سقيما حتى يلقى ربه عزوجل». وعن أبي إبراهيم (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله)
__________________
للمريض اربع خصال : يرفع عنه القلم ويأمر الله تعالى الملك فيكتب له كل فضل
كان يعمله في صحته ويتبع مرضه كل عضو في جسده فيستخرج ذنوبه منه فان مات مات
مغفورا له وان عاش عاش مغفورا له». وعن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) «انه عاد سلمان الفارسي فقال له : يا سلمان ما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع
إلا بذنب قد سبق منه وذلك الوجع تطهير له. فقال له سلمان : فليس لنا في شيء من
ذلك أجر خلا التطهير؟ قال علي (عليهالسلام) : يا سلمان لكم الأجر بالصبر عليه والتضرع الى الله
تعالى والدعاء له بهما تكتب لكم الحسنات وترفع لكم الدرجات ، فاما الوجع خاصة فهو
تطهير وكفارة». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «كان الناس يعتبطون اعتباطا فلما كان زمان
إبراهيم (عليهالسلام) قال : يا رب اجعل للموت علة يؤجر بها الميت ويسلي بها
عن المصاب ، قال : فانزل الله تعالى الموم وهو البرسام ثم انزل بعده الداء».
أقول :
الاعتباط بالمهملتين أولا وآخرا : نزول الموت بغير علة. والموم بضم الميم والبرسام
: علة معروفة يهذى فيها ، يقال : برسم الرجل فهو مبرسم ، والداء سائر أنواع المرض
وعن ابي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «أكثر من يموت من موالينا بالبطن الذريع». أقول :
البطن محركة : داء البطن ، يقال بطن الرجل على صيغة المجهول : اشتكى بطنه ،
والذريع : السريع الكثير ، وهو عبارة عن كثرة الإسهال وسرعته بسبب انطلاق البطن. وعن
الصادق (عليهالسلام) «ان أعداءنا يموتون بالطاعون وأنتم تموتون بعلة البطون
ألا انها علامة فيكم يا معشر الشيعة». وعن الصادق (عليهالسلام) «ما من داء إلا وهو شارع الى الجسد ينتظر متى يؤمر به
فيأخذه». قال في الكافي وفي رواية أخرى «إلا الحمى فإنها ترد ورودا». وعن الصادق (عليهالسلام) قال :
__________________
«قال موسى يا رب من اين الداء؟ قال : منى. قال فالشفاء؟ قال مني. قال : فما
يصنع عبادك بالمعالج؟ قال : تطيب أنفسهم فيومئذ سمي المعالج بالطبيب».
أقول : لا يخفى
ما في هذا الحديث من الإشكال ، إذ لا يظهر هنا وجه مناسبة بين المشتق والمشتق منه
، فإن أحدهما من «طيب» بالياء المثناة والآخر من «طبب» بالبائين الموحدتين ، ولعل
قوله (عليهالسلام) : «تطيب أنفسهم» انما هو بالبائين لا بالياء ، فان
الطب كما يكون للبدن يكون للنفس ايضا كما قال في القاموس : «الطب مثلث الطاء :
علاج الجسم والنفس» فالاشتقاق متجه ، وما في النسخ من الكتابة بالياء المثناة من
تحت في اللفظ المشار اليه فالظاهر انه غلط من النساخ.
وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال الله تعالى : أيما عبد ابتليته ببلية فكتم
ذلك عواده ثلاثا أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وبشرا خيرا من بشره ،
فإن أبقيته أبقيته ولا ذنب له وان مات مات إلى رحمتي». وزاد في خبر آخر مثله «قال
قلت : جعلت فداك وكيف يبدله؟ قال يبدله لحما ودما وشعرا وبشرا لم يذنب فيها». وعن
الصادق (عليهالسلام) قال : «من مرض ليله فقبلها بقبولها كتب الله له عبادة
ستين سنة. قلت ما معنى قبولها؟ قال لا يشكو ما اصابه فيها الى أحد». وعن الصادق (عليهالسلام) وقد سئل عن حد الشكاية للمريض قال : «ان الرجل يقول
حممت اليوم وسهرت البارحة وقد صدق وليس هذا شكاية ، وانما الشكوى ان يقول لقد
ابتليت بما لم يبتل به أحد ويقول لقد أصابني ما لم يصب أحدا ، وليس الشكوى ان يقول
سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا». وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «ينبغي للمريض منكم أن يؤذن
__________________
إخوانه بمرضه فيعودونه فيؤجر فيهم ويؤجرون فيه قال فقيل له نعم هم يؤجرون
فيه بممشاهم اليه فكيف يؤجر هو فيهم؟ قال فقال باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم ،
فيكتب له بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويمحى بها عنه عشر سيئات». وعن ابي
الحسن (عليهالسلام) قال : «إذا مرض أحدكم فليأذن للناس يدخلون عليه فإنه
ليس من أحد إلا وله دعوة مستجابة». وعن الصادق (عليهالسلام) «ما من أحد يحضره الموت إلا وكل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر
ويشككه في دينه حتى تخرج نفسه فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه ، فإذا حضرتم موتاكم
فلقنوهم شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله حتى يموتوا». وعنه (عليهالسلام) في حديث «ان ملك الموت يتصفح الناس في كل يوم خمس مرات عند مواقيت الصلاة فإن كان
ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله
ونحى عنه ملك الموت إبليس». وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا عيادة في وجع العين ولا تكون عيادة في أقل من ثلاثة أيام فإذا
وجبت فيوم ويوم لا فإذا طالت العلة ترك المريض وعياله». وعن بعض موالي جعفر بن
محمد (عليهالسلام) قال : «مرض بعض مواليه فخرجنا اليه نعوده ونحن عدة من
موالي جعفر فاستقبلنا جعفر (عليهالسلام) في بعض الطريق فقال لنا اين تريدون؟ فقلنا نريد فلانا
نعوده. فقال لنا : قفوا فوقفنا فقال : مع أحدكم تفاحة أو سفر جلة أو أترجة أو لعقة
من طيب أو قطعة من عود بخور؟ فقلنا ما معنا شيء من هذا. فقال أما تعلمون ان
المريض يستريح الى كل ما ادخل عليه؟». وعن الصادق
__________________
(عليهالسلام) قال : «تمام العيادة للمريض ان تضع يدك على ذراعه وتعجل
القيام من عنده فإن عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه». أقول : النوك بالضم :
الحمق ، ورجل أنوك والجمع نوكى كقتلى. وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال. ان من أعظم العواد اجرا عند الله لمن إذا عاد
أخاه خفف الجلوس إلا ان يكون المريض يحب ذلك ويريده ويسأله ذلك.». وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أدخل أحدكم على أخيه عائدا له فليسأله يدعو
له فان دعاءه مثل دعاء الملائكة». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «من عاد مريضا في الله لم يسأل المريض للعائد
شيئا إلا استجاب الله له». وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «عودوا مرضاكم وسلوهم الدعاء فإنه يعدل دعاء
الملائكة». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «أيما مؤمن عاد مؤمنا خاض الرحمة خوضا ، فإذا جلس
غمرته الرحمة. فإذا انصرف وكل الله تعالى به سبعين الف ملك يستغفرون له ويسترحمون
عليه ويقولون طبت وطابت لك الجنة إلى تلك الساعة من غد ، وكان له يا أبا حمزة خريف
في الجنة. قلت ما الخريف جعلت فداك؟ قال زاوية في الجنة يسير الراكب فيها أربعين
عاما». والأحاديث في استحباب العيادة وزيادة فضلها أكثر من ان يأتي عليها هذا
المقام.
وعن ابي عبيدة
الحذاء قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : حدثني بما انتفع به فقال : يا أبا عبيدة أكثر ذكر
الموت فإنه لم يكثر انسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا». وعن ابي بصير قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليهالسلام) الوسواس فقال : يا أبا محمد اذكر تقطع أوصالك في قبرك
ورجوع أحبائك عنك إذا دفنوك في
__________________
حفرتك وخروج بنات الماء من منخريك وأكل الدود لحمك فان ذلك يسلي عنك ما أنت
فيه. قال أبو بصير فوالله ما ذكرته إلا سلى عني ما انا فيه من هم الدنيا». وعن
الباقر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : الموت الموت ألا ولا بد من الموت ، الى ان قال وقال
: إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ،
وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر.
قال وسئل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أي المؤمنين أكيس؟ فقال أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم له
استعدادا».
وعن أبي حمزة
عن بعض الأئمة (عليهمالسلام) قال : «ان الله تبارك وتعالى يقول يا ابن آدم تطولت
عليك بثلاث : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما وأروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم
تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا». وعن جعفر بن محمد عن
أبيه (عليهماالسلام) قال : «قال علي (عليهالسلام) : من اوصى فلم يجحف ولم يضار كان كمن تصدق به في
حياته. قال وقال (عليهالسلام) : ستة يلحقن المؤمن بعد وفاته : ولد يستغفر له ومصحف
يخلفه وغرس يغرسه وبئر يحفرها وصدقة يجريها وسنة يؤخذ بها من بعده». وعن جعفر بن
محمد عن أبيه (عليهماالسلام) «ان النبي سئل عن رجل يدعى الى وليمة والى جنازة فأيهما أفضل وأيهما يجيب؟
قال يجيب الجنازة فإنها تذكر الآخرة ، وليدع الوليمة فإنها تذكر الدنيا». وعن
الصادق (عليهالسلام) قال : «الوصية حق على كل مسلم». وعن زيد الشحام قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الوصية فقال هي حق على كل مسلم».
__________________
قال بعض
مشايخنا (عطر الله مراقدهم) : قوله : «الوصية حق» اي لازم وجوبا إذا كانت ذمته
مشغولة ولم يظن الوصول الى صاحب الحق إلا بها ، واستحبابا مؤكدا في غيره من
الخيرات والمبرات.
وقال بعض
مشايخنا المحدثين : «الوصية العهد ، يقال أوصاه ووصاه توصية : عهد اليه ، والوصية
التي هي حق على كل مسلم ان يعهد الى أحد إخوانه أن يتصرف في بعض ماله بعد موته
تصرفا ينفعه في آخرته ، فان كان عليه حق لله سبحانه أو لبعض عباده قضاه منه ، وان
كان له أولاد صغار قام عليهم وحفظ عليهم أموالهم ، أو كان في ورثته مجنون أو معتوه
أو سفيه فكذلك نظرا لهم وصيانة لأموالهم وتخفيفا على المؤمنين مؤنتهم وان يفرض
شيئا من ماله لأصدقائه وأقرباؤه ممن لا يرث ان فضل عن غنى الورثة وكان ذلك الصديق
أو القريب به أحرى الى غير ذلك مما يجري هذا المجرى ، وان يشهد جماعة من المؤمنين
على ايمانه وتفصيل عقائده الحقة ويعهد إليهم ان يشهدوا له بها عند ربه يوم يلقاه ،
ولا يشترط في الوصية ان تكون عند حضور الموت بل ورد انه لا ينبغي ان لا يبيت الإنسان
إلا ووصيته تحت رأسه» انتهى كلامه زيد إكرامه.
وعن الصادق (عليهالسلام) «قال له رجل اني خرجت إلى مكة فصحبني رجل وكان زميلي فلما ان كان في بعض
الطريق مرض وثقل ثقلا شديدا فكنت أقوم عليه ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس فلما
ان كان في اليوم الذي مات فيه أفاق فمات في ذلك اليوم. فقال الصادق (عليهالسلام) ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى عليه من
سمعه وبصره وعقله للوصية أخذ الوصية أو ترك وهي الراحة التي يقال لها راحة الموت ،
فهي حق على كل مسلم».
وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (ص) من لم يحسن وصيته
__________________
عند الموت كان نقصا في مروته وعقله. قيل يا رسول الله وكيف يوصي الميت؟ قال
إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس اليه قال (اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الرحمن الرحيم ، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا اني
اشهد ان لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وان محمدا عبدك ورسولك وان الجنة حق
والنار حق وان البعث حق والحساب حق والقدر حق والميزان حق وان الدين كما وصفت وان
الإسلام كما شرعت وان القول كما حدثت وان القرآن كما أنزلت وانك أنت الله الحق
المبين ، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء وحيا الله محمدا وآله بالسلم ، اللهم يا
عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وليي عند نعمتي ، إلهي وإله آبائي لا تكلني
الى نفسي طرفة عين أبدا فإنك إن تكلني الى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشر وأبعد
من الخير ، وآنس في القبر وحشتي واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا. ثم يوصي بحاجته ،
وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة التي يذكر فيها مريم في قوله تعالى : «لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» فهذا عهد الميت ، والوصية حق على كل مسلم وحق عليه ان
يحفظ هذه الوصية ويعلمها ، وقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) علمنيها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وقال رسول الله علمنيها جبرئيل».
إذا عرفت ذلك
فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع (الأول) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) انه يجب حال الاحتضار ـ وهو وقت نزع الروح من البدن ، وسمى به لأن الملائكة
تحضره أو لحضور اهله عنده أو لحضور المؤمنين لتجهيزه ـ توجيهه إلى القبلة بأن يلقى
على ظهره ويجعل باطن قدميه إلى القبلة بحيث لو جلس كان مستقبلا ، وعن الخلاف القول
بالاستحباب ، قال في المعتبر : «وهو مذهب الجمهور خلا سعيد بن المسيب فإنه أنكره»
والى هذا القول ذهب المحقق في المعتبر وصاحب المدارك وصاحب الذخيرة ، قال شيخنا
الشهيد الثاني بعد ذكر الحكم المذكور : «ومستنده من الاخبار
__________________
السليمة سندا ومتنا ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن
ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة ، وكذلك
إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن قدميه ووجهه إلى
القبلة». واما غيره من الاخبار التي استدل بها على الوجوب فلا يخلو من شيء اما في
السند أو في الدلالة» واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك : «هذا كلامه ،
ويمكن المناقشة في هذه الرواية من حيث السند بإبراهيم بن هاشم حيث لم ينص علماؤنا
على توثيقه وبان راويها وهو سليمان بن خالد في توثيقه كلام ، ومن حيث المتن بان
المتبادر منها ان التسجية تجاه القبلة انما يكون بعد الموت لا قبله ، ومن ثم ذهب
جمع من الأصحاب : منهم ـ المصنف في المعتبر الى الاستحباب استضعافا لأدلة الوجوب
وهو متجه» انتهى.
أقول : لا يخفى
ان هذه المناقشة من المناقشات الواهية وان كان قد تقدمه فيها شيخه المحقق
الأردبيلي :
(اما أولا) ـ فمن
حيث طعنه في إبراهيم بن هاشم بعدم التوثيق وكذا طعنه في سليمان بن خالد ورده
الرواية بذلك ، فإنه قد قبل رواية إبراهيم في غير موضع من شرحه وعدها من قسم الحسن
مصرحا بأنها لا تقصر عن الصحيح ، بل نظمها في الصحيح أيضا في مواضع وان طعن فيها
أيضا في مواضع أخر مثل هذا الموضع ، كل ذلك يدور مدار احتياجه لها تارة وعدمه اخرى
، وهذا من جملة المواضع التي اضطرب فيها كلامه ، ومن ذلك ما ذكره في كتاب الصوم في
مسألة رؤية الهلال قبل الزوال حيث قال : «والمسألة قوية الإشكال لأن الروايتين
المتضمنتين لاعتبار ذلك معتبرتا الاسناد ، والاولى منهما لا تقصر عن مرتبة الصحيح
لان دخولها في مرتبة الحسن بإبراهيم بن هاشم» انتهى على ان حديث إبراهيم بن هاشم
مما عده في الصحيح جملة من محققي متأخري المتأخرين
__________________
كالشيخ البهائي ووالده والمولى محمد باقر المجلسي ووالده وغيرهم ، وهو الحق
الحقيق بالاتباع ، إذ لا يخفى ان ما ذكره علماء الرجال في حقه من انه أول من نشر
حديث الكوفيين بقم من أعلى مراتب التوثيق ، لما علم من تصلب أهل قم في قبول
الروايات والطعن بمجرد الشبهة في جملة من الثقات وزيادة احتياطهم في ذلك ، فأخذهم
عن هذا الفاضل وسماعهم عنه الحديث واعتمادهم عليه لا يقصر عن قولهم ثقة بقول مطلق
ان لم يزد على ذلك ، وبالجملة فأهل هذا الاصطلاح مجمعون على قبول روايته ولا راد
لها بالكلية إلا من مثل السيد (رحمهالله) في مقام حب المناقشة ، وبالجملة فإنه ليس له في هذا
الباب ضابطة ولا يقف على رابطة. واما سليمان بن خالد فإنه قد نظم حديثه في الصحيح
في مواضع عديدة من كتابه : منها ـ في بحث غسل الجنابة في مسألة خروج البلل المشتبه
بعد الغسل ، ومنها ـ في بحث القنوت في قنوت الجمعة ، ومنها ـ في نوافل يوم الجمعة
وفي مبحث الوقت في آخر وقت صلاة الليل وانه الفجر الثاني وفي مواضع من الجلد
الثاني في مواضع تنيف على عشرين موضعا ، ولا أعلم أحدا من أصحاب هذا الاصطلاح ينقل
حديثه إلا ويعده في الصحيح.
و (اما ثانيا)
ـ فما ناقش به في متن الرواية المذكورة بما ذكره فهو وان كان بحسب ما يترائى إلا
انه قد وقع تجوز في العبارة ، وهو مجاز شائع كما في قوله سبحانه «إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ ...» أي إذا أردتم «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ» ونحو ذلك ، والمراد هنا من قوله (عليهالسلام) : «إذا مات لأحدكم ميت» يعني إذا أشرف على الموت
واحتضر لا وقوع الموت بالفعل ، وإلا للزم وجوب توجيه الميت إلى القبلة حيث ما وضع
ما لم يدفن ولا أظنه يلتزمه ، وكذا القول في قوله في الخبر المذكور «إذا غسل» أي
إذا أريد غسله نظير الآيتين المذكورتين ، وبما ذكرنا صرح ايضا شيخنا البهائي في
الحبل المتين فقال : «وأنت خبير بأن إطلاق الميت على المشرف على الموت شائع في
الاستعمال كثير في الاخبار كما في الحديث الثاني والثامن والتاسع والعاشر» انتهى.
__________________
و (اما ثالثا)
ـ فإنه إذا كانت الرواية باعتبار المعنى الذي صار اليه لا دلالة فيها على وجوب
توجيه المحتضر إلى القبلة كما هو القول المشهور لان موردها انما هو بعد الموت ،
وغيرها من الروايات الواردة في المقام كما ستمر بك ان شاء الله تعالى كلها من هذا
القبيل ، فالاستحباب الذي صاروا إليه بأي دليل اعتمدوا فيه عليه؟ إذ لا ريب ان
الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل ، وعلى هذا فينعكس الاشكال فيما ذهبوا اليه
لقولهم باستحباب توجيه المحتضر إلى القبلة من غير دليل ، إذ ليس إلا هذه الروايات
ومعناها ـ كما زعمه ـ انما هو التوجيه بعد الموت ، فأي دليل دل على استحباب
التوجيه حال الاحتضار؟ ما هذه إلا مجازفات واهية ، وصاحب الذخيرة هنا انما التجأ
في الحمل على الاستحباب الى قاعدته التي قدمنا الكلام فيها من عدم دلالة الأوامر
في أخبارنا على الوجوب ، فالتجأ إلى الاستحباب تفاديا من طرح الاخبار ، وقد عرفت
ما فيه.
ثم ان من
روايات المسألة ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وفي العلل مسندا عن الصادق عن أمير
المؤمنين (عليهماالسلام) قال : «دخل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) على رجل من ولد عبد المطلب وهو في السوق وقد وجه الى
غير القبلة ، فقال وجهوه إلى القبلة فإنكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة.
الحديث». وهو صريح ـ كما ترى ـ في كون التوجيه إلى القبلة في حال الاحتضار. وطعن
فيه في المعتبر بأنه قضية في واقعة معينة فلا تدل على العموم ، وان التعليل في
الرواية كالقرينة الدالة على الفضيلة. وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور إذ لو
قام مثل هذا الكلام لانسد به باب الاستدلال في جميع الأحكام ، إذ لا حكم وارد في
خبر من الأخبار إلا ومورده قضية مخصوصة فلو قصر الحكم على مورده لانسد باب
الاستدلال ، فإنه إذا سأل سائل الامام اني صليت وفي ثوبي نجاسة نسيتها فقال أعد
صلاتك ، فلقائل أن يقول في هذا الخبر كما ذكره هنا مع انه لا خلاف بين الأصحاب في
الاستدلال به على جزئيات الأحكام
__________________
والنجاسات مما هو نظير هذه الواقعة ، وأضعف من ذلك استناده إلى دلالة
التعليل على الاستحباب. واما طعنه في المعتبر في اخبار المسألة أيضا بضعف الاسناد
فقد تقدم الكلام فيه وبيان منافاته لما قرره في صدر كتابه. وبالجملة فإن مناقشاتهم
في هذه المسألة مما لا يلتفت إليها ولا يعول عليها.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الحسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور والصحيح عندي إلى إبراهيم
الشعيري وغير واحد عن الصادق (عليهالسلام) : «في توجيه الميت؟ قال : تستقبل بوجهه القبلة وتجعل
قدميه مما يلي القبلة».
وعن معاوية بن
عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الميت فقال : استقبل بباطن قدميه القبلة».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن ذريح المحاربي عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «إذا وجهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه
القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس ، فإني رأيت أصحابنا يفعلون ذلك وقد كان
أبو بصير يأمر بالاعتراض.». والظاهر ان قوله : «وقد كان أبو بصير» من كلام الراوي
، ويحتمل ان يكون من كلام الامام (عليهالسلام) ولعل أمر أبي بصير بذلك انما كان من حيث التقية .
وهل يبقى
لمتأمل منصف بعد الوقوف على هذه الأخبار السالمة عن المعارض
__________________
توقف في الحكم بالوجوب.
وفي المقام
فوائد (الأولى) ـ لا يخفى انه على تقدير القول بالوجوب فهل يسقط بالموت أم يجب
دوام الاستقبال بالميت مهما أمكن؟ اشكال ، قال في الذكرى : «ظاهر الأخبار سقوط
الاستقبال بموته وان الواجب ان يموت إلى القبلة ، وفي بعضها احتمال دوام الاستقبال
، ونبه عليه ذكره حال الغسل ووجوبه حال الصلاة والدفن وان اختلفت الهيئة عندنا»
وقال المحقق الأردبيلي : «والظاهر إبقاؤه على تلك الحالة حتى ينقل الى المغتسل
ويراعى هناك ايضا كذلك لا انه يكون حين خروج الروح فقط لان ظاهر الاخبار بعد الموت».
أقول : مبنى
كلام الشهيد على ما قدمناه من حمل الميت في الأخبار على المشرف على الموت ، حيث
انه قائل بوجوب الاستقبال بالميت حال الاحتضار ، وبذلك يظهر ما في كلام صاحب
المدارك حيث قال بعد نقل ذلك عنه : «ولم أقف على ما ذكره من الاخبار المتضمنة
للسقوط» انتهى. وفيه ما عرفت من انه متى حملت الأخبار على المشرف على الموت وخصت
به فظاهرها السقوط بعد الموت ، ومبنى كلام المحقق المذكور على حمل الأخبار
المذكورة على ظاهرها من كون الاستقبال بعد الموت حيث انه ممن اختار عدم الوجوب ،
وشيخنا المشار اليه انما صار الى احتمال الدوام من حيث اخبار الغسل والصلاة والدفن
كما ذكره. والأقرب بناء على تأويل تلك الاخبار بما ذكرناه هو اختصاص الوجوب بحال
الاحتضار ، إذ هو مقتضى الدليل خاصة والتعدي عنه يحتاج الى الدليل ، وورود
الاستقبال في اخبار الغسل والصلاة والدفن لا يقتضي الحكم به فيما بينها وما قبلها.
(الثانية) ـ لو
اشتبهت القبلة فالظاهر سقوط وجوب الاستقبال لعدم إمكان توجيهه في حالة واحدة إلى
الجهات الأربع ، واحتمل في الذكرى ذلك. أقول : هذا الكلام مبني على القول المشهور
من ان فاقد القبلة يصلى الى أربع جهات ، واما على ما هو
المختار في المسألة من انه يصلي الى اي جهة شاء فيكون هنا كذلك ايضا. واما
ما احتمله في الذكرى بناء على المشهور فالظاهر بعده.
(الثالثة) ـ الظاهر
انه لا فرق في هذا الحكم بين الصغير والكبير للعموم ، قالوا : والظاهر اختصاص
الحكم بوجوب الاستقبال بمن يعتقد وجوبه ، فلا يجب توجيه المخالف إلزاما له بمذهبه
كما يغسل غسله ويقتصر في الصلاة عليه على اربع تكبيرات. أقول : هذا التفريع انما
يتجه على تقدير الحكم بإسلام المخالف ووجوب تغسيله والصلاة عليه ودفنه كما هو
المشهور بين متأخري أصحابنا ، واما على ما هو الحق من كفره وعدم جواز تغسيله ولا
الصلاة عليه ولا دفنه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية فلا وجه
له. والله العالم.
(الموضع الثاني)
ـ المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الإجماع جمع منهم ان جميع أحكام الميت من
توجيهه إلى القبلة وتكفينه وتغسيله وتحنيطه وحفر قبره واجبة كفائية على من علم
بموته من المسلمين ، قالوا : والمراد من الواجب الكفائي هنا مخاطبة كل من علم
بموته من المكلفين ممن يمكنه مباشرة ذلك الفعل به استقلالا أو منضما الى غيره حتى
يعلم تلبس من فيه الكفاية به فيسقط حينئذ عنه سقوطا مراعى باستمرار الفاعل عليه
حتى يفرغ.
وهل يبقى
الوجوب على من علم الى ان يعلم وقوع الفعل شرعا أو يكتفى بظن قيام الغير به؟ قولان
: صرح بالثاني العلامة وجماعة ، قالوا لان العلم بان الغير يفعل كذا في المستقبل
ممتنع ولا تكليف به والممكن تحصيل الظن ، ولاستبعاد وجوب حضور أهل البلد الكبير
عند الميت حتى يدفن ، وفرعوا عليه انه لو ظن قوم قيام غيرهم به سقط عنهم ولو ظنوا
عدمه وجب عليهم. وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض وسبطه في المدارك وأجاب
في الروض عن الدليل المتقدم بأنه يشكل بان الظن انما يقوم مقام العلم مع النص عليه
بخصوصه أو دليل قاطع ، وما ذكره لا تتم به الدلالة لأن تحصيل العلم بفعل الغير في
المستقبل
ممكن بالمشاهدة ونحوها من الأمور المثمرة له والاستبعاد غير مسموع ،
وباستلزامه سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ، وبان الوجوب معلوم والمسقط
مظنون والمعلوم لا يسقط بالمظنون.
أقول : والظاهر
بناء على ثبوت ما ذكروه من الوجوب كفاية هو القول الأول لما ذكره شيخنا المشار
إليه فإنه الأوفق بالقواعد الشرعية ، إلا اني لا اعرف لهذا القول ـ وان اشتهر
بينهم بل ادعي عليه الإجماع ـ دليلا يعتمد عليه ولا حديثا يرجع فيه اليه ، ولم
يصرح أحد منهم بدليل في المقام حتى من متأخري المتأخرين الذين عادتهم المناقشة في
الأحكام وطلب الأدلة فيها عنهم (عليهمالسلام) وكأن الحكم مسلم الثبوت بينهم. مع ان الذي يظهر لي من الاخبار
ان توجه الخطاب بجميع هذه الأحكام ونحوها من التلقين ونحوها كما ستقف عليها ان شاء
الله تعالى في مواضعها ، واخبار توجيه الميت إلى القبلة وان لم يصرح فيها بالولي
إلا ان الخطاب فيها توجه الى أهل الميت دون كافة المسلمين فيمكن حمل إطلاقها على
ما دلت عليه تلك الاخبار. ولا أعرف للأصحاب مستندا فيما صاروا اليه من الوجوب
الكفائي إلا ما يظهر من دعوى الاتفاق حيث لم ينقل فيه خلاف ولم يناقش فيه مناقش ،
ومما يؤكد ما ذكرنا ما صرح به في الروض في مسألة ما يستحب ان يعمل بالميت حال
الاحتضار حيث قال : «واعلم ان الاستحباب في هذا الموضع كفائي فلا يختص بالولي وان
كان الأمر فيه آكد ، وفي بعض الاخبار وروايات الأصحاب ما يدل على اختصاصه بذلك» ثم
نقل في حاشية الكتاب عن العلامة في النهاية انه قال : والأقوى انه إذا تيقن الولي
نزول الموت بالمريض ان يوجهه إلى القبلة. الى آخره ، ثم حكى حديثا يظهر منه ذلك.
انتهى. ولا يخفى ما في الخروج عن مقتضى الأخبار الدالة على الاختصاص ـ كما اعترف
به ـ من غير دليل من المجازفة ، ولا ريب ان الواجب هو العمل بمقتضى الدليل من
الاخبار المشار إليها. نعم لو أخل الولي بذلك ولم يكن ثمة
حاكم شرعي يجبره على القيام بذلك أو لم يكن ثمة للميت ولي انتقل الحكم الى
المسلمين بالأدلة العامة ، كما تشير اليه اخبار العراة الذين رأوا ميتا قد قذفه
البحر عريانا ولم يكن عندهم ما يكفنونه به وانهم أمروا بدفنه والصلاة عليه .
وربما يقال ان
الوجوب كفاية شامل للولي وغيره وان كان الولي أو من يأمره اولى بذلك فتكون هذه
الأولوية أولوية استحباب وفضل ، كما يفهم من عبارة المحقق في الشرائع في مسألة
التغسيل وقوله : انه فرض على الكفاية واولى الناس به أولاهم بميراثه. وبه صرح في
المنتهى حيث قال : «ويستحب ان يتولى تغسيله اولى الناس به. الى آخره» إلا ان فيه (أولا)
ـ ان ذلك فرع ثبوت الوجوب الكفائي وقد عرفت انه لا مستند له من الأخبار بل ظاهرها
خلافه. و (ثانيا) ـ ان ظاهر كلامهم في مسألة الصلاة على الميت اناطة الحكم بالولي
أو من يأمره ولا يجوز التقدم في الصلاة بغير اذنه ، ومن الظاهر انه لا فرق بين
الصلاة وغيرها بالنسبة الى ما يفهم من الأخبار ، إذا الخطابات فيها في جميع هذه
المواضع على نهج واحد وان كان الأصحاب انما ذكروا ذلك في مسألة الصلاة. والله
العالم.
(الموضع الثالث)
ـ في آداب الاحتضار ، ومنها ـ تلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة الطاهرين (صلوات
الله عليهم أجمعين) وكلمات الفرج.
ويدل على ذلك
جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا حضرت الميت قبل ان يموت فلقنه شهادة ان لا
إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح أو الحسن عن الباقر (عليهالسلام) عند الموت وحفص بن البختري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «انكم تلقنون موتاكم لا إله إلا الله
__________________
ونحن نلقن موتانا محمد رسول الله».
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا أدركت الرجل عند النزع فلقنه كلمات الفرج :
لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات
السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم والحمد لله رب
العالمين. قال : وقال أبو جعفر (عليهالسلام): لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته ، فقيل لأبي عبد
الله (عليهالسلام) بما ذا كان ينفعه؟ قال يلقنه ما أنتم عليه».
وعن ابي بصير
عن الباقر (عليهالسلام) قال : «كنا عنده وعنده حمران إذ دخل عليه مولى له فقال
له : جعلت فداك هذا عكرمة في الموت ، وكان يرى رأي الخوارج وكان منقطعا الى ابي
جعفر (عليهالسلام) فقال لنا أبو جعفر انظروني حتى أرجع إليكم فقلنا نعم ،
فما لبث ان رجع فقال اما إني لو أدركت عكرمة قبل ان تقع النفس موقعها لعلمته كلمات
ينتفع بها ولكني أدركته وقد وقعت النفس موقعها. قلت : جعلت فداك وما ذاك الكلام؟
قال : هو والله ما أنتم عليه فلقنوا موتاكم عند الموت : شهادة ان لا إله إلا الله
والولاية».
وعن ابي خديجة
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما من أحد يحضره الموت إلا وكل به إبليس من
شياطينه من يأمره بالكفر ويشككه في دينه حتى تخرج نفسه ، فمن كان مؤمنا لم يقدر
عليه فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله حتى
يموتوا».
قال في الكافي
وفي رواية أخرى قال : «فلقنه كلمات الفرج والشهادتين
__________________
وتسمى له الإقرار بالأئمة (عليهمالسلام) واحدا بعد واحد حتى ينقطع عنه الكلام».
وعن ابي بكر
الحضرمي قال : «مرض رجل من أهل بيتي فأتيته عائدا له فقلت له يا
ابن أخي ان لك عندي نصيحة أتقبلها؟ فقال نعم. فقلت له قل اشهد ان لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، فشهد بذلك ، فقلت له قل وان محمدا رسول الله ، فشهد بذلك ، فقلت
ان هذا لا تنتفع به إلا ان يكون منك على يقين ، فذكر انه منه على يقين فقلت له قل
اشهد ان عليا وصيه وهو الخليفة من بعده والامام المفترض الطاعة من بعده فشهد بذلك
، فقلت له انك لا تنتفع به حتى يكون منك على يقين ، فذكر انه منه على يقين ، ثم
سميت له الأئمة (عليهمالسلام) واحدا بعد واحد فأقر بذلك وذكر انه على يقين ، فلم
يلبث الرجل ان توفي فجزع عليه اهله جزعا شديدا. قال فغبت عنهم ثم أتيتهم بعد ذلك
فرأيت عزاء حسنا فقلت كيف تجدونكم كيف عزاؤك أيتها المرأة؟ قالت والله لقد أصبنا
بمصيبة عظيمة بوفاة فلان (رحمهالله) وكان مما سخا بنفسي لرؤيا رأيتها الليلة فقلت وما تلك
الرؤيا؟ قالت : رأيت فلانا ـ تعني الميت ـ حيا سليما فقلت فلان قال : نعم فقلت أما
كنت ميتا؟ فقال بلى ولكن نجوت بكلمات لقننيها أبو بكر ولو لا ذلك لكدت أهلك». وعن
ابي بكر الحضرمي قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : لو ان عابد وثن وصف ما يصفونه عند خروج نفسه ما طعمت
النار من جسده شيئا أبدا».
وعن القداح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «كان أمير المؤمنين (عليهالسلام) إذا حضر أحدا من أهل بيته الموت قال له : قل لا إله
إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات
السبع ورب الأرضين السبع وما بينهما ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين.
فإذا قالها المريض قال اذهب فليس عليك بأس».
__________________
وعن الحلبي في
الصحيح أو الحسن عن الصادق (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) دخل على رجل من بني هاشم وهو يقضي فقال له : رسول الله
قل لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب
السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما بينهن ورب العرش العظيم والحمد لله رب
العالمين. فقالها فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الحمد لله الذي استنقذه من النار».
ورواه الصدوق
في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) دخل على رجل من بني هاشم وهو في النزع فقال له : قل لا
إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما
فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. فقالها.
الى أخر ما تقدم في رواية الكافي». ثم قال الصدوق : «وهذه هي كلمات الفرج».
وعن أبي سلمة
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «حضر رجلا الموت فقيل يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان فلانا قد حضره الموت فنهض رسول الله ومعه أناس من
أصحابه حتى أتاه وهو مغمى عليه قال فقال يا ملك الموت كف عن الرجل حتى اسأله ،
فأفاق الرجل فقال له النبي (صلىاللهعليهوآله) ما رأيت؟ قال رأيت بياضا كثيرا وسوادا كثيرا. قال
فأيهما كان أقرب إليك؟ فقال السواد. فقال النبي (صلىاللهعليهوآله) قل : اللهم اغفر لي الكثير من معاصيك واقبل مني اليسير
من طاعتك ، فقاله ثم أغمي عليه ، فقال يا ملك الموت خفف عنه حتى اسأله ، فأفاق
الرجل فقال ما رأيت؟ قال رأيت بياضا كثيرا وسوادا كثيرا. قال : فأيهما كان أقرب
إليك؟ فقال البياض ، فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) غفر الله لصاحبكم. قال فقال أبو عبد الله : إذا
__________________
حضرتم ميتا فقولوا له هذا الكلام ليقوله».
أقول : ويستفاد
من مجموع هذه الاخبار فوائد (الاولى) ـ ان من جملة ما يستحب عند الاحتضار زيادة
على ما قدمناه تلقين هذا الدعاء المذكور في الخبر الأخير والظاهر ان المراد
بالبياض والسواد في الخبر المشار إليه هي الأعمال الصالحة والأعمال السيئة ، وان
قرب السواد اليه كناية عن إرادة مؤاخذته بتلك الأعمال السيئة وحيلولتها بينه وبين
ذلك البياض الذي هو كناية عن الأعمال الصالحة ومن يقول ذلك الدعاء غفر له وقرب منه
البياض الذي هو اعماله الصالحة وتباعد عنه ذلك السواد. وفي خبر آخر رواه في الكافي
أيضا عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) زيادة على هذا الدعاء ونقصان منه ، وصورته : «ان رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) قال له : قل لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله.
فقال قل : يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير اقبل مني اليسير واعف عني الكثير انك
أنت العفو الغفور فقالها فقال له : ما ذا ترى؟ فقال : أرى أسودين قد دخلا علي فقال
أعدها فأعادها فقال ما ترى؟ قال قد تباعدا عني ودخل أبيضان وخرج الأسودان فما
أراهما ودنا الأبيضان مني الآن يأخذان بنفسي فمات من ساعته». والتقريب فيه قريب
مما تقدم ، فان جميع ما يراه في تلك النشأة من حسن وقبيح فإنه من ثمرة أعماله
الحسنة والقبيحة وربما كان متجسما من كل منهما.
(الثانية) ـ اختلفت
الأخبار في كلمات الفرج زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ومنها هنا صحيحة زرارة
المتقدمة ورواية القداح ومرسلة الفقيه ولا يخفى ما بينها من الاختلاف ، ومنها أيضا رواية أبي
بصير الواردة في قنوت يوم الجمعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «القنوت يوم الجمعة في الركعة الأولى بعد القراءة
تقول في القنوت : لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم لا
إله إلا الله رب السماوات السبع
__________________
ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش العظيم والحمد
لله رب العالمين. الحديث». قال في المدارك : «وذكر المفيد وجمع من الأصحاب انه
يقول قبل التحميد : «وَسَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ» وسئل عنه المصنف في الفتاوى فجوزه لانه بلفظ القرآن ، ولا ريب في الجواز
لكن جعله في أثناء كلمات الفرج مع خروجه عنها ليس بجيد» انتهى. أقول : فيه ان ما
رواه في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) مع قوله بعد ذكر الرواية : «وهذه هي كلمات الفرج». ظاهر
في دخول «وَسَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ» كما هو المنقول عن المفيد ومن تبعه ، ومثله ايضا ما ذكره في الفقه الرضوي
حيث قال (عليهالسلام) في هذا المقام : «ويستحب تلقين كلمات الفرج وهي لا إله إلا الله
الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين
السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وسلام على المرسلين والحمد لله رب
العالمين». واما جواب المحقق كما نقله فهو ايضا ناشىء عن عدم الوقوف على الرواية.
