

مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي
عجزت العقول عن كنه معرفته ، وقصرت الألباب عن الإحاطة بكماله ، والصّلاة والسّلام
على أفضل خليقته وأشرف بريّته أبي القاسم المصطفى محمّد الّذي بعثه بالحقّ ليخرج
عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، وعلى آله
الطيّبين الطّاهرين الذين هم موضع سرّه ، وعيبة علمه ، وموئلُ حُكْمِه ، وكهوف
كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه.
أمّا بعد ، فإنّ
خلود الشريعة وبقاءها على مرّ الزمان ومسايرتها للحضارات الإنسانية ، واستغناءها
عن كلّ تشريع ، رهن أمرين :
الأوّل : احتواء
التشريع على مادة حيوية خلّاقة للتفاصيل ، بحيث يتمكّن علماء الأُمّة من استنباط
كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.
الثاني : فتح باب
الاجتهاد وعدم إيصاده ، ليقوم الفقهاء بدورهم في استنباط الأحكام التي تنسجم مع
تطور الحياة ومواكبة العصر.
ومن مفاخر الشيعة
الإمامية هو عدم ايصاد باب الاجتهاد منذ رحيل النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) إلى يومنا هذا ، فلذلك صار هذا سبباً لحفظ غضاضة الفقه
وطراوته عندهم.
ومما لا شكّ فيه
انّ أُصول الفقه يحظى بأهمية كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية ، ففي ظلّ قواعده
يُتاح للمجتهد أن يُبدي رأيه في كافة الحوادث والمستجدّات.
ولقد قام بالتأليف
حول هذه المهمة واحد بعد واحد من أُولي البصائر ، وكابر بعد كابر من الأعاظم
والفطاحل ، فلله درّ عصابة ألّفوا فأسّسوا ، وصنّفوا فأفادوا ، وقد كانت كتبهم
محور الدراسة جيلاً بعد جيل.
غير انّ لكلّ عصر
لغتَه ، ولكلّ مجتمع حاجتَه ، هذا وذاك ، ممّا يُلزم أساتذة الحوزة والمشرفين على
المناهج الدراسية بإعادة النظر في ما أُلّف وصار محوراً للدراسة ، لكي يُنتفع
بنقاط قوته ويضاف إليه مسائل جديدة تلبّي حاجات عصره ، حتى يكون التأليف كحلقة
متسلسلة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق.
وهذا ، ما قمت به
بفضل من الله خلال تدريسي لأُصول الفقه أزيد من خمسين سنة فجاء متمثّلاً في هذه
الكتب :
١. «الموجز» أعددته
للمبتدئين في علم الأُصول في جزء واحد.
٢. «الوسيط» أعددته
لمن أراد الخوض في علم الأُصول في جزءين بعد انّ كوّن فكرة عامّة عن المسائل
الأُصوليةِ عبر دراسته لكتاب «الموجز».
وأمّا المرحلة
النهائية فقد ألقيت محاضرات لدورات متتابعة حتى انتهى بنا الأمر إلى الدورة
الخامسة كلّ ذلك بفضل منه سبحانه فجاءت خلاصتها في كتابين :
١. «المحصول» طبع
في أربعة أجزاء.
٢. «إرشاد العقول
إلى مباحث الأُصول» طبع منه إلى الآن جزءان.
وانبرى بعض
الفضلاء من حضار بحوثي «حفظهم الله» إلى كتابتها وتدوينها.
والتمس من طالع «الوسيط»
بكلا جزأيه أن يرشدني إلى مواضع الخلل فيه «فانّ أحبّ إخواني من أهدى إليَّ عيوبي».
كما أرجو من الله
سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
|
جعفر السبحاني
قم مؤسسة الإمام الصادق (عليهالسلام)
١٧ رمضان المبارك ١٤٢١ ه
|
المقصد السادس
في الحجج والأمارات
١.
العقل
٢.
الإجماع
٣.
الكتاب
٤.
السنّة
٥.
الإجماع المنقول بخبر الواحد
٦.
الشهرة الفتوائية
٧.
قول اللغوي
تمهيد
يعلم الفقيه أنّ
بينه وبين ربّه حججاً معتبرة تقطع العذر وتُنجّز الواقع ، غير انّه لا يعلم في بدء
الأمر خصوصياتها ومعالمها ، فيبعثه العقل إلى التعرّف عليها بالتفصيل عن كثب ، وهي
عند الشيعة الإمامية أربعة : الكتاب ، السنّة ، الإجماع ، والعقل التي يدور عليها
رحى الفقه والاستنباط ، وأمّا سائر الأمارات فهي غير معتبرة عندنا وإن كانت معتبرة
عند الآخرين.
إذا كانت الحجج
منحصرة عندنا في الأدلّة الأربعة كان اللازم على الأُصوليّين المتأخّرين الذين
أفاضوا القول في علم الأُصول أن يعقدوا لكلّ منها فصلاً خاصاً ليتعرّف عليه
المبتدئ ويقف على معالمه وحدوده ، ولكنّهم لم يقوموا بهذه المهمة.
ومع ذلك كلّه لم
تفتهم الإشارةُ إليها في ثنايا بحوثهم حيث أدرجوا البحث عن الكتاب في مبحث حجّية
الظواهر على الإطلاق ، والبحث عن السنّة في مبحث حجّية خبر الواحد ، كما أدغموا
البحث عن الإجماع محصَّلاً كان أو منقولاً في مبحث الإجماع المنقول ، والبحث عن
حجّية العقل في مبحث القطع. ولكن مرّوا عليها مروراً خاطفاً دون التركيز عليها.
ولأجل الأهميّة التي تمتعت بها الأدلّة الأربعة عقدنا لكلّ واحد عنواناً خاصاً
متميزاً عن غيره ومع ذلك فلصيانة المنهج السائد في الكتب الأُصولية عقدنا الفصول
كالتالي:
العقل ، الإجماع
المحصّل ، الكتاب ، والسنّة.
وإن كان الأنسب
تقدّم الكتاب والسنّة على الآخرين.
العقل أحد مصادر
التشريع
انّ العقل أحد
الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلّا قليلاً منهم على حجّيته في مجال استنباط
الحكم الشرعي ، ثمّ إنّ البحث عن حجّية حكم العقل يقع في مقامين :
الأوّل : حجّية
حكم العقل بما انّه من مصاديق القطع.
الثاني : كشفه عن
حكم الشارع.
أمّا الأوّل
فالبحث فيه من فروع البحث عن حجّية القطع مطلقاً
وانّ حجّيته
ذاتية. وهذا هو الذي بسط الأُصوليون الكلام فيه في رسالة القطع وبحثوا عن حجّيته
بحثاً مُسْهباً.
وأمّا الثاني
فيرجع فيه البحث إلى وجود الملازمة بين حكمي العقل والشرع وعدمه وهذا هو الذي
اختصروا الكلام فيه غالباً . دون أن يعقدوا له فصلاً مستقلاً ، ولأجل مزيد ايضاح ، نفرد
لكل بحثاً مستقلاً في ضمن مقامين :
__________________
المقام الأوّل
في أحكام القطع وأقسامه
وفيه أُمور :
الأمر الاوّل
في حجّية القطع
لا شكّ في وجوب
متابعة القطع والعمل على وفقه ما دام موجوداً ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وهو
حجّة عقلية ، وليس حجّة منطقية أو أُصولية ، ولإيضاح الحال نذكر أقسام الحجّة ،
فنقول : إنّ الحجّة على أقسام :
١. الحجّة
العقلية.
٢. الحجّة المنطقية.
٣. الحجّة
الأُصولية.
أمّا الأُولى ،
فهي عبارة عمّا يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبعبارة أُخرى ما يكون قاطعاً
للعذر إذا أصاب ومعذِّراً إذا أخطأ ، والقطع بهذا المعنى حجّة ، حيث يستقل به
العقل ويبعث القاطعَ إلى العمل وفْقَه ويُحذّره عن المخالفة ، وما هذا شأنه ، فهو
حجّة بالذات ، غنيّ عن جعل الحجّية له.
وبهذا يمتاز القطع
عن الظن ، فإنّ العقل لا يستقلُّ بالعمل على وفق الظن ولا يحذِّر عن المخالفة لعدم
انكشاف الواقع لدى الظن ، فلا يكون حجّة إلّا إذا أُفيضت له الحجّية من قِبَلِ
المولى ، بخلاف القطع فانّ العقل مستقل بالعمل على
وفقه والتحذير عن
مخالفته لانكشاف الواقع ، وإلى هذا يرجع قول القائل بأنّ حجّية القطع ذاتية دون
الظن فإنّها عرضية.
وبذلك يتبيّن أنّ
للقطع ثلاث خصائص :
١. كاشفيته عن
الواقع ولو عند القاطع.
٢. منجّزيته عند
الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يُثاب ولو عصى يعاقَب.
٣. معذِّريته عند
عدم الإصابة ، فيُعذَّر القاطع إذا أخطأ في قطعه وبان خلافه.
وأمّا الثانية ،
فهي عبارة عن كون الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو
معلولاً لثبوته له ، فيوصف بالحجّة المنطقية ، كالتغيّر الذي هو علّة لثبوت الحدوث
للعالم.
يقال : العالم
متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث.
والقطع بهذا
المعنى ليس حجّة ، لأنّه ليس علّة لثبوت الحكم للموضوع ولا معلولاً له ، لأنّ
الحكم تابع لموضوعه ، فإن كان الموضوع موجوداً يثبت له الحكم سواء أكان هنا قطع أم
لا ، وإن لم يكن موجوداً فلا يثبت له ، فليس للقطع دور في ثبوت الحكم ولذلك يُعدُّ
تنظيم القياس بتوسيط القطع باطلاً ، مثل قولك : هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع
الخمرية حرام فهذا حرام ، وذلك لكذب الكبرى ، فليس الحرام إلّا نفس الخمر لا خصوص
مقطوع الخمرية.
وأمّا الثالثة ،
فهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة
يعتبرونه حجّة في باب الأحكام والموضوعات لمصالح ، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة
كخبر الثقة ، ومن المعلوم أنّ القطع غنيّ عن إفاضة
الحجّية عليه ،
وذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج ومعه لا حاجة إلى جعل الحجّية
له.
أضف إليه انّ جعل
الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي ، أو بدليل ظنّي.
وعلى الأوّل يُنقل
الكلام إلى ذلك الدليل القطعي ، ويقال : ما هو الدليل على حجّيته؟ وهكذا فيتسلسل.
وعلى الثاني يلزم
أن يكون القطع أسوأ حالاً من الظن ، ولذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلى ما
هو حجّة بالذات ، أعني : القطع ، وقد تبيّن في محله «أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد
وأن ينتهي إلى ما بالذات».
وبذلك يعلم أنّه
ليس للشارع الأمرُ المولويّ بالعمل بالقطع لسبق العقل بذلك ، كما ليس له المنع عن
العمل بالقطع ، فلو قطع إنسان بكون مائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به ،
لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع ، وفي الواقع إذا أصاب قطعه
للواقع.
الأمر الثاني
تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي
إذا كان الحكم
مترتباً على الواقع بلا مدخلية للعلم والقطع فيه ، كترتّبا لحرمة على ذات الخمر
والقمار فيكون القطع بهما طريقيّاً ، ولا دور للقطع حينئذ سوى تنجيز الواقع ،
وإلّا فمع قطع النظر عن التنجيز فالخمر والقمار حرام سواء أكان هناك قطع أم لا ،
غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب كما يكون العلم منجزاً للواقع.
وأمّا إذا أُخذ
القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعاً للحكم ، فيعبّر
عنه بالقطع الموضوعي ، وهذا كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع
بالخمريّة بحيث لولاه لما كان الخمر محكوماً بالحرمة ، وهذا التقسيم جار في الظنّ
أيضاً ، ولقد وردت في الشريعة المقدسة موارد أخذ القطع وحده أو الظن كذلك موضوعاً
للحكم ، نظير :
١. الحكم بالصحّة
، فإنّه مترتّب على الإحراز القطعي للركعتين في الثنائية وللركعات في الثلاثية من
الصلوات وللأُوليين في الرباعية ، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.
٢. الحكم بوجوب
التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.
٣. الحكم بوجوب
التيمّم لمن أحرز بالقطع أو الظن كون استعمال الماء مضرّاً.
٤. الحكم بوجوب
التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.
فلو انكشف الخلاف
، وأنّ الطريق لم يكن مخطوراً ، ولا الماء مضرّاً ، ولا الوقت ضيّقاً لما ضرَّ
بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى
الموضوع المترتب عليه الحكم.
ثمّ إنّه ليس
للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقاً من أيّ سبب حصل ، لانّ الحكم
مترتب على الموضوع بما هو هو وليس للقطع دور سوى كونه كاشفاً عن الواقع ، فإذا قطع
به ، انكشف له الواقع وثبت وجود الموضوع ، فيترتب عليه حينئذ حكمه ، ويحكم العقل
بلزوم العمل به من غير فرق بين حصوله بالأسباب العادية أو غيرها فليس للشارع تجويز
العمل بالقطع الحاصل من سبب والنهي عن القطع الحاصل من سبب آخر.
وأمّا القطع
المأخوذ في الموضوع فبما أنّ لكلّ مقنّن ، التصرفَ في موضوع حكمه بالسعة والضيق ،
فللشارع أيضاً حقُّ التصرف فيه ، فتارة تقتضي المصلحة اتخاذ مطلق القطع في الموضوع
سواء أحصلت من الأسباب العادية أم من غيرها ، وأُخرى تقتضي جعل قسم منه في الموضوع
كالحاصل من الأسباب العادية ، وعدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها.
الأمر الثالث
تقسيم القطع الموضوعي إلى طريقي ووصفي
ثمّ إنّ القطع
الموضوعي ينقسم إلى قسمين :
١. موضوعي طريقي.
٢. موضوعي وصفي.
توضيح ذلك : انّ
القطع من الصفات النفسية ذات الإضافة ، فله إضافة إلى القاطع (النفس المدرِكة) وإضافة
إلى المقطوع به (المعلوم بالذات والصورة المعلومة في الذهن) ، فتارة يؤخذ في
الموضوع بما أنّ له وصف الطريقية والمرآتية فيطلق عليه القطع الموضوعي الطريقي ،
أي أُخذ في الموضوع بما انّ له وصف الحكاية ، وأُخرى يؤخذ في الموضوع بما أنّه وصف
نفساني كسائر الصفات مثل الحسد والبخل والإرادة والكراهة ، فيطلق عليه القطع
الموضوعي الوصفي ، أي المأخوذ في الموضوع لا بما أنّه حاك عن شيء وراءه بل بما
أنّه وصف للنفس المدركة.
لنفترض انّك تريد
شراء مرآة من السوق ، فتارة تلاحظها بما أنّها حاكية عن الصور التي تعكسها ،
وأُخرى تلاحظها بما أنّها صُنعت بشكل جميل مثير للإعجاب مع قطع النظر عن محاكاتها
للصور.
فالقطع الموضوعي
الطريقي أشبه بملاحظة المرآة بما أنّها حاكية ، كما أنّ القطع الموضوعي الوصفي
أشبه بملاحظة المرآة بما لها من شكل جميل ككونها مربعة أو مستطيلة وغيرهما من
الأوصاف.
وأمّا ما هو الأثر
الشرعي لهذا التقسيم فموكول إلى دراسات عليا.
الأمر الرابع
الموافقة الالتزامية
لا شكّ أنّ
المطلوب في الأُصول الدينيّة والأُمور الاعتقادية هو التسليم القلبي والاعتقاد بها
جزماً ، إنّما الكلام في الأحكام الشرعية التي ثبتت وتنجّزت بالقطع أو بالحجّة
الشرعية ، فهل هناك تكليفان؟
أحدهما الالتزام
بأنّه حكم الله قلباً وجناناً.
ثانيهما الامتثال
عملاً وخارجاً.
فهل لكلّ ، امتثال
وعصيان ، فلو التزم قلباً وخالف عملاً فقد عصى عملاً ؛ كما أنّه لو وافق عملاً
وخالف جناناً والتزاماً فقد ترك الفريضة القلبية ، فيؤاخذ عليه؟
أو أنّ هناك
تكليفاً واحداً ، وهو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل وإن لم يلتزم بها
قلباً وجناناً ، وهذا كمواراة الميّت فتكفي وإن لم يلتزم قلباً بأنّها حكم الله
الشرعي؟
فليعلم أنّ البحث
في غير الأحكام التعبدية ، فإنّ الامتثال فيها رهن الإتيان بها لله سبحانه أو
لامتثال أمره أو غير ذلك ممّا لا ينفك الامتثال عن الالتزام والتسليم بأنّه حكمه
سبحانه ، فينحصر البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه في الأحكام التوصلية.
ذهب المحقّق
الخراساني إلى القول الثاني ، باعتبار أنّ الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان
خير شاهد على عدم صحّة عقوبة العبد الممتثل لأمر
المولى وإن لم
يلتزم بحكمه.
وربّما يقال : إنّ
الالتزام مع العلم بأنّ الحكم لله أمر قهري ، فكيف يمكن أن يواري المسلمُ الميّتَ
مع العلم بأنّه سبحانه أمر به ولا يلتزم بأنّها حكم الله ، فعدم عقد القلب على
وجوبه أو على ضدّه أمر ممتنع وبذلك يُصبح النزاع غير مفيد.
وعلى هذا ، فالعلم
بالحكم يلازم التسليم بأنّه حكم الله.
ولكن الظاهر عدم
الملازمة بين العلم والتسليم ، فربّ عالم بالحق ، غير مسلِّم قلباً ، فإنّ الإنسان
كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب ، لكنّه لا ينقاد له قلبه ولا
يسلّمه باطناً ، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه وسطوته ،
وهكذا كان حال كثير من الكفّار بالنسبة إلى نبيّنا ، حيث إنّهم كانوا عالمين
بنبوّته كما نطق به القرآن ، ومع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً ولا مقرّين
باطناً ، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له
مؤمنين حقيقة.
والذي يدلّ على
أنّ بين العلم والتسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
قيل : نزلت في
الزبير ورجل من الأنصار خاصمه إلى النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في شراج
من الحرّة كانا
يسقيان بها النخل كلاهما ، فقال النبي للزبير : «اسق ثمّ أرسل إلى
__________________
جارك» ، فغضب
الأنصاري وقال : يا رسول الله لئن كان ابن عمتك ....
فإنّ خطاب
الأنصاري للنبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) كشف عن عدم تسليمه لقضائه وإن لم يخالف عملاً ، وبذلك
يعلم أنّ المراد من الجحد في قوله سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).
هو الجحد القلبي
وعدم التسليم لمقتضى البرهان ، لا الجحد اللفظي ؛ فالفراعنة أمام البيّنات التي
أتى بها موسى كانوا :
١. عالمين بنبوة
موسى وهارون (عليهما السلام) (اسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ).
٢. لكن غير
مسلِّمين قلباً ، مستكبرين جناناً(وَجَحَدُوا بِها).
ثمرة البحث
تظهر الثمرة في
موارد العلم الإجمالي ، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين ، فهل يجري الأصل العملي ،
كأصل الطهارة في كلّ منهما باعتبار كون كلّ واحد منهما مشكوك الطهارة والنجاسة أو
لا؟
فثمة موانع عن
جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي. منها : وجوب الموافقة الالتزامية ، فلو
قلنا به ، لمنع عن جريان الأُصول ، فإنّ الالتزام بوجود نجس بين الإناءين ، لا
يجتمع مع الحكم بطهارة كلّ واحد منهما ، فمن قال بوجوب الموافقة الالتزامية لا يصح
له القول بجواز جريان الأصل في أطراف المعلوم إجمالاً ، وأمّا من نفاه فهو في فسحة
عن خصوص هذا المانع ، وأمّا الموانع الأُخر فنبحث عنها في مبحث الاحتياط والاشتغال
إن شاء الله.
__________________
المقام الثاني
كشفه عن حكم الشرع
إنّ العقل كما مرّ
أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلّا قليلاً منهم على حجّيته في مجال استنباط
الحكم الشرعي ، غير انّ اللازم هو تحرير محلّ النزاع وتبيين إطار البحث ، فإنّ عدم
تحريره أوقع الكثير لا سيما الأخباريّين في الخلط والاشتباه ، فنقول :
إنّ عدّ العقل من
مصادر التشريع وأحد الأدلّة الأربعة يتصوّر على أنحاء ثلاثة :
الأول إذا استقلّ
العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن
كلّ شيء (حتى عن أمر الشارع ونهيه وعن آثار الت تترتب عل الشء
، كقوام النظام الإنساني بالعدل وانهياره بممارسة الظلم) إلّا النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم
الشرع ، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف
منه انّ حكم الشرع كذلك؟
وهكذا إذا أمر
المولى بشيء واستقل العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو وجوب
الشيء وحرمة ضدّه ، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين ، أو جوازه
إلى غير ذلك من أنواع الملازمات ، فهل يكشف حكم العقل عن حكم الشرع؟
وبذلك يظهر انّ
الموضوع للحسن والقبح هو نفس الفعل بما انّه صادر عن فاعل مختار ، سواء أكان
الفاعل واجباً أم ممكناً ، وسواء أترتب عليه المصالح أو
المفاسد أو لا ،
وسواء أكان مؤمِّناً للأغراض العقلائية وعدمها ، فالموضوع للحكم بالحسن أو القبح
أو الملازمة أو ما أشبه ذلك هو ذات الفعل دون سائر الأُمور الجانبية.
الثاني : إذا أدرك
الفقيه مصالح ومفاسد في الفعل ، فهل يمكن أن يتخذ وقوفَه على أحدهما ذريعة إلى
استكشاف الحكم الشرعي في الوجوب أو الحرمة بحيث يكون علم الفقيه بالمصالح والمفاسد
من مصادر التشريع الإسلامي؟
وبعبارة أُخرى :
إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدرك الفقيه بعقله ، وجودَ مصلحة فيه ولم
يَرد من الشارع أمر بالأخذ ولا بالرفض ، فهل يصحّ تشريع الحكم على وفقها؟ وهذا هو
الذي يسمّى بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح في فقه أهل السنّة لا سيما المالكية ،
فكلّ مصلحة لم يرد فيها نصّ يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها ولكن في اعتبارها
نفع أو دفع ضرر فهل يتخذ دليلاً على الحكم الشرعي أو لا؟
الثالث : تنقيح
مناطات الأحكام وملاكاتها بالسبر والتقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة
الحكم وتصلح لأن تكون العلّة ، واحدة منها ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط
الواجب توفّرها في العلة ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن
تكون علة ، ويستبقى ما يصحّ أن يكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل
إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة ثمّ يتبعه التشريع ، وهذا ما يسمّى في الفقه
الشيعي الإمامي بتنقيح المناط واستنباط العلّة.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنّ محطّ النزاع بين الأُصوليّين والأخباريّين من أصحابنا هو المعنى الأوّل.
وسنرجع إليه بعد
استيفاء البحث في الأخيرين فنقول :
أمّا المعنى
الثاني والثالث فلم يقل به أحد من أصحابنا إلّا الشاذّ النادر منهم ، وذلك لأنّ
كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه لا يكشف عن الحكم الشرعي لقصور العقل عن
الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يُدرك المصلحة والمفسدة ويَغفل عن
موانعهما ، فإدراك العقل المصالح والمفاسد لا يكون دليلاً على أنّها ملاكات تامة
لتشريع الحكم على وفقها.
وهكذا المعنى
الثالث ، فإنّ الخوض في تنقيح مناطات الأحكام عن طريق السبر والتقسيم من الخطر
بمكان ، إذ انّى نعلم أنّ ما أدركه مناطاً للحكم هو المناط له ، فانّ العقل قاصر
عن إدراك المناطات القطعية.
ثمّ لو افترضنا
انّه أصاب في كشف المناط ، فمن أين علم أنّه تمام المناط ولعلها جزء العلّة وهناك
جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل الفقيه إليه؟
ولأجل ذلك رفض
أصحابنا قاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة وهكذا استنباط العلّة عن طريق القياس ،
بمعنى السبر والتقسيم.
نعم يستثنى من
المعنى الثاني ، المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة على صلاحها أو
فسادها على نحو صار من الضروريات ، وهذا كتعاطي المخدّرات التي أطبق العقلاء على
ضررها ؛ ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجُدري ، والحصبة
وغيرهما ، فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردّد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.
ولشيخنا المظفر
قدَّس سرّه كلام يشير إلى خروج المعنيين عن محط النزاع ، بنصّ واحد لا بأس بنقله :
«لا سبيل للعقل
بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية ، فإذا أدرك العقل المصلحة في
شيء أو المفسدة في آخر ، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى
المصلحة أو
المفسدة العامّتين اللّتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء ، فانّه أعني : العقل
لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرَك ، يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل
، إذ يحتمل انّ ما هو مناط الحكم عند الشارع ، غير ما أدركه العقل مناطاً ، أو أنّ
هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدرك مقتضياً
لحكم الشارع».
فخرجنا بالنتائج
التالية :
أوّلاً : انّ حكم
العقل بشيء يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً ويكون
المدرَك حكماً عاماً. وذلك لما عرفت من انّ المدرك حكم عام لا يختصّ بفرد دون فرد
، والشرع وغير الشرع فيه سيان ، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.
ثانياً : إذا أدرك
العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء
، كوجود المفسدة في استعمال المخدرات ، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف
الحكم الشرعي. دون ما لا يكون كذلك كادراك فرد أو فردين وجود المصلحة الملزِمة.
ثالثاً : استكشاف
ملاكات الأحكام واستنباطها بالسبر والتقسيم ، ثمّ استكشاف حكم الشرع على وفقه أمر
محظور ، لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام ومفاسدها ، وسوف يوافيك عند البحث عن
سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ الكلام يقع في المعنى الأوّل في موردين :
الأوّل : إمكان
استقلال العقل بدرك حسن الشيء أو قبحه أو دركه الملازمة
__________________
بين الوجوبين.
الثاني : إذا
استقلّ العقل بما ذكر فهل يكشف عن كونه كذلك عند الشرع.
أمّا الأوّل ،
فالعدلية متّفقة على إمكانه ، وهو من الأحكام البديهية للعقل ضرورة انّ كلّ إنسان
يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عرض الأمرين على وجدانه يجد في نفسه
نزوعاً إلى العدل وتنفّراً عن الظلم وهكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات
الأمرين.
يقول العلّامة
الحلّي : «إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من دون نظر إلى شرع ،
فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه ،
وهذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به
من غير اعتراف منهم بالشرائع».
إنّ حكم الإنسان
بحسن العدل وقبح الظلم ليس بأدون من الجزم بحاجة الممكن إلى العلّة ، أو انّ
الأشياء المساوية لشيء متساوية ، فإذا أمكن الجزم بالأمرين الأخيرين فليكن الأمر
الأوّل كذلك.
هذا كلّه حول
الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر
الثاني أعني : الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فهو ثابت أيضاً ، لأنّ الموضوع
للحسن والقبح هو نفس الفعل بغضِّ النظر عن فاعل خاص ، بل مع غض النظر عمّا يترتّب
عليه من المصالح والمفاسد ، فإذا كان هذا هو الموضوع فما وقف عليها العقل بفطرته
ووجدانه يعمّ فعل الواجب والممكن.
وبعبارة أُخرى :
انّ ما يدركه العقل في الحكمة العملية مثل ما يدركه في الحكمة النظرية ، فكما انّ
ما يدركه لا يختص بالمدرِك بل يعمه وغيره ، فهكذا الحال في الحكمة العملية ، مثلاً
: إذا أدرك العقل بفضل البرهان الهندسي بانّ زوايا
__________________
المثلث تساوي
قائمتين فقد أدرك أمراً واقعياً لا يختص بالمدرك لانّ التساوي من آثار طبيعة
المثلث ، فهكذا إذا أدرك حسن شيء أو قبحه والفرق بين الحكمتين انّ المعلوم في
النظرية من شأنه أن يعلم كما انّ المعلوم في العملية من شأنه أن يعمل به.
فإن قلت : كيف
يمكن الاعتماد على حكم العقل وجعله دليلاً على الحكم الشرعي مع أنّه قامت الأدلّة
على لزوم العمل بحكم تتوسط الحجّة في تبليغه وبيانه ولا عبرة بالحكم الواصل من غير
تبليغ الحجّة؟ وتدلّ على ذلك الأحاديث التالية :
١. صحيح زرارة «فلو
انّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف
ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله ثواب
ولا كان من أهل الإيمان».
٢. قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «من دان بغير سماع ألزمه الله التيه يوم القيامة».
٣. وقال أبو جعفر (عليهالسلام) : «كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل».
إلى غير ذلك من
الروايات.
قلت أوّلاً : انّ
الروايات ناظرة إلى المُعْرضين عن أئمة أهل البيت (عليهمالسلام) والمستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم
، وأمّا من أناخ مطيّته على عتبة أبوابهم في كلّ أمر كبير وصغير ، ومع ذلك اعتمد
على العقل في مجالات خاصة فالروايات منصرفة عنه جداً.
__________________
وبعبارة أُخرى :
كما للآيات أسباب وشأن نزول ، فهكذا الروايات لها أسباب صدور فهي تعبِّر عن سيرة
قضاة العامة وفقهائهم كأبي حنيفة وابن شبرمة وأضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل
البيت (عليهمالسلام) ولم ينيخوا مطاياهم على أبواب أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.
وأمّا فقهاء
الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسّكوا بالثقلين فلا تعمّهم
، والمورد (صدورها في مورد فقهاء العامة) وإن لم يكن مخصصاً لكن يمكن إلغاء
الخصوصية بالنسبة إلى المماثل والمشابه لا المباين ، وتمسّك أصحابنا بالعقل في
مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.
وثانياً : إذا كان
العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف
بتبليغ الحجّة أيضاً.
روى هشام عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) : «يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ،
وحجّة باطنة ؛ فالظاهرة الرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول».
وهناك كلام
للمحقّق القمي نتبرّك بذكره ختاماً للبحث ، قال : «
إنّ انحصار الطاعة
والمخالفة في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته ، دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب
الشارع ومخالفته وإن كان الطلب بلسان العقل ، ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا كلّف
نبيّه بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل (عليهالسلام) وإتيان كلام ، وامتثله النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فيقال إنّه أطاع الله جزماً ، والعقل فينا نظير الإلهام
فيه.
__________________
ثمّ يقول : إنّ من
يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه
بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز
العمل مع اليقين به؟ فإن كان ولا بدّ من المناقشة ، فليكتف في منع حصول هذا القطع
من جهة العقل وانّه لا يمكن ذلك».
ثمرات البحث إذا
قلنا بالحسن والقبح العقليّين والملازمة بين الحكمين تترتب عليه ثمرات أُصولية
نذكر منها ما يلي :
١. البراءة من
التكليف لقبح العقاب بلا بيان.
٢. لزوم تحصيل
البراءة اليقينيّة عند العلم الإجمالي وتردّد المكلّف به بين أمرين لأجل حكم العقل
بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
٣. الإتيان
بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.
٤. وجوب تقديم
الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.
وأمّا الثمرات
الفقهية المترتّبة على القول بالملازمة العقلية فيستنتج منها الأحكام التالية:
١. وجوب المقدّمة
على القول بحكم العقل بالملازمة بين الوجوبين.
٢. حرمة ضد الواجب
على القول بحكم العقل بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.
__________________
٣. بطلان العبادة
على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي عن الأمر.
٤. صحّة العبادة
على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر.
٥. صحّة العبادة
على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.
٦. فساد العبادة
إذا تعلّق النهي بنفس العبادة سواء كان المنهي نفسها أو جزئها أو شرطها أو
أوصافها.
٧. فساد المعاملة
إذا تعلّق النهي بالثمن أو المثمن للملازمة بين النهي وفسادها.
٨. انتفاء الحكم (الجزاء)
مع انتفاء الشرط إذا كان علة منحصرة.
٢ ـ الأدلّة الأربعة
الإجماع المحصّل
الإجماع المحصّل
أحد مصادر التشريع عند أهل السنّة بما هو هو لا بما هو كاشف عن حجّة شرعية ، كما
عليه الإمامية ، وقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تعريفه.
فعرّفه الغزالي
بقوله : إنّه اتّفاق أُمّة محمّد (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.
وعلى هذا التعريف
لا يكفي اتّفاق المجتهدين ، بل يجب اتّفاق جميع المسلمين في عصر من العصور ، وهو
أمر نادر الوقوع.
وعرّفه الآخرون :
باتّفاق أهل الحلّ والعقد على حكم من الأحكام ، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة
محمّد في عصر على أمر.
المهم في المقام
هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنّة أوّلاً ، وعند الشيعة ثانياً ،
فانّ الإجماع عند الطائفة الأُولى بما هو هو دليل شرعي يُضفي على الحكم صبغة
الشرعية فهو في عرض الكتاب والسنّة والعقل.
أمّا الإجماع عند
الطائفة الثانية فهو عندهم حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر ، ولأجل
إيقاف القارئ على موقف الطائفتين من الإجماع ، نوضح الموضوع إجمالاً.
__________________
موقف أهل السنّة
من الإجماع المحصَّل
إذا اتّفق
المجتهدون من أُمّة محمّد (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في عصر من العصور على حكم شرعي ، يكون المجمع عليه حكماً
شرعياً واقعياً عند أهل السنّة ولا تجوز مخالفته ، وليس معنى ذلك انّ إجماعهم على
حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكماً شرعياً ، بل يجب أن يكون إجماعهم مستنداً إلى
دليل شرعي قطعي أو ظنّي ، كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.
فلو كان المستند
دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيداً ومعاضداً له ؛ ولو كان
دليلاً ظنياً كما مثلناه ، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة
القطع واليقين.
ومثله ما إذا كان
المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك
الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام
الناس بالصلاة كي لا تفوتهم ، حتى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً وإن لم
ينزل به الوحي.
وعلى ذلك فقد أعطى
سبحانه للإجماع واتّفاق الأُمّة منزلة كبيرة على وجه إذا اتّفقوا على أمر ، يُصبح
المجمع عليه حكماً شرعياً قطعياً كالحكم الوارد في القرآن والسنّة النبويّة ،
ولذلك قلنا بأنّ الإجماع عندهم من مصادر التشريع.
ثمّ إنّهم
استدلّوا على ما راموه بوجوه :
منها : قوله
سبحانه :(وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).
وجه الاستدلال
انّه سبحانه ابتدأ كلامه بجملتين شرطيّتين :
__________________
أ. (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى).
ب. و (مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ).
ثمّ إنّه سبحانه
جعل لهما جزاءً واحداً وهو قوله :(نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى ...) فإذا كانت مشاقّة الله ورسوله حراماً كان اتّباع غير سبيل
المؤمنين حراماً مثله بشهادة وحدة الجزاء ، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم ، فاتّباع
سبيلهم واجب إذ لا واسطة بينهما. ويلزم من وجوب اتّباع سبيلهم كون الإجماع حجّة ،
لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ الوقوف على مفاد الآية يتوقّف على تبيين سبيل المؤمن والكافر أي سبيل لا من
يشاقق ومن يشاقق في عصر الرسول الذي تحكي الآية عنه ، فسبيل المؤمن هو الإيمان
بالله وإطاعة الرسول ومناصرته ، وسبيل الآخر هو الكفر بالله ومعاداة الرسول
ومشاقّته ، فالله سبحانه يندّد بالكافر ويذكر جزاءه بقوله :(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ) ويكون جزاء المؤمن
بطبع الحال خلافه.
وعلى ضوء ذلك يكون
المراد من اتّباع سبيل المؤمنين هو إطاعة الرسول ومناصرته ، ومن سبيل غيرهم هو
معاداة الرسول ومناقشته فأي صلة للآية بحجّية اتّفاق المؤمنين على حكم من الأحكام.
وبعبارة أُخرى :
أنّ الموضوع للجزاء في الآية مركّب من أمرين :
أ. معاداة الرسول.
ب. سلوك غير سبيل
المؤمنين.
فَعَطفَ أحدهما على
الآخر بواو الجمع وجَعَلَ سبحانه لهما جزاءً واحداً وهو قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ).
__________________
وبما انّ معاداة
الرسول وحدها كافية في الجزاء وهذا يكشف عن انّ المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف
عليه ، والمراد من اتّباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول ومعاداته وليس أمراً
مغايراً معه كما حسبه المستدل.
وثانياً : أنّ
سبيل المؤمنين في عصر الرسول هو نفس سبيل الرسول ، فحجّية السبيل الأوّل لأجل وجود
المعصوم بينهم وموافقته معه فلا يدلّ على حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته
عنهم.
ومنها : قوله
سبحانه :(وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
وجه الاستدلال :
انّ الوسط من كلّ شيء خياره ، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة ، فإذا
أقدموا على شيء من المحظورات لما وُصِفُوا بالخيرية فيكون قولهم حجة.
يلاحظ عليه : أنّ
وصف جميع الأُمّة بالخير والعدل مجاز قطعاً ، فإنّ بين الأُمّة من بلغ في الصلاح
والرشاد إلى درجة يُستدرُّ بهم الغمام ، وفي الوقت نفسه فيها من بلغ في الشقاء إلى
درجة خضّب الأرض بدماء الصالحين والمؤمنين ، ومع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء
خياراً وعدلاً ، وتكون بعامة أفرادها شهداء على سائر الأُمم ، مع أنّ كثيراً منهم
لا تقبل شهادتهم في الدنيا فكيف في الآخرة.
يقول الإمام
الصادق (عليهالسلام) في تفسير الآية : «فإن ظننت انّ الله عنى بهذه الآية جميع
أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر
، تُطلب شهادته يوم القيامة وتقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!».
وهذا دليل على أنّ
الوسطية وصف لعدة منهم ، ولمّا كان الموصوف بالوسطية
__________________
جزءاً من الأُمّة
الإسلامية صحّت نسبة وصفهم إلى الجميع ، نظير قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً)
فقد وصف عامّة بني
إسرائيل بكونهم ملوكاً ، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.
وإذا كانت الوسطية
لعدّة منهم دون الجميع ، يكون قولهم هو الحجّة كما يكونوا هم الشهداء يوم القيامة
لا جميع الأُمّة وإنّما نسب إلى الجميع مجازاً. وأمّا من هو هذه العدّة فبيانه على
عاتق التفسير.
ومنها : ما روي عن
النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «انّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة». ورواه أصحاب السنن.
يلاحظ عليه :
أوّلاً : أنّ الحديث مع أنّه روي في غير واحد من السنن ضعيف السند.
قال الشيخ العراقي
في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي : «جاء الحديث بطرق في كلّها نظر».
وقد قمنا بدراسة
هذا الحديث وتحليله في رسالة
جمعنا فيها
أسانيده وخرجنا بحصيلة انّ جميع تلك الأسانيد ضعيفة ، مضافاً إلى أنّ الحديث خبر
واحد لا يحتجّ به في الأُصول.
ثانياً : أنّ
الوارد في الحديث هو عدم الاجتماع على «الضلالة» لا عدم الاجتماع على «الخطأ» ،
فيكون الحديث ناظراً إلى مسائل العقيدة التي هي مدار الهداية والضلالة لا إلى
الفروع ، فلا يوصف المصيب فيها بالهداية والمخطئ بالضلالة.
__________________
ثالثاً : أنّ
المصون من الضلالة هي الأُمّة بما هي أُمّة لا الفقهاء فقط ولا أهل العلم ولا أهل
الحل والعقد ، وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة في مجال
العقائد والأُصول والفروع.
إلى هنا تمّ ما
استدلّ به أهل السنّة على حجّية الإجماع وكونه من مصادر التشريع بما هو هو ، وقد
عرفت قصور أدلّتهم عن إثبات مرامهم فهلمّ معي ندرس مكانة الإجماع عند الشيعة.
مكانة الإجماع
المحصّل عند الشيعة
إنّ الأُمّة مع
قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم ، غير مصونة من الخطأ في الأحكام فليس للاتّفاق
والإجماع رصيد علمي ، إلّا إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين :
١. استكشاف قول
المعصوم بالملازمة العقلية (قاعدة اللطف).
٢. استكشاف قوله (عليهالسلام) بالملازمة العادية (قاعدة الحدس).
أمّا الأمر الأوّل
فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام (عليهالسلام) من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه
نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الحجّة الموصوف بالعلم
والعصمة في كلّ الأزمنة. فإنّ من أعظم فوائدها ، حفظ الحقّ وتمييزه عن الباطل كي
لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينُهم طريقاً يتمكن العلماء
وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلاً أو ردّهم عنه إذا
أجمعوا عليه ثانياً.
__________________
وحاصل هذا الوجه :
انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة وردّهم عن الإجماع على الباطل وإرشادهم
إلى الحقّ ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان على الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق
بوجه من الوجوه. وهذا ما يسمّى بقاعدة اللطف.
وأمّا الثاني أي
استكشاف قوله (عليهالسلام) بالملازمة العادية فيمكن تقريره بالنحوين التاليين :
الف : تراكم
الظنون مورث لليقين
إنّ فتوى كلّ فقيه
وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مراتبه ، إلّا أنّها تعزَّز بفتوى فقيه ثان فثالث ،
إلى أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة على حكم القطعُ بالصحة ، إذ من البعيد
أن يتطرق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.
نقل المحقّق
النائيني عن بعضهم : إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع
بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.
ب : الاتّفاق كاشف
عن دليل معتبر
إنّ حجّية
الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل
إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يستكشف قول
المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في
الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان.
__________________
وهذان الوجهان هما
السندان لحجية الإجماع المحصل ، وهناك بحوث أُخرى تطلب من دراسات عليا.
ثمّ إنّ الدارج في
الكتب الأُصولية هو البحث عن حجّية الإجماع المحصّل المنقول إلينا بخبر الواحد ،
وبما انّ حجّية مثل هذا النقل ، فرع حجّية خبر الواحد آثرنا تأخيره إلى الفراغ من
حجّية خبر الواحد.
٣ ـ الأدلّة
الأربعة
الكتاب
إنّ الكتاب من أهم
المصادر الشرعية للاستنباط ، فلا محيص للفقيه من مراجعة الكتاب واستنطاقه ، وقد
نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب ، وهذا ما يندى له الجبين ،
إذ كيف تكون المعجزة الكبرى للنبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) مسلوبة الحجية. ولعل اقتصارهم على السنّة كان رد فعل لما
رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) القلم والدواة ليكتب كتاباً للأُمّة لئلّا يضلّوا بعده :
حسبنا كتاب الله.
وعلى كلّ تقدير
فالاقتصار على الكتاب كالاقتصار على السنّة على طرفي الإفراط والتفريط.
والمراد من حجّية
ظواهر القرآن في مجال الفقه مضافاً إلى موارده الخاصة هو التمسك بعموماته ومطلقاته
بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة
خصوصاً بعد الفحص عن مقيداته ومخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة ، فإذا تمت هذه
الأُمور فهل يتمسك بظواهر القرآن في موردها؟
ذهب علماء الأُصول
إلى وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه
__________________
بظاهره
والاخباريون إلى المنع وانّ الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم فيُصبح
الاحتجاج بتفسيره (عليهالسلام) لا بنصّ القرآن.
ثمّ إنّ الأدلّة
على حجّية ظواهر القرآن كثيرة نذكر منها ما يلي :
الأوّل : دلّت غير
واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن نور ، والنور بذاته ظاهر ومظهر لغيره ،
قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).
وفي آية أُخرى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ
وَكِتابٌ مُبِينٌ)
فلو كان قوله (وَكِتابٌ مُبِينٌ)عطفَ تفسير لما قبله ، يكون المراد من النور هو القرآن.
إنّه سبحانه يصف
القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء ، وحاشا أن يكون تبياناً له ولا يكون تبياناً لنفسه ،
قال سبحانه(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).
وقال سبحانه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً).
أفيمكن أن يهدي من
دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟!
فإن قلت : إنّ
الاستدلال بظواهر القرآن على حجّيتها دور واضح ، فإنّ الأخباري لا يقول بحجّيتها.
قلت : إنّ
الاحتجاج على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره ، والأخباري إنّما يمنع
حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.
__________________
الثاني : قد تضافر
بل تواتر عن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وجوب التمسك بالثقلين وفسرهما بالكتاب والسنّة ، وقال : «إنّي
تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا» فكلّ من
الثقلين حجّة وانّ كلاً يؤيد الآخر.
الثالث : الروايات
التعليمية التي علّم فيها الإمام تلاميذه كيفية استنباط الحكم من القرآن الكريم ،
فلو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة لما كان للتعليم قيمة ، فإنّ موقف الإمام في هذه
المقامات موقف المعلّم لا موقف المتكلم عن الغيب.
والروايات في ذلك
المجال كثيرة نذكر منها واحدة ، وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام وقد سأل أبا عبد
الله (عليهالسلام) بقوله : رجل عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة ، فقال :
«إنّ هذا يعرف من كتاب الله :(وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
ثمّ قال : «امسح
على المرارة».
فأحال الإمام (عليهالسلام) حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة إلى الكتاب.
الرابع : قد تضافر
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في مورد تعارض الروايات لزوم عرضه على القرآن وانّ ما
وافق كتاب الله يؤخذ به وما خالف يضرب به عرض الجدار.
