سورة الدّخان

٥٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انزلناه ف للة مباركة الآية ١ ـ ٩ :

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

اللغة :

الليلة المباركة هي ليلة القدر. ويفرق يبين. وحكيم محكم.

الإعراب :

والكتاب المبين الواو للقسم ، وجملة إنا أنزلناه جواب القسم ، وقال صاحب


مجمع البيان : لا يجوز ذلك لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه ... ويرده ان القسم وقع على وقت نزوله لا عليه بالذات. وأمرا نصب على الاختصاص أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا. ورحمة مفعول من أجله لمرسلين أو لأنزلناه. وربكم أي هو ربكم.

المعنى :

(حم) تقدم الكلام في مثله بأول سورة البقرة (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي مباركة لنزول القرآن فيها ، وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ـ ١٨٥ البقرة ج ١ ص ٢٨٤ إذا فعلنا ذلك تبين معنا ان هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر وانها احدى ليالي شهر رمضان المبارك ، وذكرنا في المجلد الأول ص ٢٨٥ ان بدء نزول القرآن كان في ليلة القدر ، لا ، انه أنزل كاملا فيها ، فراجع. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) بالعذاب الأليم من عصى وأفسد في الأرض ، وقد جاء هذا الانذار في القرآن الكريم الذي أنزل على قلب محمد (ص).

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا). يفرق يبين ، وضمير فيها يعود الى الليلة المباركة ، وحكيم محكم. واختلف المفسرون في المعنى المراد من الأمر الحكيم ، فذهب أكثرهم الى أن الله سبحانه يقسم الأرزاق والآجال في هذه الليلة بين عباده ، وأيضا يغفر الكثير من الخطايا عمن يشاء.

وقال آخرون : ان المراد بالأمر الحكيم هو ما جاء في القرآن من تبيان كل شيء من أمور الدين ... وقال سبحانه فيها ، ولم يقل فيه أي في القرآن لأنه انزل في ليلة القدر ، أما قوله تعالى في سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) فمعناه ان أول عهد النبي (ص) بشهود الملائكة كان في تلك الليلة ، ويأتي البيان ان شاء الله.

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ان الله سبحانه أرسل محمدا رحمة للعالمين كما في الآية ١٠٧ من سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع الأقوال ، ويعلم النوايا (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ). ان العاقل إذا نظر الى الكون بتجرد وإمعان يشهد شهادة إخلاص وإيقان بأن الله هو مالك الكون بما


فيه ، وانه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ). ولا أحد يهب الحياة إلا هو ، وإذا جاء الأجل فلا يبعده شيء ، وأيضا لا يقربه شيء (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فكيف تعبدون الأوثان وتطيعون الشيطان من دون الله؟ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ). شكوا في البعث ونبوة محمد (ص) مع قيام البينات والدلائل ، وتلهوا عن عاقبتهم وعما يراد بهم.

يوم تأتي السماء بدخان مبين الآية ١٠ ـ ٢١ :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))

اللغة :

فارتقب فانتظر. وليس المراد بالدخان هنا الدخان المعروف ، وانما المراد ان الإنسان كان لما به يرى بينه وبين السماء كالدخان ، ويأتي البيان. ويغشى يحيط. والذكرى التذكر والاتعاظ. وفتنا بلونا وامتحنا. وعذت لذت.


الإعراب :

يوم مفعول به لارتقب. وجملة يغشى الناس صفة ثانية لدخان. وهذا عذاب أليم مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول لقول محذوف. ربنا أي يا ربنا. ومعلم مجنون أي هو معلم مجنون. وقليلا أي كشفا قليلا أو زمنا قليلا. ويوم نبطش «يوم» متعلق بفعل محذوف دل عليه منتقمون ، والتقدير ننتقم يوم نبطش الخ. والمصدر من ان أدوا مجرور بباء محذوفة. وعباد الله مفعول أدوا. والمصدر من ان ترجمون مجرور بمن محذوفة ، وأصل ترجمون ترجموني.

المعنى :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ). الخطاب من الله سبحانه لنبيه الكريم محمد (ص) يعده فيه باستجابة دعائه على قريش ... وذلك ان قريشا بعد أن بالغوا في أذى الرسول (ص) دعا عليهم ، وقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فقطع الله عنهم المطر ، وأجدبت الأرض وأصاب قريشا الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ... وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، فقالوا : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ). أتوا النبي (ص) وقالوا له : سل الله سبحانه أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نؤمن برسالتك.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). معلم بفتح اللام مع التشديد ... وعدوا بالتذكر والاتعاظ ان كشف الله عنهم العذاب ... ولكنهم لا يتوبون ولا يوفون بالوعد ، ألم يشاهدوا دلائل التوحيد ومع ذلك أشركوا بالله؟. ألم يأتهم الرسول بالبينات الواضحة فكذبوه ، وقالوا : هو مجنون يتلقى بعض الكلمات من جني أو إنسي ويلقيها علينا؟. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ). المراد بالعذاب هنا عذاب القحط والجوع ، وعائدون ناكثون ، والمعنى سنرفع عنهم ما هم فيه بعض الوقت ونحن نعلم انهم ناكثون بالوعد .. ولكن من باب إلقاء الحجة وقطع المعذرة (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى


إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). هذا تهديد بأن الله سيأخذهم يوم القيامة بعذاب مهين على عتوهم وتمردهم.

والخلاصة ان قريشا آذوا النبي (ص) فدعا عليهم ، ولما مسهم السوء استجاروا به ووعدوه بالتوبة ، ولكنهم نكثوا بعد أن فرج الله عنهم ، فهددهم سبحانه بجهنم وبئس المهاد.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ). ضمير قبلهم يعود الى قريش ، والمعنى ان الله اختبر آل فرعون بالنعم والتمكين في الأرض كما اختبر قريشا بكشف العذاب عنهم ، وأرسل سبحانه موسى الى قوم فرعون كما أرسل محمدا الى قريش ، فعصوا جميعهم وعتوا عن أمر الله ، وقال موسى لفرعون وقومه : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). كان فرعون يضطهد بني إسرائيل ، يذبح المواليد الذكور منهم ، ويبقي الإناث للخدمة ، فطلب منه موسى أن يرسلهم معه ليذهب بهم حيث يشاء ، ومثله قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ـ ٤٧ طه ج ٥ ص ٢٢٠.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). هذا من كلام موسى لقوم فرعون ، ومعناه لا تتعالوا على طاعة الله ، فإن لديّ الحجة الكافية الوافية بإثبات الحق (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) ألوذ بالله والتجأ اليه ان أردتم بي سوءا (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي اعتزلوني ، ودعوني وشأني لا علي ولا معي ان لم تصدقوني وتستجيبوا لدعوتي.

هولاء قوم مجرمون الآية ٢٢ ـ ٢٣ :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها


قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

اللغة :

رهوا ساكنا. وفاكهين متنعمين. فما بكت عليهم السماء والأرض كناية عن عدم الاهتمام بشأنهم.

الإعراب :

رهوا حال من البحر. وكم مفعول تركوا. وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. من فرعون بدل من العذاب بإعادة حرف الجر ، مع حذف المضاف أي من عذاب فرعون. على علم حال أي عالمين. وعلى العالمين متعلق باخترناهم.

المعنى :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ). يئس موسى من فرعون وقومه فدعا عليهم ، وقال : اللهم عجّل لهم الهلاك في الدنيا بسبب كفرهم واجرامهم ، فاستجاب الله دعاءه وقال له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). أمر سبحانه أن يخرج هو وبنو إسرائيل ليلا من مصر ، وأعلمه ان فرعون وقومه سيتبعونهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ). اسلك الطريق في البحر ، فإذا قطعته الى الجانب الآخر ، فدعه كما هو ، لأن جيش العدو سيدخله ويغرق بكامله.


الجزء الخامس والعشرون (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ). كان آل فرعون في ألذ مطعم ومشرب ، لهم السلطان والقصور والأنهار والثمار ، فأرسل الله اليهم موسى يدعوهم الى العدل وعدم الفساد في الأرض ، فلم يستجيبوا لداعي الله ، فأهلكهم وأورث ما كانوا فيه لقوم لا يمتون اليهم بسبب ولا نسب ... قال الشيخ المراغي عند تفسير هذه الآية : «تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا ، والحبش حينا آخر ، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ، ثم الرومان من بعدهم ، ثم العرب ثم الطولونيون والأخشيديون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والترك والفرنسيون والانكليز ، وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ، ونتمكن من استقلال بلادنا».

وكان هذا الشيخ في عهد الملك فاروق بن فؤاد ، ونعطف على قوله والآن يحتل الصهاينة سيناء والضفة الشرقية من قناة السويس بمعونة الولايات المتحدة قائدة الاستعمار الجديد ، والمصريون يجاهدون ويقاتلون ليخرجوا المعتدين من أرضهم ... وهكذا الحياة جهاد ونضال ، ولأن يستشهد الإنسان والبندقية في يده ، يدافع بها عن وطنه وكرامته ، خير من أن يعيش عيش الذل والهوان.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ). هذا كناية عن عدم الاهتمام بآل فرعون حين أغرقهم الله في اليم (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) بل عجل سبحانه لهم الهلاك في الدنيا (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم وبناتهم وتسخير رجالهم في أشق الأعمال (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين تجاوزوا كل حد في الفساد والطغيان والتعالي والتعاظم.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ). وصف سبحانه بني إسرائيل في كتابه بأقبح الأوصاف ، وسجل عليهم أعظم الجرائم كالغدر والاحتيال والتمرد على الحق وأكل المال بالباطل ، ووصفهم بالكفر والظلم ، ولعنهم في العديد من الآيات ، وهددهم بأشد العقوبات ... ومن هنا أجمع المفسرون على ان المراد بالعالمين في هذه الآية وأخواتها ان الله فضل الاسرائيليين على العالمين في زمانهم ، لا في كل زمان ... وقلنا في ج ١ ص ٩٥ : ان الله فضلهم على أهل ذاك الزمان من جهة واحدة فقط ، وهي ان الله أرسل منهم العديد من الأنبياء.


والآن استوحينا من الآية التي نحن بصددها ان المراد بالعالمين فيها فرعون ومن أقر له بالربوبية فقط ، وليس كل أهل ذاك الزمان ، أما السر في تفضيل بني إسرائيل على فرعون ومن استجاب له فواضح ، وهو ان الاسرائيليين لم يعبدوا فرعون كقدماء المصريين. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ). المراد بالآيات هنا المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ، والمراد بالبلاء المبين النعمة الظاهرة قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ٣٥ الأنبياء.

أهم خير أم قوم تبع الآية ٣٤ ـ ٤٢ :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

اللغة :

بمنشرين بمبعوثين. وتبّع اسم لأحد ملوك اليمن ، والتبابعة لقب ملوك اليمن كالفراعنة والقياصرة. ويوم الفصل يوم القيامة.


الإعراب :

إن هي «ان» نافية. وبمنشرين الباء زائدة ومنشرين خبر نحن. والذين من قبلهم منصوب بفعل محذوف أي وأهلكنا الذين من قبلهم. ولاعبين حال. وأجمعين تأكيد لضمير ميقاتهم. ويوم لا يغني بدل من يوم الفصل.

المعنى :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ). هؤلاء إشارة الى مشركي مكة. قالوا : لا حياة ولا نشور بعد الموت ، واحتجوا بقولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انهم لا يؤمنون بأن الله قادر على إحياء الموتى إلا إذا رأوا ذلك عيانا ... وذهلوا عن النشأة الأولى ، وان الذي أوجد الإنسان ، ولم يكن شيئا مذكورا ـ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ). كان للتبابعة دولة وصولة في اليمن وغيرها ، وكانوا أحسن حالا وأكثر مالا من قريش ، ولما عتوا عن أمر ربهم أخذهم بالهلاك والدمار ، وكذا أهلك قوم نوح وعادا وثمود لكفرهم وإجرامهم ، فكيف أمن قومك يا محمد عواقب الكفر والفساد؟ ولو اعتبروا لأبصروا وآمنوا ، ولكنهم قوم لا يفقهون (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ). إن الله حكيم ، والحكيم منزه عن العبث ، فلا يخلق شيئا إلا لمصلحة تعود الى الخلق ... والغاية من خلق الإنسان أن يحيا حياة طيبة خالدة الى ما لا نهاية ، وعليه فلا بد من البعث والنشر ، وإلا كان خلق الإنسان عبثا. أنظر تفسير الآية ٣٣ من سورة لقمان فقرة لما ذا خلق الله الإنسان؟. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الله خلق الكون بما فيه لحكمة وغرض صحيح.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ). يوم الفصل هو يوم القيامة الذي يجمع الله الناس فيه لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، وميقاتهم هو موعد ذاك الجمع والحساب والجزاء (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). لا جاه


ولا مال ولا أنساب ولا حميم ... لا شيء على الإطلاق ينفع في ذاك اليوم إلا صالح الأعمال فهو وحده الشفيع عند الله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) ولكن الله يرحم من هو أهل لرحمته كالذي له سوابق تقربه من خالقه جل وعز (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). لا ناصر ولا راحم غدا إلا الله فهو ذو العزة والرحمة تذعن الخلائق لقدرته ، وتفتقر الى رحمته.

طعام الأثيم وطعام المتقين الآية ٤٣ ـ ٥٩ :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

اللغة :

شجرة الزقوم لا بد أن تكون رديئة الطعم لأنها طعام أهل النار ، وتقدم الكلام عنها في الآية ٦٢ من سورة الصافات. والمهل خثارة الزيت. والحميم الشديد الحرارة. اعتلوه سوقوه بعنف. وسواء الجحيم وسطها. والسندس ضرب من الحرير الرقيق. والإستبرق الغليظ منه. ارتقب انتظر.


الإعراب :

في جنات بدل من مقام أمين بإعادة حرف الجر. متقابلين حال من واو يلبسون. كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. آمنين حال من واو يدعون. وفضلا منصوب على المصدرية أي تفضل تفضلا.

المعنى :

بعد ان ذكر سبحانه المجرمين في الآيات السابقة ، وان موعدهم يوم القيامة ـ ذكر أحوالهم في هذا اليوم ، وهي :

١ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ). والأثيم من كثرت في الدنيا ذنوبه وآثامه ... وقد بيّن سبحانه ان طعامه يوم القيامة من شجرة اسمها الزقوم ، ووصف ثمرها بأنه (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ). والمهل خثارة الزيت ، والحميم الشديد الحرارة ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن أليم العذاب وشدته ، وقال الملا صدرا في الأسفار : ان شجرة الزقوم هي الاعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة التي تقود صاحبها الى النار ، وفي بعض الروايات ان البخل شجرة من أشجار النار ، والسخاء شجرة من أشجار الجنة.

٢ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ). أي يقال لملائكة العذاب : سوقوا الأثيم بعنف الى وسط النار (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ). يومئ هذا الى أن في جهنم ثمارا وحماما وملابس ، وكلها من نار السموم.

٣ ـ (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ). تقول ملائكة العذاب للطاغية الأثيم : لقد أنكرت يوم البعث ، وزعمت انك صاحب الجلالة والعظمة ... فذق الآن جزاء تعاظمك وتعاليك ... ومهما شككت فما أنا بشاك ان الذين يسلبون أقوات العباد ، ويصنعون منها أسلحة جهنمية لقتل الأبرياء الآمنين ونسائهم وأطفالهم ، ولا يرون حقا ولا عدلا إلا فيما يهوون ويشاءون ، لا أشك أبدا ان هؤلاء يستحقون هذا النوع من العذاب ، بل أشد وأقسى لو كان هناك عذاب فوق هذا العذاب. انظر ج ٤ ص ٤٥٦ فقرة «جهنم والأسلحة الجهنمية».


وبعد ان بيّن سبحانه أحوال المجرمين أشار الى أحوال المتقين يوم القيامة بالآيات التالية:

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يتنعمون فيها كما يشاءون (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ). ثيابهم من الحرير الرقيق والسميك ، ويجلسون على أسرّة في اتجاه بعضهم البعض يسمرون شاكرين ذاكرين أنعم الله ورضوانه (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) لم يطمثهن قبلهم انس ولا جان (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ). يطلبون فاكهة قائمة دائمة لا يخافون لها نفادا وانقطاعا. (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). كل انسان يموت الموتة الأولى ، وينتقل بعدها إلى الجنة أو النار ، ولا فناء في هذه ولا تلك ، ولكن الفناء أيسر بكثير من حياة وسط الجحيم (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأي فضل وفوز أعظم من النجاة من عذاب النار وغضب الجبار.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). ضمير يسرناه للقرآن ، وضمير لعلهم للعرب ، والخطاب في لسانك للرسول الأعظم (ص) ، والمعنى أنزلناه قرآنا عربيا لينتفع العرب بتعاليمه ويتعظوا بعظاته (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ). انتظر قليلا يا محمد ، وسترى ان العاقبة لك عليهم ، وهم أيضا يدعون بأن الدائرة ستدور عليك ، ولكن : «هلك من ادعى وخاب من افترى ، ومن أبدى صفحته للحق هلك» كما قال الإمام علي (ع).


سورة الجاثية

وتسمى سورة الشريعة أيضا ، وهي مكية ، وآيها ٣٧.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ان في السموات والأرض لآيات المؤمنين الآية ١ ـ ٦ :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

اللغة :

المراد بالآيات هنا الدلائل والحجج. ويبث يفرق. واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. وتصريف الرياح تغييرها جنوبا وشمالا وشدة وضعفا.

الإعراب :

تنزيل مبتدأ ومن الله الخبر ، ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف أي


هذا تنزيل الكتاب ، ومن الله متعلق بتنزيل. لآيات اسم ان وفي السموات والأرض خبرها وآيات مبتدأ مؤخر. وفي خلقكم خبر مقدم وما يبث عطف على خلقكم. واختلاف الليل والنهار أي في اختلاف الليل والنهار خبر مقدم وآيات لقوم مبتدأ مؤخر. تلك آيات الله مبتدأ وخبر.

المعنى :

(حم) تقدم مثله في أول سورة البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). المراد بالكتاب القرآن ، وكله من أوله الى آخره وحي من الله ، لا من سواه ، وقال صاحب روح البيان : ان وصف الله بالعزيز هنا يشعر بأن القرآن معجزة تقهر كل من يتحداها ، وان وصفه بالحكيم يومئ الى ان القرآن يشتمل على حكم بالغة نافعة ... وليس من شك ان القرآن أعجز ويعجز كل من يعارضه ، وانه ينبوع الحكمة ومصدرها.

ثم أشار سبحانه الى الدلائل الحسية الناطقة بوجوده وعظمته ، منها : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لمن يريد ان يؤمن بالحق لأنه حق ، والمراد بالآيات هنا ما يستنتجه العقل من نظام الكون وسيره على سنن لا تحويل فيها ولا تبديل ، ولولا ثباتها واستمرارها لما أمكن رصدها وقياسها والاستفادة منها ، وبالتالي لم يكن لعلم الفلك وما يتصل به عين ولا أثر (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). من أراد علم اليقين بوجود الله فليفكر ويتأمل في نفسه وفي أي حي من الأحياء ، فهل يجد في واحد منها عضوا من أعضائه لا وظيفة له ، أو غريزة من غرائزه لا حكمة لها؟ ويدل هذا دلالة قاطعة على الارادة والتصميم ، وإذا لم نر المصمم بالحس فقد رأينا آثاره رأي العين ، وعليه يكون أيماننا بالغيب مستندا الى الحس والمشاهدة.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). أشار سبحانه في كتابه مرات الى اختلاف الليل والنهار لينبه العقول الى السر العجيب في دورة الأرض لأنها السبب الموجب لمجيء الليل بعد النهار ، ومجيء النهار بعد الليل ، ومهما قيل ويقال عن أسباب دورة الأرض حول نفسها أو حول الشمس فإن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب


الكونية تنتهي الى ارادة الخالق الأول وقدرته وحكمته ، ويستحيل في نظر العقل أن يكون مبدأ هذا الكون العجيب مادة عمياء تتحكم بها الصدفة والفوضى التي لا قصد لها ولا غاية.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). المراد بالرزق هنا كل شيء علوي له أثر في الحياة كالماء وحرارة الشمس ، وفيهما من الدلالة على وجود الخالق ما في خلق السموات والأرض لأن الكل وجد لحكمة وغرض صحيح (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) جنوبا وشمالا وغربا وشرقا وباردة وحارة (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كل ذلك وما إليه دليل قاطع على ارادة عليم حكيم.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ). وهكذا يضع سبحانه أمام العقل مشاهد ودلائل حسية على معرفة الخالق وقدرته (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ). من لا ينتفع ببيان الله ، ويقتنع بأدلته فلا تجدي معه أية حجة. وتكرر معنى هذه الآيات كثيرا في كتاب الله ، من ذلك الآية ١٦٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥١.

ومن نهج البلاغة : ما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه الا سواء ، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء ، أنظر الى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ـ أي رؤوس الجبال ـ وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات ... فالويل لمن جحد المقدر ، وأنكر المدبر ... زعموا انهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا الى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟.

ويل لكل أفاك أثيم الآية ٧ ـ ١٥ :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً


كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

اللغة :

أفاك كثير الكذب. وأثيم كثير الإثم. ويطلق الرجز على معان ، منها القذر والانحراف عن الحق الى الباطل ومنها شدة العذاب وهذا المعنى هو المراد من الرجز في الآية ، أي عذاب من النوع الشديد الأليم. وتطلق ايام الله على ايام نعمته ونقمته.

الإعراب :

مستكبرا حال من ضمير يصرّ. كأن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه. وأليم بالرفع صفة لعذاب. وجميعا حال مما في السموات وما في الأرض. وضمير


منه يعود على الله سبحانه والمجرور متعلق بمحذوف صفة للجميع. ويغفروا مجزوم بجواب أمر محذوف أي قل لهم : اغفروا يغفروا. فلنفسه متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فنفع صلاحه عائد لنفسه. فعليها ايضا خبر لمبتدأ محذوف أي فضرر إساءته عائد عليها.

المعنى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً). بعد ان وضع سبحانه أمام العقل الدلائل الحسية المفيدة للجزم واليقين بوجوده تعالى ، وقال : من لم يؤمن بها فلن يؤمن بأي دليل غيرها ـ بعد هذا هدد وتوعد من لا يتدبر هذه الدلائل ، وينتفع بها ، وأسماه بالأفاك الأثيم ، وتوعده بالعذاب الأليم ، ووصفه بمعاندة الحق وتجاهله تعاليا وتعاظما ، وانه لم يكتف بذلك حتى سخر منه واستهزأ به ... ولا فرق في يوم الحساب بين هذا الكافر الساخر من الحق وأهله ، وبين من آمن به قولا لا فعلا ، وبالنظر لا بالعمل ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ـ ٢١ الأنفال أي لا يقبلون ولا يعملون. وقال الإمام علي (ع) : البصير من سمع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). أولئك اشارة الى كل أفاك أثيم ، والمراد بما كسبوا ، أموالهم وأولادهم وجاههم. وبما اتخذوا ، أصنامهم وأوثانهم ، والمعنى ان الذين استكبروا على الحق وسخروا منه مصيرهم الى جهنم يصلونها وبئس المهاد ، ولا ينجيهم من عذابها صنم ولا ولد ولا جاه ولا مال (هذا هُدىً). هذا إشارة الى القرآن ، وما من شك انه هدى لمن ائتم به ، وقوة لمن اعتمد عليه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). المراد بالآيات هنا الدلائل الكونية على وجود الله وعظمته ، والعذاب والرجز والأليم كلمات مترادفة أو متقاربة المعنى ، والغرض من التكرار تأكيد العذاب اللائق بالأفاك الأثيم الذي يستعلي على الحق ويسخر منه.


(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ان فضل الله تعالى في البر والبحر والجو ، ومن نعمه تعالى في البحر اللحم والملح والأحجار الكريمة والمواصلات والنزهة والرياضة وغير ذلك ، وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٦٦ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٦٥ والآية ٤٦ من سورة الروم وغيرهما.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). في هذا العالم الواسع منافع وطاقات لا يبلغها الإحصاء ، وبالرغم من تقدم العلم في عصرنا فإن ما خفي عنه أكثر مما استبان له من تلك الطاقات ، ولكن الله سبحانه زود الإنسان بالاستعداد التام لاكتشاف كل ما في الكون من قوى وإمكانات والاستفادة بها لو اتجه اتجاها علميا انسانيا ، لا تجاريا ، وبذل جهدا أكثر وأطول ... وتجدر الاشارة الى ان كلمة (جَمِيعاً) تومئ الى ان في الإنسان من المؤهلات ما يستطيع معها الوصول الى القمر وغيره من الكواكب. انظر ج ٦ ص ١٠١ فقرة «القرآن والفكر». وتقدم مثله في الآية ٢٠ من سورة لقمان.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). المراد بأيام الله هنا أيام نقمته وعذابه ، والذين لا يرجونها هم مشركو العرب. وقد أمر سبحانه نبيه الكريم أن يدعو المؤمنين الى الصفح عمن أساء اليهم ، ويدفعوه بالتي هي أحسن ، والله سبحانه يتولى حساب المسيء وجزاءه (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). المعنى واضح. وتقدم نظيره في الآية ١٠٤ من سورة الانعام ، وبالحرف الواحد في الآية ٤٦ من سورة فصلت.

أيضا بنو اسرائيل ١٦ ـ ٢٠ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ


الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

اللغة :

المراد بالكتاب هنا التوراة والإنجيل لأن عيسى (ع) من بني إسرائيل. والمراد بالحكم فهم ما في التوراة والإنجيل. وبالطيبات المن والسلوى. وبينات من الأمر أي واضحات مما أنزلنا من أحكام الدين. وبغيا عنادا للحق. على شريعة من الأمر أي على طريقة من أمرنا وديننا. والبصائر الدلائل التي يبصر بها العاقل الحق. ولقوم يوقنون يطلبون علم اليقين.

الإعراب :

بغيا مفعول من أجله لاختلفوا. وشيئا مفعول مطلق ليغنوا أي شيئا من الإغناء.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأفاكين الآثمين الذين كفروا


بدلائل الله وآلائه ، وهزأوا بالحق وأهله ، ولما كان بنو إسرائيل أصدق مثل لهذه الأوصاف عقب سبحانه بذكرهم وبما هم عليه من الجحود والآثام ، مع ان الله قد أمد لهم وأنعم عليهم بالتوراة والإنجيل اللذين أشار اليهما بكلمة الكتاب ، وأفهمهم ما فيهما من المواعظ والأحكام ، وهذا هو المراد من الحكم ، وجعل منهم أنبياء ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وفضلهم على آل فرعون حيث أغرقهم وأراح الاسرائيليين من عذابهم.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ). أوضح سبحانه لبني إسرائيل كل ما يحتاجون اليه من أمور الدين ، ولم يبق عذرا ولا سببا لاختلافهم وتفرقهم (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). لقد علموا علم اليقين ما أنزل الله على موسى ، ولكنهم تجاهلوه وحرفوه تبعا لأهوائهم ومصالحهم : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ـ ٤٦ النساء. وقوله تعالى : (اخْتَلَفُوا) يشير الى القليل النادر الذي ثبت على الحق (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). قد يتغلب المبطل على المحق في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فإن الكلمة العليا للحق وحده ، وإلا كان المحق أسوأ حالا من المبطل. وتقدم مثله في الآية ٩٣ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٠.

ضربت الذلة على إسرائيل بحكم التوراة :

جاء في القرآن الكريم عن بني إسرائيل قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) ـ ١١٢ آل عمران. وتكلمنا مطولا حول هذه الآية في ج ٢ ص ١٣٣ ، وقلنا : ان إسرائيل قاعدة من قواعد الاستعمار ، وانها زائلة لا محالة عاجلا أو آجلا.

والآن ننقل من نصوص الأسفار ـ أي الكتاب المقدس عند اليهود ـ ما يدل بصراحة ووضوح على ان الله كتب على إسرائيل الذلة والمسكنة حتى يومها الأخير. فقد جاء في سفر الملوك الثاني اصحاح ١٧ الآية ١٩ و ٢٠ : «فغضب الرب جدا على إسرائيل ... فرذل الرب كل نسل إسرائيل وأذلهم». وفي سفر ارميا اصحاح ٩ الآية ١٥ و ١٦ : «ها أنا ذا أطعم هذا الشعب أفسنتينا واسقيهم


العلقم وأبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم ، وأطلق وراءهم السيف حتى أفناهم». وأيضا في سفر التثنية اصحاح ٢٨ الآية ٦٢ و ٦٣ : «فتبقون نفرا قليلا ... فتستأصلون من الأرض». الخطاب لبني إسرائيل ، الى غير ذلك من النصوص الدالة على بغي اليهود وفسادهم وذلهم وهوانهم.

ونسأل الصهاينة : إذا كنتم شعب الله المختار كما تزعمون فلما ذا حكم الرب عليكم وعلى نسلكم بالذلة والرذالة والتشريد الى ان تستأصلوا من الأرض؟ وكيف قطع الرب عهدا على نفسه أن يجعل أورشليم رجما ومأوى لبنات آوى كما جاء في سفر ارميا اصحاح ٩ الآية ١١ : «واجعل أورشليم رجما ومأوى بنات آوى ، ومدن يهوذا اجعلها خرابا بلا ساكن»؟. وما هو الكتاب المقدس لدولتكم الدينية العنصرية كما قال بومبيدو رئيس جمهورية فرنسا. هل هو التوراة التي وصفتكم ووصفت عاصمتكم بقولها : «هكذا قال الرب : أيتها المدينة ـ أي أورشليم ـ السفاكة الدم ... يا نجسة الاسم يا كثيرة الشغب ، هوذا رؤساء إسرائيل كل واحد حسب استطاعته كانوا فيك لأجل سفك الدماء ـ سفر حزقيال اصحاح ٢٢ الآية ٣ و ٦».

لقد وصف القرآن الكريم بني إسرائيل بأبشع النعوت وأقبحها ، ولكنه لم يزد شيئا عما جاء في التوراة والكتاب المقدس عند اليهود ... وقد جاء ذم أورشليم في إنجيل لوقا اصحاح ١٣ : «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين» ويقول الإنجيل : ان اليهود في كل زمان ومكان يشاركون في الجريمة أجدادهم الذين صلبوا السيد المسيح لأنهم راضون بأفعالهم مؤمنون بأقوالهم : انه ابن زنا ودجال ... وما جاء في الإنجيل يتفق تماما مع المبدأ الاسلامي القائل : «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء».

ومن أجل هذا عارضت الكنيسة القبطية بابا روما حين أصدر هو وأعوانه وثيقة تبرئة يهود الجيل من دم المسيح .. وتجدر الاشارة إلى أن هذه الوثيقة أصدرها بابا روما قبيل عدوان إسرائيل على البلاد العربية بقليل.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها). الشريعة في اللغة مورد الماء ، وقد استعيرت للأحكام الدينية لأنها تحيي الأرواح كما يحيي الماء الأجسام ، والمراد


بالأمر هنا الدين ، والمعنى لقد جعلناك يا محمد على عقيدة التوحيد وخلع الشرك والأنداد ، وأعطيناك الشريعة السهلة السمحة ، فتمسك بها وادع اليها ، أما قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فمعناه ان المجرمين لا يتبعون إلا الهوى والغرض ، وما عليك إلا أن تمضي في دعوتك ولا تأخذك فيها لومة لائم ، وهو سبحانه يكفيك كيد الكائدين وشر المتآمرين.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لأن من عجز أن يدفع عن نفسه فهو عن مؤازرة غيره أعجز (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). لا يجد المجرم في الحياة الدنيا من يناصره ويؤازره إلا من كان على شاكلته في الإجرام والآثام .. والطيبون أعداء له وحرب عليه ، أما في الآخرة فيلعن المجرمون بعضهم بعضا (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) دنيا وآخرة (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). هذا إشارة الى القرآن ، والبصائر الدلائل التي تبصر بها الحق وطريق الهداية ، وما من شك أن من يأتم بالقرآن فهو على علم اليقين بأنه على هدى من ربه ، وداخل في رحمته. وتقدم مثله في الآية ٢٠٣ من سورة الاعراف ج ٣ ص ٤٤١.

اتخذ إله هواه الآية ٢١ ـ ٢٦ :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى


عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

اللغة :

اجترح واقترف واكتسب بمعنى واحد.

الإعراب :

أم حسب «أم» للإضراب أي بل أحسب. والمصدر من أن نجعلهم ساد مسد مفعولي حسب. وسواء مفعول ثان لنجعلهم. ومحياهم ومماتهم فاعل سواء لأنه بمعنى مستو. وما يحكمون «ما» مصدرية والمصدر المنسبك فاعل ساء. وعلى علم حال. وان هم «ان» نافية. والمصدر من ان قالوا خبر كان.

المعنى :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). هل يصح في الافهام أن يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء عند الله وفي نظر العقل؟ اذن ، فما معنى تعدد الأسماء وتباينها؟ وما هو الفارق بين الخير والشر والهدى والضلال؟ وأخذ علماء الكلام مضمون هذه الآية وقالوا : ان الله سبحانه وعد الطائع بالثواب ، وتوعد العاصي بالعقاب ، وما وقع في الدنيا شيء من ذلك ، فوجب أن يعيد سبحانه الإنسان الى الحياة بعد موته ليحصل الوفاء بوعده تعالى ووعيده. وأيضا الله عادل ما في


ذلك ريب ، وقد رأينا الظالم يقضي حياته دون أن يقتص أحد منه للمظلوم ، ولولا الاعادة للحساب والجزاء لكان المظلوم أسوأ حالا من الظالم وكان الله ظالما. تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

أما نعيم الدنيا فما هو بعلامة على رضا الله ، ولا بؤسها دليل على غضبه ، قال الإمام علي (ع) : أيها الناس ان الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممركم لمقركم ... واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). هذا تعليل لنفي المساواة بين المحسن والمسيء ، وبيانه ان الله سبحانه خلق الكون حقا وعدلا ، لا عبثا وباطلا ، لأنه منزه عنهما ، وعليه فيستحيل أن يساوي بين المحسن والمسيء ، وإلا كان خلق الكون عبثا وباطلا ، لأن من يجوز العبث عليه في شيء يجوز عليه أيضا في غيره (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). هذا هو النهج القويم نهج الحق والعدل ، من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. أنظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٢ فقرة : «الحساب والجزاء حتم».

والخلاصة ان الله حكيم منزه عن الخطأ ، وحكمته تعالى تحتم إحياء الإنسان بعد موته ليميز بين المحسن والمسيء ، ويجزي كلا بما يستحق وإلا كان الخلق عبثا ، قال تعالى في الآية ١١٥ من سورة المؤمنون : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي تنزه عن العبث.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)؟. من الناس من لا يؤمن بشيء إلا بنفسه ومصلحته .. وقد يهلل ويكبر بل ويصوم ويصلي ما دام ذلك لا يزاحم شيئا مما يحب ويهوى ، فهواه هو المعبود الحق عنده ، وما عداه وسيلة لا غاية أو عادة لا عبادة ، وهذا هو المقصود من قوله تعالى : (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). وقال قائل : انما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، وقد أخذ هذا من قوله تعالى :(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ـ ٤٠ النازعات. وفي بعض التفاسير ان المشرك الجاهلي كان يهوى الحجر فيعبده ،


ثم يرى غيره فيهواه فيلقي الأول ، وهكذا من يتخذ إلهه هواه ... وليس من شك ان المشرك الجاهلي أخف جرما عند الله من العملاء الذين يبيعون دينهم وضميرهم بالمزايدة ، ويعقدون الصفقة مع من يزيد.

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ). الله سبحانه لا يضل أحدا ، كيف؟. وقد نهى سبحانه عن الضلال وتوعد عليه ، ولكن من يسلك طريق الضلال مختارا يدعه وشأنه ، ولا يشمله بلطفه وعنايته بعد أن علم جلت حكمته من العبد الضال الإصرار والعناد. أما قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فمعناه ان الله تعالى قد أعمى المعاند عن ادراك الحق ورؤيته وسماعه بعد أن بينه له وحثه عليه وأعرض عنه من غير مبرر ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف. (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟ من لا ينتفع بنصائح الله ، ويتعظ بمواعظه ، فلا تنفعه العظات والنصائح.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). قال الماديون أو الدهريون عبّر بما شئت ، قالوا : ان الإنسان خليط من أشياء مادية تجمعت من هنا وهناك وتفاعلت ، فإذا مات فإلى فناء ولا شيء بعد الموت تماما كالنبات والحشرات ، وما نراه في الإنسان من إدراك وإحساس فهو من إفراز الجسم ووليد الظروف والملابسات أي ان عقل الإنسان وعاطفته من الأعراض الثانوية التي لا اصالة لها ولا استقلال.

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ان قولهم هذا دعوى بلا دليل. بل قام الدليل على فسادها وبطلانها لأن الذي يتحكم بالمادة ويخضعها لمصالحه ، ويحللها في مصانعه ويعرف الكثير عنها ولا تعرف هي شيئا عنه ، ان هذا الإنسان العجيب لا بد أن يكون أعظم من المادة وأرفع منها مستوى. وسبق الكلام عن ذلك مرارا ، منها عند تفسير الآية ٧٨ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٦.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وهذا تماما كقول من قال : أنا لا أصدق أن شجرة التفاح تثمر في الصيف إلا إذا رأيتها تحمل الثمر في الشتاء ، وان هذا الطفل إذا كبر


نبتت لحيته الا إذا رأيتها الآن في وجهه ذاهلا ان لكل شيء أجلا ، وان لكل أجل كتابا لا يتقدم ولا يتأخر. وتقدم مثله في الآية ٣٦ من سورة الدخان. (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ). إذا كان الله هو الذي أحيا الإنسان من قبل ولم يكن شيئا مذكورا ، وهو الذي يميته فما الذي يمنعه من إحيائه ثانية؟. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان النشأة الثانية أهون وأيسر من النشأة الأولى. وتقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٨ من سورة البقرة و ٦٦ من سورة الحج.

كل امة تدعى الى كتابها الآية ٢٧ ـ ٣١ :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١))

اللغة :

جاثية باركة على الركب. نستنسخ نستكتب أي نجعل الملائكة تكتب.

الإعراب :

يوم متعلق بيخسر المبطلون. ويومئذ بدل من يوم. اليوم تجزون أي يقال لهم : اليوم تجزون. أفلم تكن آياتي أي يقال لهم : أفلم تكن الخ.


المعنى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). يشير سبحانه بهذا إلى قدرته على الإحياء بعد الموت ، لأن من خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر ، ولا ريب ، على أن يحيي الموتى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) لأن مأواهم النار في هذا اليوم ، وما لهم من ناصرين (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً). يحشر سبحانه الناس يوم القيامة باركين على الركب ينتظرون الحساب والجزاء ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن هول المطلع وروعة الفزع.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). المراد بالكتاب هنا صحيفة الأعمال ، والمعنى ان كل أمة ، وكل امرئ مجزي بما أسلف ، وقادم على ما قدم ، وفي نهج البلاغة : «إذا هلك المرء قال الناس : ما ترك ، وقالت الملائكة ما قدم». (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). يقال غدا للمجرمين : هذا ما كتبناه عنكم ، انه صورة طبق الأصل عن أعمالكم لا زيادة فيه ولا نقصان ، لأن الله قد أمر ملائكة الحفظ والصدق أن تسجل أفعالكم ، وتحفظ عليكم عدد أنفاسكم التي قضيتموها في المعصية ولا تستركم من الكتبة ظلمة ، ولا يكنكم منهم حجاب : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ـ ٤٩ الكهف ج ٥ ص ١٣٥.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). سلكوا طريق الأمان ، فقادهم الى رحمة الله ورضوانه. وفي نهج البلاغة لن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يخزى جزاء الشر إلا فاعله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)؟. يقول سبحانه غدا للعتاة المتمردين تقريعا وتوبيخا : سمعتم صوت الحق فلم تستجيبوا له ، ورأيتم الواضحات من دلائله فأعرضتم عنها عنادا واستكبارا ، واسترحتم الى الفساد والضلال ، فأنتم اليوم من الخاسرين.


اليوم ننساكم الآية ٣٢ ـ ٣٧ :

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

اللغة :

حاق بهم أحاط أو حل بهم. ننساكم نترككم ونهملكم. لا يستعتبون لا يطلب منهم العتبى والاعتذار. والمراد بالكبرياء هنا السلطان القاهر.

المعنى :

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ). ما زال الحديث عن المجرمين ، وقوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) بيان وتفسير لوعد الله ، والمعنى ان المجرمين كانوا إذا قال لهم المؤمنون : ان البعث لحق ، والحساب والجزاء حق قالوا : لسنا على يقين من البعث ، ولا نعرف عنه شيئا سوى الظن ، فأتونا بما يدل عليه.


وتسأل : ان الله سبحانه حكى عنهم في الآية ٢٤ من هذه السورة انهم نفوا البعث بلسان الجزم كما يدل قولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم حكى عنهم هنا انهم يظنون ظنا وما هم بمستيقنين أي انهم لا يجزمون في أمر البعث سلبا ولا إيجابا ، فكيف تجمع بين الآيتين؟.

قال الرازي : يغلب على الظن انهم كانوا فريقين : فريقا كان جازما بنفي البعث ، وآخر كان شاكا فيه .. أما نحن فيغلب على ظننا انهم فريق واحد ، وان معنى الآيتين واحد ايضا ، وهو انهم لا يؤمنون بالبعث لأنه لا دليل بزعمهم يوجب اليقين به ، وانما هو غيب في غيب.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). زرعوا في الدنيا الجرائم والآثام ، فحصدوها وجنوا ثمارها في الآخرة ، وسخروا من جهنم وعذابها فكانوا لها حطبا (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) جحدوا يوم القيامة وسخروا منه وممن آمن به ، فأمهلهم الله في ذلك ولم يشملهم برحمته ، بل أذاقهم عذاب ذاك اليوم ، وأراهم سبحانه من قدرته وسطوته فيه ما كانوا به يمترون. وتقدم مثله في الآية ٥١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٦.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا). ذلكم إشارة الى العذاب ، والمعنى ان السبب الموجب لعذابهم هو كفرهم باليوم الآخر ، وإعراضهم عن القرآن ، واستخفافهم بآياته حين يتلى عليهم ، واطمئنانهم الى الدنيا وزينتها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). ضمير منها يعود الى النار ، والمعنى انهم خالدون فيها ، ولا يطلب منهم أن يسترضوا الله بقول أو فعل ، لأن الآخرة دار حساب وجزاء لا دار عمل واسترضاء.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ). احمدوا الله وحده لأنه خالق كل شيء (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والمراد بكبريائه تعالى انه لا كبير يخاف ويرجى إلا هو وحده ، وقد وصف الإمام علي (ع) العارفين بالله ، وصفهم بقوله : عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يقهره شيء (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه.



الجزء السّادس والعشرون



سورة الأحقاف

٣٥ آية كلها أو جلها مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ابن الدليل ان كنتم صادقين الآية ١ ـ ٦ :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

اللغة :

أم لهم شرك أي نصيب. وأثارة من علم بقية أو شيء منه.


الإعراب :

من قبل هذا متعلق بمحذوف صفة لكتاب أي بكتاب منزل من قبل هذا. أو أثارة عطف على كتاب. ومن لا يستجيب مفعول يدعو. وضمير «هم» يعود الى الأصنام. وعن دعائهم متعلق بغافلين ، وبعبادتهم متعلق بكافرين.

المعنى :

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). تقدم بالحرف الواحد في أول سورة الجاثية وأول سورة الزمر (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى). الله حكيم لا يخلق شيئا إلا بالحق ، والعبث في حقه مستحيل ، وقد خلق الكون بما فيه لحكمة وغرض صحيح ، وقدّر لفنائه وزواله أمدا معينا ، وبعده يكون الحساب والجزاء في الدار الثانية. وتقدم مثله في الآية ٨ من سورة الروم ج ٦ ص ١٣٢.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ). خوّف سبحانه المجرمين من يوم القيامة وأهواله ، وأقام عليه الدلائل الواضحة ، فأبوا إلا العتو والعناد (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ)؟ المراد بالشرك هنا النصيب ، والمعنى أخبروني يا عبدة الأصنام : ما الذي دعاكم الى تأليهها وعبادتها؟ هل خلقت شيئا من الأرض أو في الأرض ، أو اشتركت مع الله في خلق السموات أو بعضها أو ما ذا؟ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن كالتوراة أو الإنجيل أو غيرهما يقول : ان الأصنام شركاء لله في خلقه أو شفعاء لديه أو شيء يذكر (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وإذا لم يكن لديكم دليل من النقل فهل عندكم دليل من العقل على صدق ما تقولون وصحة ما تعبدون؟. وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة فاطر.


الوثنية في عصر الفضاء :

وتسأل لما ذا اهتم سبحانه هذا الاهتمام البالغ بالرد على عبدة الأوثان في هذه الآية وغيرها مع العلم بأن الأمر أهون وأيسر من ذلك ، فإن نفي الألوهية عن الأصنام بمكان من البداهة والوضوح تماما كنفي البصر عن الأعمى ، والظلمة عن النور؟.

الجواب : كان تقديس الأصنام وعبادتها جزءا لا يتجزأ من حياة الناس منذ عهد نوح الى عهد الرسول الأعظم (ص) ، وبينهما آلاف السنين .. وحتى في عصرنا هذا ، عصر الفضاء ، تنتشر الوثنية في شرق الأرض وغربها .. وهل هذه التماثيل القائمة الآن في المعابد وعلى مفارق الطرق ورؤوس الجبال ، وهذه الرسوم على الجدران وفي المفكرات وهنا وهناك ، والتي تحكي الآلهة بزعم الزاعمين ، هل تقديس تلك التماثيل وهذه الرسوم إلا ضرب من الوثنية وعبادة الأصنام؟ .. وهنا يمكن السر لاهتمام الإسلام والقرآن في الرد على عبدة الأوثان ، وتتجلى عظمة محمد (ص) في تكريم الإنسان وتنزيهه عن عبادة ما صنعت يداه ، قال الشاعر :

بكيت على الإنسان ينحت صخرة

ويعبدها للنفع يوما أو الضرّ

وكفّاه اولى بالعبادة لو درى

هما نحتا هذه الصخور كما يدري

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). المراد بقوله : الى يوم القيامة ان الأصنام لا تجيب أبدا ، ولا يمكن أن تجيب ، والمعنى لا أحد أكثر جهلا وضلالا من الذي يعبد ما لا يسمع مناديا ، ولا يجيب داعيا (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ). ضمير «هم» وواو «غافلون» يعودان الى الأصنام ، وضمير دعائهم يعود الى المشركين ، والمعنى ان المشركين يعبدون الأصنام ، ولكن الأصنام في غفلة عنهم ولا يشعرون بوجودهم (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ). وأيضا يوم القيامة عند ما يحشر الله الناس للحساب والجزاء تتبرأ آلهة المشركين منهم ، ويكفرون بهم وبعبادتهم. أنظر تفسير الآية ٢٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٥٢.


أم يقولون أفتراء الآية ٧ ـ ١٢ :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

اللغة :

فلا تملكون لي فلا تغنون عني. تفيضون فيه تتكلمون فيه. والبدع من الأشياء ما لا مثيل له.

الإعراب :

بينات حال من آياتنا. وكفروا للحق اللام للتعدية والمجرور متعلق بقال


لا بكفروا مثل قال له. أم يقولون «أم» للاستفهام. كفى به شهيدا الباء زائدة والضمير فاعل أي كفى الله شهيدا ؛ وشهيدا تمييز. بيني وبينكم بمنزلة الكلمة الواحدة أي بيننا. وما أدري «ما» نافية. ما يفعل بي «ما» مبتدأ والخبر يفعل. ومن قبله متعلق بمحذوف خبرا لكتاب موسى أي وكتاب موسى كائن من قبله. وإماما حال من الضمير في كائن. ولسانا حال من الضمير في مصدق. والمصدر من لينذر متعلق بمصدق. وبشرى عطف على المصدر المنسبك أي للانذار والتبشير.

المعنى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). ضمير عليهم يعود الى مشركي العرب ، والمراد بآياتنا وبالحق هنا القرآن ، وللحق متعلق بقال ، ومعنى بينات ان آيات القرآن واضحة لا غموض فيها ولا تعقيد ، وبالرغم من وضوح القرآن وظهور الدلائل على أنه حق وصدق فقد وصفه المفترون الطغاة بالسحر المبين ، لا لشيء إلا لأنه جعلهم وسائر الناس بمنزلة سواء. وتقدم هذا في العديد من الآيات.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً). أيزعم المشركون يا محمد ان هذا القرآن افتراء منك واختلاق؟ فقل لهم : كيف أكذب على الله وأنا أشد الناس خوفا منه؟ وهل تغنون عني شيئا من غضب الله وعذابه إن كذبت عليه وافتريت؟ وإنما قال لهم هذا اعتمادا على ما يعرفونه في الرسول الأعظم (ص) من رجاحة العقل وكراهية الكذب وغيره من رذائل الأخلاق. (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). ان الله سبحانه لا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأفعالكم ، وأنتم محاسبون عليها ، وهو تعالى بما يعلمه مني ومنكم يشهد لي بالصدق والأمانة ، وعليكم بالكذب والخيانة (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يغفر لكم ويشملكم برحمته ان تبتم وأنبتم.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ). لست بأول رسول يبلغ العباد رسالات


ربه ، فقد سبقني الكثير من الأنبياء والمرسلين (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ). النبي (ص) يعلم حاله وحال المشركين في الآخرة لأن الله أخبره بذلك كما في العديد من الآيات ، بالإضافة الى ان هذا العلم من لوازم النبوة ووظائفها ، وقد تواتر في الحديث ان النبي (ص)بشر أكثر من واحد بالجنة ، وعليه يكون المعنى ان النبي لا يعلم ما يحدث له في هذه الحياة؟. وبأي شيء يمتحنه الله ويبتليه؟ وأيضا هو لا يعلم ما يحدث للمشركين؟ هل ينتقم منهم في هذه الدار ، أو يؤخر عذابهم الى يوم يبعثون؟.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ). وليس من شأن النذير أن يعلم الغيب ، وإنما هو يبلغ عن الله ما يوحي اليه تعالى بما يحدث له وللمشركين في هذه الحياة. وتجدر الاشارة الى ان هذا كان قبل نزول الآيات الناطقة بأن العاقبة لدين الله ورسوله ولو كره المشركون ، أو هو أسلوب من أساليب الدعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). السورة التي نفسرها مكية ما عدا هذه الآية ، فإنها نزلت في عبد الله بن سلام ، حيث أسلم في المدينة ، وكان عالما كبيرا من علماء بني إسرائيل ، هذا ما جاء في أكثر التفاسير ، والمعنى قل يا محمد للذين زعموا ان القرآن سحر مفترى ، قل لهم : أخبروني عن حالكم عند الله ان ثبت ان القرآن حق وصدق ، وآمن به عالم من بني إسرائيل كعبد الله ابن سلام الذي يدرك أسرار الوحي ويشهد بأن تعاليم القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ما ذا يكون حالكم إذا بقيتم على ضلالكم وعنادكم؟. أتظلمون أنفسكم مختارين وتعرضونها لنقمة الله وعذابه؟.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ). كان أكثر الذين استجابوا لدعوة الرسول (ص) في بداية الدعوة ـ من المستضعفين ، فاتخذ الكبار الطغاة من ذلك سببا للطعن برسالة الرسول لأن الحق بزعمهم يعرف بالرجال المترفين ، ولا يعرف الرجال بالحق ، فكل ما يفعله المترفون حق ، وكل ما يفعله غيرهم باطل .. ولكن من صارع الحق صرعه. ولذا لم تمض الأيام حتى


اعتلى العبد الحبشي بلال ظهر الكعبة ينادي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وحطم الرسول الأعظم (ص) أوثان قريش ووضعها تحت قدميه ، وهو يقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). وفي تفسير الرازي ان أمة لعمر أسلمت ، وكان يضربها حتى يفتر ، فقال الكفار : لو كان الإسلام خيرا ما سبقتنا اليه أمة عمر ... ولكن عمر أسلم بعد ذلك ، وحارب الروم والفرس على الإسلام.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ). ضمير لم يهتدوا وسيقولون يعود الى كفار قريش ، وضمير به الى القرآن ، ووصفه الطغاة بالقديم لأن فيه بزعمهم خرافات وأساطير أكل الدهر عليها وشرب .. قالوا هذا لا لشيء إلا لأنهم لا يؤمنون إلا بمصالحهم ومكاسبهم ، والقرآن ينكرها ويحاربها.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ). القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى ، كل منهما إمام يهدي الى الحق ورحمة لمن آمن به وعمل بموجبه ، وقد بشرت التوراة بمحمد : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) ـ ١٥٧ الأعراف. وأيضا القرآن مصدق بهذه التوراة ، وينطق بلسانكم أيها العرب وينذر من أساء بالعذاب ، ويبشر من أحسن بالثواب فكيف تقولون تارة : انه سحر ، وحينا : خرافات وأساطير ، ولا تقولون ذلك عن التوراة؟

وحمله وفصاله ثلاثون شهراً الآية ١٣ ـ ١٦ :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ


أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

اللغة :

فصاله فطامه. وبلغ أشده صار بالغا مدركا. أوزعني ألهمني. وأصلح لي في ذريتي اجعل لي خلفا صالحا.

الإعراب :

خالدين حال من ضمير أصحاب. وجزاء نصب على المصدر أي يجزون جزاء. وإحسانا نصب على المصدر أي ان يحسن إحسانا. وكرها صفة لمفعول مطلق محذوف أي حملا كرها أو حال أي كارهة. والمصدر من ان أشكر مفعول أوزعني. وصالحا صفة لمحذوف أي عملا صالحا. وعد الصدق منصوب على المصدر أي وعد الله وعد الصدق.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). في الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء وصف سبحانه حال أهل الجنة بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). وفي الآية التي نحن بصددها قال سبحانه : ان هؤلاء هم الذين التزموا في الحياة الدنيا بدين الله


وشريعته عقيدة وقولا وعملا ، وهذا هو المراد من الاستقامة. وذكرت هذه الجملة بالحرف في الآية ٣٠ من سورة فصلت ، وتكلمنا حولها مفصلا.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). أولئك إشارة الى الذين آمنوا واستقاموا ، وقوله تعالى بما كانوا يعملون توضيح وتأكيد بأنه لا إيمان ولا استقامة بلا عمل.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً). أي انها قاست الكثير في حمله ووضعه وحضانته أيضا. وفي بعض الروايات ان حق الأم أحق وأوجب من حق الأب لأنها حملت ولدها حيث لا يحمله أحد ، ووقته بالسمع والبصر وجميع الجوارح مسرورة مستبشرة ، ورضيت بأن تجوع ويشبع ، وتظمأ ويروى ، وتعرى ويكتسي. فليكن الشكر لها والبر بها على قدر ذلك .. وكان الولد من قبل يرى ان من واجبه السمع والطاعة لوالديه ، أما الآن فيعتقد ان عليهما الخضوع لأمره دون قيد أو شرط. وتقدم الأمر بالبر بالوالدين في الآية ٨٣ من سورة البقرة والآية ٣٥ من سورة النساء والآية ١٥١ من سورة الانعام والآية ٢٣ من سورة الإسراء.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) ـ ١٤ لقمان إذا فعلنا ذلك تبين معنا ان أقل الحمل ستة أشهر ، لأنه إذا أسقطنا عامي الرضاع من الثلاثين شهرا تبقى ستة أشهر لمدة أقل الحمل ، ولقد أقر الطب الحديث هذه النظرية. وقال الشيخ المراغي المصري في تفسيره : «أول من استنبط هذا الحكم علي كرم الله وجهه .. وروى محمد بن إسحاق صاحب السيرة ان رجلا تزوج من امرأة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فشكا ذلك الى عثمان ، فبعث اليها ، ولما جاءت أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه وقال له : أما تقرأ القرآن؟ قال عثمان : بلى. قال علي : أما سمعت قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ). فلم يبق بعد الحولين إلا ستة أشهر ، قال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، عليّ بالمرأة. فوجدوها قد فرغ منها. قال معمر بن عبد الله : فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة أشبه من هذا الحمل بأبيه ، ولما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه».


(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً). متى بلغ الغلام مبلغ الرجال بالاحتلام أو بالسن (١) وكان عاقلا في تصرفاته كان له ما للبالغين الراشدين ، وعليه ما عليهم من التكاليف الشرعية. ولكن جماعة من المفسرين قالوا : ان هذه الآية تشير الى موضوع آخر ، وهو نضج الإنسان وكماله عقلا وجسما بدليل قوله تعالى : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) لأن هذا النضج يبدأ في الغالب بسن الثلاثين ، ويستمر في النمو حتى الأربعين حيث يبلغ الغاية في طاقاته ومؤهلاته.

ومهما يكن فإن السن والمؤهلات لا توجب الوعي وأصالة الرأي إذا لم يمر الإنسان بالكثير من التجارب .. وغير بعيد أن يكون ذكر الأربعين سنة في الآية للاشارة الى ان الإنسان في الغالب يمر بعد بلوغ هذه السن بتجارب نافعة. وقال المفسرون وأهل السير : ان الله ما بعث نبيا إلا بعد الأربعين من عمره سوى عيسى ويحيى (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ). العاقل يطلب من الله سبحانه التوفيق والعون على تأدية الشكر له تعالى بالطاعة والانقياد ، وأعظم النعم كلها الهداية الى الحق والعمل بموجبه ، أما وجود الإنسان من حيث هو فما هو بنعمة عليه ولا على غيره إذا لم يكن وسيلة للعمل الصالح. وجاءت هذه الآية بالحرف في سورة النمل الآية ١٩ ج ٦ ص ١٣.

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي). الأبناء عبء ثقيل على الآباء ، بل كارثة بتربيتهم ومطالبهم وهمومهم .. ولكن الأب المسكين يرى رغبته وسعادته في هذه الكارثة إذا منّ الله عليه بذرية صالحة ، وإلا تراكمت المصائب والكوارث (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). وفيه إيماء الى ان الله لا يتقبل من مذنب ولا يستجيب لدعائه إلا إذا تاب من ذنوبه ، واستقام في أقواله وأفعاله (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) عن هنا بمعنى «من» مثلها في قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) ـ ١٠٥ التوبة. والمراد بأحسن ما عملوا غير السيئات ، أما

__________________

(١). قال الشافعية والحنابلة : يتحقق البلوغ ب ١٥ سنة في الغلام والجارية. وقال المالكية : ١٧ فيهما. وقال الحنفية : ١٨ في الغلام و ١٧ في الجارية. وقال الامامية : ١٥ فيه و ٩ فيها.


هي فيعفو الله عنها كما قال : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لأنهم تابوا وأخلصوا (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي معهم وفي عدادهم (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) بقبول الأعمال والتجاوز عن السيئات وبدخول الجنة ، ووعده تعالى الصدق ، وقوله الحق.

قال لوالديه اف لكما ١٧ ـ ٢٠ :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

اللغة :

أف كلمة تدل على التضجر. ويلك الهلاك لك. وأساطير الأولين أباطيلهم. والمراد بالقول هنا كلمة العذاب. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا استوفيتم نصيبكم من الطيبات في الحياة الدنيا.


الإعراب :

والذي مبتدأ والمراد به الجنس لا شخص معين ، وأولئك الذين حق خبره. أف لكما أف اسم فعل ولكما متعلق به. والمصدر من ان أخرج مجرور بباء محذوفة. ويلك مفعول لفعل محذوف أي ألزمك الله الويل. وليوفيهم متعلق بمحذوف أي بعثناهم ليوفيهم. وجملة أذهبتم مفعول لقول محذوف أي يقال لهم أذهبتم الخ.

المعنى :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي)؟

من هو هذا الولد الذي يتحدث عنه القرآن ، ويقول : انه كافر عاقّ بوالديه؟ الجواب : ان الله لم يذكر شخصا بالذات ، وظاهر الآية يدل على ان المراد به كل ولد كفر باليوم الآخر ، وله أبوان مؤمنان قد اجتهدا في نصحه وهدايته وخوّفاه من غضب الله وعذابه ، فقال لهما ساخطا متبرما : بعدا لكما كيف يخرج الإنسان من قبره ، وقد أصبح ترابا ويبابا؟ فهل حدث ذلك لغيري في عصر من العصور حتى يحدث لي؟.

وتصدق هذه الآية على الكثير من شباب هذا العصر حتى كأنها نزلت فيهم .. ولو أنهم سألوا وناقشوا بقصد المعرفة والاهتداء الى الحقيقة لوجب علينا أن نرحب بهم وبأسئلتهم ونقاشهم ، ونبذل جهد المستطيع لاقتناعهم عملا بقوله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ـ ١٨٧ آل عمران وإيمانا منهم بأنهم أحوج الناس للبيان والهداية.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). استغاثا بالله من كفر وليدهما ، ودعوا عليه بالهلاك ، وأكدا له ان البعث حق. وفي الغالب يكون دعاء الوالدين على الولد أشبه باللغو في الايمان ، ولكن كلمة يستغيثان الله تومئ الى عمق الحرقة واللوعة ، وشدة الألم والأسف لكفر الولد العاق وتمرده ، ومع هذا أصر على الضلال (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). أجاب على شفقة والديه ونصحهما بقوله : ان كلامكما هذا لا يعبر عن شيء سوى السخف والأباطيل ..


وهكذا ينظر الكثير من أبناء هذا الجيل الى الآباء والأمهات .. والغريب ان أحدهم لو سمع من شاب مثله ما سمعه من أبويه لما وقف منه هذا الموقف الساخر.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). أولئك اشارة الى كل من عاند الحق وأعرض عن دعوة المخلصين. وحق عليهم القول أي كلمة العذاب .. وهذه هي سنة الله في الأمم الماضية والحاضرة أيضا ، سواء في ذلك الانس والجن (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ). لأنهم نكصوا عن دعوة الحق ، واستغشوا الناصح الأمين (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). تتفاوت مراتب الناس يوم القيامة بحسب أعمالهم في الدنيا ، وأوضح تفسير لهذه الآية قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ـ ٣٠ آل عمران.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون بها وتقول لهم ملائكة العذاب : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها). جمعتم المال وكنزتم منه الملايين بالسلب والنهب ، وشيدتم المصانع وناطحات السحاب على حساب المستضعفين ، وتقلبتم في الملذات والشهوات ، وقد استوفيتم بذلك حظوظكم بكاملها ، ولم تدخروا شيئا ليومكم هذا (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ). أعرضتم عن الحق علوا واستكبارا ، وملأتم الأرض ظلما وفسادا ، فذوقوا الآن مرارة البغي ، كما ذقتم حلاوته بالأمس.

وفي تفسير الشيخ المراغي ان رسول الله (ص) كان إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة ، وأول من يدخل عليه من أهله فاطمة متى عاد من سفره. وقدم من بعض الغزوات وتوجه الى بيتها كعادته ولما أراد الدخول على ابنته فاطمة رأى على بابها ستارا من شعر غليظ ، ورأى على الحسن والحسين سوارين من فضة ، فرجع ولم يدخل .. فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ، وأرسلت السوارين الى أبيها : فأعطاهما لبعض المعوزين ، وقال : ان هؤلاء أهل بيتي ـ يشير الى فاطمة ومن في بيتها ـ ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.


هود الآية ٢١ ـ ٢٨ :

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

اللغة :

في القاموس المحيط : الأحقاف جمع حقف بكسر الحاء ، وهو المعوج من


الرمل ، وفي مجمع البحرين للطريحي ان عادا كانت بين جبال من بلاد اليمن. ومن بين يديه ومن خلفه أي من قبله ومن بعده. لتأفكنا لتصرفنا. والعارض هو السحاب الذي يعرض في أفق السماء. وحاق بهم حل أو نزل بهم. وصرفنا الآيات جعلناها أنواعا.

الإعراب :

ان لا تعبدوا «ان» بمعنى أي مفسرة لأنذر قومه. والمصدر من لتأفكنا متعلق بجئتنا. والهاء في رأوه تعود الى ما تعدنا. وعارضا حال من مفعول رأوه لأن رأى هنا بصرية تعمل في مفعول واحد. وريح خبر لمبتدأ محذوف أي هو ريح. كذلك نجزي الكاف بمعنى مثل قائمة مقام المفعول المطلق أي مثل ذلك الجزاء نجزي. مكّناهم فيما ان «ما» بمعنى الذي و «ان» نافية أي مكّنا عادا من المال والقوة ما لم نمكنكم فيه يا قريش. وآلهة مفعول ثان لاتخذوا ، والمفعول الأول محذوف أي اتخذوهم. وقربانا مفعول من أجله أي اتّخذوهم آلهة ليقربوهم الى الله مثل قوله تعالى حكاية عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ٣ الزمر.

المعنى :

ذكر سبحانه قصة هود مع قومه عاد في سورة الأعراف الآية ٥ ـ ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٧ وأيضا في سورة هود الآية ٠ ـ ٦٠ ج ٤ ص ٢٣٨ وأيضا في سورة الشعراء الآية ٢٣ ـ ١٤٠ ج ٥ ص ٥٠٨ الى غير ذلك من الآيات السابقة واللاحقة. ولذا نوجز هنا ما أمكن اعتمادا على ما سبق.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ). اذكر يا محمد لقومك قصة هود مع قومه لعلهم يتعظون ويعتبرون ، وقد كانوا عربا مثل قومك ، وأكثر منهم قوة ومالا ، وكانت ديارهم قريبة من بلد قومك لأنهم سكنوا الأحقاف ، وهي من أرض اليمن المتصلة بالحجاز ـ كما قيل ـ (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ


يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ). المراد بالنذر الرسل ، وضمير يديه وخلفه يعود الى هود ، والمعنى اذكر يا محمد لقومك أيضا ان هودا لم يكن أول المرسلين ، ولا هو آخرهم ، بل أرسل الله كثيرين من قبل هود ومن بعده ، وكان ينذر قومه بهذا النداء الذي جاء على لسان كل نبي : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك والضلال.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). أتريدنا يا هود أن نترك عبادة الأصنام ، ونعبد إلها واحدا ... ان هذا لشيء عجاب!. وتهددنا بعذاب عظيم؟ عجل به ان كان تهديدك حقا وصدقا (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ). أمرني ربي أن أنذركم بالعذاب ، فأطعت وأنذرت ، أما متى يقع العذاب؟ وما هو نوعه ولونه فعلمه عند الله ، ولا أعلم من ذلك شيئا ، ولكني أعلم علم اليقين انكم في غمرة الجهل والضلال (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا). الهاء في رأوه للعذاب ، وعارضا أي عرض في الأفق ، ومستقبل أوديتهم متوجها اليها ، والمعنى ظنوا العذاب سحابا من الغيث ، ففرحوا به ، وبشر بعضهم بعضا بالخصب والرخاء.

فقال لهم هود أو لسان الحال والواقع : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها). رأوا سحابا في الأفق ، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ، فانخدعوا بالظاهر ، وذهلوا عما وراءه من المخبآت والمفاجئات ، فأخذهم العذاب ، وهم في سكرة من كواذب الأماني والآمال ... وهذه نهاية من تمادى في غوايته ، وانقاد الى رغبته (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) التي أصبحت قبورا لأجسامهم. والعاقل من اتعظ بهم وبأمثالهم ، وخاف بطش الله عند النعمة والرخاء ، ورجا رحمته عند الشدة والضراء (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة فقط على ما توجبه الحكمة البالغة.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). أهلكنا عادا لما طغوا وبغوا ، وقد كنا أعطيناهم من القوة والمال ما لم نعطكم مثله يا عتاة قريش ... ألا تخشون أن يصيبكم مثل ما أصاب عادا وغيرهم من الأمم الماضية؟. (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً


وَأَفْئِدَةً) تماما كما جعلنا لكم (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنهم لم ينتفعوا بشيء منها ، بل كانوا كالمجنون والأبكم والأصم والأعمى فيما يعود الى التذكير والتحذير ... فلا يغركم يا أهل مكة ما يعجبكم من أسماعكم وأبصاركم وعقولكم فإنها لا تغني عنكم من شيء إذا نزل بكم العذاب (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). جحدوا الحق ودلائله ، وسخروا منه ومن أهله ، وأمعنوا في البغي والضلال ، فكان جزاؤهم الهلاك والدمار.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). الخطاب في حولكم لمشركي مكة ، والمراد بالقرى أهلها وهم عاد وثمود ومن جاورهم ، وصرفنا الآيات بيّنا لهم أنواعا من الدلائل والعظات ، وأنذرناهم بالأقوال والأفعال كي يتعظوا ويرتدعوا ، فأبوا إلا كفورا ، فحق عليهم العذاب ودمرناهم تدميرا (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً). عبدوا الأصنام ليقربوهم من الله ، وينقذوهم من بأسه ، ولما نزل بهم العذاب لم تغن الأصنام عنهم شيئا (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أضاعوهم ولم يهتدوا الى مكانهم ... وفي هذا ما فيه من الزراية والاستخفاف بهم وبأصنامهم (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ). ذلك إشارة الى عدم نجدة الأصنام ، وانها لا تسعف من كان يعبدها ويرجوها وقت الضيق ، والمعنى ان قول المشركين بأن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، وتنجينا من عذابه هو إفك وافتراء.

الجن يستمعون القرآن الآية ٢٩ ـ ٣٢ :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى


طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

اللغة :

المراد بصرفنا هنا وجهنا. وقضى فرغ.

الإعراب :

إذ متعلقة بمحذوف أي واذكر إذ صرفنا. والهاء في حضروه للقرآن. ومصدقا صفة لكتاب. ويغفر مجزوم بجواب الأمر ، وهو آمنوا. ويجركم عطف على يغفر. ومن لا يجب «من» اسم شرط ولا يجب فعل الشرط ، وجوابه فليس بمعجز والباء زائدة إعرابا ومعجز خبر ليس ، واسمها ضمير مستتر يعود الى من.

المعنى :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). من وظيفة العقل ان يحكم بإمكان وجود الشيء أو امتناعه ، فإذا حكم بإمكانه وعدم امتناعه لجأنا للتثبت من وجوده في الخارج الى وسائل الإثبات التي تتفق وطبيعة الشيء الذي نريد إثباته ، فإن كان من الأمور الحسية فعلينا أن نثبته بالحس والتجربة ، وان كان من الأمور العقلية فالطريق الى التعرف على وجوده هو العقل ، وان كان من الأمور الغيبية ـ غير وجود الإله ـ فلا طريق إلى معرفته إلا الوحي ، فإذا أنزل وجب التعبد به ... وليس من شك ان العقل لا يأبى وجود كائنات غيبية ـ أي غائبة عنا


تباين ما عرفناه وألفناه من المخلوقات ، بل نحن على يقين ان ما نجهل من الكائنات أكثر مما نعلم ، من ذلك وجود الجن ، فقد ذكرهم سبحانه في العديد من آياته ، منها قوله تعالى حكاية عنهم : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ١١ الجن. وقد دفع الله بنفر من هؤلاء الصالحين الى الرسول الأعظم (ص) ، واستمعوا اليه وهو يتلو القرآن ، فقال بعضهم لبعض : اسكتوا وتدبروا معانيه ، فسكتوا وأصغوا بإمعان ، ورأوا فيه الهدى والنور فآمنوا به وبمحمد (ص) ، ولما فرغ الرسول من التلاوة سارعوا الى قومهم منذرين ومبشرين بالإسلام.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ). قالوا لقومهم : سمعنا كتابا من محمد (ص) يشبه الكتاب الذي أنزله الله على موسى ، وهو مصدق لما جاء به الأنبياء من الدعوة الى الايمان بالتوحيد والبعث ، وأيضا هو يرشد الى الصواب وعمل الخير : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ، ـ ٣ الجن. ونحن إذا لم نر الجن الذين تأثروا بالقرآن وآمنوا به فقد سمعنا ورأينا الكثير من العلماء والعقلاء تأثروا بكلمات القرآن بمجرد الاستماع اليها ، وآمنوا ايمانا لا يشوبه ريب انه من لدن حكيم عليم.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). استجيبوا الى دعوة الحق ، واتبعوا الداعي اليها يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم في رحمته ، وينجكم من غضبه وعذابه (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ). أبدا لا مهرب من الله إلا اليه ، ولا نجاة من عذابه إلا بالإخلاص والعمل الصالح (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). أولئك اشارة الى الذين لم يستجيبوا لداعي الله ... ومن لم يستجب له فقد نكب عن طريق الحق والرشاد.


أليس هذا بالحق الآية ٣٣ ـ ٣٥ :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

اللغة :

لم يعي من الإعياء وهو العجز أي لم يعجز. والعزم الجد والثبات. وبلاغ كفاية.

الإعراب :

بقادر الباء زائدة إعرابا وقادر خبر ان الله الخ. وربنا الواو للقسم. وبلاغ خبر لمبتدأ محذوف أي هو بلاغ أو الذي وعظتم به بلاغ.

المعنى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). هذا الكون العجيب الذي دل على


قدرة الخالق وعظمته يدل أيضا وبطريق أولى على انه تعالى قادر على إحياء الموتى ، لأن السبب الموجب للأمرين واحد ، وهو قدرة من إذا قال للشيء كن فيكون ، قال الإمام علي (ع) : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى. وتقدم هذا المعنى في عشرات الآيات ويأتي الكثير ، من ذلك قوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ـ ١٥ ق. فكيف نعيا بالخلق الثاني؟.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون بها ، ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الذي كفرتم به من قبل؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا). أنكروا في الدنيا حيث يضرهم الإنكار ، وأقروا في الآخرة حيث لا ينفعهم الإقرار شيئا (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بل وتسخرون من الذين آمنوا بحساب الله وعذابه ، ومثله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ـ ٣٠ الأنعام ج ٣ ص ١٧٩.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). جاء في كثير من التفاسير ان اولي العزم خمسة : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولقد كان لكل واحد منهم شريعة خاصة أوجب الله العمل بها على جميع خلقه الى عهد الذي يليه من الخمسة ، فتنسخ اللاحقة الشريعة السابقة الى شريعة محمد (ص) سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، فإنها ناسخة غير منسوخة الى يوم القيامة ، أما الأنبياء الآخرون فقد كان كل واحد منهم يعمل بشريعة من تقدمه من اولي العزم ... وفي هذا روايات عن أهل بيت النبي (ص) وتومئ اليه الآية ١٣ من سورة الشورى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) حيث خص سبحانه الخمسة بالذكر دون غيرهم ، وكلمة شرع ظاهرة بالشريعة ، والخطاب في «اليك» لمحمد (ص).

(وَلا تَسْتَعْجِلْ ـ العذاب ـ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ). الخطاب في لا تستعجل لمحمد (ص) وضمير «لهم» وكأنهم يعود الى الذين كفروا برسالته ، والمراد بما يوعدون عذاب جهنم ، والمعنى لا تستعجل العذاب يا محمد للذين كفروا فإنه نازل بهم في الآخرة لا محالة ، أما مكوثهم في


الدنيا وان طال فإنهم سوف يرونه لحظات حين ينزل بهم العذاب ... ومثله (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ـ ١٩٧ آل عمران. وفي نهج البلاغة : انما الدنيا متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب.

(بلاغ) أي القرآن بلاغ لرسالات الله تعالى ، وهو حجة كافية ، وموعظة شافية لمن طلب الرشد والهداية (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)؟ كلا ... (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ـ ٥٢ الدخان.


سورة محمّد

٣٨ آية كلها أو جلها مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وآمنوا بما نزل على محمد الآية ١ ـ ٦ :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))


اللغة :

يطلق البال على القلب تقول : خطر ببالي أي بقلبي أو بذهني ، ويطلق على الشأن والحال ، وهذا هو المراد هنا. أثخنتموهم أكثرتم فيهم القتل. الوثاق بفتح الواو وكسرها ، وهو ما يشد به من قيد أو حبل ، وقيل : فشدوا الوثاق كناية عن الأسر.

الإعراب :

ذلك مبتدأ وبأن الذين الخ متعلق بمحذوف خبرا أي ذلك كائن بسبب اتباعهم الباطل. فضرب الرقاب مصدر منصوب نائب مناب فعل أمر محذوف ، والأصل فاضربوا الرقاب ضربا. وكل من (مَنًّا) و (فِداءً) نائب مناب فعل محذوف ، والأصل إما تمنون منا وإما تفادون فداء.

المعنى :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ). صدوا تأتي بمعنى أعرضوا ، وبمعنى منعوا ، وعلى الأول يكون معنى كفروا وصدوا واحدا ، والعطف من باب التفسير ، وعلى الثاني يكون المعنى انهم لم يؤمنوا وأيضا منعوا الناس عن الإيمان ، وهذا هو الظاهر من دلالة اللفظ. وأضلّ أعمالهم أي أبطلها حتى كأنها لم تكن ، والمعنى ان من أعرض عن الإسلام ومنع الناس عنه فلا يقبل الله من عمله شيئا ، لأن الإسلام شرط أساسي في ثواب الآخرة ، قال تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) ـ ٥٤ التوبة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ). بعد ان قال سبحانه : انه لا يقبل من الكافرين قال : أما من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بالله وبالقرآن الذي لا ريب فيه ـ أما هذا فإن الله يقبل منه ، ويصفح عن ذنوبه إذا تاب منها ، ويصلح


شأنه في الدنيا بالتوفيق والهداية الى الخير ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ). ذلك اشارة الى ثواب الصالحين ، وعقاب المجرمين ، والمعنى ان للحق أهلا ، وللباطل أهلا ، والله سبحانه يوفي كلا منهما أعمالهم انه بما يعملون خبير (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ). فيبين للصالح ثواب أمثاله من الصالحين ليكون على يقين من صلاحه وهدايته ، ويبين للمجرم عقاب المجرمين من أمثاله لعله يهتدي ويرتدع.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها). هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها ، وموضوعها هام ، وهو القتال ، لذا نبدأ بتفسير مفرداتها ، ثم نبين المعنى المحصل منها ... والمراد باللقاء هنا مواجهة أعداء الإسلام والمسلمين في جبهة الحرب والقتال. وضرب الرقاب كناية عن القتل سواء أكان بضرب الرقبة أم بغيره ، وانما خص سبحانه الرقاب بالذكر لأنها من الأعضاء الرئيسية. وأثخنتموهم أكثرتم فيهم القتلى حتى ظفرتم بهم وتمكنتم منهم. فشدوا الوثاق أحكموا وثاق الأسير منهم بقيد أو حبل أو سجن كيلا يفر ويعيد الكرة عليكم. فإما منا اي أن تمنوا بالصفح على الأسير من غير عوض. وأما فداء أن تطلقوا سراحه بعوض. وحتى تضع الحرب أوزارها أي حتى يستسلم العدو ويلقي السلاح لأن أوزار الحرب سلاحها.

ومعنى الآية بمجموعها ان أعداء دين الله إذا أصروا على الكفر ، والتقيتم بهم أيها المسلمون في ساحة القتال فاقتلوهم ، ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله ، واصمدوا لهم ، وامضوا في قتلهم وقتالهم حتى تتمكنوا منهم ، وعندئذ أحكموا أسر من بقي منهم كيلا يفلت ، ويعيد الكرة عليكم ، ومتى تم ذلك كان الخيار للنبي أو نائبه في اطلاق الأسير بفداء أو من غير فداء حسبما تقتضيه المصلحة ... وتجدر الاشارة الى ان معنى هذه الآية والآية ٦٧ من سورة الأنفال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ج ٣ ص ٥٠٧ ان معنى الآيتين واحد ، وهو لا أسر إلا بعد الإثخان.

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). ذلك اشارة


الى ما بيّنه سبحانه من قتل أعداء الله وأسرهم في ساحة الحرب ، والمعنى انه جل وعز لو أراد أن ينتقم من أعدائه في الدنيا من غير قتال لأهلكهم بما لديه من جنود السموات والأرض ، ولكنه تعالى أمر المؤمنين بالجهاد وابتلاهم بالكافرين لتظهر الأفعال التي يستحق بها الثواب والعقاب.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ). ان الله يقاتل من عصاه بمن أطاعه ، وإذا قتل المطيع فلن يذهب دمه سدى ... كيف؟ وقد استشهد في سبيل الله ومن أجل الله ... ومن أوفى من الله لمن أخلص له وعمل من أجله؟ وقد بيّن سبحانه أجر العاملين من أجله ، بينه بقوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) بل تعود عليهم بالخير ، وذلك بأنه تعالى (سَيَهْدِيهِمْ) الى منازلهم في الجنة تماما كما كانوا يهتدون الى منازلهم في الدنيا (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي شأنهم في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي بينها لهم بأنهارها وأثمارها ، وقصورها وحورها ، وما إلى ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

ان تنصروا الله ينصركم الآية ٧ ـ ١٤ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ


مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

اللغة :

تعسا لهم هلاكا لهم. والمثوى المقر.

الإعراب :

والذين كفروا مبتدأ والخبر فعل مضمر أي فأتعسناهم تعسا. وكأيّن بمعنى كم ، ومحلها الرفع بالابتداء وجملة أهلكناهم خبر. وضمير الغائب في أهلكناهم يعود الى أهل القرية. أفمن مبتدأ وكمن خبر.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ). وتثبيت الأقدام كناية عن الصلابة والثبات. والآية واضحة الدلالة على ان الله سبحانه مع أهل الحق والعدل ينصرهم ويأخذ بأيديهم ، وفي معناها كثير من الآيات ، كالآية ١٢٨ من سورة النحل (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والآية ٣٨ من سورة الحج (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) والآية ٤٠ منها (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) والآية ٥٧ من سورة المائدة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

والنصر من الله سبحانه على أنواع ، منها النصر على الأعداء بالقتال وقوة السلاح ، كانتصار الرسول الأعظم (ص) على عتاة الكفر والظلم من قريش وغيرهم ، ومنها النصر بعذاب من السماء كالخسف والطوفان والريح العاتية ، ومنها النصر


بقوة الحجة والبرهان عند نقاش الخصم وجداله ، ومنها النصر بعلو الشأن وخلود الذكر في الدنيا ، ومنها النصر في الآخرة يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) ـ ٤٩ ابراهيم.

وإذا تبين معنا ان النصر من الله على أنواع ، وان قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) مطلق غير مقيد بنوع من أنواع النصر ، ولا مقرون بصفة من صفاته ، إذا تبين هذا علمنا ان المراد من النصر في الآية أي نصر كان .. وليس من شك انه كائن لا محالة ، ولو في اليوم الآخر الذي لا ريب فيه ، وعليه فلا وجه للاعتراض أو السؤال : كيف وعد الله سبحانه المحقين بنصره مع ان تاريخ البشرية متخم بأخطر المظالم والاعتداءات على الطيبين والمخلصين؟. وسبق الكلام عن هذا الموضوع مفصلا عند تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة «لا يخلو المؤمن من ناصر».

الدولة الاسلامية :

ونشير بهذه المناسبة الى ان بعض الفئات تدعو الآن الى قيام دولة اسلامية ، وأي مسلم يخلص لله فيما يدين يأبى أن يكون للإسلام سلطان ينفذ أحكام القرآن ، وللمسلمين ما يوحد كلمتهم ويجمع قوتهم ، وينقذها من التفتيت والتشتيت؟.

ولكن نسأل : هل توجد هذه الدولة بمجرد رفع الشعارات واذاعة البيانات ، أو بتكثير العمائم على رؤوس الجهلاء والدخلاء؟ وهل من الممكن أن تنبثق عن ٧٠٠ مليون مسلم منتشرين في شرق الأرض وغربها ، ولهم قوميات متعددة ، ومذاهب سياسية مختلفة ، وفرق متباينة ، وبعضهم يخضع لدول اشتراكية ، وبعضهم لدول رأسمالية ، وآخرون لهم كيان مستقل أو شبه مستقل. وإذا تكونت هذه الدولة من المسلمين العرب أو غير العرب فهل تستطيع أن تواجه مسؤولياتها ، وتنجح في حل مشاكل المسلمين في الأقطار الأخرى؟ ثم هل تكون هذه الدولة سنية أو شيعية أو منهما؟ ونترك الجواب عن هذه التساؤلات للمخلصين من ذوي الاختصاص.


لقد عانى المسلمون الكثير من الهزائم والاذلال ، وكفى بهزيمة ٥ حزيران وهنا وإذلالا ، والسبب الأول والأخير هو التمزق والتفرق ، والعلاج معروف عند الجميع وهو الوقوف صفا واحدا ضد العدو المشترك الذي حددته حرب حزيران ، وأبرزته واضحا للعيان ، فمن أخلص لله وأراد النصح للإسلام والمسلمين حقا وصدقا فعليه أن يحصر جهوده كلها في العمل من أجل تعاون المسلمين على الخلاص والتحرر من القوى الفاسدة الداخلية والخارجية ، ومتى تمت التصفية وتحققت الحرية الكاملة فكّر المخلصون في دولة إسلامية أو غيرها مما فيه لله رضا ، وللمسلمين صلاح.

وخير ما نؤيد به إشارتنا هذه قول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة : «ان المبتدعات المشتبهات هن المهلكات .. وان في سلطان الله عصمة لأمركم ، فأعطوه طاعتكم ... أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام». وإذا انتقل سلطان الإسلام عن السلف لتفرق أهوائهم وشتات كلمتهم فهل يعود إلينا ونحن أكثر تفرقا وشتاتا؟.

وتسأل : أصحيح ما يقال : ان المصدر لفكرة الدولة الاسلامية هو الصهيونية لتبرر بها دولتها الدينية العنصرية ، وتقول لمن عاب عليها ذلك : ان المسلمين يطالبون أيضا بدولة دينية؟.

الجواب : ان دين اليهود عدو الحياة والانسانية ، لأن الله في عقيدتهم إله قبلي لا يعنيه من العالم أحد سوى إسرائيل وحدها ، وان جميع الناس خلقهم الله عبيدا لهم كما جاء في كتاب «الكنز المرصود» للدكتور يوسف حنا نصر الله ، وكتاب «البقاء اليهودي» للصهيونية روز مارين.

أما الإسلام فهو دين الحياة والرحمة والانسانية جمعاء ، ولا شيء أدل على ذلك من الآيات والأحاديث التي أعلنت بأن الإسلام يهدي للتي هي أقوم ، وانه يرتكز على العقل والفطرة ، وان دعوة الله والرسول انما تجب تلبيتها لأنها تدعو الى حياة أفضل ، ومعنى هذا ان الإسلام علماني عقلاني أي يهتم بالإنسان بما هو انسان أيا كان ولو يهوديا ، شريطة أن لا يعتدي على أخيه الإنسان ... وأين هذا من دين اليهود الذين أسموا أنفسهم شعب الله الخاص؟.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) لا يرون غير الخزي والهلاك (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)


فلا تعود عليهم بخير (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ). كرهوا الرسول (ص) والقرآن الذي نزل عليه لا لشيء إلا لأنه أرادهم للحق وهم له كارهون ، فكانوا من الأخسرين أعمالا. والإضلال والإحباط بمعنى واحد ، وهو الضياع وعدم الجدوى من العمل ، وكرر سبحانه ليشير إلى أن ضياع العمل لا ينفك عن الكفر بالقرآن وكراهيته.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). كيف كذّب المشركون برسالة محمد (ص) وهم ينظرون في الأرض آثار الماضين ، ويسمعون بأن الله أنتقم منهم لما كذبوا الرسل؟ وتقدم مثله بالحرف الواحد في العديد من الآيات (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلكهم بأولادهم وأزواجهم وأموالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها). ان حكم الله في الطغاة واحد ، فإذا دمر على الأوائل لطغيانهم فهو يدمر أيضا على الأواخر لنفس السبب.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ). ذلك إشارة إلى التدمير والتحطيم ، والمعنى ان الله أهلك الكافرين حيث لا ناصر لهم من دون الله ولا شفيع ، أما المؤمنون فالله يتولى أمورهم ويدافع عنهم وينعم عليهم (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). المعنى واضح ، وتقدم في كثير من الآيات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ). انهم تماما كالبهائم يأكلون ولا يفكرون في شيء ، فكان مصيرهم جهنم يصلونها وبئس القرار ، قال الإمام علي (ع) : «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ـ أي التقاط القمامة ـ تكرش من أعلافها وتلهو عما يراد بها».

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ). هذا تهديد للذين تآمروا على اغتيال الرسول الأعظم (ص) واضطروه الى الهجرة من بلده مكة الى المدينة. انظر تفسير الآية ٣٠ من سورة الانفال ج ٣ ص ٤٧٢. وفي تفسير الطبري عن ابن عباس ان النبي (ص) لما خرج من مكة قال : أنت أحب بلاد الله الى الله ، وأنت أحب بلاد الله إلي ، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ، فأعتى أعداء الله من عتا على الله في حرمه أو قتل


غير قاتله. فأنزل الله سبحانه الآية. (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). ليس سواء عند الله من أخذ الحق من معدنه ، وكان على بصيرة من أمره ، ومن قاس الحق والعدل بأهوائه وأغراضه ، ومع هذا يرى انه من أحسن الناس عملا.

صفة الجنة الآية ١٥ ـ ١٩ :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

اللغة :

آسن متغير. حميم شديد الحرارة. آنفا أي من أول وقت يقرب منا. وآتاهم


تقواهم وفقهم اليها ، وأشراطها علاماتها ودلائلها. وذكراهم تذكرهم. متقلبكم ذهابكم ومجيئكم في أعمال الدنيا. مثواكم المراد بمثواكم مضاجعكم للنوم أو سكونكم ، وقيل : مصيركم في الآخرة.

الإعراب :

مثل الجنة مبتدأ أول وأنهار مبتدأ ثان وفيها خبره والجملة خبر الأول ، وقيل : خبر مثل الجنة محذوف تقديره ما أتلوه عليكم من أوصافها. ولهم فيها من كل الثمرات متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي أنواع من كل الثمرات. ومغفرة مبتدأ والخبر محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم متعلق بمغفرة. كمن هو خالد في النار خبر لمبتدأ محذوف أي : أمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار. آنفا ظرف زمان عند الزمخشري وحال عند أبي حيان الأندلسي. أي قريبا. والمصدر من أن تأتيهم بدل اشتمال من الساعة. وبغتة في موضع الحال أي مباغتة أو صفة لمفعول مطلق محذوف. فأنّى لهم خبر مقدم وذكراهم مبتدأ مؤخر. وإذا جاءتهم جملة معترضة ، وفي جاء ضمير مستتر يعود الى الساعة ، والتقدير فانّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.

المعنى :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ). المراد بمثل الجنة صفتها ، والمعنى ان الله أخبر عباده أن من أوصاف الجنة ، فيها أنهار من ماء باق على أصله وحقيقته لم يغيره شيء (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ولا لونه ولا رائحته (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) تلذ في الفم ولا تذهب بالعقل (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من الشمع وغيره (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ومنها ما لا يعرفون لها نظيرا في الدنيا. وفي بعض كتب الصوفية ان المراد بالماء هنا العلم ، وباللبن العمل ، وبالحمر لذة المحبة ، وبالعسل حلاوة المعرفة والقرب من الله.


وسبق منا أكثر من مرة ان كل ما جاء في كتاب الله وجب العمل بظاهره حتى يثبت العكس من النقل أو العقل ، والعقل لا يأبى شيئا من أوصاف الجنة التي دل عليها ظاهر الآيات فوجب الأخذ به وابقاؤه على حقيقته ودلالته.

وتسأل : ان الله سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه ان أهل الجنة يتنعمون فيها بلذة معنوية لا حسية ، كحب الله لهم ، ومرضاته عنهم ، وارتفاع شأنهم عنده ، من ذلك قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) آخر القمر. وقوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ـ ٩٦ مريم. فما هو وجه الجمع بين ما دل من الآيات على ان نعيم الجنة يكون باللذة الحسية وما دل منها على انه يكون باللذة المعنوية؟.

الجواب : لا مانع من الجمع بين اللذتين والعمل بالدلالتين .. فأهل الجنة يتنعمون بحب الله وبعلو الشأن عنده ، وأيضا يتنعمون بالطيبات من المآكل والمشارب. قال الملا صدرا في الأسفار : «أما الجنة فهي كما دل عليه الكتاب والسنّة مطابقا للبرهان ... فلا موت فيها ولا هرم ولا غم ولا سقم ولا دثور ولا زوال ، وهي دار المقامة والكرامة لا يمس أهلها نصب ولا لغوب ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وأهلها جيران الله وأولياؤه وأحباؤه ، وأهل كرامته ، وانهم على مراتب متفاضلة ، منهم المتنعمون بالتسبيح والتكبير ، ومنهم المتنعمون باللذات المحسوسة كأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك والحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النمارق والزرابي ولبس السندس والحرير والإستبرق ، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت به همته».

(وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الذين يتنعمون بملذات الدنيا وشهواتها يحاسبون عليها حسابا عسيرا : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ـ ٥٦ المؤمنون. أما أهل الجنة فإنهم يتقلبون في نعيمها وهم في أمن وأمان من حساب الله وعقابه (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). في الكلام حذف دل عليه السياق ، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). كيف يستوون ، وأصحاب الجنة


يشربون الماء العذب واللبن والخمر والعسل المصفى ، وأصحاب النار يشربون حميما وصديدا يغلي في البطون؟.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً)؟. ضمير منهم يعود إلى الناس ، ومن للتبعيض ، والبعض المقصودون هم الكافرون أو المنافقون ، والخطاب في اليك للرسول (ص) ، والذين أوتوا العلم هم علماء أهل الكتاب ، والمعنى ان الذين يحضرون مجلسك يا محمد من الكافرين أو المنافقين يقولون ساخرين حين يخرجون من عندك وبعد أن استمعوا إلى كلام الله ، يقولون لمن حضر معهم من علماء أهل الكتاب : لم نفهم ما ذا قال محمد ونحن في مجلسه الذي فارقناه قريبا ، فهل فهمتم أنتم شيئا؟ .. وهذا ديدن من لا يعجبه شيء إلا ما يعبر عن نزواته وشهواته.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). وقوله سبحانه : اتبعوا أهواءهم : يشير إلى جواب عن سؤال مقدر ، وهو لما ذا طبع الله على قلوبهم؟ فأجاب لأن الأهواء رانت على قلوبهم حتى كأن الله قد ختم عليها أو خلقهم من غير قلوب ، وبتعبير الآية ٥ من سورة الصف : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). طلب المؤمنون الهداية بصدق وإخلاص ، فكان الله دليلهم وكفيلهم ، وزادهم علما بالخيرات ، وشملهم بعنايته وتوفيقه إلى ما يعود عليهم بالخير دنيا وآخرة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً). ضمير ينظرون يعود الى الذين قالوا ساخرين بالرسول الأعظم (ص) : ما ذا قال آنفا. قالوا هذا ذاهلين عن يوم القيامة الذي يأخذهم على الغرة ، ويقفون فيه أمام الله لنقاش الحساب وفصل الخطاب (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) الضمير للساعة ، والمراد بالاشراط هنا الدلائل والحجج القاطعة على البعث ، وقد جاءت في كتاب الله وعلى لسان محمد (ص) بشتى الأساليب ، ولم تدع عذرا لمنكر.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ). في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل فانّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ، والمعنى لقد ذكرهم في الدنيا الرسول الأعظم فلم يتذكروا ، وحين بعثوا ورأوا العذاب تذكروا وندموا ، ولكن حيث لا ينتفعون


بشيء (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هو يحيي ويميت ويعاقب ويثيب .. وغير بعيد أن يكون معنى فاعلم انه لا إله إلا الله هنا ادع الى الله ووحدانيته (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). والاستغفار من الذنب محبوب لله تعالى ، ومطلوب بالذات ، سواء أكان هناك ذنب أم لم يكن (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الأعمال (وَمَثْواكُمْ) مقركم حين تتركون العمل أو مصيركم في الآخرة كما قيل ، وأيا ما كان فإن الله سبحانه يعلم حال عباده في الدنيا والآخرة ، وحين يتحركون ويسكنون.

طاعة وقول معروف الآية ٢٠ ـ ٢٣ :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

اللغة :

محكمة واضحة بنصها. والمراد بالمرض هنا الشك والنفاق. وأولى تستعمل بمعنى أحق وأجدر وبمعنى الويل ، وهو المقصود من قوله تعالى : فأولى لهم. وعزم الأمر جد ولزم. والمراد بأن توليتم ولاية الحكم.


الإعراب :

لو لا بمعنى هلا. وسورة بالرفع مفعول لفعل لم يسمّ فاعله. ومن الموت على حذف مضاف أي من أجل نزول الموت. فأولى لهم مبتدأ وخبر. وطاعة مبتدأ وقول معروف عطف عليه والخبر محذوف أي خير لهم ، وهذا الاعراب نقله أبو حيان الأندلسي عن الخليل وسيبويه ، وقيل : طاعة خبر لمبتدأ محذوف أي أمرنا طاعة. واسم كان ضمير مستتر يعود الى الصدق المفهوم من قوله تعالى : صدقوا الله. والمصدر من أن تفسدوا خبر عسيتم. وان توليتم جملة معترضة.