لكن العجب هنا من صاحبي الوافي والوسائل انهما في نقلهما حديث الفقيه لم يذكرا فيه
هذه الزيادة ، ولعل ما عندهما من نسخ الكتاب كان عاريا عن ذلك إلا انها موجودة
فيما عندنا من نسخ الكتاب ، وعلى ذلك ايضا نبه الشيخ محمد ابن الشيخ حسن في شرحه
على الكتاب. وهو يدل على وجودها في كتابه حتى انه رجح ثبوتها بعد ان نقل صحيحة
زرارة خالية منها فقال : «ولعل الصدوق أثبت في النقل وأبعد من السهو» والى ذلك
ايضا يشير كلام المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الكتاب. وكيف كان فلا يخفى ان
الأخبار المذكورة مختلفة في تأدية هذه الكلمات التي هي كلمات الفرج ولا وجه للجمع
بينها الا العمل بكل منها ويرجع الى التخيير في ذلك.
(الثالثة) ـ ان
ما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم وحفص بن البختري من قولهما (عليهماالسلام): «انكم تلقنون موتاكم. إلخ». لا يخلو من اشكال وتعدد
وجوه الاحتمال
__________________
قيل : ولعل خطابهما (عليهماالسلام) مع أهل مكة ونحوهم الذين يكتفون بتلقين كلمة التوحيد ،
وفي الوافي بعد نقل الخبر المذكور : «وذلك لأنهم مستغنون عن تلقين التوحيد لانه
خمر بطينتهم لا ينفكون عنه» انتهى أقول : فيه ان ظاهر كلامه تخصيص ذلك بالأئمة
بمعنى ان المراد بموتانا يعني من الأئمة وهو بعيد غاية البعد فإنهم (عليهمالسلام) حال موتهم لا يحتاجون الى تلقين كلمة التوحيد ولا
غيرها ، ولهذا لم يرد في شيء من اخبار موت النبي (صلىاللهعليهوآله) ولا أحد من الأئمة (عليهمالسلام) تعرض لتلقينهم ، وخطاب الأمر بالتلقين انما توجه
لغيرهم بان يلقن بأسمائهم مضافا الى كلمتي الشهادة ، وأيضا فإن الأمر بالتلقين
انما هو لدفع وساوس الشياطين الذين يعرضون لابن آدم عند الموت كما تقدم في الاخبار
والشياطين لا تسلط لهم عليهم ، وايضا كما ان طينتهم معجونة بالتوحيد فهي بالرسالة
أشد لأنهم من مواليد عنصرها وأغصان شجرها. وان أراد ما عداهم من بني هاشم ففيه ان
ظاهر خبري القداح والحلبي الدالين على تلقين رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وأمير المؤمنين (عليهالسلام) لمن حضراه من بني هاشم كلمات الفرج يرد ما ذكره.
وبالجملة فإن كلامه عندي غير موجه وان تبعه فيه غيره ايضا. والأظهر عندي في معنى
الخبر المذكور ان معنى قوله : «تلقنون موتاكم كلمة التوحيد» يعني خاصة من غير
إردافها بكلمة الرسالة ، وكأنه إشارة الى ما يقوله العامة يومئذ من الاقتصار على
تلك الكلمة ، ومراده ان ذلك هو المعمول في بلادكم واما نحن يعني معشر الأئمة (عليهمالسلام) فإنا نأمر شيعتنا وموالينا ونفعل بمن حضرناه منهم
تلقين الرسالة زيادة على كلمة التوحيد لا ان المراد تلقين الرسالة خاصة ، ويحتمل
ان يكون خطابهما (عليهماالسلام) انما هو لبعض المخالفين لا الراويين المتقدمين وان
نقلا ذلك مجملا ، وأمثال ذلك غير عزيز في الاخبار.
(الرابعة) ـ ظاهر
الاخبار المذكورة متابعة المريض للملقن فيما يقول وهو
__________________
الغرض المترتب على التلقين. ولو كان المريض قد اعتقل لسانه عن النطق
فالظاهر بقاء الاستحباب لانه وان لم يتيسر له النطق الا انه يفهم الكلام فيجريه
على باله وينتفع به في دفع ما يصوره له الشيطان في تلك الحال من الموعودات الكاذبة
والإضلال عن دين الإسلام.
(الخامسة) ـ يستفاد
من بعض الاخبار المتقدمة استحباب تكرار ذلك عليه حتى يموت ، وهو الأحوط والاولى
وان كان يكفي الإتيان بذلك مرة واحدة كما يدل عليه بعضها ايضا.
و (منها) ـ ان
تغمض عيناه ويطبق فوه وتمد يداه الى جنبيه ، ذكر ذلك الأصحاب ، اما الأول والثاني
فعلل بان لا يقبح منظره ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الموثق عن زرارة قال : «ثقل ابن لجعفر وأبو جعفر جالس في ناحية فكان إذا
دنا منه انسان قال لا تمسه فإنه إنما يزداد ضعفا وأضعف ما يكون في هذه الحال ومن
مسه في هذه الحال أعان عليه ، فلما قضى الغلام أمر به فغمض وشد لحياه. الحديث». وعن
ابي كهمس قال : «حضرت موت إسماعيل وأبو عبد الله جالس عنده فلما
حضره الموت شد لحييه وغمضه وغطى عليه الملحفة». واما الثالث فعلل بأنه أطوع للغسل
وأسهل للادراج في أكفانه ، قال في المعتبر : «ولا اعرف فيه نقلا عن أئمتنا (عليهمالسلام)» ثم علله بما تقدم. ويستفاد من خبر ابي كهمس استحباب
تغطيته بعد الموت بثوب ، وبه صرح بعض الأصحاب أيضا.
و (منها) ـ متى
اشتد به النزع النقل الى مصلاه الذي كان يصلي عليه أو فيه لما رواه الكليني والشيخ
في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا عسر على الميت موته ونزعه قرب الى مصلاه
الذي كان يصلي فيه أو عليه».
__________________
وعن زرارة في الصحيح أو الحسن قال : «إذا اشتد النزع عليه فضعه في مصلاه الذي كان
يصلي فيه أو عليه». وعن ذريح قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول قال علي بن الحسين (عليهماالسلام) ان أبا سعيد الخدري كان من أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وكان مستقيما فنزع ثلاثة أيام فغسله اهله ثم حمل الى
مصلاه فمات فيه». وعن ليث المرادي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان أبا سعيد الخدري قد رزقه الله تعالى هذا
الرأي وانه اشتد نزعه فقال احملوني إلى مصلاي فحملوه فلم يلبث ان هلك». أقول :
المراد بقوله «مستقيما» في سابق هذا الخبر هو ما أشير إليه في هذا الخبر من ان
الله تعالى رزقه هذا الرأي وهو القول بإمامة أمير المؤمنين (عليهالسلام) وانه لم يكن مع الصحابة الذين ارتدوا على أدبارهم ،
ولعل المراد بتغسيله في الخبر المذكور هو تنظيفه وتطهيره من النجاسات. وفي الفقه
الرضوي «وإذا اشتد عليه نزع روحه فحوله الى المصلى الذي كان يصلي فيه أو عليه
وإياك ان تمسه ، وان وجدته يحرك يديه أو رجليه أو رأسه فلا تمنعه من ذلك كما يفعله
جهال الناس». وروى الحسين بن بسطام واخوه عبد الله في كتاب طب الأئمة بسند معتبر
عن حريز قال : «كنا عند ابي عبد الله (عليهالسلام) فقال له رجل ان أخي منذ ثلاثة أيام في النزع وقد اشتد
عليه الأمر فادع له. فقال : اللهم سهل عليه سكرات الموت ثم امره وقال حولوا فراشه
الى مصلاه الذي كان يصلي فيه فإنه يخفف عليه ان كان في أجله تأخير ، وان كانت
منيته قد حضرت فإنه يسهل عليه ان شاء الله تعالى». وظاهر الخبرين الأولين مع عبارة الفقه التخيير بين المكان الذي يصلي فيه
والمصلى الذي كان يصلي عليه ، وظاهر الأكثر التعبير بالمكان الذي يصلي فيه خاصة ،
وعن ابن حمزة انه جمع بينهما ، وظاهر الأكثر أيضا استحباب ذلك مطلقا ، والاخبار
مقيدة بما إذا اشتد عليه النزع.
__________________
و (منها) ـ قراءة
«الصافات» ويدل عليه ما رواه في الكافي عن سليمان الجعفري قال : «رأيت أبا الحسن الأول (عليهالسلام) يقول لابنه القاسم قم يا بني فاقرأ عند رأس أخيك «وَالصَّافّاتِ صَفًّا» حتى تستتمها فقرأ فلما بلغ «أَهُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا» قضى الفتى ، فلما سجي وخرجوا اقبل عليه يعقوب بن جعفر
فقال له كنا نعهد الميت إذا نزل به الموت يقرأ عنده «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» فصرت تأمرنا ب «الصافات» فقال يا بني لم تقرأ عند
مكروب من موت قط إلا عجل الله تعالى راحته». وذكر في الوسائل استحباب قراءة «يس
والصافات» وأورد هذا الخبر ، وفي دلالته على ما ادعاه نظر فإن غاية ما يدل عليه
اخبار الرجل بأنهم كانوا يقرأون سورة «يس» والامام (عليهالسلام) لم يقرره على ذلك ، وانما ذكر التعليل المذكور لسورة «الصافات»
وليس فيه انه (عليهالسلام) كان يأمر بسورة «يس» حتى يكون حجة فيما ادعاه. وفي
الفقه الرضوي «إذا حضر أحدكم الوفاة فاحضروا عنده القرآن وذكر الله تعالى والصلاة على
رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». وظاهره استحباب قراءة القرآن عنده قبل خروج الروح
وبعده ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب ، قال في الذكرى : «ويستحب قراءة القرآن بعد
خروج روحه كما يستحب قبله استدفاعا عنه».
و (منها) ـ كراهة
مسه ، وقد تقدم في موثقة زرارة عن الباقر (عليهالسلام) وفي عبارة الفقه الرضوي ما يدل على ذلك ايضا.
و (منها) ـ انه
يستحب للميت ان يحسن ظنه بالله سبحانه ولا يقنط من رحمته ، روى الصدوق في العيون
عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «سأل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن بعض أهل مجلسه فقيل عليل فقصده عائدا وجلس عند رأسه
__________________
فوجده دنفا فقال له أحسن ظنك بالله. فقال اما ظني بالله فحسن. الحديث». وروى
الشيخ في المجالس بسنده عن انس قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله عزوجل فان حسن الظن بالله ثمن الجنة». وقال في كتاب عدة
الداعي «روى عنهم : (عليهمالسلام) انه ينبغي في حالة المرض خصوصا مرض الموت ان يزيد
الرجاء على الخوف». قال شيخنا الشهيد في الذكرى : «ويستحب حسن الظن بالله في كل
وقت وآكده عند الموت ، ويستحب لمن حضره امره بحسن الظن وطمعه في رحمة الله تعالى».
و (منها) ـ انه
يكره حضور الجنب والحائض عنده ، لما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) المرأة تقعد عند رأس المريض في حد الموت وهي حائض؟
فقال لا بأس ان تمرضه فإذا خافوا عليه وقرب ذلك فلتنح عنه وعن قربه فإن الملائكة
تتأذى بذلك». وعن يونس بن يعقوب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تحضر الحائض الميت ولا الجنب عند التلقين ولا
بأس ان يليا غسله». والظاهر ان المراد بالتلقين حال الاحتضار فهو كناية عن
الاحتضار ، ويحتمل العموم وروى في الخصال بسنده عن جابر الجعفي عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «لا يجوز للمرأة الحائض والجنب الحضور عند تلقين
الميت لأن الملائكة تتأذى بهما ولا يجوز لهما إدخال الميت قبره». أقول : ما دل
عليه هذا الخبر من كراهية إدخال الجنب والحائض الميت قبره مما لم أقف عليه في كلام
الأصحاب بل ظاهر كلامهم الجواز من غير كراهة ، ومثله أيضا في الفقه الرضوي حيث قال
(عليهالسلام) : «ولا تحضر الحائض ولا الجنب عند التلقين فإن الملائكة
تتأذى بهذا ولا بأس بأن يليا غسله
__________________
ويصليا عليه ولا ينزلا قبره فان حضرا ولم يجدا من ذلك بدا فليخرجا إذا قرب
خروج نفسه». والحكم بكراهة حضورهما وقت الاحتضار مما لا خلاف فيه بين الأصحاب كما
يفهم من كلام المعتبر ، والظاهر اختصاص الكراهة بحال الاحتضار الى ان يتحقق الموت
، وهل تزول الكراهة بانقطاع الدم قبل الغسل أو بالتيمم بدل الغسل؟ اشكال
و (منها) ـ ان
لا يترك وحده ، لما رواه في الكافي عن ابي خديجة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس من ميت يموت ويترك وحده إلا لعب الشيطان في
جوفه». وروى الصدوق مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام): ولا تدعن ميتك وحده فان الشيطان يعبث في جوفه». وقال
في كتاب العلل : «قال ابي في رسالته الي لا يترك الميت وحده فان الشيطان يعبث في
جوفه» أقول : وهذه العبارة في الفقه الرضوي أيضا قال في البحار : «لا يبعد ان يكون المراد به حال
الاحتضار فالمراد بعبث الشيطان وسوسته وإضلاله والأصحاب حملوه على ظاهره» أقول : لا
بعد في حمله على ظاهره كما نقل عن بعض الأموات انه ترك وحده ليلا الى الصباح
فوجدوه قد خسف بعض أعضائه.
و (منها) ـ ما
ذكره الشيخان وجملة من الأصحاب من استحباب الإسراج عنده ان مات ليلا ، واستدل عليه
الشيخ بما رواه الكليني عن عثمان بن عيسى عن عدة من أصحابنا قال : «لما قبض أبو جعفر (عليهالسلام) أمر أبو عبد الله (عليهالسلام) بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد الله
ثم أمر أبو الحسن (عليهالسلام) بمثل ذلك في بيت ابي عبد الله حتى اخرج به الى العراق
ثم لا ادري ما كان». ورواه الصدوق مرسلا مثله .
واعترضه المحقق
الشيخ علي بان ما دل عليه الحديث غير المدعى ، ثم قال : «الا ان اشتهار الحكم
بينهم كاف في ثبوته للتسامح في أدلة السنن» قال في المدارك بعد
__________________
نقله : «وقد يقال ان ما تضمنه الحديث يندرج فيه المدعى أو يقال ان استحباب
ذلك يقتضي استحباب الإسراج عند الميت بطريق أولى فالدلالة واضحة ، لكن السند ضعيف
جدا» انتهى.
أقول : أنت
خبير بان كلا من الكلامين لا يخلو من نظر ، اما كلام المحقق المذكور وما ذكره بعد
الطعن في دلالة الخبر من ان اشتهار الحكم كاف في ثبوته للتسامح في أدلة السنن فهو
لا يخلو من المجازفة والخروج عن نهج السنن ، وذلك فان الاستحباب حكم شرعي يتوقف
ثبوته على الدليل الواضح الشرعي وإلا كان قولا على الله سبحانه بغير علم كما دلت
عليه الآيات القرآنية وعضدتها السنة النبوية ، وبلوغ التسامح الى هذا المقدار أمر
خارج عن النهج الواضح المنار. واما كلام السيد المذكور ففيه ان ظاهر الخبر ان
الإسراج الذي أمر به الصادق (عليهالسلام) انما هو في البيت الذي كان يسكنه الباقر (عليهالسلام) وليس فيه دلالة على انه الذي مات فيه فلعله مات في
خارجه ، وبالجملة فإنه أعم من موضع الموت والعام لا دلالة له على الخاص ، والظاهر
ان هذا هو الذي أراده المحقق المشار اليه ، وحينئذ فما ذكره في المدارك ـ من قوله
: «ان ما تضمنه الحديث يندرج فيه المدعى» بناء على ان مراد المحقق المذكور انما هو
دلالة النص على دوام الإسراج والمدعى الإسراج عند الميت بعد الموت ليلا ـ ليس محله
فإنه لو كان الأمر كما توهمه لصح ما اعترض به عليه واتجه ما فرعه على ذلك من
الأولوية وان الدلالة واضحة ولكن الأمر ليس كما توهمه كما عرفت ، وبذلك يظهر سقوط
ما ذكره وصحة ما ذكره المحقق المشار اليه. ويمكن ان يكون ذكر من تقدم للإسراج عنده
انما هو من حيث استحباب قراءة القرآن عنده بعد الموت كما يشير اليه بعض الأخبار.
وبالجملة فالحكم المذكور لا اعرف له مستندا واضحا. والله العالم.
و (منها) ـ ما
نقل عن الشيخ المفيد (قدسسره) من انه يكره ان يجعل على بطنه حديد ، قال الشيخ في
التهذيب : «سمعناه مذاكرة من الشيوخ» وفي الخلاف
احتج عليه بالإجماع الفرقة. وذكر العلامة وجمع ممن تأخر عنه أيضا كراهية
وضع شيء على بطنه غير الحديد. وعن ابن الجنيد خلافه وهو ان يوضع على بطنه شيء.
ورده في الروض بأن الإجماع على خلافه.
(الموضع الرابع)
ـ الظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في استحباب تعجيل تجهيزه إلا مع الاشتباه.
فاما ما يدل
على الحكم الأول مضافا الى الاتفاق فجملة من الأخبار : منها ـ ما رواه في الكافي
عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يا معشر الناس لا ألفين رجلا مات له ميت ليلا فانتظر
به الصبح ولا رجلا مات له ميت نهارا فانتظر به الليل ، لا تنتظروا بموتاكم طلوع
الشمس ولا غروبها عجلوا بهم الى مضاجعهم يرحمكم الله تعالى. قال الناس وأنت يا
رسول الله يرحمك الله». رواه الصدوق مرسلا قال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله). مثله. وعن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا مات الميت أول النهار فلا يقيل إلا في قبره». وما
رواه الشيخ عن جابر قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) إذا حضرت الصلاة على الجنازة في وقت مكتوبة فبأيهما
ابدأ؟ فقال عجل بالميت الى قبره إلا ان تخاف فوت وقت الفريضة. ولا تنتظر بالصلاة
على الجنازة طلوع الشمس ولا غروبها». وعن عيص عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) انه قال : «إذا مات الميت فخذ في جهازه وعجله. الحديث».
وروى الصدوق مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كرامة الميت تعجيله».
واما الحكم
الثاني فإنه ينتظر به حتى يتحقق موته فان في دفنه قبل ذلك اعانة على قتله ، كما
يدل عليه ما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة قال : «أصاب بمكة سنة
__________________
من السنين صواعق كثيرة مات من ذلك خلق كثير فدخلت على ابي إبراهيم (عليهالسلام) فقال مبتدئا من غير ان أسأله : ينبغي للغريق والمصعوق
ان يتربص به ثلاثة أيام لا يدفن إلا ان يجيء منه ريح تدل على موته. قلت جعلت فداك
كأنك تخبرني انه قد دفن ناس كثير احياء؟ فقال نعم يا علي قد دفن ناس كثير احياء ما
ماتوا إلا في قبورهم». وقال العلامة في النهاية : «شاهدت واحدا في لسانه وقفة
فسألته عن سببها فقال مرضت مرضا شديدا واشتبه الموت فغسلت ودفنت في أزج ، ولنا
عادة إذا مات شخص فتح عنه باب الأزج بعد ثلاثة أيام أو ليلتين اما زوجته أو امه أو
أخته أو ابنته فتنوح عنده ساعة ثم تطبق عليه هكذا يومين أو ثلاثة ، ففتح علي فعطست
فجاءت أمي بأصحابي وأخذوني من الأزج وذلك منذ سبعة عشرة سنة».
ومما يدل على
وجوب التأخير حتى يتحقق الموت ما رواه في الكافي في الصحيح عن هشام بن الحكم عن
ابي الحسن (عليهالسلام) «في المصعوق والغريق؟ قال ينتظر به ثلاثة أيام إلا ان يتغير قبل ذلك». وعن
إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الغريق أيغسل؟ قال نعم ويستبرأ. قلت
وكيف يستبرأ؟ قال يترك ثلاثة أيام من قبل ان يدفن إلا ان يتغير قبل فيغسل ويدفن ،
وكذلك ايضا صاحب الصاعقة فإنه ربما ظنوا انه مات ولم يمت». وعن عمار الساباطي في
الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الغريق يحبس حتى يتغير ويعلم انه قد مات ثم يغسل
ويكفن قال : وسئل عن المصعوق فقال إذا صعق حبس يومين ثم يغسل ويكفن». وعن إسماعيل
ابن عبد الخالق ابن أخي شهاب بن عبد ربه قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) خمسة ينتظر بهم إلا ان يتغيروا : الغريق والصعيق
والمبطون والمهدوم والمدخن» ورواه في الفقيه مرسلا مقطوعا وزاد «ثلاثة أيام» بعد
قوله : «ينتظر بهم».
وظاهر هذه
الاخبار جعل غاية التأخير ثلاثة أيام أو يومين إلا ان يتغير قبل
__________________
ذلك ، والأصحاب قد جعلوا نهاية التأخير حصول العلم بالموت بالأمارات التي
ذكروها من انخساف صدغيه وميل انفه وامتداد جلدة وجهه وانخلاع كفه من ذراعه
واسترخاء قدميه وتقلص أنثييه إلى فوق مع تدلي الجلدة ، قيل : ومنه زوال النور عن
بياض العين وسوادها وذهاب النفس وزوال النبض. ومن الظاهر حصول المنافاة بين ما
ذكروه وما دلت عليه الأخبار المذكورة لأنه متى علم الموت بهذه الأمور المذكورة فلا
معنى للتأخير ثلاثة أيام إلا ان يتغير قبل ذلك ، اللهم إلا ان يكون ما ذكره
الأصحاب ليس كليا فيجوز تخلفه في بعض الأموات فلا بد من التأخير المدة المذكورة أو
حصول التغير قبلها أو يراد بالتغير في الاخبار التغير عن حالة الحياة بحصول هذه الأسباب
كلا أو بعضا لا التغير باعتبار حدوث الرائحة ولعله الأقرب في الجمع بين كلامهم
وبين الأخبار المذكورة. ولم اطلع على من تعرض لوجه الاشكال فيما ذكرناه فضلا عن
الجواب عنه. ونقل في الذكرى عن جالينوس ان أسباب الاشتباه الإغماء أو وجع القلب أو
إفراط الرعب أو الغم أو الفرح أو الأدوية المخدرة فيستبرأ بنبض عروق بين الأنثيين
أو عرق يلي الجالب والذكر بعد الغمز الشديد أو عرق في باطن الألية أو تحت اللسان
أو في بطن المنخر ومنع الدفن قبل يوم وليلة إلى ثلاث أقول : وظاهر كلام هذا الحكيم
ايضا لا يخلو من منافاة لما ذكره الأصحاب من العلامات لو كانت كلية وإلا لذكرها أو
شيئا منها وانما ذكر لاستعلام الموت حال الاشتباه أشياء أخر كما عرفت. والله
العالم.
نكت
قال الصدوق في
المقنع : «إذا قضى فقل (إِنّا لِلّهِ وَإِنّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ) اللهم اكتبه عندك في المحسنين وارفع درجته في أعلى
عليين واخلف على عقبه في الغابرين ونحتسبه عندك يا رب العالمين». وقال في الفقيه : «وإذا
قضى نحبه يجب ان يقول إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ
__________________
راجِعُونَ». وقال ابن الجنيد : «يقرأ عنده من غير ان يرفع صوته
بالقراءة ، وقال عقيب تلقينه : ولا يكثر عليه عند أحوال الغشي لئلا يشتغل بذلك عن
حال يحتاج الى معاينتها» وضم أبو حمزة إلى نقله الى مصلاه بسط ما كان يصلي عليه
تحته ، وقد تقدمت الإشارة اليه. وقال صاحب الفاخر : ضعه في مصلاه الذي كان يصلي
فيه أو عليه ، وقال : لا يحضر عنده مضمخ بورس أو زعفران وأمر بجعل الحديد على بطنه
وقراءة آية الكرسي والسخرة عند احتضاره وقول اللهم أخرجها منه الى رضى منك ورضوان.
وفي كتاب دعوات الراوندي كان زين العابدين (عليهالسلام) يقول عند الموت : اللهم ارحمني فإنك كريم اللهم ارحمني
فإنك رحيم فلم يزل يرددها حتى توفي (عليهالسلام) ،. وكان عند رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قدح فيه ماء وهو في الموت ويدخل يده في القدح ويمسح
وجهه بالماء ويقول : اللهم اعني على سكرات الموت ،. وروى انه يقرأ عند المريض
والميت آية الكرسي ويقول اللهم أخرجه إلى رضى منك ورضوان اللهم اغفر له ذنبه جل
ثناء وجهك ثم يقرأ آية السخرة : (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخرها ثم يقرأ ثلاث آيات من آخر البقرة : (لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ... ثم يقرأ سورة الأحزاب.
(المقصد الثاني)
ـ في الغسل والبحث فيه يقع في الغاسل والمغسول والغسل ، فههنا مقامات ثلاثة :
(الأول) ـ في
الغاسل وفيه مسائل (الأولى) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأن الغسل واجب كفائي وان
اولى الناس به أولاهم بميراثه ، اما الأول فقد تقدم الكلام فيه في المقصد الأول ،
إلا ان بعض الأصحاب ربما صرحوا بأن أولى الناس به في جميع أحكامه أولاهم بميراثه ،
قال في الذكرى : الأول في الغاسل واولى الناس به أولاهم بإرثه وكذا باقي الأحكام
لعموم «وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» ولقول علي
__________________
(عليهالسلام) : «يغسل الميت اولى الناس به». وقول الصادق (عليهالسلام) في خبر إسحاق بن عمار : «الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها». انتهى. وربما
أشعر هذا الكلام بعدم الوجوب على الكافة كما هو المشهور وانما الوجوب على الولي
خاصة كما قدمنا ذكره في المقصد الأول وبينا انه هو المفهوم من الاخبار الواردة في
أحكام الميت ، ويؤيده قوله على اثر هذا الكلام «فرع : ولو لم يكن ولي فالإمام وليه
مع حضوره ومع غيبته فالحاكم ومع عدمه فالمسلمون ، ولو امتنع الولي ففي إجباره نظر
من الشك في ان الولاية هل هي نظر له أو للميت؟» انتهى. وهذا الكلام ـ كما ترى ـ كالصريح
في تعلق الوجوب به خاصة دون المسلمين المعبر عنه بالوجوب الكفائي.
بقي الكلام
فيما قدمنا نقله أولا من القول بالوجوب على المسلمين كفاية وان اولى الناس به
أولاهم بميراثه فإنه لا يخلو من تدافع ، إلا ان تحمل الأولوية على الاستحباب
والأفضلية بمعنى ان الوجوب عام لجميع المسلمين من الولي وغيره إلا ان الأفضل هو
تقديم الولي في ذلك ، وقد تقدم ما فيه آنفا. وبالجملة فالظاهر من الاخبار هو تعلق
الخطاب في ذلك بالولي خاصة في جميع الأحكام وان ما ادعوه من الوجوب الكفائي لا
اعرف له دليلا واضحا.
واما الثاني
وهو ان اولى الناس به أولاهم بميراثه فهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ، فروى الشيخ
في الصحيح الى غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) انه قال : «يغسل الميت اولى الناس به». وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) يغسل الميت اولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك». وفي
الفقه الرضوي «ويغسله اولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك».
والمراد بأولى
الناس به في هذه الاخبار هو الاولى بميراثه كما ذكره الأصحاب ،
__________________
ويدل على ذلك صحيحة حفص بن البختري عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال يقضى عنه اولى الناس بميراثه. قلت
ان كان اولى الناس به امرأة؟ قال لا إلا الرجال». ولا ريب ان الولي الذي جعل إليه
أحكام الميت هو الذي أوجب عليه الشارع قضاء ما فات الميت من صيام وصلاة ، وتؤيده مرسلة
ابن ابي عمير عن رجاله عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال يقضيه اولى الناس به».
واما ما توهمه
صاحب المدارك في هذا المقام ـ وان تبعه عليه جملة من الاعلام حيث قال بعد ذكر
رواية غياث المذكورة : «وهي مع ضعف سندها غير دالة على ان المراد بالأولوية
الأولوية في الميراث ، ولا يبعد ان المراد بالأولى بالميت هنا أشد الناس به علاقة
لأنه المتبادر ، والمسألة محل توقف» انتهى ـ ففيه ان كلامه هذا مبني على ان المراد
بقولهم في تلك الأخبار : «أولى الناس به» معنى التفضيل فتوهم ان المتبادر من
الأولوية على هذا التقدير الأولوية بالقرب وشدة العلاقة ، وليس كذلك بل المراد
بهذا اللفظ انما هو الكناية عن الولي المالك للتصرف ، والتعبير عنه بذلك قد وقع في
جملة من اخبار الغدير من قوله (صلىاللهعليهوآله) «ألست اولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى يا رسول الله.
قال من كنت مولاه فعلي مولاه». اي ألست المالك للتصرف فيكم دون أنفسكم. ويزيد ذلك
بيانا ما نقله الفاضل الشيخ علي ابن الشيخ محمد ابن الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد
الثاني في كتاب الدر المنظوم والمنثور عن العلامة الفيلسوف الشيخ ميثم بن علي بن
ميثم البحراني (عطر الله مرقده) في كتاب النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة
من ان لفظ «الأولى» انما يطلق لغة على من يملك التدبير في الأمر والتصرف فيه ، قال
: «وأهل اللغة لا يطلقون لفظ «الأولى» إلا في من ملك تدبير الأمر والتصرف فيه»
وبذلك يظهر ان «الأولى» في
__________________
جملة أخبار الميت من اخبار الغسل واخبار الصلاة وغيرهما انما هو بمعنى
المالك للتصرف وتدبير الأمر وهو معنى الولي كما في ولي الطفل وولى البكر ونحو ذلك
، ففي حسنة ابن ابي عمير بإبراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يصلى على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب».
ونحوها مرسلة أحمد بن محمد بن ابي نصر ولا ريب ان المراد بأولى الناس في هذه الاخبار انما هو
الولي الذي دلت الأخبار المتقدمة على ان عليه قضاء ما فات الميت من صلاة وصيام ،
وقد عرفت في صحيحة حفص انه هو الاولى بميراثه ، وبذلك يظهر ما في كلام السيد
المشار اليه ـ وان تبعه فيه من تبعه ـ من الغفلة وعدم إعطاء التأمل حقه في اخبار
المسألة ، فإنه مبني على ملاحظة معني التفضيل من الصيغة المذكورة وان المراد بقوله
: «اولى الناس به» بمعنى اولى الناس بميراثه ، وليس كذلك إذ الأولوية بالميراث
انما وقعت في كلام الأصحاب تعريفا للولي ومحمولة عليه لا انها تفسير له وان
معناهما واحد ويصير من قبيل الحذف والإيصال ، ألا ترى ان عبارة الشرائع في هذا
المقام حيث قال : «واولى الناس به أولاهم بميراثه» ظاهرة في ان المراد انما هو ان
الولي للميت القائم بأحكامه هو كل من كان أحق بميراثه.
وينبغي التنبيه
على أمور (الأول) ـ لا يخفى ان المراد بتقديم الأول في الميراث هو انه حيث كانت
مراتب الإرث متعددة مترتبة فلا ترث أصحاب المرتبة الثانية إلا مع فقد أهل المرتبة
الاولى وهكذا ، فالولي للميت هو من يرث من هذه المراتب دون من لا يرث ، واما تفصيل
الكلام في أصحاب مرتبة الإرث لو تعددوا ومن الاولى منهم فسيأتي الكلام فيه في بحث
الصلاة على الميت من كتاب الصلاة ان شاء الله تعالى.
(الثاني) ـ قال
في الذكرى : «إذا كان التقديم تابعا للإرث انتفى مع عدمه وان كان أقرب كالقاتل
ظلما والرق والكافر ، ولو سلم الاولى الى غيره جاز إلا في تسليم الرجال الى النساء
في الرجل وبالعكس في المرأة» انتهى. أقول : لقائل أن يقول
__________________
ان المراد من الخبر الدال على ان الولي هو الاولى بالميراث انما هو الكناية
عن القرب الى الميت المستلزم للإرث لو لم يمنع منه مانع لا ان المراد الإرث بالفعل
، فالتقديم انما هو تابع للقرب الى الميت لان مراتب الإرث مترتبة بترتب القرب فكل
مرتبة أقرب تقدم على ما بعدها ، وعلى هذا فالقرب الى الميت موجب للإرث وموجب
للولاية عليه بعد موته ومنع القتل ظلما ـ مثلا ـ من الإرث لا يوجب المنع من
الأولوية. وبالجملة فإن ما ذكرناه من الاحتمال أقرب قريب في المقام.
(الثالث) ـ لو
كان الأولياء رجالا ونساء فظاهر الأصحاب ان الرجال اولى لكن هل يفرق في ذلك بين ما
إذا كان الميت ذكرا أو أنثى فتخص أولوية الرجال بالأول دون الثاني فتكون النساء
اولى بغسل بعضهن بعضا ، أم لا فرق فلو كان الميت امرأة ولا يمكن الولي مباشرة غسلها
اذن للنساء فلا يصح الغسل بدون اذنه؟ قولان : وبالأول صرح المحقق الشيخ علي في شرح
القواعد ، وبالثاني جزم أكثر المتأخرين ومنهم ـ الشهيد الثاني في الروض ، قال بعد
نقل القول الثاني عن المصنف وغيره : «وربما قيل ان ذلك مخصوص بالرجال اما النساء
فالنساء اولى بغسلهن ولم يثبت ، وامتناع المباشرة لا يستلزم انتفاء الولاية»
واعترضه سبطه في المدارك بأنه قد يقال ان الرواية المتقدمة التي هي الأصل في هذا
الحكم انما تتناول من يمكن وقوع الغسل منه ومتى انتفت دلالتها على العموم وجب
الرجوع في غير ما تضمنته الى الأصل والعمومات. انتهى. وأشار بالرواية إلى رواية
غياث بن إبراهيم المتقدمة . أقول : ما ذكره وان احتمل في الرواية المذكورة حيث
انها تشعر بمباشرة الولي للغسل إلا انه لا يتم في الروايتين اللتين بعدها مما
قدمناه لتضمنهما الولي أو من يأمره وهو أعم من مباشرة الولي ان
أمكن المباشرة أو الأمر لغيره ان تعذرت المباشرة ، على ان الرواية التي تعلق بها
لا بد من تقدير هذا المعنى فيها ايضا وإلا لزم انه لو تعذرت المباشرة على الولي
لمرض ونحوه انتفى الغسل
__________________
بالكلية وهو مما يقطع بفساده ، وحينئذ فإذا جاز الاذن في صورة التعذر بمرض
ونحوه جاز في صورة عدم إمكان المباشرة بكون الميت امرأة ، وبالجملة فالرواية لا
اختصاص لها بمن يمكن وقوع الغسل منه حتى انه يصير هذا الفرد خارجا عنها كما زعمه ،
بل المراد من قوله : «يغسل الميت اولى الناس به» يعني تكون ولاية الغسل لاولى
الناس به لا التغسيل بالفعل ، وإلا لجري ذلك في اخبار الصلاة على الميت لقولهم (عليهمالسلام) : «يصلي على الميت اولى الناس به». مع انه لا خلاف في
جواز اذنه لغيره ولا سيما إذا لم يكن أهلا للإمامة ، هذا مع قطع النظر عن الخبرين
الآخرين وإلا فدلالتهما على ما ذكرنا أظهر من ان ينكر. هذا كله مع ثبوت ما ذكروه
من انه متى اجتمع الرجال والنساء في مرتبة الولاية فالرجال أولى إلا اني لم أقف
على ما يدل عليه في هذه المسألة. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان الزوج اولى بزوجته في جميع الأحكام
، ويدل عليه ما رواه الكليني والشيخ عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها». قال في
المعتبر بعد ذكر هذا الخبر : «ومضمون الرواية متفق عليه» قال في المدارك : «قلت ان
كانت المسألة إجماعية فلا بحث وإلا أمكن المناقشة فيها لضعف السند ، ولانه معارض بما
رواه الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في المرأة تموت ومعها أخوها وزوجها أيهما يصلي عليها؟ فقال : أخوها أحق
بالصلاة عليها». وأجاب الشيخ عن هذه الرواية بالحمل على التقية وهو انما يتم
__________________
مع التكافؤ في السند كما لا يخفى». انتهى. أقول : ومما يعضد صحيحة حفص
المذكورة أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة على المرأة الزوج أحق بها أو الأخ؟ قال :
الأخ». ومما يعضد الرواية الأولى اتفاق الأصحاب على العمل بمضمونها كما ذكره في
المعتبر ومثله العلامة في المنتهى ، وما رواه الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه
عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له المرأة تموت من أحق بالصلاة عليها؟ قال
زوجها. قلت الزوج أحق من الأب والولد والأخ؟ قال : نعم ويغسلها». وروى في الكافي
عن ابي بصير مثله بدون قوله : «ويغسلها» وعموم الأخبار الدالة على ان
الاولى بالميت هو الاولى بميراثه ، ولا ريب ان الزوج اولى من الأخ بأي معنى اعتبرت
الأولوية من أصل الإرث أو كثرته ، وحينئذ فالظاهر هو القول المشهور ويتعين حمل
الخبرين المذكورين على ما ذكره الشيخ من التقية ، وبالجملة فإنه لا اشكال ولا خلاف
في الحكم المذكور.
انما الخلاف في
جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر في حال الاختيار فعن المرتضى (رضياللهعنه) في
شرح الرسالة والشيخ في الخلاف وابن الجنيد والجعفي انه يجوز لكل منهما تغسيل الآخر
مجردا مع وجود المحارم وعدمهم ، وقال الشيخ في النهاية بالجواز أيضا إلا انه اعتبر
فيه كونه من وراء الثياب. ونقل ذلك عن ابن زهرة واختاره جملة من المتأخرين ، وقال
في كتابي الاخبار ان ذلك مختص بحال الاضطرار دون الاختيار وتبعه على ذلك جماعة من
الأصحاب ، واستظهر في المدارك
__________________
جواز تغسيل كل منهما الآخر مجردا وان كان الأفضل كونه من وراء القميص كما
في مطلق التغسيل.