فقد روي عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) أنّه قال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «إنّ على كلّ حق حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما
وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه».
الخامس : اتّفق
الفقهاء على أنّ كلّ شرط خالف كتاب الله فهو مرفوض ،
__________________
ففي صحيحة عبد
الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : سمعته يقول : «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله
فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق
كتاب الله».
وفي رواية أُخرى :
«المسلمون عند شروطهم ، إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله عزوجل فلا يجوز».
فلو لم يكن ظواهر
الكتاب حجّة ، لما كان هناك معنى لعرض الشرط على الكتاب في هذه الروايات وغيرها
ممّا يشرف الفقيه على القطع بحجّية ظواهر الكتاب ، وإنّما المهم دراسة أدلّة
المخالف.
أدلّة الأخباري
على عدم حجّية ظواهر الكتاب
استدلّ الأخباري
على عدم حجّية ظواهر الكتاب بوجوه ، أهمها وجهان :
الأوّل : انّ حمل
الكلام الظاهر في معنى على أنّ المتكلّم أراد هذا ، تفسير له بالرأي ، وقد قال
النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».
يلاحظ عليه : أنّ
حمل الظاهر في معنى ، على أنّ المتكلّم أراده ليس تفسيراً فضلاً عن كونه تفسيراً
بالرأي ، فانّ التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه المراد.
وأمّا الرأي فهو
عبارة عن الميل إلى أحد الجانبين اعتماداً على الظن الذي لم يدلّ عليه دليل.
إذا عرفت معنى
التفسير أوّلاً ثمّ الرأي ثانياً ، نقول :
إنّ حمل الظاهر في
معنى ، على أنّه مراد المتكلّم ، ليس من مقولة التفسير ، إذ
__________________
ليس هنا أمر مستور
يُكشف عنه ، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه ، ليس تفسيراً ، ورافعاً لإبهامه
بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه ، والتفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه
الآية ، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى)
فحملها على إحدى
الصلوات ، يقال انّه تفسير وكشف للقناع.
فإذا لم يكن حمل
الظاهر على معنى على أنّه المراد ، تفسيراً للآية يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر «برأيه»
أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.
الثاني : اختصاص
فهم القرآن بأهله. يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة وقتادة انّه لا يفهم القرآن
إلّا من خوطب به ، وهم أئمّة أهل البيت ، وإليك نصّ ما دار بينهما من الحوار :
«يا أبا حنيفة!
تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال : نعم.
قال : «يا أبا
حنيفة : لقد ادّعيت علماً ، ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم
، ولا هو إلّا عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد ، وما ورثك الله عن كتابه حرفاً».
أقول : إنّ
الرواية لا تنفي عن أبي حنيفة المعرفة الإجمالية ، وإنّما تنفي حقّ المعرفة ، وهو
لا يتحقّق إلّا بمعرفة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى غير ذلك
من القرائن المنفصلة التي تؤثِّر في الاحتجاج بالآية ، وكلّها مخزونة عند أئمّة
أهل البيت (عليهمالسلام) ، فمن عمل بظاهر الآية ، بعد الرجوع إليهم في
__________________
معرفة تلك المواضع
، فهو غير مشمول للرواية بل هي تردُّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسرونه ويفتون
به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه ومنسوخه ، وعامّه
وخاصّه ، ومطلقه ومقيده ، وأين هو من عمل أصحابنا؟! فانّهم يحتجون بالقرآن بعد
الرجوع إلى حديث العترة الطاهرة ، في مجملاته ومبهماته ، ومخصصات عمومه ومقيدات
مطلقاته ، ثمّ الأخذ بمجموع ما دلّ عليه الثقلان.
فالاستبداد
بالقرآن شيء والاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلى أحاديث العترة الطاهرة شيء آخر ،
والأوّل ممنوع والثاني مجاز جرى عليه أصحابنا رضوان الله عليهم عبر القرون.
وبذلك يظهر مفاد
سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.
إلى هنا تمّ ما
استدلّ به الأخباريون من منع التمسّك بظواهر القرآن وبقيت هناك أدلة أُخرى لهم
تظهر حالها بالإمعان فيما ذكرنا.
الظواهر من
القطعيات
ثمّ إنّ
الأُصوليين ذكروا ظواهر القرآن تحت الظنون التي ثبتت حجّيتها بالدليل وأسموه بالظن
الخاص مقابل الظن المطلق الذي ليس على حجّيته دليل سوى دليل الانسداد.
ولكن الحقّ انّ
ظواهر كلام كلّ متكلم فضلاً عن ظواهر القرآن من الكواشف القطعية ، ويظهر حال هذا
المدعى بالإمعان فيما ذكرناه في الموجز وما نوضحه في المقام.
إنّ الفرق بين
الظاهر والنص هو انّ كلا الأمرين يحملان معنى واحداً ويتبادر منهما شيء فارد ، غير
انّ الأوّل قابل للتأويل ، فلو أوّل كلامه لعدّ عمله
خلافاً للظاهر ولا
يعدّ مناقضاً في القول ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، الظاهر في الوجوب ثمّ أشار
بدليل خاص بأنّ المقصود هو الندب.
وأمّا النصّ فهو
لا يحتمل إلّا معنى واحداً ، ولا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً ، وهذا مثل
قوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).
فإنّ كون حظّ
الذكر مثلي حظ الأُنثى شيء ليس قابلاً للتأويل ولذلك يعدّ نصاً ، ومن حاول تأويله
لا يقبل منه ، ومثله قوله سبحانه : ((قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ).
إذا علمت ذلك ،
فنقول : إنّ القضاء بين الرأيين : كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو
ظني ، يتوقّف على بيان الوظيفة التي حملت على عاتق الظواهر؟ وتبيين رسالتها في
إطار التفهيم والتفهّم؟ فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.
فنقول : إنّ
للمتكلّم إرادتين :
١. إرادة
استعمالية ، وهي استعمال اللفظ في معناه ، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أكان
المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك ، سواء أكان المعنى حقيقياً أو
مجازياً.
٢. إرادة جدية ،
وهي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً ، وما هذا إلّا لأنّه ربما يفارق
المرادُ الاستعمالي ، المرادَ الجدي ، كما في الهازل والمورّي والمقنّن الذي
يُرتِّب الحكم على العام والمطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد ، ففي هذه
الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية ، إمّا تغايراً تاماً كما في
الهازل والمورّي واللاغي ، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص ،
أو المطلق
__________________
الذي أُريد منه
المقيد بالإرادة الجدية.
وعلى ضوء ذلك فيجب
علينا أن نركِّز على أمرين :
الأوّل : ما هي
الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟
الثاني : ما هو
السبب لتسميتها ظنوناً؟
أمّا الأوّل :
فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أكانت
المعاني حقائق أم مجازات ، فلو قال : رأيت أسداً ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى
الحيوان المفترس ، وإذا قال : رأيت أسداً في الحمام ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم
رأى رجلاً شجاعاً فيه ، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف
قطعي وليس كشفاً ظنياً ، وقد أدّى اللفظ رسالته بأحسن وجه. وعلى ذلك لا تصحّ
تسميته كشفاً ظنياً ، اللهمّ إلّا إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً ، فالكلام
عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي بوجه متعيّن ، لكنّهما خارجان عن محطّ
البحث فإنّ الكلام في الظواهر لا في المجملات والمتشابهات.
وأمّا الثاني : أي
السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً ، فانّه يتلخص في الأُمور التالية :
١. لعلّ المتكلّم
لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.
٢. أو استعمل في
المعنى المجازي ولم ينصب قرينة.
٣. أو كان هازلاً
في كلامه.
٤. أو مورّياً في
خطابه.
٥. أو لاغياً فيما
يلقيه.
٦. أو أطلق العام
وأراد الخاص.
٧. أو أطلق المطلق
وأراد المقيّد.
إلى غير ذلك من
المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه
القطع.
ولكن أُلفت نظر
القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام :
١. انّ علاج هذه
الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها
بالظنّية ، وذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلّا شيء واحد وهو إحضار
المعاني في ذهن المخاطب ، وأمّا الاحتمالات المذكورة وكيفية دفعها فليس لها صلة
بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.
٢. انّ بعض هذه
الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً ، أو هازلاً ، أو
مورّياً ، أو متّقياً ، أو غير ذلك من الاحتمالات ، مع أنّا نرى أنّهم يعدّونها من
القطعيات.
٣. إنّ القوم
عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها ، كأصالة كون
المتكلّم في مقام الإفادة ، لا الهزل ولا التمرين ، بدافع نفسي ، لا بدافع خارجي
كالخوف وغيره.
والظاهر انّه لا
حاجة إلى هذه الأُصول فإنّ الحياة الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر ، ففي
مجال المفاهمة والتفاهم بين الأُستاذ والتلميذ والبائع والمشتري والسائس والمسوس ،
يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم على المراد الاستعمالي والجدي دلالة قطعية لا
ظنية ، إلّا إذا كان هناك إبهام أو إجمال ، أو جريان عادة على فصل الخاص والقيد عن
الكلام.
وبذلك خرجنا بأن
كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي ، بل المراد الجدي ، على ما عرفت أخيراً في مجال
المفاهمة الخصوصية
كشف قطعي ولا
يُعرَّج إلى تلك الشكوك.
__________________
السنّة
قد تطلق السنّة
ويراد منها قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلا شك انّ السنّة بهذا المعنى من الأدلة
القطعية ، إذ هي عدل القرآن الكريم فهي الحجّة الثانية بعد الذكر الحكيم ، ومن
أعرض عن السنّة واستغنى بالقرآن الكريم فقد عدل عن المحجّة البيضاء.
وقد يطلق السنة
ويراد منها الخبر الحاكي عن السنّة الواقعية وهو المراد في المقام سواء نقلت بصورة
متواترة أو مستفيضة أو محفوفة بالقرائن أو مجرّدة عن الاستفاضة والقرائن ، والكلام
هنا في حجّية الخبر الواحد المجرّد عن كلّ شيء ، فانّ المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف
بالقرينة يفيدان العلم ، وهكذا الخبر المستفيض يورث الاطمئنان المتاخم للعلم.
امّا كون السنّة
الخبر الواحد المجرد عن القرائن» دليلاً ظنياً فإنّما هو لأجل سندها ، وأمّا من
حيث الدلالة فقد عرفت أنّ الدلالة في الجميع دلالة قطعية بالنسبة إلى المراد
الاستعمالي ، بل المراد الجدي في بعض المقامات.
ثمّ إنّ الإفتاء
بمضمون الخبر الواحد يتوقف على ثبوت أمرين :
أ : إمكان التعبّد
به إمكاناً ذاتيّاً.
ب : إمكان التعبّد
به إمكاناً وقوعيّاً.
أمّا الإمكان
بالمعنى الأوّل الذي يعبّر عنه بالإمكان الماهوي فهو أمر لا سترة عليه ، ضرورة انّ
التعبّد بالخبر ليس واجباً ولا ممتنعاً فيُصبح أمراً ممكناً بالذات ، فنسبة جواز
التعبد إلى الخبر كنسبة الوجود والعدم بالنسبة إلى الإنسان ، فالبحث عن الإمكان
بهذا المعنى ، أمر خارج عن محط البحث.
وأمّا الإمكان
بالمعنى الثاني وهو الذي لا يمنع عن وقوعه مانع خارجي عن الذات بعد إمكانه الذاتي
فهو داخل محطّ البحث.
وهذا نظير إدخال
المطيع في النار ، فإنّه وإن كان ممكناً بالذات ، لأنّه سبحانه قادر على الحَسن
والقبيح ، لكن غير ممكن وقوعاً لمخالفته لعدله وحكمته ، فهو ممكن بالذات غير ممكن
وقوعاً.
فذهب بعضهم كابن
قبة إلى امتناع التعبّد بالظن وقوعاً واستدلّ له بوجهين :
الأوّل : لو جاز
العمل بالخبر الواحد في الفروع ، لجاز العمل به في الأُصول ، فلو أخبر أحد من الله
سبحانه لزم قبول قوله إذا كان عادلاً بلا حاجة إلى طلب البيّنة والمعجزة.
يلاحظ عليه : أنّ
الأمر في الفروع أسهل ، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبول خبره في ادّعاء النبوة
التي هي أمر خطير.
الثاني : انّه
يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال ، فإذا كان الحكم الواقعي هو الحلية وقام خبر
الواحد على الحرمة أو بالعكس وقلنا بحجّيته ، يلزم أحد المحذورين.
__________________
ويعبّر عن حلّ هذا
الاشكال في مصطلح الأُصوليّين «بالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي».
وقد فصّل المتأخرون
الكلام فيه وموجز الجواب في هذا المقام عن هذا الإشكال انّه إذا كان مفاد الخبر
موافقاً للواقع يكون منجّزاً للحكم الواقعي ، وأمّا إذا كان مخالفاً للواقع فيكون
الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة على خلافه ، إنشائياً لا فعلياً ، وإنّما
يتوجّه الإشكال إذا كان هناك حكمان فعليان متضادان في واقعة واحدة ، وأمّا إذا كان
أحد الحكمين (الحكم الواقعي) إنشائياً والآخر فعلياً فلا إشكال فيه ، والتفصيل
يطلب من دراسات علياء.
ما هو الأصل في العمل بالظنّ؟
وقبل التعرّف على
أدلّة وقوع التعبّد بالظن في الشريعة الإسلامية يجب الوقوف على ما هي القاعدة
الأوّلية في العمل بالظن ، فهل هي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل؟ أو الأصل
جواز العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل؟
فعلى الأوّل يكون
الأخذ بواحد من أقسام الظنون كالخبر الواحد وقول اللغوي والشهرة الفتوائية وغيرها
متوقفاً على وجود دليل ، وإلّا فالأصل هو الحرمة ؛ كما أنّه تنعكس القاعدة على
القول الثاني ، فالأصل هو حجّية كلّ ظن إلّا ما قام الدليل على الحرمة كالقياس
والاستحسان.
وبذلك يعلم أنّ
المراد من الأصل في العنوان هو مقتضى الأدلة الاجتهادية ، ويعبّر عنها بمقتضى
القاعدة الأوّلية وليس المراد منه هو الأصل العملي.
وعلى كلّ تقدير
اتّفقت كلمة المحقّقين على أنّ الأصل هو حرمة العمل بالظن إلّا أن يقوم الدليل على
الحجّية.
والدليل عليه هو
انّ البدعة أمر محرم إجماعاً من غير خلاف ؛ وهي عبارة عن ادخال ما يعلم انّه ليس
من الدين أو يشكّ انّه منه ، في الدين ؛ والاعتماد على الظن الذي لم يقم دليل على
جواز العمل والإفتاء على وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه وحقّ غيره ،
وهذا هو نفس البدعة ، لأنّه يُدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.
وبعبارة أُخرى :
انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلى الشارع في مقام العمل ، ومن
المعلوم أنّ إسناد المؤدّى إلى الشارع والعمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّه
حكم الشارع وإلّا يكون الإسناد تشريعاً قولياً وعملياً دلّت على حرمته الأدلّة
الأربعة ، وليس التشريع إلّا إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين.
قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).
فالآية تدلّ على
أنّ الإسناد إلى الله يجب أن يكون مقروناً بالإذن منه سبحانه ، وفي غير هذه الصورة
يعدّ افتراءً سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم ، والآية
تعمّ كلا القسمين ، والمفروض انّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه ومع ذلك ينسبه
إليه.
وقال سبحانه :(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
تجد انّه سبحانه
يذم التقوّل بما لا يُعلم حدودُه من الله سواء أكان مخالفاً للواقع أم لا ،
والعامل بالظن يتقوّل بلا علم.
__________________
فخرجنا بالنتيجة
التالية :
إنّ الضابطة
الكلية في العمل بالظن هي المنع ، لكونه تشريعاً قولياً وعملياً محرّماً وتقوّلاً
على الله بغير علم ، فالأصل في جميع الظنون أي في باب الحجج هو عدم الحجّية ، إلّا
إذا قام الدليل القطعي على حجّيته.
ثمّ إنّ الأُصوليّين
ذكروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل بالدليل القطعي وبذلك خرج عن كونه تقولاً بلا
علم ، وهي :
١. خبر الواحد.
٢. الإجماع
المنقول بخبر الواحد.
٣. الشهرة
الفتوائية.
٤. قول اللغوي.
وإليك دراسة
الجميع واحداً تلو الآخر :
١ ـ الأدلّة
الظنّية
حجّية السنّة المحكية
بخبر الواحد
السنّة بمعنى قول
المعصوم أو فعله أو تقريره حجّة بلا كلام ، كما أنّه لا شكّ في حجّية الخبر الحاكي
للسنّة إذا كان خبراً متواتراً أو محفوفاً بالقرينة لإفادتهما العلم ، إنّما
الكلام في حجّية الحاكي إذا كان خبراً مجرّداً عن القرينة وكان الراوي ثقة ، فقد
ذهب معظم الأُصوليين إلى حجّيته واستدلّوا عليه بالكتاب والسنّة والإجماع ، وقد
ذكرنا دلائلهم في كتاب «الموجز» فلا حاجة إلى الإعادة.
لكن الأولى
الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية المنتشرة بينهم ، فقد جرت سيرتهم على العمل
بخبر الثقة المفيد للاطمئنان الذي هو علم عرفي وإن لم يكن علماً عقلياً ، وما هذا
إلّا لأجل انّ تحصيل العلم في أغلب الموارد موجب للعسر والحرج ، هذا من جانب ، ومن
جانب آخر انّ القلب يسكن إلى قول الثقة ، ويطمئن به ، ولأجل ذلك يعد عند العرف
علماً لا ظنّاً ، لما له من ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب ، فبملاحظة هذين
الأمرين جرت سيرتهم على الأخذ بقول الثقة.
ولو كانت السيرة
أمراً غير مرضي للشارع ، كان عليه الردع عنها كما ردع عن العمل بقول الفاسق.
وبعبارة أُخرى :
انّك إذا سبرت أحوال الأُمم في العصور الغابرة ، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل
بخبر الثقة ، وانّ عمل المسلمين به لم يكن إلّا
استلهاماً من تلك
السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.
ولو كان العمل
بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً لكان للنبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) والأئمّة المعصومين ، الردع القارع والطرد الصارم حتى
يتنبه الغافل ويفهم الجاهل. كما تضافرت الروايات على ردّ القياس وسائر المقاييس
الظنّية الدارجة بين أهل السنّة. فلو كان العمل بخبر الواحد على غرار العمل
بالقياس لعمّه الردع من قبل أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) ، ولوصلت إلينا رواياتهم الناهية عن العمل بخبر الواحد ،
وحيث إنّه لم يرد شيء من هذا القبيل ، دلّ ذلك على إمضائهم العمل بخبر الواحد.
وثمة نكتة أُخرى
وهي انّ ما استدلّ به الأُصوليّون من الكتاب والسنّة على حجّية قول الثقة ليس في
مقام تأسيس القاعدة واضفاء الحجية على قول الثقة ، بل الكلّ عند الدقة والإمعان
ناظر إلى هذه السيرة العقلائية ، فلاحظ قول الراوي (عبد العزيز بن المهتدي ،
والحسن بن علي بن يقطين) للإمام الرضا (عليهالسلام).
أفيونس بن عبد
الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : «نعم».
كما يشير إليه قول
أبي الحسن الثالث لأحمد بن إسحاق عند ما سأله بقوله من أُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من
أقبل؟ فقال الإمام : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك
عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له ، وأطع فإنّه الثقة المأمون».
فإنّ الحوار
الدائر بين الراوي والإمام حاك عن أنّ الكبرى (حجّية قول الثقة) كان أمراً مسلّماً
بينهما ، وإنّما الكلام في الموارد والمصاديق ، فقال الإمام انّ
__________________
العمري ثقة.
ولو قيل انّه ليس
على حجية قول الثقة إلّا دليل واحد ، وهو السيرة العقلائية فقط وسائر الأدلّة
إرشاد إليها أو بيان لصغريات القاعدة لم يقل قولاً مجازفاً.
ثمّ إنّ الشيخ
الطوسي «جعل سيرة الأصحاب على العمل بخبر الواحد دليلاً على الحجّية ، وبما انّ
سيرتهم كانت بمرأى ومسمع من الأئمّة ، تكشف عن إمضائهم لها» ، ولكن الحقّ انّ سيرة
أصحابنا لم تكن سيرة منقطعة عن سيرة العقلاء بل كانت متفرعة عنها ، وبما انّ دليل
الشيخ من أتقن الأدلة على حجّية قول الثقة نذكر عبارته في المقام ، حيث يقول :
إنّي وجدت الفرقة
المحقّة مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أُصولهم
، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه ،
سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة
لا يُنكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر في الله وقبلوا قوله ، وهذه عادتهم وسجيّتهم
من عهد النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ومن بعده من الأئمّة (عليهمالسلام) ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (عليهماالسلام) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلولا أنّ
العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأنّ إجماعهم فيه
معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.
ثمّ إنّ الشيخ وان
عبر في المقام بلفظ الإجماع الموهِم انّه استدلّ بالإجماع ، ولكنّه في الحقيقة
احتجاج بالسيرة العملية للأصحاب ، المستمدة من السيرة العقلائية.
__________________
الحجّة هي الخبر
الموثوق بصدوره
إذا كانت السيرة
هي الدليل الوحيد على حجّية قول الثقة ، فاعلم أنّ عمل العقلاء بمفاده لأجل كون
وثاقة الراوي مفيداً للاطمئنان بصدق الخبر ومطابقته للواقع ، وليست لوثاقته
موضوعية في المقام حتى نتوقف عن العمل عند عدم إحراز وثاقة الراوي مع حصول الوثوق
بصدور الرواية من قرائن أُخرى ، وعليه فمناط الحجّية عند العقلاء هو الخبر الموثوق
بصحته وصدوره لا خصوص كون الراوي ثقة ، ولذلك لو كان المخبر ثقة لكن دلّت القرائن
على عدم صدق الخبر لما عملوا به.
فاتّضح بما ذكرنا
انّ موضوع الحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيشمل الخبر الصحيح والموثق والحسن إذا
كانت بمرحلة موروثة للاطمئنان ، بل يشمل الضعيف إذا دلّت القرائن على صدقه.
وإلى ما ذكرنا
أشار الشيخ الأنصاري بعد بيان الأدلّة العقلية التي أُقيمت على حجّية الخبر الواحد
بقوله : والإنصاف انّ الدال فيها لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق
والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء
والمعيار فيه أن
يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به العقلاء ، ولا يكون عندهم
موجباً للتحيّر والتردّد.
__________________
٢ ـ الأدلّة
الظنّية
الإجماع المنقول بخبر
الواحد
ينقسم الإجماع إلى
محصَّل ومنقول ، فلو قام المجتهد بنفسه بتتبّع آراء العلماء في حكم واقعة وحصّل
اتّفاقهم عليه فهو إجماع محصَّل ، وأمّا إذا قام مجتهد آخر بهذا العمل ووقف على
اتفاقهم على حكم في واقعة ثمّ نقله إلى غيره ، فيكون هذا بالنسبة إلى المنقول إليه
إجماعاً منقولاً وإن كان بالنسبة إلى الناقل إجماعاً محصَّلاً.
وقد عرفت وجه
حجّية الإجماع المحصَّل ، إنّما الكلام في حجّية الإجماع المحكي بخبر الثقة ،
والبحث في المقام منصبٌّ على أمر واحد وهل يشتمل دليل حجّية قول الثقة هذا المورد (نقل
الإجماع) وعدمه ، فلو قلنا بشموله له يكون الإجماع المنقول حجّة كالإجماع المحصّل
بملاك واحد وإلّا فلا.
وبما انّ ملاك
حجّية الإجماع المحصل هو كشفه عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة فلا يكون الإجماع
المنقول حجّة إلّا إذا بلغ بهذه المرتبة أي يكون كاشفاً عن قول المعصوم أو عن حجّة
معتبرة.
ثمّ إنّ المشهور
عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، بمعنى انّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا
يعمُّ المورد ، وذلك لأنّ قول الثقة إنّما يكون حجّة إذا أخبر عن قول المعصوم أو
الحجّة المعتبرة عن حس لا عن حدس ، كما إذا أخبر زرارة عن قول الإمام بالسماع عنه
، وأمّا المقام فإنّ ناقل الإجماع وإن كان ينقل الاتفاق
عن حس لكنّه لا
ينقل قول الإمام عن حس وإنّما ينقله عن حدس ، ودليل حجّية قول الثقة لا يشمل ما
ينقله المخبر لا عن حس.
فإن قلت : إنّ
الإخبار عن حدس إذا كان مستنداً إلى الحس ، الملازم للمخبر به عند الناقل والمنقول
إليه ، فهو حجّة ، كما إذا أخبر عن الشجاعة والعدالة اللّتين هما من الأُمور
النفسانية غير المحسوسة مستنداً إلى مشاهداته في ميدان القتال وتورّعه عن
المحرّمات والمشتبهات ، فليكن الإجماع المنقول بخبر الواحد من هذا النوع من الخبر
فانّ الناقل وإن لم يخبر عن قول الإمام عن حس وإنّما يخبر عنه عن حدس لكن حدسه مستند
إلى اتّفاق العلماء الذي هو أمر محسوس ، وهو عند الناقل والمنقول إليه ملازم لوجود
الدليل المعتبر للعلماء في إفتائهم.
قلت : ما ذكرته
صحيح إذا بذل الناقل جهده لتحصيل مثل ذلك الاتّفاق الذي لا يفارق الحجّة وأنّى
لأكثر الناقلين للإجماع هذا النوع من تحصيل الجهد ، فإنّ غالب نَقَلَة الإجماع
يتساهلون في نقل الإجماع ، وربما يكتفون في ادّعاء الإجماع بالعثور على فتوى جماعة
قليلة من دون أن يكون هناك ملازمة بين الاتّفاق والدليل المعتبر.
فإذا كان هذا هو
الحال في أغلب الإجماعات الدارجة على ألسن الفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين ، فلا
يصحّ الاعتماد عليه إذ ليس هناك أيّة ملازمة بين السبب (الاتفاق الذي حصَّله
الناقل) والمسبب (قول المعصوم أو الدليل المعتبر).
نعم لو كان الناقل
ممّن لا يدّعي الإجماع إلّا بعد تتبع تام في المصادر ، وكانت المسألة من المسائل
المعنونة في العصور السابقة يمكن الاعتماد على إخباره عن الإجماع الملازم لقول
المعصوم أو الحجّة المعتبرة ، وهو بين نقلة الإجماع نادر جدّاً.
وأقصى ما يمكن أن
يقال انّ الإجماعات المنقولة تصدّ الفقيه عن التسرّع بالفتوى إلّا بعد التتبع
التام في كلمات العلماء لتُعرف مدى صحّة الإجماع.
٣ ـ الأدلّة
الظنّية
الشهرة الفتوائيّة
إنّ الشهرة على
أقسام ثلاثة :
أ. الشهرة
الروائيّة.
ب. الشهرة
العمليّة.
ج. الشهرة
الفتوائيّة.
أمّا الأُولى ،
فهي الرواية التي اشتهر نقلها بين المحدِّثين وكثرت رواتها ، كالأحاديث الواردة في
نفي التجسيم والتشبيه ونفي الجبر والتفويض عن أئمة أهل البيت (عليهمالسلام) ويقابلها النادر.
ثمّ إنّ الخبر
المشهور إنّما يكون معبِّراً عن الحكم الشرعي فيما إذا أفتى الفقهاء على وفقه ،
وأمّا إذا رواه المحدّثون ولكن أعرض عنه الفقهاء ، فهذه الشهرة موهنة لا جابرة.
أمّا الثانية ،
فهي الرواية التي عمل بها مشهور الفقهاء وأفتوا على ضوئها ، فهذه الشهرة تورث
الاطمئنان ، وتسكن إليها النفس ، وهي التي يصفها الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة
الّتي وردت في علاج الخبرين المتعارضين اللّذين أخذ بكلّ واحد منهما أحد الحكَمين
في مقام فصل الخصومات بقوله : «يُنظرُ إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي
حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيُؤخذ به من
حُكْمنا ، ويترك
الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك».
وعلى ضوء ذلك فالشهرة العملية تكون
سبباً لتقديم الخبر المعمول به على المتروك الشاذّ الذي لم يعمل به.
وهل يكون عمل
الأصحاب المتقدّمين بالرواية جابراً لضعف سندها وإن لم يكن لها معارض؟
ذهب المشهور إلى
أنّه جابر لها. نعم الجابر للضعف هو عمل المتقدّمين من الفقهاء الذين عاصروا
الأئمة (عليهمالسلام) ، أو كانوا في الغيبة الصغرى ، أو بعدها بقليل كوالد
الصدوق وولده والمفيد وغيرهم ، وأمّا المتأخّرون فلا عبرة بعملهم ولا إعراضهم ،
وقد أوضحنا ذلك في محاضراتنا.
وأمّا الثالثة ،
فهي عبارة عن اشتهار الفتوى في مسألة لم ترد فيها رواية وهي التي عقدنا البحث
لأجله ، مثلاً إذا اتّفق المتقدّمون على حكم في مورد ، ولم نجد فيه نصاً من أئمّة
أهل البيت (عليهمالسلام) يقع الكلام في حجّية تلك الشهرة الفتوائية وعدمها.
والظاهر حجّية مثل
هذه الشهرة ، لأنّها تكشف عن وجود نص معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا حتى دعاهم إلى
الإفتاء على ضوئه ، إذ من البعيد أن يُفتي أقطاب الفقه بشيء بلا مستند شرعي ودليل
معتدّ به ، وقد حكى سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف أنّ في الفقه
الإمامي مسائل كثيرة تلقّاها الأصحاب قديماً وحديثاً بالقبول ، وليس لها دليل إلّا
الشهرة الفتوائية بين
__________________
القدماء ، بحيث لو
حذفنا الشهرة عن عداد الأدلّة ، لأصبحت تلك المسائل فتاوى فارغة مجرّدة عن الدليل.
ويظهر من غير واحد
من الروايات أنّ أصحاب أئمّة أهل البيت كانوا يقيمون وزناً للشهرة الفتوائية
السائدة بينهم ويقدّمونها على نفس الرواية التي سمعوها من الإمام (عليهالسلام) ، ولنأت بنموذج :
روى عبد الله بن
محرز بيّاع القلانس قال : أوصى إليّ رجل وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك
ابنة ، وقال : لي عصبة بالشّام ، فسألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن ذلك فقال : أعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر ،
فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا : اتّقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر.
ثمّ حججت فلقيت أبا عبد الله (عليهالسلام) فأخبرته بما قال أصحابنا وأخبرته أنّي دفعت النصف الآخر
إلى الابنة ، فقال : أحسنت إنّما أفتيتك مخالفة العصبة عليك ..
توضيح الرواية :
انّه إذا توفّي الأب ولم يكن له وارث سوى البنت ، فالمال كلّه لها ، غاية الأمر :
النصف الأوّل فرضاً والنصف الآخر ردّاً.
ولكن أهل السنّة
يورّثون البنت في النصف والعصبةَ في النصف الآخر ، وقد كان حكم الإمام في اللقاء
الأوّل بما يوافق فتوى العامة ، ولمّا وقف الراوي على أنّ المشهور بين أصحاب
الإمام غير ما سمعه ترك قول الإمام وعمل بما هو المشهور عند أصحابه. فلولا أنّ
للشهرة الفتوائية قيمة علمية لما عمل الراوي بقول الأصحاب ، وهذا يدلّ على أنّه
كانت للشهرة الفتوائية يومذاك مكانة عالية إلى حدّ ترك الراوي القولَ الذي سمعه من
الإمام وقد أخبر الإمام عند وفد إليه في العام القادم وهو عليه صحّح عمله.
__________________
٤ ـ الأدلّة
الظنّية
حجّية قول اللغوي
إنّ لتمييز
الموضوع له عن غيره طرقاً قد تقدّم بعضها في الجزء الأوّل ، أعني : التبادر وصحّة
الحمل والاطراد وقول اللغويّ ، والكلام في المقام في حجّية الأخير في تعيين
الموضوع له.
وعلى القول
بالحجّية ، فهل هو حجّة من باب الشهادة وانّ اللغوي يشهد انّ العرب تستعمل ذلك
اللفظ في هذا المعنى؟ أو حجّة من باب حجّية أهل الخبرة كالمقوم؟ فيها وجهان.
فذهب بعض إلى أنّ
قوله حجّة من باب الشهادة ، فيعتبر فيه التعدّد والعدالة واخباره عن حس.
وربما يقال بأنّه
حجّة من باب حجّية قول أهل الخبرة ، كالمقوّم والطبيب ، فتشمله أدلّة حجّية قول
أهل الخبرة ، فلا تعتبر فيه العدالة والتعدّد ، بل يكفي الوثوق بقوله.
يستدلّ للقول
الأوّل بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر والرأي
فيها ، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات ، وليس له إعمال
النظر والرأي ، فيكون داخلاً في باب الشهادة وتشمله أدلّة الشهادة ، ويعتبر فيها
العدالة والتعدّد على قول المشهور.
__________________
يلاحظ عليه : أنّ
إخباره عن موارد الاستعمال فضلاً عن إخباره عن المعنى الحقيقي في مقابل المعنى
المجازيّ ليس مجرداً عن إعمال النظر والاجتهاد ، بل هو مزيج بالحدس ، ويدلّ على
ذلك انّ أصحاب المعاجم يستشهدون على إثبات مقاصدهم بالآيات والأحاديث النبوية
والأشعار ، فيستخرجون موارد الاستعمال ببركة الإمعان فيها ، فالجلُّ لو لا الكل
مزيج بالاجتهاد ويتّضح ذلك لمن سَبَرَ كتب اللغة ، فالحق حجّية قولهم من باب انّهم
أهل الخبرة.
وقد أورد على هذا
القول بعدم حجّية هذه السيرة ، لعدم وجودها في زمان المعصومين (عليهمالسلام) ، فإنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث.
يلاحظ عليه :
بوجود هذه السيرة (أي الرجوع إلى أئمّة اللغة وكتبهم) في عصر أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) ، وهذا هو الخليل بن أحمد الفراهيدي من أصحاب الإمام
الصادق (عليهالسلام) وقد أدرك عصر الإمام الكاظم (عليهالسلام) ألّف كتابه العين ليرجع إليه الناس ، وقد توفّي عام ١٧٠ ه
، وكان مرجعاً في اللغة.
وكان الأصمعي (المتوفّى
٢٠٧ ه) المرجع في اللغة والأدب ، وكان الناس يسألونه عن معاني الألفاظ ، وقد سئل
يوماً عن الألمعيّ فأنشد :
الألمعيّ الذي
يظن بك
|
|
الظن كأن قد رأى
وقد سمعا
|
وكان ابن عباس
المرجعَ الكبير في تفسير لغات القرآن ، وكان يقول : الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي
علينا الحرف من القرآن الذي أنزله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانه ، فالتمسنا معرفة
ذلك منه ثمّ قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن ، فالتمسوه في الشعر ، فإنّ الشعر
ديوان العرب.
وكان يُسأل عن
القرآن فينشد فيه بالشعر ، وقد سأله نافع بن الأزرق عن
__________________
لغات القرآن ما
يربو على مائة وسبعين سؤالاً ، فأجابه مستشهداً بشعر العرب ، وهو يعرب عن إحاطة
ابن عباس بشعر العرب وموارد استعماله ، وقد نقلها السيوطي في «الإتقان».
هذا إذا قلنا
بحجية قول اللغوي وأمّا إذا لم نقل بحجيّة قوله
، فليس للفقيه
أيضاً غنى عن الرجوع إلى المعاجم ، وذلك لأنّ هناك ألفاظاً فقهية معلومة إجمالاً ،
لكنّها مجهولة من حيث الشروط والقيود فلا تفهم إلّا بالرجوع إلى المعاجم المعتبرة
لاستظهار الحقيقة منها بالدقة والإمعان.
لا أقول : إنّ قول
اللغوي الواحد حجّة ، بل أقول إنّ الرجوع إلى المعاجم المختلفة المعتبرة والدقّة
في كلماتهم وضرب بعضها على بعض ، يورث الاطمئنان ويزيح الستار عن وجه الواقع ،
مثلاً : اختلف الفقهاء في معنى القمار والمقامرة وانّه هل يعتبر فيهما العوض أو لا؟
وهل يعتبر فيه الآلة المتعارفة أو لا؟ ولا يعلم ذلك إلّا بعد مراجعة اللغات
الأصلية حتّى يحصل الاطمئنان بواحد من الطرفين.
إلى هنا تمّ البحث
في الأدلّة الظنّية الّتي قامت على حجّيتها أدلّة قطعية ، فيبقى البحث في العرف
والسيرة ، وقد تطرّقنا إليها في «الموجز» على قدر الكفاية.
ثمّ إنّ هناك
ظنوناً غير معتبرة عندنا ومعتبرة عند أهل السنّة نتناولها بالبحث لمسيس الحاجة إلى
الوقوف عليها.
__________________
الظنون غير المعتبرة
١.
القياس
٢.
الاستحسان
٣.
الاستصلاح أو المصالح المرسلة
٤.
سدّ الذرائع
٥.
فتح الذرائع
٦.
قول الصحابي
٧.
إجماع أهل المدينة
الظنون غير المعتبرة
تنقسم الظنون
عندنا إلى قسمين : معتبرة وقد مضى الكلام فيها وغير معتبرة عندنا ، ومعتبرة عند
أكثر أهل السنّة ، وهي عبارة عن الأُمور التالية :
القياس ،
الاستحسان ، الاستصلاح ، سد الذرائع ، الحيل (فتح الذرائع) ، قول الصحابي ، إجماع
أهل المدينة ، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث على حدة.
١. القياس
ولنقدم أُموراً :
الأمر الأوّل :
حقيقة القياس
القياس في اللّغة
: هو التسوية ، يقال قاس هذا بهذا أي سوّى بينهما ، قال علي (عليهالسلام) : «لا يقاس بآل محمد (صلىاللهعليهوآلهوسلم) من هذه الأُمّة أحد»
أي لا يُسوّى بهم
أحد.
وفي الاصطلاح :
استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصٌّ ، عن حكم واقعة ورد فيها نصٌّ ، لتساويهما في
علّة الحكم ، ومناطه وملاكه.
ثمّ إنّ أركان
القياس أربعة :
الأصل : وهو
المقيس عليه.
الفرع : وهو
المقيس.
__________________
الحكم : وهو ما
يحكم به على الثاني بعد الحكم به على الأوّل.
العلّة : وهو
الوصف الجامع ، الذي يجمع بين المقيس والمقيس عليه ، ويكون هو السبب للقياس.
مثلاً إذا قال
الشارع : «الخمر حرام لكونه مسكراً» ، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة
كالنبيذ والفقاع يحكم عليهما بالحرمة ، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.
الأمر الثاني :
أقسام القياس
إنّ القياس ينقسم
إلى منصوص العلّة ، ومستنبطها.
فالأوّل فيما إذا
نصَّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم أنّها علّة الحكم الّتي يدور الحكم
مدارها لا حكمته التي ربّما يتخلّف الحكم عنها.
والثاني ، فيما
إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم
بفكره وجهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.
وينقسم مستنبط
العلّة إلى قسمين :
تارة يصل الفقيه
إلى حدّ القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه.
وأُخرى لا يصل
إلّا إلى حدّ الظن بكونه كذلك. وسيوافيك حكم القسمين تحت عنوان «تنقيح المناط».
وقلّما يتّفق
لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعاً ،
وأنّه ليس هناك ضمائم أُخرى وراء ما أدرك.
الأمر الثالث :
الفرق بين علّة الحكم وحكمته
الفرق بين علّة
الحكم وحكمته ، هو أنّ الحكم لو كان دائراً مدار الشيء وجوداً وعدماً ، فهو علّة
الحكمِ ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، وامّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذُكر
في النصّ ، أو اسْتُنْبِطَ ، فهو من حِكَم الأحكام ومصالحه ، لا من مناطاته
وملاكاته ، فمثلاً :
الإنجاب وتكوين
الأُسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، وليس من مناطاته وملاكاته ، بشهادة أنّه يجوز
تزويج المرأة العقيمة واليائسة ومن لا تطلب ولداً بالعزل ، وغير ذلك من أقسام
النكاح.
الأمر الرابع :
القياس في منصوص العلّة
العمل بالقياس في
منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة ، لا بالقياس ، لأنّ الشارع شرّع
ضابطة كلّية عند التعليل ، فنسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة
، كما في قول الإمام الرضا (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : ماء البئر واسع لا
يفسده شيء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ، ويطيب طعمه ،
لأنّ له مادة.
فإنّ قوله : «لأنّ
له مادة» تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» فيكون حجّة في غير ماء البئر ، لانّه يشمل
بعمومه ماء البئر ، وماء الحمام ، والعيون وحنفية الخزّان وغيرها ، فلا ينجس الماء
إذا كانت له مادّة ، وعندئذ يكون العمل بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل
ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلّة ، والفروع
بأجمعها داخلة تحتها.
__________________
الأمر الخامس :
قياس الأولوية
القياس الأولوي :
هو عبارة عن كونِ الفرع (ضرب الوالدين) أولى بالحكم من الأصل (التأفيف) عند العرف
، مثل دلالة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ)
على تحريم الضرب ،
ولا شكَّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفيّ ، يقف عليه كل من سمع
الآية.
الأمر السادس :
تنقيح المناط أو إلغاء الخصوصيّة
إذا اقترن الموضوع
في لسان الدليل بأوصاف ، وخصوصيات ، لا يراها العرف المخاطب دخيلة في الموضوع ،
ويتلقّاها من قبيل التمثيل على وجه القطع واليقين ، فهذا ما يسمّى بتنقيح المناط
أو الغاء الخصوصية كما إذا ورد في السؤال : رجل شك في المسجد بين الثلاث والأربع ،
فأُجيب بأنّه يبني على الأكثر ، فإنّ العرف لا يرى للرجولية ومكان الشك (المسجد) تأثيراً
في الحكم ، ولذلك يرى الحكم ثابتاً لمطلق الشاك ، من غير فرق بين الرجل والمرأة ،
والمسجد وغيره.
وهذا (قياس المرأة
بالرجل وغير المسجد بالمسجد) ليس بقياس في الحقيقة بل حكم الكل مستفاد من النصّ ،
بمساعدة فهم العرف على عدم مدخلية القيدين.
ومما ذكرنا ظهر
انّ النزاع في حجّية القياس منحصر في القياس الذي استنبط المجتهد علّته ومناطه ،
من دون أيّ دلالة عليه من جانب الشرع وإنّما يقوم به عقل المستنبط وحدسه على حدّ
الظنّ بأنّ ما استنبطه مناط الحكم وملاكه.
__________________
الأمر السابع :
السبب من وراء العمل بالقياس
ظهر القول بالقياس
بعد رحيل النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لمواجهة الأحداث الجديدة ، وكان هناك اختلاف حادّ بين
الصحابة في الأخذ به ، ولو توفّرت بأيديهم نصوص فيها لما حاموا حول القياس ، ولكن
إعواز النصوص جرّهم إلى العمل بالقياس لأجل معالجة المشاكل العالقة والمسائل
المستحدثة ، وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول
إلّا سبعة عشر حديثاً.
فإذا كان الصحيح
عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة؟! فلم يكن
له محيص إلّا اللجوء إلى القياس والاستحسان.
فأئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) ولفيف من الصحابة والتابعين رفضوه وأكثروا من ذمِّه ،
والشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وأهل بيته أبطلوا العمل بالقياس ، ووافقهم من الفقهاء
داود بن خلف ، إمام أهل الظاهر ، وتبعه ابن حزم الأندلسي ، فلم يقيموا له وزناً ،
وأوّل من توسّع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس ، وتبعه مالك ، وابن حنبل.
وقد عقد شيخنا
الحرّ العاملي في وسائله باباً خاصاً ، أسماه باب «عدم جواز القضاء والحكم
بالمقاييس» ونقل فيه ما يربو على عشرين حديثاً في النهي عن العمل بالقياس.
ومما نقل فيه انّ
أبا حنيفة دخل على أبي عبد الله (عليهالسلام) ، فقال له : «يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس».
قال : نعم ، قال :
«لا تقس فانّ أوّل من قاس هو إبليس».
فقد قاس نفسه
__________________
بآدم ، فزعم أنّه
أفضل من آدم ، لأنّه خُلِق من طين ، وهو خُلِقَ من النار ، ولم يلتفت إلى أنّ ملاك
السجود هو الروح الإلهية التي نفخت في آدم ، فصار مجلى لأسمائه وصفاته تعالى وعاد
معلّماً للملائكة.
أدلّة القائلين
بالقياس
أ. الدليل النقلي
واعلم أنّ الأصل
الأوّلي في الظنون التي لم يقم دليل على حجّيتها ، هو عدم الحجّية وقد سبق انّ
الشكّ في حجّية كلّ ظن لم يقم على حجّيته دليل يلازم القطع بعدم الحجّية ما لم يدل
دليل عليه
، وقد استدل
القائلون بحجّية القياس بوجوه نشير إلى أهمّها :
١. حديث الجارية
الخثعمية قالت : يا رسول الله إنّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً ، زمناً لا يستطيع
أن يحج ، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟
فقال لها : «أرأيت
لو كان على أبيك دين فقضيتيه ، أكان ينفعه ذلك؟» قالت : نعم ، قال : «فدَيْن الله
أحقّ بالقضاء».