المعنى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). ومن أجل استقامة الكلام لا بد من تقدير جار ومجرور متعلق بنزلت ، والتقدير لو لا نزلت سورة بالقتال ، أما الدليل على هذا المحذوف فقوله تعالى : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) والنحاة يعبرون عن مثله بأنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه. ومحكمة واضحة بنصها على القتال ، والمعنى ان المؤمنين الخلص كانوا يتمنون أن يأمرهم القرآن بجهاد أهل الكفر والبغي ، ويتهافتون ـ إذا دعوا اليه ـ على بذل الأنفس في سبيل الله فرحين مستبشرين بلقاء الله وثوابه ، أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فقد كانوا أشد الناس كراهية للجهاد والقتال ، وإذا نزلت فيه آية انهارت أعصابهم من الخوف ، ونظروا الى النبي (ص) نظرة الحنق والهلع تماما كالذي ينظر الى الموت وهو نازل به (فَأَوْلى لَهُمْ) قال كثير من المفسرين : معناه الويل لهم أي الموت والهلاك ، ويتفق هذا مع سياق الآية.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). هذه جملة مستأنفة ، ومعناها طاعة الله وقول يقبله الرسول من «المنافقين» خير لهم من شحن الصدور بالغيظ والنفاق ، والنظر إلى الرسول بحقد وخوف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ). لو ان المنافقين أخلصوا لله واستجابوا لدعوة الرسول حين واجهوا الأمر الواقع


بإعلان الجهاد ، وأصبح فرضا لازما ، لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم دنيا وآخرة ، ولكنهم أبوا إلا الفساد والضلال.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ). أظهرتم الإسلام أيها المنافقون كرها له وخوفا من قوته وسلطانه .. ولعلكم لو ملكتم القوة والسلطان لملأتم الأرض فسادا بعبادة الأصنام وسفك الدماء ونهب الأموال وقطع الأرحام (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) بالبعد عن رحمته (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ). لما تصاموا عن نداء الحق ، وتعاموا عن رؤيته أصم الله أسماعهم وأعمى أبصارهم ، وبكلمة سلكوا طريق الهلاك مختارين فأهلكهم الله. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠١ هود.

أفلا يتدبرون القرآن الآية ٢٤ ـ ٣١ :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))


اللغة :

يتدبرون القرآن يتفكرون فيه ويتفهمون معانيه. وسوّل زين. وأملى طوّل لهم الأماني والآمال. والسيماء العلامة. ولحن القول فحواه ومغزاه.

الإعراب :

أم على قلوب «أم» منقطعة ومثلها أم حسب. الشيطان مبتدأ وجملة سول خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر ان الذين ارتدوا. فكيف خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم. ان لن «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انه لن. فلعرفتهم عطف على لأريناكهم واللام في لعرفتهم واقعة في جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد. واللام في لنعرفنهم في جواب قسم محذوف.

المعنى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها). ضمير يتدبرون يعود الى المنافقين ، لأن هذه الآيات والتي قبلها تتحدث عنهم .. وكل ما جاء في القرآن من الدلائل في خلق السموات والأرض على وجود الخالق ، ومن الحجج البالغة على البعث ونبوة محمد (ص) ، وعلى قبح الشرك والظلم والفساد في الأرض ، كل ذلك وما اليه من العبر والعظات ظاهر الدلالة واضح المعنى ، لا غموض فيه ولا تعقيد ، بالاضافة الى ما يستثيره أسلوب القرآن في قلب القارئ والسامع من الخشوع والاحساس ـ اذن ـ فما بال الكافرين والمنافقين لم يتأثروا بهذا المعجز؟ هل فقدوا الأسماع والأبصار ، أم استغلقت على أفئدتهم أقفال العمى والرين؟.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ). المرتد من آمن بالحق ثم كفر به ، وفي حكمه من عرف الحق بالدليل القاطع ولكن جحده لهوى في نفسه .. هو في حكم المرتد لأن علمه بالحق بمنزلة الايمان به ، وكراهيته له تماما كالارتداد عنه ، أما من أضمر الكفر وأظهر


الايمان فهو منافق ومرتدّ أيضا ، منافق لأنه أظهر خلاف ما أضمر ، ومرتد لأنه يعامل في الدنيا معاملة المؤمنين ، وفي الآخرة معاملة الكافرين ، فكأنه مؤمن ومرتد في آن واحد .. ولفظ الآية يتناول الأصناف الثلاثة لأن الدلائل الظاهرة التي قامت على التوحيد والبعث ونبوة محمد (ص) هي الحجة عليهم التي أرادها الله بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) ولكن الشيطان أغراهم بالنفاق والارتداد عن الحق ومعاندته ، ووعدهم المواعيد الكاذبة ، ووسوس لهم بتحقيق الأماني والآمال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ). ضمير قالوا للمنافقين ، والمراد بالذين كرهوا ما نزل الله اليهود الذين جاوروا الرسول (ص) لأن اليهود أشد الناس كراهية لكل ما أنزل وبخاصة القرآن ، والمعنى ان المنافقين قالوا لليهود : نحن معكم على محمد ونشارككم في عدائه ، ولكن ظروفنا الخاصة لا تسمح لنا بإعلان الكفر به ونصب العداء له ، فدعونا نتظاهر بالإسلام ونطيعكم في الكيد له والتآمر عليه (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي إسرار الطرفين اليهود والمنافقين لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ). تهربوا من الجهاد خوف القتل فهل يتهربون من الموت وضرباته ، والبعث وأهواله؟. (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) يعذبهم الله سبحانه عند الموت وبعده أيضا لأنهم آثروا سخطه على رضوانه (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) فلا تجديهم شيئا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أضمر المنافقون الحقد والعداء للنبي (ص) والصحابة ، وأظهروا لهم الحب والولاء ، وظنوا ان الله سبحانه لن يظهر ما تخفي صدورهم وتكن ضمائرهم من الكفر والأحقاد.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ). قوله تعالى : لأريناكهم أي لعرفناك بهم ، وقوله : فلعرفتهم بسيماهم معناه متى عرفناك نحن بهم عرفتهم أنت بالعلامات الفارقة ، والغرض من هذا التفريع الذي يشبه التكرار هو التأكيد بأن النبي لا يغيب عنه شيء يخبره الله به ، أما غير النبي فيجوز أن يخطئ في فهمه .. ويدل ظاهر الآية على أنها نزلت قبل أن يعرف النبي (ص) المنافقين لأن «لو» للامتناع ، ولكن النبي (ص) قد عرف المنافقين بعد ذلك لقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي


لَحْنِ الْقَوْلِ). ولحن القول فحواه ومغزاه ، كالاعتذارات الكاذبة التي كان يعتذر بها المنافقون ، ونيلهم من الأخيار ، وثنائهم على الأشرار ، وغير ذلك من فلتات اللسان التي تعكس الرياء والنفاق. وعن أنس : لم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله (ص). وأيضا كان النبي (ص) يعرف المنافقين بأفعالهم ، فلقد كانوا يتهربون من الجهاد ، ويتثاقلون عند البذل في سبيل الله.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ). هذا تهديد لكل من يظهر الخير ، ويضمر الشر (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ). الله يعلم المجاهدين والصابرين قبل أن يختبرهم ، ولكنه يعامل الناس معاملة المختبر بالأمر والنهي ليظهر علمه للعيان ويتميز الخبيث من الطيب بالأفعال التي يستحق عليها الثواب والعقاب ، ويأخذ عباده بالحجة كما هو شأن العادل الحكيم. وفي نهج البلاغة : ان الله استنصركم وله جنود السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد ... أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره.

ولا تبطلوا أعمالكم الآية ٣٢ ـ ٣٨ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ


وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

اللغة :

شاقوا خالفوا وعاندوا. يتركم من وتره إذا نقصه : والمراد ان الله لا يظلمكم أعمالكم. فيحفكم من الإحفاء ، وهو الإلحاح في السؤال.

الإعراب :

فلن يغفر الله لهم خبر ان الذين كفروا. وتدعوا عطف على فلا تهنوا. والأعلون جمع الأعلى. ها أنتم «ها» للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء بدل منه وجملة تدعون خبر. فمنكم من يبخل «من» اسم موصول مبتدأ. ومن يبخل «من» اسم شرط. ويبخل عن نفسه أي يمسك عن نفسه ، ولذا عدي الفعل بعن لا بعلى.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ). دعا الرسول الأعظم (ص) الى الإسلام بالدلائل والبينات ، فكفر به أرباب المصالح والأهداف ، ومنعوا الناس عنه بالقوة والمال والدعايات الكاذبة ، ولكن الله قد أعز نبيه وأظهر دينه ، وأبطل عمل الخائنين ..


وحتى اليوم يعاني الإسلام والمسلمون الكثير من قوى الشر ، وأخطرها بعض الدول والهياكل التي تحمل اسم الإسلام وتتعاون مع أعدى أعدائه الاستعمار والصهيونية ، وقد آن للمسلمين أن ينفضوا عنهم غبار الحقد والشقاق ، ويتحدوا ضد عدوهم المشترك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله والرسول واليوم الآخر (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي اعملوا بوحي من ايمانكم ، فقوله تعالى : أطيعوا الله بعد قوله : يا أيها الذين آمنوا مثل قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) ١١٠ الكهف. (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالشرك والنفاق ولا بالمن والأذى ولا بالسيئات اللاتي يذهبن بالحسنات. قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وفي الحديث : «لا يقبل عمل إلا بالتقوى».

وقال الإمام علي (ع) : كونوا على قبول العمل أشد عناية منكم على العمل.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) في الآخرة لأن الله سبحانه يحشر الإنسان على ما مات عليه ، ويحاسبه حسبما يختم به حياته من الكفر أو الايمان. وتقدم مثله في الآية ١٦١ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٤٨ والآية ٩١ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٦.

القرآن وسياسة الحرب :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ). لقد أثبتت الحوادث ان من وهن أمام عدوه وتهيب سطوته ، وخاف مجابهته فقد زوده بالسلاح الذي يقتله به ويخضعه لأمره ، قال الإمام علي (ع) : قرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان. أنظر ج ٦ ص ٢٤٠ فقرة «الحرب النفسية». والسياسة الحكيمة في الحرب عند قادتها وأهل الاختصاص ان لا ينهار الإنسان أمام عدوه ، وأيضا أن لا يستهين بقوته ، بل يعد له العدة ويجابهه بثبات مستهينا بكل ما يصيبه من مشاق وآلام ، وقد رسم القرآن الكريم هذه السياسة بقوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي لا تنهاروا أمام أعدائكم وتستسلموا لقوتهم وطغيانهم ، وبقوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ـ ٦٠


الأنفال أي لا تستهينوا بقوتهم واحشدوا لحربهم كل ما تملكون من طاقات بشرية واقتصادية.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إذا كنتم صفا واحدا ، ويدا واحدة على عدو الله وعدوكم وإلا فشلتم وذهبت ريحكم كما نصت الآية ٤٦ من سورة الأنفال (وَاللهُ مَعَكُمْ) إذا لبيتم دعوته إلى الجهاد بالنفس والنفيس لتكون كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى ، أما من يؤثر الدعة والراحة ، ويستسلم للهوان وقوى الضلال والفساد فإن الله يتخلى عنه ، ويكله لمن استسلم له (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ). من أصيب بنفسه أو أهله أو ماله من أجل الدين أو الوطن أو أي حق كان ـ فإن تضحيته هذه لن تذهب سدى ، بل هي عز للدين وللوطن في الحياة الدنيا ، وذخر له في الآخرة عند الله.

وتسأل : ان قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يدل بصراحة على ان للقوي أن يبطش بعدوه الضعيف ، ولا يكترث بسلم ولا رحمة. وليس من شك ان هذا يناقض الانسانية والعدالة ، ولا يتفق مع قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ـ ٢٠٨ البقرة.

الجواب : ان قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) معناه إذا بليتم بعدو متوحش شرس لا يقيم وزنا للحق والعدالة ، ولا يلتزم بقانون ولا بميثاق ، ولا يفهم إلا بلغة العنف والقوة ، إذا بليتم بهذا العدو فاصمدوا له ولا تهابوه وابطشوا به ، ولا تأخذكم في الحق رأفة ولا هوادة ، فان القضاء عليه قضاء على الشر ، وخير للانسانية جمعاء.

ومن غريب الصدف أن أكتب هذه الكلمات في اليوم (١) الذي أغارت فيه إسرائيل بطائرات الفانتوم الأمريكية وقذائفها ـ على مدرسة بحر البقر الابتدائية بالجمهورية العربية المتحدة ، وقتلت ٤٧ طفلا تتراوح سنهم بين السادسة والثانية عشرة ، ما عدا الجرحى.

والولايات المتحدة الأمريكية هي المسئولة عن قتل وجرح أولئك الصغار ،

__________________

(١). ٨ نيسان سنة ١٩٧٠.


وعن الغارة المماثلة على معمل أبي زعبل الأهلي التي راح ضحيتها ٣٣ عاملا بين قتيل وجريح ، هي المسئولة عن جرائم إسرائيل حيث أمدتها بالسلاح والمال ، وأمرتها أن تفعل في البلاد العربية ما تفعله هي في فيتنام .. فقد نقلت الصحف والاذاعات ان جنود الولايات المتحدة قتلوا أهل قرية بأكملهم في فيتنام ، ولم ينج منهم طفل ولا امرأة ، وما كان لهذه القرية ولا لمدرسة الأطفال أي شأن في الحرب .. فهل يجدي السلم شيئا مع هؤلاء السفاكين؟ اللهم إلا إذا كان معنى السلم الاستسلام للجور والطغيان.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لمن ركن اليها ، وخدع بأباطيلها بل هي شر على من أثار الحروب من أجلها ، وهي دار خير لمن اتعظ بها ، وتزود منها لآخرته (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ). وعطف التقوى على الايمان يدل على ان مجرد الاعتراف والتصديق لا أجر عليه عند الله ، بل لا بد من العمل مع الايمان ، وأوضح من هذه الآية في الدلالة على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ـ ٣٠ الكهف.

(وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) لا يسألكم أموالكم أي لا يطلب منكم أن تخرجوا من جميع أموالكم ، ولا أن تبذلوا الكثير منها الذي يضر بكم .. ويحفكم أي يلح عليكم ويجهدكم ، ومعنى الآية بمجموعها ان الله سبحانه جعل للفقراء نصيبا في أموال الأغنياء ، وراعى في تقدير هذا النصيب وتحديده مصلحة المحتاجين بما يسد خلتهم ، ومصلحة الباذلين بما لا يضر بهم ، ولا يمس بحاجة من حاجاتهم الضرورية ، ولو ان الله جلت حكمته سأل الأغنياء أكثر من هذا النصيب وألح عليهم في بذله لأمسكوا وحقدوا على الإسلام ونبي الإسلام.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بسبيل الله الجهاد .. والصحيح انه يشمل كل ما فيه لله رضا ، وللناس صلاح بجهة من الجهات (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ). بخل الشحيح بحق الله ، وادخره لنفسه عند حاجتها ، فجاءت النتيجة على العكس مما


أراد ، حيث عرّض نفسه لغضب الله وعذابه ، وحرمها من رضوانه وثوابه. أنظر فقرة «المال هو المحك» ج ٢ ص ١٠٧.

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى فضله ورحمته ، وما استغنى عبد من عباده إلا بسبب منه تعالى ، أما هو فغني بالذات لا باستفادة ، وفاعل لا بآلة ، ومقدر لا بفكرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ). ان تعرضوا عن دعوة الله ، وتصروا على التمرد والعصيان يذهبكم ويأت بخلق جديد يسبّحون بحمده ولا يعصون له أمرا. وتقدم مثله في الآية ١٩ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٦ والآية ١٦ من سورة فاطر.


سورة الفتح

٢٩ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انا فتحنا الك الآية ١ ـ ٥ :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

المعنى :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). للفتح معان ، والمراد به هنا النصر لأنه أول ما يتبادر إلى الافهام ، ولأن النبي (ص) قال : نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، ثم تلا : إنا فتحنا لك فتحا مبينا. وعليه يكون المعنى إنا


نصرناك يا محمد نصرا ظاهرا ، واختلف المفسرون في نوع هذا النصر وتحديده على أقوال أنهاها الطبرسي إلى أربعة والرازي إلى خمسة. وأكثر المفسرين أو الكثير منهم على ان المراد بالنصر هنا صلح الحديبية لأن هذه السورة نزلت بعد الهدنة التي عقدها النبي (ص) مع أهل مكة في الحديبية .. ومع هذا فأرجح الأقوال عندنا ان المراد بالنصر هنا إعلاء كلمة الإسلام وقوة المسلمين ، وخذلان أعدائه المنافقين والمشركين ، لأن الفتح في الآية مطلق غير مقيد بصلح الحديبية أو بفتح مكة أو النصر على الروم والفرس أو غير ذلك ، وعليه تكون هذه الآية مرادفة للآية ٣٣ من سورة التوبة : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). وبكلمة واحدة المراد بالنصر الجنس لا الفرد.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). وتسأل : متى أذنب النبي حتى يصفح الله عن ذنبه؟ وما هو ذنبه المتقدم والمتأخر؟ وأين عصمة الأنبياء الرادعة عن الذنب؟ وكيف يكون الفتح سببا للمغفرة؟ وما هي العلاقة بينهما؟.

الجواب : ليس المراد بالذنب هنا ذنب الرسول حقيقة وواقعا ، كيف وهو معصوم عن الخطيئة والخطأ؟ وإنما المراد ان المشركين كانوا يعتقدون بأن النبي مذنب في دعوته الى التوحيد ونبذ الشرك وفي محاربته الأوضاع السائدة والتقاليد الموروثة ، أما المغفرة فالمراد بها ان هؤلاء المشركين اكتشفوا مؤخرا ومع الأيام والأحداث ان محمدا (ص) بريء من كل ذنب ؛ وانه رسول الله حقا وصدقا ، وانهم كانوا هم المذنبين في اتهامه والطعن برسالته .. وتوضيح ذلك ان الرسول الأعظم (ص) دعا الى التوحيد وندد بالأصنام وأهلها ، وحارب الظلم والاستغلال ، وما إلى ذلك من مفاسد الجاهلية وتقاليدها .. وأي شيء أعظم ذنبا وجرما ـ عند الجاهلي وغيره ـ من الطعن بمقدساته الدينية وعادات آبائه وأجداده التي هي جزء من طبيعته وكيانه ، ولكن بعد أن أظهر الله دينه ونصر نبيه بالدلائل والبينات ودخل الناس في دين الله أفواجا ، ومنهم المشركون الذين كانوا ينظرون الى النبي (ص) نظرتهم الى من تجرم عليهم وعلى آلهتهم وآبائهم ، بعد هذا كله تبين لهم ان محمدا هو المحق ، وانهم هم المخطئون.


والخلاصة ان المراد بذنب الرسول ذنبه في زعم أعدائه المشركين لا ذنبه في الواقع ، والمراد بالمغفرة مغفرتهم له هذا الذنب المزعوم أي توبتهم مما كانوا يظنون بنبي الرحمة ، أما نسبة الذنب الى الرسول في ظاهر الكلام ، ونسبة المغفرة الى الله ، أما هذه فأمرها سهل لأن المجاز يتسع لها ولأكثر منها .. أما وجه الصلة بين الفتح وهذه المغفرة فواضح لأن الفتح هو السبب الموجب للكشف عن صدق الرسول وبراءته من الذنب المزعوم الذي رماه به المشركون من قبل الفتح.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بانتصارك على أعداء الله وأعدائك وبعلو شأنك دنيا وآخرة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الشريعة الإلهية التي تضمن للناس خيرهم وصلاحهم في كل زمان ومكان (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً). والنصر العزيز هو الذي يكون بالحق وللحق ، وبالجهاد المشروع لا بالغدر والمؤامرات ، ولا بمساندة أهل البغي والانقلابات.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ). المراد بالسكينة هنا الرضا والاطمئنان عن وعي ، لأن الحوادث علمتنا بأن اطمئنان الجاهل ينتهي به الى أسوأ العواقب ، والمعنى ان الله أعز دينه ونصر نبيه ليفرح المؤمنون وتطمئن قلوبهم ويزدادوا يقينا بربهم ، وثقة بنبيهم ، وقوة في دينهم. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). هذا كناية عن عظمة الله في قدرته وإلا فهو غني عن العالمين لأنه يقول للشيء : كن فيكون. وفيه إيماء الى أنه لو شاء سبحانه لأهلك المشركين من غير جهاد وقتال ، ولكن ليبلو عباده أيهم أحسن عملا (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) في خلقه وتدبيره.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً). قال الطبري : حين نزل قوله تعالى : انا فتحنا لك فتحا مبينا الخ. قال المؤمنون لرسول الله (ص) : هنيئا لك يا رسول الله ، فلقد بيّن الله لك ما ذا يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا نحن؟ فنزل قوله : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات الخ. وليس من شك ـ وان لم تصح هذه الرواية ـ ان الله يكفر سيئات التائبين ويدخل المؤمنين في رحمته وجنته ، ومن دخل الجنة فقد فاز بالسهم الأوفر.


ويعذب المنافقين الآية ٦ ـ ٩ :

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

اللغة :

الدائرة ما تحيط بالشيء. والسوء الشر. والمراد بتعزروه هنا تنصروه ، وبتوقروه تعظموه. وبكرة وأصيلا صباحا ومساء.

الإعراب :

الظانين صفة لأهل الشرك والنفاق. وظن السوء مفعول مطلق لظانين. ومصيرا تمييز. وشاهدا حال. وبكرة وأصيلا مفعول فيه أي تسبحوه في الصباح والمساء.

المعنى :

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً). السوء القبح والشر والفساد ، وظن السوء وسوء الظن بمعنى واحد ، والمراد هنا بظن السوء بالله تعالى الظن بأنه ، جلت حكمته ، لن يبعث من في القبور ،


ولن ينصر الإسلام ونبي الإسلام ، وما إلى ذلك من ظنون المنافقين والمشركين .. ومعنى الآية بمجملها ان الله كما أعد لأهل الايمان جنات النعيم فقد أعد أيضا للذين أساءوا به الظن كأهل النفاق والشرك ، أعد لهم الشر يحيط بهم من كل جانب ، والغضب واللعنة وسوء المصير ، نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). ذكر سبحانه هذه الآية حين أشار إلى أهل الايمان وثوابهم في الآية السابقة ، وذكرها هنا وهو يشير إلى أهل النفاق والشرك ، والقصد من التكرار التنبيه إلى انه تعالى قادر على الإنعام والانتقام كي يعمل العبد بطاعة الله أملا بثوابه ، ويبتعد عن معصيته خوفا من عذابه (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً). يشهد غدا الرسول الأعظم (ص) بين يدي الله تعالى انه قد بلّغ العباد ما أوحى به اليه ، وبشّر الطائع بالنجاة ، وحذر العاصي من الهلاك. وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد في سورة الأحزاب الآية ٤٥ ج ٦ ص ٢٢٨.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). الهاء في تعزروه وتوقروه راجعة إلى دين الله ، وقيل : إلى رسول الله .. والمعنى واحد ، والهاء في تسبحوه إلى الله بالذات ، والمراد بالتسبيح في الغدو والعشي الصلوات الخمس. والمعنى ان الله أرسل محمدا إلى الخلائق ليؤمنوا بالله ورسالة محمد (ص) وينتصروا لدين الله بالذب عنه والجهاد في سبيله ، وليحترموا أحكام الله بطاعتها والعمل بها ، ويحافظوا على الصلوات الخمس.

بيعة الرضوان تحت الشجرة الآية ١٠ ـ ١٤ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا


فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

اللغة :

المخلفون جمع مخلف ، وهو المتروك ، والخالفون القاعدون. والعربي عام والاعرابي خاص بمن يسكن البادية. وبورا هلكى.

الإعراب :

جملة انما يبايعون الله خبر ان الذين. ويد الله فوق أيديهم مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان لإن الذين الخ. أجرا مفعول ثان لسيؤتيه لأن الفعل هنا بمعنى يعطيه. وشيئا مفعول مطلق ليملك أي شيئا من الملك. وان لن «ان» مخففة واسمها محذوف أي انه. وأبدا ظرف زمان للتأكيد في المستقبل نفيا مثل لا أفعله أبدا أو اثباتا مثل افعله أبدا.

خلاصة القصة :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ


عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). تشير هذه الآية الكريمة الى بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وهذه حكايتها :

في سنة ست للهجرة كان المشركون هم المسيطرين على مكة والبيت الحرام ، وفي أواخر هذه السنة خرج رسول الله (ص) من المدينة المنورة مع ألف وأربعمائة من المسلمين قاصدين مكة المكرمة يريدون العمرة ، ولا يفكرون في حرب. ولما بلغوا مكانا يسمى الحديبية علم أبو سفيان بمقدمهم ، فجمع قريشا وقرروا مجمعين أن يمنعوا الرسول ومن معه ويصدوهم عن بيت الله الحرام بقوة السلاح ، وجمعوا الفرسان لذلك ، وجعلوا عليهم خالد بن الوليد ، ثم سعى السفراء بين النبي (ص) وبينهم ، وكان سفراء قريش يطلبون من النبي أن يعود الى المدينة ولا يدخل مكة ، ويجيبهم النبي بأننا لم نأت لقتال أحد ، وقد جئنا زائرين البيت الحرام ، ومن صدنا عنه قاتلناه.

وكان عروة بن مسعود أحد سفراء قريش الى رسول الله (ص) ، وقد رأى الصحابة يتفانون في حب الرسول ، فلا يتوضأ إلا ابتدروا وضوؤه ، ولا يبصق إلا أخذوا بصاقه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا تهالكوا عليه ، فعاد وهو في دهشة مما رأى ، وقال : «يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، واني ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، لقد رأيتهم لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم».

وأرسل رسول الله (ص) لقريش عثمان بن عفان لأنه قريب أبي سفيان ، وقال له : أخبرهم انّا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت معظمين لحرمته ، ومعنا الهدي ننحره وننصرف .. ولما بلّغهم عثمان قالوا : لا كان هذا أبدا. وانقطعت أخبار عثمان ، وشاع انه قد قتل ، وحين بلغت هذه الشائعة مسامع النبي (ص) قال : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الى مبايعته ، وكان جالسا تحت شجرة هناك ، فأسرع أصحابه يبايعونه على الطاعة والموت في سبيل الله.

وقد وصف سبحانه هذه البيعة بأنها بيعته بالذات ، وانه قد أخذها بيده ، وان من نقضها ونكث بها فقد خان الله وتعرض لغضبه وسطوته ، وان من وفى بها ولم ينقض الميثاق فإن له عند ربه لزلفى وحسن مآب ، وذلك حيث يقول


عز من قائل : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). وقد اشتهرت هذه البيعة ببيعة الرضوان ، وأيضا يطلق عليها بيعة الشجرة ، وبيعة الرضوان تحت الشجرة لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ـ ١٨ الفتح.

ولما رأت قريش ما رأت من صلابة الرسول (ص) رضخت للصلح ، وتم الاتفاق على أن لا يدخل المسلمون مكة هذا العام حتى إذا كان العام القادم دخلوها معتمرين ، وأقاموا فيها ثلاثة أيام لا يحملون من السلاح إلا السيوف في أغمادها. ودعا الرسول (ص) علي بن أبي طالب ، وقال له : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فاعترض مندوب قريش وقال: اكتب باسمك اللهم ، فقبل النبي وكتب علي ، ثم قال النبي : اكتب هذا ما صالح محمد رسول الله ، فاعترض مندوب قريش وقال : اكتب اسمك واسم أبيك ، فقبل النبي وتلكأ علي ، فقال له النبي (ص) : ولك مثلها وأنت مضطهد. يشير بذلك إلى مسألة الحكمين في صفين ، وهذا من علم الغيب الذي أوحى الله به إلى نبيه الكريم وهو من أقوى الدلائل على نبوته وصدقه في رسالته.

ولما وقّع الطرفان وثيقة الصلح تحلل النبي (ص) والصحابة من إحرامهم ، ونحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم ، ومكثوا أياما بالحديبية ، ثم انصرفوا إلى المدينة ، وفي السنة التالية توجه النبي والصحابة إلى مكة معتمرين ، ودخلوها وهم يهللون ويكبرون وينادون : لا إله إلا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وخذل الأحزاب وحده. وأقاموا بمكة ثلاثة أيام يطوفون وينحرون ، وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء لأنها مكان العمرة التي منعهم منها المشركون ، وفيها نزل قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) ـ ٢٧ الفتح.

المخلفون من الأعراب :

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا). حين


أراد النبي (ص) الخروج إلى مكة عام الحديبية استنفر المسلمين وحثهم على السفر معه ، فامتنع قوم من الأعراب المنتشرين حول المدينة وآخرون من المنافقين ، امتنعوا وأبوا الخروج مع رسول الله (ص) ظنا منهم ان قريشا لن تدع محمدا يدخل مكة أو تهلك ، وقال بعضهم لبعض : ما لنا وللتعرض لهذه الأخطار؟. وبعد أن تم الصلح على ما ذكرنا قال سبحانه لنبيه الكريم : إذا رجعت يا محمد إلى المدينة اعتذر الذين تخلفوا عنك بأن تدبير أهلهم وأموالهم هو الذي منعهم من صحبتك ، ويطلبون منك كذبا ونفاقا أن تصفح عنهم ، وتطلب من الله أن يرضى عنهم ويعفو عما سلف ، وقد كذبهم سبحانه بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) كما هو شأن المنافقين في كل زمان ومكان.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً). أتكذبون على الله وهو يعلم سركم وجهركم ، وبيده خيركم وشركم ، ومن الذي يرد أمره عنكم خيرا كان أم شرا؟ (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وأيضا يخبر به نبيه الكريم ويقول له : انكم تظهرون غير ما تضمرون (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ). تخلفتم عن النبي ظنا منكم بأن الله لن ينصر النبي والذين آمنوا معه وان الغلبة ستكون لأعداء الله على أوليائه (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ). ظننتم ان المسلمين ذاهبون إلى الموت لا محالة ، ولا سند لهذا الظن إلا وسوسة الشيطان بأن الله لن يعز دينه وينصر نبيه ، ولا يلطف بمن آمن به وأخلص له (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هلكى ، وكل من أسلم زمامه للشيطان قاده إلى الهلاك.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) خالدين فيها لا يجدون وليا ولا نصيرا (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا مالك غيره ، ولا حول ولا قوة إلا به ، فمن أخلص له واتكل عليه فهو كافيه ، ومن التجأ إلى غيره أو كله اليه (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ممن يستحق المغفرة لأن الله حكيم ويستحيل أن يغفر لمن يسفك الدماء ظلما ، ويهدم المدارس على الأطفال الصغار ، ويسلب الجائعين أقواتهم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن يستحق العذاب ، وما ربك بظلام للعبيد (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) بمن يرحم نفسه وغيره ، وإلا فمن لا يرحم لا يرحم (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).


ذرونا نتبعكم الآية ١٥ ـ ١٧ :

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

اللغة :

مغانم اسم مكان أو زمان الغنيمة ، والمراد بها هنا كسب المال بالغزو. والبأس القوة والشجاعة. والحرج الضيق والمراد به هنا الإثم.

الإعراب :

مغانم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل. والمصدر من لتأخذوها متعلق بانطلقتم. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي فقها قليلا. أو يسلمون عطف على تقاتلونهم.


المعنى :

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ). هؤلاء المخلفون هم الذين أبوا الخروج مع النبي (ص) حين توجه الى مكة في أواخر سنة ست للهجرة ، وهم الذين عناهم الله بقوله في الآية السابقة. (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) الخ ... لقد رغب النبي اليهم في المسير معه ، فخافوا من قريش وقالوا : أموالنا وأهلنا ، وبعد أن رجع النبي من الحديبية مكث في المدينة الى أوائل سنة سبع ، ثم خرج غازيا الى خيبر ، وكان فيها مغانم كثيرة ، تحركت لها شهوة المخلفين ، فقالوا للنبي والمؤمنين : خذونا معكم الى تلك المكاسب والمغانم! ... عرضوا أنفسهم هنا للخروج ، وبالأمس دعوا اليه فتذرعوا بمشاغل الأهل والأموال خوفا من الجهاد والقتال ... وهذا منطق من أسرته المطامع ولا يتحرك إلا بوحي منها.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ). ضمير يريدون ويبدلوا يعود الى المخلفين ، والمراد بكلام الله هنا وعده تعالى بحرمان المخلفين من المغانم التي أشار اليها سبحانه بقوله : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها). ولكن الله ، جلت حكمته ، لم يبين لنا ما هي هذه المغانم؟ هل هي مغانم خيبر أو غيرها؟. ومع هذا قال المفسرون : ان الله سبحانه وعد أهل بيعة الرضوان بالحديبية ، وعدهم أن تكون مغانم خيبر مختصة بهم دون غيرهم. وقال الرازي : هذا هو الأشهر عند المفسرين ، وقال المراغي : «وفيه أخبار صحيحة» ... وليس هذا ببعيد لأن غزوة خيبر كانت الأولى بعد صلح الحديبية.

ومهما يكن فإن الله سبحانه أمر نبيه الكريم أن يقول للمخلفين : (لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى أخذ المغانم لأنكم رفضتم اتباعنا إلى مكة خوفا من القتل (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) فهو الذي أخبرنا بأنه لا نصيب لكم في المغانم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) كلا ... ان الله لم يحرمنا من الغنائم ، ولكن أنتم الذين حرمتمونا حسدا لنا وبغيا علينا (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً). هذا رد منه تعالى على قولهم : (تَحْسُدُونَنا) ومعناه كلا ، ليس الأمر كما زعمتم ، وإنما هو جهلكم ومعصيتكم لأكثر أحكام الله.


(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) وهم الذين أبوا الخروج مع رسول الله (ص) إلى مكة (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). والداعي هو رسول الله (ص) فإنه دعاهم بعد غزوة خيبر إلى غزوة حنين والطائف وتبوك (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي ان الأشداء الذين ستدعون إلى قتالهم يخيرهم الرسول بين أمرين : إما السيف وإما الإسلام ، فهل تلبون دعوة الرسول أو تنكصون على أعقابكم كما فعلتم من قبل؟. وبكلام آخر ان صمودكم في قتال اولي البأس الشديد هو المحك لصدقكم ، وليس أخذ الغنائم (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة ، أو الجنة وعلو المنزلة عند الله لمن يقتل منكم في سبيله.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) وأي عذاب أشد ألما من عذاب جهنم؟ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ). لا إثم على هؤلاء الأصناف. الثلاثة إذا تخلفوا عن الجهاد من أجل الدعوة الى الإسلام ، أما الجهاد لدفاع العدو وردعه عن الاعتداء فهو حتم على الجميع رجالا ونساء وصغارا مميزين وكبارا أصحاء وغير أصحاء ... من كل حسب طاقته (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً). المعنى واضح ، وهو الجنة لمن أطاع ، والنار لمن عصى ، وقد تكرر هذا المعنى في عشرات الآيات لمناسبة ذكر عمل الخير والشر ، وللتنبيه بأن الله عادل وحكيم ، وان الإنسان لن يترك سدى ، وانه سيلقى الله بأعماله ، وانها هي وحدها موضوع الحساب ومقياس الجزاء.

اذ يبايعونك تحت الشجرة الآية ١٨ ـ ٢٤ :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً


تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

الإعراب :

إذ في محل نصب برضي. ومغانم كثيرة مفعول لفعل محذوف أي وأثابهم مغانم. ولتكون عطف على محذوف أي لتشكروا الله ولتكون ، واسم لتكون ضمير مستتر يعود الى هذه. وأخرى صفة لمفعول محذوف وهو مغانم ، والتقدير وعدكم الله مغانم أخرى. وسنة الله نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة.

المعنى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). يشير سبحانه بهذا إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وانه راض عنها وعن أهلها. وسبق الكلام عن هذه البيعة عند تفسير الآية ١٠ من هذه السورة بعنوان «خلاصة القصة». فراجع. (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها). الضمير في قلوبهم يعود إلى أهل بيعة الرضوان ، وقد امتلأت قلوبهم


بالصدق والإخلاص لله ورسوله ، والمراد بالسكينة الراحة والاطمئنان ، وبالفتح القريب صلح الحديبية حيث كان من آثاره دخول المسلمين مكة معتمرين على كره من قريش ، وفي رواية ان عمر بن الخطاب سأل النبي (ص) : أفتح هو يا رسول الله؟ قال : نعم. أما المغانم الكثيرة فقال المفسرون أو أكثرهم : ان المراد بها مغانم خيبر لأنها اشتهرت بكثرة الأموال والعقار ... والأرجح انها كل غنيمة حصل عليها أهل بيعة الرضوان لأن الله سبحانه أطلق كلمة الغنائم ولم يقرنها بشيء خاص ، وخلاصة المعنى ان الله سبحانه منّ على أهل بيعة الرضوان بالطمأنينة وصلح الحديبية وبنعم كثيرة لأنه قد علم منهم الإخلاص في دينهم والصدق في عزمهم على الجهاد في سبيله تعالى (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). وكل نجاح ناله المسلمون ودفع بهم إلى الأمام فهو أثر من آثار عزة الله وقدرته ، وتدبيره وحكمته.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها). المغانم الكثيرة هنا كل ما غنمه المسلمون في عهد الرسول (ص) وبعده ، وعليه يكون الفرق بين المغانم المذكورة في الآية السابقة والمغانم المذكورة في هذه الآية ـ ان الأولى تختص بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة ، والثانية لجميع المسلمين في كل زمان ومكان (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) الاشارة بهذه الى حادثة صلح الحديبية لأن هذا الصلح هو الذي عجله الله للمسلمين ، أما مغانم خيبر فقد كانت بعد هذا الصلح ، ولولا كلمة «هذه» لقلنا : المعجل الصلح ومغانم خيبر معا.

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ). قال الطبري : اختلف أهل التأويل في المراد بهؤلاء الناس. فقيل : انهم اليهود. وقال آخرون : انهم قريش ... وفي رأينا ان المراد بهم أعداء الإسلام والمسلمين الذين حاولوا القضاء عليه وعليهم ، وما منعهم إلا الضعف والعجز (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). في تكون ضمير يعود إلى حادثة صلح الحديبية ، وقد جعلها الله علامة للمؤمنين على انه معهم وناصرهم على أعدائهم ... ولم تمض الأيام حتى تبين للمؤمنين ان صلح الحديبية كان خيرا لهم وشرا على المشركين (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) الى كل ما يعود عليكم بالنفع دنيا وآخرة.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها). أخرى صفة لمغانم محذوفة ،


والمعنى ان الله وعدكم مغانم تقدرون الآن على أخذها ، وأيضا وعدكم مغانم أخرى تعجزون الآن عن أخذها ، ولكن الله تعالى قد حفظها لكم ، ولا بد أن تأخذوها في المستقبل القريب أو البعيد (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فلا يعجز أن يهبكم من الغنائم فوق ما تتصورون وأكثر مما تأملون (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). كأنّ سائلا يسأل : من أين وكيف يغنم المسلمون أموال الكافرين ، هم أقوياء في عدتهم وعددهم ، ويستميتون في الدفاع عن أنفسهم؟ فأجاب سبحانه بأن الله مع المؤمنين ينصرهم ويدافع عنهم ، والله غالب على أمره. أما الكافرون فلا ملجأ لهم إلا السيف أو الفرار.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). من سنن الله تعالى فيمن مضى من أنبيائه الى خاتمهم محمد (ص) أن تكون لهم الغلبة على أعدائهم. وإذا سأل سائل ان هذا لا يتفق مع الآيات التي نصت بوضوح على أن اليهود كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ـ أحلناه الى الجواب المفصل في ج ٥ ص ٣٣١ وما بعدها.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً). ضمير هو يعود اليه تعالى ، وضمير أيديهم الى مشركي قريش. وقيل : ان المراد ببطن مكة الحديبية لأنها قريبة من مكة ، وقال آخرون : ان المراد داخل مكة .. وهذا هو المعنى المتبادر الى الافهام من كلمة «بطن» وعليه يكون المعنى انكم أيها المسلمون دخلتم مكة من كل أقطارها ظافرين منتصرين ، وخضعت لكم من غير حرب ، وهي عاصمة الشرك ومعقل المشركين ... وهذا من فضل الله ونعمه الكبرى عليكم ، لأنه هو الذي منعهم من قتالكم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، ومنعكم من قتالهم بالنهي عنه. وتجدر الاشارة الى أن صلح الحديبية كان في سنة ست ، وعمرة القضاء في سنة سبع ، وفتح مكة في سنة ثمان.


وصدوكم عن المسجد الحرام الآية ٢٥ ـ ٢٦ :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

اللغة :

الهدي ما يهدى الى بيت الله من الانعام. والمعكوف المحبوس. والمراد بتطؤوهم هنا تقتلوهم. والمراد بالمعرة هنا المساءة والمشقة. وتزيلوا تميزوا. والحمية الانفة.

الإعراب :

الهدي عطف على مفعول صدوكم أي وصدوا الهدي. ومعكوفا حال من الهدي. والمصدر من أن يبلغ مجرور بمن محذوفة أو منصوب بنزع الخافض. والمصدر من أن تطؤوهم بدل اشتمال من مفعول لم تعلموهم أي لم تعلموا وطأهم مثل : أعجبني زيد علمه ، أي أعجبني علم زيد. وحمية الجاهلية بدل من الحمية وأهلها عطف تفسير على أحق بها.


المعنى :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). قلنا عند تفسير الآية ١٠ من هذه السورة : ان المشركين منعوا الرسول (ص) والصحابة من زيارة المسجد الحرام سنة ست للهجرة ، وكان معهم سبعون ناقة ـ على ما قيل ـ ساقوها للنحر بمكة وهي التي عناها سبحانه بقوله : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ومعكوفا أي محبوسا للنحر ، ومحله أي محل نحره وهو مكة. وأيضا قلنا عند تفسير الآية ٢٤ : ان المسلمين فتحوا مكة من غير قتال سنة ثمان ، لأن الله ألقى الرعب من المسلمين في قلوب المشركين ... والآية التي نحن بصددها تشير الى هذا المعنى وتؤكد ان أهل مكة لم يسكتوا ويكفوا عن قتال النبي والصحابة حين دخلوا مكة ـ إلا خوفا من المسلمين ، والدليل على ذلك ـ كما صرحت الآية ـ ان هؤلاء المكيين هم الكافرون الذين منعوا المسلمين من زيارة المسجد الحرام ومن وصول الهدي الى مكة لينحر فيها. ويأكل منه البائس الفقير.

ثم أشار سبحانه الى بعض فوائد السلم والكف عن القتال في فتح مكة ، بقوله : ١ ـ (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ). حين دخل النبي (ص) مكة فاتحا كان فيها جماعة من المسلمين نساء ورجالا ولكنهم كانوا غير معروفين ولا متميزين عن المشركين لأنهم كتموا ايمانهم خوفا من أعداء الإسلام ، ولو دارت رحى الحرب لأصاب ضررها المسلم والكافر ... فربما قتل المسلم أخاه المسلم الذي يكتم إيمانه ، وهو يظن انه يقتل كافرا ، وفي ذلك ما فيه من المشقة على المسلمين بما يلزمهم من الكفارة ودية قتل الخطأ ، بالاضافة الى ان أعداء الدين يتخذون منه وسيلة للطعن والتشهير بأن المسلمين يقتل بعضهم بعضا.

٢ ـ (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). المراد بالرحمة هنا الإسلام ، والمعنى ان الله سبحانه كف الأيدي عن القتال في فتح مكة لأنه يعلم ان بعض أهلها المشركين سيهتدون ويسلمون ، وهذا ما حدث بالفعل (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً). أي لو تميز كل فريق عن الآخر ، وعرف المسلم من الكافر لأذن الله للمسلمين بقتال الكافرين ، وأنزل بهم أشد العذاب.


(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ). يشير سبحانه بالذين كفروا الى عتاة الشرك الذين منعوا النبي سنة ست للهجرة من زيارة المسجد الحرام ، لا لشيء إلا لأن قلوبهم مفعمة بالتعصب وأنفة الكبرياء ... وهذا وحده يستوجب الإذن بقتالهم وقتلهم ، ولكن الله سبحانه كف أيدي المسلمين عنهم حرصا على حياة من كتم إيمانه ومن سيدخل في الإسلام منهم بعد فتح مكة.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها). المراد بالسكينة هنا الرضا والصبر الجميل ، وبألزمهم أوجب على المؤمنين ، أما كلمة التقوى فقيل : ان المراد بها قول لا إله إلا الله ... والأرجح ان المراد بها العمل بالتقوى ، والمعنى ان النبي (ص) قبل صلح الحديبية على الرغم من كبرياء المشركين وعتوهم ، وكره هذا الصلح بعض الصحابة وأصروا على القتال ، ولكن الله سبحانه ألهمهم الصبر الجميل على غطرسة المشركين ، وأمرهم أن يقبلوا الصلح ويرضوا به فسمعوا وعملوا بما يوجبه الايمان والتقوى ، ولا بدع فإنهم أهلها وأولى الناس بالعمل بها ، فلقد جاهدوا وضحّوا بالكثير في سبيل الله ، وصبروا صبر الأحرار والأبرار (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). يعلم المتقين والمجرمين ، ويجزي كلا بما كسبوا وهم لا يظلمون.

رؤيا الرسول الآية ٢٧ ـ ٢٩ :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً


يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

اللغة :

الرؤيا ما يرى في المنام والجمع الرؤى. وسيماهم علامتهم. ومثلهم وصفهم. وشطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر ، والجمع أشطاء. فاستغلظ صار غليظا. واستوى استقام. وعلى سوقه على أصوله.

الإعراب :

قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط : صدق يتعدى الى مفعولين ، تقول صدقت زيدا الحديث ، وقد يتعدى الى الثاني بحرف جر فتقول : صدقته في الحديث. لتدخلن اللام واقعة في جواب قسم محذوف. وآمنين حال مقارنة. ومحلقين ومقصرين حال مقدرة أي الحلق والتقصير يقعان بعد الدخول. ومحمد مبتدأ ورسول الله صفة والذين معه عطف على محمد وأشداء خبر ورحماء خبر ثان. وركعا سجدا حال أي راكعين ساجدين لأن ترى هنا بصرية تتعدى الى مفعول واحد. وسيماهم في وجوههم مبتدأ وخبر ، ومن أثر السجود حال. وذلك مثلهم مبتدأ وخبر ، وفي التوراة حال. وكزرع متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي هم كائنون كزرع. وضمير آزره يعود الى الزرع. وجملة يعجب حال.


المعنى :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ). يدل ظاهر الآية والحديث المتواتر ان رسول الله (ص) رأى في منامه انه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وطافوا بالبيت العتيق كما يشاءون ، وقد حلق البعض رؤوسهم ، وقصر آخرون ، فأخبر النبي أصحابه بما رأى ، ففرحوا واستبشروا وظنوا انهم داخلو مكة في العام الذي كانت فيه الرؤيا ، وسار النبي (ص) بهم متجها الى مكة ، ولما بلغوا الحديبية صدهم المشركون ، وعاد المسلمون الى المدينة كما أسلفنا ... وهنا وجد المنافقون منفذا للطعن وقالوا : ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فأين تأويل الرؤيا؟. وذهلوا أو تجاهلوا ان النبي (ص) لم يعين وقت الدخول ، وقال قائل لرسول الله : ألم تقل : لتدخلن المسجد الحرام آمنين؟. قال : نعم ، ولكن لم أقل في هذا العام ، ولما كان العام القادم وهو السابع للهجرة دخل المسلمون مكة معتمرين ، وطافوا بالبيت كما يشاءون ، وحلق من حلق ، وقصر من قصر ، ومكثوا ثلاثة أيام رجعوا بعدها الى المدينة ، وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء ، وفيها نزل قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) حيث تحقق ما رآه الرسول وأخبر به.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا). لقد علم الله ان في تأجيل العمرة الى ما بعد صلح الحديبية مصلحة يجهلها المسلمون ، وهي تجنب القتال ، واسلام العديد من المشركين الذين صدوا الرسول والصحابة عن المسجد الحرام عام الحديبية (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). ذلك اشارة الى تأويل الرؤيا بدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين ، والمراد بالفتح صلح الحديبية ، أو هو وفتح خيبر ، والمعنى ان هذا الصلح والذي بعده أيضا بأيام وهو فتح خيبر ـ قد تحققا قبل تأويل الرؤيا ، وهما نصر كبير تماما كدخول المسجد الحرام (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). المراد بالرسول محمد (ص) وبالهدى ودين الحق الإسلام ، وقد ظهر وانتشر في شرق الأرض وغربها ، لأنه يدعو الى العمل من أجل حياة أفضل ، وينهى عن كل ما من شأنه أن يقف حجر عثرة في طريقها. وتقدم


مثله في الآية ٣٣ من سورة التوبة ج ٤ ص ٣٤ (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنه يظهر الإسلام على الدين كله.

الصحابة والقرآن :

حكى سبحانه في كتابه العزيز ان موسى بن عمران دعا بني إسرائيل الى القتال بأمر من الله ، فقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ـ ٢٤ المائدة. وأيضا حكى ، عظمت كلمته ، ان قوم السيد المسيح حاولوا قتله وصلبه ، وان حوارييه قالوا له : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)؟. ولما قال لهم نبيهم : (اتَّقُوا اللهَ). (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ـ ١١٣ المائدة. وأنزل جل وعز سورة خاصة في ذم المنافقين من أصحاب الرسول (ص) وغيرها عشرات الآيات ، وأيضا أنزل الكثير في المدح والثناء على المتقين الأبرار منهم ، من ذلك قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ـ ١٨ الفتح. وقوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ـ ١٠١ التوبة. وقوله :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) يجتمع المجرمون يدا واحدة على صيد الفريسة ، ثم يتناحرون على أكلها ... أما المخلصون فإنهم على نهج واحد لا تلون فيه ولا اختلاف على شيء ، اخوان في دين الله يتعاطفون ويتعاونون فيما بينهم تماما كالأسرة الواحدة ، وأعوان للحق وأهله ، وحرب على الباطل وحزبه ... وهذه هي بالذات صفة الخلص من أصحاب محمد (ص) بشهادة الله تعالى حيث عطفهم على نبيه الكريم ، ووصفهم وإياه بالغضب لله والرضا لله ... وأدرك هذا الدكتور طه حسين ، وهو الأديب الذي يفهم بالاشارة ولحن الدلالة ، قال في كتاب «مرآة الإسلام» : «لم يكن اسلام الأنبياء طاعة ظاهرة ، وانما كان إسلامهم أوسع وأعمق وأصدق ما يمكن أن يكون الإسلام ، وإسلام الصالحين من أصحاب النبي (ص) كذلك لم يكن ضيقا يقف عند الطاعة الظاهرة ، وانما كان أوسع وأعمق من هذا».


ثم ضرب الدكتور طه عمار بن ياسر مثلا على هذا الإسلام الواسع العميق وقال : «كان عمار بن ياسر يقاتل مع علي بصفين في حماس أي حماس ، وهو شيخ قد بلغ التسعين أو تجاوزها ، وكان يقاتل عن ايمان أي ايمان بأنه يدافع عن الحق ، وكان يوم قتل يحرض الناس ويقول : من رائح الى الجنة؟ اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه ... وكان قتل عمار تثبيتا لعلي والصالحين من أصحابه ، وتشكيكا لمعاوية ومن معه ، ذلك ان كثيرا من المهاجرين والأنصار رأوا النبي (ص) يمسح رأس عمار ويقول له : ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي ان منظرهم يوحي الى الرائي بأنهم من أهل الركوع والسجود ، وان لم يرهم راكعين ساجدين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ). ليس المراد بأثر السجود هنا سواد الجبهة ، كلا فإن أكثر هذا السواد أو الكثير منه رياء ونفاق ، وانما المراد به الصفاء والاشراق الذي يحدث بالوجه من أثر العبادة ، والمعنى ان الصحابة ركعوا وسجدوا رغبة في مرضاة الله وثوابه ، وخوفا من غضبه وعقابه ، وقد تجلى اثر ذلك في وجوههم لكل متوسم ، لأن العبادة الخالصة لوجهه تعالى تحدث في نفس العابد المخلص طهرا وصفاء تظهر دلائله على صفحات الوجه تماما كما تظهر عليه دلائل الحزن والفرح.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ). هذا كناية عن ان أصحاب الرسول (ص) يكونون في البداية قليلا ، ثم يزدادون ويكثرون ... وتوضيح هذه الكناية أو هذا المثل ان التوراة والإنجيل قد بشّرا بمحمد (ص) ، ووصفا أصحابه بزرع نما وأينع وكثرت ثماره وفروعه ، واشتبك بعضها ببعض ، واستقامت على أصولها ، وبلغت غايتها من القوة والكثافة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) بحسنه ونموه ... وغير بعيد أن يكون المراد بالزراع هنا رسول الله (ص) ما دام المراد بالزرع أصحابه (ص) لأنه هو الذي رفعهم الى ما بلغوه من العظمة وعلو الدرجات ، وبفضله انتصروا في المعارك التي خاضوها في عهده ومن بعده. وقال سبحانه «الزراع» ولم يقل الزارع تعظيما لشأن الرسول (ص). نقول هذا على سبيل الاحتمال ، وقد سبقنا اليه من قرأ


«الزارع». (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). المعنى واضح. وتقدم مثله في الآية ٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ٢٦.

هل الاثنا عشرية باطنيون؟

نشر الأديب المصري الدكتور مصطفى محمود على التوالي ١٣ مقالا في مجلة «صباح الخير» ، تكلم فيها عن إعجاز القرآن ، وقصة الخلق (١) ، وبعض الموضوعات الغيبية ، ثم جمع المقالات في كتاب أسماه «محاولة لفهم عصري للقرآن» وطبع ووزع في الشهر الثالث أو الرابع من سنة ١٩٧٠ ، وفي مقال «رب واحد ودين واحد» عد المؤلف الشيعة الاثني عشرية مع الفرق الباطنية ، وانهم تماما كالبابية والخوارج يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا ، فكتبت اليه بأن الاثني عشرية أبعد الناس عن هذه البدع والضلالات ، وان كتبهم تشهد بذلك ، وهي في متناول كل يد ، وأرشدته الى بعضها ، والى ما قاله شيوخ الأزهر المنصفين عن الشيعة الإمامية كالمرحوم الشيخ شلتوت ، وغيرهم ممن نشروا في مجلة «الإسلام» التي تصدر في القاهرة عن «دار التقريب».

وفي مساء ٥ ـ ـ ١٩٧٠ ارتفع صوت الهاتف ، وإذا بالدكتور مصطفى محمود يكلمني من «تريونف اوتيل» ببيروت .. واجتمعنا لأول مرة ، وتحدثنا عن كتابه «الله والإنسان» ، وردي عليه بكتاب «الله والعقل» ... ثم موعد ولقاء ببيتي في اليوم التالي ، وكان حديثنا عن الإسلام والباطنية ، فقال الأديب المصري فيما قال : «ان بعض الشيعة يفسرون مرج البحرين يلتقيان بعلي وفاطمة».

قلت له : هل من العدل والمنطق أن تدان طائفة تبلغ عشرات الملايين بقول واحد منها لا يمثل إلا نفسه؟ وهل من الضروري إذا فسر شيخ آية قرآنية تفسيرا باطنيا أن تكون طائفته باطنية تدين بالتفسير الباطني للقرآن ، وإذا فسر أديب مصري بيتا من الشعر تفسيرا رمزيا أن يكون جميع الشعراء وكل من يفسر الشعر

__________________

(١). وأجاد في تصوير الموسيقى الباطنية في القرآن. انظر ما كتبناه بهذا العنوان في ج ٦ ص ٣٠٠.


في مصر رمزيين. وان للشيعة الاثني عشرية كتبا في العقائد تسالموا عليها وأجمعوا على الأخذ بها ، كأوائل المقالات للشيخ المفيد ، وقواعد العقائد لنصير الدين الطوسي ، وشرحه للعلامة الحلي ، وما جاء في شرح التجريد من التوحيد وصفات الله والقضاء والقدر والنبوة والإمامة والمعاد.

وكانت تظهر أمامي ـ وأنا أبحث وأنقب في المصادر ـ تفاسير باطنية لشيوخ من السنة ، فأهملها لأنها لا تلتقي مع تفسيري وغايتي في شيء ... وحين احتج الدكتور بمرج البحرين فكرت طويلا لعلي أتذكر تفسيرا واحدا من تلك التفاسير لأنقض به قول الدكتور ، فخذلتني الذاكرة وأنا في أشد الحاجة الى مؤازرتها ... ثم انتقلنا الى موضوع آخر ... ومن الصدف اني كنت أفسر سورة الفتح حين جرى النقاش بيننا ، وفي اليوم التالي وصلت بالتفسير الى قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) وإذا بي أقرأ في تفسير روح البيان لإسماعيل حقي والتسهيل للحافظ بن أحمد الكلبي ، وهما من أهل السنة ، قرأت فيهما ما نصه بالحرف : «كزرع أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي». فانتقل بي هذا التفسير الباطني الى ما قرأته منذ زمان في كتاب حياة الإمام أبي حنيفة للسيد عفيفي ان السيوطي قال : «ذكر العلماء ان النبي (ص) بشّر بالإمام مالك في حديث : «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة» وبشّر بالإمام الشافعي في حديث : «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» وبشّر بالإمام أبي حنيفة في حديث : «لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس».

وفي الحال اتصلت هاتفيا بالدكتور مصطفى محمود ، وقرأت له تفسير الكلبي وحقي ، وقلت له : هل تجيزني أن أنسب هذا التفسير الى جميع السنة واجعلهم والبابيين سواء كما فعلت أنت ونسبت الاثني عشرية الى ما نسبت لا لشيء إلا لأن واحدا منهم قال ما قال؟ فما زاد في الجواب شيئا على قوله : «تمام ... تمام».


سورة الحجرات

١٨ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ١ ـ ٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

اللغة :

امتحن قلوبهم للتقوى أي أخلصها للتقوى من امتحن الذهب بالنار وأذابه ليميز جيده من رديئه. والحجرات جمع حجرة ومن ورائها أي من خارجها.


الإعراب :

لا تقدموا الأصل لا تتقدموا. أصواتكم منصوبة بالفتحة لأن التاء من أصل الكلمة. والمصدر من أن تحبط مفعول من أجله ل «لا تجهروا». وأولئك الذين امتحن الله الخ مبتدأ وخبر والجملة خبر ان الذين يغضون. ولهم مغفرة جملة ثانية. والمصدر من انهم صبروا فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت صبرهم.

المعنى :

ذكّر سبحانه المؤمنين في هذه الآية بأمور :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). لا تسرعوا الى قول أو فعل يتصل بالدين والصالح العام حتى يقضي به الله على لسان رسوله الكريم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). في نهج البلاغة : اتق الله بعض التقى وإن قل ، واجعل بينك وبين الله سترا ، وإن رق. وأدنى شيء يتقي به الإنسان خالقه أن يكف عن قول : لو أحل الله هذا الشيء الذي حرم ، أو حرم ذاك الذي أحل ، ويا ليت النبي فعل كذا ، أو لم يفعل الذي فعل ، وما الى ذلك من الجرأة والجهل.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ). رفع الصوت بلا ضرورة غير مستحسن ، قال سبحانه : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ـ ١٩ لقمان ج ٦ ص ١٦٣ فكيف إذا ارتفع في محضر العظماء ومجلسهم؟ والرسول الأعظم (ص) سيد النبيين وأشرف الخلق أجمعين.

٣ ـ (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). لا تخاطبوا النبي (ص) كما يخاطب بعضكم بعضا ، ومن يفعل ذلك فقد أبطل إيمانه من حيث لا يريد ولا يشعر ، ومن بطل إيمانه بطل عمله ، وكان من الخاسرين (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ


اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ـ أي أخلصها للعمل الصالح ـ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). يبتلي الله عباده بأنواع المحن ليتذكر متذكر ، ويزدجر مزدجر ، فمن تذكر وصبر استخلصه الله وهداه سواء السبيل ، وأنعم عليه بالغفران وأجور الصابرين ، وتومئ الآية الى أن الخطاب المهذب والأسلوب اللائق ـ من الايمان ، قال الإمام علي (ع) : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). الخطاب في ينادونك لرسول الله (ص) ، والحجرات جمع حجرة ، وهي الغرفة ، وكان للنبي (ص) تسع زوجات لكل واحدة منهن حجرة من جريد النخل ، وعلى بابها ستار من الشعر. وقال المفسرون : انطلق ناس من العرب الى المدينة ، ووقفوا وراء حجرات النبي ونادوا يا محمد اخرج إلينا ، فتربص النبي قليلا ثم خرج اليهم ، ووصفهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعقلون لما في فعلهم ذاك من البداوة والجفاء (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأن في الأناة وترك العجلة أجرا لهم وثوابا ، وتعظيما لرسول الله ، ورعاية للآداب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تتسع رحمته ومغفرته للهمج الرعاع وغيرهم.

ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية ٦ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

اللغة :

بجهالة أي بغير علم.


الإعراب :

المصدر من أن تصيبوا مفعول من أجله لتبينوا أي لئلا تصيبوا. فتصبحوا منصوب بأن مضمرة. ونادمين خبر تصبحوا.

المعنى :

اشتهر بين المفسرين ان رسول الله (ص) بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط الى بني المصطلق ليأخذ منهم الزكاة ، فاستقبلوه بجمعهم تكريما له ، ولكنه ظن بهم الشر وانهم يريدون الإيقاع به ، فانصرف الى النبي (ص) وقال له : منعوني وطردوني. فغضب النبي (ص) وقال له بعض الصحابة : نغزوهم يا رسول الله. فنزلت الآية في تبرئة بني المصطلق ، وقيل غير ذلك في سبب نزولها ... ونحن لا نثق بشيء من أسباب النزول إلا إذا ثبت بنص القرآن أو بخبر متواتر ، بالاضافة الى ان ظن الوليد بالشر لا يستوجب الفسق ، وانما هو خطأ واشتباه ، والمخطئ لا يسمى فاسقا وإلا استحق اللوم والعقوبة حتى ولو تحفظ واجتهد.

وأيا كان سبب النزول فإن الآية لا تقتصر عليه ، بل تتعداه الى غيره لأن المورد لا يخصص الوارد ، ولا فرق بينه وبين غيره من أفراد العام ، وانما ذكر بالذات لأمر لا يمت الى تخصيص اللفظ بصلة ، وعليه يجب الأخذ بظاهر الآية ، وهو يدل على حرمة الأخذ بقول الفاسق دون التمحيص والتثبت من خبره خوفا من الوقوع فيما لا تحمد عقباه كالإضرار بالآخرين والندامة حيث لا ينفع الندم ، وبكلمة الإمام علي (ع) «من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التيه» وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

واستدل بهذه الآية جماعة من شيوخ السنة والشيعة على وجوب الأخذ بقول الثقة مطلقا بلا شرط البحث عن صدقه فيما أخبر ، وشرح بعضهم وجه الاستدلال بكلام غامض ومعقد ، ويتضح بأن الآية تضمنت مبدأ عاما يقاس به الخبر الذي لا يصح الاعتماد عليه والعمل به إلا بعد التثبت وهو خبر الفاسق ، وأيضا يقاس به الخبر


الذي يعتمد عليه مطلقا ومن غير تثبت وهو خبر الثقة ، لأن الله سبحانه أناط الاعتماد على خبر الفاسق بالتبين والتثبت ، ولم يتعرض لخبر الثقة ، ومعنى هذا ان العمل بخبر الثقة لا يجب فيه التثبت ، ولو وجب لبيّن واشترط التثبت فيه تماما كما اشترطه في خبر الفاسق ، وحيث لا بيان فلا شرط.

وفي رأينا ان قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) لا يدل إلا على وجوب التثبت من خبر الفاسق ، وان هذا الشرط لا بد منه قبل العمل بخبر الفاسق ، ولا دلالة للآية على هذا الشرط بالنسبة الى خبر الثقة ، لا نفيا ولا اثباتا ... ونحن مع القائلين بأن السند الأول للأخذ بخبر الثقة هو طريقة العقلاء قديما وحديثا ، وسكوت الشارع عنها ، وهي بمرأى منه ومسمع ... أجل ، ان قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يومئ الى ان أي خبر نأمن معه من الوقوع في الشبهات والمحرمات يجوز العمل به أيا كان المخبر ... وبالبداهة لا نكون آمنين من ذلك إلا بالاعتماد على قول الثقة ، أو بعد التثبت من خبر الفاسق.

الله حبب اليكم الايمان الآية ٧ ـ ٨ :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

اللغة :

عنتم أصابكم تعب ومشقة. والمراد بالفسوق هنا القول المحرم كالكذب والغيبة أما العصيان فيشمل معصية الله بالقول والفعل.


الإعراب :

فيكم خبر ان ورسول الله اسمها ، والغرض من هذا الاخبار أن يعظموا الرسول ، ولا يخبروه إلا بالصدق والواقع. فضلا منصوب على المصدر أو مفعول من أجله لفعل محذوف أي فعل الله ذلك تفضلا وانعاما.

المعنى :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) وأشرف الأولين والآخرين ، فعليكم أن تعظموه ولا تخبروه إلا بالحق والصدق (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). هذا أمر من الله تعالى موجه الى المؤمنين بأن يسمعوا للرسول ويطيعوا ولا يشيروا عليه بما يعلم من الله ما لا يعلمون ، ولو استجاب الى الكثير مما يدعونه اليه لتعبوا ووقعوا في الجهد والإثم.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ). أمر الله عباده أن يؤمنوا به ويطيعوه ، وبيّن لهم محاسن الايمان والطاعة ، ورغّبهم في ذلك بكل أسلوب ، ووعد من آمن وعمل صالحا بالثواب الجزيل والأجر العظيم ، ونهاهم عن الكفر والمعصية وبيّن مساوئهما ، وهدد من كفر وعصى بأشد العذاب ، ووصف هذا العذاب بما لا يمكن أن يحده عقل أو يتصوره انسان إلا بعد البيان ، وأي انسان يتصور عذابا ما هو بالموت ولا بالحياة!

وأرسل سبحانه رسله الى الناس ليبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فمنهم من استجاب حقا وصدقا ، ومنهم من أعرض وعاند ، ومنهم من استجاب خوفا على مصالحه وطمعا بالغنيمة ، والذين استجابوا لله والرسول حقا وصدقا في كل ما دعا اليه هم الراشدون المعنيون بقوله تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) الخ. أي حببه سبحانه اليهم وزينه في قلوبهم بما بينه من محاسن الايمان والترغيب فيه بالثواب الجزيل ، وكرّههم في الكفر بما بيّنه من مساوئه ، والتهديد عليه بالعذاب الأليم.


وتسأل : ان الله سبحانه بيّن ذلك للمؤمنين والكافرين ، فلما ذا خص المؤمنين بالذكر دون غيرهم؟.

الجواب : أجل ، ولكن ما كل من سمع بيان الله آمن وانتفع به ، ولا كل من نصحه الله قبل نصيحته ، بل قبل الطيبون وأعرض المجرمون ، فذكر سبحانه وأثنى على من استمع القول فاتبع أحسنه ، وأهمل من أعرض وتولى (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ليس من شك ان الذي يختار الهدى على الضلال له الفضل والأجر ، ولكن الفضل الأكبر لمن مهّد طريق الهدى وأرشد اليه وزود السالك بالقدرة على سلوكه ، وقديما قيل : وما المسبّب لو لم ينجح السبب.

وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية ٩ ـ ١٠ :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

اللغة :

تفيء ترجع. وأقسطوا اعدلوا.

الإعراب :

طائفتان فاعل لفعل مقدر أي وان اقتتل طائفتان. وجمع سبحانه «اقتتلوا»


بالنظر الى المعنى لأن الطائفة جماعة من الناس ، وثنّى «بينهما» بالنظر الى لفظ طائفتين.

المعنى :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). للإسلام تعاليم وإرشادات لبناء المجتمع وإصلاحه ، منها وجوب حماية الإنسان في دمه وماله وعرضه ، وحريته في القول والفعل ، لا سلطان عليه لأحد ولا لشيء إلا الحق ، فإذا خرج عنه وانتهك حرمته بالاعتداء على الآخرين فقد رفع هو الحصانة عن نفسه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء أنظر ج ٥ ص ٦٦ فقرة «بماذا كرم الله بني آدم». وقال مخاطبا نبيه الكريم : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ٢٢ الغاشية. وقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ـ ٤٢ الشورى.

ومنها التعاطف والتكافل بما يعود على الجميع بالخير والصلاح ، فإذا ما حدث خصام وقتال بين فئتين من المؤمنين فعلى المؤمنين الآخرين أن يتلافوا ذلك ، ويصلحوا على أساس الحق والعدل حرصا على وحدة الجماعة وجمع الشمل ، وفي الحديث الشريف : «الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : إصلاح ذات البين.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). إذا أبت إحدى الفئتين الرضوخ للحق بالحسنى ، وأصرت على العدوان فعلى المؤمنين الآخرين ان يحموا الفئة الأخرى من الظلم بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن لم ترتدع الفئة الباغية إلا بالقتال قاتلوها في حدود التأديب والدفاع المشروع الذي يحقق الأمن للجميع (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). فإن تابت الفئة الباغية ، وانتهت عن بغيها فإن الله غفور رحيم ، وما لأحد عليها من سبيل ، وعلى المؤمنين أن يبذلوا الجهد لازالة ما حدث في نفوس الطرفين.

وقال الجصاص الحنفي في كتاب أحكام القرآن ، وهو يتكلم حول هذه الآية :


«قاتل علي بن أبي طالب الفئة الباغية بالسيف ، ومعه كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم ، وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحدا إلا الفئة الباغية التي قاتلته واتباعها .. وقال أبو بكر المالكي المعروف بابن العربي المعافري في أحكام القرآن : «تقرر عند علماء الإسلام ، وثبت بدليل الدين ان علي بن أبي طالب كان إماما ، وان كل من خرج عليه باغ ، وان قتاله واجب حتى يفيء الى الحق».

الاخوة الدينية والاخوة الانسانية :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). هذا تأكيد للأمر بإصلاح ذات البين مع الاشارة الى أن هذا الإصلاح تفرضه رابطة الاخوة. وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه.

وتسأل : لما ذا قال سبحانه : إنما المؤمنون اخوة ، ولم يقل : انما الناس اخوة ، وقال الرسول الأعظم (ص) : المسلم أخو المسلم ، ولم يقل : الإنسان أخو الإنسان؟ مع العلم بأن الرب واحد والأصل واحد والخلقة واحدة والمساواة بين بني الإنسان واجبة ، فالحب ينبغي أن يكون عاما لا خاصا تماما كرحمة الله التي وسعت كل شيء؟. وأي فرق بين أن نقسّم بني آدم على أساس ديني أو اقتصادي كما فعلت الماركسية أو على أساس الجنس والعرق كما دانت النازية أو على أساس النار والدولار كما هي السياسة الأمريكية؟. ثم ما هو السبب لما عانته وتعانيه الانسانية من الويلات والمشكلات التي تقودها الآن الى المصير المدمر المهلك بعد أن ملك الإنسان أبشع قوى التدمير والإهلاك؟. هل يكمن هذا السبب في طبيعة الإنسان بما هو انسان أو ان السبب الأول والأخير يكمن في الانقسامات بشتى أنواعها؟. وبالتالي هل على بني الإنسان أن يتعاطفوا ويتراحموا على أساس ديني أو أساس انساني؟.

الجواب : هذه التساؤلات بكاملها حق ، وجوابها واحد وواضح تحمله هذه التساؤلات معها وتدل عليه كلماتها ، وهو ان التعاون والتكافل يجب أن يكون بين


بني الإنسان قاطبة دون استثناء ، وهذه هي دعوة الإسلام بالذات ، ويدل عليها عشرات الآيات والروايات ، نكتفي منها بذكر آية ورواية ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ ١٣ الحجرات. فنداؤه تعالى بيا أيها الناس مع قوله : من ذكر وأنثى .. وأتقاكم دليل قاطع وواضح على ان دعوة القرآن انسانية عالمية تعتبر الإنسان أخا للإنسان مهما كانت عقيدته وقوميته وجنسيته ، ومثل هذه الآية معنى ووضوحا قول الرسول الأعظم (ص) : «الناس سواسية كأسنان المشط ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على اسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى .. كلكم من آدم وآدم من تراب». بالاضافة الى الآية ٣٠ من سورة الروم التي تنص على ان دين الإسلام هو دين الفطرة ، والآية ٢٣ من سورة الأنفال التي تدل على ان دين الله هو دين الحياة.

وبهذا يتبين معنا ان كتاب الله وسنة رسوله يعتبران الايمان بالإنسان جزءا متمما للايمان بالله ورسله وكتبه ، وعليه يكون المراد بالمؤمن في الآية والمسلم في الحديث هو الذي يؤمن بالله وبالإنسان بما هو انسان .. وبكلام آخر لا صراع ولا تناقض بين الاخوة الانسانية والاخوة الاسلامية ، بل هذه تدعم تلك ، وتزيدها قوة ورسوخا.

لا يسخر قوم من قوم الآية ١١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))


اللغة :

قيل : ان كلمة قوم لا تقع إلا على الذكور بدليل عطف النساء عليهم. واللمز الطعن والعيب بقول أو فعل يقال : لمزه أي عابه. والنبز اللقب ، ولكن المراد هنا بتنابزوا بالألقاب تعايروا بها ولقب بعضهم بعضا بالعيب المكروه. والمراد بالاسم الفسوق ذكر العيب.

الإعراب :

عسى هنا تامة والمصدر من ان يكونوا فاعل. وهم ضمير فصل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ). عند تفسير الآية ٥٥ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٨ قلنا : ان الظالم يعامله الله غدا معاملة الكافر ، وان عومل في الدنيا معاملة المسلم إذا نطق بالشهادتين .. ومن سخر من الأبرياء فهو ظالم وسفيه ، وقد هدده الله بأشد العقوبات ، من ذلك قوله عز من قائل : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ ٨٠ التوبة. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ـ الى ـ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) آخر المطففين وقوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).

كيف تكسب الأصدقاء؟

تذكرت ، وأنا أفسر هذه الآية ، اني منذ ١٦ سنة أو أكثر قرأت ترجمة كتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس» ل «دايل كارنيجي». وأيضا


تذكرت حكمة بالغة للإمام زين العابدين (ع) تتصل بهذا الموضوع ، وهي أجمع وأبلع أثرا من الكتاب المذكور على الرغم من رواجه وترجمته الى أكثر من لغة .. وكأن الإمام يقصد بحكمته تفسير قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ). وهذه هي :

«إياك أن تتكلم بما سبق الى القلب إنكاره وان كان عندك اعتذاره ، فليس كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا .. واجعل من هو أكبر منك بمنزلة الوالد ، والصغير بمنزلة الولد ، والترب بمنزلة الأخ ، فأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟ وان عرض لك الشيطان ان لك فضلا على غيرك فانظر : ان كان أكبر منك فقل : قد سبقني بالايمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وان كان أصغر منك فقل : قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وان كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فما لي أدع يقيني لشكي ، وان رأيت الناس يعظمونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وان رأيت منهم جفاء فقل : هذا لذنب أحدثته ، فإنك ان فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقلّ أعداؤك ، وفرحت ببرهم ، ولم تأسف على جفاء من جفاك».

ومهما قال العلماء والحكماء في هذا الموضوع فلن يزيدوا شيئا عما انطوت عليه هذه الحكمة البالغة ... ولا بدع فإن قائلها ابن الوحي ، وخازن علمه ، والمتأدب بأدبه.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). لا يطعن بعضكم على بعض ، ولا تقولوا لأحد ما لا تحبون أن يقال لكم (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). لا يخاطب أحدكم غيره بلقب يكرهه ، وقال الفقهاء : إذا لم يقصد من اللقب النقص والاستخفاف فلا بأس ، كالأعرج والأحدب والأعمش لمن اشتهر بذلك (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ). فيه تفسيران : الأول لا تقولوا للمؤمن : يا كافر وما أشبه. الثاني من عاب غيره بما يكره يصير فاسقا بعد ان كان مؤمنا ، وهذا أرجح من الأول عند كثير من المفسرين (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، ومن أصر عليه فقد ظلم نفسه لأن الله ينتقم من المذنبين.


الظن والتجسس والغيبة الآية ١٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

الإعراب :

المصدر من أن يأكل مفعول يحب. وميتا حال من اللحم.

المعنى :

في الآية السابقة نهى سبحانه عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ، وندد بمن يفعل شيئا من ذلك ، وفي هذه الآية نهى عن سوء الظن والتجسس والغيبة ، والتفصيل فيما يلي :

الظن :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). هذه الفقرة من الآية يمكن تلخيصها بجملة واحدة هي كل انسان بريء حتى تثبت ادانته ، ويمكن أن نشرحها بصفحات طوال ، فنحدد ما يقتضيه الأصل في الظن هل هو صحة الأخذ به ، أو وجوب الاجتناب عنه في سائر الأحوال ، أو عند تعذر العلم؟ وهل العلم بالاحكام الشرعية الفرعية متعذر أو غير متعذر؟ وعلى الأول هل نأخذ بكل ظن أيا كان سببه وكانت مرتبته؟ وعلى الثاني ما هي الوسائل العلمية الى الأحكام الشرعية؟ الى آخر التفريعات المدونة في أصول الفقه


التي أمضينا في دراستها أمدا غير قصير. ومن الخير أن نلتزم التفسير الوسط بين الإيجاز والاطناب. وقبل كل شيء نمهد ببيان الفرق بين الشك والظن والعلم ، فالشك هو استواء كفتي الاحتمالين اثباتا ونفيا ، والظن ترجيح كفة أحدهما على الآخر ، مع بقاء الطريق مفتوحا للذي خف ميزانه ، والعلم تعيين أحدهما مع سد الطريق على الآخر من الأساس.

وقد تظن بإنسان خيرا أو شرا ، وقد تكون مصيبا في ظنك أو مخطئا .. ولا بأس عليك إطلاقا في حسن الظن بأخيك أصبت أو أخطأت ، ظهر اثر ذلك في أقوالك وأفعالك أو لم يظهر ، قال الرسول الأعظم (ص) : «ظنوا بالمؤمنين خيرا». وقال الإمام علي (ع) : «ضع أمر أخيك على أحسنه». أنظر ج ١ ص ١٤١ فقرة «أصل الصحة». وبهذا يتبين معنا لما ذا قال سبحانه : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل : كل الظن ، فإن كلمة كل من صيغ العموم تشمل حسن الظن وسوء الظن ، أما كلمة كثير فقد تستعمل بمعنى بعض وبمعنى معظم ، وهذا هو المراد بكلمة كثير في الآية ، والقصد هو حصر موضوع الآية ودلالتها بسوء الظن.

وسوء الظن من حيث هو ودون أن يظهر أثره في قول أو فعل ـ ما هو بمحرم وصاحبه غير مسؤول عنه ، لأن الإنسان لا حرية له في ظنونه وتصوراته ، وانما توحي بها الظروف والأسباب الخارجة عن ارادته واختياره .. أجل ، عليه أن لا يعول على ظن السوء ، ويعتبره كأنه لم يكن ، وإذا عوّل عليه وظهر اثر ذلك في قول أو فعل كان مسؤولا ومستحقا للذم والعقاب ، وهذا هو الظن الذي أراده سبحانه بقوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). قال الرسول الأعظم (ص) : «ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطيرة ، والحسد ، والظن .. فإذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق». وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) لا تعولوا عليه ، ولا تعملوا به تماما مثل قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ).


التجسس :

٢ ـ (وَلا تَجَسَّسُوا). التجسس تتبع العورات والعثرات ، والبحث عنها في الخفاء ، وهو محرم كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا). وقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ـ الى ـ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ـ ٢٨ النور ج ٥ ص ٤١٢. ومن السنة قول الرسول الأعظم (ص) : «من اطلع عليك فحذفته بحصاة ففقأت عينيه فلا جناح عليك». وقد أجمع الفقهاء قولا واحدا على العمل بهذا الحديث. أما العقل فإنه يعتبر التجسس غزوا لحياة الناس ، واعتداء على حرياتهم وأشيائهم الخاصة بهم من معلومات وعادات.

تذكرت ، وأنا أكتب هذه الكلمات مقالا مطولا في هذا الموضوع ، نشرته جريدة الأهرام عدد ٧ ـ ـ ١٩٦٩ ، قرأته آنذاك ، واحتفظت به في ملف قصاصات الصحف التي احتفظ بها وادخرها الى وقت الحاجة ، فرجعت الى المقال ، وقرأته من جديد ، فإذا بي أقرأ ما لا يبلغه الخيال ، وفيما يلي بعض ما جاء فيه :

«لقد تساقطت الجدران في الولايات المتحدة حتى أصبح الأمركيون بفضل الغزو الالكتروني المنظم يشعرون بأن الجدران ليست لها آذان وحسب ، بل عيون وعدسات أيضا ، كما تقول مجلة التايم .. لقد اخترعوا في الولايات المتحدة جهازا بحجم المليم الصغير ، يسترق ويسجل السمع ، ويمكن وضعه في «الجاكت» كالزر ، وهو في متناول كل فرد ، ويتراوح ثمنه بين ١٠ و ١٥ دولارا .. وفي نيويورك تجار يعلنون في الصحف عن أجهزة تسترق السمع من بيوت الناس ومنازلهم ، وتعرض في الأسواق كلعب الأطفال ، ولا يزيد ثمنها على ١٨ دولارا ، وإذا وضع واحد من هذه الأجهزة في سيارة تقبع في اتجاه العمارة ـ سجل كل كلمة تقال في داخل العمارة .. بل هناك جهاز لاستراق السمع لا يزيد حجمه على حبة العدس الصغيرة يمكن أن يوضع في القلم وما أشبه ، وتعمل بطاريته بين ١٨ و ٥٠ ساعة .. وأيضا اخترعوا في الولايات المتحدة جهازا صغيرا للارسال ، يذيع ما بدور في البيوت على بعد ٥٠ قدما منها ، وثمنه ٤٠٠ دولار .. وأعجب من ذلك


كله كاميرا تصور من وراء الجدران كل ما يفعله الإنسان بالحمام والمخدع في أحلك الظلمات .. وأيضا يمكن رسم وشم على الطفل ساعة ولادته ، وبسبه ترصد جميع حركاته طول حياته .. ويوجد في أنحاء الولايات المتحدة شركات تجمع المعلومات والتحركات الخاصة للشخصيات السياسية والعلمية والأدبية والمالية وغيرهم وتسجل أقوالهم وتصور أفعالهم حتى الجنسية مع الزوجات وغيرهن ، وتزود من شاء بهذه المعلومات مقابل دولار واحد ، وتسمى هذه الشركات بنوك المعلومات .. كل ذلك وما اليه يحدث على علم من السلطة دون أن تحرك ساكنا ، لأنه معتاد ومألوف تماما كبيع الجرائد».

هذا قليل من كثير .. فقد ألّف الباحثون كتبا خاصة في هذا الموضوع ، ولو اقتصر تجسس الأمريكين على بعضهم البعض لقلنا مع الموالين لهم : ان لكل بلد تمام الحرية في أن يختار لنفسه ما يشاء .. ولكن الأمريكيين تجاوزوا ذلك الى التجسس على دول الأرض وشعوبها بالطائرات والأقمار الصناعية .. ولا تعجب أيها القارئ فإن الولايات المتحدة بلد الحضارة والديمقراطية ، وسيدة العالم الحر ، وقائدة الاستعمار الجديد ، وفوق ذلك تؤمن بالله والمثل العليا ... ولا شيء أدل على إيمانها بالله واليوم الآخر من مذبحة «سنونج ماي» (١) بفيتنام الجنوبية ، ومن تزويدها إسرائيل بأحدث الأسلحة لتقضي بها على شعب فلسطين ، وتقتل أبناءه بالجملة ، وتلقي الصواريخ من طائرات الفانتوم على أطفال المدارس في الجمهورية العربية المتحدة ... حقا ان الولايات المتحدة أعظم دولة في هذا الميدان .. والعاقبة للمتقين.

الغيبة :

٣ ـ (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ

__________________

(١). هي قرية مسالمة تضم ٥٠٠ نسمة معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال ، ذبح الجنود الامركيون جميع من فيها بابشع صورة ، ولم يبقوا منها باقية .. حدثت هذه الجريمة المذهلة في الشهر الثالث من سنة ١٩٦٨.


وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). الغيبة أن تذكر شخصا معينا بما يكره ، قال الرسول الأعظم (ص) : «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» والبهتان أعظم من الغيبة ، وهي محرمة كتابا وسنّة واجماعا.

وقد شبّه سبحانه من استغيب بالميت لأنه غائب ، وشبّه عرضه بلحمه ، وقول السوء فيه بالأكل والنهش. ومعنى فكرهتموه : أنفتم من أكل لحم الميت فينبغي أن تأنفوا من غيبة الغائب أيضا لأنهما من باب واحد ، ولا شيء أدل من الغيبة على الخسة والضعة ، قال الإمام علي (ع) : «الغيبة جهد العاجز» والله سبحانه لا يغفر الغيبة حتى يغفرها من استغيب .. واستثنى الفقهاء من تحريم الغيبة الملحد ، والحاكم الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق لأن من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ، ونصح من استشارك في مشاركة شخص معين أو توكيله في أمر هام ، وتجريح الشاهد عند القاضي ، وراوي حديث الرسول (ص) ، والمتظلم من ظالمه ، قال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ـ ١٤٨ النساء. وفي مكاسب الشيخ الأنصاري : «ان موارد استثناء الغيبة لا تنحصر في عدد لأن الغيبة انما تحرم إذا لم يكن في التشهير مصلحة أقوى وإلا وجب الإعلان والتشهير تغليبا لأقوى المصلحتين ، كما هي الحال في كل معصية من حقوق الله وحقوق الإنسان». أنظر ج ٢ ص ٤٧٧.

أكرمكم عند الله أتقاكم الآية ١٣ ـ ١٨ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ


شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

اللغة :

شعوب جمع شعب وهو أعظم من القبيلة. والأعراب سكان البادية. والمراد بالإسلام هنا النطق بالشهادتين. لا يلتكم لا ينقصكم.

الإعراب :

لتعارفوا الأصل لتتعارفوا ، والمصدر المنسبك متعلق بجعلناكم. ولما يدخل أي لم يدخل بعد. وشيئا مفعول مطلق ليلتكم. وأولئك مبتدأ والصادقون خبر وهم ضمير فصل ، والجملة خبر «المؤمنون». والمصدر من أن أسلموا مجرور بباء مقدرة ، ومثله ان هداكم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا


إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). كل الناس يعلمون ان الأب آدم والأم حواء .. ولكن الغرض من قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) ان يعلم الناس ، كل الناس ، انهم اخوة والاخوة سواسية في الحقوق والواجبات ، قوله : (لِتَعارَفُوا) فمعناه ليس القصد من اختلافكم في البلدان والأنساب والألوان أن تتفرقوا شيعا ، وتتناحروا وتتفاخروا بشعوبكم وآبائكم وأجناسكم .. كلا ، وإنما القصد أن تتعاطفوا وتتعاونوا على ما فيه خيركم وصلاحكم .. وأفضل الناس عنده تعالى أخوفهم منه ، وأنفعهم لعباده.

وهذه الآية دعوة من القرآن الكريم إلى أمة انسانية وعالم واحد يجمعه العدل والمحبة ، وهذا العالم أمل الصفوة من المفكرين وحلم المصلحين ، وفي يقيننا ان الاعتراف بحقوق الإنسان سيظل حبرا على ورق ومجرد نظرية إذا لم تتحقق الوحدة الانسانية الشاملة التي دعا اليها القرآن منذ أكثر من ألف وثلاثمائة سنة .. فلقد وقّعت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل وثيقة حقوق الإنسان ، ومع ذلك تقترف الأولى جريمة إبادة الجنس البشري في شعب فيتنام والثانية في شعب فلسطين.

أكتب هذه الكلمات يوم ٢٣ نيسان سنة ١٩٧٠ واللجنة الدولية التابعة للأمم المتحدة تحقق في انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان ، وقد سجلت اللجنة في محاضرها ان إسرائيل هدمت في الأراضي المحتلة على المدنيين بيوتهم رجالا ونساء وأطفالا وتركت الجثث تحت الأنقاض ورفضت السلطات الاسرائيلية دفنها ، وانها تعتدي على الأماكن المقدسة والمستشفيات ، وتعذب المواطنين العرب بالنار والكهرباء ، وتستأصل الأعضاء الحساسة من أجساد الكبار ، وتقطع أيدي الصغار وتبقر بطونهم بمرأى من الآباء والأمهات .. الى غير ذلك من الجرائم الوحشية والابادة الجماعية.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ ـ أي لا ينقصكم ـ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). عند تفسير الآية ٨٢ من سورة البقرة ج ١ ص ١٣٨ تكلمنا عن الفرق بين المؤمن والمسلم ، وننقل هنا ما ذكره الدكتور طه حسين حول هذه الآية في كتاب «مرآة الإسلام» لأنه أديب يستشهد بفهمه على أسرار البلاغة قال :


«كان في عهد النبي (ص) مؤمنون ومسلمون ، فما عسى أن يكون الفرق بين الايمان والإسلام؟. أما الايمان فالظاهر من هذه الآية انه شيء في القلب قوامه الإخلاص لله والتصديق بكل ما أوحى الى الرسول في أعماق الضمير ، ونتيجة هذا الايمان الاستجابة لله ولرسوله في كل ما يدعوان اليه من غير جمجمة ولا لجلجة ولا تردد مهما تكن الظروف والخطوب والكوارث والأحداث .. ولازمة أخرى من لوازم هذا الايمان هي الخوف العميق من الله إذا ذكر اسمه والثقة العميقة به إذا جد الجد وازدياد التصديق إذا تليت آياته .. والايمان يزيد وينقص .. أما الإسلام فهو الطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب المحظورات وان لم يبلغ الايمان الصادق .. فمن الناس من يسلمون خوفا من البأس كما أسلم الطلقاء من قريش يوم فتح مكة ، ومنهم من يسلم خوفا وطمعا كالأعراب الذين ذكرهم الله في هذه الآية».

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) المؤمنون حق الايمان هم الذين لا تشوبهم الريبة في عقائدهم ، ويبذلون النفس والنفيس لاحقاق الحق وإبطال الباطل. وتقدم مثله في أكثر من آية ، من ذلك الآية ٨٨ من سورة التوبة ج ٤ ص ٨٢.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قالت الأعراب : آمنا. فأجابهم سبحانه : أتخبرون الله بايمانكم ، وهو يعلم السر وأخفى ، وله الاحاطة بكل شيء ، والغلبة على كل شيء. ثم هل يكون الايمان بمجرد الادعاء؟. وكفى بالمرء جهلا ان لا يعرف قدره.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). المراد بمنّه تعالى لطفه وتفضله ، لأنه نهى عن المن ، وما كان الله لينهي عن شيء ثم يفعله ، والمراد بهدايته الى الايمان الإرشاد الى الحق والترغيب فيه ، والمعنى ان الاعراب ومن على شاكلتهم من أهل الجهل يمنون بدينهم على ربهم ونبيهم ، ويطلبون عليه الثمن .. والله سبحانه هو صاحب الفضل عليهم حيث أرشدهم الى الايمان ورغبّهم فيه على لسان نبيه الكريم ، فعليهم أن يحمدوه شكرا على تفضله وانعامه ، لا ان يمنوا ويطلبوا الثمن ... هذا ،


ان صدقوا في دينهم وأخلصوا في إيمانهم ، وإلا استحقوا من الله ما أعد للكاذبين والخائنين (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). يعلم سبحانه الايمان الصادق والكاذب ، ويميز بين الأعمال التي يطلبون بها الدنيا ، والأعمال التي يقصدون بها وجه الله ، والأعمال بشتى أنواعها مع الايمان أو الكفر هي ميزان العدل للحساب والجزاء.


سورة ق

٤٥ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والقرآن المجيد الآة ١ ـ ١١ :

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

اللغة :

المجيد : الكريم العظيم. والرجع هنا الرد الى الحياة بعد الموت. وتنقص منهم


تأكل من لحومهم. ومريج مختلط ومضطرب. وفروج شقوق. ورواسي جبال. وكل زوج كل صنف. ومنيب راجع. وحب الحصيد حب الزرع المحصود. وباسقات طويلات. والطلع أول ما يخرج من النخلة في أكمامها. ونضيد منضود بعضه ملتصق ببعض وعلى بعض.

الإعراب :

والقرآن الواو للقسم والجواب محذوف انكم لمبعوثون ، والدليل على هذا الجواب «أئذا متنا الخ» .. والمصدر من ان جاءهم مجرور بمن مقدرة. وكيف مفعول مطلق لأن المعنى أيّ بناء بنيناها. وتبصرة وذكرى مفعول من أجله لأنبتنا. والحصيد صفة لمحذوف أي حب النبات الحصيد. والنخل عطف على حب. وباسقات حال من النخل. ورزقا مفعول من أجله.

المعنى :

(ق) تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ). أقسم سبحانه بالقرآن لإظهار عظمته ، ووصفه بالمجيد لكثرة منافعه وفوائده (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ). أجل ، عجيب في منطق الذين ينظرون الى كل شيء من خلال المال ، ولا يرون الفضل والفضيلة إلا في البنك والعقار. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٠ والآية ٩٠ من سورة الإسراء و ٨ من سورة الفرقان و ٤ من سورة ص (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). أنكروا البعث لأنهم عاجزون عن إدراكه .. ونحن نؤمن بعجزهم هذا ، ولكن هل العجز عن إدراك الشيء دليل على عدم ثبوته؟. وأي عاقل يتخذ من جهله بالأشياء دليلا على نفيها ، أما الشبهة التي أوقعتهم بهذا الجهل فقد بينوها بقولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟. وقال تعالى في جوابهم : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ـ ٨٠ يس. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات


(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ). والكتاب الحفيظ كناية عن انه تعالى أحاط بكل شيء علما .. وهذه الآية جواب عن شبهة أوردها منكرو البعث ، وتوضيحها ان جسم الإنسان بعد الموت تأكله الأرض ، ويصبح بعض ذراتها المنتشرة في شرقها وغربها ، فكيف تجمع وتعاد الى ما كانت عليه؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بأنه يعلم ان الأرض تأكل جسم الميت وان أجزاءه تنتشر في شرقها وغربها ، ومع هذا فهو قادر على جمعها وإعادتها الى الحياة.

شبهة الآكل والمأكول :

وتعرف هذه الشبهة عند الفلاسفة وعلماء الكلام بشبهة الآكل والمأكول .. وقد ذكرها الملا صدرا في المجلد الرابع من أسفاره ، وقال : «احتج من أنكر البعث بأنه «إن أكل الإنسان إنسانا فالأجزاء المأكولة ان أعيدت في بدن الآكل لم يكن الإنسان المأكول معادا ، وان أعيدت في بدن المأكول لم يكن الآكل معادا ، ولزم أن تكون الأجزاء المأكولة بعينها منعمة ومعذبة إذا أكل مؤمن كافرا .. وأجيب عن ذلك في الكتب الكلامية بأن المعاد هو الأجزاء التي منها ابتداء الخلق وهي الأعضاء الأصلية عندهم ، والله يحفظها ، ولا يجعلها جزءا لبدن آخر».

ثم قال صاحب الأسفار ما معناه : ان هذا الجواب لا يفي بالغرض ، والحق ان كل ما هو ممكن في نظر العقل ، ودل عليه الوحي يجب الايمان به ، والبعث ممكن عقلا ، وثابت وحيا ، فوجب التصديق والايمان ، أما أقيسة الفلاسفة وأهل المنطق فما هي بمعصومة عن الخطأ. هذا ما قاله صاحب الأسفار ، وهو الذي اعتمدنا عليه ، وذكرناه مرارا فيما تقدم .. وحاول بعض الشيوخ أن يثبت البعث الجسماني بحكم العقل مع صرف النظر عن الوحي ، ولكنه لم يأت إلا بالتكلف والتمحل.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ). المراد بالحق هنا القرآن ، وبالمريج المختلط المضطرب ، وقد وصف به سبحانه حال الذين قالوا عن رسول الله (ص) : انه مجنون ، وتارة انه ساحر ، وأخرى انه كاهن ، وحينا انه شاعر .. وهكذا يخبط في التيه كل من حاد عن جادة الحق.


(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ). المراد بالبناء هنا ان كواكب السماء محكمة في صنعها ، مستقرة في نظامها تسير عليه بكل دقة ، والمراد بالزينة الجمال ، أما قوله تعالى : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) فهو على حذف مضاف أي ما لكل كوكب من كواكبها فتوق وفطور ، كما في الآية ٣ من سورة الملك : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ). والمعنى ألم ينظر المكذبون بالبعث الى ان بناء الكواكب لا يشبه بناء البشر في شيء لأن كل كوكب على ضخامته هو قطعة واحدة لا فواصل فيه ولا انفصام ، أما البناؤون من البشر فإنهم يبنون لبنة فوق لبنة ، بينهما فتوق وفطور ، وهم أعجز من أن يبنوا بيتا صغيرا كبناء الكوكب الطبيعي.