وتحقيق الكلام
في المقام يحتاج الى بسط الأخبار الواردة في المسألة ثم الكلام فيها بما يخطر
بالبال العليل ومنه سبحانه الهداية إلى سواء السبيل : فمنها ـ ما رواه الشيخ في
الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل أيصلح له ان ينظر إلى امرأته حين تموت أو
يغسلها ان لم يكن عنده من يغسلها؟ وعن المرأة هل تنظر الى مثل ذلك من زوجها حين
يموت؟ فقال لا بأس بذلك انما يفعل ذلك أهل المرأة كراهة ان ينظر زوجها إلى شيء
يكرهونه». وعن منصور في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته أيغسلها؟ قال نعم
وامه وأخته ونحو هذا يلقي على عورتها خرقة». وفي الحسن عن محمد بن مسلم قال : «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم انما
يمنعها أهلها تعصبا». وبهذه الروايات استدل في المدارك على جواز تغسيل كل منهما
الآخر مجردا وموردها ـ كما ترى ـ انما هو تغسيل الرجل زوجته خاصة دون العكس ، ثم
قال : ويدل على ان الأفضل كونه من وراء الثياب روايات كثيرة : منها ـ صحيحة الحلبي
عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن الرجل يموت وليس عنده من يغسله إلا النساء؟ قال تغسله امرأته
أو ذو قرابته ان كانت له وتصب النساء عليه الماء صبا. وفي المرأة إذا ماتت يدخل
زوجها يده تحت قميصها فيغسلها». وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم من وراء
الثياب». وصحيحة أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلا النساء؟ قال يدفن ولا يغسل ،
والمرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن ولا تغسل الا ان
__________________
يكون زوجها معها ، فان كان زوجها معها غسلها من فوق الدرع.». ثم قال في
المدارك بعد إيراد هذه الاخبار : «والجمع بين الاخبار وان أمكن بتقييد الأخبار
المطلقة بهذه الأحاديث إلا ان حمل هذه الأحاديث على الاستحباب اولى لظهور تلك
الاخبار في الجواز مطلقا وثبوت استحباب ذلك في مطلق التغسيل على ما سنبينه» انتهى.
أقول : ومن
اخبار المسألة صحيحة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم من وراء
الثوب لا ينظر الى شعرها ولا إلى شيء منها ، والمرأة تغسل زوجها لأنه إذا مات
كانت في عدة منه وإذا ماتت هي فقد انقضت عدتها». وصحيحة زرارة عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يموت وليس معه إلا نساء؟ قال تغسله امرأته لأنها منه في عدة وإذا
ماتت لم يغسلها لانه ليس منها في عدة». وظاهر هاتين الصحيحتين تحريم تغسيل الرجل
امرأته مجردة للعلة المذكورة وظاهر صحيحة زرارة وان كان عدم جواز تغسيله لها مطلقا
لكن يجب حملها على ما إذا كانت مجردة جمعا بينها وبين غيرها مما دل على الجواز من
وراء الثياب ، وبما قلنا صرح الشيخ في التهذيب فقال بعد ذكر صحيحة زرارة : «أي لا
يغسلها مجردة وانما يغسلها من وراء الثوب ، قال : وعلى هذا دل أكثر الروايات ويكون
الفرق بين المرأة والرجل في ذلك ان المرأة يجوز لها ان تغسل الرجل مجردا وان كان
الأفضل والاولى ان تستره ثم تغسله وليس كذلك الرجل لانه لا يجوز ان يغسلها إلا من
وراء الثياب ، قال : والمطلق من الاخبار يحمل على المقيد» انتهى. ومنها ـ موثقة
عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يموت وليس عنده من يغسله إلا النساء هل تغسله
النساء؟ فقال تغسله امرأته أو ذات محرمه وتصب عليه النساء الماء صبا من فوق الثياب».
وموثقة سماعة قال : «سألته عن المرأة إذا ماتت؟ فقال
__________________
يدخل زوجها يده تحت قميصها الى المرافق فيغسلها». وبمضمونها رواية الحلبي ورواية داود بن
سرحان عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يموت في السفر أو في أرض ليس معه فيها إلا النساء؟ قال يدفن ولا
يغسل ، وقال في المرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة إلا ان يكون معها زوجها ، فان
كان معها زوجها فليغسلها من فوق الدرع ويسكب عليها الماء سكبا ولتغسله امرأته إذا
مات ، والمرأة ليست مثل الرجل المرأة أسوأ منظرا حين تموت».
أقول : والكلام
في هذه الاخبار يقع في مقامين (الأول) ـ في تغسيل الرجل زوجته ، ولا يخفى ان بعضا
من اخبار المسألة مطلق مثل صحيحة عبد الله بن سنان وحسنة محمد بن مسلم وجملة منها ما بين صريح وظاهر في التقييد بكونه من وراء
الثياب ، والجمع بينهما بتقييد إطلاق الأولى بالثانية. واما الجمع بحمل روايات
التقييد على الاستحباب والعمل بإطلاق تلك الاخبار وحملها على الجواز فهو وان أمكن
بالنظر الى دلالة صحيحة منصور على جواز تغسيلها عارية وانما يلقى على عورتها خرقة ،
إلا انه يشكل بدلالة ظاهر صحيحتي زرارة والحلبي على عدم الجواز كما عرفت ، وبه صرح الشيخ كما سمعت من
كلامه ، ويعضده ـ مع كونه أوفق بالاحتياط ـ الأخبار الدالة على التقييد بكونه من
وراء الثياب ، ولا يعارضها إطلاق الروايتين المشار إليهما ويجب تقييده كما عرفت ،
وأظهر من ذلك تأييدا لما ذكرنا الأخبار الواردة بتغسيل علي (عليهالسلام) لفاطمة (عليهاالسلام) والتعليل فيها بكونها صديقة لا يغسلها الا صديق ، فإن
قضية التعليل تخصيص جواز ذلك بها وإلا لو كان ذلك جائزا مطلقا كما هو المشهور لم
يكن لهذا التعليل مزيد فائدة ومنها ـ ما رواه الصدوق في العلل عن مفضل بن عمر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) من غسل فاطمة؟ قال ذاك أمير المؤمنين (عليهالسلام) فكأنما
__________________
استفظعت ذلك فقال كأنك ضقت مما أخبرتك؟ قلت قد كان ذلك جعلت فداك. فقال لا
تضيقن فإنها صديقة لم يكن يغسلها إلا صديق. الحديث». ورواه الكليني والشيخ ايضا ،
ويشير الى ما ذكرنا ما نقله في البحار قال : «وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي
نقلا من خط الشهيد قال : لما غسل علي (عليهالسلام) فاطمة قال له ابن عباس : أغسلت فاطمة؟ قال أما سمعت
قول النبي (صلىاللهعليهوآله) : هي زوجتك في الدنيا والآخرة؟ قال الشهيد : هذا
التعليل يدل على انقطاع العصمة بالموت فلا يجوز للزوج التغسيل». انتهى. ويمكن ان
يقال ـ ولعله الأقرب في هذا المجال ـ بان صحيحتي الحلبي وزرارة إنما خرجتا مخرج التقية فإن القول بالمنع من تغسيل
الزوج زوجته مذهب أبي حنيفة والثوري والأوزاعي كما نقله في المنتهى ، ونقل الجواز
عن الشافعي ومالك وإسحاق وداود ، وعن احمد روايتين ولا ريب ان مذهب أبي حنيفة في وقته كان هو المشهور
والمعتمد بين خلفاء الجور ، وغيره من المذاهب الأربعة إنما اشتهر وحصل الاجتماع
عليه في الأعصار المتأخرة مما يقرب من سنة ستمائة ، وحينئذ فلا يبعد حمل الروايتين
المذكورتين على التقية ونقل في المنتهى الاحتجاج عن القائلين بالتحريم بان هذه
الفرقة تبيح نكاح الأخت فوجب ان يحرم النظر إليها كما لو طلقها قبل الدخول. واما
ما نقله في البحار من حديث ابن عباس فهو وان أشعر بما ذكره إلا انه لا يبلغ قوة
المعارضة لما قدمناه من الاخبار الدالة على الجواز مع انه غير مروي من طرقنا ولعله
من طرق أخبار العامة ، ومع تسليم صحته وثبوته ودلالته فلا بد في حمله على التقية
أيضا ، مع ان المفهوم من بعض الاخبار الذي لا يحضرني الآن موضعها ان كل امرأة لم
تتزوج إلا رجلا واحدا فإنها
__________________
يوم القيامة تكون زوجته ، ومن أخذت أزواجا عديدة فإنها تخير يوم القيامة
وتختار أحسنهم خلقا معها في الدنيا. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال فلا
ينبغي ترك الاحتياط فيها على كل حال. والله العالم.
(الثاني) ـ في
تغسيل المرأة لزوجها ، والاخبار هنا ما بين مطلق ومقيد بكونه من وراء الثياب ،
والجمع بينها اما بحمل مطلقها على مقيدها أو بحمل مطلقها على الجواز ومقيدها على
الاستحباب ، والظاهر الثاني لقضية التعليل في صحيحتي الحلبي وزرارة المتقدمين والاحتياط لا يخفى ، وبذلك يظهر لك ان حكم تغسيل المرأة
زوجها غير حكم العكس وان كان الأصحاب قد أطلقوا القول فيهما وجعلوا الحكم واحدا ،
لظهور مخالفة حكم الزوج للزوجة من الاخبار كما شرحناه وأوضحناه. واما ما ذهب اليه
الشيخ في كتابي الاخبار ـ من ان جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر مخصوص بحال
الاضطرار دون الاختيار ـ فلا اعرف له مستندا ظاهرا والاخبار المتقدمة ـ كما عرفت ـ
صريحة في رده ويظهر منه انه استند في ذلك الى روايات وقع التقييد بذلك فيها في
كلام السائل مثل صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة صدر الروايات المتقدمة وصحيحة الحلبي الاولى ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله المتقدمة أيضا ورواية الحلبي
عن الصادق (عليهالسلام) «في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسلها؟ قال يدخل زوجها يده تحت
قميصها فيغسلها الى المرافق». الى غير ذلك مما ورد كذلك ، واعتضد في ذلك برواية
أبي حمزة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا يغسل الرجل المرأة إلا ان لا توجد امرأة». وحمل
في الاستبصار ما روى عن أمير المؤمنين من تغسيل فاطمة على اختصاص ذلك بهم (عليهمالسلام) وفي الكل نظر ظاهر ، اما الروايات الأولى فإن التقييد
فيها
__________________
انما وقع في كلام السائل وهو لا يوجب تقييدا في تلك الأخبار الكثيرة مما
ذكرناه وما لم نذكره ، فإن السؤال إذا وقع عن بعض الافراد لا يجب تخصيص الحكم بذلك
في غيره كما هو ظاهر. واما رواية أبي حمزة فأجاب عنها في المختلف ، قال بعد نقل
الاستدلال عنه «والجواب المنع من صحة السند ثم لو سلم لكان محمولا على الاستحباب
أو على الرجل الأجنبي ويكون الاستثناء إشارة الى ما روي انه يغسل من الأجنبية
وجهها وكفيها» واما حديث تغسيل فاطمة فقد تقدم الكلام فيه. ولكن العمدة في
الاستدلال انما هو ما قدمناه من الأخبار الصريحة الدالة. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ قال
في المدارك : «قال بعض المحققين ولا يقدح انقضاء عدة الزوجة في جواز التغسيل بل
يجوز وان تزوجت. وفيه نظر لصيرورتها والحال هذه أجنبية. قال في الذكرى : ولا عبرة
بانقضاء عدة المرأة عندنا بل لو نكحت جاز لها تغسيله وان كان الفرض بعيدا. وهو
كذلك أخذا بالإطلاق» انتهى. أقول : لا يخفى ان ما ذكره في الذكرى هو عين ما نقله
عن بعض المحققين فلا معنى لتنظره في الأول واختياره ما في الذكرى ، إلا ان يحمل ما
نقله عن بعض المحققين على عدة الطلاق وكلام الذكرى على عدة الوفاة حيث ان ظاهر
كلامهم الفرق بين العدتين. ثم ان ما ذكره في الذكرى من الحكم المذكور قد صرح به
الشهيد الثاني في الروض ايضا ، وظاهر كلامهم ـ حيث صرحوا في المطلقة بائنا بأنها
ليست زوجة فلا يجوز لها تغسيله وصرحوا هنا بجواز تغسيلها له بعد انقضاء عدة الوفاة
ـ الفرق بين العدتين وانها في هذه الصورة بعد العدة بل بعد التزويج يصدق عليها
انها زوجة فيجوز لها تغسيله ، كما يشير اليه قوله في المدارك : «أخذا بالإطلاق»
بخلاف المطلقة بائنا فإنها قد بانت منه حال الحياة. وعندي فيه نظر (أما أولا)
فلمنع صدق الزوجة عليها في الحال المفروضة بل هي أجنبية ،
ولا سيما بالنظر الى التعليل المذكور في صحيحتي الحلبي وزرارة الدال على انها انما تغسله بعد الموت لأنها منه في عدة
، ومفهومه انه بعد انقضاء العدة لا تغسله و (اما ثانيا) فلما أشرنا إليه مرارا
وذكره غير واحد من المحققين من ان الأحكام المودعة في الاخبار انما تنصرف الى
الافراد الشائعة المتكثرة دون الفروض النادرة ، وكأنهم بنوا في ذلك على ان الزوجية
الثابتة في حال الحياة لكل منهما لا تنقطع بالموت وإلا لامتنع جواز تغسيل كل منهما
للآخر بعد الموت والأخبار بخلافه ولم يعرض هنا شيء يقتضي رفع هذا الحكم وان طال
الزمان ، وهو وان كان كذلك لكن المتبادر من الأخبار المتقدمة انما هو ما ذكرناه من
كون التغسيل بعد الموت ، ودخول هذا الفرض المذكور فيها بمجرد صدق الزوجة ممنوع ولا
سيما بعد التزويج فإنها تكون أجنبية وصدق الزوجة في هذه الحال في غاية البعد. وكيف
كان فالاحتياط أوضح سبيل سيما مع غموض الدليل وهو فيما ذكرناه كما لا يخفى. والله
العالم.
(الثاني) ـ قال
المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ـ بعد ان اختار القول بجواز تغسيل كل من الزوجين
الآخر من وراء الثياب كما صرح به جمع من الأصحاب ـ ما صورته : «ولم أقف في كلام
على تعيين ما يعتبر في التغسيل من الثياب والظاهر ان المراد ما يشمل جميع البدن ،
وحمل الثياب على المعهود يقتضي استثناء الوجه والكفين والقدمين فيجوز ان تكون
مكشوفة» انتهى. أقول : لا يخفى ان اخبار المسألة ما بين مقيد بالقميص وما بين مطلق
بالثياب وقضية الجمع حمل مطلقها على مقيدها ، ففي صحيحة الحلبي الاولى من الأخبار
المتقدمة : «وفي المرأة إذا ماتت يدخل زوجها يده تحت قميصها
فيغسلها». وفي روايته المذكورة أخيرا قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها الى المرافق».
وفي صحيحة أبي الصباح المتقدمة «وان كان زوجها معها غسلها من فوق
__________________
الدرع». وفي موثقة عمار «... غير انه يكون عليها درع فيصب الماء من فوق الدرع.». ومثل ذلك في رواية
داود بن سرحان المتقدمة والدرع : القميص. وفي موثقة سماعة المتقدمة «يدخل زوجها يده تحت قميصها الى المرافق فيغسلها». وفي رواية زيد الشحام «... وان كان له فيهن امرأة فيغسل في قميص من غير ان تنظر الى عورته». بل
قد ورد في جملة من الاخبار الصحيحة اعتبار التغسيل في القميص مطلقا كما في صحيحة
يعقوب بن يقطين «ولا يغسل إلا في قميص». ومثلها صحيحة ابن مسكان وحسنة سليمان بن خالد واما ما ورد بلفظ الثوب فمنه ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال : نعم من وراء
الثوب». ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله المتقدمة وصحيحة الحلبي الثانية من صحيحتيه المتقدمتين. والواجب في مقام الجمع حمل ما
تضمن الثوب على القميص حمل المطلق على المقيد ، وبذلك يظهر انه لا وجه لما استظهره
من ان المراد ما يشمل جميع البدن ، وعلى هذا فينبغي استثناء الوجه والكفين
والقدمين فيجوز ان تكون مكشوفة ، والأخبار المذكورة وان كانت عارية عن ذكر الرأس
وربما أوهم ذلك جواز كونه مكشوفا أيضا إلا ان الظاهر الحاقه بالبدن وان ذكر القميص
فيها انما خرج مخرج الأغلب باعتبار معظم البدن لا على جهة التخصيص ، ويدل على ذلك
قوله في صحيحة الحلبي الثانية قال : «نعم من وراء الثوب لا ينظر الى شعرها.».
(الثالث) ـ هل
يطهر الثوب بصب الماء من غير عصر قال في الروض : «مقتضى المذهب عدمه» وهو منقول عن
المحقق في المعتبر صرح به في تغسيل الميت في قميصه
__________________
من مماثله ، ومنع الشهيد في الذكرى من عدم طهارته بالصب لإطلاق الرواية قال
: «وجاز ان يجري مجرى ما لا يمكن عصره» أقول : والظاهر هو ما اختاره في الذكرى (أما
أولا) ـ فلان ظواهر الأخبار هو انه بعد التغسيل في قميصه ينقل إلى الأكفان ولو
توقف طهارة القميص على العصر كما يدعونه للزم نجاسة الميت بها بعد تمام الغسل وقبل
نزعها ووجب تطهيره زيادة على الغسل الموظف وظواهر النصوص المذكورة ترده وما ذاك
إلا من حيث طهرها بمجرد الصب في الغسلة الثالثة. و (اما ثانيا) ـ فلان ما ادعوه من
وجوب العصر في الثوب وانه لا يطهر بعد اجراء الماء إلا بعد العصر وان اشتهر بينهم
كما يشير اليه قوله في الروض «مقتضى المذهب» إلا انه محل بحث كما سيأتي ان شاء
الله تعالى التنبيه عليه في بحث النجاسات وان أدلتهم في المسألة قاصرة عن إفادة
المدعى.
(الرابع) ـ الظاهر
ـ كما ذكره جملة من الأصحاب ـ انه لا فرق في الزوجة بين الحرة والأمة ولا بين
الدائم والمنقطع ، والمطلقة رجعية في العدة زوجة بخلاف البائن ، كل ذلك لإطلاق
النصوص ، والمشهور انه يجوز للسيد تغسيل أمته الغير المزوجة والمعتدة ومدبرته وأم
ولده ، والظاهر ان المستند فيه استصحاب الحكم فيه من حال الحياة وعدم ما يوجب
زواله وانهن في حكم الزوجة ، ولم أقف فيه على نص ، وفي جواز تغسيلها له أقوال : (أحدها)
ـ الجواز مطلقا لاستصحاب حكم الملك ولأنها في معنى الزوجة في إباحة اللمس والنظر
فتباح وهو اختيار العلامة. و (ثانيها) ـ المنع لانتقالها إلى الورثة و (ثالثها) ـ تخصيص
الجواز بأم الولد وهو اختيار جمع من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر ، واستدل
عليه بخبر إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان علي بن الحسين (عليهماالسلام) اوصى ان تغسله أم ولد له إذا مات فغسلته». قال في
المعتبر : ولا يمنع العتق من ذلك لان جواز الاطلاع في زمن الحياة قد يستصحب بعد
الوفاة كما في الزوجة تغسل وان انقطعت العصمة. أقول : لا يخفى ان الرواية
__________________
المذكورة لا تخلو من الاشكال لما تحقق عندنا من ان الامام لا يغسله إلا
إمام مثله فلا بد من تأويل الخبر المذكور اما بحمله على ان الوصية بذلك للتقية
ودفع الضرر عن الامام الباقر (عليهالسلام) كما ذكره بعض مشايخنا أو بحملها على المعاونة كما يدل
عليه ما في الفقه الرضوي حيث قال : «ونروى ان علي بن الحسين (عليهالسلام) لما مات قال أبو جعفر (عليهالسلام) لقد كنت أكره ان انظر الى عورتك في حياتك فما انا
بالذي انظر إليها بعد موتك ، فادخل يده وغسل جسده ثم دعا أم ولد له فأدخلت يدها
فغسلت مرافقه وكذلك فعلت أنا بابي». واما قوله : «ولا يمنع العتق من ذلك. إلخ»
فضعفه أظهر من ان يذكر لضعف الاستصحاب عندنا والإلحاق بالزوجة قياس لا يوافق أصول
مذهبنا ، وصاحب المدارك هنا انما رد القول بضعف سند الرواية وغفل عما في متنها من
الاشكال. وربما علل جواز تغسيل أم الولد لسيدها ايضا ببقاء علاقة الملك من وجوب
الكفن والمؤنة والعدة. وفيه نظر فان بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات
لا يخلو من مجازفة ، ومثل ذلك ما علل به الجواز مطلقا كما هو المنقول عن العلامة.
وبالجملة فإن أم الولد قد انعتقت بعد الموت وصارت حرة أجنبية وغيرها قد انتقلت الى
الوارث وصارت أيضا أجنبية فالقول بجواز تغسيلهن له يحتاج الى نص واضح. والله
العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط المماثلة في الذكورة
والأنوثة بين الغاسل والمغسول مع الاختيار لتحريم النظر ، وقد استثني من ذلك ما
تقدم من مسألة الزوجين وما يتبعها من الإماء ، ومما استثنى ايضا من القاعدة
المذكورة وجود المحرمية ، والمراد بها ـ على ما ذكره جملة من الأصحاب هنا وفي كتاب
النكاح ـ من يحرم نكاحه مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، واحترزوا بقيد التأبيد عن
أخت الزوجة وبنت غير المدخول بها فإنهما ليستا من المحارم لعدم التحريم المؤبد بل
هما بحكم الأجانب ،
__________________
وتوقف حل نكاحهما على مفارقة الأخت والام لا يقتضي حل النظر ودخولهما في
اسم المحارم وإلا لزم كون نساء العالم محارم للمتزوج أربعا لتوقف نكاح واحدة منهن
على فراق واحدة. كذا افاده شيخنا الشهيد الثاني في الروض. واستدرك عليه في الحبل
المتين في قوله : «ان توقف حل نكاحهما على مفارقة الأخت والام لو اقتضى دخولهما في
المحارم للزم كون نساء العالم محارم للمتزوج أربعا» بأن فيه مناقشة لطيفة لعدم تحريم
النكاح المنقطع على ذي الأربع ، ولو قال للزم ان تكون ذوات الأزواج محارم للأجانب
لكان اولى. انتهى. أقول : يمكن ان يقال ان المسألة في تحريم ما زاد على الأربع
مطلقا خلافية فلعل شيخنا المشار اليه ممن يذهب الى التحريم مطلقا دائما كان أو
منقطعا بل نقل عنه بعض الأصحاب انه صرح بذلك في بعض المواضع ، فلعل كلامه هنا مبني
عليه فلا ترد عليه هذه المناقشة. واما ما ذكره من العبارة ففيه ان الكلام في ان
توقف حل النكاح على المفارقة لو اقتضى المحرمية للزم كون نساء العالم محارم إذ حل
النكاح فيهن موقوف على مفارقة إحدى زوجاته الأربع ، وظاهر ان ذوات الأزواج الأجانب
ليس ممن يحل نكاحهن بعد المفارقة.
وكيف كان
فالظاهر انه لا خلاف في أصل الحكم المذكور اعني جواز التغسيل مع المحرمية ،
والمعروف من كلامهم انه من وراء الثياب بل ذكر شيخنا البهائي بأنهم قطعوا بكونه من
وراء الثياب إلا انه سيأتي عن صاحب المدارك ما يؤذن بخلافه في ذلك وانما اختلفوا
في انه هل يشترط في ذلك فقد المماثل أو يجوز وان وجد؟ قولان ، والمشهور الأول والى
الثاني ذهب ابن إدريس والعلامة في المنتهى.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة روايات : منها ـ موثقة عبد الرحمن بن ابي
عبد الله البصري وقد تقدمت في سابق هذه المسألة وهي متضمنة لكون الغسل من فوق الثياب ، وظاهره في
الذكرى ذلك مع عدم وجود المماثل ، وصحيحة
__________________
الحلبي المتقدمة وهي الاولى من صحيحتيه ، وهي مطلقة بالنسبة إلى الثياب
وظاهرة في عدم وجود المماثل ، ومنها ـ موثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن الرجل المسلم يموت في السفر وليس معه رجل مسلم ومعه رجال نصارى
ومعه عمته وخالته مسلمتان كيف يصنع في غسله؟ قال تغسله عمته وخالته في قميصه ولا
يقربه النصارى. وعن المرأة تموت في السفر وليس معها امرأة مسلمة ومعها نساء نصارى
وعمها وخالها مسلمان؟ قال يغسلانها ولا تقربها النصرانية كما كانت المسلمة تغسلها
غير انه يكون عليها درع فيصب الماء من فوق الدرع.». وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في عدم
وجود المماثل وكون ذلك من فوق الثياب. ومنها ـ موثقة سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل مات وليس عنده إلا نساء؟ قال : تغسله امرأة ذات
محرم منه وتصب النساء عليه الماء ولا تخلع ثوبه ، وان كانت امرأة ماتت مع رجال
وليس معها امرأة ولا محرم لها فلتدفن كما هي في ثيابها ، وان كان معها ذو محرم لها
غسلها من فوق ثيابها». وهي ـ كما ترى ـ كسابقتها ظاهرة في عدم المماثل وكون ذلك من
فوق الثياب. ومنها ـ حسنة عبد الله بن سنان قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا مات الرجل مع النساء غسلته امرأته فان لم تكن
امرأته معه غسلته أولاهن به وتلف على يديها خرقة». وهذه الرواية ظاهرة في عدم وجود
المماثل ومطلقة بالنسبة إلى الثياب. ومنها ـ رواية زيد الشحام قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة ماتت وهي في موضع ليس معهم امرأة غيرها؟ قال
ان لم يكن فيهم لها زوج ولا ذو رحم دفنوها بثيابها ولا يغسلونها ، وان كان معهم
زوجها أو ذو رحم لها فليغسلها من غير ان ينظر الى عورتها. قال وسألته عن رجل مات
في السفر مع نساء ليس معهن رجل؟ فقال ان لم يكن له فيهن امرأة فليدفن بثيابه ولا
يغسل ، وان كان له فيهن امرأة فليغسل في قميص من غير ان تنظر الى عورته». وهي
ظاهرة في عدم وجود المماثل وصدرها مطلق بالنسبة إلى الثياب
__________________
وعجزها ظاهر في اشتراط الثياب. ومنها ـ رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي
عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) في حديث قال : «إذا مات الرجل في السفر ، الى ان قال :
وإذا كان معه نساء ذوات محرم يؤزرنه ويصبن عليه الماء صبا ويمسسن جسده ولا يمسسن
فرجه». ومنها ـ صحيحة منصور المتقدمة وهي دالة على جواز تغسيل المرأة مجردة ومطلقة في عدم
المماثل.
وأنت خبير بان
هذه الروايات المذكورة ما عدا صحيحة منصور المشار إليها ورواية عمرو بن خالد ما
بين مطلق في وجود المماثل وعدمه وبين مقيد بعدم وجود المماثل ومطلق بالنسبة إلى
الثياب وعدمها أو مقيد بكونه من وراء الثياب ، وقضية الجمع المتكررة في كلامهم حمل
مطلقها في كل من الأمرين على مقيدها. وبه يظهر قوة القول المشهور وانه المؤيد
المنصور نعم يبقى الكلام في صحيحة منصور ولم أجد بها قائلا سوى ما يظهر من صاحب
المدارك حيث قال بعد نقل القولين المتقدمين : «والأظهر الجواز مطلقا تمسكا بمقتضى
الأصل وصحيحة منصور» ثم ساق الرواية المذكورة. وأنت خبير بان هذه الرواية وان صح
سندها ولأجله عمل بها في المدارك حيث انه يدور مدار الأسانيد المتصلة في العمل
بهذا الاصطلاح إلا انها ـ كما عرفت في المسألة السابقة ـ معارضة بأخبار تغسيل
الرجل امرأته ، فإن جملة منها قد اشتملت على كون ذلك من وراء الثياب وبه قيد
مطلقها وجملة أخبار هذه المسألة على تعددها ومنها الصحيح والحسن والموثق وهي
مجتمعة ـ بناء على حمل مطلقها على مقيدها ـ على كون ذلك من وراء الثياب بشرط عدم
وجود المماثل والقول بمضمون هذه الرواية مناف لجملة روايات المسألتين ، وترجيحها
على جملة هذه الروايات بعيد غاية البعد ، فالأظهر هو القول المشهور سيما مع
أوفقيته بالاحتياط في الدين ورد هذه الرواية إلى قائلها.
(المسألة
الرابعة) ـ مما استثني من القاعدة المتقدمة أيضا عند جمهور الأصحاب
__________________
تغسيل الرجل بنت ثلاث سنين مجردة والمرأة ابن ثلاث سنين مجردا إلا ان الشيخ
في النهاية قيد ذلك بعدم وجود المماثل ، وقال في المبسوط : «الصبي إذا مات وله
ثلاث سنين فصاعدا فحكمه حكم الرجال سواء وان كان دونه جاز للاجنبيات غسله مجردا من
ثيابه وان كانت صبية لها ثلاث سنين فصاعدا فحكمها حكم النساء البالغات وان كانت
دون ثلاث جاز للرجال تغسيلها عند عدم النساء» وقال المفيد : «إذا كان الصبي ابن
خمس سنين غسله بعض النساء الأجنبيات مجردا من ثيابه وان كان ابن أكثر من خمس سنين
غسلنه من فوق ثيابه وصببن عليه الماء صبا ولم يكشفن له عورة ودفنه بثيابه بعد
تحنيطه ، وان ماتت صبية بين رجال ليس لها فيهم محرم وكانت بنت أقل من ثلاث سنين
جردوها من ثيابها وغسلوها وان كانت أكثر من ثلاث سنين غسلوها في ثيابها وصبوا
عليها الماء صبا وحنطوها بعد الغسل ودفنوها في ثيابها» وبه قال سلار ، وجوز الصدوق
تغسيل بنت أقل من خمس سنين مجردة ، ومنع المحقق في المعتبر من تغسيل الرجل الصبية
مطلقا وجوز للمرأة تغسيل ابن الثلاث اختيارا واضطرارا نظرا الى ان الشارع اذن في
اطلاع النساء على الصبي لافتقاره إليهن في التربية بخلاف الصبية والأصل حرمة
النظر.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في هذه المسألة منه ـ ما رواه المشايخ الثلاثة عن ابي النمير مولى
الحارث بن المغيرة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) حدثني عن الصبي إلى كم تغسله النساء؟ قال الى ثلاث
سنين». وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن الصبي تغسله امرأة؟ فقال انما تغسل الصبيان النساء ، وعن
الصبية ولا تصاب امرأة تغسلها؟ قال يغسلها رجل اولى الناس بها». وما رواه في
التهذيب عن محمد بن احمد مرسلا قال : «روى في الجارية تموت مع الرجل فقال إذا كانت بنت
أقل من خمس سنين أو ست دفنت ولم تغسل». وحكم المحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى
بان هذا الحديث مضطرب الاسناد والمتن. أقول : نقل
__________________
عن ابن طاوس انه قال «لفظ أقل هنا وهم» وهو جيد ، ويؤيده ما ذكره في الذكرى
قال : «وفي جامع محمد بن الحسن إذا كانت ابنة أكثر من خمس سنين أو ست سنين دفنت
ولم تغسل وان كانت ابنة أقل من خمس سنين غسلت ، قال وأسند الصدوق في كتاب المدينة
ما في الجامع إلى الحلبي عن الصادق (عليهالسلام)» ونقل الصدوق في الفقيه عن الجامع كما في الذكرى قال
وذكر عن الحلبي حديثا في معناه عن الصادق (عليهالسلام).
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الظاهر انه لا إشكال في تغسيل النساء ابن ثلاث سنين لاتفاق خبري أبي
النمير وعمار عليه بحمل إطلاق خبر عمار على مقيد خبر ابي النمير مضافا الى اتفاق
الأصحاب كما عرفت من نقل الأقوال المتقدمة ، واما تغسيل الرجل بنت ثلاث سنين أو
أزيد فالمعتمد فيه على الرواية المشار إليها في الجامع وان كانت مرسلة وكذا في
كتاب مدينة العلم كما صرح به في الذكرى ، ويعضدها ايضا ان الظاهر ان جواز الغسل
تابع لحل النظر واللمس ولا ريب في جوازهما الى الصغير والصغيرة في حال الحياة
فيكون كذلك في حال الموت بعين ما تقدم من كلامهم في الزوجين ، وبذلك يظهر ما في
دعوى صاحب المعتبر من استناده في تحريم تغسيل الرجل الصبية مطلقا الى ان الأصل
حرمة النظر فان هذا الأصل ممنوع لعدم الخلاف نصا وفتوى في جواز النظر في حال
الحياة وتحريمه هنا يحتاج الى دليل وإلا فالأصل بقاء الجواز ، وبالجملة فالظاهر هو
القول بما دلت عليه الأخبار المذكورة بعد تقييد مطلقها بمقيدها.
واعلم ان
المتبادر من تحديد السن هنا وفي الصلاة انما هو بالنسبة إلى الموت بان يموت على
نهاية الثلاث مثلا فلا اعتبار بما بعده وان طال ، فيمكن على هذا حصول الموت على
نهاية الثالثة ووقوع الغسل بعد ذلك ، فلا يشترط في صحة الحكم وقوع الغسل قبل تمام
الثالثة ، وبه يندفع ما ذكره المحقق الشيخ علي (رحمهالله) من ان ثلاث سنين إذا كان نهاية الجواز فلا بد من كون
الغسل واقعا قبل تمامها فإطلاق ابن ثلاث سنين يحتاج
الى التنقيح ، ثم قال : الا ان يصدق على من شرع في الثالثة انه ابن ثلاث
سنين انتهى فإنه مبني على ان نهاية تحديد السن بذلك الغسل وليس كذلك بل الموت كما
ذكرنا.
(المسألة
الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بل ادعى عليه في المعتبر ـ الإجماع
انه لا يغسل الرجل من ليس له بمحرم ولا المرأة من ليس لها بمحرم عدا ما تقدم في
مسألة الصبي والصبية ، وعن الشيخ انه صرح في النهاية والمبسوط والخلاف بسقوط
التيمم والحال هذه ، وبه قطع في المعتبر ، قال : «لان المانع من الغسل مانع من
التيمم وان كان الاطلاع مع التيمم أقل لكن النظر محرم قليله وكثيره» وعن المفيد (عطر
الله مرقده) وجوب التغسيل من وراء الثياب وكذا عن ابن زهرة وابي الصلاح إلا أنهما
أوجبا تغميض العينين.
والاخبار في
هذه المسألة في غاية الاختلاف إلا ان أكثرها وأصحها يدل على القول المشهور :
ومنها ـ ما
رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن علي الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) «انه سأله عن المرأة تموت في السفر وليس معها ذو محرم ولا نساء قال : تدفن
كما هي بثيابها. وعن الرجل يموت وليس معه إلا النساء ليس معهن رجال؟ قال : يدفن
كما هو بثيابه».
وعن عبد الله
بن ابي يعفور في الصحيح «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يموت في السفر مع النساء ليس معهن رجل كيف
يصنعن به؟ قال يلففنه لفا في ثيابه ويدفنه ولا يغسلنه».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري قال : «سألته عن امرأة ماتت مع رجال؟ قال تلف وتدفن ولا
تغسل».
ومنها ـ صحيحة
أبي الصباح الكناني ورواية داود بن سرحان وقد تقدمتا
__________________
في المسألة الثانية ، ومنها ـ موثقة سماعة ورواية زيد الشحام وقد تقدمتا في
المسألة الثالثة .
وهذه الروايات
كلها ظاهرة المقالة متعاضدة الدلالة في عدم الغسل والأمر بالدفن بثيابه.
ومنها ـ ما
رواه في التهذيب عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) «في رجل مات ومعه نسوة وليس معهن رجل؟ قال : يصببن الماء من خلف الثوب
ويلففنه في أكفانه من تحت الستر ويصلين عليه صفا ويدخلنه قبره. والمرأة تموت مع
الرجال ليس معهم امرأة؟ قال : يصبون الماء من خلف الثوب ويلفونها في أكفانها
ويصلون ويدفنون». وعن ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن امرأة ماتت في سفر وليس معها نساء ولا ذو محرم؟
فقال : يغسل منها موضع الوضوء ويصلى عليها وتدفن».
وعن جابر عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن المرأة تموت وليس معها محرم؟ قال يغسل
كفيها».
وعن عمرو بن
خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «اتى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نفر فقالوا ان امرأة توفيت معنا وليس معها ذو محرم؟
فقال كيف صنعتم بها؟ فقالوا صببنا الماء عليها صبا. فقال اما وجدتم امرأة من أهل
الكتاب تغسلها؟ فقالوا لا فقال أفلا يممتموها؟».
وعن المفضل بن
عمر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك ما تقول في المرأة تكون في السفر مع رجال
ليس فيهم لها ذو محرم ولا معهم امرأة فتموت المرأة ما يصنع بها؟ قال : يغسل منها
ما أوجب الله تعالى عليه التيمم ولا تمس ولا
__________________
يكشف شيء من محاسنها التي أمر الله تعالى بسترها. فقلت فكيف يصنع بها؟ قال
يغسل بطن كفيها ثم يغسل وجهها ثم يغسل ظهر كفيها».
وعن داود بن
فرقد قال : «مضى صاحب لنا يسأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة تموت مع رجال ليس فيهم ذو محرم هل يغسلونها
وعليها ثيابها؟ فقال اذن يدخل ذلك عليهم ولكن يغسلون كفيها».
وعن عمرو بن
خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهمالسلام) قال : «إذا مات الرجل في السفر مع النساء ليس فيهن
امرأته ولا ذو محرم من نسائه؟ قال يؤزرنه إلى الركبتين ويصببن عليه الماء صبا ولا
ينظرن الى عورته ولا يلمسنه بأيديهن. الحديث». وقد تقدم تمامه في سابق هذه المسألة
.
وعن أبي حمزة
عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا يغسل الرجل المرأة إلا ان لا توجد امرأة».
وعن عبد الله
بن سنان قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : المرأة إذا ماتت مع الرجال فلم يجدوا امرأة
تغسلها غسلها بعض الرجال من وراء الثوب ويستحب ان يلف على يديه خرقة».
وعن ابي سعيد قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا ماتت المرأة مع قوم ليس لها فيهم ذو محرم
يصبون عليها الماء صبا ، ورجل مات مع نسوة ليس فيهن له محرم فقال أبو حنيفة يصببن
الماء عليه صبا فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : بل يحل لهن ان يمسسن منه ما كان يحل لهن ان ينظرن
منه اليه وهو حي فإذا بلغن الموضع الذي لا يحل لهن النظر اليه ولا مسه وهو حي صببن
الماء عليه صبا».