٢. حديث ابن عباس
: انّ امرأة جاءت إلى النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فقالت : إنّ أُمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ ، أفأحج
عنها؟ قال : «نعم حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أُمّك دَيْن أكنت قاضية؟».
قالت : نعم ، فقال
: «اقضوا لله فإنّ الله أحقّ بالوفاء».
وجه الاستدلال :
انّ الرسول ألْحق دَيْن الله بدين الآدمي في وجوب القضاء
__________________
ونفعه ، وهو عين
القياس بشهادة أنّه قال : «فدَيْن الله أحقّ بالقضاء والوفاء».
يلاحظ على الاستدلال بكلا الحديثين
مضافاً إلى أنّ الاستدلال على حجّية قياس غير المعصوم ، بقياس المعصوم نوع من
القياس ، وهو أوّل الكلام أنّ القياس الوارد في كلام النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم)
من باب القياس الأولوي ، وذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق
الله أولى بالقضاء والوفاء كما نصّ به النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم)
في الحديث وأين هذا من مورد النزاع؟! وقد تقدّم انّ القياس الأولوي عمل بالنصّ ،
لأنّه مدلول عرفي.
٣. حديث عمر بن
الخطاب ، قال : قلت : يا رسول الله ، أتيتُ أمراً عظيماً ، قبّلتُ وأنا صائم ،
فقال رسول الله : «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم» ، فقلتُ : لا بأس بذلك ، فقال
رسول الله : «فصم».
وجه الاستدلال :
انّه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قاس القُبْلة بالمضمضة ، فحكمَ بعدم بطلان الصوم فيها
إيضاً.
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ الحديث دليل على بطلان القياس ، لأنّ عمر ظنَّ أنّ القُبلة تُبطل الصوم
قياساً على الجماع ، فردَّ عليه رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : بأنّ الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها.
وثانياً : أنّ
القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل ، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل
، وليس المقام كذلك ، بل كلاهما في مستوى واحد كغصني شجرة ، أو كجدولي نهر.
وإن شئت قلت : إنّ
المبطل هو الشرب لا مقدّمته (المضمضة) ، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته ،
فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في
__________________
الشرب ، دون
الجماع ، أرشده النبي إلى تشبيه القُبلَة بالمضمضة إقناعاً للمخاطَب ، لا استنباطاً
للحكم من الأصل.
ب : الدليل العقلي
ويقرّر بوجهين :
أ. انّه سبحانه ما
شرّع حكماً إلّا لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام
، فإذا ساوت الواقعةُ المسكوت عنها ، الواقعةَ المنصوص عليها في علّة الحكم التي
هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم ، تحقيقاً للمصلحة
التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتفق وعدلَ الله وحكمتَه أن يحرّم الخمر
لإسكارها محافظة على عقول عباده ، ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصيّة الخمر ، وهي
الإسكار ، لأنّ مآل هذا ، المحافظةُ على العقول من مسكر ، وتركها عرضة للذهاب
بمسكر آخر.
يلاحظ عليه : أنّ
الكبرى مسلّمة ، وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد ، إنّما الكلام في
وقوف الإنسان على مناطات الأحكام وعللها على وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة ، وأمّا
قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ
مناط حرمة الخمر هو الإسكار ، ولذلك روي عن أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) أنّه سبحانه حرّم الخمر وحرّم النبيُّ كلَّ مسكر.
ولو كانت جميع
الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجية القياس اثنان.
ولأجل إيضاح الحال
، وأنّ المكلّف ربّما لا يصل إلى مناطات الأحكام ، نقول :
__________________
اعلم أنّه إذا نصّ
الشارع على حكم ولم ينصّ على علّته ومناطه ، فهل للمجتهد التوصّل إلى معرفة ذلك
الحكم عن طريق السبر والتقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم ، وتصلح
لأن تكون العلّة ، واحدة منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً ، وبواسطة هذا الاختبار
تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ، ويستبقي ما يصحّ أن يكون علة ، وبهذا
الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟
ولكن في هذا النوع
من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غض النظر عن النهي الوارد في العمل بالقياس :
أوّلاً : نحتمل أن
تكون العلّة عند الله غير ما ظنّه بالقياس ، فمن أين نعلم بأنّ العلّة عندنا وعنده
واحدة؟
ثانياً : لو
افترضنا أنّ المُقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة ،
لعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل المُقيس إليه؟
ثالثاً : نحتمل أن
تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم ، مثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة
موجبة شرعاً في فساد البيع ، ولكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة
، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه ، إذا كان المهر فيه مجهولاً ، فالعلّة هي الجهل
بالثمن ، لا مطلق الجهل بالعوض حتى يشمل المهر ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع
بالمناط.
وقد ورد على لسان
أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) النهي عن الخوض في تنقيح المناط ، ويشهد بذلك ما رواه
أبان بن تغلب ، عن الإمام الصادق (عليهالسلام) يقول أبان :
قلت له : ما يكون
في رجل قطع اصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها؟
قال : «عشر من
الإبل».
قلت : قطع اثنتين؟
قال : «عشرون».
قلت : قطع ثلاثاً؟
قال : «ثلاثون».
قلت : قطع أربعاً؟
قال : «عشرون».
قلت : سبحان الله
، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً ، فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان
يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان.
قال : «مهلاً يا
أبان : هذا حكم رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية. فإذا بلغت الثلث
رجعت إلى النصف ، يا أبان : إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست مُحِق الدين».
والإمام ليس بصدد
تخطئة أبان لقطعه الحاصل من القياس ، بل بصدد إزالة يقينه بالتصرّف في مقدّماته ،
وهو أنّه أخذ الشريعة من القياس.
والذي يكشف عن هذا
المطلب ، هو أنّ الجارية تحت العبد إذا أعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها ،
وإن شاءت فارقته ، أخذاً بالسنّة حيث إنّ بريدة كانت تحت عبد ، فلمّا أُعتقت ، قال
لها رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن
تفارقيه».
__________________
ثمّ إنّ الحنفية
قالت بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أُعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد لاشتراكهما
في كونهما جاريتين اعتقتا ، ولكن من أين نعلم بأنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟
ولعلّ كونها تحت العبد وافتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم نقطع بالمناط لا يمكن
إسراء الحكم ، وهذا هو الذي دعا الشيعة إلى منع العمل بالقياس وطرح تخريج المناط
الظني الذي لا يغني من الحق شيئاً.
إلى هنا تمّ
الدليل الأوّل للقائلين بالقياس وإليك دليلهم الثاني.
ب. انّ نصوص
القرآن والسنّة متناهية ، والوقائع غير محدودة فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية
مصادر تشريعيّة لما لا يتناهى ، والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع
المتجدّدة ، ويكشف عن حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث.
يلاحظ عليه : أنّ
استدلاله هذا أشبه بدليل الانسداد عند القائلين بحجّية الظن المطلق ، ومن المعلوم
أنّه لا تصل النوبة إلى الظن إلّا بعد انسداد باب العلم ، والعلمي ، لكنه مفتوح
عندنا ببركة أحاديث العترة الطاهرة الّذين أمر النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بالتمسّك بهم وبالكتاب معاً.
إنّ أهل القياس من
السنّة رووا وصحّحوا حديث الثقلين فيجب عليهم الرجوع إليهم في العقيدة والشريعة لكونهم
عدل القرآن ولو رجعوا إليهم لاستغنوا عن العمل بالقياس الذي ما أنزل الله به من
سلطان.
إلى هنا تبيّن عدم
توفر دليل صالح لحجّية القياس مع قطع النظر عن النهي الوارد فيه ، وقد عرفت تضافر
الروايات على النهي عن القياس ، ولنذكر ما روي عن أعلام السنّة حول القياس :
__________________
١. روي عن ابن
سيرين أنّه قال : أوّل من قاس إبليس ، وما عُبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.
٢. وروي عن الحسن
البصري : أنّه تلا هذه الآية :(خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)
، قال : قاس إبليس
وهو أوّل من قاس.
٣. وروي عن مسروق
أنّه قال : إنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي.
٤. وروي عن الشعبي
قال : والله لأن أخذتم بالمقاييس لتُحرّمنّ الحلال ولتحلنّ الحرام.
إلى غير ذلك.
٢. الاستحسان
الاستحسان لغة :
عدّ الشيء حسناً ، كالاستقباح ، وهو عدّه قبيحاً.
وأمّا اصطلاحاً
فقد اختلفوا في تعريفه ولنذكر تعريفين :
١. الاستحسان :
ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. وعلى هذا التعريف ، فالاستحسان استثناء من
القياس ومخصِّص له ، وكأنّ المجتهد يترك القياس الجلي بقياس خفي.
فمثلاً مقتضى
القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة على
القول بنجاسة سؤره لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر
الإنسان في الطهارة.
٢. الاستحسان : هو
ترك الدليل في المسألة قياساً كان أو غيره ، لدليل
__________________
يستحسنه المجتهد
بعقله. ولعلّ التعريف الثاني أوفق كما يظهر من الأمثلة التي سنذكرها.
وقد كان مالك بن
أنس أكثر الناس أخذاً به ، حيث قال : الاستحسان تسعة أعشار العلم ؛ وكان الشافعي
رافضاً له ، حيث قال : من استحسن فقد شرّع ؛ إلى ثالث يفصِّل بين الاستحسان المبني
على الهوى والرأي ، والاستحسان المبني على الدليل.
والقول الحاسم في
الاستحسان هو أن يقال : إنّ المجتهد المستحسِن إذا استند إلى ما يستقل به العقل من
حسن العدل وقبح الظلم ، أو إلى دليل شرعي ، فلا إشكال في كونه حجّة ، لأنّه أفتى
بالدليل ، لا بمجرّد الاستحسان ، وأمّا إذا استند لمجرد استحسان طبعه وفكره ، وأنّ
الحكم الشرعي لو كان كذا لكان أحسن ، فهو تشريع باطل ، وإفتاء بما لم يقم عليه
دليل شرعي وهو تشريع محرّم.
ولنذكر أمثلة :
١. انّ مقتضى قوله
سبحانه :(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما).
هو قطع يد السارق
من دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، لكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام
المجاعة.
٢. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).
وقد نقل عن مالك
بن أنس إخراج الأُم ، الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن تُرضع ولدها.
يلاحظ عليه : بأنّ
التفريق بين عام المجاعة وغيره ، أو بين الأُمّهات ، إن كان
__________________
مستنداً إلى دليل
شرعي لا أقلّ من انصراف الدليل عن عام المجاعة ، أو الأُم الرفيعة المنزلة فهو ،
وإلّا فلا وجه لصرف الحكم عنهما ، لأنّ ذمّة المجتهد رهن إطلاق الدليل الأوّل فلا
يجوز له العدول عن مقتضى دليله إلى حكم آخر بمجرّد الاستحسان وموافقته لطبعه ، بل
لا بدّ من دليل شرعي يعتمد عليه في العدول ، وعلى ضوء ذلك فالعدول لو كان مستنداً
إلى دليل شرعي فهو عدول من حجّة إلى حجّة أقوى ، سواء استحسنه الطبع أم لا ، وإن
لم يكن كذلك فهو تشريع محرّم.
وبذلك يظهر أنّ
الاستحسان بما هو استحسان ليس له قيمة في مجال الإفتاء ، بل الاعتبار بالدليل ،
فلو كان هناك دليل للعدول فالمنكر والمثبت أمامه سواء ، وإن لم يكن فلا وجه
للعدول.
ولأجل ذلك نرى أنّ
بعض المتأخرين من أهل السنّة فسّره بوجه ثالث ، وقال : هو العدول عن حكم اقتضاه
دليل شرعي في واقعة إلى حكم آخر فيها ، لدليل شرعي اقتضى هذا العدول ، وهذا الدليل
الشرعي المقتضي للعدول هو سند الاستحسان.
أقول : إذا كان
ثمة دليل معتبر على العدول فلا عبرة بالاستحسان حتى يكون الدليل سنداً وعماداً له.
ويكون استخدام لفظ «الاستحسان» في المقام غير صحيح ، لأنّ الفقيه إمّا يعتمد على
دليل شرعي ، فالحجّة هو الدليل سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلّا فلا قيمة له
بمجرد أنّ الفقيه يميل إليه بطبعه.
__________________
٣. الاستصلاح
أو
المصالح المرسلة
المصالح المرسلة :
عبارة عن تشريع الحكم في واقعة لا نصّ فيها ، ولا إجماع ، وفقَ مصلحة مرسلة لم
يدلّ دليل على اعتبارها ولا على عدم اعتبارها ، وفي الوقت نفسه في اعتبارها جلب
نفع أو دفع ضرر.
فقد ذهب مالك
وآخرون تبعاً له إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه
ولا إجماع ، ولكنّ الشافعي ومن تبعه ذهبوا إلى أنّه لا استنباط ولا استصلاح ، ومن
استصلح فقد شرّع.
وقد استدل عليها
بما يلي :
إنّ الحياة في
تطوّر مستمر ومصالح الناس تتجدّد وتتغيّر في كل زمن. فلو لمتشرّع الأحكام المناسبة
لتلك المصالح لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ،
ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطورات ، وهذا مصادم لمقصد
التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها.
وقد اشترط الإمام
مالك فيها شروطاً ثلاثة :
١. أن لا تنافي
إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.
٢. أن تكون ضرورية
للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.
٣. أن لا تمسَّ
العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على هذا التفسير.
__________________
فلنذكر عدّة أمثلة
:
١. ما روي انّ عمر
منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ما كانوا يأخذونه في عهد الرسول بعد ما قوي الإسلام.
٢. تجديد عثمان
أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ، ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب
وإعلامهم.
٣. اشتراط سن
معيّنة للمباشرة عند الزواج.
٤. انشاء الدواوين
وسَكِّ النقود.
أقول : إنّ
الإمعان في الدليل يثبت بأنّ اللجوء إلى قاعدة الاستصلاح لأجل أمرين :
١. إعواز النصوص
في المسائل الفرعية المستجدة ذات المصالح. فلم يجدوا بُدّاً من تشريع الحكم على
وفقها.
ومعنى هذا أنّهم
وجدوا التشريع الإسلامي الموروث من النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) غير واف بحاجات الناس المستجدة ، لأنّ الحاجات كثيرة
والمصادر قليلة ، ولا يفي القليل بالكثير.
٢. أنّهم أعطوا
لأنفسهم حقّ التشريع في تلك المواضع.
وكلا الأمرين لا
يوافقان روح الإسلام لتصريحه بكمال الدين ، وكماله رمز كمال تشريعه ، فكيف لا يكون
التشريع الموروث عن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وافياً بالمقصود مع أنّه سبحانه قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)؟!
كما أنّ حقّ
التشريع مختص بالله سبحانه لم يفوِّضه لأحد ، وقد بيّنه بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ
__________________
لا
يَعْلَمُونَ).
والنظر الحاسم في
المقام هو : إنّ استخدام المصالح المرسلة في مجال الإفتاء يتصوّر على وجوه :
الأوّل : الأخذ
بالمصلحة وترك النصّ بالمصلحة المزعومة ، وهذا نظير إمضاء الطلاق ثلاثاً ، ثلاثاً.
روى مسلم عن ابن
عباس كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث
واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة
، فلو أمضيناها عليهم ، فأمضاه عليهم.
لا شكّ أنّ
الخليفة صدر في حكمه هذا عن مصلحة تخيّلها ، ولكنّ هذا النوع من الاستصلاح رفض
للنصّ في موردها ، وهو تشريع محرّم.
وعلى هذا نهى
الخليفة عن متعة الحج ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان.
الثاني : إذا كان
الحكم على وفق الاستصلاح مخالفاً لإطلاق الدليل كما هو الحال في منع إعطاء
المؤلّفة قلوبهم ، فإنّ مقتضى إطلاق الآية كونهم من مصارف الزكاة ، سواء أكان للإسلام
قوّة أم لا ، فتخصيص الحكم بحالة ضعف الإسلام تقديم للرأي على إطلاق الكتاب ، وقد
مرّ عن الإمام مالك أنّ من شرائط العمل بالاستصلاح عدم مخالفته لإطلاق أُصول
الشرع.
الثالث : أن يكون
الحكم على وفق المصلحة مستلزماً لإدخال ما ليس من الدين في الدين ، فيكون تشريعاً
محرّماً بالأدلّة الأربعة ، وقد عرفت أنّ من الشرائط
__________________
التي اعتبرها مالك
بن أنس أن لا تمس المصالح المرسلة العبادات ، لأنّ أغلبها توقيفية ، وعلى هذا يكون
الأذان الثاني أو الثالث بدعة محرّمة.
وأمّا المصلحة
المزعومة من عدم كفاية الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم فلا يكون مسوّغاً لتشريع
أذان آخر ، وإنّما يتوصل إليه بأمر آخر.
الرابع : أن يكون
المورد ممّا ترك أمره إلى الحاكم الإسلامي ، ولم يكن للإسلام فيه حكم خاص ، وهذا كتجنيد
الجنود وإعداد السلاح وحماية البلاد ، فإنّ القانون هو ما ورد من قوله سبحانه :(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ).
وأمّا تطبيق هذا
القانون الكلّي فهو رهن المصالح ، فللحاكم تطبيق القانون الكلّي على حسب المصالح ،
وهذا كتدوين الدواوين ، وسك النقود ، فإنّ الحكم الشرعي فيها هو حفظ مصالح
المسلمين وصيانة بلادهم من كيد الأعداء.
وعلى هذا
فالاستصلاح أو المصالح المرسلة تتحدّد بهذا القسم دون سائر الأقسام.
الخامس : تشريع
الحكم حسب المصالح والمفاسد العامّة ، فلو افترضنا أنّ موضوعاً مستجداً لم يكن له
نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، وفيه مصلحة عامة للمجتمع ، كالتلقيح
للوقاية من الجدريّ أو مفسدة لهم ، كالمخدّرات القتّالة فالعقل يحكم بارتكاب
الأُولى والاجتناب عن الثانية فيمكن أن يكون الاستصلاح منشأ لكشف العقل عن حكم
شرعي من دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع.
وبذلك يظهر أنّ
الاستصلاح لا يكون سبباً للتشريع ، وإنّما العقل ببركة تبعية الأحكام للمصالح
والمفاسد القطعيّة ، يكشف عن الحكم الشرعي.
__________________
٤. سد الذرائع
الذرائع جمع ذريعة
بمعنى الوسيلة ، فقد تطلق ويراد منها مقدّمة الشيء ، أعني ما يتوقف عليه وجوده ،
من غير فرق بين أن يكون واجباً كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة أو حراماً كالمشي إلى
النميمة أو استماع الغيبة.
وقد تطلق ويراد
منها ما يفضي إلى الحرام ، وإن لم يكن وجود الشيء متوقفاً عليه كضرب المرأة برجلها
ذات الخلاخيل فإنّه ذريعة للافتتان بها ، فإنّ الضرب بالأرجل في هذه الحالة يُفضي
إلى الافتتان وإن كان الافتتان لا يتوقف على الضرب بالأرجل.
وعلى هذا ، فحكم
الذرائع بالإطلاق الاوّل تابع لحكم ذي الذريعة ، فلو كانت ذريعة للواجب أو المستحب
أو الحرام توصف بحكمه على القول بالملازمة بين وجوب الشيء أو حرمته وبين وجوب
مقدمته أو حرمته. ويكون سدّ الذرائع عنواناً آخر لحكم المقدمة الذي يبحث عنه في
الأُصول.
كما أنّ الذريعة
بالاطلاق الثاني تدخل في الإعانة على الإثم وتكون محكومة بحكمها ، يقول سبحانه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وبذلك تبيّن انّه
ليس سدّ الذرائع مصدراً فقهيّاً مستقلاً بل هو داخل في أحد العنوانينحرمة مقدّمة
الحرام ، أو حرمة الإعانة بالإثم).
وقد أكثرت
المالكية والحنابلة من إعماله خلافاً للحنفية حيث حلّ فتح الذرائع مكانها كما
سيوافيك.
__________________
٥. فتح الذرائع
(لحيل)
إنّ فتح الذرائع
من أُصول الحنفية كما أنّ سد الذرائع من أُصول المالكية ، وقد صارت هذه القاعدة
مثاراً للنزاع وسبباً في الطعن بالحنفية حيث إنّ نتيجة التحيّل ، إبطال مقاصد
الشريعة.
ومن أكثر الناس
ردّاً للحيل ، الحنابلة ثمّ المالكية ، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع ، وهو أصل
مناقض للحيل تمام المناقضة.
إنّ إعمال الحيل
على أقسام :
الأوّل : أن يكون
التوصل بها منصوصاً في الكتاب والسنّة فليس المكلّف هو الذي يتحيّلها ، بل الشارع
رخّص في الخروج عن المضائق بطريق خاص ، كتجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار ،
وقال :(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
الثاني : إذا كان
هناك أمر واحد له طريقان أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعد
ذلك تمسّكاً بالحيلة ، لأنّه اتخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال ، وذلك كمبادلة
المكيل والموزون من المثلين ، فلو بادل التمر الرديء بالجيد متفاضلاً عُدّ رباً
محرماً ، دون ما يباع كل على حدة ، فالنتيجة واحدة ولكن السلوك مختلف.
الثالث : إذا كان
السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصّل بمثله
__________________
محرم غير ناتج ،
وذلك كالمثال الذي نقله البخاري عن أبي حنيفة وقال : في مسألة «إذا غصب جارية فزعم
انّها ماتت» فحكم القاضي في المفروض بقيمة الجارية الميّتة ، ثمّ وجدها صاحبها ،
فالجارية لصاحبها وترد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً.
ثمّ أضاف البخاري
وقال : قال بعض الناس يريد أبا حنيفة «الجارية للغاصب لأخذه القيمة».
ثمّ إنّ البخاري
ردّ عليه بقوله : «وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها فغصبها ، واعتلَّ
بأنّها ماتت حتى يأخذ ربُّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره ، ثمّ رد على أبي
حنيفة ، بقوله : قال النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «أموالكم عليكم حرام ولكل غادر لواء يوم القيامة».
وهذا النوع من
الاحتيال حرام ، لأنّ السبب الأصلي في كلام أبي حنيفة (زعم الغاصب موت الجارية) غير
مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها ، كما أنّ إخبار الغاصب بموت الجارية
جازماً أو عالماً بالخلاف (السبب الفرعي في كلام البخاري) لا يكون سبباً لخروج
الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فعدم جواز التحيّل يرجع إلى
أنّ السبب غير مؤثر.
الرابع : إذا كانت
الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته
الجدية إلّا بالمحرّم ، ولو تعلّقت بالسبب فإنّما تعلّقت به صورياً لا جدياً ، كما
إذا باع ما يساوي عشرة بثمانية نقداً ثمّ اشتراه بعشرة نسيئة إلى أربعة أشهر ، فمن
المعلوم أنّ الإرادة الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة وحيث إنّه رباً محرّم
احتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون فتح هذه الذريعة
أمراً محرّماً ، وهذا ما يسمّى ببيوع الآجال ، وقد أشار سبحانه إلى
__________________
هذا النوع من فتح
الذرائع بقوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) .
٦. قول الصحابي
تَعدّ المذاهب غير
المذهب الحنفي قولَ الصحابي من مصادر التشريع إجمالاً ، والتحقيق انّ لقول الصحابي
صوراً يختلف حكمها باختلاف الصور :
١. لو نقل قول
الرسول وسنّته يؤخذ به إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية.
٢. لو نقل قولاً
ولم يسنده إلى الرسول ودلّت القرائن على أنّه نقل قول لا نقل رأي ، فهو يعدّ في
مصطلح أهل الحديث من الموقوف للوقف على الصحابي من دون إسناد إلى النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فليس حجّة لعدم العلم بكونه قول الرسول.
٣. إذا كان
للصحابي رأي في مسألة ولم يقع موقع الإجماع إمّا لقلّة الابتلاء ، أو لوجود
المخالف ، فهو حجّة لنفس الصحابي المستنبِط ولمقلّديه إذا كان مفتياً وقلنا بجواز
تقليد الميت ، وليس بحجّة للمجتهد الآخر.
نعم ذهب مالك وبعض
الأحناف إلى حجّيته ، واختار الإمام الرازي والأشاعرة والمعتزلة عدم كونه حجّة ،
وثمة كلمة قيمة للشوكاني (المتوفّى ١٢٥٥ ه) ننقلها بنصّها قال : والحقّ انّه رأي
الصحابي ليس بحجّة ، فإنّ الله لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبينا محمّداً (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وليس لنا إلّا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأُمّة
__________________
مأمورة باتّباع
كتابه وسنّة نبيه ، ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون
بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّها تقوم الحجّة في دين
الله عزوجل بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وما يرجع إليها ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت.
وهناك حقيقة مرّة وهي أنّ حذف قول
الصحابي من الفقه السنّي الذي يعد الحجر الأساس للبناء الفقهيّ على صعيد التشريع ،
يوجب انهيار صَرْحِ البناء الذي أُشيد عليه وبالتالي انهيار القسم الأعظم من
فتاواهم ، ولو حلَّ محلّها فتاوى أُخرى ربما استتبع فقهاً جديداً لا أنس لهم به.
٧. إجماع أهل المدينة
ذهب مالك إلى
حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ أهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل ، فالحق
لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدم على القياس وخبر الواحد ، وقد
أفتى بمسائل نظراً لاتفاق أهل المدينة عليها. نظير الجمع بين الصلاتين ليلة المطر
، والقضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق ، والاسهام في الجهاد لفرس أو لفرسين
؛ وقد ردّ عليه
معاصره الليث بن سعد في رسالة مبسّطة.
لكن القول الحاسم
: إنّ اتّفاق أهل المدينة لو كان ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فيؤخذ به ،
وإلّا فلا يكون حجّة ، ومثله اتّفاق المصرين الكوفة
__________________
والبصرة وإلّا فلا
قيمة لاتفاق فئة ليسوا بمعصومين.
وكان على الإمام
مالك أن يعدَّ اتّفاق أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) أحد الحجج ، مكان عدّ إجماع أهل المدينة منها ، لأنّهم
معصومون بنصِّ الكتاب وتصريح صاحب الرسالة.
هذه هي الأمارات
التي عدّها فقهاء أهل السنّة حججاً شرعيّة ، وقد تجلّت الحقيقة ، واتضح الحق وليس
وراءه شيء.
المقصد السابع
في الأُصول العملية
|
البراءة
، التخيير
الاشتغال
، والاستصحاب
|
الأُصول العملية
إنّ المكلّف
الملتفت إلى الحكم الشرعي تحصل له إحدى حالات ثلاث :
١. القطع ، ٢.
الظن ، ٣. الشك.
فإن حصل له القطع
فقد فرغنا عن حكمه في بابه ، وانّه حجّة عقلية لا مناص من العمل على وفقه ، وإن
حصل له الظن فالأصل فيه عدم الحجّية إلّا إذا دلّ الدليل القطعي على صحّة العمل
به.
وإن حصل له الشكّ
يجب عليه العمل وفق القواعد التي قررها العقل والنقل للشاك.
ثمّ إنّ المستنبط
إنّما ينتهي إلى تلك القواعد التي تسمى ب «الأُصول العملية» إذا لم يكن هناك دليل
قطعي ، كالخبر المتواتر ، أو دليل علمي كالظنون المعتبرة التي دلّ على حجّيتها
الدليل القطعي وتسمّى بالأمارات والأدلّة
__________________
الاجتهادية ، كما
تسمّى الأُصول العملية ، بالأدلة الفقاهية ، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الأُصول مع
وجود الدليل.
وبذلك تقف على
ترتيب الأدلّة في مقام الاستنباط ، فالمفيد لليقين هو الدليل المقدّم على كلّ دليل
، ويعقبه الدليل الاجتهادي ثمّ الأصل العملي.
إنّ الأُصول
العملية على قسمين :
القسم الأوّل : ما
يختصّ بباب دون باب ، نظير :
أ : أصالة الطهارة
المختصة بباب الطهارة والنجاسة.
ب : أصالة الحلّية
المختصة بباب الشك في خصوص الحلال والحرام.
ج : أصالة الصحة
المختصة بعمل صدر عن المكلّف وشُكّ في صحّته وفساده ، سواء أكان الشكّ في عمل نفس
المكلّف فيسمّى بقاعدة التجاوز والفراغ ، أو في فعل الغير فيسمّى بأصالة الصحّة.
القسم الثاني : ما
يجري في عامة الأبواب الفقهية كافة وهي حسب الاستقراء أربعة :
الأوّل : البراءة.
الثاني : التخيير.
الثالث :
الاشتغال.
الرابع :
الاستصحاب.
فهذه أُصول عامّة
جارية في جميع أبواب الفقه ، إنّما الكلام في تعيين مجاريها وتحديد مجرى كلّ أصل
متميّزاً عن مجرى أصل آخر ، وهذا هو المهم في المقام ، وقد اختلفت كلمتهم في تحديد
مجاريها والصحيح ما يلي :
تحديد مجاري
الأُصول
إنّ الشكّ إمّا أن
يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو لا يكون. فالأوّل مورد الاستصحاب ؛
والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً ، أو لا ؛ والثاني مورد التخيير ،
والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا ؛
والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.
وعلى ذلك فقد
عُيِّن مجرى كلّ أصل بالنحو التالي :
أ. مجرى الاستصحاب
: أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.
ب. مجرى التخيير :
أن لا تكون الحالة السابقة ملحوظة وكان الاحتياط غير ممكن.
ج. مجرى الاشتغال
: إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب لو خالف.
د. مجرى البراءة :
إذا أمكن الاحتياط ولم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل ، كقبح العقاب
بلا بيان ، أو من الشرع كحديث الرفع.
ومما ذكرنا يُعلم
أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في التكليف مجرى البراءة غير تام بل مجرى البراءة
عمّا لم ينهض فيه دليل على العقاب في صورة وجود التكليف ، وإلّا يجب الاحتياط وإن
كان الشكّ في التكليف كما في الشكّ فيه قبل الفحص فيجب الاحتياط مع كون الشكّ في
التكليف.
كما أنّ ما هو
المعروف من أنّ الشكّ في المكلّف به الذي هو عبارة عمّا إذا علم نوع التكليف مع
تردد المكلّف به بين أمرين ، كالعلم بوجوب إحدى
__________________
الصلاتين مجرى
الاحتياط غير تام بل مجرى الاشتغال هو ما إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب
لو خالف وإن كان نوع التكليف مجهولاً كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ،
فالعلم بالالزام أي الجنس الجامع بين الوجوب والحرمة موجب للاحتياط لوجود الدليل
على العقاب وإن كان نوع التكليف مجهولاً.
والحاصل انّ ما
ذكرنا من الميزان لمجرى البراءة والاشتغال أولى من جعل الشكّ في التكليف مجرى
البراءة والشكّ في المكلّف به مجرى الاشتغال.
هذه هي الأُصول
العملية الأربعة وهذه مجاريها على النحو الدقيق ، وإليك البحث في كلّ من هذه الأُصول
العملية الأربعة واحداً تلو الآخر.
الأصل الأوّل
أصالة البراءة
عقد الشيخ الأعظم
لمبحث البراءة فصولاً ثلاثة باعتبار انّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو
مشتبهة بينهما ، فهذه مطالب ثلاثة.
ثمّ عقد لكلّ فصل
مسائل أربع وذلك ، لأنّ منشأ الشكّ في الجميع أحد الأُمور الأربعة.
فقدان النصّ ، أو
إجماله ، أو تعارض النّصين ، أو خلط الأُمور الخارجية ، وعلى ضوء ذلك فباب البراءة
مشتمل على مطالب ثلاثة في اثنتي عشرة مسألة ، وبذلك طال كلامه في المقام.
وأمّا ما هو السبب
لعقد الفصول الثلاثة على حدة فهو يرجع إلى أمرين :
أ : اختصاص النزاع
بين الأُصولي والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية
منها ، ودون دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.
ب : اختصاص بعض
أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية ، مثل قوله : «كلّ
شيء مطلق حتى يرد فيه نهى».
لكنّ المحقّق
الخراساني أدخل جميع المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة «وهو من
لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان
النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية» ولكلّ من السلوكين وجه.
وبما انّا اقتفينا
أثر الشيخ الأعظم في الموجز ، نمسك عن الاطالة ونعقد
للجميع عنواناً
واحداً فنقول :
دلّت الأدلة على
أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط ولكن لم ينهض دليل على العقاب حسب
تعبيرنا أو إذا كان الشكّ في التكليف حسب تعبير المشهور هو البراءة وعدم وجوب
الاحتياط ، فلنذكر ما هو المهم من الأدلة روماً
للاختصار :
الاستدلال بالكتاب
١. التعذيب فرع
البيان
دلّت آيات الذكر
الحكيم على أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً على تكليف إلّا بعد بعث الرسول الذي هو
كناية عن بيان التكليف ، وقد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما
يلي :
١. قال سبحانه :(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
٢. وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ).
والاستدلال
بالآيتين مبني على أمرين :
الأوّل : انّ صيغة
«وما كنّا» أو «ما كان» تستعمل في إحدى معنيين : إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله
تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
، أو نفي الإمكان
كقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
__________________
بِإِذْنِ
اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً).
الثاني : انّ بعث
الرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم) كناية عن إتمام الحجّة على الناس ، وبما انّ الرسول أفضل
واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلّا يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً
لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة.
وعلى ضوء ذلك فلو
لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان
البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ،
لقبح العقاب إلّا في الواصل من التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية
الحجة.
والمكلف الشاك في
الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي
ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط ، ينطبق عليه قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً)أي نُبيّن الحكم والوظيفة.
ولأجل ذلك نرى
أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَها مُنْذِرُونَ).
هذا كلّه حول
الآيتين الأُوليين.
٣. وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى).
٤. وقال سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
والاستدلال بهما
مبني على أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، وهو
__________________
انّ التعذيب قبل
البيان قبيح ، فأرسل الرسل لإفحام المشركين ودحض حجتهم يوم القيامة ، فلو كان
منطقهم عند عدم البيان منطقاً ، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ
التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نرى أنّه سبحانه استصوبه وأرسل الرسل لإتمام الحجّة.
٢. الإضلال فرع
البيان
قال سبحانه :(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وجه الاستدلال :
انّ التعذيب من آثار الضلالة ، والضلالة معلَّقة على البيان في الآية ، فيكون
التعذيب معلَّقاً عليه ، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلّا بعد بيان ما يجب العمل
أو الاعتقاد به.
فإن قلت : ما هو
المراد من إضلاله سبحانه ، فانّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى الله سبحانه؟
قلت : انّ الإضلال
يقابل الهداية ، وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.
توضيحه : انّ لله
سبحانه هدايتين : هداية عامّة تعم جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى
الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان
الحقائق ، مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان
إلى فعل الخير.
هداية خاصّة وهي
تختص بمن استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله
__________________
الألطاف الإلهية
الخفية التي نعبر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.
قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا).
وأمّا إذا لم
يستفد من الهداية الأُولى ، فلا يكون مستحقاً للهداية الثانية ، فيضلّ بسبب سوء
عمله ، فإضلاله سبحانه ، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض من الاستضاءة
بالهداية الأُولى.
قال سبحانه :(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)
فإضلاله سبحانه
كإزاغته نتيجة زيغهم وإعراضهم وكِبْرهم وتولّيهم عن الحقّ.
وبذلك يظهر مفاد
كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى الله سبحانه فالمراد هو قبض الفيض لأجل
تقصير العبد لعدم استفادته من الهداية الأُولى فيصدق عليه انّه أضلّه الله سبحانه.
قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)
أي يضلّه لأنّه
مسرف كذّاب لم يهتد بالهداية الأُولى فأسرف وكذّب) فاستحق قبض الفيض وعدم شمول
الهداية الخاصة له.
وفي آية أُخرى (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)
فقوله : «يضلّ» في
هذه الآية هو نفس قوله : «لا يهدي القوم الفاسقين» في الآية السابقة فكلاهما
يرميان إلى معنى واحد وهو عدم الهداية لقبض الفيض لعدم قابليته للهداية الثانوية
لأجل إسرافه وكذبه وارتيابه.
إلى هنا تمّ
الاستدلال بالآيات وهناك آيات أُخر تركنا البحث فيها روماً للاختصار.
__________________
الاستدلال بالسنّة
١. حديث الرفع
روى الصدوق في «التوحيد»
و «الخصال» عن أحمد بن محمد بن يحيى ، عن سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن
حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «رفع عن أُمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما
أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة
، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».
ورواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن
أبي عبد الله (عليهالسلام)
: «وضع عن أُمّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ،
وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ،
والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد».
ورواة الحديث الأُولى كلهم ثقات ،
والرواية صحيحة.
وأمّا أحمد بن
محمد بن يحيى ، فهو وإن لم يوثق ظاهراً ولكن المشايخ أرفع من التوثيق فهو من مشايخ
الصدوق فهو ثقة قطعاً.
نعم الرواية
الثانية مرفوعة ، مضافاً إلى انّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه ، كما ذكره
النجاشي في ترجمته.
وتوضيح الاستدلال
رهن بيان أُمور :
١. انّ الفرق بين
الرفع والدفع هو انّ الأوّل عبارة عن إزالة الشيء بعد
__________________
وجوده وتحقّقه ،
كما أنّ الثاني عبارة عن المنع عن تقرر الشيء وتحقّقه بعد وجود مقتضيه ، يقول
سبحانه : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)
، فكانت السماء
والأرض ملتصقتين فأزالها عن مكانها.
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ)
، أي ما له من شيء
يمنع عن تحقّقه بعد تعلّق إرادته بالوقوع.
وعلى ذلك فاستعمال
الرفع في المقام لأجل تحقّق هذه الأُمور التسعة في صفحة الوجود ، فتعلّق الرفع بها
باعتبار كونها أُموراً متحقّقة.
نعم رفع هذه
الأُمور التسعة بعد تحقّقها رفع ادّعائي باعتبار رفع آثارها ، فتعلّقت الإرادة
الاستعمالية برفع نفس هذه الأُمور التسعة المتحقّقة ، وتعلّقت الإرادة الجدية برفع
آثارها.
٢. انّ نسبة الرفع
إلى هذه التسعة مع وجودها يحتاج إلى مصحّح ومسوّغ وإلّا يلزم الكذب ، وليس الحديث
متفرداً في هذا الباب ، بل له نظائر ، مثل قوله : «لا ضرر ولا ضرار» ، «لا طلاق
إلّا على طهر» ، «لا رضاع بعد فطام» ، «لا رهبانية في الإسلام» فمع أنّ هذه
الأُمور التي دخلت عليها «لا» النافية ، موجودة متحقّقة في صحيفة الوجود لكن
الشارع أخبر عن عدمها والمصحح لهذا الإخبار هو سلب آثارها ، مثلاً لا يترتب على
الرضاع بعد الفطام أثر الرضاعة وهكذا ، وعلى ذلك فيلزم تعيين ما هو الأثر المسلوب
في هذه التسعة خصوصاً قوله : «ما لا يعلمون» وهذا هو المهم في المقام.
٣. انّ لفظة «ما» في
قوله : «ما لا يعلمون» موصولة تعمّ الحكم والموضوع المجهولين ، لوضوح انّه إذا جهل
المكلّف بحكم التدخين ، أو جهل بكون المائع
__________________
الفلاني خلاً أو
خمراً ، صدق على كلّ منهما انّه من «ما لا يعلمون» ، فيكون الحديث عاماً حجّة في
الشبهة الحكمية والموضوعية معاً.
وربما يتصوّر أنّ
الموصول مختص بالموضوع المجهول لا الحكم المجهول ، بشهادة قوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في الفقرات التي أعقبته ، أعني : «وما أُكرهوا عليه» و «ما
لا يطيقون» و «ما اضطروا إليه» ، فإنّ المراد هو الفعل المكرَه عليه ، والعمل
الخارج عن الإطاقة ، والعمل المضطرّ إليه ، فيلزم أن يكون المراد من الموصول في «ما
لا يعلمون» هو العمل المجهول لا الحكم المجهول ، فيختصّ الحديث بالشبهات
الموضوعية.
يلاحظ عليه : أنّ «ما»
الموصولة استعملت في جميع الفقرات في المعنى المبهم ، لا في الحكم ولا في الموضوع
، وإنّما يعلم السعة (شمولها للحكم والموضوع المجهولين) ، والضيق (اختصاصها
بالموضوع) من صلتها ، والصلة «فيما لا يعلمون» قابل للانطباق على الموضوع والحكم ،
دون سائر الفقرات ، فإنّها لا تنطبق إلّا على الفعل ، ولا يكون ذلك قرينة على
اختصاص الفقرة الأُولى بالشكّ في الموضوع.
أضف إلى ذلك : أنّ
المرفوع في «الحسد» «والطيرة» و «التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» هو
الحكم ، أي حرمة الحسد والطيرة ، وأمّا النسيان والخطأ المرفوعان في الحديث
فيتعلّقان بالحكم والموضوع معاً ، فيصلحان لكلا الأمرين : نسيان الحكم أو الموضوع
ومثله الخطأ.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : إنّ الرفع كما عرفت رفع تشريعي ، والمراد منه رفع الموضوع بلحاظ رفع أثره
، فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحِّحاً لنسبة الرفع
إليها ، فهنا أقوال ثلاثة :
١. المرفوع هو
المؤاخذة.
٢. المرفوع هو
الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات ، كالمضرّة في الطيرة ، والكفر في
الوسوسة.
٣. المرفوع هو
جميع الآثار أو الآثار البارزة.
والظاهر هو الأخير
، لوجهين :
الأوّل : أنّه
مقتضى الإطلاق وعدم التقييد بشيء من المؤاخذة والأثر المناسب.
الثاني : أنّ فرض
الشيء مرفوعاً في لوح التشريع ينصرف إلى خلوّه عن كلّ أثر وحكم ، أو عن الآثار
البارزة له.
فلو كان البعض
مرفوعاً دون البعض ، فلا يطلق عليه أنّه مرفوع.
وعلى ذلك فالآثار
كلّها مرفوعة سواء تعلّق الجهل بالحكم كما في الشبهة الحكمية ، أو بالموضوع كما في
الشبهة الموضوعية.
وإن شئت قلت : إنّ
وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر
مطلقاً فيصحّ للقائل أن يقول بأنّه مرفوع ، وإلّا فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض
لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً ، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر
ووجوب جلد الشارب ، أو الوضعية كالجزئية والشرطية عند الجهل بحكم الجزء والشرط أو
نسيانهما وكالصحة في العقد المكره.
ويؤيد عموم الآثار
ما رواه البرقي ، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً ، عن
أبي الحسن (عليهالسلام) في الرجل يُستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة
ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : «لا ، قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : وضع عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما
أخطئوا».
__________________
وقد تمسّك الإمام
بالحديث على بطلان الطلاق ورفع الصحة ، فيكشف عن أنّ الموضوع أعم من المؤاخذة
والحكم التكليفي والوضعي.
تنبيه
المراد من الآثار
الموضوعة ، هي الآثار المترتبة على المعنون ، أي ما تعلّق بالنسيان أو الخطاء أو
الجهل ، لا آثار هذه العنوانات مثلاً دلّ الدليل الاجتهادي على وجوب سورة تامّة في
الصلوات الواجبة كما في قوله (عليهالسلام) «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر».
واطلاقه يعم حالتي
الذكر والنسيان فالوجوب الضمني ثابت في الحالتين مع قطع النظر عن حديث الرفع وأمّا
معه فهو حاكم عليه ، حيث يرفع وجوبها في حالة النسيان ، ويخصّه بحالة الذكر.
وأمّا ما دلّ على
وجوب سجدتي السهو عند نسيان الجزء كما في قوله (عليهالسلام) : «تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة ونقصان تدخل عليك أو
نقصان»
فهو غير مرفوع
لأنه أثر نفس النسيان ، لا أثر المنسىّ أعني وجوب السورة.
ومثله إذا قتل
إنساناً خطأ ، فالمرفوع هو أثر القتل أعني القصاص الوارد في قوله سبحانه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)
الشامل اطلاقه
حالتي العمد والخطأ.
وأمّا الأثر
المترتّب على عنوان الخطأ كالدية الّتي دلّ عليها قوله سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ)
فهي غَيْرُ
مرفوعة.
__________________
٢. مرسلة الصدوق
روى الصدوق مرسلاً
في «الفقيه» وقال : قال الصادق (عليهالسلام) : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».
والحديث وإن كان
مرسلاً ، ولكن الصدوق يُسنده إلى الإمام الصادق (عليهالسلام) بصورة جازمة ، ويقول : قال الصادق (عليهالسلام) ، وهذا يعرب عن يقينه بصدور الحديث عن الإمام الصادق (عليهالسلام) ، نعم لو قال رُوي عن الإمام الصادق (عليهالسلام) كان الاعتماد على مثله مشكلاً.