والآية رد صريح وحجة دامغة على من استبعد فكرة البعث ، وقال : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). ووجه الرد : ان الذي خلق الكواكب بلا فتوق وفطور لا يعجز عن بعث الإنسان بعد موته لأن هذا أيسر من ذاك : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ـ ٥٧ غافر. والبعث خلق.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). أي مهدناها وجعلناها مستقرا للإنسان ، وألقينا فيها رواسي أقمنا فيها الجبال كيلا تميد وتضطرب ، ومن كل زوج بهيج أخرجنا من الأرض أشكالا وألوانا من النبات يسر الناظرين ، ويطيب للآكلين. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٣ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٤ (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). خلق سبحانه الكون بما فيه من نظام وإحكام ليكون آية على عظمته تعالى لمن تدبر وأبصر ، وفيه اشارة الى ان علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه لا تنحصر بالمادة فقط ، بل هي قلبية أيضا.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ). الطلع أول ما يظهر من الثمر ، والنضيد المنضود المتراكم بعضه فوق بعض كحب السنابل .. وصف سبحانه الماء بالبركة لأنه لا حياة للأرواح والأجسام بلا ماء ، والمراد بحب الحصيد حب النبات المحصود ، ووصف النخل بالطول للاشارة الى ان النخلة وقت الانبات تكون قصيرة ، ثم ترتفع بالأسباب


التي أودعها الله بالطبيعة. قال الإمام علي (ع) : «ما دلت الدلائل إلا على ان فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء» أي ان دقة الصنع والتفصيل في النملة الصغيرة والنخلة الكبيرة الطويلة تدل على ان الصانع واحد (رزقا للعباد) وهم أعجز من أن يرزقوا أنفسهم بأنفسهم (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) هذا تمهيد لقوله تعالى : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ). فإحياء الإنسان بعد الموت تماما كإحياء البلد الميت بالماء. وتقدم مثله في العديد من الآيات منها الآية ٥٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢.

أفعيينا بالخلق الأول الآية ١٢ ـ ٢٢ :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))


المعنى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل الذين كذّبوا محمدا (ص). (قَوْمُ نُوحٍ) تقدمت قصة نوح في ج ٤ ص ٢٢٢ وما بعدها (وَأَصْحابُ الرَّسِّ) وهي بئر ، وتقدمت الاشارة الى أصحاب الرس في ج ٥ ص ٤٦٨ (وَثَمُودُ) وهم قوم صالح ، وقصتهم في ج ٤ ص ٢٤٣ (وَعادٌ) قوم هود ، وتقدم الكلام عنهم في ج ٤ ص ٢٣٧ (وَفِرْعَوْنُ) تكررت قصته مع موسى وبني إسرائيل مرات ومرات. انظر ج ٣ ص ٣٧٠ الى ٣٨٦ (وَإِخْوانُ لُوطٍ). انظر ج ٣ ص ٣٥٢ (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة الملتفة الشجر ، وتقدمت الاشارة الى أصحاب الأيكة في ج ٥ ص ٥١٥ (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو تبع الحميري ، وسبق الكلام عنه عند تفسير الآية ٣٧ من سورة الدخان (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وهو العذاب الذي وعدهم الله به على لسان رسله (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ هل عجزنا عن النشأة الأولى كي نعجز عن الثانية : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ـ ١٠٤ الأنبياء».

(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). اللبس الشك ، والخلق الجديد البعث ، والشك حسن بل هو ضروري على أن يكون باعثا على البحث والنظر ، أما النفي بلا دليل ولمجرد الشك فهو جهل وضلال.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). الله قريب من كل شيء بعلمه لأن ما من شيء إلا وهو منه ، إذن ، فلا شيء يبعد عنه ، وإنما خص سبحانه حبل الوريد بالذكر لأنه أقرب الى الإنسان من أي عضو آخر ، ويضاف الى ذلك ان فيه قوام الحياة (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). يدل ظاهر الآية على ان الله يقيم على الإنسان رقيبين : يقعد أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله يسجلان عليه كل ما يلفظ من قول. وقال كثير من المفسرين : ان هذين الرقيبين من الملائكة ، وان أحدهما يكتب الحسنات ، وهو الذي يجلس على يمين الإنسان ، والآخر يكتب السيئات ، وهو الذي يجلس على شماله .. ويصح تفسير الرقيبين بأنهما كناية عن ان الإنسان مسؤول عما يقول ويفعل ، وانه لا يستطيع عند نقاش الحساب أن يستر أو ينكر سيئة من سيئاته لقيام الحجة عليه.


وقلنا يصح هذا التفسير لأنه يلتقي مع التفسير الأول الذي دل عليه ظاهر الآية ، ونتيجتهما واحدة.

وتسأل : ان الله غني بعلمه وحفظه عن الرقابة والرقباء والكتابة والكاتبين ، فما هو القصد من اقامة الرقباء؟.

الجواب : القصد أن يجابه سبحانه المجرمين بما لا يجدون لإنكاره حيلة ولا وسيلة .. وتومئ الآية من بعيد الى ان القاضي لا يجوز أن يقضي بعلمه. أنظر تفسير الآية ٢٠ من سورة فصلت ج ٦ ص ٤٨٥.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). سكرة الموت غمرته وشدته ، وقوله تعالى بالحق يومئ الى انه عند نزول الموت تنكشف الحقيقة للمحتضر ، ويعلم علم اليقين ان البعث حق لا ريب فيه ، وذلك اشارة الى البعث ، والخطاب في كنت لمن أنكر البعث ، وضمير منه يعود الى البعث ، والمراد بتحيد تنكر ، والمعنى يقال لمن أنكر البعث حين ينزل به الموت : هذا هو البعث الذي كنت تنكره ، ومثله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ـ ٢١ الصافات. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ). يشير سبحانه بهذه النفخة الى يوم القيامة : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ـ ٥١ يس. (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ). سائق يسوقها الى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). هذا اشارة الى يوم الحساب والجزاء ، أما البصر الحديد فالمراد به ان الحقيقة تتجلى عند الموت وبعده لمنكر البعث فيعرف ما أنكر وينكر ما عرف ، والمعنى يقال غدا للجاحد : أيها الشقي كفرت بهذا اليوم ، واتبعت أهواءك ، وذهلت عما يراد بك ، وقد انزاحت الأباطيل عنك الآن ، وعرفت الحقيقة ، ولكن حيث لا مهرب من عذاب الحريق.

مناع الخير الآية ٢٣ ـ ٣٥ :

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)


مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

اللغة :

أزلفت اقتربت. أواب تواب. حفيظ حافظ لأحكام الله.

الإعراب :

هذا ما لدي معناه هذا شيء ثابت لدي ، وعليه فهذا مبتدأ ، وما نكرة موصوفة خبر ، ولدي متعلق بمحذوف صفة وعتيد صفة ثانية. والذي جعل بدل من كفار. ألقيا كلام مستأنف. وألف القيا للتثنية ، وهما السائق والشهيد اللذان ذكرهما سبحانه في الآية السابقة. وجهنم ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث. وغير بعيد صفة لموصوف مقدر أي مكانا غير بعيد. لكل أواب بدل من المتقين بإعادة حرف الجر. وهذا ما توعدون مبتدأ وخبر والجملة معترضة. ومن خشي


الرحمن بدل ثان من المتقين. وبسلام متعلق بمحذوف حالا من فاعل ادخلوها أي سالمين.

المعنى :

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ). الضمير في قرينه يعود الى من تقدم ذكره في الآية ١٧ وهو الملك القعيد الشهيد الذي يكتب أقوال الموكل به ، والمعنى ان هذا الكاتب يقول لله سبحانه : هذا كتاب ما وكلتني به ، وفيه كل ما كان منه على حقيقته (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ـ ٤٩ الكهف.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ). في الآية ٢١ قال سبحانه : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) وفي الآية التي نفسرها حكى جل جلاله أنه يقول غدا للسائق والشهيد : خذا الى جهنم من أشرك بي ، وكفر بالحق وعانده ، وأعرض عن الخير وصد الناس عنه ، ثم يعاود سبحانه القول عليهما مكررا ومؤكدا : (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ).

وتجدر الاشارة الى أنه تعالى وصف هنا مناع الخير بالمعتدي المريب ، وفي الآية ١٢ من سورة القلم وصفه بالمعتدي الأثيم حيث قال : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) ـ ٤٦ الدخان. إذا فعلنا ذلك تبين معنا ان جريمة مناع الخير لا تعادلها جريمة ، وان عذابه لا يقاس به عذاب.

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). هذا القرين غير الأول ، فقد كان الأول من الكرام الكاتبين بدليل قوله تعالى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي هذا الذين سجلته هو حق لا ريب فيه ، أما القرين الثاني فهو من الأبالسة الغاوين الذي أشار اليهم سبحانه بقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ـ ٣٦ الزخرف والدليل ان هذا هو المراد قول


القرين الثاني : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فإن القرين الأول لا يحتمل فيه الاطغاء والإغواء كي ينفيه عن نفسه لأن الله قد اختاره لمهمة الكتابة على علم بصلاحه وأمانته .. يضاف الى ذلك قوله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) فإن الاختصام غدا يكون بين المجرمين بعضهم مع بعض لا بينهم وبين غيرهم ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ـ ٦٧ الزخرف.

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ). الخطاب من الله سبحانه الى المجرم وقرينه الشيطان ، والمعنى لا يقل بعضكم لبعض : أنت أغويتني ويقول الآخر : ما أغويتك ، فإن اليوم يوم حساب وجزاء ، ولا ينتفع المرء فيه بكلام ولا بغيره إلا بعمله الصالح ، وقد دعوتكم اليه ، وأنذرت من خالف منكم لقاء يومكم هذا فأبيتم إلا كفورا (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). المراد بالقول هنا أمره سبحانه في الآية السابقة للسائق والشهيد : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) وهذا الإلقاء حتم وعدل ، هو حتم لأن الله أمر به ولا تبديل لأمره ، وهو عدل لأن المجرم أهل له.

وتسأل : لقد ذهب كثير من العلماء الى ان الخلف بالوعيد جائز على الله دون الوعد ، وبهذا جاءت السنّة النبوية حيث قال الرسول الأعظم (ص) : «من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له ، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار». يضاف الى ذلك ان العقل يستحسن الوفاء بالوعد ، ولا يستقبح الخلف بالوعيد ، فما هو الوجه ـ اذن ـ لقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)؟.

وأجاب بعض العلماء بأن الله سبحانه لا يعفو جزافا ، بل لسبب موجب : والعفو كذلك ليس من تبديل القول في شيء .. ونضيف نحن الى هذا الجواب ان المراد بالوعيد هنا الوعيد بعذاب (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) وليس كل وعيد وتهديد ، لأن هذا المعتدي الأثيم لا كفارة له ولا شفيع عند الله ـ كما نظن ـ.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ). هذا كناية عن شدة لهبها ، وأليم عذابها ، وانها لا تضيق بالمجرمين بالغا ما بلغ عددهم ، وقد وصف سبحانه جهنم في العديد من آياته بأوصاف رهيبة مخيفة تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ، أما الذين في قلوبهم مرض فيسخرون منها وممن آمن بها


(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ). هذا على طريقة القرآن ، يقرن جزاء من أساء بثواب من أحسن .. هناك الشدائد والآلام ، وهنا النعيم والجنان ، وقوله تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) تأكيد لكلمة أزلفت لأنها بمعنى اقتربت ، والمراد بقرب الجنة من المتقين انهم لها ، وهي لهم (هذا ما تُوعَدُونَ). لقد عملتم ايها المتقون على موعود من الله ، والله منجز وعده ، فإليكم هذا النعيم الذي لا يحده وصف ، ولا يبلغه عقل.

(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ). هذه الصفات الأربع علامات تدل على المتقين ، فمن علامة أحدهم انه تواب يبتعد عن المعصية خوفا من الله ، ويحافظ على الطاعة أملا بثواب الله ، وهو في إيمانه وإخلاصه على سبيل واحد ، سواء أكان غائبا عن الناس أم حاضرا بينهم ، على عكس المرائي الذي يكسل إذا كان وحده ، وينشط أمام الناس ، وهذا المتقي هو الذي يلقى الله سبحانه بقلب منيب سليم. وبكلام آخر للإمام علي (ع) يصف به من اتقى وأتى الله بقلب سليم : «أطاع من يهديه وتجنب من يرديه ، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصّره وطاعة هاد أمره ، وبادر الى الهدى قبل أن تغلق أبوابه وتقطع أسبابه».

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ). أنتم أيها المتقون في جنة «لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها» ... ولكم على الدوام فوق ما تشتهون وتقترحون.

وبعد ، فإن هذا التفاوت الهائل بين الجنة والنار يكشف كشفا قاطعا عن مدى البعد والتفاوت بين درجات المتقين والمجرمين ، وان الفرق بين منازلهم عند الله تعالى تماما كالفرق بين الجنة والنار.

يوم ينادي المنادي الآية ٣٦ ـ ٤٥ :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى


السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

اللغة :

القرن أهل العصر الواحد ، فإذا هلك أكثرهم قيل : انقضى قرنهم. فنقبوا في البلاد طافوا فيها. والمحيص المهرب. واللغوب التعب. وبجبار أي بقهار تقهرهم على الايمان.

الإعراب :

كم في محل نصب بأهلكنا ، ومن قرن بيان لها وبطشا تمييز. ومن محيص «من» زائدة ومحيص مبتدأ والخبر محذوف أي هل محيص ثابت لهم. ولغوب فاعل مسنا ومن زائدة. واستمع يوم ينادي على حذف مضاف أي استمع حديث يوم ينادي الخ. ويوم يسمعون بدل من يوم ينادي. يوم تشقق يوم متعلق بالمصير. وسراعا جمع سريع ، وهو حال من ضمير عنهم والعامل تشقق.


المعنى :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ). نقبوا في البلاد طافوا فيها ، والمحيص المهرب ، والمعنى كان في الزمان الغابر أمم أكثر حضارة وأقوى عدة وعددا من الذين كذبوك يا محمد ، وكانت لهم صلات مع كثير من البلاد ، كل ذلك وما إليه لم يغن عنهم حين نزل بهم العذاب ، ولم يجدوا من أمر الله مهربا ألا يخشى قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب الماضين؟ وتكرر هذا التذكير في آيات كثيرة ، منها الآية ٩ من سورة الروم ج ٦ ص ١٣٢ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). ذلك إشارة الى التذكير بهلاك الماضين ، وذكرى تذكرة وعبرة ، وله قلب أي سليم ، وألقى السمع أي استمع وأصغى الى ما يتلى عليه من العظات ، وشهيد حاضر القلب والعقل ، والمعنى ان الذي ذكرناه عن هلاك المكذبين عظة كافية شافية لمن أبصر واعتبر. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي تعب ، والأيام الستة كناية عن الدفعات أو عن تطور الكون من حال الى حال. انظر تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٨.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من الأباطيل والسفه ، فإن العاقبة لمن صبر صبّر الأحرار (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) اشارة الى صلاة الفجر (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) صلاة العصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) صلاة المغرب والعشاء. وتقدم مثله في الآية ١٢٩ من سورة طه ج ٥ ص ٢٥٤ (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) إشارة الى التعقيب والصلاة النافلة بعد الانتهاء من الفريضة (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ). الخطاب في استمع لرسول الله (ص) ، ويوم ينادي على حذف مضاف أي استمع لما نوحيه اليك من حديث يوم النداء ، لا نفس النداء ، والمراد بالمكان القريب ان النداء يسمعه الجميع حتى كأن المنادي قريب منهم على الرغم من ان الصيحة تأتي من السماء ، وبهذا يتبين وجه الجمع والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ـ ٤٤ فصلت. والمعنى استمع لما نحدثك به يا محمد عن صيحة البعث


للحساب والجزاء ، وهذه الصيحة بعيدة بالنظر الى أنها تأتي من السماء وقريبة بالنظر الى انها تصل الى كل سمع حتى إسماع الموتى ، فيخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ـ ٣٠ يونس.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ). الحياة والموت بيد الله ، واليه مصير الخلائق. وتقدم مثله مرارا ، من ذلك الآية ٥٦ من سورة يونس (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ). تنشق الأرض عن الأولين والآخرين فيخرجون من قبورهم مسرعين ، وهم أكثر عددا من النمل والرمل ، وأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متسعا كما قال الامام علي (ع).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) من تكذيب الرسول ونفي البعث (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ). فتجبرهم وترغمهم على الايمان بالله واليوم الآخر ، انما أنت مذكر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ). ومن لا يخاف أيضا لإلقاء الحجة عليه ، وإنما خص سبحانه الخائف بالذكر للاشارة إلى أنه هو الذي ينتفع بالتذكير دون غيره ، ومثله : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) ـ ٩ الأعلى. فقوله تعالى : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) دليل قاطع على ان الأمر بالتذكير عام ، نفعت الذكرى أم لم تنفع.


سورة الذّاريات

٦٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والذاريات ذرواً الآية ١ ـ ١٤ :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

اللغة :

المراد بالذاريات الرياح. والوقر السحاب تحمله الرياح. فالجاريات يسرا الرياح تجري بيسر وسهولة. فالمقسمات أمر الرياح توزع السحاب على البلاد. والمراد بما توعدون البعث. وبالدين الحساب والجزاء. وبالحبك الإحكام والنظام. ويؤفك يصرف. والخرص الكذب والظن من غير أساس. والمراد بالفتنة في قوله تعالى : (يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) العذاب.


الإعراب :

والذاريات الواو للقسم. وذروا مفعول مطلق. وقرا مفعول به. يسرا صفة لمفعول مطلق مقدر أي جريا يسيرا. أمرا مفعول به. وانما توعدون «انما» كلمتان «انّ» التي تنصب الاسم وترفع الخبر و «ما» الموصولة ، والعائد محذوف أي ان الذي توعدونه من الحساب والجزاء ، والجملة جواب القسم في والذاريات. والسماء الواو للقسم. وانكم جوابه. وضمير عنه يعود الى الدين. والذين بدل من «الخراصون». وهم مبتدأ وفي غمرة خبر وساهون خبر ثان. أيّان بمعنى متى خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر أي متى وقت يوم الدين. ويوم هم «يوم» منصوب بفعل مقدر أي يقع يوم هم و «هم» مبتدأ ويفتنون خبر وعلى النار متعلق به. وجملة ذوقوا مفعول لقول مقدر. وهذا الذي مبتدأ وخبر.

المعنى :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً). في تفسير هذه الأوصاف الأربعة آراء ، يقول بعضها : المراد بالذاريات الرياح ، وبالحاملات السحاب ، وبالجاريات السفن ، وبالمقسمات الملائكة ، وأرجح الأقوال ان الأربعة بكاملها من أوصاف الرياح ، فهي ذاريات لأنها تذرو التراب وغيره ، قال تعالى : (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ـ ٤٥ الكهف. وأقسم سبحانه بالرياح للاشارة الى منافعها ، ولأن لله أن يقسم بما شاء من خلقه. أنظر ج ٦ ص ٣٣٠ فقرة «الله والقسم بخلقه». الوصف الثاني (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) بكسر الواو ، وهو الحمل الثقيل ، والمراد هنا ان الرياح تحمل السحاب الثقال ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) ـ ٥٧ الأعراف. الوصف الثالث (فَالْجارِياتِ يُسْراً) تجري الرياح بيسر وسهولة ، وهي تحمل السحاب. الوصف الرابع (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الرياح تفرق الأمطار على البلاد ، كما قال سبحانه في آية ٥٧ من (الأعراف) : (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ).


(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ). هذا جواب قسم (وَالذَّارِياتِ) والمراد بما توعدون الإحياء بعد الموت ، وبالدين الحساب والجزاء ، والمعنى ان الله يبعث من في القبور لا محالة ، وانه تعالى يجزي الإنسان بأعماله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) بضم الحاء والباء ، وفي تفسيره أقوال أرجحها انه الخلق الحسن ـ بفتح الخاء ـ أي ان في خلق السماء إحكاما ونظاما وزينة وجمالا (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). الخطاب لمن كذّب الرسول الأعظم (ص). وأقوالهم كلها خلط واضطراب .. وكذب ووهم .. فمنها عن الرسول (ص) : انه مجنون الى شاعر وساحر. وعن القرآن : انه أساطير الى رجز من نظم محمد (ص) (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الدين والحق من صرفه عنه الهوى والجهل ، ومثله تماما «لا يعمى عن ذلك إلا أعمى».

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) وهم الذين بيّنهم سبحانه بقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ). غمرهم الجهل والضلال من فرع الى قدم .. فوزعوا ظنونهم جزافا ومن غير أساس على الأرض والسماء ، وعلى البعث والجزاء ، وقالوا : لله شركاء من الأحجار ، وبنات من الجن والملائكة ، أما البعث فحديث خرافة (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)؟ يقولون ساخرين : متى يكون البعث والحساب؟ فيجيبهم سبحانه : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ). يكون البعث يوم يعرضون على جهنم ويحرقون فيها. ويقال : فتنت الشيء أي أحرقته بالنار ليخرج ما فيه من الغش ، وتقول ملائكة العذاب للمجرمين : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). هذا هو العذاب الذي تعجلتم به ، وسخرتم بالأمس منه .. فكيف رأيتم طعمه ومذاقه؟.

حق السائل والمحروم الآية ١٥ ـ ٣٠ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ


يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

اللغة :

الهجوع النوم ليلا ومنكرون مجهولون لا نعرفهم. فراغ ذهب ومال سرا عن ضيوفه. فأوجس أحس. وصرة بفتح الصاد صيحة وضجة.

الإعراب :

آخذين حال من الضمير الذي تعلق به (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). وما آتاهم مفعول آخذين. وجملة يهجعون خبر كانوا و «ما» زائدة إعرابا. وقليلا صفة لمفعول مطلق مقدر أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا من الليل. وفي أنفسكم متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي وفي أنفسكم آيات. ومثل حال ، وما زائدة إعرابا ، والمصدر من أنكم تنطقون مجرور بالاضافة أي مثل نطقكم. وسلاما مفعول


مطلق لفعل مقدر أي نسلم عليك سلاما. وسلام مبتدأ والخبر محذوف أي عليكم سلام. وقوم خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم قوم. وخيفة مفعول أوجس. وعجوز خبر لمبتدأ محذوف أي أنا عجوز.

المعنى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ). يأخذ سبحانه من الصالحين أعمالهم ، ويثيبهم عليها ، كما قال : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ـ ١٠٤ التوبة أي يتقبلها ويثيب عليها ، وأيضا يأخذ الصالحون ما آتاهم الله من ثواب ويتقبلونه بغبطة وسرور ، وبتعبير الآية ١٨٨ من سورة المائدة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). كانوا ينامون في الليل ، ولكن قليلا ، وكثيرا ما اتصل تهجدهم بالأسحار ، فيأخذون فيها بالتسبيح والاستغفار.

قال الإمام علي (ع) في وصفهم : «أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا .. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، وتطلعت اليها أنفسهم شوقا .. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم وظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم».

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). السائل هو الذي يطلب من الناس الحسنات والصدقات ، والمحروم الفقير الذي يستنكف عن السؤال ، ويصدق عليه قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ـ ٢٧٣ البقرة وكلمة فقير تعني وتؤكد شرعا ان الفقير شريك للغني في ماله ، وان هذا غاصب ظلوم إذا منع الفقير من حقه. وتكلمنا عن ذلك مفصلا بعنوان «الزكاة» في ج ١ ص ٤٢٨ وبعنوان «الغني وكيل لا أصيل» في ج ٢. ص ٢١٧.


الله والمعرفة الحسية :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). من تأمل في أيّ كائن من الكائنات ونظر اليه نظرة الفاحص المدقق لا بد أن ينتهي إلى التساؤل : من الذي دبّر وأحكم هذا الصنع؟. ولا يجد جوابا مقنعا وتفسيرا صحيحا إلا وجود قوة عالمة هادية. وإذا لم يقتنع بهذا الجواب فلا يجد أمامه إلا الصدفة والطبيعة العمياء ، وليس من شك انها تزيده جهلا وعمى.

وقال الماديون : لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والتجربة ، والله لا يقع تحت الحس ولا هو موضوع للتجربة ، فالإيمان به ـ إذن ـ لا يستند إلى دليل ، بل هو جهل وضلال.

الجواب أولا : لا نسلم ان أسباب المعرفة تنحصر بالحس والتجربة ، بل هناك أيضا معرفة عقلية نصل اليها عن طريق القوى الذهنية ، ومن أسقط العقل عن الاعتبار ونفى الحجة عنه فقد نفى الانسانية من الأساس ، إذ لا انسانية بلا عقل حاسم قاطع .. يضاف إلى ذلك إلى ان من نفى المعرفة عن العقل فقد ناقض نفسه بنفسه حيث نفى معرفة العقل بالعقل ، واستدل على عدم الشيء بوجوده.

ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بأنه لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والمشاهدة فإننا نثبت وجود الله ونؤمن به عن هذا الطريق بالذات .. وهو موجود في كل مشهد من مشاهد الطبيعة ، وقد بلغت هذه المشاهد النهاية من البداهة والوضوح ، وأوصلتنا إلى العلم بالمبدع المصور بمجرد النظر اليها والتأمل فيها بدون الرجوع إلى المختبرات والمصانع .. ولو توقف العلم بالله على التحليل في المختبرات لا نحصر وجوب الايمان بالمتخصصين بهذا الفن وحدهم ، ولما صح منه تعالى علوا كبيرا أن يخاطب العموم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) مع العلم بأنه ، جلت عظمته ، أوجب الايمان به على جميع عباده .. ولكن بعد أن قدم لهم الدليل القاطع لكل معذرة على وجوده ، أقام سبحانه هذا الدليل من الفطرة والعقل ومن الحس أيضا عملا بالمبدأ العادل القائل : «البينة على من ادعى».


وليس في قولنا هذا جرأة وسوء أدب لأنه جل جلاله هو القائل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ـ ٥٣ فصلت. ونفس الإنسان وما في الآفاق من الكائنات هي من المشاهد المحسوسة الدالة على وجوده تعالى ، وبها يظهر الحق الذي لا ريب فيه ، ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد نفسه أمام العديد من هذه الآيات الكونية التي تدعو إلى الايمان بالله عن طريق المعرفة التي هي ثمرة الحس والعقل ، من ذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٤ الأعراف أي شيء محسوس وملموس.

ان الايمان بالله ايمان بما لا تراه العين ولا تلمسه اليد ، ولكن هذا الايمان تفرضه وتحتمه المرئيات والملموسات ، تماما كما يؤمن الطبيب العارف بوجود نوع من المرض في الجسم السقيم ، ويحدد ماهيته بمجرد أن يلمس الجسم أو ينظر اليه دون أن يرى الميكروب الذي تولد منه المرض .. وما من أحد مؤمنا كان أو ملحدا إلا وهو يؤمن ايمانا قاطعا بأشياء كثيرة لا تقع تحت الحس لأن هذا الايمان يحتمه الحس بالذات ، والذين يعتمدون على التجربة يعنون بها الاستدلال من شيء تدركه الحواس.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ). قوله : (رِزْقُكُمْ) على حذف مضاف أي أسباب رزقكم كالمطر وما اليه ، وقديما قيل : لو لا السماء لما كان للناس بقاء. واختلفوا في تفسير (وَما تُوعَدُونَ) فمن القائل : ان المراد به الجنة والنار ، وقائل : انه الخير والشر ، وقال ثالث : بل المراد ان الرزق مقسوم ومكتوب .. وفي رأينا ان المراد بما توعدون أسباب الرزق بالذات بدليل ان الله سبحانه أشار في الآية إلى ان في الأرض وفي أنفسنا آيات محسوسة ملموسة تدل على وجود الله وعظمته ، ثم عقب بعد ذلك بأن في السماء أيضا آيات محسوسة تدل عليه تعالى وعلى عظمته ، وبالبديهة ان الآيات السماوية المحسوسة هي المطر والكواكب وليست الجنة والنار وما اليهما.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ). قال الرازي : «الضمير في (انه) عائد الى القرآن. فكأنه قال : ان القرآن لحق نطق به


الملك نطقا مثل ما انكم تنطقون». وليس من شك ان القرآن حق لا ريب فيه وان جبريل قد نطق به أيضا ، ولكن لم يسبق للقرآن ولا للملك ذكر من أول السورة الى هنا ، والذي ذكر في الآية ١٢ هو يوم الدين ، ثم أشار سبحانه الى ما في الأرض والسماء وأنفسنا من الدلائل على وجود المبدع ، فالأولى إرجاع الضمير الى ذلك كله ، وعلى هذا يكون المعنى انه سبحانه قد أقسم بجلاله ان الله حق والبعث حق ولا ينبغي الشك في ذلك بعد أن قامت عليه الدلائل تماما كما لا ينبغي للإنسان أن يشك فيما نطق به .. وروي ان أعرابيا قال حين سمع هذه الآية : «من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه الى اليمين». وليس هذا ببعيد على من نشأ على الفطرة التي ولد عليها.

وبالمناسبة قال أهل اللغة : النطق نوعان : خارجي ، وهو اللفظ ، وداخلي ، وهو الفكر والإدراك ، وقال أهل المنطق في تعريف الإنسان : انه حيوان ناطق أي مفكر ، وقال «ديكارت» : «أنا أفكر وإذن فأنا موجود» وهذه حقيقة بديهية تنفي الشك في وجود المفكر لأنها خرجت منه بالذات ، وعلى هذا فلنا أن نفسر قوله تعالى : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) بمثل ما انكم تلفظون ، وأيضا لنا أن نفسره بمثل ما انكم تفكرون لأن كلا من وجود التفكير والتلفظ ينفي الشك عن وجود المفكر والمتلفّظ.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ). كلمة ضيف تستعمل في المذكر والمؤنث والواحد والجماعة ، والمراد بضيف ابراهيم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بإسحاق وإهلاك قوم لوط ، ووصفهم سبحانه بالمكرمين لأنهم كرام عنده وعند عباده المؤمنين (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). حييوه فردّ التحية ، وقال : هؤلاء أناس لا نعرفهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ). أسرع ابراهيم الى عياله وأمرهم أن يهيئوا لضيوفه عجلا سمينا ، وكان ما أراد ونضج العجل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ليأكلوا ، فأبوا (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ)؟ ولكنهم أصروا على الامتناع لأنهم ليسوا بشرا يأكلوا الطعام (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنه فوجئ بأمر لا يعرف عواقبه ، ولما رأوا ما به (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ). أعلموه بحقيقة ما جاءوا به من البشارة بإسحاق (فَأَقْبَلَتِ


امْرَأَتُهُ) سارة لما سمعت البشرى (في صرة) ارتفع صوتها من الدهشة (فَصَكَّتْ وَجْهَها) ضربته بيدها فرحا وتعجبا (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) فكيف ألد؟. (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ). الله يعلم انك عجوز عقيم ، ولكن شاءت حكمته أن يهبك على الكبر غلاما كاملا ، وإذا أراد الله شيئا فهو يقول له : كن فيكون .. وأوجزنا تفسير هذه الآيات لوضوحها ، ولأنها تقدمت في سورة هود الآية ٩ ـ ٧٣ ج ٤ ص ٢٤٧ وفي سورة الحجر الآية ١ ـ ٥٦ ص ٤٨١ من المجلد المذكور.



الجزء السّابع والعشرون



فما خطبكم أيها المرسلون الآية ٣١ ـ ٤٦ :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

اللغة :

فما خطبكم فما شأنكم؟ ومسومة عليها علامة. وبسلطان مبين بحجة واضحة. والمراد بالركن هنا القوة والسلطان أي أعرض لأنه يملك السلطان والقوة ، ومثله : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ـ ٨٠ هود. والمليم هو الذي يفعل ما يلام عليه. والريح العقيم هي التي لا خير فيها من المطر أو تلقيح الشجر ونحوه. والرميم البالي. والصاعقة العذاب.


الإعراب :

فما خطبكم مبتدأ وخبر. ومسومة صفة لحجارة. وفي موسى متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي وفي موسى آية. وساحر خبر لمبتدأ مقدر أي هذا ساحر. وفي عاد وفي ثمود مثل وفي موسى. وقوم نوح بالنصب على تقدير وأهلكنا قوم نوح.

المعنى :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ). ابراهيم (ع) يسأل ضيوفه بعد أن عرف هويتهم : إلى أين؟ وما ذا تبغون؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي قوم لوط ، وهم مجرمون ومسرفون لأنهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ). لنهلكهم بحجارة معلمة من طين صلب أعدها الله لمن تجاوز الحد في الكفر ، وأسرف في البغي والفساد (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا يصيبهم ما أصاب المجرمين المسرفين (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهم بيت لوط إلا امرأته كانت من الهالكين (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ). ضمير فيها يعود الى قرى قوم لوط أو مدينتهم ، والمراد بالآية الآثار التي تنبئ عن إهلاكهم وعذابهم ، لتكون تبصرة لمن تدبّر وعبرة لمن اتعظ. وتقدمت هذه الآيات في سورة الأعراف الآية ٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٣ وفي سورة هود الآية ٧ ـ ٨٣ ج ٤ ص ٢٥٥.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). أرسل سبحانه موسى بمعجزات كافية وافية الى فرعون ليردعه عن غيه وضلاله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أعرض مغترا بجنده وسلطانه (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) .. ولما ذا موسى ساحر أو مجنون في منطق فرعون؟ لأنه قال له : لست إلها يعبد ، وحذره مغبة البغي والطغيان (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ). طغى وبغى وقال : أنا ربكم الأعلى فكان عاقبة أمره إغراقا ولوما .. ومن نافلة القول ان نشير الى ما سبق من


التكرار ، وفي ج ٥ ص ٢٠٦ ذكرنا السبب الموجب لتكرار قصة موسى ، أما هنا فنقول : الله أعلم.

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ). عاد هم قوم هود ، وقد أهلكهم الله بريح عاصفة قاصفة (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) لا تمر بشيء إلا تهدم وتحطم .. وسبقت قصة هود مع قومه في سورة الأعراف الآية ٥ ـ ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٧ وفي سورة هود الآية ٠ ـ ٦٠ ج ٤ ص ٢٣٩. (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) ثمود قوم صالح. وهذه الآية تشير الى ما جاء في الآية ٦٥ من سورة هود : (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). عصوا الله والرسول ، فأنزل سبحانه عليهم العذاب من السماء ، ولما رأوه خارت قواهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وتقدمت قصة صالح مع قومه ثمود في سورة الأعراف الآية ٣ ـ ٧٩ ج ٣ ص ٣٥٠ وفي سورة هود الآية ١ ـ ٦٨ ج ٤ ص ٢٤٤ (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أغرقهم الله بذنوبهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) يفعلون الموبقات ، وينتهكون المحرمات. وتقدمت قصة نوح في سورة الأعراف الآية ٩ ـ ٦٤ ج ٣ ص ٣٤٤ وفي سورة هود الآية ٥ ـ ٤٩ ج ٤ ص ٢٢٢.

ومن كل شيء خلقنا زوجين الآية ٤٧ ـ ٦٠ :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ


أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

اللغة :

بأيد أي بقوة. وموسعون اشارة إلى أن القضاء يتسع باستمرار على مدى الأيام ، ويأتي التفصيل. والفرار إلى الله معناه الالتجاء اليه والاعتصام بحبله. وتواصوا أوصى بعضهم بعضا. وبملوم أي بمسؤول.

الإعراب :

والسماء مفعول لفعل مقدر أي بنينا السماء بنيناها. والأرض أيضا مفعول لفعل مقدر أي فرشنا الأرض فرشناها. فنعم الماهدون المخصوص بالمدح محذوف أي نحن. وكذلك خبر لمبتدأ مقدر أي الأمر كذلك. أتواصوا الهمزة للإنكار.

المعنى :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). قال بعض المفسرين : المراد بموسعين ان الله يوسع الرزق على خلقه بالمطر .. والمعنى الذي يتفق مع الواقع ومدلول الآية


معا أن يكون المراد بالسماء هنا المعنى الظاهر من كلمة السماء وهو الفضاء الواسع الرحب بما فيه من النجوم وغيرها. والمراد بموسعين ان الله سبحانه يزيد الفضاء اتساعا باستمرار وعلى مدى الأيام ، قال أهل الاختصاص : ان الفضاء يتمدد بين المجرات باستمرار ، وان حجم الفضاء العالمي الآن يبلغ نحو عشرة أضعاف حجمه منذ بداية تمدده .. ويقول «سير جينز» : يبلغ متوسط البعد بين المجرات بعضها مع بعض نحو مليون ونصف من السنين الضوئية مع العلم ان الضوء يقطع ٦ ملايين مليون من الأميال في سنة واحدة .. ويقول «كامو» : انه قد علم بواسطة المراصد الكبرى ان بين النجوم مسافات سحيقة تقدر بنحو خمسمائة مليون سنة ضوئية ، وانه قد أحصى من المجرات نحو مائة مليون مجرة ، وانه يحتمل وجود مجرات أخرى على مسافات أبعد. (التكامل في الإسلام لأحمد أمين العراقي ج ٣ ص ٦٧ طبعة أولى).

ونحن لا نتحمس لتطبيق القرآن على العلم الحديث للمحاذير التي ذكرناها في ج ١ ص ٣٨ .. ولكن لا نجد مفرا من القول : ان هذه الآية الكريمة أصدق شاهد على ان معجزة محمد بن عبد الله (ص) هي المعجزة الأبدية الوحيدة من بين معاجز الأنبياء أجمعين ، وانها تزداد رسوخا ووضوحا كلما تقدم العلم خطوة الى الأمام.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ). مهد وهيأ سبحانه الأرض للإنسان ، وبسط فيها يده ليبني ويعمل للحياة والخير ، لا للشر والدمار ، أطلق يده ليعمل واشترط عليه أن يكف الأذى عن أخيه الإنسان ، لا ليلقي بالصواريخ وقنابل النابالم على مدارس الأطفال ودور الحضانة ، ومستشفيات المرضى ومصانع العمال ، وعلى كل من ينشد الحرية ، ويرفض العبودية إلا لله وحده.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). يدل ظاهر الآية على أن الله سبحانه خلق في كل جنس من الكائنات زوجين ذكرا وأنثى ، سواء أكان إنسانا أم حيوانا او نباتا ام جمادا لأن كلمة كل شيء تعم الجميع .. ولا ندري هل اكتشف العلماء هذه الحقيقة او انهم ما زالوا في طريق الوصول اليها؟ والذي قرأناه من أقوال العلماء في هذا الباب ان ما من ذرة في الكون إلا وهي مؤلفة


من كهيرب موجب وسالب أي انها تحتوي على عنصر يجذب وآخر يدفع ، فهل تنطبق الآية على ذلك؟.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). وكل من كف الأذى عن غيره ، وصدق في أقواله وأخلص للحق والعدل في أفعاله فقد فر من الباطل الى الحق ، ومن الضلال إلى الهدى ، وعمل بما أمر الله ، أراد ذلك أو لم يرد. اما الكاذب الخائن فهو أعدى أعداء الله ، وان هلّل وكبّر ، وتعبد وتصدق.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). والشرك أشكال ، منه عبادة الأصنام ، ونسبة الولد الى الله ... ومنه ايضا التلوّن في الدين والعمل لحساب أعداء الله والانسانية باسم الإسلام وصالح المسلمين.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). قال لك المكذبون يا محمد تماما مثل ما قال الأولون لأنبيائهم ، وما حظك في ذلك بأدنى من حظهم (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ). غريب أن يتشابه الأولون والآخرون في تكذيب المحقين والمصلحين ... هل اجتمعوا وتواصوا بذلك كلا ، ما اجتمعوا ، ولا رأى او قلد بعضهم بعضا ، وإنما جمعهم عداء الباطل للحق ، والجهل للعلم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لا تذهب نفسك حسرات على كفرهم وطغيانهم يا محمد فما أنت بمسؤول عن دينهم ولا عن أقوالهم وأفعالهم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). لا مهمة لك يا محمد إلا ان تبلغ القرآن وتعظ به جميع الناس ، وإذا لم ينتفع بالموعظة من أصر على الكفر والفساد فينتفع بها من يبحث عن الحق ليؤمن به ويعمل بموجبه.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وعبادة الله وحده تعني التحرر من عبادة الإنسان للإنسان ، ومن عبادة المال والجاه ، وجميع الأهواء والشهوات ، وان لا يخضع إلا للحق والعدل ، وأيضا تعني الجهاد لنصرة الحق وأهله ، والعمل لخير الدنيا والآخرة ، وما من ريب ان من سلك هذه السبل أدت به الى دار السلام ، وعلى هذا تكون الغاية من خلق الجن والانس ان يحيوا حياة طيبة دائمة في دار الله وجواره شريطة ان يتحرروا من العبودية بشتى أنواعها ، ويعملوا صالحا ، ومن أهمل وقصّر فلا يلومنّ إلا نفسه ، وما ربك بظلام للعبيد. وتكلمنا مفصلا عن ذلك في ج ٦ ص ١٧١ فقرة «لما ذا خلق الله الإنسان؟».


وتسأل : وما ذا تصنع بالحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيا فأردت ان أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني» فإنه يدل بوضوح على ان الغاية من الخلق هي معرفة الله؟.

الجواب : ان هذا الحديث يتفق تماما مع التفسير الذي ذكرناه لأن من عرف الله حق المعرفة استغنى بعبادته عن عبادة الناس والجاه والمال ، وعمل لمرضاته وجنته.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). وكأنه تعالى علوا كبيرا يقول : ما خلقت الخلق لأستغلهم في مصانعي وحقولي ، ولا لأتخذ منهم سوقا لتصريف سلعي وبضائعي ، ولا لأحارب بهم من يزاحمني على الاستغلال والاحتكار ، كلا ان الله غني عن العالمين ، وانما خلقتهم ليعملوا يدا واحدة لخيرهم أجمعين ، ويجاهدوا من يحاول الاعتداء على حريتهم وكرامتهم ، وينتهب أموالهم وأرضهم وديارهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). ومعنى الله هو الرزاق انه تعالى خلق الأرض للإنسان معاشا ، وزوده بجميع الأدوات التي تمكنه من استثمارها من أجل حياته كالعقل والقوة والسمع والبصر ، وقال له : اعمل لدنياك وآخرتك ، ولا تعتد ان الله لا يحب المعتدين ، تماما كما لو أعطيت ولدك مالا ، وقلت له :

تاجر به لمعاشك ، وكن أمينا في معاملتك.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ). المراد بالظالمين هنا الطغاة المترفون الذين كذّبوا رسول الله (ص) والمعنى ان نصيب هؤلاء من العذاب تماما كنصيب الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) العذاب الذي هو نازل بهم لا محالة ... وما أقرب اليوم من الغد (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) به ويستعجلون مجيئه ... فكم من مستعجل أمرا ودّ ـ حين مجيئه ـ انه لم يكن.


سورة الطّور

٤٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والطور الآية ١ ـ ١٦ :

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

اللغة :

قال الفيروزآباديّ في قاموسه المحيط : يطلق الطور على فناء الدار وعلى كل جبل ، وعلى جبل قرب أيلة يضاف الى سيناء وسينين ، وعلى جبلين بالقدس ،


وآخر برأس العين ، وعلى جبل مطل على طبرية. والرق جلد رقيق يكتب فيه. والبحر المسجور أي امتلأ وفاض. وتمور تضطرب. والمراد بالخوض هنا حديث الباطل. ويدّعون يدفعون. أصلوها قاسوا حرها.

الإعراب :

والطور الواو للقسم. وما بعد الطور عطف عليه. في رق متعلق بمسطور. ان عذاب ربك الخ جواب القسم. يوم تمور «يوم» متعلق بواقع. ويوم يدعون «يوم» بدل من يوم المتقدمة. وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر. وسواء خبر لمبتدأ محذوف أي الصبر وعدمه سواء.

المعنى :

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). الطور هنا هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، وقد أقسم به سبحانه في هذه الآية وفي الآية ٢ من سورة التين ، والمراد بكتاب مسطور كل كتاب سماوي لأن «كتاب» نكرة ، وهي شائعة في جنسها ، والتعيين يحتاج الى قرينة ، ومجرد ذكر الطور لا يصلح قرينة لارادة التوراة من كلمة كتاب ، وقوله تعالى : (مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) معناه ما أنزل الله كتابا إلا وقد جعله في متناول كل يد ، وان كل انسان يستطيع الوصول اليه والى معرفة ما فيه تماما كما تقول : هذا كتاب الله بين أظهركم ينطق بحلاله وحرامه. وفي نهج البلاغة : أشهد ان محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين المشهور والكتاب المسطور. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ـ ١٢٧ البقرة. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) ـ ٣٢ الأنبياء أي كالسقف في عين الرائي (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المملوء الذي يفيض بالماء : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) ـ ٦ التكوير أي امتلأت وفاضت. اقسم سبحانه بهذه الكائنات الخمسة للاشارة


الى قدرته عزّ من قادر. انظر تفسير الآية ١ من سورة الصافات ، فقرة «الله والقسم بخلقه» ج ٦ ص ٣٣٠.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) على المجرمين لا محالة. والجملة جواب القسم (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) تماما كالموت لا يملك رده إلا الذي يحيي ويميت (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي تذهب الجاذبية ، ويختل التوازن بين كواكب السماء وتحدث الفوضى ويعم الخراب (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ومتى مارت السماء ارتجت الأرض وزالت الجبال عن أماكنها ، وتشير الآيتان الى قيام الساعة وخراب الكون حيث تحشر الخلائق للحساب والجزاء (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ). لعبوا بالدنيا ولعبت بهم ... ولكن شتان فما هم بأكفاء لها ، ولذا صرعتهم وعجلت بهم الى جهنم وبئس القرار (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا). يدفعون اليها بعنف وتقول لهم ملائكة العذاب : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد.

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)؟ خوّفهم الرسول الأعظم (ص) من نار جهنم ، فقالوا له : انك لساحر ... وفي يوم الجزاء يجعلهم سبحانه لجهنم حطبا ، ويقول لهم : ما ذا ترون الآن؟ هل محمد ساحر؟ وهل عذاب الحريق سحر؟ (اصْلَوْها) ولا كالنار يشقى من فيها (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ). فالعذاب هو هو لا يخفف ولا ينقطع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من بغي وفساد.

أهل الحنة الآية ١٧ ـ ٢٨ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ


بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

اللغة :

فاكهين يجوز أن يكون من الفكاهة أي طيبي النفس ، وان يكون من الفاكهة اي يتلذذون بها ، وكل من المعنيين يتناسب مع جنات ونعيم ، والمعنى الثاني انسب لقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) اي طعاما سائغا وشرابا سائغا. ما ألتناهم ما انقصنا من ثواب عملهم. يتنازعون يتعاطون. لا لغو فيها ولا تأثيم اي ان خمر الجنة لا تذهب بعقل الشارب فيلغو ويأثم في كلامه. ومشفقين خائفين من عذاب الله. والسموم النار.

الإعراب :

فاكهين حال من الضمير في خبر ان المحذوف اي استقروا في جنات ونعيم فاكهين. وهنيئا صفة لمفعول مطلق مقدر اي أكلا هنيئا وشربا هنيئا. متكئين حال من فاعل كلوا واشربوا. والذين آمنوا مبتدأ وألحقنا بهم خبر. وبما كسب متعلق برهين. وفي أهلنا متعلق بمشفقين.

المعنى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).


اتقوا الله في الدنيا فوقاهم في الآخرة عذاب النار ، وجعل الجنة لهم ثوابا يتنعمون فيها ، لا يشغلهم عن ملذاتها شاغل (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أنتم أيها المتقون أحق بهذا النعيم لأنكم عملتم له بإخلاص .. وتدل الآية على أنه لا كرامة عند الله لمخلوق كائنا من كان إلا بالعمل ، أما المناصب والأنساب والأموال فما هي بشيء إلا إذا كانت وسيلة للخير والصالح العام (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ). والاتكاء على السرر مع التفرغ للملذات يدل على التحرر من مشاكل الحياة وأتعابها (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) يحار العقل والطرف من حسنهن وكمالهن ... ويا لها من نعمى!.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). ليس من شك ان الأطفال الصغار لا يعذبون بحال ، سواء أكان آباؤهم من الأخيار أم الأشرار ، إذ لا عقاب بلا عصيان ، ولا عصيان بلا تكليف ، وقد رفع سبحانه القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وكرر سبحانه في العديد من الآيات : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ـ ١٦٤ الأنعام. أما قول من قال : ان ولد الكافر يدخل النار لأنه لو عاش لاعتنق دين أبيه ، أما هذا القول فمتروك لأن الله يحاسب الإنسان على ما فعل ، ولا يحاسبه على ما لو استطاع لفعل.

وتسأل : هل الأطفال الصغار يحشرون ويدخلون الجنة؟.

الجواب : لا سبيل الى معرفة ذلك إلا كتاب الله وسنة نبيه ، لأن العقل لا يحكم هنا بشيء سلبا ولا إيجابا. ولا شيء في الكتاب والسنة المتواترة يدل على أن أطفال الكافرين يحشرون ... وفي حديث عن الرسول الأعظم (ص) : ان أطفال المؤمنين يهدون الى آبائهم المتقين يوم القيامة. وقال كثير من المفسرين : ان الكبار المؤمنين من ذرية المتقين يلحقون بدرجة آبائهم العليا في الجنة ، وان كانوا دونهم في العمل الصالح لكي تقر بهم أعينهم ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي نزيد للأبناء كرامة للآباء ، ولا ننقص الآباء شيئا من ثوابهم ودرجاتهم.

وقال الامامية والحنفية والشافعية والحنابلة : يحكم بإسلام الطفل تبعا لأحد أبويه ، فإن كانا مسلمين فذاك ، وان كان أحدهما مسلما والآخر كافرا فالطفل بحكم المسلمين


سواء أكان المسلم هو الأب أم كان كافرا لكن الأم كانت مسلمة ، أما المالكية فقالوا : العبرة بإسلام الأب فقط ولا أثر لإسلام الأم بالنسبة الى الطفل.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) فعليه وحده تبعة أعماله ، وبها يقبل غدا على الله ، ولا يسأل عما فعل سواه (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ). خص سبحانه الفاكهة واللحم بالذكر لأنهما سيدا الطعام (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ). يشربون منعشا بلا سكر ولا عربدة ، ولا ما يستوجب الإثم والمؤاخذة على قول أو فعل (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) صفاء وبهاء ... وقوله تعالى : «لهم» اشارة الى ان الغلمان يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا : كيف كان في دار الدنيا؟ وبماذا استحق من الله هذه الكرامة. وتقدم مثله في الآية ٥٠ من سورة الصافات (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ). اتقينا الله في دار الدنيا خوفا من غضبه وطمعا في ثوابه (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) برحمته وخصّنا بنعمته (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الذي يذيب الجلود ، ويشوى الوجوه (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ). كنا في الدنيا رحماء أبرارا ، فكان الله بنا في الآخرة برا رحيما.

لا عذرلمن أنكرنبوة محمد الآية ٢٩ ـ ٤٤ :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا


يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤))

اللغة :

الكاهن هو الذي يوهم الناس بأنه يعلم بعض الغيب عن طريق اتصاله بالجن. والتربص الانتظار. وكلمة المنون تأتي بمعنى المنية وبمعنى الدهر ، والمراد هنا بريب المنون حوادث الدهر وضرباته القاسية بالموت ونحوه. وتطلق الأحلام على الأماني والعقول ، ويستقيم المعنى على المعنيين. والتقول الافتعال والاختلاق. ومغرم بفتح الميم التزام بالغرامة. ومثقلون محمّلون أثقالا. وكسفا بكسر الكاف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. ومركوم متراكم.

الإعراب :

انت اسم «ما» النافية. وبكاهن الباء زائدة إعرابا. وكاهن خبر. وبنعمة ربك اعتراض بين الاسم والخبر. والباء بنعمة لبيان السبب وليست للقسم كما في مجمع البيان ، ويتعلق المجرور بها بما دل عليه معنى الكلام أي ان الله نزّهك يا محمد عن الجنون والكهانة بفضله وكرمه. و «ام» المكررة في الآيات معناها الاستفهام مع التوبيخ والإنكار. وشاعر خبر لمبتدأ مقدر أي هو شاعر. وتقوّله


فعل ماض مثل تكلفه وتعسفه. ومن مغرم متعلق ب «مثقلون». فالذين كفروا مبتدأ و «هم» ضمير فصل والمكيدون خبر. وغير الله صفة لإله. ومن السماء متعلق بمحذوف صفة للكسف. وساقطا حال او صفة لأن رأى هنا بصرية.

المعنى :

تشير هذه الآيات الى حال الرسول الأعظم (ص) مع المشركين حين دعاهم الى التوحيد ونبذ الشرك ... وقد ابتدأ سبحانه بمخاطبة نبيه الكريم :

١ ـ (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ). امض في سبيلك ، وثابر يا محمد على مهمتك ، وهي الدعوة الى الله والتخويف من عذابه ، ولا تكترث بما يقوله عنك بعض المعاندين : انك كاهن تدعي علم الغيب ... ويقوله آخرون : انك مجنون ... فأنت بحمد الله وفضله أبعد من كان ويكون عن أكاذيبهم ومزاعمهم ... وكيف تكون كاهنا أو مجنونا وقد جعلك الله أمينا على وحيه ، واختارك لرسالته؟.

٢ ـ (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). قال بعضهم لبعض : محمد شاعر يتكلم من نسج الخيال ... فاثبتوا على تكذيبه ، وانتظروا أياما ، فإن هلك فذاك ما تبتغون ، وان عاش افتضح بمزاعمه ... ثم افترقوا على هذا (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ). أمر سبحانه نبيه الكريم أن يقول لهم : انتظروا .. وأنا أيضا أنتظر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويصبح من النادمين.

٣ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) الافتراء والضلال. والمراد بأحلامهم عقولهم ، البالية وأمانيهم الخادعة.

٤ ـ (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ). انهم على علم اليقين انك رسول الله حقا وصدقا ، ولكنهم ينكرون الحق بغيا وعنادا حرصا على مناصبهم ومكاسبهم.

٥ ـ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلق القرآن من تلقائه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بحق ولا يكفون عن باطل (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في ان القرآن


شعر وكهانة ، فما أكثر ما عندهم من الكهنة والشعراء. وتقدم مثله في الآية ٢٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٦٤.

٦ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) صدفة ... لا خالق ولا مدبر ... ولا هدف ولا مسؤولية ... لا شيء تماما كما تخلق الحشرات في العفونة والقذارات.

٧ ـ (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أنفسهم بإرادتهم وقدرتهم؟

٨ ـ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). وتسأل : ان المشركين لا يدعون انهم الخالقون لأنفسهم ولا لغيرهم ، بل نص القرآن على اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ـ ٨٧ الزخرف. وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ٦١ العنكبوت ـ إذن ـ فما هو المبرر لقوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟

الجواب : انهم من الوجهة النظرية يعترفون بأن الله هو خالق كل شيء ... ولكنهم من الوجهة العملية يتصرفون تصرف من لا يؤمن بالله ولا يعترف بوجوده ... بل يدل تصرفهم على انهم يدّعون الخلق والربوبية ... والى هذا يومئ قوله تعالى : (بَلْ لا يُوقِنُونَ). وينطبق هذا الوصف على الكثير من الذين يدعون الايمان بالله واليوم الآخر في زماننا.

٩ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ)؟ وإذا اعترفوا بأن الله خالق كل شيء فهل يدعون بأن الله فوض اليهم إدارة ملكه واختيار أنبيائه ، وتقسيم الأرزاق والأعمار على عباده؟ وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة الزخرف.

١٠ ـ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) على الخلائق وجميع الكائنات ... شاء الله أم أبى.

١١ ـ (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) وإذا لم يدعوا شيئا من ذلك فهل يدعون انهم ارتقوا بمصعد الى الله وسمعوه يقول : ان محمدا يفتري الكذب على الله؟ (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). هذا هو منطق الحق والعدل ، والنهاية في انصاف الخصم ... فلكل انسان أن يدعي ما شاء حتى علم الغيب ، شريطة أن يقيم البينة الواضحة على دعواه ، وإلا فهو مفتر كذاب.


١٢ ـ (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ). لا فرق إطلاقا بين قولهم : محمد شاعر وكاهن ومجنون وبين قولهم : لله البنات ولهم البنون .. ولا ينحصر الافتراء على الرسول بالقول : انه مجنون ، ولا بنسبة الشريك والولد الى الله ... فكل من حرم حلالا أو حلل حراما فقد افترى الكذب على الله والرسول.

١٣ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). لما ذا كذبوا رسول الله؟ هل ألزمهم بغرامة يعجزون عنها ولا يستطيعون أداءها؟

١٤ ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ). هل هم كتبة الوحي عند الله يسجلون الأرزاق والأعمار ومن يختار من الأنبياء ، وما طلب منهم سبحانه في يوم من الأيام أن يسجلوا اسم محمد مع أسماء الأنبياء.

١٥ ـ (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ). هذه هي الحقيقة. انهم لا يدعون شيئا ، ولا يريدون شيئا إلا المكر والاساءة الى محمد (ص) .. ولكن ستدور عليهم دائرة السوء لأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله.

١٦ ـ (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). ومن هو؟ وأين هو هذا الإله الذي يرد عنهم عذاب الله عند نزوله؟ تعالى الله علوا كبيرا عن الأمثال والأضداد.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ). لو رأوا العذاب وجها لوجه لكابروا وقالوا : هذا سحاب وسراب. ومثله قوله تعالى حكاية عنهم : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ـ ١٤ الحجرج ٤ ص ٤٦٩.

والخلاصة ان الله سبحانه لم يدع عذرا لمن كذّب أو يكذّب بنبوة محمد (ص) إلا أن ينكر وجود الخالق من الأساس.

فذرهم حتى يلاقو يومهم الآية ٤٥ ـ ٤٩ :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ


كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

اللغة :

يصعقون يهلكون. بأعيننا بحراستنا. وإدبار النجوم بكسر الهمزة وقت مغيبها عن الأعين نهارا.

الإعراب :

يومهم مفعول به ليلاقوا لأن المعنى انهم يلاقون اليوم بالذات ، ولو قال : يلاقون عملهم يوم القيامة لكان يوم مفعولا فيه. ويوم لا يغني بدل من يومهم. وادبار مفعول فيه لفعل محذوف أي وسبّحه في إدبار النجوم.

المعنى :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ). ما زال الكلام عن الذين كذبوا رسول الله (ص). والمعنى لا تكترث يا محمد بتكذيبهم وعنادهم ، فإن لهم يوما لا يجدون فيه مفرا من الهلاك والعذاب الأليم (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). لا حيلة تدفع في هذا اليوم ، ولا ناصر ينفع (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي يعذبون عذابا آخر قبل يوم القيامة ، وقال بعض المفسرين : انه عذاب القبر. وقال آخرون : بل هو ما حل بهم يوم بدر ... أما نحن فلا نحدد ، بل نسكت عما سكت الله عنه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)


بأن للذين ظلموا عذابا قبل يوم القيامة وفيه (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا). المراد بحكم الله هنا إمهال الظالمين الى يومهم الموعود ، وبأعيننا ان الرسول الأعظم (ص) في حصن الله الحصين من أذى الأعداء ومكرهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ). اذكر الله في جميع الحالات والأوقات ، فإن ذكره أحسن الذكر ، ووعده الذاكرين المتقين أصدق الوعد.


سورة النّجم

٦٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

رآه .. عند سدرة المتهي الآية ١ ـ ١٨ :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

اللغة :

هوى سقط. وضل هنا بمعنى ضاع. وغوى من الغواية. وعلّمه هنا بمعنى بلغه عن الله ، وشديد القوى جبريل. والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة الحسنة. فاستوى


استقام مثل فاستوى على سوقه. والأفق الأعلى الجو. وتدلى امتد الى أسفل. والقاب المقدار. وتمارونه تجادلونه. والنزلة بفتح النون المرة من النزول. والمراد بسدرة المنتهى مكان الانتهاء. وجنة المأوى هي جنة الخلد. ويغشى يستر ويغطي أو يأتي. وزاغ مال. وطغى تجاوز.

الإعراب :

والنجم الواو للقسم. وإذا متعلق بفعل القسم المحذوف. وهو بالأفق الأعلى مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير فاستوى. ونزلة منصوبة على الظرفية لأنها بمعنى مرة. وإذ يغشى «إذ» منصوبة برآه.

المعنى :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى). ذكر صاحب البحر المحيط عشرة أقوال في تفسير (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) وأقربها ان المراد بالنجم كل نجم لأن الألف واللام للجنس ، وان معنى هوت النجوم انها تسقط وتتناثر في الفضاء يوم القيامة بدليل قوله تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ـ ٢ الانفطار فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ... وفي هذا القسم إشارة الى أن من أنكر نبوة محمد (ص) يلقى جزاءه يوم القيامة (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). هذا هو المقسم عليه ، وهو ان محمدا (ص) ينطق ويفعل بالوحي من الله ، لا بالشك والجهل ، ولا بغواية غاو ، ولا بدافع من ميوله وأهوائه ... وكيف ينطق النبي أو يفعل عن الهوى ، وقد جاء ليصلح ويقضي على الفساد والأهواء؟.

فكان قاب قوسين :

هذه الآيات من قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) الى قوله : (آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ـ تشير الى حادثة معينة لا سبيل الى معرفتها إلا الوحي ، لأن موضوع


الحادثة هو ظهور جبريل مرتين لرسول الله (ص) على الصورة التي خلقه الله عليها لا على الصورة التي اعتاد النبي أن يراه فيها حين يبلّغه الوحي. وقد كثّر المفسرون الكلام حول هذه الآيات ، وأطنب بعضهم في أوصاف جبريل وأجنحته بلا حجة ودليل ... أما نحن فنقتصر على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ولا يأباه العقل غير ملتزمين بقول راو أو مفسر إلا على هذا الأساس ، والله المستعان :

١ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى). علّمه أي بلّغه ، والضمير يعود الى صاحبكم ، وهو محمد (ص) ، والمفعول الثاني لعلمه محذوف أي الوحي ، وشديد القوى فاعل علمه ، وهو جبريل (ع) ، والمراد بالقوى هنا الصفات التي تؤهل جبريل لتبليغ الوحي كالحفظ والأمانة والدقة في الأداء حتى كأن النبي (ص) يسمع الوحي من الله مباشرة ، والدليل على ان المراد بالقوى الحفظ والأمانة قوله تعالى في وصف جبريل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ـ ١٩٣ الشعراء. وأيضا كلمة علمه تومئ الى ذلك. وعليه يكون المعنى ان جبريل القوي الأمين بلّغ محمدا الوحي على حقيقته تماما كما هو في علم الله.

٢ ـ (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى). ذو مرة صفة لجبريل ، والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة والصورة ، واستوى استقام ، والمعنى ان جبريل ظهر للنبي (ص) مستويا كما خلقه الله.

٣ ـ (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى). ضمير هو لجبريل أي ان جبريل حين ظهر على صورته للنبي امتد مرتفعا في الجو ، وقال المفسرون : الأفق الأعلى مطلع الشمس أي المشرق ، والأفق الأدنى مغربها ، وعلى أية حال فإن القصد هو الإخبار عن جبريل بأن صورته امتدت في الجو ، ولا يهم أن يكون هذا الجو لجهة المشرق أو المغرب.

٤ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى). في كل من دنا وتدلى ضمير يعود الى جبريل ، ودنا أي قرب من النبي (ص) ، وتدلى نزل ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والأصل ثم تدلى فدنا ، والقاب المقدار ، والمعنى ان جبريل بعد أن ظهر للنبي كما خلقه الله ، وارتفع جسمه بالأفق ، بعد هذا عاد الى الصورة التي كان يلقى النبي بها حين يبلّغه الوحي ، وقرب منه حتى لم يكن


بينهما سوى مقدار قوسين بل أقل من ذلك. والمعروف ان جبريل كان يأتي النبي (ص) في صورة دحية الكلبي.

٥ ـ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى). الضمير المستتر في أوحى يعود الى الله لا إلى جبريل ، لأن الضمير البارز في عبده يفسر الضمير المستتر ، والمراد بعبده أي عبد الله هو محمد (ص) ، والمعنى ان جبريل بعد أن عاد إلى الصورة التي كان يلقى بها النبي (ص) ودنا منه ، بعد هذا أوحى الله على لسان جبريل إلى عبده محمد أمورا هامة.

٦ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى). معناه ان رسول الله (ص) رأى جبريل ببصره وقلبه تماما كما خلقه الله ، فلا العين أخطأت فيما رأت ، ولا القلب شك فيما رأت العين بل أيقن وجزم بصدقها (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)؟. الخطاب للمشركين ، والمعنى أتكذبون محمدا وتجادلونه فيما رأت عيناه وآمن به قلبه وعقله ، وهو من عرفتم صدقه وأمانته ، وعقله واتزانه؟.

٧ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى). الضمير المستتر في رآه يعود إلى رسول الله (ص) ، والهاء إلى جبريل ، والنزلة المرة من النزول ، والمراد بسدرة المنتهى مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي يبلغ اليه مخلوق حتى ولو كان من الملائكة.

وقال جماعة من المفسرين : ان في السماء السابعة شجرة تقع عن يمين العرش ، وتسمى هذه الشجرة بسدرة المنتهى! ... وهذا القول يفتقر إلى دليل ، ومهما يكن فنحن غير مسؤولين عن معرفتها بالضبط ما دام الله سبحانه قد سكت عن التحديد. والذي نفهمه من الآية مع ملاحظة ما جاء في سورة الإسراء ـ ان جبريل (ع) حمل النبي (ص) ليلة المعراج ، وطاف به في السموات حتى انتهى به المطاف إلى الحد الأقصى الذي عبّر عنه سبحانه بسدرة المنتهى ، فوقف عنده ولم يتجاوزه إلى غيره لجهة العلو ، أما جنة المأوى فقد تضاربت الأقوال في تفسيرها ... والظاهر انها جنة الخلد التي جعلها الله ثوابا للمتقين بدليل قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ـ ٣٩ النازعات فإن القرآن ينطق بعضه ببعض.


والمعنى المحصل ان رسول الله (ص) رأى جبريل مرتين كما خلقه الله : المرة الأولى هي المشار اليها بقوله سبحانه : (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الخ وتقدم الكلام عنها. والمرة الثانية كانت في ليلة المعراج حيث طاف جبريل في السماء بالنبي (ص) حتى بلغ به مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي لا يتجاوزه مخلوق كائنا من كان .. هذا كل ما دل عليه ظاهر اللفظ أو ما فهمنا نحن من الظاهر ، وما عداه فهو ـ في رأينا ـ من الغيب المحجوب.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى). يغشى فعل يكون بمعنى يغطي ، وبمعنى يأتي ، تقول : يغشى فلان فلانا أي يأتيه ، وتفسير الآية يصح بالمعنيين لأن المراد انه يوجد عند سدرة المنتهى عجائب من آثار قدرة الله وعظمته ما لا يبلغه وصف ولا يحده عقل ، ولذا أبهم سبحانه ، وترك التفصيل (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) .. كلا ، ما حاد بصر النبي (ص) عن الواقع ولا تجاوز عنه ، وكل ما رآه في جبريل وفي السماء ليلة المعراج هو حق وصدق (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). ورؤية الآيات التي شاهدها الرسول في معراجه هي فوق الحساب وفوق الزمان والمكان .. ومستحيل أن يراها انسان إلا بقدرة الله ومشيئته. وتكلمنا عن الإسراء والمعراج عند تفسير الآية ١ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٨ فقرة : «الإسراء بالروح والجسد».

الثلاث والعزى ومناة الآية ١٩ ـ ٢٦ :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ


الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

اللغة :

اللات والعزى ومناة أصنام لأهل الجاهلية. وضيزى جائرة.

الإعراب :

الثالثة صفة لمناة والأخرى صفة ثانية مؤكدة لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. وأنتم تأكيد لفاعل سميتموها. وآباؤكم عطف على هذا الفاعل. ومن سلطان «من» زائدة إعرابا وسلطان مفعول أنزل الله. وما تهوى الأنفس عطف على الظن. وأم منقطعة بمعنى بل. وكم خبرية ومعناها التكثير ومحلها الرفع بالابتداء والخبر جملة لا تغني.

المعنى :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى). الخطاب لمشركي قريش ، وكانوا يعبدون هذه الأصنام ويقولون : هي بنات الله أو ترمز اليها ، ولذا أنّثوا اللات ومناة بالتاء والعزى بالألف ، وقد سفه سبحانه عقولهم بقوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ظالمة جائرة ، ومثله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) ـ ٦٢ النحل ج ٤ ص ٢٥ (إِنْ هِيَ) ـ الأصنام ـ (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لأنها أحجار لا تضر ولا تنفع .. وتقدم الكلام عن الأصنام وعبدتها في عشرات الآيات .. وكفى ردا على من يعبدها ويقدسها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ


وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج. وقال أديب معاصر : إذا سلبتك الذبابة حياتك بمرض تنقله اليك فمن يستطيع ان يرد لك تلك الحياة. وإذا سلبتك ذرة من طعامك تتحول فورا الى سكر في أمعائها ، فهل يستطيع عباقرة الكيمياء لو اجتمعوا ان يستردوا ذرتك؟.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ). المراد بالظن هنا الجهل ، والإنسان يكبح هواه بعقله وعلمه ، فإن كان جاهلا أو ضعيف العقل تحكمت به الأهواء وقادته الى المهالك (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فقالوا : قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ، فحقت عليهم كلمة العذاب (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى). تمنى المشركون شفاعة الأصنام ، فرد عليهم سبحانه : هل يتحقق للإنسان كل ما يتمناه؟. وبكلمة ان عبدة الأصنام جمعوا بين الجهل والهوى والأماني التي تعمي وتصم .. فتراكم الجهل على الجهل (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الملك والأمر له وحده دنيا وآخرة ، ولا شيء لأي كائن. (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)؟. قالوا : نحن لا نعبد الأصنام إلا لتشفع لنا عند الله!. فقال لهم سبحانه : ان ملائكة السماء على عظمتهم وكرامتهم لا يشفعون عنده إلا بإذنه فكيف تشفع لكم أحجار صماء؟. وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير الآية ٤٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٩٧ فقرة «الشفاعة».

الظن لا يغني عن الحق الآية ٢٧ ـ ٣٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ


أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

اللغة :

مبلغهم من العلم منتهى علمهم. والمراد باللمم هنا صغار الذنوب. وأنشأكم خلقكم. وأجنة جمع جنين.

الإعراب :

المصدر من ليجزي متعلق بمحذوف دل عليه سياق الكلام أي خلق الله الناس ليجزي ، وقيل : متعلق بمعنى أعلم بمن ضل واهتدى. والذين يجتنبون بدل من الذين أحسنوا. واللمم مستثنى منقطع.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى). كذبوا بالحق جهلا أو عنادا ، وكل من الجهل والعناد يصلح تفسيرا وسببا لافترائهم على الله بأن له شركاء وصاحبة وبنات .. ولم يكتفوا بنسبة البنات اليه تعالى حتى ابتدعوا لهن أسماء معينة (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) فيثبتون أشياء لا وجود لها ولا دليل عليها إلا صورة وهمية مرت بأذهانهم .. وفي الآية ١٨ من سورة يونس رد عليهم سبحانه بأنه لا يعلم ان له بنات وشركاء ، وذلك حيث قال


عز من قائل : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). ولو اتبع الناس رجم الظنون لما استقام شيء في هذه الحياة. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ٣٦ من سورة يونس ج ٤ ص ١٥٩.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا). الخطاب لرسول الله (ص) والمقصود كل من آمن بالله واليوم الآخر تماما مثل اتبع الحق وأقم الصلاة. والمعنى لا تجادل الذين يتراكضون في الغي والضلال ، ولا يؤمنون بشيء ولا يرون أية قيمة لشيء إلا لأنفسهم ومكاسبهم : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) ـ ٢٥ الأنعام. فعلام ـ إذن ـ الجدال والنقاش؟. أنظر ج ٢ ص ٦٦ فقرة «الحق وأرباب المنافع» ، وج ٥ ص ٣٠٨ فقرة «جدال أهل الجهل والضلال».

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). منتهى العلم والحق عندهم انه لا علم ولا دين ولا ضمير ولا حق وقيم .. لا شيء إلا الملذات وتكديس الثروات. أنظر ج ٥ ص ٤٥٣ فقرة «منطق أرباب المال : بنك وعقار» (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى). ان ربك يا محمد يعلم ان الذين كذبوا بنبوتك لا يرتدعون عن الضلال ، وأيضا يعلم انك على الهدى أنت ومن اتبعك من المؤمنين ، لأنه محيط بكل شيء ، وقادر على ثواب من آمن واهتدى ، وعذاب من ضل وغوى.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). هذه الآية تهديد ووعيد لمن أشار اليه سبحانه بقوله : (تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا). ووجه التهديد ان الدنيا والآخرة بيد الله لأنه هو وحده مالك الكون بما فيه ، فمن أعرض عن الآخرة ، وطلب الدنيا ، وسعى لها سعيها يؤته منها ، وما له في الآخرة إلا العذاب ، حيث يلقى كل انسان جزاء عمله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ). كبائر الإثم عظائم الذنوب كالكفر والشرك والظلم ، وكل ما تجاوز الحد في القبح


فهو فحش كالزنا واللواط ، وذنب كبير أيضا ، أما اللمم فهي صغار الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان إلا من عصم الله كالنظرة ومجرد الجلوس الى مائدة الخمر. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٣١ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٠٦. ومعنى الآية ان من أقلع عن الكبائر فإن الله سبحانه يشمله بعفوه وإحسانه ، وان اقترف بعض الصغائر .. وليس معنى هذا ان للإنسان أن يقترف الصغائر .. كلا ، وإلا كانت من المباحات ، وانما المراد ان من اجتنب الكبائر فله أن يأمل العفو والصفح من ربه وان ارتكب بعض الهنات ، وإلا كانت الجنة وقفا على أهل العصمة دون غيرهم. وفي نهج البلاغة : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه .. وان يستعظم الإنسان من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ، ويستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى). أجل ، ان الله أعلم بالإنسان من نفسه بالغا ما بلغ من العلم .. ومستحيل أن يعلم من نفسه ما يعلمه الله منه ، لأنه تعالى هو الذي أوجده وأحياه ، ويميته وينشره ، وهو معه بعلمه منذ تكوينه في بطن أمه الى النفس الأخير .. يضاف الى ذلك ان جميع جوارح الإنسان حتى قلبه هي شهود عليه عند خالقه. وأصدق شاهد ينطق بتزكية الإنسان وإخلاصه هو عمله الصالح. وتقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٦ والآية ٢١ من سورة النور ج ٥ ص ٤٠٩.

ليس للانسان الا ما سعي الآية ٣٣ ـ ٤١ :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))


اللغة :

أكدى قطع وأمسك. وصحف موسى التوراة. ووفّى تمم وأكمل. والوزر الإثم.

الإعراب :

قليلا صفة لمحذوف أي عطاء قليلا. وابراهيم على حذف مضاف أي وبما في صحف ابراهيم. أن لا تزر : «ان» مخففة واسمها محذوف أي انه ، والمصدر المنسبك عطف على (بِما فِي صُحُفِ مُوسى). وان ليس «ان» مخففة أيضا والمصدر عطف أن لا تزر. وكذا وانّ سعيه.

المعنى :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي منع ، والمعنى أخبرني يا محمد عن الرجل الذي أعرض عن ذكر الله ، وكان قد بذل شيئا يسيرا من ماله أو نفسه في سبيل الخير ، ثم منع وأمسك عن البذل! .. هذا ما دل عليه ظاهر كلامه تعالى .. ويأتي السؤال : هل أراد سبحانه رجلا خاصا يعرفه النبي (ص) أو أراد مثلا عاما لكل من يصدق عليه هذا الوصف؟ قال بعض المفسرين : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة. وقال آخر : انها نزلت في عثمان بن عفان .. وكل من القولين يفتقر الى الدليل .. اذن ، فالآية على دلالتها من الشمول والإطلاق.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى)؟ هل علم هذا المعرض الممسك انه في أمان من عذاب يوم القيامة حتى أعرض وأمسك؟ وانّى له هذا العلم مع ان الله سبحانه قد أنزل في كتبه ما يكذّب زعمه ان ادّعى ذلك (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).ألم يسمع هذا المعرض الممسك بما أنزل الله في التوراة وفي صحف ابراهيم الذي وفى بعهد الله وميثاقه على أكمل وجه ، ألم يسمع أو يخبره مخبر بأن الله قد أنزل في هذين الكتابين (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ان


كل انسان يؤخذ بذنبه ، ولا أحد يحمل عنه أوزاره وأثقاله. وتكررت هذه الآية في سورة الأنعام ١٦٤ ، وفي سورة الاسراء الآية ٩٥ ، وفي سورة فاطر الآية ١٨ ، وفي سورة الزمر الآية ٧.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). المراد بالسعي هنا العمل والحركة في هذه الحياة. وتدل الآية على ان الإسلام هو دين الحياة لأنها تنص بصراحة على أن الله ينظر الى عباده من خلال أعمالهم في الحياة الدنيا ، ويعاملهم بموجبها ، ومعنى هذا ان الإنسان كلما عاش الحياة بأبعادها وفي أعماقها ، وعمل لخيرها وحل مشاكلها ـ فقد اقترب من الله ودين الله ، واستحق منه الرحمة والكرامة ، وانه كلما تهرب من الحياة وابتعد عن همومها ومشاكلها مكتفيا بالتكبير والتهليل والصوم والصلاة ـ فقد ابتعد عن الله ودينه ورحمته.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي سوف يحاسبه الله على عمله يوم القيامة ، فالمراد بالرؤيا هنا الحساب وإلا فإن الله سبحانه يعلم كل شيء حتى خطرات الوساوس (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى). واضح لا يحتاج الى تفسير تماما كقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ـ ١٩٥ آل عمران.

الى ربك المنتهى الآية ٤٢ ـ ٦٢ :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما


غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

اللغة :

تمنى تراق في فرج الأنثى. والنشأة الأخرى البعث. والمراد بأغنى هنا انه تعالى كفى عبده وأغناه عن سؤال الناس. والمراد بأقنى انه أعطاه أيضا ما يقتني من المال ويدخر بعد الكفاية ، وفي تفسير الرازي ان الإقناء فوق الإغناء. والشعرى نجم مضيء ، وفي تفسير الطبري : كان بعض أهل الجاهلية يعبدونه من دون الله. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط. وأهوى أسقطها في الأرض أي خسف بها الأرض. وغشاها غطاها العذاب. وآلاء الله نعمه. تتمارى تشكّ. وأزفت دنت. والمراد بالآزفة الساعة. وكاشفة من الكشف ، ويأتي بمعنى الاظهار مثل كشف أمره أي أظهره ، وأيضا يأتي بمعنى الازالة مثل كشف الله غمك أي أزاله. وسامدون لاهون.

الإعراب :

وان الى ربك المنتهى وما بعده عطف على ما تقدم وهو ان ليس للإنسان إلا ما سعى. وثمود وقوم نوح عطف على عاد. والمؤتفكة مفعول أهوى. فغشاها ما غشى فاعل غشاها ضمير مستتر يعود الى العذاب و «ما» مفعول.

المعنى :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). هذه الآية وما بعدها هي من جملة الآيات التي


ذكر سبحانه انه أنزلها في صحف موسى وابراهيم ، والمراد بالمنتهى موقف الإنسان بين يدي الله لنقاش الحساب الذي لا منجى منه (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى). الضحك اشارة الى فرح أهل الجنة ، والبكاء الى ترح أهل النار ، ومن الجائز أن يكونا إشارة الى ما أودعه الله في الإنسان من غريزة اللذة والألم والحزن والفرح ، وقد ذهب جماعة من الفلاسفة الى أن الإنسان لا يتحرك إلا بتأثير من جذب اللذة كالجنس أو من خوف الألم كالجوع.

المادة والحياة :

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا). هو سبحانه يهب الحياة ويأخذها ، أما قول من قال : ان المادة أصل الحياة وسببها فهو مجرد ادعاء تكذبه بديهة العقل لأن المادة لا تتحرك بطبيعتها بل بعلة مغايرة لها ، وأي عاقل يقبل القول بأن المادة الصماء أنشأت بنفسها لنفسها أبصارا وأسماعا وأفئدة ، وإذا كانت الحياة صفة تلازم المادة فلما ذا ظهر النمو والحركة والحس والتفكير في بعضها دون بعض؟. وان قال قائل : ان لبعض أفراد المادة استعدادا للحياة دون بعض قلنا في جوابه : من أين جاءت هذه التفرقة؟ هل جاءت من داخل المادة أو خارجها. فإن كانت من الداخل وجب أن تكون كل مادة صالحة لاستقبال الحياة ، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد سببا لوجود الشيء وعدمه في آن واحد ، وان جاءت بسبب خارج عن المادة فهو الذي نقول.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى). يريق الذكر منيه في رحم الأنثى فيتم التلقيح ، ويتكون الجنين ذكرا أو أنثى ، فمن الذي أوجد الاستعداد في الجسم لهذه النطفة؟ ومن الذي أوجد فيها ملايين الخلايا الحية؟ وهل يستطيع العلماء أن يصنعوا خلية واحدة يتكون منها ذكر أو أنثى؟ بل هل يستطيعون أن يميزوا بين الخلية التي يتكون منها الذكر والتي تتكون منها الأنثى؟ وإذا استندت النطفة الى أسباب طبيعية فإن هذه الأسباب تنتهي الى السبب الأول الذي أوجد الطبيعة (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى). ضمير عليه يعود الى الله تعالى ، والمعنى ان البعث حتم لا بد منه (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى). انه سبحانه كفى بعض عباده


وأغناه عن الحاجة الى غيره ، وأعطى البعض الآخر ما يقتني ويدخر زيادة على ما يكفيه أي هيأ له أسباب الغنى والقنية. وقال أحد العارفين : من ذاق طعم الغنى عن الناس فقد حصل على نصيب وافر من الغنى ، وان في ذلك لشرفا عظيما.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) بكسر الشين وتشديدها ، وهي نجم مضيء ، وخصها سبحانه بالذكر لأن بعض أهل الجاهلية كانوا يعبدونها ، وقيل : انها أضخم من الشمس بعشرين مرة ، وانها تبعد عن الشمس مقدار مليون ضعف بعد الشمس عنا (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهم قوم هود ، وتقدم الكلام عنهم مرات ، ووصفهم سبحانه بالأولى بالنسبة الى من تأخر عنهم من الأمم ، وقال صاحب مجمع البيان : بل لأن ثم عادا أخرى (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) منهم أحدا ، وهم قوم صالح ، وأيضا سبق الكلام عنهم وعن قوم نوح الذين أشار اليهم سبحانه بقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) قرى قوم لوط (أَهْوى) بها الى بطن الأرض (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من العذاب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى). الخطاب لكل انسان ، والآلاء النعم ، وتتمارى تشك وتجادل.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى). قال أكثر المفسرين : ان «هذا» اشارة الى القرآن أو محمد (ص). وليس من شك ان كلا من القرآن والرسول الأعظم هما من النذر الأولى من نوعها وصفاتها. ومع هذا فإن الذي نفهمه ان الله سبحانه أشار ب «هذا» الى ما ذكره من الدلائل والعظات التي تضمنت أمورا هامة جديرة بالتأمل والدراسة كمسألة ان كل انسان هو وحده المسئول عن جرمه وجريرته ، وان الله ينظر اليه من خلال عمله ، وانه لا مصدر للحياة إلا الله ، وان مصير الطغاة الى الهلاك ، وهذه وما اليها من أهم موضوعات العلوم الكونية والانسانية ، وإذا ذكرها سبحانه ليستدل الإنسان على وجود الله وعظمته فإن ذكرها بالذات يومئ الى ان معانيها وأهدافها انما تتجلى للعلماء وانهم أحق الناس بمعرفة الله والايمان به والخوف منه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ـ ٢٨ فاطر.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ). أزفت دنت ، والآزفة الدانية ، والمراد بها الساعة ، وانما وصفها سبحانه بالدانية لأنها آتية ، وكل آت قريب .. وكل ما أدبر كأنه ما كان (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) ضمير «لها» يعود الى الآزفة أي الساعة ، ولك أن تفسر الكشف بالعلم كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها


عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٦ الأعراف. وأيضا لك ان تفسرها بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ـ ٤٣ الروم. (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ)؟ هذا الحديث إشارة الى قيام الساعة. وقيل الى القرآن. وكل منهما صحيح لأن الكافرين قد عجبوا من البعث : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ـ ٣ ق. وأيضا عجبوا من القرآن : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ـ ٦٣ الأعراف. (وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاهون ، وكان الأولى أن تبكوا على أنفسكم التي ظلمتموها بالكفر والبغي : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ـ ٨٢ التوبة.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا). قال الحنفية والشافعية والامامية والحنابلة : يجب السجود عند تلاوة هذه الآية لأن الرسول الأعظم (ص) سجد عند تلاوتها ، وسجد من كان معه. وقال المالكية : لا يجب.


سورة القمر

٥٥ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وانشق القمر الآية ١ ـ ٨ :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

اللغة :

مستقر بكسر القاف أي له غاية ينتهي اليها. والزجر المنع ، ومزدجر بفتح الجيم من الفعل المطاوع ازدجر ازدجارا ، تقول ازدجرته فازدجر. وبالغة بلغت الغاية من الموعظة. ونكر بضم النون والكاف وهي الشيء المنكر الذي تعافه النفوس. وخشعا جمع خاشع وهو الذليل. والأجداث القبور. ومهطعين مسرعين.


الإعراب :

كل أمر مستقر مبتدأ وخبر. ما فيه مزدجر «ما» اسم موصول فاعل جاءهم وفيه خبر مقدم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول. وحكمة بدل من «ما فيه» وبالغة صفة. فما تغني «ما» نافية. يوم يدع الداع «يوم» منصوب بفعل مقدر أي اذكر يوم يدع ، والداع أصله بالياء وحذفت تخفيفا. وخشعا حال من فاعل يخرجون والأصل يخرجون من الأجداث خشعا ، وأبصارهم فاعل لخشع. ومهطعين حال ثانية.

المعنى :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وأزفت الآزفة بمعنى واحد ، وهو ان يوم القيامة آت لا ريب فيه (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). قال أكثر المفسرين : ان المشركين طلبوا من رسول الله (ص) أن يشق القمر فرقتين ان كان صادقا .. فسأل ربه ، فانشق القمر ، ثم عاد الى ما كان ... وليس من شك ان هذا ممكن في ذاته ، ولكن الإمكان شيء ، والوقوع شيء آخر ، لأن الوقوع يفتقر الى دليل الإثبات ، ولا دليل على ان الانشقاق حدث في عهد الرسول الأعظم (ص) ، بل الأدلة قائمة على العكس ، وهي :

أولا : ان هذا لا يتفق مع العديد من الآيات التي نصت بصراحة على ان النبي (ص) لم يستجب لاقتراح المشركين في طلب الخوارق والمعجزات ، وانه أجابهم بما أمره الله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ـ ٩٤ الإسراء. وفي الآية ٥٩ من هذه السورة أي سورة الإسراء بيّن سبحانه ان المقترحين يظلون على الكفر حتى ولو أجيبوا الى ما يقترحون : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ). وقال أيضا : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ـ ١٤٦ الأعراف .. هذا ، الى ان الله سبحانه لم يبق عذرا لمتعلل بعد ان تحدى العالم كله بقوله : (وَإِنْ


كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٢٣ البقرة.

ثانيا : ان انشقاق القمر حدث كوني هام ، فلو وقع لرآه أهل الشرق والغرب ، ودوّنه العلماء والمؤرخون الأجانب وغيرهم ، كما دوّنوا ما هو دونه من الأحداث.

ثالثا : ان الانشقاق من الموضوعات التي لا تثبت إلا بالخبر المتواتر ، وخبر الانشقاق من أخبار الآحاد ، فلا يصح الاعتماد عليه في هذا الباب ، والفرق بين الخبر الواحد والمتواتر ان رواة الثاني كثيرون ومختلفون في ظروفهم وأهدافهم بحيث لا يجمعهم على الكذب جامع ـ بحسب العادة ـ والخبر الواحد بعكس ذلك ، ولك ان تفرق بينهما بأن الخبر المتواتر يفيد الاطمئنان دون الخبر الواحد.

رابعا : ان قوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بعد قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ـ يدل على ان القمر ينشق حين تقوم الساعة ، وان المراد من الانشقاق هنا هو نفس المراد منه في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ـ ١ الانشقاق أي يتصدع ما فيها من الكواكب يوم القيامة.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) لا نهاية له على مدى الأيام. وفي الآية ٢٤ من سورة المدثر حكى سبحانه عن الوليد بن المغيرة انه قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). لقد أعماهم الهوى والجهل عن كل حجة ودليل ، فكذّبوا بكتاب الله ولقائه على الرغم من الدلائل الواضحة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ). هذا تهديد لمن أعرض عن القرآن ، والمعنى ان كل شيء ثابت في علم الله تعالى لا تخفى عليه خافية ، ومنه إعراض من أعرض عن القرآن ، ومثله قوله تعالى في الآية ٦٦ من سورة الأنعام: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ). المراد بالأنباء هنا كل آية في القرآن فيها عظة وعبرة ، وترغيب وترهيب ، أو تدل على طريق الايمان بالله واليوم الآخر والوحي الذي نزل على رسول الله (ص) ، والمعنى ان الله سبحانه بيّن للمشركين على لسان نبيه محمد الدلائل الكافية على الحق ، والمواعظ الوافية


في الزجر عن الباطل (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ). كل ما جاء في القرآن فهو حكمة بلغت الغاية في العظة والدلالة على الحق ، ولكن (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) مع العناد والإصرار على الكفر والضلال.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا محمد لأنك قد بلّغتهم رسالات ربك ، فلم يستجيبوا ، وبالغت في النصيحة فلم يقبلوا (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ). والنكر بضم النون والكاف ، وهو ما تنكره النفوس ولا تطيق له حملا ، والمراد به هنا العذاب .. وهذا تهديد ووعيد للذين أعرضوا عن الحق ، وان لهم يوما اسود لا مفر من عذابه ، وهو اليوم الذي يخرجون من القبور الى لقائه وحسابه أذلاء خاضعين يموج بعضهم ببعض من الحيرة والدهشة (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) لكثرتهم حيث يجمع الله الأموات بعد إحيائهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، وفيه إيماء الى ان الحشر يكون بالروح والجسم معا (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين الى دعوة الله للحساب والجزاء (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) شديد الأهوال والمخاطر ، عظيم الآلام والمخاوف ، ومثله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ـ ٤٤ المعارج.

نوح الآية ٩ ـ ١٧

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))


اللغة :

ازدجر أي ردعوه وزجروه عن التبليغ. ومنهمر منكب ومتدفق. وقد قدر أي قدره الله. ودسر بضم الدال والسين جمع دسار مثل كتب وكتاب ، وهو المسمار. وبأعيننا بحراستنا. ومدكر معتبر.

الإعراب :

مجنون خبر مبتدأ محذوف اي هو مجنون. واني مغلوب أي بأني مغلوب. وعيونا تمييز محول عن مفعول والأصل وفجرنا عيون الأرض. وجزاء مفعول من أجله. وآية حال من مفعول تركناها. وكيف خبر كان مقدم ، وعذابي اسمها.

المعنى :

أشار سبحانه في الآيات السابقة ان محمدا (ص) أنذر قومه فما أغنت النذر .. وفي الآيات التي نحن بصددها أشار الى ان شأن محمد (ص) في ذلك مع قومه تماما كشأن نوح مع قومه (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) لئن كذّب بك قومك يا محمد فقد كذّب قوم نوح عبدنا نوحا : وقوله تعالى : فكذبوا تفسير لقوله : كذبت ، فكأنّ سائلايسأل : من كذبت هذه الجماعة؟ فأجاب سبحانه بأنهم كذبوا عبدنا نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ) تماما كما قالت قريش عن الرسول الأعظم (ص) .. وهذا الشتم عادي وطبيعي بالنسبة الى العاجزين عن الجواب (وَازْدُجِرَ) يشير بهذا سبحانه الى ما جاء في الآية ١١٦ من سورة الشعراء : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ردعوه وزجروه عن التبليغ ، وهددوه إذا هو أصر بالرجم والقتل.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ). لما ضاق نوح بقومه وضاقوا به التجأ الى خالقه وقال : لقد غلبت على أمري ، وقلّت حيلتي ، وانتهى دوري في التبليغ والانذار ، وبقي أمرك وقضاؤك في هؤلاء الكفرة الفجرة ، فانتقم منهم بعذابك ،


وانتصر لدينك ورسولك .. وتجدر الاشارة الى أن نوحا ما دعا على قومه إلا بعد اليأس من هدايتهم ، فلقد لبث يدعوهم بلا جدوى ألف سنة إلا خمسين عاما كما جاء في الآية ١٤ من سورة العنكبوت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً). دعا نوح على قومه ، فاستجاب الله لدعوته ، وأغرقهم بماء تدفق من السماء ، وتفجر من الأرض (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). التقى الماء المتدفق من السماء مع الماء المتفجر من الأرض ، فكان بحرا عظيما أتى على كل شيء ، وما سلم إلا من كان في السفينة. وكان هذا الطوفان والإهلاك بأمر الله وقدره ، فقوله تعالى : (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) في معنى قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) ـ ٣٨ ـ الأحزاب.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). ضمير حملناه يعود الى نوح. والألواح الأخشاب ، ودسر مسامير ، والمعنى ان سفينة نوح كانت عادة كغيرها مصنوعة من الخشب والمسامير ولكنها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بحفظ الله وحراسته ، ولهذا نجت من المخاطر وإلا ما استطاعت الصمود لأهوال الطوفان (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ). وكلمة الجزاء تشير الى السبب الموجب للطوفان وإهلاك من هلك به من الكافرين.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). أي ترك سبحانه أخبار سفينة نوح لتكون عظة لمن يتعظ بالعبر ، وينتفع بالنذر (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ). حقا كان الطوفان مدمرا ، أما نوح البشير النذير فقد كان صادقا فيما بلّغ وأنذر. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). أنزل سبحانه القرآن للتذكير والاتعاظ ، ويسر معانيه على الافهام لينتفعوا به ، لا ليتغنوا بكلماته أو يتداووا بآياته او يحرفوها ويشتروا بها ثمنا قليلا (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ هل يعتبر ويتعظ بما جاء في القرآن الجاحدون والذين يتاجرون بالدين ويحرفون الكلم عن مواضعه تبعا لأهوائهم وأغراضهم. وتقدمت قصة نوح في سورة هود وغيرها.

هود وصالح الآية ١٨ ـ ٣٢ :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ


رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

اللغة :

صرصر من الصر وهو البرد أي شديدة البرد ، وقيل : من الصرير وهو الصياح أي شديدة الصياح. وتنزع تقلع. واعجاز أسافل. ومنقعر منقلع. والسعر الجنون يقال : سعر فلان فهو مسعور أي جنّ فهو مجنون. وأشر بطر ومتعاظم. وشرب بكسر الشين وتخفيفها نصيب. ومحتضر بفتح الضاد يحضره صاحبه في نوبته دون غيره. وهشيم يابس متكسر. ومحتظر بكسر الظاء. والمراد بالمحتظر هنا ما يجمعه صاحب الحظيرة من الحشيش اليابس لتأكله الماشية.


الإعراب :

جملة كأنهم اعجاز حال من الناس. وبشرا مفعول لفعل مقدر أي أنتبع بشرا. ومنّا : صفة. وواحدا صفة ثانية لبشر. وفتنة مفعول من أجله ل «مرسلو».

المعنى :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. عاد قوم هود كذبوا نبيهم ، فأخذهم الله بالعذاب الأليم ، وبيّن نوع هذا العذاب بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). أرسل سبحانه عليهم ريحا باردة عنيفة في يوم عسير وخطير ، فلقد استمرت ريح العذاب في هذا اليوم حتى أفنتهم عن آخرهم (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ). اقتلعتهم الريح الصرصر من أماكنهم ، وألقت بهم صرعى تماما كأسافل نخل اقتلعت من الأرض (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. كرر سبحانه هذا السؤال مبالغة في التحذير والانذار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟. أنظر الآية ١٧ من هذه السورة فالنص والتفسير واحد.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ). ثمود قوم صالح. وجمع سبحانه النذر مع ان الذي كذبوه كان نذيرا واحدا ، وهو صالح لأن تكذيب أي نبي هو تكذيب لجميع الأنبياء لوحدة الرسالة والمرسل (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)؟ صالح منا وفينا .. وعرفناه صغيرا وكبيرا .. فكيف نتبعه؟ ولا يتبعه ويصدقه إلا ضال أو مجنون .. أجل ، لو كان له مال وعبيد وإماء لهان الخطب وكان لتصديقه وجه (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا)؟ مستحيل .. كيف وهو واحد منا؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ـ ٣٤ المؤمنون.

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ). ويكفي في الدلالة على كذبه انه واحد منهم .. هذا هو منطقهم .. إذن ، فالمسألة مسألة أشخاص وأفراد ، لا مسألة حق ومبادئ .. فلا بدع ، فهذا هو منطق أرباب المناصب والمكاسب في كل زمان ومكان .. وأيضا منطق أهل الجهل والتقليد.