أقول : هذا ما
وقفت عليه من اخبار المسألة ، والشيخ وجملة ممن تبعه قد حملوا
__________________
هذه الاخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم المطردة في جميع
الأبواب. وأنت خبير بما هي عليه من الاختلاف والاضطراب ومنافاة بعضها بعضا ، ففي
بعض التغسيل من وراء الثياب وفي آخر يغسل منها موضع الوضوء وفي ثالث يغسل كفيها
وفي رابع الأمر بالتيمم وفي خامس يغسل منها ما أوجب الله تعالى عليه التيمم وفي
سادس المنع من التغسيل من وراء الثوب الذي دل عليه بعضها والأمر بغسل الكفين خاصة
وفي سابع يؤزرنه إلى الركبتين ويصببن عليه الماء صبا ، ومن الظاهر البين ان العمل
بهذه الاخبار يتوقف أولا على الجمع بينها على وجه يندفع به التنافي ، وانى به سيما
مع ما تدل عليه من جواز النظر والمباشرة الذين لا ريب في تحريمهما خصوصا الرواية
الأخيرة الدالة على جواز مس النساء للرجل ما كان يحل لهن النظر اليه منه في حال
حياته. وبالجملة فالإعراض عنها وردها إلى قائلها هو الأظهر والعمل على هذه المسألة
على ما هو الأشهر. واما خبر أبي حمزة وخبر عبد الله بن سنان المذكور بعده فالظاهر
حملهما على المحارم فلا يكونان من اخبار هذه المسألة ، ويدل على ذلك قوله في
الثاني منهما : «ويستحب ان يلف على يديه خرقة» المشعر بجواز المس. والله العالم.
(المسألة
السادسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه مع تعذر المسلم والمحرم
يجوز ان يغسل الكافر المسلم وهكذا المرأة المسلمة تغسلها الكافرة إذا لم تكن مسلمة
ولا محرم ويكون ذلك بعد اغتسال الكافر والكافرة ، واستدلوا على ذلك بما رواه
المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قد تقدم صدره وفيه قال : «قلت فان مات رجل مسلم
وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات
ليس بينه وبينهن قرابة؟ قال يغتسل النصارى ثم يغسلونه فقد اضطر. وعن المرأة
المسلمة تموت وليس معها امرأة مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانية
ورجال مسلمون ليس بينها وبينهم
__________________
قرابة؟ قال تغتسل النصرانية ثم تغسلها. الحديث». ورواية عمرو بن خالد عن
زيد ابن علي المتقدمة في سابق هذه المسألة أقول : ويدل عليه ايضا ما ذكر في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وان مات ميت بين رجال نصارى ونسوة مسلمات غسله
الرجال النصارى بعد ما يغتسلون ، وان كان الميت امرأة مسلمة بين رجال مسلمين ونسوة
نصرانية اغتسلت نصرانية وغسلتها».
قال المحقق في
المعتبر بعد نقل الخبرين الأولين : «وعندي في هذا توقف والأقرب دفنها من غير غسل لان
غسل الميت يفتقر إلى النية والكافر لا تصح منه نية القربة ثم طعن في الحديث الأول
بأن السند كله فطحية وهو مناف للأصل والحديث الثاني بأن رجاله زيدية وحديثهم مطرح
بين الأصحاب. وفيه ما عرفت فيما تقدم في غير موضع من منافاة هذا الكلام لما قرره
في صدر كتابه مما ملخصه ان ضعف الخبر لا يوجب الطعن مع عمل الأصحاب به واتفاقهم
على القول بمضمونه ، والأمر هنا كذلك فإنه لم يظهر لهذا الحكم مخالف قبله وان تبعه
فيه بعده من تبعه ، ومتى ثبت قبول الخبرين فلا وجه لما ذكره من الكلام في أمر
النية فإنه متى دل الدليل على الجواز دل على صحة نية الكافر وصار الطعن بما ذكره
اجتهادا في مقابلة النص.
قال شيخنا
الشهيد (رحمهالله) في الذكرى بعد ذكر الحكم المذكور : «ولا اعلم مخالفا
لهذا من الأصحاب سوى المحقق في المعتبر محتجا بتعذر النية من الكافر مع ضعف السند.
وجوابه منع النية هنا أو الاكتفاء بنية الكافر كالعتق والضعف منجبر بالعمل ، فان
الشيخين نصا عليه وابنا بابويه وابن الجنيد وسلار والصهر شتى وابن حمزة والمحقق في
غير المعتبر وابن عمه نجيب الدين يحيى بن سعيد. نعم لم يذكره ابن ابي عقيل ولا
الجعفي ولا ابن البراج في كتابيه ولا ابن زهرة ولا ابن إدريس ولا الشيخ
__________________
في الخلاف ، وللتوقف فيه مجال لنجاسة الكافر في المشهور فكيف يفيد غيره
الطهارة؟» انتهى وهو جيد.
أقول : لا يخفى
ان الاخبار مختلفة في طهارة أهل الكتاب ونجاستهم وهذه الاخبار من جملة ما يدل على
الطهارة ، فمن ترجح عنده القول بالطهارة فلا اشكال عنده في هذه المسألة من هذه
الجهة ، ومن ترجح عنده القول بالنجاسة ـ كما هو الأظهر ـ فللتوقف في هذا الحكم
عنده مجال وان كان ظاهر الكل ممن قال بالطهارة أو النجاسة قد حكموا بصحة هذا الحكم
هنا ، وهو مشكل كما ذكره شيخنا المشار اليه.
فرع
قال في الذكرى
: «لو وجد بعد الغسل الاضطراري فاعل الاختياري فلا اعادة في غير من غسله كافر
للامتثال ، والأقرب الإعادة في الكافر لعدم الطهارة الحقيقية» انتهى أقول : هذه
الأقربية انما تتم على القول بنجاسة أهل الكتاب كما أشرنا إليه آنفا واما على
القول بطهارتهم فيصير الحكم فيه كسائر الافراد الاضطرارية من عدم وجوب الإعادة بل
لا يبعد القول بتعين الإعادة على القول بالنجاسة ، وبالجملة فإن من حكم بالأخبار
المذكورة وأوجب الغسل في الصورة المشار إليها من غير توقف عنده ولا اشكال فلا وجه
للقول بالإعادة عنده ، لأن المأمور به في تلك الحال هو الغسل على هذه الكيفية
وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء ، واما من توقف في العمل بالاخبار وحصل له الاشكال
بما ذكرناه في هذا المجال فلا ريب في تحتم الإعادة عنده لعدم حصول يقين البراءة
عنده بذلك الغسل ، وبه يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة في هذا المقام حيث انه بعد ان
ذكر المسألة وما ورد فيها من الخبرين المتقدمين ونقل عن المحقق استضعاف الخبرين
وان الكافر لا تصح منه القربة اعترضه فقال : «وفيه منع ، ثم قال : والظاهر عدم
العدول عن الخبرين لما أشرنا إليه آنفا من ان الظاهر جواز العمل بالأخبار الموثقة
خصوصا مع
اعتضادها بغيرها وبالشهرة بين الأصحاب وسلامتها من المعارض وتأيدها
بالعمومات ، ثم قال : وهل تجب اعادة الغسل لو وجد من يجوز له تغسيله من المسلمين؟
فيه قولان أقربهما نعم لأن المأمور به لم يوجد للتعذر فإذا ارتفع العذر لم يكن هنا
معدل عن وجوبه» وفيه ان مقتضى الكلام الأول صحة العمل بالخبرين المذكورين وقبولهما
من غير اشكال لما ذكره من المؤيدات ومقتضى ذلك عدم وجوب الإعادة ، وقوله في الكلام
الثاني : «لأن المأمور به لم يوجد» ان أراد المأمور به من ان يغسله مسلم فهو غير
مسلم لأن المأمور به في الحال المذكورة انما هو غسل الكافر لتعذر المسلم فالمسلم
غير مأمور به لتعذره وإلا للزم تكليف ما لا يطاق إذ الفرض تعذره فكيف يؤمر به
والحال كذلك؟ ومتى ثبت ان المأمور به في تلك الحال انما هو الكافر للخبرين
المذكورين المؤيدين عنده بما ذكر من وجوه التأييدات ثبت عدم الإعادة لأن امتثال
الأمر يقتضي الاجزاء والإعادة تحتاج الى دليل وليس فليس ، وهذا بحمد الله سبحانه
واضح لا شبهة فيه. والله العالم.
وفي المقام
فوائد (الأولى) ـ هل يصح الغسل من المميز أم لا؟ قولان ، وتفصيل الكلام في المقام
ان يقال ان غسل الميت ان كان انما هو لتطهيره من نجاسة الموت من غير ان تعتبر فيه
النية ـ كما هو أحد القولين في المسألة ـ فلا كلام في وقوعه من المميز فإنه كغسل
الثوب من النجاسة ، وان اعتبرنا فيه النية بناء على انه عبادة ـ كما هو المشهور
والمؤيد المنصور ـ فاحتمالان : أحدهما صحة ذلك لان المميز يصح منه نية القربة
ولأنه مأمور بالعبادة وهو يستلزم صحة نية القربة منه وإلا لامتنع الأمر له بذلك
واختار ذلك العلامة في بعض كتبه والمحقق في المعتبر ، والثاني العدم لعدم وقوع
النية منه على الوجه المعتبر شرعا لانه تمرين ، وبه قال الشهيد في الدروس ، وقال
في الذكرى : «المميز صالح لتغسيل الميت لصحة طهارته وامره بالعبادة ، ويمكن المنع
لان فعله تمرين والنية معتبرة» انتهى. وهو مؤذن بنوع توقف في ذلك. والظاهر عندي هو
الأول للأخبار الكثيرة الواردة في جواز عتق ابن عشر سنين ووصيته وصدقته ونحو ذلك ،
وسيأتي في المباحث الآتية ان شاء الله تعالى ما فيه مزيد تحقيق للمقام.
(الثانية) ـ منع
صاحب الفاخر من تغسيل الجنب والحائض الميت ، فإن أراد التحريم فهو مردود برواية يونس
بن يعقوب المتقدمة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تحضر الحائض الميت ولا الجنب عند التلقين ولا
بأس ان يليا غسله». وبه صرح ابن بابويه ، وقد تقدم نقل ذلك ايضا عن الفقه الرضوي .
(الثالثة) ـ إذا
فقد الزوج والنساء في المرأة ووجد الأب والجد فالمشهور ان الأب أولى لكونه هو
الاولى بالميراث ، ونقل عن ابن الجنيد ان الجد اولى لصلاحيته لولاية الأب ولتقديمه
في النكاح. ورد بأنه معارض بالقرب وتقدمه في الحضانة. والله العالم
(المقام الثاني)
ـ في المغسول وهو المسلم الغير الشهيد ويلحق به صدره منضما أو منفردا إجماعا نصا
وفتوى ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل :
(الأولى) ـ المشهور
بين المتأخرين ان كل مظهر للشهادتين وان لم يكن معتقدا للحق يجوز تغسيله عدا
الخوارج والغلاة فيغسله غسل المخالفين ، ولو تعذر معرفته غسله غسل الإمامية. وقال
المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : «ولا يجوز لأحد من أهل الايمان ان يغسل
مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه إلا ان تدعو ضرورة الى ذلك من جهة التقية»
واستدل له الشيخ في التهذيب بان المخالف لأهل الحق كافر فيجب ان يكون حكمه حكم
الكفار إلا ما خرج بدليل وإذا كان غسل الكافر لا يجوز فيجب ان يكون غسل المخالفين
ايضا غير جائز ، ثم قال : والذي يدل على ان غسل الكافر لا يجوز إجماع الإمامية
لأنه لا خلاف بينهم في ان ذلك محظور في الشريعة. أقول : وهذا القول عندي هو الحق
الحقيق بالاتباع لاستفاضة الأخبار بكفر المخالفين وشركهم ونصبهم ونجاستهم كما
أوضحناه بما لا مزيد عليه في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من
المطالب. وممن اختار هذا القول ابن البراج ايضا على ما نقل عنه ،
__________________
وهو لازم للمرتضى وابن إدريس لقولهما بكفر المخالف الا اني لم أقف على نقل
مذهبهما في هذه المسألة ، لكن ابن إدريس صرح بذلك في السرائر في مسألة الصلاة بعد
ان اختار مذهب المفيد في عدم جواز الصلاة على المخالف ، فقال ما هذا لفظه : «وهو
أظهر ويعضده القرآن وهو قوله تعالى : «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً ...» يعني الكفار ، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا»
وبذلك صرح جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل المولى محمد صالح المازندراني
في شرح أصول الكافي ، حيث قال : «ومن أنكرها يعني الولاية فهو كافر حيث أنكر أعظم
ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله» ومنهم ـ الفاضل المحقق المولى أبو الحسن الشريف
المجاور بالمشهد الغروي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام على ما وجدته في شرحه على
الكفاية وهو من أفضل تلامذة شيخنا المجلسي ، حيث ان صاحب الكتاب المذكور ممن يحكم
بإسلام المخالفين تبعا للمشهور بين المتأخرين حيث قال في مطاوي كلام له : «وليت
شعري أي فرق بين من كفر بالله ورسوله ومن كفر بالأئمة؟ مع ان كل ذلك من أصول الدين
الى ان قال : ولعل أصل الشبهة عندهم زعمهم كون المخالف مسلما حقيقة ، وهو توهم
فاسد مخالف للاخبار المتواترة ، والحق ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في
النار ، ثم نقل بعض الاخبار الدالة على ذلك ثم قال : ان الاخبار أكثر من ان تحصى
وليس هذا موضع ذكرها وقد تعدت عن حد التواتر ، وعندي ان كفر هؤلاء من أوضح
الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهمالسلام)» انتهى كلامه. واما ما استدل به في الذكرى ـ ان محل
الغسل المسلم من قول الصادق (عليهالسلام): «اغسل كل الموتى إلا من قتل بين الصفين» . ـ ففيه انه على عمومه غير معمول عليه لتصريحهم
باستثناء بعض الموتى كما قدمنا نقله عنهم في صدر المسألة فكما استثنى من ذكروه
بالأدلة الدالة على الكفر فكذا ما ندعيه للأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على كفر
هؤلاء المذكورين ، وليس هذا موضع ذكرها ومن أحب الوقوف
__________________
عليها فليرجع الى كتابنا المذكور آنفا. وقال صاحب المدارك هنا بعد ان نقل
كلام الشيخين المذكورين ما لفظه : «والمسألة قوية الاشكال وان كان الأظهر عدم وجوب
تغسيل غير المؤمن» واقتفاه في الذخيرة أيضا فقال : «ولم اطلع على دليل يدل على
وجوب الغسل لكل مسلم ولا إجماع ههنا والأصل يقتضي عدم وجوب تغسيل غير المؤمن»
انتهى. ولا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما أسلفناه ، فإنه مع ثبوت الحكم بالإسلام
فالواجب اجراء جميع أحكامه ولو بالأدلة العامة ان لم توجد الخاصة بذلك الجزئي ،
والعمومات الدالة على غسل الميت موجودة ومع الحكم بإسلام المخالف فلا وجه للعدول
عنها. وبالجملة فإن الأصحاب في هذه المسألة بين قائلين اما بالإسلام فيجب الغسل
البتة أو بالكفر فلا يجب بل لا يجوز ، واحداث هذا القول في البين مما لا وجه له.
تنبيهات : (الأول)
ـ لا خلاف نصا وفتوى في ان المتولد من المسلم في حكم المسلم طفلا كان أو مجنونا أو
سقطا لأربعة أشهر فصاعدا ، وقد تقدم في المسألة الرابعة من المقام المتقدم جملة من اخبار غسل الصبي والصبية. واما ما يدل على حكم
السقط فجملة من من الاخبار ايضا ، ومنها ـ ما رواه في الكافي عن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل». وعن سماعة في
الموثق عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال : «سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل
واللحد والكفن؟ فقال كل ذلك يجب عليه». ورواه الشيخ في الموثق ايضا مثله بأدنى
تفاوت وما رواه الشيخ عن احمد بن محمد عمن ذكره قال : «إذا تم للسقط أربعة أشهر غسل. الحديث». وفي
الفقه الرضوي «وإذا أسقطت المرأة وكان السقط تاما غسل وحنط وكفن ودفن ، وان لم يكن تاما
فلا يغسل ويدفن بدمه ، وحد تمامه إذا اتى عليه أربعة أشهر». وبهذه العبارة عبر
الصدوق في الفقيه ، وقال في المدارك بعد ذكر
__________________
مرفوعة محمد بن احمد ثم موثقة سماعة ما لفظه : «ثم لا يخفى ان الحكم في
الرواية الثانية وقع معلقا على استواء الخلقة لا على بلوغ الأربعة اللهم الا ان
يدعى التلازم بين الأمرين وإثباته مشكل» انتهى. أقول : لا اشكال بحمد الملك
المتعال بعد ورود ذلك في اخبار الآل (عليهم صلوات ذي الجلال) ، ومنها ـ ما رواه في
الكافي في الموثق عن الحسن ابن الجهم قال : «سمعت أبا الحسن
الرضا (عليهالسلام) يقول : قال أبو جعفر (عليهالسلام) ان النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ثم تصير علقة
أربعين يوما ثم تصير مضغة أربعين يوما فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله تعالى ملكين
خلاقين فيقولان يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران. الحديث». وعن محمد بن
إسماعيل أو غيره قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) جعلت فداك ندعو للحبلى ان يجعل الله تعالى ما في بطنها
ذكرا سويا؟ قال تدعوا ما بينه وبين أربعة أشهر فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين ليلة
علقة وأربعين ليلة مضغة فذلك تمام أربعة أشهر ثم يبعث الله تعالى ملكين خلاقين.
الحديث». ونحو ذلك أيضا صحيحة زرارة .
وهذه الاخبار ـ
كما ترى ـ صريحة في انه بتمام الأربعة تمت خلقته ، وبذلك صرح (عليهالسلام) في الفقه الرضوي كما سمعت واماما رواه الشيخ عن محمد
بن الفضيل قال : «كتبت الى ابي جعفر (عليهالسلام) اسأله عن السقط كيف يصنع به؟ قال السقط يدفن بدمه في
موضعه». فحملها الشيخ ومن تبعه على من نقص عن الأربعة ، وهو جيد بقي الكلام في انه
بعد غسله هل يجب تكفينه أو يلف بخرقة ويدفن؟ قولان وبالأول صرح الشهيد في الذكرى
وجمع من الأصحاب وبالثاني المحقق ، والظاهر الأول لما عرفت من دلالة موثقة سماعة
على ذلك وكذا عبارة كتاب الفقه ، والظاهر ان المراد منه التكفين بالقطع الثلاث
لانه المتبادر من اللفظ.
__________________
ولو نقص السقط
عن الأربعة سقط غسله ، وذكر الأصحاب انه يجب لفه في خرقة ولم أقف على مستنده.
والمفهوم من عبارة كتاب الفقه هو انه يدفن بدمه من غير تعرض للفه ، وكذا رواية
محمد بن الفضيل المتقدمة المحمولة على ما قبل الأربعة.
(الثاني) ـ قيل
ويلحق بالمسلم أيضا في الحكم المذكور مسبيه ولقيط دار الإسلام أو دار الكفر وفيها
مسلم صالح للاستيلاد بحيث يمكن الحاقه به والطفل المتخلق من الزنا ، واستشكل
الشهيد الثاني في كون الطفل المسبي إذا كان السابي مسلما والطفل المتخلق من ماء
الزاني بحكم المسلم فيجب تغسيلهما ، نظرا الى الشك في تبعية المسبي في جميع
الأحكام وانما المعلوم تبعيته في الطهارة وعدم لحوق الثاني بالزاني شرعا ، والى
إطلاق الحكم بالتبعية وكون الثاني ولدا لغة فيتبعه في الإسلام كما يحرم نكاحه.
انتهى. وهو جيد
واما ابن الزنا
البالغ المظهر للإسلام فلا خلاف في وجوب تغسيله كما ادعاه في المنتهى إلا من قتادة
كما ذكره.
(الثالث) ـ المفهوم
من عبائر كثير من الأصحاب في غسل المخالف هو الجواز على كراهية حيث انهم صرحوا
بأنه يجوز غسله وصرحوا في المكروهات بأنه يكره ، والظاهر ان المراد من الجواز هنا
هو معناه الأعم فيدخل فيه الواجب ، قال شيخنا صاحب رياض المسائل : «وفي وجوب تغسيل
المخالف غير المحكوم بكفره كالناصب ونحوه خلاف والأكثر على الوجوب ، وما يظهر من
عبارات كثير من الأصحاب من الحكم بالجواز فالمراد به الجواز بالمعنى الأعم الشامل
للواجب ، وما في بعضها من الحكم بجوازه على كراهية ربما ظهر منه عدم الوجوب في
بادي الرأي وليس كذلك بل الكراهة في متعلقة اي التعرض لتغسيله مع وجود الغير من
المخالفين أو بمعنى نقص الثواب اي ان تغسيله ليس كتغسيله المؤمن في الأجر» انتهى.
وقال في المدارك ـ بعد قول المصنف في تعداد المكروهات : وان يغسل مخالفا فان اضطر
غسله غسل أهل الخلاف ـ ما لفظه : «المراد بالكراهة هنا معناها المتعارف في
العبادات ان ثبت وجوب تغسيل
المخالف وإلا كان تغسيله مكروها بالمعنى المصطلح أو محرما وقد تقدم الكلام
فيه ، واما تغسيله غسل أهل الخلاف فربما كان مستنده ما اشتهر من قولهم (عليهمالسلام) : «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم». ولا بأس به انتهى.
أقول : لا يخفى
ما في هذه الكلمات كملا من الاختلال والاضطراب والخروج عن جادة الحق والصواب ،
وذلك انه متى ثبت بالأدلة المروية وجوب تغسيل المسلمين وان الخطاب متوجه إلى كافة
المكلفين وان الغسل الشرعي الذي أمر به الشارع هو ان يكون على هذه الكيفية
المشهورة بين الإمامية فالواجب على من توجه اليه الخطاب من المسلمين الموجودين ان
يغسل هذا الميت المسلم بهذه الكيفية المنصوصة مخالفا كان أو مؤالفا فما ذكروه من
هذه الكراهة ومن التعبير بالجواز ومن التخصيص بحال الاضطرار فكله مما لا يعرف له
وجه وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، فإنهم كما أوجبوا إجراء أحكام الإسلام
على المخالف في حال الحياة من الحكم بطهارته ومناكحته وحقن ماله ودمه وموارثته
ونحو ذلك فكذا بعد الموت ، واي دليل دل على الفرق بين الحالين حتى يتم ما ذكروه من
هذه التخريجات؟ فان الجميع مرتب على الإسلام ، والقائلون بمنع تغسيله انما صاروا
اليه من حيث حكمهم بالكفر وهو ظاهر ، واما مع الحكم بالإسلام فكما انه لا فرق بينه
وبين المؤمن في حال الحياة في تلك الأحكام فكذلك بعد الممات إلا ان يدل دليل على
الفرق وليس فليس ، وأيضا فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل واي دليل على
كراهة غسل المخالف مع الحكم بإسلامه؟ فإن كان لمجرد كونه مخالفا فلأي شيء لم
يثبتوا هذه الكراهة في الأحكام المترتبة على الحياة بل جعلوه مثل المؤمن مطلقا؟
على ان الكراهة في العبادات انما هو باعتبار وقوع العبادة على أنواع بعضها أكثر
ثوابا وبعضها أقل ثوابا بالنسبة إلى أصل العبادة الخالية مما يوجب الراجحية أو
المرجوحية كما تقدم تحقيقه ، وهذا
__________________
مما لا مجال له في هذا المقام ، لان غسل المسلمين كملا واجب وهذا أحدهم ولم
يرد هنا ما يدل على أفضلية غسل نوع من أنواع المسلمين وأكثرية ثوابه واقلية آخر ،
ولو أريد باعتبار نقصان قدر المخالف وانحطاط درجته وان كان مسلما جرى ذلك في
الجاهل من المسلمين والمستضعفين بالنسبة إلى العالم الفاضل الورع مع انهم لم يصرحوا
هنا بالكراهة ، وأيضا فإنه على تقدير عدم الوجوب كما ذهب إليه في المدارك فإنه لا
معنى لهذه الكراهة التي ذكرها بالمعنى المصطلح لان محلها الأمور الراجحة الترك
الجائزة والغسل عندهم من العبادات الشرعية كما صرحوا به ، وحينئذ فإن تم الدليل
على وجوبه كان واجبا وان لم يثبت كان محرما ولا وجه للقول بالجواز فيه حتى يمكن
إجراء الكراهة بالمعنى المصطلح فيه. واما كون غسل المخالفين مخالفا لغسل الإمامية
فهو ايضا لا يسوغ لهم العدول عن الغسل الشرعي عندهم المأمورين به إذ الخطاب
المتعلق بهم والوجوب الذي لزمهم باعترافهم انما هو بهذا الغسل المعمول عليه عندهم
فالإتيان بغيره غير مبرئ للذمة ، واما ما ذكره المحقق من الضرورة فإنه لا معنى له
على القول بالإسلام ووجوب تغسيلهم كما هو مذهبه ، بل الضرورة إنما تتجه على مذهب
من قال بتحريم غسلهم كما تقدم في عبارة المفيد القائل بتحريم غسلهم لكفرهم ، فإنه
قد تلجئه التقية من المخالفين الى مداخلتهم ومساعدتهم في مثل هذا وغيره فيغسله
غسلهم ، واما من يوجب غسله كغيره من المؤمنين فإنه لا يجد بدا من القيام به لوجوبه
عليه كفاية أو عينا ان انحصر الأمر فيه ولا يتوقف تغسيله له على الضرورة ، نعم
ربما تكون الضرورة بالتقية ملجئة إلى الانتقال من غسله غسل أهل الحق إلى تغسيله
غسل المخالفين ، فالضرورة ليست متعلقة بأصل الغسل وانما هي بالانتقال من أحد
الفردين الى الآخر ، وبذلك يظهر ما في استدلاله في المدارك بالخبر المذكور على ذلك
فإنه لا معنى له وانما المستند التقية. وبالجملة فإني لا اعرف لهذه الكلمات
الملفقة في هذا المقام وجها يبتنى عليه الكلام وينتسق به النظام بل هو أظهر في
البطلان من ان يحتاج بعد ما ذكرناه الى مزيد بيان والله العالم.
(الرابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف في انه لا يجوز للمسلم تغسيل الكافر وان كان ذميا ولا تكفينه ولا دفنه
ولو كان من قرابته أبا أو اما أو نحوهما ، ونقل في الذكرى الإجماع عليه واستدل
بالآية وهي قوله سبحانه :
... وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...» قال وأولادهم يتبعونهم. أقول : ويدل على ذلك من الأخبار
ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار ابن موسى عن الصادق (عليهالسلام) : «انه سئل عن النصراني يكون في السفر وهو مع المسلمين
فيموت؟ قال لا يغسله مسلم ولا كرامة ولا يدفنه ولا يقوم على قبره وان كان أباه». ورواه
الصدوق بإسناده عن عمار مثله ، ورواه الكليني مثله الى قوله : «ولا يقوم على قبره»
. ونقل المحقق في المعتبر عن شرح الرسالة للمرتضى انه روى فيه عن يحيى بن
عمار عن الصادق (عليهالسلام) النهي عن تغسيل المسلم قرابته الذمي والمشرك وان يكفنه
ويصلي عليه ويلوذ به . وروى احمد بن ابي طالب الطبرسي في الاحتجاج عن صالح بن
كيسان : «ان معاوية قال للحسين (عليهالسلام) هل بلغك ما صنعنا بحجر بن عدي وأصحابه شيعة أبيك؟ فقال
(عليهالسلام) وما صنعت بهم؟ قال قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم. فضحك
الحسين (عليهالسلام) فقال خصمك القوم يا معاوية لكنا لو قتلنا شيعتك ما
كفناهم ولا غسلناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم». وعن المرتضى في شرح الرسالة انه
قال : «فان لم يك له من يواريه جاز مواراته لئلا ينتفخ» قال في الذكرى ـ بعد نقل
ذلك عن المرتضى والاحتجاج بقوله تعالى : «... وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً ...» وبتغسيل علي (عليهالسلام) أباه وبجواز تغسيله حيا ـ يرد بأن ما بعد الموت من
الآخرة لا من الدنيا ، ونمنع كون ذلك معروفا لانه لم يعلم التجهيز إلا من الشرع
فيقف على دلالة الشرع ، وأبو علي (عليهالسلام) قد قامت الأدلة القطعية على انه مات
__________________
مسلما وهذا من جملتها ، والغسل حيا للتنظيف لا للتطهير بخلاف غسل الميت.
انتهى. وهو جيد. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان الشهيد وهو الذي قتل بين
يدي الإمام (عليهالسلام) ومات في معركة الحرب ـ لا يغسل ولا يكفن وانما يصلى
عليه ويدفن ، قال في المعتبر : انه إجماع أهل العلم خلا سعيد بن المسيب والحسن
فإنهما أوجبا غسله لان الميت لا يموت حتى يجنب ، قال : ولا عبرة بكلامهما. وبنحو
ذلك صرح العلامة في المنتهى.
والأصل في هذه
المسألة عدة من الأخبار : منها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن ابان بن تغلب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يقتل في سبيل الله تعالى أيغسل ويكفن ويحنط؟
قال يدفن كما هو في ثيابه إلا ان يكون به رمق ثم مات فإنه يغسل ويكفن ويحنط ويصلى
عليه ، ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) صلى على حمزة وكفنه لانه كان قد جرد». ورواه في الفقيه
بطريقه الى ابان مثله.
وعن زرارة
وإسماعيل بن جابر في الصحيح عن الباقر قال : «قلت له كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟ قال نعم في
ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن كما هو ، ثم قال دفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي أصيب فيها ورداه النبي
بردائه فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه وصلى عليه سبعين صلاة وكبر عليه
سبعين تكبيرة».
وعن ابي مريم قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : الشهيد إذا كان به رمق غسل وكفن وحنط وصلي عليه
وان لم يكن به رمق دفن في أثوابه». ورواه في الفقيه بسنده الى ابي مريم مثله. وعن
ابان بن تغلب في الصحيح أو الحسن قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه
__________________
السلام) يقول : الذي يقتل في سبيل الله تعالى يدفن في ثيابه ولا يغسل الا
ان يدركه المسلمون وبه رمق ثم يموت بعد فإنه يغسل ويكفن ويحنط ، ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كفن حمزة في ثيابه ولم يغسله ولكنه صلى عليه».
وعن عمرو بن
خالد عن زيد بن علي عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) ينزع عن الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة
والمنطقة والسراويل إلا ان يكون اصابه دم فإن أصابه دم ترك ولا يترك عليه شيء
معقود إلا حل».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابي خالد قال : «اغسل كل شيء من الموتى الغريق وأكيل السبع وكل
شيء إلا ما قتل بين الصفين فان كان به رمق غسل وإلا فلا».
وعن عمرو بن
خالد عن زيد عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) عن علي (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه
وان بقي أياما حتى تتغير جراحته غسل».
وما رواه الشيخ
في الموثق عن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) لم يغسل عمار بن ياسر ولا هاشم بن عتبة المرقال
ودفنهما في ثيابهما ولم يصل عليهما». ورواه الصدوق مرسلا ثم قال : «هكذا روي لكن الأصل ان لا يترك أحد من الأمة
إذا مات بغير صلاة».
وقال في الفقه
الرضوي : «وان كان الميت قتيل المعركة في طاعة الله لم يغسل
ودفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه ولا ينزع منه من ثيابه شيء إلا انه لا يترك عليه
شيء معقود مثل الخف وتحل تكته ومثل المنطقة والفروة ، وان اصابه شيء من دمه لم
ينزع عنه شيء إلا انه يحل المعقود ، ولم يغسل إلا ان يكون به رمق ثم يموت بعد ذلك
فان
__________________
مات بعد ذلك غسل كما يغسل الميت وكفن كما يكفن الميت ولا يترك عليه شيء من
ثيابه ، وان كان قتل في معصية الله تعالى غسل كما يغسل الميت وضم رأسه الى عنقه
ويغسل مع البدن كما وصفناه في باب الغسل فإذا فرغ من غسله جعل على عنقه قطنا وضم
إليه الرأس وشده مع العنق شدا شديدا». انتهى.
أقول : والكلام
في هذه الأخبار العلية المنار يقع في مواضع (الأول) ـ المفهوم من جملة من اخبار
المسألة ان من قتل في معركة الجهاد السائغ ولو مع غيبة الإمام (عليهالسلام) كما إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام
فهو شهيد يجب ان يعمل به ما تضمنته هذه الاخبار ، ونقل عن الشيخين (نور الله
مرقديهما) تقييد ذلك بما إذا كان مع الإمام أو نائبه وتبعهما على ذلك أكثر
الأصحاب. وأنت خبير بأن جملة هذه الأخبار خالية من هذا التقييد وانما المذكور فيها
قتله في سبيل الله كما في صحيحتي ابان أو بين الصفين كما في رواية أبي خالد أو في
المعركة كما في الفقه الرضوي ، وبما ذكرناه صرح المحقق في المعتبر حيث قال بعد
اختياره ما اخترناه ونقل قول الشيخين وإيراد بعض أخبار المسألة ـ ما لفظه : «فاشتراط
ما ذكره الشيخان زيادة لم تعلم من النص» وهو حسن وبنحو ذلك صرح الشهيدان ايضا ،
ولا خلاف في انه لا يشمل غير هؤلاء ممن أطلقت الشهادة عليه.
(الثاني) ـ انه
قد ذكر جملة من الأصحاب بأنه قد أطلقت الشهادة في الأخبار على المقتول دون اهله
وماله وعلى المبطون والغريق وغيرهم والمراد به هنا ما هو أخص من ذلك. أقول :
الظاهر ان هذا التنبيه هنا مما لا حاجة إليه لأن مورد هذه الأخبار القتيل في سبيل
الله والقتيل بين الصفين وفي المعركة ونحو ذلك مما يختص بالفردين المتقدمين اعني
ما ذكره الشيخان ومن تبعهما من المقتول في معركة الإمام أو نائبه وما ذكره في
المعتبر من المجاهدين لمن دهم بلاد الإسلام ، والتعبير بالشهيد وان وقع في بعض
الأخبار إلا ان قرينة سياق باقي الخبر ظاهرة في كونه في الحرب كالأمر بنزع تلك
الأشياء عنه إلا ان يصيبها
الدم ونحو ذلك. نعم هذا التنبيه يصلح بالنسبة إلى عبائر الأصحاب حيث انهم
انما يعبرون في هذه المسألة بالشهيد.
(الثالث) ـ المفهوم
من كلام الأصحاب إناطة الفرق في الشهيد بين وجوب تغسيله وعدمه بالموت في المعركة
وعدمه فان مات في المعركة فلا غسل وان مات خارج المعركة غسل كغيره ، والمفهوم من
الروايات المذكورة اناطة الفرق بإدراكه وبه رمق وعدمه فإن أدرك وبه رمق غسل وإلا
فلا وهو أعم من ان يكون في معركة الحرب أم خارجها ، وعلى هذا فلو أدرك في المعركة
وبه رمق ثم مات بعد ذلك فمقتضى الاخبار انه يغسل لصدق إدراكه وبه رمق وعلى كلام
الأصحاب لا يغسل لصدق موته في المعركة والجمع بين الأخبار وكلامهم (رضوان الله
عليهم) لا يخلو من اشكال.
(الرابع) ـ اختلف
الأصحاب فيما يدفن مع الشهيد المذكور من لباسه ، فقال الشيخ يدفن معه جميع ما عليه
الا الخفين ، وقد روى انه إذا أصابهما الدم دفنا معه وقال في الخلاف يدفن بثيابه
ولا ينزع منه إلا الجلود. وقال الشيخ المفيد يدفن بثيابه التي قتل فيها وينزع عنه
من جملتها السراويل إلا ان يكون اصابه دم فلا ينزع عنه ويدفن معه وكذلك ينزع عنه
الفرو والقلنسوة وان أصابهما دم دفنا معه وينزع عنه الخف على كل حال. وقال ابن
بابويه في رسالته لا ينزع عنه شيء من ثيابه إلا الخف والفرو والمنطقة والقلنسوة
والعمامة والسراويل وان أصاب شيئا من ثيابه دم لم ينزع عنه شيء. وقال ابن الجنيد
ينزع عنه الجلود والحديد والفرو والمنسوج مع غيره ويخلع عنه السراويل إلا ان يكون
فيه دم. وقال سلار لا ينزع عنه إلا سراويله وخفه وقلنسوته ما لم يصب شيئا منها دم
فإن أصابها دم دفنت معه ولم تنزع. وقال ابن إدريس يدفن معه ما يطلق عليه اسم
الثياب سواء أصابها دم أو لم يصبها ، فاما غير الثياب فان كان سلاحا لم يدفن وان
اصابه الدم وان كان غيره وهو الفرو والقلنسوة والخف فإن أصاب شيئا من ذلك دمه فقد
اختلف قول أصحابنا فيه فبعض ينزعه وان كان قد اصابه دمه وبعض لا ينزعه إلا ان
يكون ما اصابه دمه فاما ان كان اصابه دمه فلا ينزعه. قال وهذا الذي يقوى
عندي. والمشهور بين المتأخرين هو دفنه بثيابه مطلقا أصابها الدم أو لم يصبها. واما
الجلود ونحوها من السلاح فإنها تنزع أصابها الدم أو لم يصبها لعدم صدق الثياب
عليها فلا تدخل في النصوص الدالة على انه يدفن بثيابه ويكون دفنها معه تضييعا.
ودعوى إطلاق الثوب على الجلود ممنوعة بأن المعهود عرفا هو المنسوج فينصرف إليه
الإطلاق. أقول : لا يخفى ان صحيحتي أبان قد دلتا على انه يدفن بثيابه ونحوهما صحيحة زرارة
وإسماعيل بن جابر ورواية أبي مريم وموثقة عمار وعبارة الفقه الرضوي وهي مطلقة في اصابة الدم وعدمه وشاملة للسراويل وغيرها
، واستثناء السراويل منها إلا إذا اصابه الدم ـ كما ذكره شيخنا المفيد والشيخ علي
بن بابويه وسلار ـ لا اعرف عليه دليلا إلا رواية عمرو بن خالد الاولى وقد اشتملت ايضا على الجلود وانها تنزع إلا ان يكون
أصابها الدم ، والمتأخرون حيث قصروا الحكم على الثياب ردوا هذه الرواية بضعف السند
ولم يعملوا بها ، ومثلها في ذلك كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي ، والظاهر انه هو مستند الشيخ علي بن
بابويه إلا ان عبارة كتاب الفقه خالية من استثناء السراويل ولعله سقط من نسخة
الكتاب الذي عندي فإنها كثيرة الغلط لما عرفت وستعرف من ان رسالة الشيخ علي بن
بابويه إنما أخذ جلها من الكتاب المذكور ، وبالجملة فالقول بمضمون الخبرين
المذكورين في الجلود غير بعيد حيث لا معارض لهما ، واما بالنسبة إلى السراويل كما دلت
عليه رواية عمرو بن خالد فالظاهر العمل في ذلك بالأخبار الكثيرة الدالة على الدفن
بثيابه أصابها الدم أو لم يصبها الشامل ذلك للسراويل وغيرها ، بل ظاهر كلامه في
كتاب الفقه الدفن في السراويل لقوله (عليهالسلام) بعد ان صرح أولا انه لا يترك عليه شيء معقود : «وتحل
تكته» والتكة انما هي في السراويل فهو ظاهر في الدفن فيها بعد حل التكة.