أمّا كيفية
الاستدلال : فقد دلّ الحديث على أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق والإرسال حتى يرد
فيه النهي بعنوانه ، فإنّ الضمير في قوله : «يرد فيه» يرجع إلى الشيء بما هو هو ،
كأن يقول : الخمر حرام ، أو الرشوة حرام ، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون
محكوماً بالإطلاق والإرسال ، وبما أنّ التدخين لم يرد فيه النهي بعنوانه الأوّلي فهو
مطلق ، وعلى هذا فلا يكفي في رفع الإطلاق ورود النهي بعنوانه الثانوي كأن يقول :
إذا شككت فاحتط ، بل هو باق على إطلاقه حتى يرد النهي فيه بالعنوان الأوّلي ،
فتكون الشبهات البدوية التي لم يرد النهي فيها بعنوانها الأوّلي محكومة بالإطلاق
والحليّة.
وعلى هذا لو تمّ
دليل الأخباري بورود النهي عن ارتكاب الشبهات التحريمية بالعنوان الثانوي (الشبهة)
وقع التعارض بينه وبين دليله.
نعم لو قلنا بأنّ
المراد من قوله «حتى يرد فيه نهي» هو الأعم من ورود النهي بعنوانه الأوّلي أو
بعنوانه الثانوي ، يكون دليل الأخباري مقدّماً عليه ، لأنّ الإطلاق في المقام
معلّق على عدم ورود النهي مطلقاً ، لا بالعنوان الأوّلي ولا الثانوي ، والأخباري
يدّعي ورود النهي بعنوانه الثانوي وحصول المعلّق عليه.
__________________
ولكن تفسير الحديث
بهذا النحو الأعم خلاف الظاهر ، لأنّ ظاهر قوله : «حتى يرد فيه» أي يرد النهي في
نفس الشيء بما هو هو.
إلى هنا تمّ
الاستدلال على البراءة بالكتاب العزيز والسنّة المطهّرة ، بقي الكلام في الاستدلال
عليها بالعقل.
الاستدلال بحكم
العقل
استدلّ القائل
بالبراءة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما
تقتضيه وظيفتُه من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه ، وانّ وجود
التكليف في الواقع مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب ، وانّ وجوده
بلا وصول إلى المكلّف كعدمه في عدم ترتب الأثر ، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى
المولى في كلتا الصورتين التاليتين :
١. ما إذا لم يكن
هناك بيان أصلاً فحاله معلوم.
٢. ما إذا كان
هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد ، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إلى
المولى إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد ، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف ، ومع
تركه يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى وذلك لانّه اقتصر في طلب المقصود ،
بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي ، ولو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك
فيه وعدم الظفر به بعد الفحص ، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفّظ ، ومع عدمه
يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح ، ويشكَّل قياساً بالشكل التالي :
العقاب على محتمل
التكليف بعد الفحص التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا
بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.
والعقاب بلا بيان
مطلقاً أمر قبيح.
فينتج انّ العقاب
على محتمل التكليف أمر قبيح.
الإشكال على كبرى
البرهان
ثمّ إنّ السيد
الشهيد الصدر قدِّس سرُّه استشكل على كبرى هذا البرهان وأنكر قبح العقاب بلا بيان
بتأسيس مسلك «حق الطاعة لله سبحانه» ، فقال :
والذي ندركه
بعقولنا انّ مولانا سبحانه وتعالى ، له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه
بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ، ما لم يرخص هو نفسه في عدم التحفّظ.
وعلى ذلك فليست
منجّزية القطع ثابتة له بما هو قطع بل بما هو انكشاف وانّ أيّ انكشاف ، منجِّز ،
مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.
نعم كلما كان
الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشد ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا
محالة مرتبة أشدّ من التنجز والإدانة ، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف ، وبهذا
يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال في أصل المنجزية ، وإنّما يتميز عنهما
في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية (بأن يرخص على خلاف ما قطع) لانّ الترخيص في
مورده مستحيل ، وليس كذلك في حالات الظن والاحتمال ، فانّ الترخيص الظاهري فيها
ممكن لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك والشكّ موجود.
ومن هنا صحّ أن
يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة على الإطلاق وانّ منجزية غيره من الظن
والاحتمال معلقة لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ.
__________________
يلاحظ عليه أوّلاً
: أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل وإن لم يستوف المولى
البيان الممكن غير تام ، وذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا
الحكم العقلي ، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدى
العقلاء حتى يعتمد عليه المولى سبحانه في التنجيز والتعذيب ولكن المعلوم خلافها إذ
لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي والأخباري لما
ستعرف من أنّ الأخباري لا ينكر الكبرى وإنّما ينكر الصغرى أي عدم البيان ويقول
بورود البيان بالعنوان الثانوي كوجوب الاحتياط والتوقّف في الشبهات.
وثانياً : أنّ
اتفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام
بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ
العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلّا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو
كما ترى.
وثالثاً : انّ
الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدلُّ بها الوحي على
الناس ويقول : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
ويذكر في آية
أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل ، حجّة الكفار والعصاة حيث قال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)
فتبين بذلك انّ
الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على نحو ما ذكرناه.
الإشكال على صغرى
البرهان
قد عرفت حال
الإشكال على الكبرى ، ولكنّ هناك إشكالاً آخر يتوجه إلى
__________________
الصغرى تعرّض إليه
المحقّقون ، وحاصل الإشكال انّه يكفي في مقام البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل ، الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية ، ويكون شكل القياس بالنحو
التالي :
في المشتبه
التحريمي ضرر محتمل.
وكل ما فيه ضرر
محتمل يلزم تركه.
فينتج المشتبه
التحريمي يجب تركه.
يلاحظ عليه : انّ
المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة :
أ. العقاب
الأُخروي.
ب. الضرر الدنيوي
الشخصي.
ج. المصالح
والمفاسد الاجتماعية.
أمّا الأوّل : أي
العقاب الأُخروي فهو بين قطعيّ الإحراز ، وقطعيّ الانتفاء ، وليس هنا ضرر محتمل ،
فالأوّل كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه ، فينطبق الكبرى
على الصغرى ولذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية.
وأمّا الثاني : أي
قطعي الانتفاء كما في المقام ، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي الانتفاء بحكم العقل
على قبح العقاب بلا بيان ، ومع العلم بعدمه لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجردة عن
الصغرى ، وبذلك يعلم انّه لا تعارض بين الكبريين «قبح العقاب بلا بيان» و «وجوب
دفع الضرر المحتمل» وانّ لكلّ موضعاً خاصاً ، فمورد الأُولى هو الشبهة البدوية ،
كما أنّ موضع الثانية إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.
وهذا يعرب عن أنّ
ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على الثانية أمر غير
صحيح ، فانّ
الورود فرع التعارض ولا معارضة بينهما بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما
يطلبه الآخر لنفسه ، فمورد قاعدة القبح هو ما إذا لم يكن من المولى أيّ بيان ، كما
أنّ مورد القاعدة الثانية ما إذا تم البيان وإن جهل المتعلّق.
هذا كلّه حول
العقاب الأُخروي وأمّا الضرر الدنيوي الشخصي فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ الأحكام الشرعية
لا تدور مدار الضرر أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ملازماً لاحتمال
الضرر الشخصي على الجسم والروح بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية ، وربما تكمن
المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا وترك الظلم على الناس.
نعم ربما يجتمع
الضرر الشخصي مع المفسدة النوعية كشرب المسكر لكنّه ليس ضابطة كلية.
سلّمنا انّ في
ارتكاب المشتبه احتمالَ ضرر دنيوي لكن إنّما يجب دفعه إذا لم يكن في تجويز
الارتكاب مصلحة كما هو المقام ، لأنّ في الترخيص دفعَ عسر الاحتياط.
وأمّا الثالث : أي
المصالح والمفاسد النوعية فحكم الشارع بالبراءة يكشف عن أحد الأمرين : إمّا عدم
الأهمية ، وإمّا لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة.
أدلة الأخباري على
وجوب الاحتياط
استدلّ الأخباري
على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلة الثلاثة : الكتاب والسنة
والعقل ، وبما انّا استقصينا ذكر أدلّتهم وأجوبتها في الموجز فلا حاجة إلى
التكرار.
__________________
تنبيهات
إنّ في المقام
أُموراً يلزم التنبيه عليها ، لأنّ لها دوراً هاماً في استنباط الأحكام.
التنبيه الأوّل :
في حكومة الأصل الموضوعي على البراءة والحلية
من المعروف انّ
الأُصول الموضوعية التي تجري في الموضوع وتُنقّح حاله مقدمة على الأُصول الحكمية
كأصالة البراءة والحلّية بيانه :
إنّ موضوع البراءة
العقلية هو عدم البيان ، وموضوع البراءة الشرعية هو الشكّ في الحكم الشرعي ، فلو
كان هناك أصل آخر يصلح لأن يكون بياناً أو رافعاً للشكّ تعبّداً فلا يبقى موضوع
لأصل البراءة ، ولهذا اشتهر أنّ الأصل المنقِّح للموضوع ، حاكم على أصل البراءة ،
أو أصالة الحلّية.
فمثلاً : إذا
شككنا في تذكية حيوان على النحو الوارد في الشرع فمقتضى الأصل الحكمي هو الحليّة ،
لدخوله تحت قوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف انّه حرام بعينه» ، ولكنّه محكوم بأصل
موضوعيّ آخر أعني أصالة عدم التذكية ، وهو أصل موضوعي ينقِّح حال الموضوع ،
ويُحرِز انّه غير مذكى ، وبطبع الحال يكون محرّماً لا حلالاً ، وهذا الأصل عبارة
عن استصحاب عدم التذكية ، لأنّه حينما كان حيّاً لم يكن مذكى ، وبعد زهوق روحه
نشكّ في تذكيته ، فاستصحاب عدم التذكية مقدّم على أصالة الحل ، وذلك لأنّ الشكّ في
الحليّة مُسَبب عن الجهل بحال الموضوع وأنّه هل وردت عليه التذكية أو لا؟ فإذا ثبت
حال الحيوان بالاستصحاب ، وحكم عليه بعدم التذكية ، لا يبقى الشكّ في حرمته ، وهذا
ما يعبر عنه بتعبيرين :
أ. حكومة الأصل
الموضوعي (عدم التذكية) على الأصل الحكمي (الحلية).
ب. حكومة الأصل
السببي (عدم التذكية) على الأصل المسببي (الحلية).
مثال آخر : لو
افترضنا دلالة الدليل الاجتهادي على جواز مسّ المرأة بعد النقاء وقبل الاغتسال ،
ولكن وقع الشكّ في حصول النقاء ، فاستصحاب كونها حائضاً حاكم على أصالة الحلية
لأنّه بيان ، فيرتفع موضوع البراءة العقلية ، ورافع أيضاً للشك في الظاهر فيكون
رافعاً لموضوع البراءة الشرعية.
التنبيه الثاني :
في حسن الاحتياط
لا شكّ في حسن
الاحتياط (بشرط أن لا يخل بالنظام عقلاً ، أو لا ينجرّ إلى العسر والحرج شرعاً) ،
ولكن الظاهر من الشيخ الأعظم اتّفاق الفقهاء على لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة
: النفوس ، والأعراض ، والأموال مطلقاً ، فيجب الاحتياط لكون المحتمل ذا أهميّة
حتّى وإن كان الاحتمال ضعيفاً ، مع كون الشبهة موضوعية.
والظاهر انّ
اتّفاقهم على وجوب الاحتياط فيها مبنيّ على قاعدة مضى الإيعاز إليها في مبحث العام
والخاص
وهي انّ كلّ موضوع
كانت الحرمة والفساد هو الحكم الأصلي فيه ، يجب الاجتناب عنه حتى في الشبهة
الموضوعية ، ولذلك حكم الفقهاء بالاحتياط وراء الموارد الثلاثة أيضاً ، كما إذا
ترددت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها أو غيرها ، أو تردّد بيع الوقف بين
احتمال وجود المسوِّغ فيه وعدمه ، أو تردّد تصرف غير الولي في مال اليتيم بين وجود
الغبطة فيه ، وعدمه ، ففي هذه الموارد يحمل على الحرمة والفساد ، لأنّ طبيعة
الموضوع تقتضي الحرمة والفساد إلّا ما خرج بالدليل.
__________________
التنبيه الثالث :
قاعدة التسامح في أدلّة السنن
اشتهر بين الأصحاب
قاعدة «التسامح في أدلّة السنن» ويراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها والعمل بها ما
يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات والمحرمات من كون الراوي ثقة ، ضابطاً ، بل يكفي
وروده ولو عن طريق ضعيف ، والمسألة معنونة في كلمات الفريقين ، غير انّ أهل السنة
يعبِّرون عن المسألة بقولهم : العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال.
وقد ورد عن أئمّة
أهل البيت (عليهمالسلام) روايات متعددة في ذلك المضمار وربما يناهز عددها إلى خمسة
بعد توحيد بعضها مع بعض.
وقد اختلفت كلمة
الأُصوليّين في تفسير هذه الروايات ، ونحن نذكر بعض الروايات ثمّ نبحث في مدلولها.
١. روى الكليني
بسند صحيح عن ابن أبي عمير ، عن حسن بن سالم ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له ،
وإن لم يكن على ما بلغه».
رواه البرقي عن
هشام بن سالم بمتن آخر وهو :
«من بلغه عن النبي
شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (عليهالسلام) لم يقله».
__________________
٢. روى صفوان ، عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به
كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله لم يقله».
إلى غير ذلك من
الروايات.
فذهب الشيخ
الأنصاري إلى أنّ هذه الأخبار لا تدلّ إلّا على ثبوت الأجر للعامل ولا يدلّ على
استحباب نفس العمل ، وبالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردد بين الاستحباب
وغير الوجوب ، بهذه الأخبار.
وقال صاحب
العناوين : إنّ مفادها هو انّه لا يعتبر في الخبر الوارد في المستحبات ما يشترط
فيما دلّ على الحكم الإلزامي ، ويكون مفاد هذه الأخبار إضفاء الحجية للخبر الضعيف
في مجال خاص وبالتالي بكون الفعل مستحباً بالذات ، مضافاً إلى ترتب الثواب.
والحقّ مع النظرية
الأُولى ، لأنّ لسانها غير لسان إعطاء الحجية للخبر الضعيف ، وذلك لأنّ لسان
الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف والبناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع كما في
قوله : «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي»
، لا الأخذ به مع
احتمال عدم ثبوت المؤدّى في الواقع كما هو الحال في روايات هذا الباب حيث يقول : «وإن
كان رسول الله لم يقله» ، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجية ولا يصلح لها.
ثمرات القاعدة
وتظهر الثمرة في
عدّة موارد منها :
١. لو ورد خبر غير
معتبر بالأمر بالوضوء في وقت خاص كدخول المسجد ،
__________________
فعلى القول الأوّل
لا يترتب عليه إلّا الثواب ، وعلى الثاني يعامل معه معاملة المستحب بالذات فيكون
رافعاً للحدث.
٢. لو ورد خبر
ضعيف يدل على استحباب غسل اللحية المسترسلة ، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز
المسح ببلله إذا جفّت يده ، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.
وفي بعض هذه
الثمرات نظر ذكرناه في محاضراتنا الأُصولية.
__________________
الأصل الثاني
أصالة التخيير
وقبل الخوض في
المقصود نقدّم أُموراً :
الأوّل : كان
الواجب على علماء الأُصول المتأخرين عقد فصل خاص لأصالة التخيير كبقية الأُصول
العملية غير انّهم بحثوا قسماً منه في أصالة البراءة وقسماً آخر في أصالة الاحتياط
، وصار ذلك سبباً لغموض البحث وعدم وقوف الطالب على مجرى أصالة التخيير. بصورة
واضحة.
الثاني : انّ
الميزان في جريان أصالة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط ، أعني الموافقة القطعية ،
سواء أكانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة
في واقعة واحدة ، كشرب مائع مردد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة واحدة ، أو
كانت ممكنة كتردده بينهما مع تعدد الواقعة ككل ليلة جمعة إلى شهر.
الثالث : انّ
دوران الأمر بين المحذورين يجتمع تارة مع الشكّ في التكليف إذا كان نوعه مجهولاً ،
ومع الشكّ في المكلف به إذا كان نوعه معلوماً والمتعلّق مردداً بين أمرين غير
قابلين للاحتياط :
أمّا الأوّل :
كتردد العبادة في أيام الاستظهار بين كونها واجبة أو محرمة ، فهنا تكليف واحد
مجهول نوعه ، فلو كانت المرأة حائضاً فنوع التكليف هو الحرمة ولو كانت مستحاضة
فنوع التكليف هو الوجوب.
وأمّا الثاني :
كما إذا علم أنّ واحدة من الصلاتين واجبة وأُخرى محرمة ، وتردد
أمرهما بين الظهر
والجمعة ، فالنوع هنا معلوم وهو انّ هنا واجباً ومحرماً ، غير انّ الموضوع مردد
بين الجمعة والظهر ، فالجامع لكلا القسمين عدم امكان الموافقة القطعية.
ثمّ إنّ القوم
ذكروا ما إذا كان نوع التكليف مجهولاً كدوران الأمر بين محذورين في باب البراءة ،
كما ذكروا ما إذا كان نوعه معلوماً والمتعلّق مردداً في باب الاشتغال ، وصار ذلك
سبباً لغموض البحث.
ونحن عقدنا لهذا
الأصل عنواناً مستقلاً وأوردنا الجميع في هذا الفصل.
الرابع : انّ
الكلام يقع في مقامات ثلاثة :
أ. دوران الأمر
بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التوصلي.
ب. دوران الأمر
بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي.
ج. دوران الأمر
بين المحذورين مع العلم بنوع التكليف والشكّ في المكلّف به.
وإليك الكلام في
كلّ واحد منها.
المقام الأوّل :
دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع الحكم التوصلي
إذا دار أمر
التكليف بين المحذورين ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان أو حرمته ، ومنشأ
التردد كونه مجهول الهوية ، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً ، فعلى الأوّل
يحرم قتله ، وعلى الثاني يجب ، فأمر القتل دائر بين الحرمة والوجوب ، ولكن الحكم
الواقعي الأعم من الوجوب والحرمة على فرض ثبوته ، توصلي.
هذا فيما إذا كانت
الشبهة موضوعية ، وربما تكون الشبهة حكمية كالولاية عن الجائر لدفع الظلامة عن
الناس ، فقالت طائفة بالحرمة ، لأنّها إعانة للظالم ،
وأُخرى بالوجوب
لأنّ فيها التمكّن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب المقدرة.
لا شكّ انّ
المخالفة والموافقة القطعيتين غير ممكنة والمكلّف مخيّر تكويناً بين الفعل والترك
، لكن يقع الكلام في الحكم الظاهري والأصل الجاري في المقام. والظاهر انّ المقام
محكوم بالبراءة العقلية والنقلية.
أمّا الأوّل :
فلأنّ كلًّا من الوجوب والحرمة مجهولان فيقبح المؤاخذة عليهما.
وأمّا الثاني :
فلعموم قوله : رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.
نعم لا تجري أصالة
الإباحة المستفادة من قولهم : كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وذلك لأنّ أصالة
الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة
في الفعل والترك وذلك يناقض العلم بالإلزام ، وهو لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو
ظاهراً.
هذا هو أحد
الأقوال في الحكم الظاهري ، وهناك أقوال أُخرى تطلب من محالها.
المقام الثاني :
دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي
إذا كان أحد
الحكمين أو كلاهما تعبديّين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً
حرمت العبادة حرمة توصلية ، وأمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً ،
فلا تجري هنا البراءتان العقلية والنقلية لاستلزام الجريان المخالفة القطعيّة ،
للفرق بين المقام وما قبله ، ففي المقام السابق كانت الموافقة القطعيةَ كالمخالفة
القطعية ممتنعة ، وأمّا في المقام فالموافقة القطعية وإن كانت ممتنعة لكن المخالفة
القطعية ممكنة ، فلو صلت بلا نيّة القربة معتمدة على جريان البراءة من الوجوب
والحرمة فقد أتت بالمبغوض إذ لو كانت طاهرة فصلاتها
باطلة ، ولو كانت
حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة العبادة محرمة عليها.
فالمرجع هو أصالة
التخيير إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً ، والميزان في جريان
أصالة التخيير هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية كما في
المقام أو لا كما في المقام السابق.
المقام الثالث :
دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به
أنّ أصالة التخيير
بملاك عدم إمكان الموافقة القطعية كما تجري في الشك في التكليف كما في الصورتين
السابقتين ، كذلك تجري في الشكّ في المكلّف به كما في المقام ومثلاً :
١. إذا علم أنّ
أحد الفعلين واجب والآخر حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين
فعل أحدهما وترك الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما
أو فعل كليهما ، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.
٢. إذا علم بتعلّق
الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما كما إذا
حلف بالإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار
في يوم ، والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر
فيهما.
نعم لا تجري أصالة
التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ
الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة
صلاتين يجهر في إحداهما ويخافت في الأُخرى.
وقد عرفت أنّ
الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا
المورد.
هذا كلّه في دوران
الأمر بين المحذورين عند عدم النص ونظيره إجمال النصّ ، وتعارض النصّين أو الشبهة
الموضوعية التحريمية ، فالحكم في الجميع واحد ، وقد استقصينا الكلام في هذه الصور
في «الموجز».
فخرجنا بالنتائج
التالية :
١. انّ الميزان في
جريان أصل التخيير عدم إمكان الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.
٢. انّ المكلّف في
المقام الأوّل مخيّر تكويناً ، والحكم الظاهري هو البراءة ، بخلاف المقامين
الأخيرين فالحكم الظاهري فيهما هو التخيير.
الأصل الثالث
أصالة الاحتياط
قد تقدّم بيان
مجرى الاحتياط
وهو ما إذا قام
دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع ، وله صور أربع :
أ. الشبهة
التكليفية قبل الفحص.
ب. الشبهة البدوية
ولكن كان للمحتمل أهمية بالغة ، كما في الدماء والأعراض والأموال.
ج. إذا دار الأمر
بين وجوب فعل وترك فعل آخر.
د. إذا علم نوع
التكليف وتردّد الواجب بين أمرين ، كتردد الفريضة بين الظهر والجمعة ، والخمر بين
الإناءين. والثلاثة الأُول من قبيل الشك في التكليف مع وجوب الاحتياط فيها ،
والرابع من قبيل الشكّ في المكلّف به.
ومن هنا علم أنّ
مجرى أصالة الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به ، والميزان قيام الدليل العقلي
أو النقلي على وجود العقاب عند المخالفة والجميع داخل تحت هذا العنوان ، وبما انّ
حكم الصور الثلاث الأُول واضحة نكرس البحث في الصورة الرابعة أي الشكّ في المكلّف
به ، والكلام فيه في مقامين :
١. اشتباه الحرام
بغير الواجب بمسائله الأربع ، ويعبّر عنه بالشبهة التحريمية.
٢. اشتباه الواجب
بغير الحرام بمسائله الأربع ، ويعبّر عنه بالشبهة الوجوبية.
وإليك الكلام في
كلا المقامين :
__________________
المقام الأوّل أصالة
الاحتياط
الشبهة التحريمية
مقتضى ما ذكرناه
في الشكّ في التكليف أن يكون في هذا المقام أيضاً مسائل أربع ، لأنّ منشأ الشكّ
إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين ، أو خلط الأُمور الخارجية ، وبما انّ
المسائل الثلاث الأُول ، فاقدة للتطبيقات الفقهية ، خصصنا البحث في الشبهة
التحريمية الموضوعية.
وهي على قسمين :
لأنّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في أُمور محصورة أو غير محصورة ، فيقع الكلام
في هذا المقام في موردين :
المورد الأوّل :
حكم الشبهة المحصورة
إذا علم المكلّف
بتكليف (الحرمة) على وجه لا يرضى المولى بمخالفته ، فلا محيص عن وجوب الموافقة
القطعية ، فضلا عن حرمة المخالفة القطعية سواء أكان العلم إجمالياً أم تفصيلياً ،
فالبحث عن إمكان جعل الترخيص لبعض الأطراف أو لجميعها مع العلم الوجداني بالتكليف
الجدي تهافت ، لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتضادتين ، وهذا كمثل قتل المؤمن إذا
اشتبه بغيره ، وهذا النوع من العلم الإجمالي يناسب البحث عنه في باب القطع.
وأمّا المناسب
للمقام ، كما هو الظاهر من كلام الشيخ
فهو ما إذا قامت
الأمارة على حرمة شيء وشمل إطلاق الدليل مورد العلم الإجمالي ، كما إذا قال :
__________________
اجتنب عن النجس ،
وكان مقتضى إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالاً أيضاً ، وعندئذ فمقتضى القاعدة
الأوّلية هو تحصيل البراءة القطعيّة بالاجتناب عن كلا الطرفين لأن المفروض شمول
اطلاق الدليل ، المعلوم اجمالاً كشموله للمعلوم تفصيلاً.
انّما الكلام في
مقتضيا لقاعدة الثانويّة أعني إمكان الترخيص اوّلاً ، ووقوعه ثانياً وإليك الكلام
فيهما.
الأوّل : إمكان
الترخيص
فالحقّ إمكانه
لأنّك عرفت أنّ ما لا يقبل الترخيص هو العلم الوجداني بالتكليف وهو الذي لا يجتمع
مع الترخيص لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتناقضتين.
وأمّا لو كان سبب
العلم بالتكليف هو إطلاق الدليل أعني :(إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
الشامل للصور
الثلاث.
أ. المعلوم
تفصيلاً.
ب. المعلوم
إجمالاً.
ج. المشكوك وجوداً
مع وجوده واقعاً.
فكما يصحّ تقييد
إطلاقه بإخراج المشكوك وجعل الترخيص فيه ، فهكذا يجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة
المعلوم بالإجمال ، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم به تفصيلاً ،
فالشكّ في إمكان التقييد كأنّه شكّ في أمر بديهي ، إنّما الكلام في الأمر الثاني.
__________________
الثاني : ورود
الترخيص في لسان الشارع
وهذا هو الأمر
المهم في هذا الباب ، والمتتبع للروايات وفتاوى العلماء يقف على عدم ورود الترخيص
لبعض الأطراف ، فكيف بجميعها ، وقد ذكرنا بعض الروايات في الموجز ؟ فلا نعيد.
نعم ربما استدلّ
ببعض الروايات على جعل الترخيص نذكر منها ما يلي :
الأوّل : قوله «كلّ
شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» بناء على أنّ قوله «بعينه» تأكيد للضمير في
قوله : «انّه» فيكون المعنى حتى تعلم أنّه بعينه حرام ، فيكون مفاده انّ محتمل
الحرمة ما لم يتعين انّه بعينه حرام فهو حلال فيعم العلم الإجمالي والشبهة
البدوية.
يلاحظ عليه : بأنّ
الرواية جزء من رواية مسعدة بن صدقة ، والإمعان في الأمثلة الواردة فيها يورث
اليقين بأنّ موردها هو الشبهة البدوية ولا صلة لها بأطراف العلم الإجمالي ، وقد
أوضحنا حالها في الموجز فلاحظ.
الثاني : ما رواه
عبد الله بن سنان ، عن عبد الله بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن ، فقال لي : «لقد سألتني عن طعام يُعجبني» ثمّ
أعطى الغلام درهماً ، فقال : «يا غلام ابتع لنا جبناً» ، ثمّ دعا بالغداء ،
فتغدّينا معه ، فأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغذاء ، قلت : ما تقول
في الجبن ... إلى أن قال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّما كان فيه حلال وحرام ،
فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».
وربّما يتوهم جواز
الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لكن الرواية ناظرة إلى الشبهة غير المحصورة ، إذ
كان في المدينة المنورة أمكنة كثيرة تُجعل الميتة في الجبن ، وكان هذا سببَ السؤال
، فأجاب الإمام (عليهالسلام) بما سمعت.
__________________
ويشهد على ذلك ما
رواه أبو الجارود ، قال : سألت أبا جعفر (عليهالسلام) في الجبن ، فقلت له : أخبرني مَنْ رأى أنّه يجعل فيه
الميتة فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ، حرّم في جميع الأرضين».
فخرجنا بالنتيجة
التالية : انّ الروايتين المرخِّصتين خارجتان عن محطّ البحث ، وانّ العلم الإجمالي
بالتكليف منجّز مطلقاً سواء أكان علماً قطعياً ، أم حاصلاً من إطلاق الدليل ،
فتحرم مخالفته القطعية كما تجب موافقته القطعية.
* * *
المورد الثاني :
حكم الشبهة غير المحصورة
قد عرفت أنّ
الشبهة التحريمية الموضوعية تنقسم إلى محصورة وغير محصورة ، وقد عرفت حكم الأُولى
، وإليك الكلام في الثانية ، فيقع الكلام تارة في معيار كون الشبهة غير محصورة ،
وأُخرى في حكمها.
أمّا الأوّل : فقد
عُرّفت الشبهة غير المحصورة بتعاريف أفضلها : بلوغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم
إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى أنّ المولى إذا
نهى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود
زيد فيها لم يكن ملوماً وإن صادف الواقع ، وقد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر
مع قلّة الاحتمال ، ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما إذا نهى المولى
عن سبّ زيد وهو تارة مردّد بين اثنين وثلاثة ، وأُخرى بين أهل بلدة ونحوها.
وأمّا الثاني أي
حكمها ، فانّ عنواني المحصورة وغير المحصورة لم يردا في
__________________
النصوص لكن
العنوان الأوّل مشير إلى تنجيز العلم الإجمالي لاعتناء العقلاء بالعلم فيها لقلة
الأطراف ، والعنوان الثاني مشيراً إلى عدم تنجيزه لعدم اعتنائهم بالتكليف فيه
لصيرورته موهوماً في كلّ طرف ، وهذا هو الدليل القاطع على عدم التنجيز.
هذا مضافاً إلى
أنّ الاجتناب عن الأطراف في الثاني يوجب العسر ، والتبعيض في الارتكاب إلى حدّ
العسر غير خال عن العسر أيضاً.
على أنّ هناك
روايات في أبواب مختلفة تدلّ على إمضاء الشارع بناء العقلاء ، وهذه الروايات
مبثوثة في أبواب أربعة.
١. ما ورد حول
الجبن.
٢. ما ورد حول
شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم.
٣. ما ورد حول
قبول جائزة الظالم.
٤. ما ورد حول
التصرف في المال الحلال المختلط بالربا.
ولعلّ هذه
الروايات مع بناء العقلاء والسيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن
إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة اختلاط الحرام بين كثير من الحلال.
إذا عرفت حكم
الشبهتين : المحصورة وغير المحصورة فاعلم انّ هنا تنبيهات مهمة حول المحصورة
نذكرها واحداً بعد الآخر.
__________________
تنبيهات
التنبيه الأوّل :
تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات
لا فرق في تنجيز
العلم الإجمالي بين أن يكون أطرافه حاصلة بالفعل ، أو يكون بعضها حاصلة بالفعل دون
بعض ، وهذا ما يسمّى بالعلم الإجمالي بالتدريجيات ، كما إذا علم بأنّ أحد البيعين
: إمّا ما يبيعه اليوم أو ما يبيعه غداً ، ربوي ، فلا فرق عند العقل بينه وبين ما
علم أنّ أحد البيعين الحاضرين ربوي ، فيجب ترك الجميع تحصيلاً للموافقة القطعية.
التنبيه الثاني :
تنجيز العلم الإجمالي إذا تعلّق بحقيقتين
لا فرق في تنجيز
العلم الإجمالي بين أن تكون المشتبهات من حقيقة واحدة ، كما إذا علم بنجاسة ماء
أحد الإناءين ، أو من حقيقتين ، كما إذا علم إجمالاً إمّا نجاسة هذا الماء ، أو
غصبية الماء الآخر ، والمناط في الجميع واحد ، وهو انّ الاشتغال اليقيني بالتكليف (وجوب
الاجتناب) يستلزم البراءة اليقينية.
التنبيه الثالث :
شرط التنجيز كونه محدثاً للتكليف على كلّ تقدير
يشترط في تنجيز العلم
الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ حال فلو وقعت النجاسة في أحد الإناءين
الطاهرين ولم يعلم أنّها وقعت في أيّ واحد منهما ، فهو ينجّز ، لأنّها لو وقعت في
أيّ منهما يحدث تكليفاً بإيجاب الاجتناب عنه. وأمّا إذا لم يحصل لنا علم بحدوث
التكليف على كلّ تقدير فلا يكون منجزاً ، كما إذا علم بوقوع النجاسة إمّا في هذا
الماء القليل ، أو في ذاك الماء الكر ، فلا ينجّز
حتى يجب الاجتناب
عن الماء القليل فإنّه لو وقع في الماء القليل يكون محدثاً للتكليف دون ما إذا وقع
في الكر ، فلا يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير فلا يكون هناك علم بالتكليف على
كلّ تقدير.
فالعلم الاجمالي
بوقوع النجاسة في أحد الماءين وإن كان متحقّقاً ، لكنّ العلم بانعقاده مؤثّر على
كلّ تقدير بمعنى احتمال احداث التكليف في كلّ من الطرفين على فرض وقوعها فيه غير
متحقّق وذلك لأنّه لو وقعت النجاسة في الماء الكر لا تؤثر فيه أبداً فلا يُحتمل
فيه التكليف ، فهو طاهر قطعاً على كلّ تقدير ، ولو وقعت في الإناء الآخر فهو وإن
كان يحدث تكليفاً ، لكن وقوعه فيه محتمل فيكون محتمل النجاسة ويقع مجرىً لأصل
البراءة وبالتالي : ينحلّ العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما ، إلى طاهر قطعي
وهو الماء الكرّ ، ومشكوك النجاسة وهو الماء القليل فلا ينعقد العلم الإجمالي
مؤثّراً.
ومثله ما إذا كان
أحد الإناءين نجساً قطعاً والآخر طاهراً قطعاً ، فوقعت النجاسة في أحدهما ، فمثل
هذا العلم بما أنّه لا يحدث تكليفاً على كلّ تقدير لا يكون منجزاً ، لأنّه لو وقعت
في الإناء النجس لا تزيده النجاسة الجديدة حكماً جديداً ، ووقوعه في الإناء الآخر
مشكوك ، فتجري فيه البراءة ، فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً ، إذ لا يصحّ لنا
أن نقول : إمّا هذا نجس ، أو ذاك نجس ، بل الأوّل نجس قطعاً ، والثاني مشكوك
النجاسة.
والحاصل : أنّه لو
لم يحدث تكليفاً في كلّ طرف على فرض وقوعها فيه لا ينعقد العلم الإجمالي مؤثراً ،
لأنّ العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين وإن كان حاصلاً ، لكن العلم الإجمالي
بتنجيس أحدهما لا بعينه غير حاصل بل أحدهما نجس قطعاً والآخر مشكوك ، فتدبّر.
التنبيه الرابع :
حكم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء قبل العلم
إذا تعلّق العلم
الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين اللّذين يتمكّن المكلّف عرفاً من ارتكاب أحدهما دون
الإناء الآخر لأنّه في بيت شخص لا يتفق للمكلّف عادة دخوله واستعماله فلا يكون
منجِّزاً ، لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير ، إذ لو وقعت النجاسة في الإناء
الذي ابتلى به يُحدث التكليف ويحسن الخطاب بالاجتناب دون ما إذا وقعت فيما لا
يبتلى به لأنّه يقبح الخطاب ، فلا يصحّ خطابه ب «اجتنب إمّا عن هذا الإناء ، أو
ذلك الإناء» ، فإذا كان الخطاب بالنسبة إلى الإناء الخارج عن ابتلائه قبيحاً لا
ينعقد العلم الإجمالي منجّزاً ومؤثراً ، فيكون الشكّ في الإناء الأوّل أشبه
بالشبهة البدوية.
ولأجل ذلك يشترط
في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا الطرفين مورداً للابتلاء قبل حدوث العلم
الإجمالي حتى يصحّ خطابه بالنسبة إلى كلا الطرفين ، وأمّا لو كان أحدهما خارجاً عن
محلّ الابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي ، ثمّ حدث فلا يكون منجزاً ، لأنّه ليس
محدثاً للتكليف على كلّ تقدير.
نعم لو حدث العلم
الإجمالي والطرفان في محل الابتلاء ، ثمّ خرج أحدهما عن محلّ الابتلاء ، فالاجتناب
عن الإناء الآخر لازم ، وذلك لأنّ الخطاب بالاجتناب على وجه الترديد وإن كان
قبيحاً بعد خروج أحد أطرافه عن محلّ الابتلاء ، ولكنّ العلم الإجمالي لما انعقد
مؤثراً فالاجتناب عن الإناء الباقي ، من آثار العلم الإجمالي السابق ، فوجوده آناً
ما ، يوجب الاجتناب عن الثاني ما دام موجوداً.
ويدلّ على ذلك
أنّه لو كان الخروج عن محل الابتلاء بعد طروء العلم موجباً لجواز ارتكاب الإناء
الآخر ، لما أمر الإمام بإهراقهما
، بل أمر بإهراق
__________________
أحدهما والتوضّؤ
بالآخر.
التنبيه الخامس :
الاضطرار إلى بعض الأطراف
لو اضطرّ إلى
ارتكاب بعض المحتملات ، فهو على قسمين :
الأوّل : إذا اضطر
إلى ارتكاب واحد معيّن.
الثاني : إذا اضطر
إلى ارتكاب واحد لا بعينه.
أمّا القسم الأوّل
، فله صورتان :
الأُولى : إذا
اضطرّ إلى ارتكاب واحد معيّن قبلَ العلم أو معه ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر.
الثانية : إذا
اضطر إلى ارتكاب واحد معيّن بعد العلم ، فيجب الاجتناب عن الآخر.
أمّا الصورة
الأُولى ، أي إذا كان الاضطرار إلى طرف معيّن قبل العلم ، أو معه ، فلما عرفت من أنّه
يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير وأن يصحّ
خطاب المكلّف بالاجتناب عن كلّ من الطرفين ، وهذا الشرط غير موجود في هذه الصورة ،
لأنّ الحرام لو كان فيما اضطرّ إليه معيّناً فلا يكون العلم محدثاً للتكليف لفرض
اضطراره إليه وهو رافع للتكليف فلا يصحّ خطابه بالاجتناب عنه ، ولو كان الحرام في
غير ما اضطرّ إليه فهو ، وإن كان يحدث فيه التكليف ويصحّ خطابه بالاجتناب عنه ،
لكن وجوده فيه عندئذ أمر محتمل فتجري فيه البراءة.
وإن شئت قلت : إنّ
العلم الإجمالي بحرمة واحد من الأُمور إنّما ينجّز فيما لو عُلِم تفصيلاً لوجب
الاجتناب عنه على كل حال ، وهذا الشرط غير متحقّق ، لأنّه لو عُلِم أنّ الحرام في
غير الطرف المضطرّ إليه وإن وجب الاجتناب عنه ، لكن لو
كان في الجانب
المضطرّ إليه لا يجب ويقبح الخطاب ، فاذاً العلم التفصيلي بالحرام ليس منجّزاً على
كلّ حال بل منجّز على حال دون حال ، فيكون العلم الإجمالي مثله ، فلا يكون هناك
قطع بالتكليف المنجَّز على كلّ التقادير حتى يجب امتثاله.
وأمّا الصورة
الثانية ، أي إذا كان الاضطرار إلى واحد معيّن بعد انعقاد العلم الإجمالي ، فالحقّ
وجوب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الخطاب بعد طروء الاضطرار بالاجتناب عن كلّ من
الطرفين وإن لم يكن صحيحاً ، لكن وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من آثار العلم
الإجمالي السابق حيث نجّز التكليف وأوجب الاجتناب وحكم العقل بوجوبه ، فإذا طرأ
الاضطرار فلا يتقدّر إلّا بقدر الضرورة ، فالحكم العقلي السابق من لزوم الخروج عن
عهدة التكليف القطعي باق على حاله إلّا ما خرج بالدليل ، أي المضطرّ إليه.
هذا كلّه إذا كان
الاضطرار إلى طرف معيّن.
وأمّا القسم
الثاني ، أي إذا كان الاضطرار إلى ارتكاب واحد لا بعينه ، فيجب الاجتناب عن الطرف
الآخر مطلقاً سواء أكان الاضطرار بعد العلم كما هو واضح لما عرفت في القسم الأوّل
من أنّ وجوب الاجتناب في هذه الصورة من آثار العلم السابق المتقدّم على الاضطرار ،
أم كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، أو معه فهو على خلاف ما إذا كان الاضطرار
إلى معين.
والفرق بين
القسمين ظاهر ممّا سبق ، وهو أنّ العلم الإجمالي في هذا القسم حاصل بحرمة واحد من
أُمور على وجه لو علم بحرمته تفصيلاً ، وجب الاجتناب عنه على كل تقدير ، لإمكان
رفع الاضطرار ، بغير الحرام ، فيكون العلم الإجمالي مثل التفصيلي ، غاية الأمر انّ
ترخيص بعضها على البدل لرفع الاضطرار موجب لاكتفاء الآمر في مقام الامتثال ،
بالاجتناب عن الباقي ، بخلاف القسم السابق فإنّ
العلم التفصيلي
فيه لم يكن فيه منجزاً على كلّ تقدير ، لما قلنا من أنّ الحرام لو كان في غير
الطرف المضطرّ إليه وإن وجب اجتنابه لكن لو كان في الجانب المضطر إليه لا يجب بل
يقبح الخطاب ، فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فكيف بالعلم الإجماليّ؟
التنبيه السادس :
حكم ملاقي أحد الأطراف
لا شكّ انّه يجب
الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي. إنّما الكلام فيما إذا لاقى شيئاً لا نعلم
بنجاسته ولكنّه محكوم عقلاً وشرعاً بوجوب الاجتناب ، كأحد طرفي العلم الإجمالي ، فهل
يجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً أو لا؟ وهذا كما إذا علم بنجاسة موضع من ثوبه وتردد
بين أسفله وأعلاه ثمّ أصاب الملاقي الرطب ، أحد الموضعين ، فيقع الكلام في وجوب
الاجتناب عن الملاقي وعدمه.
وبذلك اتضح خروج
الموارد التالية عن محلّ النزاع.
أ. إذا لاقى
الملاقي كلا الطرفين ، فهو معلوم النجاسة قطعاً لا مشكوكها فيجب الاجتناب عنه.
ب. إذا تعدّد
الملاقي ، بأن يلاقي شيء أحدَ الطرفين وشيء آخر الطرف الآخر ، فيحدث علم إجمالي
بنجاسة أحد الملاقيين ، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الأصلين.
ج. انّ البحث عن
طهارة الملاقي ونجاسته إذا كان هناك مجرّد ملاقاة دون أن يحمل شيئاً من أجزاء
الملاقى ، وعلى ذلك فلو غمس يده في أحد الإناءين ثمّ أخرجها تكون اليد طرفاً للعلم
الإجمالي لا ملاقياً ، فينقلب العلم عن كونه ثنائي الأطراف إلى ثلاثيّها ، نظير ما
إذا قسّم أحد المشتبهين ، قسمين وجعل كلّ قسم في إناء.
إذا علمت ذلك ،
فالمشهور بين الأُصوليّين المتأخّرين عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
ادلّة الطرفين
استدل القائل بعدم
وجوب الاجتناب بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من شئون ملاقاة النجس لا من شئون
محتمل النجاسة وإن حكم على المحتمل بوجوب الاجتناب مقدمة.
وذلك لأنّ الشكّ
في طهارة الملاقي ناشئ من طهارة الملاقى ونجاسته ، فليس الأصل (الطهارة) الجاري في
الملاقي ، في رتبة الأصل الجاري في الملاقى في رتبة واحدة ، وبما أنّ أصالة
الطهارة في الملاقى معارضة لأصالة الطهارة في الطرف الآخر فتتعارضان وتتساقطان ،
فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض.
والحاصل : أنّ
الأصل يجري في الملاقى والطرف الآخر ثمّ يتساقطان ، ولا يجري في الملاقي حين
جريانه في الملاقى لتأخّر رتبته عن الملاقى والمفروض انّ الأصلين فيهما تعارضا
وتساقطا ، فيكون الأصل في جانب الملاقي بلا معارض.
استدل القائل
بالاجتناب عن الملاقي بأنّه بعد العلم بالملاقاة يتبدّل العلم ، الثُنائي الأطراف
، إلى ثُلاثي الأطراف ، فيحصل العلم إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو ذاك الطرف ،
وذلك لاتحاد حكم الملاقى والملاقي ، فلو كان الأوّل طرفاً للعلم ، فالثاني أيضاً
كذلك ، وعليه يجب الاجتناب عن الجميع لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الموجود في
البين.
يلاحظ عليه : بما
مرّ في التنبيه الثالث من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً
للتكليف على كلّ تقدير ، فلو أحدث على تقدير دون آخر فلا
أن يكون يكون محدثا
للتكليف عن كل تقدير ، فلو أحدث على تقدير دون آخر فلا کون منجزاً.
وهذا الشرط موجود
في العلم الأوّل لأنّه لمّا لم يكن واحد من المشتبهين محكوماً بوجوب الاجتناب ،
حدث العلم الإجمالي مؤثراً ، وهذا بخلاف العلم الثاني ، لأنّه حدث عند ما كان
الطرف الآخر محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الإجمالي الأوّل ، ومعه لا يُحدث في
الملاقي ولا يؤثر فيه حكماً لفقدان الشرط المؤثّر في تنجيز العلم الإجمالي ، أعني
: كونه محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدويّة يجري
فيه الأصل بلا معارض.