(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ). هل هو صالح أو الذين كذبوه؟. أجل ، سيعلمون عما قريب انهم هم المفترون البطرون عند ما يمتحنهم الله بالناقة ، فيعقرونها ، ويحل عليهم غضب من ربهم وعذاب مهين (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) ابتلاء وامتحانا يتميز به الخبيث من الطيب (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) انتظر قليلا يا صالح ، واصبر على أذاهم ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والهوان.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ). أخبرهم ان الماء مناصفة بينهم وبين الناقة .. هم يحضرون يوما يستوفون فيه نصيبهم من الماء ، وتحضر هي يوما لنفس الغرض (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ). لم ترضهم قسمة الماء هذه فدعوا أشقى رجل فيهم ليعقر الناقة ، فلبى الشقي الدعوة ، قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) ـ ١٢ الشمس. فعقر الناقة ، ووقع العذاب .. واختلف المفسرون في قوله تعالى : «فتعاطى» ما ذا أراد به؟. فمن قائل : المراد ان الشقي شرب الخمر ثم عقر الناقة. وقائل : انه حمل آلة العقر وأقبل على الناقة وعقرها .. وغير بعيد أن يكون المراد بالتعاطي هنا الاقدام بدون اكتراث.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. كان مدمرا ، والتكرار مبالغة في التحذير والانذار (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ). أخذتهم صيحة العذاب فأصبحوا كفتات النبات اليابس تذروه الرياح. وقال الرازي : «استعمل الهشيم كثيرا في الحطب المكسر اليابس». وهذا الهشيم يحظره صاحب الحظيرة لماشيته ، وعليه يكون وصف الهشيم بالمحتظر مجازا لا حقيقة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). وعسى أن ينتفع بهذا التكرار من ضل سواء السبيل. وتقدمت قصة هود وصالح في سورة هود وغيرها.

لوط الآية ٣٣ ـ ٤٤ :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ


أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

اللغة :

حاصبا هواء يحمل الحصباء. تماروا شكوا وجادلوا. وراودوه طلبوا منه ونازعوه في ارادته. والضيف اسم جنس يقع على الواحد والجماعة. وبكرة صباحا. ومستقر ثابت ومستمر أي ان العذاب بقي حتى أفناهم أو ان عذاب الدنيا يتصل بعذاب الآخرة.

الإعراب :

حاصبا صفة لمقدر أي هواء أو عذابا حاصبا. ونعمة مفعول من أجله لنجيناهم. وكذلك الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي جزاء مثل ذلك الجزاء نجزي. بكرة ظرف زمان والعامل فيه صبّحهم.

المعنى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) تماما كما كذبت قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وغيرهم ، والسر واحد وهو صراع الحق مع الباطل ، والعدل مع الجور .. ثم بيّن سبحانه نوع العذاب الذي أنزله بقوم لوط : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً)


أي رماهم بالحصباء التي تحملها الريح بالاضافة الى الخسف ، وهذه الحصباء هي التي ذكرها سبحانه في الآية ٣٣ من سورة الذاريات : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ). (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ). أنجى لوطا ومن آمن معه من العذاب حيث أخرجهم آخر الليل من القرية الظالم أهلها (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ). انتقم سبحانه ممن عصى ، وأنعم على من أطاع عملا بمبدإ العدالة ، ولكن الرازي قال : «ولو أهلكوا ـ أي آل لوط ـ لكان ذلك عدلا» .. والله أصدق حديثا ، وهو القائل : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ـ ١١٥ الأنعام. أي ان العدل فيما تم منه تعالى ، وما عداه فهو ظلم.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ). خوّفهم لوط من عذاب الله ، فشكوا وسخروا ، بل هددوا وتوعدوا و (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) ـ ١٦٧ الشعراء. (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ). سمعوا ان اضيافا دخلوا على لوط ، فأسرعوا اليه ، وقالوا له بوقاحة وصلف : أعطنا أضيافك لنفجر بهم ونفحش (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعمى الله أبصارهم عن أضياف لوط ، ثم أرسل عليهم العذاب ، وقال لهم : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) وهو الذي شككتم فيه وسخرتم منه (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ). أتاهم العذاب صباحا ، واستمر حتى أفناهم عن آخرهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ). ذكر سبحانه هذا بعد عذاب الطمس ، ثم كرره بعد العذاب الحاصب (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟. كرر ، جلت حكمته ، هذه الآية أربع مرات : الأولى بعد الاشارة الى قصة نوح ، والثانية بعد قصة هود ، والثالثة بعد قصة صالح ، والرابعة بعد قصة لوط ، والغرض ان نعتبر ونتعظ بكل قصة من هذه الأربع لأنها كافية وافية في التذكير والوعظ. وتقدمت قصة لوط في سورة هود وغيرها. (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ). ومثله (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ـ ١٠٣ الأعراف. (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) وكانت تسعا (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ـ ١٠١ الإسراء ذكر سبحانه خمسا منها في الآية ١٣٢ من سورة الأعراف : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) والأربع الباقية أشار اليها سبحانه في آيات متفرقة


وهي اليد والعصا وحل العقدة من لسان موسى وانفلاق البحر (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ). أغرق سبحانه فرعون وملأه في اليم ، وكان من قبل يقول لقومه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) .. فأذاقه الله عذاب الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر.

كل شي خلقناه بقدر الآية ٤٣ ـ ٥٥ :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

اللغة :

الزبر جمع زبور ، وهو الكتاب. والمراد بالضلال هنا الهلاك وبالسعر النيران. وأشياعكم أي اشباهكم. ومستطر مسطور. ونهر بفتح النون والهاء اسم جنس مثل حجر ويستعمل في الأنهار.

الإعراب :

أم لكم «أم» منقطعة أي بل ألكم. وفي الزبر متعلق بمحذوف صفة لبراءة


أي براءة مكتوبة في الزبر. ذوقوا أي يقال لهم : ذوقوا. وسقر علم لجهنم وهو ممنوع من الصرف للتعريف والتأنيث. وواحدة صفة لمقدر أي كلمة واحدة. وفي مقعد متعلق بمحذوف خبرا ثانيا لإن المتقين.

المعنى :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ)؟ الخطاب للذين كذبوا محمد (ص) ، وأولئكم إشارة الى الأمم البائدة الهالكة بسبب كفرها وعنادها ، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما حل بهم من أنواع العذاب. والمعنى : لستم خيرا ممن أهلكنا ، بل أنتم شر مكانا ، وأشد على الرحمن عتيا ، فهل أمنتم أن يخسف بكم أو يرسل عليكم حاصبا كما فعل بالذين قبلكم؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟ هل أنزل الله في كتاب من كتبه انكم في أمان من عذابه؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)؟ أم تدعون انكم جمع لا يقهر؟ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يوم نزلت هذه الآية كانت القوة للمشركين لأنهم الأكثرية الغالبة ، أما المسلمون فكانوا أفرادا ضعافا ، وكان في استطاعة أي مشرك أن يؤذي المسلمين ، وهو آمن .. وما مضت الأيام حتى انعكست الآية ، وولى المشركون الأدبار ، وأصبحت كلمة الإسلام والمسلمين هي العليا ، واستبان للقريب والبعيد ان قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) هو حق وصدق. وهذه واحدة من البينات القاطعة على ان الله سبحانه ينطق على لسان رسوله الأعظم (ص)

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). الضمير في موعدهم يعود الى الجميع من قوم نوح الى كفار العرب الذين كذبوا محمدا (ص) والمعنى كل ما أصاب المكذبين من عذاب الدنيا فما هو بشيء إذا قيس بعذاب الآخرة .. فكل بلاء دون النار عافية (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). هذا تفسير وبيان لقوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). فأهل النار لا يقاسون أهوالها وكفى ، بل تنكل بهم ملائكة العذاب بشتى أنواع التنكيل ، كالسحب على الوجوه ، والضرب بمقامع من حديد ، الى ما لا يبلغه الوصف.


كل شيء بمقدار :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). وفي آية ثانية : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان. وفي ثالثة : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ٨ الرعد. وفي رابعة : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ـ ٣ الأعلى. الى كثير من الآيات التي تدل على ان ما من كائن إلا وهو على مقدار معين من العناصر والصفات لا تزيد ولا تنقص عما ينبغي أن تكون ، وان كل ما فيه قد رتب ترتيبا دقيقا ومحكما ، ووضع في المكان المناسب لوظيفته ومهمته .... وإذا بحثنا عن السبب الموجب لذلك فلا نجد أي سبب يقبله العقل إلا ارادة الله التي هي وراء كل شيء. قال «كنت» : «ان الطبيعة كالعمل الفني ، واستدلالنا على مصدرها تماما كالاستدلال بالأثر الفني على مصدره».

وتسأل : ألا يجوز أن يكون هذا النظام من عمل الصدفة؟.

الجواب : ان الصدفة كاسمها .. مستحيل أن تتكرر ، وتفسير الحوادث بها تهرّب من حكم العقل والواقع ، ولذا قال العلماء : لا يلجأ الى الصدفة إلا عاجز .. هذا ، ولو صحت نظرية الصدفة لانهارت العلوم من الأساس لأن للعلم قواعد عامة ومطردة وإلا لم يكن علما ، على العكس من الصدفة التي لا تتعدى موضوعها الخاص ، وإلا لم تكن صدفة .. وإذا بطلت الصدفة بطل معها المذهب المادي القائل : ان المادة هي الأصل لكل شيء .. وأي عاقل يستسيغ القول بأن الكون وجد صدفة ، وكل ما فيه من قانون ونظام هو نتيجة الصدفة ، وان المادة خضعت للنظام بالصدفة .. وبهذا نجد تفسير قول الشاعر :

وفي كل شيء له آية

تدل على انه واحد

وقول من قال : «ليس بالإمكان أبدع مما كان» أي ان كل شيء قد وضع في المكان المناسب ولو حاد عنه قيد شعرة لاستبان فيه الخلل والنقص.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ). هذا كناية عن ان الله سبحانه إذا أراد شيئا يوجد بالفعل وبمجرد أن يريد ، ولا يفتقر الى زمان على الإطلاق ، لا كلمح بالبصر أو أقرب ، وانما ذكر سبحانه لمح البصر لمجرد التقريب ..


وبتعبير الفلاسفة : ان نسبة ارادته تعالى الى مراده هي كنسبة الإيجاد الى الموجود. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ لقد كان فيما مضى أقوام أعجبتهم أنفسهم كما أعجبتكم أيها المشركون العرب ، وكذبوا رسلهم كما كذبتم رسولكم محمدا (ص) فدمرهم الله تدميرا ، فاتعظوا بهم قبل أن يتعظ بكم.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ). ما من قول أو فعل حقيرا كان أم خطيرا إلا وهو مثبت على صاحبه في علم الله ، ومحاسب عليه ، ومجزي به ، والرابح من حاسب نفسه قبل أن يحاسب (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). المتقون هم الذين نظروا لأنفسهم ، ولم يعرضوها للتهلكة بمعصية الله ، وحاسبوها على كل صغيرة وكبيرة ، فكانوا عند الله من المقربين.


سورة الرّحمن

٧٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

خلق الانسان علمه البيان الآة ١ ـ ١٣ :

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

اللغة :

البيان كل ما دل على القصد. وبحسبان بتقدير وتدبير. والنجم من نجم الشيء إذا طلع ، والمراد به هنا النبات الذي لا ساق له كالهندباء في قبال الشجر الذي له ساق. والأنام الخلق. والأكمام جمع كم بكسره الكاف ، وهو غلاف الثمرة ووعاؤها. والعصف ورق الشجر. والريحان النبات المعروف ، وقيل : المراد به كل نبت طيب الرائحة. والآلاء النعم.


الاعراب :

قال صاحب مجمع البيان : الرحمن خبر لمبتدأ محذوف ، والأرجح انه مبتدأ وما بعده خبر. ورفعها مفعول لفعل محذوف يفسره الفعل الموجود. والمصدر من أن لا تطغوا مفعول من أجله لوضع أي وضعه لئلا تطغوا فيه.

المعنى :

(الرَّحْمنُ). ذكر سبحانه في هذه السورة العديد من نعمه على عباده ، وابتدأها جل وعز بكلمة الرحمن لأنها تومئ الى الإنعام والأفضال.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي نزّله. والقرآن يشبه الكون في جهات ، منها ان القرآن من كلامه تعالى ، والكون وجد بكلمة «كن». ومنها ان كلا منهما يدل بالحس على قدرة الله وعظمته ، فالكون تراه العيون ، والقرآن تسمعه الآذان ، ومن ثم قال أحد المؤمنين : ان لله كتابين : أحدهما يتلى ويسمع ، وهو القرآن. وثانيها ينظر ويلمس ، وهو الكون. ومنها ان كلا من الكون والقرآن فيض من قدرة الله وحدها ، ويستحيل أن يأتي أحد بشيء من مثله. ومنها ان كلا منهما نعمة كبرى أسبغها سبحانه على الإنسان ، فهو يتمتع بخير الأرض والسماء ، ويهتدي بنور القرآن الى طريق الهناء وسعادة الدارين .. ولذا امتنّ سبحانه على الإنسان بالشمس والقمر والأرض والمطر ، وبالرياح والزرع والأشجار والأنعام .. الى ما لا يبلغه الإحصاء.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ). المراد بالبيان كل ما يدل على المقصود من لفظ أو خط أو رسم أو اشارة .. أجل ، ان الكلام أظهر افراد البيان ، وأداته وهو اللسان أطوع أعضاء الإنسان للإنسان ، وأكثرها حركة ، وأعظمها سرعة ، ولا يعرف التعب والملل ، ولا توجد هذه الصفة في سائر الأعضاء.

والبيان وبخاصة الكلام من أعظم النعم وأتمها ، فبه يعبّر الإنسان عن مقاصده ، ويفهم مقاصد الآخرين ، ويتجاوب معهم ويتعاطف ، ويقضي حاجته وحاجة غيره ، وبالبيان يستبين الكفر والايمان ، وعليه ترتكز العلوم والآداب والفنون ،


وتعرف الأديان ، قال بعض العلماء : «كل ما يتناوله العلم يعبر عنه بالبيان ، ولا شيء إلا والعلم متناول له».

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ). أي يجريان بانتظام كامل ، وقوانين ثابتة ، وبهذا الانتظام تحفظ الحياة على الأرض ، وتختلف الفصول ، وتعرف الأوقات (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ). قال أكثر المفسرين : المراد بالنجم هنا النبات الذي لا ساق له كالبقل لأن الله سبحانه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ، أما السجود هنا فمعناه ان كلا من البقل والشجر يدل على وجود الله وعظمته بما فيه من دقة الصنع. أنظر تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٧ فقرة «كل شيء يسبّح بحمده».

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ). المراد بالسماء ما فيها من الكواكب ، وبالميزان كل ما تعرف به حقائق الأشياء ومقاديرها ماديا كان كالصاع والمتر والميزان ذي الكفتين ، أو معنويا كالوحي وبديهة العقل والفطرة ، ومراد أيضا ان هذا الكون العجيب قد انتظم واستقام لأن الله سبحانه قد رفع الكواكب الى مواقعها الطبيعية بحيث لو انحرف كوكب منها عن المكان الذي قدره الله له لاختل نظام الكون وتبدل كل شيء .. وأيضا لا يستقيم أي مجتمع بشري إلا إذا خضع لموازين أخلاقية (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ). المراد بالطغيان هنا الاعتداء بالسلب والنهب ، والمراد بالخسران الاعتداء بعدم تسليم الحق لذويه : والقسط هو ترك الاعتداء بشتى أنواعه ، فتؤدي ما عليك ، ولا تأخذ أكثر من حقك .. ومستحيل أن يعيش المجتمع حياة هادئة لا مشاكل فيها ولا تعقيد إذا أهمل الحق والعدل ، وساد فيه الطغيان والخسران.

والخلاصة ان هذه الآية ـ على ايجازها ـ قد أشارت الى ما يتم به ويستقيم نظام الكون والمجتمع ، والأول نظام تكويني ، وقد أتمه الله سبحانه على أكمل وجه ، والثاني نظام تشريعي أوجب سبحانه على عباده مراعاته والعمل بموجبه.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فراشا ومعاشا ، والمراد بالأنام كل ما فيه روح من انسان وحيوان (فِيها فاكِهَةٌ) كثيرة وغيرها من الأطعمة والأشربة (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) وهي أوعية الطلع تنشق وتخرج منها الثمار عند بلوغها النضج ،


وانما خص سبحانه شجرة النخل بالذكر لمكانتها عند العرب آنذاك (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ). الحب لقوت الإنسان ، والعصف ، وهو ورق الشجر والنبات ، لقوت الحيوان (وَالرَّيْحانُ) للشم والزينة .. طعام وفاكهة وأزهار .. كل ذلك من خيرات الأرض وبركاتها التي أنعم الله بها على عباده .. وهم يعيثون فيها فسادا وطغيانا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). الآلاء النعم ، والخطاب في تكذبان للجنّ والانس بدليل قوله تعالى : (لِلْأَنامِ) الشامل للنوعين بالاضافة الى ما يأتي من قوله في هذه السورة: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). والمعنى هل ينكر أحد من الجن والانس شيئا من النعم التي ذكرها الله سبحانه؟ وكيف يجحدها ، وهو يتقلب فيها ويتمتع بها؟ .. وربما استظهر بها على عباد الله.

كل يوم هو في شأن الآية ١٤ ـ ٣٠ :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))


المعنى :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ). المراد بالإنسان آدم أبو البشر ، والصلصال الطين اليابس غير المطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخار. وفي ج ٤ ص ٤٧٤ جمعنا بين أربع آيات ، وهي (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ـ ٢٦ الحجر. والآية ٥٤ من سورة الفرقان (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً). والآية ٥٩ من سورة آل عمران (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ). والآية ٢ من سورة الأنعام (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ). وأثبتنا انه لا طريق الى معرفة أصل الإنسان إلا الوحي من خالق الإنسان ، وعند تفسير الآية ١١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٠٥ فقرة «حول أصل الإنسان» أشرنا الى الرد على نظرية «داروين».

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ). قلنا مرات : نحن نؤمن بوجود الجن لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه. وعند تفسير قوله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) ـ ٢٧ الحجر ج ٤ ص ٤٧٥ ـ قلنا : ان علماء الاختصاص اكتشفوا نوعا من الحشرات لا تحيا إلا بالهواء السام ، ونوعا آخر لا يحيا إلا في آبار البترول والمواد الملتهبة ، ومعنى هذا ان عناصر الكائنات الحية على أنواع ، منها من ماء ومنها من نار ، وأيضا منها في عالم الشهادة ومنها في عالم الغيب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبخلق الإنسان من صلصال كالفخار أم بخلق الجان من مارج من نار أم غيره؟. ومارج لهب بلا دخان. وأخشى ان يقول الذين يطبقون الوحي على العلم الحديث : ان هذا المارج يشير الى اكتشاف الغاز والسبيرتو.

أما تعدد قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فهو لتعدد الأسباب الموجبة ، وهي النعم المسئول عنها واختلاف أنواعها ، تماما كما تقول لمن تراكمت عليه أياديك : لقد أنقذتك من يد عدوك بعد ان تمكن منك ، وأعطيتك الأموال ، فبأيهما تكذّب؟ وعلّمت أولادك ، وبنيت لك دارا ، فبأيهما تكذّب؟. ـ اذن ـ فلا تكرار ولا تأكيد لشيء واحد.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ). المراد بالمشرقين والمغربين هنا مشرقا الشمس


والقمر ومغرباهما ، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الأذهان دون غيره .. وليس من شك ان أكثر الأحياء تحتاج إلى شروق الشمس والقمر وغروبهما ، بل قالوا : ان الحياة لا تستقيم على الأرض إلا بذلك (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبنعمة الشروق أم نعمة الغروب أم غيرها؟

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ). تطلق كلمة بحر على الماء الكثير عذبا كان أم غير عذب ، والمراد بالبحرين هنا مياه البحار والأنهار ، ومرج أي التقى طرفاهما واختلطا ، والبرزخ الحاجز ، والمراد به هنا قدرة الله تعالى ، ولا يبغيان أي لا يبغي أحدهما على الآخر ، فيغيره عما كان عليه. انظر تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) ـ ٥٣ الفرقان ج ٥ ص ٤٧٢ .. ولكل من البحار والأنهار منافع ومغانم لخلق الله وعباده (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبنعمة البحار أم نعمة الأنهار أم غيرها؟.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ). لقد حار أكثر المفسرين أو الكثير منهم في تفسير هذه الآية. ذلك بأنهم جزموا ان اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر المالح ، مع ان الله سبحانه قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا). أي من العذب وغيره .. وقد تمحلوا في التأويل والتخريج .. أما الرازي فقال : كيف يمكن الجزم بأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الماء المالح ، والذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد قد خفيت عليهم الأمور الأرضية فكيف بما في قعر البحار؟ وهب ان الغواصين ما أخرجوا اللؤلؤ إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه ، لكن لا يلزم من هذا ان لا يوجد في غيره .. فظاهر كلام الله أولى بالاعتبار من كلام الناس.

ونحن على هذا المنطق القويم ، ويؤيده قول الشيخ المراغي في تفسيره : «قد ثبت في الكشف الحديث ان اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب ، وكذلك المرجان وان كان الغالب انه لا يستخرج إلا من الماء الملح (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان.

ونسب الى الشيعة الامامية انهم يعتقدون بأن المراد بالبحرين على وفاطمة ، وبالبرزخ محمد (ص) ، وباللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ، وأنا بوصفي الشيعي


الامامي أنفي هذه العقيدة عن الشيعة الامامية على وجه الجزم والإطلاق وانهم يحرمون تفسير كتاب الله تفسيرا باطنيا ، وإذا وجد منهم من يقول : المراد بالبحرين علي وفاطمة الخ فانه لا يعبر إلا عن رأيه الخاص ، وقد جاء مثله في بعض تفاسير السنة ، من ذلك تفسير الدر المنثور للسيوطي الشافعي : «أخرج ابن مردويه عن ابن عباس ان البحرين علي وفاطمة ، والبرزخ النبي واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ، وأيضا أخرج هذا عن انس بن مالك». وأغرب من هذا ان إسماعيل حقي نقل في تفسيره روح البيان عن بعض العلماء : ان نصف الثمانية الذين أشار اليهم سبحانه بقوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) هم أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ). الجوار السفن ، والمنشآت المصنوعات أو المرتفعات ، والأعلام الجبال ، والمعنى ان السفن تجري في الماء بما ينفع الناس. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٣١ من سورة لقمان ج ٦ ص ١٦٨ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبخلقكم وخلق مواد السفينة أم بإجرائها في الماء أم غيره؟ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). المراد بوجه الله ذاته تعالى ، وهو ، جلت عظمته ، حي بالذات كما هو موجود بالذات .. وكل ما هو موجود بالذات لا يفنى ولا يتغير ، وهو سبحانه مصدر الحياة وواهبها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبحلاله وعظمته أم بجوده وكرمه أم بغير ذلك من النعم.

الله والانيان وابن عربي :

لمحيي الدين ابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات كلام حول قوله تعالى : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) هذا توضيحه : انما عطف سبحانه الإكرام على الجلال لأن الإنسان إذا سمع وصف الله بالجلال دون الإكرام تملّكه اليأس والقنوط من الوصول إلى الله تعالى لأنه لا يرى نفسه شيئا في جنب العظمة الإلهية .. فأزال سبحانه هذا الوهم عن الإنسان ، أزاله بعطف الإكرام على الجلال لأن الجمع بين هذين الوصفين معناه ان الله وإن كان عظيما فإنه يكرم الإنسان وينظر اليه بعين


العناية تفضلا منه وكرما ، ولما علم الإنسان بمكانته هذه عند الله أحس بكرامته ، وشعر بأنه لو لم يكن كريما لما اعتنى الله به هذه العناية .. وزاد تعظيما لله لأنه علم بأنه عظيم عند الله.

ونعطف على قول ابن عربي ان من أنكر وجود الله فقد أسقط نفسه عن كل اعتبار ، وتنكّر لذاته وكرامته من حيث لا يريد لأنه أساء لمن أوجده وكرّمه واستحق منه العذاب (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٨٢ القصص.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). المراد بالسؤال هنا الحاجة والافتقار ، والمعنى ان جميع الكائنات تفتقر اليه سبحانه في بقائها وفي جميع حالاتها كما تفتقر اليه في أصل وجودها ، وانه يمدها بالبقاء في كل لحظة بحيث لو تخلى عنها طرفة عين فما دونها لم تكن شيئا مذكورا (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). المراد باليوم هنا الوقت من غير تحديد ، والمعنى ما من كائن إلا وينتقل من حال إلى حال على مدى الأيام ، ولذا قيل : دوام الحال من المحال ، والكائن في جميع حالاته مفتقر إلى الله تعالى ، فالقوي يفتقر اليه في بقاء قوته ، والضعيف مفتقر اليه لازالة ضعفه .. وليس معنى هذا ان يقعد الإنسان عن السعي والعمل تاركا الأمر إلى الله .. كلا ، فإن الله سبحانه قد أمر بالسعي وحث عليه وهو القائل : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ـ ٣٩ النجم وإنما معناه ان يعمل الإنسان معتقدا ان وراءه قوة خفية تعينه على العمل وتمهد له سبيل النجاح (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟. أبما يمدكم به من العناية في كل آن أم بغيره من النعم؟.

لا تنفذون إلا بسلطان الآية ٣١ ـ ٤٥ :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما


شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

اللغة :

المراد هنا بسنفرغ لكم مجرد التهديد لأن الله سبحانه لا يشغله شأن ولا يصفه لسان ومعناه سنحاسبكم. والثقلان الانس والجان. ومن معاني الشواظ لهب بلا دخان. ومن معاني النحاس دخان بلا لهب. ووردة أي لونها كحمرة الورد. والدهان ما يدهن به. والسيما العلامة. والنواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس. والحميم الماء الحار. والآن الحاضر.

المعنى :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنحاسبكم ، وهو تهديد ووعيد لمن أذنب وتمرد من الانس والجان. وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي «سمي الانس والجان بالثقلين لثقلهما على وجه الأرض» ، وفي الحديث : اني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي سميا بذلك لعظمهما وشرفهما». (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟. أبقدرته تعالى على البعث والحساب والجزاء أم بماذا؟. والحساب والجزاء من أعظم النعم على الخلق وإلا كان المظلوم أسوأ حالا ومآلا من الظالم.


(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ). أبدا لا نجاة لكم من لقاء الله ، ولا مهرب من أرضه وسمائه إلا ان تفروا من الله إلى الله بتوفيق منه إلى التوبة والاقلاع عن الذنب ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (إِلَّا بِسُلْطانٍ) لأن التوبة والانقطاع اليه تعالى قوة وحصن يقي التائب المخلص من غضب الله وعذابه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبقدرته عليكم ام بتحذيره وإنذاره ام بغير ذلك؟.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ). قالوا : الشواظ لهب بلا دخان ، والنحاس هنا دخان بلا لهب ، ومهما يكن فإن المعنى المحصل من الآية هو الاشارة إلى أهوال الساعة وآلامها ، وان المجرم لا خلاص له من هذه الآلام والأهوال بشفيع ولا ناصر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبعذاب من طغى وبغى أم بماذا؟ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ). تذوب السماء بما فيها من كواكب كما يذوب الدهن على النار ، ويصبح لون هذا السائل كحمرة الورد .. والغرض من هذا التشبيه وما اليه مما جاء في سائر الآيات هو الاشارة الى خراب الكون ودماره يوم تقوم الساعة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ ومن أظلم وأشقى ممن كذّب بالصدق وتعالى على الحق؟.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ). وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ـ ٢٤ الصافات إذا فعلنا ذلك تبين لنا ان في يوم القيامة مواقف يسأل الناس في بعضها عما كانوا يعملون ، وفي بعضها لا سؤال ولا جواب بل انتظارا للسؤال والحساب أو بعد الفراغ منه. انظر تفسير الآية ٦٥ من سورة يس ج ٦ ص ٣٢١ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ أبموقف العرض للحساب أم بموقف الانتظار له؟ وكلاهما ضنك وأليم ، ما في ذلك ريب .. ولكن الجزاء نعمة من الله حيث (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ). يؤخذ مبني للمجهول ، وبالنواصي مفعول نائب عن الفاعل وهم ملائكة العذاب ، والمعنى ان للمجرمين علامات تدل عليهم وتميزهم عن الصالحين ، وفوق ذلك تجمع ملائكة العذاب نواصيهم الى أقدامهم بالقيود والأغلال ، ويسحبونهم في النار على وجوههم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من المواعظ والزواجر.


(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ). هذا أبلغ جواب لمن كذّب بعذاب الله ، وهو أن يلقى فيه : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ـ ٤٢ سبأ.

(يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ). ضمير بينها يعود الى جهنم ، والحميم شراب حار ، أما وصفه بالآن فإنه يوحي بأن هذا الشراب بلغ الغاية والنهاية من الحرارة حتى كأن المجرمين يشربون منه وهو على النار ، والمعنى لا عمل للمجرمين إلا التردد بين الجحيم وشراب الحميم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟. بعذاب الجحيم أم بشراب الحميم؟ وكل منهما نعمة من الله لأنه حكم العدل ، وسيف الحق.

هل جزاء الاحسان إلا الاحسان الآية ٤٦ ـ ٧٨ :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما


عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

المعنى :

بعد أن هدد سبحانه وتوعد من طغى وبغى أمّن ووعد من اتقى وصدق بالحسنى ، وعده بجنة تفوق الوصف بطعامها وشرابها وحورها وولدانها وأشجارها وأنهارها وأثاثها وحليها .. إلى ما نعرف له مثيلا وما لا نعرف .. وأكثر هذه الآيات واضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ، بالاضافة إلى انها تكرار لما سبق ، لذا نختصر في التفسير إلا إذا مست الحاجة.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ). المراد بمقام الله انه قائم على كل نفس يعلم سرها وجهرها. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان من علم ان الله يراه ويسمع ما يقول فيحجزه ذلك عن القبيح فقد خاف مقام ربه .. وللمفسرين أقوال في معنى الجنتين ، أقربها إلى الافهام انهما حديقتان في الجنة لأن الجنة في اللغة الحديقة ، ويؤيد ذلك قوله تعالى في وصف الجنتين : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي أغصان تمتد وتورق وتثمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟. هل تكذبان يا معشر الجن والانس بهذه النعمة التي ذكرتها؟. وكل سؤال يأتي بهذه الصيغة فالمسئول عنه هو نفس النعمة التي ذكرها سبحانه قبل السؤال ـ اذن ـ لا داعي لذكره وبيان المسئول عنه.


(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) المعنى واضح ومع هذا قال أحد المفسرين : أي تسرحان .. وقال آخر : أي تجريان بين الشجر .. وقال ثالث : اسم إحداهما التسنيم ، واسم الأخرى السلسبيل .. وقال رابع : تجريان لمن كانت عيناه تجريان بالدموع خوفا من الله .. ولا مصدر لهذه التفاسير إلا حرص أصحابها على الكلام .. ولما ذا يحرصون على الكلام؟ لأنهم مفسرون .. (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ). للفاكهة الواحدة نوعان كالعنب والزبيب ، والتمر والرطب ، والتفاح السكري وغيره ـ مثلا ـ (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو الحرير الغليظ (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ). الجنى الثمر ، ودان قريب ، ومثله (قُطُوفُها دانِيَةٌ) ـ ٢٣ الحاقة. (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ). قال صاحب البحر المحيط : «ضمير فيهن عائد الى الجنان الدال عليهن جنتان في الآية السابقة ، إذ كل فرد له جنتان ، فصح انها جنان كثيرة» أما ضمير قبلهم فيعود الى أزواج الحور ، وقاصرات الطرف صفة لموصوف مقدر ، وهو الحور ، والمعنى ان الحور لا ينظرن الى غير أزواجهن ، وأيضا هن أبكار كما خلقن (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) بهاء وجمالا.

الأجر حق والزيادة تفضل :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). كل ما يراه الناس حسنا أو إحسانا فهو عند الله كذلك ، شريطة ان لا يأباه العقل السليم ولا ينهى عنه الشرع القويم ، وإلا فإن أهل الجاهلية كانوا يستحسنون عبادة الأصنام وظلم الضعيف بخاصة المرأة. حتى في عصرنا يستحسن الملايين عبادة الأصنام والإنسان ، ويجعلون لله أولادا وأندادا .. وما من شك ان هذه من أقبح العادات .. فإذا عمل الإنسان عملا ، ورآه الناس حسنا ، ولم يرد فيه نهي من العقل والشرع ـ فإن صاحبه يستحق من الله الأجر والكرامة ، ويزيده من فضله أضعافا على ما يستحق : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ـ ٢٦ يونس.

وقال جماعة من علماء الكلام : ان الثواب من الله على فعل الواجب تفضل لا مكافأة فيه ولا استحقاق. وقال آخرون : بل هو مكافأة واستحقاق. وقال الإمام


علي (ع) : «لو كان لأحد ان يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ، ولكنه جعل حقه على العباد ان يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله».

ومعنى هذا ان الله له وعليه ، ولا شيء أصرح في الدلالة على ذلك من قوله : «لو كان لأحد ان يجري ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه». فلله سبحانه الطاعة على عباده ، وعليه ، جلت حكمته ، الأجر والمكافأة على مقدار العمل ، وما زاد فهو تفضل منه تعالى وتوسع. ويتفق هذا مع حكم العقل والفطرة ، فإن الناس كل الناس يرونك مفضلا ومحسنا إذا أعطيت من عمل لك فوق أجرته واستحقاقه ، أما إذا أديته أجرة عمله بلا زيادة ونقصان فأنت عندهم من الأوفياء ، لا من المحسنين الكرماء. هذا ، الى ان الإسلام بأصوله وفروعه يبتني على فكرة العدل ، والأجر على العمل حق واجب الأداء في منطق العدل وحكمه. (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ). الضمير في دونهما يعود الى الجنتين في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي ان هناك جنتين أخريين ، أوصافهما أدنى من أوصاف السابقتين ، ومعنى هذا ان في الجنة درجات متفاضلات ، ومنازل متفاوتات تبعا لدرجات المؤمنين في ايمانهم ، وتفاوت العاملين في أعمالهم ، وهذا ما يستدعيه منطق الحق ومبدأ العدل ، وبه يتبين ان الجنتين في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) هما للذين أقوى إيمانا ، وأنفع أعمالا ، وأكثر جهادا من غيرهم ، وان الجنتين في قوله : (مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) هما للذين أقل عملا وجهادا من أصحاب الجنتين الأوليين (مُدْهامَّتانِ) أي يميل لونهما الى السواد من من شدة الخضرة (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) ينبع منهما الماء ، أما العينان المتقدمتان فإنهما تجريان ، والنضخ دون الجري وكما ان الجنتين هنا دون الجنتين هناك كذلك العينان.

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ). قال بعض المفسرين : ان النخل والرمان ليسا من الفاكهة ، ولذا عطفا عليها. وقال الرازي : الفاكهة منها أرضية كالبطيخ ونحوه ، ومنها شجرية كالنخل وغيره ، وعليه يكون عطف النخل والرمان على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ). نساء خيرات


في أخلاقهن حسان في خلقهن (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ). قال صاحب مجمع البيان : أي محبوسات في الحجال ، وهي قباب تضرب على النساء الملازمات للبيوت. وقال غيره : بل المراد الخيام بالذات ، فإن لبعضها من الجمال والروعة ما ليس لكثير من البيوت .. وهذا أقرب لظاهر اللفظ من الحجال (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) أي انهن أبكار. وتقدم بالحرف في الآية ٥٦ من هذه السورة (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ). الرفرف الوسادة أي المخدة أو المسند ، والعبقري ضرب من البسط (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). لله العظمة والكبرياء ، ومنه الإكرام والإفضال على خلقه. انظر فقرة «الله والإنسان وابن عربي» عند تفسير الآية ٢٧ من هذه السورة.


سورة الواقعة

٩٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اذا وقعت الواقعة الآية ١ ـ ٢٧ :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))


اللغة :

الواقعة القيامة. وبسّت فتت. وهباء منبثا غبارا متفرقا. وأزواجا أصنافا. وأصحاب الميمنة هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم. وأصحاب المشأمة هم الذين يعطونها بشمالهم. والثلة الجماعة. وموضونة منسوجة. وأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له ولا خرطوم. وأباريق جمع إبريق له عروة وخرطوم. وكأس إناء يشرب فيه. ومعين ظاهر للعيان أو مأخوذ من عين لا تنضب. لا يصدعون لا يصيبهم من شرابها أي شيء من الصداع وغيره. ولا ينزفون لا يفنى شرابها. والمكنون المصون. واللغو سقط القول. والتأثيم ما يستوجب الإثم.

الإعراب :

خافضة رافعة خبر لمبتدأ محذوف أي هي خافضة ، والجملة جواب إذا وقعت خلافا للكثير من المفسرين لأن المعنى يستقيم على هذا الاعراب ، وليس لوقعتها كاذبة اعتراض بين الشرط وجوابه. وإذا رجت بدل من إذا وقعت. فأصحاب الميمنة مبتدأ أول و «ما» استفهام مبتدأ ثان وأصحاب الميمنة خبر «ما» والجملة خبر المبتدأ الأول ، ومثله وأصحاب المشأمة ، والرابط اعادة المبتدأ بلفظه. والسابقون مبتدأ والثانية تأكيد ، وأولئك مبتدأ ثان والمقربون خبر «السابقون». وفي جنات متعلق ب «المقربون». وثلة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة. ومن الأولين متعلق بمقدر صفة. وعلى سرر متعلق بمحذوف حالا. متكئين حال من الضمير الذي تعلق به على سرر. متقابلين حال من ضمير متكئين. وكأس وفاكهة ولحم عطف على أكواب. وحور عين مبتدأ والخبر محذوف أي ولهم حور عين.

وجزاء مفعول من أجله لفعل مقدر أي يفعل الله ذلك جزاء. وقيلا استثناء منقطع. وسلاما بدل من قيل.

المعنى :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ). المراد بالواقعة هنا القيامة ، والمعنى


ان الناس في الحياة الدنيا بين مصدق ومكذب بأمر الآخرة ، أما إذا جاءت ووفيت كل نفس ما كسبت فعندئذ تعترف ولا تكذب .. كيف والآخرة (خافِضَةٌ رافِعَةٌ). تخفض المجرمين ، وترفع المتقين (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا). يشير سبحانه بهذا الى خراب الكون ، فالأرض تدمرها الزلازل ، والجبال تتحول الى غبار.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً). يجمع الله الناس يوم القيامة ، ويجعلهم ثلاثة أصناف : ١ ـ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). وهم الذين يعطون غدا كتبهم بإيمانهم ، قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) ـ ٢٠ الحاقة. وهذا الصنف وان كان من الناجين ، ولكنه دون الصنف الثالث.

٢ ـ (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ). وهم الذين يعطون كتبهم بشمالهم ، قال سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) ـ ٢٧ الحاقة.

٣ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ). أطلق سبحانه هنا السبق ولم يبين الى شيء يسبقون ويسرعون ، ولكن بينه في مكان آخر : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) ـ ٦١ المؤمنون فالسابقون ـ اذن ـ هم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له ، وباليوم الآخر ، ولا يتوانون عن طاعته خوفا من غضبه وعذابه ، ويضحون بالغالي في سبيله طلبا لمرضاته وثوابه (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). لهم الحظ الأوفر من التقريب الى جلاله تعالى ، والنصيب الأكبر من نعيمه.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ). السابقون الذين لهم عند الله المنزلة العليا هم جماعة كثيرة من الأولين ، وقليلة من الآخرين .. واختلف المفسرون في من هم الأولون والآخرون في هذه الآية؟. فقال فريق منهم : ان المراد بالأولين من آمن وسبق الى الخيرات قبل محمد (ص). وقال الفريق الآخر : ان كلا من الأولين والآخرين من أمة محمد (ص) .. وفي رأينا ان الأولين اشارة الى عصر


الإسلام الذهبي يوم كان له قوة وسلطان ، وكان المسلمون يؤمنون به قولا وعملا ، ويدافعون عنه بالأرواح والأموال ، وان الآخرين اشارة الى القلة القليلة من المؤمنين في العصور المتأخرة التي يصدق عليها قول الإمام علي (ع) : «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلا رسمه ، ومن الإسلام إلا اسمه ، مساجدهم يومئذ عامرة من البنى خراب من الهدى ، سكانها وعمارها شر أهل الأرض ، منهم تخرج الفتنة واليهم تأوي الخطيئة .. يقول الله تعالى : فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة اترك الحليم فيها حيران». وأية فتنة وبلاء أشد وأعظم من الصهيونية والاستعمار.

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) منسوجة بما يتناسب مع أجساد أهل الجنة النواعم ، ووجوههم النواضر (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) لا أشغال ولا هموم عيال (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ). أقداح من عسل مصفى ، وكأس من خمر لذة للشاربين ، وأباريق من رحيق مختوم .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ). لا صداع رأس ، ولا ذهاب عقل من شرابها ، ولا نهاية لها (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ). شراب نقي ، ولحم طري ، والفاكهة ألوان ، والحور عين وحسان ، وخدم وحشم وفراش وأسرّة ، وراحة واطمئنان ، لا تبعات ولا كربات .. كل ذلك (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) للخير والمصلحة العامة بلا رياء ولا تطبيل وتزمير (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). ومن أين يسمعون الهجر والإثم ، ولا ناطق في الجنة إلا بخير؟. كل هذه النعم هي للسابقين ، أما أصحاب اليمين فقد بيّن سبحانه نصيبهم فيما يلي :

أصحاب اليمين الآية ٢٨ ـ ٤١ :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ


وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

اللغة :

السدر شجر معروف. ومخضود لا شوك له. ومن معاني الطلح الموز. ومنضود ونضيد ومنضد بمعنى واحد أي متسق والمراد هنا ان قطوف الموز متسقة بالثمار من أعلاها الى أسفلها. وعربا جمع عروب وهي المرأة المتوددة الى زوجها. وأترابا جمع ترب أي متساويات في السن.

الإعراب :

أصحاب اليمين مبتدأ أول وما أصحاب اليمين «ما» استفهام مبتدأ ثان وأصحاب اليمين خبر والجملة خبر المبتدأ الأول. وفي سدر مخضود خبر لمبتدأ مقدر أي هم كائنون في سدر مخضود وما بعده عطف عليه. وعربا صفة للابكار. ولأصحاب اليمين متعلق بأنشأناهن. وثلة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.

المعنى :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ). بعد ان ذكر سبحانه ما أعده للسابقين من الكرامة والنعم ذكر ما أعده لمن هم أدنى ايمانا من السابقين ، وأسماهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بايمانهم كما قدمنا ، وهذا هو نصيبهم من الجنة (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) لا شوك له. (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) وهو الموز الذي نضد ثمره بتراكب بعضه على بعض (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) الى غير أجل ، فإن العرب تقول


لطويل الأمد : ممدود (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يجري بلا انقطاع (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) كما وكيفا (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ). ان شجر الدنيا يثمر في آن دون آن ، وثمره لصاحبه يمنع عنه من شاء ، أما شجر الآخرة فثمره دائم ، وفي متناول كل يد (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عالية ووثيرة ، وطريف قول بعض المفسرين : ان علو السرير يبلغ مسافة خمسمائة سنة.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً). أعد الله سبحانه لأصحاب اليمين نساء أبكارا يتحببن لأزواجهن ، وكلهن في سن واحدة ، وقدرها أحد المفسرين بثلاث وثلاثين سنة ، أما قامة الواحدة منهن فقدرها بستين ذراعا في سبعة أذرع تماما كقامة آدم على حد قوله .. وغرضنا من هذه الاشارة التنبيه الى ان بعض التفاسير لا يجوز الاعتماد عليها لأنها قول بلا علم (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلق بأنشأناهن ، وكرر سبحانه أصحاب اليمين لمجرد التأكيد بأن ما ذكره هو لأصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) الكلام مستأنف ، ومعناه ان أصحاب اليمين بعضهم من عصر سابق ، وآخرون من عصر لاحق ، وهم بطبيعة الحال أقل عددا من أصحاب الشمال الذين يشير اليهم في الآيات التالية ، هم أقل لأن الصالحين قليل : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ـ ١٣ سبأ.

أصحاب الشمال الآية ٤٢ ـ ٥٧ :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ


الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧))

اللغة :

السموم ريح حارة تنفذ في مسام البدن. والحميم الماء الحار. واليحموم الأسود البهيم. مترفين منعمين. والحنث العظيم نقض العهد المؤكد باليمين أو الذنب العظيم. والهيم الإبل يصيبها داء العطش تشرب ولا تروى.

المعنى :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ). ذكر سبحانه أولا ما أعده للسابقين من الأجر العظيم ، ثم ما أعده لأصحاب اليمين من رحمة وثواب ، ويذكر في الآيات التي نحن بصددها ما يقاسيه أصحاب الشمال من ألوان العذاب ، منها انهم (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ). تلفحهم ريح ساخنة محرقة تنفذ الى داخل الجسم فتسمم اللحم والدم ، ويشربون ماء يغلي في البطون (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ). ويطلق اليحموم على الأسود البهيم من كل شيء ، وعلى الدخان الكثيف ، ويصح المعنى على أحدهما وعليهما معا (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ). اليحموم ظل ، ولكنه لا يجلب بردا ولا يدفع حرا تماما كالمستجير من الرمضاء بالنار.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ). طغوا وبغوا على عباد الله وبلاده ، وسلبوا ويهبوا أقوات الخلائق وأرزاقهم ، وتنعموا بها كما يشتهون من لباس أنيق ، وطعام هني ، وشراب سائغ ، ومسكن فاره ، فكان جزاؤهم عند الله عذاب الحريق ، وشراب الحميم ، وطعام الزقوم ، وريح السموم ، وظل من يحموم (وَكانُوا


يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ). قيل : المراد بالحنث العظيم الذنب العظيم ، وهو الشرك ، وغير بعيد ان يكون الحنث اشارة الى إصرارهم على الأيمان الكاذبة بأنه لا بعث ولا جزاء كما حكى سبحانه عنهم ذلك في الآية ٣٨ من سورة النحل : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ). وقسمهم هذا نتيجة لشركهم ، وعليه يصح تفسير الحنث العظيم بالشرك.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ). قالوا ساخرين : أينقلب التراب إنسانا؟. ونسوا ان الله خلقهم من تراب ثم من نطفة (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ). قل لهم يا محمد : أجل ، ان الله يجمع غدا الخلائق لنقاش الحساب ، وجزاء الأعمال ، ولو تركهم سدى بلا رادع ولا سائل لكان ظالما وعابثا .. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وتقدم مثله مرارا ، منها في الآية ٥ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٨ والآية ٤٩ من سورة الإسراء والآية ٨١ من سورة المؤمنون.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ). ضلوا عن طريق الهدى ، فكذبوا بالحق ، ونازعوا بالجهل ، فكان جزاؤهم ومصيرهم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ). ونعترف بأنّا نجهل حقيقة هذه الشجرة ، وما أكثر ما نجهل .. ولكنا على علم اليقين بأنها تشير الى سوء العذاب ، وقد شبه سبحانه طلعها برءوس الشياطين في الآية ٦٢ من سورة الصافات. انظر ج ٦ ص ٣٠٤ (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ). طعامهم أمرّ من العلقم وأنتن من الجيف ، وشرابهم آجن ساخن (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) وهي الإبل المصابة بالاستسقاء أو داء العطش لا يرويها شيء (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ). هذا اشارة الى حال أصحاب الشمال ، ويوم الدين يوم القيامة ، والنزل ما يعد للنازل من مأكل ومشرب ، وهو شر نزل طعاما وشرابا ولباسا وفراشا .. وفوق ذلك تغلّ الأيدي الى الأعناق ، وتقترن النواصي بالأقدام .. نعوذ بالله من سوء العاقبة والمصير.

أفرايتم ما ترحثون الآية ٥٨ ـ ٧٥ :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ


أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

اللغة :

تمنون تقذفون المني في الأرحام. بمسبوقين بمغلوبين. نبدل أمثالكم نأتي بخلق مثلكم النشأة الأولى الحلقة الأولى. وحطاما هشيما. وتفكهون تتعجبون. ومغرمون ملزمون بالغرامة. وأجاجا ملحا مرا. تورون تقدحون. وتذكرة موعظة. ومتاعا منفعة. والمقوون هم الذين ينزلون القواء أي القفر ، والأولى ان يراد بالمقوين المستمتعون كما يأتي.

الاعراب :

فلولا تصدقون. فلولا تذكرون «لو لا» طلب بمعنى هلا. والمصدر من ان


نبدل متعلق بمسبوقين. وجملة إنا لمغرمون مفعول لقول مقدر.

المعنى :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ)؟. آمنوا وصدقوا بأن الله خلقهم ، ولكنهم أنكروا وكذبوا انه يعيدهم بعد الموت للحساب والجزاء ، لأن الأول في عقيدتهم ممكن ، أما الثاني فمستحيل .. فرد عليهم سبحانه بأن ابتداء الخلق وإعادته بعد الموت هما من باب واحد بالنسبة الى قدرة الله تعالى ، بل الاعادة أهون لأن الخلق إيجاد من لا شيء ، والاعادة جمع لأجزاء متفرقة ، فيلزمكم ، وهذه هي الحال ، أحد أمرين : إما الاعتراف بهما معا ، وإما إنكارهما معا ، ومن اعترف بأحدهما دون الآخر فقد ناقض نفسه بنفسه ، ويسمى هذا بدليل التلازم بين شيئين لا ينفك أحدهما عن الآخر بحال ، ولذا يستدل بأحدهما على الثاني سلبا وإيجابا ، ثم ضرب سبحانه أمثلة من خلقه يدل وجودها على إمكان المعاد وهي :

١ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ)؟. من الذي خلق من منيكم بشرا سويا بجميع أعضائه وغرائزه؟ أنتم أم الله؟. لقد قذفتم المني في رحم المرأة وانتهى دوركم ولم تتعهدوه بشيء إطلاقا .. فمن الذي صير المني علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، وكسا العظام لحما الخ؟. فإن قلتم : كل ذلك من عمل الطبيعة وحدها. قلنا : ومن أوجد الطبيعة؟. فإن قلتم : أوجدت نفسها بنفسها. قلنا : من الذي وهبها الحياة والاحساس والإدراك؟ وان قلتم : هي. قلنا : انها صماء عمياء وفاقد الشيء لا يعطيه. وان قلتم : نشأت الحياة في المادة من غير قصد. قلنا : وعليه فإن كلامكم هذا صدر عنكم من غير قصد! .. ان العقل لا يستسيغ أي تفسير للحياة ونظام الكون إلا بعلة فاعلة عاقلة وجدت من غير فاعل ، ولا يمكن الارتقاء في سلسلة العلل الى ما لا نهاية وإلا لم يكن للوجود عين ولا أثر.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) ان مالك الموت هو مالك الحياة ، والمغني هو الموجد (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ). ان الله سبحانه لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، وهو على كل شيء قدير ، وبقدرته تعالى


نقل الخلق من العدم الى الوجود ، وبها ينقلهم الى عالم لا يعرفون عنه شيئا ، ولو أراد سبحانه أن يستبدل بالعصاة من خلقه قوما مطيعين لفعل ولا راد لما أراد ، وفيه تهديد ووعيد لمن أعرض وتولى عن دعوة الحق : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ـ ٣٨ محمد. (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ). علمتم بأنّا خلقناكم من لا شيء فهل نعجز عن جمع أجزائكم بعد تفرقها وإعادتها الى ما كانت عليه؟. وأبلغ تفسير لهذه الآية قول الإمام علي (ع) : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى.

٢ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)؟. الإنسان يبذر ويغرس ويحرث ويسقي ما في ذلك ريب .. أما البذر والغرس والماء والأرض والنمو ، أما هذه وغيرها كالشمس والهواء فمن أين؟. فإن قالوا : انها من فاعل غير عاقل. قلنا لهم : وعليه فقولكم هذا من قائل غير عاقل (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ). الهاء في جعلناه يعود للزرع المفهوم من قوله تعالى : (ما تَحْرُثُونَ) والحطام الهشيم قال تعالى : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ـ ٤٥ الكهف وتفكهون تتعجبون مما حل بزرعكم من الآفات وتقولون : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قد تعبنا كثيرا وأنفقنا كثيرا على هذا الزرع ، ولزمنا من أجله ديون وغرامات ، ولم ننتفع بشيء .. وتقولون أيضا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من الخير والرزق ، ولا شيء آلم للنفس من إحساسها بالحرمان.

٣ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)؟

المزن السحاب ، ويشير به سبحانه الى أنه هو الذي أوجد في الطبيعة أسباب المطر ، والمعنى : وهذا الماء الذي هو أصل الحياة ، ولا غنى عنه بحال ، هذا الماء من الذي أوجد أسبابه في الطبيعة وأحكمها؟ أنتم أم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا؟ وقد نبه سبحانه في كثير من الآيات الى أنه يحيي الموتى تماما كما يحيي الأرض بالمطر : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ ٣٩ فصلت.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)؟ الأجاج هو الماء الذي بلغت


ملوحته حدا جعله مرا كالعلقم ، والمعنى : لو أراد الله أن يجعل الماء ملحا أجاجا لا ينتفع به في شرب ولا زرع لفعل ، ولكن جعله عذبا فراتا رفقا بكم ورحمة لكم ، ومع ان هذه النعمة تستوجب الشكر بطبعها فإن الله يجزي الشاكرين.

٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ)؟ والنار نعمة تماما كالماء ، ولولاها لما تقدم الإنسان خطوة واحدة في حياته ، وبقي الى يومه الأخير يعيش مع الوحوش في الغابات والمغاور.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ)؟ للنار أسباب شتى ، منها القدح بزناد الخشب أو الصلب أو بالحجر ، ومنها غير ذلك مما يكتشفه العلماء في المستقبل أو لا يكتشفونه .. الله أعلم ، وكذلك الوقود ، منه الشجر والفحم الحجري والبترول والكهرباء والذرة والشمس .. الى ما الله به أعلم .. وجاء ذكر الشجر في الآية على سبيل المثال دون الحصر ، قال المفسرون : ان العرب كانوا يستخرجون النار من الزناد ، وهو عبارة عن عودين يحك أحدهما بالآخر ، ويسمى الأعلى زندا والأسفل زندة .. وقد ضرب الله مثلا لاستخراج النار بما يتفق وحياة العرب آنذاك.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) موعظة تذكر بالبعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر يحيي الخلق بعد موته (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) والمراد بالمتاع المنفعة. قال الطبري : «اختلف أهل التأويل في معنى المقوين ، فمن قائل : انهم المسافرون. وقائل : انهم المستمتعون». وهذا القول أرجح من الأول لأن النار ينتفع بها المسافر والمقيم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). الخطاب للنبي (ص) والمقصود العموم ، والمعنى نزه الخالق الأعظم عن كل ما لا يليق بعظمته. والمسلمون يقرءون هذا التسبيح في ركوعهم ، أما سبّح اسم ربك الأعلى فيقرءونه في سجودهم.

لا يمسه الا المطهرون الآية ٧٦ ـ ٩٦ :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ


كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

اللغة :

مواقع النجوم مواضعها وأماكنها. ومكنون مصون. ومدهنون من المداهنة ، تقول : داهنه أي خدعه وأظهر له خلاف ما أضمر. والحلقوم موضع النفس ومجرى الطعام. غير مدينين أي غير محاسبين ولا مجزيين. وروح وريحان كناية عن راحة الروح والجسم. وتصلية الجحيم أي صالي النار ومعذب بها. وحق اليقين واليقين الحق بمعنى واحد ، وهو اليقين المطابق للواقع الذي لا شك فيه.

الإعراب :

قال أكثر المفسرين : ان «لا» في «فلا اقسم» زائدة إعرابا مثل (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ


الْكِتابِ) ، أي ليعلم ، ومثل (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي ان تسجد. لا يمسه نهي بصيغة النفي ، وإنشاء بصيغة الإخبار. فبهذا الحديث متعلق ب «مدهنون». ورزقكم على حذف مضاف أي شكر رزقكم. والمصدر من أنكم تكذّبون مفعول ثان لتجعلون أي تجعلون الشكر تكذيبا. فلولا بمعنى هلا ودخلت على فعل مقدر أي فلولا ترجعونها. والضمير المستتر في بلغت يعود الى النفس التي دل عليها سياق الكلام. وإذا هنا لا تتضمن معنى الشرط ، بل هي بمعنى حين أي فلولا ترجعونها حين بلغت الحلقوم. واما ان كان من المقربين اسم كان مقدر أي ان كان المتوفى من المقربين. فروح مبتدأ والخبر مقدر أي فله روح. فسلام مبتدأ ولك خبر والخطاب لصاحب اليمين. فنزل مبتدأ والخبر محذوف أي فله نزل. وحق اليقين من باب اضافة الشيء الى نفسه او الصفة الى الموصوف مثل مسجد الجامع.

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ). أشرنا في فقرة الاعراب الى أن أكثر المفسرين قالوا : ان «لا» هنا زائدة ، وقال آخرون : انها أصل ، وان المعنى لا أقسم لأن الأمر أوضح من أن يحتاج الى قسم. والصحيح الأول بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) اي انه تعالى قد أقسم بالفعل ، وان قسمه عظيم ، وعند تفسير الآية ١ من سورة الصافات ج ٦ ص ٣٣٠ قلنا : ان لله أن يقسم بما شاء من خلقه لأن كل مخلوق يدل على وجود خالقه وعلمه وحكمته ، فكيف إذا كان للمقسم به أثره البالغ في إتقان الكون ونظامه ، وصيانته من الخراب والدمار كوضع النجوم في مواضعها وترتيبها في أماكنها بحيث لو حاد نجم منها عن مكانه قيد شعرة لانهار الكون وذهب كل شيء ، وقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ) يومئ الى ان أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة بخاصة أهل العصور الأولى.


الإسلام وقادة الفكر الأوروبي :

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). أجل ، ان القرآن كريم يغني عن كل مرشد ودليل ، ويشفي من داء الجهل والضلال ، ويهدي الى منازل الكرامة والسلامة ، ويحرر من قيود الظلم والعبودية .. أما السر لأوصافه هذه وكثير غيرها فلأن القرآن الكريم يستجيب لكل حاجة من حاجات الحياة ، ويربط الدين بالعمل في الدنيا لحياة طيبة عادلة لا مشاكل فيها ولا عدوان .. حتى سعادة الآخرة لا ينالها إلا من أخلص وعمل صالحا .. أبدا لا طريق الى الله ، ولا الى النجاة من غضبه وعذابه إلا العمل النافع : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٨ الرعد.

ومن هنا أجمع المسلمون قولا واحدا على ان الله سبحانه ما شرع ولن يشرع حكما إلا لخير الإنسان ومصلحته ، وانه من المستحيل أن يشرع حكما فيه ضرر على أحد أيا كان ، وانه إذا نسب الى شريعة القرآن حكم لا يتفق مع هذا المبدأ فهو من جهل الجاهلين أو دسائس الوضاعين ، أما الآيات الدالة على ذلك فتعد بالعشرات ، منها قوله تعالى على لسان نبيه شعيب : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) ـ ٨٨ هود وقوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ـ ٧ المائدة وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ـ ١٤٣ البقرة وقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٣٠ الروم.

هذا هو الإسلام في حقيقته وواقعه ، وفي كتاب الله وعلمه ، لا شيء فيه إلا ما يحتاج اليه الإنسان ويطلبه بغريزته وفطرته النقية الصافية التي ولد عليها ، وتميز بها عن جميع الكائنات ، لا ما يتطلبه الطمع والجشع ، والبغي والعدوان .. وقد أدرك هذه الحقيقة الكثير من فلاسفة الغرب وشعرائه وأدبائه ، فأكبروا الإسلام وأشادوا بالرسول الأعظم (ص) لا لشيء إلا بدافع من حب الخير والحق والعدل ، ولو اتسع لنا المقام لذكرنا الكثير من أقوالهم ، ولكن ما لا يدرك كله أو جله فلا يترك كله ، ونختار من بين أولئك الأعلام : «جوته» الألماني و «لامرتين»


الفرنسي و «تولستوي» الروسي و «برناردشو» الانكليزي ، وهم كما ترى مختلفون في ثقافتهم وقوميتهم واتجاهاتهم.

قرأ «جوته» الشاعر الالماني الكبير ـ القرآن ، وأدرك ما فيه فأكبره واحتفل بليلة القدر التي نزل فيها القرآن ، وقرأ تاريخ الرسول الكريم (ص) فألف النشيد المحمدي ، وكتب مسرحية محمد (ص) ، ومن أقواله : إذا كان الإسلام هو التسليم لله لا للأهواء والأغراض ففي الإسلام نحيا ، وعليه نموت.

وقال «لامرتين» شاعر فرنسا العظيم : «ان كل ما في حياة محمد (ص) يدل على انه لم يكن يضمر خداعا أو يعيش على باطل .. انه هادي الإنسان الى العقل ، ومؤسس دين لا فرية فيه».

وقال «تولستوي» الفيلسوف الروسي الانساني : «مما لا ريب فيه ان محمدا خدم الهيئة الاجتماعية خدمات جليلة ، ويكفيه فخرا أنه هدى مئات الملايين الى نور الحق والسكينة والسلام ، ومنح للانسانية طريقا للحياة ، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا انسان أوتي قوة وإلهاما وعونا من السماء».

وقال برنارد شو الأديب الانكليزي العالمي : «يجب أن يدعى محمد منقذ الانسانية .. انني أعتقد انه لو تولى رجل مثله زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشاكله بطريقة تجلب الى العالم السلام والسعادة .. ان محمدا هو أكمل البشر من الغابرين والحاضرين ، ولا يتصور وجود مثله في الآتين».

وقول برنارد شو : «محمد أكمل البشر من الغابرين والحاضرين» معناه ان رسالة محمد (ص) لا تغني عنها أية رسالة من رسائل الأنبياء السابقين .. حتى عيسى وابراهيم. أما قول برنادشو : «ولا يتصور وجود مثل محمد في الآتين» فمعناه لا أحد يستطيع بعد محمد أن يأتي الانسانية بجديد يفيدها وينفعها أكثر مما أتى به محمد ، ومعناه أيضا ان دعوة محمد ودين محمد يغني عن كل دين وكل دعوة وشريعة ونظام ، ولا يغني عنه شيء.

وكلنا يعلم ان برنارد شو في طليعة قادة الفكر الأوروبي في القرن العشرين ، عصر الذرة والفضاء ، وان شهادته هذه هي نتاج البحث الطويل ، والتفكير العميق ، والتحليل الدقيق .. وهذه الشهادة من برناردشو هي تعبير ثان أو تفسير لقوله تعالى :


(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء أي كل العالمين في كل زمان وكل مكان. وأيضا هي تفسير لقوله سبحانه : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ـ ٤٠ الأحزاب وأيضا هي أي شهادة برناردشو دليل قاطع على صدق المسلمين في عقيدتهم بأن محمدا هو أكمل البشر من الغابرين والحاضرين ، ولا يتصور وجود مثله في الآتين على حد قول برناردشو.

وبعد ، فما هو رأي الشباب المتنكرين لدين آبائهم وأجدادهم؟ ما رأيهم في قول برنادشو؟ وهل هم أعلم وأحرص منه على الانسانية ، ام انهم يتكلمون بوحي من أعداء الإسلام والانسانية من حيث لا يشعرون؟

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مصون. واختلفوا : من أي شيء مصون؟ فقال بعضهم : مصون من التراب والغبار! .. كما في تفسير الطبري. وقال آخرون : انه مصون في اللوح المحفوظ .. وفي رأينا انه لا موجب لهذا النزاع والخلاف لأن الله سبحانه بيّن معنى الصيانة بقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) اي ان القرآن وحي من الله لا من الشياطين ، وما هو بالسحر ولا أساطير الأولين كما يزعم الجاحدون.

واتفق فقهاء المذاهب على تحريم مس كتابة القرآن إلا للمتطهر المتوضئ ، واختلفوا في كتابته وتلاوته لغير الطاهر. فقال الحنفية : لا تجوز كتابته وتجوز تلاوته له عن ظهر قلب. وقال الشافعية : لا تجوز كتابته ولا تلاوته إلا بقصد الذكر كالتسمية على الأكل. وقال المالكية : لا تجوز الكتابة وتجوز التلاوة عن حاضر وظهر قلب. وقال الحنابلة : لا تجوز كتابته ويجوز حمله حرزا بحائل. وقال الإمامية : لا تحرم التلاوة على الجنب إلا سور العزائم الأربع : وهي اقرأ ، والنجم ، وحم السجدة ، وألم تنزيل. وتجوز الكتابة.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ). المراد بالحديث القرآن ، وأنتم خطاب للمنافقين الذين داهنوا ، فأظهروا الاعتراف بالقرآن ، وأضمروا الجحود والإنكار (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). المراد بالرزق النعمة ، وبالتكذيب كفرانها ، والمعنى ان القرآن نعمة من الله عليكم أيها المداهنون ، فكيف قابلتموها بالجحود والكفران؟. وقال جماعة من المفسرين : انهم كانوا إذا أمطروا قالوا : هذا من


صنع الطبيعة ، فكان ذلك كفرا منهم بأنعم الله ، وفيهم نزلت هذه الآية .. وهذا بعيد لأن الحديث عن القرآن لا عن الأمطار.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ). في بلغت ضمير مستتر يعود الى النفس التي دل عليها سياق الكلام ، وأنتم خطاب لمن شاهد الميت وهو يحتضر ، سواء أكان من أهله أم من غيرهم ، والمعنى كيف بكم أيها المداهنون إذا نزلت غمرات الموت بواحد منكم ، وبلغت روحه التراقي ، وأنتم تنظرون الى ما به ، وتتمنون له الحياة والبقاء ، فهل تملكون شيئا من أمره وتردون عليه حياته وعافيته؟. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ). ضمير اليه يعود الى المحتضر ، والمعنى ان الله سبحانه يعلم بما حل بالمحتضر ، وبعجزكم عن نجدته وألمكم لفقده ، ولكنكم تجهلون ان الله موجود في كل مكان بعلمه وقدرته (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إذا كنتم أحرارا ـ كما تزعمون ـ وغير مسؤولين عن شيء ، ولا أحد يستطيع ان يقهركم على شيء ، إذا كان الأمر كذلك فلما ذا لا تدفعون الموت عن أنفسكم وترجعون أرواحكم الى أجسادكم لأن المفروض في منطقكم ان الله لا يملك لكم موتا ولا حياة ولا بعثا ولا حسابا.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). في أول هذه السورة قسم سبحانه أهل القيامة الى ثلاثة أصناف : السابقين المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وذكر في هذه الآية ان المحتضر إذا كان من السابقين فهو في أمان قائم ونعيم دائم ، وتقدم في الآية ١٢ وما بعدها من هذه السورة ـ ما أعده الله للسابقين (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ). وإذا كان المحتضر من الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فتبشره الملائكة بالسلام والراحة .. ومن هنا بيانية ، وليست للتبعيض أي أنت ايها المؤمن الذي هو من أصحاب اليمين لك سلام وأمان. وتقدم في الآية ٢٧ وما بعدها من هذه السورة ما أعده سبحانه لأصحاب اليمين.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ). وإذا كان المحتضر من الصنف الثالث وهم أصحاب الشمال فمأواه جهنم وساءت مصيرا ،


وذكر سبحانه ما أعده لأصحاب الشمال في الآية ٤١ وما بعدها من هذه السورة (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) الذي لا شك فيه. وفي بعض كتب الصوفية. ان الشيء المدرك على ثلاثة أقسام : مدرك بعلم اليقين كمن يدرك وجود النار من وجود الدخان ، ومدرك بعين اليقين كمن يرى النار بالذات ، ومدرك بحق اليقين كمن يكتوي بحرها (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). تقدم بالحرف مع التفسير في الآية ٧٥ من هذه السورة.


سورة الحديد

٢٩ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هو الأول والآخر الآية ١ ـ ٦ :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

اللغة :

استوى هنا بمعنى استولى ولذا تعدى الفعل بعلى. والعرش كناية عن الملك والسلطان.


الإعراب :

سبّح لله «لله» اللام زائدة إعرابا مثل شكرت له ونصحت له أي شكرته ونصحته. ويجوز أن تكون اللام أصلا على معنى سبّح تسبيحا خالصا لوجه الله. وقد استعملت «ما» هنا في جميع الكائنات العاقلة وغير العاقلة.

المعنى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وفي الآية ٤٩ من سورة النحل : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). وكل من التسبيح والسجود لله اعتراف بقدرته تعالى وحكمته ، ولهذا الاعتراف مظهران : أحدهما بلسان المقال ، وثانيهما بلسان الحال ، والإنسان يسبّح الله باللسانين معا ، أما الكائنات التي لا تنطق بلسان المقال فإنها تسجد وتسبّح بلسان الحال لأن ما من كائن إلا وهو يدل على وجود المكون والمصور. أنظر تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٧ فقرة «كل شيء يسبح بحمده».

وجاء في كتب السير والحديث والتفاسير : ان فاطمة بنت رسول الله (ص) كانت تقوم بجميع شئون بيتها وخدمة زوجها وأولادها ، وفي ذات يوم شكت الى أبيها ما هي فيه ، ورأى هو (ص) عليها وعلى يديها آثار الجهد ، فطلبت منه أن يمنحها جارية من سبايا الحرب لتساعدها فيما تقوم به ، فقال : لا أعطيك جارية ، وغيرك يطوي بطنه من الجوع ، ثم قال لها : ألا أدلك على خير من الجارية أن تسبحي الله ٣٣ وتحمديه ٣٣ وتكبريه ٣٤. قالت فاطمة (ع) : رضيت يا رسول الله. وتعرف هذه التسبيحات بتسبيح الزهراء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ). كأنّ سائلا يسأل: لما ذا سبّح لله ما في السموات والأرض؟ فجاء الجواب لأن ما في السموات والأرض ملك لله وحده لا شريك له ، ولأنه العزيز بقدرته ، والحكيم بتدبيره. ولأن الموت والحياة بيده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما شاء كان وان لم يشأ لم يكن.


(هُوَ الْأَوَّلُ) بلا ابتداء كان قبله ، ومنه ابتداء كل شيء (وَالْآخِرُ) بلا انتهاء يكون بعده ، واليه ينتهي كل شيء (وَالظَّاهِرُ) بالآثار والأفعال لا برؤية الحواس (وَالْباطِنُ) لا تحيط العقول والأوهام بكنهه وحقيقته ، وإنما يتجلى لها بآثاره. وفي نهج البلاغة : الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته ، وردع هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته .. قرب فنأى ، وعلا فدنا .. سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو عالم بكل شيء لأنه خالق كل شيء.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). المراد بالأيام الدفعات أو الأطوار ، وبالاستواء الاستيلاء ، وبالعرش الملك. وتقدم مثله في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٨ والآية ٣ من سورة يونس والآية ٧ من سورة هود والآية ٥٩ من سورة الفرقان والآية ٤ من سورة السجدة.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من كنوز وبذور ومياه .. حتى التفجيرات الذرية في جوف الأرض التي يقوم بها أعداء الله والانسانية فان الله يعلم حقيقتها وآثارها المهلكة ، ويعلم ان الهدف منها السيطرة على عباد الله وإخضاعهم لسياسة الاستعمار ، ونمو صناعته الحربية .. وأيضا يعلم الله (ما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وحشرات ومياه .. حتى البترول فإن الله يعلم الأرض التي ينبع منها ، والأيدي التي تستخرجه وتعمل فيه والشركات التي تسلبه وتنهبه والحروب التي تثيرها من أجله (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من ماء وثلوج وأنوار ، وما الى ذلك من خيرات .. وقد علم بالذين صعدوا الى القمر لعلهم يهتدون الى وسيلة يحتكرون بها بركات السماء ، ويحبسونها عن عباد الله وعياله تماما كما فعلوا في الأرض وخيرات الأرض ، ولكن الله ، جلت حكمته ، ردهم ـ في المحاولة الثالثة ـ على أعقابهم خاسئين (وَما يَعْرُجُ فِيها) وأيضا يعلم سبحانه كل ما يدور ويجول في الفضاء .. حتى طائرات التجسس وحاملات القنابل الذرية والأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض لأغراض شيطانية كالتجسس وإرهاب المستضعفين واغتصاب أرزاقهم ومقدراتهم.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). هذا تهديد ووعيد لكل طاغ وباغ بان أعماله محفوظة عند الله ، وانه مرتهن بها ومحاسب عليها حسابا دقيقا


وعسيرا ، ومعاقب بعذاب وبيل وأليم (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). تتحرك الأفلاك ، وتتعدد الفصول ، ويأخذ الليل من النهار في فصل ، والنهار من الليل في فصل ، ويتساويان في بعض الأيام ، أما ذات الصدور فهي السرائر والضمائر. وتقدم في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ والآية ٦١ من سورة الحج و ٢٩ من سورة لقمان و ١٣ من سورة فاطر.

وانفقوا مما جعلكم خلفاء فيه الآية ٧ ـ ١١ :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

اللغة :

مستخلفين خلفاء ووكلاء بالتصرف في الأموال ضمن حدود وقيود. والمراد بالفتح هنا فتح مكة ، وبالقرض الإنفاق.


الإعراب :

ما لكم مبتدأ وخبر لأن معناه أي شيء حدث لكم؟ والمصدر من أن لا تنفقوا مجرور بحرف جر مقدر أي في عدم الإنفاق ، ويتعلق بما تعلق به لكم. ومن أنفق «من» فاعل لا يستوي. وفي الكلام حذف ، أي ومن أنفق بعد الفتح. وكلا مفعول أول لوعد ، والحسنى مفعول ثان. ومن مبتدأ وذا خبر والذي بدل من ذا. وقرضا مفعول مطلق ان أريد به الاقراض ، ومفعول به إن أريد به المال.

المعنى :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ). حث سبحانه على الإنفاق ورغّب فيه بشتى الأساليب ، وهدد من بخل وأمسك بأشد العذاب .. ومن أساليب القرآن في الحث على الإنفاق في سبيل الله هذه الآية التي ساوت بين الامر بالايمان بالله ورسوله وبين الأمر بالإنفاق ، وتومئ هذه المساواة الى ان من يبخل ويمسك فهو كافر ـ عمليا ـ بالله ورسوله وان آمن بهما نظريا .. وأيضا تشير الآية الى أن الأغنياء لا ينفقون من ملكهم وأموالهم ، وانما ينفقون مما هم وكلاء فيه.

وروى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري انه خرج مرة مع رسول الله (ص) نحو أحد فقال له الرسول (ص) : يا أبا ذر أتبصر هذا الجبل؟. فقال : نعم يا رسول الله. قال : ما أحب أن يكون لي مثله ذهبا أنفقه في سبيل الله ، أموت وأترك منه قيراطين. فقال أبو ذر : أو قنطارين يا رسول الله. قال : بل قيراطين. أنظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧ فقرة «الغني وكيل لا أصيل».

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). المراد بالميثاق هنا وجوب العمل بما دل عليه الدليل القاطع ، وما أكثر الأدلة على وجوب الايمان بالله .. وتقدم بيان الكثير منها عند تفسير


الآيات الكونية ، من ذلك ما ذكرناه عند تفسير الآية ٨٣ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٧٩ فقرة «علم الخلايا» ، كما تقدم ذكر الأدلة على نبوة محمد (ص) عند تفسير الآيات التي تشير إلى ذلك ، ومنها ما ذكرناه قريبا عند تفسير الآية ٧٧ من سورة الواقعة فقرة «الإسلام وقادة الفكر الأوروبي».

ومحصل الآية التي نحن بصددها : كيف تعرضون عن دعوة الرسول الى الايمان بالله والى ما يحييكم ، وقد قامت الأدلة الكافية الوافية على وجود الله ووحدانيته ، وصدق الرسول في نبوته ودعوته؟. قال الرازي : ان تلك الدلائل لما اقتضت وجوب العمل بها كانت أوكد من الحلف واليمين ، ولذلك سمّاه سبحانه ميثاقا.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). أرسل سبحانه محمدا (ص) بالحجة الكافية والموعظة الشافية ليخرج الناس من طاعة الشيطان الى طاعة الرحمن ، من الضلال والفساد الى الهدى والصلاح ، وخوّفهم الرسول من سطوة الله وعذابه إذا أعرضوا ، ووعدهم بالحسنى وجزيل الثواب إذا استجابوا وأطاعوا وقال لهم : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ان الله بعباده رؤوف رحيم ، وبرّ كريم ، يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويمهد لهم سبل الخير من حيث لا يحتسبون ، وينعم عليهم وهم يتمردون.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟. كل ما في يد الإنسان من مال وحطام فهو عارية يتركه لمن بعده .. وهكذا حتى الإنسان الأخير ، فإذا ذهب الى ربه فلا وارث حينئذ إلا الله وحده : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ـ ٤٠ مريم وما دام الأمر كذلك ، فلما ذا الشح بالمال والإمساك عن البذل في سبيل الله؟. وفي نهج البلاغة : عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ، ويفوته الغنى الذي إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء!.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ). المقابل الثاني لقوله : لا يستوي محذوف أي ومن أنفق وقاتل بعد فتح مكة ، وتوضيح المعنى ان الشيء قد يقاس بالكم والكيف معا كالأطعمة والأشربة والألبسة والمجوهرات ، فإن ثمن


هذه وما اليها يقدر بالحجم والمنفعة معا ، وقد يقاس بالكم فقط كأصوات الذين ينتخبون المخاتير والنواب ومن اليهم من الرؤساء ، فإن صوت العالم والجاهل والعادل والفاجر سواء بالنسبة لفوز المرشح أو فشله ، وقد يقاس بالكيف فقط كالدواء حيث يقدر بأثره شفاء ووقاية .. والبذل من هذا الباب فقد ينفق الإنسان على معبد ـ مثلا ـ عشرات الألوف ولا يكون له من الأجر عند الله ما لرغيف ينقذ به جائعا من الهلاك .. ومن هنا نفى سبحانه المساواة بين من أنفق وقاتل قبل فتح مكة وبين من أنفق وقاتل بعده حيث كان المسلمون قبل الفتح في ضيق وحرج ، وكان الكافرون في سعة وقوة ، أما بعد الفتح فعلى العكس ، ضعف الكفر ، وقوي الإسلام.

(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). أولئك اشارة الى السابقين الأولين ، والمعنى ان لكل من السابق واللاحق في الخيرات أجره وثوابه عند الله ، ولكن مع التفاوت في الدرجات والمراتب : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٩ الأحقاف. وبكلمة ان السابقين المقربين هم من الصنف الأول الذين ذكرهم سبحانه وما أعد لهم في الآية ١٠ وما بعدها من سورة الواقعة ، وأصحاب اليمين من الصنف الثاني ، وقد ذكر سبحانه ما أعده لهم في الآية ٦٧ وما بعدها من سورة الواقعة أيضا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ). المراد بالإقراض هنا النفقة لأن الله غني عن العالمين. وفي نهج البلاغة : «لم يستنصركم الله من ذل ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد. أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا». وتقدم مثله مع التفسير مفصلا في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٧٤.

باطنة الرحمة وظاهرة العذاب الآية ١٢ ـ ١٥ :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ


بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

اللغة :

النظر يأتي للرؤية بالبصر ، وللتأمل بالفكر ، ويأتي أيضا بمعنى الرحمة تقول : انظرني بضم الظاء أي ارحمني ، ومنه قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ـ ٧٧ آل عمران وغير بعيد أن يكون معنى (انْظُرُونا) في الآية من هذا الباب ، وإذا قلت : انظرني بكسر الظاء فالمعنى أمهلني ومنه : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ـ ١٤ الأعراف. والمراد بنقتبس هنا نستضيء وأصله من القبس أي الشعلة من النار. والمراد بالسور الحاجز ، وبالرحمة هنا الجنة. ومن قبله من جهته. وفتنتم أنفسكم أهلكتموها. وتربصتم انتظرتم. وارتبتم شككتم. والغرور الشيطان. ومولاكم ناصركم.


الإعراب :

يوم ترى متعلق بكريم في آخر الآية السابقة ويجوز أن يتعلق اليوم بفعل مقدر أي اذكر يوم ترى. وبشراكم اليوم جنات مبتدأ وخبر لأنه بمعنى الذي تبشرون به اليوم جنات مثل طعامك اليوم كذا. ويوم يقول بدل من يوم ترى لأن المراد باليومين واحد وهو يوم القيامة. ونقتبس مجزوم بجواب الأمر وهو انظرونا.

المعنى :

في الآية السابقة قال سبحانه : ان من آمن وأنفق في سبيل الله لوجهه تعالى يضاعف له الجزاء ، وله أجر كريم ، وهنا بيّن سبحانه هذا الأجر الكريم بقوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). كان المتقون الباذلون يسيرون في الدنيا على هدى من ربهم .. وفي يوم الحساب والجزاء شع من هذا الهدى الإلهي نور مادي محسوس كما تومئ كلمة ترى وكلمة بأيمانهم أي ترى نورهم بعينيك تماما كما ترى نور المصباح المحمول باليد ، ويتحكم به حامله كيف يشاء .. وبكلام آخر عملوا في الدنيا لهذا النور بجد واخلاص فوجدوه في الآخرة أمامهم يمتد الى مسافات (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). يخرج المهتدون غدا من قبورهم ، ويسيرون على نور يكشف لهم طريق الأمان ، وقبل أن يصلوا الى النهاية يأتيهم النداء : ابشروا بالجنة .. وأية بشرى تعادل البشرى بجنة الخلد ونعيمها؟. وأي فوز أعظم من هذا الفوز؟.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). كان المهتدون في الدنيا على نور من ربهم فهم في الآخرة كذلك : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد. وكان المنافقون في ظلمات الأهواء والشهوات فهم يوم القيامة في ظلمات بعضها فوق بعض : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ـ ٧٢ الإسراء. وشاءت حكمته


تعالى أن يرى المنافقون غدا نور المهتدين وهو يسعى بين أيديهم كي يزدادوا ألما على ألم ، ثم يتضاعف الألم حين يستغيث المنافقون بالمؤمنين ، ويسألونهم أن يسيروا على نورهم (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً). هذا هو جواب استغاثتهم : ارجعوا الى صاحبكم الشيطان ، واقتبسوا منه نورا ، فهو وراءكم اليوم كما كان وراءكم بالأمس .. ان هذا النور لمن عمل في دنياه لآخرته ، أما من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة فما هو بخارج من الظلمات إلا إلى ما هو أشد.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ). ضمير بينهم يعود الى المؤمنين والمنافقين ، والمراد بالسور الحاجز ، والمعنى ان الله أنعم على المؤمنين بالجنة ، وانتقم من المنافقين بعذاب النار ، وبين الجنة والنار حاجز ، له جانبان : باطن غير منظور ، وهو يلي المؤمنين ، وظاهر منظور وهو يلي المنافقين وغيرهم من المجرمين ، والأول فيه الجنة ، والثاني من جهته جهنم

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)؟ يقول المنافقون للمؤمنين بلسان الحال أو لسان المقال ، يقولون لهم : كنّا في الدنيا نصوم ونصلي ونفعل ما تفعلون فلما ذا دخلتم الجنة ، ودخلنا النار؟ (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ). أجابهم المؤمنون : أجل ، كنتم معنا وصمتم وصليتم مثلنا ، ولكن أهلكتم أنفسكم بالكذب والنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) الدوائر بالمؤمنين (وَارْتَبْتُمْ) برسول الله وأقواله (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) حين ظننتم أن خداعكم ونفاقكم يمر بسلام ومن غير حساب وعقاب (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو لقاؤه تعالى وحسابه وجزاؤه (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وصدقتم الشيطان في وعده بسلامتكم من غضب الله وعذابه.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) ولا تقبل منكم توبة ولا مهرب لكم من العذاب : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ـ ٩١ آل عمران. (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا). وأيضا لا تقبل الفدية والتوبة من الذين أظهروا الكفر وجاهروا به ، ولم يخادعوا وينافقوا كما خادعتم ونافقتم (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أبدا لا مقر ولا ناصر لكم إلا جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيركم ومآلكم.


ألم يأن للذين آمنوا الآية ١٦ ـ ١٩ :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

اللغة :

ألم يأن أي ألم يحن ، تقول حان حينه أي جاء أو قرب وقته. المصدّقين والمصدقات قرئ بتخفيف الصاد على معنى المؤمنين والمؤمنات ، وقرئ بتشديدها على معنى المتصدقين والمتصدقات بأموالهم. والصديقون جمع صدّيق ، ويطلق على من داوم على الصدق حتى كأنه سجية له.

الإعراب :

المصدر من أن تخشع فاعل يأن على حذف مضاف أي ألم يأن وقت الخشوع. وما نزل عطف على ذكر الله. وكالذين الكاف بمعنى مثل خبرا ليكونوا. وجملة


يضاعف خبر ان المصدقين. والذين آمنوا مبتدأ وأولئك مبتدأ ثان و «هم» ضمير فصل والصديقون خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول. والشهداء مبتدأ وجملة لهم أجرهم خبر.

المعنى :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ). عطف ما نزل من الحق على ذكر الله من باب عطف التفسير إذ لا تغاير بين المعطوف والمعطوف عليه إلا باللفظ والعنوان ، والمراد بالذين آمنوا في الآية فئة منهم ، وقبل بيانها نقدم بأن الايمان يختلف قوة وضعفا ، فمن ايمان من وجبت له العصمة ولا تجوز عليه المعصية كالأنبياء الى ايمان صفوة الصفوة كبعض الصحابة الى من هو دونهم بدرجة .. الى أدنى درجات الايمان.

والمراد بالذين آمنوا هنا من اكتفى من الدين والايمان بالقشور دون اللباب ، وبالظاهر دون الواقع ، ولا يعنيه شيء من أمور الناس والصالح العام. وقد نبه سبحانه هذه الفئة من المؤمنين الى ما أنزله في كتابه من آيات الجهاد ، والحث على اقامة العدل ، ونصرة الحق وأهله ، والإصلاح بين الناس ، نبههم الى حقيقة الدين والايمان بهذا الأسلوب الودود الرحيم : (أَلَمْ يَأْنِ) لعلهم يسمعون ويعقلون.

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وقست قلوبهم كناية عن إعراضهم عما أنزل الله في التوراة والإنجيل ، والمعنى : ان اليهود انقلبوا على أعقابهم بعد موسى ، وكذلك النصارى بعد عيسى فلا تنقلبوا أنتم أيها المسلمون بعد محمد (ص) كما انقلب أهل الكتاب من قبل ، ومثله قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ـ ١٤٤ آل عمران. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). المراد بهؤلاء الكثير رؤساء اليهود والنصارى الذين حرفوا التوراة والإنجيل حرصا على مناصبهم ومكاسبهم.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). قال كثير من المفسرين : ان


هذا تشبيه للقلوب القاسية بالأرض الميتة ، وانه تعالى كما يحيي هذه بالمطر كذلك يهدي القلوب القاسية بالموعظة .. وفي رأينا انه تهديد للذين ينقلبون على أعقابهم بعد محمد (ص) وانه تعالى سيحييهم تماما كما يحيي الأرض ، ويجزيهم على ارتدادهم بعد نبيهم ، ويؤيد ارادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). انكم مسؤولون يوم القيامة عما أحدثتم بعد رسول الله (ص).

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ). المراد بالمصدقين والمصدقات المتصدقون والمتصدقات ، وبالقرض الحسن الصدقة لوجه الله تعالى ، وعليه فلا تكرار ، والمراد بالأجر الكريم أن يسعى نورهم بين أيديهم يوم القيامة بالاضافة الى الحور والقصور وما أشبه. وتقدم مثله في الآية ١١ من هذه السورة و ٢٤٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٧٤ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وعملوا بموجب ايمانهم (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي الذين داوموا على الصدق في ايمانهم قولا وعملا ، والصدق سبيل النجاة من كل هلكة.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله ، أما أجرهم عند ربهم فقد بينه سبحانه بقولهم : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ـ ١١١ التوبة. أما نورهم فقد أشار اليه سبحانه بقوله : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ـ ١٢ الحديد. وقال الرسول الأعظم (ص) : «ما من أحد يدخل الجنة ، ثم يحب أن يخرج منها الى الدنيا ولو كانت له الأرض بما فيها إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع الى الدنيا ، فيقتل عشر مرات لما رآه من الكرامة عند الله». (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). هذا على عادة القرآن الحكيم ، يقابل المتقين بالمجرمين ، وثوابهم بعقابهم بقصد الترغيب والترهيب.


الحياة الدنيا لعب ولهو الآية ٢٠ ـ ٢٤ :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

اللغة :

الكفار جمع كافر ، ويطلق على من كفر بالله ، وعلى الحارث لأنه يكفّر الحب بالتراب أي يستره به ويغطيه. ويهيج يجف. والحطام الهشيم. ولا تأسوا لا تحزنوا. ومختال من الخيلاء وهو العجب والتكبر. وفخور أي امتدح نفسه بحميد الصفات وباهى بها.


الإعراب :

كمثل الكاف زائدة اعرابا ومثل صفة للدنيا أو خبر بعد خبر. وفي كتاب متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي الا هي كائنة أو مكتوبة في كتاب لكيلا تأسوا كي ناصبة للفعل واللام جارة والمجرور بها متعلق بما تعلق به في كتاب ، الذين يبخلون بدل من كل مختال فخور.

المعنى :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). تقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٣٢ من سورة الانعام .. والدنيا المذمومة في كتاب الله وعلى لسان أنبيائه هي التي تطلب للشهوات والملذات ، وللزهو واللهو ، وللكبرياء والخيلاء ، أما الدنيا التي تقضى بها حوائج المحتاجين ، وتدفع بها ظلامة المظلومين ، وينتفع بها عباد الله وعياله فهي من الآخرة لا من الدنيا المذمومة ، ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد أن ثواب الله وقف على من آمن وعمل صالحا في هذه الحياة ، وأدى الحقوق والواجبات ، وانه لا وسيلة الى السعادة الأخرى إلا العمل النافع في الحياة الدنيا.

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً). هذا الوصف يصلح للدنيا لأنها لا تدوم على حال .. انها تخضر وتصفر ، وتقسو وتلين ، وتعطي وتمنع .. ولو أعطت الإنسان كل ما أحب وأراد فإنها عما قليل تسلبه كل شيء حتى نفسه وأهله .. وأيضا يصلح هذا الوصف للإنسان في الحياة الدنيا .. انه يشب ويقوى عظمه ويشتد لحمه ، وينضر لونه .. ثم يدب فيه الوهن فيذوب منه اللحم ، ويدق العظم ، ويصفر اللون ، وينتقل في كل يوم من سيء الى أسوأ حتى يتحطم ويضمحل .. وإذا كان هذا شأن الدنيا ، وشأن الإنسان فيها فأولى له ثم أولى ان يعمل لحياة دائمة لا يفنى نعيمها ولا يهرم مقيمها.

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ). بعد أن ذكر سبحانه ان الدنيا لا يدوم لها رخاء ولا عناء ذكر ان الآخرة ثابتة على وتيرة واحدة. نعيمها


دائم ، وجحيمها دائم ، لأن سبب النعيم رضوان الله ، وسبب الجحيم غضبه تعالى ، وكل منهما قائم بقيام سببه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ). نقل الرازي عن الصحابي الجليل سعيد بن جبير انه قال عند تفسير هذه الآية : «الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، أما إذا دعتك الى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة». وهذا الصحابي من تلامذة الرسول (ص) المقربين.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ). المراد بالمغفرة هنا سببها كالتوبة والعمل الصالح. وقال بعض المفسرين : إذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها؟. وقال آخر : ان المراصد الحديثة كشفت ان أبعاد الكون لا حدود لها ، وعليه فالمراد العرض حقيقة لا مجازا! .. وبالرغم من هذا الكشف فنحن لا نفهم من العرض هنا إلا التعبير عن عظمة الجنة وسعتها لا تقدير مساحتها حقيقة. وتقدم مثله في الآية ٣٣ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٦ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وليس من شك ان الطاعة سبب للمزيد من فضله ، بل هي السبب لفضله ورضوانه في يوم الفصل.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). ضمير نبرأها يعود إلى أنفسكم ، والمعنى الظاهر من هذه الآية ان المصائب بكاملها هي من الله سواء أكانت من نوع الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات ، أم كانت اجتماعية كالحروب والفقر والعدوان .. وهذا غير مراد قطعا بحكم الوحي والعقل ، وفيما يلي التوضيح :

المصائب وصاحب الظلال :

قال صاحب الظلال عند تفسير هذه الآية : «اللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير أو بشر فكل مصيبة تقع في الأرض كلها وفي النفس البشرية أو المخاطبين هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس».


وتسأل : صاحب الظلال : إذا كنت تعتمد حقا على ظاهر اللفظ وإطلاقه اللغوي فلما ذا لم تعتمد على ظاهر اللفظ وإطلاقه ، وأنت تفسر هذه الآية : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ـ ٣٠ الشورى؟ وهل نسيت انك قلت في تفسيرها ما نصه بالحرف الواحد : «فكل مصيبة تصيب الإنسان لها سبب مما كسبت يداه ـ المجلد السابع الجزء الخامس والعشرون من القرآن الكريم ص ٣٨ وهل تعتمد على الظاهر من كل آية وإطلاقها اللغوي الحقيقي حتى ولو كان بين الآيتين تناقض بحسب الظاهر والإطلاق اللغوي؟ وأيضا هل تعتمد على هذا الظاهر إذا اصطدم مع حكم العقل والواقع ودل على ان لله يدا ووجها وسمعا وبصرا؟. وهل الصهيونية والاستعمار اللذين هما مصدر المصائب والأدواء في هذا العصر ، هل هما من الله لا من الصهاينة والمستعمرين؟.

ان التناقض بين الآيات حقيقة وواقعا وتصادم إحداها مع حكم العقل ـ مستحيل على القرآن وفي القرآن .. كيف وهو من لدن حكيم عليم؟ فإذا تصادم ظاهر آية مع آية أخرى أو مع حكم العقل علمنا ان هذا الظاهر على إطلاقه غير مراد لله تعالى ، وانه انما أطلق اللفظ اتكالا على ما عرف من عادته في التعبير كتعبيره عن اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، أو على ما هو معروف بحكم العقل كالتعبير عن قدرته تعالى باليد أو على آية أخرى من كلامه كآية الشورى التي تقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) والآية ١١٧ من سورة آل عمران : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) والآية ٤١ من سورة الروم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). فإن هذه الآية وما في معناها قرينة قاطعة على ان الإطلاق اللغوي في آية سورة الحديد غير مراد ، وان الله سبحانه قد اطلق في سورة الحديد اتكالا على ما قاله في سورة الشورى وسورة آل عمران وسورة الروم ، وعليه فالمراد بمصيبة الأرض في سورة الحديد الكوارث الطبيعية كالزلازل وبمصيبة النفس بعض الأمراض التي لا تجدي معها وقاية ولا حذر ، ونحو ذلك ، أما آيات الشورى وآل عمران والروم فالمراد بها المصائب التي هي من صنع الإنسان لا من صنع الرحمن كالظلم والحرب والجوع.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). قال الإمام علي (ع) :


الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، ثم تلا هذه الآية وقال : «ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه». وما من أحد إلا ويحزن ويفرح حتى الأنبياء ، والقصد من النهي أن لا يدخله الفرح في باطل ، ولا يخرجه الحزن عن الحق ، فقد ثبت عن الرسول الأعظم (ص) انه قال عند موت ولده ابراهيم : «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا ابراهيم لمحزونون».

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). ولا شيء أدل على الجهل من الكبرياء والمباهاة. وفي نهج البلاغة : ما لابن آدم والفخر؟ أوله نطفة ، وآخره جيفة ، لا يرزق نفسه ، ولا يدفع حتفه! (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ). البخيل جبان ولئيم ، أما من بخل وأمر الناس بالبخل فهو من المعنيين بقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) ـ ١٣ القلم. العتل الجاف والزنيم الدعي. قال الرازيّ هذه صفة اليهود. (ملاحظة توفي الرازي سنة ٦٠٦ ه‍). وتقدم مثله في الآية ٣٧ (النساء) ج ٢ ص ٣٢٣ (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). لا يضر البخيل إلا نفسه ، والله سبحانه لا تضره معصية من عصى ، ولا تنفعه طاعة من أطاع. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد.

الحديد فيه بأس شديد الآية ٢٥ ـ ٢٩ :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ


وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

اللغة :

قفينا أي ان الله أرسل الأنبياء الواحد تلو الآخر. الرهبانية من الرهبة ، وهي الخوف ، والمراد بها هنا طريقة خاصة بالنصارى. وابتدعوها استحدثوها من تلقائهم. والكفل النصيب.

الإعراب :

فيه بأس شديد مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الحديد. ورسله مفعول لفعل محذوف دل عليه الفعل الموجود أي وينصر رسله ، وقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه على حد قول النحاة. ورهبانية مفعول لفعل محذوف أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها وهنا حذف الأول لدلالة الثاني عليه. وجملة ما كتبناها صفة لرهبانية. وحق مفعول مطلق لأنه مضاف الى مصدر الفعل. يؤتكم مجزوم باتقوا.


لئلا : «لا» زائدة أي ليعلم. ان لا يقدرون «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انهم لا يقدرون. وأن الفضل عطف على ان لا يقدرون.