(الخامس) ـ المشهور
بين الأصحاب انه لا فرق في سقوط الغسل عن الشهيد
__________________
بين كونه جنبا أو غيره لإطلاق الأخبار المتقدمة أو عمومها ، وعن ابن الجنيد
انه يغسل ونسب هذا القول الى السيد المرتضى (رضياللهعنه) في شرح الرسالة محتجا
بإخبار النبي (صلىاللهعليهوآله) بغسل الملائكة حنظلة بن الراهب لمكان خروجه جنبا. وأجيب
عنه بان تكليف الملائكة بذلك لا يدل على تكليفنا. وربما استدل له ايضا بخبر العيص
عن الصادق (عليهالسلام) : «في الجنب يموت يغسل من الجنابة ثم يغسل بعد غسل
الميت». وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على محل النزاع فلا يعارض به إطلاق الأخبار
المتقدمة أو عمومها مع انه معارض بجملة من الأخبار الدالة على التداخل في الأغسال
كما سيأتي ان شاء الله تعالى في محلها ، ومنها ـ صحيحة زرارة قال : «قلت له ميت مات وهو جنب كيف يغسل وما يجزيه من
الماء؟ قال يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك عنه لجنابته ولغسل الميت لأنهما حرمتان
اجتمعتا في حرمة واحدة». وسيأتي بيان القول في خبر العيص ان شاء الله تعالى في
الموضع المشار اليه.
(السادس) ـ إطلاق
الاخبار المتقدمة يقتضي عدم الفرق في الشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن بين الصغير
والكبير ولا الرجل والمرأة ولا الحر والعبد ولا المقتول بالحديد أو الخشب أو الصدم
أو اللطم ولا بين من عاد سلاحه عليه فقتله وغيره ، كل ذلك عملا بالإطلاق المذكور ،
قيل انه كان في قتلي بدر وأحد أطفال كحارثة بن النعمان وعمرو بن ابي وقاص وقتل في
الطف مع الحسين (عليهالسلام) ولده المرضع ولم ينقل في ذلك كله غسل ، وروى : «ان رجلا أصاب نفسه بالسيف فلفه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بثيابه ودمائه وصلى عليه فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟
قال نعم وانا له شهيد». وبالجملة كل موجود في المعركة ميتا وفيه اثر القتل ، وانما
وقع الخلاف في من وجد كذلك خاليا من اثر القتل فحكم العلامة وجماعة ـ وقبلهم الشيخ
وجمع ممن تبعه
__________________
بل الظاهر انه هو المشهور ـ بكونه شهيدا ايضا عملا بالظاهر ولان القتل لا
يستلزم ظهور الأثر ، وقيل ليس بشهيد للشك في الشرط وأصالة وجوب الغسل ، ونسب الى
ابن الجنيد وظاهر الشهيدين في الذكرى والروض التوقف حيث اقتصرا على نقل الخلاف ،
وهو جيد لعدم النص في المسألة إلا ان مذهب ابن الجنيد هو الأوفق بالقواعد الشرعية.
(السابع) ـ صرح
جملة من الأصحاب بان عدم تكفين الشهيد كما ورد مشروط ببقاء ثيابه عليه كما تدل
عليه الاخبار من قولهم : «يدفن بثيابه» وإلا فلو جرد وجب تكفينه واستدل على ذلك
بصحيحة أبان بن تغلب الأولى الدالة على ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كفن عمه حمزة لأنه كان قد جرد. وما ذكروه جيد إلا ان
الرواية المذكورة لا تخلو من الإشكال لدلالة ما عداها من اخبار حمزة على انه دفن
بثيابه كما في صحيحة زرارة وإسماعيل بن جابر وان تضمنت ان النبي (صلىاللهعليهوآله) رداه بردائه ونحوها رواية أبي مريم ، ولعل وجه الجمع
بين الجميع حمل صحيحة أبان على انه جرد من بعض أثوابه فجعل (صلىاللهعليهوآله) الرداء الذي تضمنه الحديث الآخر قائما مقام ما جرد منه
وتممه بالإذخر كما في الخبر.
(الثامن) ـ ما
تضمنه حديث عمار ـ من ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) لم يصل على عمار ولا على هاشم المرقال ـ قد رده
الأصحاب لمخالفته للإجماع من وجوب الصلاة على الشهيد والاخبار الدالة على ذلك وقد
تقدم كلام الصدوق في ذلك ، وحمله الشيخ (رحمهالله) على وهم الراوي أولا ثم قال : ويجوز ان يكون الوجه فيه
ان العامة تروي ذلك عن علي (عليهالسلام) فخرج هذا موافقا لهم وجزم في موضع آخر بحمله على
التقية وهو جيد.
وقد روى في قرب
الاسناد عن أبي البختري وهب بن وهب
__________________
عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) لم يغسل عمار بن ياسر ولا عتبة يوم صفين ودفنهما في
ثيابهما وصلى عليهما».
(التاسع) ـ ما
تضمنه خبر عمرو بن خالد الثاني ـ من انه إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواروه في
ثيابه. إلخ ـ ظاهر المخالفة لجملة أخبار المسألة ولاتفاق الأصحاب من ان الدفن
بثيابه من غير غسل انما هو لمن لم يدرك وبه رمق وإلا فلو أدرك وبه رمق وجب تغسيله
كغيره وحمله الأصحاب على التقية لموافقته للعامة وهو جيد.
(العاشر) ـ ما
تضمنه خبر عمرو بن خالد الأول وكذا كلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه ـ من الأمر بحل ما كان معقودا عليه من اللباس الذي عليه
كالسراويل والخف على تقدير القول بدفنه فيه ونحوهما ـ مما لم يتعرض له الأصحاب في
هذا المقام فيما اعلم ، ويجب العمل بذلك لدلالة الخبرين المذكورين من غير معارض في
البين.
(الحادي عشر) ـ
ما تضمنه كلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه من
__________________
حكم من قتل في معصية من انه يغسل ويضم رأسه الى عنقه. الى آخره قد ورد ايضا
فيما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن العلاء بن سيابة قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن رجل قتل فقطع رأسه في معصية الله تعالى أيغسل
أم يفعل به ما يفعل بالشهيد؟ فقال إذا قتل في معصية الله يغسل أولا منه الدم ثم
يصب عليه الماء صبا ولا يدلك جسده ويبدأ باليدين والدبر ، وتربط جراحاته بالقطن
والخيوط ، فإذا وضع عليه القطن عصب وكذلك موضع الرأس يعني الرقبة ويجعل له من
القطن شيء كثير ويذر عليه الحنوط ثم يوضع القطن فوق الرقبة وان استطعت ان تعصبه
فافعل قلت فان كان الرأس قد بان من الجسد وهو معه كيف يغسل؟ فقال يغسل الرأس إذا
غسل اليدين والسفلة بدأ بالرأس ثم بالجسد ثم يوضع القطن فوق الرقبة ويضم إليه
الرأس ويجعل في الكفن ، وكذلك إذا صرت الى القبر تناولته مع الجسد وأدخلته اللحد
ووجهته للقبلة».
فروع : (الأول)
ـ من قتله البغاة من أهل العدل لا يغسل ولا يكفن لما تقدم من عدم تغسيل علي (عليهالسلام) عمار بن ياسر وعتبة ، ومن قتله أهل العدل من البغاة
فإنه لا يغسل ايضا ولا يكفن لانه عندنا كافر ، صرح بذلك الشيخ في المبسوط والخلاف
، وعن الشيخ في السير من الخلاف فإنه يغسل ويصلى عليه ، وهو ضعيف.
(الثاني) ـ قطاع
الطريق يغسلون ويصلى عليهم لان الفسق لا يمنع هذه الأحكام ، صرح بذلك في المعتبر.
(الثالث) ـ لو
اشتبه موتى المسلمين بالكفار في غير الشهداء قال في الذكرى : الوجه وجوب تغسيل
الجميع لتوقف الواجب عليه ، قال : ولو تميز بأمارة قوية عمل عليها وحينئذ لو مس
أحدهم بعد غسله وجب الغسل بمسه لجواز كونه كافرا ، ويمكن عدمه للشك في الحدث فلا
يرفع يقين الطهارة ، اما لو مس الجميع فلا إشكال في الوجوب.
__________________
(الرابع) ـ قال
في المعتبر : «لوجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر فان كان في دار الإسلام غسل
وكفن وصلى عليه وان كان في دار الكفر فهو بحكم الكافر لان الظاهر انه من أهلها ولو
كان فيه علامات المسلمين لانه لا علامة إلا ويشارك فيها بعض أهل الكفر».
(المسألة
الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل الظاهر انه لا خلاف فيه ـ انه لو وجد بعض
الميت فان كان فيه الصدر أو كان الصدر وحده وجب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه
، وان لم يكن وكان فيه عظم غسل ولف في خرقة ودفن. وأطلق العلامة (رحمهالله) في جملة من كتبه ان صدر الميت كالميت في جميع أحكامه ،
وقال في المنتهى : ولو وجد بعض الميت فان كان فيه عظم وجب تغسيله بغير خلاف بين
علمائنا ويكفن وان كان صدره صلى عليه ، ثم استدل بصحيحة علي بن جعفر الآتية ، الى
ان قال : أما لو لم يكن فيها عظم فإنه لا يجب غسلها وكان حكمها حكم السقط قبل
أربعة أشهر وكذا البحث لو أبينت القطعة من حي. انتهى ملخصا. وقال في المعتبر : إذا
وجد بعض الميت وفيه الصدر فهو كما لو وجد كله وهو مذهب المفيد في المقنعة ، ثم ساق
البحث الى ان قال : والذي يظهر لي انه لا تجب الصلاة إلا ان يوجد ما فيه القلب أو
الصدر واليدان أو عظام الميت ثم استدل بصحيحة علي بن جعفر الآتية ثم ذكر رواية
البزنطي ورواية الفضل بن عثمان الأعور. وقال الشهيد في الذكرى : وما فيه الصدر
يغسل لمرفوعة رواها البزنطي ، ثم ساق متن الرواية وقال : وهو يستلزم أولوية الغسل
، ثم نقل رواية الفضل بن عثمان. وقال بعدها : ولشرف القلب لمحلية العلم والاعتقاد
الموجب للنجاة ، ثم قال : وكذا عظام الميت تغسل لخبر علي بن جعفر عن أخيه ، ثم قال
: وكذا تغسل قطعة فيها عظم ، ذكره الشيخان واحتج عليه في الخلاف بإجماعنا وبتغسيل
أهل مكة واليمامة يد عبد الرحمن بن عتات ألقاها طائر من وقعة الجمل عرفت بنقش
خاتمه وكان قاطعها الأشتر ثم قتله فحمل يده عقاب أو نسر. وقال في المختلف : «إذا
وجد بعض الميت
فان كان الصدر فحكمه حكم الميت يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه ويدفن ، وان
كان غيره فان كان فيه عظم غسل وكفن من غير صلاة وان لم يكن فيه عظم لف في خرقة
ودفن من غير غسل ولا صلاة هذا هو المشهور بين علمائنا. وقال ابن الجنيد : ولا يصلى
على عضو الميت والقتيل إلا ان يكون عضوا تاما بعظامه أو يكون عظما مفردا ويغسل ما
كان من ذلك لغير الشهيد كما يغسل بدنه ولم يفصل بين الصدر وغيره. وقال علي ابن
بابويه : فان كان الميت أكيل السبع فاغسل ما بقي منه وان لم يبق منه إلا عظام
جمعتها وغسلتها وصليت عليها ودفنتها».
أقول : والذي
وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة : منها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في
الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يأكله السبع أو الطير فتبقى
عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن». وزاد في الكافي
والتهذيب «وإذا كان الميت نصفين صلى على النصف الذي فيه القلب».
وما رواه في
الفقيه عن الفضل بن عثمان الأعور عن الصادق عن أبيه (عليهماالسلام) في الرجل يقتل فيوجد رأسه في قبيلة ووسطه وصدره ويداه
في قبيلة والباقي منه في قبيلة؟ قال ديته على من وجد في قبيله صدره ويداه والصلاة
عليه».
وروى المحقق في
المعتبر عن البزنطي في جامعه عن احمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابنا يرفعه قال : «المقتول إذا قطع أعضاؤه يصلى على العضو
الذي فيه القلب».
والروايات
باعتبار الصلاة في هذه المسألة كثيرة لكنها على غاية من الاختلاف والاضطراب كما
سيأتي البحث فيها ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة ، والأصحاب أوردوا منها ههنا
هذه الروايات الثلاث ، وتقريب الاستدلال عندهم فيما عدا صدر
__________________
صحيحة علي بن جعفر من هذه الاخبار انها دلت على وجوب الصلاة على الصدر
والعضو الذي فيه القلب ، ووجوب الصلاة مستلزم لوجوب الغسل بطريق اولى كما يفهم من
عبارة الذكرى المتقدمة. ولا يخلو من الاشكال سيما بناء على ما يفهم من ظاهر صحيحة
علي بن جعفر على رواية الشيخين المشار إليهما آنفا ، من دلالة صدرها على وجوب
الغسل والتكفين والصلاة والدفن بالنسبة إلى عظام الميت الخالية من اللحم من حيث
انها مجموع بدن الميت كما تفيده اضافة الجمع ، ودلالة عجزها بالنسبة إلى النصف
الذي فيه القلب على الصلاة خاصة ولم يتعرض لذكر الغسل ولا التكفين ، والدفن وان لم
يذكر إلا انه يفهم من أدلة أخر ، والى ما ذكرناه أشار في المدارك ايضا فقال بعد
نقل رواية الفضل بن عثمان ومرفوعة أحمد بن محمد بن عيسى : «وهاتان الروايتان مع
ضعف سندهما إنما تدلان على وجوب الصلاة على الصدر واليدين والعضو الذي فيه القلب
خاصة واستلزام ذلك وجوب الغسل والتكفين ممنوع» انتهى. نعم وجوب الصلاة خاصة من غير
غسل ولا تكفين لا يخلو من استبعاد بالنسبة إلى القواعد الشرعية. وبالجملة فإني لم
أقف في الاخبار على ما يتضمن الأمر بالغسل في هذه المسألة إلا على صحيحة علي بن
جعفر المتقدمة ونحوها في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وان كان الميت اكله السبع فاغسل ما بقي منه وان لم
يبق منه إلا عظام جمعتها وغسلتها وصليت عليها ودفنتها». وما تقدم نقله عن علي بن
بابويه عين عبارة كتاب الفقه وهو مصداق ما ذكرناه في غير موضع من اعتماد الصدوقين
على هذا الكتاب وأخذ عبائره والإفتاء بها ، وظاهر صدر هذه العبارة هو غسل ما يبقى
منه بعد أكل السبع كائنا ما كان وظاهر عجزها الصلاة على عظامه كما في صحيحة علي بن
جعفر ، ويحمل على العظام كملا كما يستفاد من تلك الصحيحة بحمل قوله : «وان لم يبق
منه الا عظام» على إرادة أكل اللحم خاصة وبقاء العظام ، فيكون متفقا مع تلك
الصحيحة على وجوب تلك
__________________
الأحكام في عظام الميت كملا ، وهذا أقصى ما يمكن الحكم به من الأحكام
المذكورة مضافا الى اتفاق الأصحاب في هذه الصورة وما ذكر من حكم الصدر أو القلب ،
فلا ريب ان كلام الأصحاب هو الأوفق بالاحتياط وان كان في استنباطه من الاخبار
المذكورة نوع غموض وخفاء سيما مع اختلافها فيما يصلى عليه من الميت. ولو جعل الغسل
تابعا للصلاة وحاصلا من الأمر بها بطريق الأولوية كما ذكره شيخنا الشهيد لا شكل
عليهم ذلك في العظم المجرد كما دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «إذا قتل قتيل فلم يوجد إلا لحم بلا عظم لم يصل
عليه وان وجد عظم بلا لحم صلى عليه». فان ظاهرها الصلاة على العظم المجرد ويلزم
منه وجوب غسله مع انه لا قائل بشيء منهما فيه ، إلا انه يمكن تأويل هذه الرواية
بإرجاعها الى ما دلت عليه صحيحة علي بن جعفر من العظام كملا بان يكون المعنى انه
ان كان الموجود من هذا القتيل بعد قتله جميع لحمه إلا انه لا عظم فيه فإنه لا يصلى
عليه وان وجدت عظامه خالية من اللحم صلي عليها ، ولا بعد فيه إلا من حيث إطلاق
العظم وارادة المجموع ومثله في باب المجاز أوسع من ان ينكر ، وسيجيء تحقيق الكلام
في هذه الروايات ان شاء الله تعالى في محله من كتاب الصلاة ، قال في الذكرى : «ويلوح
ما ذكره الشيخان من خبر علي ابن جعفر لصدق العظام على التامة والناقصة» ورد بان
ظاهر الرواية ان الباقي جميع عظام الميت لأن إضافة الجمع يفيد العموم ، على انه لو
سلم تناولها للناقصة لم يتم الاستدلال بها على ما ذكره الشيخان لتضمنها وجوب
الصلاة مع تصريحهما بنفيها.
بقي ان ما ذكره
العلامة (قدسسره) من ان الصدر كالميت في جميع أحكامه مع الإغماض عن
المناقشة التي قدمنا ذكرها ، فإنه يشكل في وجوب الحنوط : (أولا) من حيث عدم
الدلالة على هذه الكلية والتصريح بذلك انما وقع في كلامهم لا في النصوص كما عرفت
وهي انما اشتملت هنا على الأمر بالصلاة ولكنهم ألحقوا بها
__________________
الغسل لزوما بطريق الأولوية وكذلك التكفين. و (ثانيا) ـ بعدم وجود محله ،
ومن ثم قال الشهيد (رحمهالله) في بعض تحقيقاته على ما نقل عنه على الإشكال في
التحنيط : «ان كانت محال الحنوط موجودة فلا إشكال في الوجوب وان لم تكن موجودة فلا
إشكال في العدم» وهو جيد.
هذا كله
بالنسبة الى ما عدا القطعة ذات العظم من حي أو ميت واما بالنسبة إليها كما ذكروه
من إيجاب الغسل فيها فإنه قد رده جملة من متأخري المتأخرين بعدم الدليل عليه من
الأخبار ، قال في المدارك بعد نقل القول بذلك عن الشيخين وأتباعهما : «واحتج عليه
في الخلاف بإجماع الفرقة واعترف جمع من الأصحاب بعدم الوقوف في ذلك على نص لكن قال
جدي ان نقل الإجماع من الشيخ كاف في ثبوت الحكم بل ربما كان أقوى من النص ، وهو مناف
لما صرح به في عدة مواضع من التشنيع على مثل هذا الإجماع والمبالغة ، وقد تقدم منا
البحث في ذلك مرارا. انتهى» أقول : فيه ايضا ان ما اعترض به على جده وارد عليه حيث
انه في غير موضع وافق الأصحاب على هذا الإجماع وان نازعهم في مواضع أخر. وبالجملة
فالظاهر انه لا دليل لهم على ذلك إلا الإجماع. وربما استدل على ذلك بكونها بعضا من
جملة يجب تغسيلها حين الاتصال فيجب بعده عملا بالاستصحاب. وفيه ـ مع كونه لا يجري
في القطعة المبانة من الحي والمدعى أعم منه ـ انه لو تم ذلك للزم منه وجوب تغسيل
غير ذات العظم بل العظم المجرد ولا قائل به ، وقد تقدم في فصل غسل المس ما يتعلق بهذه المسألة من حيث إيجاب الغسل بمس
القطعة المبانة من حي أو ميت.
وقد خطر هنا
الآن شيء بالبال مما يمكن الاحتجاج به والاستدلال في المسألتين المذكورتين ، وذلك
بان يقال انه قد روى المشايخ الثلاثة عن أيوب بن نوح في الصحيح عن بعض أصحابنا عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا قطع من الرجل قطعة
__________________
فهي ميتة فإذا مسه انسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل فان
لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه». والتقريب فيه ان يقال ان المراد بالميتة هنا ميتة
الإنسان لا مطلق الميتة ليتم تفريع قوله : «فإذا مسه انسان فكل ما كان فيه عظم.
الى آخر الخبر» وإذا ثبت إطلاق اسم ميتة الإنسان على القطعة المذكورة شرعا ثبت لها
الأحكام المتعلقة بميت الإنسان من التغسيل والتحنيط والتكفين والدفن وغير ذلك إلا
ما أخرجه الدليل والاقتصار هنا على تفريع وجوب غسل المس لا يوجب نفى ما سواه من
الأحكام ، ولعل تخصيصه بالذكر لأنه أخفى في الحكم وفرع في الوجوب على وجوب غسل
الميت لانه ورد في الأخبار معلقا على من مس أو غسل ميتا من الناس بالشرطين
المشهورين ، فهو مشروط بتحقق الميت من الناس وعند تحققه يجب تغسيله فيجب الغسل على
مغسله ، ومرجع ذلك الى دعوى لزوم وجوب غسل المس لوجوب غسل الميت وكونه فرعا في
الوجود عليه كما هو ظاهر الاخبار وكلام الأصحاب فكلما وجب الغسل بالموت وجب الغسل
بالمس ، فإيجاب غسل المس في الرواية للقطعة ذات العظم كاشف عن كونها مما يجب
تغسيلها تحقيقا للملازمة ، ومنه يظهر وجوب التغسيل في الصدر ونحوه. وبالجملة
فالاحتياط في أمثال هذه المقامات جيد وسبيله واضح.
وظاهر الأكثر
انه لا فرق في القطعة المبانة ذات العظم بين كونها من حي أو ميت ، وقطع في المعتبر
بدفن المبانة من حي من غير غسل مستندا إلى انها من جملة لا تغسل ولا يصلى عليها.
وأجاب عن ذلك في الذكرى بأن الجملة لم يحصل فيها الموت بخلاف القطعة. أقول : أنت
خبير بأن رواية أيوب بن نوح المذكورة مطلقة في القطعة المذكورة التي يجب بمسها
الغسل المترتب ذلك على وجوب غسلها كما عرفت ، ومنه يظهر قوة القول المشهور.
ولو خلت القطعة
من العظم فلا غسل ولا كفن ولا صلاة اتفاقا ، وأوجب سلار لفها في خرقة ودفنها ولم
يذكره الشيخان ، وصرح في المعتبر بعدم وجوب اللف للأصل.
(المسألة
الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان من وجب عليه القتل يؤمر
بالاغتسال والتحنيط والتكفين ثم يقام عليه الحد ولا يغسل بعد ذلك ، قال في الذكرى
: «ولا نعلم فيه مخالفا من الأصحاب».
أقول : ويدل
عليه ما رواه في الكافي عن مسمع كردين عن الصادق (عليهالسلام) قال : «المرجوم والمرجومة يغتسلان ويتحنطان ويلبسان
الكفن قبل ذلك ثم يرجمان ويصلى عليهما ، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغتسل ويتحنط
ويلبس الكفن ثم يقاد ويصلى عليه». ورواه الصدوق عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) مرسلا.
وقال (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «وان كان الميت مرجوما بدئ بغسله ونحنيطه وتكفينه ثم
يرجم بعد ذلك وكذلك القاتل إذا أريد قتله قودا». أقول : قد قدمنا في فصل غسل المس ما في هذه المسألة من الاشكال ولو لا اتفاق الأصحاب
قديما وحديثا على الحكم المذكور لأمكن المناقشة فيه لخروجه عن مقتضى القواعد
الشرعية والأصول المرعية كما تقدم التنبيه عليه.
تنبيهات : (الأول)
ـ هل يختص الحكم المذكور بزنا أو قود كما هو مورد الخبرين أو يشمل كل من وجب قتله؟
ظاهر الأصحاب الثاني وبه صرح في الذكرى للمشاركة في السبب. والأظهر الأول قصرا
للحكم المخالف للأصول ـ كما عرفت ـ على مورده.
(الثاني) ـ قد
عبر الأصحاب في هذه المسألة بأنه يؤمر من وجب عليه الحد بالاغتسال والتحنيط
والتكفين ، قالوا : والآمر هو الإمام أو نائبه. وأنت خبير بان الخبر الذي هو مستند
الحكم عندهم خال من ذلك وكذا الخبر الذي نقلناه وانما ظاهرهما وجوب ذلك على
المرجوم والمقتص منه ، نعم يمكن تخصيص الأمر بما إذا كان جاهلا بذلك فيؤمر به وإلا
فانا لا نعلم لهم مستندا لهذا الإطلاق.
__________________
(الثالث) ـ قال
شيخنا الشهيد الثاني في الروض «وفي تحتمه عليه أو التخيير بينه وبين غسله بعد
الموت لقيامه مقامه نظر ، هذا بالنسبة إلى الآمر اما المأمور فيجب عليه امتثال
الأمر ان وجد» أقول : قد عرفت ان النص خال من الأمر وان وجد ذلك في كلامهم. بقي
الكلام في دلالة الخبر على تقديمه الغسل هل هو عزيمة أو رخصة؟ وجهان أقربهما
الثاني ولعله أحوطهما أيضا لما عرفت آنفا.
(الرابع) ـ الظاهر
من الخبرين المتقدمين هو كون هذا الغسل الذي يقدمه مشتملا على الغسلات الثلاث وانه
غسل الأموات قد أمر بتقديمه وان كان حيا بدليل التحنيط والتكفين بعده ، واحتمل في
الروض الاكتفاء بغسل واحد. لكونه حيا وذلك الغسل مخصوص بالأموات ولأن الأمر لا
يقتضي التكرار وانما لم يغسل بعد ذلك للامتثال. والظاهر بعده.
(الخامس) ـ هل
يدخل تحت هذا الغسل مع تقديمه شيء من الأغسال ويحصل به التداخل كما في سائر
الأغسال الواجبة أم لا؟ جزم في الروض بالثاني قال : «اما عدم دخولها تحته فلعدم
نية الرفع أو الاستباحة فيه واما عدم دخوله تحتها فللمغايرة كيفية وحكما» وتردد
الشهيد في الذكرى لظاهر الأخبار الدالة على الاجتزاء بغسل واحد كخبر زرارة عن
الباقر (عليهالسلام) : «في الميت جنبا يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة
ولغسل الميت ولأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة.». وقيل عليه ان الظاهر ان
الخبر ليس من هذا في شيء ويمنع اجتماع الحرمتين لأصالة عدم تداخل المسببات مع
اختلاف الأسباب ، وتداخلها في بعض المواضع لنص خاص. أقول : والمسألة محل توقف
لاشتباه الحكم فيها.
(السادس) ـ لو
سبق موته قتله أو قتل بسبب آخر لم يسقط الغسل قطعا سواء بقي السبب الأول كالقصاص
مع ثبوت الرجم أم لا كما لو عفى عن القود لانه سبب
__________________
جديد ، وقوفا على ظاهر النص لان الحكم ـ كما عرفت ـ خارج عن مقتضى الأصول
فيقتصر فيه على مورد النص.
(السابع) ـ قالوا
: ولا يجب الغسل بعد موته لقيام الغسل المتقدم مقام الغسل المتأخر عن الموت
لاعتبار ما يعتبر فيه ، ولا يرد لزوم سبق التطهير على النجاسة لأن المعتبر أمر
الشارع بالغسل وحكمه بالطهر بعده وقد وجد الأمران ، وليست نجاسة الميت بسبب الموت
عينية محضة وإلا لم يطهر ، فعلم من ذلك ان تقديم الغسل يمنع من الحكم بنجاسته بعد
الموت لسقوط غسله بعده وما ذاك إلا لعدم النجاسة. أقول : لا ريب في صحة هذا الكلام
بعد ثبوت النص والقول بما دل عليه ، إلا انه مشكل لما قدمنا سابقا في بحث غسل المس
من ان هذه الرواية معارضة بجملة من الأخبار الصحيحة الصريحة في مواضع عديدة فلا
تبلغ قوة في تخصيصها ولكن إجماعهم على الحكم المذكور قديما وحديثا سد النزاع فيه ،
إلا انه روى في الكافي عن البرقي رفعه الى أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «أتاه رجل بالكوفة فقال يا أمير المؤمنين إني
زنيت فطهرني.» ثم ساق الخبر في حكاية رجمه وانه رجمه أمير المؤمنين والحسن والحسين
(عليهمالسلام) فمات الرجل قال : «فأخرجه أمير المؤمنين وأمر فحفر له
وصلى عليه فدفنه فقيل يا أمير المؤمنين ألا تغسله؟ فقال قد اغتسل بما هو طاهر الى
يوم القيامة ولقد صبر على أمر عظيم». فإنه ظاهر في عدم وجوب الغسل بعد الرجم ، إلا
ان الخبر غير خال من الاشكال حيث ان ظاهره ان الرجل لم يغتسل قبل الرجم ومع هذا
دفنه (عليهالسلام) بغير غسل ، قال شيخنا المجلسي في تعليقاته على الكافي
على هذا الخبر : «المشهور بين الأصحاب وجوب تغسيل المرجوم ان لم يغتسل قبل الرجم
ولعله (عليهالسلام) امره بالغسل قبل الرجم وان كان ظاهر التعليل عدمه ،
والله يعلم» وبالجملة فالخبر المذكور خارج عن مقتضى الأصول مضافا الى ضعف سنده فلا
اعتماد عليه ، والمرجع انما هو
__________________
ما أشرنا إليه من اتفاقهم على الحكم قديما وحديثا ويخرج الخبران المتقدمان
شاهدين على ذلك. والله العالم.
(المسألة
الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب ان المحرم إذا مات كالمحل إلا انه لا يقرب
بالكافور ، صرح به الشيخان وأتباعهما ، وعن ابن ابي عقيل والمرتضى في شرح الرسالة
انه لا يغطى رأسه ولا يقرب بالكافور.
ويدل على
المشهور روايات : منها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المحرم يموت كيف يصنع به؟ قال ان عبد الرحمن بن
الحسن مات بالأبواء مع الحسين (عليهالسلام) وهو محرم ومع الحسين عبد الله بن العباس وعبد الله بن
جعفر وصنع به كما يصنع بالميت وغطى وجهه ولم يمسه طيبا قال وذلك كان في كتاب علي (عليهالسلام)».
وما رواه الشيخ
عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن المحرم يموت؟ فقال يغسل ويكفن بالثياب
كلها ويغطى وجهه ويصنع به كما يصنع بالمحل غير انه لا يمس الطيب» ورواه الكليني
مثله إلا انه أسقط «ويغطى وجهه».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن عبد الله بن سنان في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المحرم يموت كيف يصنع به؟ فحدثني ان عبد الرحمن بن
الحسن مات بالأبواء مع الحسين بن علي (عليهماالسلام) وهو محرم ومع الحسين عبد الله ابن العباس وعبد الله بن
جعفر فصنع به كما يصنع بالميت وغطى وجهه ولم يمسه طيبا ، قال وذلك في كتاب علي (عليهالسلام)».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن المحرم إذا مات كيف يصنع به؟ قال يغطى
وجهه ويصنع به كما يصنع بالحلال غير انه لا يقربه طيبا». وعن محمد بن مسلم في
الصحيح عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) مثله .
__________________
وما رواه في
الكافي عن ابي مريم في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «توفي عبد الرحمن بن الحسن بن علي بالأبواء وهو
محرم ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله وعبيد الله ابنا العباس
فكفنوه وخمروا وجهه ورأسه ولم يحنطوه ، وقال هكذا في كتاب علي (عليهالسلام)».
وعن ابن أبي
حمزة عن ابي الحسن (عليهالسلام) «في المحرم يموت؟ قال يغسل ويكفن ويغطى وجهه ولا يحنط ولا يمس شيئا من
الطيب».
وهذه الأخبار
كلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على القول المشهور ، ونقل المحقق في المعتبر عن
المرتضى انه احتج بما روى عن ابن عباس «ان محرما وقصت به ناقته فذكر ذلك للنبي (صلىاللهعليهوآله) قال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه ولا تمسوه طيبا ولا
تخمروا رأسه فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا». وفي المختلف عن ابن ابي عقيل انه احتج
بأن تغطية الرأس والوجه مع تحريم الطيب مما لا يجتمعان والثاني ثابت فالأول منتف ،
ثم أطال في بيان هذه المقدمة. ولا يخفى ما في هذين التعليلين العليلين من الضعف
سيما في مقابلة النصوص المذكورة ، وليت شعري كأنهما لم يقفا على هذه النصوص ولم
يراجعاها وإلا فالخروج عنها الى هذه الحجج الواهية لا يلتزمه محصل.
وفي المقام
فوائد : (الاولى) ـ لا فرق في هذا الحكم بين إحرام الحج والعمرة مفردة كانت أو
متمتعا بها الى الحج ، كل ذلك للعموم ولا بين كون موته قبل الحلق والتقصير أو بعده
قبل طواف الزيارة لأن تحريم الطيب انما يزول به. اما لو وقع الموت بعد الطواف ففي
تحريمه عليه اشكال من صدق إطلاق المحرم عليه ومن حل الطيب له حيا فهنا اولى ،
وبالثاني صرح العلامة في النهاية. والمسألة محل توقف وان كان
__________________
ما اختاره في النهاية لا يخلو من قرب.
(الثانية) ـ لا
يلحق بالمحرم في هذا الحكم المعتدة عدة الوفاة ولا المعتكف من حيث تحريم الطيب
عليهما حيين ، لعدم الدليل على ذلك وبطلان القياس عندنا.
(الثالثة) ـ الظاهر
ان حكم الأعضاء التي يجب تغسيلها من الصدر والقلب ونحوهما حكم جميع البدن فيما
ذكر. وعن الشيخ في النهاية والمبسوط انه قطع بتحنيط ما فيه عظم ، قال وان كان موضع
الصدر صلى عليه ايضا.
(المقام الثالث)
ـ في الغسل وفيه فضل عظيم ، فعن الباقر (عليهالسلام) قال : «أيما مؤمن غسل مؤمنا فقال إذا قلبه : «اللهم ان
هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت روحه منه وفرقت بينهما فعفوك عفوك» إلا غفر الله له
ذنوب سنة إلا الكبائر». وعنه (عليهالسلام) قال : «من غسل ميتا مؤمنا فأدى فيه الامانة غفر الله
له. قيل وكيف يؤدي فيه الامانة؟ قال لا يخبر بما يرى ، وحده الى ان يدفن الميت»
هكذا رواه في الفقيه. واحتمل بعض المحدثين ان قوله : «وحده الى ان يدفن الميت»
من كلام الصدوق والمراد منه إخفاء ما يراه الى ان يدفن. وعن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما
من مؤمن يغسل مؤمنا ويقول وهو يغسله : «رب عفوك عفوك» إلا عفا الله تعالى عنه». وعن الباقر (عليهالسلام) قال : «كان فيما ناجى الله تعالى به موسى قال يا رب ما
لمن غسل الموتى؟ فقال اغسله من ذنوبه كما ولدته امه». وعن الصادق (عليهالسلام) : «من غسل ميتا فستر وكتم خرج من الذنوب كيوم ولدته امه».
وعن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في خطبة طويلة «من غسل ميتا فادى فيه الامانة كان له بكل شعرة منه عتق رقبة ورفع له مائة
درجة. قيل يا رسول الله وكيف يؤدي فيه الامانة؟ قال يستر عورته ويستر شينه وان لم
يستر عورته ويستر شينه حبط اجره وكشفت
__________________
عورته في الدنيا والآخرة».
والبحث في هذا
المقام يقع في موضعين (الأول) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجب امام
الغسل إزالة النجاسة عن بدنه ، قال في المنتهى انه لا خلاف فيه بين العلماء. قال
في المعتبر في الاستدلال على ذلك : لان المراد تطهيره وإذا وجب إزالة الحكمية عنه
فوجوب ازالة العينية أولى ، ولئلا ينجس ماء الغسل بملاقاتها ، ولما رواه يونس عنهم
(عليهمالسلام) : «امسح بطنه مسحا رفيقا فان خرج منه شيء فأنقه».
وقال في
المدارك ـ بعد قول المصنف : «ويجب إزالة النجاسة أولا» وبعد ان نقل عن العلامة انه
لا خلاف فيه بين العلماء ـ ما لفظه : «ويدل عليه روايات : منها ـ قوله (عليهالسلام) في رواية الكاهلي : «ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات».
وفي رواية يونس : «واغسل فرجه وانقه ثم اغسل رأسه بالرغوة». وقد يناقش
في هذا الحكم بان اللازم منه طهارة المحل الواحد من نجاسة دون نجاسة وهو غير
معقول. ويجاب بعدم الالتفات الى هذا الاستبعاد بعد ثبوت الحكم بالنص والإجماع ، أو
يقال ان النجاسة العارضة إنما تطهر بما يطهر غيرها من النجاسات بخلاف نجاسة الموت
فإنها تزول بالغسل وان لم يكن مطهرا لغيرها من النجاسات فاعتبر إزالتها أولا ليطهر
الميت بالغسل. وفي بعض نسخ الكتاب : ان هذه الأسباب من قبيل المعرفات ولا بعد في
رفع نجاسة الموت بالغسل وتوقف غيرها على ما يطهر به سائر النجاسات فيجب إزالتها
أولا ليطهر الميت بالغسل».
أقول : فيه (أولا)
ـ انه لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في كيفية غسل الميت ونظر فيها بعين
التأمل انه لا اثر لهذا الذي ذكره الأصحاب فيها من انه يجب إزالة النجاسة أولا وان
اشتهر ذلك في كلامهم ، واستدلال السيد السند (قدسسره)
__________________
على ذلك هنا بهاتين الروايتين عجيب منه (اما أولا) ـ فإن الماء المذكور
فيهما مضاف وهو لا يزيل النجاسة الخبثية ولا يطهرها بلا ريب ولا إشكال لأن هذا
الماء في الخبرين ماء الغسلة الاولى من الغسلات الثلاث. فان قيل : انهم اشترطوا في
الخليطين ان لا يخرج بهما الماء عن الإطلاق. قلنا : نعم ذلك هو المشهور ولكن الذي
اختاره السيد المذكور في المسألة ـ وهو الظاهر من الأخبار ـ عدم الاشتراط المذكور.