فإن قلت : انّ هنا
علماً إجمالياً ثالثاً وهو العلم الإجمالي بنجاسة الطرف ، أو الملاقي والملاقى
معاً فالطرفان بين أُحاديّ ، وثُنائيّ.
قلت : ليس هذا
علماً ثالثاً وراء العلمين وإنّما هو تلفيق منهما وقد عرفت أنّ العلم الأوّل منجز
دون الثاني ، فليس هنا علم ثالث نبحث في حكمه.
هذا خلاصة الكلام
والتفصيل موكول إلى دراسات عليا.
المقام الثاني
أصالة الاحتياط
الشبهة الوجوبية
قد عرفت أنّ الشكّ
في المكلّف به ينقسم إلى شبهة تحريمية وإلى شبهة وجوبية ، وقد تمّ الكلام في
الأُولى مع الإشارة إلى مسائلها الأربع ، ولكن ركزنا البحث على مسألة واحدة من
المسائل الأربع وهي الشبهة الموضوعية لعدم وجود تطبيقات عملية لسائر مسائلها
الثلاث.
بقي الكلام في
الشبهة الوجوبية من المكلّف به فهي تنقسم إلى قسمين ، تارة يكون الشكّ مردداً بين
المتباينين كتردد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة.
وأُخرى بين الأقل
والأكثر كتردد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها. وبذلك يقع الكلام في
موضعين.
ولما كان حكم
المتباينين واضحاً وهو وجوب الاحتياط فيهما مضافاً إلى أنّا تعرضنا له في الموجز
نقتصر في المقام
من الشبهة الوجوبية على الأقل والأكثر.
ثمّ إنّ الأقل
والأكثر ينقسمان إلى الاستقلاليين والارتباطيين ، والفرق بينهما بأنّ الأقل
الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي على فرض وجوبه حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً
، طاعة وامتثالاً ، كالفائتة المرددة بين الواحد والكثير ، والدّين المردّد بين
الدرهم والدرهمين ، بخلاف الأقل الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر ، متحد معه
حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، ولا استقلال له في
__________________
ثمّ إنّ المشكوك
في الشبهة الوجوبية يكون تارة الجزء الخارجي كالسورة والقنوت وجلسة الاستراحة بعد
السجدتين ، وأُخرى الشرط أي الخصوصية المعتبرة في العبادة ، المنتزعة من الأمر
الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات والمسحات بنيّة التقرب ، وثالثة الخصوصية
المتحدة مع المأمور به ، كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة
المؤمنة ، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال أو المردد بين الأُمور
الثلاثة ، وحكم الجميع واحد.
والأقوال في
المقام لا تتجاوز عن ثلاثة :
أ. جريان البراءة
العقلية والشرعية.
ب. القول
بالاحتياط وعدم جريانهما.
ج. التفصيل بين
العقلية والشرعية تجري الأُولى دون الثانية.
ولكن الحقّ
جريانهما معاً ، وقد استدل على البراءة العقليّة بوجوه مختلفة نذكر منها وجهاً
واحداً وهو أوضح الوجوه.
وهو انّ الأمر وإن
تعلق بعنوان الصلاة لكنّها ليست شيئاً مغايراً للأجزاء بل هو عبارة أُخرى عن نفس
الأجزاء لكن بصورة الجمع والوحدة في التعبير. وذلك لانّ الاجزاء تارة تلاحظ بصورة
الكثرة بملاحظة كلّ جزء مستقلاً مع جزء آخر ، وأُخرى تلاحظ بنعت الجمع وفي لباس
الوحدة ، والعنوان المشير إلى ذات الأجزاء بهذا النعت هو عنوان الصلاة. وهي نفس
الأجزاء في لحاظ الوحدة وعلى نحو الجمع في التعبير.
إذا علمت ذلك
فنقول : إنّ الحجة قامت على وجوب العنوان نحو قوله : «أقم الصلاة» وقيام الحجّة
عليه نفس قيامها على الأجزاء ، وقد عرفت أنّ نسبة الصلاة إليها نسبة المجمل إلى
المفصّل لكن الاحتجاج بالعنوان على وجوب
الأجزاء إنّما
يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء وجزء حتى يكون داعياً إليه ، وأمّا إذا جُهلت
جزئية الشيء فلا يكون الأمر به ، حجّة عليها وداعياً إليها ضرورة انّ قوام
الاحتجاج بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر المركب ، إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي
علم تركب المركب منها دون ما لا يكون.
وإن شئت نزّل
المقام على ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان ، فكما أنّه لا يحتج إلّا
على الأجزاء المعلومة دون المشكوكة ، فهكذا المقام فانّ الأمر وإن تعلق بالعنوان
مباشرة دونها ، لكنّك عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل ،
فالأجزاء في مرآة الإجمال ، عنوان ؛ وفي مرآة التفصيل ، أجزاء.
وعلى ضوء ذلك :
إذا بذل العبد جهده للعثور على الأجزاء التي ينحلّ العنوان إليها ، فلم يقف إلّا
على التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل ، يستقل العقل بانّه ممتثل حسب قيام
الحجة ويعدّ العقاب على ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.
وبعبارة موجزة :
انّ العقل يستقل بقبح مؤاخذ مَنْ أُمر بمركب لم يُعلَم من أجزائه إلّا عدّة أجزاء
، ويشكّ في وجود جزء آخر ، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر ، فلم
يعثر فأتى بما علم وترك المشكوك ، خصوصاً مع اعتراف المولى بعدم نصب قرينة عليه ،
فكما تقبح المؤاخذة فيما إذا لم ينصب قرينة فهكذا تقبح فيما إذا نصب ولكن لم تصل
إلى المكلّف بعد الفحص وهذا تقرير للبراءة العقلية.
وبهذا يعلم جريان
البراءة الشرعية حيث إنّ تعلّق الوجوب الشرعي بالنسبة إلى الجزء أو الشرط أو القيد
مجهول فيشمله حديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة
__________________
إلى الجزء أو
الشرط أو القيد مجهول فيشمله حديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة الشرعية.
ومن هنا يعلم انّ
المرجع في الأقل والأكثر هو البراءة من غير فرق بين أن يكون منشأ الشك فقدان النص
كما علمت أو إجمال النص ، كما إذا دلّ الدليل على غسل ظاهر البدن ويشك في أنّ
الجزء الفلاني داخل فيه أو لا ، أو تعارض النصين ، كما إذا دلّ دليل على جزئية
السورة ، وأُخرى على عدم جزئيتها ، فالمرجع حسب القاعدة الأُولى هو البراءة ، غير
انّ الأدلة الشرعية دلت على التخيير بين الدليلين عند عدم المرجح.
أو كان منشأ الشك
خلط الأُمور الخارجية ، كما إذا أمر بتكريم مجموع العلماء على نحو العام المجموعي
بأن يكون هناك وجوب واحد وإطاعة واحدة فشكّ في كون زيد عالماً أو لا. فالمرجع هو
البراءة ، لأنّ الشكّ في كون زيد عالماً يرجع إلى الشكّ في كون الموضوع ذا أجزاء
كثيرة أو قليلة فيكون حكمه ، حكم الأقل والأكثر الارتباطيين.
وثمة سؤال وهو لما
ذا خصصنا الأقل والأكثر بالشبهة الوجوبية ولم نتعرض له في الشبهة التحريمية؟
والجواب واضح لأنّ
مرجع دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة التحريمية إلى الشكّ في أصل التكليف
، لأنّ الأقل معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأكثر ، نظير الشك في الأقل والأكثر
الاستقلاليين في المقام.
__________________
تنبيهات
التنبيه الأوّل :
حكم النقيصة السهوية
إذا ترك جزء
المركب أو شرطه سهواً فهل تبطل عبادته أو لا؟ والكلام في المقام في تبيين حكم
القاعدة الأُولى دون النظر إلى الأدلة الخارجية. (القاعدة الثانويّة)
أقول : إنّ
للمسألة صوراً :
الأُولى : إذا كان
لدليل المركب إطلاق يدلّ على مطلوبية الباقي مطلقاً سواء كان معه الجزء المنسيّ أو
لا ، مثل قوله (عليهالسلام) : «لا تترك الصلاة بحال» إذا كان لفظ الصلاة صادقاً على
غير المنسي.
الثانية : إذا كان
لدليل الجزء إطلاق يدل على مدخليته في المركب مطلقاً في حالتي الذكر والنسيان ،
كقوله (عليهالسلام) : «لا صلاة إلّا بطهور».
الثالثة : أن يكون
لكلّ من دليلي المركب والجزء إطلاق ، فمقتضى إطلاق دليل المركب وجود الأمر بالباقي
، ومقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الأمر بالباقي.
الرابعة : أن لا
يكون لواحد منهما إطلاق.
أمّا الصورة الأُولى
: أي وجود الإطلاق لدليل المركب دون دليل الجزء ، فيؤخذ بمقتضى إطلاق دليل المركب
، ويحكم بصحّة المأتي به عدا المنسيّ ، ولو شكّ في جزئية الجزء أو شرطية الشرط في
حال النسيان تجري أصالة البراءة فيها.
أمّا الصورة
الثانية : أي إذا كان لدليل الجزء والشرط إطلاق دون دليل المركب ، فيدلّ على فعلية
أحكامهما في حالتي الذكر والنسيان ، ومقتضى الإطلاق
عدم الاكتفاء
بالمأتي به ، ولو ارتفع النسيان كان عليه الإعادة أو القضاء.
وأمّا الصورة
الثالثة : أي إذا كان لكلّ من الدليلين إطلاق فيقدم إطلاق دليل الجزء على إطلاق
المركب تقدمَ المقيد على المطلق ، فإنّ دليل المركّب وإن كان يدلّ على مطلوبية كلّ
واحد من الأجزاء غير المنسيّة حالتي الذكر والنسيان وبالتالي يدل وجود الأمر بما
عدا المنسي سواء أنسي الجزء الآخر أم لا ، لكن دليل الجزء أخص منه حيث يدلّ على
دخله في صحّة المركب وعدم إيفاء الباقي بغرض المولى مطلقاً ذاكراً كان أو ناسياً ،
فيقدم على إطلاق المركب ، وعلى ذلك فلا يجوز الاكتفاء بما عدا المنسي ، فإذا قال
المولى : «لا صلاة إلّا بطهور»
أو قال : «لا صلاة
لمن لا يقيم صلبه».
كان ظاهرهما
مدخليتهما في ماهية الصلاة وحقيقتها ، فيعمّان حالتي الذكر والنسيان ، فتكون
النتيجة بطلانَ الصلاة المنسيّ جزؤها حسب إطلاق دليل الجزء والشرط ، وليس المقام
مجرى للبراءة العقلية أو الشرعية من شرطية الشرط أو جزئية الجزء لفرض وجود الدليل
الاجتهادي ، أعني : الإطلاق فيهما.
وأمّا الصورة
الرابعة : أعني : إذا لم يكن لدليل المركب ولا لدليل الجزء إطلاق فأتى بما عدا
المنسي ثمّ ذكر بعد الفراغ عن العمل ، فهذا هو المناسب للمقام والمحكّم فيه هو
البراءة ، لأنّ الواقع لا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن تكون الجزئية مطلقة تلزم
إعادتها ، أو مختصة بحال الذكر فيكفي ما أتى به ، فيكون مرجع الشك في وجوب الإعادة
، إلى الشك في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان والأصل البراءة من
الجزئية أو الشرطية في هذه الحالة ، فيحكم عليها بالصحّة.
__________________
التنبيه الثاني :
تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء
إذا عُلِمت جزئية
شيء أو شرطيته ودار الأمر بين كونه جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز حتى
يسقط الأمر بالباقي لعدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به ، أو كونه جزءاً أو شرطاً
في حال التمكّن فيبقى الأمر بالباقي على حاله ، فللمسألة صور أربع :
الأُولى : أن يكون
لدليل المركّب وحده إطلاق بالنسبة إلى سائر الأجزاء يعم الحكم حالتي التمكّن
والتعذّر.
الثانية : أن يكون
لدليل الجزء وحده إطلاق يعم الحكم كلتا الحالتين.
الثالثة : أن يكون
لكلا الدليلين إطلاق.
الرابعة : أن لا
يكون لواحد منهما إطلاق.
فالمحكّم هو
الدليل الاجتهادي ، أعني : الإطلاق في الأوّلين ، فتكون النتيجة لزوم الإتيان بغير
المتعذّر في الأُولى وعدمه في الثانية ، وتقديم إطلاق الجزء على إطلاق المركّب في
الصورة الثالثة ، فتكون النتيجة عدم جواز الإتيان بغير المتعذر ، لتقدّم إطلاق
دليل الجزء على دليل المركّب ، تقدمَ المقيد على المطلق. كما مرّ في النقيصة
السهويّة.
إنّما الكلام في
الصورة الرابعة ، أي ما لا يكون هناك إطلاق في كلا الموضعين ، فهل يجب الإتيان
بالباقي إذا كان عنوان المركّب صادقاً على الباقي ، كالأمر بالصلاة في ثوب طاهر مع
تعذر إقامتها في الطاهر ، أو لا؟
__________________
الظاهر هو الثاني
، لأنّ التكليف المتيقّن إنّما كان بمجموع الأجزاء والشرائط ، فإذا لم يتمكّن من
بعضها فكأنّه لم يتمكّن من الكل بما هو كل ، فالتكليف الجديد بالنسبة إلى الباقي
يحتاج إلى الدليل والأصل البراءة منه.
قاعدة الميسور
وربما يقال بوجوب
الإتيان بالباقي تمسّكاً بقاعدة الميسور التي دلّ عليها الحديث النبويّ والولويّ.
١. روى مسلم في
صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال : خطبنا رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فقال : «أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا» فقال رجل
: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ثمّ قال : «ذروني ما
تركتكم ، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم
بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
والرواية غير
صالحة سنداً ومتناً.
أمّا الأوّل :
فيكفي في ضعفه كون الناقل ممّن لا يصحّ الاحتجاج برواياته.
وأمّا الثاني :
فإنّ الرواية ناظرة إلى واجب ذي افراد لا ذي أجزاء بقرينة موردها ، وهو الحج ،
وبقرينة قول الرجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ ولكنّ الكلام في المقام انّما هو في
واجب ذي أَجزاء لا في واجب ذي افراد.
٢. ما رواه صاحب «غوالي
اللآلي» قال الإمام عليّ (عليهالسلام) : «لا يُترك الميسور بالمعسور».
وقال (عليهالسلام) : «ما لا يُدْرَك كُلُّه لا يُترَكُ كُلّه».
__________________
يلاحظ عليهما :
عدم ثبوت سند الحديثين.
وأمّا الدلالة ،
فالظاهر أنّه لا غبار في دلالتهما شريطة أن يكون الباقي ميسوراً للمعسور ،
كالثمانية بالنسبة إلى العشرة ، لا الخمسة بالنسبة إليها.
ومثله قوله : «ما
لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» المنصرف إلى ما إذا كان المُدرَك مرتبة ناقصة ممّا لا
يُدرك.
التنبيه الثالث :
حكم الزيادة السهوية
انّ لزيادة الجزء
صوراً ثلاثاً :
أ. إذا أُخذ شيء
جزء للمركب وأُخذَ عدم زيادته قيداً للمركب لا لجزئيّة الجزء ، بأن يقول : يجب
عليك الصلاة بشرط عدم زيادة جزء من أجزائها.
ب. إذا أخذ شيء
جزء للمركّب لكن أُخذ عدم زيادته قيداً لجزئيّة الجزء فصار الجزء بقيد الوحدة جزء
، كأن يقول : اركع بشرط عدم الزيادة.
ج. إذا أخذ شيء
جزءاً وكان بالنسبة إلى الزيادة لا بشرط ، بأن تكون الزيادة وعدمها غير مؤثرين في
صحّة الواجب ولا في بطلانه.
فلا شكّ انّ
الصلاة في الصورتين الأُوليين باطلة لعدم كون المأتي به موافقاً للمأمور به كما لا
شكّ في صحّة الصلاة في الصورة الثالثة.
إنّما الكلام فيما
إذا لم تحرز كيفية اعتبار الجزء ودار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم
الثالث. فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية ، والمرجع هو البراءة ، لأنّ مرجع
الشك إلى أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء أو أخذ الزائد مانعاً ، وقاطعاً
والأصل في الجميع هو العدم. هذا حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية ، وأمّا حكمها
حسب القواعد الثانوية فهو موكول إلى الفقه. ولكن نقول على وجه الإجمال انّ مقتضى
القاعدة الثانوية هو البطلان في موارد خمسة
اعتماداً على
قاعدة «لا تعاد».
روى زرارة عن أبي
جعفر (عليهالسلام) قال : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور ، والوقت ،
والقبلة ، والركوع ، والسجود» ثمّ قال : «القراءة سنّة ، والتشهد سنّة فلا تنقض
السنة الفريضة»
، هذا بناء على
أنّ شمول الحديث النقيصة والزيادة.
التنبيه الرابع :
دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته أو قاطعيته
إذا علمنا اعتبار
شيء في المأمور به ولكن دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة أو وجوده مانعاً
عنها. وهذا كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه ،
وقيل بوجوب الإخفات ، وكتدارك الحمد بعد الدخول في السورة وغيرهما من الشبهات
الحكمية.
الظاهر وجوب
الاحتياط إذا أمكن ، كما إذا كان للواجب أفراد طولية ، كصلاة الظهر في يوم الجمعة
فدار الأمر بين كون الجهر شرطاً أو مانعاً فيجب التكرار ، ونظير ذلك دوران الأمر
بين التمام والقصر للشك في كون الركعتين الأخيرتين جزءاً أو مانعاً.
نعم إذا لم يتمكّن
إلّا من فرد واحد كصلاة الجمعة في الشبهة الحكمية ، فالمرجع هو التخيير.
خاتمة : في شرائط
العمل بالاحتياط والبراءة
والمراد من
الشرائط ما هو شرط لجريانهما دون جواز العمل بهما ، والفرق
__________________
بينهما واضح ،
لأنّ الشرائط على قسمين :
الأوّل : ما يكون
وجوده محقِّقاً لموضوع الأصل بحيث لولاه لما كان هناك محلّ للأصل.
الثاني : ما يكون
وجوده شرطاً للعمل بالأصل على وجه يكون الأصل جارياً ، ولكن لا يعمل به إلّا مع
هذا الشرط ، وإليك الكلام في كلا الشرطين على وجه الإيجاز.
أصل الاحتياط
وشروط جريانه
لا شكّ في حسن
الاحتياط لكونه طريقاً لتحصيل الحقّ والعمل به والعقل حاكم بحسنه ، ولا يشترط فيه
سوى أمرين :
١. عدم استلزامه
لاختلال النظام.
٢. عدم مخالفته
لاحتياط آخر.
وأمّا موارده
فتنحصر في المواضع التالية :
١. الاحتياط
المطلق فيما إذا لم يكن هنا علم إجمالي ولا حجّة شرعية ، كالشبهة البدويّة.
٢. الاحتياط فيما
إذا كان هناك علم وجداني إجمالي.
٣. الاحتياط إذا
كانت هناك حجّة شرعية لها إطلاق بالنسبة إلى المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال.
أصل البراءة وشرط
جريانه
لا يشترط في جريان
البراءة في الشبهات الحكمية إلّا الفحص عن الدليل الاجتهادي ، لأنّ البيان الرافع
لقبح العقاب هو البيان الواصل هذا من جانب.
ومن جانب آخر ليس
المراد من الواصل هو إيصاله إلى كلّ واحد بدقّ باب بيته وإعطائه البيان ، بل
المراد وجود البيان في مظانّه على وجه لو أراد لوقف عليه ، وعلى هذا فوجود البيان
عند الرواة أو حملة العلم أو في الجوامع الحديثية كاف في رفع القبح ومع احتماله
فيها لا يستقل العقل بالقبح ما لم يتفحّص.
وأمّا الشبهات
الموضوعية ، فالظاهر تسالم الأُصوليين على عدم وجوب الفحص ، ولكنّه على إطلاقه غير
صحيح ، وإنّما لا يحتاج إلى الفحص إذا كان تحصيل العلم منوطاً بمقدّمات بعيدة.
وأمّا إذا كان
العلم بالواقع ممكناً بأدنى نظر ، كالنظر إلى الأُفق فيمن شكّ في دخول الفجر فيجب
عليه الفحص ، ومثله إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية حدّ النصاب ، أو الشكّ في
زيادة الربح على المئونة ، أو الشكّ في حصول الاستطاعة المالية للحج ، أو الشكّ في
مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجلّات ، إلى غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي
يحصل العلم بها بأدنى تأمل.
وأمّا شرائط العمل
بالبراءة فيمكن أن يعدّ منها ، عدم معارضته مع أصل آخر ، كما في موارد العلم
الإجمالي ، أو أن لا يكون على خلاف المنّة. ولا يختص هذا الشرط بالبراءة ، بل يعم
الاضطرار الوارد في حديث الرفع أيضاً ، كعدم الضمان في عام المجاعة إذا توقفت حياة
المضطر على أكل طعام الغير ، فالمرفوع هو حرمة التصرف لأجل الاضطرار لا الضمان ،
فالتصرف جائز لكن مع ضمان قيمته ، لأنّ عدمه على خلاف المنَّة.
صحّة عمل تارك
الفحص وعدمها
إذا ترك المجتهد
الفحص عن الدليل الاجتهادي ، أو ترك العامي طريقي
الاجتهاد والتقليد
، فهل يحكم بصحّة العمل أو لا؟
لا شكّ في عدم
الصحّة إذا خالف الواقع توصليّاً كان أو تعبديّاً ، وكما لا شكّ في الصحة إذا صادف
الواقع في التوصليات كالمعاملات ، لأنّ الصحّة ليست رهن قصد القربة ، وأمّا
العبادات إذا صادفت الواقع ، فإن تمكن من الإتيان بها بقصد القربة كما إذا كان
غافلاً حين العمل صحّت عبادته ظاهراً لحصول شرطها وهي القربة ومطابقتها للواقع ،
وإلّا فهي باطلة لخلوّها من التقرّب.
نعم اتّفق الأصحاب
على بطلان عمل الجاهل المقصّر في التعبديات إذا خالف الواقع إلّا في موضعين ،
فأفتوا بالصحّة وعدم لزوم الإعادة والقضاء ، وذلك :
أ. إذا أتمّ في
موضع القصر (دون العكس).
ب. إذا جهر في
موضع الإخفات أو بالعكس ، لتضافر الروايات على ذلك.
تمّ الكلام في الاحتياط ،
ويليه البحث في الأصل الرابع ، وهو الاستصحاب.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الأصل الرابع
الاستصحاب
الاستصحاب أحد
الأُصول الأربعة العامة الذي له دور كبير في استنباط الوظيفة العملية ، ولم يزل
يُتمسك به بين الفقهاء من عصر أئمّة أهل البيت (عليهمالسلام) إلى يومنا هذا ، ويتميز عن سائر الأُصول الثلاثة بوجود
الحالة السابقة وملاحظتها.
أمّا وجود الحالة
السابقة فهو أساس الاستصحاب ، وأمّا اشتراط كونها ملحوظة ، فلأجل انّه ربّما لا
تكون الحالة السابقة معتبرة عند الشارع بأن تكون حجة في استنباط الوظيفة العملية
كما سيوافيك موارده.
وقبل الخوض في
المقصود نقدّم أُموراً :
الأوّل : الاستصحاب في اللغة أخذ الشيء مصاحَباً أو طلب صحبته ، وفي الاصطلاح «إبقاء ما
كان على ما كان» والمعروف بين المتأخرين أنّ الاستصحاب أصل كسائر الأُصول وإن كانت
مرتبته متقدّمة على سائر الأُصول العملية لكن الظاهر من قدماء الأُصوليين أنّه
أمارة ظنية ، فكأنّ اليقين السابق بالحدوث أمارة ظنية لبقاء الشيء في ظرف الشك ،
إذ ليس المراد من الشك هو الشكّ المنطقي أعني به تساوي الطرفين حتى ينافي الظن
بالبقاء ، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن بالبقاء.
وأمّا المتأخرون
فلم يعتبروه أمارة ظنية بل تلقّوه أصلاً عملياً وحجّة في ظرف
__________________
الشك ، واستدلّوا
عليه بروايات ستوافيك.
الثاني : الاستصحاب مسألة أُصولية لا
قاعدة فقهية ، وذلك لأنّ المعيار
في تمييز المسائل الأُصولية عن القواعد الفقهية هو محمولاتها.
توضيحه : انّ
المحمول في القواعد الفقهية لا يخلو إمّا أن يكون حكماً فرعيّاً تكليفيّاً كالوجوب
والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة. أو حكماً فرعيّاً وضعيّاً كالضمان والصحّة
والبطلان. مثلاً قوله : «كل شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» قاعدة فقهية بحكم أنّ
المحمول هو الحليّة ، التي هي من الأحكام الفرعية التكليفية ، كما أنّ قوله : «ما
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» قاعدة فقهية ، لأنّ المحمول فيها هو الضمان وهو حكم وضعي
، ومثله قوله : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس : الطهور والوقت والقبلة والركوع
والسجود»
فانّ المحمول هو
البطلان في الخمسة والصحّة في غيرها. هذا هو ميزان القاعدة الفقهية.
وأمّا القاعدة
الأُصولية فتختلف محمولاً عن القاعدة الفقهية ، فالمحمول فيها ليس حكماً شرعياً
تكليفياً أو وضعياً ، بل يدور حول الحجّية وعدمها ، فنقول : الظواهر حجّة ، الشهرة
العملية حجّة ، خبر الواحد حجّة ، أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب ، كلٌّ حجّة
في ظرف الشك.
وربما يخطر بالبال
بأنّ المحمول في المسائل الأُصولية ربما يكون غير الحجّة ، كقولك : الأمر ظاهر في
الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة ، ولكنّه عند التدقيق يرجع إلى البحث عن الحجّة على
الوجوب والحرمة ، فالغاية من إثبات ظهورهما هي إقامة الحجّة على الوجوب والتحريم.
وإن شئت قلت :
الغاية من إثبات الصغرى (كونه ظاهراً في الوجوب) هي
__________________
احتجاج المولى به على
العبد. وروح المسألة عبارة عن كون الأمر حجّة في الوجوب أو لا ، وهكذا كلّ ما مرّ
في باب الأوامر والنواهي.
الثالث : قد تضافرت الأخبار عن أئمّة
أهل البيت (عليهمالسلام)
فى مضمون «أنّ اليقين لا يُنقض بالشك» ، وظاهره اجتماعهما في زمان واحد وعدم نقض أحدهما الآخر ، وهو
في بادئ النظر أمر غريب ، لأنّهما لا يجتمعان حتى لا ينقض أحدُهما الآخر ، لأنّ
اليقين هو الجزم بشيء ، والشكّ هو التردّد وانفصام الجزم ، فكيف يجتمعان؟! والجواب
أنّ اليقين والشكّ لا يجتمعان إذا كان المتعلّق واحداً ذاتاً وزماناً ، كما إذا
فرضنا انّه تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في نفس ذلك اليوم في عدالته ، ففي
مثله لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ ، فعند ما يكون متيقناً لا يمكن أن يكون شاكاً
وبالعكس.
وأمّا إذا كان
متعلقاهما متحدين جوهراً ، ومتغايرين زماناً ، فاليقين والشكّ يجتمعان قطعاً ،
مثلاً لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لكن صدر منه يوم السبت فعلٌ شكَ معه في بقاء
عدالته في ذلك اليوم ، ففي هذا الظرف يجتمع اليقين والشكّ فهو في آن واحد متيقن
بعدالة زيد يوم الجمعة لا يشك فيه أبداً ، وهو في الوقت نفسه شاك في عدالته يوم
السبت ، وبذلك صحّ اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد لتغاير المتعلّقين زماناً ،
وإلى ذلك يؤول قولهم في باب الاستصحاب «اليقين يتعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء» فمقتضى
الاستصحاب إبقاء عدالة زيد يوم الجمعة إلى يوم السبت وترتيب أثر العدالة في زمان
الشك.
وبذلك علم أنّ
الاستصحاب يتقوّم بأمرين :
أ. فعليّة اليقين
في ظرف الشكّ ، ووجودهما في آن واحد في وجدان المستصحِب.
ب. وحدة متعلّقهما
جوهراً وذاتاً ، وتعدده زماناً بسبق زمان المتيقن على المشكوك.
الرابع : الفرق
بين الاستصحاب وقاعدة اليقين
إنّ في مصطلح
الأُصوليين قاعدة موسومة بقاعدة اليقين والشك الساري لسريان الشكّ إلى نفس اليقين
كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في
نفس يوم الجمعة (لا السبت) وقد تبين بذلك أركان قاعدة اليقين :
أ. عدم فعلية
اليقين في ظرف الشك.
ب. وحدة متعلقهما
جوهراً وزماناً ، حيث تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين وهو عدالة يوم الجمعة.
والمعروف بين
الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. وانّ روايات الباب منطبقة على
الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.
* * *
الخامس : انّ هنا قاعدة ثالثة وهي قاعدة المقتضي والمانع التي تغاير القاعدتين الماضيتين
وتختلف عنهما باختلاف متعلّق اليقين والشك جوهراً وذاتاً فضلاً عن الاختلاف في
الزمان.
مثلاً إذا تيقن
بصبِّ الماء على اليد للوضوء ، وشك في تحقّق الغَسْل للشك في المانع. أو تيقن برمي
السهم وشكّ في القتل للشك في وجود المانع ، فمتعلّق اليقين غير متعلّق الشكّ
بالذات ، حيث تعلّق اليقين بصبّ الماء والرمي ، وتعلّق الشكّ بوجود الحاجب
والمانع.
نعم يتولد من هذا
اليقين والشكّ ، شك آخر ، وهو الشكّ في حصول
المقتضى أعني :
الغَسْل والقَتل ، والقائل بحجّية تلك القاعدة يتمسك بأصالة عدم المانع والحاجب
ويثبت بذلك الغَسل أو القتل. بحجّة انّ المقتضي موجود ، والمانع مرفوع بالأصل
فيكون «المقتضى» محقّقاً. وربما حاول تطبيق روايات الباب على تلك القاعدة.
والمشهور أعرضوا
عن تلك القاعدة بحجّة عدم الدليل عليها.
السادس : تقسيمات
الاستصحاب
إنّ للاستصحاب
تقسيمات ، تارة باعتبار المستصحَب ، وأُخرى باعتبار الشكّ المأخوذ فيه ، وإليك
البيان :
١. تقسيمه باعتبار
المستصحَب
ينقسم الاستصحاب
باعتبار المستصحَب إلى الأقسام التالية :
ألف. أن يكون
المستصحَب أمراً وجوديّاً أو عدميّاً ، كاستصحاب الكرّية إذا كان الماء مسبوقاً
بها ، أو عدم الكرّية إذا كان مسبوقاً به.
ب. أن يكون
المستصحَب حكماً شرعيّاً تكليفيّاً سواء أكان كليّاً كاستصحاب حليّة المتعة ، أم
جزئياً كاستصحاب وجوب الإنفاق على الزوجة المعيّنة إذا شكّ في كونها ناشزة.
ج. أن يكون
المستصحَب حكماً شرعيّاً وضعياً لا تكليفياً كاستصحاب الزوجية ، والجزئية ، والمانعية
والشرطية ، والسببية عند طروء الشك في بقائها.
د. أن يكون
المستصحب موضوعاً لحكم شرعي سواء كان موضوعاً لحكم
__________________
شرعي تكليفي ، أو
موضوعاً لحكم وضعي ، وهذا كاستصحاب حياة زيد ، فتترتب عليه حرمة قسمة أمواله ،
وبقاء علقة الزوجية بينه وبين زوجته.
٢. تقسيمه باعتبار
الشك
ينقسم الاستصحاب
باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلى الأقسام التالية :
أ. أن يتعلّق
الشكّ باستعداد المستصحَب للبقاء في الحالة الثانية ، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء
، المتغيّرِ أحدُ أوصافه الثلاثة ، بالنجس ، إذا زال تغيره بنفسه ، حيث إنّه
يتعلّق الشكّ بمقدار استعداد النجاسة للبقاء ، بعد زوال تغيّره بنفسه ، ومثله
الشكّ في بقاء الليل أو النهار ، حيث إنّه يتعلّق بمقدار استعدادهما للبقاء من حيث
الطول والقِصَر ، وهذا ما يسمّى بالشكّ في المقتضي.
ب. وأُخرى يتعلّق
بطروء الرافع مع إحراز قابلية بقاء المستصحب ودوامه لولاه ، وهو على أقسام :
١. أن يتعلّق
الشكّ بوجود الرافع ، مع إحراز قابلية بقائه ودوامه لو لا الرافع ، كما إذا شكّ في
وجود الحدث بعد الوضوء.
٢. أن يتعلّق
الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه ، كالمذي الخارج من الإنسان ، فيشك في
أنّه رافع للطهارة مثل البول أو لا؟ فيرجع الشكّ إلى رافعية الأمر الموجود للجهل
بحكمه.
٣. أن يتعلّق
الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بوصفه وحاله ، كالبلل المردّد بين البول والوذي
مع العلم بحكمهما.
هذه هي التقسيمات
الرئيسيّة ، وهناك تقسيمات أُخرى تركنا ذكرها للاختصار.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم انّه استدلّ على
حجّية الاستصحاب بوجوه مختلفة أصحها هو
الأخبار المتضافرة في المقام وقد أوردنا في الموجز ثلاث روايات ، فلنذكر سائرها.
١. صحيحة زرارة
الثالثة
روى الكليني ، عن
زرارة ، عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز
الثلاث ، قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك».
وجه الاستدلال :
الظاهر انّ قوله : «ولا ينقض اليقين بالشك» علّة للأمر بإضافة ركعة أُخرى ، فكأنّه
يقول : يأتي بركعة أُخرى ولا شيء عليه ، لأنّه كان على يقين بعدم الإتيان بها
فليمض على يقينه.
نعم ظاهر قوله : «فأضاف»
انّه يأتي بالركعة الاحتياطيّة متصلة ، مع أنّ الفتوى على الانفصال ، فتُرفع اليد
عن هذا الظاهر بقرينة إجماع الطائفة على الانفصال.
٢. موثقة إسحاق بن
عمّار
روى الصدوق
باسناده ، عن إسحاق بن عمار ، قال : قال لي أبو الحسن الأوّل : «إذا شككت فابن على
اليقين» ، قال : قلت : هذا أصل؟ قال : «نعم».
وجه الاستدلال :
أنّ ظاهر الكلام فعليّة اليقين والشكّ ، فهو في آن واحد ذو
__________________
يقين وشك ، فينطبق
على الاستصحاب.
وأمّا قاعدة
اليقين ، فالشكّ فيها فعلي دون اليقين بل هو زائل كما مرّ في توضيح القاعدة.
أضف إلى ذلك انّ
الرواية ظاهرة في الاستصحاب بقرينة وحدة لسانها مع سائر الروايات.
٣. مكاتبة القاساني
كتب علي بن محمد
القاساني إلى أبي محمد (عليهالسلام) ، قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه
من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب : «اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وأفطر
للرؤية».
وجه الاستدلال :
أنّ المراد من اليقين ، إمّا هو اليقين بأنّ الزمان الماضي كان من شعبان فشكّ في
خروجه بحلول اليوم التالي ، أو اليقين بعدم دخول رمضان وقد شكّ في دخوله. وعلى كلا
التقديرين لا يكون اليقين السابق منقوضاً بالشك. وهذا هو المراد من قوله : «اليقين
لا يدخل فيه الشك».
٤. صحيحة عبد الله بن
سنان
روى الشيخ بسند
صحيح عن عبد الله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) وأنا حاضر : إنّي أُعير الذمِّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب
الخمرَ ، ويأكل لحم الخنزير ، فيردّها عليّ أفأغسِلُه قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو
عبد الله (عليهالسلام) : «صلّ فيه ولا تَغْسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه
وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ،
__________________
فلا بأس أن تصلّي
فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه».
وجه الاستدلال :
انّ الإمام لم يعلِّل طهارة الثوب بعدم العلم بالنجاسة حتى ينطبق على قاعدة
الطهارة ، بل علّله بأنّك كنتَ على يقين من طهارة ثوبك وشككتَ في تنجيسه فما لم
تستيقن انّه نجّسه فلا يصحّ لك الحكم على خلاف اليقين السابق ، والمورد وإن كان
خاصّاً بطهارة الثوب لكنه غير مخصِّص وذلك لوجهين :
الأوّل : ظهور
الرواية في صدد إعطاء الضابطة الكلّية.
والثاني : التعليل
بأمر ارتكازيّ يورث إسراء الحكم إلى غير مورد السؤال.
٥. خبر بكير بن أعين
روى بكير بن أعين
قال : قال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) : «إذا استيقنت أنّك توضّأت ، فإيّاك أن تحدث وضوءاً حتى
تستيقن أنّك أحدثت».
هذه هي المهمّات
من روايات الباب ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية.
ثمّ إنّ مقتضى
إطلاق الروايات ، وكون التعليل (لا تنقض اليقين بالشك) أمراً ارتكازياً ، حجّية
الاستصحاب في جميع الأبواب والموارد ، سواء أكان المستصحب أمراً وجودياً أم
عدميّاً ، وعلى فرض كونه وجوديّاً لا فرق بين كونه حكماً شرعيّاً تكليفياً أو
وضعياً أو موضوعاً خارجياً له آثاره الشرعيّة كالكرّية ، وحياة زيد ، وغير ذلك.
__________________
حجّية الاستصحاب
في الشكّ في المقتضي
ذهب بعضهم إلى عدم
حجّيته في خصوص الشكّ في المقتضي دون الرافع ، ولإيضاح الفرق بين الشكّين نقول :
كلُّ حكم أو موضوع
لو ترك لبقي على حاله إلى أن يرفعه الرافع فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، وأمّا كلّ
حكم أو موضوع لو ترك لزال بنفسه وإن لم يرفعه الرافع فالشك فيه من قبيل الشكّ في
المقتضي ، فمثلاً وجوب الصلاة والصوم والحجّ من التكاليف التي لا ترفع إلّا برافع
، وذلك لأنّ الوجوب الجزئي منه لا يُرفع إلّا بالامتثال ، وأمّا الوجوب الكلي
فبالنسخ ، فالشكّ في الامتثال في مورد الحكم الجزئي ، أو الشكّ في النسخ في مورد
الحكم الكلي ، شك في الرافع ، لإحراز المقتضي لبقائه.
وهذا بخلاف ما لو
شكّ في بقاء الخيار في الآونة المتأخرة ، كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن
وتمكّنه من إعمال الخيار ، إذا لم يفسخ ، فيشكّ في بقاء الخيار ، لأجل الشكّ في
اقتضائه للبقاء بعد العلم والمساهلة في إعماله ، ومثله الشكّ في بقاء النهار إذا
كانت في السماء غيوم ، فالشكّ في تحقّق الغروب يرجع إلى طول النهار وقصره ، فالشكّ
فيه شكّ في المقتضي.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّه استدل القائل بعدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي بدليل مبني على
أمرين :
الأوّل : أنّ
حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية ، كما في قوله نقضت الحبل ، قال سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) .
الثاني : أنّ
إرادة المعنى الحقيقي ممتنعة في المقام لعدم اشتمال اليقين على
__________________
الهيئة الاتصالية
، فلا بدّ من حمله على المعنى المجازي ، وأقرب المجازات هو ما إذا تعلّق اليقين
بما أحرز فيه المقتضي للبقاء وشك في رافعه ، لا ما شكّ في أصل اقتضائه للبقاء مع
صرف النظر عن الرافع ، وقد قُرر في محلّه أنّه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات
أولى.
يلاحظ عليه : أنّه
لم يثبت في اللغة كون النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية حتى لا تصح نسبته إلى
نفس «اليقين» لعدم اشتماله عليها ، بل هو عبارة عن نقض الأمر المبرم والمستحكم
سواء أكان أمراً حسيّاً أم قلبيّاً والشاهد على ذلك صحّة نسبة النقض إلى اليمين
والميثاق والعهد في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : (وَلا تَنْقُضُوا
الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)
وقال سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ)
وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)
واليقين كالميثاق
واليمين والعهد من الأُمور النفسانية المبرمة المستحكمة فتصح نسبة النقض إليه ،
سواء تعلق بما أحرز فيه المقتضي للبقاء أو لا ، والمصحح للنسبة هو كون نفس اليقين
أمراً مبرماً مستحكماً ، سواء أكان المتعلّق كذلك ، كما في الشكّ في الرافع ، أم
لم يكن كذلك كما في الشكّ في المقتضي.
هذا تمام الكلام
في أدلّة الاستصحاب.
__________________
تنبيهات
التنبيه الأوّل :
كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة
قد عرفت أنّ
اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب فلا كلام فيما إذا كان حدوث المتيقّن محرزاً
باليقين ، إنّما الكلام فيما إذا كان محرزاً بالأمارة وشكّ في بقائه ، كما إذا دلّ
قول الثقة على وجود الخيار للمغبون في الآن الأوّل وشُكَّ في بقائه في الآن الثاني
، أو دلّت البيّنة على حياة زيد أو كونه مالكاً فشُك في بقاء حياته أو مالكيته فهل
يحكم بالبقاء أو لا؟ وجه الإشكال أنّه لا يقين بالحدوث لعدم إفادة قول الثقة أو
البيّنة ، اليقينَ فكيف يحكم بالبقاء؟
والجواب أنّ
المراد من اليقين في أحاديث الاستصحاب هو الحجّة على وجه الإطلاق ، لا خصوص اليقين
بمعنى الاعتقاد الجازم ، كما هو المصطلح في علم المنطق ، والشاهد على ذلك أمران :
١. انّ العلم
واليقين يستعملان في الحجّة الشرعية ، كما في قولهم : يحرم الإفتاء بغير علم ،
فيُراد به الحجّة الشرعية لا العلم الجازم القاطع. لكفاية الحجّة غير القطعية في
جواز الافتاء.
٢. ملاحظة روايات
الباب مثلاً ففي الصحيحة الأُولى
لزرارة لم يكن له
علم وجداني بالطهارة النفسانية ، بل كان علمه مبنياً على طهارة مائه وبدنه ولباسه
، بالأُصول والأمارات ، وهكذا سائر الروايات ، فإنّ حصول اليقين فيها هناك كان
رهنَ قواعد فقهية وأُصولية ، وفي الصحيحة الثانية كان اليقين بطهارة ثوبه
__________________
والشكّ في طروء
النجاسة مستنداً إلى جريان أصالة الطهارة في الإناء والماء الذي غسل به ثوبه إلى
غير ذلك.
كلّ ذلك دليل على
أنّ المراد من اليقين في الروايات هو الحجّة ، عقلية كانت كالقطع ، أو شرعية كالبيّنة
والأمارة ، ويكون المراد من «الشك» بقرينة المقابلة هو اللاحجّة من غير فرق بين
الظن والشكّ والوهم. فكأنّ الشارع يقول : «لا تنقض الحجّة باللاحجّة» لأنّ اليقين
فيه صلابة ، والشكّ فيه رخاوة فلا يُنقض الأوّل بالثاني كما لا يُنقض الحجر
بالقطن.
التنبيه الثاني :
في استصحاب الزمان والزمانيات
المستصحب تارة
يكون نفس الزمان ، وأُخرى الشيء الواقع فيه.
أمّا الأوّل :
فكما إذا كان الزمان موصوفاً بوصف ككونه ليلاً أو نهاراً ، فشككنا في بقاء ذلك
الوصف ، فيستصحب بقاء الليل أو النهار.
وربّما يقال : إنّ
الزمان غير قارّ الذات ولا يتصوّر فيه البقاء بل سنخ تحقّقه هو الوجود شيئاً
فشيئاً ، وما هذا حاله ، لا يتصور فيه الحدوث والبقاء ، حتى يتحقّق فيه أركان
الاستصحاب.
والجواب : إنّ
بقاء كلّ شيء بحسبه ، فللأُمور القارّة بقاء وانقضاء ، وللأُمور المتصرّمة كالليل
والنهار أيضاً بقاء وزوال مثلاً ، يطلق على الطليعة ، أوّل النهار ، وعلى الظهيرة
، وسط النهار ، وعلى الغروب ، آخره ، وهذا يعرب عن أنّ للنهار بقاءً حسب العرف ،
وإن لم يكن كذلك بالدقة العقلية.
وأمّا الثاني :
أعني الشيء الواقع في الزمان وهو المسمّى بالزماني كالتكلم والكتابة والمشي وجريان
الماء ، فلكل منها حدوث وبقاء في نظر العرف ، فلو شرع الإنسان بالتكلّم أو أخذ
بالمشي ، فشككنا في بقائهما أو انقطاعهما ، يصح استصحابهما كاستصحاب الزمان ،
والإشكال فيه كالإشكال في الزمان ، والجواب
نفس الجواب.
ومثاله الشرعي إذا
كانت العين نابعة ، جارية ووقعت فيها نجاسة ، وشككنا عند الوقوع في بقاء النبع
والجريان ، فيستصحب ، ويترتب عليه الأثر الشرعي وهو عدم انفعال ماء العين
بالنجاسة.
التنبيه الثالث :
في شرطية فعلية الشك
يشترط في
الاستصحاب ، فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ
ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب
، لأنّ اليقين بالحدث وإن كان موجوداً قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته فلا يتحقّق
أركان الاستصحاب ، ولأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذاً بقاعدة الفراغ ،
لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة ، وهذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة
الفراغ ، ولكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلى سائر الصلوات ، لأنّ قاعدة الفراغ لا
تثبت إلّا صحّة الصلاة السابقة ، وأمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.