المعنى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). كل ما تعرف به الحقيقة فهو ميزان سواء أكان وحيا أم عقلا أم حسا كالتجربة والمشاهدة ، وعليه يكون عطف الميزان على الكتاب من باب عطف العام على الخاص مثل قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) ـ ٨٤ آل عمران. والمعنى ان الله أرسل الأنبياء بالحجج الدالة على نبوتهم ورسالتهم ، وبما يهدي الناس الى الحق والعدل ليستقيموا على صراطه القويم.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). قال المفسرون القدامى عند تفسير هذه الآية : ان الحديد قوة في الحرب يتخذ الناس منه سيفا للضرب ، ودرعا للدفاع ، وأيضا يتخذون منه السكين والفأس والابرة ، وما هذه الأمثلة إلا انعكاس لعصرهم وحياتهم ، ولو كنا في زمانهم لمثلنا بأمثلتهم ، ولو كانوا في زماننا لقالوا : ان الحديد هو عصب الحياة في شتى النواحي ، فمنه وسائل المواصلات برا وبحرا وجوا ، والأدوات التي لا غنى عنها لغني أو فقير ، وبه تقوم الجسور والعمارات والسدود والخزانات ، ولولاه لما عرف الناس الكهرباء والبترول ، وهو الأساس لكثير من العلوم الحديثة ، بل هو كل شيء في المعامل والمصانع التي تقوم عليها حضارة القرن العشرين.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وينصر تعاليم رسل الله ، وان لم يشاهدهم بالذات .. وكل شيء في هذه الحياة فيه جهتان : ايجابية وسلبية ، منفعة ومضرة ، وإذا كان للحديد هذه المنافع في خدمة الإنسان فإن فيه أيضا الاستعداد التام للقضاء على الإنسان وهلاكه ، فلقد كانت القتلى قبل اكتشاف الحديد تعد بالعشرات في الحروب فأصبحت اليوم تعد بالملايين .. وما القلق والاضطراب والخوف الذي يعيش فيه الشرق والغرب ، ولا الدماء التي تجري أنهرا في


كمبوديا ولاوس وفيتنام وغواتيمالا والشرق الأوسط ، ما هذه الويلات وغيرها إلا نتيجة تسلح قوى الشر بالحديد ، واستخدامه ضد الشعوب والحركات التحررية.

وبهذا ندرك السر لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ). انه سبحانه خلق الحديد ليمحص به عباده ، ويمتحن ما في قلوبهم من خير وشر ، ويظهره علنا إلى عالم الوجود والعيان كي يميز الخبيث الذي يتخذ من القوة أداة لأهوائه وأغراضه ، يميزه من الطيب الذي يرى القوة نعمة من الله فيستغلها لمنفعة الناس شكرا لله على نعمته (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينتقم من الطغاة الظلمة بأيدي المحقين الذين لا يبتغون من هذه الحياة إلا الحرية والعدل والعيش مع الجميع في هدوء وأمان .. ونحمد الله سبحانه على ان الثورة على الظلم تقوم اليوم في كل طرف من أطراف الأرض ، وليس من شك ان هذه الثورات قوة إلهية ، لا مرد لها ما دامت تبتغي الحق والعدل .. أما جزاء الطغاة في الآخرة فجهنم وبئس المصير.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). أرسل سبحانه كلا من نوح وإبراهيم داعيا إلى الحق ، فبلغ رسالات ربه ، وجاهد في الله أعداءه ، وكان من أمر نوح ما تقدم في سورة هود الآية ٥ ـ ٤٩ ومن أمر ابراهيم ما جاء في سورة الأنبياء الآية ١ ـ ٧٤ (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). ضمير منهم يعود الى ذريتهما ، وكان البعض من هذه الذرية من الطيبين ، أما أكثرهم أو الكثير منهم فكان بلا دين ولا ضمير تماما شأن أبناء علماء الدين (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا). أرسل سبحانه بعد نوح وابراهيم كثيرا من الرسل ، منهم هود وصالح وموسى (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ). توالت الرسل حتى انتهوا الى عيسى (ع) ، ومعه الإنجيل ، وكان فيه آنذاك الهدى والنور (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) وهم الذين أطاعوا السيد المسيح وعملوا بتعاليمه نصا وروحا ، وما حرفوها على ما تهوى أنفسهم. وتومئ الى ذلك كلمة (اتَّبَعُوهُ). أنظر تفسير الآية ٨٢ من سورة المائدة ج ٣ ص ١١٤.


(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). إلا هنا بمعنى لكن ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، ومعناه ان هذه الرهبانية ما أنزل الله بها من سلطان ، ولكن رؤساء النصارى ابتدعوها من عند أنفسهم زاعمين انها تقربهم من الله زلفى لأنها عزوف عن الدنيا وملذاتها .. وعلى الرغم انه تعالى ما أمرهم بها ، وانه أحل لهم الزينة والطيبات من الرزق فإنهم لم يلتزموا بما ألزموا به أنفسهم من الزهد ، بل اتخذوا منها وسيلة للشهرة وتولي المناصب .. وتدل هذه الآية على انه لا رهبانية في الإسلام ، ولا في الديانة التي جاء بها السيد المسيح.

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) وهم العيسويون حقا وصدقا الذين يعتقدون قولا وعملا ان المسيحية محبة ورحمة ، ونزاهة وانسانية ، لا تعصب وأحقاد ، ولا ظلما واستغلالا ، ولا حروبا وانقلابات ، ولا اثارة الفتن والنعرات ، ولا قنابل ذرية وأسلحة كيماوية ، ولا شعارات كاذبة للدفاع عن الحرية ، ولا نشر الهلع والقلق والخوف في قلوب عباد الله وعياله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). وفي طليعتهم قادة الاستعمار الجديد وأعداء الانسانية رقم (١) الذين تنطبق عليهم جميع الصفات التي سلبناها عن العيسويين حقا وصدقا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ). أي يا أيها الذين اعترفوا بالله ورسوله اعملوا بموجب اعترافكم ، ولا يكن عملكم مكذبا لأقوالكم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ). أطيعوا محمدا (ص) وسيروا على نهجه وهديه (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). الكفل النصيب ، والمراد بالرحمة هنا الثواب ، والمعنى من آمن بالله ورسوله وعمل بموجب إيمانه فله عند الله ثوابان : ثواب على إيمانه ، وثواب على العمل بموجبه. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يوم القيامة ، ومن لم يجعل الله له في هذا اليوم نورا خبط سادرا في ظلمات لا يخرج منها إلا الى ما هو أعظم وآلم.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ما أسلفتم من المعاصي لأنه هو الغفور الرحيم. قال ابن عربي في الفتوحات : «ما قرن سبحانه المغفرة بتوبة ولا بعمل صالح فلا بد من شمول الرحمة والمغفرة لمن أسرف على نفسه». ولا يكثر شيء على رحمته التي وسعت كل شيء (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ


مِنْ فَضْلِ اللهِ). ال «لا» في «لئلا» زائدة ، والمراد بقوله تعالى : (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) انهم لا ينالون يوم القيامة شيئا من فضل الله ، ومحصل المعنى ان الله سبحانه يغفر غدا للذين آمنوا بمحمد ، ومن أحسن عملا يؤتيه أجره مرتين لأنه تعالى جواد كريم ، وأيضا ليعلم اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد (ص) أنه لا نصيب لهم من مغفرة الله ورحمته لأنهم استنكفوا عن تصديق نبيه الكريم محمد (ص) (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يتفضل به على الذين آمنوا بمحمد (ص) ولا مرد لما أراد لأن بيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير.



الجزء الثّامن والعشرون



سورة المجادلة

٢٢ آية مدنية ، وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الظهار الآية ١ ـ ٤ :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

اللغة :

المراد بسمع هنا استجاب. وتجادلك تحاورك وتراجعك الكلام. والظهار أن


يقول الرجل لزوجته : انت عليّ كظهر أمي ، يريد انها حرام عليه كأمه ويأتي التفصيل. ومنكرا أي ان الدين ينكره ويأباه. وزورا لأن الزوجة غير الأم. يعودون لما قالوا أي ينقضون ما قالوه ويرجعون. وتحرير رقبة ان تعتق عبدا. وحدود الله شريعته وأحكامه.

الإعراب :

الذين يظاهرون منكم مبتدأ ، و «ما» تعمل عمل ليس وهن اسمها وأمهاتهم خبرها ، والجملة خبر الذين. ومنكرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي قولا منكرا والذين يظاهرون من نسائهم مبتدأ. وتحرير رقبة مبتدأ والخبر محذوف أي فعليهم تحرير رقبة ، والجملة خبر الذين يظاهرون. والمصدر من لتؤمنوا متعلق بمحذوف خبرا لذلك.

ملخص القصة :

اتفق المفسرون على ان هذه الآيات نزلت في حادثة معينة ، وملخصها ان رجلا من الصحابة غضب على زوجته ، فقال لها : : انت عليّ كظهر أمي ، وكان هذا طلاقا عند أهل الجاهلية ، فحزنت المرأة وندم الرجل على تسرّعه ، فقال لزوجته : اذهبي الى النبي (ص) وأخبريه بما حدث فأنا أستحي ان أسأله.

فذهبت وقصت على رسول الله ما حصل ، فقال لها : ما أمرنا الله في شأنك بشيء. ولكنها راجعت الرسول (ص) وألحت ، فإذا دافعها هتفت قائلة : أشكو الى الله فاقتي وحاجتي ، فاستجاب دعاءها ، وانزل هذه الآيات. وتنفق هذه القصة مع ظاهر الآيات ، ومهما يكن فإنها الأصل في جعل الظهار بابا من أبواب الفقه عند المسلمين.


المعنى :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). يقول سبحانه لنبيه الكريم : قد علم الله حال المرأة وما راجعتك به من الكلام في أمر زوجها ، وأيضا علم شكواها الى الله واستغاثتها به ، وقد استجاب دعاءها ورحم تضرعها (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه خافية ، ثم بيّن سبحانه حكم هذه الحادثة وأمثالها بقوله :

١ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). الظهار محرم في دين الله لأنه كذب مخالف للواقع ، وكيف تكون الزوجة اما (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لمن تاب وأناب ، وقال بعض الفقهاء : ان الظهار محرم ما في ذلك ريب لأن الله وصفه بالمنكر والزور ، ولكن لا عقاب على فاعله لأنه اقترن بالعفو. وردّ الشهيد الثاني هذا القول بأن العفو في الآية عام ولا يختص بالظهار.

٢ ـ (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). يعودون لما قالوا أي يظاهرون ثم يندمون. ويرجعون عن قولهم. قال ابن هشام في المغني : تأتي اللام بمعنى عن كقوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) ـ ٣١ هود أي لا أقول عن الذين الخ. وأيضا تأتي بمعنى في كقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ـ ٤٧ الأنبياء أي في يوم القيامة ، وعليه يكون المعنى يعودون فيما قالوا أو عما قالوا. واختلف الفقهاء في المراد بالمسيس ، فقال جماعة : المراد به كل مسيس أخذا بالإطلاق اللغوي. وقال آخرون : المراد به خصوص المضاجعة. وليس هذا ببعيد عن طريقة القرآن فقد جاء في الآية ٢٣٧ من سورة البقرة : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي تضاجعوهن باتفاق الفقهاء.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ذلكم اشارة الى وجوب الكفارة على الظهار ، والمراد بالوعظ هنا الزجر ، والمعنى ان الله سبحانه فرض الكفارة


في الظهار لتكون زاجرا ورادعا عن الإقدام عليه لأنه منكر وزور ، والله يعلم المطيع والعاصي من عباده ويعامل كلا بما يستحق.

٣ ـ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). اتفقوا على أن من قال لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي فلا يحل له وطؤها حتى يكفّر بعتق رقبة ، فإن عجز عن العتق صام شهرين متتابعين ، فإن عجز عن الصيام أطعم ستين مسكينا ، وأيضا اتفقوا على أنه إذا وطئها قبل أن يكفّر يعتبر عاصيا ، ولكن الامامية أوجبوا عليه ، والحال هذه ، كفارتين.

واشترط الامامية لصحة الظهار أن يقع بحضور عدلين يسمعان قول الزوج ، وأن تكون الزوجة في طهر لم يواقعها فيه تماما كما هو الشأن في المطلقة ، كما اشترط المحققون منهم ان تكون مدخولا بها ، وإلا فلا ظهار. والتفصيل في كتب الفقه. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ). سهّل سبحانه شريعته على عباده ليؤمنوا بها ، ولتكون حجة بالغة على من خاصمها وأعرض عن أحكامها (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) فقفوا عندها ولا تعتدوها (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) بتحديهم شريعة الله وأحكامه ، وفيه إيماء الى ان من خالف الشريعة الإلهية فهو بحكم الكافر.

النجوى الآية ٥ ـ ١٠ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ


وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

اللغة :

يحادون يخالفون ويعادون. والكبت القهر والذل. والنجوى والمناجاة سرا بين اثنين أو أكثر ، وأيضا تطلق على المتناجين مثل هم نجوى. وحسبهم كافيهم.

الإعراب :

جميعا حال من ضمير يبعثهم أي مجتمعين. و «ما» نافية ، ويكون تامة و «من» زائدة ونجوى فاعل وثلاثة مجرورة بالاضافة. ولو لا بمعنى هلا. وجهنم مبتدأ مؤخر وحسبهم خبر مقدم. واسم ليس ضمير مستتر يعود الى الشيطان ، وبضارهم الباء زائدة وضارهم خبر ، وشيئا مفعول مطلق لضارهم.


المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). بعد ان ذكر سبحانه حدود الله هدد من يتجاوزها ، ووصفهم بالمخالفة والعداء لله ورسوله ، وان عقابهم القهر والخزي تماما كعقاب الذين فعلوا ذلك من الأمم الماضية (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). أقام سبحانه الدلائل الواضحة على وجوده ونبوة رسوله (ص) وبيّن حلاله وحرامه ، وهذه الدلائل هي بالذات تدل أيضا على ان طاعة الله والرسول فرض ، وان من خالفهما يستحق العذاب الذي يهينه ويخزيه على رؤوس الأشهاد (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). يجمع الله الخلائق غدا للحساب والجزاء على ما كانوا يعملون ، وإذا نسي المجرمون ما اقترفوا من الذنوب والسيئات كلها أو بعضها فإن الله قد أحاط بها علما فيخزيهم بما صنعوا ويذيقهم وبال أمرهم بالحق والعدل ، وهم لا يظلمون.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). ألم تعلم يا محمد ان الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وتعلم أيضا (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ). قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) اشارة الى ما دون الثلاثة ، وقوله : (وَلا أَكْثَرَ) إشارة الى ما فوق الخمسة. وقال جماعة من المفسرين : ان قوما من اليهود والمنافقين كانوا يجتمعون وينالون في الخفاء من مقام الرسول الأعظم (ص) والصحابة ، فنزلت فيهم هذه الآية .. وليس هذا ببعيد فان ظاهر الآية يومئ اليه ، والاعتبار يؤيده ، فإن الغيبة والنجوى بالإثم دأب المنافقين في كل زمان ومكان ، ومهما يكن فان المعنى هو لا تزعجك يا محمد أقوالهم ومناجاتهم بالنيل منك وممن آمن بك ، وكيف تهتم وتكترث وأنت على علم اليقين بأن الله يعلم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين قلوا أم كثروا؟ وأيضا تعلم ان الله يجمعهم غدا ويأخذهم بما كانوا يقولون ويفعلون .. والقصد من ذكر الثلاثة والخمسة مجرد التمثيل ب (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى تحريك الشفة ورجع الكلمة.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ). يومئ هذا الى أن النبي (ص) كان قد نصح للمتخافتين بنجوى السوء أن ينتهوا ولا يعودوا فلم يقبلوا منه وعادوا تمردا وعنادا ، فوبخهم سبحانه على معصية الرسول (ص) بصيغة التعجب التي خاطب بها نبيه الكريم تماما كما تقول لصاحبك: ألم تر الى هذا اللئيم العاق؟ (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ). روي «ان ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله (ص) وقالوا : السام عليك يا أبا القاسم. والسام هو الموت. فقال الرسول ، وعليكم ، فنزلت الآية» ونحن لا نشك في صحة هذه الرواية لأنها أصدق تعبير عن لؤم اليهود وحقدهم على الحق وأهله (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) فعلوا هذا وقالوا : لو كان محمد نبيا لأنزل الله بنا سوء العذاب لجرأتنا على نبيه (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ). لا تستعجلوا ما هو كائن ، فإن الله سبحانه قد أعد لكم جهنم وساءت مصيرا ، وان غدا من اليوم قريب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). ان كثيرا من الناس يؤمنون بالله ، ويصومون له ويصلون حقا وصدقا لا كذبا ورياء ، ولكنهم يذهلون عن هذا الايمان في كثير من الأحيان ، ويتناجون بالإثم تماما كما يفعل المنافقون والكافرون. والخطاب في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) لهؤلاء الذاهلين عن ايمانهم ، وقد أمرهم الله سبحانه ان يتناجوا بالخير ، فإنه أليق بالمؤمنين ، ولا يتناجوا بالشر كما هو شأن المنافقين والكافرين.

وكأنّ هذه الآية قد نزلت الآن في بعض الدول ومن اليها من الذين يتظاهرون بالإسلام ، وهم يناصرون إسرائيل في الخفاء ويوالون من يختفي وراءها ، ويغدق عليها أنواع الأسلحة لتقتل بها النساء والأطفال ، وتدمر بيوت الآمنين وتشردهم من ديارهم وأوطانهم .. وأي نفاق أعظم من ان يدعي مدع انه مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو يوالي أعداء الله والانسانية ، ويبارك الظلم والاستغلال؟. وقد نهى سبحانه المؤمنين عن مناصرة الطغاة ولو بكلمة تقال بالسر ، وأمر بجهادهم بالقول والفعل سرا وجهرا.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ


اللهِ). المراد بالنجوى هنا نجوى المجرمين بالشر والإثم ، والمعنى ان الشيطان يغري أتباعه بمناجاة السوء بقصد أن يؤذي المؤمنين ويحزنهم ، ولكن المؤمنين في حصن حصين لا تنالهم أية مضرة إلا بإرادة الله ومشيئته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في جميع أمورهم ، ولا يخشوا الضرر من أحد ، أو يترقبوا النفع إلا منه تعالى. ومن توكل على الشيطان قاده الى المهالك.

فاسحوا يفسح الله لكم الآية ١١ ـ ١٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

اللغة :

تفسحوا توسعوا. انشزوا انهضوا لتوسعوا للقادمين. والمراد بناجيتم الرسول


هنا أردتم الحديث معه. فقدموا بين يدي نجواكم صدقة أي تصدقوا بشيء من أموالكم قبل المناجاة. وأشفقتم خفتم.

الإعراب :

يرفع مجزوم لأنه جواب الأمر وهو انشزوا أي إن نشزتم يرفع الخ. ودرجات منصوبة بنزع الخافض أي الى درجات. ومفعول أشفقتم محذوف. والمصدر من ان أشفقتم مجرور بمن مقدرة أي أأشفقتم الفقر من تقديم الصدقة.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ). كان الصحابة يتسابقون الى مجلس رسول الله (ص) ويحرصون على القرب منه ، وكان المجلس في كثير من الأحيان يزدحم بالناس ، ولا يفسح الجليس للقادم ، فيضطر الى الرجوع أو الوقوف على قدميه ، فأدبهم سبحانه بخلق الإسلام ، وأمر أن يفسح ويوسع بعضهم لبعض ، ووعد الذين يفسحون في مجالسهم ان يفسح لهم في الجنة.

(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا). أمر سبحانه أولا الجالسين ان يوسعوا للقادم إذا اتسع المجلس له ولهم ، ثم أمرهم بالسمع والطاعة لرسول الله (ص) إذا طلب منهم ان يتركوا مجالسهم للقادمين حيث لا يتسع المكان للجميع حتى مع التفسح والتوسع ، وفي بعض الروايات ان النبي (ص) كان يقيم نفرا من مقاعدهم ليجلس فيها من هو أفضل وأسبق الى الخيرات ، وكانت تبدو الكراهية في وجوه البعض لذلك ، ولكن بعد ان نزلت هذه الآية تأدبوا بآدابها ، وأفسحوا لإخوانهم عن طيب خاطر وقبل أن يأمرهم النبي (ص) بذلك. وفي بعض التفاسير ان المعنى إذا قيل لكم : انهضوا الى الخير فأجيبوا .. وليس هذا ببعيد لأن الأمر عام لجميع معاني النهوض الى الخيرات سواء أكانت افساحا أم جهادا أم غيرهما.

وإذا كان من آداب القرآن ان يفسح الإنسان لأخيه أو يخلي له مكانه فليس


من الآداب والأخلاق في شيء أن يقيم القادم أحدا من مجلسه ، فلقد كان الرسول الأعظم (ص) يجلس حيث ينتهي به المجلس .. أجل ، إذا طلب صاحب المجلس القيام من أحد الجالسين فينبغي ان يجيبه .. ولكن لا ينبغي لصاحب المجلس ان يطلب ذلك إلا لمبرر كما لو خرج الجليس عن الآداب ، أو كان للقادم شأن أجل وأرفع عند الله ، قال تعالى :

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ان الله خبير بأهل الفضل وغيرهم ، وعليم بمراتب الفضل ودرجاته ، وهو يعطي لكل ذي فضل حقه ، وأفضل الناس عنده أشدهم ورعا عن محارمه ، وإذا كان مع هذا الورع وعي وعلم فصاحبهما في أعلى عليين .. وليس من شك ان تعظيم من عظّم الله فرض لازم ، فقد جاء في الحديث : ان رسول الله كان يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم ، وفي ذات يوم دخل جماعة منهم الى مجلسه ، فوجدوه مزدحما بالناس ، ولم يفسح أحد لهم ، فقال النبي (ص) لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان ، وأنت يا فلان ، وأجلس أهل بدر .. وتتفق هذه الرواية مع قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ.

صدر المجلس :

وبهذه المناسبة أشير الى اني إذا قرأت في الصحف مقالا يتصل بموضوع آية من آي الذكر الحكيم احتفظت به في ملف خاص حتى إذا بلغت بالتفسير الى الآية رجعت الى المقال ، واستشهدت بشيء من كلماته ، وأشرت الى اسم الصحيفة وتاريخها لأن بعض الجيل الجديد يقتنع بالصحف ولغتها أكثر من أي مصدر.

ويلاحظ القارئ هذا الاستشهاد فيما سبق من المجلدات ، منها ـ على سبيل المثال ـ ما جاء في المجلد الرابع ص ٣٧٩ بعنوان «الماديون والحياة بعد الموت» والمجلد الخامس ص ٧٩ بعنوان «الله وعلم الخلايا» والمجلد السادس ص ٤٩ بعنوان «الرحلة الى القمر» وص ٣٨٨ بعنوان «الإسلام وفتاة انكليزية». وفي ذات يوم قرأت في احدى الجرائد عن مجادلات السياسيين الكبار حول مائدة


المفاوضات : من الذي يتصدر ومن الذي يتأخر؟ وأي وفد يدخل حجرة المفاوضات قبل الآخر .. ومن الأمثلة التاريخية التي ذكرها الكاتب : انه في سنة ١٩٤٥ عقب الحرب العالمية الثانية اتفق تشرشل وستالين وروزفلت على أن يتفاوضوا في بودابست ، ولكنهم اختلفوا أيهم يدخل الحجرة قبل غيره ، وطال هذا الخلاف أمدا غير قصير .. ثم انحلت المشكلة في أن يتفاوضوا في حجرة لها ثلاثة أبواب ، يدخل كل واحد منهم من باب في آن واحد.

وحين بلغت بالتفسير الى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) حين بلغت الى هنا تذكرت المقال ، وأشرت ـ كما ترى ـ الى بعض ما جاء فيه ليعلم القارئ ان الإسلام لا يقيم وزنا إلا للعلم والإخلاص : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ). هذه هي حضارة الحق والعدل بمعناها الصحيح ، أما تكريم صانعي الموت الذين يملكون صواريخ «مينوتمان» وصواريخ «س س» وغيرها من اسلحة التخريب والتدمير ، أما هؤلاء فلا وزن لهم إلا في شريعة الشيطان ، وحضارة البغي والعدوان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لا أجد تفسيرا لهذه الآية أحسن من تفسير مقاتل بن حيان لها ، قال : ان الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي (ص) ـ وهذا شأنهم في كل زمان ـ وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي (ص) طول جلوسهم ، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة ، فأما الأغنياء فامتنعوا ، وأما الفقراء فلم يجدوا شيئا ، واشتاقوا الى مجلس الرسول (ص) فتمنوا لو كانوا يملكون شيئا ينفقونه ويصلون الى مجلس رسول الله (ص) وعند هذا ازدادت درجة الفقراء عند الله ، وانحطت درجة الأغنياء.

وفي العديد من التفاسير ، منها تفسير الطبري والرازي : ان هذه الآية ما عمل بها أحد إلا علي بن أبي طالب (ع). كان معه دينار فصرفه بعشرة دراهم ، فكان كلما أراد مناجاة الرسول تصدق بدرهم ، ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها


أحد غير علي. وقال صاحب تفسير روح البيان : روي عن عبد الله بن عمر انه قال : كان لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). لما شق الأمر بالصدقة على الأغنياء حرصا على أموالهم ، وعلم الله منهم ذلك ، وعرفوا ان وقت النبي هو لابلاغ الرسالة وتدبير شئون المسلمين ، وليس لهم وحدهم ، لما كان الأمر كذلك رخّص الله لهم في المناجاة دون أن يقدموا الصدقة ، وعفا عن الذين لم يتصدقوا على أن لا يفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه إحسان من أحسن ، وإساءة من أساء ، وهو يجازي الأول بالحسنى ، والثاني بما هو أهله.

اتخذوا ايمانهم جنة الآية ١٤ ـ ١٩ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))


اللغة :

ألم تر أي اخبرني ، وفيه معنى التعجب. وتولوا من الموالاة وهي المودة ، والمراد بالقوم المغضوب عليهم اليهود. وجنة ستر ووقاية.

الإعراب :

ألم تر الى الذين تعدت «تر» هنا بإلى لأنها متضمنة معنى تنظر. وشيئا مفعول مطلق. وألا أداة تنبيه.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). الخطاب في «تر» الى النبي (ص) ، والذين تولوا هم المنافقون ، والقوم المغضوب عليهم هم اليهود ، والخطاب في منكم للمسلمين ، والضمير في منهم لليهود ، والمعنى : أخبرني يا محمد عن المنافقين ، فقد والوا اليهود وتآمروا معهم على الإسلام والمسلمين ، وهم في حقيقتهم وواقعهم ليسوا من المسلمين ولا من اليهود مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء .. وقد حلفوا متعمدين الكذب انهم مسلمون وانهم ما تكلموا على الرسول (ص) ولا تآمروا عليه مع اليهود ، ومن أجل نفاقهم وأيمانهم الكاذبة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). وكل من أظهر خلاف ما أضمر فهو مسيء في أقواله وأفعاله لأنها بمعزل عن ذاته وحقيقته.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). قال صاحب البحر المحيط : «قرأ الجمهور أيمانهم بفتح الهمزة جمع يمين ، والجنة ما يتسترون به ويتقون». والمعنى ان المنافقين يحاولون الستر على دسائسهم ومؤمراتهم بالايمان الكاذبة ، ويتقون بها من المسلمين ، ويخدعون من يبتغي الهداية وقصد السبيل ويصدونه عن غايته وبغيته .. ولكن الله سبحانه لا تحجبه السواتر ، ولا تخفى عليه


الضمائر ، فهتك في الدنيا سترهم ، ولهم في الآخرة عذاب الحريق (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). سنحت لهم الفرصة في الحياة الدنيا فأضاعوها ، ولا شيء لمن سوّف وأهمل إلا العذاب ، أما الأموال والأولاد فلا ترجع ما قد فات. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١١٦ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٤٢.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ). ان للعباد في يوم القيامة مواقف لا موقفا واحدا ، يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض ، فإذا ما أذن الله للمجرمين بالكلام حلفوا له كذبا وزورا تماما كما كانوا يحلفون في الدنيا للنبي والمسلمين ، وهم يعتقدون ان ايمانهم الفاجرة تدفع عنهم العذاب .. كيف والله سبحانه يعلم انهم لكاذبون في ايمانهم وعقيدتهم؟. وتقدم مثله في الآية ٢٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٧٤.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ). دعتهم شياطين الأهواء والأغراض الى الضلال والفساد فاستجابوا لها ، فأعمتهم عن الهدى وقادتهم الى الضلال (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن من أسلس زمامه لشيطان الهوى قاده الى كل سوء وألقى به في المهالك لا محالة ، إما غدا أو لا فبعد غد .. حتى ولو تسلح بالذرة والصواريخ.

لأغلبن انا ورسلي الآية ٢٠ ـ ٢٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ


مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

اللغة :

يحادون الله يخالفونه في حدوده ويعادونه في أحكامه. والأذلين جمع الأذل. ويوادون مفاعلة وتبادل المودة بينهم وبين أعداء الله.

الإعراب :

لأغلبن اللام في جواب كتب لأن فيه معنى القسم. وجملة يوادون مفعول ثان لتجد. وخالدين حال. وألا أداة تنبيه.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ). هذه الآية أشبه بالجواب عن سؤال مقدر ، ويتلخص السؤال : بأن أعداء الله يعيشون في عز من عدتهم وعددهم ، وينكّلون بأهل الله تقتيلا وتشريدا ، فكيف امهلهم سبحانه وأمدّ لهم؟

وتجيب الآية بأن الأشرار هم أذل خلق الله من الأولين والآخرين لأن نهايتهم الخزي والخذلان دنيا واخرة ، أما في الدنيا فلأن الله يعذبهم بأيدي الطيبين الأحرار : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ـ ١٤ التوبة. وأما عذاب الآخرة فهو أشد وأعظم.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). الغلبة تكون في الآخرة ،


وتكون في الدنيا بالسيف أو بعذاب من السماء أو بالحجة والبرهان أو بخلود الذكر. أنظر تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة «لا يخلو المؤمن من ناصر» ، وتفسير الآية ٧ من سورة محمد (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). مستحيل ان يجتمع الايمان مع محبة الكافر وموالاته .. كيف وهو سبحانه القائل : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ـ ٤ الأحزاب. وقد اشتهر عن الإمام علي (ع) : ان صديق العدو عدو. وقال : «فلقد كنا مع رسول الله (ص) وان القتل ليدور على الآباء والأبناء والاخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا ايمانا ومضيا على الحق وتسليما للأمر». وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٢٨ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٨.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). أولئك اشارة الى الذين لا يؤثرون شيئا على ايمانهم حتى الآباء والأبناء ، والمعنى ان الله ثبّت الايمان في قلوب المخلصين ، وأيدهم بالحجج والبراهين : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ـ ٢٧ ابراهيم. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). ومعنى رضى الله عن العبد هو أن يعطيه من فضله ، ومعنى رضا العبد عنه تعالى هو ان يرضى بما أعطاه. وقال ابن عربي في الفتوحات : «يرضى الله باليسير من عمل عباده ، وهم أيضا يرضون باليسير من ثوابه لأن الله مهما أعطى فعطاؤه أقل القليل بالنسبة الى ما عنده». ولكن هذا الذي أسماه ابن عربي أقل القليل بالنسبة اليه تعالى هو أكثر الكثير بالنسبة الى العباد. قال عز من قائل : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ـ ٢٤٥ البقرة.

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). هذه الآية في مقابلة الآية ١٩ من هذه السورة : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

والخلاصة ان الإنسان بالغا ما بلغ من المقدرة فإنه أعجز من أن يجمع بين مرضاة الله ومرضاة أعدائه تعالى ، فإن أرضاهم أغضب الله ، وان أرضى الله


أغضبهم .. ومستحيل أن يرضوا الا عمن هو على شاكلتهم بشهادة الله عز وجل : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ـ ١٢٠ البقرة. وفي الحديث الشريف ان رسول الله (ص) قال : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).


سورة الحشر

٢٤ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سبح لله الآية ١ ـ ٥ :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

اللغة :

الحشر الجمع. والجلاء الخروج عن الوطن. واللينة النخلة. ويشاق يخالف.


الإعراب :

لأول الحشر متعلق بأخرج. والمصدر من أن يخرجوا مفعول ظننتم. ومانعتهم خبر إن. وحصونهم فاعل مانعتهم. ولو لا حرف امتناع. والمصدر من ان كتب مبتدأ والخبر محذوف أي لو لا كتاب الله واقع. وما قطعتم «ما» شرطية. وقائمة حال من هاء تركتموها. فبإذن الله متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فذاك كائن بإذن الله.

ملخص قصة بني النضير :

هذه الآيات خاصة بانتصار النبي (ص) على يهود بني النضير ، وتتلخص قصتهم مع رسول الله (ص) بأنهم كانوا يسكنون في ضواحي المدينة المنورة ، ولما هاجر اليها النبي (ص) عقد معهم صلحا على أن يكونوا على الحياد ، لا له ولا عليه .. وعند ما انتصر المسلمون على قريش يوم بدر فرح بنو النضير فرحا شديدا ، ولكن لما هزم المسلمون يوم أحد نقضوا عهد الرسول (ص) ودبروا لاغتياله ، وحالف رئيسهم كعب بن الأشرف أبا سفيان ضد محمد (ص) ، وقيل : ان كعبا هجا النبي (ص) بأبيات ، فأمر النبي أحد أصحابه فقتله ، ثم سار (ص) بجيشه الى بني النضير ، وأمرهم بالجلاء عن المدينة ، فأرسل اليهم المنافقون ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، ان اثبتوا ونحن معكم على محمد ، فطمعوا وأصروا على الحرب ، وعندئذ حاصرهم النبي (ص) واستمر الحصار ٢١ ليلة كما في بعض الروايات.

وأمر النبي (ص) أن تقطع بعض نخيلهم ، وما حاول أحد من المنافقين وغيرهم أن يقف بجانبهم ، فاضطروا الى الاستسلام ، وصالحهم الرسول على الجلاء عن المدينة ، وان يكون لكل ثلاثة منهم بعير واحد يحملون عليه ما شاءوا ، فقبلوا وجلوا عن المدينة الى غير رجعة ، وفيهم نزلت هذه السورة ، وكان ابن عباس يسميها سورة بني النضير.


المعنى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). جميع الكائنات تسبح بقدرة الله وحكمته بلسان المقال أو الحال ، وتقدم مثله بالحرف مع التفسير في أول سورة الحديد (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ). المراد بالذين كفروا هنا بنو النضير باتفاق المفسرين ، واختلفوا في معنى أول الحشر قال الرازي : ذهب ابن عباس والأكثرون الى ان معنى أول الحشر ان أهل الكتاب أخرجوا من جزيرة العرب للمرة الأولى ، وكانوا من قبل في عزة ومنعة .. وليس هذا ببعيد لأن الحشر الثاني كان على يد الخليفة الثاني ، والمعنى ان الله سبحانه أجلى بني النضير من ديارهم بأيدي المسلمين ، وكان هذا أول جلاء لليهود عن الجزيرة العربية ، أما السبب الموجب فهو غدرهم وخيانتهم ونقضهم عهد الأمان الذي قطعوه للرسول (ص) على أنفسهم.

وتسأل : لما ذا عاقبهم الرسول (ص) على خيانتهم بالجلاء ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة مع ان العقوبة على أنواع؟.

الجواب : لقد أخذهم بشريعتهم التي بها يدينون ، فقد نصت توراتهم على «ان المدينة التي تفتح لك فكل الشعب الموجود فيها لك للتسخير ويعبد لك ، فإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهي لك غنيمة تغنمها لنفسك ـ اصحاح ٢٠ من التثنية» ... وليس من شك ان من دان بدين من الأديان أو مبدأ من المبادئ فعليه ان يلتزم بجميع أحكامه ، ويجريها على نفسه قبل أن يجريها على غيره ، وعلى هذا فإن النبي (ص) كان رؤوفا رحيما ببني النضير لأنه لم يقتل الذكور ويسبي النساء والأطفال كما نصت شريعتهم وتوراتهم .. وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ٦ ص ٢٠٨ فقرة «هل ظلم محمد (ص) بني قريظة»؟

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ). الخطاب في ما ظننتم للمسلمين. وظنوا أي بنو النضير ، والمعنى ان المسلمين لم يتوقعوا على


الإطلاق أن يخرج بنو النضير من ديارهم ويتركوها لأعدائهم المسلمين لما عرفوا عنهم من العناد وشدة البأس ، وكثرة العدة والعدد ، وأيضا كان بنو النضير يعتقدون انهم في قوة ومنعة من حصونهم وعدتهم وعددهم ، وان أية يد لا تستطيع أن تمتد اليهم .. ولكن حصن الغدر والخيانة واه لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ اليه.

الدعايات المضللة والوقت المناسب :

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). ظنوا انهم ما نعتهم حصونهم .. ولكن الذي بيده ملكوت كل شيء قد ختم على قلوبهم بعد ان ملأها بهيبة الرسول (ص) وجنده ، فانهارت وانهار معها كل شيء لأن القلوب هي الأساس الذي ترتكز عليه جميع القوى .. ومن هنا يحرص سفاحو الشعوب وتجار الحروب على الحرب النفسية ، ويحشدون لها الطاقات والثروات ، ونسوا أو تناسوا انه لا طريق الى القلوب إلا الحق والصدق والخير والإحسان ، وإذا وجدت الدعايات المضللة من يستجيب لها فإلى حين ، ثم تتكشف عن عورات صاحبها وأسوائه.

سئل «تشالز» الممثل الخبير بشئون الحياة : الى ما يحتاج المرء ليشق طريقه في الحياة؟ أللعقل أم الطاقة أم العلم؟ فقال : ثمة شيء أهم ، وهو معرفة الوقت المناسب. ونقول التشالز : أجل ، لا بد من الوقت ولكن على شريطة أن يكون مناسبا لمصلحة الخير لا للشر ، وللحق لا للباطل ، لأن الشر وأنصاره الى زوال : وان طال بهم الأمد.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). قال بعض المفسرين : المراد بخراب البيوت هنا الجلاء عنها ، وبأيديهم اشارة الى أنهم هم السبب الموجب لهذا الجلاء حيث نقضوا عهد الرسول وميثاقه ، وأيدي المؤمنين تشير الى أن المسلمين هم الذين أجلوا بني النضير عن ديارهم. وقال آخرون : ان بني النضير أفسدوا بيوتهم بأيديهم قبل الجلاء كيلا تقع سليمة في أيدي المسلمين ، وان المسلمين دكوا بأيديهم حصون بني النضير لينفذوا اليهم .. وهذا قريب ، والاعتبار يؤيده ، وظاهر


الآية يدل عليه ، ولا يتنافى مع المعنى الأول ، بل هو نتيجة للجلاء وأثر من آثاره (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). الاعتبار هو رد الشيء الى نظائره ، والحكم عليه بأمثاله ، وقد أجلى الله بني النضير من ديارهم جزاء على خيانتهم ، فعلى العاقل أن يتعظ ويعتبر ويجتنب الغدر والخيانة لئلا يحل به ما حل بهم.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ). عذبهم الله في الدنيا بالجلاء ولو لا ذلك لعذبهم بالقتل والاستئصال كما فعل ببني قريظة .. وفي سائر الأحوال فلا نجاة لهم من عذاب السعير (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ). استحقوا عذاب الدنيا والآخرة لأنهم خالفوا الله وتجاوزوا حدوده ، ونصبوا العداء لرسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). هذا تهديد ووعيد لكل متكبر جبار.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ـ أي نخلة ـ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ). كان النبي (ص) قد أمر أن تقطع بعض نخيل بني النضير ليغيظهم بذلك .. فظن البعض ان هذا نوع من التخريب ، فبين سبحانه ان كل ما وقع من قطع النخيل ، وما ترك منه بغير قطع فهو بأمر الله ، وليس من عند الرسول (ص) ، والقصد منه غيظ الكفار من أجل ما قطع ، وأيضا غيظهم من أجل ما بقي قائما من غير قطع حيث ينتفع به أعداؤهم.

وتجدر الاشارة الى ان قطع الأشجار وما اليه أيام الحرب لا يجوز الأخذ به كمبدأ عام ، بل قد يجب القطع ، وقد يحرم تبعا لما تستدعيه مصلحة حرب العدو تماما كهدم الدور وقلع الأشجار أيام السلم يجوزان لشق الطرق ـ مثلا ـ ويحرمان من غير مبرر.

كيلا يكون دولة بين الأغنياء الآية ٦ ـ ٨ :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)


ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

اللغة :

الفيء في اللغة الرجوع قال تعالى : حتى تفيء الى أمر الله أي ترجع ، وفي الشرع ما أخذ من الكفار بلا قتال ، والإيجاف العمل وقيل : السرعة. وقال الرازي : الركاب ما يركب من الإبل ، والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، أما راكب الفرس فيسمونه فارسا. والمراد بأهل القرى هنا البلدان التي تفتح بلا قتال. ودولة بضم الدال أي يتداولونه بينهم فقط دون الفقراء.

الإعراب :

وما أفاء الله «ما» اسم موصول مبتدأ. وفما أوجفتم «ما» نافية وجملة أوجفتم خبر. ومن خيل «من» زائدة وخيل مفعول أوجفتم. ودولة خبر يكون واسمها ضمير مستتر يعود على المال الذي يؤخذ من أهل القرى.

المعنى :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ). الفرق بين الغنيمة


والفيء عند كثير من الفقهاء ان الغنيمة مال كسبه المسلمون من أهل الكفر بإيجاف خيل وركاب أي بحرب وقتال ، أما الفيء فهو مال حصل بلا قتال وجهاد ، ومهما يكن فإن الآية التي نحن بصددها خاصة بأموال بني النضير لأن الضمير في «منهم» يعود اليهم ، وبناء عليه يكون المعنى ان أموال بني النضير قد جعلها الله فيئا لرسوله يضعها حيث يشاء ، ولا شيء منها للمسلمين لأنهم ما تحملوا في سبيلها أية مشقة (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ). ومن هذا التسليط انه تعالى ألقى الرعب والخوف من رسول الله (ص) في قلوب بني النضير كي يخضعوا لأمره صاغرين من غير حرب وقتال (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن هذا الشيء ان يخضع أرباب الحصون والعدة والعدد لعبد من عباده تعالى.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). المراد بأهل القرى هنا غير بني النضير من الكفرة ، والمعنى ان مال الفيء ـ غير مال بني النضير ـ هو لله وللرسول الخ. وبديهة ان ما كان لله فهو لرسوله ، واتفقوا قولا واحدا إلا من شذ على ان المراد بذي القربى قربى رسول الله (ص) من بني هاشم ، أما اليتامى والمساكين وابن السبيل فقال الامامية : المراد بهم أيتام بني هاشم ومساكينهم وابن السبيل منهم خاصة. وقال غيرهم : بل كل يتيم ومسكين وابن السبيل من المسلمين هاشميا كان أم غير هاشمي (١). وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ـ ٤١ الأنفال ج ٣ ص ٤٨٢.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ). الإسلام نظام إلهي انساني يراعي مصلحة الجميع دون استثناء لفرد أو فئة ، فلا يحل مشكلة انسان على حساب

__________________

(١). قيل : المراد بقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) هو عين المراد بقوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ). وقيل : المراد به الجزية والخراج. وقيل : كل غنيمة أيا كان مصدرها. وقيل : انه منسوخ بآية ٤١ من الانفال. وقيل غير ذلك. والذي ذكرناه من تخصيص الاية الاولى بأموال بني النضير ، والاية الثانية بالفيء غير اموال بني النضير هو أرجح التفاسير في رأينا. والله اعلم بما أراد.


غيره ، ولا يضيق على انسان ليوسّع على غيره أيا كان ، فالجميع عنده سواء ، ويتجلى هذا في جميع أحكامه ومبادئه ، ومنها هذا المبدأ ، وهو أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم أي يتداولونه فيما بينهم دون الفقراء .. وتجدر الاشارة الى ان هذا وما اليه من تحريم الربا والغش والاستغلال والضرر والضرار لا يدل من قريب أو بعيد على إقرار الاشتراكية أو رفضها بمعناها المعروف ، وكل ما يدل عليه ان الإسلام يتبنى في جميع أحكامه فكرة العدالة والمساواة ، وانه يقر كل ما فيه خير للناس وصلاح ، وهذا شيء وإلغاء الملكية الفردية دون الملكية الجماعية شيء آخر. انظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧ فقرة «الغني وكيل لا أصيل».

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). ربطت هذه الآية بين قول الله وقول الرسول ، وأوجبت السمع والطاعة لكل منهما. أمرا ونهيا لأن قول الرسول وحي من الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ـ ٤ النجم. وقال سبحانه في العديد من الآيات : (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) وقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ـ ٣٦ الأحزاب. وتواتر أن النبي (ص) ما رأى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح ، واتفق المسلمون قولا واحدا على أنه لا وحي ولا تشريع ولا اجتهاد بعد رسول الله (ص) إلا إذا كان قول المجتهد من شريعة الله ورسوله. انظر تفسير الآية ٤٠ من سورة الأحزاب ج ٦ ص ٢٢٥ فقرة «لما ذا ختمت النبوة بمحمد؟» وتفسير الآية ٧٧ من سورة الواقعة فقرة «الإسلام وقادة الفكر الأوروبي».

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ). المراد بالمهاجرين هنا من هاجر مع رسول الله (ص) من مكة الى المدينة رغبة في مرضاة الله وثوابه وفي نصرة الإسلام والجهاد في سبيله ، وهؤلاء هم أولى الناس بالزكاة لسبقهم وجهادهم ولفقرهم وحاجتهم ، قال الطبري نقلا عن قتادة : «هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر حبا لله ورسوله ، واختاروا الإسلام على ما فيه من


الشدة حتى لقد كان الواحد منهم يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، ويتخذ الحفرة في الشتاء ما له دثار غيرها» .. وما رأيت وصفا للصحابة أبلغ مما قاله الإمام زين العابدين (ع) فيهم ، وهو يدعو الله سبحانه أن يشكر لهم صنيعهم ، قال :

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة وأبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا الى وفادته ، وسابقوا الى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس اللهم لهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك». (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في ايمانهم وجهادهم قولا وفعلا.

ويؤثرون على أنفسهم الآية ٩ ـ ١٥ :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا


لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

اللغة :

تبوءوا الدار سكنوها ، والمراد بالدار هنا المدينة المنورة ، وبالحاجة هنا الحسد والغيظ ، وبالخصاصة الفاقة. ومن يوق أي من يدفع ويمنع. والشح الإفراط في الحرص. وقلوبهم شتى أي أهواؤهم متفرقة بالبغضاء والشحناء على بعضهم البعض.

الإعراب :

والذين تبوأوا مبتدأ وجملة يحبون خبر. والايمان مفعول لفعل مقدر أي وآثروا أو أخلصوا الايمان ، ومثله علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء باردا. ومفعول يؤثرون محذوف أي يؤثرون غيرهم. أبدا ظرف زمان لاستغراق المستقبل منصوب بنطيع. ومن الله أي من رهبتهم من الله. وجميعا حال أي مجتمعين. وكمثل خبر لمبتدأ مقدر أي مثلهم كمثل الذين الخ. وقريبا صفة لمقدر أي زمنا قريبا والزمن منصوب بذاقوا أي ذاقوا وبال أمرهم في زمن قريب.


المعنى :

بعد أن بيّن سبحانه منزلة المهاجرين بيّن منزلة الأنصار بقوله :

١ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ). المراد بالدار هنا المدينة المنورة ، وتبوأوها أي سكنوها واستوطنوها ، والمعنى ان الأنصار ، وهم أهل المدينة آووا النبي ومن هاجر معه ، وقاموا بواجب الضيافة على أكمل وجه ، وأخلصوا للمهاجرين وواسوهم بأنفسهم بل وآثروهم عليها كما تأتي الاشارة ، ومن الآيات التي نزلت في فضل الأنصار قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ـ ٧٤ الأنفال.

٢ ـ (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا). كان المهاجرون في بدء الأمر أفقر الناس في المدينة يلاقون فيها المشقة والجهد : ولو لا الأنصار لهلكوا جوعا ، وكان النبي (ص) يعطي الصدقات للفقراء ولا يعطي منها الأغنياء والقادرين على الكسب ، ولذا كان يفضل المهاجرين على الأنصار في العطاء ، وربما خصهم بالغنيمة من دونهم ، وكان الأنصار يرضون عن ذلك ويرون انه الحق ، فسجل سبحانه لهم هذه المنقبة في كتابه العزيز.

٣ ـ (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). والإيثار على النفس مع الحاجة لا يعادله شيء إلا التضحية بالنفس. وفي التفاسير وكتب الحديث : ان رسول الله (ص) قال للأنصار عند تقسيم بعض الغنائم : ان شئتم أن تكون هذه الغنيمة بينكم وبين المهاجرين على أن تشاركوهم في أموالكم ، وان شئتم كانت لكم أموالكم ، ولهم هذه الغنيمة وحدهم. فقال الأنصار : بل نترك لهم الغنيمة ونقسم لهم من أموالنا يا رسول الله. فدعا النبي (ص) لهم وقال : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). الشح من أمهات الرذائل ، فمن استجاب له عاقه عن كل خير ، ومن تغلّب عليه ونزّه نفسه عنه فقد وقاها من الأسواء والمخاطر.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ). الضمير في بعدهم يعود الى المهاجرين والأنصار معا ، والمراد بالذين جاءوا من بعدهم كل من سار بسيرتهم الى يوم القيامة ، ولا وجه للتخصيص


بالتابعين لأن العبرة بالأعمال لا بالأمكنة والأزمنة ، وما بلغ الصحابة الى منزلة الكرامة عند الله إلا لأنهم استمعوا القول فاتبعوا أحسنه (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا). مستحيل أن يجتمع الايمان والغل على المؤمن في قلب واحد .. كيف؟ وهل يغل الإنسان ويحقد على نفسه (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بعبادك الذين نزّهوا دينهم وقلوبهم عن الغل والنفاق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ). المراد بأهل الكتاب هنا بنو النضير ، وهم اخوة المنافقين في الكفر وعداوة الرسول ، وتشير الآية الى حادثة معينة ، وهي ان النبي (ص) حين أعلن الحرب على بني النضير قال لهم المنافقون ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي : قاتلوا محمدا واصمدوا له ونحن عليه معكم ، ان قاتلكم قاتلناه ، وان أجلاكم عن المدينة نزحنا عنها معكم ، ولا نصغي لقول محمد وغيره (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أقوالهم ومواعيدهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا ـ أي بنو النضير ـ لا يَخْرُجُونَ ـ أي المنافقون ـ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ). هذا هو شأن المنافق يخالف لسانه قلبه ، وقلبه فعله ، وعلانيته سره (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ولا ينتفعون بمكر ولا نفاق.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). يخاف المنافقون من بأس المؤمنين لأنهم يتوقعون عاجل الشر في الدنيا ، ولا يتوقعون آجل العذاب في الآخرة (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ). اليهود لا يجابهون المؤمنين وجها لوجه في ميدان القتال ، بل يقبعون في أحيائهم وقراهم ويتسترون وراء الحصون والجدران ، ويرشقون المؤمنين بالنبال والأحجار ، كما هو شأن الجبان الخائر.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). انهم أقوياء في عدتهم وعددهم ، ولكن المصالح والأهواء فرقت بينهم ، فهم منحلون متخاذلون ، وان تظاهروا بالألفة والمحبة .. ولو انهم توادوا وتآزروا لبرزوا إليكم وقابلوكم في ميدان القتال أيها المسلمون ، ولم يقاتلوكم في قرى محصنة أو من وراء جدار.


وهذا عامّ في اليهود وغيرهم ، فإن الاتفاق قوة وان قلّ العدد وضعفت العدة ، والتخاذل وهن وذل لا يجدي معه عدد ولا عدة .. وقد شاهدنا انتصار أهل الباطل وهم أقلاء على المحقين وهم كثيرون ، والسر تفرّق هؤلاء عن حقهم ، واجتماع أولئك على باطلهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) بأن الوحدة سبب الفوز والنجاح ، والتفرقة سبب الفشل والخذلان (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ان حال اليهود الذين نصبوا العداء لرسول الله (ص) تماما كحال كفار قريش وغيرهم من الذين حاربوا الرسول حيث انتهوا الى الخزي في الدنيا ، وفي الآخرة الى عذاب الحريق.

فلما كفرقال اني بريء منك الآية ١٦ ـ ٢٠ :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

الإعراب :

كمثل الشيطان خبر لمبتدأ مقدر أي مثلهم كمثل الشيطان. وعاقبتهما خبر كان والمصدر من انهما في النار اسمها. وخالدين حال من اسم ان. ولتنظر مجزوم


بلام الأمر. وما قدمت «ما» بمعنى أيّ في محل نصب بقدمت والمعنى أيّ شيء قدمت.

المعنى :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). قال المنافقون لبني النضير : قاتلوا محمدا ، ونحن معكم في القتال وفي الجلاء ، ولما نزل بهم البلاء اختفى المنافقون في أوكارهم ، وما ظهر لهم عين ولا أثر ، وقد شبه سبحانه حال المنافقين هذه مع بني النضير بحال الشيطان مع الإنسان الأثيم ، يغريه بالفساد والضلال ، ويمنيه السلام ، فإذا جد الجد تركه للعذاب والهلاك ، وتبرأ منه ومن عمله ، وتظاهر بالخوف من الله. وتقدم مثله في الآية ٤٨ من سورة الأنفال ج ٣ ص ٤٩١ والآية ٢٢ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٨ (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). الضمير في عاقبتهما يعود الى الشيطان والإنسان الذي وقع في شباكه ، والمعنى واضح ويتلخص بأن كلا من الخادع والمخدوع في جهنم وساءت مصيرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) الذي أنتم في قبضته ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ). كل ما يعمله الإنسان في هذه الحياة يقدم عليه في اليوم الآخر ، والناقد البصير ينظر الى دنياه نظرة من يترك فيها من الصالحات لا من يأخذ من ملذاتها وكفى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). انه تعالى يعلم من آمن به قولا وعملا ، ومن آمن به كفكرة يذكرها في أقواله ، وينساها في أفعاله ، وكرر سبحانه الأمر بالتقوى مبالغة في الحث والترغيب.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ). نسوا العمل بأمر الله ، فأنساهم العمل لمصلحة أنفسهم ، وما ينفعها يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه ، وأغش الناس من نسي نفسه ولم يعمل لسلامتها من الهلاك (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) لأنهم لم ينتفعوا ببيان الله ، ويتعظوا بمواعظه (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ). وكيف يستوي الصالح والطالح ، والشقي


والسعيد؟. وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٨ من سورة السجدة ج ٦ ص ١٨٣.

لو أنزلنا هذا القرآن على جبل الآية ٢١ ـ ٢٤ :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

المعنى :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). هذا مجرد فرض دلت عليه كلمة «لو» والغرض منه بيان عظمة القرآن وان له من قوة التأثير ما لو أنزل على جبل لخشع ولان على قساوته ، وتصدّع وتهاوى خوفا من الله على صلابته ـ إذن ـ فما بال الإنسان الذي تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة كما قال الإمام علي (ع) ، ما بال هذا الضعيف (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ـ ٤ الجاثية. فهل قلبه أقسى من الجبل وأشد تماسكا ،


أو هو الجهل والعناد والإصرار على الضلال؟ (تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في حكم القرآن وعظاته ودلائله وبيناته ، ويهتدون بنورها الى سواء السبيل ... ولكن ... (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ـ ٣٧ ق.

وبعد ، فإن عظمة القرآن من عظمة الله سبحانه ، وقديما قيل : الكلام صفة المتكلم بخاصة فيما يعود الى علمه. ولذا وصف عز وجل كتابه بالعديد من صفاته كالعزيز والحكيم ، والمجيد والكريم والعلي والعظيم ، والنور والحق والرحمة والصدق .. فلا بدع ـ اذن ـ أن يكون له هذا الأثر والسلطان. ثم وصف سبحانه نفسه بصفات العظمة والجلال :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) المعبود الحق الذي يوصف بجميع صفات الجلال والكمال ، منها :

١ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه.

٢ ـ (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) هذان الوصفان مشتقان من الرحمة بمعنى الإحسان ، وقد يكون الجمع بين الكلمتين للاشارة الى ان رحمته وسعت كل شيء حتى في حال غضبه ، وان القنوط منها كفر وضلال.

٣ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذا توكيد للتوحيد (الْمَلِكُ) له ملك السموات والأرض ، وهو يحيي ويميت ويجير ولا يجار عليه.

٤ ـ (الْقُدُّوسُ) مشتق من التقديس أي التنزيه عما لا يليق بعظمته تعالى.

٥ ـ (السَّلامُ) لأن منه تعالى الطمأنينة والأمان.

٦ ـ (الْمُؤْمِنُ) يثيب المؤمنين على ايمانهم ويؤمنهم من عذاب النار.

٧ ـ (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب والمحافظ.

٨ ـ (الْعَزِيزُ) القوي الذي لا يغلب ولا يقهر.

٩ ـ (الْجَبَّارُ) العالي الذي لا ينال.

١٠ ـ (الْمُتَكَبِّرُ) له الكبرياء والعظمة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه عن الشريك والصاحبة والولد.


١١ ـ (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) هذان الوصفان مترادفان ، وقيل : البارئ يشعر بالبراءة من النقص (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). كل أسمائه تعالى حسنى وعظمى. انظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٢٥ فقرة «هل أسماء الله توقيفية»؟. (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والتسبيح يكون بلسان المقال وبلسان الحال. انظر تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٧ فقرة «كل شيء يسبح بحمده».


سورة الممتحنة

١٣ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء الآية ١ ـ ٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

اللغة :

تلقون اليهم بالمودة أي تودونهم وتخلصون لهم. وسواء السبيل الطريق القويم. وإن يثقفوكم أي يظفروا بكم.


الإعراب :

أولياء مفعول ثان لتتخذوا. وقال كثير من المفسرين : ان الباء زائدة بالمودة وان المودة مفعول تلقون مثل ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ، وقال صاحب البحر المحيط : مفعول تلقون محذوف والباء للسبب أي تلقون اليهم أخبار رسول الله بسبب ما بينكم من المودة. وإياكم عطف على الرسول. والمصدر من أن تؤمنوا مفعول من أجله لتخرجون. وجهادا مفعول من أجله لخرجتم. وابتغاء عطف عليه. ويوم القيامة منصوب بلن تنفعكم.

ملخص القصة :

اشتهر في كتب التفسير والحديث ان هذه الآيات نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة ، وهو صحابي من المهاجرين ، وقد أحسن البلاء يوم بدر ، ويتلخص ما قالوه في سبب النزول ان رسول الله (ص) تجهز لغزو مكة ، ولما علم حاطب بذلك كتب الى قريش يحذرهم ، ودفع بكتابه الى امرأة ، فأوحى الله الى رسوله بخبر حاطب ، فبعث في طلب المرأة جماعة من أصحابه ، منهم الإمام علي (ع) فأدركوها في الطريق ، ولما سألوها عن الكتاب أنكرته ، فصدّقها بعضهم ، وكذبها الإمام ، وهددها بالقتل ، فأخرجت الكتاب من ضفائرها ، فجاءوا به الى الرسول (ص) فقال لحاطب : من كتب هذا؟ قال : أنا يا رسول الله ، فو الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششت منذ آمنت ، ولكني صانعت قريشا حماية لأهلي من شرهم ، وقد علمت ان الله خاذلهم. فصدقه الرسول (ص) وقبل معذرته.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). أمر سبحانه المؤمنين ان لا يتواصلوا بالولاية والمحبة مع أعداء الحق وأهله ، ولا


يلتقوا معهم بأية صلة مهما كانت الدواعي والأسباب ، لأنهم أعداء الله وأعداء من آمن به (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ). تشير هذه الآية الى السبب الموجب للنهي عن اتخاذ أعداء الحق أولياء وأصدقاء ، وهو أولا انهم كفروا بالقرآن ونبوة محمد (ص) تمردا وعنادا للحق. ثانيا انهم أخرجوا النبي ومن آمن به من ديارهم لا لشيء إلا لأنهم عبدوا الله وحده ونبذوا الشرك وعبادة الأصنام (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي). ما دمتم قد تركتم الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله فكيف توالون أعداء الله؟. وهل يجتمع في قلب واحد مودة الله ومودة أعدائه؟. فأنّى تصرفون؟.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ). أتوادون سرا أعداء الله ، وتحسبون ان الله لا يعلم سريرتكم وأسراركم؟. كيف وكل سر عنده علانية ، وكل غيب عنده شهادة؟ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). هذا تهديد ووعيد لكل من حاد عن طريق الهدى والحق بخاصة الخائنين والمتآمرين (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ). لو سنحت الفرصة لأعداء الحق وظفروا بالمؤمنين لسلقوهم بألسنة حداد ، وبسطوا اليهم الأيدي بالضرب والقتل (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ). هذه هي أمنية الشيطان بالذات الذي لا يريد للإنسان إلا الضلال والهلاك ، وأي عداء أعظم من هذا العداء؟ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). لا الأموال والأولاد ، ولا العلوم والأنساب تجدي نفعا يوم الحساب والجزاء إلا العمل الصالح. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١١٦ من سورة آل عمران.

اسوة حسنة في ابراهيم الآية ٤ ـ ٧:

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا


وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

اللغة :

الاسوة بضم الهمزة وكسرها القدوة. وبرآء جمع بريء. والمراد بالفتنة هنا البلاء أي لا تنزل علينا بلاء بأيدي الكافرين. ويتولّ يعرض.

الإعراب :

في ابراهيم متعلق بحسنة ، وقيل بمقدر صفة ثانية لأسوة. والذين معه عطف على ابراهيم. إذ قالوا «إذ» ظرف والعامل فيه خبر كان المقدر. وبرآء خبر انّ و «نا» اسمها. وأبدا ظرف زمان لاستغراق المستقبل. وحده حال من الله. وربنا منادى بحذف حرف النداء. ولمن كان يرجو بدل بعض من «لكم» بإعادة حرف الجر.

المعنى :

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ). الخطاب في «لكم»


للصحابة بخاصة حاطب بن أبي بلتعة الذي ألقى بالمودة للمشركين ، والمراد بالذين مع ابراهيم كل من سار على سيرته وعمل بشريعته ، سواء أكان في أيامه أم بعدها ، فالمعروف انه ما آمن من قوم ابراهيم إلا لوط ، والمعنى ان خليل الرحمن (ع) ومن آمن به قد لاقوا الكثير من المشركين حتى الهجرة من الأوطان ومفارقة الأهل والأولاد تماما كما لاقى رسول الله والصحابة ، وقد صبر ابراهيم والذين معه ، ولم يكترثوا بما خلّفوه من الأهل والأموال ، فعليكم أنتم يا أصحاب الرسول أن تقتدوا بالذين آمنوا بإبراهيم ، ولا تكترثوا بالأهل والمال وتصانعوا المشركين لأجل ذلك.

(إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ). قال الذين مع ابراهيم للكافرين من قومهم : لا جامع بيننا ولا صلة تربطنا بكم ، أنتم أعداؤنا الى آخر يوم ما دمتم أعداء لله تعبدون من دونه الأصنام والكواكب.

(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). كأن سائلا يسأل : كيف أخبر سبحانه ان ابراهيم والذين معه قد تبرأوا من قومهم المشركين مع ان ابراهيم نفسه (قالَ ـ لأبيه ـ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) ـ ٤٧ مريم. فأجاب سبحانه بأن ابراهيم انما استغفر لأبيه لأن أباه كان قد وعده بأن يؤمن برسالته ، فلما تبين له أن أباه مصر على الشرك تبرأ منه كما جاء في الآية ١١٤ من سورة التوبة : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ ـ من أبي ابراهيم ـ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). هذا ، الى ان ابراهيم قال لأبيه : اني لا أملك لك من الله شيئا ، فإن الأمر كله بيد الله وحده.

ثم بيّن سبحانه كيف انصرف ابراهيم والذين معه عن قومهم وأوطانهم ، والتجأوا الى الله وقالوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا). ومن توكل عليه كفاه (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا). رجعنا اليك فيما أهمنا من أمر الدنيا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) في الآخرة للحساب والجزاء (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). لا تسلط علينا شرار خلقك ، فيبتلونا بمحن لا نقوى على حملها (وَاغْفِرْ لَنا) ما سلف من ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ


أَنْتَ الْعَزِيزُ) فلا تضام ولا يضام من لجأ اليك (الْحَكِيمُ) في تصريف الكون وتدبيره.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). ولمزيد من الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه عاود سبحانه وكرر التذكير بهذه القدوة الحسنة عسى أن يتذكر أو يخشى من رغب في ثواب الآخرة ، وخاف من عذابها (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). من أعرض عن الاقتداء بالصالحين فإنه تعالى غني عن خلقه ، مستحق للحمد في ذاته وصفاته وجميع أفعاله .. وهكذا سبحانه يأمر الأشرار ان يتعظوا بعاقبة الماضين من أمثالهم ، ويأمر المؤمنين ان يقتدوا بهدي من مضى من الصالحين.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً). يشير سبحانه بهذا إلى فتح مكة ، وان الكثير من المشركين الذين نهاهم الله عن مودتهم سيدخلون في دين الله أفواجا .. وعندئذ يلتئم الشمل ، ويتبادل الصحابة المودة مع المسلمين الجدد (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ان يذهب بالعداوة وأسبابها ، ويأتي مكانها بالمودة وبواعثها (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوب عباده التائبين ويشملهم برحمته. وقد أنجز الله وعده ، ونصر عبده محمدا ، فخضعت له الجزيرة العربية واستسلمت مكة ودخل أهلها في دين الإسلام أفواجا ، وحصلت المودة بين من كانوا بالأمس أعداء ألداء.

لا نهاکم الله عن الدين لم يقاتلو الآية ٨ ـ ٩ :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))


اللغة :

البر كلمة تجمع معاني الخير والإحسان. والقسط العدل ، وقيل : المراد به هنا القسمة ، وان معنى أن تقسطوا اليهم أن تعطوهم قسطا من أموالكم. وظاهروا عاونوا وعاضدوا. وأن تولوهم أن توادوهم وتحبوهم.

الإعراب :

المصدر من ان تبروهم بدل اشتمال من الذين لم يقاتلوكم ، ومثله المصدر من ان تولوهم.

الدول الصديقة والمعادية :

دعا القرآن الكريم الى السلم ، ونهى عن القتال إلا للدفاع عن النفس ، أو لنصفة المظلوم من ظالمه ، والى السبب الأول تشير الآية ١٩٠ من سورة البقرة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). أما السبب الثاني فقد أشارت اليه الآية ١٠ من سورة الحجرات : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). وأنكر القرآن حروب التخريب والاستيلاء على الأقوات ومصادر الثروات : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ـ ٨٥ هود. وقال أيضا : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٨٣ القصص. وهذه الآية من الآيات التي تربط الآخرة بالدنيا ، والنشأة الثانية بالنشأة الأولى. انظر تفسير الآية ١٤٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٦٥ فقرة «ثمن الجنة».

أما السلم فقد حث عليه القران في العديد من الآيات ، منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ـ ٢٠٨ البقرة. ومنها : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ـ ١٢٥ النحل. وتقرر هذه الآية مبدأ المفاوضات


لحل المشاكل الدولية وغيرها بالطرق السلمية ، بل دعا القرآن الكريم الى أخوّة عالمية تقوم على أساس التعارف والحب والبر والعدل ، قال تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) ـ ١٣ الحجرات. فالتعارف والتآلف هو الهدف من تعدد الشعوب والقبائل ، أما البر والعدل فهما موضوع الآيتين اللتين نحن بصددهما ، ونترك الكلام عنهما للاستاذ خالد محمد خالد ، قال :

ان المبدأ الذي يرسم علاقتنا السديدة الرشيدة بمعركة اليوم يتمثل في قول الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

«والآن فلنسأل أنفسنا وسكان الأرض جميعا : من من الدول يقاتلنا في ديننا ، ويخرجنا من ديارنا ، ويظاهر على إخراجنا؟ .. من الذين شردوا عرب فلسطين ، وانتهبوا منهم أموالهم وأرضهم وعرضهم وديارهم؟ .. من الذين مكنوا إسرائيل وزودوها بالمال والعتاد ، وقالوا لها كوني شوكة الجنب للعرب؟ .. من الذين قتلوا ولا يزالون يقتلون الكهول والولدان والنساء؟ .. من الذين حبسوا عنا السلاح وسرقوا أقواتنا؟ .. من الذين يقفون في المحافل الدولية ضد حقوقنا ، ويناصرون علينا أعداءنا»؟ ..

هؤلاء ايها السادة هم الذين ينهانا الله في كتابه ان نبرّهم ، ونتخذ منهم أولياء وحلفاء .. وهناك آية أخرى تكشف عن وجه آخر لعلاقتنا مع هؤلاء ، وهي : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ). ان الله لا يرضى ان نكون سلبيين مع هؤلاء الذين تحالفوا على مصيرنا بل يحرضنا على قتالهم لأنهم البادئون والظالمون .. أي سند من دين؟. أي سند من خلق يعتمد عليه أولئك المجرمون الذين يدعوننا لصداقة الغرب والتحالف معه؟. ولا أعرف صورة من صور الإلحاد في الدين والنكوص عن الشرف والحق والواجب أبشع من هذه الصورة والدعوة التي تحيي قاتلها وتموت في سبيل جلادها .. أنقاتل الذين يسالموننا ، ونسالم الذين يقاتلوننا ، ويذبحوننا ذبح النعاج؟ .. كيف وقد زفوا إلينا في ليلة سوداء عروس الشرق


الأوسط إسرائيل ، وازدادوا بها جثوما على بلادنا وتقتيلا لأنفسنا وأحرارنا ، وتشتيتا لكياننا ووحدتنا؟ .. فمن كان صاحب وعي فلينتفع بالتجربة ، ومن كان صاحب دين فليقرأ قول ذي الجلال : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

وبعد ، فقد اقتطفنا هذه الكلمات من كتاب الدين في خدمة الشعب ، المطبوع سنة ١٩٦٣ ، ولو ان الأستاذ خالدا كتب اليوم في هذا الموضوع لما زاد حرفا واحدا عما كتبه منذ سبع سنوات لأنه على علم اليقين من ان ما حدث في حزيران ١٩٦٧ وما يحدث الآن هو جزء من مخطط وضعه سلفا المستعمرون والصهاينة ، وأعانهم على تنفيذه الذين يستميتون «في سبيل جلاد أمتهم». وأيضا يستميت هذا الجلاد في سبيل «حكامه» من العرب والمسلمين حرصا على مصالحه وأغراضه.

واتفق فقهاء المذاهب على ان الصدقة غير الواجبة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب ، بل قال أبو حنيفة : تجوز عليه زكاة الفطر والكفارات. وأيضا اتفقوا على جواز الوصية له بالمال ، والوقف عليه ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الخ.

اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية ١٠ ـ ١١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ


فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

اللغة :

فامتحنوهن أي اختبروهن. فإن علمتموهن مؤمنات أي أظهرن الايمان. لا جناح لا إثم. والعصم ما يعتصم به من عقد الزواج وغيره. والكوافر جمع كافرة. وان فاتكم شيء من أزواجكم أي ذهبت احدى أزواجكم. فعاقبتم أي ظفرتم بالكفار وكانت لكم العقبى عليهم.

الإعراب :

مهاجرات حال من المؤمنات. ومؤمنات مفعول ثان لعلمتموهن. وترجعوهن هنا بمعنى تردوهن ولذا عدي الفعل الى المفعول. والمصدر من أن تنكحوهن مجرور بفي مقدرة.

المعنى :

في سنة ست من الهجرة عقد النبي (ص) صلح الحديبية مع قريش. أنظر تفسير الآية ١٠ من سورة الفتح فقرة «خلاصة القصة» ، وجاء في عهد الصلح : ان من أتى محمدا (ص) من قريش رده عليهم ، ومن أتى قريشا من عند محمد (ص) لم يردوه عليه. وقال المفسرون : بعد ان تم الصلح بين الطرفين جاءت امرأة من قريش مهاجرة الى رسول الله (ص) وجاء زوجها على أثرها ، وكان مشركا ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنك شرطت لنا ان ترد علينا من أتاك منا .. فنزلت هاتان الآيتان لبيان حكم الزوجات اللائي آمنّ من دون أزواجهن ، واللائي ارتددن عن الإسلام. وفيما يلي التفصيل :


١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ). يقول سبحانه للمسلمين : إذا جاءتكم امرأة من دار الشرك ، وقالت : أتيت مؤمنة بالله ورسوله فاختبروها. واختلف المفسرون في أي شيء يختبرها المسلمون؟. وأرجح الأقوال أن تشهد المرأة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ، لأن الرسول الأعظم (ص) كان يكتفي بذلك لاثبات الإسلام ، وعليه إجماع المسلمين ، ولقوله تعالى بلا فاصل : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) أي خذوا بالظاهر ، أما الباطن فهو لله وحده ، وللآية ٩٤ من سورة النساء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً). فبالأولى ان لا نقول ذلك لمن نطق بالشهادتين.

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي نطقن بالشهادتين (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ). لا تعيدوا الى الزوج المشرك ـ أيها المسلمون ـ زوجته التي هاجرت إليكم مؤمنة لأنها لا تحل له بعد ان انقطعت العصمة بينهما. وان سأل سائل : ان قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) يغني عن قوله : (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فما هي فائدة التكرار؟ قلنا في جوابه : من الجائز أن يكون التكرار للاشارة الى أنه لا أثر لاعتقاد المشرك انها ما زالت في عصمته وأيضا يجوز أن يكون لمجرد التأكيد (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا). ولكن ردوا أيها المسلمون الى الأزواج مثل ما أعطوا الزوجات من المهر. ويختص هذا الحكم بحال الهدنة بين الرسول والمشركين ، ولا ينسحب الى ما بعدها ، لأن المهر يستقر على الزوج بمجرد الدخول ، ولا يسقط بانفساخ العقد ، سواء أسلمت هي من دونه أم أسلم هو من دونها.

٢ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). للمسلم أن يتزوج المهاجرة المؤمنة بعد أن حرمت على زوجها ، شريطة أن يفرض لها المسلم مهرا ، وأن يتم الزواج بعد انقضاء العدة من المشرك إذا كان قد دخل بها.

٣ ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). إذا كان الزوجان مشركين ، وأسلم هو من دونها حرمت عليه لانقطاع العصمة بينهما تماما كما لو أسلمت هي من دونه .. وكذلك لو كانا مسلمين ، وارتد أحدهما عن الإسلام (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) إذا أسلم هو من دونها يحق له أن يطالب بما أعطاها من المهر ، تماما


كما يحق للمشرك أن يطالب بمهر زوجته المؤمنة (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). هذا الحكم فرض لا تجوز معصيته ، فلقد شرعه سبحانه لحكمة هو بها أعلم.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ ـ منكم ـ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا). إذا هربت زوجة المسلم الى الكفار مرتدة عن دينها ، ولم يردوا الى زوجها المهر فردوا أنتم اليه أيها المسلمون المهر الى الزوج من الغنائم التي تكسبونها من الكفار (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). اتقوا محارم الله ، وامتثلوا أحكامه ان كنتم صادقين في ايمانكم.

اذا جاءك المؤمنات يبعايعنك الآية ١٢ ـ ١٣ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

اللغة :

يبايعنك أي يلتزمن بطاعتك. ومن بين أيديهن وأرجلهن كناية عن بطونهن ويأتي البيان.


الإعراب :

فبايعهن جواب إذا جاءك. ومن أصحاب القبور على حذف مضاف أي من بعث أصحاب القبور والمجرور متعلق بيئس.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ). لما فتح رسول الله (ص) مكة بايع الرجال على الطاعة والجهاد ، ثم بايع النساء :

١ ـ (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً). انظر دليل التوحيد في ج ٢ ص ٣٤٤.

٢ ـ (وَلا يَسْرِقْنَ) من أزواجهن ولا من غيرهم. وفي كتب التفسير والحديث ان هند ام معاوية قالت لرسول الله عند هذا الشرط : ان أبا سفيان رجل شحيح ، وقد أصبت من ماله ، فأقرّها النبي (ص) على ان لا تزيد عن حاجتها وحاجة أولادها.

٣ ـ (وَلا يَزْنِينَ). انظر ج ٥ ص ٤٢ و ٣٩٧.

٤ ـ (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ). كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر كما أشارت الآية ٣١ من سورة الإسراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

٥ ـ (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ). هذا كناية عن البطون ، لأن مكان البطن بين اليدين والرجلين ، والمعنى ان لا تكذب المرأة فيما تخبر به من الحمل والطهر والحيض ، فلا تقول : انها في طهر وهي حائض أو العكس ، ولا تدّعي الحمل وما هي بحامل .. وبعض النسوة تدلس على الزوج ، فتوهمه انها حامل ثم تدعي انها أسقطت أو تأتي بلقيط تنسبه الى الزوج زورا وبهتانا.

٦ ـ (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ولا يأمر النبي (ص) إلا بمعروف ، ولا ينهى إلا عن منكر (فَبايِعْهُنَّ) على الوفاء بما ذكر (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) ما تقدم من ذنوبهن (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للتائبين والتائبات ، ويشملهم برحمته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ


كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ). خاطب سبحانه المؤمنين في أول هذه السورة بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ). وختمها سبحانه بمثل هذا الخطاب ، والغرض تحذير المؤمنين من أعداء الله والحق ، وان لا يأمنوهم على شيء من أخبار الرسول (ص) والمسلمين ، ولا يركنوا الى أكاذيبهم ودسائسهم ، لأنهم لا يرجون لقاء الله ، والبعث عندهم تماما كرجوع الموتى الى الحياة الدنيا ، ومن أجل هذا غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا أليما.


سورة الصّفّ

١٤ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كأنهم بنيان مرصوص الآية ١ ـ ٦ :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))


اللغة :

المقت أشد البغض. والمرصوص كناية عن البناء المحكم حتى كأنه بني بالرصاص. والزيغ الانحراف عن الحق.

الإعراب :

مقتا تمييز. والمصدر من أن تقولوا فاعل كبر أي كبر هذا القول مقتا. وصفّا مصدر في موضع الحال من فاعل يقاتلون أي مصطفين. ومصدقا حال من رسول الله. وجملة اسمه أحمد محلها الجر صفة لرسول المجرور بالباء.

المعنى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). شهد كل كائن بلسان المقال أو الحال لله سبحانه بالقدرة والحكمة. وتقدم بالحرف الواحد في أول سورة الحديد وأول سورة الحشر ، وتكلمنا مفصلا عن تسبيح الكائنات عند تفسير الآية ٤٤ من سورة الاسراء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)!!. كثير من الناس يتعمدون الكذب والخداع ، فيتصرفون في الخفاء ما لا يبدونه علانية .. وليس من شك ان هؤلاء منافقون بكل ما في كلمة النفاق من معنى ، ومن ثم فلا يصح ان يخاطبوا بيا أيها المؤمنون ، وان تظاهروا بالايمان ، ومن الناس من يقول ويعد بنية الصدق والوفاء ، ولكن تعترضه ظروف لا قبل له بها ، فيعجز عن الوفاء على الرغم مما بذله من جهد ، وهذا معذور ، ما في ذلك ريب ، ومنهم من يقول ويعد بنية الوفاء ، ولكن إذا جاء أوان العمل وتهيأت له الأسباب تراجع وألغى ارادته كسلا أو جبنا أو بخلا ، وهذا مؤمن ولكنه مؤمن متهاون ضعيف في ارادته وأمام نفسه الأمّارة بالسوء.

وهذا النوع من الناس هم المخاطبون بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ


تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). ومن باء بغضب الله فقد هوى الى عذاب السعير. وقال كثير من المفسرين : ان جماعة من الصحابة كانوا قبل ان تتهيأ أسباب الأمر بالقتال يتمنون ان يفرض عليهم ، فلما تهيأت أسبابه وفرض عليهم تثاقل فريق منهم ، فنزلت فيهم هذه الآية. وليس هذا ببعيد لأن السياق يومئ اليه حيث قال سبحانه بلا فاصل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي محكم ثابت كأنه بني بالرصاص ، ونقل عن علماء الآثار انهم عثروا على أبنية قديمة بنيت بالرصاص ، وقال تعالى حكاية عن ذي القرنين : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ـ ٩٦ الكهف والقطر الرصاص أو النحاس المذاب .. ومن نافلة القول : ان الله سبحانه يحب تماسك الجماعة وتعاضدها في كل ما يعود عليها بالخير والصلاح.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ). هذا السؤال يحمل جوابه معه لأن بني إسرائيل هم قتلة الأنبياء بنص كتابهم المقدس عندهم ، فقد جاء في سفر نحميا اصحاح ٩ آية ٢٦ ما نصه بالحرف : «وعصوا وتمردوا عليك ـ أي على الله ـ وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليردوهم اليك ، وعملوا اهانة عظيمة». أما القرآن الكريم فقد سجل عليهم قتل الأنبياء في أكثر من آية. ولو ان قائلا يقول : لا شيء أدل على نبوة موسى من اساءة بني إسرائيل اليه ، وهو منقذهم والمحسن اليهم ، وعلى نبوة عيسى من أقدامهم على صلبه ، لو قال هذا قائل لكان لقوله وجه وجيه.

أما إساءة بني إسرائيل الى موسى فهي على ألوان ، قالوا له : أرنا الله جهرة. وقالوا له: فاذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون. وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد .. الى غير ذلك. (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). وهذه الآية تنص بصراحة على ان الله سبحانه لا يزيغ أحدا إلا إذا زاغ هو بسوء اختياره ، ولا يهين مخلوقا ويهلكه إلا إذا هو عرض نفسه للهلكة والهوان .. فلا فرق أبدا بين معنى هذه الآية ومعنى قول القائل : من طمع بالحرام أذله الله وأخزاه ، ومن اقتنع بالحلال أعزه وأغناه .. وبهذه الآية نفسر الآيات التي نسبت بظاهرها الإضلال الى الله مثل (يُضِلُّ مَنْ


يَشاءُ) أي انه تعالى قد شاء وأراد أن يضل من يسلك سبيل الضلال ، ويهلك من أراد الهلاك لنفسه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ما داموا مصرين على الفسق.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني محمدا (ص) وفي آية ثانية : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ـ ١٥٧ الأعراف. وفي ثالثة: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ١٤٦ البقرة أعلن القرآن وأصر على ان التوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي أنزل على عيسى قد بشرا بنبوة محمد ، وجابه بهذا الحقيقة علماء اليهود والنصارى وتحداهم أن يكذّبوا ، وما ذكر التاريخ ان أحدا منهم كذّب وأنكر ، بل أثبت ان المنصفين منهم اعترفوا وأسلموا كعبد الله بن سلام وغيره مع العلم انهم كانوا ينصبون العداء لرسول الله ، ويبحثون جاهدين عن زلة يدينونه بها.

تحريف التوراة والإنجيل :

وتسأل : بماذا يجيب المسلم إذا قال له يهودي أو نصراني : لقد نص قرآنكم على ان التوراة والإنجيل بشّرا بنبوة محمد (ص) مع انه لا أثر لهذه البشارة فيما لدينا من نسخ التوراة والإنجيل؟.

الجواب : إذا سأل هذا السؤال يهودي أو نصراني فللمسلم ان يقول له : لقد أجاب عن سؤالك هذا علماء اليهود والنصارى أنفسهم ، حيث اعترفوا صراحة بأن التوراة الأصلية التي نزلت على موسى قد فقدت ، وبعد سنين طوال ادعى من ادعى بأنه يحفظها عن ظهر قلب ، وكتب دعواه هذه ، ثم قال لها كوني توراة موسى فكانت .. ونفس الشيء حدث للانجيل الأصيل الذي أنزل على عيسى .. ومن الطريف ان إنجيل السيد المسيح (ع) قد أولد بعد أن فقد عشرات الأناجيل حتى تجاوز عددها الخمسين .. وفي سنة ٣٢٥ م اجتمع رؤساء النصارى ، وأقروا ٤ أناجيل مع ان عيسى نزل عليه إنجيل واحد فقط لا غير باتفاق النصارى ،


فما الذي جعل الواحد أربعة؟ ولو أقروا ثلاثة أناجيل لقلنا : لكل اقنوم إنجيل .. ولا شيء أدل على ان هذه الأناجيل من رجال الكنيسة لا من المسيح انها تحدثت عن صلبه ودفنه وخروجه من القبر وصعوده الى السماء واختتام حياته على الأرض ، فهل نزل عليه الوحي بعد أن صلب ودفن؟ وإذا أمكن ذلك فهل من الممكن في حكم العقل والواقع أن ينزل عليه الوحي الذي دوّن في الإنجيل بعد أن صعد الى السماء واختتم حياته على الأرض؟.

سؤال ثان : وأين نجد هذا الاعتراف من علماء اليهود والنصارى؟.

الجواب : في العديد من كتبهم العربية والأجنبية ، فمن الكتب العربية قاموس الكتاب المقدس الذي اشترك في وضعه ٢٧ عالما ، فلقد جاء في مادة يوشيا من هذا الكتاب ما نصه بالحرف : «مما لا شك فيه ان معظم الأسفار المقدسة أتلف أو فقد في عصر الارتداد عن الله والاضطهاد». وفي مادة اسفار : «هناك رأي يقول : ان الذي أضفى صفة القانون على اسفار العهد القديم هم كتّاب الأسفار أنفسهم .. ورأي آخر يقول : هم الكتّاب المقودون ـ أي المؤيدون ـ بالروح القدس ، ومعهم قادة الدين من اليهود والمسيحيين الذين قبلوا هذه الأسفار بإرشاد الروح القدس أيضا». وهذا اعتراف لا يقبل الشك بأن الأسفار الأصلية فقدت ، وان جماعة قد كتبوا ما كتبوا أسفارا وأضفوا عليها صفة القداسة من عند أنفسهم على قول ، وبتأييد الروح القدس على قول آخر .. وسواء أخذنا بالقول الأول أم الثاني فالنتيجة واحدة ، وهي الاعتراف القاطع بأن الأسفار الموجودة الآن ما هي بأسفار موسى وعيسى الأصلية لأن هذه قد فقدت ، وحل محلها أسفار جديدة كتبها الذين زعموا القداسة لأنفسهم أو زعمها لهم قوم آخرون ، وكلهم مؤيّدون بالروح القدس .. والروح القدس عندهم هو روح الله الاقنوم الثالث ، وسمي الله روحا لأنه مبدع الحياة : وقدسا لأن من عمله تقديس قلب المؤمن على حد تعبيرهم.

وقد وضع علماء الإسلام عشرات الكتب للدلالة على تحريف التوراة والإنجيل ، منها كتاب «اظهار الحق» للشيخ رحمة الله الهندي ، وفيه مائة شاهد على تحريف التوراة والإنجيل لفظا ومعنى ، أشار الى هذا الكتاب صاحب تفسير المنار عند


تفسير الآية ٤٦ من سورة النساء. ومن هذه الكتب الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي ، وكتاب «محمد رسول الله في بشارات الأنبياء» لمحمد عبد الغفار ، وكتاب «محمد رسول ، هكذا بشرت الأناجيل» لبشري زخاري ميخائيل ، وآخر كتاب قرأته في هذا الموضوع «البشارات والمقارنات» للشيخ محمد الصادقي الطهراني. صدر حديثا ، وهو متخم بالشواهد القاطعة من كتب اليهود والنصارى على تحريف التوراة والأناجيل المتداولة الآن.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ـ أي جاء عيسى بني إسرائيل ـ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). لم يكتف اليهود بقولهم عن السيد المسيح (ع) : انه ساحر ، حتى قالوا : هو ابن النجار ، كما جاء في إنجيل متى اصحاح ١٣ آية ٥٥ وإنجيل مرقس اصحاح ٦ آية ٣ .. ينص الإنجيل على ان اليهود قذفوا السيدة العذراء بالزنا .. ومع هذا نرى الكثير من النصارى يتحالفون مع الصهيونية عدوة الأديان والانسانية بخاصة المسيحية ـ يتحالف الكثير منهم مع الصهاينة ضد الإسلام وأهل القرآن الذي يقول : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ـ ٧٨ المائدة .. وان دل هذا التحالف على شيء فإنما يدل على ان المسيحية عند أنصار إسرائيل هي مجرد شعار لمآرب أخرى ، وان دينهم وضميرهم هو الاستيلاء والاعتداء تماما كالصهاينة.

والله متم نوره الآية ٧ ـ ١٤ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ


بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

اللغة :

المراد بالإسلام هنا الاستسلام لأمر الله والانقياد لأوامره ونواهيه. والمراد بنور الله دينه وبراهينه. وأفواههم كناية عن أكاذيبهم وأباطيلهم. ومتم مظهر. وحواريو الرجل خاصته. وظاهرين غالبين.

الاعراب :

وهو يدعى الى الإسلام الجملة حال. ومفعول يريدون محذوف ، والمصدر من ليطفئوا مفعول لأجله مع ذكر اللام أي يريدون الافتراء لأجل إطفاء نور الله. والله متم نوره الجملة حال. ويغفر بالجزم جوابا لتؤمنون لأنه أمر بصيغة الخبر أي آمنوا يغفر لكم. ويدخلكم عطف على يغفر. ومساكن عطف


على جنات. وأخرى مبتدأ والخبر محذوف أي ولكم أخرى ، وجملة تحبونها صفة لأخرى. ونصر بدل من أخرى.

المعنى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ)!. دعا رسول الله (ص) قومه الى نبذ الشرك والايمان بالله وحده ، فضاقوا به وتألبوا عليه ، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات ... وهكذا يلجأ المبطل المعاند الى اختلاق الأكاذيب ، وتلفيق الأباطيل كلما دعي الى الحق ، سواء أكان الداعي نبيا أم غير نبي (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يفترون على الله الكذب ، ومثله : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ـ ٦١ طه ج ٥ ص ٢٢٦. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). حاولوا القضاء على الإسلام بالدسائس والأكاذيب ، فكان مثلهم في ذلك تماما كالذي ينازع الله في سلطانه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). المراد بالرسول هنا محمد ، وبالهدى القرآن ، وبدين الحق الإسلام. وقد وردت هذه الآية والتي قبلها بالحرف الواحد في سورة التوبة الآية ٣٢ و ٣٣ ج ٤ ص ٣٣ وما بعدها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). الدنيا في حقيقتها متجر لكل الناس بلا استثناء ... أبدا لا أحد في هذه الحياة إلا وتنطبع أعماله وتصرفاته بقصد المصلحة والربح ، ولكن المصلحة منها بشعة وقبيحة كالذي يعمل لمجرد. الشهرة وتكديس الثروة بكل سبيل ، ومنها مصلحة حسنة وخيرة كالذي يعمل لسد حاجاته وحاجات الآخرين ... ولأن الربح هو الدافع الأول على العمل فقد عرض سبحانه على عباده تجارة يربحون بها النجاة من غضبه وعذابه ، والفوز بمرضاته وثوابه ، ولا ربح كالأمان والجنان ، وقد حدد سبحانه ثمن هذا الربح بقوله :


(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ). هذا هو الثمن : ايمان لا يشوبه ريب ، وتضحية بالنفس ، وإيثار بالمال ، ومتى تحقق ذلك تتم الصفقة مع الله ، ومن أوفى بعهده منه تعالى؟. وفي نهج البلاغة : ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه خير من الأنفس والأموال والأولاد.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ). هذا بيان وتفصيل للربح الذي ينالونه من هذه التجارة ، وأول هذا الربح غفران الذنوب ، ولا حر عند الله إلا من تحرر من ذنوبه وآثامه ، والربح الثاني ملك قائم ، ونعيم دائم (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أعظم منه (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). المراد بالنصر والفتح القريب فتح مكة كما يتبادر الى الأذهان .. وكان الصحابة يتلهفون على هذا النصر لكثرة ما لا قوه من مشركي أهل مكة ، فأمر سبحانه نبيه الكريم ان يبشرهم بهذا النصر وقربه بعد البشارة بالغفران والجنان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ). الخطاب في يا أيها الذين آمنوا للصحابة يأمرهم الله فيه أن يكونوا مع رسوله العظيم كما كان الحواريون مع عيسى قولا وفعلا. وتقدم مثله في الآية ٥٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٦٧.

وفي قاموس الكتاب المقدس : «يسمى يسوع الناصري ـ أي عيسى ـ .. والنسبة تعود الى مدينة الناصرة .. ومعنى يسوع «يهوه مخلّص» وهو اسمه الشخصي ، أما المسيح فهو لقبه .. ويقال المسيح لأنه مكرس للخدمة والفداء .. ودعي المؤمنون مسيحيين سنة ٤٢ أو ٤٣ م .. ويرجح ان هذا اللقب كان في أول الأمر شتيمة». وبين عيسى وموسى أكثر من ١٢٠٠ سنة وأقل من ١٤٩١ لأن المؤرخين على أقوال في ذلك أكثرها ١٤٩٠ وأقلها ١٢١١.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ ـ بعيسى ـ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ). المراد بظاهرين الغالبون بالحجة والبرهان ،


والمعنى ان بني إسرائيل اختلفوا في عيسى ، وهو منهم ، فمنهم من قال : هو عبد الله ورسوله ، وقال آخرون : هو إله. وقال اليهود : ساحر وابن زنا ، فأيد الله سبحانه بالحجة والبرهان القائلين هو رسول الله على الجاحدين والمؤلهين. وفي رسائل يوحنا ان ضد المسيح هو من أنكر التجسد واتحاد لاهوت المسيح بناسوته. أما القرآن فيقول : ان أعداء المسيح هم الغالون فيه والقالون له.


سورة الجمعة

١١ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بحث في الأميين رسولا ١ ـ ٤ :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

اللغة :

المراد بالأميين هنا العرب ، لأن الغالبية العظمى منهم كانت لا تقرأ ولا تكتب ، وقيل المراد بهم أهل مكة نسبة الى أم القرى. ويزكيهم يطهرهم من أرجاس الشرك والآثام.


الإعراب :

منهم متعلق بمحذوف صفة للرسول. وجملة يتلو صفة ثانية. وآخرين عطف على الأميين. ولما أي لم.

المعنى :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). كل ما في الكون يدل على وحدانية الله وقدرته ، وهذا تسبيح وتمجيد بالطبع ، والملك المسيطر ، والقدوس المنزه عما لا يليق ، والعزيز الذي لا يقهر ، والحكيم في جميع تصرفاته. وتقدم مثله في أول سورة الحديد والحشر والصف.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ). المراد بالرسول محمد (ص) وبالاميين العرب ، ووصفهم سبحانه بالاميين لأن أكثرهم آنذاك كانوا لا يقرءون ولا يكتبون. وذهب البعض الى ان المراد بالاميين هنا أهل مكة لأن «ام القرى» من أسمائها ، ويردّ هذا القول أولا : ان المتبادر الى الافهام من هذه الكلمة عدم القراءة والكتابة. ثانيا : قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) ـ ٧٨ البقرة والقرآن يفسر بعضه بعضا. ثالثا : قول الرسول الأعظم (ص) : «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب». وقال بعض أهل الكتاب : ان قوله تعالى : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) يدل ان محمدا نبي العرب خاصة. وقد أجبنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٩٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٢٥ وعند تفسير الآية ٤٠ من سورة الأحزاب ج ٦ ص ٢٢٥ فقرة «لما ذا ختمت النبوة بمحمد. ثم حدد سبحانه مفهوم رسالة نبيه الكريم بما يلي :

١ ـ (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ). يبلغهم رسالات ربه التي تسير بهم على طريق الحياة والنجاة.

٢ ـ (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهر نفوسهم من الشرك ، وعقولهم من الجهل ، وأعمالهم من القبائح والآثام.


٣ ـ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ). ينقلهم من ظلمات العمى والجهل الى نور العلم والهداية بتعاليمه التي تمجد العلم ، وتنبذ الخرافات ، وترتكز على العقل والفطرة البشرية.

٤ ـ (وَالْحِكْمَةَ). وكل ما يهدي الى الخير في العقيدة والسلوك فهو حكمة. قال ابن عربي : «الحكمة صفة يحكم بها ولا يحكم عليها» أي تعلو ولا يعلى عليها.

والخلاصة ان رسالة محمد (ص) رسالة انسانية عامة تخاطب الناس بخطاب العقل ، وتحاسبهم بحسابه ، والصفة الهامة التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان انه يرحب بكل دراسة موضوعية منصفة عن أي مبدأ من مبادئه وحكم من أحكامه دون استثناء (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من الشرك والجهل والظلم والحقد ، وما الى ذلك من القبائح والرذائل.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ). المراد بالآخرين كل من دخل في الإسلام بعد محمد (ص) الى يوم القيامة عربيا كان أم غير عربي ، والمعنى ان محمدا هو نبي الرحمة لجميع الأجيال : ودعوته عامة للناس أجمعين ، وقد آمن بها العرب في عهده ، ويؤمن بها الأجيال المتتابعة من سائر الأمم الى يوم يبعثون (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وبعزته وقدرته أعز الإسلام ونشره في شرق الأرض وغربها ، وبحكمته تعالى اختار محمدا لرسالته العامة الشاملة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). ذلك اشارة الى ان محمدا فضل من الله ورحمة للانسانية جمعاء ، ومثله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء.

كمثل الحمار يحمل اسفاراً الآية ٥ ـ ٨ :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ


النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

اللغة :

حملوا التوراة أمروا أن يعملوا بها. لم يحملوها لم يعملوا بها. والاسفار جمع سفر وهو الكتاب. والغيب ما غاب علمه عن الخلق ، وعالم الشهادة ما علموه وشاهدوه.

الإعراب :

مثل فاعل بئس. والذين كذبوا صفة للقوم ، والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا مثلهم. وجملة فإنه ملاقيكم خبر ان الموت.