و (اما ثانيا) ـ فان سياق الخبرين المذكورين ـ وبه صرح جملة من الأصحاب ـ هو انه
يستحب غسل الفرج في كل غسلة من الغسلات الثلاث بذلك الماء الذي يغسل به بدنه ، حيث
قال (عليهالسلام) في رواية الكاهلي المذكورة : «ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات
وأكثر من الماء وامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول الى رأسه فابدأ بشقه الأيمن ، الى
ان قال بعد تمام الغسل بالسدر والحرض : ثم رده الى قفاه وابدأ بفرجه بماء الكافور
واصنع كما صنعت أول مرة ، ثم ساق الكلام الى ان قال في الغسل بالماء القراح : ثم
اغسله بماء قراح كما صنعت أولا : تبدأ بالفرج ثم تحول إلى الرأس. الحديث». واما رواية
يونس فقال (عليهالسلام) فيها : «واعمد الى السدر فصيره في طست وصب عليه الماء
واضربه بيدك حتى ترتفع رغوته واعزل الرغوة في شيء وصب الآخر في الإجانة التي فيها
الماء ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع ثم
اغسل فرجه ونقه ثم اغسل رأسه بالرغوة ، وساق الكلام في ذلك الى ان قال في الغسلة
الثانية بالكافور : ثم صب الماء في الآنية وألق فيها حبات كافور وافعل به كما فعلت
في المرة الأولى ابدأ بيديه ثم بفرجه ، ثم ساق الكلام الى ان قال في الغسلة
الثالثة : واغسله بماء قراح كما غسلته في المرتين الأولتين. الحديث». ومن الأخبار
في ذلك ايضا وان كان مجملا صحيحة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) وفيها «تبدأ بكفيه ورأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده
وابدأ بشقه الأيمن فإذا أردت أن تغسل
__________________
فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفها على يدك اليسرى ثم ادخل يدك من تحت الثوب الذي
على فرج الميت فاغسله من غير ان ترى عورته فإذا فرغت من غسله بالسدر. الحديث». وفي
رواية عبد الله بن عبيد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الميت قال تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه ويوضأ
وضوء الصلاة. الحديث». ورواية حريز قال : «أخبرني أبو عبد الله (عليهالسلام) قال : الميت يبدأ بفرجه ثم يوضأ وضوء الصلاة وذكر
الحديث». وبالجملة فالمفهوم من هذه الأخبار ونحوها ان غسل الفرج فيها انما هو من
حيث انه من مستحبات الغسل لا من حيث النجاسة. و (ثانيا) ـ ان ما ذكره في جواب
المناقشة المذكورة ـ من عدم الالتفات الى هذا الاستبعاد بعد ثبوت الحكم بالنص
والإجماع ـ فإن فيه ان النص لا وجود له كما عرفت واما الإجماع ففيه ما قدمه قريبا
في شرح قول المصنف : «وان لم يكن وكان فيه عظم غسل ولف في خرقة» حيث نقل ثمة
اعتراف جمع من الأصحاب بعدم النص على ذلك ونقل عن جده ان الشيخ قد نقل الإجماع على
ذلك وهو كاف في ثبوت الحكم ، ثم اعترضه بأنه مناف لما صرح به في عدة مواضع من
التشنيع على مثل هذا الإجماع والمبالغة في إنكاره ، ثم قال (قدسسره) : «وقد تقدم منا البحث في ذلك مرارا» فكيف يتم له
الاستناد إليه في هذا الحكم أو غيره؟ نعم الجواب الحق عن ذلك ما أجاب به ثانيا من
قوله : «أو يقال ان النجاسة العارضة إنما تطهر بما يطهر غيرها.» وتوضيحه انه لا شك
ان الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وحل وحرمة ونحوها موقوفة على التوقيف من
الشارع ، والمعلوم من الأخبار ان أفراد المطهرات متعددة بتعدد النجاسات فربما
اشتركت جملة من النجاسات في مطهر واحد كالبول والغائط والدم ونحوها فإنما يطهرها
الماء وفي الاستنجاء من الغائط ربما طهره الأحجار وربما اختص بعضها بمطهر مخصوص
كالشمس والأرض والنار ونحوها ، والمعلوم من الأخبار ان المطهر لنجاسة الميت
الحكمية
__________________
والعينية انما هو الغسل بالمياه الثلاثة خاصة ، فعلى هذا إذا أصاب بدنه
غائط أو دم أو بول أو نحوها فإنه يجب إزالته أولا بمطهره الذي هو الماء خاصة وان
كانت نجاسة الموت بعينها باقية حتى يحصل مطهرها المذكور ، إذ لو لم تزل هذه
النجاسة أولا لتنجس بها ماء الغسل ، ولا ضرورة هنا الى دعوى إجماع ولا إلى شيء من
الأخبار كما لا يخفى على من نظر بعين التدبر والاعتبار.
واما ما ذكره
في المعتبر ـ من قوله (عليهالسلام) في رواية يونس : «فان خرج منه شيء فأنقه». ـ فليس فيه دلالة على ما
ادعوه من وجوب الإزالة قبل الغسل لان هذا الكلام انما هو في الغسلة الثانية بماء
الكافور ، نعم فيه دلالة علي وجوب إزالة النجاسة عنه مطلقا وهو مما لا اشكال فيه
كما يدل عليه ايضا ما ورد من وجوب الإزالة بعد الغسل. وبالجملة فالإشكال المذكور
ضعيف لا وجه له بعد ما عرفت.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني في الروض : «والاولى الاستناد الى النص وجعله تعبدا ان حكمنا بنجاسة
بدن الميت كما هو المشهور وإلا لزم طهارة المحل الواحد من نجاسة دون نجاسة ، واما
على قول المرتضى فلا إشكال لأنه ذهب الى كون بدن الميت ليس بنجس بل الموت عنده من
قبيل الأحداث كالجنابة ، فحينئذ يجب إزالة النجاسة الملاقية لبدن الميت كما إذا
لاقت بدن الجنب» انتهى. وفيه ما عرفت من انه لا اثر لهذا النص المدعى بل ليس إلا
الإجماع ان تم ، وطهارة المحل الواحد من نجاسة دون اخرى متى اختلفت النجاستان
واختلف المطهران مما لا اشكال فيه ، فان نجاسة الموت العينية أمر سار في جميع
البدن لا يرتفع إلا بغسلة بالمياه الثلاثة ، ونجاسة البول والغائط ونحوهما الواقع
في بدن الميت مخصوصة بمحل الملاقاة ومطهرها هو الماء المطلق خاصة ، ولا بعد في
طهارة البدن من هذه النجاسة العارضية مع بقاء تلك النجاسة السارية في جميع اجزاء
البدن حتى يحصل مطهرها. واما ما ذكره ـ من انه على قول المرتضى لا إشكال
__________________
لانه ذهب الى كون بدن الميت ليس بنجس. إلخ ـ فقد اعترضه فيه سبطه في
المدارك بان المنقول عن المرتضى عدم وجوب غسل المس لا عدم نجاسة الميت ، قال : بل
حكى المصنف عنه في المعتبر في شرح الرسالة التصريح بنجاسته ، وعن الشيخ في الخلاف
انه نقل إجماع الفرقة على ذلك.
(الموضع الثاني)
ـ في كيفية الغسل ، وهي مشتملة على الواجب والمندوب والمكروه ، ولننقل جملة من
اخبار المسألة ثم نذيلها ان شاء الله تعالى ببيان ما اشتملت عليه من الأحكام وما
ينكشف به عن الأقسام الثلاثة المشار إليها نقاب الإبهام.
فمنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أردت غسل الميت فاجعل بينك وبينه ثوبا يستر
عنك عورته اما قميص واما غيره ثم تبدأ بكفيه ورأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده
وابدأ بشقه الأيمن ، فإذا أردت أن تغسل فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفها على يدك اليسرى
ثم ادخل يدك من تحت الثوب الذي على فرج الميت فاغسله من غير ان ترى عورته ، فإذا
فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخرى بماء وكافور وبشيء من حنوطه ثم اغسله بماء
بحت غسلة اخرى حتى إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب ثم جففته».
وعن الكاهلي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الميت فقال استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون
وجهه مستقبل القبلة ثم تلين مفاصله فان امتنعت عليك فدعها ، ثم ابدأ بفرجه بماء
السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات وأكثر من الماء وامسح بطنه مسحا رفيقا ، ثم تحول
الى رأسه فابدأ بشقه الأيمن من لحيته ورأسه ثم تثنى بشقه الأيسر من رأسه ولحيته
ووجهه فاغسله برفق وإياك والعنف واغسله غسلا ناعما ثم أضجعه على شقه الأيسر ليبدو
لك الأيمن ثم اغسله من قرنه الى قدمه وامسح يدك على ظهره وبطنه بثلاث غسلات ، ثم
رده على جنبه الأيمن حتى يبدو لك الأيسر فاغسله
__________________
بماء من قرنه الى قدمه وامسح يدك على ظهره وبطنه بثلاث غسلات ، ثم رده على
قفاه فابدأ بفرجه بماء الكافور فاصنع كما صنعت أول مرة : اغسله بثلاث غسلات بماء
الكافور والحرض وامسح يدك على بطنه مسحا رفيقا ، ثم تحول الى رأسه فاصنع كما صنعت
أولا بلحيته من جانبيه كليهما ورأسه ووجهه بماء الكافور ثلاث غسلات ، وأدخل يدك
تحت منكبيه وذراعيه ويكون الذراع والكف مع جنبيه ظاهرة كلما غسلت منه شيئا أدخلت
يدك تحت منكبيه وفي باطن ذراعيه ، ثم رده على ظهره ثم اغسله بماء قراح كما صنعت
أولا : تبدأ بالفرج ثم تحول إلى الرأس واللحية والوجه حتى تصنع كما صنعت أولا بماء
قراح. ثم أذفره بالخرقة ويكون تحتها القطن تذفره به إذفارا قطنا كثيرا ثم تشد
فخذيه على القطن بالخرقة شدا شديدا حتى لا يخاف ان يظهر شيء ، وإياك ان تقعده أو
تغمز بطنه وإياك ان تحشو في مسامعه شيئا ، فإن خفت ان يظهر من المنخر شيء فلا
عليك ان تصير ثم قطنا فان لم تخف فلا تجعل فيه شيئا ، ولا تخلل أظفاره. وكذلك غسل
المرأة».
وعن يونس عنهم (عليهمالسلام) قال : «إذا أردت غسل الميت فضعه على المغتسل مستقبل
القبلة ، فإن كان عليه قميص فاخرج يده من القميص واجمع قميصه على عورته وارفعه من
رجليه الى فوق الركبة وان لم يكن عليه قميص فالق على عورته خرقة ، واعمد الى السدر
فصيره في طست وصب عليه الماء واضربه بيدك حتى ترتفع رغوته واعزل الرغوة في شيء
وصب الآخر في الإجانة التي فيها الماء ، ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان
من الجنابة الى نصف الذراع ثم اغسل فرجه ونقه ثم اغسل رأسه بالرغوة وبالغ في ذلك واجتهد
ان لا يدخل الماء منخريه ومسامعه ، ثم أضجعه على جانبه الأيسر وصب الماء من نصف
رأسه الى قدمه ثلاث مرات وادلك بدنه دلكا رفيقا وكذلك ظهره وبطنه ، ثم أضجعه على
جانبه الأيمن وافعل به مثل ذلك ، ثم صب
__________________
ذلك الماء من الإجانة واغسل الإجانة بماء قراح واغسل يديك الى المرفقين ،
ثم صب الماء في الآنية وألق فيها حبات كافور وافعل به كما فعلت في المرة الأولى :
ابدأ بيديه ثم بفرجه وامسح بطنه مسحا رفيقا فان خرج شيء فأنقه ثم اغسل رأسه ثم
أضجعه على جنبه الأيسر واغسل جنبه الأيمن وظهره وبطنه ثم أضجعه على جنبه الأيمن
واغسل جنبه الأيسر كما فعلت أول مرة ثم اغسل يديك الى المرفقين والآنية وصب فيها
الماء القراح واغسله بالماء القراح كما غسلت في المرتين الأولتين ، ثم نشفه بثوب
طاهر واعمد الى قطن فذر عليه شيئا من حنوط وضعه على فرجه قبلا ودبرا واحش القطن في
دبره لئلا يخرج منه شيء ، وحذ خرقة طويلة عرضها شبر فشدها من حقويه وضم فخذيه ضما
شديدا ولفها في فخذيه ثم اخرج رأسها من تحت رجليه الى الجانب الأيمن وأغرزها في
الموضع الذي لففت فيه الخرقة وتكون الخرقة طويلة تلف فخذيه من حقويه الى ركبتيه
لفا شديدا».
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) : «انه سئل عن غسل الميت؟ قال تبدأ فتطرح على سوأته
خرقة ثم تنضح على صدره وركبتيه من الماء ثم تبدأ فتغسل الرأس واللحية بسدر حتى
تنقيه ثم تبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر وان غسلت رأسه ولحيته بالخطمي فلا بأس ،
وتمر يدك على ظهره وبطنه بجرة من ماء حتى تفرغ منهما ثم بجرة من كافور تجعل في
الجرة من الكافور نصف حبة ثم تغسل رأسه ولحيته ثم شقه الأيمن ثم شقه الأيسر وتمر
يدك على جسده كله وتنضب رأسه ولحيته شيئا ثم تمر يدك على بطنه فتعصره شيئا حتى
يخرج من مخرجه ما خرج ويكون على يديك خرقة تنقى بها دبره ، ثم ميل برأسه شيئا
فتنفضه حتى يخرج من منخره ما خرج ، ثم تغسله بجرة من ماء قراح فذلك ثلاث جرار فان
زدت فلا بأس وتدخل في مقعدته من القطن ما دخل ثم تجففه بثوب نظيف. وقال : الجرة
الأولى التي يغسل بها الميت بماء السدر والجرة الثانية بماء الكافور تفت فيها فتا
قدر نصف حبة والجرة الثالثة بماء قراح».
__________________
وعن يعقوب بن
يقطين في الصحيح قال : «سألت العبد الصالح (عليهالسلام) عن غسل الميت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : غسل
الميت يبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض ثم يغسل وجهه ورأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء
ثلاث مرات ، ولا يغسل إلا في قميص يدخل رجل يده ويصب عليه من فوقه ، ويجعل في
الماء شيئا من سدر وشيئا من كافور ، ولا يعصر بطنه إلا ان يخاف شيئا قريبا فيمسح
مسحا رفيقا من غير ان يعصر ، ثم يغسل الذي غسله يده قبل ان يكفنه الى المنكبين
ثلاث مرات ، ثم إذا كفنه اغتسل».
وعن عبد الله
بن عبيد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الميت؟ قال تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه ويوضأ
وضوء الصلاة ثم يغسل رأسه بالسدر والأشنان ثم بالماء والكافور ثم بالماء القراح
يطرح فيه سبع ورقات صحاح في الماء».
وعن سليمان بن
خالد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل الميت كيف يغسل؟ قال : بماء وسدر واغسل جسده
كله واغسله اخرى بماء وكافور ثم اغسله اخرى بماء. قلت ثلاث مرات؟ قال نعم. قلت فما
يكون عليه حين يغسله؟ قال ان استطعت ان يكون عليه قميص فيغسل من تحت القميص».
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن مسكان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن غسل الميت؟ فقال اغسله بماء وسدر ثم
اغسله على اثر ذلك غسلة اخرى بماء وكافور وذريرة ان كانت واغسله الثالثة بماء
قراح. قلت ثلاث غسلات لجسده كله؟ قال نعم قلت يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال ان
استطعت ان يكون عليه قميص فغسله من تحته ، وقال أحب لمن غسل الميت ان يلف على يده
الخرقة حين يغسله».
__________________
وعن علي بن
جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الميت هل يغسل في الفضاء؟ قال لا بأس
وان ستر بستر فهو أحب الي».
وعن عمرو بن
خالد عن زيد بن علي عن آبائه قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) وسئل عن الرجل يحترق بالنار فأمرهم أن يصبوا عليه الماء
صبا وان يصلى عليه».
وما رواه الشيخ
عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهالسلام) قال : «ان قوما أتوا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالوا يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور فان
غسلناه انسلخ؟ فقال يمموه».
وقال (عليهالسلام) في الفقه الرضوي : «وغسل الميت مثل غسل الحي من الجنابة إلا ان غسل الحي
مرة واحدة بتلك الصفات وغسل الميت ثلاث مرات على تلك الصفات : تبتدئ بغسل اليدين
الى نصف المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم الفرج ثلاثا ثم الرأس ثلاثا ثم الجانب الأيمن
ثلاثا ثم الجانب الأيسر ثلاثا بالماء والسدر ثم تغسله مرة أخرى بالماء والكافور
على هذه الصفة ثم بالماء القراح مرة ثالثة. فيكون الغسل ثلاث مرات كل مرة خمسة
عشرة صبة ولا يقطع الماء إذا ابتدأت بالجانبين من الرأس إلى القدمين ، فان كان
الإناء يكبر عن ذلك وكان الماء قليلا صببت في الأول مرة واحدة على اليدين ومرة على
الفرج ومرة على الرأس ومرة على الجنب الأيمن ومرة على الجنب الأيسر بإفاضة لا تقطع
الماء من أول الجانبين الى القدمين ، ثم عملت ذلك في سائر الغسل فيكون غسل كل عضو
مرة واحدة على ما وصفناه ، ويكون الغاسل على يديه خرقة ويغسل الميت من وراء الثوب
أو يستر عورته بخرقة». وقال (عليهالسلام) في موضع آخر من الكتاب ايضا : «ثم ضعه على مغتسله من قبل ان تنزع قميصه أو تضع على
فرجه خرقة ولين
__________________
مفاصله ثم تقعده فتغمز بطنه غمزا رفيقا ، وتقول وأنت تمسحه : «اللهم اني سلكت
حب محمد في بطنه فاسلك به سبيل رحمتك ويكون مستقبل القبلة ، ويغسله اولى الناس به
أو من يأمره الولي بذلك ، ويجعل باطن رجليه إلى القبلة وهو على المغتسل ، وتنزع
قميصه من تحته أو تتركه عليه الى ان تفرغ من غسله لتستر به عورته وان لم يكن عليه
قميص ألقيت على عورته شيئا مما تستر به عورته ، وتلين أصابعه ومفاصله ما قدرت
بالرفق وان كان يصعب عليك فدعه ، وتبدأ بغسل كفيه ثم تطهر ما خرج من بطنه ، ويلف
غاسله على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق يديه ثم تضجعه ويكون غسله من وراء ثوبه
ان استطعت ذلك وتدخل يدك تحت الثوب ، وتغسل قبله ودبره بثلاث حميديات ولا تقطع
الماء عنه ، ثم تغسل رأسه ولحيته برغوة السدر وتتبعه بثلاث حميديات ولا تقعده ان
صعب عليك ، ثم أقبله الى جنبه الأيسر ليبدو لك الأيمن ومد يدك اليمنى الى جنبه
الأيمن الى حيث تبلغ ثم اغسله بثلاث حميديات من قرنه الى قدمه فإذا بلغت وركه
فأكثر من صب الماء وإياك ان تتركه ، ثم اقلبه الى جنبه الأيمن ليبدو لك الأيسر وضع
بيدك اليسرى على جنبه الأيسر واغسله بثلاث حميديات من قرنه الى قدمه ولا تقطع
الماء عنه ، ثم اقلبه على ظهره وامسح بطنه مسحا رفيقا ، واغسله مرة أخرى بماء وشيء
من الكافور واطرح فيه شيئا من الحنوط مثل الغسلة الأولى ، ثم خضخض الأواني التي
فيها الماء واغسله الثالثة بماء قراح ولا تمسح بطنه في الثالثة ، وقل وأنت تغسله :
«عفوك عفوك» فإنه من قالها عفا الله تعالى عنه ، وعليك بأداء الأمانة فإنه روى عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) «انه من غسل ميتا مؤمنا فأدى فيه الامانة غفر له. قيل كيف يؤدي الأمانة؟
قال لا يخبر بما يرى» فإذا فرغت من الغسلة الثالثة فاغسل يديك من المرفقين إلى
أطراف أصابعك وألق عليه ثوبا تنشف به الماء عنه ، ولا يجوز ان يدخل الماء الذي
ينصب عن الميت من غسله في كنيف ولكن يجوز ان يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو في
حفيرة ، ولا
__________________
يقلمن أظافيره ولا يقص شاربه ولا شيئا من شعره فان سقط منه شيء من جلده
فاجعله معه في أكفانه ، ولا تسخن له ماء إلا ان يكون ماء باردا جدا فتوقي الميت
مما توقي منه نفسك ، ولا يكون الماء حارا شديدا وليكن فاترا» انتهى كلامه (عليهالسلام).
أقول : فهذه
جملة وافرة من الأخبار الجارية في هذا المضمار وبيان ما اشتملت عليه من الأحكام
يقع في مسائل :
(الأولى) ـ ما
اشتملت عليه هذه الاخبار ـ من التغسيل بالمياه الثلاثة على الترتيب المذكور فيها
بماء السدر ثم بماء الكافور ثم بالماء القراح ـ مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم)
لا اعلم فيه مخالفا إلا ما نقل عن سلار من الاكتفاء بغسل واحد وعن ظاهر ابن حمزة
من عدم وجوب الترتيب بينها ، وهما ضعيفان مردودان بما عرفت من الأخبار. ونقل عن
سلار الاحتجاج على ما نقل عنه بالأصل وبقوله (عليهالسلام) في رواية علي عن أبي إبراهيم قال : «سألته عن الميت يموت وهو جنب؟ قال غسل واحد». وهاتان
الحجتان بمكان من الضعف لأن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد تقدم ، والغسل
الواحد في الرواية المذكورة انما أريد به الاكتفاء بغسل الميت عن غسل الجنابة كما
دل على ذلك جملة من الأخبار فمعنى كونه واحدا يعني لا يتعدد بتعدد السبب فهو من
جملة أخبار تداخل الأغسال المستفيض في الأخبار وغسل الميت عندنا واحد وان اشتمل
على ثلاث غسلات. ونقل على الترتيب في المعتبر اتفاق فقهاء أهل البيت (عليهمالسلام).
(الثانية) ـ ما
دل عليه خبر عبد الله بن عبيد من الأمر بوضوء الميت امام غسله مما يدل بظاهره على
مذهب ابي الصلاح من القول بوجوبه ، والمفيد ذكر الوضوء في صفة غسل الميت إلا انه
لم يصرح بوجوبه ، ونحوه ابن البراج ، وقال الشيخ في النهاية : «وقد رويت أحاديث
انه ينبغي ان يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل بها كان أحوط»
__________________
وقال في الخلاف : «غسل الميت كغسل الحي ليس فيه وضوء وفي أصحابنا من قال
يستحب فيه الوضوء قبله غير انه لا خلاف بينهم انه لا يجوز المضمضة والاستنشاق فيه»
وقال في المبسوط : «قد روى انه يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل به كان جائزا غير ان
عمل الطائفة على ترك العمل بذلك لان غسل الميت كغسل الجنابة ولا وضوء في غسل
الجنابة» وقال سلار : «وفي أصحابنا من يوضئ الميت وما كان شيخنا (رضياللهعنه)
يرى ذلك» وقال ابن إدريس : «وقد روى انه يوضأ وضوء الصلاة وهو شاذ والصحيح خلافه ،
قال : وإذا كان الشيخ قال في المبسوط ان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك لم يجز
العمل بالرواية لأن العامل بها يكون مخالفا للطائفة».
أقول : الظاهر
ان المشهور بين المتأخرين هو الاستحباب كما صرح به المحقق في المعتبر والعلامة في
المختلف والمنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم في غيرها.
والذي يدل على
الأمر به من الأخبار زيادة على الخبر المذكور ما رواه الشيخ عن حريز في الصحيح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «الميت يبدأ بفرجه ثم يوضأ وضوء الصلاة وذكر
الحديث».
وعن أبي خيثمة
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان ابي أمرني أن اغسله إذا توفي وقال لي اكتب يا
بني ثم قال إنهم يأمرونك بخلاف ما تصنع فقل لهم هذا كتاب ابى ولست أعدو قوله ، ثم
قال تبدأ فتغسل يديه ثم توضئه وضوء الصلاة ثم تأخذ ماء وسدرا. الحديث».
وعن معاوية بن
عمار قال : «أمرني أبو عبد الله (عليهالسلام) ان أعصر بطنه ثم أوضيه ثم اغسله بالأشنان ثم اغسل رأسه
بالسدر ولحيته ثم أفيض على جسده منه ثم ادلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا ثم اغسله
بالماء القراح ثم أفيض عليه الماء بالكافور
__________________
وبالماء القراح واطرح فيه سبع ورقات سدر».
قال في الذكرى
بعد ذكر هذا الخبر : «وفي هذا الخبر غرائب» أقول : لعل ذلك من حيث دلالته بظاهره
على انه تولى تغسيل الامام (عليهالسلام) مع ما علم من الاخبار انه لا يغسله إلا إمام مثله ،
ومن حيث دلالته على عصر بطنه مع النهي عنه في الاخبار ، ومن حيث دلالته على عدم
الترتيب بين المياه الثلاثة والاخبار والإجماع ـ كما عرفت ـ على خلافه.
الا انه يمكن
الجواب عن الأول بأن الضمير في «بطنه» يعود الى الميت المفهوم من قرائن المقام أو
المتقدم في سابق هذا الكلام ، إذ الظاهر ان هذا كلام مقتطع من حديث قبله.
ومن العجب ان
الأصحاب انما استدلوا لأبي الصلاح أو نقلوا الاستدلال عنه برواية ابن ابي عمير عن
بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «في كل غسل وضوء إلا غسل الجنابة».
مع ان هذه
الأخبار التي ذكرناها واضحة الدلالة صريحة المقالة في مذهبه. وأعجب من ذلك ان
المحقق في المعتبر أجاب عن هذه الرواية بعدم الصراحة في الوجوب وانها كما تحتمل
الوجوب تحتمل الاستحباب ، وتبعه في هذا الجواب جملة من المتأخرين كالشهيدين
وغيرهما ، مع انهم في غير موضع يستدلون بهذه الرواية على وجوب الوضوء مع الغسل كما
تقدم البحث فيه في باب الجنابة.
واستدل على نفي
الوضوء هنا بالأخبار الكثيرة الدالة على بيان الكيفية مع خلوها من التعرض لذكره
والمقام مقام البيان. أقول : لقائل أن يقول ان غاية هذه الأخبار ان تكون مطلقة
والقاعدة تقتضي تقييدها بالأخبار الدالة على وجوب الوضوء فلا منافاة. نعم صحيحة
يعقوب بن يقطين المتقدمة ظاهرة في نفيه حيث ان أصل السؤال انما وقع عن الوضوء في
غسل الميت يعني وجوبه فخرج الجواب ببيان الكيفية عاريا عن التعرض له بنفي أو إثبات
، ولا ريب أن إضراب الإمام (عليهالسلام) عن ذلك انما يكون لعلة.
__________________
ولو لا اتفاق
العامة على الوضوء في غسل الميت كما نقله في المنتهى لكان العمل باخبار الوجوب في غاية القوة ، وظاهر إضراب
الإمام (عليهالسلام) عن الجواب في صحيحة يعقوب المذكورة مشعر بالتقية. واما
القول بالاستحباب كما هو المشهور بين المتأخرين فلا وجه له لان تلك الاخبار ظاهرة
في الوجوب لا معارض لها إلا إطلاق غيرها من الاخبار المتقدمة وقضية القاعدة
المشهورة حمل مطلقها على مقيدها. (فان قيل) الحمل على التقية انما يكون عند وجود
المعارض لها (قلنا) قد تكاثرت الاخبار بعرض الخبر على مذهب العامة والأخذ بخلافه
وان كان لا معارض له ثمة حتى ورد انه إذا احتاج الى معرفة حكم من الأحكام وليس في
البلد من يستفتيه من علماء الإمامية يسأل فقهاء العامة ويأخذ بخلافهم وقد ورد أيضا «إذا رأيت الناس مقبلين على شيء فدعه»
ويؤيد ذلك ما تقدم عن الشيخ من ان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك وما يشعر به
صحيح يعقوب بن يقطين. وبالجملة فالظاهر اما القول بالوجوب كما هو ظاهر الأخبار
المذكورة أو طرحها وحملها على التقية كما ذكرنا والقول بالتحريم. ولعله الأقرب.
(الثالثة) ـ اختلف
الأصحاب في انه هل الأفضل تغسيل الميت عريانا مستور العورة أو في قميص يدخل الغاسل
يده تحته؟ قال في المختلف : «المشهور انه ينبغي ان ينزع القميص عن الميت ثم يترك
على عورته ما يسترها واجبا ثم يغسله الغاسل. وقال ابن
__________________
ابي عقيل السنة في غسل الميت ان يغسل في قميص نظيف ، وقد تواترت الأخبار عنهم
(عليهمالسلام) ان عليا (عليهالسلام) غسل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في قميصه ثلاث غسلات. وقال الشيخ في الخلاف : يستحب ان
يغسل الميت عريانا مستور العورة اما بان يترك قميصه على عورته أو ينزع القميص
ويترك على عورته خرقة ، الى ان قال دليلنا إجماع الفرقة وعملهم على انه مخير بين
الأمرين. وقال أبو جعفر بن بابويه : وينزع القميص عنه من فوق الى سرته ويتركه الى
ان يفرغ من غسله ليستر به عورته فان لم يكن عليه قميص القى على عورته ما يسترها.
ويدل على ما اختاره ابن ابي عقيل ما رواه ابن مسكان في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال : ان استطعت ان
يكون عليه قميص فغسله من تحته». انتهى ما ذكره في المختلف. وقد ظهر من كلامه ان
المشهور هو استحباب غسله مكشوف البدن ما عدا العورة ، وكلام ابن ابي عقيل ظاهر في
استحباب التغسيل في قميص وهو ظاهر من الاخبار كصحيحة ابن مسكان المذكورة وصحيحة
يعقوب بن يقطين المتقدمة وصحيحة سليمان ابن خالد المتقدمة أيضا بل ظاهر صحيحة يعقوب الوجوب ، ويعضدها أيضا
الأخبار المتقدمة في تغسيل الزوجين المتكاثرة بكونه من وراء الثياب وبالجملة فقول
ابن ابي عقيل هو الأظهر في المسألة ، وظاهر العلامة في كلامه المذكور الميل اليه
حيث استدل لابن ابي عقيل بالصحيحة المذكورة ولم يستدل لغيره بشيء.
وظاهر هذه
الاخبار الدالة على أفضلية تغسيله في قميصه هو طهارة القميص بطهارة الميت من غير
عصر إذا كان خاليا من نجاسة خبثية والا وجب إزالتها أولا قبل الشروع في الغسل كما
تقدم الكلام فيه ، وكذا طهارة الخرقة التي يضعها على فرجه إذا جرده والخرقة التي
يلفها على يده ، وبذلك صرح في الحبل المتين حيث قال : «والظاهر عدم احتياج طهارة
القميص الى العصر كما في الخرقة التي يستر بها عورة الميت. أقول : وقد
__________________
تقدم في صدر المقام الأول في التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية ذكر الخلاف بين أصحابنا في طهر القميص وعدمه بدون
العصر.
ثم انه مع
استحباب تغسيله عاريا كما هو المشهور فإنهم صرحوا بأنه يفتق جيبه وينزع ثوبه من
تحته ، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وبالغ في المقنعة فقال : «يفتق
جيبه أو يخرقه ليتسع عليه» قال في المدارك : «ولا خفاء في ان ذلك مشروط بإذن
الورثة فلو تعذر لصغر أو غيبة لم يجز» أقول : قد روى المحقق في المعتبر عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ثم يخرق القميص إذا فرغ من غسله وينزع من رجليه».
وهو ـ كما ترى ـ مطلق فلا يتقيد بما ذكره.
ثم ان ظاهر خبر
يونس انه يجمع القميص على موضع العورة بأن يخرج يده من القميص ويجذبه منحدرا
الى سرته ويجرد ساقيه الى فوق الركبة ، وظاهر عبارة كتاب الفقه انه يتخير بين نزع قميصه من تحته وبين ان يتركه عليه
الى ان يفرغ من غسله
(الرابعة) ـ المشهور
بين الأصحاب استحباب الاستقبال بالميت حال الغسل مثل حال الاحتضار ، وفي المختلف
عن المبسوط القول بالوجوب حيث قال : «معرفة القبلة واجبة للتوجه إليها في الصلوات
واستقبالها عند الذبيحة واحتضار الأموات وغسلهم» وقال في المدارك ـ بعد عد المصنف
الاستقبال في حال الغسل من سنن الغسل ـ ما صورته «هذا قول الشيخ وأكثر الأصحاب بل
قال في المعتبر انه اتفاق أهل العلم للأمر به في عدة روايات ، وانما حمل على الندب
جمعا بينها وبين ما رواه يعقوب بن يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن الميت كيف يوضع على المغتسل موجها وجهه نحو القبلة
أو يوضع على يمينه ووجهه نحو القبلة؟ قال : يوضع كيف تيسر». ونقل عن ظاهر الشيخ في
المبسوط وجوب الاستقبال ورجحه المحقق الشيخ علي
__________________
محتجا بورود الأمر به ثم قال : ولا ينافيه ما سبق ـ يعني خبر يعقوب بن
يقطين ـ لان ما تعسر لا يجب. وهو غير جيد لان مقتضى الرواية أجزاء أي جهة اتفقت
فالمنافاة واضحة وحمل الأمر على الاستحباب متعين» انتهى كلامه. وبنحو ذلك صرح جده.
أقول : الظاهر
عندي هو القول بالوجوب ، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث انه ـ بعد ذكر صحيحة
سليمان بن خالد وهي ما رواه في الصحيح قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة وكذلك
إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبل باطن قدميه ووجهه إلى
القبلة». ـ قال : «وهذه أوامر تدل على الوجوب» انتهى. ومما يدل على ذلك ايضا خبر الكاهلي
المتقدم وقوله فيه : «استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه
مستقبل القبلة». وخبر يونس وقوله فيه : «إذا أردت غسل الميت فضعه على المغتسل
مستقبل القبلة». وقوله (عليهالسلام) في كتاب الفقه : «ويكون مستقبل القبلة». واما ما توهموه ـ من منافاة
صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة لهذه الأخبار بناء على ما فهموه من ان المراد انه
يوضع على اي كيفية كانت ـ ففيه ما ذكره شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال ـ بعد
الكلام في المسألة ونقله عن الشهيد الثاني انه استضعف كلام الشيخ علي ورده بما
ذكره سبطه ـ ما صورته : «وأنت خبير بأن لقائل أن يقول ان الظاهر من قوله (عليهالسلام) : «يوضع كيف تيسر» التخيير بين الوضعين اللذين ذكرهما
السائل اعني توجيهه إلى القبلة على هيئة المحتضر أو على هيئة الملحود فأجابه (عليهالسلام) باجزاء ما تيسر من الأمرين ، ففي الحديث دلالة على انه
إذا تعسر توجيهه على هيئة المحتضر وتيسر التوجيه على هيئة الملحود فلا عدول عنه
لأنه أحد توجيهي الميت فتأمل. والظاهر ان هذا مراد شيخنا الشيخ علي أعلى الله
قدره. والأصح وجوب الاستقبال. والله سبحانه
__________________
اعلم» انتهى كلامه. أقول : وبما ذكره يظهر ان الاخبار المتقدمة لا معارض
لها فيجب العمل بها ، وما ذكره ان لم يكن أرجح ـ سيما مع ما عرفت غير مرة مما في
الحمل على الاستحباب وان اشتهر العمل عليه بين الأصحاب ـ فلا أقل ان يكون مساويا
لما ذكروه ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه من جواز الوضع كيف
اتفق ويحتمل ايضا حمل خبر يعقوب بن يقطين على عدم إمكان الاستقبال المذكور في
الاخبار فيوضع كيف اتفق ، وبه يحصل الجمع ايضا بين الاخبار المذكورة. وقد نقل في
الحبل المتين القول بالوجوب ايضا عن الشهيدين في المسالك والدروس ، وهو الأقوى كما
عرفت.
(الخامسة) ـ ما
دلت عليه الأخبار المتقدمة من وجوب ستر عورته بقميصه أو بخرقة مما وقع عليه
الإجماع ولما علم من الشرع من تحريم النظر إلى العورة ، نعم لو كان الغاسل ممن لا
يبصر أو انه يثق من نفسه بكف البصر عن العورة بحيث يتيقن السلامة من الوقوع في ذلك
المحذور فلا بأس ، لأن وجوب الستر انما هو لمنع الأبصار فإذا أمكن من دون الستر لم
يجب ، إلا ان الأحوط ان لا يترك الستر استظهارا في المنع وقد استثني من ذلك
الزوجان على تقدير جواز تغسيل كل منهما الآخر أو أحدهما الآخر مجردا. وقد تقدم
تحقيق البحث في المسألة. وهل يجب ستر عورة الصبي الذي يجوز للنساء تغسيله مجردا أم
لا؟ قرب في المعتبر عدم الوجوب بناء على جواز نظر المرأة إليه ، قال : «وهو يدل
على جواز نظر الرجل» واعترضه في الذكرى قال : «فإن أراد إلى العورة أمكن توجه
المنع إلا ان يعلل بعدم الشهوة فلا حاجة الى الحمل على النساء»
(السادسة) ـ ما
دل عليه جملة من الاخبار المتقدمة ـ من وجوب الترتيب في غسله بأن يبدأ بالرأس أولا
ثم بالجانب الأيمن ثانيا ثم الأيسر ـ مما وقع الاتفاق عليه وقد ذكر جمع من
المتأخرين انه يسقط الترتيب بغمس الميت بالماء غمسة واحدة بأن يغمس في كل ماء من
المياه الثلاثة غمسة واحدة استنادا إلى رواية محمد بن مسلم عن الباقر
(عليهالسلام) قال : «غسل الميت مثل غسل الجنب.». واستشكله جمع من
متأخري المتأخرين لما فيه من الخروج عن صرائح تلك الروايات المتكاثرة بهذه الرواية
المجملة ، إذ المماثلة لا تقتضي أن تكون من كل وجه فلعله باعتبار الترتيب أو عدم
الوضوء أو نحو ذلك.
ثم انه هل
الغاسل حقيقة هو الصاب أو المقلب؟ المشهور الأول ، قالوا وتظهر الفائدة في النية
فأيهما ثبت انه الغاسل تعلقت به النية ، ومستندهم في ذلك هو ان الغسل شرعا جريان
الماء على المحل والصاب هو الذي حصل بفعله الجريان. وربما علل الثاني بأن الصاب
انما هو بمنزلة الآلة. أقول : لا يخفى ما في البناء على مثل هذه التعليلات العليلة
، والذي يظهر لي من الاخبار هو الثاني ، ومنها ـ موثقة سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل مات وليس عنده إلا نساء؟ قال تغسله امرأة ذات
محرم وتصب النساء عليه الماء.». وموثقة عبد الرحمن ابن ابي عبد الله البصري عن
الصادق (عليهالسلام) وفيها «تغسله امرأته أو ذات محرمة وتصب عليه النساء
الماء صبا.». وحسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) وفيها «تغسله امرأته أو ذو قرابته ان كانت له وتصب
النساء عليه الماء صبا». وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في ان الغسل انما هو للمباشر بيده
لبدن الميت لا الصاب. وفي عبارة كتاب الفقه المتقدمة «ويلف غاسله على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق بدنه» ويدل على ذلك أيضا
الأخبار المتقدمة الدالة على المماثلة وانه مع عدم المماثل لا بد من اشتراط
المحرمية أو الزوجية بين الغاسل والميت ، فإنها إنما تنطبق على المباشر لبدن الميت
لا الصاب عليه. فان الصب في هذه الاخبار ونحوها جائز من الأجانب الذين ليس بينهم
وبين الميت محرمية ولا زوجية
ثم انهم بناء
على ما قدمنا نقله عنهم اختلفوا في انه هل تجب النية في كل غسلة من
__________________
الغسلات الثلاث أم تكفي الواحدة؟ ظاهر الذكرى الاكتفاء بالواحدة بناء على
ان هذا غسل واحد وان تعده باعتبار كيفيته ، وقيل بتعدد النية بتعدد الغسلات لتعدد
الأغسال اسما وصورة ومعنى ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، وعن المحقق
الشيخ علي في شرح القواعد التخيير بين نية واحدة ونية ثلاث عند أول كل غسل لأنه في
المعنى عبادة واحدة وغسل واحد مركب من غسلات ثلاث وفي الصورة ثلاث فيجوز مراعاة
الوجهين ، وتردد في المعتبر في وجوب النية في هذا الغسل مطلقا لانه تطهير للميت من
نجاسة الموت فهو إزالة نجاسة كغسل الثوب ثم احتاط بوجوبها ، وفرع في الذكرى على
الخلاف في النية وعدمها جواز الغسل في المكان المغصوب وبالماء المغصوب وعدمه. أقول
: والوجه في ذلك انه على الأول يكون عبادة فلا يصح في المكان المغصوب ولا بالماء
المغصوب كما صرحوا به في الوضوء والغسل من الجنابة ونحوهما ، وعلى الثاني يكون من
قبيل ازالة النجاسات وهي غير مشترطة بشيء من ذلك.