وهذا بخلاف ما إذا
كان على يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه ومع ذلك غفل وصلّى والتفت بعدها فالصلاة
محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب وإن احتمل انّه توضأ بعد الغفلة.
التنبيه الرابع :
المراد من الشك مطلق الاحتمال
يطلق الظن على
الاحتمال الراجح ، والوهم على الاحتمال المرجوح ، فيكون الشكّ هو الاحتمال المساوي
وهذا هو المسمّى بالشكّ المنطقي.
وأمّا الشكّ
الأُصولي المطروح في باب الاستصحاب فهو عبارة عن خلاف
اليقين ، سواء كان
البقاء مظنوناً أو موهوماً أو مشكوكاً متساوي الطرفين ، وهذا هو المراد من الشكّ
في لسان الروايات ، وقد ورد الشك بالمعنى الأُصولي في الذكر الحكيم ، قال سبحانه :(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)
، وقال سبحانه : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
، والشكّ في
الآيتين يعمّ الحالات الثلاث.
ونظير الآيتين :
الشكّ في صحيحة زرارة قال : فإنْ حُرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال (عليهالسلام) : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن
، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» وذلك لأنّ
التحريك على جنب الإنسان يفيد الظن بأنّه قد نام ، ومع ذلك أطلق عليه الإمام الشك
ولم يستفصل بين إفادته الظن بالنوم وعدمه ، وهذا يدل على أنّ المراد من الشكّ هو
مطلق الاحتمال المخالف لليقين ، من غير فرق بين كون البقاء مظنوناً أو مرجوحاً أو
مساوياً.
أضف إلى ذلك ما
مرّ من أنّ المراد من اليقين هو الحجّة الشرعية ، ويكون ذلك قرينة على أنّ المراد
من الشكّ هو اللّاحجة ، ويكون معنى الحديث لا تنقض الحجّة باللّاحجّة ، فالملاك في
الجميع عدم وجود الحجّة ، من دون نظر إلى كون البقاء راجحاً أو مرجوحاً أو
متساوياً.
التنبيه الخامس :
التمسّك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص
إذا كان هناك عموم
يدل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة ، كقوله سبحانه : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث يدلّ على وجوب الوفاء على وجه الإطلاق من غير فرق بين
زمان دون زمان.
__________________
ثمّ إذا فرضنا
أنّه خرج منه عقد في وقت خاص ، كالعقد الغبني ، فانّ المغبون يملك الخيار وله أن
يفسخ العقد بظهوره ، ولكنّه تساهل ولم يفسخ ، فيقع الشكّ في بقاء الخيار في الآن
الثاني فهل المرجع هو :
أ. عموم العام ،
فيكون العقد واجب الوفاء في الآن الثاني والخيار فوريّاً؟
ب. أو استصحاب حكم
المخصِّص
ويكون الخيار غير
فوري؟
ومثله خيار العيب
إذا تساهل المشتري ولم يفسخ ، فهل المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقد أو استصحاب حكم
المخصص الذي دلّ على جواز الفسخ إذا ظهر العيب؟
فالتحقيق أن يقال
: إنّه إن لزم من العمل بحكم المخصِّص عن طريق الاستصحاب ، تخصيص زائد وراء
التخصيص الأوّل فالمرجع هو عموم العام ، وأمّا إذا لم يلزم إلّا نفس التخصيص
الأوّل فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.
توضيح ذلك : أنّ
الزمان تارة يكون قيداً للموضوع في ناحية العام ، بحيث يكون العقد في الزمان
الأوّل موضوعاً وفي الزمان الثاني موضوعاً آخر وهكذا ، وهذا ما يطلق عليه بكون
الزمان مفرِّداً للموضوع.
وأُخرى يكون
الزمان ظرفاً للحكم ومبيّناً لاستمراره ، بمعنى أنّ العقد في جميع الآونة موضوع
واحد ، فلو خرج في الآن الأوّل أو خرج في جميع الآونة لم يلزم إلّا تخصيص واحد.
__________________
ففي الصورة
الأُولى يكون المرجع هو عموم العام ، لافتراض أنّ الأخذ بحكم المخصص يستلزم
تخصيصاً زائداً ، ومن المعلوم أنّ المرجع عند الشكّ في التخصيص هو عموم الدليل
الاجتهادي ، مثلاً إذا قال المولى : أكرم العلماء ، وعلمنا بخروج زيد ثمّ شككنا في
خروج عمرو ، فكما أنّ المرجع عندئذ هو عموم قوله : أكرم العلماء ، لأنّ خروج عمرو
تخصيص زائد ، فهكذا المقام ، فالعقد الغبني في الآن الأوّل موضوع كما انّه في الآن
الثاني موضوع ثان ، وقد دلّ الدليل على التخصيص الأوّل ، وبقي العقد في الآن
الثاني تحت العام ، فيتمسك به لتقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي وهو
استصحاب حكم المخصص.
وهذا بخلاف ما إذا
كان للفرد في جميع الأزمنة مصداق واحد بحيث لا يلزم من خروجه في الآن الأوّل
والثاني إلّا تخصيص واحد ، ففي مثله يؤخذ باستصحاب حكم المخصص ، لأنّه كان متيقناً
وشكّ في بقائه ، ولا ينقض اليقين بالشك ولا يؤخذ بالعام لخروجه عنه حسب الفرض ،
فرجوعه تحت العام ثانياً يتوقف على دليل خاصّ.
وزبدة القول : هي
أنّه لو كان الزمان في ناحية العام قيداً للموضوع العقد ومفرِّداً له بحيث يلزم من
خروجه بعد الآن الأوّل تخصيص ثان وثالث فالمرجع هو عموم العام.
وأمّا إذا كان
الزمان في ناحية العام ظرفاً لبيان استمرار الحكم بحيث يكون له في جميع الأزمنة
فرد واحد ولا يلزم من خروجه في الآونة المتأخرة تخصيص زائد ، فالمرجع هو استصحاب
حكم المخصص.
وهذه هي النظرية
المعروفة من الشيخ الأعظم قدَّس سرّه ، وهناك نظريات أُخرى تطلب من محالها.
التنبيه السادس :
كفاية وجود الأثر بقاءً
يكفي في جريان
الاستصحاب ترتّب الأثر بقاءً ولا يشترط ترتّب الأثر عليه حدوثاً ، وبعبارة أُخرى :
يشترط ترتّب الأثر في زمان الشكّ وظرف التعبّد بالبقاء ، دون زمان اليقين ، إذ
يكفي في صحّة التعبّد بالبقاء ، وجود أصل الأثر حتى لا يكون التعبّد ببقاء
المستصحب أمراً لغواً ، ولذلك يصحّ الاستصحاب في المثال التالي :
إذا كان الوالد
والولد حيّين فمات الوالد وشككنا في حياة الولد ، فتُستصحب حياتُه ، ويترتب عليها
الأثر الشرعي من إرثه ، وبالتالي : تُعزل حصته من التركة ، فحياة الولد ذاتُ أثر
الوراثة القطعيّة بقاءً وإن لم يكن كذلك حدوثاً ، أي في زمان حياة الوالد إلّا على
وجه التعليق.
التنبيه السابع :
قياس الحادث إلى أجزاء الزمان
إذا علم بحادث في
زمان معيّن ولم يُعلم وقته فيمكن استصحاب عدم حدوثه إلى زمان العلم به ، مثلاً إذا
علمنا بحدوث الكرّية وشككنا في حدوثها يوم الخميس أو الجمعة ، فتجري أصالة عدم
حدوثها إلى نهاية يوم الخميس ، فيترتب عليه أثر عدم الكرّية في ذلك اليوم ، فلو
غسل ثوب بهذا الماء في يوم الخميس يحكم ببقاء النجاسة فيه.
نعم لا يثبت
باستصحاب عدم حدوث الكرية إلى يوم الخميس عنوان تأخرها عنه ، لأنّه لازم عقلي لا
شرعي ، ولو كان للتأخر أثر شرعي فلا يثبت بهذا الاستصحاب.
التنبيه الثامن :
قياس الحادث بحادث آخر
الكلام هنا حول
قياس حادث بحادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين ، ولم يعلم المتقدّم والمتأخر
منهما ، فهل يجري الأصل أو لا؟
مثلاً لو علم موت
الوالد المسلم وعلم أيضاً إسلام وارثه ، ولكن شكّ في تقدّم موت المورِّث على إسلام
الوارث حتى لا يرثه لأنّ الكافر لا يرث المسلم حتى وإن أسلم بعد موت المورِّث أو
تأخر موته عن إسلامه حتى يرثه ، فهل يجري الأصل أو لا؟
فنقول : للمسألة
صورتان :
الأُولى : أن يكون
أحد الحادثين (موت الوالد) معلوم التاريخ والآخر (إسلام الوارث) مجهوله ، فيجري
الأصل في المجهول دون المعلوم.
امّا أنّه لا يجري
الأصل في معلوم التاريخ كموت الوالد المسلم في غرّة رجب فلأجل أنّ حقيقة الاستصحاب
هو استمرار حكم المستصحَب عدم الموت إلى الزمان الذي يشكّ في بقائه ، وهذا إنّما
يتصور فيما إذا جهل تاريخ حدوثه ، وأمّا لو فرض العلم بزمان الحدوث وأنّه مات في
غرّة رجب فلا معنى لاستصحاب عدمه لعدم الشكّ في زمان الموت.
وبعبارة أُخرى :
لا بدّ في الاستصحاب من وجود زمان يشكّ في بقاء المستصحَب فيه ، وهذا غير متصوّر
في معلوم التاريخ ، لأنّا نعلم عدم موت الوالد قبل غرّة رجب وموته فيها ، فليس هنا
زمان خال يُشك في بقاء المستصحب عدم موت الوالد فيه.
وأمّا جريانه في
مجهول التاريخ ، وهو إسلام الولد ، حيث كان كافراً في شهر جمادى الآخرة ومسلماً في
غرّة شعبان ومشكوك الإسلام بين الشهرين
فيُستصحب بقاؤه أي
عدم الإسلام في الظرف المشكوك ، ويترتب عليه أثره وهو حرمانه من الإرث لثبوت
موضوعه وهو موت الوالد حين كفر الولد.
الثاني : إذا كان
كلّ من الحادثين مجهول التاريخ وشكّ في التقدّم والتأخر ، فيجري الاستصحاب في كلّ
منهما ويسقطان بالتعارض ويرجع إلى دليل اجتهاديّ كعامّ أو اطلاق أو أصل آخر ،
وإليك بعض الأمثلة :
١. إذا علم موت
المورث وفي الوقت نفسه علم إسلام الوارث ولكن شكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فلو
كان موت المورث متقدّماً على إسلام الوارث فلا يرث الوارثُ الكافر ، بخلاف ما
انعكس فيرى الوارث كسائر الورثة ، فيقال الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت
المورث ، كما انّ الأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث ، فيجريان ويتساقطان
، ولأجل التساقط لا يثبت تقارن الإسلام والموت.
مضافاً إلى انّ
التقارن لازم الأصلين فيكون الأصلان بالنسبة إليه مثبتين ، فإذا سقط الأصلان يرجع
إلى دليل أو أصل آخر.
٢. إذا وجد كرّ
فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكرية للماء في زمان وعدم وجود النجاسة فيه أيضاً ولكن
لا يعلم زمان حدوثهما فيحتمل تقدّم كلّ منها على الآخر وتقارنهما ، فيستصحب حينئذ
عدم تقدّم كلّ منهما على الآخر فيتعارضان ويتساقطان ولا يثبت بهما التقارن لما
عرفت انّ الأصلين بالنسبة إليه مثبتان.
وأمّا ما هو حكم
الماء أو الثوب النجس الوارد عليه فيرجع فيهما إلى دليل أو أصل آخر.
وبما انّه ليس هنا
ضابطة خاصة لتعيين ذلك الدليل أو الأصل بل لكلّ مورد ، حكمه الخاص أعرضا عن
التفصيل فيهما.
التنبيه التاسع :
تقدّم الاستصحاب على سائر الأُصول
الاستصحاب متقدّم
على سائر الأُصول ، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق وجعله حجّة في الآن اللاحق
يوجب ارتفاع موضوعات الأُصول (عدم البيان) ، أو حصول غاياتها (العلم بالحرمة) ،
وإليك البيان :
أ. أنّ موضوع
البراءة العقلية هو عدم البيان ، فإذا كان الشيء مستصحَب الحرمة أو الوجوب ،
فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع ، فلا يبقى موضوع للبراءة
العقلية.
ب. كما أنّ موضوع
البراءة الشرعية هو «ما لا يعلمون» والمراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة ،
والاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة على بقاء الوجوب والحرمة في الأزمنة اللاحقة ،
فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.
ج. أنّ موضوع
التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال ، والاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك
التساوي.
د. أنّ موضوع
الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك ، والاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمِّن ،
فالاستصحاب بالنسبة إلى هذه الأُصول رافع لموضوعها. وإن شئت فسمِّه وارداً عليها.
وربّما يكون
الاستصحاب موجباً لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة والحليّة ،
فإنّ الغاية في قوله (عليهالسلام) : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، وفي قوله (عليهالسلام) : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» وإن كان هو العلم ،
لكن المراد منه هو الحجّة ، والاستصحاب حجّة ، ومع جريانه تحصل الغاية ، فلا يبقى
للقاعدة مجال.
ولمّا انجرّ
الكلام إلى تقدّم الاستصحاب على عامّة الأُصول اقتضى المقام بيان نسبة بعض القواعد
إلى الاستصحاب.
خاتمة المطاف
الاستصحاب والقواعد الأربع
ثمّة قواعد فقهية
أربع لها دور عظيم في تنقيح الفروع الفقهية وتعدُّ من أهمّ القواعد ، وقد تناولها
مؤلّفو القواعد الفقهيّة في كتبهم على وجه التفصيل ، ونحن نشير إلى بعض ما له صلة
بالاستصحاب :
|
١.
قاعدة اليد
٢.
قاعدة أصالة الصحّة في فعل الغير.
٣.
قاعدة التجاوز والفراغ.
٤.
قاعدة القرعة.
|
١. قاعدة اليد
إنّ اليد
والاستيلاء على الشيء عند العقلاء أمارة الملكية ودليلها ، إلّا إذا دلّ الدليل
على خلافها ، كيد الغاصب والسارق والسمسار ، وعلى ذلك استقرّت السيرة في الأعصار
وأمضاها الشارع.
إنّ اعتبار اليد
من دعائم الحياة الاجتماعية وقوام نظام المعاملات والمبادلات فلو رُفِضَت اليد
لاختلّ النظام التجاري ، إذ من المحال أن يُقيم كلُّ إنسان شاهداً على ما تحت يده
، أو أن يُسجّل كلّ شيء مما يملكه في دائرة خاصّة ، وقد صار هذا سبباً لإمضاء تلك
السيرة العقلائية ، قولاً وتقريراً ، وأمّا سيرة المتشرّعة أو إجماع الفقهاء
وأصحاب الفتوى على حجّية اليد ، فالكل يستند إلى السيرة العقلائية ، ويشهد بذلك
قول الإمام أبي عبد الله (عليهالسلام) لحفص بن غياث : «لو لم يجز هذا دلالة اليد على الملكية لم
يقم للمسلمين سوق».
ويستفاد من غير
واحد من الأخبار أنّ اليد أمارة الملكية وليست أصلاً من الأُصول ، روى محمد بن
مسلم عن أبي جعفر (عليهالسلام) قال : سألته عن الدار يوجد فيها الورق؟ فقال : «إن كانت
معمورة ، فيها أهلها فهي لهم ، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها ، فالذي وجد المال
أحقّ به».
روى يونس بن يعقوب
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في امرأة تموت قبل الرجل ، أو
__________________
رجل قبل المرأة ،
قال : «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو
بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له».
وكفى في دلالة
اليد على الملكية قوله : «ومن استولى على شيء منه فهو له» ، والرواية وإن وردت في
متاع البيت لكن المورد لا يخصصها ، فالعرف يتلقاها قاعدة كلّية في جميع الموارد ،
واللام في قوله (له) للملكية ، أي الاستيلاء دليل الملكية سواء كان من خصائص الزوج
أو من خصائص الزوجة ، وإنّما يستدل بمتاع الرجل على أنّه له ، ومتاع المرأة على
أنّه لها ، إذا لم يكن لأحدهما استيلاء تام ، وأمّا معه فهو مقدّم على الاستدلال
بكون المتاع من الخصائص فيدفع إلى من يختصّ به.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انّ قاعدة اليد مقدّمة على الاستصحاب تقدّمَ الأمارة على الأصل ، ولذلك
نشتري من السوق كلَّ الأمتعة مع العلم بأنّها كانت ملكاً للغير ، وما هذا إلّا
لتقدّم اليد على استصحاب بقاء الملكية للغير.
__________________
٢. أصالة الصحّة في
فعل الغير
أصالة الصحّة في
فعل الغير من الأُصول المجمع عليها ولها معنيان :
١. حسن الظن
بالمؤمن والاعتقاد الجميل في حقّه حتّى لا ينسبه إلى اعتقاد فاسد أو صدور عمل
محرّم منه أو فاسد ، وهذه من الوظائف الإسلامية التي يدعو إليها القرآن والسنّة
قال سبحانه : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ) .
وأمّا السنّة فروى
إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : «إذا اتّهم المؤمن أخاه ، إنماث الإيمان في قلبه
كما ينماث الملح في الماء».
وأصالة الصحّة
بهذا المعنى أصل أخلاقي لا كلام فيه ولا يترتّب عليه أثر فقهيّ.
٢. فرض الفعل
الصادر من الغير صحيحاً مطابقاً للواقع ، مثلاً إذا قام المسلم بغَسْل الميت
وتكفينه والصلاة عليه ، ودفنه ، أو قام بغسل الأواني واللحوم المتنجّسة ، يحمل
فعله على الصحّة بهذا المعنى ، وبالتالي يسقط التكليف عن الغير ولا يحتاج إلى
إحراز الصحّة بالعلم والبيّنة.
ومثله إذا أذّن
أحد المؤمنين أو أقام وشُكّ في صحّة عمله ، يحمل على الصحّة ، ويسقط التكليف عن
الغير ، أو ناب المسلم عن رجل في الحجّ أو العمرة أو في جزء من أعمالهما ، وشُكّ
في صحّة العمل المأتي به ، يحمل على الصحّة ، إلى غير ذلك من أعمال الوكلاء في
الزواج والطلاق والبيع والشراء والإجارة ، أو فعل الأولياء كالأب والجدّ في تزويج
من يتوليانه أو الاتّجار بماله.
__________________
والدليل على أصالة
الصحّة بهذا المعنى هو وجود الإجماع العملي بين الفقهاء وسيرة المسلمين النابعين
من سيرة العقلاء على حمل فعل الغير على الصحّة ، وهذا ممّا لا شكّ فيه.
والذي دعا إلى
اتخاذهم هذا الأصل سنداً في الحياة هو ملاحظة طبع العمل الصادر عن إنسان عاقل ،
وهو يعمل لغاية الانتفاع بعمله آجلاً أو عاجلاً ، ومقتضى ذلك هو إيجاد العمل
صحيحاً لا فاسداً ، كاملاً لا ناقصاً ، وإلّا يلزم نقض الغرض وفعل العبث.
ثمّ إنّ أصالة
الصحّة متقدّمة على الاستصحاب لأحد وجهين :
الأوّل : انّها
أمارة على الصحّة ، لأنّ الغالب على فعل الإنسان العاقل المريد هو الصحّة لا
الفساد ، وانّ الفاسد أقلّ بكثير من الصحيح ، فتكون أمارة ظنّية أمضاها الشارع.
الثاني : أنّها
أصل لكنّها متقدّمة على الاستصحاب للزوم اللغوية إذا قُدِّم الاستصحاب عليها ، إذ
ما من مورد من مواردها إلّا وفيه أصل يدل على الفساد في المعاملات ، وعلى الاشتغال
في العبادات ، لأنّ الشكّ في الصحّة ناشئ غالباً من احتمال تخلّف شرط أو جزء ،
والأصل عدم اقتران العمل بهما.
نعم تُقدَّم أصالة
الصحّة على استصحاب الفساد إلّا في موارد كان الفساد فيها هو الطبع الأوّلي للعمل
مثلاً :
إذا كان طبع العمل
مقتضياً للفساد ، بحيث تكون الصحّة من عوارضه الشاذة وأطواره النادرة ، كبيع الوقف
مع احتمال المسوّغ له ، ومال اليتيم إذا لم يكن البائع وليّاً وبيع العين المرهونة
مدّعياً إذن المرتهن.
هذا في المعاملات
ونظيره في العبادات ، كإقامة الصلاة في المكان المغصوب ، وفي الثوب النجس ، مع
احتمال المسوّغ لها فلا تجري أصالة الصحة فيهما.
٣. قاعدة التجاوز
والفراغ
إذا شكّ في وجود
الشيء ، كالشكّ في الركوع بعد السجود ، أو الشكّ في صحّة الشيء الموجود ، كالشكّ
في الصلاة المأتي بها ، بعد الفراغ ، فالأصل هو عدم الاعتداد بالشك ، سواء أتعلّق
بوجوده أم بصحته ، وقد تضافرت الروايات في هذا المضمار ، وفي الحقيقة يرجع هذا
الأصل إلى حمل فعل النفس على الصحّة كما أنّ القاعدة السابقة ترجع إلى حمل فعل
الغير على الصحّة ، فكأنّهما قاعدة واحدة لها وجهان.
وتدلّ عليها من
الروايات ، صحيحة زرارة قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال : «يمضي» ،
قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال : «يمضي» ، قلت : شكّ في القراءة وقد ركع؟
قال : «يمضي» ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟ قال : «يمضي على صلاته» ، ثمّ قال : «يا
زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء».
والرواية وإن وردت
في مورد الصلاة لكن المستفاد من الذيل انّها بصدد إعطاء ضابطة كلّية في جميع
المجالات ، وانّ المكلّف إذا قام بعمل سواء أكان مركّباً أم بسيطاً ، عبادياً كان
أم معاملياً ، وخرج منه ثمّ شكّ فيه ، لا يلتفت إليه ، ويؤيده سائر الروايات
الواردة في هذا المضمار.
روى بكير بن أعين
عن أبي عبد الله (عليهالسلام) ، قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما
__________________
يتوضأ؟ قال : «هو
حين يتوضأ أذكر منه حين يشك».
والتعليل بأمر ارتكازي يدل على أنّها
قاعدة عامّة في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين العبادات والمعاملات.
ثمّ إنّ القاعدة
متقدّمة على الاستصحاب بوجهين :
١. إنّ الإمام
قدّمها على الاستصحاب في صحيحة زرارة حيث إنّ الأصل كان يقتضي عدم تحقّق الركوع
والسجود ، مع أنّه (عليهالسلام) حكم بالصحة وعدم الاعتداد.
٢. إنّ تقديم
الاستصحاب على القاعدة يستلزم لغوية تشريعها كما مرّ في البحث السابق ، فإنّ كلّ
مشكوك مسبوق بالعدم فلا يبقى مجال لقاعدة التجاوز والفراغ.
__________________
٤. قاعدة القرعة
القرعة في اللغة :
بمعنى الدّق والضرب ، يقال قرع الباب : دقّه ، وقال ابن فارس : والإقراع والمقارعة
بمعنى المساهمة ، وسمّيت بذلك لأنّها شيء كأنّه يضرب.
ويظهر من الآيات
والروايات أنّ القرعة كانت رائجة في الأعصار السابقة عند تزاحم الحقوق والمصالح
دفعاً للترجيح بلا ملاك والتفريق بلا وجه ، ولا يتمسك بها إلّا إذا انغلقت أبواب
الحلول كلّها وانحصر وجه الحل بها.
أ. قال سبحانه : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)
لمّا حملت امرأة
عمران أُمّ مريم العذراء بنتها إلى الكنيسة حتى يكفل حضانتها العُبّاد بعد وفاة
والدها ، وهي في بطن أُمّها ، فعند ما رأوها تشاحّوا وطلب كلٌّ أن يتكفّل حضانتها
، لأنّها بنت عمران ، ومن البيوت الرفيعة في بني إسرائيل ، فاتّفقوا على المساهمة
فخرج السهم باسم خير الكفلاء لها أعني : زكريا والمقام من قبيل تزاحم الحقوق ،
لأنّ الحضانة كانت حقّاً لها ابتداءً وبالذات ولما دفعتها إلى العبّاد والزهاد ،
دون أن تعيّن واحداً منهم ، صار الجميع بالنسبة إلى هذه المفخرة على حد سواء ،
فاتّفقوا على المقارعة لأجل حسم النزاع.
ب. وقال سبحانه : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ*
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
__________________
الْمَشْحُونِ*
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
روى المفسرون أنّه سبحانه : أوعد قوم يونس بالعذاب وأخبرهم
يونس به ، فلمّا كُشف عنهم العذاب وقُبلت توبتهم ، ترك يونس قومه مغاضباً ، ومضى
إلى ساحل البحر ، وركب السفينة ، وأحسّ الربّان أنّ السفينة مشرفة على الغرق ، ولو
خُفِّفت بإلقاء واحد من الركّاب في البحر لنجا الكلّ ، فساهموا فأصاب السهم اسم
يونس.
هذا ما في الذكر
الحكيم ، وقد وردت في السنّة روايات كثيرة حول القرعة تناهز ٦٢ حديثاً ، ومن جوامع
الكلم قول النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا
خرج سهم المحقّ».
وفي حديث آخر :
أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوِّض الأمر إلى الله ، أليس الله يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).
إنّ حجّية القرعة
لا تتجاوز عن مورد التنازع أو التزاحم لوجهين :
الأوّل : بناء
العقلاء على العمل بها في خصوص مورد التنازع والتزاحم لا في كلّ مجهول ، أو كلّ
مشتبه أو كلّ مشكل وإن لم يكن مثاراً للتنازع.
الثاني : انّ
استقصاء روايات القرعة يرشدنا إلى أنّها وردت في خصوص المنازعات تعارضاً أو
تزاحماً.
نعم ، وردت رواية
بالقرعة في مورد تمييز الموطوءة من الشاة عن غيرها ، ولكنّها رواية شاذة. وأمّا
غيرها فيدلّ على اختصاصها بتزاحم الحقوق وتعارضها.
__________________
أضف إلى ذلك : أنّ
الأصحاب عملوا بالقرعة في الموارد التالية وجميعها إلّا مورد الشاة من هذا الباب :
١. باب قسمة
الأعيان المشتركة.
٢. باب تزاحم
المدعيين عند القاضي.
٣. باب قسمة
الليالي بين الزوجات.
٤. باب تداعي
الرجلين أو أكثر ولداً.
٥. باب تعارض
البيّنتين.
٦. توريث الخنثى
المشكل.
٧. توريث
المشتبهين في تقدّم موت أحدهما على الآخر.
٨. باب الوصايا المتعددة
إذا لم يف الثلث بها.
٩. باب إذا أوصى
بعتق عبيده ولم يف الثلث بها.
١٠. باب اشتباه
الشاة الموطوءة بغيرها.
تنبيه : أدلّة
القرعة غير مخصصة
قد اشتهر بين
الأصحاب أنّ عمومات القرعة لا يعمل بها إلّا أن يُجبر عمومها بعمل الأصحاب ، وذلك
لأجل كثرة ورود التخصيص عليها.
ولكن الصواب غير
ذلك ، فإنّ من وصف أدلّة القرعة بكثرة التخصيص تصوّر أنّ موضوعها هو مطلق المجهول
أو مطلق المشكل وإن لم يكن مورداً للتشاجر. ولما رأى أنّه لا يُعْمل بالقرعة في
كلّ مجهول أو مشكل زعم ورود كثرة التخصيص عليها وصيرورة عمومها موهوناً لا يتمسك
بها إلّا عند عمل
الأصحاب بها.
وأمّا على ما
اخترناه من أنّ موضوعها هو خصوص التنازع أو التزاحم في الحقوق ، مع انغلاق الأبواب
لسائر الحلول ، فأدلّة القرعة غير مخصصة ، والعمل بها ليس رهن عمل الأصحاب.
تمّ الكلام في الأُصول العملية ،
ويليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء الله
والحمد لله ربّ العالمين
المقصد الثامن
في تعارض الأدلّة الشرعية
وفيه أُمور وفصلان
:
الأمر الأوّل :
تعريف التعارض.
الأمر الثاني : في
الفرق بين التعارض والتزاحم.
الأمر الثالث :
أسباب التزاحم.
الأمر الرابع :
مرجحات باب التزاحم.
الفصل الأوّل : في
التعارض غير المستقر.
الفصل الثاني : في
التعارض المستقر.
خاتمة المطاف : في
التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه.
__________________
في تعارض الأدلّة الشرعية
قبل الخوض في الموضوع نقدّم أُموراً :
الأوّل : البحث عن تعارض الأدلّة
الشرعيّة وكيفية علاجها من أهمّ المسائل الأُصولية. إذ قلّ باب في الفقه لا توجد فيه حجّتان متعارضتان
ومختلفتان ، فلا مناص للمستنبط من علاجهما. ولأجل تلك الأهميّة الملموسة جعله
المحقق الخراساني أحد المقاصد الثمانية في مقابل عمل الشيخ حيث جعله خاتمة لكتابه.
والخاتمة والمقدّمة خارجتان عن مقاصد الكتاب مع أنّه من صميم مقاصد العلم ومسائله.
وقد عرفت في صدر الكتاب أنّ روح المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيين ما هو الحجّة
في الفقه ، والهدف في هذا المقصد هو تعيين ما هو الحجّة من المتعارضين من الترجيح
والتخيير عند عدم المرجّح أو سقوطهما والرجوع إلى دليل آخر ، فإذا كان هذا مكانة
هذا المقصد ، فلا وجه لجعله خاتمة للكتاب.
الثاني : إنّ قولنا : «في تعارض الأدلّة الشرعيّة» وإن كان يعمّ
تعارض الخبرين أو الأخبار وتعارض سائر الأدلّة الشرعيّة كتعارض قول اللغويين ، أو
المدّعيين للإجماع وغيرهما ، لكن القوم لم يطرحوا في المقام إلّا تعارض الأخبار
دون سائر الأدلّة ، واقتصروا فيما يرجع إلى تعارض قول اللغويين أو المدّعيين
للإجماع ، بما ذكروه في بابيهما.
الثالث : عرّف الشيخ التعارض بأنّه : «تنافي مدلولي الدليلين على وجه
التناقض أو التضاد».
وعرّفه المحقّق
الخراساني بأنّه : تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه
التناقض أو التضاد.
وإنّما عدل عن
التعريف الأوّل ، لأجل إخراج ما يمكن فيه الجمع بين الروايتين عرفاً ، من التعريف
، كموارد «الورود والحكومة والتخصيص» فانّ التنافي بين المدلولين وإن كان موجوداً
في مواردها ، لكنّه ليس موجوداً حسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.
والحاصل : أنّ
المحقّق الخراساني يفرّق بين التنافي في المدلول والتنافي في الدلالة ، لاختصاص
الثاني بغير موارد وجود الجمع العرفي ، دون الأوّل فانّه يعمّ جميع الموارد سواء
كان هناك جمع عرفي أو لا.
الرابع : إنّ الظاهر من التعريفين أنّ
التنافي على نحو التضاد ، غير التنافي على نحو التناقض. ولكن الحقّ رجوع التنافي على وجه التضاد إلى التنافي على
وجه التناقض ، فإذا ورد دليلان على الوجوب ، والحرمة فما يدلّ بالدلالة المطابقية
على الوجوب فهو بمدلوله الالتزامي يدلّ على عدم الحرمة ، فينافي ما يدلّ على
الحرمة ، وعلى ضوء ذلك ، التنافي بالمدلول المطابقي وإن كان بصورة التضاد ، لكنّه
بالمدلول الالتزامي ، بنحو التناقض على ما عرفت.
ومع ذلك كلّه ،
الإرجاع المذكور أمر دقيق لا يلتفت إليه الإنسان إلّا بعد التأمّل حتى يستغني بقيد
«على وجه التناقض» عن القيد الآخر ، ومقام التعريف
__________________
يطالب لنفسه
مقاماً واضحاً فلا إشكال في الإتيان بكلا القيدين حتّى يشمل التعريف لكلتا
الصورتين بوضوح.
الخامس : في الفرق
بين التعارض والتزاحم
إنّ اختلاف
الدليلين تارة يكون على وجه التعارض ، وأُخرى على نحو التزاحم ، فلو رجع التنافي
إلى مقام الجعل والمدلول ، وأصل الإنشاء على وجه لا يصحّ للمشرِّع أن يحكم على شيء
واحد بحكمين متناقضين ، أو متضادين ، مع قطع النظر عن قدرة المكلَّف على امتثالهما
، فالتنافي من قبيل التعارض كالحكم بوجوب شيء وحرمته أو عدم وجوبه.
وأمّا إذا رجع
التنافي إلى مقام الامتثال ، بأن لا يكون هناك تناف في مقام الملاك والمناط ، ولا
في مقام الجعل والإنشاء ، بل رجع التنافي إلى مرتبة متأخرة أعني مرتبة الامتثال ،
فالتنافي من قبيل التزاحم.
مثلاً إنّ تشريع
وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، لا ينافي تشريع وجوب الصلاة في المسجد ، وليس
بينهما أيُّ تزاحم في مقام الملاك ولا الإنشاء ولا الفعلية ، وانّما التنافي
بينهما في مقام الامتثال ، حيث إنّه يرجع إلى عجز المكلَّف عن امتثالهما إذا ابتلى
بهما في وقت واحد ، وهذا نظير قولك : «انقذ هذا الغريق» وقولك : «انقذ ذاك الغريق»
إذ ليس بينهما أيّ منافرة ، وانّما حصلت المنافرة في ظرف الامتثال ، حيث إنّه ليس
بمقدوره أن ينقذ كلا الغريقين في زمان واحد ، وهذا ما يسمّى بالتزاحم.
وإن شئت قلت : إنّ
المتعارضين متكاذبان في مقام التشريع والجعل ، والمتزاحمين متنافران في مقام
الامتثال ، دون أن يكون بينهما أيُّ تكاذب وتعاند في مقام الجعل والإنشاء.
السادس : أسباب
التزاحم وأقسامه
إذا وقفت على
الفرق بين التعارض والتزاحم ، وأنّ مرجع التعارض إلى تكذيب كلّ من الدليلين
الدليلَ الآخر في مقام الجعل والتشريع ، وأنّ مرجع التزاحم إلى تنافي كلّ منهما مع
الآخر في مقام الامتثال بلا تكاذب وتدافع في مقام التشريع.
فاعلم أنّ التزاحم
ينقسم إلى الأقسام التالية :
١. ما يكون
التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر ، كما إذا توقف إنقاذ
الغريق على التصرّف في أرض الغير.
٢. ما يكون منشأ
التزاحم وقوع التضاد بين متعلّقين من باب التصادف لا دائماً ، كما إذا زاحمت إزالة
النجاسة عن المسجد ، إقامةَ الصلاة فيه.
٣. ما يكون أحد
المتعلّقين مترتّباً في الوجوب على الآخر ، كالقيام في الركعة الأُولى والثانية مع
عدم قدرته عليه إلّا في ركعة واحدة ، أو كالقيام في الصلاتين : الظهر والعصر ، مع
عدم استطاعته إلّا على القيام في واحدة منهما.
ومثله إذا دار
أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع وسجود ، أو الصلاةَ معهما من دون قيام في
مخبأ آخر.
السابع : مرجّحات
باب التزاحم
إذا كان التزاحم
راجعاً إلى مقام الامتثال مع كمال الملاءمة في مقام التشريع فيتمسك بالمرجحات التي
هي عبارة عن الأُمور التالية :
١. تقديم ما لا بدل
له على ما له بدل
إذا كان هناك
واجبان لأحدهما بدل شرعاً ، دون الآخر ، فالعقل يحكم بتقديم
الثاني على الأوّل
، جمعاً بين الامتثالين ، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل الطهارة
الحدثية بالماء ، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل ، بخلاف الطهارة الحدثية ، فتُقدّم
مصلحة الوقت على مصلحة الطهارة الحدثية بالماء ، فيتيمم بدلاً عن الطهارة المائية
ويصلّي في الوقت.
٢. تقديم المضيّق على
الموسّع
إذا كان هناك
تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره ، والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال
بالواجب المضيّق ، إلّا فضيلة الوقت ، فالعقل يحكم بتقديم الأوّل على الثاني ،
ولذلك يجب امتثال إزالة النجاسة أوّلاً ثمّ القيام بالصلاة.
٣. تقديم أحد
المتزاحمين على الآخر لأهميته
إذا دار الأمر بين
ترك الأهم والمهم ، كإنقاذ الغريق والتصرّف في مال الغير ، فالعقل يحكم بتقديم
الأهم على المهم ، وهذه من القضايا التي قياساتها معها.
٤. سبق امتثال أحد
الحكمين زماناً
إذا كان أحد الواجبين
متقدّماً في مقام الامتثال على الآخر زماناً ، كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة
، ولا يقدر إلّا على صيام يوم واحد ، أو إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكن إلّا من
الإتيان بواحدة منهما قائماً ، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكن إلّا من القيام بركعة
واحدة ، ففي جميع هذه الصور يستقلُّ العقل بتقديم ما يجب امتثاله متقدّماً على
الآخر ، حتى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً ، إلّا إذا كان الواجب
المتأخر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة
في الثاني ، وهو
خارج عن الفرض.
وبعبارة أُخرى :
لو صام يوم الخميس ، أو صلّى الظهر قائماً ، فقد ترك صوم يوم الجمعة والقيام في
صلاة العصر عن عذر وحجّة بخلاف ما لو أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر جالساً فقد ترك
الواجب بلا عذر.
٥. تقديم الواجب
المطلق على المشروط
إذا نذر قبل حصول
الاستطاعة أن يزور مرقد الإمام الحسين (عليهالسلام) في كلّ عرفة ، ثمّ حصلت له الاستطاعة فيقدّم الحج على
زيارة الحسين (عليهالسلام) ، لأنّه إذا قال القائل : لله عليَّ أن أزور الإمام
الحسين (عليهالسلام) في كلّ عرفة ، إمّا أن لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى عام
حصول الاستطاعة للحج ، أو يكون.
فعلى الأوّل عدم
الإطلاق لدليل النذر يكون الحجّ مقدّماً ، إذ لا يكون عندئذ إلّا واجب واحد.
وعلى الثاني ، بما
أنّ الإطلاق مستلزم لترك الواجب أعني الحجّ يكون إطلاق النذر لا نفسه باطلاً ،
نظير ما إذا نذر شخص أن يقرأ القرآن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فانّه في حدّ
نفسه راجح ، لكنّه بما أنّه مستلزم لتفويت الواجب وهي صلاة الصبح فلا ينعقد ، وهذا
هو المراد من قولنا تقديم الواجب المطلق (الحج) على الواجب المشروط (زيارة الحسين)
المشروطة بعدم كونها مفوّتة للواجب.
الثامن : أنّ
الخبرين المتعارضين على قسمين :
أ : ما يكون
التنافي بينهما تنافياً غير مستقر على نحو يزول بالتأمّل والإمعان ، ويعلم من
خلاله أنّ المتكلم لم يخبر بأمرين متنافيين في الظرف الذي ألقى فيه الكلام.
ب : ما يكون
التنافي بينهما تنافياً مستقراً لا يزول بالتأمّل والإمعان ويُعدّ الخبران أمرين
متنافيين حتى في نفس الظرف الذي أُلقي فيه الكلام. ولأجل ذلك لا يمكن التصديق بهما
، بل لا بدّ من ردّهما أو الأخذ بأحدهما دون الآخر.
أمّا القسم الأوّل
فقد بذل الأُصوليون جهودهم في إعطاء ضوابط لتشخيص التعارض غير المستقر عن المستقر
، أو لتشخيص الجمع المقبول عن غيره وحصروها في العنوانات التالية:
١. أن يكون أحد
الدليلين وارداً على الدليل الآخر.
٢. أن يكون أحد
الدليلين حاكماً على الدليل الآخر.
٣. أن يكون أحد
الدليلين مخصصاً للدليل الآخر.
٤. أن يكون أحد
الدليلين ، أظهر من الدليل الآخر.
وللأظهرية ملاكات
خاصة مبينة في محلها.
وبما انّا
استوفينا الكلام في القسم الأوّل بعنواناتها الأربعة من الموجز ، نركز في القسم
الثاني أي التعارض المستقر الذي يُعالج التعارض بغير هذا النحو.
في التعارض المستقر
قد عرفت أنّ
التعارض على قسمين : بدويّ غير مستقر ، وتعارض مستقر ، ويقع الكلام في القسم
الثاني ، في ضمن مباحث :
المبحث الأوّل :
ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية؟
إذا قلنا بأنّ
الخبر حجّة لكونه طريقاً إلى كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أيُّ
مصلحة سوى مصلحة درك الواقع
، فما هو مقتضى
حكم العقل؟
أقول : إنّ هنا
صورتين :
الأُولى : فيما
إذا لم يكن لدليل حجّية خبر الواحد إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما إذا كان دليل
الحجّية أمراً لبيّاً كالسيرة العقلائية أو الإجماع ، فعندئذ يكون دليل الحجية
قاصراً عن الشمول للمتعارضين ، لأنّ الدليل اللبيّ لا يتصوّر فيه الإطلاق ، فيؤخذ
بالقدر المتيقن وهو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض ، فتكون النتيجة
عدم الدليل على حجّية الخبرين المتعارضين وهو مساو لسقوطهما.
الثانية : إذا كان
هناك إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية
النبأ والنفر ، وقلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة
__________________
المتعارضين ، فيقع
الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية.
إنّ مقتضى القاعدة
الأوّلية هو التساقط ، وإلّا فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة :
١. الأخذ بكليهما
، وهو يستلزم الجمع بين المتناقضين.
٢. الأخذ بأحدهما
المعين ، وهو ترجيح بلا مرجح.
٣. الأخذ بأحدهما
المخير ، وهو لا دليل عليه.
لأنّ الأدلة دلت
على حجّية كلّ واحد معيّناً لا مخيّراً ، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين
التساقط.
المبحث الثاني :
في حجّية المتعارضين في نفي الثالث
قد عرفت أنّ الأصل
في المتعارضين على القول بحجّيتهما من باب الطريقية هو التساقط ، لكن يقع الكلام
في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمّ المدلول الالتزامي أيضاً.
فعلى الوجه الأوّل
يُحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني ، فلو كان هناك خبران متعارضين أحدهما
يدل على أنّ نصاب الغوص دينار ، والآخر على أنّ نصابه عشرون ديناراً ، فعلى
الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث ، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون
نصابه عشرة دنانير دون القول الآخر.
فيه وجهان :
والظاهر عدم صحة
الاحتجاج ، لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي فرع الأخذ بالمدلول المطابقي ، فإذا
امتنع الأخذ بالمدلول المطابقي فكيف يمكن الأخذ بمدلوله الالتزامي؟! وبعبارة أُخرى
: الأخذ بالمدلول الالتزامي لأجل كونه من لوازم المعنى
المطابقي ، فإذا
لم يثبت الملزوم تعبّداً فكيف يثبت اللازم؟! إلّا أن يدل دليل على التحفظ باللازم
تعبداً.
المبحث الثالث :
مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين
قد عرفت أنّ مقتضى
القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط ، إنّما الكلام في ورود دليل خارجي على
خلاف القاعدة وعدمه ، فعلى الثاني (عدم ورود الدليل) يؤخذ بمفاد القاعدة الأُولى
ويحكم بتساقط الخبرين في جميع الحالات ، وعلى الأوّل يجب أن يؤخذ بمدلول القاعدة
الثانوية.
ثمّ إنّ الروايات
الواردة في الخبرين المتعارضين تشعّبت إلى طوائف ثلاث :
الطائفة الأُولى :
ما يدلّ على التخيير.
الطائفة الثانية :
ما يدلّ على التوقّف.
الطائفة الثالثة :
ما يدلّ على الأخذ بذي الترجيح.
ونذكر من القسم
الأوّل ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا (عليهالسلام) في حديث:
قلت : يجيئنا
الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال : «فإذا لم تعلم
فموسّع عليك بأيّهما أخذت».
ثمّ إنّ الشيخ
الأنصاري ادّعى تواتر الأخبار الدالّة على التخيير في المتعارضين ، وكان سيدنا
الأُستاذ قدَّس سرّه ينكر التواتر ، ولكن يعترف بالتضافر ، وقد عثرنا على ما يدل
على التخيير بما يناهز ثماني روايات.
__________________
لكنّ المشكلة تكمن
في إعراض الأصحاب عن روايات التخيير ، فانّه لا يوجد مورد أفتى المشهور في الكتب
الفقهية بالتخيير بين الخبرين.
وأمّا الطائفة
الثانية ، أعني : ما يدلّ على التوقف ، فيناهز عدد رواياتها ما يناهز الخمس ، نذكر
منها ما يلي :
١. روى سماعة عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر
كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟
قال : «يرجئه حتى
يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه».
٢. روى سماعة عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) ، قلت : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ،
والآخر ينهانا عنه؟ قال : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله» ، قلت : لا
بدّ أن نعمل بواحد منهما.
قال : «خذ بما فيه
خلاف العامة».