المعنى :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً). قال اليهود : نحن أهل التوراة وهي كتابنا المقدس ، ومع هذا ينكرون محمدا الذي نصت عليه التوراة ، فكان حالهم في ذلك تماما كحال الحمار يحمل كتب العلم على ظهره ، ولا يعقل ما فيها وينتفع بشيء منها! .. لقد حرّف اليهود توراة موسى وغيرها من الأسفار المقدسة عندهم ، ما في ذلك ريب ، انظر تفسير الآية ٦ من سورة الصف فقرة «تحريف التوراة والإنجيل ، ثم عملوا بما حرفوا وزيفوا ، ونذكر من باب المثال لا الحصر السفر الذي نسبوه الى النبي حزقيال ، فقد جاء في اصحاح ٩ من هذا السفر ما نصه بالحرف الواحد : «لا تشفق أعينكم ولا


تغفروا الشيخ والشباب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك». وهذه هي إسرائيل تطبق ـ بعد أن سنحت لها الفرصة ـ هذا المبدأ نصا وروحا .. وتقتل الشيخ والشباب والعذراء والطفل والنساء لا لشيء إلا للهلاك والفناء.

وتسأل : ان أكثر المسلمين لا يعملون بالقرآن ، فينبغي ان يكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا؟.

الجواب : ان المسلمين لم يحرّفوا القرآن ويحذفوا منه الآيات التي تعترف بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل الأصيلين الصحيحين كما حرّف اليهود التوراة والنصارى الإنجيل : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ـ ١٣٦ البقرة. اذن ، فلا وجه للنقض والقياس. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ). كل من كذب بالحق فقد أعطى مثلا من نفسه على كفرها وفسادها ، وجاز لكل انسان ان يقول له : قبحا لك وترحا. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وكيف يهتدون وقد ران الضلال على قلوبهم؟.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). زعم اليهود انهم شعب الله الخاص ، وانهم أولياء الله وأحباؤه ، وان الجنة خالصة لهم وحدهم ، فرد سبحانه عليهم بأنهم كاذبون في هذا الزعم .. ولو صدقوا فيما قالوا لتمنوا لقاء الله لأن الذي عنده خير وأبقى مما هم فيه من الخزي والهوان .. كلا ، انهم يكرهون الموت ، ويخافون منه لكثرة ذنوبهم .. والغريب انهم يداومون ويصرون على هذه الذنوب والآثام التي يكرهون الموت من أجلها. وتقدم مثله في الآية ٩٤ من سورة البقرة ج ١ ص ١٥٤.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَة). لا مفر لكم من الموت والبعث والحساب والجزاء لدى عادل عليم بما تسرون وما تعلنون (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من تحريف الكتاب وغيره من الإفساد والجرائم ، ويجازيكم بعذاب الجحيم الأليم.


صلاة الجمعة الآية ٩ ـ ١١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

اللغة :

المراد بالنداء للصلاة الأذان. وقضيت أديت.

الإعراب :

قال ابن هشام في كتاب المغني : تأتي من مرادفة لفي ، واستشهد بقوله تعالى : من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ). صلاة الجمعة فرض كتابا وسنة واجماعا ، وهي ركعتان مع خطبتين قبلها ، ويكتفي بها عن صلاة الظهر ، وتختص بالرجال دون النساء ، ولا خلاف في شيء من ذلك بين المسلمين ، وانما الخلاف بينهم : هل تجب صلاة الجمعة مطلقا من غير شرط ، أو تجب مع وجود السلطان أو من يستنيبه لها؟.


قال الحنفية والامامية : وجود السلطان أو نائبه شرط ، ولكن اشترط الامامية عدالة السلطان وإلا كان وجوده كعدمه ، واكتفى الحنفية بوجود السلطان وان لم يكن عادلا.

وقال الشافعية والمالكية والحنابلة : تجب مطلقا وجد السلطان أم لم يوجد. وقال كثير من فقهاء الامامية : إذا لم يوجد السلطان العادل أو نائبه ووجد فقيه عادل يخيّر بينها وبين الظهر. والتفصيل في كتابنا فقه الامام جعفر الصادق ج ١.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ). المراد بالبيع كل تصرف يصد عن صلاة الجمعة بيعا كان أم غيره ، وانما ذكر سبحانه البيع بالخصوص لأنه يفوت ـ في الغالب ـ بفوات وقته ، أو لأن النفس تميل اليه أكثر من الصناعة والزراعة ، وما اليهما. واختلف الفقهاء في البيع الذي يعقد وقت النداء لصلاة الجمعة : هل يقع صحيحا يجب الوفاء به ، أو فاسدا لا أثر له ، ولكن يأثم البائع والمشتري؟ وهذا البيع ـ عندنا ـ صحيح يجب الوفاء به لأن النهي عن المعاملة لا يدل على الفساد خلافا لصاحب مجمع البيان (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مواقع الخير والشر ، وما يضركم وما ينفعكم.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). بعد أن أمر سبحانه بالصلاة أمر بالسعي في الأرض طلبا للرزق والعيش بالبيع وغيره مع التوكل على الله في سائر الأحوال ، وبهذا التوازن يتحقق الفلاح دنيا وآخرة. ومثله قوله تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ـ ٧٧ القصص. وبكلمة لا فرق عند الله بين من ترك العمل لآخرته ، ومن ترك العمل لدنياه.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً). جاء في كتب التفسير والحديث : ان النبي (ص) كان في ذات يوم من الأيام يخطب قائما لصلاة الجمعة ، فدخلت عير الى المدينة تحمل طعاما ، فخرج اليها الصحابة ، ولم يبق حول النبي (ص) غير اثني عشر رجلا ، فنزلت هذه الآية .. وظاهرها يتفق تماما مع هذه الرواية عدا استثناء الاثني عشر رجلا ، ولكنها قد رويت بطرق متعددة ، ودوّنت في الكتب الصحاح لأن أحد رواتها عبد الله بن جابر الأنصاري ، وهو من أهل الصدق والعدالة ، وعليه تكون الرواية تفسيرا وبيانا للآية.


وبهذه المناسبة نشير الى ان للمصلحة المادية أثرا بالغا في حياة الناس لأن الاقتصاد قوام الحياة ، ما في ذلك ريب ، لذا قال سبحانه : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) فليس صحيحا ان الاقتصاد هو الباعث الوحيد على كل موقف يقفه الإنسان ، وكل حركة يتحركها .. كلا ، فإن هناك جوانب أخرى تبعث على الحركة والعمل ، وليس بينها وبين الاقتصاد والمصلحة المادية أية صلة ، فقد انفض كثير من حول الرسول الى التجارة وتركوه قائما كما نصت الآية ، ولكن بقي حوله آخرون ولم يتركوه وحيدا كما قالت الرواية.

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). عند الله سبحانه رزق الدنيا ورزق الآخرة .. وليس بينهما مانعة جمع ، فلا العمل للآخرة ينقص من رزق الدنيا ، ولا العمل للدنيا ينقص من ثواب الآخرة ، بل كل عمل يسد حاجة من حاجات الحياة فهو من عمل الآخرة أيضا .. ولا أبتعد عن الحقيقة إذا قلت : ان كل عمل أحلّه الله في هذه الحياة فهو مطية للآخرة ، وما أكثر ما أحل الله لعباده .. قال الإمام علي (ع) : ما أحل لكم الله أكثر مما حرم عليكم ، فذروا ما قل لما كثر ، وما ضاق لما اتسع.


سورة المنافقون

١١ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هم العدو فاحذرهم الآية ١ ـ ٦ :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))


اللغة :

الجنة الوقاية. ويؤفكون يصرفون. لووا رؤوسهم أمالوها أو حركوها. يصدون يعرضون.

الإعراب :

كسرت همزة إن بعد يعلم ويشهد لأن اللام دخلت على خبرها ، ولولاها لكانت مفتوحة. وما كانوا يعملون «ما» مصدرية والمصدر المنسبك فاعل ساء أي ساء عملهم. ودخلت اللام على «قولهم» لأن تسمع تتضمن معنى تصغي. وجملة كأنهم مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كأنهم. وعليهم متعلقة بمحذوف مفعولا ثانيا ليحسبون. وانّى موضعها النصب على الحال إذا كانت بمعنى كيف وعلى المفعول المطلق إذا كانت بمعنى أي وعلى الظرفية إذا كانت بمعنى أين. وسواء مبتدأ وعليهم متعلق به لأن سواء بمعنى مستو ، واستغفرت أصلها أأستغفرت والهمزة للتسوية لا للاستفهام ولذا صح وقوعها خبرا للمبتدإ. وقيل : سواء خبر مقدم والفعل مؤول بمصدر مبتدأ مؤخر. ونحن لا نرى وجها لهذا التأويل حيث لا توجد أداة مصدرية ، والمعنى يصح بدون تأويل.

المعنى :

أثنى القرآن على الصحابة وجهادهم في سبيل الإسلام ، ونوّه بمنازلهم وأقدارهم ، وأيضا تحدث في العديد من سوره عن المنافقين وتلوّنهم وإصرارهم على الكيد للإسلام ونبيه. ولا نهاية للحديث عن المنافقين لأن أكاذيبهم وأساليبهم الملتوية لا حد لها ولا نهاية .. فلا بدع أن يتكرر الحديث عنهم ، وأن يخصهم الله سبحانه بسورة في كتابه ، وقد وصفهم فيها بأقبح الصفات ، منها :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ). أضمروا الكفر بالله ، والعداء لنبيه الكريم ، وأظهروا الحب والايمان به وبرسالته


(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). المراد بشهادة الله علمه تعالى ، والمعنى ان المنافقين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهو لهم بالمرصاد ، وأيضا النبي يعلم حقيقتهم ، ولكنه مأمور أن يعاملهم بالظاهر لا بالواقع ، قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وأبلغ ما قرأت في الفرق بين المؤمن والمنافق قول الإمام علي (ع) : «لسان المؤمن من وراء قلبه ، وقلب المنافق من وراء لسانه». أي ان لسان المؤمن تابع لقلبه ، فلا يقول إلا ما يعتقد ، أما المنافق فقلبه تابع للسانه ، ولسانه يدور مع أهوائه وأغراضه .. ونتيجة ذلك ان المنافق لا قلب له إلا الهوى والغرض.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ). كثيرا ما كانت تتكشف نوايا المنافقين ودسائسهم ضد الرسول (ص) والمسلمين ، وكانوا كلما حدث شيء من ذلك اتخذوا من ايمانهم وقاية يتقون بها غضب النبي (ص) ، ويسترون بها ما يكيدون لرسول الله ، وما يصدون عن الايمان به وبرسالته (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من التلون والمكر والغدر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ). المراد بآمنوا انهم عرفوا بين الناس بالايمان .. وإلا فإن المنافقين لم يؤمنوا بالله طرفة عين ، وقوله تعالى ، ثم كفروا أي ثم عرفهم الناس بأنهم كانوا يظهرون الايمان ويضمرون الكفر ، أما قوله : فطبع على قلوبهم فمعناه انها لا تهتدي الى الرشد والخير بعد أن أعماها الهوى والضلال. وتقدم مثله في الآية ١٣٧ من سورة النساء» ج ٢ ص ٤٦٢.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ). جمال في المنظر ، وقبح في المخبر ، وبتعبير الإمام علي (ع) قلوبهم دويّة ـ أي مريضة ـ وصفاحهم نقية (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لأنهم يتحدثون بكلام المخلصين ، ويقولون في الدنيا وأشيائها بقول الزاهدين (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) .. تمثال من خشب ، ولكنه يأكل ويشرب ، وكل من عمي عن الهدى فهو ميت الأحياء.

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ). هنا تدب فيهم الروح


ولكن روح الجبن والهلع من هتك الأستار وكشف الأسرار ، فلا يسمعون صوتا إلا ويظنونه صيحة العذاب تأخذهم من حيث لا يشعرون .. وقد زادهم هذا الجبن والهلع لؤما وحقدا عليكم أيها المخلصون فاحذروا من غيلتهم وغدرهم ، وفوّتوا عليهم الفرصة بكل ما تستطيعون (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). هذا ذم بصيغة الدعاء والتعجب ، والمعنى هم ملعونون لأنهم انصرفوا عن الحق وأعرضوا عنه تمردا وعنادا.

وكل ما جاء في وصف المنافقين في عهد الرسول (ص) فهو صورة طبق الأصل لعملاء اليوم الذين يتآمرون مع أعداء الله والوطن على الكيد لأمتهم والغدر بها .. ولا جريمة أعظم من خيانة الأمة ، ولا شيء أفظع من غش الإنسان لأخيه الإنسان.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ). إذا نصحهم ناصح وقال لهم : توبوا مما أنتم فيه يغفر الله لكم ورسوله أصروا على الباطل وأعرضوا عن الحق ، وهزّوا رؤوسهم ساخرين متكبرين ، لأنهم أجلّ وأعظم ممن يحتاج إلى الرسول ورضوانه كما يزعمون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). لا جدوى من استصلاحهم ـ إذن ـ فلا جدوى من طلب المغفرة لهم .. ان الله غفور رحيم ، ما في ذلك ريب ، ورحمة الله وسعت كل شيء إلا من يأباها ويتكبر عليها .. وليس من الرحمة في شيء أن ترحم من لا يرى نفسه محتاجا إلى رحمتك (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ما داموا مصرّين على الفسق. وتقدم مثله في الآية ٨٠ من سورة التوبة ج ٤ ص ٧٥.

ليخرجن الأعز منها الأذل الآية ٧ ـ ١١ :

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ


أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

الإعراب :

الأعز فاعل ليخرجن ، والأذل مفعول ، ونون يخرجن للتوكيد. وربّ أي يا ربي. ولو لا هلا. وأصل فأصدّق فأتصدق ومحلها النصب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب لو لا. وأكن أي ان أخرتني أكن.

المعنى :

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا). ضمير «هم» يعود الى المنافقين ، والمراد بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين ، وكان أغنياء الأنصار يعينون هؤلاء الفقراء ، وينفقون عليهم ، فقال المنافقون للأغنياء : لا تنفقوا أموالكم على أحد من المهاجرين ، لعلهم يستيأسون من النبي فيتفرقوا عنه. فردّ عليهم سبحانه بقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ). أتأمرون الناس بالبخل وعدم الإنفاق على من آمن بالله وجاهد في سبيله ، والله خالق الخلق ومالكه ورازقه ووارثه ، وهو القادر على ان يغني المؤمنين من فضله؟. ولكنكم لا تعقلون هذه الحقيقة أيها المنافقون.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). قال المفسرون : لهذه الآية قصة تتصل برأس النفاق عبد الله بن أبي ، وبغزوة بني المصطلق ، وكانوا فرعا من خزاعة يسكنون على مقربة من مكة ، وقد عز عليهم أن يكون للإسلام شأن في الجزيرة العربية ، فتهيئوا لحرب النبي (ص) بقيادة زعيمهم الحارث


ابن أبي ضرار ، ولما علم النبي بادر اليهم بجيشه قبل أن يزحفوا الى المدينة ، وخرج ابن أبي مع جيش المسلمين رغبة في الغنيمة ، فنصر الله نبيه على أعدائه ، وغنم الكثير من أموالهم ، ورأى أن يفضل في العطاء الفقراء المهاجرين لينشلهم من الفقر ، ويقرب الفوارق بين الأغنياء والفقراء ، فامتلأ عبد الله بن أبي غيظا ، وأخذ يحرض بعض الأنصار ، وقال فيما قال : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). يريد بالأعز نفسه ، وبالأذل النبي (ص) فنزلت هذه الآية ، وتخاذل ابن أبي ، ولم يجد ما يتعلل به .. وقال كثير من المفسرين : انه نطق بكلمة الكفر هذه لخلاف وقع بين أحد أتباعه وأجير لعمر بن الخطاب.

وكان لعبد الله بن أبي ولد صالح ، اسمه عبد الله أيضا ، ولما علم بأمر أبيه ذهب الى رسول الله (ص) وقال له : لقد كان من أمر أبي ما قد علمت ، فإن كنت تريد قتله فمرني وأنا أقتله لأني أخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر الى قاتل أبي ، فأقتل مؤمنا بكافر وادخل النار ، فأجابه الرسول : بل نرفق بأبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا.

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). هذا رد على ابن أبي الذي وصف نفسه بالأعز .. وعزة الله سبحانه بأنه القاهر فوق عباده ، وعزة الرسول بإظهار دينه على جميع الأديان وخذلان أعدائه ومحادّيه ، أما عزة المؤمنين فبنصرة الحق وأهله (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ان العز بالايمان والتقوى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). من تدبر هذه الآية والتي قبلها يرى أن المراد بذكر الله هنا الجهاد ، لأن الله سبحانه ذكر أولا أن العزة له ولرسوله وللمؤمنين ، ثم نهى المؤمنين وحذرهم من الغفلة والتشاغل عن ذكر الله بالدنيا وحطامها ، وجعل نتيجة هذا التشاغل الخسران أي الخزي والمذلة دنيا وآخرة ، وليس من شك ان الخزي والمذلة نتيجة حتمية لحب الحياة والخوف من الجهاد والاستشهاد .. ولا شيء أصدق وأدل على هذه الحقيقة من حياة المسلمين والعرب في هذا العصر.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). المراد بإتيان الموت ظهور أماراته


ومقدماته ، والمعنى بادروا الفرصة بالإنفاق مما أعطاكم الله من فضله ، ومن أهمل حتى يأتي يومه الأخير فإنه يعض يد الندامة ، ويتضرع لله أن يمهله بعض الوقت .. ولكن هيهات أن يرجع ما فات. وتقدم مثله في الآية ٤٤ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٥٦ (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). الأجل محتوم لا تقديم له ولا تأخير ، ومن أضاع الفرصة فلا شيء له إلا الحسرة والكآبة. وتقدم مثله في الآية ١٤٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٧١ فقرة «الأجل محتوم» والآية ٣٤ من سورة الأعراف.


سورة التّغابن

١٨ آية مدنية. وقيل مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فمنكم كافر ومنكم مؤمن الآية ١ ـ ٦ :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

اللغة :

ذات الصدور السرائر والضمائر. وبال أمرهم عاقبة أمرهم ، وأصل الوبال الثقل.


الإعراب :

الضمير في «بأنه» للشأن. وجملة تأتيهم خبر مقدم لكانت ورسلهم اسمها. وبشر مبتدأ وجملة يهدوننا خبر ، وجاز الابتداء بالنكرة لمكان الاستفهام.

المعنى :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). بعض الكائنات تسبّح بلسان المقال ، وبعضها بلسان الحال والدلالة. وتقدم مثله في أول سورة الجمعة (لَهُ الْمُلْكُ) يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء (وَلَهُ الْحَمْدُ) على عظيم إحسانه ونيّر برهانه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من غير آلة وروية بل بكلمة «كن».

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). الإنسان ـ في نظر الإسلام ـ بحريته وارادته ، ولا انسانية بلا حرية .. فله أن يختار الايمان حتى ولو كان أبواه كافرين ، وان يختار الكفر حتى ولو كان أبواه مؤمنين ، ولا يجبر على أحدهما دون الآخر .. أبدا لا إكراه في الدين وإلا بطل التكليف والحساب والثواب ، وبعد ان أعطى سبحانه لعبده الحرية التي يكون بها إنسانا أمره بالايمان وفعل الخير ، ونهاه عن الكفر وفعل الشر ، وأقام له الأدلة على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه ـ من عقله وفطرته ، فآمن بعض الناس وكفر آخرون ، والله عليم بإيمان من آمن وكفر من كفر ، ولكل حسب إيمانه وعمله من الثواب والعقاب.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لحكمة بالغة ، ولا شيء وجد في هذا الكون عبثا .. ولا فرق بين القول بالصدقة والقول بأن الشيء ، حتى النظام ، يوجد نفسه بنفسه. وتقدم مثله في الآية ٤ من سورة النحل ج ٤ ص ٤٩٦ (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). قد يصور الفنان كائنا من الكائنات فيحسن ويتقن الصورة على أكمل وجه ، ولكن لا شيء له إلا التزيين وللتشكيل تماما كالباني يضع حجرا فوق حجر ، أما مادة البناء والتصوير فهي من الذي يقول للشيء : كن فيكون .. والله سبحانه خلق مادة الإنسان بكلمة «كن» وصوّره في أحسن


تقويم يميزه عن سائر المخلوقات. وتقدم مثله في الآية ١٤ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٦١ (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فينبئكم بما كنتم تعملون ، ومن زحزح عن النار .. فقد فاز (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). المعنى واضح ، وتقدم مرات ، ويتلخص بأن الله بكل شيء عليم.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). الاستفهام للتوبيخ ، والخطاب لمن كفر بمحمد (ص) من المشركين ، وأعلن الحرب عليه وعلى دعوته ، وقد ذكّرهم سبحانه بالأمم التي خلت من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود .. كذبوا الرسل فأصابهم في الدنيا الهلاك والدمار ، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا). ذلك إشارة الى ما حل بالأمم الماضية من العذاب لأنهم كذبوا الرسل ، وقد جاؤوهم بالدلائل القاطعة على نبوّتهم ، ومع ذلك أصروا على الكفر لا لشيء إلا لأن الرسل بشر من جنسهم ، فكيف يهتدون بهم! .. وجهلوا ان الهداية تكون بالعلم أيا كان مصدره .. والغريب من أمرهم انهم قالوا لمن دعاهم الى التوحيد : أبشر يهدوننا؟. وما قالوا هذا لمن دعاهم الى عبادة الأحجار ، بل سمعوا له وأطاعوا دون نقاش وجدال .. ولا غرابة فهذه هي طبيعة الجهل .. ومهما شككت فإني لا أشك ان أهل البصائر لو خيّروا بين العمى مع العلم ، وبين الجهل مع البصر لاختاروا العمى لأنه لا يقرّب بعيدا ، ولا يبعد قريبا ، ولا يصور السواد بياضا والبياض سوادا ، أما الجهل فيصور الهداية ضلالا ، والضلال هداية ، والحق باطلا والباطل حقا.

(وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). وكل كائن يشهد بلسان المقال أو الحال ان الله غني عن الخلق وطاعتهم ، حميد في جميع صفاته وأفعاله.

ذلك يوم التغابن الآية ٧ ـ ١٣ :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ


بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

اللغة :

أكثر ما يستعمل الزعم في الادعاء الباطل. والمراد بالنور هنا القرآن. ويوم الجمع هو يوم القيامة حيث يجمع الله فيه الأولين والآخرين. وقال كثير من المفسرين : ان التغابن هنا من الغبن حيث يغبن يوم القيامة أهل الحق أهل الباطل ، والذي نفهمه نحن ان المراد به الربح والخسران حيث يربح المحقون ، ويخسر فيه المبطلون ومهما يكن فالنتيجة واحدة ، ويكفّر يغفر.

الإعراب :

ان مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انهم لن يبعثوا ، والمصدر سادّ مسدّ مفعولي زعم. وإذا وقعت «بلى» بعد النفي تبطله ، ويكون ما بعدها مثبتا.


يوم يجمعكم «يوم» ظرف متعلق بينبئون ، ويجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي اذكروا يوم يجمعكم. وصالحا صفة لمقدر أي عملا صالحا. وخالدين حال. وأبدا ظرف مؤكد لخالدين ومتعلق به. وبئس المصير المخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم. ما أصاب من مصيبة «ما» نافية و «من» زائدة.

المعنى :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). بيّنا طريقة القرآن في إمكان البعث ، ورد شبهات المنكرين وان من أبدع الخلق من لا شيء يهون عليه أن يجمع أجزاءه بعد تفرقها ، وبسطنا الكلام في أساليب شتى عند تفسير آيات البعث ، منها الآية ٤ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٢ فقرة «الحساب والجزاء حتم».

وتسأل : لقد دعا رسول الله (ص) إلى الايمان بالبعث ، وخاصمه فيه عبدة الأوثان .. وبديهة ان البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، وهذا المبدأ إلهي انساني حيث أقرته جميع الشرائع ، وعليه تكون البينة على الرسول (ص) ، فما هو الوجه ليمين الرسول مع ان المفروض ان يجابه المنكرين بالحجة الدامغة لا باليمين؟. ثم هل يثبت البعث بمجرد اليمين؟.

الجواب : أولا ان الله سبحانه حكى عن المنكرين انهم سألوا النبي عن البعث كمستخبرين لا كمجادلين في هذا الموقف ، ولم يقولوا : من يحيي العظام وهي رميم ، كما جاء في سورة يس ، أو يقولوا : أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون كما في سورة الصافات ، وحيث اكتفى المنكرون بمجرد السؤال اكتفى الله ورسوله بمجرد الجواب مع التأكيد باليمين .. ولما قالوا في موقف آخر : من يحيى العظام وهي رميم ، قال لهم : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ليأتي الجواب على وفق السؤال في كل من الموقفين.

ثانيا : ان الذين كفروا ومعهم المنافقون كانوا يعتقدون ان النبي (ص) لا يريد لهم الخير والإصلاح ، وانما يريد من دعوته الاستعلاء والتفضل عليهم تماما كما


اعتقد الكافرون من قبل بني الله نوح : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) ـ ٢٤ المؤمنون. فأقسم النبي ان دعوته دعوة الحق ، ومعنى هذا انه لا يريد إلا الحق. ومثله قول شعيب لقومه حين ظنوا به ظن السوء : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) ٨٨ هود.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا). ما دام البعث حقا ، والحساب والجزاء حقا فعلى كل انسان أن يؤمن بالله ورسوله والنور أي القرآن ، وانما وصفه سبحانه بالنور لأنه يخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر الى نور العلم والايمان ، ويهديهم الى سبيل السلام : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ ١٦ المائدة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ). يحصي الله سبحانه على عباده أقوالهم وأفعالهم وأهدافهم ومقاصدهم في الحياة الدنيا ، ويعاملهم يوم القيامة بحسبها ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ. وسمي اليوم الآخر بيوم الجمع حيث يجمع الله فيه الخلائق للحساب والجزاء ، وبيوم التغابن أيضا حيث يربح المحق نفسه ، ويخسرها المبطل.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). بعد أن ذكر سبحانه أنه جامع الناس ليوم لا ريب فيه ـ قال : ان الناس في هذا اليوم نوعان : الأول آمن بالله ورسله وكتبه ، وتزود الأعمال الصالحة من دنياه لآخرته ، وهذا النوع من الناس يفوز غدا بمغفرة الله ورضوانه ، وبنعيم لا ينتهي أمده. ولا ينقص مدده. والنوع الثاني ضالتّه الدنيا يطلبها انّى كانت وتكون غير مكترث بدين أو ضمير ، ولا بحلال أو حرام ، وهذا النوع في الآخرة من الخاسرين ، مأواه جهنم وساءت مصيرا.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). يدل ظاهر الآية ان كل شر في الدنيا هو بقضاء الله وقدره .. وهذا يتنافي مع قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ـ ٣٠ الشورى. وأجبنا عن هذا مفصلا عند تفسير


الآية ٧٨ من سورة النساء ، ويتلخص الجواب بأن أية كارثة يكون مصدرها الطبيعة كالزلزال والقحط فإنها تنسب الى الطبيعة مباشرة ، واليه تعالى بواسطة إيجاده للطبيعة ، وهذه هي المعنية بقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وأية مصيبة يكون مصدرها الإهمال وفساد الأوضاع فإنها تنسب الى سوء اختيار المهمل والمفسد ، وهي التي عناها سبحانه بقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ). ان الله سبحانه يعامل الإنسان بما يختاره لنفسه ، فإن اختار لها الهدى والخير ، وسلك صراطه القويم ـ أخذ الله بيده وشمله بعنايته ، وله عنده ثواب المهتدين ، وان اختار الضلال ، وسلك اليه سبيله خذله الله وأو كله الى نفسه ، ثم يرده الى عذاب السعير (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). يعلم من يرحم نفسه فيرحمه ، ومن يعرضها للهلاك عامدا فيهلكه (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). على الرسول البلاغ ، وعلينا السمع والطاعة. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٩٢ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٢٣ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). وهو كافي المتوكلين عليه ، وولي المخلصين له.

عداوة الأزواج والأولاد الآية ١٤ ـ ١٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))


اللغة :

فتنة محنة توقع في المهالك. ما استطعتم غاية جهدكم. ومن يوق من يحفظ ويحترز. وان تقرضوا أي وإن تنفقوا. وشكور أي يثيب الطائعين والشاكرين.

الإعراب :

من أزواجكم وأولادكم «من» للتبعيض. ما استطعتم «ما» مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتكم. وخيرا خبر يكن مقدرة أي أنفقوا يكن الإنفاق خيرا ، أو نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). جاء في كتب التفسير والحديث ان قوما من مكة أسلموا ، وأرادوا الهجرة الى رسول الله (ص) فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، فنزلت هذه الآية تحذر المؤمنين من طاعة بعض الأزواج والأولاد. وقلنا أكثر من مرة : ان سبب النزول لا يخصص دلالة العام ، وانما هو فرد من أفراده ، وعليه فكل زوجة لا تتعاون مع زوجها على ما فيه صلاح الطرفين دينا ودنيا فهي عدوة له ، وأيضا هو عدو لها إذا استنكف عن هذا التعاون معها ، ونفس الشيء يقال في حق الوالد والولد ، بل والأم والأخ ، وكل من يفعل ما يفعله العدو فهو عدو كائنا من كان.

وبهذه المناسبة نسجل ان انتقال الإنسان من العزوبة إلى الحياة الزوجية أشبه بانتقاله من الدنيا إلى الآخرة ، إما إلى جنة وإما إلى نار ، وفي الأغلب إلى الجحيم لا إلى النعيم .. فإن الحياة في العصر الحاضر مع كثير من الزوجات والأولاد ـ عذاب وجحيم .. فلا الولد يرضى من والده إلا بالخضوع والطاعة ، ولا الزوجة ترضى من زوجها إلا أن تكون هي الرجل ، وهو المرأة.

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لا فرق بين العفو والصفح والمغفرة إلا باللفظ ، والقصد من الجمع بينها مجرد التأكيد والترغيب ..


بعد أن حذر سبحانه من بعض الأزواج والأولاد لأنهم يفعلون ما يفعله العدو ـ قال : ان تعفوا عنهم رحمة بهم وطمعا في إصلاحهم فإن الله تعالى يعاملكم بالمثل لأنه يرحم من يرحم ، ويغفر للذين يغفرون حيث تحسن الرحمة والمغفرة بلا ريب ، وإلا فان بعض الذنوب لا يجوز تجاهلها بحال. وتومئ الآية الى ان حياة الأسرة لا تستقيم إلا بالصبر والعفو عن كثير ، وانه لو حاسب كل واحد من أبنائها الآخر على كلمة يقولها أو حركة تبدر منه لساد بينهم التنازع والتخاصم وعاشوا في جحيم.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). كل ما شغفت به وضدك عما انت مسؤول عنه دنيا وآخرة فهو فتنة ، مالا كان أو ولدا أو زوجة أو جاها أو فنا وما اليه ، وانما خص سبحانه بالذكر الأموال والأولاد لأنها أعظم فتنة من غيرها ، ومهما عظمت ملذات الدنيا فإن الذي عند الله خير وأبقى. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٢٨ من سورة الأنفال ج ٣ ص ٤٦٩.

وفي تفسير الطبري وغيره : ان رسول الله (ص) كان يخطب فجاء الحسن والحسين ، وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل الرسول وأخذهما ورفعهما في حجره ، ثم قال : صدق الله العظيم : انما أموالكم وأولادكم فتنة ، رأيت هذين فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما. ثم أخذ يخطب.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ابذلوا جهد المستطاع في صيانة أنفسكم عن الفتنة والابتعاد عن محارم الله ، ولا ترتكبوا شيئا منها حرصا على الأموال أو إيثارا للأولاد .. وذهب البعض إلى ان قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ـ ١٠٢ آل عمران فيه تشديد ، وان قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فيه تخفيف ، ثم رتب على ذلك ان قوله : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) ناسخ لقوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) أما نحن فلا نرى أي فرق بين الآيتين لأن على الإنسان أن يتقي غضب الله ما استطاع ، ولا شيء عليه فيما لا يستطيع. أنظر ج ٢ ص ١٢٢.

(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا). اسمعوا دعوة الله ورسوله ، وراعوها بالطاعة والتقوى ، وأنفقوا الفضل من أموالكم في سبيل الله يكن ذلك (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ـ ٧ الإسراء. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). إن بذل المال والنفس طريق الى الفلاح والنجاح ،


والشح بهما سبيل الخذلان والخسران ، لأن الشح والحرص من أقوى البواعث على التقحم في القبائح والجرائم. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٩ من سورة الحشر.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ). يستقرض سبحانه عباده وعنده خزائن السموات والأرض ، ويضاعف الأجر للمطيعين تفضلا منه ، ويغفر للتائبين رحمة بهم ، ويشكر للمحسنين بإعطاء الكثير على القليل ، ويمهل العاصين حتى كأنه قد غفر عنهم. وتقدم مثله في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة ٢ ١٢ من سورة المائدة و ١١ من سورة الحديد (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) لا يخفى عليه شيء (الْعَزِيزُ) الذي لا يقهر (الْحَكِيمُ) فيما خلق ودبر.


سورة الطّارق

١٢ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فطلقوهن لعدتهن الآية ١ ـ ٥ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))


اللغة :

إذا طلقتم أي إذا أردتم الطلاق. والعدة بكسر العين ، والمراد بها هنا الزمان الذي تتربص فيه المرأة عقيب الطلاق. وفاحشة مبيّنة معصية ظاهرة كالزنا الثابت بأربعة شهود. وبلغن أجلهن أشرفن على إتمام العدة. فهو حسبه كافيه. وبالغ أمره لا يفوته ما أراد. وقدرا أي تقديرا. وأولات الأحمال الحبليات. وأجلهن انقضاء عدتهن.

الإعراب :

لعدتهن على حذف مضاف أي لزمن عدتهن ، ومعناه ان الطلاق مقيد بزمان معين ويأتي التفصيل ، وعليه تكون اللام للتوقيت مثل كتبته لخمس ليال بقيت من شهر كذا والمجرور متعلق بطلقوهن. والمصدر من أن يأتين متعلق بباب السببية المقدرة أي بسبب إتيان الفاحشة. واللائي يئسن مبتدأ أول ، فعدتهن مبتدأ ثان وثلاثة أشهر خبره ، والجملة خبر الأول. وان ارتبتم اعتراض. واللائي لم يحضن مبتدأ والخبر محذوف أي فعدتهن كذلك. وأولات الأحمال مثل واللائي يئسن. وأجرا مفعول يعظم على معنى يعطيه أجرا عظيما.

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآيات جملة من أحكام الطلاق ، وهي :

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ). الخطاب للنبي (ص) والمراد به جميع المكلفين لأن التشريع يشمل الجميع ، والمعنى إذا أراد المسلم أن يطلق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدة ، بحيث يكون الوقت الذي تطلق فيه جزءا من العدة ، وقد أجمعت المذاهب الاسلامية على ذلك ، ولكن قال السنة : ان هذا التحريم لا يفسد الطلاق الفاقد لهذه الشروط ، بل يقع صحيحا ولكن يأثم المطلق. وقال الشيعة الإمامية : بل يقع لغوا من الأساس ،


لأن النهي عنه هو نهي عن ترتيب الآثار عليه تماما كالنهي عن بيع الخمر فإن القصد منه عدم الأثر لهذا البيع لا تحريم التلفظ بصيغته.

واستدل الإمامية على ذلك بما جاء في صحيحي البخاري ومسلم : ان ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر الرسول (ص) عن ذلك؟. فقال له : مره فليراجعها ، ثم يتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم ان شاء أمسك بعد ، وان شاء طلّق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل ان يطلق لها.

فقوله (ص) : ان شاء أمسك وان شاء طلّق قبل أن يمس هو تفسير وبيان لقوله : «فليراجعها» وان المراد به ان المرأة ما زالت في عصمته ، وعليه أن يمسكها على كل حال ، ولا خيار له بين الإمساك والطلاق إلا إذا طلّق مع الشرط .. هذا هو معنى فليراجعها ، وليس صحيحا انه أمر بالرجوع عن الطلاق كما قال فقهاء المذاهب الأخرى ، لأن الرجوع عن الطلاق إمساك للزوجة الذي جعله الرسول نتيجة لقوله : «فليراجعها» وبديهة ان الشيء لا يكون نتيجة لنفسه .. هذا ، الى ان الرجوع عن الطلاق لا يرفع الإثم السابق كي يأمر به النبي (ص).

واتفقت المذاهب قولا واحدا على ان الزوجة غير المدخول بها تطلق على كل حال حتى ولو كانت في الحيض لأنه جل وعز قال : «لعدتهن» وغير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ـ ٤٩ الأحزاب ج ٦ ص ٢٢٩.

٢ ـ (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ). اعرفوا ابتداء العدة وانتهاءها لأن لها أحكاما تخصها كالنفقة للمعتدة ، وحق الرجوع عن الطلاق للمطلق إذا كان رجعيا ، وحقها بالرجوع عن البذل إذا كان خلعيا ، وتحريمها على الأزواج حتى تخرج من العدة ، وما إلى ذلك مما ذكره الفقهاء في كتبهم (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فيما فرضه عليكم من أحكام العدة.

٣ ـ (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ). المراد ببيوتهن بيوت السكن لا بيوت الملك تماما مثل قوله تعالى : وقرن في بيوتكن وقوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله ـ ٣٤ الأحزاب ... واتفق الفقهاء على ان المطلقة


الرجعية تستحق النفقة بما فيها السكنى ما دامت في العدة ، واختلفوا في نفقة المعتدة من الطلاق البائن. فقال الحنفية : لها النفقة حائلا كانت أم حاملا. وقال المالكية : ان كانت حائلا فلا شيء لها من النفقة إلا السكنى ، وان تكن حاملا فلها كل النفقة. وقال الشافعية والامامية والحنابلة : لا نفقة لها ان كانت حائلا ، ولها النفقة ان كانت حاملا.

ومن أوجب النفقة للمعتدة بشتى أنواعها أوجب بقاءها في بيت الزوج الذي طلقت فيه الى أن تنتهي عدتها ، ويحرم عليها أن تخرج منه كما يحرم عليه إخراجها لقوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ .. وَلا يَخْرُجْنَ (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي تثبت الفاحشة عليها شرعا ، واتفقوا على ان الزنا فاحشة تستدعي إخراجها من البيت ، واختلفوا في غيره. والذي نراه ان المراد بالفاحشة هنا الزنا فقط لأنه هو وحده المتبادر الى الافهام من كلمة الفاحشة حين تنسب الى النساء (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ). تلك إشارة الى شروط الطلاق وأحكام العدة ، وهي أحكام الله وحدوده التي بينها في كتابه وعلى لسان نبيه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأنه عرضها لغضب الله وعذابه ، وفي آية ثانية : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ ١٤ النساء.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). ما يدريك أيها المطلق ان يؤلف الله بين القلبين بعد تنافرهما ، وترجع المياه الى مجاريها؟. وفيه إيماء الى ان للقلوب تارات وساعات ، وان على الإنسان أن لا يقول لشيء : اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله. ومن هنا قال الإمام علي (ع) : «عرفت الله بفسخ العزائم» أي ان هذا الفسخ دليل ظاهر على ان فوق تدبير الإنسان تدبيرا أقوى وأعظم.

٤ ـ (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). إذا أو شكت العدة على الانتهاء فالمطلّق بالخيار ان شاء عدل عن عزمه وأرجع المطلقة الى عصمته ، وان شاء بقي على حكم الفراق ، فتنقطع العصمة بينه وبينها ، وفي الحالين عليه أن لا يضارها في شيء ويؤدي حقها كاملا ، وهذا هو المراد من الإمساك بمعروف والفراق بمعروف. وتقدم مثله في الآية ٢٣١ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٥١ .. ثم ان المطلقة لا تخلو من أن تكون آيسة أو حاملا أو


حائلا ، ويأتي الكلام عن الأوليين ، أما عدة الحائل فثلاثة اطهار بما فيها الطهر الذي طلقت فيه ، هذا عند الإمامية والمالكية والشافعية ، أما عند الحنفية والحنابلة فعدتها ثلاث حيضات. أنظر تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٤٠.

٥ ـ (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). اتفق فقهاء المذاهب على اعتبار شهادة العدلين بموجب هذه الآية ، واختلفوا في أي شيء تعتبر هذه الشهادة ، هل تعتبر في الرجوع عن الطلاق ، أو في إيقاع الطلاق؟ قال فقهاء السنة : تعتبر في الرجوع عن الطلاق ، ولكن بعضهم أوجب هذا الاشهاد على الرجعة كالشافعية ، وبعضهم قال : انه مندوب كالحنفية.

وقال الشيعة الإمامية : لا يجب الاشهاد على الرجعة ، ويجب على الطلاق. وقال الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ ورئيس قسم الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة في كتابه «الأحوال الشخصية» ص ٢٧١ طبعة ١٩٥٨ ، قال :

«يرى الشيعة الامامية ان من أهم شروط الطلاق حضور شاهدين عدلين لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) .. وفي ذلك يقول أحد علمائهم : وهذا أنفع وسيلة الى الوئام بين الزوجين لأن لأهل الصلاح تأثيرا في النفوس وإعادة مياه الصفاء الى مجاريها ، وإذا لم تنجح نصائحهم فلا أقل من تخفيف الطلاق وتقليله بسبب اشتراط العدلين».

وقال الدكتور محمد يوسف موسى معلقا على ذلك : «وهذه وجهة نظر يجب عدم التغاضي عنها ، فإن الأخذ بهذا الرأي يمهد السبيل للصلح في كثير من الحالات حقا».

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ). الخطاب للشهود ، ومعناه لا تغيروا شيئا من الشهادة وأدوها على وجهها بقصد إحقاق الحق ، لا طلبا لمرضاة المشهود له ، ولا نكاية للمشهود عليه. وتقدم مثله في الآية ٢٨٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٥١.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). انما ينتفع ببيان الله ويعمل بأحكامه المتقون حقا ، أما الذين لا يؤمنون إلا بأنفسهم ومصالحهم فأولئك كالانعام همهم بطونهم ، والنار مثوى لهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من


حرام الله الى حلاله ، ومن معصيته الى طاعته ، ويغنيه بفضله عمن سواه (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). والذي نفهمه من هذه الآية ان الرزق لا ضابط دقيق له ولا قياس محكم ، فقد يأتي من غير احتساب ، وقد يذهب أيضا من غير احتساب .. وكم من حادث سعيد يفاجأ به الإنسان دون أن يترقبه .. وكم من حوادث سيئة ومؤلمة يصاب بها لم تكن لتخطر له على بال .. وما من شك ان بعضها من إهماله وتهاونه ، وبعضها من تدبير مدبر الكائنات.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه ، والتوكل على الله هو الأخذ بسنته في العمل والسعي وراء الأسباب : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك. وفي الحديث : «اعقلها وتوكل». (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) فلا عبث ولا فوضى ولا صدفة. وفي آية ثانية : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان. وفي ثالثة : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ٨ الرعدج ٤ ص ٣٨٤.

٦ ـ (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ). اختلف فقهاء السنة في سن الآيسة اختلافا بلغ حد التشويش والاضطراب ، فمن قائل : هي خمسون. وقائل خمس وخمسون. وقال ثالث : ستون. ورابع اثنتان وستون. وفرّق خامس بين نساء العرب والعجم ، وقال : ان نساء العرب أقوى طبيعة. وقال سادس : تأخذ كل امرأة بعادة عشيرتها. وكثير منهم سكتوا ولم يحددوا سن الآيسة بشيء .. وأيضا اختلفوا في معنى قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فمنهم من قال : ان المراد به ان شككتم في حكم العدة لا في حال المرأة وبلوغها سن اليأس. وقال آخرون : بل المراد الشك في حال المرأة ويأسها.

أما الشيعة الإمامية فقالوا : سن القرشية ستون ، وغيرها خمسون مستندين في ذلك الى روايات عن أهل البيت. وأيضا قال الشيعة : أقل سن تحيض معها الأنثى تسع سنين. ويتفق هذا مع ما جاء في كتاب المغني لابن قدامة ـ من السنة ـ : «ان أقل سن تحيض معها المرأة تسع سنين لأن المرجع في ذلك الى الوجود ، وقد وجد من تحيض لتسع ، وروي عن الشافعي انه رأى امرأة لها أولاد أولاد ، وعمرها احدى وعشرون سنة».


وقرأت في بعض الصحف ان بنتا في هذا العصر حملت قبل أن تبلغ التاسعة من عمرها. وبعد ، فقد اختلف السنة والشيعة في تفسير هذه الآية ، قال فقهاء السنة : المراد باللائي يئسن من الحيض من انقطع حيضها لكبر سنها ، والمراد باللائي لم يحضن من لم تر دم الحيض بعد لصغر سنها ، وكل من هاتين عدتها ثلاثة أشهر إذا طلقت بعد الدخول.

ويتفق هذا مع قول بعض الكبار من فقهاء الإمامية كالسيد المرتضى وابن زهرة وابن سماعة وابن شهرآشوب. وذهب أكثر الإمامية الى ان المراد باللائي يئسن من الحيض المرأة التي يشك في يأسها بعد أن انقطع عنها الدم ، ولا يعلم هل انقطع لبلوغها سن اليأس أو لعارض آخر؟. وفسّروا قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) بالشك في حالها ، وانها هل بلغت سن اليأس؟ أما المراد باللائي لم يحضن عندهم فالشابات اللائي علم انهن تجاوزن سن الصغر ولم يبلغن سن اليأس ، ولكن انقطع عنهن الحيض لسبب آخر غير اليأس والصغر ، وكل من هاتين عدتها ثلاثة أشهر ، وقد استندوا في ذلك الى روايات عن أهل البيت ، وعلى هذا فالآية لم تتعرض لعدة الآيسة إيجابا ولا سلبا.

٧ ـ (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). اتفق فقهاء السنة والشيعة على ان عدة المطلقة الحامل هي وضع الحمل ، واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها. قال السنة : هي تماما كالمطلقة كل منهما تعتد بوضع الحمل. وقال الشيعة : بل الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل والأربعة أشهر وعشرة أيام جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ـ ٢٣٤ البقرة. وبسطنا الكلام عن هاتين الآيتين وجمعنا بينهما في ج ١ ص ٣٦٢.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً). هذا مثل قوله تعالى في الآية ٢ والآية ٣ من هذه السورة : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ولا نعرف غرضا لهذا التكرار إلا المزيد من الحث على التقوى والترغيب فيها .. على ان الترغيب هناك جاء بعد الأمر بإقامة الشهادة على وجهها ، وجاء هنا بعد بيان عدة الآيسة وأولات الأحمال (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ)


لتعملوا به مخلصين ، وتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة .. ومرة أخرى يواصل سبحانه الحث على التقوى ويقول عز من قائل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً). لا حصر لمنافع التقوى وفوائدها ، ومنها ، على سبيل المثال ، ما ذكره سبحانه في هذه الآيات : المخرج من الضيق دنيا وآخرة ، والرزق بلا احتساب ، والنصرة والكفاءة من الله ، وتيسير الأمور ، وتكفير السيئات ، وفوق ذلك كله زيادة الأجر ومضاعفته ، ولكن : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٤٠ الزخرف.

لينفق ذوسعة الآية ٦ ـ ٧ :

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

اللغة :

الوجد بضم الواو وسكون الجيم القدرة في المال. ولا تضاروهن لا تعملوا على الإضرار بهن. وأتمروا تشاوروا. تعاسرتم اختلفتم ، يقال : تعاسر البيّعان إذا لم يتفقا. ومن قدر بضم القاف وكسر الدال من ضيق عليه في الرزق.


الإعراب :

من وجدكم بدل من حيث. ولتضيقوا منصوب بأن مضمرة بعد اللام. ولينفق اللام للأمر.

المعنى :

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ). قال تعالى في أول هذه السورة : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ). وقلنا في تفسير ذلك : ان الله سبحانه أوجب على المطلق سكنى المعتدة ، وأشرنا الى أقوال المذاهب التي فرّقت بين المعتدة الرجعية والبائنة .. والآية التي نحن بصددها تتصل بقوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) لأنها تحدد البيت الذي يجب أن تسكنه المطلقة ما دامت في العدة ، تحدده بقدرة الزوج وطاقته ، فيسكنها مثل ما يسكن ، فإن كان موسعا وسع ، وان كان مضيقا ضيق (وَلا تُضآرُّوهُنَ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ). لا تتعمدوا اضرارهن بالتضييق عليهن في النفقة والمسكن لتلجئوهن الى تركه والخروج منه .. والإضرار بالآخرين من أكبر الكبائر بخاصة الإضرار بالزوجة والجار.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). إذا طلقها وهي حامل وجبت لها النفقة بما فيها السكنى حتى تنتهي العدة بوضع الحمل ، سواء أكان الطلاق رجعيا أم بائنا ، والفرق في وجوب نفقة العدة وعدمها انما هو بين الرجعية والبائنة غير الحامل حيث تجب للأولى دون الثانية.

وقال جماعة من الفقهاء : حين قال سبحانه : «أسكنوهن» أطلق ولم يقيد بالحمل ، وحين قال : (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) قيد بالحمل ، واستنتجوا من ذلك ان السكنى تجب لكل مطلقة حاملا كانت أم حائلا ، رجعية كانت أم بائنة ، أما النفقة فإنها تجب للحامل حتى ولو كانت بائنا.

ونقول في الجواب : لو أخذنا بهذا الاستنتاج لوجب أن تختص نفقة العدة بالحامل فقط التي هي محل الإجماع ، أما غير الحامل فلا نفقة لها حتى ولو كانت رجعية .. ولا قائل بذلك على الإطلاق ، حيث انعقد اجماع المذاهب على وجوب


النفقة للمعتدة الرجعية ، والمصدر السنة النبوية التي هي بيان وتفسير لكتاب الله بخاصة فيما يعود الى حلال الله وحرامه ، ولا شيء في السنة يدل على ان البائنة تجب لها السكنى وان كانت حائلا.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). قال الامامية : ان الأم لا تجبر على إرضاع وليدها إلا إذا انحصر الإرضاع بها ، وان أرضعته في هذه الحال أو في غيرها فلها أن تطالب بأجرة الرضاع ، سواء أكانت في عصمة الزوج أم لم تكن ، فإن كان للطفل مال فأجرتها من ماله وإلا فمن مال الأب الموسر وان علا ، وان كان معسرا وجب عليها أن ترضعه مجانا .. وهذا قريب جدا مما نقله ابن قدامة في كتاب المغني عن المذاهب الأربعة سوى ان مالكا قال: تجبر الزوجة على الإرضاع ان كان أمثالها يرضعن أولادهن عادة ، وان كان مقامها أرفع من ذلك فلا تجبر.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ). الخطاب للآباء والأمهات ، والمعنى تشاوروا فيما بينكم وتدارسوا بإخلاص وروية فيما تستدعيه مصلحة الولد وفي أجرة الرضاع ، وتساهلوا وتسامحوا إذا كان في نفس أحدكم شيء على الآخر رحمة بالطفل ورغبة في مصلحته فإنه أمانة الله عندكم (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى). ان اختلف الأب والأم في اجرة الرضاع وطلبت الأم أكثر من غيرها فللأب أن ينتزع الطفل منها ، ويعطيه الى أجنبية ترضعه ، وكذا إذا وجدت من ترضعه مجانا ، وأبت الأم إلا الأجرة ، أما إذا رضيت الأم بما ترضى به غيرها فهي به أولى لأنها أبرّ وأرحم.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ). هذه الآية صريحة الدلالة في أن الوضع المادي للزوج شرط أساسي في تقدير نفقة الزوجة ، فالموسر يفرض عليه نفقة الموسر ، والمعسر يفرض عليه نفقة المعسر ، من كل حسب طاقته ، وهذا الحكم لا يقبل التعديل لأن الله سبحانه علله ببديهة العقل والفطرة ، وهو قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) وتعليل الحكم الشرعي بالعقل الفطري يجعله مبرما وقطعيا لا يقبل التأويل ولا التخصيص ولا النسخ. وتقدم الكلام عن إرضاع الزوجة لولدها وعن تقدير نفقتها ، تقدم ذلك


عند تفسير الآية ٢٣٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٥٦ (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً). لا شيء يدوم على حال واحدة إلا وجهه الكريم ، فكم من ضيق أعقبته فسحة ، وعند تناهي الشدة يكون الرخاء ، وصدق الله العظيم (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) حتى ولو أخذ العسر بالخناق.

وكأين من قرية الآية ٨ ـ ١٢ :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

اللغة :

عتت أعرضت استكبارا. ونكرا منكرا شديدا. وبال أمرها عاقبة أمرها. والمراد بالذكر القرآن وبالرسول محمد (ص).


الإعراب :

كأين بمعنى كم الخبرية وتفيد الكثرة. والذين آمنوا صفة لأولي الألباب. ورسولا مفعول لفعل مقدر أي وأرسل رسولا. خالدين حال من هاء يدخله لأنها تعود الى من التي هي بمعنى الجماعة. وأحسن هنا تتضمن معنى أعطى. رزقا مفعول لأحسن أي أعطاه رزقا حسنا. ومثلهن مفعول لفعل محذوف أي وخلق من الأرض مثلهن.

وعلما تمييز.

المعنى :

تقدم مضمون هذه الآيات مرات ومرات ، لذا نفسرها بإيجاز (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ). أرسل سبحانه رسله الى كثير من الأمم الماضية يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، فأعرضوا عنادا واستكبارا (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً). أخذهم الله بسوء العذاب بعد أن أعذر اليهم بحجج ظاهرة وبينات واضحة (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً). الوبال والعاقبة بمعنى واحد ، ومن أجل هذا قد يتوهم بأن الجملة الثانية بمعنى الأولى. ولدى التأمل يتبين ان هذا مثل قول القائل لمن لاقى جزاء الشر .. جوزيت بالشر لأن فاعل الشر لا يجزى إلا به (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً). يكون هذا العذاب في الآخرة ، ودلت عليه كلمة (أعد). وذاك الحساب والعذاب كان في الدنيا ، ودلت عليه كلمة «عذبناها» ويتلخص معنى الآيتين بقوله عز من قائل : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ـ ١١٤ البقرة.

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا). ان كنتم تعقلون معنى الايمان حقا وتزعمون انكم من أهله فاقرنوا القول بالفعل والعلم بالعمل ، وإلا فما أنتم بمؤمنين (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). أرسل رسوله محمدا بالقرآن ليتلوه على الناس ويهتدي به أهل العقول ويخرجوا من ظلمات الكفر والآثام الى نور الحق والايمان (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ


خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً). للمؤمنين الصالحين عند ربهم أجر عظيم ، ورزق كريم. وتكرر هذا المعنى مجملا ومفصلا في العديد من الآيات ، والقصد هو الترغيب في الصالحات وعمل الخيرات.

سبع سموات ومن الأرض مثلهن :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ). تعددت الأقوال حول السموات السبع والأرضين السبع ، والمعقول منها ما يلي :

القول الأول : يجب أن نؤمن ـ على سبيل الإجمال ـ بوجود سبع سموات وسبع أرضين ؛ وندع التفصيل لعلم الله.

القول الثاني : ان الكون الأكبر يضم سبعة أكوان ، ولكل كون منها كواكب لا يحصى عددها ، ومن جملتها كوكب أرضي ، وبين كل كون وآخر ملايين الملايين من السنين الضوئية .. وقد عبّر سبحانه عن هذه الأكوان السبعة بالسماوات السبع ، أما قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) فهو يشير الى ان في كل كون من السبعة كوكبا أرضيا .. وقد أشرنا الى هذا القول عند تفسير الآية ١٧ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٦٢.

القول الثالث : ان ذكر السبع لا يفيد الحصر بها ، وانما خصها الوحي بالذكر لأن الذين خوطبوا بالقرآن آنذاك كانوا يسمعون عن الأفلاك السبعة وكواكبها دون غيرها. قال المؤرخون : ان الكلدانيين اشتهروا بعلم الهيئة ، وتوصلوا الى معرفة الكواكب السبعة السيارة ، وتوارثت الأمم هذه المعرفة عن الكلدانيين جيلا بعد جيل حتى زمن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، فخاطبهم عن السماء بما اعتادوا أن يتخاطبوا به فيما بينهم .. وقد أشرنا الى هذا القول عند تفسير الآية ٢٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٧٨. ويظهر لنا الآن ان هذا أرجح الأقوال ، فقد أطلعنا ـ ونحن ننقب في المصادر لتفسير الآية التي نحن بصددها ـ على حديث نبوي وقول لابن عباس يرجحان ان ذكر السبع لا يراد به الحصر ، أما الحديث فقد نقله الشيخ المراغي عن الصحابي ابن مسعود ، وهو «ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن ، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».


وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة ، انظر تفسير الآية ٤٧ من سورة الذاريات .. فمن أين أخذ هذا العلم محمد الذي نشأ في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب؟ كما قال : هل أخذه من بحيرة الراهب أم من رهبان الأديرة الآخرين؟ وهل يفتري محمد على الله ، وهو يدعو الى كتاب يقول بلسان صريح فصيح : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) ـ ٩٣ الأنعام ويقول : (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ـ ٦١ طه؟.

وفي تفسير الطبري ان ابن عباس تلميذ الإمام علي سئل عن قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟. فقال : «لو حدثتكم عن تفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها» لأن عقولهم لا تحتمل ، فيشكّون في صدق القرآن.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) يدبر السموات والأرضين وما فيهن وبينهن بحكمته ، ويمسكهن بقدرته ، ويتقنهن بعلمه (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). من الحكم البالغة في خلق السموات والأرض أن تعلموا ان الله قادر على كل شيء حتى البعث بعد الموت ، وانه عالم بكل شيء حتى مقاصدكم وأفعالكم ، فتطيعوه وتخافوا من غضبه وعذابه.


سورة التّحريم

١٢ آية مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لم تحرم ما أحل الله الك الآية ١ ـ ٥ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

اللغة :

تحرم تمتنع عن. فرض شرع. أظهره الله عليه أطلعه عليه. عرّف بعضه أخبر


ببعضه. وأعرض عن بعض لم يخبر بالبعض الآخر. وصغت مالت. والتظاهر التعاون ، والظهير المعين. وسائحات صائمات أو المتأملات اللائي يتعظن بمواعظ الله سبحانه وهي مأخوذة من السياحة بالعقل والقلب.

الإعراب :

تحلة مصدر مثل تكرمة. وقال صاحب البحر المحيط : انما جمع في قوله : «قلوبكما» مع انهما قلبان فرارا من الجمع بين ضميري التثنية في كلمة واحدة ، ويصح أن يقال : قلباكما. هو مولاه مبتدأ وخبر والجملة خبر ان. وجبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه ، وظهير خبر عن الكل ، ولفظ فعيل يقع على الواحد والجمع ، وبعد ذلك منصوب بظهير. وخيرا صفة لأزواج وكذا ما بعده.

ملخص القصة :

اختلف المفسرون والرواة في سبب نزول هذه الآيات ، ونثبت هنا ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة ، قالت : كان رسول الله (ص) يحب الحلواء والعسل ، وفي ذات يوم شرب عسلا عند زوجته زينب بنت جحش ، فتواطأت أنا وحفصة على ان الرسول إذا دخل على إحدانا أن تقول له : اني أجد منك ريح مغافير (١). وهكذا كان. فقال الرسول : لا بل شربت عسلا عند زينب ولن أعود ، وقد حلفت ، ولا تخبري بذلك أحدا.

وفي تفسير الشيخ المراغي ان التي دخل عليها النبي (ص) وحرّم على نفسه العسل أمامها هي حفصة ، فأخبرت عائشة بذلك مع ان النبي (ص) استكتمها الخبر. وقال الشيخ المراغي : وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي (ص).

ومهما قيل عن سبب النزول فإن ظاهر الآيات يدل بوضوح ان النبي (ص) كان

__________________

(١). صمغ حلوله رائحة كريهة ، وكان الرسول يكره ان تكون له ريح غير طيبة.


قد امتنع عن شيء أحله الله له لسبب من الأسباب ، وانه قد أسر بذلك الى بعض أزواجه ، وأمرها بالكتمان ، ولكنها خالفت وأفشت ، فعاتب الله سبحانه نبيه الكريم على امتناعه عما أحل الله له ، وهدد أزواجه اللائي لا يستمعن الى أمره.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ). الخطاب لرسول الله ، والمراد بالتحريم هنا مجرد الامتناع والالتزام بالترك لتطييب خاطر من تحسن العشرة معه ، تماما كما لو ألزمت نفسك بترك الدخان إرضاء لزوجتك التي يؤذيها ذلك ... فليس المراد بالتحريم هنا التحريم الشرعي .. مستحيل .. كيف وكتاب الله الذي نزل على قلب محمد (ص) يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ـ ٩٠ المائدة. ويقول أيضا : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ٥٨ يونس.

وقيل : ان الشيء الذي حرمه النبي (ص) على نفسه هو العسل وانه قصد بذلك مرضاة زوجته حفصة حيث ساءها أن يشرب النبي (ص) العسل عند زوجته زينب بنت جحش ، فطيّب قلب حفصة بالامتناع عن شرب العسل. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). العفو والغفران من الله سبحانه لا يستدعي وجود الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان الأنبياء يطلبون من الله الصفح والمغفرة ، ومثله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ـ ٤٣ التوبة.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ). قيل : ان النبي (ص) كان قد حلف على ترك شيء أحله الله له ، فأمره سبحانه أن يدع يمينه ويكفّر .. وفي رأينا ـ والله أعلم ـ ان النبي (ص) لم يحلف ، ولكنه وعد بالترك ، ووعد المعصوم يجب الوفاء به على كل حال ، سواء أكان الموعود به مندوبا أم مباحا ، لأن وعده أقوى وأعظم من يمين غيره ومن ثم يصح ان يطلق اليمين على وعده. (وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). الله يتولى امور النبي والمؤمنين ، وينصرهم على المتآمرين ، وهو اعلم بالحكمة والمصلحة التي على أساسها يشرع احكام اليمين وغيرها.


(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً). يدل هذا على ان النبي (ص) بشر يسرّ إلى أزواجه كما يسرّ الناس إلى أزواجهم ، وانه لا يمتاز عنهم إلا بنزول الوحي عليه ، والعصمة عن محارم الله وكل ما يشين. أنظر ج ٥ ص ٢١٣ فقرة «حقيقة النبوة» (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). ضمير «به» وأظهره وبعضه يعود إلى الحديث الذي أسره النبي (ص) إلى بعض أزواجه ، والضمير المستتر في نبأت يعود إلى حفصة ، والضمير في عرّف يعود إلى النبي (ص) ، والمعنى ان حفصة أفشت سر النبي على الرغم من وصيته لها بالكتمان ، ولما أذاعت وأفشت أخبر الله نبيه الكريم بخبرها ، فأطلعها النبي (ص) على بعض ما أفشت ، وأعرض عن بعضه رفقا بها .. وفيه إيماء الى انها تجاوزت الحد في الإفشاء (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا). سألته من الذي أخبره بخبرها (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ـ أي مالت إلى الحق ـ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ). ضمير عليه يعود إلى رسول الله ، وضمير تتوبا وتظاهرا وقلوبكما إلى عائشة وحفصة ، كما في كتب التفسير والحديث ، ونختار منها أربعة : اثنين من التفسير واثنين من الحديث ، فقد جاء في تفسير الطبري ما نصه : «قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره للتي أسر اليها النبي (ص) حديثه ، والتي أفشت اليها حديثه ، وهما حفصة وعائشة ، وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل». وقال الرازي ما نصه أيضا : «ان تتوبا الى الله خطاب لعائشة وحفصة». وقال البخاري في الجزء السادس من صحيحه بعنوان «سورة التحريم» : «سأل ابن عباس عمر بن الخطاب : من اللتان تظاهرتا على النبي (ص) من أزواجه؟ فقال : تلك حفصة وعائشة» ومثله في القسم الثاني من الجزء الأول من صحيح مسلم بعنوان «باب في الإيلاء واعتزال النساء». وفيه أيضا سؤال آخر حول تتوبا ، قال مسلم في الباب المذكور :

«سأل ابن عباس عمر : من المرأتان من أزواج النبي (ص) اللتان قال لهما ان تتوبا فقد صغت قلوبكما؟ قال عمر : هي حفصة وعائشة».

وعلى هذا يكون معنى الآية ان عائشة وحفصة قد تعاونتا على النبي (ص) ، وأساءتا اليه بإفشاء سره على الرغم من وصيته بالكتمان ، وان الله سبحانه قد أمرهما


بالتوبة والانابة عن هذه الخطيئة ، فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما الى أمر الله والإخلاص لرسوله ، وان أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن الله وليه وناصره ، وأيضا يعينه ويؤازره جبريل وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين.

وتسأل : لما ذا كل هذا التهديد والوعيد؟ وما هو شأن عائشة وحفصة حتى يحشد عليهما قوة الله وقوة جبريل ومعه جميع الملائكة وصالح المؤمنين؟.

الجواب : ان عائشة وحفصة غير مقصودتين بالخصوص من هذا التهديد ، وانما المقصود أولا التنويه بعظمة الرسول ومكانته ، ثم افهام الجميع بما فيهم حفصة وعائشة والمنافقين والكافرين وكل من أضمر أو يضمر السوء للرسول الأعظم (ص) افهام الجميع بأن النبي (ص) في حصن حصين من قوة الله وملائكته وأوليائه.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً). ما الذي أغراكن يا نساء النبي بالتظاهر عليه وعلى معصيته؟. هل اغتررتن بجمالكن أم بدينكن وطاعتكن لله ورسوله ، أم بماذا؟. ولتعلم كل واحدة منكن ان الرسول الأعظم (ص) لو طلقكن بكاملكن لأبدله الله خيرا منكن جمالا وكمالا ودينا وإخلاصا ثيبات إن شاء ، وإن شاء أبكارا أو هما معا.

وقودها الناس والحجارة الآية ٦ ـ ٩ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا


يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

اللغة :

قوا أنفسكم احفظوها وصونوها. والوقود بفتح الواو حطب النار ، والتوبة النصوح الخالصة.

الإعراب :

وأهليكم عطف على أنفسكم. ونصبت نارا بنزع الخافض أي احفظوا أنفسكم وأهليكم من النار. ما أمرهم «ما» مصدرية والمصدر المنسبك منصوب بنزع الخافض أي لا يعصون الله في أمره. ونصوح مصدر وصف به التوبة على المبالغة. ويوم لا يخزي «يوم» منصوب بيدخلكم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). المراد بالحجارة هنا الأصنام لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء. والمعنى إذا كان المؤمن يشعر بالمسؤولية أمام الله عما يقول ويفعل ، ويخاف من غضبه وعذابه ـ فإن عليه أن يعلم انه مسؤول أيضا أمام الله عن أهله وأولاده ، وان من واجبه أن يمد يده الى العمل على صلاحهم وتقويمهم ، وإذا كان الأب يفعل الكثير من أجل ولده حرصا عليه وعلى مستقبله


في هذه الحياة الفانية فأولى له أن يعمل لسعادته في الحياة الباقية ، وأن يقيه ما هو أشد وأعظم من غدرات الزمان وضرباته .. ولكن .. ما يصنع الأب المؤمن مع هذا الجيل الجديد الذي يريد من الآباء أن يخضعوا لأمره ، وينزلوا على رأيه؟

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) على الجفاة الطعام الذين طغوا وبغوا في الحياة الدنيا على عباد الله وعياله (لا يَعْصُونَ ـ أي الملائكة الغلاظ ـ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). يسرعون الى طاعة الله من غير توان ، وهو يقول لهم مشيرا الى كل سفاح اثيم : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ـ ٣١ الحاقة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ان هذا اليوم يوم حساب وجزاء على الأعمال ، لا يوم توبة ومعذرة ، وبأي شيء يعتذر الذين تدور مصانعهم ليل نهار لإنتاج الموت والدمار؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). عسى من الله معناها الوجوب والتوبة النصوح هي الصادقة في الاقلاع الخالصة لوجه الله وحده ، وهي مبسوطة لكل من أذنب وأساء ، وأيضا هي حسنة عظمى تجبّ ما قبلها من السيئات ، وتستوجب ثواب الله وجنانه (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ). هذا تعريض بأعداء النبي ، وانه مخزيون دنيا وآخرة ، والا فمن الذي يتصور ان الله يخزي محمدا يوم القيامة ، وقد كانت حياته في الدنيا رحمة للناس أجمعين.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تقدم مثله في الآية ١٢ من سورة الحديد (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أبدا .. لا رأفة ولا هوادة مع الطغاة اللئام .. ولا شيء لهم عند الحق والعدل إلا السيف ، وأي شرع وقانون يرحم ويتساهل مع الذين يستهينون بحياة الناس ، وينشرون الرعب والذعر في القلوب ، ويقولون : من لم يكن معنا وعبدا لنا فهو علينا وعدو لنا .. وما له عندنا إلا السلاح الجهنمي؟. وبالتالي ، فإن الرحمة والرأفة هي القضاء على العدوان وأهله .. والله سبحانه رحيم في ناره تماما كما هو رحيم في جنته.


أمرأة نوح وأمرأة لوط الآية ١٠ ـ ١٢ :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

اللغة :

تحت عبدين أي زوجتين لنبيين عظيمين. فخانتاهما أي بالكفر والنفاق لا بالزنا والفجور. والإحصان العفاف. والفرج شق جيب القميص ، وكل شق هو فرج. والمراد بالنفخ الخلق. وبالروح الحياة ، وأضافها اليه سبحانه لأنه مصدرها وموجدها.

الإعراب :

ضرب بمعنى جعل ، وامرأة نوح مفعول أول مؤخر ، ومثلا مفعول ثان مقدم. وصالحين صفة لعبدين. وشيئا مفعول مطلق ليغنيا. ومريم عطف على امرأة فرعون. والقانتين جمع للذكور والإناث تغليبا للذكورية على التأنيث.

المعنى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا


صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). لا فرق بين الرجل والمرأة أصلا وطبيعة ومسؤولية ، وكل منهما جزء متمم للآخر ولا غنى لأحدهما عن صاحبه ، وفي الرجال الصالح والطالح ، وفي النساء الصالحة وغير الصالحة .. والآية بعيدة عن المقارنة بين الرجل والمرأة ، وانما ضرب الله مثلا بها من دون الرجل تعريضا ببعض أمهات المؤمنين اللائي تظاهرن على الرسول الأعظم (ص) كما جاء في الآية ٤ من هذه السورة ، فإنه سبحانه بعد أن ذكر ان بعض نساء النبي قد تظاهرن عليه ، وهددهن ـ ذكر هنا ان القريب من الله تعالى من قرّبته الأخلاق والأعمال حتى ولو كان أقرب الناس لأشقى الأشقياء ، وان البعيد عنه تعالى من أبعدته السيئات والآثام حتى ولو كان أقرب الناس لأتقى الأتقياء .. أبدا لا محاباة ولا قرابات .. لا شيء على الإطلاق يجدي في يوم القيامة إلا التقى والإخلاص.

وقد ضرب سبحانه مثلا لذلك بامرأة نوح وامرأة لوط ، فقد كانت الأولى تؤذي زوجها وتقول : انه مجنون ، وتفشي أسراره بين المشركين ، وكانت الثانية تعين الطغاة على زوجها وتدلهم على أضيافه .. ومن أجل هذا وصفهما سبحانه بالخيانة التي هي ضد الأمانة لا بمعنى الزنا ، فإن المسلمين يعتقدون انه ما زنت امرأة نبي قط.

والخلاصة ان الله سبحانه أدخل النار امرأة نوح وامرأة لوط لكفرهما ونفاقهما مع انهما كانتا زوجتي نبيين عظيمين ، فكذلك سبحانه يدخل النار أزواج الرسول الأعظم (ص) اللائي تظاهرن عليه ان لم يتوبا الى الله وإليه.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). بعد أن ضرب سبحانه مثلا بامرأة نوح وامرأة لوط على ان قرابة الخبيث من الطيب لا تنفعه شيئا ـ ضرب مثلا بامرأة فرعون على ان صلة الطيب بالخبيث لا تضره شيئا ، فقد آمنت آسية بنت مزاحم بالله وكتبه ورسله وكفرت بزوجها فرعون ، فهددها بالقتل فآثرت مرضاة الله ونعيمه على ملك فرعون وسلطانه ، وتبرأت منه ومن عمله ، وسألت الله سبحانه أن يشملها برحمته ، وينعم عليها من فضله. وفي تفسير الطبري : ان فرعون أرسل رجاله اليها ، وقال لهم : أنظروا أعظم صخرة تجدونها ، فإن بقيت


على الايمان بالله فالقوا الصخرة عليها ، وان رجعت فهي امرأتي ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء ، فأبصرت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، فانتزع الله روحها ، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. وفي بعض التفاسير ان طلبها من الله أن يبني لها عنده بيتا هو من باب الجار قبل الدار.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ). أحصنت فرجها كناية عن طهارتها مما رماها به اليهود من البغاء والفجور ، والمراد بالنفخ من روحه تعالى انه منح الحياة لوليدها السيد المسيح تماما كما منح الحياة لآدم : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ـ ٢٩ الحجر. والمعنى ان الله سبحانه ضرب مثلا للمؤمنات بالسيدة العفيفة مريم التي آمنت بالله ورسله وكتبه ، فاصطفاها على نساء عصرها ، وصانها من الدنس بفضله ؛ وحملت وليدها بكلمته. وتقدم مثله في أكثر من آية. أنظر تفسير الآية ١٧١ من سورة النساء ج ٢ ص ٥٠٠.



الجزء التّاسع والعشرون



سورة الملك

٣٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تبارك الذي بيده الملك الآية ١ ـ ١١ :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))


اللغة :

تبارك تعالى عما لا يليق. بيده الملك له التصرف المطلق. ليبلوكم : ليظهر أعمالكم بالامتحان. وطباقا أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان كما تقول : هذا مطابق لذاك. والتفاوت الاختلاف أي لا ترى اختلافا في إتقان الصنع. والمراد بالفطور هنا الخلل والنقص. وكرّتين مرتين والمراد بهما هنا أكثر من مرة ومرة بعد مرة. وينقلب يرجع. وخاسئا ذليلا. وحسير كليل. والرجم الرمي. وتميز تتفرق وتتقطع من حنقها. وسحقا. بعدا وهلاكا.

الإعراب :

تبارك فعل ماض ، وقالوا لم ينطق له بمضارع. والمصدر من ليبلوكم متعلق بخلق. وأيكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا تمييز. وطباقا صفة لسماوات وهي مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مطابقة. وكرّتين قائم مقام المفعول المطلق أي رجعتين مثل ضربته مرتين. وخاسئا حال من البصر. والذين كفروا خبر مقدم وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر. وسحقا مصدر مؤكد أي سحقهم الله سحقا.

المعنى :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). علا سبحانه بحوله على كل شيء وهيمن على كل شيء ، ولا يعجزه شيء .. ومن آثار هذه العظمة انه (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). من اين جاءت الحياة؟ وكيف ذهبت؟ لا تفسير لذلك إلا بوجود الحي الذي لا يموت. أنظر ج ٣ ص ٢٣١ فقرة «من اين جاءت الحياة»؟. أما الحكمة من الحياة في الدنيا ثم الموت ثم البعث فهي ان تظهر أفعال الإنسان في دنياه ، ويثاب عليها أو يعاقب في آخرته. وفي الحديث ان رسول الله (ص) حين تلا هذه الآية فسرها بقوله : «أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع الى طاعته».


وأيضا من آثار عظمته تعالى انه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وذكر السموات السبع لا يفيد الحصر. انظر آخر سورة الطلاق فقرة «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». وطباقا أي يطابق بعضها بعضا في دقة الصنع ، والمعنى حقّق وتفحص وتأمل جيدا ، وعاود النظر مرات ومرات في خلق الكائنات فإنك لا ترى ولن ترى إلا الحكمة والدقة والا النظام والانسجام والتناسب والتناسق في كل شيء .. أبدا لا تفاوت في إتقان الصنع ، ولا خلل ولا نقص في شيء من أصغر صغير الى أكبر كبير .. سل العقول مجتمعة : من الذي أعطى كل شيء خلقه فقدره تقديرا؟. هل الصدفة أتت بكل هذه الأسرار والعجائب؟ وهل هي قاعدة تطرد في كل شيء ومبدأ لا ينقضه شيء؟ ومتى بهرت الصدفة الألباب وحيرت؟ ولا جواب عند العقول العليمة السليمة إلا بالرجوع الى قوة تكمن وراء الطبيعة والاعتراف بالعجز عن ادراك حقيقتها وكنه عظمتها.

وهنا يكمن السر لتاريخ الايمان بالله الذي وجد بوجود الإنسان بل بوجود كل كائن يحس ويشعر ، ونحن على علم اليقين بأن الجاحد لو فكر وتدبر خلق السموات والأرض لآمن بالله من حيث يريد أو لا يريد. قال «لورد كيلفن» أحد علماء الطبيعة البارزين : «إذا فكرت تفكيرا عميقا فإن العلوم سوف تضطرك الى الاعتقاد بوجود الله. وهذا ما أعلنه القرآن بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ٢٨ فاطر.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ). الدنيا هنا تأنيث الأدنى ، وهي صفة للسماء أي انه تعالى زيّن بالمصابيح السماء التي هي أقرب إلينا من سائر السموات ، والمراد بالمصابيح النجوم ، أما الرجم فقد يكون بالشهب التي تحترق ـ غالبا ـ في الفضاء قبل أن تصل الى الأرض ، وقد يكون بالحجارة المتساقطة من النجوم ـ النيازك ـ وكل عات متمرد فهو شيطان قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) ـ ١٤ البقرة واعتدنا أي أعددنا. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٦ من سورة الصافات ج ٦ ص ٣٣٠ والآية ١٢ من سورة فصلت ص ٤٨٠ من المجلد المذكور.


وقال البعض في تفسير هذه الآية : ان الدجالين يوهمون انهم يعلمون الغيب من النظر الى النجوم ، وان الله سبحانه سوف يرجمهم يوم القيامة بشرر من نار جهنم لأنهم كانوا يقولون رجما بالغيب! .. وهذا التفسير أيضا رجم بالغيب.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ). قال صاحب الظلال : قد يظن ان هذا تعبير مجازي .. ولكن جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها ، وتنطوي على بغض وكره! .. وأكثر المفسرين على ان المراد ان لجهنم لجبا وكلبا عظيمين ، يكاد من يراها يحسبها غضبى على الكافرين بحيث توشك أن تتقطع أوصالها من الحنق عليهم. وهذا التفسير أقرب الى الافهام والتصديق من تفسير صاحب الظلال الذي يشبه تفسير أهل الظاهر.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ). المراد بخزنة جهنم الموكلون بها ، والقصد من سؤال الخزنة هو توبيخ المجرمين وإيلامهم تماما كقولك لمن أخذ بجريمته : هذا ما جنته يداك.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ). الأنبياء في ضلال كبير! .. ولما ذا لأنهم يدعون الى التوحيد والعدل .. أما العتاة الطغاة الذين يعبدون الحطام والأصنام فهم على بصيرة من أمرهم .. هذا هو منطق أهل الضلال والفساد في كل زمان ومكان (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ). جاءهم الرسل بالبينات من عند الله ، فكذبوا علوا واستكبارا ، وقالوا لهم : أنتم ضالون مضلون تفترون على الله الكذب .. ولما أحاط بهم العذاب ذلوا وندموا واعترفوا بأنهم هم الضالون عن الهدى المكذبون بالحق .. ولكن جاء هذا بعد فوات الأوان ، فكان جزاؤهم الشهيق والحريق. وتقدم مثله في الآية ١٣٠ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٦٥ والآية ٧١ من سورة الزمر ج ٦ ص ٤٣٣.


فامشوا في مناكبها الآية ١٢ ـ ١٩ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

اللغة :

ذات الصدور الضمائر. واللطيف هنا من اللطف بمعنى الرفق. وذلول من الذل بكسر الذال وهو اللين ضد الصعوبة ، والذل بضم الذال الصغار والهوان. ومناكب الأرض طرقها ونواحيها. والنشور البعث. وتمور تهتز وتضطرب. وحاصبا من حصبت الرجل إذا رميته بالحصباء أي الحصى. ونكبر الله عذابه. صافات باسطات أجنحتهن. ويقبضن يضممنها.

الإعراب :

بالغيب متعلق بمحذوف حال من فاعل يخشون ، والتقدير كائنين بالغيب على


معنى غائبين عن أعين الناس. الا يعلم من خلق الهمزة للاستفهام ، ولا للنفي ، وفي يعلم ضمير مستتر يعود الى ربهم ، ومن مفعول ، والمعنى الله يعلم مخلوقاته. والمصدر من أن يخسف بدل اشتمال من «من في السماء» ومثله أن يرسل ، وإذا للمفاجأة ، وجملة هي تمور حال من الأرض. ونذير مبتدأ مؤخر وكيف خبر مقدم. ونكير اسم كان وكيف خبرها. وأصل نكير نكيري.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). بعد أن ذكر سبحانه ما أعد للمجرمين من العذاب ذكر ما أعد للمتقين من الثواب على مبدأ الجمع بين الترغيب والترهيب ، والمتقون هم الذين يتورعون عن محارم الله في جميع الحالات ، لا فرق عندهم علم الناس بحالهم أم لم يعلموا لأنهم لا يفعلون إلا لوجهه الكريم ، وهو يعلم السر وأخفى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). ومن علم الضمائر فبالأولى أن يعلم السر من القول. وتقدمت هذه الآية في سورة هود ج ٤ ص ٢٠٥ ، أما التي قبلها فتقدمت في سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٨٢.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). الله عالم بكل شيء لأنه خالق كل شيء ، وصفة اللطف تشير الى انه تعالى لا يعاجل المسيء بالعقوبة رفقا به ورحمة له ، عسى أن يؤوب الى رشده ويقلع عن ذنبه.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ). الله سبحانه رحيم بعباده ، عليم بما يحتاجون اليه في هذه الحياة ، ولذا خلق لهم الأرض ، وقدر فيها الأقوات والأرزاق ، وجعلها طوع ارادتهم تستجيب لحوائجهم ومصالحهم ، وبتعبير الشيخ عبد القادر المغربي : «الأرض لنا نعمت المطية المدربة والذلول المجربة» .. ولكنه تعالى أناط ذلك بالسعي والعمل ، فقد شاءت حكمته أن يربط المسببات بأسبابها ، والنتائج بمقدماتها ، ومن خرج على هذه السنة فقد تمرد على سنّة الله وارادته (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). هذا تهديد ووعيد لمن يطلب الرزق بغير الكد والسعي المشروع (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ). وقال عز


من قائل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ـ ٤ البلد أي كادحا يجاهد ويكابد كما قال كثير من المفسرين.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً). المراد بمن في السماء خالق السماء ، وانما خصها سبحانه بالذكر مع انه خالق كل شيء ـ لأن الناس يعبرون عن تدبيره تعالى بتدبير السماء .. بعد أن ذكّر سبحانه بنعمة الأرض وخيراتها حذّر من عاقبة البغي والفساد فيها ، فإن هذه النعمة تتحول الى شر ووبال على المجرمين والمفسدين لأن الذي جعلها «ذلولا» للعباد قادر على ان يخسفها بهم بالزلازل والاهتزاز فتبتلعهم وما يملكون ، أو يرسل عليهم ريحا عاتية ترميهم بالحصباء فتفنيهم عن آخرهم. وتقدم مثله في الآية ٦٨ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٦٥.

(فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ). لقد أنذركم الله وحذركم سوء العاقبة ، فكذبتم بالإنذار وسخرتم من التحذير ، وعما قريب يحل بكم العذاب الذي كنتم به تكذبون ومنه تسخرون (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي نكيري ، ونكيره تعالى عذابه ، والمعنى لقد سمعتم أخبار الذين أخذهم الله بذنوبهم ، وعلمتم كيف نزل بهم العذاب .. ألا تخشون ان يصيبكم ما أصابهم؟. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٦٩ من سورة التوبة والآية ٤٥ من سورة سبأ

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). هذه الآية تدعو الجاحدين الى التفكير في خلق الله وقدرته تعالى ، ومن آثار هذه القدرة خلق الطير وتحليقه في السماء .. فمن الذي خلقه على هيئة أهلته للطيران ، وهدته الى أن يبسط جناحيه في أكثر الأحيان ، ويضمهما حينا بعد حين تماما كما يفعل السابح؟ هل هي الصدفة والطبيعة العمياء أو قانون بقاء الأصلح : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ـ ٣٨ الأنعام تشعر كما تشعرون ، وتسير على نواميس طبيعية كما تسيرون ، فالطائر يطير بجناحيه والإنسان يمشي على رجليه ، ويسافر في السيارة أو الطائرة أو في سفينة ماء أو فضاء ، وكل هذه الأسباب وما اليها هي من صنع الله تعالى أوجدها كوسيلة الى المقاصد والغايات. وتقدم مثله في الآية ٧٩ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٦.


يمشي مكبا على وجهه الآية ٢٠ ـ ٣٠ :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

اللغة :

المراد بالجند هنا المعين. ولجوا تمادوا وتجاوزوا الحد. والعتو التمرد. ومكبا على وجهه أي يسير ووجهه الى الأرض. وسويا معتدلا ومستقيما. وأنشأكم خلقكم ومثله ذرأكم. والمراد بالأفئدة هنا المدارك والعقول. والزلفة والزلفى الاقتراب ،


يقال : تزلف فلان أي تقرب. وسيئت قبحت حين انعكس عليها أثر الحزن. وتدعون بتشديد الدال من الدعاء والطلب لا من الدعوى والزعم. وغورا مصدر بمعنى اسم الفاعل أي غائرا في الأرض. والمعين الماء الغزير أو الجاري على وجه الأرض المنظور بالعين.

الإعراب :

أم بمعنى بل. ومن هذا مبتدأ وخبر ، وتشعر هذه الجملة بالتحقير والاستخفاف. والذي عطف بيان. ومكبا حال من فاعل يمشي ومثله سويا. وقليلا صفة لمقدر و «ما» زائدة أي تشكرون شكرا قليلا. وضمير رأوه يعود الى يوم القيامة. وزلفة حال أي قريبا لأن الرؤية هنا بصرية. أو رحمنا «أو» للإبهام.

المعنى :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ). يتصل هذا بقوله تعالى في الآية السابقة : أم أمنتم من السماء الخ .. بعد أن خوّفهم سبحانه من خسف الأرض بهم ، وإرسال الحاصب عليهم ـ سألهم ، جلت حكمته ، بقصد التوبيخ والتقريع : ما ذا تصنعون إذا نزل بكم العذاب؟ هل تهربون منه ، ولا ينجو من الله هارب ، أو تلجئون الى أصنامكم ، وهي لا تملك لنفسها شيئا؟ والجواب قوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) وظن كاذب انهم في سلام وأمان من غضب الله وعذابه.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ). هذا سؤال ثان منه تعالى ، ومعناه إذا منع الله عنكم أسباب الرزق كالمطر فمن الذي يرسل السماء عليكم مدرارا ، أأوثانكم التي تعبدون أو جهلكم وغروركم! والجواب : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ). كلا ، انهم يعلمون ان الله هو الرازق ، ومع هذا يعاندون الحق ، ويصرون على الباطل لأن حياتهم تقوم عليه وعلى محاربة الحق وأهله.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).


هذا تمثيل في صيغة السؤال ، تمثيل للفرق بين الضالين الذين لجوا في عتو ونفور وبين المهتدين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، فالضالون مثلهم كمثل الذي يمشي ووجهه الى الأرض يكثر العثار فيما لا يعثر فيه بصير ؛ أما المهتدون فمثلهم مثل الذي يسير على الطريق الواضح بجسم معتدل ، ونظر سليم. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ ٢٤ هودج ٤ ص ٢٢٢.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). لقد خلق الله لكم أسماعا فاتعظوا بما تسمعون ، وجعل لكم أبصارا فاعتبروا بما ترون من آيات ومعجزات ، ومنحكم عقولا فلما ذا لا تفقهون؟ وقال مفسر من القدامى : «ان الله سبحانه قدم السمع لأن فوائده أقوى من فوائد البصر ، فان السمع للخطاب ، والبصر للرؤية ، ومرتبة الخطاب أقدم». وقال اديب معاصر : «لا تتقدم كلمة على كلمة في القرآن الا لسبب ، ولا تتأخر كلمة عن كلمة إلا لسبب. وكمثل بسيط نجد ان القرآن يقدم السمع على البصر في الذكر في عديد من الآيات ، وهي مسألة يعرف سرها علماء التشريح ، فهم يدركون ان جهاز السمع أرقى وأعقد وأدق وأرهف من جهاز الأبصار .. والأم لا يتوه سمعها عن صوت بكاء ابنها وتميزه من بين آلاف الأصوات ، وتتوه عين أمه عنه في الزحام».

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لأن الله خلق الاسماع والأبصار والأفئدة للخير والصلاح ، وأنتم تستعملونها للشر والفساد (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). ليس معنى ذرأكم خلقكم فقط ، بل فيه أيضا معنى التكثير بالنسل ليتسابقوا في مضمار الحياة وعمارتها واستدرار خيراتها. هذا ما قاله المفسرون ، ولو كانوا في هذا العصر لعقبوا على هذا التفسير بقولهم : ولكن الدول الكبرى تتسابق اليوم في مضمار التسلح ، وحرمان الجائعين من خيرات الأرض وبركاتها لتكون وقفا على مصانع الموت التي يملكها الطغاة المحتكرون. وتقول الاحصاءات : ان ما تنفقه دول العالم مجتمعة على السلاح أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة معا. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيأخذ المفسدين في الأرض بجرمهم وجريرتهم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تكرر هذا السؤال من الجاحدين في العديد من الآيات ، وهو عجيب وغريب ، لأنه ما من عاقل إلا ويستدل بما


وجد على إمكان ما يوجد من أشباهه ونظائره (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). هذا مثل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٧ الأعراف ج ٣ ص ٤٣١ (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ). خوّفهم النبي من يوم القيامة ، فقالوا له ساخرين : فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين .. ولما بعثوا يوم القيامة وقيل لهم : هذا ما كنتم به تستعجلون ـ قالوا : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .. هذا هو شأن كل جاهل أرعن يركب رأسه ، ولا يبالي ما يصنع وما يقال له.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). من تتبع آي الذكر الحكيم ير ان الخلاف بين الأنبياء والمشركين كان ـ في الأغلب ـ يدور حول الشرك والبعث ، وان أكثر الآيات أو الكثير منها يتصل بهذين المبدأين بأسلوب مباشر أو غير مباشر ، وكان المشركون يحتجون للشرك وعبادة الأصنام بعادة الآباء والأجداد ، ولإنكار البعث بأن الذي يصير ترابا لن يعود الى الحياة مرة ثانية ، وقد لقّن سبحانه نبيه الكريم حجة الرد عليهم ، وأنذرهم بالعذاب العاجل والآجل ، وسبق ذلك في عشرات الآيات ، فيعجز المشركون عن الجواب ويلجئون الى العناد والاستهزاء والشغب ، وأحيانا يدعون على الرسول الأعظم (ص) بالهلاك كما أشارت الآية ٣٠ من سورة الطور : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

وقد تضمنت الآيات السابقة الخطاب مع المشركين حول البعث والتهديد بعذاب الخسف والحاصب في الدنيا ، وعذاب جهنم وبئس المصير في الآخرة ، ثم انتقل الخطاب الى دعائهم على الرسول والجواب عنه حيث أمر سبحانه النبي (ص) ان يقول لهم : أتتربصون بي وبمن معي ريب المنون ، وتتمنون لي ولهم الهلاك؟ أخبروني ما الذي تستفيدون إذا تحققت أمنيتكم هذه؟ هل ينجيكم هلاكي وهلاك من معي من العذاب ، وأنتم سادرون في الغي والضلال؟ كلا ، لا ينفعكم شيء إلا التوبة والانابة سواء أمتّم قبلي أم متّ قبلكم.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا). هذا هو طريق الخلاص : الايمان بالله وبأنه يرحم ويغفر لمن تاب من ذنوبه ، وتوكل عليه في جميع أموره


(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). بعد أن قال الرسول الأعظم (ص) للمشركين : أهلكنا الله أو رحمنا ـ قال لهم : كلا أنتم الهالكون لأنكم الضالون المضلون ، أما نحن ففي رحمة الله وعنايته ، ولنا النصر عليكم دنيا وآخرة ، وستعلمون ذلك علم اليقين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ). الأولى بكم أيها المشركون أن تتوبوا الى الله ، وتشكروه على آلائه التي لا تعد ولا تحصى ، ومنها ماؤكم هذا الذي هو مصدر حياتكم ، ولو شاء سبحانه لغار في جوف الأرض ، ولا رادّ لمشيئته ، فتموتون جوعا وعطشا .. وقال بعض المفسرين ان الله أراد بهذا أن يستميل قلوبهم ويستلين عرائكهم عسى أن يرجعوا الى الرشد .. وليس هذا ببعيد ، فإن أساليب الدعوة في القرآن أنواع وألوان.


سورة القلم

٥٢ آية مكية ، وقيل : بعضها مدني.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ما أنت بمجنون الآية ١ ـ ١٦ :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

اللغة :

وما يسطرون وما يكتبون. غير ممنون أي لا يمن بالأجر عليك أو غير مقطوع أو هما معا. فستبصر أي ستعلم. والمفتون هو الذي ابتلي بآراء فاسدة كالمجنون. والمداهنة المداراة فيما لا ينبغي. والحلّاف كثير الحلف بالحق وبالباطل. ومهين


حقير. والهمّاز الطعّان في أعراض الناس. مشّاء بنميم كثير الوشاية والسعاية بالنميمة والإفساد بين الناس. ومنّاع للخير لا يفعل الخير ويمنع الناس من فعله. ومعتد ظالم. وأثيم كثير الذنوب والآثام. وعتل فظ غليظ القلب والفهم. وزنيم دعيّ. وسنسمه نجعل له علامة يدل عليه. والخرطوم الأنف.

الإعراب :

«ن» على حذف مضاف أي هذه سورة «ن». والقلم الواو للقسم وجوابه جملة ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، و «ما» نافية وأنت مبتدأ وخبره مجنون والباء فيه زائدة إعرابا ، وبنعمة ربك متعلق بمجنون مثل أنت بفضل الله حسن السيرة. وبأيكم مبتدأ والباء زائدة والمفتون خبر. ولو تدهن «لو» للتمني. وجملة فتدهنون خبر لمبتدأ محذوف أي هم يدهنون. وان كان «ان» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي لأنه كان الخ والمصدر المنسبك متعلق بلا تطع.

المعنى :

(ن) هذه مثل غيرها من الحروف التي افتتح بها السور ، وتكلمنا عنها في أول سورة البقرة. وقال قائل : هي الحوت. وثان : الدواة. وثالث : المداد. وقال رابع : هي نون الرحمن. وذهب جماعة من الصوفية الى أنها النفس. وكل هذه الأقوال تفتقر الى دليل .. واختلفوا في القلم ما هو المراد منه؟. قال البعض : هو القلم الذي كتب به على اللوح المحفوظ. وقال آخرون : المراد به كل قلم دون استثناء لأن الألف واللام فيه للجنس ، وهي تفيد الشمول والعموم. وهذا هو الظاهر على أن لا يكون القلم مرادا لذاته ، بل وسيلة للكتابة كما يومئ قوله تعالى : (وَما يَسْطُرُونَ) أي يكتبون ، وعليه يكون القلم كناية عن أدوات الكتابة أيا كان نوعها مما وجد بالفعل ، أو سيوجد في المستقبل القريب أو البعيد وأشرنا الى طرف من فوائد البيان عند تفسير (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) في أول سورة الرحمن .. على ان الحديث عن منافع البيان تماما كالحديث عن منافع الماء والضياء.