ثم ان الغاسل
ان اتحد وجب عليه النية وان اشترك جماعة في غسله فان اجتمعوا في الصب اعتبرت النية
من الجميع لاستناده الى الجميع فلا أولوية ، ولو كان بعضهم يصب والآخر يقلب وجبت
على الصاب لانه الغاسل حقيقة واستحبت من المقلب. أقول : وهذا البحث بجميع ما ذكر
فيه من الشقوق والأقسام مفروغ عنه عندنا لما أسلفنا لك تحقيقه في نية الوضوء ،
وكلامهم هذا مبني على النية المشهورة بينهم التي هي عبارة عن التصوير الفكري
والحديث النفسي الذي يترجمه قول القائل : افعل كذا لوجوبه أو ندبه قربة الى الله
تعالى. وهذه ليست هي النية الحقيقية كما سلف تحقيقه.
(السابعة) ـ أكثر
الروايات المتقدمة مطلقة في السدر الذي يضاف الى الماء ، وفي رواية عبد الله بن
عبيد سبع ورقات ، وكلام الأصحاب هنا مختلف ، فاعتبر فيه بعضهم مسماه والظاهر
انه المشهور ، وبعض ما يصدق به الاسم بمعنى ما يصدق عليه انه
__________________
ماء سدر وماء كافور فلو كان السدر ورقا غير مطحون ولا ممروس لم يجز وكذا لو
كان قليلا على وجه لا يصدق على ذلك الماء انه ماء سدر ، وعن المفيد تقديره برطل
وابن البراج برطل ونصف ، واعتبر بعضهم سبع ورقات كما دل عليه الخبر المشار اليه. والظاهر
من هذه الأقوال هو اعتبار ما يصدق به الاسم عملا بالأخبار الكثيرة المصرحة بماء
السدر.
ثم انهم
اختلفوا أيضا في انه لو خرج بذلك عن الإطلاق فهل يجوز التغسيل به أم لا؟ قولان
اختار ثانيهما العلامة وغيره والظاهر انه هو المشهور ، والى الأول مال في المدارك
قال : «وإطلاق الاخبار واتفاق الأصحاب على ترغية السدر كما نقله في الذكرى يقتضيان
الجواز» وظاهره في الذكرى التوقف في المسألة حيث انه اقتصر على نقل الأقوال في
المسألة ، فنقل عن الفاضل انه يشترط كون السدر والكافور لا يخرجان الماء إلى
الإضافة لانه مطهر والمضاف غير مطهر. ثم نقل قولي المفيد وابن البراج ، وقال :
اتفق الأصحاب على ترغيته وهما يوهمان الإضافة ويكون المطهر هو القراح والغرض
بالأولين التنظيف وحفظ البدن من الهوام بالكافور لان رائحته تطردها. انتهى. ومن
هذا الكلام الأخير يعلم الجواب عما احتجوا به على المنع من انه مطهر والمضاف غير
مطهر. وبالجملة فالظاهر من الاخبار المتقدمة هو القول الأول ، واستند الشهيد
الثاني ـ بعد اختياره للقول المشهور واستدلاله عليه بما تقدم في كلام العلامة ـ إلى
قوله (عليهالسلام) : في صحيحة سليمان بن خالد ومثلها في صحيحة عبد الله
بن مسكان : «بماء وسدر». فإنه ظاهر في اشتراط بقاء ماء السدر على
الإطلاق. أقول : ومثل ذلك في عبارة كتاب الفقه الأولى إلا ان ظاهر كلامه في الثانية هو الغسل برغوة السدر ، وظاهر خبر يونس مما يؤيد القول الأول وكذا ظاهر رواية الكاهلي . وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال لتصادم
ظواهر الأدلة وتقابلها في ذلك. واما ما ذكره في المدارك
__________________
من الاحتجاج بإطلاق الاخبار على الجواز ففيه ان الاخبار مختلفة في تأدية
هذا المعنى كما عرفت فان ما عبر به في بعضها من قوله : «ماء وسدر» ظاهر في الدلالة
على القول بعدم الجواز كما استدل به جده (قدسسره) في الروض على ذلك ، وما عبر به من قوله : «ماء السدر»
فهو محتمل للحمل على كل من القولين ، نعم ما ذكره من الاستناد الى الترغية جيد
باعتبار دلالة رواية يونس وعبارة كتاب الفقه على انه يغسل بها الرأس ، وظاهرهما
انه الغسل الواجب ولهذا ذكرا بعده غسل الجانب الأيمن من البدن. واما ما ذكره في
الذكرى ـ من انه يكون المطهر هو القراح والغرض من الأولين التنظيف. إلخ ـ فهو غير
صالح لتأسيس حكم شرعي لأنه مجرد ظن واستنباط لا دليل عليه ، ولم لا يجوز ان يكون
لكل من الغسل بماء السدر وماء الكافور مدخل في التطهير؟ وكيف لا وقد اتفقوا على
وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة فيهما كما في الأغسال الشرعية واتفقوا على
طهارتهما من النجاسة لتحصيل التطهير بهما ونحو ذلك من شروط الأغسال الشرعية ، ولو
كان الغرض منهما ما ذكره لم يتوقف ذلك على أمر آخر وراءه والحال بخلاف ذلك
والمسألة لا تخلو من نوع توقف وان كان القول الأول لا يخلو من قرب. وظاهر جملة من
الأصحاب التوقف في ذلك ايضا كشيخنا الشهيد في الذكرى والشيخ البهائي في الحبل
المتين حيث اقتصروا على نقل كلام الأصحاب في المسألة. والله العالم.
(الثامنة) ـ ظاهر
الأصحاب الاتفاق على وجوب التغسيل بالماء القراح فيما إذا عدم الخليطان وانما
الخلاف في وجوب غسلة واحدة به أو ثلاث غسلات؟ قولان ، وبالأول جزم المحقق في
المعتبر والسيد السند في المدارك وبالثاني ابن إدريس والعلامة في الإرشاد والشهيد
الثاني في الروض ، وتوقف في المنتهى والمختلف وهو ظاهر الشهيد في الذكرى.
وعلل القول
الأول ـ كما ذكره في المعتبر ـ بالأصل وبان المراد بالسدر الاستعانة على ازالة
الدرن وبالكافور تطييب الميت وحفظه بخاصية الكافور من إسراع التغير
وتعرض الهوام ومع عدمها فلا فائدة في تكرار الماء مع حصول النقاء. أقول :
وفي التعليل الثاني ما عرفت آنفا من ان هذه العلة لا تخرج من ان تكون مستنبطة ، إذ
لا دلالة في شيء من الأخبار عليها ومع تسليم وجودها في الاخبار فاستلزامها لما
ذكروه مردود بان علل الشرع انما هي من قبيل المعرفات لا انها علل حقيقية يدور
المعلول مدارها وجودا وعدما ، ألا ترى انه قد ورد في تعليل وجوب العدة على النساء
ان العلة في ذلك استبراء الرحم مع وجوبها على من لم يدخل بها زوجها في الوفاة وعلى
من طلقها أو مات عنها في بلاد بعيدة بعد مدة مديدة ، ونحو ذلك ما ورد في علة غسل
الجمعة من انه كانت الأنصار تعمل في نواضحها فإذا حضروا الجمعة تأذى الناس
بروائحهم فأمر (صلىاللهعليهوآله) بغسل الجمعة لذلك مع ثبوت استحبابه أو وجوبه على القول به مطلقا بل ورد
تقديمه على يوم الجمعة وقضاؤه بعده ، وحينئذ فمع ورود هذه العلة التي ذكرها لا يجب
اطرادها ودوران المعلول مدارها وجودا وعدما حتى انه مع فقد الخليطين يسقط الغسل
عملا بالعلة المذكورة.
وعلل القول
الثاني ـ كما ذكره في الذكرى ـ بإمكان الجزء فلا يسقط بفوات الآخر لأصالة عدم
اشتراط أحدهما بصاحبه. وقال في المنتهى : «لو لم يوجد السدر والكافور وجب ان يغسل
بالماء القراح ، وفي عدد غسله حينئذ إشكال ينشأ من سقوط الغسل بعدم ما يضاف إليه
لأنه المأمور به ولم يوجد فيسقط الأمر ، ومن كون الواجب الغسل بماء الكافور أو
السدر فهما واجبان في الحقيقة ولا يلزم من سقوط أحد الواجبين للعذر سقوط الآخر»
وزاد في الروض الاستدلال على ما ذهب اليه من وجوب الثلاث بقوله (عليهالسلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور». كما ورد في الخبر وقوله
__________________
(صلىاللهعليهوآله): «إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» .
وعلى هذا النحو
كلماتهم في هذا المقام وهي مما لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى على من له إلى
الإنصاف ادنى رجوع ، والمسألة غير منصوصة ، وبناء الأحكام على هذه التعليلات
العلية سيما مع تعارضها وتصادمها لا يخلو من المجازفة في أحكامه سبحانه ، إلا انه
ربما لاح من بعض الأخبار سقوط الغسل بالكلية في هذه الصورة مثل موثقة عمار قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في قوم كانوا في سفر لهم يمشون على ساحل البحر
فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر وهم عراة ليس عليهم إلا إزار ، كيف يصلون
عليه وهو عريان وليس معهم فضل ثوب يكفنونه به؟ فقال يحفر له ويوضع في لحده ويوضع
اللبن على عورته لتستر عورته باللبن ثم يصلى عليه ويدفن.». ونحوه خبر محمد بن مسلم
عن رجل من أهل الجزيرة قال : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليهالسلام) قوم كسر بهم مركب في بحر فخرجوا يمشون على الشط فإذا
هم برجل ميت عريان والقوم ليس عليهم إلا مناديل متزرين بها وليس عليهم فضل ثوب
يوارون به الرجل كيف يصلون عليه وهو عريان؟ فقال : إذا لم يقدروا على ثوب يوارون
به عورته فليحفروا له قبره ويضعوه في لحده يوارون عورته بلبن أو حجارة أو تراب ثم
يصلون عليه ثم يوارونه في قبره. الحديث». والتقريب فيهما انه (عليهالسلام) لم يتعرض لذكر الغسل في المقام بل أمر ان يحفر له
ويوضع في حفرته ولم يتعرض لذكر غسله ، والظاهر انه لا وجه لسقوطه إلا فقد الخليطين
فان ظاهر تلك الحال يشهد بتعذر وجوده وإلا فمجرد كونه عريانا لا يمنع من وجوب غسله
وهم على ساحل البحر ، ويعضد ذلك ان التكليف الشرعي انما تعلق بهذه المياه الثلاثة على
الترتيب المخصوص والكيفية المخصوصة في
__________________
الاخبار وإيجاب غيرها بأي نحو كان بعد تعذرها يتوقف على الدليل الشرعي
والنص الواضح الجلي والركون الى هذه التعليلات العقلية ـ وان زعموها أدلة شرعية بل
قدموها على الأدلة السمعية سيما مع تصادمها كما عرفت ـ لا يخلو من المجازفة في
أحكامه التي قد دلت الآيات والروايات على النهي عن القول فيها بغير علم منه عزوجل أو من نوابه (عليهمالسلام) وحملة كتابه (لا يقال) : ان الواجب مع تعذر الغسل
التيمم وهذان الخبران خاليان من التعرض له أيضا (لأنا نقول) : غايتهما في ذلك ان
يكونا مطلقين في هذا الحكم فيجب تقييدهما بما دل على الحكم المذكور من الأخبار كما
سيأتي في المسألة بخلاف الغسل فإنه ليس هنا ما يوجب تقييد إطلاقها إذ لا رواية في
المسألة كما عرفت ، وروايات الغسل المتكاثرة إنما وردت بالخليطين وهما غير موجودين
كما هو المفروض في المسألة.
وبذلك يظهر لك
الكلام فيما فرعوا على هذه المسألة من مس الميت بعد غسله كذلك وقد تقدم الكلام في
ذلك في فصل غسل المس وكذا فيما لو وجد الخليطان بعد الغسل كذلك فهل يجب
اعادة الغسل أم لا؟ واستظهر في المدارك هنا عدم وجوب الإعادة ، قال : «لتحقق
الامتثال المقتضي للإجزاء» أقول : لا يخفى ان هذه العبارة إنما يرمى بها في مقام
وجود النص الشرعي ويكون المراد بالامتثال يعني امتثال أمر الشارع وهو الذي يقتضي
الاجزاء لا في مثل هذا المقام المبني على هذه التخرصات والتخريجات العقلية. وأنت
خبير بان للخصم ان يقول ان التكليف بالغسل بالخليطين ثابت بالنصوص التي لا ريب
فيها ، سقط التكليف به فيما إذا تعذر حتى دفن الميت ، وما لم يدفن فالخطاب الى من
تعلق به الخطاب أولا متوجه والتكليف باق وهذا الغسل الذي وقع لم يقم عليه نص ولا
دليل يعتمد عليه حتى يمكن حصول الامتثال به ورفع تعلق الخطاب. وبالجملة فإن البناء
إذا كان على غير أساس تطرق اليه الهدم والانطماس.
(التاسعة) ـ من
المستحبات في هذا الغسل غسل اليدين الى نصف الذراع
__________________
والفرجين في كل غسلة بمائها كما في رواية يونس «ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع ثم
اغسل فرجه ونقه». وفي رواية الكاهلي «ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات». ونحو ذلك في عبارة
كتاب الفقه .
وقد ذكر جمع من
الأصحاب انه يستحب أمام الغسلة الاولى ان يغسل رأسه برغوة السدر ولم أقف له على
مستند في الأخبار ، وغسل الرأس المذكور فيها برغوة السدر ـ كما تضمنه خبر يونس
وعبارة كتاب الفقه أو بماء السدر كما في غيرهما ـ انما هو الغسل الواجب ولهذا ثنى (عليهالسلام) في تلك الأخبار بعده بغسل الجانب الأيمن. ولم يتعرض في
الذكرى لهذا الحكم ، وكذلك في المنتهى جعل غسل الرأس بالرغوة من اجزاء الغسل
الواجب.
وظاهر حديث
الكاهلي استحباب البدأة في غسل الرأس بالشق الأيمن ثم بالشق الأيسر وبه صرح جملة
من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في النفلية إلا انه جعل ذلك مما يستحب امام الغسل كما
قدمنا ذكره وباقي الأخبار مطلقة في ذلك ، وحينئذ فيمكن حمل إطلاق الأخبار على هذه
الرواية.
ومنها ـ استحباب
التثليث في كل غسلة في غسل اليدين والفرجين كما سمعت من هذه الاخبار ، وكذا غسل
الرأس والجانب الأيمن والجانب الأيسر كما صرح بذلك في عبارة كتاب الفقه الاولى
ونحوها رواية الكاهلي وبذلك صرح الأصحاب أيضا ، قال في الذكرى : «يستحب تقديم غسل
يديه وفرجيه مع كل غسلة كما في الخبر وفتوى الأصحاب ، وتثليث غسل أعضائه كلها من
اليدين والفرجين والرأس والجنبين بالإجماع ، وحصرها الجعفي في كل غسلة خمس عشرة
صبة لا تنقطع» أقول : ما نقله عن الجعفي من الخمس عشرة صبة قد صرح به (عليهالسلام) في عبارة كتاب الفقه الاولى والوجه فيه
__________________
ان الأعضاء المغسولة وجوبا واستحبابا خمسة وبتثليث كل منها يصير المجموع
خمسة عشرة صبة ، قال في الذكرى : «والصدوق ذكر ثلاث حميديات وكأنه إناء كبير ولهذا
مثل ابن البراج الإناء الكبير بالإبريق الحميدي» انتهى أقول : ما ذكره الصدوق في
هذا المقام مأخوذ من عبارة كتاب الفقه الثانية وهو في العبارة الاولى من عبارتيه المتقدمتين عبر عن
التثليث الذي يستحب في كل عضو من الأعضاء الخمسة بالغسل ثلاثا ثلاثا وفي العبارة
الثانية عبر عنه بثلاث حميديات ، والظاهر من ذلك ان كل حميدية تقوم بغسلة من
الغسلات الثلاث ، فيصير مرجع العبارتين إلى أمر واحد.
ومنها ـ ان لا
يقطع الماء في كل غسلة من هذه الغسلات واجبة أو مستحبة حتى يتم غسل ذلك العضو ،
وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم في نقل الذكرى عن الجعفي ، ونقل فيها عن ابن
الجنيد والشيخ انهما قالا بعدم الانقطاع ايضا حتى يستوفى العضو ، وقال في المنتهى
: «يستحب لمن يصب الماء ان لا يقطعه بل يصب متواليا فإذا بلغ حقويه أكثر من الماء
لان الاستظهار هناك أتم» وعلى هذا الحكم يدل كلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه كما تقدم في كل من العبارتين ولم أقف
على هذا الحكم في الاخبار إلا في هذا الكتاب.
ومنها ـ اغتسال
الغاسل قبل التغسيل ذكره بعض الأصحاب ، قال في البحار : «وقيل باستحباب الغسل
لتغسيل الميت وتكفينه قبلهما وان لم يمسه» ولم أعثر على من تعرض لنقل هذا القول
سواه وكفى به ، ويدل على هذا القول قوله (عليهالسلام) في الفقه الرضوي «تتوضأ إذا أدخلت القبر الميت واغتسل إذا غسلته ولا تغتسل إذا حملته»
وسيأتي ان شاء الله تعالى في باب الأغسال المستحبة ما يؤيد ذلك. ومنها ـ ان يجعل
مع الكافور في الغسلة الثانية ذريرة كما تقدم في صحيحة عبد الله بن مسكان والذريرة ـ على ما ذكره الشيخ (رحمهالله) في التبيان ـ فتات
__________________
قصب الطيب وهو قصب يجاء به من الهند كأنه النشاب ، وقال في المبسوط
والنهاية يعرف بالقمحة بضم القاف وبفتح الميم المشددة والحاء المهملة أو بفتح
القاف وإسكان الميم ، وقال ابن إدريس هي نبات طيب غير الطيب المعهود تسمى القمحان
بالضم والتشديد ، وقال المحقق في المعتبر انها الطيب المسحوق.
ومنها ان يكثر
الماء إذا بلغ حقويه حال الغسل ، ويدل عليه قوله (عليهالسلام) في عبارة كتاب الفقه الثانية : «فإذا بلغت وركه فأكثر من صب الماء». وبه صرح في
المنتهى كما تقدم في عبارته ، وهذا الحكم مما انفرد به هذا الكتاب ايضا فيما اعلم.
ومنها ـ تليين
أصابعه ومفاصله فان امتنعت عليه تركها كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) في رواية الكاهلي : «ثم تلين مفاصله فان امتنعت عليك فدعها». وفي عبارة
كتاب الفقه الثانية «ثم لين مفاصله ، الى ان قال وتلين أصابعه ومفاصله ما قدرت
بالرفق وان كان يصعب عليك فدعها». قال في المعتبر : ثم تلين أصابعه برفق فان تعسر
ذلك تركها وهو مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) وفي بعض أحاديثهم «تلين مفاصله» وقال في الذكرى : «يستحب
تليين أصابعه برفق فان تعسر تركها وبعد الغسل لا تليين لعدم فائدته» ثم نقل عن ابن
ابي عقيل انه نفاه مطلقا لخبر طلحة بن زيد عن الصادق (عليهالسلام) «ولا يغمز له مفصل». وحمله الشيخ على ما بعد الغسل ، قال في المدارك بعد
نقل حمل الشيخ المذكور : «وهو حسن» أقول : قد روى الشيخ في الحسن عن حمران بن أعين
قال قال أبو عبد الله (عليهالسلام): «إذا غسلتم الميت منكم فارفقوا به ولا تعصروه ولا
تغمزوا له مفصلا. الحديث». وهو ظاهر في كون ذلك
__________________
وقت الغسل لا بعده فلا يقبل تأويل الشيخ المذكور. ويمكن الجمع بين هذين
الخبرين وما تقدمهما بحمل هذين الخبرين على ما ينافي الرفق المأمور به في صدر
الخبر مع ما دل عليه الخبران الأولان من الأمر بالتليين برفق فان امتنعت فدعها.
ومنها ـ الرفق
به حال الغسل كما تدل عليه حسنة حمران المذكورة ، وما رواه الشيخ في الصحيح الى
عثمان النوا قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني اغسل الموتى. قال أوتحسن؟ قلت اني اغسل. قال إذا
غسلت ميتا فارفق به ولا تعصره ولا تقربن شيئا من مسامعه بكافور». وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء
إلا شانه».
ومنها ـ وضع
الخرقة على يده حال الغسل كما تضمنته صحيحة عبد الله بن مسكان ونحوها عبارة كتاب
الفقه الثانية وان كان في بعضها التخصيص بغسل العورة كما في صحيحة
الحلبي أو حسنته وموثقة عمار قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : ولا
خلاف في رجحان وضع الغاسل خرقة على يده عند غسل فرج الميت ، قال في الذكرى : وهل
يجب؟ يحتمل ذلك لان المس كالنظر بل أقوى ومن ثم ينشر حرمة المصاهرة دون النظر ،
اما باقي بدنه فلا يجب فيه الخرقة قطعا وهل يستحب؟ كلام الصادق (عليهالسلام) يشعر به. انتهى. أقول : الظاهر انه لا وجه لنسبة
الوجوب هنا الى الاحتمال كما ذكره مع ما علم من تحريم مس العورة نصا وفتوى في حال
الحياة والحكم في الموت كذلك مؤيدا بما ذكره وبالجملة فالظاهر ان وضع الخرقة لغسل
العورة واجب ولسائر البدن مستحب ومنها ـ كون الغسل تحت سقف لا في الفضاء وعليه تدل
صحيحة علي بن جعفر
__________________
المتقدمة ومثلها رواية طلحة بن زيد عن الصادق (عليهالسلام) «ان أباه (عليهالسلام) كان يستحب ان يجعل بين الميت وبين السماء ستر يعني إذا
غسل». وقوله : «يعني إذا غسل» الظاهر انه من كلام الراوي أو من كلام الصادق (عليهالسلام) ، ونقل في الذكرى ان عليه اتفاق علمائنا. قال في
المعتبر : «ولعل الحكمة كراهة ان يقابل السماء بعورته».
ومنها ـ كثرة
الماء ففي رواية الكاهلي «وأكثر من الماء». وفي موثقة عمار «لكل من المياه الثلاثة جرة جرة». وفي صحيحة حفص بن البختري عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام) يا علي إذا أنا متّ فاغسلني بسبع قرب من بئر غرس» وفي
آخر «ست قرب». أقول : وغرس بالغين المعجمة وسكون الراء بئر بالمدينة ، ويؤيده
أخبار التثليث المتقدمة ، قال في الذكرى : «ولا حد في ماء الغسل غير التطهير كما
مر ، وظاهر المفيد صاع لغسل الرأس واللحية بالسدر ثم صاع لغسل البدن بالسدر ، وفي
المعتبر عن بعض الأصحاب ان لكل غسلة صاعا وهو مختار الفاضل في النهاية» وربما ظهر
من هذه الأقوال عدم اجزاء ما دون ذلك ، قال في المعتبر : قيل يغسل الميت بتسعة
أرطال في كل غسلة كالجنبلما روى عنهم (عليهمالسلام) «ان غسل الميت كغسل الجنابة». والوجه انقاؤه بكل غسلة من غير تقدير ، ثم
استدل بما رواه محمد بن الحسن الصفار قال : «كتبت الى ابي محمد (عليهالسلام) كم حد الماء الذي يغسل به الميت كما رووا ان
__________________
الحائض تغتسل بتسعة أرطال فهل للميت حد؟ فوقع : حده يغسل حتى يطهر ان شاء
الله تعالى». أقول : قال الصدوق في الفقيه بعد نقل الخبر المذكور : «هذا التوقيع
في جملة توقيعاته الى محمد بن الحسن الصفار عندي بخطه (عليهالسلام) في صحيفته»
ومنها ـ الدعاء
في حال الغسل ، ففي رواية سعد الإسكاف عن الباقر (عليهالسلام) قال : «أيما مؤمن غسل مؤمنا فقال إذا قلبه : «اللهم ان
هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت روحه منه وفرقت بينهما فعفوك عفوك» إلا غفر الله
تعالى له ذنوب سنة إلا الكبائر». وفي صحيحة إبراهيم بن عمرو عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما من مؤمن يغسل مؤمنا ويقول وهو يغسله : «يا رب
عفوك عفوك» إلا عفا الله تعالى عنه».
ومنها ـ ان
يوضع على ساجة وهو خشب مخصوص ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) قالوا والمراد هنا
مطلق الخشب ، قال في المبسوط : يجعل على ساجة أو سرير وقال في المدارك : «وينبغي
كونه على مرتفع وان يكون مكان الرجلين اخفض حذرا من اجتماع الماء تحته» وعلل بما
فيه من صيانة الميت عن التلطخ. ولم أقف في شيء من الاخبار على ما فيه تعرض لذلك
سوى رواية يونس وقوله : «فضعه على المغتسل مستقبل القبلة». وكتاب الفقه
وقوله (عليهالسلام) فيه : «ثم ضعه على مغتسله». وقوله : «وتجعل باطن رجليه إلى
القبلة وهو على المغتسل». والظاهر ان الإجمال فيه لاستمرار السلف عليه ومعلوميته
من غير ان يعتبر فيه نوع مخصوص ولا شيء معين ، قال ابن الجنيد «يقدم اللوح الذي يغسل
عليه الى الميت ولا يحمل الميت الى اللوح». ومنها ـ ان يحفر للماء حفيرة أو يكون
في بالوعة ولا يجعل في كنيف ، ويدل عليه صحيحة محمد بن الحسن الصفار «انه كتب الى ابي محمد (عليهالسلام) هل
__________________
يجوز ان يغسل الميت وماؤه الذي يصب عليه يدخل إلى بئر كنيف؟ فوقع (عليهالسلام) يكون ذلك في بلاليع». ويدل على الحفيرة قوله (عليهالسلام) في حسنة سليمان بن خالد «وكذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن
قدميه ووجهه إلى القبلة». وفي كتاب الفقه «ولا يجوز ان يدخل ما ينصب عن الميت من غسله في كنيف ولكن يجوز ان يدخل في
بلاليع لا يبال فيها أو في حفيرة». وظاهره التحريم كما ترى.
ومنها ـ ان
يجعل في دبره شيء من القطن قال في الخلاف : يستحب ان يدخل في سفل الميت شيء من
القطن لئلا يخرج منه شيء. ونحوه قال ابن الجنيد وزاد القبل من المرأة وأضاف إلى
القطن الذريرة وان يحشى كل منهما بمقدار ما يؤمن معه نزول شيء من الجوف. وقال
سلار ويضع القطن على دبره. وقال ابن إدريس يحشو القطن على حلقة الدبر ، وبعض
أصحابنا يقول في كتاب له ويحشو القطن في دبره. والأول أظهر. أقول : مما دل على هذا
الحكم قوله (عليهالسلام) في رواية يونس «واحش القطن في دبره لئلا يخرج منه شيء». وقوله (عليهالسلام) في رواية عمار «وتدخل في مقعدته من القطن ما دخل». وهما دالان على ما ذكره الشيخ من
استدخال ذلك في الدبر لا وضعه عليه من خارج كما ذكره ابن إدريس. وفي كتاب الفقه «وقبل ان تلبسه قميصه تأخذ شيئا من القطن وتجعل عليه حنوطا وتحشو به دبره».
ونقل في المختلف الاحتجاج لسلار وابن إدريس بأن للميت حرمة تمنع من حشو القطن في
دبره كالحي ، وبما رواه عمار عن الصادق (عليهالسلام) : «وتجعل على مقعدته شيئا من القطن». ثم أجاب عن الأول
بأن حرمة الميت تقتضي ما ذكرناه. وعن الثاني بأنه لا يمنع من المدعى.
__________________
أقول : ولم أقف على هذه الرواية التي ذكرها إلا في رواية عمار التي اشتملت
على ما ذكرناه فإنه ذكر فيها في كيفية الغسل ما قدمناه وذكر في كيفية التكفين كما
سيأتي نقله من الرواية المذكورة ما نقله العلامة هنا ، ولا يخلو من تدافع ، والقول
باستحباب الأمرين كما يعطيه ظاهر هذه الرواية لم أقف عليه في كلام أحد من الأصحاب
، ولا يبعد ان يكون هذا من الهفوات التي تكون في رواية عمار غالبا.
ومنها ـ استحباب
وقوف الغاسل عن يمينه ذكره جملة من الأصحاب ، لقول الصادق (عليهالسلام) في رواية عمار عنه (عليهالسلام): «لا يجعله بين رجليه في غسله بل يقف من جانبه». كذا
استدل به العلامة في النهاية. وهو أعم من المدعى.
ومنها ـ مسح
بطنه في الغسلتين الأوليين وعليه تدل رواية الكاهلي ويونس وأصرح منهما عبارة كتاب الفقه الثانية لقوله بعد ذكر
المسح في الغسلتين الأوليين : «ولا تمسح بطنه في الثالثة» قال في المعتبر : «ويمسح
بطنه امام الغسلتين الأوليين إلا الحامل ، والمقصود من المسح خروج ما لعله بقي مع
الميت فان مع مسح بطنه يخرج ذلك لاسترخاء أعضائه وخلوها من القوة الماسكة ، وانما
قصد ذلك لئلا يخرج بعد الغسل ما يؤذي الكفن ولا يمسح في الثالثة وهو إجماع فقهائنا»
انتهى. أقول : دعوى المحقق الإجماع هنا اما غفلة عن خلاف ابن إدريس أو لعدم
الاعتداد بخلافه فإن المنقول عنه كما ذكره في الذكرى انه بعد ان جوزه في أول الباب
أنكره لما ثبت من مساواة الميت للحي في الحرمة ، وما ذكرناه مبني على رجوع دعوى
الإجماع إلى أصل المسألة اما لو خص بعدم المسح في الثالثة فلا.
بقي الكلام
فيما إذا خرجت منه نجاسة بعد المسح في الأثناء أو بعد تمام الغسل ، فالمشهور بين
الأصحاب هو صحة الغسل وعدم انتقاضه وانما يجب إزالة النجاسة
__________________
خاصة ، للامتثال ، ولما تقدم في خبر يونس من قوله (عليهالسلام): «فان خرج منه شيء فأنقه». وما رواه الشيخ في الموثق عن
روح بن عبد الرحيم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان بدا من الميت شيء بعد غسله فاغسل الذي بدا
منه ولا تعد الغسل». وعن عبد الله الكاهلي والحسين بن المختار عن الصادق (عليهالسلام) قالا : «سألناه عن الميت يخرج منه الشيء بعد ما يفرغ
من غسله؟ قال يغسل ذلك ولا يعاد عليه الغسل». ونحوهما ما رواه في الكافي عن سهل عن
بعض أصحابه رفعه وعن ابن ابي عقيل وجوب اعادة الغسل فإنه قال : «إذا
انتقض منه شيء استقبل به الغسل استقبالا».
ومنها ـ ان
ينشف بثوب بعد الغسل لقوله (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي أو حسنته : «إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب نظيف ثم جففته».
ونحوها رواية يونس وموثقة عمار وعبارة كتاب الفقه الثانية .
(العاشرة) ـ من
المكروهات في هذا الغسل إقعاد الميت على المشهور بين الأصحاب ذكره الشيخ وكثير ممن
تأخر عنه وادعى في الخلاف إجماع الفرقة ، قال : «وخالف جميع الفقهاء في ذلك»
وأنكره المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر رواية أبي العباس الآتية : «قال الشيخ في
الاستبصار هذا موافق للعامة ولسنا نعمل به. وانا أقول ليس العمل بهذه الاخبار
بعيدا ولا معنى لحملها على التقية لكن لا بأس ان يعمل بما ذكره الشيخ من تجنب ذلك
والاقتصار على ما اتفق على جوازه» ويدل على النهي عن الإقعاد قوله (عليهالسلام) في رواية الكاهلي : «وإياك ان تقعده أو تغمز بطنه». وجملة من أصحابنا
إنما استندوا في ذلك الى حسنة حمران ورواية عثمان النوا المتقدمتين في الرفق
بالميت حيث ان الإقعاد له خلاف الرفق به. واما ما يدل على
الإقعاد فهو ما رواه
__________________
الشيخ في الصحيح عن ابي العباس وهو الفضل بن عبد الملك البقباق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الميت فقال أقعده واغمز بطنه غمزا
رفيقا ثم طهره من غمز البطن. الحديث». ولم أقف في كتب الأخبار المشهورة بينهم على
أزيد من هذه الرواية ولم ينقل ناقل في المسألة سواها ، فما ذكره في المدارك ـ من
انه قد ورد في الأمر بالإقعاد عدة روايات ـ لا اعرف له وجها ، نعم وقع ذلك في
عبارة كتاب الفقه الثانية. وكيف كان فما ذكره الشيخ من حمل هذه الرواية ونحوها على
التقية جيد حيث ان العامة متفقون على استحباب إقعاده حال الغسل وكلام صاحب المعتبر عليه لا وجه له لما علم من اخبار
أهل البيت (عليهمالسلام) من الحث الشديد والتأكيد الأكيد على مجانبتهم خذ لهم
الله تعالى وعرض الاخبار على مذهبهم والأخذ بخلافه وان لم يكن في مقام التعارض
وانهم ليسوا من الحنيفية على شيء وانه ليس في يدهم إلا استقبال القبلة وانهم
ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة ونحو ذلك مما بسطنا الكلام عليه في محل أليق ، فكيف
وقد دلت رواية الكاهلي على النهي المذكور.
ومنها ـ حلق
رأسه وعانته وتسريح لحيته وقلم أظفاره على المشهور ، وحكم ابن حمزة بالتحريم ،
ونقل الشيخ الإجماع على انه لا يجوز قص الأظفار ولا تنظيفها من الوسخ بالخلال ولا
تسريح اللحية ، وهو مقتضى ظاهر النهي في الأخبار الواردة بذلك ومنها ـ ما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه
__________________
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يمس من الميت شعر ولا ظفر وان سقط منه شيء
فاجعله في كفنه». وعن غياث عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كره أمير المؤمنين (عليهالسلام) ان يحلق عانة الميت إذا غسل أو يقلم له ظفر أو يجز له
شعر». وعن عبد الرحمن ابن ابي عبد الله قال «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الميت يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يقلم ظفره؟ قال
لا يمس منه شيء اغسله وادفنه». وعن طلحة ابن زيد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كره ان يقص من الميت ظفر أو يقص له شعر أو يحلق
له عانة أو يغمز له مفصل». وما رواه الصدوق عن ابي الجارود «انه سأل الباقر (عليهالسلام) عن الرجل يتوفى أتقلم أظافيره وينتف إبطه وتحلق عانته
ان طالت به من المرض؟ فقال لا». ولفظ الكراهة في هذين الخبرين لا ينافي التحريم
فإنه قد شاع استعماله في التحريم في الاخبار ، وبالجملة فالتحريم قريب لعدم
المعارض لهذه الأخبار الدالة بظاهرها على ذلك ولا سيما مع استحباب هذه الأشياء عند
العامة واتفاقهم على ذلك ونقل في الذكرى عن العلامة انه يخرج الوسخ من أظفاره
بعود عليه قطن مبالغة في التنظيف ، ثم رده بأنه مدفوع بنقل الإجماع مع النهي عنه
في خبر الكاهلي السابق واما ما ذكروه من انه لو قص شيئا من هذه الأشياء وجب
جعله
__________________
مع الميت في كفنه فيدل عليه مرسلة ابن ابي عمير المذكورة.
ومنها ـ غسله
بالماء المسخن بالنار ، وحكى في المنتهى الإجماع على كراهته ، وقال الشيخ لو خشي
الغاسل من البرد انتفت الكراهة ، وقيده المفيد (رحمهالله) بالقلة فقال يسخن قليلا ، وتبعهما في الاستثناء جمع من
الأصحاب ، والصدوقان ايضا استثنيا حال شدة البرد ، والظاهر من كلامهما ان ذلك
لرعاية حال الميت لا حال الغاسل.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) لا يسخن الماء للميت». وفي الصحيح عن عبد الله بن
المغيرة عن رجل عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) : «قالا لا يقرب الميت ماء حميما». وما رواه في الكافي
عن يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يسخن للميت الماء لا تعجل له النار ولا يحنط
بمسك». وروى الصدوق في الفقيه مرسلا قال قال الباقر (عليهالسلام): «لا يسخن الماء للميت». وروى في حديث آخر : «إلا ان
يكون شتاء باردا فتوقي الميت مما توقي منه نفسك». أقول : الظاهر ان الصدوق أشار
بهذه الرواية الى ما تقدم في كتاب الفقه الرضوي حيث قال : «ولا تسخن له ماء إلا ان يكون باردا جدا
فتوقي الميت مما توقي منه نفسك ولا يكون الماء حارا شديدا وليكن فاترا». انتهى.
ومن هذه العبارة أخذ الصدوقان ، والظاهر ان المراد بقوله : «فتوقي الميت مما توقي
منه نفسك» ما ذكره بعض مشايخنا يعني توقي نفسك وتوقي الميت بتبعية توقي نفسك لان
الميت يتضرر بذلك وتوقيه منه.
ومنها ـ جعل
الميت حال الغسل بين رجليه لما تقدم من رواية عمار وقوله (عليهالسلام): «لا يجعل الميت بين رجليه في غسله بل يقف من جانبه». واما
ما رواه الشيخ
__________________
عن العلاء بن سيابة عن الصادق (عليهالسلام) ـ قال : «لا بأس ان تجعل الميت بين رجليك وان تقوم من
فوقه فتغسله إذا قلبته يمينا وشمالا تضبطه برجليك لكيلا يسقط لوجهه». ـ فقد حمله
في التهذيبين على الجواز وان كان الأفضل ان لا يركب الغاسل الميت ، والأظهر تخصيصه
بحال الضرورة وعدم التمكن من الغسل إلا بذلك كما هو ظاهر سياق الخبر المذكور فلا
تنافي.
ومنها ـ الدخنة
على المشهور ، قال في المعتبر : ولا يعرف أصحابنا استحباب الدخنة بالعود ولا بغيره
عند الغسل واستحبه الفقهاء ، لنا ـ ان الاستحباب يتوقف ثبوته على دلالة الشرع
والتقدير عدمها (لا يقال) ذلك لدفع الرائحة الكريهة (لأنا نقول) ليست الرائحة
دائمة مع كل ميت ولان ذلك قد يندفع بغيره وكما سقط اعتبار غير العود من الأطياب
فكذا التجمير ، ويؤيده رواية محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا تجمروا الأكفان ولا تمسوا موتاكم بالطيب إلا
بالكافور فان الميت بمنزلة المحرم». انتهى. أقول : لم أقف في الأخبار على ما يدل
على حكم الدخنة حال الغسل لا نفيا ولا إثباتا لكن لا يبعد من حيث اتفاق العامة على
استحباب ذلك واشتهاره بينهم ان يقال بالكراهة للأخبار الدالة على الأخذ بخلافهم
مطلقا.