ويحتمل وحدة
الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام وإن اشتمل الحديث الثاني على زيادة ، ولاحظ ما
يدل على التوقف أيضاً.
وعلى فرض حجّية
أخبار التخيير فقد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين (التخيير
والتوقف) بوجوه ، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف على صورة
التمكّن من لقاء الإمام ، ويشهد على ذلك ما في حديث سماعة : «يرجئه حتى يلقى من
يخبره».
وفي حديث آخر عنه
: «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله».
__________________
إذا كانت الطائفة
الأُولى دالة على التخيير والثانية على التوقف (وقد عرفت الجمع بينهما) فهناك
طائفة ثالثة تدل على الأخذ بذي الترجيح ، ويقع الكلام في هذه الطائفة في جهات :
١. التعرف على
أقسام المرجحات.
٢. كون الأخذ بذات
المزية لازم أو لا.
٣. لزوم الاقتصار
على المنصوص منها أو جواز التعدّي عنه إلى غيره؟
وإليك دراسة هذه
الجهات واحدة تلو الأُخرى.
الجهة الأُولى
في أقسام المرجحات
إنّ المرجحات
الواردة في الروايات على أقسام ، وبما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في
هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة والمرجحات
الواردة فيها خمسة
:
١. الترجيح بصفات
الراوي.
٢. الترجيح
بالشهرة العملية.
٣. الترجيح
بالكتاب والسنّة.
٤. الترجيح
بمخالفة العامة.
٥. الترجيح
بالأحدثية.
هذه هي المرجحات
الواردة في المقام ، وإليك البحث فيها على وجه التفصيل :
١. الترجيح بصفات
الراوي
قد ورد الترجيح
بصفات الراوي في روايات ثلاث :
أ. رواية عمر بن
حنظلة.
ب. رواية داود بن
الحصين.
ج. رواية موسى بن
أكيل.
ولكن الجميع يرجع
إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على الآخر بهذه
__________________
الصفات ولا تمت
بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الرواة.
أمّا رواية عمر بن
حنظلة ، فحاصل الرواية انّه فرض حكمين من أصحابنا حكما في موضوع بحكمين وكلاهما
صدرا عن الحديث المروي عن الأئمّة (عليهمالسلام) ، فقال الإمام (عليهالسلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث
وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».
يلاحظ عليه : بما عرفت من أنّ مورد
الرواية هو ترجيح حكم أحد القاضيين بصفاتهما ، وأين هو من ترجيح إحدى الروايتين
على الأخرى بصفات الراوي؟
أمّا رواية داود
بن الحصين ، فهي ما رواه الصدوق بسند كالصحيح عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع
بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي
الحكم؟ قال : «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت
إلى الآخر».
وهذه الرواية
كسابقتها ناظرة إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر.
وأمّا رواية موسى
بن أكيل ، ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح ، عن ذُبيان بن حُكيم ، عن موسى بن أكيل
، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ،
فيتفقان على رجلين ، يكونان بينهما ، فحكما ، فاختلفا فيما حكما ، قال : «وكيف
يختلفان»؟
قال : حكم كلّ
واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله
، فيمضي حكمه».
__________________
وهذا الحديث أيضاً
أجنبي عن المقام ، لأنّ الضمائر ترجع إلى الحكمين اللّذين اختارهما كلّ واحد من
المتحاكمين ، وبما انّ القضاء أمر لا يخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون صفات
القاضي من المزايا ، بخلاف الإفتاء.
نعم اختلاف
الحكمين في القضاء ، وإن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما (عليهماالسلام) لكنّ الاختلاف الحديث سبب الاختلاف في القضاء وليس الإمام
بصدد ترجيح رواية على رواية أُخرى ، بل بترجيح قضاء ، على قضاء آخر.
إلى هنا تمّ
الكلام في المرجح الأوّل ، وثبت انّه لا يمتُّ إلى ترجيح الرواية بصلة.
٢. الترجيح بالشهرة
العملية
قد ورد الترجيح
بالشهرة العملية في رواية واحدة وهي مقبولة عمر بن حنظلة ، فقد فرض عمر بن حنظلة
مساواة الحكمين في الصفات ، قائلاً :
قلت : فانّهما
عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر.
قال : فقال : «ينظر
إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به
من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه
، وإنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر
مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات
نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».
فإن قلت : إنّ صدر
الحديث راجع إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، فليكن الترجيح بالشهرة العملية
راجعاً إليهما لا إلى الخبرين.
قلت : إنّ صدر
الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين
__________________
على حكم الآخر ،
لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائل إلى
ملاحظة مصدر فتاواهما ، وانّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب ، على
من قضى بمصدر شاذ.
ومن هنا توجه كلام
الإمام إلى بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً
، فكلامه في المجمع عليه وما بعده كموافقة الكتاب ومخالفته راجع إلى ترجيح أحد
الخبرين على الآخر في مقام الإفتاء.
هذا كلّه لا غبار
عليه لكن هنا إشكالاً آخر ، وهو انّ المراد من المرجّح ، هو تقديم إحدى الحجتين
على الأُخرى ، لا تقديم الحجّة على اللاحجّة ، والتقديم بالشهرة العملية من قبيل
القسم الثاني ، ويعلم ذلك من تحليل مقاطع الرواية في ضمن أُمور :
١. المراد من «المجمع
عليه» ليس ما اتّفق الكل على روايته ، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في
مقابل ما ليس بمشهور ، والدليل على ذلك قول الإمام (عليهالسلام) : «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك».
٢. المراد من
اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء بمضمونها ، إذ هو الذي يمكن أن
يكون مصداقاً لما لا ريب فيه ، وإلّا فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفق مضمونها
ففيه كلّ الريب والشكّ.
٣. المراد من قوله
: «لا ريب فيه» هو نفي الريب على وجه الإطلاق ، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد
العموم ، فالرواية المشهورة نقلاً وعملاً ليس فيها أي ريب وشك.
وأمّا ما يقابلها
، أعني : الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ، وذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدى
القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً ، وهذا هو
المهم فيما نرتئيه.
٤. انّ هذا البيان
يثبت انّ الخبر المشهور المفتى به داخل في «بيّن الرشد» في تثليث الإمام (عليهالسلام) والخبر الشاذ داخل في «البيّن الغي» من تثليثه ، وذلك لما
تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته والمخالف لا ريب في بطلانه.
ويظهر من ذلك ما
ذكرنا من الإشكال ، وهو انّ الشهرة العملية إذا كانت سبباً لطرد الريب عن نفسها
وإلصاقه بمخالفها تكون أمارة على تمييز الحجّة عن اللاحجة ، وبيّن الرشد عن بيّن
الغي ، ومثل ذلك لا يعدّ مرجحاً أصلاً.
إلى هنا تبيّن انّ
ذينك الأمرين ، الترجيح بصفات الراوي ، والترجيح بالشهرة العملية لا يمتّ إلى
ترجيح أحد الخبرين على الآخر بصلة ، امّا لكونه راجعاً إلى ترجيح أحد الحكمين ، أو
إلى تمييز الحجّة عن غيرها ، لا تقديم إحداهما على الأُخرى كما هو المقصود ، وإليك
دراسة الباقي :
٣. الترجيح بالكتاب
والسنّة
قد ورد الترجيح
بالكتاب والسنّة في غير واحد من الروايات ، ونحن نذكر في هذا المقام بعضاً منها :
١. مقبولة عمر بن
حنظلة
فقد جاء في المقطع
الثالث منها :
قلت : فإن كان
الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.
قال : «ينظر فما
وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة (وخالف العامة) فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم
الكتاب والسنّة ووافق العامة».
٢. ما رواه الميثمي عن الرضا (عليهالسلام)
أنّه قال : «فما
ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله
موجوداً حلالاً أو حراماً ،
__________________
فاتّبعوا ما وافق
الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنّة رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام ، ومأموراً
به عن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وأمره».
٣. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله
، عن الصادق (عليهالسلام)
أنّه قال : «إذا
ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ،
وما خالف كتاب الله فردّوه».
٤. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا (عليهالسلام)
قال : قلت له :
تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟
فقال : «ما جاءك
عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبهها
فليس منّا».
٥. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن العبد
الصالح (عليهالسلام)
أنّه قال : «إذا
جاءك الحديثان المختلفان ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ
، وإن لم يشبههما فهو باطل».
والظاهر انّ موافقة الكتاب ليست من وجوه
الترجيح ، بل المخالف ليس بحجّة ، وذلك لأجل أمرين :
إنّ الأخبار
الواردة حول الخبر المخالف للكتاب على صنفين :
أ. ما يصف الخبر
المخالف وإن لم يكن له معارض بكونه زخرفاً.
وانّه ممّا لم «أقله»
أو «لا يصدق علينا إلّا ما وافق كتاب الله».
ب. ما يصف الخبر
المخالف للكتاب مع كونه معارضاً لما هو موافق له
__________________
فيصف المخالف
بقوله «فردّوه»
، أو «فليس منّا»
، أو «فهو باطل»
، فانّ هذه التعابير
تناسب كون الخبر المخالف ممّا لم يصدر عن الأئمّة بتاتاً فيكون من قبيل تقديم
الحجّة على اللاحجّة فيخرج عن محط البحث.
٤. الترجيح بمخالفة
العامة
تضافرت الروايات
على أنّه إذا اختلفت الأخبار ، يُقدّم ما خالف العامة ، وما ذلك إلّا لأنّ الظروف
القاسية دفعت بالأئمة إلى الإفتاء وفق مذاهبهم صيانة لدمائهم وصيانة نفوس شيعتهم ،
ولذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية.
وإليك نقل ما ورد
في هذا المجال :
١. ما رواه عمر بن
حنظلة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في مقبولته : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه
من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي
الخبرين يؤخذ؟
قال : «ما خالف
العامة ففيه الرَّشاد».
فقلت : جعلت فداك
فإن وافقهما الخبران جميعاً؟
قال : «ينظر إلى
ما هم إليه أميل ، حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر».
وقد مرّ آنفاً انّ
صدر الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على حكم الآخر ، لكن بعد ما
فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات ارجع الإمام السائل إلى ملاحظة مصدر
فتواهما ، وانّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب على من قضى بمصدر
شاذ ...
ومن هنا انحدر
كلام الإمام من بيان مرجّحات الحكمين إلى مرجّحات
__________________
الرواية في مقام
الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً ، وكلّ ما جاء بعد الكلام في المجمع عليه
يرجع إلى مرجحات الرواية.
وقد ورد الترجيح
بمخالفة العامة في غير واحد من الروايات.
وظهر انحصار
المرجّح فيها.
٥. الترجيح بالأحدثية
هناك روايات عديدة
دلّت على لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين ، وإليك بعض ما يدلّ عليه.
١. روى المعلّى بن
خنيس ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟
فقال : «خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله».
ولكن هذا القسم لا
صلة له بباب المرجحات ، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي
والآخر على خلافه بل يمكن أن يكون على العكس ، وإنّما وجب الأخذ بالأحدث ، لأجل
انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته ، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلى بيان
الحكم الواقعي وعدمه سواء ، وعلى هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر
الغيبة ، لأنّه بالنسبة إلى الخبرين متساو.
نعم الأخذ بالأحدث
إذا كان في كلام النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأوّل ، وأمّا في كلام
الإمامين أو الإمام الواحد فلا يتصور فيه ذلك.
تمّ الكلام في
الجهة الأُولى ، وإليك الكلام في الجهة الثانية.
__________________
الجهة الثانية
لزوم الأخذ بالمرجِّح
المشهور هو لزوم
الأخذ بذات المزية من الخبرين ، وقد استدلّ على القول المشهور بوجوه نشير إلى
بعضها بوجه موجز :
أ. دعوى الإجماع
على الأخذ بأقوى الدليلين.
ب. لو لم يجب
ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.
إلى غيرها من
الوجوه التي ربما ترتقي إلى خمسة ، والأولى أن يستدلّ على وجوب الأخذ بالوجه
التالي :
إنّ لسان الروايات
هو لزوم الأخذ لا استحبابه ، أمّا على القول بأنّ الجميع يرجع إلى تميز الحجة عن
اللاحجة فواضح ، وأمّا على القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين
بالحجّية ، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل والاستحباب.
أ : انّ المجمع
عليه لا ريب فيه.
ب : ما وافق حكمه
حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ويترك ما خالف.
ج : ما خالف
العامّة ففيه الرشاد.
د : ما وافق القوم
فاجتنبه.
إلى غير ذلك من
العنوانات الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجح وترك الآخر.
الجهة الثالثة
التعدّي من المنصوص إلى غيره
لو افترضنا انّ ما
ذكر من المزايا مرجّحات للرواية ، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدّى عنه
إلى غيره كموافقة الإجماع المنقول أو موافقة الأصل وغيرهما؟
إنّ التعدّي يحتاج
إلى حجة قطعية يقيد بها إطلاقات التخيير ، وقد عرفت تضافر الروايات على التخيير.
فالترجيح بغير
المنصوص نوع تقييد لها ولم يدلّ دليل على لزوم التعدي ، ويؤيد المختار أمران :
الأوّل : لو كان
الملاك هو العمل بكلّ مزية في أحد الطرفين ، لكان الأنسب في الروايات الإشارة إلى
الضابطة الكلية من دون حاجة إلى تفصيل المرجحات.
ولو قيل : إنّ
الغاية من التفصيل هو إرشاد المخاطب إلى تلك المرجّحات ، ولو لا بيان الإمام لما
كان المخاطب على علم بها.
قلت : نعم ولكن لا
منافاة بين تفصيل المرجّحات وإعطاء الضابطة ليقف المخاطب على وظيفته العملية في
باب التعارض.
الثاني : انّ
الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض تساوي الخبرين أمر بالتوقف وإرجاء حكم
الواقعة حتى يلقى الإمام ، ولو كان العمل بكلّ ذي مزية واجباً لما وصلت النوبة إلى
التوقّف إلّا نادراً.
__________________
الجهة الرابعة
في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه
قد عرفت أنّ الجمع
المقبول بين الروايتين مقدّم على الأخبار العلاجية من التخيير والترجيح.
كما عرفت أنّه إذا
كانت النسبة بين الخبرين هو التباين ، يجب العمل بالرواية ذات المزية وإلّا
فالتخيير.
بقي الكلام فيما
إذا كان التعارض بين الخبرين على نحو العموم من وجه ، كما إذا دلّ الدليل على
نجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه ، ودلّ دليل آخر على طهارة عذرة كلّ طائر ، فيفترق
الدليلان في موردين : أحدهما : عذرة الوحوش ، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل
الأوّل ؛ وثانيهما : عذرة الطائر الذي يؤكل لحمه ، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل
الثاني ؛ وإنّما يتعارضان في الطائر غير المأكول لحمه كما فيما إذا كانت له مخالب
، فهل المرجع هو التساقط والرجوع إلى دليل آخر من اجتهادي كالعموم والإطلاق ، وأصل
عملي إذا لم يكن دليل اجتهادي ، أو المرجع هو الأخبار العلاجية من الترجيح أوّلاً
والتخيير ثانياً؟
والظاهر هو القول
الأوّل ، لأنّ المتبادر من الأخبار العلاجية هو دوران الأمر بين الأخذ بالشيء
بتمامه وترك الآخر كذلك ، أو بالعكس كما هو الظاهر من قوله :
«أحدهما يأمر
والآخر ينهى» والأمر في العامين من وجه ليس كذلك ، إذ لا يدور الأمر بين الأخذ
بواحد منهما وترك الآخر أو بالعكس ، بل يؤخذ بكلّ في
موردي الافتراق ،
وإنّما الاختلاف في مورد الاجتماع ، فالعُقاب بما انّه حيوان غير مأكول يحكم على
فضلته بالنجاسة ، وبما انّه طائر يحكم عليها بالطهارة.
ومنه يعلم حكم
أخبار العرض على الكتاب والسنّة وفتاوى العامة ، فإنّ الظاهر هو الأخذ بتمام ما
وافق كتاب الله وترك تمام ما خالفه ، ومثله ما وافق العامة أو خالفها ، فإنّ
المتبادر هو أخذ تمام ما خالف العامة وترك كلّ ما وافقهم ، والأمر في العموم من وجه
ليس كذلك ، لأنّه يؤخذ بكلا الدليلين ولا يترك الآخر بتاتاً.
سؤال وإجابة
ما الفرق بين «صل»
و «لا تغصب» ، وقولنا : «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفساق»؟
حيث يعد الأوّل من
باب التزاحم بخلاف الآخر حيث يعد من باب التعارض ، ولم نجد أحداً يعالج المثال
الأوّل من باب التعارض ، كما لم نجد من يعالج المثال الثاني من باب التزاحم مع أنّ
المثالين من باب واحد.
والجواب : انّه
إذا أحرز الملاك والمناط في متعلّق كلّ واحد من الإيجاب والتحريم مطلقاً حتى في
مورد التصادق والاجتماع ، فهو من باب التزاحم ؛ وأمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من
الحكمين في مورد التصادق ، سواء أحرز مناط أحد الحكمين بلا تعيين ، كما إذا كان
أحد الدليلين قطعياً أو لم يحرز المناط في كلّ من المتعلّقين كالخبرين الواحدين
فهما من باب التعارض. وقد مرّ الايعاز إليه في الجز الأوّل عند البحث في اجتماع
الأمر والنهي.
تمّ الكلام في المقصد الثامن
ويليه البحث في الاجتهاد والتقليد
خاتمة
في الاجتهاد والتقليد
وفيها فصلان :
الفصل الأوّل : في
الاجتهاد وأحكامه ، وفيه مسائل :
الأُولى :
الاجتهاد لغة واصطلاحاً.
الثانية : جواز
عمل المجتهد برأيه.
الثالثة : حرمة
رجوع المجتهد إلى غيره.
الرابعة : جواز
رجوع العامي إلى المجتهد.
الخامسة : نفوذ
حكم المجتهد وقضائه.
السادسة : في
الاجتهاد التجزئي.
السابعة : مقدمات
الاجتهاد.
الثامنة : في
التخطئة والتصويب.
التاسعة : في
تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.
الفصل الثاني : في
التقليد وأحكامه ، وفيه مسائل :
الأُولى : التقليد
لغة واصطلاحاً.
الثانية : في جواز
التقليد.
الثالثة : في وجوب
تقليد الأعلم.
الرابعة : في
تقليد الميت ابتداء.
الخامسة : في
البناء على تقليد الميت.
السادسة : في
العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر.
ملاحظة مهمّة
إنّ البحث في
الاجتهاد والتقليد وإن لم يكن من المسائل الأُصولية ، ولكنّه مشحون بمسائل هامة لا
غنى للفقيه عنها ، فلأجل ذلك ذيّلنا المقصد الثامن بمباحث الاجتهاد والتقليد هذا
من جانب.
ومن جانب آخر يمكن
أن ينتهي العام الدراسي دون أن تسنح الفرصة للأُستاذ للتطرق إلى هذا المبحث. فعند
ذاك فبإمكان الأُستاذ حثّ التلاميذ على مطالعته استيفاءً للغاية المتوخاة من وراء
هذا البحث.
الفصل الأوّل
في الاجتهاد وأحكامه
ويقع الكلام في
هذا الفصل في عدّة مسائل :
المسألة الأُولى :
الاجتهاد لغة واصطلاحاً
الاجتهاد لغة
مأخوذ من الجهد بضم الجيم بمعنى الطاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقة ؛ فهو إمّا
بمعنى بذل الطاقة والوسع ، أو تحمّل الجهد والمشقّة. يقال : اجتهد في حمل الرحى
ولا يقال : اجتهد في حمل الخردلة ، لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.
وأمّا اصطلاحاً ،
فقد عرّفه بهاء الدين العاملي بأنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم
الشرعي الفرعي من أدلّته فعلاً أو قوّة قريبة منه.
قوله : «فعلاً أو
قوة» قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعليّتها ، وأمّا الاستنباط فينقسم إلى ما «بالفعل»
كمن تهيّأت له أسبابه ولم يبق إلّا المراجعة ؛ وإلى ما «بالقوة» كمن لم تتهيّأ له
أسبابه كفقد الكتب.
وكان عليه إضافة
قيد آخر وهو استنباط الوظيفة الفعلية ، كأن يقول : ملكة يقتدر بها على استنباط
الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية ، وذلك كما في مجاري الأُصول ، فإنّ
المستنبَط فيها هو الوظيفة في حال الشكّ لا الحكم الواقعي.
ثمّ إنّ الاجتهاد
وقع موضوعاً لأحكام عديدة سنشير إلى بعضها :
__________________
المسألة الثانية :
جواز عمل المجتهد برأيه
إنّ عمل المجتهد
برأيه من القضايا التي قياساتها معها ، لأنّه إمّا عالم بالحكم الواقعي وجداناً ،
كما في صورة العلم القطعي ؛ أو عالم به تعبّداً ، كما في مورد الطرق والأُصول
الشرعية ؛ وإمّا عالم بالوظيفة العملية ، كما في موارد الأُصول العقلية ، وللعالم
، العمل بعلمه.
المسألة الثالثة :
حرمة رجوع المجتهد إلى الغير
إذا تمكّن المجتهد
من الاستنباط فقط ، أو خاض فيه واستحصل الأحكام الشرعية بالطرق المألوفة ، فهل
يجوز له ترك الاستنباط أو ترك رأيه والركون إلى رأي غيره أو لا؟ المشهور العدم ولم
ينقل الجواز عن أحد.
وذلك لانصراف ما
دلّ على جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد ، واختصاصه بمن لا يتمكّن من تحصيل
العلم بها. أضف إليه انّه ربّما يخطِّئ الغيرَ باجتهاده ، إذا اجتهد فكيف يرجع
إليه ويأخذ برأيه؟! خصوصاً إذا خاض وتبيّن خطأ الغير.
المسألة الرابعة :
جواز رجوع العامي إلى المجتهد وتقليده
إنّ رجوع العامي
إلى المجتهد أمر ثابت بالسيرة ، لأنّه من فروع رجوع الجاهل إلى العالم ، والعامي
إلى المتخصّص ، وسيوافيك شرحه في فصل التقليد.
المسألة الخامسة :
نفوذ حكم المجتهد وقضائه
لمّا كان القضاء
بين الناس ملازماً للتصرّف في أموالهم وأنفسهم ، احتاج التلبّس به إلى ولاية
حقيقية ، يمارس في ظلّها ذلك العمل ، وليست هي إلّا لله
سبحانه ، قال
سبحانه :(إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) .
وبما انّ من لوازم
القضاء كون المتصدّي له ، مجانساً للمتحاكمين ، نصب سبحانه أنبياءه وأولياءه قضاة
للناس ، يحكمون فيهم بما أنزل الله سبحانه ولا يحيدون عنه قيدَ شعرة ، قال سبحانه
: (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) .
وقال سبحانه في
حقّ النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
وقال سبحانه في
حقّ ولاة الأمر : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) .
وقد عرّف النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أُولي الأَمر الذين هم أوصياؤه بأسمائهم وخصوصياتهم
واحداً تلو الآخر.
فهؤلاء هم القضاة
المنصوبون من الله سبحانه بأسمائهم وخصوصياتهم ، وأمّا بعد ارتحال النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وعدم التمكّن من الوصيّ المنصوب سواء أكان في عصر الحضور
أو عصر الغيبة ، عيّنت الشريعة رجالاً لتصدّي القضاء عرّفتهم بصفاتهم وسماتهم لا
بأسمائهم ، وهم كما في مقبولة عمر بن حنظلة عند ما قال السائل : فكيف يصنعان؟
قال (عليهالسلام) : «ينظران إلى من كان منكم ممّن روى حديثنا ، ونظر في
حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ،
فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّه استخفَّ بحكم الله وعلينا ردَّ ، والرادّ
علينا رادّ
__________________
على الله ، وهو
على حدّ الشرك بالله».
والإمعان في
القيود الواردة في الرواية تُثبت بأنّ ولاية القضاء لا ينالها إلّا الموصوف
بالصفات التالية :
١. أن يكون شيعياً
إمامياً بقرينة قوله : «من كان منكم».
٢. أن يحكم بحكمهم
، فلو حكم بحكم غيرهم لا ينفذ حكمه لقوله : «فإذا حكم بحكمنا ...».
٣. أن يكون راوياً
لحديثهم ، لقوله : «روى حديثنا ...».
٤. أن يكون صاحب
نظر في الحلال والحرام لقوله : «ونظر في حلالنا وحرامنا ...».
٥. أن يكون خبيراً
في الوقوف على أحكامهم (عليهمالسلام) لقوله : «وعرف أحكامنا».
ومن الواضح انّ
هذه التعابير لا تنطبق إلّا على المجتهد في عصرنا هذا.
وهناك روايات أُخر
تدعم ولاية الفقيه للقضاء تركنا ذكرها للاختصار ، وأمّا تصدّي غير المجتهد سواء
كان مقلّداً أو مجتهداً متجزّئاً ففيه تفصيل يطلب من كتاب القضاء.
المسألة السادسة :
في الاجتهاد التجزّئي
الاجتهاد التجزّئي
عبارة عن تمكّن الإنسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض ، مثلاً انّ أبواب الفقه
مختلفة مدركاً ، والمدارك مختلفة سهولة وصعوبة ، فربّ شخص ضالع في النقليات دون
العقليات وكذلك العكس ، وهذا يمكِّنُ له الاستنباط في بعضها دون بعض ، على أنّ
حصول الاجتهاد المطلق ليس أمراً دفعياً ،
__________________
بل يتوقف على
التدرّج شيئاً فشيئاً ، فالمجتهد في بادئ ذي بدء لم يكن مجتهداً مطلقاً بل كان
متجزئاً ثمّ صار مجتهداً مطلقاً ، وأمّا أحكامه فنقول :
يجوز له العمل بما
استنبط ، وإلّا فأمامه طريقان :
أ. العمل
بالاحتياط.
ب. الرجوع إلى
الغير.
والأوّل غير واجب
باتّفاق الكلّ ، وجواز الثاني موقوف على تحقّق موضوعه ، وهو كونه غير عالم أو جاهل
، فلا يعم العالم ، والمفروض أنّه عالم بالحكم ولو في موارد خاصّة.
وأمّا رجوع الغير
إليه وتقليده له ، فإن كان هناك من هو أفقه منه وقلنا بوجوب الرجوع إلى الأفقه فلا
يجوز الرجوع إلى المتجزّئ في المقام ، وإلّا فلا مانع من الرجوع إليه ويكون
المتجزّئ والمطلق في جواز الرجوع سيّان ، غير أنّ الكلام في جواز الرجوع إلى غير
الأفقه كما سيوافيك.
المسألة السابعة :
مقدّمات الاجتهاد
الاجتهاد يتوقّف
على مقدّمات نشير إليها بوجه موجز ، فنقول :
الأوّل : الوقوف
على القواعد العربية على وجه يقف على ضوئها على مراد المتكلّم ، ولا يشترط أن يكون
مجتهداً في العلوم العربية ، بل يكفيه الرجوع إلى أهل الخبرة.
الثاني : الوقوف
على معاني المفردات حتى يُميّز المعنى الحقيقي عن المجازي ، ويعرف الكنايات
والاستعارات الواردة في الكتاب والسنّة ، ولا يشترط أن يكون لغويّاً محقّقاً في
اللغة ، ويكفيه في تفسير المفردات الرجوعُ إلى أُمّهات الكتب اللغويّة ومعاجم
اللغة ، ك «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي ، و «لسان العرب»
لابن منظور
الإفريقي ، و «النهاية في غريب الحديث» للجزري ، و «مجمع البحرين» للطريحي.
ولأجل الوقوف على
أُصول المعاني والفروع التي اشتق منها لا بدّ من الرجوع إلى كتاب «مقاييس اللغة» لأحمد
بن فارس و «أساس البلاغة» للزمخشري.
الثالث : معرفة
الكتاب والسنّة اللّذين هما مصدران أساسيان للاستنباط ويعدّان حجر الأساس له ؛ فلا
بدّ للفقيه أن يستنير بنورهما في كلّ مسألة ، فيرجع إلى الكتاب العزيز أوّلاً
ويدرس الآيات التي لها مساس بالموضوع ، ثمّ يعرّج إلى السنّة.
وبذلك يظهر أنّ
علمي التفسير والحديث من مقدمات الاجتهاد ولا غنى لمجتهد عن معرفتهما.
والمعروف أنّ عدد
الآيات التي تستنبط منها أكثر الأحكام لا تتجاوز عن ثلاثمائة آية ، ولكن ثمّة آيات
لا تعد من آيات الأحكام ولكن يمكن استنباط أحكام فرعية منها ، وعلى ذلك لو ضمت تلك
إلى آيات الأحكام لجاوزت العدد المذكور ، وقد استنبط بعض الفقهاء من سورة «المسد» أحكاماً
شرعية مختلفة ، وكذلك من قوله تعالى حاكياً كلام شعيب : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ
أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ
وَكِيلٌ)
فقد استنبط بعض
الفقهاء من الآيتين أحكاماً في النكاح والإجارة.
الرابع : الوقوف
على المسائل الأُصولية التي تدور عليها رحى الاستنباط ، فلو
__________________
لم يثبت عنده
مثلاً حجية الخبر الواحد لم يكن بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية وتشخيص الوظائف
العملية.
الخامس : علم
الرجال ومعرفة الثقات من الضعاف ، فلو قلنا بأنّ الحجّة هي وثاقة الراوي ، فيتوقف
إحرازها على ذلك العلم ؛ ولو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق الصدور ، فالعلم
بوثاقة الراوي يحصِّل الوثوق بصدوره. ويلحق به علم الدراية حتى يقف على أقسام
الرواية من الصحيح والحسن والموثق والضعيف حسب صفات الراوي.
السادس : معرفة
المذاهب الفقهية الرائجة في عصر الأئمّة (عليهمالسلام) التي كان عمل القضاة عليها وكان الناس يرجعون إليهم ،
فإنّ في معرفة تلك المذاهب تمييزَ ما صدر عنهم عن تقية عمّا صدر عن غيرها.
وأمّا المذاهب
الأربعة المعروفة ، فإنّها صارت رائجة بعد أعصارهم (عليهمالسلام) ؛ وأفضل كتاب في هذا الموضوع كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي.
وسبب التأكيد على
معرفة المذاهب المعاصرة لأئمّة أهل البيت ، هو أنّ لأخبارهم وكلماتهم أسباب صدور
وليست إلّا فتاوى فقهاء عصرهم ، فهذه الفتاوى كالقرينة المتصلة لفهم أخبارهم ، فلا
يمكن غضّ النظر عنها.
السابع : معرفة
الشهرة الفتوائية ، وقد وقفت على أهمّيتها عند البحث عن حجّية الشهرة ، وقلنا إنّ
الشهرة على أقسام ثلاثة :
١. روائية. ٢. عملية.
٣. فتوائية. والأخيرة كاشفة عن وجود النص ، أو كون الحكم مشهوراً عند أصحاب
الأئمّة ، والثانية أي عمل الأصحاب بالرواية والإعراض عن مخالفها يوجب خروج
المعارض عن الحجية.
وفي الفقه الشيعي
مسائل كثيرة ليس عليها دليل سوى الشهرة. حسب ما كان يراه سيّد مشايخنا العلّامة
البروجردي (قدسسره).
الثامن : ممارسة
الفروع الفقهية لتنمية قدرته على الاستنباط ، وقد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة
بذكر الفروع الفقهية ، وكانت عملية التدريب دائرة فيها على قدم وساق.
التاسع : معرفة
القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج الأحكام الجزئية من الأحكام الكلية ،
فلا محيص للطالب عن الرجوع إلى : كتاب «القواعد والفوائد» للشهيد الأوّل ، ثمّ «نضد
القواعد» للفاضل المقداد السيوري ، و «تمهيد القواعد» للشهيد الثاني وغيرها.
العاشر : معرفة
المسائل الرياضية والهندسية وعلم الهيئة التي تسهّل استنباط أحكام المواريث ،
وتعيين القبلة ، والمقادير الواردة في الكر والزكاة ، وغيرها.
فمن توفرت فيه تلك
المقدّمات ، يصبح مؤهلاً لاستنباط أحكام الموضوعات بعد الدقة والفحص والممارسة
والتمرين والاستئناس بالمسائل والأقوال.
المسألة الثامنة :
في التخطئة والتصويب
في التخطئة
والتصويب اصطلاحان للفقهاء :
الأوّل : انّ لله
سبحانه حكماً مشتركاً للعالم والجاهل ، فالمجتهد قد يصيبه وقد لا يصيبه ، فلو
اختلفت آراء المجتهدين فالمصيب واحد وغيره مخطئ. وبذلك وُصفوا بالمخطِّئة ، لأنّهم
لا يصفون كلّ اجتهاد بالصواب وتقابلها «المصوبة» التي تنكر حكم الله المشترك بين
العالم والجاهل ، وتخص أحكامه سبحانه بالعالمين به. وهذا هو التصويب المستلزم
للدور المعروف ، والتصويب بهذا المعنى خارج عن موضوع بحثنا ولعلّه صرف افتراض لا
قائل به والمهم هو التصويب بالمعنى الآتي.
الثاني : تفويض
التشريع إلى المجتهدين في خصوص ما لا نصّ فيه من
الشارع ، فيكون
كلّ رأي صواباً لعدم وجود واقع محدَّد حتى يوصف المطابق بالصواب ، وغيره بالخطإ ،
وبذلك وُصِفُوا بالمصوّبة ، لأنّهم يصفون كلّ اجتهاد بالصواب. وعلى هذا القول يكون
الاجتهاد من منابع التشريع ومصادره ، بخلافه على القول الآخر فإنّ الاجتهاد عليه
لا يعدو عن بذل جهد لإصابة الواقع المحدَّد ، فما ربما يُرى في بعض كلمات أهل
السنّة من عدِّ الاجتهاد من منابع التشريع مبني على ذاك القول.
غير أنّ اللازم
معرفة المواضع التي تضاربت فيها الآراء فصارت طائفة إلى التخطئة وأُخرى إلى
التصويب
، ويظهر ذلك
بمعرفة المواضع التي اتّفقوا فيها على التخطئة ، ونذكر منها ما يلي :
١. لا تصويب في
الأُصول والمعارف
اتّفق المسلمون
على أنّ الحقّ في الأُصول والمعارف أمر واحد ، وما وافقه هو الحقّ والصواب ، وما
خالفه هو الخطأ ، ولم يقل أحد من المسلمين إلّا من شذّ بتصويب جميع الآراء.
قال المرتضى : إنّ
الأُصول المبنيّة على العلم نحو التوحيد والعدل والنبوة لا يجوز أن يكون الحقّ
فيها إلّا واحداً ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون جسماً أو غير جسم ، يُرى ولا
يُرى على وجهين مختلفين.
وقال الشيخ الطوسي
: اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عمّا هو عليه فلا
__________________
خلاف بين أهل
العلم أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف ، وأنّ الحقّ واحد ، وأنّ من خالفه ضال فاسق
وربما كان كافراً ، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو حادث ، وإذا كان حادثاً هل
له صانع أو لا؟
٢. لا تصويب في
الموضوعات الخارجية
كما أنّ الحقّ في
الأُصول والمعارف واحد ، فكذلك في الموضوعات ؛ كالقبلة ؛ فلو اختلفت الأمارة في
تعيين القبلة ، فإحداهما مخطئة والأُخرى مصيبة ؛ وهكذا الحال في أرش الجنايات.
٣. لا تصويب في
الأحكام العقليّة البديهية
إنّ كلّ موضوع ثبت
حكمه ببداهة العقل فالحقّ فيه واحد لا غير ، وهذا كالظلم والعبث والكذب فإنّها
قبيحة عند الكل ، كما أنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن على كلّ حال. نعم
حكي بأنّ كلّ مجتهد فيها مصيب ، لكنّه قول شاذ.
٤. لا تصويب في
المسائل المنصوصة
إذا كان في
المسألة نص قطعي السند والدلالة ، فلا موضوع للاجتهاد فيها ، وبالتالي لا موضوع
للتصويب والتخطئة.
قال الشافعي :
أجمع الناس على أنّ من استبانت له سنّة عن رسول الله ، لم يكن له أن يدعها لقول
أحد من الناس.
وتواتر عن الشافعي
أنّه قال : وإن صحّ الحديث ، فاضربوا بقولي الحائطَ.
__________________
وقال أيضاً : إذا
رَوَيتُ عن رسول الله حديثاً ولم آخذ به ، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب.
وقال : لا قول
لأحد مع سنّة رسول الله.
فتعيّن من خلال
ذلك انّ المواضع الأربعة السابقة لا مجال فيها للقول بالتصويب ، والرأي الصائب
فيها واحد وغيره خاطئ.
إذا عرفت خروج
المواضع السالفة الذكر عن محط النزاع ، وانّ جمهور الفقهاء إلّا من شذّ قائلون
فيها بالتخطئة ، يُعلم منه أنّ النزاع يختص بالمسائل التي لم يرد حكمها في الكتاب
والسنّة ، فمن قال بأنّ لله سبحانه في نفس تلك المسائل التي لم يرد فيها نص ، حكم
مشترك بين الناس ، فالآراء عند قياسها به يوصف الموافق منها بالصواب والمخالف
بالخطإ ، ومن أنكر وجود ذلك الحكمَ المشترك ، في نفس المورد يرى الجميع صواباً ،
وكانَ الحكم الشرعي مفوّضاً إلى تشخيص المجتهد ورؤيته ، فيصح الجميع على حد سواء.
وممن صرّح بتخصيص
محل النزاع بما لا نص فيه هو الغزالي ، قال : قد ذهب قوم إلى أنّ كلّ مجتهد في
الظنّيات مصيب ، وقال قوم : المصيب واحد ، واختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في
الواقعة التي لا نصّ فيها ، حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد ، فالذي ذهب إليه
محقّقو المصوّبة انّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن ، بل
الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ، ما غلب على ظنّه وهو المختار ،
وإليه ذهب القاضي.
إذا عرفت ذلك
فنقول :
تضافرت الروايات
عن أئمّة أهل البيت انّ لله سبحانه حكماً مشتركاً في
__________________
كلّ واقعة وانّه
سبحانه لم يترك الحوادث سدى ، بل شرّع لها أحكاماً خاصة ، ولم يُفوِّض أمر التشريع
بيد أحد ، ونكتفي بالقليل من تلك الروايات :
١. قال أبو جعفر
الباقر (عليهالسلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه
الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ، وجعل لكلّ شيء حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ،
وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».
٢. روى حمّاد ، عن
أبي عبد الله (عليهالسلام) قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة».
٣. روى سماعة ، عن
أبي الحسن موسى (عليهالسلام) ، قال : قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه أو
تقولون فيه؟ قال : «بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه».
٤. وقال النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في خطبة حجّة الوداع : «يا أيّها الناس والله ما من شيء
يقرّبكم من الجنة ويبعّدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من
النار ويبعّدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه».
٥. روى
الترمذي عن أبي
هريرة ، عن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قال : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم
فأخطأ فله أجر واحد».
٦. سئل أبو بكر عن
حكم الكلالة ، فقال : إنّي سأقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا
شريك له ، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء.
__________________
تكشف هذه الروايات
والكلم بوضوح عن وجود الحكم المشترك ، وانّ لله سبحانه حكماً للجميع من غير فرق
بين ما إذا ورد فيه النص وما لا نص فيه ، غاية الأمر يكون المجتهد فيما لا نصّ فيه
معذوراً إذا أخطأ.
وقد ذهب أصحابنا
تبعاً للروايات انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه المجتهد ،
فيصيبه تارة ويخطئه أُخرى.
قال الشيخ الطوسي
: ذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم.
وهو مذهب أبي علي
وأبي هاشم وأبي الحسن الأشعري وأكثر المتكلّمين ، وذهب الأصم
وبشر المريسي
إلى أنّ الحقّ
واحد وانّ ما عداه خطأ.
ثمّ قال : والذي
أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين والمتأخّرين ، وهو الذي
اختاره سيدنا المرتضى ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (المفيد) ، انّ الحقّ
واحد.
تنبيه
ثمّ إنّ السبب
الذي دعا أهل السنّة إلى القول بالتصويب هو قلّة الروايات النبوية في الأحكام
الشرعية ، فأصبح قسم هائل من الموضوعات عندهم ممّا لا نصّ فيه ، فظنّوا انّ عدم
ورود النص من الشرع قرينة على تفويض حكمها إلى المجتهدين ، فما استخرجه المجتهد
على ضوء المعايير والمقاييس يُصبح حكماً شرعياً لله تبارك وتعالى ، سواء أوجِد
المخالف أم لا ، فالجميع على صواب.
__________________
المسألة التاسعة :
تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد
قد يُطرح الزمان
والمكان بما انّهما ظرفان للحوادث والطوارئ الحادثة فيهما ، وقد يطرحان ويراد
منهما المظروف ، أساليب الحياة والظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة ، والثاني هو
المراد من المقام.
ثمّ إنّه يجب أن
يفسر تأثير الزمان والمكان بالمعنى المذكور في الاجتهاد ، على وجه لا يعارض
الأُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي ، ونشير إلى أصلين منها.
الأوّل : انّ من
مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين والتشريع ، فلا مشرّع ولا مقنّن سواه ، قال
تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
والمراد من الحكم
هو الحكم التشريعي بقرينة قوله :(أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
وقال سبحانه :(قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ
مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
الثاني : انّ
الرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم) خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة
الشرائع ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
روى زرارة ، قال :
سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحلال والحرام ، قال : «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم
القيامة لا يكون غيرُه ولا يجيء غيرُه ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا
يكون غيره ولا يجيء غيره» وقال : قال علي (عليهالسلام) : «ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة».
__________________
وعلى ضوء هذين
الأصلين يجب أن يفسر تأثير الزمان والمكان في استنباط الأحكام.
وممن أشار إلى هذه
المسألة من علمائنا ، المحقّق الأردبيلي ، حيث قال : ولا يمكن القول بكلية شيء ،
بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو ظاهر
، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف ،
امتياز أهل العلم والفقهاء ، شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم.
وهناك كلمة مأثورة
عن الإمام السيد الخميني (قدسسره) حيث قال : إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج بين
فقهائنا وبالاجتهاد على النهج الجواهري ، وهذا أمر لا بدّ منه ، ولا يعني ذلك انّ
الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر ، بل انّ لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في
الاجتهاد ، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة
على المجتمع وسياسته واقتصاده.
إنّ القول بأنّ
عنصري الزمان والمكان لا تمسّان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة ، مما اتّفقت
عليه أيضاً كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين المذكورين يؤثران في
الأحكام المستنبطة عن طريق القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها ، فتغيير
المصالح ألجأهم إلى الحكم بتغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة. يقول الأُستاذ
مصطفى أحمد الزرقاء :
وقد اتّفقت كلمة
فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس ، هي
الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها
__________________
الاجتهاد بناء على
القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الأحكام
بتغيّر الزمان».
أمّا الأحكام
الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة ، الناهية
كحرمة المحرّمات المطلقة ، وكوجوب التراضي في العقود ، والتزام الإنسان بعقده ،
وضمان الضرر الذي يُلحقه بغيره ، وسريان إقراره على نفسه دون غيره ، ووجوب منع
الأذى وقمع الإجرام ، وسد الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة ، ومسئولية
كل مكلف عن عمله وتقصيره ، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره ، إلى غير ذلك من الأحكام
والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ، فهذه لا
تتبدّل بتبدل الأزمان ، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان
والأجيال ، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة
المحدثة.
وعلى هذا فيجب أن
يفسر تأثير العاملين بشكل لا يمسُّ الأصلين المتقدمين.
واعلم أنّ تأثير
العنصرين على أقسام ، وإليك البيان :
الأوّل : تأثير
الزمان والمكان في صدق الموضوعات
إنّ تبدّل الموضوع
يراد منه تارة انقلابه إلى موضوع آخر كصيرورة الخمر خلاً والنجس تراباً ، وهذا غير
مراد في المقام قطعاً.
وأُخرى صدق
الموضوع على مورد في زمان ومكان وعدم صدقه على ذلك المورد في زمان ومكان آخر ، وما
هذا إلّا لمدخلية الظروف والملابسات فيها.
__________________
ويظهر ذلك
بالتأمّل في الموضوعات التالية :
١. الاستطاعة. ٢.
الفقر. ٣. الغنى. ٤. بذل النفقة للزوجة. ٥. وإمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه :(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) .
فإن هذه العنوانات
موضوعات لأحكام شرعية ، واضحة ولكن محقّقاتها تختلف حسب اختلاف الزمان والمكان ،
فمثلاً :
١. التمكّن من
الزاد والراحلة التي هي عبارة أُخرى عن الاستطاعة ، له محقّقات مختلفة عبْر الزمان
، فربما تصدق على مورد في ظرف ولا تصدق عليه في ظرف آخر ، كما هو الحال في إمساك
الزوجة بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية ، وتبدّل أساليب الحياة ، ولا
بعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأمس.
٢. في صدق المثلي
والقيميّ ، وقد جعل الفقهاء ضابطة للمثلي والقيمي وفي ظلّها ، عدّوا الحبوب من
قبيل المثليات ، والأواني والألبسة من قبيل القيميات ، وذلك لكثرة وجود المماثل في
الأُولى وندرته في الثانية ، وكان ذلك الحكم سائداً حتى تطورت الصناعة تطوراً
ملحوظاً فأصبحت تُنتج كميات هائلة من الأواني والمنسوجات لا تختلف واحدة عن
الأُخرى قيد شعرة ، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي ، مثليات.