(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). الخطاب لمحمد (ص) .. ولا أحد يظن الجنون بمحمد إلا مجنون .. والذين وصفوه بذلك أرادوا أن له جنيا يوحي اليه ، كما كانوا يزعمون بأن لكل شاعر جنيا يعلمه الشعر ، ويومئ الى هذا قوله تعالى حكاية عنهم : (وَيَقُولُونَ أَتنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ـ ٣٦ الصافات. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي دائم غير مقطوع .. وبديهة ان الأجر يقاس بنتائج الأعمال وآثارها ، ولا تزال آثار محمد ودعوته وعظمته قائمة الى اليوم في شرق الأرض وغربها ، وستبقى الى آخر يوم ، فلا بدع إذا ظفر من ربه بالعقبى الدائمة ، والكرامة الخالدة.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ما وصف سبحانه أحدا من رسله بهذا الوصف إلا محمدا ، ويتلخص معناه بقول الرسول الأعظم (ص) : «أدبني ربي فأحسن تأديبي» أي ان الله قد اتجه بأخلاق محمد (ص) الى نفس الهدف الذي خلقها الله من أجله. وأيضا ما أقسم الله بحياة انسان إلا بحياة محمد (ص) ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ـ ٧٢ الحجر. أما وصف محمد (ص) بخاتم النبيين فمعناه ان محمدا بلغ من صفات الكمال أقصى ما يصل اليه انسان .. ومستحيل أن يأتي من بعده من هو أفضل منه ، أو يأتي بشريعة أفضل من شريعته ، بل لا يضارعه مخلوق من الأولين والآخرين ، والى ذلك يومئ قوله (ص) : «أنا سيد الناس ولا فخر» ومن أجل هذا ختمت به النبوات وبشريعته الشرائع ، قال ابن عربي في الفتوحات ما معناه : ان الله خلق الخلق أصنافا ، وجعل من كل صنف أخيارا ، ومن الأخيار الصفوة ، وهم الأنبياء ، ومن الأنبياء الخلاصة ، وهم أولو العزم ، ومن الخلاصة خلاصتها وهو محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ). هذا تهديد ووعيد ؛ ومعناه عما قريب يتبين لك ولأعدائك يا محمد انهم أولى الناس بوصف الجهل والضلال والجنون ، وانك أعلى الناس عقلا وأعظمهم خلقا ، وأكرمهم عند الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). الله يعلم يا محمد مكانك من العظمة والهداية ؛ ومكان خصومك من الضلالة والغواية ، وأمامهم الحساب والجزاء. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٥٣ (فَلا


تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). حاول المشركون بكل سبيل أن يثنوا الرسول الأعظم (ص) عن دعوته ، وأغروه بالجاه والمال فأبى ، وتمنوا لو صانعهم في شيء مما يريدون ، فنهاه الله عن ذلك ، والقصد من النهي أن ييأسوا ويعلموا انه لا هوادة ولا مساومة على طاعة الله وأمره .. ويشبه هذا النهي قولك لمن يساومك على دينك : لقد نهاني الله عن ذلك ، وأنت تريد ان ييأس منك.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ). تمنى المشركون ان يتنازل الرسول (ص) عن بعض ما يدعوهم اليه ، ويستجيبوا بدورهم لبعض ما نهاهم عنه ولو من باب المداهنة والمداراة كي تنتهي المعركة بين الطرفين ، ويتم الصلح على انصاف الحلول ، ويدل السياق على ان الذي اقترح المداهنة يتصف بالأوصاف التي أشار اليها سبحانه بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) يكثر من الأيمان بلا سبب موجب (مهين) حقير (هماز) يكثر الطعن في اعراض الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة والوشاية ، والنمام هو الذي يضرب الناس بعضهم ببعض بنقل الأحاديث (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) لا يفعله ويمنع الناس من فعله (معتد) على حقوق الآخرين (أثيم) كثير الذنوب والآثام (عتل) فظ غليظ (بعد ذلك) وفوق هذه الأوصاف هو (زنيم) دعيّ لا يعرف له نسب. وهذه الرذائل هي أقصى ما يتصوره العقل.

وذكر كثير من المفسرين ان المقصود بهذه الخصال الملعونة هو الوليد بن المغيرة ، وكان من عتاة قريش ، وفي سعة من المال ، وكثرة من الأولاد ، كما قال تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). وقال المفسرون : ان هذه الآية تعليل للنهي عن طاعة هذا اللعين .. والأقرب الى الصواب والسياق أن تكون تعليلا لاتصاف المكذب بتلك الصفات الملعونة ، وان الذي جرأه عليها وعلى القول بأن القرآن أساطير وأباطيل هو اعتزازه بأمواله وأولاده كما قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ـ ٦ العلق فكيف إذا كان مع الغنى قوة في المال والأهل.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) السمة العلامة ، والخرطوم الأنف ، وتكني به العرب عن العزة والمذلة أيضا ، فيقولون عن العزيز : له أنف أشم ، وعن الذليل : أنفه في التراب ، المعنى ان الله سبحانه سيخزي هذا الطاغية الذي أخذته العزة


بأمواله وأولاده ، ويذله مدى الدهر ، ويلعنه على كل لسان بما سجله عليه في كتابه ، ويفضحه في الآخرة أمام الاشهاد بسواد الوجه وغيره من العلامات التي تعكس آثامه ومخازيه.

فأصبحت كالصريم الآية ١٧ ـ ٣٣ :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

اللغة :

بلوناهم اختبرناهم. والجنة البستان. ليصرمنها ليقطفن ثمارها. ومصبحين دخلوا في الصباح. ولا يستثنون لا يقولون : ان شاء الله. طائف من ربك أي عذاب


من ربك. كالصريم أي كالبستان الذي قطعت أشجاره أو ثماره ، وقيل : كالذي احترقت أشجاره وصارت سوادا كالليل المظلم ، ويسمى الليل صريما وكذلك النهار. فتنادوا أي نادى بعضهم بعضا. وأغدوا اخرجوا مبكرين. والحرث الزرع. وصارمين قاطعين الثمار. ويتخافتون يتسارون. والمراد بالحرد هنا المنع والحرمان. وأوسطهم أفضلهم رأيا. ويتلاومون يلوم بعضهم بعضا. يا ويلنا دعاء على أنفسهم بالهلاك.

الإعراب :

كما بلونا الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف و «ما» مصدرية أي بلاء مثل بلاء أصحاب الجنة. وإذ ظرف بمعنى حين والعامل فيها بلونا. وليصرمنّها جواب القسم ، والأصل ليصرمون وحذفت الواو لمكان نون التوكيد. ومصبحين حال من فاعل ليصرمنها ، وهو واو الجماعة المحذوفة. وان اغدوا «ان» مفسرة بمعنى أي ، واغدوا تتضمن معنى أقبلوا ولذا تعدت بعلى. وان لا يدخلها «ان» مفسرة بمعنى أي ولا نافية والهاء تعود الى الجنة. وغدوا على حرد «غدوا» هنا فعل تام بمعنى ذهبوا وقت الغداة ، وعلى حرد متعلق بقادرين ، وقادرين حال. لولا هلا. يا ويلنا أي احضر يا ويل. وكذلك خبر مقدم والعذاب مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ). ضمير بلوناهم يعود الى مشركي قريش الذين كذبوا رسول الله (ص) .. وقد أشار سبحانه اليهم في الآية ٨ من هذه السورة بقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). ومنهم المعتدي الأثيم الذي طغى وبغى اعتدادا بكثرة الأموال ، ونقلنا عن المفسرين في المقطع السابق انه الوليد بن المغيرة ، وهو من عتاة قريش وينطق بلسان المكذبين منهم ، ويعبر عن عتوهم وتمردهم على الحق .. والآيات التي نحن بصددها تضرب مثلا له ولهم بقوم كانوا يملكون بستانا يدر الثمرات والخيرات ، ولكنهم كانوا أشحة على الفقراء والمساكين ..


فإذا أينعت الثمار وحان وقت قطافها تواطئوا فيما بينهم ، وأقسموا أن يجنوا ثمار البستان في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء ، ودون ان يعلقوا جني الثمار على مشيئة الله وارادته .. وقد تواصوا بالشح وحرمان المحتاجين مما آتاهم الله ومنّ به عليهم ذاهلين عن تدبير الله وتقديره .. وفي نفس الليلة التي أرادوا قطف الثمار في صباحها سلّط الله على البستان آفة سماوية أفسدت الثمار عن آخرها ، أو استأصلت البستان من جذوره.

ولما استيقظوا من نومهم وذهبوا الى البستان للقطاف في الوقت الموعود هالهم ما حاق به من الهلاك ، وأخذ يلوم بعضهم بعضا ، ويقول كل لصاحبه : أنت السبب .. وكان منهم رجل رشيد قد حذرهم سوء العاقبة من قبل ، فلم يستمعوا له ، وبعد ان وقع المحذور قال لهم : نصحت لكم ، ولكن لا تحبّون الناصحين ، فتوبوا الآن الى ربكم لعلكم تفلحون ، فتابوا اليه تعالى ، وسألوه العفو عما سلف ودعوه مخلصين أن يرحمهم ويمنّ عليهم بخير من بستانهم.

والقصد من هذا المثل ان يتعظ به كل من أنعم الله عليه بشيء من فضله وبخاصة أهل مكة ، ومنهم الأثيم الزنيم وإلا دارت عليهم دائرة السوء تماما كما حدث لأصحاب البستان .. ويقول الرواة : ان الله سبحانه ابتلى أهل مكة بالجوع والقحط لأنهم كذبوا محمدا (ص) فدعا عليهم واستجاب الله لدعائه ، ودام فيهم القحط سبع سنين حتى أكلوا العظام والجيف ، وقال الرواة أيضا انه تعالى أهلك أموال الزنيم الوليد بن المغيرة الذي كان ذا مال وبنين.

هذا هو المعنى المراد من مجموع الآيات وما تهدف اليه ، وفيما يلي الشرح والكشف عن المعنى المتبادر من كل آية :

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ). الهاء تعود الى الجنة ، وهي في اللغة البستان ، ثم كثر استعمالها في جنة الخلد حتى أصبحت علما عليها بكثرة الاستعمال ، والمراد منها هنا البستان ، والمعنى ان أصحاب البستان حلفوا على أن يجنوا ثماره في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يقولوا : نجني الثمار صباحا إن شاء الله ، وقال البعض : المعنى دون أن يستثنوا من ثمر البستان شيئا للمساكين .. وكل من المعنيين يجوز ، وأيضا يصح ارادتهما معا.


(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ). نام أصحاب البستان آمنين مطمئنين على أن يجنوا ثماره في الصباح ، وفي تلك الليلة بالذات سلط الله آفة على البستان أو على ثماره فأصبح كالصريم ، وللصريم معان ، منها المصروم أي المقطوع ثماره ، وعليه يكون المعنى ان البستان أصبح كالذّي قطعت ثماره ولم يبق منها شيء ، ومن معاني الصريم أيضا السواد ، وعليه يكون المعنى ان البستان احترق وأصبح في سواده كالليل المظلم (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ). حين دخل وقت الصباح نادى بعضهم بعضا : هلموا نقطف الثمار على غفلة من الفقراء ما دمتم على عزمكم.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ). أسرعوا وهم يتسارون مغتبطين : لن يذوق اليوم من ثمار بستاننا محروم .. وليس من شك ان هذا جفاء وقسوة ، ولكنه في حدود الشح والحرص ، فالبستان بستانهم ، والثمار ثمارهم لم يسرقوا ولم ينهبوا .. ومع هذا غضب الله عليهم وأعد لهم الخزي والعذاب فكيف إذا تجاوزوا الى الاعتداء على حياة الناس وأقواتهم بالقتل والتشريد والسلب والنهب كما يفعل الآن قادة الاستعمار الجديد في شرق الأرض وغربها! .. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ). مضوا الى بستانهم ، وهم مصممون على حرمان الفقراء من ثمره : وتخيلوا ان البستان وثمره بأيديهم ، وما دروا ان يد الله فوق أيديهم.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ). لما وصلوا الى البستان هالهم ما رأوا واعترفوا بضلالهم ، وقالوا : نحن المحرومون من فضل الله وثوابه ، والمستحقون لغضبه وعذابه ، وليس الفقراء والمساكين .. وكان منهم رجل رشيد يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ، وحين رأى ما حل بهم (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)؟ أي تشكرون الله قولا وفعلا بالبذل والعطاء .. قال لهم هذا بحنان وإشفاق عليهم ، ثم أمرهم بالتوبة والانابة (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أنفسنا بمعصية الله (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يتنصل كل من التبعة ويلقي بها على صاحبه كما هو شأن الشركاء في الجريمة حين يؤخذون بما كسبت أيديهم.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ). ثم رجعوا الى عقولهم وتركوا التلاوم ،


واعترفوا بأنهم في التبعة والطغيان سواء ، ودعوا على أنفسهم بالموت والهلاك ، وسألوا الله العفو والمغفرة وقالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ). هذا دعاء ورجاء منهم الى الله سبحانه أن يصفح عما سلف ، ويعوضهم خيرا مما فات .. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن كثير ، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه بصدق واخلاص (كَذلِكَ الْعَذابُ). هكذا يفعل الله في الدنيا بالعصاة والطغيان ، فيسلط عليهم وعلى أموالهم الآفات والنكبات متى شاء ، فليحذر الذين يعرضون عن أمر الله ان يصيبهم ما أصاب أصحاب البستان ، وهم نائمون (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). قال الرازي : هذا واضح لا يحتاج الى تفسير ، وأبى الشيخ المراغي إلا أن يفسره بقوله : «أي ان عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا».

أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية ٣٤ ـ ٤٣ :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))


اللغة :

بالغة مغلظة ومؤكدة. وزعيم كفيل. والعرب يكنون بكشف الساق عن الهول الشديد. وترهقهم تلحقهم.

الإعراب :

للمتقين متعلق بمقدر خبرا لأن ، وعند ربهم متعلق بما تعلق به للمتقين. ما لكم مبتدأ وخبر. ومعناه أي شيء جرى لكم. وكيف في محل المفعول المطلق على معنى أي حكم تحكمون. وان لكم بكسر همزة ان لدخول اللام في خبرها ولولاها لكانت مفتوحة لأنها واقعة في مفعول تدرسون. وتخيرون أي تتخيرون. وكسرت همزة ان لكم لما تحكمون لأن الجملة في جواب القسم وهو أم لكم ايمان علينا. ويوم منصوب ب «فليأتوا». وخاشعة حال من فاعل يدعون ، وأبصارهم فاعل خاشعة.

المعنى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). في الآية السابقة توعد سبحانه المجرمين بالعذاب الأكبر ، وفي هذه الآية وعد المتقين بملك دائم ونعيم قائم .. وهكذا يقرن سبحانه عاقبة المجرم بعاقبة من اتقى ترغيبا وترهيبا (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). ليس المراد بالمسلمين هنا كل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله .. بل المراد بهم المتقون لأنّ الحديث عنهم وعما لهم عند ربهم من جنات النعيم.

وتسأل : لا نظن ان أحدا يحكم بالمساواة بين المتقين والمجرمين حتى من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ـ إذن ـ ما هو المبرر لقوله تعالى : مالكم كيف تحكمون؟.

الجواب : أجل ، لا أحد يساوي المتقي بالمجرم في الحكم والمكانة ، ولكن كثيرا من المجرمين يرون أنفسهم من الأتقياء ، وان لهم ما للمتقين من الأجر


والثواب ، فأنكر سبحانه عليهم هذا وقال لهم : كيف تجعلون أنفسكم في عداد المتقين وبينكم وبينهم بعد المشرقين؟. والذي يدل على ان هذا المعنى هو المراد الخطابات التالية :

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ). هل عندكم كتاب من السماء أو من الأرض تقرءون فيه ان لكم في الدنيا ما تحبّون ، وفي الآخرة عند الله ما تشتهون؟. ويصدق هذا الوصف على اليهود والنصارى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ـ ١٩ المائدة إلا ان المقصود بالآية التي نفسرها عتاة قريش مع العلم انهم لم يدّعوا وجود هذا الكتاب ، ولكن القصد من الخطاب افحامهم وانه لا دليل وما يشبه الدليل على انهم مع المتقين وان لهم ما يتخيرون. وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة فاطر والآية ٢١ من سورة الزخرف.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ). هل حلف الله لكم الأيمان المغلظة ، وأعطاكم العهود المؤكدة ان يدخلكم الجنة مع المتقين على ان لا تبدل ولا تعدل هذه الأيمان والعهود الى يوم القيامة؟. (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)؟. الخطاب للرسول (ص) والزعيم الكفيل ، والمعنى سل يا محمد المشركين : من الذي تعهد لهم بتنفيذ ذلك على فرض ادعائهم له (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ). المراد بالشركاء هنا الأصنام كما في الآية ٢٧ من سورة سبأ : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) والمعنى فليأت المشركون بآلهتهم التي يعبدون لتشهد لهم انهم في الجنة مع المتقين ..

والقصد من هذه الخطابات التي وجهها سبحانه الى المشركين هو انه لا شيء يدل أو يومئ من قريب أو بعيد ان المشركين على شيء : وهذا النوع من الحجاج من أجدى الوسائل لافحام الخصم ، وفي الوقت نفسه يفيد العلم والجزم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ). يكني العرب عن الشدة والهول بالكشف عن الساق ، ومن هنا يسمى يوم القيامة بيوم الكشف عن الساق ، ولا أحد يدعى في هذا اليوم الى السجود ولا الى غيره من العبادات


لأنه يوم حساب وجزاء لا يوم تكليف وعمل ، وعليه يكون طلب السجود من المجرمين يوم القيامة هو طلب توبيخ وتقريع لا طلب تشريع وتكليف ، والمراد بلا يستطيعون ان السجود في ذاك اليوم لا يجديهم نفعا لأنه يوم جزاء لا يوم عمل كما قلنا. والمعنى ان الذين فرّطوا أو قصّروا في الدنيا حيث يستطيعون العمل ، ان هؤلاء سيوبخون ويعذبون يوم القيامة الذي لا يملكون فيه حيلة ولا وسيلة تقربهم الى الله.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ). الخشوع صفة للقلب لا للأبصار ، ولكنه تعالى كنّى به عن ذلّهم وهوانهم الذي ظهر في أبصارهم ، وقوله تعالى : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تفسير وبيان لقوله : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ). (وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) فيعرضون علوا واستكبارا (وَهُمْ سالِمُونَ) لا مانع يمنعهم عنه. وبعد أن رأوا العذاب أرادوا السجود ، ولكن بعد فوات الأوان.

فذوني ومن يكذب الآية ٤٤ ـ ٥٢ :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))


اللغة :

بهذا الحديث أي بهذا القرآن. سنستدرجهم سننتقل بهم تدريجا من حال الى حال. وأملي أمهل. والمغرم الملزم بما يكره. ومثقلون حمّلوا ثقيلا. والمراد بصاحب الحوت النبي يونس. ومكظوم أي مملوء غيظا ، وقيل : محبوس. والعراء الفضاء. والمراد بمذموم ملوم. ويستعمل الزلق لزلة الرجل ، والمراد به هنا النظر بغيظ وحنق حتى تكاد قدم المنظور تزل وتزلق. لما سمعوا الذكر أي القرآن. والا ذكر أي تذكير.

الإعراب :

ومن يكذّب عطف على الياء في ذرني أو مفعول معه. والمصدر من ان تداركه مبتدأ والخبر محذوف أي لو لا مداركة النعمة حاصلة. ومن ربه متعلق بنعمة أو بمحذوف صفة لنعمة وقال سبحانه : تداركه نعمة ولم يقل : تداركته لأن التأنيث هنا غير حقيقي ، وقد فصل بين الفعل والفاعل ضميرا لمفعول وهو الهاء في تداركه. وان يكاد «ان» مخففة ، وهي مهملة غير عاملة ، وجاءت اللام بعدها للفرق بينها وبين ان النافية.

المعنى :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ). «من» هنا اسم موصول للجماعة ، وهم مشركو العرب الذين كذبوا بالرسول وبالقرآن ، وكلمة «ذرني» تؤذن بإعلان الحرب عليهم من الله ، وانه تعالى سيتولى بنفسه الانتقام منهم ، ويريح النبي والذين آمنوا معه ـ منهم ومن شرهم .. ثم بين سبحانه : كيف وبأي طريق ينتقم منهم حيث قال عز من قائل (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ). انه تعالى يمهلهم ولا يعالجهم بالعقوبة ، وأيضا يمد لهم من الأموال والبنين ، وينقلهم من حسن إلى أحسن في ظاهر الحياة الدنيا ، ولكنهم في واقع الأمر ينقلون من سيء الى أسوأ .. حتى إذا ركنوا الى الدنيا


وظنوا انهم في حصن حصين من ضربات الدهر ودوراته أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ليكون ذلك أنكى وأوجع لقلوبهم .. وسمى سبحانه هذا الامهال والاستدراج كيدا لأنه يشبه الكيد في ظاهره .. وإلا فإن الله منزه عن الكيد والمكر .. كيف ولا يلجأ اليه إلا عاجز ، والله يقول للشيء : كن فيكون .. هذا ، الى ان الغرض من ذكر الكيد أن لا يخدع الإنسان بالدنيا إذا أقبلت عليه وابتسمت له ، وان يكون على حذر من المخبآت والمفاجئات. وتقدم مثله في الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ). ما الذي جعلهم يكذبون برسالتك يا محمد؟ هل تقاضيتهم على الهداية مالا يصعب عليهم تحمله وأداؤه ، أم اطلعوا على علم الغيب ، ونسخوا عنه ما يدل على مزاعمهم وادعاءاتهم. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٤٠ من سورة الطور (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ). صاحب الحوت هو النبي يونس الذي ضاق صدره من قومه فتركهم مغاضبا ، وتقدمت الاشارة اليه والى قصته مع قومه في الآية ٩٨ من سورة يونس والآية ٨٧ من سورة الأنبياء والآية ١٤٠ وما بعدها من سورة الصافات .. وقد أوصى سبحانه نبيه الكريم محمدا (ص) بالصبر على أذى قومه ، وان لا يعجل عليهم كما فعل يونس الذي التقمه الحوت ، فنادى وهو في بطنه : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ـ ٨٧ الأنبياء.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ). دعا يونس ربه ، وهو في بطن الحوت ، فاستجاب دعاءه رحمة به ، ونبذه الحوت من بطنه في الفضاء ، وهو غير مذموم ولا ملوم عند الله ، ولو لا دعاؤه ورحمة الله لكان مذموما وملوما ، بل ولبقي في بطن الحوت الى يوم يبعثون. وتجدر الاشارة الى ان الذم هنا على ترك الأفضل لا على الذنب لمكان العصمة (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). من نعم الله على يونس انه تعالى أخرجه من بطن الحوت ، وهو راض عنه ، ورده الى قومه نبيا كما كان من قبل ، فانتفعوا به وبمواعظه ، ولو بقي في بطن الحوت الى يوم يبعثون لم يكن لنبوته أي أثر ، وقوله تعالى : فجعله من الصالحين معناه ان الله سبحانه يحشره غدا مع النبيين وفي زمرتهم.

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ). الخطاب


لرسول الله (ص) والمعنى ان المشركين حين يسمعون القرآن من محمد (ص) ينظرون اليه شزرا بعيون العداء والبغضاء ، وتكاد قدم الرسول الأعظم (ص) تزل وتزلق من نظراتهم لأنها حادة كالسهام .. قال الرازي : يقول العرب : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، قال الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزلّ مواطئ الأقدام

(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). نظروا الى الرسول (ص) بنظرات كالسهام ، وأيضا سلقوه بألسنة حداد كقولهم : هو مجنون .. وقد رد عليهم سبحانه في أول هذه السورة بقوله: (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). ضمير هو للقرآن : والمراد بالذكر التذكير بالخير ، والإرشاد الى طريقه ، والمعنى ان القرآن وحي من الله أنزله على قلب محمد (ص) ليهدي به جميع الناس في كل زمان ومكان.


سورة الحاقّة

٥٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحاقة ما الحاقة الآية ١ ـ ١٨ :

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))


اللغة :

الحاقة مؤنث الحاق من حق يحق بكسر الحاء إذا وجب وثبت ، والحاقة بالأصل صفة لكل حادثة ثابتة ، ثم خرجت عن الوصف وصارت علما على يوم القيامة ، ومثلها الواقعة والقارعة أي تقرع القلوب بالأهوال. وما أدراك أي شيء أعلمك. والمراد بالطاغية هنا صيحة العذاب لقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ـ ٦٧ هود. فإن المراد بهم ثمود قوم صالح. بريح صرصر أي باردة مهلكة. وعاتية بالغة العنف. حسوما أي تتابعت الأيام الثمانية بلا فاصل واستمرت حتى استأصلتهم. وأعجاز النخل أصولها. وخاوية فارغة. من باقية من بقية. والمؤتفكات المنقلبات وهي قرى قوم لوط. بالخاطئة أي بالأعمال الخاطئة. ورابية زائدة. والمراد بالجارية هنا السفينة. وتذكرة موعظة. وتعيها تفهمها وتحفظها. وواعية فاهمة حافظة. حملت الأرض والجبال زاحت عن أماكنها. والدك الدق والهدم. واهية متداعية. والأرجاء النواحي.

الإعراب :

الحاقة مبتدأ أول و «ما» استفهام مبتدأ ثان ، الحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول والرابط اعادة المبتدأ بلفظه. وما أدراك «ما» مبتدأ وأدراك فعل ماض وفاعله مستتر يعود الى «ما» والجملة من الفعل والفاعل خبر. ما الحاقة أيضا مبتدأ وخبر. وحسوما صفة لأيام لأن المعنى حاسمات أي متتابعات. وصرعى حال من القوم لأن الرؤية هنا بصرية. ومن باقية «من» زائدة وباقية مفعول ترى. فيومئذ وقعت الواقعة جواب فإذا نفخ و «يوم» متعلق بوقعت. يومئذ واهية «يوم» متعلق بواهية. يومئذ ثمانية «يوم» متعلق بيحمل. يومئذ تعرضون «يوم» متعلق بتعرضون ، وقيل بدل من فيومئذ وقعت.

المعنى :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ). المراد بالحاقة القيامة ، وسميت بذلك لأنها واجبة الوقوع ،


أما الاستفهام عنها مع تكرار اللفظ فالقصد منه التخويف من شدائدها وأهوالها ، وانها فوق ما تسمعه الآذان ، وتراه العيون ، وتتصوره العقول .. ومن أجل هذا أعاد سبحانه الاستفهام فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ). أي شيء أعلمك بها أيها الإنسان؟. وهل من أحد يحيط علما بكنهها حتى يخبرك عنه؟ .. وكل ما نعرفه من أحوال القيامة ان للمتقين جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وللمجرمين (نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ٣٦ فاطر.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ). ثمود قوم صالح وعاد قوم هود ، والقارعة من أسماء القيامة مثل الحاقة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) وهي صيحة العذاب ، وطغيانها كناية عن شاتها مثل طغى الماء وهاج البحر (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). باردة مهلكة بالغة العنف (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً). دامت هذه المدة دون انقطاع ولا فتور (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) مطروحين على الأرض (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ). وكل ميت هو جماد خاو مفزع ولو كان على ورد وحرير (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) كلا ، ولا ناعية. وتقدم الكلام عن عاد وثمود مفصلا انظر تفسير الآية ٥ ـ ٧٩ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٦ وما بعدها والآية ٠ ـ ٦٨ من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٧ والآية ٢٣ ـ ١٥٩ ج ٥ ص ٥٠٧.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً). المراد بالمؤتفكات المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط ، ويتلخص المعنى بأن فرعون وقومه وأمثالهم من الأولين ، ومنهم قوم لوط ـ كذبوا أنبياء الله ورسله ، وفعلوا أفعالا خاطئة ، فأخذهم الله لذنوبهم بعقوبة تجاوزت في هولها وشدتها حد التصور. وما أكثر السور والآيات التي تحدثت عن فرعون وقومه ، منها الآية ٠٣ ـ ١٣٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧٠. وأيضا سبق الكلام عن لوط وقومه أكثر من مرة ، من ذلك الآية ٠ ـ ٨٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٢.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ). حملناكم على حذف مضاف أي حملنا


آباءكم المؤمنين في سفينة نوح. وأيضا تقدم الكلام عن نوح وسفينته مرات ، منها في الآية ٩ ـ ٦٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٤ (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً). الهاء تعود الى قصة نوح وسفينته ، وكررها سبحانه في كتابه لتكون عظة وعبرة. وأيضا ليعرف كل انسان انه لو لا سفينة نوح لما كان لأبناء آدم وحواء بعد الطوفان عين ولا أثر .. وقد أبعد أبو العلاء حين دعا على أمنا حواء بالعقم لأن الوجود من حيث هو نعمة كما قال أرسطو وتلاميذه.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ). جاء في أكثر التفاسير القديمة والحديثة ، ومنها تفسير الرازي والشيخ المراغي : ان رسول الله (ص) قال لعلي بن أبي طالب : «اني دعوت الله أن يجعلها اذنك يا علي». قال الامام : فما سمعت شيئا فنسيته ، وما كان لي أن انسى.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ). النفخ في الصور كناية عن الصيحة للخروج من القبور. قال تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ ٤٢ ق. وعند تفسير الآية ٦٨ من سورة الزمر ج ٦ ص ٤٣٢ ذكرنا آراء المفسرين في الصور وان النفخات ثلاث : نفخة الفزع ونفخة الموت ونفخة البعث والخروج (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً). هذا كناية عن خراب الأرض وما عليها يوم القيامة ، قال تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) ـ ١٤ المزمل أي تلا من الرمل يذهب مع الرياح (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). حين ينفخ في الصور وتدك الأرض والجبال تقوم القيامة ، ويعلم المكذبون انها حق لا ريب فيه (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ). يصيب كواكب السماء من الخراب ما يصيب الأرض : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ـ ٤٨ إبراهيم أي وتبدل أيضا السموات غير السموات (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها). المراد بالملك الملائكة لأن الألف واللام للجنس ، والهاء تعود الى السماء ، والمعنى ان الملائكة بعد خراب الأرض والسماء ينتشرون هنا وهناك في أنحاء الفضاء.


حملة العرش :

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ). هل لله عرش يجلس عليه كالسلاطين والأمراء؟. قال أهل الظاهر الحرفيون : نعم ؛ له سمع وبصر ويد ورجل وغير ذلك من الأعضاء .. ونسب الى أبي عامر القرشي القول بأن الله مثلي ومثلك في هيئته وصورته! .. وهذا مستحيل لأنه لو كان جسما لافتقر الى مكان ، والخالق لا يفتقر الى شيء ، واليه يفتقر كل شيء ، وأيضا يلزم على هذا أن يكون المكان قديما ، ولا قديم إلا الله .. الى آخر ما ذكره الفلاسفة وعلماء الكلام.

وقال آخرون : نحن لا نعلم العرش ، ولا كيف يحمل ، وما كلفنا الله بمعرفة ذلك .. وهذا القول هو الأحوط على حد تعبير الفقهاء الأتقياء.

وعند ما تأملنا في معنى هذه الآية أوحى لنا السياق بأن المراد من العرش الملك والاستيلاء ، كما سبقت الاشارة الى ذلك عند تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف. وان المراد بحملة العرش الكائنات المخلوقة والمملوكة لله ، ويشعر بذلك ما جاء في إحدى خطب نهج البلاغة : «ولو لا إقرار السماوات لله بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه» أي لو لا تصرفه تعالى بالسماوات كيف يشاء لما كانت ملكا له ، فالتصرف المطلق دليل الملك ، كما ان الملك يستدعي هذا التصرف .. وعليه يكون قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) الخ أشبه بالجواب عن سؤال من يسأل : إذا زالت السموات والأرض فإن معنى هذا ان ملك الله قد زال ، ولم يبق من شيء يسيطر عليه؟.

فأجاب سبحانه : كلا .. ان هناك مخلوقا آخر غير السموات والأرض ، وهو عبارة عن ثمانية أكوان ، وهي في أمان وسلام من أي خلل ، يتصرف بها سبحانه كيف يشاء بعد تدمير الأرض والسماء .. نقول هذا كفكرة استوحيناها من كلمة «يحمل» ، وهذه الفكرة ـ كما ترى ـ ممكنة في ذاتها ، ولكن مثلها لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولو كانت من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه وجيه إذا استند الى ظاهر الكتاب أو السنة.


(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) تعرض الخلائق على الله يوم القيامة للحساب وتوفية كل عامل جزاء عمله ، وهو سبحانه أعلم بمن اهتدى ومن ضل عن سبيله.

يا ليتها كانت الفاضية الآية ١٩ ـ ٣٧ :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

اللغة :

هاؤم خذوا أو تعالوا. راضية أي يرضاها صاحبها. وعالية أي قدرا. ودانية قريبة سهلة التناول. الأيام الخالية الأيام الماضية في الدنيا. و «القاضية» على حياته فيرتاح. هلك عني سلطانيه ذهب عني كل ما أملك. صلّوه ألقوه في


النار يصلاها. ذرعها طولها. لا يحض لا يحث. وحميم قريب أو صديق. وغسلين صديد يسيل من أجسام أهل النار.

الإعراب :

فأما من «أما» حرف تفصيل. وهاؤم اسم فعل أمر بمعنى خذوا ، وقال صاحب البحر المحيط : تقول : هاؤم للرجال ، وهاؤن للنسوة ، وهاء للرجل ، وهاء للمرأة ، وهاؤما للرجلين أو المرأتين. وكتابيه الأصل كتابي والهاء للسكت ، وهو مفعول اقرأوا ومفعول هاؤم محذوف أي هاؤم كتابيه ، وهو من باب حذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وحسابيه الأصل حسابي مثل كتابيه ، وهو مفعول ملاق. وفي عيشة متعلق بمحذوف خبرا لهو. وقطوفها دانية مبتدأ وخبر والجملة في محل جر صفة لجنة. وهنيئا صفة لمفعول مطلق محذوف أي شرابا وأكلا هنيئا. ويا ليتني «يا» لمجرد التنبيه ، ومثلها يا ليتها ، وهاء ليتها تعود الى الموتة الأولى أو الى الحال التي هو فيها. والجحيم منصوب بصلوه أي أوردوه النار. وذرعها مبتدأ وسبعون صفة وذراعا تمييز وجملة فاسلكوه خبر وفي سلسلة متعلق باسلكوه.

المعنى :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ). قال سبحانه في الآية السابقة : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ). وبين سبحانه هنا الفرق في يوم العرض بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وليس المراد باليمين هنا الجمود و «الرجعية» ولا بالشمال «اليسار والتقدمية» وانما المراد باليمين اليمن والخير ، وبالشمال الشؤم والشر جريا على عادة العرب واصطلاحاتهم ، فإنهم يعبرون باليمين عن الخير ، وبالشمال عن الشر ، وقد كانوا يستخيرون بزجر الطير ، فإن طار عن اليمين تفاءلوا ، وان طار عن الشمال تشاءموا. وعليه يكون المعنى ان السعداء في يوم القيامة يعلنون على رؤوس الأشهاد عن أنفسهم وأعمالهم بفخر واعتزاز ، ويقولون لمن يرون أو لمن يسأل عن حالهم :


خذ ، واقرأ صحيفة أعمالنا ، فقد كنا نؤمن بالله واليوم الآخر ، وندخر له الذخائر.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي مرضية ، وهي التي لا ينغصها شيء (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ). هذا تفصيل بعد إجمال ، فكأن سائلا يسأل : ما هي هذه العيشة المرضية؟ فأجاب سبحانه بأنها جنة عالية الشأن والقدر ، ثمارها قريبة وسهلة التناول ، وتقول الملائكة لأهل الجنة : كلوا من ثمار جنة الخلد هنيئا واشربوا من شرابها مريئا جزاء ما عملتم من الخيرات والمبرات. وأفرد سبحانه ضمير هو في عيشة بالنظر الى لفظ «من» وجمع في كلوا واشربوا بالنظر الى معناها ، وهو الجمع.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وهو الذي كذب بالحساب والجزاء وطغى وبغى على العباد ، وعبّر سبحانه عنه بمن أخذ كتابه بالشمال للاشارة الى ان أعماله عادت عليه بالشؤم والوبال كما أسلفنا (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ). تمنى لو انه لم يخلق أو لم يبعث من قبره ، تمنى ذلك بعد أن أيقن بعذاب لا دافع له من مال ولا جاه ولا حجة لو كان يملك شيئا من ذلك .. وانها امنية الخاسر اليائس ، ولا شيء وراءها إلا قوله تعالى لملائكة العذاب : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ). اجمعوا يديه الى عنقه بالقيد (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ). ألقوا به في نار جهنم (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ). والسبعون ذراعا كناية عن هول السلسلة وعذابها الأليم ، وان وقعها على المجرم يقاس بأعماله وما ترك من سوء الآثار في المجتمع. ومن الطريف قول بعض المفسرين : «اختلفوا في هذا الذراع. فقيل : انه الذراع المعروف. وقيل : هو ذراع الملك ـ أي ملك العذاب ـ وقيل : كل ذراع سبعون باعا ، وكل باع ما بين مكة والكوفة». ولا أدري : هل كان هذا القائل من مكة أم من الكوفة؟.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). هذا بيان للسبب الموجب لعذابه الأليم ، وانه الكفر والطغيان وعدم الحث على البذل ، وفيه إيماء الى ان على الأغنياء أن يبذلوا ويحثوا على البذل (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ)


لا قريب ينفع ولا أحد يشفع (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ). صديد يسيل من أجسام أهل النار (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الذين كانوا في الدنيا يأكلون أقوات المستضعفين وأعمال الكادحين.

ما تبصرون وما لا تبصرون الآية ٣٨ ـ ٥٢ :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

اللغة :

كاهن أي يتكهن ويتنبأ بالغيب كذبا وزورا. والتقوّل الافتراء. والأقاويل الأكاذيب. والوتين نياط القلب إذا قطع مات صاحبه. وحاجزين مانعين.

الإعراب :

فلا أقسم قال أكثر المفسرين ان «لا» زائدة. وضمير انه يعود الى القرآن


المفهوم من سياق الكلام. وقليلا ما تؤمنون قليلا صفة لمفعول مطلق محذوف و «ما» زائدة أي تؤمنون ايمانا قليلا ، ومثله قليلا ما تذكّرون. وتنزيل خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل. فما منكم «ما» نافية تعمل عمل ليس ، وأحد اسمها و «من» زائدة اعرابا ، وحاجزين خبرها على معنى أحد لأنه في معنى الجماعة ، ومنكم متعلق بمحذوف حالا من حاجزين ، ولو تأخر «منكم» لتعلق بصفة لحاجزين.

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ). اللام زائدة عند أكثر المفسرين ، وقيل : بل هي نافية للقسم لأن الامر أوضح من ان يحتاج الى أيمان ، وتقدم الكلام عن مثله عند تفسير الآية ٧٦ من سورة الواقعة (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ). هذا عام لعالم الغيب والشهادة مما كان ويكون في الدنيا والآخرة ، وهو في واقعه قسم بعلم الله سبحانه الذي أحاط بكل شيء ، ومن ذلك (إِنَّهُ ـ أي القرآن ـ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). لقد نطق محمد (ص) بالقرآن ما في ذلك ريب ، ولكن لم ينطق به لأنه شاعر أو كاهن ، ولا بصفة من صفاته الشخصية ، وانما جاء به من حيث انه مبلّغ عن الله ولسانه وبيانه. وتكلمنا مفصلا عن الشعر والرسول عند تفسير الآية ٢٢٤ من سورة الشعراء ج ٥ ص ٥٢٤.

وقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معناه لا يؤمن ولا يتذكر أحد منهم إلا القليل ، وقيل : بل المراد ما آمن ولا تذكر منهم قليل ولا كثير جريا على عادة العرب ، فإنهم يقولون : قلّما يفعل ، بمعنى لا يفعل البتة ، والتفسير الأول أقرب الى الواقع لأن المفروض ان بعض المشركين قد آمنوا بالرسول (ص) قبل أن يهاجر من مكة الى المدينة. وتقدم مثله في الآية ٨٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٤٨.


وتسأل : هل مجرد القسم يثبت الرسالة من الله لمحمد ، وينفي عنه الشعر والكهانة؟.

الجواب : لقد جاء هذا القسم بعد أن تحدى سبحانه المكذبين في العديد من الآيات بأن يأتوا بمثل القرآن ، وبعد ان عجزوا ولزمتهم الحجة ، فالمراد بالقسم هو تأكيد الحق الثابت بالدليل ، لا اثبات الحق بالقسم .. هذا ، الى ان للجدل مع الخصم أساليب شتى تتعدد وتختلف بحسب أفكاره وأوضاعه ، ومن تلك الأساليب الإدلاء بالحجة ، وإلقاء الأسئلة عليه بما يتناسب مع عقيدته ، وفصاحة الأسلوب وبلاغته ، ومنها أيضا القسم فإنه يبعث في بعض القلوب إحساسا غامضا ومثيرا.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). تقوّل أي افترى وفيه ضمير مستتر يعود الى محمد (ص) ، والأقاويل جمع أقوال ، وغلب على الأقوال الكاذبة ، والمراد بالأخذ باليمين هنا التمكن والقدرة ، والوتين نياط القلب وحبل الوريد إذا قطع مات صاحبه ، وحاجزين أي مانعين وحائلين ، والمعنى ان محمدا منزه عما ينسبه اليه المشركون من الافتراء على الله ، ولو تعمد ذلك لانتقم الله منه ، ونكل به أفظع تنكيل ، ولا أحد من المشركين ولا غيرهم ينجيه من هذا العذاب والتنكيل ، وبما ان الله لم يفعل ذلك بمحمد فهو ـ اذن ـ الصادق الأمين ، والمفترون هم الذين نسبوا محمدا الى الافتراء.

وتسأل : لما ذا لم يعجّل سبحانه العقوبة لمن كذّب محمدا كما يعجلها لمحمد لو كان كاذبا؟

الجواب : ان هذا التهديد منه تعالى انما هو لمن يدعي النبوة كذبا وزورا ، لا لمن كذّب بنبوة الأنبياء ، والفرق بعيد وظاهر بين الاثنين .. هذا ، الى ان الغرض من تهديده سبحانه هو تنزيه الرسول الأعظم عما نسب اليه من الافتراء على الله كما أشرنا.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). ضمير انه يعود الى القرآن ، وهو هدى لمن طلب الهداية ، وأراد بصدق واخلاص ان يتقي غضب الله وعذابه (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ


مُكَذِّبِينَ). هذا تهديد ووعيد لمن كذّب بالرسول والقرآن (وَإِنَّهُ ـ أي القرآن ـ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ). لأنه يلعنهم ويفضحهم ، ولأن كلمته هي العليا ، وكلمة الكافرين به هي السفلى ، ولأنه حجة الله عليهم في يوم الحساب والجزاء (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) الذي لا ريب فيه ، وتقدم مثله في الآية ٩٥ من سورة الواقعة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). الخطاب لرسول الله (ص) والمقصود العموم ، والمعنى نزّهوا الله عما لا يليق به. وتقدم في الآية ٧٥ من سورة الواقعة.


سورة المعارج

٤٤ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقداره ٥٠ الف سنة الآية ١ ـ ١٨ :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

اللغة :

يأتي فعل «سأل» بمعنى طلب واستدعى ، ويتعدى الى مفعولين نحو سألت


فلانا درهما ، وإذا دخلت الباء على المفعول الثاني فهي زائدة مثلها في (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ويأتي فعل سأل أيضا بمعنى استخبر ، ويتعدى الى مفعول أول بنفسه والى الثاني بعن نحو سألته عن كذا أو بالباء متضمنة معنى عن مثل «سل به خبيرا» أي عنه. ومعارج جمع معرج وهو الدرج ، وقيل : السموات. والمهل خثارة الزيت. والعهن الصوف المنفوش أو المصبوغ. وحميم قريب. والفصيلة العشيرة. ولظى من أسماء جهنم. ونزاعة من نزع الشيء إذا اقتلعه من مكانه. وقال صاحب مجمع البيان : الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وجمع فأوعى أي جمع المال وأمسكه في وعاء.

الإعراب :

للكافرين متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي هو مهيّأ للكافرين ، وجملة ليس له دافع خبر بعد خبر. وذي المعارج صفة لله. ويوم تكون السماء «يوم» منصوب بيبصرونهم عند صاحب مجمع البيان. لو يفتدى «لو» للتمني. وجميعا حال. وكلا حرف ردع وزجر.

المعنى :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ). قلنا فيما سبق : ان المشركين أعرضوا عن دعوة الرسول (ص) لأسباب أولا : انها حرب على مكاسبهم وأرباحهم. ثانيا : ان الله لا يبعث بزعمهم بشرا رسولا ، وان كان ولا بد فيختاره من الأغنياء لا من الفقراء أمثال محمد بن عبد الله. ثالثا : ان محمدا (ص) يدعو الى التوحيد ، وهم يؤمنون بتعدد الآلهة. رابعا : انه يخوّفهم من البعث والعذاب بعد الموت ، وهذا ما ينكرونه أشد الإنكار : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ). وإذا أكّد النبي (ص) ذلك وأصر عليه قالوا : متى هذا الوعد؟ وفي بعض الأحيان يستعجلون العذاب ساخرين (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ ٣٢ الأنفال.


ومن أجل هذا قال كثير من المفسرين : ان قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ). هو اشارة الى ما طلبوا من تعجيل العذاب ، وان الله سبحانه قد أجابهم عن هذا الطلب بقوله : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي ان العذاب نازل بالجاحدين لا محالة سواء أطلبوا التعجيل أم التأجيل.

الشيطان والبحث عن الغيب :

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) صفة لله تعالى ، والمراد به الرفعة والعلو ، ومثله الآية ١٥ من سورة غافر : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ). (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). المراد بالروح جبريل ، وخصه سبحانه بالذكر مع انه من جملة الملائكة لعلو شأنه ، وضمير اليه يعود الى ما هو معلوم عند الله والملائكة ، والخمسون ألف سنة كناية عن طول المدة. وذكر الأستاذ أحمد أمين العراقي هذه الآية في كتابه «التكامل في الإسلام» واستخرج منها ان الملائكة يسيرون بسرعة تفوق سرعة الصوت ، ذلك بأن سعة الكون لا حد لها ولا نهاية ، ويكفي دليلا على هذه الحقيقة ان بعض النجوم قد أرسلت ضوءها الى الأرض منذ ملايين السنين ، ولم يصل بعد اليها مع العلم بأن الضوء يقطع ٣٠٠٠٠٠ ك م في الثانية. وعليه يستحيل ان يقطع الملائكة المسافات الشاسعة الواسعة إلا إذا كان سيرهم أسرع من سير الضوء أضعافا مضاعفة.

وقلنا عند تفسير قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) ـ ١٧ الحاقة : ان هذا الموضوع وما اليه لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولا يقبل التأويل بحال ، وانه لو كان من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه إذا استند الى ظاهر الكتاب أو السنة. وقال بعض الصوفية : ليس المراد بخمسين ألف سنة السنوات التي نعرفها ، بل المراد الأطوار والأدوار. وقال صوفي آخر : ان ايام الله هي كما يشاء ، فإن شاء جعلها ألفا ، وان شاء جعلها آلافا وملايين.

وهذا غيب في غيب ، ونحن غير مسؤولين عن علمه أمام الله ، وما كلفنا بالبحث عن كنهه إلا الشيطان .. قال الإمام علي (ع) : «وما كلفك الشيطان


علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبي (ص) والأئمة أثره فكل علمه الى الله سبحانه ، فإن ذلك منتهى حق الله عليك ، واعلم ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ـ الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً). حذر النبي (ص) المشركين من يوم العذاب ، فتعجلوه ساخرين .. فقال سبحانه لنبيه الكريم : إذا استخفوا بيوم العذاب وسخروا منه فاصبر أنت يا محمد على هزئهم واستخفافهم صبرا لا جزع فيه ولا شكوى ، ولا تستبطئ النصر عليهم ، وإذا تحيلوا يوم العذاب أباطيل وأساطير فهو عند الله آت لا ريب فيه ، وكل آت قريب .. ثم وصف سبحانه اليوم الذي به يوعدون ومنه يسخرون ، وصفه بقوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ). تذوب الأجرام السماوية ، وتصبح تماما كالزيت العكر ، ومثله قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) ـ ٢ التكوير. (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) يخالها الرائي صوفا قد فرّق ونفش ، ومثله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) ٥ الواقعة أي فتتت.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لأن كل انسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره ، والسعيد في ذلك اليوم من ادّخر له الصالحات (يُبَصَّرُونَهُمْ) بتشديد الصاد وفتحها من بصرته الشيء إذا أوضحته له ، وواو الجماعة تعود الى «حميم» المرفوع بالنظر الى معناه وان كان اللفظ مفردا ، و «هم» تعود الى «حميما» المنصوب باعتبار ارادة الجمع منه أيضا ، والمعنى لا أحد يسأل أحدا يوم القيامة حتى ولو كان من الأصدقاء والأقارب مع ان بعضهم يعرف بعضا في ذلك ، ولكنه يفر منه لما به من الكرب والبلاء.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ). وتومئ «ثم» الى البعد أي هيهات


هيهات أن ينجيه ذلك ، والمراد بالصاحبة الزوجة ، وبالفصيلة العشيرة ، والمعنى واضح ويتلخص بأن أسير جهنم يود لو يفادى من الهول بجميع أهل الأرض حتى الزوجة والأبناء الذين كان بالأمس يفتديهم بنفسه ، ويرتكب من أجلهم المخاطر والأهوال .. وهذا أبلغ تصوير لأسف المجرم على ما فات ، ولهفته على الخلاص والنجاة.

(كلا) أيها المجرمون .. لا تمنيات في هذا اليوم ، ولا شيء لكم فيه إلا جهنم أنتم لها واردون (إِنَّها لَظى) وما أدراك ما لظى؟ (نَزَّاعَةً لِلشَّوى). تنتزع الأعضاء من أماكنها وتشويها ، ثم تعاد كما كانت ، وتنتزع مرة أخرى وتعاد. وهكذا الى ما لا نهاية : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ـ ٣٦ فاطر (دْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) في الدنيا عن دعوة الهدى والحق ، والمراد بدعوة النار له ان هاربها لا مفر له منها ولا ملجأ (وَجَمَعَ فَأَوْعى) من الوعاء لا من الوعي أي كنز المال في وعاء ونحوه ، والآية تهديد ووعيد لمن جمع المال وحرص عليه ، ولم ينفقه في طاعة الله ، والجمع بين كانز المال ومن كذّب دعوة الحق يشعر بأنهما سواء عند الله في يوم الحساب والجزاء.

من هم المصلون الآية ١٩ ـ ٣٥ :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما


مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

اللغة :

الهلوع في اللغة الضجور الذي لا صبر له ، والمراد به هنا من فسره سبحانه بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). والمراد بالشر كل مكروه وبالخير كل محبوب. والسائل من يسأل الناس ، والمحروم من يستنكف عن السؤال على حاجته وحرمانه. ومشفقون خائفون.

الإعراب :

هلوعا حال من الإنسان. وجزوعا خبر كان المحذوفة هي واسمها المستتر أي كان جزوعا ، ومثله «منوعا» وإذا الاولى متعلقة بجزوع والثانية بمنوع ، ويجوز أن يكون كل من جزوع ومنوع حالا ، وعليه يكون في الكلام تقديم وتأخير أي : خلق الإنسان هلوعا جزوعا حين يمسه الشر منوعا حين يمسه الخير. الا المصلين استثناء من الإنسان باعتباره اسم جنس. والذين هم على صلاتهم صفة للمصلين.

المعنى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). يشير سبحانه بهذا الى ان الإنسان ضعيف بطبعه كما قال في الآية ٢٨ من سورة النساء : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) والآية ٥٤ من سورة الروم : (اللهُ الَّذِي


خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ). ويظهر هذا الضعف عند وجود أسبابه كالغنى والفقر ، فان استغنى ضنّ بماله خوفا من الفقر ، وان افتقر استولى عليه اليأس والقنوط .. ولكن من آمن بالله حقا ، ووثق به وبرحمته يتغلب على هذا الضعف ، ويصبر عند الشدائد صبر الأحرار متطلعا الى اليسر والفرج ، ويجود بالعطية مؤمنا بأن ما عند الله خير وأبقى. وفيما يلي ذكر سبحانه طرفا من أوصاف المؤمنين.

١ ـ (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ). ويدل هذا الاستثناء من الإنسان الجزوع الهلوع ، يدل دلالة واضحة وقاطعة على ان المصلين لله حقا هم الذين يثقون به وحده ، ولا يخضعون لأحد سواه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أما الذين يكبرون ويهللون تم يركعون ويسجدون لأهل الجاه والمال طمعا بما في أيديهم ، أما هؤلاء فليسوا من المصلين في شيء حتى ولو داوموا على الفرائض والنوافل ، ولم يشغلهم عنها أي شاغل.

٢ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). يبذلون في سبيل الطاعات والخيرات لوجه الله تعالى لا يبتغون جزاء ولا شكورا. وتقدم مثله في الآية ١٩ من سورة الذاريات.

٣ ـ (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ). يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويعملون بموجب هذا الايمان ، وإلا فإن الايمان النظري لا يجدي شيئا.

٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ). المؤمن يرجو ويخاف ، ينظر الى الجنة بعين ، والى النار بعين ، يخاف من هذه ، ولا ييأس من تلك. قال سبحانه : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ٩٩ الأعراف. وقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ٨٨ يوسف. وأحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا منه كما قال الإمام علي (ع) أي ان الخوف منه تعالى يأتي على قدر العلم بعظمته.

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ). على المؤمن ان يصبر ويرضى بما قسّم الله له من بنات حواء ، وعلى المؤمنة أن ترضى وتصبر على ما آتاها الله من أبناء آدم ، ومن صبر وشكر فأجره على الله ، وإلا فعقابه


الحرمان من الحور والجنان. وتقدم بالحرف الواحد في الآية ٨ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٥٨.

٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ). المؤمن إذا عاهد وفي ، وإذا اؤتمن لم يخن ، ومن لا وفاء له لا دين له ولا ضمير. وأيضا تقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٥٩.

٧ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ). الشهادة أمانة الله عند الشاهد ، فمن كتمها أو حرفها فقد خان الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ١٤٠ البقرة.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ). وتسأل : أليست هذه الآية تكرارا للآية السابقة ، وهي قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)؟ وأجاب بعض المفسرين بأن الدوام غير المحافظة ، فمعنى دوام الصلاة تكرارها في أوقاتها ومعنى المحافظة عليها الإتيان بها بشرطها وشروطها! اما نحن فلا نرى أي فرق بين الدوام والمحافظة لأن الصلاة لا تكون صلاة إلا مع المحافظة على جميع الأجزاء والشرائط ، فإذا فقدت واحدا منها بطلت ، ولا يكون تكرارها تكرارا للصلاة .. والأقرب الى الصواب ان الله سبحانه أعاد الآية لمجرد الاهتمام بالصلاة والتنبيه الى أنها عمود الإسلام.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ). أولئك اشارة الى من اجتمعت فيهم الصفات المذكورة ، وانهم عند الله سبحانه في منازل العز والكرامة.

فذوهم يخوضوا ويلعبوا الآية ٣٦ ـ ٤٤ :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى


يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

اللغة :

قبلك بكسر القاف جهتك ونحوك وعندك وحولك. ومهطعين مسرعين. وعزين جمع عزة بكسر العين كعدة ، وهي العصبة والجماعة ، وأعربت بالياء والنون إلحاقا بجمع السلامة مثل سنين. والنصب كل ما نصب للعبادة من دون الله. ويوفضون يسرعون ويستبقون. والخشوع في البصر الغض ويكنى به عن الذل والهوان ، وفي الصوت الإخفات ، وفي القلب الخشية والتواضع. وترهقهم تلحقهم وتستولي عليهم.

الإعراب :

فما للاستفهام الانكاري مبتدأ ، وللذين كفروا خبر. وقبلك ظرف متعلق بمحذوف حال من الذين كفروا أي ثابتين حولك. ومهطعين حال. وعن اليمين وعن الشمال متعلق بعزين لأنه بمعنى متفرقين. وعزين حال أيضا. ان يدخل جنة أي في أن يدخل. وكلّا حرف ردع وزجر. فلا اقسم مثل فلا اقسم ٧٥ الواقعة و ٣٨ الحاقة. وبمسبوقين الباء زائدة إعرابا ومسبوقون خبر نحن. ويخوضوا مجزوم بجواب الأمر. ويوم يخرجون بدل من يومهم. وسراعا حال. وخاشعة أيضا حال.

المعنى :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ)؟ ما شأن هؤلاء الذين كذبوا برسالتك يا محمد ، وكفروا بالبعث ، ما شأنهم؟ يسرعون


الى مجلسك جماعات جماعات ، ويأخذون عندك أماكنهم يمينا وشمالا ، يسمعون ما تتلوه من آيات الله ، ثم يرددونه فيما بينهم ساخرين من البعث والحساب ، ويقول بعضهم لبعض : ان صح هذا فنحن أولى الناس بالله وجنته ، لأنّا أكثر أموالا وأعز نفرا من محمد وصحابته .. فأجابهم سبحانه بقوله عز من قائل : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)؟ لا نصيب لكم ايها المكذبون من جنة الله وثوابه ، ولا شيء لكم عنده إلا سوء المصير .. وكيف تطمعون في الجنة وأنتم تكفرون بها ، وتسخرون من الرسول الذي دعاكم الى العمل لها؟. أتحسبون ان الأموال والأوثان تقربكم من الله زلفى؟.

(كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ). وهم يعلمون علم اليقين ان الله خلقهم من ماء مهين : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ـ ٦ الطارق وإذا كان أصل الإنسان ، كل انسان ، واحدا فكيف يكون بعضهم أعظم من بعض عند الله ، وأولى به من غيره؟. كلا ، لا فضل لأبيض على اسود ، ولا لغني على فقير إلا بالتقوى والعمل الصالح .. وقوله تعالى : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) يتضمن التعريض بالمكذبين بالبعث والرد على قولهم بأن من يصير عظاما وترابا لا تعيده أية قوة الى الحياة ، ووجه الرد ان الذي خلق الإنسان من ماء مهين قادر على ان يحيي العظام وهي رميم.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ). المراد بالمشارق والمغارب مشارق الكواكب ومغاربها ، أو مشارق الشمس ومغاربها ، وهي تظهر للأعين وتختفي عنها بسبب دوران الأرض أمامها ، وضمير منهم يعود الى الذين كفروا ، والمعنى ان الله سبحانه يقسم ـ على القول ان «لا» زائدة ـ يقسم ، جلت عظمته ، انه قادر على ان يهلك المكذبين ، ويستخلف مكانهم قوما آخرين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وإذا أراد ذلك فلا راد لمشيئته. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ). هذا تهديد ووعيد ، ومعناه دعهم يا محمد وشأنهم .. فليسخروا ويهزءوا ما شاء لهم العبث والباطل فإن نهايتهم الى النار وبئس القرار. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٨٣


من سورة الزخرف ج ٥ ص ٥٦٢ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ). يسرعون من قبورهم الى نقاش الحساب كما كانوا يسرعون بالأمس من بيوتهم الى الأصنام والأوثان ، ولكن شتان ما بين اليومين ، فقد كانوا في يوم الدنيا يسرعون الى آلهتهم آمنين مطمئنين ، أما في يوم القيامة فيسرعون الى الله ، والأرض تهتز تحت أقدامهم من هول المطلع (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قد استولى عليهم الذل والهوان : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) ٢٨ يونس ج ٤ ص ١٥٢ (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ومنه يسخرون وبه يستعجلون.


سورة نوح

٢٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

دعوت قومي ليلاً ونهاراً الآية ١ ـ ١٢ :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢))


اللغة :

استغشوا ثيابهم يقال : استغشى الثوب إذا تغطى به ، ويجعل كناية عن أخفى الحالات. والمراد بالسماء هنا المطر. والمدرار الغزير.

الإعراب :

ان انذر ، وان اعبدوا يجوز أن تكون «ان» مفسرة بمعنى أي ويجوز ان تكون مصدرية على تقدير الباء أي بأن انذر وبأن اعبدوا. ليلا ونهارا ظرفان لدعوت. وفرارا تمييز محول عن فاعل لأن معناه زاد نفورهم مثل طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد ، وقيل : مفعول ثان ليزدهم. وجهارا مفعول مطلق لدعوتهم لأن الدعوة كانت بالقول ، والجهر من صفاته ، فيكون مثل قعدت القرفصاء ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا. ومدرارا حال وصاحبه السماء.

المعنى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فسّر الشيخ عبد القادر المغربي جزء تبارك ، ونقل فيه عن كتب الأوائل ، وهو يفسر هذه الآيات : ان تاريخ عبادة الأوثان يبتدئ بزمن «انوش بن شيث بن آدم» وان الشرك في زمن نوح قد بلغ الغاية ، فاختاره الله سبحانه لنضال هذا الشرك ، وإنذار المشركين بالهلاك إن أصروا على الضلال .. واسم نوح الراحة ، وبينه وبين آدم جده الأكبر ١٠٥٦ سنة ، ولما حدث الطوفان كان عمره ٦٠٠ سنة ، وعاش بعده ٣٥٠ عاما ، وأدركه حفيده ابراهيم الخليل ، وعاش معه أكثر من نصف قرن ، وبعد أن نجا نوح من الطوفان انصرف الى الأرض يحرثها ويغرسها. هذا ملخص ما نقله المغربي عن كتب الأوائل ، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ). أرسل


سبحانه نوحا الى قومه بأمور ثلاثة : الأول أن يتركوا عبادة الأصنام ويعبدوا إلها واحدا. الثاني أن يفعلوا الخير ويتقوا الشر. الثالث أن يطيعوه فيما يأمر وينهى ، وضمن لهم ـ إن استجابوا ـ أمرين : الأول (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي اقترفتموها قبل الايمان لأن الايمان يجبّ ما قبله. أما الذنوب التي ارتكبوها بعد الايمان فإنهم مسؤولون عنها ، وهذا ما تومئ اليه كلمة «من ذنوبكم».

الأمر الثاني (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). إذا آمنتم بالله وحده يدرأ عنكم عذاب الاستئصال بالطوفان ونحوه ، ويمهلكم حتى تستوفوا العمر الطبيعي ، ويؤجل حساب من يذنب منكم الى يوم القيامة ، وإلا عجّل لكم عذاب الاستئصال في الدنيا (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً). ليلا ونهارا أي دائما : دعاهم نوح دعوة الحق ، وألح عليهم حتى (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) ـ ٣٢ هود ولكنه مضى في دعوته ، ومضوا بدورهم في العناد والنفور (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) جعلوا أصابعهم في آذانهم أي سدوا مسامعهم عن دعوة الحق ، واستغشوا ثيابهم تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي ، وقد يكون هذا حقيقة ، ويجوز أن يكون تعبيرا مجازيا عن عنادهم وإصرارهم على الضلال ، وأيا كان فإن المعنى واحد ، وهو النفور من دعوة الحق تعاظما على نوح الذي يرونه دونهم منزلة ومقاما فكيف يكونون في عداد أتباعه ، كما جاء في الآية ٢٧ من سورة هود : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ).

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). قال جماعة من المفسرين : ان قول نوح أولا : دعوت قومي ليلا ونهارا ، وقوله ثانيا : دعوتهم جهارا ، وقوله ثالثا : أعلنت وأسررت ـ يدل على ان دعوته كانت على ثلاث مراتب : ابتدأها في السر ، ثم ثنى بالجهر ، ثم ثلّث بالإعلان والسر معا. وليس هذا بعيدا عن ظاهر الآيات ، ولكن يجوز أن يكون مراد


نوح من هذا العطف والتكرار انه دعاهم بكل أسلوب واستمر على ذلك بلا ملل وفتور ، ولكن على غير جدوى.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). إذا آمنوا بالله وحده وأخلصوا له بالقول والفعل فإن نوحا يضمن لهم على الله سبحانه ان يكفّر عنهم ما سلف من سيئاتهم ، وان يغنيهم من فضله بالأموال والأولاد ، فتفيض السماء عليهم بخيراتها ، والأرض بثمراتها ، ويجمع لهم بين الصحة والأمان والرخاء والهناء مع تكثير النسل.

الايمان والرخاء :

وتسأل : ان هذه الآيات ربطت بين الايمان والتقوى من جهة ، وبين الرخاء والهناء من جهة مع ان العيان يثبت العكس .. وأوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة الامريكية ، فإنها أطغى دولة في الكرة الأرضية ، وأكثرها فسادا واعتداء حتى اتخذت لنفسها مبدأ لا تحيد عنه ، وهو من لم يكن معها ـ أي عبدا لها ـ فهو عدوها اللدود .. وكلنا يعلم ما كان لهذه السياسة من ويلات ، فما من دم يسفك أو فساد يظهر في شرق الأرض وغربها إلا وللولايات المتحدة يد فيه بشكل أو بآخر .. وما من خائن لأمته ووطنه إلا ويجد في أحضانها مقاما كريما ، وعرينا أمينا .. ومع هذا فهي أقوى وأغنى دول العالم على الإطلاق ، وكفى شاهدا على ذلك ان دخلها يبلغ ٤٣ من مجموع الانتاج العالمي مع العلم بأن نسبة سكانها عددا الى نسبة سكان العالم هي ٦ فما هو وجه الجمع بين هذا وبين ظاهر الآيات التي ربطت الرخاء بالايمان؟

الجواب أولا : ان هذه الآيات نزلت في قوم نوح خاصة ، ولا دلالة لها على العموم والشمول كي يتعدى بها الى غيرهم .. هذا ، الى ان الله شأنا خاصا في معاملة الأمم التي ينذرها بلسان أنبيائه مباشرة.

ثانيا : ان ثراء الولايات المتحدة من الشيطان لا من الرحمن لأن معظمه من السلب والنهب.


ثالثا : ان هذه الآيات ربطت بين سعادة الدنيا والآخرة معا وبين الايمان لا بينه وبين سعادة الدنيا وحدها : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ ١٧٨ آل عمران.

رابعا : وما يدريك ان الولايات المتحدة وغيرها من الدول الباغية هي في أمن وأمان؟ وأي عاقل يأمن الغوائل؟. وهل دامت الامبراطورية الرومانية بل والبريطانية وغيرها وغيرها حتى تدوم غطرسة الولايات المتحدة ومفاسدها؟ وهذه بشائر الانهيار يتبع بعضها بعضا ، فمن موجات التحرر في العالم كله الى ثورة الثلاثين مليون زنجي في قلب الولايات المتحدة ، الى التضخم المالي الذي تداويه بالحروب المحدودة ، ومن سيطرة الصناعة العسكرية الى تلاعب الصهاينة بالحكام والشيوخ والنواب ، ومن امبراطورية المخابرات الى القتل والخطف وإشعال الحريق الى الحشيش والمخدرات ، ومن الصراع والعداء مع أكثر أهل القارات الخمس الى رئيس يحمي ويحامي عن اللصوص وسفاكي الدماء .. الى ما لا نهاية .. ومستحيل أن يدوم أمن ورخاء لهذا النسيج الغريب العجيب سواء أكان من صنع الولايات المتحدة أم صنع غيرها.

ومن غريب الصدف اني في اليوم الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ٠ ـ ـ ١٩٧٠ نقلا عن صحف نيويورك : ان خمسة آلاف من الرجال والشبان المصابين بداء الأبنة قد تظاهروا عبر شوراع نيويورك يحملون اللافتات مطالبين الحكومة بإصدار قانون يبيح لهم ممارسة الشذوذ الجنسي اسوة بما يباح للنساء من الزواج وبيع أجسامهن بالسوق العمومية .. وفي مجلة النيوزويك تاريخ ٢ ـ ٠ ـ ١٩٧٠ ان القس «توري باري» الشهير باللواط يدعو الى انتشار اللواط والمساحقة لأنهما لون من الحب الإلهي ، وقد انتشرت دعوته هذه ، وأصبح لها اتباع كثيرون في أنحاء الولايات المتحدة. وليس من شك ان هؤلاء المأبونين سيخرج منهم شواذ يتولون القيادة وسياسة السلم والحرب ، وأمور العلم والعمل في المجتمع الامريكي .. وعندئذ يصبح كيان الولايات المتحدة أوهى من بيت العنكبوت.


خلقكم اطواراً الآية ١٣ ـ ٢٠ :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

اللغة :

يستعمل الرجاء في الأمل وفي الخوف ، وهذا المعنى هو المراد من «لا ترجون». والوقار في الإنسان الرزانة ، وفي جانب الله العظمة. وأطوار جمع طور ، ومن معانيه الحال والصنف. وطباقا أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان. وفجاج جمع فج وهو الانفراج والسعة.

الإعراب :

ما لكم مبتدأ وخبر. ووقارا مفعول لا ترجون أي لا تخافون عظمة الله. وأطوارا مفعول خلقكم. وطباقا صفة لسماوات أي مطابقة. ونباتا مفعول مطلق بمعنى إنباتا. وسبلا مفعول تسلكوا ، وفجاجا صفة.

المعنى :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً). يستنكر نوح على قومه ويعجب كيف لا يهابون الله وعظمته ، وهم يعلمون انه خلقهم من تراب ثم من


نطفة ثم من علقة .. وهكذا ينتقل بهم من حال الى حال حتى الهرم والشيخوخة ، وأيضا وجّه أنظارهم الى قدرة الله في خلق السموات والكواكب السيارة ، وقال لهم : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)؟. تأمّلوا وتدبروا خلق السموات وإتقانها ونظامها الذي يدل على وجود الصانع الحكيم. وتقدم مثله في الآية ٣ من سورة الملك ، أما السموات السبع فقد تكلمنا عنها بضرب من التوسع عند تفسير الآية ١٢ من سورة الطلاق ، فقرة «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». وتجدر الاشارة الى ان قول نوح لقومه : (سَبْعَ سَماواتٍ) يدل على ان قومه كانوا يؤمنون بذلك ، وان الاعتقاد بالسماوات السبع كان في الزمن القديم.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً). فيهن أي في مجموعهن .. وصف سبحانه الشمس بالسراج والقمر بالنور لأن السراج مصدر النور ، والشمس أيضا مصدر لنور القمر ، وأيضا نورها أعم وأنفع من نوره. وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٥ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً). هذا هو ابن آدم من الأرض خلق ، وعليها يحيا واليها يعود. وتقدم مثله في الآية ٥٥ من سورة طه ج ٥ ص ٢٢٣ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً). جعل سبحانه في الأرض طرقا واسعة ليسلكها الناس الى مقاصدهم. وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٧٤.

ولا تذرون وداً وسواعاً الآية ٢١ ـ ٢٨ :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ


يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

اللغة :

الكبار بضم الكاف وتشديد الباء أي الكبير جدا. وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء أصنام. والديّار نازل الدار ، والمراد به هنا أحد أي لا تبقي أحدا منهم. وتبارا هلاكا.

الإعراب :

كثيرا أي خلقا كثيرا. ومما خطيئاتهم «ما» زائدة أي من خطيئاتهم. ومؤمنا حال من فاعل دخل.

المعنى :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً). هذا تقرير من نوح أو شكوى يرفعها الى سيده ، ويقول فيها : إلهي وسيدي أرسلتني لهداية عبادك المشركين ، وقد أديت الرسالة على وجهها ، ولكنهم أعرضوا عني وعنها ، واستجابوا للرؤساء الذين أطغاهم ما هم فيه من الأموال والأولاد ، وكلما ازدادوا مالا وأولادا ازدادوا كفرا وعنادا ونشطوا في محاربة الحق وأهله حرصا على جاههم ومكاسبهم (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً). واو الجماعة في مكروا يعود الى (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) لأن معنى «من» الجماعة وهم


الرؤساء الطغاة ، والمراد بمكرهم الأساليب التي كانوا يتبعونها لصد المستضعفين عن الايمان ، ومنها قول أولئك الطغاة للناس : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) لا تتركوا عبادة الأوثان الى عبادة إله واحد ، وكان لهم أصنام كثيرة ، وأهمها مكانة وشأنا خمسة ، ولذا خصوها بالذكر ، وقالوا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً). وكان نوح يشدد النكير على عبادة هذه الخمسة لأنها أكبر الآلهة.

وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الخمسة ظلت تعبد في الجاهلية الى عهد الرسول الأعظم (ص) ، وان ودا كان لقبيلة كلب ، وسواعا لهذيل ، ويغوث لغطيف ، ويعوق لهمدان ، ونسرا لحمير .. وهناك أصنام أخر لأقوام آخرين كاللات والعزى وهبل ومناة (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً). واو الجماعة في ضلوا يعود الى القادة الطغاة ، والمراد ب «ضلالا» الهلاك مثل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ـ ٤٧ القمر. أما زيادة الهلاك فالمراد به القسوة والشدة ، والمعنى أنزل اللهم عذابك الأليم الشديد بقادة الفساد لأنهم ضلوا وأضلوا الكثير من عبادك.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً). هذه الآية معترضة في كلام نوح ودعائه ، ولكنها تمت اليه بسبب ، ومعناها ان قوم نوح أصروا على الكفر والضلال فأخذهم سبحانه بالطوفان ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ولا ينجيهم منه أحد (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). أي لا تبق منهم أحدا ، وما دعا نوح عليهم بالاستئصال إلا بعد ان نزلت عليه هذه الآية : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) ـ ٣٦ هود. ونقل الرازي عن المبرد : ان ديارا لا تستعمل إلا في النفي ، يقال : ما في الدار ديار ، ولا يقال : فيها ديار.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً). يدل هذا على ان الكفر والفجور قد طغى على مجتمع قوم نوح بحيث لا ينشأ فيه إلا الكافر الفاجر .. ومعلوم ان نفس الطفل كالمرآة ينعكس عليها كل ما يحيط بها .. حتى الكبير يختلف سلوكه بين مجتمع وبين آخر فكيف الصغار! وروي ان الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه اليه ، ويقول له : احذر هذا ـ مشيرا الى نوح ـ


فإنه كذاب ، وان أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير ، وينشأ على ذلك الصغير.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). بعد ان دعا على الكافرين سأل الله المغفرة له ولوالديه ، ولمن آمن أهله وأولاده ، وهم الذين عناهم بقوله : (لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً). وأيضا دعا لكل مؤمن ومؤمنة من لدن آدم الى يوم يبعثون (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً). لمن آمن الرحمة والغفران ، ولمن كفر الهلاك والنيران.

وجاء في قاموس الكتاب المقدس : «أظهرت الحفريات الأثرية ان الفيضانات واقع ملموس .. وان أقدم قصة للطوفان كتبت غالبا فيما بين ١٨٩٤ و ١٥٩٥ قبل الميلاد». أنظر ج ٤ من «التفسير الكاشف» ص ٢٣٧ فقرة «الطوفان ثابت عند الأمم».

وهنا سؤال يفرض نفسه : هل الطوفان الذي دلت عليه الحفريات وجاء في الأسفار القديمة هو طوفان نوح أو غيره؟.

الجواب : أيا كان فليكن ، فإن غير طوفان نوح لا يمنع من وجوده كما ان طوفان نوح لا يستدعي ان لا يوجد سواه ، وفي كل عصر يحدث طوفان أو أكثر في طرف من أطراف الأرض .. وطوفان نوح قد بكون عاما ، وقد يكون خاصا بجزء من أجزاء الأرض ، ولا نص صريح في كتاب الله على أحدهما.


سورة الجنّ

٢٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

استمع نفر من الجن الآية ١ ـ ٧ :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

اللغة :

جد الله سبحانه علوه وعظمته. والشطط الافراط وتجاوز الحد. ويعوذون يستجيرون. ورهقا من أرهقه إذا كلفه ما لا يطيق.


الإعراب :

المصدر من انه استمع نائب فاعل لأوحي ، وضمير انه للشأن. وعجبا صفة للقرآن بمعنى عجيب. وشططا صفة لمفعول مطلق مقدر أي قولا شططا ، ومثله كذبا. وان لن «ان» مخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والمصدر المنسبك سادّ مسدّ مفعولين. ورهقا مفعول ثان لزادوهم.

المعنى :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً). الجن حقيقة واقعة ، لا يشك فيها مؤمن لأن آي الذكر الحكيم أثبتت ذلك بما لا يقبل الشك والتأويل ، وبماذا نؤول قوله تعالى في الآية ١٣ من سورة سبأ : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) والآية ٣٩ من سورة النمل : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ) والآية ٣٠ من سورة الأحقاف : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). وقوله تعالى في سورتنا هذه : (سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ..)(لَمَسْنَا السَّماءَ ..»مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) بماذا نؤول هذه الآيات؟ ومثلها كثير ، أنؤولها بالمكروبات أو بالراديوم أو بالإلكترونات وما اليها من المصطلحات؟.

وتقول : العلم الحديث لم يثبت الجن. ونقول : وهل في العلم الحديث ما ينفيه؟ وهل أحصى العلم الحديث عدد الكائنات ما ظهر منها وما بطن؟ وأي عالم قديم أو جديد يعرف حقيقة نفسه وعقله ، بل وجسمه المحسوس الملموس ، يعرفه بما فيه من عروق وخطوط وشعر؟ ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل بخاصة عالم الغيب. لقد اثبت الوحي الجن والملائكة فوجب التصديق ، ومن نفى بلسان القطع والجزم فعليه الإثبات من العقل أو الوحي تماما كما لو أثبت.

وبعد ، فقد أوحى سبحانه الى نبيه الكريم ان جماعة من الجن استمعوا اليه ، وهو يتلو كتاب الله ففهموه وتدبروا معانيه ، فدهشوا من عظمته مبنى ومعنى ، وقال بعضهم لبعض : ألا تعجبون لهذا القرآن؟ وهل سمعتم بمثيل له من قبل؟


حقا انه لمعجز وانه (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) فما من خير إلا ويرشد اليه ويأمر به مرغّبا ومبشرا ، وما من شر إلا ويدل عليه وينهى عنه منذرا ومحذرا.

١ ـ (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لأنه قادر على كل شيء ، ومن قدر على كل شيء فهو في غنى عن الشركاء ، ولو استعان بغيره لكان عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها.

٢ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً). جل سبحانه عن اتخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ، كيف وهو الغني الحميد؟.

٣ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً). المراد بالسفيه هنا الجاهل ، والشطط تجاوز الحد ، وفيه إيماء الى انه كان في الجن طائفة تدين بالتثليث : الرب وابنه وزوجته ، وما من شك ان هذا سفه وسرف.

٤ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً). كان قادة الدين من الجن يلقنون أتباعهم الأضاليل والأباطيل ، من ذلك ان لله صاحبة وولدا فيصدق الأتباع السذج ثقة بالكبار ، وإيمانا بأن ما من أحد يجترئ على الله ويصفه بغير صفاته ، ولما سمعوا القرآن أيقنوا ان رؤساءهم يفترون على الله الكذب ويصفونه بما لا يليق بجلاله وعظمته.

ومكان العظمة في هذه الآيات ان الجن سمعوا حكمة القرآن للمرة الأولى فوعوها واتعظوا بها .. ونحن نسمع القرآن ونقرأه مرات ومرات ، ولا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين ، ثم لا ننتفع بمواعظه ، ولا نهتدي برشده .. فهل الجن ـ يا ترى ـ أصفى نفسا ، أو أتم عقلا ، أو لا شيء في حياتهم من المغريات والشهوات؟.

٥ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً). اختلفوا في تفسير هذه الآية ، والأقرب الى الافهام ـ خلافا لجمهور المفسرين ـ ان المراد برجال من الانس البسطاء السذج ، والمراد برجال من الجن المشعوذون الذين يموهون على البسطاء بأن لهم صلات بالجن يستحضرونهم متى شاءوا ، ويسخرونهم فيما أرادوا ، وعليه يكون المعنى ان السذج كانوا يستجيرون بالمشعوذين ليدفعوا عنهم غائلة الجن ، أو يتنبئوا بما يحدث لهم ، أو يقربوا بعيدا ، أو يبعدّوا قريبا. أما قوله : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) فمعناه ان المشعوذين كانوا يطلبون من البسطاء من الأجر ما يرهقونهم به.


٦ ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً). الضمير في ظنوا للكفرة من الانس ، والخطاب في ظننتم من مؤمني الجن للكفرة من قومهم ، والمعنى ان مؤمني الجن قالوا للكفار من قومهم : لكم في الانس أمثال لا يؤمنون بالبعث والحساب.

وانا لمسنا السماء الآية ٨ ـ ١٧ :

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

اللغة :

الأصل في اللمس أن يكون باليد ، ويستعمل كثيرا في الطلب ، تقول : التمس لنا كذا أي اطلبه. والحرس لجماعة الحراس ، ويوصف بالمفرد كما في الآية باعتبار


لفظه ، وبالجمع باعتبار معناه. والشهب جمع شهاب ، وهو الشعلة من النار ، ويطلق أيضا على النور الممتد في السماء كشعلة من نار. ورصدا أي راصدا ورقيبا. ورشدا هداية وصلاحا. وطرائق جمع طريقة مؤنث طريق ، والمراد بالطريقة هنا شريعة الحق والعدل. وقدد جمع قدة ، وهي القطعة من الشيء ، والمراد بطرائق قددا هنا مذاهب شتى. والبخس النقص. والرهق الظلم. والمراد بالقاسطين هنا العادلون عن سبيل الحق. وتحروا قصدوا والتمسوا. وغدقا أي كثيرا. وصعدا شاقا وشديدا.

الإعراب :

حرسا تمييز. ومقاعد اسم مكان مفعول فيه. أشرّ مبتدأ وجملة أريد خبر. ومنا متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، ودون ذلك صفة للمبتدإ أي ومنا قوم كائنون دون ذلك. وان لن نعجز أي انه لن نعجز ومثله ان لو استقاموا. وهربا مصدر في موضع الحال أي هاربين. ويسلكه عذابا منصوب بنزع الخافض أي في عذاب مثل (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ـ ٤٢ المدثر.

المعنى :

١ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً). عند تفسير الآية السابقة ، وهي (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) عند تفسير هذه الآية قلنا : ان الكهان والمشعوذين كانوا يزعمون ان الجن ينقلون اليهم أخبار السماء .. والآية التي نفسرها ترد على هذا الزعم وتبطله بلسان الجن أنفسهم واعترافهم صراحة بأنهم لا يعلمون الغيب ، وانهم لا يستطيعون الوصول الى السماء لاستراق السمع لأنها محصنة بالحفظة والشهب المحرقة .. وسواء أكان هذا حقيقة أم كناية عن جهل الجن بالغيب فإن الغرض الأول من ذلك هو التنبيه الى ان الكهان والمشعوذين يفترون الكذب على الله وعلى الجن لأن علم الغيب لله وحده : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) ـ ١٧٩ آل عمران: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ـ ٥٩ الأنعام. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة


الحجر ج ٤ ص ٤٧٠ والآية ٧ من سورة الصافات ج ٦ ص ٣٣٠ والآية ٥ من سورة الملك.

٢ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

تدل هذه الآية بظاهرها ان الجن صعدوا الى مكان ما في السماء قبل الرسول الأعظم (ص) وانهم كانوا يسمعون صوتا أو كلاما ، ثم منعوا من ذلك في عهد محمد (ص). وليس معنى هذا ان الجن كانوا قبل محمد (ص) يطلعون على أخبار الغيب من السماء .. كلا ، وانما المراد انهم سمعوا شيئا في السماء ، وليس من الضروري أن يكون هذا الشيء غيبا ، بل من المستحيل أن يكون من نوع الغيب لأن الغيب لله وحده بنص القرآن الذي لا يقبل التأويل .. وبكلام آخر : ان صعود الجن أو غيرهم الى السماء لا يستدعي علمهم بالغيب ، فالسماء هي موطن الملائكة المقربين ، ومع هذا (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ـ ٣٢ البقرة وهل في الأرض والسماء أعظم وأكرم على الله من محمد ، ومع هذا أعلن على الأجيال : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ـ ١٨٨ الأعراف. وإذا كان أشرف خلق الله لا يعلم الغيب حتى فيما يعود الى نفسه فكيف يعرف الجن ما يحدث في مستقبل الناس من خير أو شر؟.

٣ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً). هذا من قول الجن ، ومعناه كيف يظن الحمقى ان عندنا علم الغيب وما يحدث لهم في المستقبل من خير أو شر ، وانّا نوحي بذلك الى الكهان ، كيف يظن بنا هذا الظن ، ونحن لا نعلم ما ذا قدر الله لأحد من أهل الأرض ولا لأنفسنا أيضا.

٤ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً). يحكي الجن عن أنفسهم ان منهم الصالح والطالح ، وانهم متفرقون الى طوائف ومذاهب تماما كالإنس.

٥ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً). بعد ان سمع الجن القرآن آمنوا بالله وأيقنوا بأنه ، جلت عظمته ، لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب.

٦ ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

المراد بالهدى القرآن ، وبالبخس النقص ، وبالرهق الظلم ، والمعنى ان الجن سمعوا


القرآن فآمنوا به جملة وتفصيلا ، وهم على يقين من عدل الله ، وان من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما.

٧ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ). هذا تقسيم ثان للجن بعد الإسلام ، أما التقسيم الأول في الآية ١١ الى صالحين ودون ذلك فهو بالنظر الى ما قبل الإسلام ، ولا فرق إلا في التسمية ، فقد أسموا الطيبين قبل الإسلام بالصالحين ، وأسموهم بعد الإسلام بالمسلمين (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً). طلب الذين أسلموا الرشد فأصابوه ، واختاروا لأنفسهم الخير فسعدوا به.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان : «القاسط هو الجائر العادل عن الحق ، والمقسط هو العادل الى الحق ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، وقد غلب اسم القاسط على فرقة معاوية ، ومنه الحديث خطابا لعلي بن أبي طالب : «تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين» فالناكثون أصحاب عائشة الذين نكثوا البيعة ، والقاسطون أصحاب معاوية لأنهم جاروا حين حاربوا الإمام الحق ، والمارقون الخوارج لأنهم خرجوا من دين الله ، واستحلوا قتال خليفة رسول الله (ص)».

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً). هذا كلام مستأنف منه تعالى ، والضمير في استقاموا يعود الى الخلائق من الجن والسن ، والمراد بالطريقة شريعة الحق والعدل ، وماء غدقا كناية عن الرخاء والسعة في الرزق لأن الماء أصل الحياة ، والفتنة الاختبار ، والمعنى ان الناس لو آمنوا بالله حقا ، وعملوا بشريعة العدل ، وابتعدوا عن الجور والعدوان ـ لعاشوا في سعة ورخاء وأمن وأمان (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي في الرخاء ، واللام في لنفتنهم للعاقبة مثل لدوا للموت ، والمعنى ان الله سبحانه يغدق النعم عليهم ، ثم ينظر : فإن ازدادوا ايمانا به وإخلاصا له كانوا من السعداء دنيا وآخرة ، وان غيّروا وبدّلوا فهو لهم بالمرصاد (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي شديدا ، وكل من ذكّر بالحق فأعرض عنه عذبه الله عذابا أليما.


ان المساجد لله الآية ١٨ ـ ٢٨ :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

اللغة :

المراد بالمساجد جميع المعابد ، وبعبد الله محمد (ص). ولبد جمع لبدة بكسر اللام ، وهي اسم لكل شعر أو صوف متلبد. وملتحدا ملاذا وملجأ.

الإعراب :

قال صاحب البحر المحيط : بلاغا مستثنى منقطع لأن المعنى لكن ان بلغت رحمني ربي ، وقال أيضا : ورسالاته عطف على الله. ومن مبتدأ وأضعف


خبر ، وناصرا تمييز ومثله عددا. أقريب ما توعدون مبتدأ وخبر. ومن ارتضى مستثنى منقطع لأن المعنى لكن يظهر على الغيب من ارتضى. والمصدر من ليعلم متعلق بيسلك. وعددا تمييز ويجوز أن يكون في موضع المفعول المطلق لأن أحصى بمعنى عدّ.

المعنى :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). اختلفوا : هل هذا من قول الله أم من قول الجن؟ وأيا كان القائل فان المعنى واحد ، وهو ان جميع المعابد هي لعبادة الله وطاعته فقط ، سواء أشادها وأقامها المسلمون أم غيرهم (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً). المراد بعبد الله هنا محمد (ص) ، والهاء في يدعوه لله سبحانه ، وواو الجماعة في كادوا لأعداء الله ورسوله ، والمعنى ان رسول الله (ص) حين دعا دعوة الحق تظاهرت عليه أحزاب الضلال ، وكادوا من كثرتهم يكونون كالشعر أو الصوف الذي تلبد بعضه فوق بعض. وفي ذلك يقول الإمام علي (ع) :

«خاض رسول الله الى رضوان الله كل غمرة ، وتجرع فيه كل غصة ، وقد تلون له الأدنون ، وتألب عليه الأقصون ، وخلعت اليه العرب أعنتها ، وضربت لمحاربته بطون رواحلها ، حتى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار واسحق المزار» أي أقصاه.

والذي يدل على ان هذا المعنى هو المراد قوله تعالى بلا فاصل : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) قل يا محمد للذين تحالفوا على حربك : ما ذا جنيت؟ هل طلبت منكم أجرا ، أو ابتغيت جاها؟ .. كلا ، وانما أعبد الله وأخلص له ، وهو الذي خلق الكون بأرضه وسمائه ، فهل هذا ذنب لا يغتفر؟ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً). أي نفعا. وأيضا قل يا محمد للمشركين : أنا بشر مثلكم لا أدعي القدرة على التحكم في مصيركم وضركم أو نفعكم ، فالأمر كله لله وحده.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِن


اللهِ وَرِسالاتِهِ) لا مفر ولا ملجأ لرسول الله من الله إذا قصر في تأدية الرسالة التي ائتمنه عليها .. وهذه آية من عشرات الآيات التي تدل بصراحة ووضوح على ان الإسلام يرفض فكرة الواسطة بين الله وعباده ، ويضع الإنسان أمام خالقه مباشرة يخاطبه ويناجيه بما شاء ، ويتقرب اليه بفعل الخيرات من غير شفيع ووسيط.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً). هذا تهديد ووعيد للعصاة الطغاة .. على ان الله سبحانه يجب أن يطاع حتى ولو لم يهدد ويتوعد ، فكيف إذا هدد وتوعد (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً). كان المشركون يستضعفون أنصار رسول الله (ص) ويستقلون عددهم ، ويقولون له : نحن أكثر منك مالا وأعز نفرا! .. فأجابهم سبحانه : في غد تعلمون من هو الأعز ومن هو الأذل؟ وصدق الله العظيم ، فما مضت الأيام حتى أذلهم الإسلام بعزته ، ورفع المسلمين بقدرته ، وللكافرين في الآخرة عذاب الحريق.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً). حين سمع المشركون قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) سألوا النبي (ص) : متى يكون هذا؟ فأمر الله نبيه الكريم أن يقول لهم : علمه عند ربي ، ولا أدري أقريب هو أم بعيد ، فقوله تعالى : (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) يتلخص بكلمة «بعيد» كما في الآية ١٠٩ من سورة الأنبياء : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ).

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). الغيب لله ولمن ائتمنه سبحانه على وحيه ، واصطفاه من عباده لرسالته ، فإنه يعلم من الغيب ما علمه الله (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). وقال جماعة من المفسرين ، منهم الرازي والمراغي : ان غير الرسول قد يعلم الغيب ويخبر به! .. ولا يتفق هذا مع ظاهر قوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). أجل ، ان ذوي الافهام يتنبئون بالمستقبل ، ويصدقون في الكثير من ظنونهم وفراستهم ، ولكنهم يستخرجونها من قرائن وأمارات تظهر لهم وتخفى على من دونهم فهما وعلما ، وأين هذا من علم الغيب الذي لا يظهره الله إلا على الرسل والأنبياء؟. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). الذي تبادر الى فهمنا من


هذه الآية هو ان الله سبحانه يصون الأنبياء ، وهم يبلغون عنه ويؤدون رسالاته ، يصونهم ويحفظهم من كل شيء يمنعهم عن تأدية الرسالة على وجهها ، سواء أكان هذا الشيء من الداخل كالذهول والنسيان أم من الخارج كتشويش الأعداء ، وما الى ذلك من محاولاتهم. وبكلمة ان هذه الآية تثبت العصمة للأنبياء في تأدية الوحي (لِيَعْلَمَ) أي لينكشف علم الله ويظهر على حقيقته (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) لينكشف علم الله لجميع الناس ان الأنبياء قد بلغوا (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) على حقيقتها (وَأَحاطَ) الله علما (بِما لَدَيْهِمْ) أي بكل ما قاله الأنبياء لا يفوته من أقوالهم حرف واحد ، وفوق ذلك فإن الله تعالى قد أحاط علما بجميع الكائنات كبيرها وصغيرها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فكيف لا يحصي على رسله أقوالهم وأنفاسهم ، وهم يبلغون رسالاته الى عباده؟ .. والغرض من هذا التأكيد هو التنبيه الى ان الأنبياء معصومون عن الخطأ في تبليغ الوحي ، فلا يزيدون فيه ، ولا ينقصون منه حرفا ، ولا يبدلون حرفا بحرف (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).


سورة المزّمّل

٢٠ آية مكية ، وقيل بعضها مدني.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أيها الؤمل الآية ١ ـ ٩ :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

اللغة :

المزمل اسم فاعل وأصله المتزمل من تزمل إذا اشتمل بثيابه. والترتيل التمهل في التلاوة وضده الاسراع. وفي البحر المحيط ان ناشئة الليل هي ساعاته ، وأشد وطأ أكثر مشقة. وأقوم قيلا أصوب وأثبت قراءة ، وسبحا أي تصرفا وتقلبا في الأعمال كما يتقلب السابح في الماء. وتبتل اليه انقطع وأخلص اليه.


الإعراب :

الليل منصوب على الظرفية. إلا قليلا استثناء متصل من الليل. نصفه عطف بيان أو بدل كل من الليل لأنه جاء بعد الاستثناء ومعناه قم نصف الليل. وضمير منه وعليه يعودان الى النصف. وأو هنا للتخيير. وطأ وقيلا تمييزان. ورب بالرفع خبر لمبتدأ مقدر أي هو رب ، وبالجر بدل من ربك.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). هذه الآية وما بعدها من أوائل الآيات التي نزلت على الرسول الأعظم (ص) أما أول آية أول أول سورة نزلت عليه فسيأتي الحديث عنها عند تفسير (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..) وخاطب سبحانه هنا نبيه الكريم بالمزمل لأنه كان آنذاك مشتملا بكسائه لسبب من الأسباب ، فخاطبه العلي الأعلى بالصفة التي كان عليها ملاطفة له ، ومن هذا الباب قوله النبي (ص) لعلي : قم يا أبا تراب ، وكان نائما على التراب ، وقوله لحذيفة اليماني : قم يا نومان وكان نائما.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً). دع التلفف يا محمد ، وأحي الليل في الصلاة والعبادة ما عدا جزءا قليلا منه تأوي فيه الى فراشك للنوم والراحة. وبكلام آخر اجعل الليل شطرين : شطرا لربك وآخر لنفسك .. وقال قائل : أراد الله بهذا ان يهيئ نبيّه الكريم للجهاد الطويل ، والصبر على متاعب الدعوة ، وما يلاقيه من أذى المشركين بسببها! .. وهذا مجرد خيال لأن الله سبحانه قد هيأ محمدا لأمانته الكبرى بفطرته ومنذ اليوم الأول لولادته.

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قليلا أيضا. هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) لأن معناه لك يا محمد أن تقوم لله تمام النصف من الليل ، أو أقل من النصف بقليل أو أكثر منه أيضا بقليل ، ويبتني هذا التفسير على ان «نصفه» بدل من الليل لا من قليل ، ويجوز أن يكون بدلا من قليل لا من الليل ، وعليه يكون المعنى لك أن تأوي الى فراشك وتستريح تمام


النصف من الليل أو أقل منه أو أكثر بقليل .. ولا فرق من حيث المعنى بين الإعرابين لأن البدل هو بدل كل من كل سواء أكان من المستثنى أم من المستثنى منه. واستنتج كثير من المفسرين من كلمة «قليل» في الآية ، استنتجوا ان لا يتجاوز النقص حد الثلث ، والزيادة حد الثلثين ، وعليه يكون التخيير بين النصف والثلث والثلثين ، والآية ٢٠ من هذه السورة نصت على هذه الأوقات الثلاثة.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً). الخطاب للرسول (ص) والمقصود العموم ، والمعنى تمهل ولا تسرع في التلاوة ، فإن الغرض من قراءة القرآن ان يتدبر القارئ معانيه ومراميه ، وينتفع بأحكامه وعظاته وبوعده ووعيده ، فيشعر بالخوف من العذاب الأليم على المعصية ، وبالأمل في الثواب الجزيل على الطاعة ، وإلا فإن مجرد حركة اللسان وإخراج الحروف مخارجها ـ غير مقصود بالذات.

شخصية الرسول الأعظم :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). القرآن ثقيل بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، هو ثقيل في إعجازه وخلوده ، وفي عقيدته وشريعته ، وفي حربه ونضاله ضد الأقوياء المفسدين والطغاة المترفين ، وقال كثير من المفسرين : «القرآن ثقيل لأن تكاليفه شاقة مثل المحافظة على الصلوات الخمس ، والقيام آخر الليل لصلاة الفجر ، والوضوء بالماء البارد مرارا ، والاغتسال به أحيانا ، وكالصوم في أيام الحر ، والقيام للسحور من آخر الليل ، وكالحج ومشتقاته من الإحرام والسعي والطواف».

وليس من شك ان هذه كبيرة إلا على الخاشعين ، ولكن أكبر منها وأثقل التكليف بالجهاد ، وهو على أنواع ، وأثقل أنواعه الجهاد لتغيير القلوب والمشاعر ، والقضاء على العقائد الفاسدة والتقاليد الموروثة ، واستئصال الفساد من جذوره ، وهذا ما كلف به أبو القاسم محمد بن عبد الله : فلقد بعثه الله سبحانه ليتمم مكارم الأخلاق للبشرية كلها ، ويخرج الناس من الظلمات الى النور ، وأي تكليف أثقل وأشق من هذا التكليف؟ ومن الذي يستطيع أن يغير من أخلاق زوجته وولده بخاصة في عصر الجاهلية أفسد العصور وأكثرها فسادا وطغيانا؟ ولكن


محمدا تغلب على جميع الصعاب ، وقام بالأمر على أكمل وجه ، أما السر في ذلك فيكمن في شخصية محمد وقوتها وعظمتها ، وفي صبره العجيب على تحمل الأذى في سبيل دعوته ، فكان يزداد صبرا وحلما كلما ازداد الطغاة في أذاه ، ولا يزيد على قوله : «اللهم اغفر لقومي انهم لا يعلمون ..» ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.