(الحادية عشرة)
ـ ما تضمنته رواية عمرو بن خالد المتقدمة ـ من الأمر بتيمم المجدور وكذا مثله ممن يخاف من تغسيله
تناثر جلده كالمحترق ـ مما لا خلاف فيه
__________________
بين الأصحاب بل قال في التهذيب ان به قال جميع الفقهاء إلا الأوزاعي ،
والمستند في الحكم المذكور هو الرواية المذكورة ، وقال الصدوق في الفقيه : «والمجدور
إذا مات يصب عليه الماء صبا إذا خيف ان يسقط من جلده شيء عند المس وكذلك الكسير
والمحترق والذي به القروح» وظاهر هذا الكلام ان الحكم في المجدور ونحوه انما هو
الصب دون التيمم كما هو المشهور. ويدل عليه رواية عمرو بن خالد الأخرى المتقدمة
أيضا ورواية ضريس عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) أو الباقر (عليهالسلام) قال : «المجدور والكسير والذي به القروح يصب عليه الماء
صبا». وما في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام): «وان كان الميت مجدورا أو محترقا فخشيت ان مسسته سقط
من جلوده شيء فلا تمسه ولكن صب عليه الماء صبا فان سقط منه شيء فاجعله في أكفانه».
انتهى وظاهر ما بين الكلامين من التدافع ، إلا ان يقال ان الواجب في المجدور ونحوه
هو الصب أولا دون المس باليد فان خيف بالصب تناثر لحمه فالحكم التيمم وهو ظاهر
المحقق في المعتبر وقد جعله وجه جمع بين رواية ضريس ورواية عمرو بن خالد الدالة
على التيمم ، فقال : «يستحب إمرار اليد على جسد الميت فان خيف من ذلك لكونه مجدورا
أو محترقا اقتصر الغاسل على صب الماء من غير إمرار ، ولو خيف من الصب لم يغسل ويمم
، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وابن الجنيد. أما الاولى فلان
الإمرار مستحب وتقطيع جلد الميت محظور فيتعين العدول الى ما يؤمن معه تناثر الجسد
، ويؤيد هذا الاعتبار ما رواه ، ثم ساق رواية ضريس ثم قال : واما الثانية فلان
التيمم طهارة لمن تعذر عليه استعمال الماء ، قال الشيخ في الخلاف : وبه قال جميع
الفقهاء إلا الأوزاعي. وعلى قول الشيخ تكون المسألة إجماعية لأن خلاف الأوزاعي
منقرض ، ويؤيد ذلك ما رواه عمرو بن خالد» ثم ساق روايته المتضمنة للتيمم وحاصل
كلامه انه
__________________
متى علم تناثر جسده بالمس اكتفى بالصب إذا لم يتناثر جسده بالصب ومتى علم
تناثر جسده بالصب اكتفي بالتيمم. وهو جمع حسن بين الروايتين المذكورتين ، الا ان
في قبول عبارة الصدوق وعبارة كتاب الفقه التي منها أخذت عبارة الصدوق وان كان
بالمعنى اشكالا ، حيث ان ظاهر الاولى وصريح الثانية انه مع خوف التناثر بالمس
ينتقل الى الصب وان حصل به التناثر ، ولهذا أمر (عليهالسلام) بجعل ما يسقط منه مع الصب في أكفانه ولم يأمر بالتيمم
، والمراد بالصب هنا هو ما يعبر عنه بالنضح تارة والرش اخرى وهو مقابل للغسل الذي
يحصل به الجريان. وكيف كان فالظاهر ان الأحوط بل الأقوى ما هو المشهور من التفصيل
الذي ذكره في المعتبر.
بقي هنا شيء
وهو ان السيد السند قال في المدارك بعد الطعن في رواية عمرو ابن خالد التي هي
مستند الحكم بالتيمم في المسألة بضعف السند باشتماله على جماعة من الزيدية : فإن
كانت المسألة إجماعية على وجه لا يجوز مخالفته فلا بحث وإلا أمكن التوقف في ذلك ،
لان إيجاب التيمم زيادة تكليف والأصل عدمه خصوصا ان قلنا ان الغسل إزالة النجاسة
كما يقوله المرتضى ، وربما ظهر من بعض الروايات عدم الوجوب أيضا كصحيحة عبد الرحمن
بن الحجاج عن ابي الحسن (عليهالسلام) في الجنب والمحدث والميت إذا حضرت الصلاة ولم يكن معهم
من الماء إلا بقدر ما يكفي أحدهم ، قال : «يغتسل الجنب ويدفن الميت ويتيمم الذي هو
على غير وضوء لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة والتيمم للآخر جائز». انتهى.
أقول : لا يخفى ان الراوي لهذه الرواية في كتب الأخبار انما هو عبد الرحمن بن ابي
نجران لا عبد الرحمن بن الحجاج كما ذكره هنا ، وهو ايضا قد ذكر هذه الرواية في بحث
التيمم في مسألة اجتماع الجنب والميت والمحدث ونقلها عن عبد الرحمن بن ابي نجران.
واما ما وصفها به من صحة السند فان كان نقله لها من التهذيب فهي ليست بصحيحة لأن
في طريقها في الكتاب المذكور محمد بن عيسى
__________________
وهو مشترك وفيه عبد الرحمن عمن حدثه ، وان كان من الفقيه فهي صحيحة لأنه
رواها فيه عن عبد الرحمن بن ابي نجران وطريقه اليه صحيح في المشيخة ، إلا ان متنها
فيه ليس كما ذكره بل الذي فيه «ويدفن الميت بتيمم ويتيمم الذي هو على غير وضوء. الى
آخره» وهي صريحة في تيمم الميت خلافا لما يدعيه ، وبالجملة فإن كان نقله لها من
التهذيب فمتنها فيه على ما ذكره إلا ان السند غير صحيح وان كان من الفقيه فالسند
صحيح كما وصفه إلا ان متنها ليس كما ذكره. إلا ان صاحب الوافي والوسائل قد نقلا
ايضا هذه الرواية من التهذيب بهذا المتن الذي ذكره ثم نقلاها عن الفقيه وأحالا
المتن على ما نقلاه عن التهذيب ولم ينبها على الزيادة التي ذكرناها. وهو محتمل
لاتحاد هذا المتن في الكتابين كما ذكره السيد ومحتمل لوقوع السهو منهما عن التنبيه
على ذلك فإنه قد جرى لهما مثل ذلك في مواضع عديدة ، وبالجملة فإني قد تتبعت نسخا
عديدة مضبوطة من الفقيه فوجدت الرواية فيها كما ذكرته من الزيادة المذكورة. والله
العالم.
(الثانية عشرة)
ـ إذا مات الجنب أو الحائض أو النفساء كفى غسل الميت على المعروف من مذهب الأصحاب
ولا يجب غسلان بل ولا يستحب ، قال في المعتبر : وهو مذهب أكثر أهل العلم. أقول ويدل على ذلك ما رواه الشيخ
في الصحيح عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ميت مات وهو جنب كيف يغسل وما يجزئه من الماء؟ قال
يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة
واحدة». ورواه الكليني في الصحيح أو الحسن مثله. وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن المرأة إذا ماتت في نفاسها كيف تغسل؟ قال مثل غسل الطاهر وكذلك
الحائض وكذلك الجنب انما يغسل غسلا واحدا فقط». ورواه الصدوق بإسناده عن عمار مثله. وعن علي بن أبي
إبراهيم (عليهالسلام) قال : «سألته عن الميت يموت وهو جنب؟ قال غسل واحد».
__________________
وعن ابي بصير عن أحدهما (عليهماالسلام) «في الجنب إذا مات؟ قال ليس عليه إلا غسلة واحدة».
واما ما رواه
الشيخ في الصحيح عن عيص عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل مات وهو جنب؟ قال يغسل غسلة واحدة
بماء ثم يغسل بعد ذلك». وعن عيص عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا مات الميت فخذ في جهازه وعجله وإذا مات
الميت وهو جنب غسل غسلا واحدا ثم يغسل بعد ذلك». وعن عيص بن القاسم في الصحيح عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا مات الميت وهو جنب غسل غسلا واحدا ثم اغتسل
بعد ذلك». فقد أجاب الشيخ (قدسسره) بحملها على الاستحباب بعد ان طعن فيها بأن الأصل فيها
كلها عيص وهو واحد لا يعارض به جماعة كثيرة ثم وجهها بتوجيه الغسل الأخير إلى
الغاسل كما هو ظاهر الخبر الأخير ويكون ذلك غلطا من الراوي أو الناسخ في البواقي
يعني في جعل «يغسل» مكان «يغتسل» أقول : قد تقدم البحث في تداخل الأغسال في نية
الوضوء وبسطنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه وبينا صحة القول
بالتداخل ، وهذه الاخبار الثلاثة لا تقوم بمعارضة جملة أخبار المسألة فيتعين حملها
على ما ذكره الشيخ وان بعد وإلا فطرحها وإرجاعها إلى قائلها ، وحملها على التقية
غير بعيد وان كان القائل بها من العامة غير معلوم فإنه متى كان علماء الطائفة سلفا
وخلفا على القول بالاكتفاء بغسل واحد كما دلت عليه الأخبار الكثيرة فمن الظاهر حمل
ما خالف ذلك على التقية وان لم يكن به قائل كما
__________________
عرفت في مقدمات الكتاب ، وايضا فقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر». ولا ريب ان الرواية بالتداخل
أشهر لتعدد نقلتها وكثرتهم وشذوذ هذه الروايات لانحصار رواتها في رجل واحد. والله
العالم.
تتمة
تشتمل على
فائدتين (الأولى) ـ قد صرح الأصحاب بأن الحامل إذا ماتت والولد حي في بطنها فإنه
يشق بطنها من الجانب الأيسر ويخرج الولد ويخاط الموضع ثم تغسل وتكفن بعد ذلك. ويدل
على ذلك جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الموثق عن علي ابن يقطين قال : «سألت العبد الصالح (عليهالسلام) عن المرأة تموت وولدها في بطنها؟ قال يشق بطنها ويخرج
ولدها». وعن علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها أيشق
بطنها ويستخرج ولدها؟ قال : نعم». ورواها في الكافي أيضا في الحسن أو الصحيح عن
ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) مثله وزاد «ويخاط بطنها». وما رواه الشيخ في الصحيح عن
علي بن يقطين قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليهالسلام) عن المرأة تموت وولدها في بطنها يتحرك؟ قال يشق عن
الولد». قال في المدارك : «وإطلاق الروايات يقتضي عدم الفرق في الجانب بين الأيمن
والأيسر ، وقيده الشيخان في المقنعة والنهاية وابن بابويه بالأيسر ولا اعرف وجهه»
أقول : وجهه قول الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه حيث قال : «وإذا ماتت المرأة وهي حاملة وولدها يتحرك في
بطنها شق بطنها من الجانب الأيسر واخرج الولد». وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق
في الفقيه
__________________
جريا على ما عرفت في غير موضع ، وكذا ما بعد العبارة المذكورة ، والظاهر ان
من تأخر عن الصدوق قد تبعه في ذلك أو أخذه من الكتاب المذكور. والمفيد ايضا كثير
الرواية منه وقال في المدارك ايضا : «واما خياطة المحل بعد القطع فقد نص عليه
المفيد في المقنعة والشيخ في المبسوط وأتباعهما وهو رواية ابن ابي عمير عن ابن
أذينة وردها المصنف في المعتبر بالقطع وبأنه لا ضرورة الى ذلك فان المصير الى
البلا. وهو حسن لكن الخياطة أولى لما فيها من ستر الميت وحفظه عن التبدد وهو اولى
من وضع القطن على الدبر» انتهى أقول : ما ذكره في المعتبر من رد الرواية غير معتبر
وما استحسنه السيد من ذلك غير حسن ، فان الدليل غير منحصر فيما ذكره من مقطوعة ابن
أذينة وهي ما رواه الشيخ عن ابن ابى عمير بطريقه اليه عن عمر بن أذينة قال : «يخرج الولد ويخاط بطنها». بل قد روى ذلك في
الكافي أيضا ـ كما عرفت ـ عن الصادق (عليهالسلام) والحديث صحيح أو حسن ليس فيه ما ربما يطعن عليه ، ولكن
الظاهر انهما لم يقفا على رواية ابن ابي عمير المذكورة والا لما خصوا الاستدلال
بالمقطوعة المشار إليها وطعنوا فيها بذلك
واما لو مات
الولد في بطنها وهي حية أدخلت القابلة أو غيرها ممن يحسن ذلك يدها في فرج المرأة
وقطعت الولد وأخرجته قطعة قطعة ، قال في الخلاف بعد ذكر الحكم المذكور : «ولم اعرف
فيه للفقهاء نصا» واستدل بإجماع الفرقة وكأنه قد غاب عن خاطره الرواية الآتية.
وقال في المعتبر : «ويتولى ذلك النساء فالرجال المحارم فان تعذر جاز ان يتولاه
غيرهم» ويدل عليه ما رواه في الكافي عن وهب بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك يشق بطنها ويخرج
الولد ، وقال في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوف عليها؟ قال لا بأس ان يدخل
الرجل يده فيقطعه ويخرجه» ورواه في موضع آخر وزاد في آخرها «إذا لم ترفق به النساء».
وقال في الفقه الرضوي في
__________________
تتمة العبارة المتقدمة : «وان مات الولد في جوفها ولم يخرج ادخل انسان يده
في فرجها وقطع الولد بيده وأخرجه ، وروى انها تدفن مع ولدها إذا مات في بطنها». أقول
: الظاهر تعلق هذه الرواية بصدر كلامه (عليهالسلام) فيما إذا ماتت الأم بأن يقال الحكم في الولد ان كان
حيا الشق كما تقدم وان كان ميتا دفن معها.
فروع
(الأول) ـ قال
في المنتهى : «لو ماتت ومات الولد بعد خروج بعضه أخرج الباقي وغسل وكفن ودفن ، وان
لم يمكن إخراجه إلا بالشق ترك على تلك الحال وغسل مع امه لان الشق هتك حرمة الميت
من غير ضرورة» أقول : ما ذكره وان لم يرد بخصوصه نص إلا انه مطابق لمقتضى الأصول
والنصوص العامة ، وعلل الحكم الثاني وهو التغسيل مع أمه بأن الخارج له حكم من مات
بعد خروجه في وجوب التغسيل وما بطن له حكم من مات في بطن امه.
(الثاني) ـ قال
أيضا في الكتاب المذكور : «لو بلع الميت مالا فان كان له لم يشق بطنه لأنه أتلفه
في حياته ولا يستعقب الغرم على نفسه ، ويحتمل ان يقال ان كان كثيرا ساغ الشق
وإخراجه لأن فيه حفظا للمال عن الضياع وعونا للورثة ، وان كان لغيره فان كان باذنه
فهو كماله وان كان بغير اذنه كان كالغاصب ، فيمكن ان يقال لا يشق بطنه ويؤخذ من
تركته احتراما للميت وتركا للمثلة به ، ويمكن ان يقال بالشق لان فيه حفظا للمال
ونفعا لصاحبه».
(الثالث) ـ قال
(قدسسره) ايضا : «لو كان في إصبع الميت أو اذنه أو يده شيء من
الحلي وجب أخذه فان لم يمكن ذلك برد وأخذ من غير تمثيل بالميت».
(الفائدة
الثانية) ـ قال الصدوق في الفقيه : «ومن كان جنبا وأراد ان يغسل الميت فليتوضأ
وضوء الصلاة ثم يغسله ، ومن أراد الجماع بعد غسله للميت فليتوضأ ثم
ليجامع» انتهى. وهذا الحكم مما ذكره جملة من الأصحاب في هذا المقام.
والمستند فيه حسنة شهاب بن عبد ربه قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب أيغسل الميت أو من غسل ميتا إله أن يأتي أهله
ثم يغتسل؟ فقال : هما سواء لا بأس بذلك ، إذا كان جنبا غسل يديه وتوضأ وغسل الميت
وهو جنب ، وان غسل ميتا توضأ ثم اتى اهله ويجزئه غسل واحد لهما». وكذلك يدل عليه ما
في الفقه الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «وإذا أردت أن تغسل ميتا وأنت جنب فتوضأ وضوء الصلاة
ثم اغسله وإذا أردت الجماع بعد غسلك الميت من قبل ان تغتسل من غسله فتوضأ ثم جامع».
انتهى. وعبارة الصدوق مأخوذة من هذه العبارة بتغيير ما ، وظاهر الخبرين المذكورين
استحباب الوضوء لمريد تغسيل الميت إذا كان جنبا ولمريد الجماع إذا غسل ميتا ولما
يغتسل غسل المس وان لم يكن جنبا ، وبه يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك حيث
قال في ضمن تعداد افراد الوضوء المستحب : «وجماع غاسل الميت ولما يغتسل إذا كان
الغاسل جنبا» فقيد استحباب الوضوء لغاسل الميت إذا أراد الجماع بما إذا كان جنبا
في حالة غسله للميت ، وتبعه على هذا جمع ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالبا ،
والروايتان المذكورتان تناديان بخلافه ، والله العالم. تم الجزء الثالث من كتاب
الحدائق الناضرة في الأغسال ويتلوه الجزء الرابع من تكفين الميت. والحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على
أعدائهم أجمعين.
__________________
فهرس الجزء الثالث
من كتاب الحدائق
الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب الغسل على الرجل والمرأة بالجماع
في القبل
|
٢
|
حكم واجدي المني في الثوب المشترك من
حيث انعقاد الجمعة بهما وأئتمام احدهما بالاخر
|
٢٦
|
حكم الوطئ في دبر المرأة
|
٤
|
حكم البلل الخارج بعد الغسل
|
٢٨
|
حكم الوطئ في دبر الغلام
|
١١
|
حكم الصلاة الواقعة بين الغسل وخروج
البلل المشتبه
|
٣٨
|
حكم الايلاج في فرج البهيمة
|
١٢
|
هل الكفار مكلفون بالفروع؟
|
٣٩
|
حكم ايلاج الخنثى والايلاج فيه
|
١٣
|
شرطية غسل الجنابة في الصلاة
|
٤٤
|
حكم مقطوع الحشفة
|
١٣
|
حرمة الطواف على الجنب
|
٤٦
|
وجوب الغسل بالانزال في الرجل
|
١٤
|
حرمة مس كتابة القرآن على الجنب
|
٤٦
|
حكم انزال المرأة
|
١٥
|
حرمة مس اسم الله على الجنب
|
٤٧
|
خروج منى الرجل من المرأة
|
١٧
|
حرمة دخول المسجدين على الجنب ولو
اجتيازا "
|
٤٩
|
الانزال من غير الموضع المعتاد
|
١٨
|
حرمة اللبث فيما عدا المسجدين على
الجنب
|
٥٠
|
عدم الرجوع إلى الصفات عند اليقين
بكون الخارج منيا "
|
١٩
|
الحاق المشاهد المشرفة بالمساجد
|
٥٣
|
الصفات التى يرجع اليها عند اشتباه
الخارج
|
٢٠
|
حرمة وضع شئ في المساجد على الجنب
|
٥٤
|
حكم من وجد بعد الانتباه منيا "
|
٢٢
|
حرمة قراءة احدى العزائم الاربع على
الجنب
|
٥٥
|
حكم كل من واجدي المني في الثوب
المشترك في نفسه
|
٢٣
|
|
|
مقدار ما يعيده واجد المني المحكوم
بالغسل من الصلوات
|
٢٤
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب غسل الجنابة للصوم الواجب
|
٥٧
|
استحباب البول قبل الغسل
|
١٠٣
|
هل وجوب غسل الجنابة نفسي او غيري؟
|
٦١
|
هل يستحب البول قبل الغسل للمرأة
|
١٠٥
|
كيفية الغسل الترتيبي
|
٦٥
|
هل يستحب البول في الجنابة بلا انزال؟
|
١٠٨
|
كيفية الغسل الارتماسي
|
٧٦
|
استحباب غسل اليدين قبل ادخالهما
الاناء
|
١٠٩
|
هل يجري الترتيب الحكمي في الغسل
الارتماسي؟
|
٧٨
|
استحباب المضمضة والاستنشاق
|
١١١
|
جريان الارتماس في غير غسل الجنابة
|
٧٩
|
استحباب التسمية عند الغسل
|
١١٢
|
الغسل تحت المجرى والمطر الغزير
|
٨٠
|
استحباب الدلك باليد
|
١١٣
|
هل يعتبر في الغسل الارتماسي الخروج
من الماء بالكلية قبله؟
|
٨١
|
استحباب تخليل ما يصل اليه الماء بدون
التخليل
|
١١٣
|
عدم وجوب الموالاة في الغسل
|
٨٣
|
استحباب الدعاء عند الغسل وبعده
|
١١٤
|
اغفال لمعة من البدن في الغسل
الترتيبي
|
٨٤
|
استحباب الاستبراء بالاجتهاد
|
١١٥
|
اغفال لمعة من البدن في الغسل
الارتماسي
|
٨٦
|
استحباب الموالاة في الغسل
|
١١٥
|
وجوب اجراء الماء في الغسل
|
٨٧
|
استحباب ان يكون ماء الغسل صاعا
"
|
١١٦
|
هل يجب في الغسل غسل شعر الجسد؟
|
٨٨
|
هل يجزئ غير غسل الجنابة عن الوضوء؟
|
١١٨
|
وجوب تخليل ما يمنع وصول الماء إلى
الجسد
|
٩٠
|
هل يجب تقديم الوضوء على القول بوجوبه
مع الغسل؟
|
١٢٧
|
محل الغسل هو الظواهر من الجسد
|
٩١
|
هل يستحب الوضوء مع غسل الجنابة؟
|
١٢٨
|
الارتماس في الماء الراكد
|
٩٢
|
|
|
وجوب المباشرة في الغسل
|
٩٥
|
|
|
هل يكفي اجراء ماء الغسل بقصد رفع
الحدث لازالة النجاسة؟
|
٩٦
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حكم الحدث في اثناء الغسل الترتيبي
|
١٢٩
|
حد الحيض والطهر قلة وكثيرة
|
١٥٧
|
هل يتصور الحدث في اثناء الغسل
الارتماسي؟
|
١٣٤
|
هل يشترط التوالي في ثلاثة الحيض؟
|
١٥٩
|
حكم تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء
|
١٣٥
|
حكم النقاء المتخلل بين ايام الدم
الواحد
|
١٦٠
|
هل يكفى استئناف الغسل على القول
بوجوب الاتمام والوضوء بتخلل الحدث؟
|
١٣٦
|
ادلة القول باشتراط التوالي في ثلاثة
الحيض
|
١٦٥
|
هل يجب ماء غسل الزوجة على الزوج؟
|
١٣٦
|
مناقشة صاحب المدارك في حكم النقاء
المتخلل بين ايام الدم الواحد
|
١٦٧
|
كراهة الاكل والشرب للجنب
|
١٣٧
|
هل محل الخلاف في هذه المسألة الثلاثة
في ايام العادة او مطلقا "؟
|
١٦٨
|
كراهة النوم للجنب حتى يغتسل او يتوضأ
|
١٤٠
|
هل تدخل الليالي في الايام الثلاثة؟
|
١٦٨
|
كراهة قراءة ما زاد على سبع آيات
للجنب
|
١٤١
|
المعنى المراد من التوالي
|
١٦٨
|
هل تحرم على الجنب سورة العزيمة اجمع؟
|
١٤٥
|
ما تراه المرأة قبل التسع ليس بحيض
|
١٦٩
|
كراهة مس المصحف للجنب
|
١٤٦
|
ما يتحقق به اليأس من الحيض.
|
١٧١
|
كراهة الخضاب للجنب
|
١٤٧
|
تعريف القرشية.
|
١٧٥
|
تداخل الاغسال
|
١٥٠
|
تعريف النبطية
|
١٧٥
|
تعريف الحيض
|
١٥٠
|
ما يمكن ان يستأنس به لتحيض
|
١٧٦
|
تمييز دم الحيض عن دم العذرة
|
١٥٢
|
النبطية إلى الستين
|
١٧٦
|
تمييز دم الحيض عن دم القرحة
|
١٥٦
|
هل تحيض الحبلى؟
|
١٧٧
|
|
|
الحائض اما مبتدأة او ذات عادة او
مضطربة
|
١٨٢
|
|
|
ما يستفاد من رواية يونس الطويلة
|
١٨٦
|
|
|
مبدأ تحيض المبتدأة
|
١٨٧
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
وجوب الاستبراء اذا انقطع الدم لدون
العشرة في المبتدأة وذات العادة والصبرإلى النقاء او العشرة اذا تلطخت القطنة
|
١٩١
|
العادة تحصل بالتمييز.
|
٢٢٩
|
رجوع المبتدأة إلى التمييز
|
١٩٣
|
رؤية الدم ثلاثة ايام وعوده قبل
العاشر بعد انقطاعه
|
٢٣١
|
هل يشترط في التمييز بلوغ الضعيف مع
ايام النقاء اقل الطهر؟
|
١٩٥
|
ما تراه المرأة في ايام الحيض حيض وفى
ايام الطهر طهر
|
٢٣٢
|
رجوع المبتدأة إلى نسائها
|
١٩٧
|
تعريف المضطربة
|
٢٣٣
|
هل ترجع المبتدأة إلى اقرانها؟
|
٢٠١
|
رجوع المضطربة إلى التمييز
|
٢٣٤
|
رجوع المبتدأة إلى الروايات
|
٢٠٢
|
وقت تحيض المضطربة
|
٢٣٦
|
ما تتحقق به العادة في الحيض
|
٢٠٧
|
حكم ناسية الوقت والعدد
|
٢٣٧
|
اقسام العادة
|
٢٠٧
|
حكم ناسية الوقت ذاكرة العدد
|
٢٣٩
|
هل يشترط في استقرار العادة عددا
" ووقتا استقرار عادة الطهر؟
|
٢٠٩
|
حكم ذاكرة الوقت ناسية العدد
|
٢٤٢
|
المراد بالشهر في تحقق العادة
|
٢٠٩
|
هل يجوز وطء الحائض بعد انقطاع الدم
قبل الغسل؟
|
٢٤٤
|
ذات العادة تتحيض برؤية الدم
|
٢١١
|
حكم فريضة الوقت عند عروض الحيض
|
٢٤٨
|
رؤية ذات العادة الدم قبلها
|
٢١٢
|
حكم فريضة الوقت عند انقطاع الحيض
|
٢٥٠
|
رؤية ذات العادة الدم بعدها
|
٢١٥
|
حرمة كل ما يشترط فيه الطهارة على
الحائض
|
٢٥٤
|
استظهار ذات العادة
|
٢١٦
|
حرمة كل ما يشترط فيه الطهارة على
الحائض
|
٢٥٥
|
قدر الاستظهار
|
٢٢٢
|
حرمة وضع شئ في المساجد على الحائض
|
٢٥٦
|
انقطاع الدم على العاشر او تجاوزه
العشرة
|
٢٢٣
|
|
|
انقطاع الدم على العاشر او تجاوزه
العشرة
|
٢٢٥
|
|
|
العادة تحصل بالتمييز.
|
٢٢٨
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حرمة قراءة العزائم على الحائض
|
٢٥٧
|
هل يجب الوضوء في الاستحاضة الكثيرة؟
|
٢٨٦
|
هل يجب السجود على الحائض بتلاوة
السجدة او سماعها؟
|
٢٥٧
|
وجوب الاغسال الثلاثة في الاستحاضة
الكثيرة انما هو مع استمرار الدم سائلا
|
٢٨٧
|
هل موجب سجود التلاوة هو السماع
والاستماع؟
|
٢٥٩
|
جواز افراد كل صلاة بغسل في الاستحاضة
الكثيرة
|
٢٨٧
|
حرمة وطء الحائض والتعزير بذلك
|
٢٦٠
|
جواز افراد كل صلاة بغسل في الاستحاضة
الكثيرة
|
٢٨٨
|
حكم وطء الحائض لو اشتبه الحال
|
٢٦١
|
هل الاعتبار في كمية الدم في
الاستحاضة بوقت الصلاة؟
|
٢٨٩
|
قبول قول الزوجة في اخبارها بالحيض
|
٢٦١
|
هل ضابط الكثرة في الاستحاضة ثقب الدم
الكرسف او سيلانه من الخرقة ايضا "؟
|
٢٩٠
|
الاستمتاع بالحائض فيما عدا القبل
|
٢٦٢
|
جواز تقديم الغسل على الفجر في الاستحاضة
المتوسطة والكثيرة عند ارادة التهجد في الليل
|
٢٩٠
|
هل تجب الكفارة بوطء الحائض؟
|
٢٦٥
|
هل يجوز وطء المستحاضة قبل الاتيان
بوظيفتها.
|
٢٩١
|
مقدار كفارة الوطء في الحيض
|
٢٦٩
|
حكم المستحاضة لو اخلت بما يجب عليها
من الوضوء او الغسل
|
٢٩٥
|
مصرف كفارة الوطء في الحيض
|
٢٧٠
|
هل يوجب انقطاع دم الاستحاضة الوضوء؟
|
٣٠١
|
هل تتكرر الكفارة بتكرر الوطء
|
٢٧١
|
|
|
وظيفة الحائض في وقت كل صلاة
|
٢٧٣
|
|
|
كراهة الخضاب للحائض
|
٢٧٤
|
|
|
كراهة مس ورق المصحف وحمله للحائض
|
٢٧٥
|
|
|
كراهة قراءة ما عدا العزائم للحائض
|
٢٧٥
|
|
|
تعريف الاستحاضة
|
٢٧٦
|
|
|
الاستحاضة القليلة
|
٢٧٧
|
|
|
الاستحاضة المتوسطة
|
٢٧٩
|
|
|
الاستحاضة الكثيرة
|
٢٨٤
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حكم انقطاع دم الاستحاضة بعد الوضوء
قبل الدخول في الصلاة او بعده
|
٣٠٣
|
هل يجب غسل ما باشر الميت؟
|
٣٣٥
|
هل يفرق في الانقطاع بين كونه للبرء
وكونه انقطاع فترة؟
|
٣٠٥
|
هل يجب الغسل بمس العضو الذي كمل غسله
|
٣٣٧
|
يجب على المستحاضة الاستظهار في منع
الدم من التعدي
|
٣٠٥
|
هل ان مس الميت ناقض للطهارة؟
|
٣٣٩
|
وجوب الاستظهار في المنع من التعدي
على السلس والمبطون
|
٣٠٧
|
حكم مس القطعة المبانة من حي او ميت
|
٣٤١
|
تعريف النفاس
|
٣٠٧
|
حكم مس العظم المجرد
|
٣٤٢
|
هل يعتبر تخلل اقل الطهر بين الحيض
والنفاس؟
|
٣١٠
|
الاخبار المناسبة لحال الاحتضار
|
٣٤٤
|
ما يعتبر في صدق الولادة
|
٣١٠
|
الوصية حق على كل مسلم
|
٣٥١
|
حد النفاس قله وكثرة
|
٣١٢
|
وجوب توجيه المحتضر إلى القبلة
|
٣٥٢
|
حكم ذات التوأمين
|
٣٢٢
|
هل يسقط وجوب التوجيه إلى القبلة
بالموت؟
|
٣٥٧
|
حكم من لم تر دما " ثم رأت في
العاشر
|
٣٢٣
|
هل يسقط وجوب الاستقبال عند اشتباه
القبلة؟
|
٣٥٧
|
الفروق بين الحائض والنفساء
|
٣٢٥
|
أحكام الميت كفائية او انها متوجهة
إلى الوالي؟
|
٣٥٨
|
وجوب الغسل بمس الميت
|
٣٢٧
|
هل يختص وجوب الاستقبال بمن يعتقد
وجوبه؟
|
٣٥٨
|
هل يجب الغسل بمس الميت الكافر؟
|
٣٣١
|
آداب الاحتضار
|
٣٦٠
|
هل يجب الغسل بمس الميت الميمم؟
|
٣٣٢
|
استحباب تعجيل تجهيز الميت إلا مع
الاشتباه
|
٣٧٣
|
هل يجب الغسل بمس من تقدم غسله على
موته؟
|
٣٣٢
|
وجوب تأخير تجهيز الميت مع الاشتباه
|
٣٧٤
|
هل يجب الغسل بمس الشهيد؟
|
٣٣٣
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
مدة تأخير تجهيز الميت مع الاشتباه
|
٣٧٥
|
زوال الاضطرار بعد الغسل الاضطراري
|
٤٠٣
|
اولى الناس بالميت اولاهم بميراثه
|
٣٧٦
|
هل يصح غسل الميت من المميز؟
|
٤٠٤
|
اولوية الرجال مطلقة او مختصة بالرجل؟
|
٣٨٠
|
هل يغسل من لا يعتقد الحق؟
|
٤٠٥
|
الزوج اولى بزوجته في جميع الاحكام
|
٣٨١
|
وجوب تغسيل السقط اذا تم له اربعة
اشهر
|
٤٠٧
|
هل يغسل كل من الزوجين الاخر في حال
الاختيار؟
|
٣٨٢
|
هل يجب تكفين السقط؟
|
٤٠٨
|
تغسيل الرجل زوجته
|
٣٨٥
|
حكم السقط لو نقص عن الاربعة اشهر
|
٤٠٩
|
تغسيل المرأة زوجها
|
٣٨٧
|
هل يلحق المسبى واللقيط والمتخلق من
الزنا بالمسلم في الحكم المذكور؟
|
٤٠٩
|
هل يقدح انقضاء العدة في جواز التغسيل؟
|
٣٨٨
|
حكم المشهور بكراهة تغسيل المخالف
|
٤٠٩
|
ما يجوز كشفه في تغسيل كل من الزوجين
الاخر
|
٣٨٩
|
الكافر لا يجهز
|
٤١٢
|
هل يطهر الثوب الذي يغسل فيه الميت
بمجرد الصب؟
|
٣٩٠
|
الشهيد لا يغسل ولا يكفن
|
٤١٣
|
هل يجوز تغسيل الامة سيدها؟
|
٣٩١
|
هل يعتبر في سقوط الغسل والكفن في
الشهيد ان يكون مع الامام او نائبه؟
|
٤١٥
|
اشتراط المماثلة بين الغاسل والمغسول
|
٣٩٢
|
الحكم المذكور لا يشمل كل من اطلقت
الشهادة عليه في الاخبار
|
٤١٥
|
تغسيل الرجل بنت ثلاث سنين والمرأة
ابن ثلاث سنين
|
٣٩٥
|
ما يناط به الفرق بين وجوب التغسيل
وعدمه في الشهيد
|
٤١٦
|
هل يسقط الغسل عند فقد المماثل
والمحرم؟
|
٣٩٨
|
ما يدفن مع الشهيد
|
٤١٦
|
هل يغسل الكافر المسلم عند فقد
المماثله المسلم والمحرم؟
|
٤٠١
|
لا فرق في سقوط الغسل في الشهيد
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
بين الجنب وغيره
|
٤١٧
|
لايجب تغسيل من وجب عليه القتل بعد
قتله اذا اغتسل قبل ذلك
|
٤٣٠
|
عدم الفرق بين افراد الشهيد في الحكم
|
٤١٨
|
حكم الميت المحرم
|
٤٣١
|
هل يعتبر في سقوط التكفين في الشهيد
بقاء ثيابه عليه؟
|
٤١٩
|
فضل تغسيل الميت
|
٤٣٣
|
توجيه الحديث المتضمن عدم الصلاة على
عمار وهاشم
|
٤١٩
|
ازالة النجاسة عن بدن الميت قبل الغسل
|
٤٣٤
|
حكم من قتل في المعصية
|
٤٢١
|
الاخبار الواردة في كيفية غسل الميت
|
٤٣٨
|
حكم البغاة ومن قتله البغاة من أهل
العدل
|
٤٢١
|
وجوب تغسيل الميت بالمياه الثلاثة على
الترتيب المذكور في الاخبار
|
٤٤٤
|
قطاع الطريق يغسلون ويصلى عليهم
|
٤٢١
|
هل الافضل تغسيل الميت عريانا "
او في قميص؟
|
٤٤٧
|
اشتباه موتى المسلمين بالكفار
|
٤٢١
|
هل يطهر القميص الذي يغسل فيه الميت
بلا عصر؟
|
٤٤٨
|
تردد الميت بين ان يكون مسلما
"وان يكون كافرا"
|
٤٢٢
|
هل يجب استقبال القبلة بالميت حال
الغسل؟
|
٤٤٩
|
لو وجد بعض الميت
|
٤٢٢
|
وجوب ستر عورة الميت حين الغسل
|
٤٥١
|
حكم القطعة ذات العظم المبانة من حي
أو ميت
|
٤٢٦
|
هل يكفي غمس الميت مرة واحدة في كل من
المياه الثلاثة؟
|
٤٥١
|
حكم القطعة المبانة الخالية من العظم
|
٤٢٧
|
هل الغاسل حقيقة هو الصاب او المقلب؟
|
٤٥٢
|
حكم من وجب عليه القتل
|
٤٢٨
|
هل تجب النية في كل من الاغسال
الثلاثة او تكفي نية واحدة للجميع؟
|
٤٥٢
|
هل يدخل في غسل من وجب عليه القتل شئ
من الاغسال ويحصل به التداخل؟
|
٤٢٩
|
|
|
هل يسقط تغسيل من وجب عليه القتل لو
سبق موته قتله او قتل بسبب آخر؟
|
٤٢٩
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
من يقوم بالنية عند اشتراك جماعة في
تغسيل الميت؟
|
٤٥٣
|
جلده بالتغسيل
|
٤٧١
|
مقدار السدر الذي يضاف إلى الماء
|
٤٥٣
|
غسل الميت يجزئ عن غيره
|
٤٧٤
|
هل يجوز التغسيل بالماء الذي يخرج
بالسدر عن الاطلاق؟
|
٤٥٤
|
حكم الحامل اذا ماتت
|
٤٧٦
|
هل يجب غسل واحد أو ثلاثة اغسال عند
عدم الخليطين؟
|
٤٥٥
|
اذا مات الولد في بطن امه وهي حية
|
٤٧٧
|
هل تجب اعادة غسل الميت اذا وجد
الخليطان بعد تغسيله بالماء القراح؟
|
٤٥٨
|
لو ماتت الحامل ومات الولد بعد خروج
بعضه.
|
٤٧٨
|
هل تجب اعادة غسل الميت اذا وجد
الخليطان بعد تغسيله بالماء القراح؟
|
٤٥٨
|
لو بلع الميت مالا
|
٤٧٨
|
مكروهات غسل الميت
|
٤٦٧
|
لو كان في بدن الميت حلي
|
٤٧٨
|
حكم المجدور ومن يخاف تناثر
|
|
استحباب الوضوء للجنب الذي يريد تغسيل
الميت
|
٤٧٨
|
|
|
استحباب الوضوء لمن يريد الجماع بعد
تغسيله الميت
|
٤٧٨
|
|