٣. في صدق المكيل
والموزون حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل ، والموزون بالوزن ، ولا يجوز
بيعهما بالعدّ ، ولكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات والمجتمعات ، ويلحق لكلّ ،
حكمه.
ومن أحكامهما انّه
لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلاً إلّا مثلاً بمثل ، إذا
__________________
كانا من المكيل
والموزون ، دون المعدود والمزروع ، وهذا يختلف حسب اختلاف الزمان والمكان فربما
جنس يباع بالكيل والوزن في بلد وبالعدّ في بلد آخر ، وهكذا يلحق لكلّ ، حكمه.
هذا كلّه حول
تأثير عنصري الزمان والمكان في صدق الموضوع.
الثاني : تأثيرهما
في ملاكات الأحكام
لا شكّ انّ
الأحكام الشرعية تابعة للملاكات والمصالح والمفاسد ، فربما يكون مناط الحكم
مجهولاً ومبهماً وأُخرى يكون معلوماً بتصريح من الشارع ، والقسم الأوّل خارج عن
محلّ البحث ، وأمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه وملاكه.
فلو كان المناط
باقياً فالحكم ثابت ، وأمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف والملابسات يتغير الحكم
قطعاً ، مثلاً :
١. لا خلاف في
حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه ، ولم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف
العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة ، وأصبح التبرع بالدم إلى المرضى
كإهداء الحياة لهم ، وبذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه وشراؤه.
٢. انّ قطع أعضاء
الميت أمر محرّم في الإسلام ، قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور»
ومن الواضح انّ
ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام والتشفّي ، ولم يكن يومذاك أيُّ فائدة
تترتّب على قطع أعضاء الميت
__________________
سوى تلبية للرغبة
النفسية الانتقام ولكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت ، حيث صارت
عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت.
٣. دلّت الروايات
على أنّ دية النفس تؤدّى بالأنعام الثلاثة ، والحلّة اليمانية ، والدرهم والدينار
، ومقتضى الجمود على النص عدم التجاوز عن النقدين إلى الأوراق النقدية ، غير أنّ
الوقوف على دور النقود في النظام الاقتصادي ، وانتشار أنواع كثيرة منها في دنيا
اليوم ، والنظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات ، يشرف الفقيه على أنّ ذكر
النقدين بعنوان أنّه أحد النقود الرائجة آنذاك ، ولذلك يجوز لأولياء الدم ،
المطالبة بالأوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم ، أو اعدالهما من
الأنعام والحُلّة ، وقد وقف الفقهاء على ملاك الحكم عبر تقدّم عنصر الزمان.
الثالث : تأثيرهما
في كيفية تنفيذ الحكم
١. تضافرت النصوص
على حلّية الفيء والأنفال للشيعة في عصر الغيبة ، ومن الأنفال المعادن والآجام
وأراضي الموات ، وقد كان الانتفاع بها في الأزمنة الماضية محدوداً ، ما كان يُثير
مشكلة ، وأمّا اليوم ومع تطور الأساليب الصناعية وانتشارها بين الناس أصبح
الانتفاع بها غير محدود ، فلو لم يتخذ أُسلوباً خاصاً في تنفيذ الحكم لأدّى إلى
انقراضها أوّلاً ، وخلق طبقة اجتماعية مرفّهة ، وأُخرى بائسة فقيرة ثانياً.
فالظروف الزمانية
والمكانية تفرض قيوداً على إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم ، أي
حلّية الأنفال للشيعة أوّلاً ، وحفظ النظام وبسط العدل والقسط بين الناس ثانياً ،
بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم
الإسلامي الذي
يُشرف على جميع الشئون لينتفع الجميع على حد سواء.
٢. اتّفق الفقهاء
على أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابه
، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف والرمح والسهم
والفرس وغير ذلك ، ومن المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك
، أمّا اليوم وفي ظل التقدّم العلمي الهائل ، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول
الدبابات والمدرّعات والحافلات والطائرات المقاتلة والبوارج الحربية ، ومن الواضح
عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر ، فعلى الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً
في كيفية تطبيق الحكم على صعيد العمل ليجمع فيه بين العمل وأصل الحكم والابتعاد عن
المضاعفات.
٣. انّ الناظر في
فتاوى الفقهاء السابقين فيما يرجع إلى الحج من الطواف حول البيت والسعي بين الصفا
والمروة ورمي الجمار والذبح في منى يواجه ضغطاً شديداً في تطبيق عمل الحجّ على هذه
الفتاوى ، ولكن تزايد وفود حجاج بيت الله عبر الزمان ويوماً بعد يوم أعطى للفقهاء
رؤى وسيعة في تنفيذ أحكام الحجّ ، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب
الضرورة والحرج ، بل من باب التوسع في تنفيذ الحكم وانّ المطاف عند الزحام أوسع.
الرابع : تأثيرهما
في مَنْح نظرة جديدة نحو المسائل
إنّ تغيير الأوضاع
والأحوال الزمنية يؤثر في كيفية نظر المجتهد ويمنح له نظرة جديدة نحو المسائل
المطروحة في الفقه قديماً وحديثاً. ولنذكر بعض الأمثلة :
١. كان القدماء
ينظرون إلى البيع بمنظار ضيّق ويفسرونه بنقل الأعيان
وانتقالها ، ولا
يجيزون على ضوئها بيع المنافع والحقوق ، غير انّ تطور الحياة وظهور حقوق جديدة في
المجتمع الإنساني ورواج بيعها وشرائها ، حدا بالفقهاء إلى إعادة النظر في حقيقة
البيع ، فجوّزوا بيع الامتيازات والحقوق عامة.
٢. أفتى القدماء
بأنّ الإنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط ، وكان
الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك ، ولم يكن بمقدور
الإنسان الانتفاع إلّا بمقدار ما يعدّ تبعاً لأرضه ، ولكن مع تقدم الوسائل
المستخدمة للاستخراج ، استطاع أن يتسلط على أوسع مما يُعد تبعاً لأرضه ، فعلى ضوئه
لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط
، بل يحدد بما يعد تبعاً لها ، وأمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من
المباحات العامّة التي يتوقف تملّكها على إجازة الإمام. وليست هذه النظرة الجديدة
مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.
الخامس : تأثيرهما
في تعيين الأساليب
إنّ هناك أحكاماً
شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كلّ زمان ما هو
أصلح في التنظيم نتاجاً وأنجع في التقويم علاجاً ، وإليك بعض الأمثلة على ذلك :
١. الدفاع عن بيضة
الإسلام قانون ثابت لا يتغير ولكن الأساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلى
مقتضيات الزمان التي تتغيّر بتغيّره ، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في
الإسلام أصل ثابت إلّا أمر واحد ، وهو قوله سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) .
وأمّا غيرها
فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.
__________________
٢. نشر العلم
والثقافة أصل ثابت في الإسلام ، وأمّا تحقيق ذلك وتعيين كيفيته فهو موكول إلى
الزمان ، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأصل الكلي حسب مقتضيات الزمان.
٣. التشبّه بالكفار
أمر مرغوب عنه حتى أنّ الرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أمر بخضب الشيب وقال : «غيِّروا الشيب ولا تشبّهوا
باليهود» ، والأصل الثابت هو صيانة المسلمين عن التشبّه بأهل الكتاب ، ولما اتسعت
دائرة الإسلام واعتنقته شعوب مختلفة وكثر فيهم الشيب تغير الأُسلوب ولما سُئل علي (عليهالسلام) عن ذلك ، قال : «إنّما قال (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ذلك والدين قُلّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه
فامرؤ وما اختار».
٤. انّ روح القضاء
الإسلامي هو حماية الحقوق وصيانتها ، وكان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو
أُسلوب القاضي الفرد ، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية ، وكان هذا النوع من القضاء
مؤمِّناً لهدف القضاء ، ولكن اليوم لما دبّ الفساد إلى المحاكم وقلَّ الورع ألزم
الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلى أُسلوب محكمة القضاة الجمع ، وتعدّد درجات
المحاكم حسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط ، وقد ذكرنا كيفية
ذلك في بحوثنا الفقهية.
ثمّ إنّ ما ذكرنا
يرجع إلى دور الزمان والمكان في عملية الاجتهاد والإفتاء ، وأمّا دورهما في
الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح والمفاسد وليست من قبيل الأحكام الواقعية
ولا الظاهرية فلها باب واسع ، وقد استوفينا الكلام في ذلك في رسالة مخصوصة.
__________________
فقد خرجنا
بالنتائج التالية :
١. انّ عنصري
الزمان والمكان لا تمسّ كرامة الكبريات ولا الأُصول الشرعية.
٢. تأثير عنصري
الزمان والمكان في صدق الموضوع.
٣. تأثير عنصري
الزمان والمكان في الوقوف على ملاكات الأحكام.
٤. تأثير عنصري
الزمان والمكان في كيفيّة إجراء الحكم.
٥. تأثيرهما في
منح النظرة الجديدة نحو الأحكام.
٦. تأثيرهما في
تعيين الأساليب.
المسألة العاشرة :
في التفسير الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح
قد ظهر ممّا ذكرنا
انّ القول بتأثير عنصري الزمان والمكان يجب أن يحدّد بما لا يمسُّ كرامة الأصلين
السابقين : تأبيد الأحكام الشرعية ، وحصر التقنين بالله سبحانه وتعالى ، غير انّه
ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ أي بمعنى تغيير الأحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية
تبريراً لمخالفة بعض الخلفاء للكتاب والسنّة قائلاً بأنّ للحاكم الأخذ بالمصالح
وتفسير الأحكام على ضوئها ، ولنقدّم نموذجاً :
دلّ الكتاب
والسنّة على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وانّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ،
يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا
يحتسب إلّا طلاقاً واحداً ؛ وقد جرى عليه رسول الله والخليفة الأوّل وكان (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لا يمضي من الطلاق الثلاث إلّا واحدة منها ، وكان الأمر
على هذا إلى سنتين من خلافة عمر ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في
أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.
__________________
يلاحظ عليه بأنّ
استخدام الرأي فيما فيه نص ، أمر خاطئ ، ولو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما لا نصّ
فيه من كتاب أو سنّة ، ولمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّرون عمله
بتغيّر الأحكام ، بالمصالح والمفاسد ، ومن المتحمّسين لهذا الموضوع هو ابن القيم
فقال : لمّا رأى عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع
إلّا بإمضائها على الناس ، ورأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع ، أمضى عمل
الناس وجعل الطلاق ثلاثاً ثلاثاً.
يلاحظ عليه : أنّ
إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان ، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة
بالمعايير الاجتماعية من الصلاح والفساد ، وأمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق
الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.
والعجب انّ ابن
القيم التفت إلى ذلك وقال : كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس
من إيقاع الثلاث ، ويحرّمه عليهم ، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلّا يقع
المحذور الذي يترتّب عليه ، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته على التصويب ، قال :
قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث.
__________________
الفصل الثاني
في التقليد وأحكامه
ويقع الكلام في
هذا الفصل في عدّة مسائل :
المسألة الأُولى :
التقليد لغة واصطلاحاً
التقليد لغة من
القلادة ، ومعناه جعلها في عنق الغير.
وأمّا اصطلاحاً ،
فقد عرّف بوجوه :
أ. التقليد : هو
الأخذ بفتوى الغير وتعلّمها للعمل بها.
ب. التقليد : هو
الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل.
ج. التقليد : هو
الاستناد إلى فتوى الغير في مقام العمل.
والتعريف الثالث
هو المناسب للفظ التقليد ، لأنّ المقلّد من يجعل القلادة في عنق الغير.
فالشيء الذي هو
يشبه القلادة الّتي يجعلها في عنق الغير هو عمله ، فكأنَّ العامي يجعله في عنق
المجتهد بمعنى جعله مسئولاً عن صحّة عمله وفساده وبراءة ذمّته واشتغالها ، وهذا لا
يتحقّق إلّا بنفس العمل لا بالأخذ ولا بالالتزام.
ويؤيده ما رواه
الكليني بسند صحيح عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : قال أبو جعفر (عليهالسلام) : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة
الرحمة
__________________
وملائكة العذاب ،
ولحقه وزر من عمل بفتياه».
فإن قلت : إذا كان
التقليد هو العمل استناداً إلى قول المجتهد ، يلزم أن يكون التقليد متأخراً عن
العمل ومحقّقاً به ، مع أنّه متقدم على العمل حيث لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد ؛
فيكون التقليد في رتبة سابقة.
قلت : هذا إنّما
يتم لو دلّ دليل على لزوم كون العمل ناشئاً عن تقليد كي يكون سابقاً على العمل
وليس كذلك إذ الواجب أن يكون العامي في عمله معتمداً على الحجة. وهو متحقّق حتى
ولو كان التقليد نفس العمل.
لكن لا فائدة مهمة
في تحقيق مفهوم التقليد ، لأنّه لم يقع موضوعاً لحكم شرعيّ في دليل صالح للاستناد
، فصحّة عمل العامي تابع لدلالة الدليل الشرعي ، لا لصدق التقليد وعدمه ، وتصوّر
انّه وقع موضوعاً في المسألتين التاليتين :
١. البقاء على
تقليد الميت.
٢. العدول من
تقليد حي إلى حيّ.
مدفوع بأنّ الحكم
بالجواز أو المنع ليس دائراً مدار صدق التقليد وعدمه ، بل دائر مدار وجود الدليل
على البقاء أو العدول وعدمه ، ولعلّ كلمة «التقليد» عنوان مشير إلى واقع المسألة
لا انّه دخيل في الموضوع.
المسألة الثانية :
في جواز التقليد
البحث في جواز
التقليد يتصوّر على وجهين :
الأوّل : فيما
يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد وجواز الرجوع إلى الغير.
الثاني : ما يمكن
أن يعتمد عليه المجتهد في الإفتاء بجواز التقليد.
أمّا الأوّل ،
فللعامّي أن يستند في جواز الرجوع إلى العلماء إلى السيرة
__________________
العقلائية في جميع
الأمصار ، وهي لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وهذا أصل قام عليه صَرْح الحياة ، إذ
من المستحيل أن يستقل كل فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي ، فلا
محيص من تقسيم الحاجات الأوّلية والثانوية كي يتحمّل كلّ شخص أو طائفة ، ناحية من
نواحيها ، ولأجل ذلك نرى أنّ أصحاب التخصّصات في العلوم والفنون ، يرجعون في غير
اختصاصاتهم إلى أهل الخبرة.
والرجوع إلى علماء
الدين الذين حازوا على مكانة خاصة في قلوب الناس ممّا أطبق عليه كافة العقلاء.
وأمّا الثاني ،
فيكفي في الإفتاء على جواز التقليد أمران :
١. آية النفر ،
فانّ التفقّه آية أنّ المنذر ، فقيه فهم الدين عن نظر وبصيرة ، وعاد ينذر قومه
ببيان أحكامه سبحانه وغيرها.
٢. الروايات
الإرجاعية ، فإنّ أئمّة أهل البيت أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أصحابهم ، كأبان بن
تغلب ، ومحمد بن مسلم الثقفي ، وزرارة ، ويونس بن عبد الرحمن ، وزكريا بن آدم
القمي ، ومعاذ بن مسلم النحوي ، وأضرابهم ممّن كانوا على درجة كبيرة من العلم وفهم
الحكم من الكتاب والسنّة ، ونشير إلى بعض هذه الروايات :
١. سأل عبد العزيز
المهتدي ، الرضا (عليهالسلام) فقال له : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟
فقال (عليهالسلام) : «خذ عن يونس بن عبد الرحمن».
٢. قال علي بن
المسيّب الهمداني للرضا (عليهالسلام) : شقّتي بعيدة ولست أصِلُ إليك في كل وقت ، فممّن آخذ
معالم ديني؟ قال (عليهالسلام) : «من زكريا بن آدم القمي ، المأمون على الدين والدنيا».
__________________
وهؤلاء الذين أرجع
إليهم الإمام (عليهالسلام) كانوا في الطبقة الأُولى من الفقهاء ، ولم يكونوا من
الرواة الّذين لا شغل لهم إلّا نقل النصوص ، غاية الأمر كانوا يفتون بلفظ النص بعد
الإحاطة بجميع النصوص ، وتطبيق الأُصول على الفروع.
وأمّا الآيات
الذامّة للتقليد
فهي بصدد ذم رجوع
الجاهل إلى الجاهل بداعي العصبية لا بما أنّه من أصحاب البصيرة والتدبّر ، فأين
هذا من رجوع العاميّ إلى العالم بداعي أنّه من أهل الخبرة في مجال الدين؟!
المسألة الثالثة :
في وجوب تقليد الأعلم
إذا اختلف الأحياء
في العلم والفضيلة ، فمع علم المقلّد باختلافهم على وجه التفصيل أو الإجمال أو
شكّه ، فهل يجب الأخذ بفتوى الفاضل ، أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضاً؟ قولان ،
ولنذكر صور المسألة :
الصورة الأُولى :
إذا علم العامّي موافقة الأعلم لغيره في الفتوى بتفاصيلها.
الصورة الثانية :
إذا علم مخالفتهما في الفتوى تفصيلاً.
الصورة الثالثة :
إذا علم مخالفتهما إجمالاً.
الصورة الرابعة :
إذا شكّ في مخالفتهما فيها.
أمّا الصورة
الأُولى ، فهي خارجة عن محل النزاع.
وأمّا الصورة
الثانية : فحكمها تعيّن الرجوع إلى الأعلم لسيرة العقلاء ، ومن البعيد شمول كلمات
القائلين بالجواز لهذه الصورة.
وأمّا الصورة
الثالثة : فهي محل الكلام ، فذهب القاضي والحاجبي والعضدي إلى جواز تقليد المفضول
، مستدلّين بأنّ المفضولين باتفاق في زمان الصحابة
__________________
وغيرهم كانوا
يفتون ويستفتون ولم ينكره أحد ودلّ على جوازه.
واختار الغزالي
تعيّن تقليد الفاضل ، وقال : الأولى عندي أنّه يلزم اتّباع الأفضل ، فمن اعتقد أنّ
الشافعي أعلم ، والصواب على مذهبه أغلب ، فليس له أن يأخذ بمثل مخالفه بالتشهّي.
وأمّا أصحابنا فقد
استقصى الشيخ الأنصاري أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم ، وقال : إنّ
تقديم الفاضل هو خِيَرة أكابر العلماء ، كالسيد المرتضى ، والمحقّق ، والعلّامة ،
وعميد الدين ، والشهيد ، والمحقّق الثاني ، والشهيد الثاني ، وصاحب المعالم ،
وبهاء الدين العاملي ، والشيخ صالح المازندراني ، والسيد علي صاحب الرياض.
ولنذكر بعض كلمات
الأصحاب :
١. قال السيد
المرتضى : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض ، أو أورع ، أو أدين ، فقد اختلفوا
فمنهم من جعله مخيّراً ، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدَّم في العلم والدين ، وهو
أولى ، لأنّ الثقة هاهنا أقرب وأوكد ، والأُصول كلّها بذلك شاهدة.
٢. وقال المحقّق
الحلي : ويجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم والأورع ، فإن تساويا تخيّر في
استفتاء أيّهما شاء ، وإن ترجّح أحدهما من كلِّ وجه ، تعيّن العمل بالراجح ، وإن
ترجّح كلُّ واحد منهما على صاحبه بصفة فالأقوى الأخذ بقول الأعلم.
__________________
إذا عرفت هذا ،
فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين :
المقام الأوّل :
ما هي وظيفة العامي في تلك المسألة ، وهل يستقل عقله بالرجوع إلى الفاضل ، أو
بالتخيير بينه وبين المفضول؟
المقام الثاني :
ما هو مقتضى الأدلّة عند المجتهد ، فهل يستفاد منها لزوم الرجوع إلى الفاضل ، أو
يستفاد التخيير؟
أمّا الأوّل : فلا
شكّ أنّه لو تدبّر ، يستقل عقله بعدم جواز تقليد المفضول ، لأنّ قول الفاضل متيقن
الحجّية دون المفضول ، فهو مشكوك الحجّية ، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني ، ولا يحصل إلّا بالعمل على رأي الفاضل.
نعم لو قلّد في
تلك المسألة المجتهد الفاضل وأجاز تقليد المفضول ، جاز له تقليدُه ، لكنّه ليس
تقليداً له ابتداء ، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل ، وبتقليده تُصْبِحُ فتاوى
المفضول حجّة.
أمّا المقام
الثاني : أعني ما هو مقتضى الأدلّة عند المجتهد ، فقد ذهب المشهور إلى أنّ مقتضى
الأدلّة هو لزوم تقديم الفاضل ، وإليك أدلّتهم.
أدلّة القائلين
بلزوم تقديم الفاضل
استدلّ القائلون
بوجوه :
١. إنّ مقتضى
الأصل الأوّلي هو عدم حجّية رأي أحد على آخر ، خرج منه متابعة الفاضل بالاتفاق ،
وبقيت متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل بلا علم ، فالعمل بغيره يتوقف على دليل
خاص.
فإن قلت : مقتضى
الأصل الأوّلي هو التخيير لأنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين والتخيير ، وبما
أنّ في الأوّل مئونة زائدة ، تجري البراءة في تعيّن الفاضل.
قلت : إنّ دوران
الأمر بين التعيين والتخيير على قسمين :
أ. قسم يدور الأمر
بين التعيين والتخيير الشرعيين ، كما في خصال الكفارة المردّدة بين تعيّن صوم ستين
يوماً ، أو التخيير بينه وبين الإطعام والعتق ، فمقتضى الأصل الأوّلي فيه هو
الاشتغال والأخذ بمحتمل التعيّن ، لعدم العلم بالبراءة إذا امتثل بمحتمل التخيير ،
بلا فرق بين التكاليف والحجج كما في المقام ، بل الأمر في الحُجج أوضح ، لما عرفت
من أنّ الشك في الحجّة مساوق للقطع بعدمها.
ب. لو دار الأمر
بين التعيّن الشرعي لفرد والتخيير العقلي بين الأفراد فالمرجع هو البراءة ، كما
إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة ، أو مطلق الرقبة الملازم لتخيير
المكلف عقلاً بين أفرادها ، لأنّ الالتزام بعتق مطلق الرقبة معلوم تفصيلاً ،
والشكّ في وجوب خصوص قيدها (الإيمان) فتجري فيه البراءة.
٢. جرت سيرة
العقلاء على الرجوع إلى الفاضل عند العلم بالخلاف ، فلو اختلف الحاذق وغير الحاذق
من الأطبّاء في تعيين نوع المرض فيقدّم قول الحاذق على غير الحاذق من دون فرق بين
كون الخلاف بينهما معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال.
وأمّا رجوعهم إلى
المفضول في بعض الموارد فيرجع إلى عدم العلم بالخلاف في مورد المراجعة (الصورة
الرابعة) ، وإن علم إجمالاً بوجود الخلاف بين أصحاب الفن ، أو إلى تسامحهم في
الرجوع إلى المفضول في أغراضهم المادية دون مهام الأُمور ومعاليها.
٣. إنّ تجويز
الرجوع إلى المفضول رهن وجود إطلاق في أدلّة جواز التقليد ، يكون مقتضاه جواز
الرجوع إليه ، ولكن ليس بأيدينا من الأدلّة شيء وراء آية النفر ، والسؤال ، والروايات
الإرجاعية ، وكلّها منصرفة عن مورد اختلاف الفتويين.
وقد جاءت الإشارة
إلى تلك السيرة في بعض الروايات كتلميح على لزوم
الأخذ بقول الأعلم
نأتي ببعضها :
أ. روى عيسى بن
قاسم قال : سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : «عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له ، وانظروا
لأنفسكم ، فو الله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي ، فإذا وجد رجلاً هو أعلم
بغنمه من الذي هو فيها ، يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان
فيها».
ب. روى عمر بن
حنظلة ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في اختلاف الحكمين ، أنّه (عليهالسلام) قال : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في
الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».
ج. روى داود بن
الحصين ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) في مسألة اختلاف الحكمين : «انّه ينظر إلى أفقههما
وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر».
د. روى موسى بن
أكيل ، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) عند اختلاف الحكمين أنّه قال : «ينظر إلى أعدلهما
وأفقههما في دين الله فيمضى حكمه».
نعم مورد الأحاديث
الثلاثة الأخيرة هو الحكم والقضاء ولا يصحّ التعدّي عنه إلى مورد الإفتاء ، لأنّ
أمر القضاء لا يقبل التخيير ولا التفويض ولا الإهمال ، بخلاف الفتوى إذ لا مانع من
التخيير بين الرأيين. ومع ذلك لا يخلو من تلميح إلى الترجيح به في الإفتاء ، لأنّ
اختلاف الحكمين قد ينشأ من الاختلاف في الأُمور الخارجية ، وأُخرى من الاختلاف في
الفتوى ، ومورد بعض الروايات هو اختلاف الحكمين لأجل الاختلاف في الفتوى كما في
مقبولة عمر بن حنظلة حيث كان
__________________
اختلاف الحكمين في
الحبوة.
هذا كلّه إذا لم
تكن فتوى المفضول مطابقة للاحتياط ، وفتوى الفاضل مخالفة له ، كما إذا أفتى الأوّل
بنجاسة الغسالة والآخر بطهارتها ، أو أفتى الأوّل بوجوب التسبيحات الأربع ثلاثاً
وأفتى الفاضل بوجوبها مرّة ، إذ يجوز حينئذ ترك قول الفاضل والأخذ برأي المفضول ،
إلّا أنّ هذا في الحقيقة عمل بالاحتياط الوارد في فتوى المفضول دون الفاضل.
ما هو المراد من
الأعلم؟
ليس اختلاف الفاضل
والمفضول في زيادة العلم وقلّته وشدّته وضعفه ، بل المراد الأقوى ملكة ، أو الأكثر
خبرة من غيره والأعرف بدقائق الفقه ومباني الاستنباط ، وتتركّز قوة الملكة وشدّتها
على أمرين :
١. الذكاء
المتوقّد والفهم القويم.
٢. كثرة الممارسة
والتمرين بحيث يصير الفقه مخالطاً لفكره وذهنه وروحه ، فيكون أقوى استنباطاً ،
وأدق نظراً في استنباط الأحكام من مبادئها ، وأعرف بالكبريات وكيفية تطبيقها على
الصغريات بحدّة ذهنه وحسن سليقته.
لا يقال : إنّ
تشخيص الأدق نظراً والأقوى استنباطاً من الأُمور الصعبة والعسيرة.
فانّه يقال ليس
تشخيص الفاضل عن المفضول بأعسر من تشخيص أصل الاجتهاد ، وبما انّ لكل علم وفن
رجالاً حاذقين يعرفون مراتب الرجال ومواهبهم وصلاحياتهم ، فيميزون المجتهد عن غيره
والفاضل عن المفضول ، وقد قيل : من دق باباً ولجَّ ولج.
وأمّا الصورة
الرابعة ، أعني : إذا شكّ في مخالفتهما في الفتوى ، فهل يجوز
الرجوع إلى
المفضول أو لا؟ ويقع الكلام في مقامين :
الأوّل : مقتضى
الأصل الأوّلي.
الثاني : مقتضى الأدلّة
الاجتهادية.
أمّا الأوّل : فهو
نفس الأصل في الصورة المتقدّمة (أي العلم بالمخالفة) لأصالة عدم حجّية رأي أحد على
أحد إلّا ما قام الدليل القطعي على حجّيته وهو رأي الفاضل ، وأمّا غيره فهو مشكوك
الحجية والشك فيها مساوق للقطع بعدمها ، وبعبارة أُخرى : الشكّ في حجّية فتوى
المفضول يلازم القطع بعدم حجّيتها ما لم يدل دليل قاطع عليها.
وأمّا الثاني : أي
مقتضى الدليل الاجتهادي ، فالرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل يتوقّف على وجود
الإطلاق في الآيات والروايات الإرجاعية وشمولها لصورة الشك في المخالفة ، وهو موضع
تأمّل.
بل الدليل الوحيد
لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل هو السيرة العقلائية في أمثال المقام حيث
إنّهم يرجعون إلى أهل الحرف وأصحاب التخصصات مع اختلاف مراتبهم مع عدم العلم بوحدة
نظرهم في عامة المسائل.
المسألة الرابعة :
في تقليد الميت ابتداءً
المشهور بين الأصحاب
من عصر العلّامة الحلي (٧٢٦٦٤٨ ه) على منع تقليد الميت ابتداءً ولم نجد المسألة
معنونة قبل العلّامة الحلّي ، ولكن كلماتهم تعرب عن استمرار السيرة على المنع.
نعم شذّ
الأخباريون حيث لم يشترطوا الحياة في المفتي ووافقهم المحقّق القمي (١٢٣١١١٥٠ ه) من
المجتهدين.
ودراسة المسألة
تتم من خلال بيان أمرين :
الأوّل : أنّ
مقتضى الأصل الأوّلي هو عدم حجية قول الميت ، لما عرفت من أنّ الأصل عدم الحجية
إلّا ما قام الدليل على حجيته وليس هو إلّا تقليد الحي.
الثاني : أنّ
مقتضى الأدلّة الاجتهادية هو المنع ، للإجماعات المنقولة المتضافرة من عصر
العلّامة إلى يومنا هذا ، فإنّه وإن لم يكشف عن دليل شرعي وصل إليهم ولم يصل إلينا
، لكنه يكشف عن قيام السيرة على المنع ، وهو عدم جواز تقليد الميت. قال الشيخ
الأنصاري : إنّ هذا الاتفاق بدرجة من القبول حتى شاع عند العوام انّ قول الميت
كالميّت.
وربّما يستدل على
جواز الرجوع بإطلاقات الآيات والروايات ، كآية النفر والسؤال والروايات الإرجاعية
إلى رواة الأحاديث أو إلى أشخاص معيّنين ، ولكن الاستدلال غير تام ، فإنّ الأدلّة
ناظرة إلى عنوان المنذر والمحذر (في آية النفر) والمفتي (في حديث أبان) وظهورها في
الحي ممّا لا ينكر.
المسألة الخامسة :
في البقاء على تقليد الميت
البقاء على تقليد
الميت التي يعبّر عنها بالتقليد الاستمراري من المسائل المستحدثة في القرن الثالث
عشر ، عصر صاحب الجواهر (١٢٦٦١٢٠٠ ه) فقد اختلفت كلمتهم إلى ثلاثة أقوال :
أ. جواز البقاء
مطلقاً.
ب. عدم جوازه
كذلك.
ج. جوازه فيما عمل
بفتواه ، وعدمه إذا لم يعمل به ، أو ما أشبهه.
والتحقيق يتوقّف على بيان الحكم في
مرحلتين :
الأُولى : ما هو
مقتضى القاعدة الأوّلية؟
الثانية : ما هو
مقتضى القاعدة الثانوية؟
فقد مرّ بيانها في
المسائل السابقة ، وقلنا : إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في الظنون عدم الحجية إلّا
أن يقام دليل عليها.
وأمّا الثانية ، فالظاهر انّ مقتضاها هو جواز البقاء على تقليد الميت لوجهين
:
الأوّل : وجود
السيرة بين العقلاء حيث إنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله بين
كون العالم حيّاً عند العمل بقوله أو عدمه ، وما ذكرناه سابقاً من تضافر الإجماعات
المنقولة على منع تقليد الميت ، فالقدر المتيقن منها هو تقليد الميت ابتداءً لا
استمراراً.
الثاني : انّ
الروايات الإرجاعية تعم المقام ، فإنّ من أرجعه الإمام إلى أشخاص معيّنين ،
كالأسدي أو يونس بن عبد الرحمن ، أو زكريا بن آدم ، ما كان يشك في حجية قولهم بعد
وفاتهم. ولا يخطر ببال العامي ترك ما أخذه وتعلمه بمجرد موت من
أخذ عنه.
المسألة السادسة :
العدول من تقليد مجتهد إلى آخر
هل يجوز العدول من
الحي إلى الحي مطلقاً ، أو لا يجوز كذلك ، أو فيه التفصيل بين كون الثاني أعلم أو
عدمه؟ ومحل الكلام فيما إذا كان بين المجتهدين اختلاف في الفتوى وصور المسألة ثلاث
:
أ. أن يكون الأوّل
أعلم من الثاني ، فلا يجوز العدول ، لما تقدّم من عدم جواز تقديم المفضول مع وجود
الفاضل.
ب. أن يكون الأمر
على العكس ، فيجب العدول إلى الثاني ، للسيرة السائدة بين العقلاء من الرجوع إلى
الفاضل في مهام الأُمور.
ج. أن يكونا
متساويين مع العلم بالخلاف ، فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الفتويين عن الحجية
للتعارض والرجوع إلى الاحتياط ، ولكن لمّا كان الاحتياط أمراً متعسّراً يستقل
العقل بعد بطلانه أو عدم جوازه بالأخذ بأحدهما مطلقاً ابتداءً واستمراراً ، فيجوز
العدول من المساوي إلى المساوي الآخر بشرط أن لا ينتهي إلى اللعب بالتقليد.
والحمد لله ربّ العالمين
والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وآله الطيّبين الطاهرين
وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب ، ولاح بدر تمامه بيد مؤلفه جعفر السبحاني
ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي قدّس الله سرّه
يوم الأحد الثامن من شهر رجب المرجب
من شهور عام ١٤١٨ من الهجرة النبوية
على هاجرها وآله ألف صلاة وتحية.
فهرس محتويات الكتاب
مقدّمة المؤلّف................................................................. ٥
المقصد السادس
في الحجج والأمارات المعتبرة
تمهيد....................................................................... ١١
١. العقل أحد مصادر التشريع ، وفيه
أُمور...................................... ١٢
الأمر
الأوّل : في حجّية القطع.............................................. ١٣
الأمر
الثاني : تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي............................. ١٦
الأمر
الثالث : تقسيم القطع الموضوعي إلى طريقي ووصفي..................... ١٨
الأمر
الرابع : الموافقة الالتزامية............................................... ١٩
المقام
الثاني : كشف العقل عن حكم الشرع.................................. ٢٢
ثمرات
البحث............................................................. ٢٩
٢. الإجماع المحصّل........................................................... ٣١
موقف
أهل السنّة من الإجماع المحصّل........................................ ٣٢
مكانة
الإجماع المحصّل عند الشيعة........................................... ٣٦
٣. الكتاب................................................................. ٣٩
أدلّة
الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب................................ ٤٢
الظواهر
من القطعيات..................................................... ٤٤
٤. السنّة................................................................... ٤٨
ما هو الأصل في
العمل بالظنّ؟............................................. ٥٠
الأدلّة الظنّية
المعتبرة.......................................................... ٥٣
١. حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد......................................... ٥٣
الحجّة
هي الخبر الموثوق بصدوره............................................. ٥٦
٢.
الإجماع المنقول بخبر الواحد.............................................. ٥٧
٣.
الشهرة الفتوائية........................................................ ٥٩
٤.
حجّية قول اللغوي..................................................... ٦٢
الظنون غير
المعتبرة........................................................... ٦٥
١. القياس ، وفيه
أُمور....................................................... ٦٧
الأمر
الأوّل : حقيقة القياس................................................ ٦٧
الأمر
الثاني : أقسام القياس................................................. ٦٨
الأمر
الثالث : الفرق بين علّة الحكم وحكمته................................. ٦٩
الأمر
الرابع : القياس في منصوص العلّة....................................... ٦٩
الأمر
الخامس : قياس الأولوية............................................... ٧٠
الأمر
السادس : تنقيح المناط............................................... ٧٠
الأمر
السابع : السبب من وراء العمل بالقياس................................ ٧١
أدلّة القائلين
بالقياس......................................................... ٧٢
أ.
الدليل النقلي........................................................... ٧٢
ب.
الدليل العقلي......................................................... ٧٤
٢. الاستحسان............................................................. ٧٨
الاستحسان لغة واصطلاحاً................................................. ٧٨
٣. الاستصلاح أو
المصالح المرسلة.............................................. ٨١
وجوه استخدام
المصالح المرسلة في مجال الإفتاء.................................. ٨٥
٤. سد الذرائع.............................................................. ٨٦
٥. فتح الذرائع.............................................................. ٨٨
٦. قول الصحابي............................................................ ٨٩
٧. إجماع أهل
المدينة
المقصد السابع
في الأُصول العملية
الأُصول العملية.............................................................. ٩١
تحديد مجاري
الأُصول......................................................... ٩٥
الأصل الأوّل :
أصالة البراءة................................................... ٩٧
الاستدلال بالكتاب.......................................................... ٩٨
١. التعذيب فرع
البيان....................................................... ٩٨
٢. الإضلال فرع
البيان..................................................... ١٠٠
الاستدلال بالسنّة....................................................... ١٠٢
١. حديث الرفع........................................................ ١٠٢
٢. مرسلة الصدوق...................................................... ١٠٧
الاستدلال بحكم
العقل................................................... ١٠٨
الإشكال على كبرى
البرهان.............................................. ١٠٩
الإشكال على صغرى
البرهان............................................. ١١٠
أدلّة الأخباري
على وجوب الاحتياط.......................................... ١١٢
تنبيهات
١. في حكومة الأصل
الموضوعي على البراءة والحلية.......................... ١١٣
٢. في حسن
الاحتياط................................................... ١١٤
٣. قاعدة التسامح
في أدلّة السنن......................................... ١١٥
ثمرات القاعدة........................................................... ١١٦
الأصل الثاني :
أصالة التخيير................................................ ١١٨
دوران الأمر بين
المحذورين مع الجهل بنوع الحكم التوصلي...................... ١١٩
دوران الأمر بين
المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبّدي.................... ١٢٠
دوران الأمر بين
المحذورين مع الشكّ في المكلّف به............................ ١٢١
الأصل الثالث :
أصالة الاحتياط ، وفيه مقامان................................ ١٢٣
المقام الأوّل :
الشبهة التحريمية............................................. ١٢٤
حكم الشبهة
المحصورة.................................................... ١٢٤
ورود الترخيص في
لسان الشارع........................................... ١٢٦
حكم الشبهة غير
المحصورة................................................ ١٢٧
تنبيهات
١. تنجيز العلم
الإجمالي في التدريجيات..................................... ١٢٩
٢. تنجيز العلم
الإجمالي إذا تعلّق بحقيقتين.................................... ١٩
٣. شرط التنجيز
كونه محدثاً للتكليف على كلّ تقدير........................ ١٢٩
٤. حكم خروج أحد
الطرفين على محلّ الابتلاء قبل العلم..................... ١٣١
٥. الاضطرار إلى
بعض الأطراف.......................................... ١٣٢
٦. حكم ملاقي أحد
الأطراف............................................ ١٣٤
أدلّة الطرفين............................................................ ١٣٥
المقام الثاني :
الشبهة الوجوبية............................................. ١٣٧
تنبيهات
١. حكم النقيصة
السهوية............................................... ١٤١
٢. تعذّر الإتيان
ببعض الأجزاء............................................ ١٤٣
قاعدة الميسور........................................................... ١٤٤
٣. حكم الزيادة
السهوية................................................. ١٤٥
٤. دوران الأمر
بين شرطية شيء ومانعيته................................... ١٤٦
خاتمة في شرائط
العمل بالاحتياط والبراءة................................... ١٤٦
أصل الاحتياط
وشروط جريانه............................................ ١٤٧
صحّة عمل تارك
الفحص وعدمها......................................... ١٤٨
الأصل الرابع :
الاستصحاب................................................ ١٥٠
الفرق بين
الاستصحاب وقاعدة اليقين..................................... ١٥٣
تقسيمات الاستصحاب.................................................. ١٥٤
١. تقسيمه باعتبار
المستصحَب........................................... ١٥٤
٢. تقسيمه باعتبار
الشكّ................................................ ١٥٥
حجّية الاستصحاب
في الشك في المقتضي.................................. ١٥٩
تنبيهات
١. كفاية إحراز
المتيقّن بالأمارة............................................ ١٦١
٢. في استصحاب
الزمان والزمانيات....................................... ١٦٢
٣. في شرطية فعلية
الشك................................................ ١٦٣
٤. المراد من
الشكّ مطلق الاحتمال........................................ ١٦٣
٥. التمسّك بعموم
العام أو استصحاب حكم المخصص..................... ١٦٤
٦. كفاية وجود
الأثر بقاءً................................................ ١٦٧
٧. قياس الحادث
إلى أجزاء الزمان......................................... ١٦٧
٨. قياس الحادث
بحادث آخر............................................. ١٦٨
٩. تقدّم
الاستصحاب على سائر الأُصول.................................. ١٧٠
خاتمة المطاف :
الاستصحاب والقواعد الأربع.................................. ١٧١
١. قاعدة اليد.......................................................... ١٧٣
٢. أصالة الصحّة في
فعل الغير............................................ ١٧٥
٣. قاعدة التجاوز
والفراغ................................................. ١٧٧
٤. قاعدة القرعة........................................................ ١٧٩
أدلّة القرعة غير
مخصصة.................................................. ١٨١
المقصد الثامن
في تعارض الأدلّة الشرعية
في تعارض الأدلّة
الشرعية ، وفيه أُمور......................................... ١٨٣
تعريف التعارض
الدليلين.................................................... ١٨٥
في الفرق بين
التعارض والتزاحم............................................ ١٨٧
أسباب التزاحم
وأقسامه.................................................. ١٨٨
مرجّحات باب
التزاحم................................................... ١٨٨
١. تقديم ما لا
بدل له على ما له بدل..................................... ١٨٨
٢. تقديم المضيّق
على الموسّع.............................................. ١٨٩
٣. تقديم أحد
المتزاحمين على الآخر لأهميته................................. ١٨٩
٤. سبق امتثال أحد
الحكمين زماناً........................................ ١٨٩
٥. تقديم الواجب
المطلق على المشروط..................................... ١٩٠
في التعارض
المستقر ، وفيه مباحث........................................... ١٩٢
١. ما هو مقتضى
القاعدة الأوّلية؟........................................ ١٩٢
٢. في حجّية
المتعارضين في نفي الثالث..................................... ١٩٣
٣. مقتضى القاعدة
الثانوية في المتعارضين................................... ١٩٤
الجهة الأُولى :
في أقسام المرجّحات............................................ ١٩٧
١. الترجيح بصفات
الراوي............................................... ١٩٧
٢. الترجيح
بالشهرة العملية............................................... ١٩٩
٣. الترجيح
بالكتاب والسنّة.............................................. ٢٠١
٤. الترجيح
بمخالفة العامّة................................................ ٢٠٣
٥. الترجيح
بالأحدثية.................................................... ٢٠٤
الجهة الثانية :
لزوم الأخذ بالمرجِّح............................................ ٢٠٥
الجهة الثالثة :
التعدّي من المنصوص إلى غيره................................... ٢٠٦
الجهة الرابعة :
في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه................... ٢٠٧
خاتمة
في الاجتهاد والتقليد
وفيها فصلان :
الفصل الأوّل : في
الاجتهاد وأحكامه ، وفيه مسائل............................ ٢٠٩
١. الاجتهاد لغة
واصطلاحاً.............................................. ٢١١
٢. جواز عمل
المجتهد برأيه............................................... ٢١٢
٣. حرمة رجوع
المجتهد إلى الغير........................................... ٢١٢
٤. جواز رجوع
العامي إلى المجتهد وتقليده................................... ٢١٢
٥. نفوذ حكم
المجتهد وقضائه............................................. ٢١٢
٦. في الاجتهاد
التجزّئي.................................................. ٢١٤
٧. مقدّمات الاجتهاد.................................................... ٢١٥
٨. في التخطئة
والتصويب................................................ ٢١٨
أ. لا تصويب في
الأُصول والمعارف......................................... ٢١٩
ب. لا تصويب في
الموضوعات الخارجية.................................... ٢٢٠
ج. لا تصويب في
الأحكام العقلية البديهية................................. ٢٢٠
د. لا تصويب في
المسائل المنصوصة........................................ ٢٢٠
٩. تأثير الزمان
والمكان في الاجتهاد ، وفيها أقسام........................... ٢٢٤
أ. تأثير الزمان
والمكان في صدق الموضوعات................................. ٢٢٦
ب. تأثيرهما في
ملاكات الأحكام.......................................... ٢٢٨
ج. تأثيرهما في
كيفية تنفيذ الحكم.......................................... ٢٢٩
د. تأثيرهما في
منح نظرة جديدة نحو المسائل................................. ٢٣٠
ه. تأثيرهما في
تعيين الأساليب............................................ ٢٣١
١٠. في التفسير
الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح..................... ٢٣٣
الفصل الثاني : في
التقليد وأحكامه ، وفيه مسائل............................... ٢٣٥
١. التقليد لغةً
واصطلاحاً................................................ ٢٣٥
٢. في جواز
التقليد...................................................... ٢٣٦
٣. في وجوب تقليد
الأعلم............................................... ٢٣٨
أدلّة القائلين
بلزوم تقديم الفاضل........................................... ٢٤٠
ما هو المراد من
الأعلم؟.................................................. ٢٤٣
٤. في تقليد الميت
ابتداءً................................................. ٢٤٤
٥. في البقاء على
تقليد الميت............................................. ٢٤٥
٦. العدول من
تقليد مجتهد إلى آخر....................................... ٢٤٦
فهرس المحتويات............................................................ ٢٤٩
|