وبهذا نجد التفسير الصحيح لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ١٢٤ الانعام. أجل ، الله يعلم ان شخصية محمد أقوى من العقائد والتقاليد ومن الناس مجتمعين ، ولو لا علمه بذلك لما بعث محمدا ليتمم للبشرية مكارم الأخلاق : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ـ ٧ الطلاق. وقد أدرك الأديب العالمي الشهير «برناردشو» هذه الحقيقة حيث قال : لو كان محمد بن عبد الله في القرن العشرين لقضى على ما فيه من فساد وضلال.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) كأن سائلا يسأل : لما ذا أمر الله نبيه الكريم أن يتعبد في شطر من الليل؟ فأجاب سبحانه : لأن قيام الإنسان من مضجعه بعد هدأة من الليل يشق كثيرا على النفس ، وأفضل الأعمال أشقها ، ولأن قلب الإنسان في الليل أصفى وأهدأ ، فتكون تلاوته للقرآن أصوب وأثبت ، وأيضا يكون أكثر تجاوبا مع ما يتلوه من الآيات. وقيل : المراد بالوطء هنا المواطأة والموافقة بين القلب واللسان (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً). الليل للعبادة والتهجد ، والنهار للعمل والسعي في طلب العيش ، وهو طويل يتسع لكل ما يحتاجه الإنسان من أعمال.

وقال الشيخ عبد القادر المغربي عند تفسير هذه الآية : «قد يعترض معترض بأن قيام الليل يضعف الجسم عن المقاومة والمكافحة. وقد أجاب سيدنا علي (ض) عن ذلك بقوله : «وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا حال علي بن أبي طالب ـ أي التخشن والتهجد ـ فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ألا وان الشجرة البرية أصلب عودا والروائح الخضرة أرق جلودا ، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا ، وأنا ورسول الله كالصنو من الصنو ، والذراع من العضد. أي انه هو وسيدنا رسول الله (ص) من أصل واحد في العمل والطريقة


وأسلوب المعيشة ، فيكون في حالته كما كان سيدنا الرسول شديد البأس قوي العزيمة ، وان كان خشن المعيشة».

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً). المراد بذكر الله هنا الدعوة اليه تعالى ، والتبتل مأخوذ من البتل ، وهو القطع مثل البت ، ويستعمل التبتل في الانصراف عن الدنيا ، ومنه البتول لقب السيدة مريم ، والمعنى بعد أن تحيي يا محمد شطرا من الليل في العبادة ، وتستريح في شطر منه ـ ادع دعوة الحق وجاهد في سبيلها لوجه الله وحده .. وكأن الله سبحانه يعلم نبيّه الكريم ان يجعل وقته ثلاثة أقسام : الأول للعبادة ، والثاني للجهاد ، والثالث للراحة كي يستمر في عبادته وجهاده (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً). الملك في المشارق والمغارب وفي السموات والأرض لله وحده لا شريك له ، وإذا كان الخلق كله لله وجب على العبد أن يعتمد على الله ، ولا يلجأ الى أحد سواه ، وفيه إيماء الى ان الخلق يدل على وجود الخالق ، وان خضوع المخلوقات بكاملها لنواميس طبيعية ثابتة يدل دلالة واضحة على ان الخالق واحد في ذاته وصفاته.

واهجرهم هجراً جميلا الآية ١٠ ـ ١٩ :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))


اللغة :

الهجر الجميل ان لا تتعرض لخصمك بشيء ، وان تعرّض لك تجاهلت. وأنكالا جمع نكل وهو القيد الثقيل. ذا غصة يأخذ بالحلقوم فلا يدخل ولا يخرج. والكثيب الرمل المتجمع ، والمهيل هو الذي لا ثبات له فإذا تحرك أسفله سال أعلاه. والوبيل الثقيل. ومنفطر منصدع ، وفي كتب اللغة ان العرب يذكّرون السماء في بعض أقوالهم لأنها في معنى السقف.

الإعراب :

والمكذبين عطف على الياء في ذرني أو مفعول معه. وأولي النعمة صفة للمكذبين. وقليلا أي زمنا قليلا. ويوما مفعول به لتتقون على حذف مضاف أي عذاب يوم. والسماء مبتدأ ومنفطر خبر على ان يراد من السماء السقف ، وضمير به يعود الى يوم ، والباء هنا بمعنى في.

المعنى :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً). تقوّل أعداء الله على رسوله محمد (ص) الأقاويل ، فأمره الله بالصبر وعدم التعرض لهم بشيء .. وكان ذلك في أول البعثة حيث كان المسلمون قلة ، والكفار كثرة ، حتى إذا كانت الهجرة ، وأصبح للمسلمين قوة رادعة ـ أذن الله لهم بالقتال لحماية المظلومين من الظالمين. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ١٩٩ من سورة الأعراف (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً). بعد أن قال سبحانه لنبيه الكريم : دع الذين كذبوك ووصفوك بالساحر والمجنون والشاعر ، بعد هذا قال له : دعني وهؤلاء الذين أطغاهم المال وأعماهم عن كل شيء إلا عن ترفهم وملذاتهم ، دعني وإياهم ، ولا تهتم بهم فعما قريب يحيق بهم العذاب والهلاك.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً). هذا ما أعده الله لهم : قيود وأغلال ، ونار وقودها الناس والحجارة ، وطعام كالشوك لا يخرج


من الحلق ولا ينزل الى الجوف ، وألوان أخرى من العذاب كسرابيل من قطران ومقامع من حديد (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً). هذا وصف ليوم القيامة وأهواله ، منها اهتزاز الأرض بأهلها ، وتحويل الجبال الى تلال من رمل تنهار وتزول لأضعف الأسباب.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ). الخطاب في إليكم للمكذبين أولي النعمة ، والمراد بالرسول والشاهد محمد (ص) كما في الآية ٤١ من سورة النساء : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) أي ان محمدا (ص) يشهد عليهم انه قد أبلغهم رسالات ربهم فكذبوا وأعرضوا (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً). ضرب سبحانه فرعون مثلا لأولي النعمة الذين كذبوا محمدا (ص) وبيّن لهم ان حالهم مع رسول الله تماما كحال قوم فرعون مع موسى ، وحذرهم ، جلت عظمته ، إذا هم أصروا على الضلال أن يصيبهم ما أصاب فرعون وقومه من الهلاك والعذاب الأليم دنيا وآخرة.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً). ان كفرتم أي ان بقيتم على الكفر ، وضمير به يعود الى اليوم ، وضمير وعده الى الله تعالى المفهوم من سياق الكلام ، والمعنى بأية وسيلة أيها الطغاة تنجون من العذاب الأكبر في يوم تتفطر فيه السماء ، وتشيب الأطفال من أهواله ، وهذا اليوم آت لا ريب فيه لأن الله لا يخلف الميعاد. وتجدر الاشارة الى ان شيب الأطفال كناية عما يصيب المجرمين من الذعر والرعب لأن الأطفال لا يحاسبون ولا يؤاخذون.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). «هذه» اشارة الى ما سبق من آيات الانذار والوعيد ، والتذكرة العبرة والعظة ، والمعنى ان الله سبحانه بيّن طريقي الشر والخير ، وأمر بهذا ووعد عليه بالثواب ، ونهى عن ذاك وتوعد عليه بالعقاب ، وكل امرئ وما اختار لنفسه من النعيم والجحيم.

فاقرأوا ما تيسر من القرآن الآية ٢٠ :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ


مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

اللغة :

الأدنى معناه الأقرب والمراد به هنا الأقل لأن الأقرب أقل مساحة من الأبعد. ويقدّر الليل والنهار أي يجعل لكل منهما قدرا معينا وحدا محدودا. والمراد بالتوبة هنا الترخيص وعدم الإثم.

الإعراب :

أدنى صفة لموصوف مقدر أي زمانا أدنى. ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى. وطائفة بالرفع عطفا على ضمير تقوم. والليل مفعول به. وان لن «ان» مخففة واسمها ضمير الشأن محذوف ، ومثلها ان سيكون. وآخرون عطف على مرضى. وخيرا مفعول ثان لتجدوه. و «هو» فصل. وأجرا تمييز.

المعنى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). في أول هذه السورة أمر سبحانه نبيه الكريم ومن معه أن يتعبدوا ثلثي


الليل أو نصفه أو ثلثه على سبيل التخيير ، فسمعوا وأطاعوا ، وكان بعض الصحابة يتعذر أو يتعسر عليهم تحديد هذه الأوقات وضبطها ، فيقومون الليل كله أو جله حتى نقل ان بعضهم تورمت أقدامهم من القيام الطويل احتياطا لدينهم وحرصا على مرضاة ربهم .. وفي الآية التي نحن بصددها أخبر سبحانه النبي بأنه ومن معه من المؤمنين قد أطاعوا الله وبلغوا الغاية من عبادته ، وانه تعالى مجازيهم أفضل الجزاء وأكمله.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ). لن تحصوه أي تعجزون عن ضبط الوقت ، وهو ثلثا الليل ونصفه وثلثه ، والمراد بتاب عليكم رفع التكليف عنكم ، والمعنى ان الله سبحانه جعل لكل من الليل والنهار قدرا معينا وحدا معلوما ، ولكن الصحابة لا يعرفون الأوقات بحدودها وانما يعتمدون على الظن والاجتهاد حيث لا ساعات آنذاك تشير عقاربها الى الدقائق والثواني ، لذلك ودفعا للحرج والمشقة أعفاهم سبحانه من القيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، على ان يقرءوا ما تيسر وأمكن من القرآن الكريم. ونقل صاحب مجمع البيان عن أكثر المفسرين : ان المراد بما تيسر من القرآن هنا صلاة الليل ، وسواء أكان المراد التلاوة أم صلاة الليل فإن الأمر هنا للندب لا للوجوب ، وتجدر الاشارة الى ان صلاة الليل إحدى عشرة ركعة ، ووقتها بعد نصف الليل.

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ). هذه حكمة ثانية للتخفيف ورفع التكليف بالقيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، وهي ان من العباد مرضى يتعذر عليهم ان يقضوا ساعات من الليل في الصلاة والتهجد ، ومنهم أيضا المسافرون لطلب العيش وغيره من الأمور الضرورية ، والسفر يستدعي النوم والراحة في الليل وإلا تعذر العمل في النهار على المسافر ، ومنهم أيضا الغازون في سبيل الله ، فإذا أحيوا الليل أو شطرا منه في العبادة ضعفوا عن القتال في النهار ، فخفف سبحانه عن الكل لأجل هؤلاء الأصناف الثلاثة. وتومئ الآية الى أمرين هامين : الأول ان الحكمة من نفي التكليف عن العموم لا يفترض فيها عجز جميع الإفراد عن الطاعة والامتثال ، بل يكفي عجز البعض ، وان قدر البعض الآخر. الأمر الثاني ان العمل من أجل الرزق الحلال جهاد في سبيل الله تماما كالجهاد في قتال أعدائه وأعداء الانسانية.


(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ). كرر سبحانه هذا الأمر لتكرار سببه فقد كان السبب الأول عدم ضبط الوقت وإحصائه ، أما السبب الثاني فهو المرض والسفر والغزو (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس ، وهي لا تسقط بحال ، لا في سفر ولا حضر ، ولا في جهاد أو مرض ، ويؤديها كل حسب طاقته (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة في أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً). وأيضا أنفقوا تطوعا في وجوه البر والإحسان ، فإن هذا الإنفاق يعود عليكم أضعافا مضاعفة. وقد تكرر هذا الأمر للمرة السابعة حتى الآن ، وجاءت المرة الأولى في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً). ان الخير لا يختص ببذل المال ؛ فكل ما فيه صلاح للناس ولعامل الخير فهو خير سواء أكان قولا أم فعلا .. ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من قصّر وفرّط في جنب الله فقد فتح له باب التوبة ، ومستحيل ان يغلق دونه باب المغفرة.


سورة المدّثّر

٥٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ا اها المدثر الآية ١ ـ ١٠ :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

اللغة :

المدثر مثل المزمل وهو الذي اشتمل بثيابه. وكل محرّم فهو رجز وقيل : المراد به هنا الأصنام. والمن ذكر النعمة بما يكدرها. ومعنى تستكثر تطلب الكثير والمراد هنا لا تستكثر ما أعطيت وبذلت. والناقور اسم الآلة التي ينقر بها أو عليها.

الإعراب :

ربك مفعول مقدم لكبّر ، ومثله ثيابك والرجز ، ودخلت الفاء على الفعل لأن الكلام يتضمن معنى الشرط فكأنه قال : مهما يكن فكبّر الخ. وجملة تستكثر


حال أي لا تمنن مستكثرا. فذلك مبتدأ ، ويومئذ بدل منه ، ويوم عسير خبر ، وعلى الكافرين متعلق بعسير ، وغير يسير خبر ثان مؤكد للخبر الأول.

المعنى :

في هذه الآيات اشارة الى وظيفة محمد (ص) كرسول من الحق الى الخلق ، وفيها أيضا اشارة الى ان جميع الناس سواء أمام الله تعالى ، وإليك التوضيح :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) هو الرسول الأعظم (ص) وقد خاطبه الجليل بهذا الوصف لأنه كان آنذاك مشتملا بثيابه لسبب من الأسباب كما قلنا عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). (قُمْ فَأَنْذِرْ). قد يكون للكلمة الواحدة معنى لغوي واحد ، ولكن هذا المعنى الواحد كثيرا ما يختلف باختلاف المتكلم والمخاطب ـ مثلا ـ كلمة «انذر» معناها في قواميس اللغة حذّر وخوّف ، فإذا قال قائل : رأيت شخصا يضع لغما في الطريق ، وقلت له : «انذر» فان معنى قولك هذا : أعلن وخوّف المارة من اللغم ، وإذا قلت : أنذر لفقيه في قرية فالمعنى علّم أهلها أحكام الدين وخوّفهم من مخالفتها ، أما قول العلي الأعلى لنبيه الكريم : (قُمْ فَأَنْذِرْ) فان معناه: تحدّ الطغاة وتلقّ منهم الضربات .. معناه جابه بكلمة الحق الأقوياء وأهل الكبر والخيلاء ، وقل لهم : أنتم الضالون المفسدون ، وستعلمون ما يحلّ بكم من الخزي والهوان إذا لم تؤوبوا الى رشدكم ، وترجعوا عن غيكم ، قل لهم هذا وأكثر ، واصبر على ما يصيبك منهم وسبح بحمد ربك واشكره أيضا.

وإذا علمنا ان محمدا (ص) تحدى قريشا ، وهم في أعلى ذروة من القوة ونفوذ الكلمة ، وهو أعزل من كل شيء إلا من الايمان والإخلاص ، إذا علمنا ذلك تبين لنا ما أصابه منهم .. لقد وصفوه بالساحر والكاذب والشاعر بل والمجنون أيضا .. وأغروا به الأطفال يسخرون منه ويرشقونه بالحجارة ، وأغروا به النساء يضعن الشوك في طريقه ، والسفهاء يلقون عليه القذارات والنجاسات حتى ان أحدهم نزع عمامة الرسول عن رأسه ، وشدها في عنقه. وفوق ذلك كله قررت قريش نبذ محمد وذويه وسجنهم في الشّعب وحرمانهم من كل علاقة مع المجتمع ، ولما


أصر النبي (ص) على دعوته بالرغم مما لاقاه وقاساه حزبت قريش ضده الأحزاب ، وجيشت الجيوش لحربه .. فتحمل وثبت وصبر واحتسب تلبية لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ).

وبهذا يتضح ان وظيفة الرسول هي الانذار مع الصبر على متاعبه وأهواله ، هذا هو الأمر الأول ، أما الثاني أعني المساواة بين الناس أجمعين فيدل عليها قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). إذا قلت لإنسان عادي : كبّر الله ، فهمنا من قولك هذا انك ترغب اليه أن يقول : «الله أكبر» تماما كما لو قلت له : صلّ على محمد ، أما قوله تعالى لنبيه الكريم : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) بعد قوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) فإن له معنى آخر أكبر وأضخم ، وهو اصرخ يا محمد في وجوه الجبابرة المتكبرين المتعالين ، اصرخ بهم : ان العزة لله جميعا ، وانه وحده الكبير المتعالي ، وان القوة والعظمة والسلطان للواحد الأحد لا شريك له من آلهتكم ولا منكم ولا من غيركم ، وان الناس كلهم متساوون في العبودية لله ، لا فرق بين اسود وابيض ، ولا بين غني وفقير .. واستجاب محمد لدعوة ربه ، وقال للطغاة فيما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). وهذا أيضا من متعلقات الدعوة والانذار .. وليس من شك ان نظافة البدن والثياب من الايمان ، ولكن المعنى المراد هنا أعم وأشمل ، وهو ان يدعو الرسول الأعظم (ص) الى طهارة الظاهر من الأقذار ، والباطن من القبائح والرذائل كالغدر والخيانة ، والرياء والنفاق ، والجهل والغرور ، وما الى ذلك من الذنوب والآثام .. وانما عبّر سبحانه عن ذلك بتطهير الثياب جريا على عادة العرب ، فيقولون : فلان طاهر الذيل والأردان ، وهم يريدون طهارة القلب والذات.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). قيل : المراد بالرجز كل قبيح ، وعليه يكون تفسيرا وتوضيحا لقوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) على ما ذكرناه من التفسير. وقيل : المراد به الشرك وعبادة الأوثان (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) لك يا محمد حسنات كثيرة ، وفضل كبير على الناس ، ولكن لا تمنن بذلك على أحد ، فتقدّر في نفسك انك أعطيت كثيرا ، وتقول : أنا فعلت وتفضلت ، فإن كل ما تبذله وتضحي به


هو فضل عليك من الله ، وكرامة خصك بها ، وأي فضل وكرامة أعظم من التوفيق الى عمل الخير؟. وسبق أكثر من مرة ان النهي يصح حتى ولو لم يكن المخاطب به عازما على فعل المنهيّ عنه ، بالاضافة الى ان أوامر الله ونواهيه تعم جميع عباده حتى المتقين .. وفي نهج البلاغة : لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث : باستصغارها لتعظم ، وباستكتامها لتظهر ، وبتعجيلها لتهنؤ.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ). وما أمر الله نبيّه الكريم بشيء من تكاليف الدعوة والنبوة إلا وقرن ذلك بالأمر بالصبر ـ على ما قيل ـ لعلمه تعالى بأنه سيلاقي الأذى المرير من المتمردين والمعاندين (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) فإذا نقر في الناقور مثل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ١٠١ المؤمنون ج ٥ ص ٣٩٠ ، وذلك اشارة الى يوم القيامة المفهوم من سياق الكلام .. بعد أن أمر سبحانه نبيه الكريم بالصبر على أذى المكذبين هددهم بيوم القيامة ، وهو عليهم شديد وعسير لا يسر معه ولا بعده. وسبق الكلام في عشرات الآيات عما أعد الله في هذا اليوم للمجرمين من طعام وشراب ، وأليم العذاب.

ذرني ومن خلقت وحيداً الآية ١١ ـ ٣١ :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ


عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

اللغة :

مالا ممدودا أي كثيرا. وبنين شهودا حضورا معه غير غائبين عنه. ومهدت له بسطت له في الجاه والمال. وسأرهقه صعودا كناية عن شدة العذاب. وقدّر هيأ ما يريده. وقتل لعن. وبسر ظهرت الكراهية على وجهه. ويوتر يروى وينقل. سأصليه سقر أدخله في جهنم. وعدتهم عددهم. والفتنة الاختبار والامتحان. والذين في قلوبهم مرض المنافقون.

الإعراب :

وحيدا حال من مفعول ذرني. والمصدر من ان أزيد مجرور بفي مقدرة أي يطمع في الزيادة. وصعودا مفعول ثان لأسرهقه. وكيف في موضع المفعول المطلق لأن المعنى أيّ تقدير قدّر. وان هذا «ان» نافية. وما أدراك مبتدأ وخبر. ومثله ما سقر. وعليها خبر مقدم وتسعة عشر مبتدأ مؤخر وبني على الفتح لمكان التركيب ، والتمييز محذوف أي تسعة عشر ملكا أو صنفا من الملائكة.


ملخص القصة :

كان الوليد بن المغيرة المخزومي من عتاة قريش وصناديدهم ، وأكثرهم أموالا وأولادا ، وفي ذات يوم سمع رسول الله يقرأ آيا من القرآن الكريم ، فقال : ما هذا من كلام الانس ولا من كلام الجن ، والله ان له لحلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وان أسفله لمغدق ، وانه يعلو ولا يعلى عليه ، فخافت قريش ان ينتشر قول الوليد فيؤمن الناس بمحمد (ص) فألحوا على الوليد ان ينال من مقام الرسول ، فأجابهم : وما ذا أقول عنه؟ هل أقول : مجنون؟. ومن يصدق؟. أم أقول : كاهن وما تكهن قط ، أم أقول : شاعر ، وما نطق بالشعر ، أم كاذب وما جرب عليه أحد شيئا من الكذب .. ثم فكّر مليا فلاح له أن يصف الرسول بالساحر ، وانه أخذ القرآن عن الكهنة والسحرة.

المعنى :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الخطاب لرسول الله (ص) والمراد به تهديد الوليد بن المغيرة بإجماع المفسرين ، والمعنى دعني وإياه يا محمد ولا تهتم بشأنه ، ولا بما يفتري به عليك فأنا وحدي أتولى حربه والانتقام منه بأنواع العذاب والتنكيل .. لقد غضب سبحانه على الوليد ، وبلغ هذا الغضب أشده لأنه طغى وبغى ، وكفر بنعمة الله ، وأعرض عن الحق واستعلى عليه وعلى أهله .. وكل من عاند الحق فهو مقصود بهذا الغضب والتهديد تماما كالوليد بن المغيرة لأن الوصف يشعر بالعلّية كما يقول أهل الأصول ، ولأن سبب النزول لا يخصص عموم الآية ولا يتصرف في دلالتها كما أشرنا أكثر من مرة.

ويومئ قوله تعالى : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) الى ان السبب الموجب والدافع على البغي والعدوان هو الثراء وكثرة المال ، والى هذه الحقيقة يشير العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ـ ١١ المزمل وقوله حكاية عن طاغ يفخر على أحد الصالحين : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) ـ ٣٤ الكهف وكفى شاهدا على ذلك قوله ، عز من قائل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى


أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ـ ٦ العلق .. واستنادا الى هذه الآيات وما اليها يمكن أن يقال ـ ولو من وجهة صناعية ـ : ان الأصل في كل غني أن يكون طاغيا حتى يثبت العكس ، وفي نهج البلاغة : ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله. وفي الحديث : طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافا .. اللهم ارزق محمدا وآل محمد ومن أحب محمدا وآل محمد العفاف والكفاف.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين معه يتسابقون الى خدمته (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً). يسرت له سبيل الجاه والمال ، يتقلب في النعم كيف يشاء. وبهذه المناسبة نشير الى ان نعم الدنيا لا تدل على مرضاة الله ، قال سبحانه : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). والى ما جاء في الحديث «لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى فيها الكافر شربة ماء». وقد عرضت على رسول الله خير خلق الله فأبى أن يقبلها. أما الوليد بن المغيرة شر خلق الله فقد كثر ماله وامتد (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي الله في ماله ليزداد بغيا وعدوانا .. ومستحيل أن يجتمع الصلاح والطمع في قلب واحد ، قال رسول الله (ص) : الطمع مفتاح كل معصية ، ورأس كل خطيئة ، وسبب لإحباط كل حسنة.

(كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً). اخسأ أيها الجحود الخؤون .. أتطمع في الله وأنت تعاند الحق ، وتصد عنه ، وتعلن الحرب على أهله! .. قال الرواة : ما نزلت هذه الآية حتى تبدل عز الوليد الى ذل ، وغناه الى فقر ، ومات على أسوأ حال .. وصدق من قال : ما قال الناس لشيء طوبى له إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء .. هذا في الدنيا ، أما جزاؤه في الآخرة فترسمه هذه الآية (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً). ويأتي الصعود بمعنى الشدة والمشقة ، وأيضا يأتي بمعنى الارتقاء والزيادة ، وسياق الكلام يدل على المعنيين معا ، وان العذاب يزداد كما وكيفا آنا بعد آن.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ). فكر في أمر القرآن ، وأجال فيه رأيه ، وهيأ له قول الزور والافتراء ، وهو ان القرآن سحر يؤثر كما يأتي (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ). لعن ثم لعن في تفكيره وتقديره وأقواله وأفعاله وجميع مقاصده ..


ولا شيء أبلغ من تكرار اللعن على أهل البغي والعدوان (ثُمَّ نَظَرَ) بعد ان فكر وقدر رفع بصره الى عتاة قريش (ثُمَّ عَبَسَ) قطب حاجبيه (وَبَسَرَ) كلح وجهه وتغير لونه (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ). أيقن وهو يفكر أن القرآن حق لا ريب فيه ، ومع هذا أعرض عن الحق واستعلى عليه (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أخذه محمد عن السحرة والكهنة .. وتدلنا هذه الصورة التي رسمها القرآن للوليد ، وهي تفكيره وتقديره وعبوسه وبسوره ، تدلنا انه كان تائها حائرا فيما يدبر من الكذب والباطل لما يعتقده حقا وصدقا.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ضمير أصليه يعود الى الوليد ، وسقر من أسماء جهنم (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ). فإنها بلغت من الهول حدا يفوق التصور ، من ذلك انها (لا تُبْقِي) على أحد من المجرمين (وَلا تَذَرُ) لونا من ألوان العذاب إلا أنزلته بهم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ). البشر هنا جمع بشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ، ومعنى لواحة في الأصل مغيرة ، والمراد بها هنا النضوج لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ـ ٥٦ النساء.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). ضمير عليها يعود الى سقر ، والتسعة عشر خزنة جهنم ، وهل المراد تسعة عشر فردا أو نوعا أو قائدا؟. الله أعلم. ويروى ان أبا جهل قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء التسعة عشر؟ فقال رجل يدعى أبو المشد : أنا أكفيكم سبعة عشر ، فاكفوني اثنين فقط. قال هذا ساخرا كما سخر أبو جهل.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً). ليس الخزنة من نوع البشر .. انهم ملائكة شداد غلاظ ، لا يقوى عليهم إلا الواحد القهار الذي خلق كل شيء.

وكأنّ سائلا يسأل : ما هو القصد من ذكر العدد مع انه يفتح باب التضليل والسخرية للجاحدين؟ فأجاب سبحانه بأن لذكره فوائد ثلاثا :

١ ـ (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أجل ، ان الله يعلم ان المشركين متى سمعوا العدد ضحكوا واستهزأوا ومع هذا ذكره إظهارا للحق لأن الحق يجب أن يعلن ويقال حتى ولو كان من نتائجه سخرية الساخرين .. وبكلام آخر ان الله سبحانه يختبر عباده ، وهو أعلم بهم من أنفسهم ، يختبرهم بالسراء


والضراء ، وأيضا بقول الحق لتظهر أفعالهم التي يستحقون بها الثواب والعقاب ، وقد أظهر ذكر العدد المشركين على حقيقتهم من الاستخفاف بالغيب فاستحقوا غضب الله وعذابه كما أظهر المؤمنون حقيقتهم كذلك فاستحقوا مرضاة الله وثوابه ، وتأتي الاشارة اليهم .. هذا ، الى ان إعلان الرسول لكلمة الحق غير مكترث بما يلاقيه ويقاسيه من أجلها ـ دليل قاطع على انه لا يبتغي من ورائها إلا إحقاق الحق وإبطال الباطل.

٢ ـ (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). لقد شهد علماء اليهود والنصارى آنذاك شهادة ايمان وايقان ان عدة الخزنة تسعة عشر لأنه موافق لما قرأوه في التوراة والإنجيل.

٣ ـ (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً). الوحي بالغيب يزيد الكافر جحودا وتمردا ، والمؤمنين ايمانا وتسليما. وقيل : ان المؤمنين يزدادون يقينا إذا أخبرهم أهل الكتاب بأن العدد موجود في كتبهم .. والصواب ان كل آية من آياته تعالى تزيد المؤمنين يقينا بالله ورسوله سواء اعترف أهل الكتاب أم جحدوا .. أجل ، ان اعترافهم حجة على الجاحدين.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ). هذا توضيح وتأكيد لما قبله لأن عدم الارتياب هو الاستيقان وزيادة الايمان (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). وأيضا هذا توضيح وتأكيد لقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مع التصريح بذكر صنف من الكافرين وهم المنافقون الذين في قلوبهم مرض. وتقدم مثله في الآية ٢٦ من سورة البقرة.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). من سلك طريق الضلال أضله الله: (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ ٥ الصف. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ـ ١٠ البقرة ومن سلك طريق الهدى هداه الله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد. وتقدم مثله في العديد من الآيات منها الآية ٨ من سورة فاطر (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) جنود الله لا تنحصر بالتسعة عشر من الخزنة ولا بغيرهم ، فجميع الخلائق طوع ارادته حتى الوحوش والحشرات والطيور والرياح والزلازل والطوفان وما الى ذلك مما


لا يحيط به علما إلا مبدئ الخلق ومعيده (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ). ضمير هي يعود إلى سقر ، وقد خلقها سبحانه وخوّف منها لنتقي معاصي الله في السر والعلانية.

وكنا نخوض مع الخائفين الآية ٣٢ ـ ٥٦ :

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

اللغة :

أسفر أضاء وأشرق. والكبر بضم الكاف جمع الكبرى والمراد بها هنا العقوبة العظمى. والخوض في الشيء الدخول فيه ، والمراد هنا الإكثار من كلام لا خير فيه. والمراد باليقين هنا الموت. وحمر بضمتين جمع حمار والمراد به هنا حمار


الوحش. ومستنفرة نافرة. والقسورة الأسد ، وقيل : المراد هنا الصيادون. وأهل التقوى أي أهل لأن نتقيه ونخافه.

الإعراب :

كلا حرف ردع. والقمر الواو للقسم. والليل والصبح عطف على القمر وجملة انها لا حدى الكبر جواب القسم. ونذيرا قال البيضاوي : هو تمييز أي لإحدى الكبر إنذارا ، أو حال مما دلت عليه الجملة أي كبرت منذرة. ولمن شاء بدل من للبشر بإعادة حرف الجر. والمصدر من ان يتقدم مفعول شاء أي شاء التقدم أو التأخر. الا أصحاب اليمين استثناء منقطع. ومعرضين حال من الضمير في لهم. والمصدر من أن يؤتى مفعول يريد ، وصحفا مفعول ثان ليؤتى. والضمير في أنه للقرآن المفهوم من سياق الكلام.

المعنى :

(كلا). كفوا أيها المشركون عن اللعب بالنار والاستهزاء بها وبخزنتها (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ـ أي أضاء ـ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ). بعد ان زجر سبحانه الجاحدين أقسم بالقمر والليل والنهار ان النار حق لا ريب فيه ، وانها العذاب الذي لا عذاب فوقه ولا مثله .. وفي القسم بهذه الكائنات إيماء الى ان ذوي البصائر يستدلون بما فيها من بديع الصنع على وجود الصانع ، وان من أوجدها من لا شيء قادر على ان يحيي العظام وهي رميم (نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ). حذر سبحانه العباد من النار ودلّهم على طريقها ، وقال لهم : اختاروا لأنفسكم الإقدام عليها أو البعد عنها ، وقد أعذر من أنذر.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). هذا تعليل لقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) والمعنى اختاروا لأنفسكم ، فأنتم مرتهنون بما أسلفتم ، ومدينون بما قدمتم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، وتقدم مثله في الآية ٤٤ من سورة الروم (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ). يعبّر القرآن عن المتقين بأصحاب اليمين والممنة ،


وعن المجرمين بأصحاب الشمال والمشأمة. أنظر الآية ٩ و ٣٨ و ٤١ من سورة الواقعة. والمعنى ما من انسان إلا ونفسه أسيرة عمله إلا أهل التقوى والصلاح ، فإنهم قد وفوا ديونهم وفكّوا نفوسهم من الأسر بصالح الأعمال ، فجزاهم ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). بعد أن تطمئن الدار بأهل الجنة يسأل بعضهم بعضا : أين المجرمون الذين كنا نلاقي منهم الأمرّين؟. فيطلعهم سبحانه على مكانهم في جهنم ليزدادوا سرورا كما في بعض الروايات ، فيسألونهم توبيخا وتقريعا : ما الذي أدى بكم الى هذا المثوى (قالوا) بلسان المقال أو الحال : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم ننته في الدنيا عن الفحشاء والمنكر ، وقد أخذنا هذا التفسير من الآية ٤٥ من سورة العنكبوت : ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ). كانوا يكنزون المال ولا ينفقونه في سبيل الله (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ). نستهين بكل شيء إلا باللهو واللعب ، وندخل كل مدخل إلا مداخل الحق والخير (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي الموت.

قال الشيخ عبد القادر المغربي : «سمي يوم القيامة يوم الدين لأن فيه يقع الجزاء والحساب والقضاء والقهر ، كل هذا من معاني كلمة الدين ، ويسمى أيضا يوم الدينونة أي الحشر والقضاء بين الناس ، والديّان القهّار والمجازي والقاضي ، قالوا : «كان على بن أبي طالب ديان هذه الأمة بعد نبيها أي تفرد بمزية القضاء والحذق في فصل الخصومات بعد النبي (ص)».

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ). لا شفيع يشفع ، ولا معذرة تنفع ، لا شيء إلا التوبة وصالح الأعمال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ). ضمير لهم يعود الى المشركين ، والتذكرة القرآن ، والحمر هنا الحمر الوحشية ، والقسورة الأسد أو الرماة ، والمعنى ما شأن هؤلاء العتاة يفرون من الهدى والحق فرارهم من الموت؟.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً). أي منشورة غير مطوية ، وجاء في بعض الروايات ان المشركين قالوا لرسول الله : «لن نؤمن لك حتى


ينزل على كل واحد منا كتاب يقول : الى فلان بن فلان : اتبع محمدا». وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح فإنها تفسر الآية بما دل عليه ظاهرها ، ويؤيد ذلك الآية ٩٣ من سورة الإسراء : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) مع العلم بأنهم لا يؤمنون ولو استجاب الله الى طلبهم كما صرحت الآية ٧ من سورة الانعام : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). والسر هو حرصهم على مصالحهم وامتيازاتهم ، وليس الحسد كما قال بعض المفسرين ، والدليل على ما قلناه قوله تعالى بلا فاصل : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ). لأنهم لا يعملون إلا للحياة الدنيا ، ولا يركنون إلا لترفها ولذاتها ، اما الانسانية ، اما الحق والخير فكلام فارغ.

(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) مرة ثانية يزجر سبحانه المكذبين ، ثم بيّن لهم ولغيرهم ان هذا القرآن هو موعظة من الله لعباده ، وما هو بقول ساحر ولا شاعر (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ، أي انتفع بأحكامه ومواعظه (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). وتسأل : ان قوله تعالى أولا : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) معناه ان الإنسان مخير له حريته وارادته ، وقوله ثانيا : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معناه ان الإنسان مسيّر لا حرية له ولا إرادة .. وهذا تناقض بحسب الظاهر ، فبأي شيء تدفعه؟.

الجواب : المراد بالمشيئة الأولى ان الله سبحانه يترك الإنسان وما يختار لنفسه من الايمان والكفر ، والمراد بالمشيئة الثانية ارادة الله تعالى ارغام الإنسان على الايمان وإلجاؤه اليه قهرا عنه ، وعليه يكون معنى الآيتين بمجموعهما ان الله قد ترك الخيار للإنسان في ان يؤمن أو يكفر ، كما في الآية ٢٩ من سورة الكهف : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولكن الجحود العنود لا يؤمن بحال إلا إذا أجبره الله على الايمان ، وألجأه اليه رغما عنه ، ولا يكون هذا أبدا لأنه مخالف لعدل الله وحكمته ، فإن عدله تعالى وسننه في خلقه أن يبين لهم طريق الخير ويرغّبهم فيه ، وطريق الشر ويحذرهم منه ، ولكل أن يختار مصيره بنفسه وإلا بطل الثواب والعقاب ، ويؤيد هذا قوله تعالى بلا فاصل : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي ان الله ، جلت عظمته ، هو أهل لأن يطاع في أوامره


ونواهيه ، وان يخشى من غضبه وعذابه ، وأيضا هو أهل لأن يرحم العباد ويغفر لمن تاب وأناب.

وبلفظ أقل وأوضح ان الله سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وارادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ولذا كلفه بالطاعة والاستقامة من دونه ، ولو شاء سبحانه لسلب الإنسان ارادة العاقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه.


سورة القيامة

٤٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نسوي بنانه الآية ١ ـ ١٩ :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

اللغة :

المراد بالنفس اللوامة وخز الضمير والوجدان ، ويأتي البيان. والبنان الأصابع


أو أطرافها. يفجر أمامه أي يمضي قدما في الفجور والمعاصي ولا يتوب الى الله. والمراد ببرق البصر ما يصيبه من الزيغ والكلال عند رؤية البرق اللامع. وخسف القمر ذهب نوره. لا وزر لا ملجأ. وبصيرة أي بصير والهاء للمبالغة. ومعاذير اسم جمع معذرة وأعذار جمع عذر.

الإعراب :

لا أقسم «لا» زائدة أو نافية للقسم حيث لا داعي له. انظر تفسير الآية ٧٥ من سورة الواقعة والآية ٣٨ من سورة الحاقة والآية ٤٠ من سورة المعارج. أيحسب الهمزة للإنكار. وأن أي انه والمصدر المنسبك ساد مسد المفعولين ليحسب. وبلى إيجاب بعد النفي. وقادرين حال من فاعل نجمع أي نجمعها قادرين. وليفجر منصوب بأن مضمرة والمصدر مفعول من أجله ليريد ، والمفعول به محذوف أي يريد الإنسان الحياة من أجل الفجور. وأمامه نصب على الظرفية بيفجر. وأيان ظرف زمان بمعنى متى ، وهي خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر. وأين ظرف مكان خبرا للمفر. وكلا حرف ردع. ووزر اسم لا والخبر محذوف أي لا وزر في الوجود. والإنسان مبتدأ وبصيرة خبر وعلى نفسه متعلق ببصيرة.

المعنى :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي اقسم به .. هذا إذا كانت اللام زائدة كما يرى أكثر المفسرين ، أو ان الأمر لا يحتاج الى قسم لأنه في غاية الوضوح .. إذا كانت اللام نافية لا زائدة كما يرى البعض. وفي الكلام حذف ـ على التقديرين ـ أي إنكم لمبعوثون خلقا جديدا (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). للمفسرين أقوال في معنى النفس اللوامة ، والذي نراه ان الإنسان كثيرا ما يلوم ويؤنب نفسه بنفسه على ما فعل أو ترك بعد ان يتبين له ان الفعل أو الترك يضر به صحيا كأكلة منعته من أكلات ، أو صفقة بيع أو شراء جرت عليه خسارة لا يطيقها أو لا يريدها ، وما الى ذلك من الأضرار التي لا تمت الى دينه وخلقه بسبب ، وهذا


المعنى غير مراد هنا من النفس اللوامة .. وقد يشعر الإنسان بالندم والحسرة على ما فرّط في جنب الحق ، وتهاون في عمل الخير ، سواء أفرّط وتهاون عن عمد وعلم بأنه آثر العاجلة على الآجلة ، أم كان ذلك عن جهل وغير قصد ، ثم تبينت له الحقائق كما هي حال الكافر في يوم القيامة ، وهذا المعنى بالذات هو المراد هنا من النفس اللوامة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). قال منكرو البعث : مستحيل ان تحيا العظام وهي رميم .. قالوها بأساليب شتى ، وأجابهم سبحانه بشتى الأساليب ، من ذلك الآية التي نفسرها ، ومعناها ان الله هو الذي يجمعها ويحييها ، ولا غرابة فإن قدرته تعالى لا يعجزها شيء ، وفوق ذلك هو يعيد العظام تماما كما كانت حتى أدقها وأصغرها حجما كعظام أصابع اليد ، فإنها ترجع لسابق عهدها ببشرتها ولونها وما عليها من شعرات ، بل وما فيها من خطوط وبصمات .. وذلك على الله سهل يسير لأن الذي أتقنها أول مرة ، وجعل بصماتها تختلف في كل فرد عن الآخر منذ أول انسان الى الإنسان الأخير ـ يهون عليه أن يعيد الإنسان الى سيرته الأولى بجميع صفاته وخصائصه ، لأن اختلاف خطوط الأصابع وبصماتها على هذا النحو أكثر وأقوى دلالة على قدرته تعالى من اعادة العظام والأموات.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ). الفجور الذنوب والآثام ، وفي أمامه معنى المضي والاستمرار ، وعليه يكون المراد بالإنسان هنا المجرم الآثم ، ومجمل المعنى ان هذا الآثم يريد التمادي والمضي في فجوره وآثامه الى يومه الأخير ، ومن أجل هذا (يسأل) ساخرا في عتو وعناد : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)؟. متى أوانه؟ أقريب أم بعيد؟

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). سأل المعاند : متى يوم القيامة؟ فذكره سبحانه بأوصافه ، وهي أن يزيغ البصر ، ويذهب نور القمر ، ويصطدم بالشمس لخراب الكون وانقطاع نظامه (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) من هذه الكارثة؟ هل من مغيث؟ (كَلَّا لا وَزَرَ) لا ملجأ ولا مفر (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) فهو وحده مرجع العباد في ذاك اليوم ، والى


حكمه وأمره تخضع الخلائق (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ). المراد بما قدم ما فعل من خير وشر ، وبما أخر ما ترك من الواجبات المفروضة عليه ، والمعنى إذا وقف الإنسان بين يدي خالقه لنقاش الحساب تكشفت له جميع أعماله خيرها وشرها أولها وآخرها ، وأيضا يتكشف له ما ترك من الواجبات المسئول عنها (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) على ان الإنسان يعلم ما فعل وما ترك ، ولا يحتاج الى من يخبره بذلك ، يعلم حتى لو حاول أن يتنصل ويعتذر.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) الكلام مستأنف ، على طريقة القرآن الكريم ينتقل من موضوع الى موضوع ، سواء أوجدت المناسبة أم لم توجد ، قال الامام الصادق (ع) : ان الآية الواحدة يكون أولها في شيء ، وآخرها في شيء آخر .. والخطاب في لا تحرك للرسول الأعظم (ص). وضمير به وما بعده للقرآن ، وعلينا جمعه أي نجمع القرآن في قلبك ، وقرآنه أي قراءته ، فإذا قرأناه أي فإذا انتهينا من قراءة القرآن فاشرع أنت بالتلاوة ، ومجمل المعنى إذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تتابعه أنت في القراءة يا محمد مخافة أن يفوتك شيء منه ، فنحن نجعله بكامله في قلبك ، فإذا انتهى جبريل من القراءة باشر أنت بالتلاوة ، وعلينا ان نعصمك من النسيان والخطأ في تلاوته وبيان أحكامه والعمل به أيضا. وتقدم مثله في الآية ١١٤ من سورة طه ج ٥ ص ٢٤٦.

بل تحبون العاجلة الآية ٢٠ ـ ٤٠ :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ


كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

اللغة :

ناضرة بالضاد من النضرة وهي الحسن والجمال. وناظرة بالظاء من النظر وهو الرؤية بالبصر أو البصيرة. وباسرة عابسة كالحة. وفاقرة داهية تكسر عظام الظهر. والتراق جمع ترقوة وهي عظم في أعلى الصدر. والراقي من يصنع الرقية. التفّت الساق بالساق كناية عن اشتداد الأمر ، ومنه قامت الحرب على ساق. والمساق من يسوق أي حث يحث على السير. يتمطى يتبختر في مشيته تكبرا وخيلاء. أولى أحق وأجدر. وسدى مهملا. ويمنى يراق.

الإعراب :

وجوه مبتدأ وناضرة خبر أول وناظرة خبر ثان والى ربها متعلق به ، وجاز الابتداء هنا بالنكرة لوجود الفائدة. ومن راق مبتدأ وخبر. وأولى مبتدأ ولك خبر. وسدى حال من الضمير في يترك. والذكر والأنثى بدل مفصل من مجمل ، والمبدل منه الزوجان.

المعنى :

(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ). الخطاب في تحبون لمن باع دينه بدنياه ، وآثر الفانية على الباقية مسلما كان أم غير مسلم ، والآية صريحة بذلك ولا تقبل التأويل.


(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). قال الإمامية والمعتزلة : ان الله سبحانه لا تجوز عليه الرؤية البصرية في الدنيا ولا في الآخرة ، وقالوا أيضا : ان ناظرة هنا من رؤية البصيرة لا البصر ، أو من الانتظار بمعنى ان النفس تنتظر وتترقب نعمة الله وكرامته ، وأجاز الأشاعرة الرؤية البصرية عليه تعالى ، وسبق لنا الكلام عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ١٠٧ بعنوان «رؤية الله» .. على ان البحث في هذا الموضوع وما اليه لا جدوى منه عامة ولا خاصة ، وربما أدى الى توسيع الشقة بين المسلمين ، والله سبحانه لم يكلف به أحدا ، ومهما يكن فإن المتقين يحشرون غدا في طلعة بهية مشرقة مستبشرين بما آتاهم الله من فضله (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). أما المجرمون فعلى العكس تماما من المتقين ، يحشرون في وجوه عابسة كالحة ، وقلوب تهتز رعبا وهلعا من غضب الله وعذابه. وتقدم مثله في الآية ١٠٦ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٢٨.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ). هذه الآيات تصف حال المحتضر ، ونزول الموت به الذي لا ينجو منه نبي ولا شقي ولا صغير أو كبير. وابتدأ سبحانه بكلمة «كلا» حيث تقدم قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فناسب الردع والزجر عن ذلك ، وفي بلغت ضمير يعود الى الروح التي دل عليها سياق الكلام ، والمعنى كف أيها المجرم عن الجرائم والآثام وإيثار الفانية على الباقية ، واذكر الموت هادم اللذات وقاطع الأمنيات ، اذكر نفسك الأخير حين تبلغ الروح الحلقوم ، وتشرف على الخروج من جسدك ، ويقول أهلك بعد العجز عن علاجك : هل من راق يرقيه ، أو طبيب يداويه؟ وأنت على يقين من أمرك وانه الموت الذي لا يغني منه علاج ولا دواء.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ). تلتوي إحدى ساقي المحتضر على الأخرى من شدة الهول. وقيل : هذا كناية عن الأمر الشديد جريا على طريقة العرب ، فإنهم يقولون عمن دهمته شدة : شمّر لها عن ساق (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ). من مات فإلى الله منقلبه ، ولا طريق له إلا اليه.

ومن كلام للإمام علي (ع) يصف حال المتحضر : «فبينا هو يضحك الى الدنيا ، وتضحك اليه في ظل عيش غفول إذ وطئ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيام قواه ، ونظرت اليه الحتوف عن كثب .. وفتر معلله ، وذهل ممرضه ،


وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه .. وان للموت لغمرات هي أفظع من ان تستغرق بصفة أو تعتدل على قلوب أهل الدنيا». معنى تعتدل تستقيم بالإدراك.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى). قال كثير من المفسرين : هذه الآية نزلت في أبي جهل ، وهي صورة طبق الأصل لصفاته ، لأنه ما صدق الرسول الكريم (ص) ولا صلى لله ولو بطرفة عين ، بل كذب الحق وشاغب عليه ، وأعرض عنه واستهزأ به ، وكان يذهب الى مجلس النبي (ص) ويستمع الى القرآن ، ثم يعود الى أهله متكبرا متبخترا في مشيته .. وأيا كان سبب النزول فإن ظاهر الآيات على عمومه يشمل كل من عاند الحق وتعالى عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى). الغرض من هذا التكرار الزيادة في التهديد والوعيد ، والمعنى الويل والعذاب أحق بك وأجدر أيها الأثيم .. وفي كثير من التفاسير : ان رسول الله (ص) أخذ بيد أبي جهل وقال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى). فقال اللعين : أتهددني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، والله لأنا أعز أهل هذا الوادي .. وكان النبي (ص) يقول : لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل .. وقد قتل يوم بدر شر قتلة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً). لا نعرف أحدا يحسب ويظن انه غير مسؤول عن شيء بالغا ما بلغ من الجهل والضلال .. ومن ظن هذا فقد ازرى بنفسه ، وأنزلها منزلة الحشرات والحيوانات .. ولو ترك سبحانه الإنسان سدى لكان عابثا في خلقه لا عبا في أفعاله .. تعالى علوا كبيرا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ـ ١٦ الأنبياء.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) ألم يكن منكر البعث ماء يصب في الرحم (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى). تطورت النطفة خلقا بعد خلق داخل ظلمات ثلاث ، ثم خرج منها إنسانا في أحسن تقويم بعد أن كان في أسفل سافلين (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). ضمير منه يعود الى الإنسان ، والمعنى ان الله سبحانه بعد ان جعل النطفة إنسانا كاملا أخرج منه أولادا ذكورا وإناثا (أَلَيْسَ


ذلِكَ) الإله الذي جعل من الماء المهين إنسانا عجيبا في صورته وعقله ومواهبه ، وأخرج منه الذكور والإناث (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) بلى انه على كل شيء قدير .. وما من شيء في الوجود إلا وهو ينطق بقدرته ويسبح بحمده ، وليس خلق الإنسان بشيء إذا قيس بخلق الكون : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٥٧ غافر. تقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١٠.


سورة الإنسان

٣١ آية مكية ، وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هل اتى على الانسان الآية ١ ـ ٦ :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

اللغة :

أمشاج جمع مشيج وهو الخليط. نبتليه نختبره. هديناه السبيل بيّنا له طريق الخير والشر. واعتدنا أعددنا.

الإعراب :

هل هنا بمعنى قد عند المفسرين. والسبيل مفعول ثان لهديناه لأن المعنى عرّفناه


أو أريناه. إما أداة تفصيل. وشاكرا وكفورا حالان من هاء هديناه. وعينا مفعول لفعل محذوف أي اعني عينا. وقال صاحب مجمع البيان : الباء في «بها» زائدة. وقال صاحب مغني اللبيب : الظاهر انها للإلصاق. ومعنى هذا ان شرب تتعدى بنفسها تارة مثل شربت الماء ، وبالباء أخرى مثل شربت بالماء.

المعنى :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً). هذه الآية في صورة الاستفهام ومعناها التأكيد والتحقيق ، والغرض منها أن يفكر الإنسان ويرجع الى عقله ويسأله عن القدرة التي أتت به من العدم ، ومن أي شيء أوجدته؟ وكيف انتقلت به من طور الى طور؟ والى أين المصير؟ وفي هذا يقول الإمام علي (ع) : رحم الله امرأ عرف من أين ، وفي أين ، والى أين ، هذا هو الغرض الذي تهدف اليه الآية ، وفيما يلي نعرض بإيجاز الى ما أشارت اليه هذه الآية وما بعدها من مراحل التطور لوجود الإنسان ، أما في أين والى أين فقد سبق الكلام عنهما عند تفسير آيات الدنيا والآخرة :

١ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً). مضى دهر طويل لم يكن للإنسان فيه عين ولا أثر ، ومثله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ـ ٦٧ مريم ج ٥ ص ١٩٢. وقال اهل الاختصاص : ان الإنسان وجد على هذه الكرة الأرضية منذ ٥ آلاف مليون سنة .. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ ٥٥ الاسراء.

٢ ـ ثم خلق سبحانه آدم أبا البشر من تراب (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ـ ٥٩ آل عمران. وبهذا انتقل الإنسان من مرحلة بائدة الى وجود ترابي جامد لا حياة فيه ولا نمو.

٣ ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ). هذه اشارة الى انتقال الإنسان من الوجود الترابي الى الوجود المائي ، وهو نطفة تتكون من عناصر شتى أشار اليها الإمام (ع) بقوله : «معجونا ـ أي الإنسان ـ بطينة الألوان


المختلفة ، والأشياء المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والاخلاط المتباينة». ومن آثار طينة الألوان المختلفة ما نراه في الإنسان من سواد العينين وبياض الوجه ، ومن آثار الأشياء المؤتلفة عظام الساعدين والساقين ، ومن آثار الأضداد المتعادية الحب والبغض ، والطمع والقناعة ، والتواضع والتكبر ، وصراع العقل والشهوة ، وما الى ذلك ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : «نبتليه» حيث يلاقي الإنسان العناء المرير من الصراع بين ضميره ونزواته.

٤ ـ (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). هذه اشارة الى انتقال الإنسان من النطفة التي دبت فيها الحياة بمرور الأيام وهو في بطن أمه ، انتقاله من ظلمة البطن حيث لا سمع ولا بصر الى الفضاء مع السمع والبصر ، ولكن بلا عقل وإدراك تماما كالحيوان.

٥ ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). يشير سبحانه الى انتقال الإنسان من الحياة الى الحياة الانسانية أي بعد أن تم تكوينه الجسدي وحواسه الظاهرة منحه الله سبحانه العقل والإدراك ليميز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وأيضا منحه الحرية ليكون بعقله وحريته أهلا لتحمّل المسئولية ، واستحقاق الثواب والعقاب ـ طبعا ـ بعد البيان وإلقاء الحجة ، وعبّر سبحانه عن الهدى بالشكر لأنه طاعة لله ، وعن الضلال بالكفر لأنه معصية له.

ورغبة في زيادة التوضيح نشير الى المقارنة بين الإنسان وغيره من الكائنات الأرضية بوجه عام .. تنقسم هذه الكائنات الى جامدة لا حياة فيها ولا نمو كالتراب والصخور والمعادن ، والى كائنات حية ، والحياة فيها على ثلاثة أقسام : حياة نباتية ، ومن خصائصها الحركة والنمو بلا احساس وإدراك ، فالنبات يتحرك وينمو ، ولكنه لا يحس ويشعر ، ولا يسمع ويبصر. القسم الثاني الحياة الحيوانية ، ومن صفات الحيوان الحركة والنمو والاحساس والشعور والسمع والبصر من غير تعقل وإدراك ـ في الغالب ـ أو ادراك الجزئيات دون الكليات. القسم الثالث : الحياة الانسانية ، ومن صفات الإنسان أن يتحرك وينمو ويسمع ويبصر وفوق ذلك يدرك الجزئيات والكليات ، ويعرف الكثير عما كان ويتنبأ بالكثير عما يكون ، وبهذا الإدراك ، وهذه المعرفة امتاز عن سائر الكائنات الأرضية.


ـ اذن ـ يلتقي الإنسان مع الجماد لأنه كان ترابا ، واليه يؤول ، وأيضا كل منهما جسم يحس ويلمس ، وأيضا يلتقي مع النبات لأنه كان في بطن أمه كالنبات ينمو ويتحرك ، ولكنه لا يسمع ولا يبصر ، ويلتقي الإنسان مع الحيوان لأنه كان في طفولته يحس ويشعر ويسمع ويبصر ولكنه لا يعقل تماما كالحيوان ، ثم افترق عنه بالعقل والإدراك ، ومن هنا كان أهلا لتحمّل المسئولية ، واستحقاق الثواب والعقاب من دون الحيوان.

وهنا يأتي التساؤل : من الذي نقل الإنسان من المرحلة البائدة الى الوجود الترابي الجامد ، ومنه الى النباتي النامي المتحرك ، ثم الى الحيواني السميع البصير ، ثم جعله إنسانا سويا بجسمه وعقله يخبر عن الماضي ويتنبأ بالمستقبل ، ويخلق الحضارات ، ويتحكم بكثير من الكائنات ، حتى بالحيوان السميع البصير ، ويسأل عما يفعل ، ولا يسأل غيره عن شيء؟ وهل من تفسير لهذا وغيره مما لا يبلغه الإحصاء إلا التفسير بوجود خالق قادر أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه؟.

وبعد أن أشار سبحانه الى مسؤولية الإنسان بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) بعد هذا ذكر ما أعد للكافرين : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً). السلاسل للأرجل ، والأغلال للأيدي ، والحريق للأجسام (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً). تطلق الكأس على زجاجة الشراب ، وعلى الشراب نفسه ، وهذا المعنى هو المراد هنا. وقال كثير من المفسرين : ان لشراب أهل الجنة رائحة طيبة كرائحة الكافور ، ونقول نحن : ان المزج بالكافور حقيقة كما دل ظاهر الآية ، وإذا كان طعم الكافور في الدنيا كريها فليس من الضروري أن يكون في الجنة كذلك ، فخمرة الدنيا توجب الصداع والأوجاع ، وخمرة الجنة (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) ـ ٤٧ الصافات. قال ابن عباس : كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي تجري حيث يشاءون بدون آلة ، بل بمجرد المشيئة .. وتقدم العديد من الآيات التي وصفت ما أعده الله


لعباده المتقين ، وانهم يتنعمون فيما لم تره عين ، ولم تسمعه اذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، وان المجرمين يتعذبون فيما يفوق الوصف والتصور.

ويطعمون الطعام على حبه الآية ٧ ـ ٢٢ :

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))


اللغة :

مستطيرا فاشيا منتشرا. عبوسا أي تعبس فيه الوجوه. قمطريرا شديدا مظلما. نضرة حسنة. وأرائك جمع أريكة وهي السرير. وزمهريرا بردا شديدا. ودانية ناعمة. وأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له ولا خرطوم. وقوارير جمع قارورة وعاء من الزجاج. وقال الشيخ المغربي في تفسير جزء تبارك : الزنجبيل عروق نبات يشبه القصب. والسلسبيل سهل المساغ والانحدار في الحلق. والسندس ضرب من الحرير الرقيق. والإستبرق الغليظ منه.

الإعراب :

يوما مفعول به على حذف مضاف أي عذاب يوم. وعلى حبه متعلق بمحذوف حالا من فاعل يطعمون أي كائنين على حبه. ونضرة مفعول ثان للقّاهم لأن المعنى أعطاهم. ومتكئين حال من مفعول جزاهم. ودانية عطف على متكئين. وظلالها فاعل دانية. قواريرا الأولى بالتنوين مع انها لا تنصرف لأنها رأس آية لتتناسب مع «تذليلا» و «تقديرا». وقوارير الثانية بدل من الأولى. وعينا بدل من زنجبيل. ثم ظرف بمعنى هناك. وفي تفسير البيضاوي وغيره ان عاليهم حال من الضمير في «عليهم» وثياب فاعل عاليهم لأن المعنى تعلوهم ثياب سندس.

المعنى :

بعد أن أشار سبحانه الى بعض ما أعده غدا للأبرار ـ قال : استحقوا ذلك لصفات ثلاث :

١ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ). والنذر في اللغة الوعد ، وفي الشرع ان يلزم البالغ العاقل نفسه بفعل شيء أو تركه لوجه الله ، على أن يكون الفعل أو الترك لله فيه رضى .. والا يكون الكلام هذرا لا نذرا عند أهل النظر والتحقيق ،


وصيغة النذر أن يقول الناذر : علي لله ، أو نذرت لله كذا. ولا يقع النذر مجردا عن ذكر الله أو أحد أسمائه الحسنى كالرحمن والخالق والمحيي والمميت ، فلو قال : نذرت لأفعلن كذا كان لغوا ، والعهد في اصطلاح كثير من الفقهاء أن يقول المعاهد : أعاهد الله أو علي عهد الله كذا ، واليمين هو الحلف بالله. وتقدم الكلام عن اليمين عند تفسير الآية ٨٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٢٠ والله سبحانه يحب ويثيب كل من صدق وأحسن في فعل أو قول سواء أكان القول وعدا أم عهدا أم نذرا أم يمينا أم شهادة أم خبرا من الأخبار.

٢ ـ (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). يطيعون الله في كل شيء خوفا من يوم يعم شره العظيم كل من عصى الله وخالفه في حكم من أحكامه.

٣ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً). يبذلون كل عزيز وهم في أشد الحاجة اليه ، ومثله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ـ ٩ الحشر. والمسكين البائس العاجز ، واليتيم من لا كفيل له ، أما الأسير فقيل : ان المراد به هنا من أسره المسلمون بالحرب مع أعداء الله والإسلام ، وروي ان الصحابة كانوا إذا أتوا رسول الله (ص) بأسير من أعداء الله وأعدائه دفعه الى بعض المسلمين وقال له : أحسن اليه ، فيأخذه الى بيته ، ويؤثره على نفسه وأهله.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). لا نريد مكافأة منكم ولا من غيركم ، وانما نطعم ونبذل بدافع التقرب الى الله ، والخوف من يوم تفحص فيه الأعمال ، وتكثر فيه الأهوال .. قالوها بلسان الحال لا بلسان المقال أو قالها الله عنهم علما منه تعالى بما في قلوبهم من الايمان والإخلاص (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً). خافوا يوم المحشر ، فاتقوا شره بطاعة الله والإخلاص له ، فبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، فأشرقت وجوههم بنور البشر والفرحة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). صبروا على الجوع وجهده ليشبع غيرهم فكان ثوابهم عند الله جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.


وفي كثير من التفاسير ان هذه الآيات نزلت في حق الإمام علي بن أبي طالب ، ونثبت منها عبارة الرازي بنصها :

«ذكر الواحدي من أصحابنا ـ أي السنة ـ وصاحب الكشاف من المعتزلة : ان الحسن والحسين (ع) مرضا فعادهما الرسول (ص) في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ان شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا ، فاستقرض علي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد ، مسكين أطعموني ، أطعمكم الله من الجنة ، فآثروه ولم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صائمين ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الليلة الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أبصرهم رسول الله يرتعشون كالفراخ فقال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك ، فاقرأ هذه السورة».

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً). ضمير «فيها» للجنة ، والأرائك السرر ، والشمس كناية عن الحر ، والزمهرير البرد ، والمعنى واضح. وتقدم مثله في الآية ٣١ من سورة الكهف (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً). جاء في كتب اللغة ان دانية تكون بمعنى قريبة ، وبمعنى ناعمة ، وهذا المعنى يناسب الظل وهو الفيء ، وأيضا يناسب كلمة «عليهم» ولو كان المعنى قريبة لقال تعالى «اليهم». وتذليل العناقيد معناه انها في متناول الأيدي لا يحول دونها حائل. وتقدم مثله في الآية ٢٣ من سورة الحاقة.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً). واو الجماعة في قدروها تعود الى متكئين ، وهم أهل الجنة تماما مثل واو (لا يَرَوْنَ فِيها) وعليه يكون المعنى ان صفة الأكواب لونا وحجما هي كما يشاء أهل الجنة ، وكما قدروها في نفوسهم وتصوروها في أذهانهم.

وذكر المفسرون سؤالا حول هذه الآية ، وهو ان قوارير جمع قارورة ، وهي وعاء الزجاج فكيف يتفق هذا مع قوله : «من فضة»؟ وهل يستقيم قول


القائل : الزجاج من فضة والماء من التراب؟.

وأجابوا بأن معدن الأكواب من فضة ، ولكنها رقيقة شفافة كالزجاج ينفذ فيها البصر كما ينفذ فيه.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً). وهو عرق لبعض النباتات ، قال المفسرون : كان العرب يحبون جعل الزنجبيل في المشروب ، ولذا وصف سبحانه به شراب أهل الجنة (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) ماؤها عذب فرات سائغ للشاربين (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً). هم في جمالهم ونضارتهم كاللؤلؤ المنثور ، وفيه إيماء الى كثرة الخدم ووجودهم هنا وهناك (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً). إذا دخلت الجنة رأيت ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يلبسون الحرير الرقيق والغليظ ، وأيضا يضعون في أيديهم أساور فضة ، ويشربون طيبا طاهرا.

وتقدم مثله في الآية ٣١ من سورة الكهف (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً). بعد تلك الكرامة يقال لهم : هذه مكافأة على أعمالكم التي شكرها الله لكم بالثواب وحسن المآب. وتقدم مثله في الآية ١٩ من سورة الاسراء.

ان هؤلاء يحبون العاجلة الآية ٢٣ ـ ٣١ :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا


أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

اللغة :

بكرة وأصيلا صباحا ومساء. فاسجد له صلّ له. وسبّحه تهجد لله. يذرون وراءهم أي يطرحونه خلف أظهرهم ولا يكترثون به. والمراد بأسر ، هنا الخلق.

الإعراب :

آثما أو كفورا «أو» للتسوية أي لا تطع أحدهما. ويوما مفعول به ليذرون ، والظالمين مفعول لفعل محذوف أي ويعذب الظالمين.

المعنى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ ـ يا محمد ـ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً). وهو حق لا ريب فيه ، وقد وعدناك بالنصر ، شريطة ان تصبر على أذى المعاندين وصدهم عن سبيل الله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ). وحكمه تعالى أن تجري الأمور على سننها الطبيعية ، وان توجد في أوقاتها المعينة ، فالطريق الى الهدى لمن رغب فيه هو النصح والإرشاد ، وطريق النصر الصبر في الكفاح والجهاد (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) فيما يحاولونه منك ، ويساومونك عليه ، وقد كان المشركون يعرضون على الرسول الأعظم (ص) المال والنساء والرياسة على ان يترك الدعوة الى الله ، فيرفض ويأبى ، وفي النهي عن طاعة الآثم والكفور إيماء الى ذلك ، والمراد


بالآثم كل من اكتسب إثما ، وبالكفور كل جاحد ، وقال جماعة من أهل التفسير : ان المراد بالآثم هنا عتبة بن ربيعة لأنه كان منغمسا في الشهوات ، وبالكفور أبو جهل أو الوليد بن المغيرة .. وأيا كان سبب النزول فإنه لا يخصص عموم اللفظ.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). كن مع الله في جميع أمورك وأوقاتك ، ولا تأخذك فيه لومة لائم. وتقدم مثله في الآية ٤٢ من سورة الأحزاب (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ). صلّ لله في جزء من الليل (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً). تهجد لله في الليل أمدا غير قصير ، والأمر هنا للاستحباب لقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ـ ٧٩ الإسراء. (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً). هؤلاء إشارة الى المشركين والى كل من أحب الدنيا وتولاها ، وأبغض الآخرة وعاداها ، ووصف سبحانه يوم القيامة بالثقل لأنه يوم عسير على الكافرين غير يسير.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ). الله سبحانه هو الذي أوجدهم من العدم ، وصورهم فأحسن صورهم ، فكيف أنكروه وعصوا أمره ونهيه؟ (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً). هذا تهديد ووعيد للمكذبين بأن الله قادر على أن يهلكهم ويستخلف مكانهم قوما آخرين أفضل وأكمل. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ). هذه اشارة الى السورة التي نحن بصددها ، وهي بما فيها من ترغيب وترهيب عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). بيّن سبحانه للإنسان طريقي الخير والشر ونهاه عن هذا وأمره بذاك وتركه وما يختار لنفسه .. ولكن المعاند لا يفعل الخير إلا إذا أجبره الله عليه ، وألجأه اليه ، وهذا لن يكون لأنه مخالف لعدله تعالى وحكمته وسنته في خلقه. انظر تفسير الآية ٥٦ من سورة المدثر فانه أوسع وأوضح.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). عليم بأحوال عباده ، حكيم لأنه لا يأمرهم إلا بما فيه الخير والصلاح ، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر والفساد (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ). المراد بالرحمة هنا الجنة ، وقد اقتضت حكمته تعالى ومشيئته


أن لا يدخل الجنة أحدا إلا بالجد والعمل ، والآيات كثيرة وواضحة الدلالة على ذلك ، منها قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ـ ١٤٢ آل عمران .. وكيف يشاء سبحانه أن يدخل الجنة من ليس لها بأهل ، وقد أخرج منها آدم لمّا عصى ربه فغوى؟ (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). للمتقين رحمة الله وجنته : وللمجرمين غضبه وعذابه.


سورة المرسلات

٥٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والمرسلات عرفا لآة ١ ـ ٢٨ :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))


المعنى :

تعرض هذه السورة جانبا من مشاهد اليوم الآخر ، وتحذر المجرمين والمكذبين من عذابه وأهواله .. وتقدم ذلك في عشرات الآيات ، ومن أجل هذا نقتصر على التفسير اللغوي ، ونعرب بعض ما يحتاج الى الاعراب من الكلمات جامعين بين اللغة والإعراب في فقرة واحدة على خلاف عادتنا في سائر السور.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً). قيل ، هي الملائكة. وان المراد بالعرف المعروف وانه مفعول من أجله للمرسلات ، والمعنى ان الله يرسل ملائكته من أجل تبليغ الوحي للأنبياء وغير ذلك من الخيرات. وقيل المراد بالمرسلات الرياح ، وبالعرف التتابع ، وقد نصب على الحال ، والمعنى يرسل الله الرياح متتابعة (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً). السريعات في السير ، يقال : عصفت الناقة براكبها إذا أسرعت به ، وعصفا مفعول مطلق للعاصفات (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً). تنشر الرياح السحب في الفضاء ، أو تنشر الملائكة رحمة الله في خلقه (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً). تنزل الملائكة بآيات الله التي تفرق بين الحق والباطل ، أو ان الرياح تفرق الأمطار في أنحاء الأرض (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً). ذكرا مفعول به للملقيات ، وعذرا أو نذرا مفعول من أجله ، وقيل : بدل من الذكر ، والأول أقرب الى الصواب ، لأن المعنى ان الله سبحانه يرسل ملائكته بالوحي لينذر به العباد ، ولا يكون لهم عليه الحجة. وقيل : ان المراد بالملقيات الرياح ، وبالذكر المطر لأنه يذكّر بالله ورحمته ، فالمؤمن يشكر الله حين ينزل المطر ويعتذر عما سبق منه من التقصير ، والكافر يزداد طغيانا لأن المطر يزيد من ثرائه ، وبالتالي يكون المطر أو الرياح نذيرا له بعذاب أليم.

هذا ملخص ما قاله المفسرون حول هذه الكلمات أو الآيات الخمس ، ولكل وجه ، لأن الله يرسل الرياح كما جاء في الآية ٥٧ من سورة الأعراف : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وأيضا يرسل الملائكة كما جاء في الآية ٧٥ من سورة الحج : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً). ومهما يكن فما نحن بمسؤولين عن هذا البحث امام الله ، ولا تمتّ معرفته الى حياتنا بسبب ، فالأولى أن نترك ذلك لعلمه تعالى مؤمنين بأنه هو وحده مسبب الأسباب.


(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ). الموعود به هو يوم القيامة ، و «انما» كلمتان «ان» و «ما» الموصولة وهي اسم ان وتوعدون صلة وواقع خبر «ان» والجملة جواب القسم ، والمعنى ان الساعة آتية لا ريب فيها (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ). ذهب ضوءها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) انفطرت كواكبها (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ). صارت هباء وذهبت مع الريح (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) من التوقيت ، والرسل الملائكة ، وقد جعل الله لها وقتا معلوما تحضر فيه لتشهد على العباد ، ثم تسوق المتقين زمرا الى الجنة ، والمجرمين زمرا الى جهنم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تلك الرسل؟ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بدل من لأي يوم بإعادة حرف الجر ، والاستفهام لتفخيم اليوم وشدة أهواله ، وسمي بيوم الفصل حيث يفصل فيه بين الناس بالحق بلا إجحاف ومحاباة (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ). ما الذي تعرفه عن هذا اليوم الذي لا يقاس بهوله هول؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). هذا تهديد ووعيد لمن كذب بيوم الدين ، وأيضا لمن آمن به ولم يعمل له.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كقوم نوح لأنهم كذبوا رسولهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) كقوم لوط (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) الذين كذبوا محمدا (ص) لأن السبب واحد ، وهو الإعراض عن الحق (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكررت هذه الآية عشر مرات تبعا لاختلاف معنى الآية التي قبلها (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ). أتنكرون البعث وتقولون : من يحيي العظام وهي رميم؟ وأنتم تعلمون ان الله أنشأكم من ماء حقير ، وأودعكم في ظلمات ثلاث أمدا معينا ينقلكم فيه من خلق الى خلق ، وحدد هذا الأمد في منتهى الدقة والحكمة .. أبعد هذا كله تكفرون بأنعم الله ، وتكذبون بقدرته على البعث والحساب والجزاء؟.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً)؟. كفات جمع كفت ، وهو الوعاء ، وقد شبّه سبحانه الأرض بالأوعية ، والخلق بما تضمه الأوعية وتجمعه ، والمعنى ان الأرض تضم الخلائق أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها .. والأرض مفعول أول لنجعل ، وكفاتا مفعول ثان ، وأحياء وأمواتا حال من مفعول فعل مقدر أي تكفتهم الأرض أحياء وأمواتا ، وقيل : مفعول (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ)


جبالا ثابتات عاليات كيلا تميد بكم (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) عذبا ، وهو حياة لكم وللأرض ، فتفيض عليكم بالخيرات والبركات.

الى ظل ذي ثلاث شعب الآية ٢٩ ـ ٥٠ :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

المعنى :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). كذبوا بعذاب الله ، بل سخروا منه وممن توعدهم به .. وغدا تقول لهم زبانية جهنم في سخرية وتهكم تماما كما تهكموا من قبل برسلهم ، تقول لهم : اذهبوا الآن الى ما كنتم تهزؤون (انْطَلِقُوا إِلى


ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) من دخان جهنم : شعبة تظللهم من فوق رؤوسهم ، وثانية عن يمينهم ، وثالثة عن شمالهم (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ). هو ظل ، ولكنه لا يقي المستظلين به من عذاب الحريق ، بل يزيدهم عذابا على عذاب ، ومثله (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) ـ ٤٤ الواقعة. (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ). ضمير انها يعود الى جهنم ، وجمالة جمع جمل ، والمعنى ان شرر جهنم يتطاير ويملأ الفضاء ، وكل شرارة كالقصر حجما ، والجمل الأصفر لونا.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ). الضمير للمجرمين .. وللعباد يوم القيامة مواقف يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض. انظر تفسير الآية ٦٥ من سورة يس ج ٦ ص ٤٢١. وقيل في معنى الآية : ان المجرمين لا ينطقون بما ينفعهم ، ولا عذر لهم عند الله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) يفصل فيه بالحق بين الخلائق (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) من المجرمين أمثالكم وحشرناكم جميعا في موقف واحد لنقاش يوم الحساب. ثم تساقون الى مقر واحد هو جهنم وبئس القرار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ). هذه هي نهايتكم ، فان كان لديكم حيلة أو وسيلة تمتنعون بها من العذاب فأتوا بها ... وفيه تقريع وتوبيخ على مكرهم وخداعهم في الحياة الدنيا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ). هذا على عادة القرآن الكريم ، يقرن عذاب المجرمين بثواب المتقين لغرض الترغيب والترهيب .. فللمجرمين ظلال من دخان جهنم ، وللمتقين ظلال من نعيم الجنة ، وعيون جارية وفواكه متنوعة مع الكرامة والمهابة من العلي الأعلى ، من ذلك قول الملائكة لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). تقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١٩ من سورة الطور (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). هذه هي سنتنا في الخلق (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ـ ٣٠ الكهف.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً). الخطاب للمجرمين ، والمراد به التهديد والوعيد ، ومعناه تمتعوا في حطام الدنيا كما تشاءون ، فما هي إلا ايام قلائل ، ثم تزول المتعة كما يزول السراب (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) وسنّة الله في المجرمين ان يمهلهم قليلا ثم يذيقهم


عذاب السعير (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ). إذا أمرهم الرسول بالخشوع والتواضع لله أصروا على الزهو والكبرياء. قال الشيخ عبد القادر المغربي عند تفسير هذه الآية : «روي ان النبي (ص) سأل هند زوجة أبي سفيان بعد أن أسلمت يوم الفتح : كيف رأيت الإسلام؟ قالت : حسن لو لا ثلاث. قال : وما هنّ؟ قالت : التجبية ـ أي الركوع والسجود في الصلاة ـ والخمار ، ورقيّ هذا العبد الأسود على الكعبة ـ تريد بلالا وأذانه من على الكعبة ـ فأجابها الرسول (ص) بقوله : أما التجبية فلا صلاة من دونه ، وأما الخمار فهو أحسن ستر ، وأما الأسود فنعم العبد هو».

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). ان عظمة الله سبحانه تتجلى في القرآن تماما كما تتجلى في الكون ، فمن لم يقتنع وينتفع بالقرآن فلا يقنعه شيء. وتقدم بالحرف الواحد في الآية ١٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٢٩.



الجزء الثّلاثون



سورة النّبا

٤٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عم يتساءلون عن النبأ العظيم ١ ـ ١٦ :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

اللغة :

النبأ هو الخبر الذي يهتم له. والمهاد الفراش. وأزواجا ذكرا وأنثى. والسبات بضم السين الموت ، والنوم إحدى الميتتين. والمراد بالمعاش وقت طلب العيش. والمعصرات السحائب. والثجاج المنصبّ بكثرة. وألفافا ملتفة الشجر لتقارب الأغصان.


الإعراب :

عمّ كلمتان : عن وما ، وأدغمت الميم بالنون ، وحذفت الألف للفرق بين الاستفهام والخبر ، ومثلها مم وبم ولم والى م وعلى م وحتى م ، وعم متعلق بيتساءلون. وعن النبأ متعلق بمقدر كأن سائلا يسأل : عن أي شيء يتساءلون فأجابه سبحانه (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أي يتساءلون عن النبأ العظيم. الذي صفة للنبإ. وكلا حرف ردع وزجر. وأزواجا حال.

المعنى :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ). أصول الإسلام ثلاثة : الايمان بوحدانية الله ، ونبوة محمد ، وباليوم الآخر ، وقوم رسول الله (ص) كانوا أبعد الناس عن هذه المبادئ ، ولذا تساءلوا وقالوا مستغربين : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ـ ٥ ص وأيضا استكثروا على محمد (ص) ان يكون نبيا لا لشيء إلا لأنه فقير من المال ، وقالوا فيما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ـ ١٢ هود .. وقالوا عن البعث : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ـ ٥٣ الصافات .. هذه المبادئ أو الأصول الثلاثة هي النبأ العظيم الذي كان المشركون يسأل بعضهم بعضا عنه .. وقوله سبحانه : (هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يشير الى انهم كانوا بين مصدق في الباطن دون الظاهر وبين مكذب ظاهرا وباطنا أو متردد.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ). هذا رد لانكارهم ، وتهديد على عنادهم ، وأكد سبحانه التهديد بالتكرار ، ثم بيّن الدلائل على قدرته ، وآيات حكمته ، عسى أن يؤوب الجاحدون الى رشدهم ، ويخافوا يوم الحساب والجزاء الذي أنذرهم به الرسول ، فقال عز من قائل : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)؟ ألا ترون كيف ذلل الله الأرض تنتفعون بها ، وتفترشونها تماما كالمهد للصبي؟ (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) الجبال بالنسبة الى الأرض كالأوتاد بالنسبة الى الخيمة ، ولو لا الجبال لاضطربت الأرض ومادت بسكانها.


(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا لحفظ النسل وبناء المجتمع (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي موتا لأن النوم ضرب من الموت ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ـ ٦٠ الانعام .. والنوم ضرورة للروح والجسم ، ولا تستقيم الحياة بدونه ، ولكن الإكثار منه مذموم ، قال الرسول الأعظم : إياكم وكثرة النوم فان صاحبه فقير يوم القيامة لأنه كان في الدنيا من البطالين. قال الإمام الصادق (ع) : ان كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) شبه سبحانه الليل باللباس لأنه يستر من الإنسان ما لا يحب أن يطلع عليه غريب.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقتا للحركة والعمل من أجل الحياة ، وفي آية ثانية (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) فالنوم كالموت ، والعمل في النهار كالبعث (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً). المراد بالسبع هنا الكواكب السيارة المعروفة عند الناس ، وإلا فإن وراءها من الكواكب ما لا يبلغه الإحصاء ، ووصفها سبحانه بالشداد لأنها محكمة الصنع. وتكلمنا مفصلا عن هذا الموضوع عند تفسير الآية ١٢ من سورة الطلاق بعنوان «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً). المراد بالسراج هنا الشمس ، وفي ضوئها تعمل الخلائق من أجل الحياة (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) وهي السحائب تعصرها الرياح ، فتهطل بالماء الغزير.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) بالماء تحيا الأرض بعد موتها ، وتخرج أقوات الإنسان والحيوان وغيرهما ، ومثله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ـ ٥٤ طه ج ٥ ص ٢٢٣ (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً). أشجار ملتفة الأغصان يدخل بعضها في بعض .. وليس من شك ان من قدر على هذه العجائب فهو على إحياء الموتى أقوى وأقدر .. وتكرر هذا المعنى في عشرات الآيات ، منها : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ـ ٥٧ الأعراف.

يوم الفصل الآية ١٧ ـ ٣٠ :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)


وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

اللغة :

يوم الفصل هو يوم القيامة. وميقاتا وقتا للحساب والجزاء. والمرصاد مكان الارتقاب والانتظار. والمآب المرجع. وأحقاب جمع حقب وهو أمد غير معلوم ، وقيل : انه ثمانون سنة. والحميم الماء الحار. والغسّاق القيح والصديد. وفاقا من وافق.

الإعراب :

أفواجا حال من فاعل تأتون. للطاغين متعلق بمرصاد. وقيل : مآبا بدل من مرصاد ، والظاهر انه خبر ثان لكانت. ولابثين حال من الطاغين. وأحقابا ظرف والعامل فيه «لابثين». وجزاء نصب على المصدرية أي جزيناهم جزاء. ووفاقا صفة لجزاء. وكتابا مفعول مطلق لأحصيناه لأن الكتاب بمعنى الكتابة ، وأحصينا يتضمن معنى كتبنا.

المعنى :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً). يوم الفصل هو يوم القيامة ، وفيه يفصل بين


الحق والباطل ، وله وقت معين ولكن لا يعلمه إلا الله ، وفي هذا الوقت يفنى العالم ، وتنتقل الخلائق الأحياء منهم والأموات الى عالم آخر لا يشبه دنيانا في شيء ، عالم لا باطل فيه ولا فناء ، ولا عمل وادعاء .. لا شيء إلا النعيم لمن أحسن ، والجحيم لمن أساء ، ومن دلائله ما أشار اليه سبحانه بقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً). والصور بوق يكبر الصوت ، ولا ندري : هل أراد سبحانه هذا المعنى أو هو كناية عن بعث ما في القبور؟ ومهما يكن فإن الله سبحانه لم يكلفنا طلب هذا العلم ، ولا يتصل بحياتنا من قريب أو بعيد (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً). هذا كناية عن خراب العالم العلوي بما فيه حيث يضطرب نظام الكواكب ، ويذهب ما بينها من تماسك ، وقال الشيخ محمد عبده : «قد تكون السماء بالنسبة إلينا أبوابا في ذلك اليوم ندخل من أيها شئنا بإذن الله». (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي شيئا كلا شيء كما قال سبحانه : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) ـ ٦ الواقعة أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت أو الغبار المنتشر.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً). بعد ان ذكر سبحانه الدلائل على قدرته ـ هدد المكذبين بنبوة محمد (ص) وبالبعث ، هددهم بأن جهنم لهم في الانتظار ، وهي مرجعهم الوحيد ومقرهم الأخير (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) مقيمين في جهنم مددا طوالا لا حد لها ولا نهاية إلا ان يشاء الله (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً). وهل يجتمع البرد والماء مع النار؟ (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً). هذا استثناء متصل لأن الحميم هو الماء المغلي على النار ، والغساق القيح والصديد اللذان يسيلان من الجسم المحروق بالنار (جَزاءً وِفاقاً) عذابا يوافق أعمالهم وسيئاتهم في الحياة الدنيا (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً). لقد أعمت الدنيا وترفها قلوبهم وعقولهم فكيف يرجون لقاء الله ، ويرون آياته وبيناته (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً). لا يخفى على الله من عباده ما اقترفوه في ليل أو نهار حتى ما يختلج في نفوسهم ، ويمر بضمائرهم (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً). ليس لكم عند الله إلا العذاب ، ولا تأملوا الا بمضاعفته وشدته.


ان للمتقين مفازا الآية ٣١ ـ ٤٠ :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

اللغة :

مفازا أي موضع الفوز وهو الجنة. وكواعب جمع كاعب وهي الجارية التي استدار ثديها وبرز. وأترابا على سن واحدة. ودهاقا مترعة طافحة. واللغو ما لا فائدة فيه ولا يعتدّ به. وحسابا أي كافيا وافيا.

الإعراب :

حدائق وأعنابا بدل بعض من مفاز. وجزاء نصب على المصدرية أي نجازيهم جزاء ، ومثله عطاء ، وحسابا صفة لعطاء لأنه بمعنى كاف. ورب السموات بدل من ربك. والرحمن صفة للرب. ويوم يقوم .. نصب بلا يملكون. وصفّا في مقام الحال أي مصطفين. وذلك مبتدأ واليوم خبر والحق صفة له. ويوم ينظر متعلق بمحذوف صفة لعذاب. ويا ليتني «يا» للتنبيه.


المعنى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) بثواب الله ومرضاته ، ومنجاة من عذابه وغضبه (حَدائِقَ وَأَعْناباً). خص سبحانه الأعناب بالذكر لأهميتها عند المخاطبين (وَكَواعِبَ أَتْراباً) حورا في سن واحدة ولم تتدل أثداؤهن (وَكَأْساً دِهاقاً) طافحة بما لذ وطاب (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً). لا يقولون ولا يسمعون كلاما لا يعتد به ولا أساس له من الحق والواقع ، وفيه إيماء الى ان أهل الجنة وإن كانوا بلا عمل فإنهم لا يخوضون بما يخوض فيه أهل البطالة في الحياة الدنيا (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً). كلمة جزاء تشير الى ان الثواب على العمل الصالح حق لا بد منه ، وكلمة عطاء تومئ الى ان الله يزيدهم من فضله زيادة كافية وافية بما يحبّون ويشتهون. وتقدم مثله في عشرات الآيات ، منها الآية ٦ وما بعدها من سورة مريم.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً). ضمير لا يملكون يعود الى الخلائق الذين يومئ اليهم ذكر السموات والأرض لأن الله ربهما ورب من فيهما ، والمعنى ان تلك الحدائق وغيرها مما أنعم الله بها على المتقين ، هي من الرحمن الرحيم ومالك الملك الذي لا أحد يملك ان يخاطبه يوم القيامة في شأن الثواب والعقاب ، فهو وحده يتصرف (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً). قيل : المراد بالروح هنا جبريل لأن الله سبحانه أسماه بالروح الأمين في الآية ١٩٣ من سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). وقال الشيخ عبده : «الروح من مخلوقات الله المغيبة عنا التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها». والمعنى ان الملائكة يصطفون في يوم القيامة ، ويملئون الجو هيبة ورهبة ، وهم على طاعتهم وقربهم من الله لا يتحركون بأية حركة ، ولا ينطقون بأية كلمة إلا بإذن منه تعالى ، وهو لا يأذن بالكلام لهم ولغيرهم إلا من كانت حياته كلها صوابا وصدقا ، وعدلا وحقا ، وأيضا لا يقول المأذون له إلا ما شاء الله وأراد.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً). يوم القيامة حق لا ريب فيه ، والناس يومذاك فريقان : فريق الى النار والبعد عن الله ورحمته ، وفريق الى القرب من الله وجنته ، والطريق اليها واضح وممهد. وهو العمل الصالح مع


صدق السريرة ، وما على الإنسان إلا أن يشاء ، ويعمل مخلصا بموجب مشيئته ورغبته في دخول الجنة (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) وهو عذاب القيامة لأن كل آت قريب ، ولأن من مات فقد قامت قيامته ، وهل من شيء أقرب الى الإنسان من الموت؟ (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في الحياة الدنيا خيرا كان أو شرا ، ومثله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ـ ٣٠ آل عمران ج ٢ ص ٤٤ (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). في يوم الحق يتمنى المجرم أن يكون ترابا تدوسه الأقدام لشدة ما هو فيه ويأسه من الخلاص .. وهكذا كل مضيع تذهب نفسه مع الحسرات والعبرات.


سورة النّازعات

٤٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والنازعات غرقا الآية ١ ـ ١٤ :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

اللغة :

النازعات قيل : هي الكواكب. والناشطات تنقلب من برج إلى برج. والسابحات تتحرك في الهواء. والسابقات تتمم دورتها. والمدبرات كناية عن آثارها كالضياء وما اليه. والراجفة الأرض. والرادفة السماء. واجفة خافقة. خاشعة ذليلة. والحافرة الحالة الأولى. والساهرة وجه الأرض أو الأرض البيضاء.


الإعراب :

غرقا مفعول مطلق للنازعات لأن الغرق هنا نوع من النزع. وأمرا مفعول به للمدبرات. ويوم متعلق بجواب القسم المقدر وهو لتبعثن.

المعنى :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً). لقد تعددت أقوال المفسرين في النازعات وما بعدها ، ونلخص منها قول الشيخ محمد عبده بشيء من التصرف الذي يتفق مع غرضه .. من تتبع آي الذكر الحكيم يجد ان الله تعالى أقسم بالأزمنة والأمكنة وأشياء أخر .. ومن تأمل في جميع ما أقسم به وجده شيئا قد أنكر الناس وجوده ، أو احتقروه ، أو لم ينتبهوا الى ما فيه من الدلائل على قدرة الله وعظمته ، فيقسم تعالى بما أنكروا لتقرير وجوده ، أو بما احتقروا لتعظيم شأنه ، أو تنبيها إلى ما فيه من الدلائل على قدرته ، جلت عظمته ، وأقسم هنا ببعض مخلوقاته إظهارا لاتقان صنعها وغزارة فوائدها ليعلم المكذبون بالبعث ان من قدر على ذلك فهو على إحياء الموتى أقوى وأقدر.

والمراد بالنازعات الكواكب لأنها ترمي بالشهب ، يقال : نزع عن القوس أي رمى عنها ، وأيضا يقال : أغرق في الرمي إذا بالغ فيه (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً). تقول العرب : نشط فلان نشطا من المكان إذا خرج من بلد الى بلد ، وعليه يكون المعنى ان الكواكب تتقلب من برج الى برج (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) أي ان الكواكب تتحرك في الفضاء (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً). تتمم دورتها بسرعة حول ما تدور عليه ، ومعلوم ان سرعة كل شيء بحسبه من حيث الضخامة وعدمها (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي ان الكواكب يظهر أثرها الى الخارج بما ينفع الناس كمعرفة الأوقات والأقطار ، واختلاف الفصول ، وما الى ذلك من أسباب الحياة.

هذا تلخيص لحوالى ثلاث صفحات من جزء عمّ للشيخ محمد عبده ، سطرها في معنى هذه الكلمات ، ونحن لا نجزم بقوله ولا بقول من قال : ان النازعات هي الملائكة أو غيرها وغير الكواكب ، لا نجزم بشيء من هذه الأقوال لأنها لا


تستند الى دليل ، والراسخون في العلم يعترفون بالجهل والعجز عن معرفة الغيب ، ولا يقولون ما لا يعلمون.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي الأرض لقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) ـ ١٤ المزمل والمعنى ان الأرض تضطرب يوم القيامة بمن فيها ، ويعتريها الخراب والدمار (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي السماء وما فيها تردف الأرض أي تتبعها خرابا ودمارا ، قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ـ ٢ الانفطار. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ). المراد بالقلوب هنا قلوب المجرمين حيث تدرك يوم القيامة ما يحل بها وبأصحابها من أليم العذاب ، فتنخلع خوفا ورعبا ، ويظهر أثر ذلك واضحا في عيون المجرمين أرباب القلوب الخافقة في ذلك اليوم وقد كانت من قبل كقلوب الانعام السائمة في غباوتها والصخور في قساوتها.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ). الحافرة في اللغة الرجوع الى الحالة الأولى بعد الخروج منها ، والمعنى كيف نعود الى الحياة بعد أن ننتقل منها الى الموت؟ عجبا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) بالية لمبعوثون خلقا جديدا! (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أنكروا البعث ، فهددهم سبحانه بعذاب الجحيم ، فقالوا ساخرين : اذن ، نحن أخسر الناس صفقة في يوم القيامة!. ثم ما ذا؟ وأية غرابة في ذلك؟ ألستم أنصار الباطل والضلال؟ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) ـ ٢٧ الجاثية. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ). هذا من كلامه سبحانه يرد به على المكذبين الساخرين ، ومعناه ان إحياء الموتى على الله سهل يسير (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ـ ٥٣ يس. (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فما ان تنطلق الصيحة حتى يحشر الله الخلق على أرض بيضاء. قال الشيخ محمد عبده : سميت بذلك لأن السراب يجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة أي جارية الماء لا ينقطع جريانه منها.


هل اتاك حديث موسى الآية ١٥ ـ ٣٣ :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

اللغة :

الوادي سفح الجبل ومجرى الماء. وطوى اسم لذلك الوادي. تزكى تتطهر من الشرك. فحشر فجمع. والنكال العذاب. والمراد بسمكها هنا كواكبها. فسواها وضع كل كوكب في مكانه الطبيعي. وأغطش أظلم. ودحاها مهدها. وأرساها أثبتها.

الإعراب :

طوى بدل من الوادي على القول : انه اسم له. ولك متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، والمصدر من أن تزكى متعلق بالمبتدأ المحذوف أي هل لك حاجة


إلى التزكية ، وأصل تزكى تتزكى. ونكال مفعول مطلق لأخذه لأن الأخذ هنا يتضمن معنى العذاب فكأنه قال : عذبه الله عذاب الآخرة والأولى. وخلقا تمييز. والأرض مفعول لفعل محذوف يفسره دحاها وكذلك الجبال أرساها. ومتاعا مفعول من أجله لأخرج.

المعنى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى). هذه تسلية من الله سبحانه لنبيه الكريم محمدا (ص) وان الله سينصره على أعدائه كما نصر موسى الكليم. وتقدم بالحرف في الآية ٩ من سورة طه (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) هو واد في أسفل جبل طور سيناء ، وطوى اسم للوادي. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة طه (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) وتمادى في طغيانه حتى ادعى الربوبية. وأيضا تقدم بالحرف في الآية ٢٥ من سورة طه (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل ترغب في التطهير من الشرك والرذائل؟ (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ومن خشي الله لا يطغى ويعثو في الأرض فسادا.

سخر فرعون من موسى وقال : «أهذا المهين» يهدى «رب العالمين»!. (فَأَراهُ ـ موسى ـ الْآيَةَ الْكُبْرى) وهي انقلاب العصا حية (فَكَذَّبَ وَعَصى) أنكر المعجزة وقال : هي سحر (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) في تدبير الكيد لموسى (فَحَشَرَ فَنادى) جمع السحرة وأعوانه (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ما علمت لكم من إله غيري .. هذا بيان وتفسير لندائه في سحرته وأعوانه ، واكثر الناس اليوم وقبله وبعده يدّعون الربوبية لو وجدوا من يصدقهم (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى). عذبه بالغرق في الدنيا ، وبالحريق في الآخرة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) العواقب ، فيحتاط لها ، وينجو منها ، أما من يذهل عنها فتأخذه من مأمنه.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها). الخطاب في «أنتم» للذين كذبوا بالبعث ، والمعنى أيهما أعظم : إعادة الإنسان كما بدأه أول مرة ام إنشاء هذه السماء وإتقانها ونظامها؟ ومثله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ


خَلَقْنا) ـ ١١ الصافات. ج ٦ ص ٣٣٢ قال الشيخ محمد عبده : البناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض حتى يتكون بناء واحد ، وهكذا صنع الله الكواكب ، وضع كل كوكب في مكان على نسبة من الكوكب الآخر يتجاذبان ويتماسكان فكان المجموع بناء واحدا يسمى سماء ، وهذا هو معنى قوله تعالى :(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي رفع أجرامها فوق رؤوسنا فعدلها بوضع كل جرم في موضعه.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها). أغطش أظلم ، وأخرج أضاء ، والضمير في ليلها وضحاها يعودان إلى السماء لأن منها الظلام بغروب الشمس ، ومنها الضياء بشروق الشمس. (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسطها ومهدها بحيث تصبح صالحة للسكن والسير ، وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن ما نصه : «دحاها أي جعلها كالدحية «البيضة» وهو ما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض .. ولفظة دحا تعني أيضا البسط ، وهي اللفظة العربية الوحيدة التي تشتمل على البسط والتكوير في ذات الوقت ، فتكون أولى الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكورة في الحقيقة .. وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللفظ الدقيق المبين».

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها). كل ما في الأرض من الماء هو من السماء ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٨ المؤمنون. ثم يفجر سبحانه هذا الماء ينابيع وعيونا وأنهارا ، فيخرج النبات يأكله الناس والدواب (وَالْجِبالَ أَرْساها). أثبتها كيلا تميد وتضطرب بمن فيها : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ـ ١٥ النحل (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). خلق سبحانه الأرض ومهدها وثبتها وفجر فيها المياه وأخرج النيات ، كل ذلك وغير ذلك لخير الإنسان والانعام التي ينتفع بها الإنسان ، فهل جاء هذا كله صدفة وجزافا ، أم ان الذي أوجده وأنشأه أول مرة يعجز عن إعادته وإنشائه ثانية؟ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ـ ٢٧ الروم.


الطامة الطبري الآية ٣٤ ـ ٤٦ :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

اللغة :

الطامة الكبرى القيامة لأنها تطم على كل داهية. والمأوى المستقر. ومقام الله الجلال والعظمة. والعشية آخر النهار ، والضحى أوله.

الإعراب :

يوم يتذكر «يوم» مفعول لفعل محذوف اي اعني يوم يتذكر. فأما من طغى جواب إذا جاءت. وإيان خبر مقدم ومعناها متى ، ومرساها مبتدأ مؤخر. فيم خبر وأنت مبتدأ ومن ذكراها متعلق بما تعلق به الخبر. وإلى ربك منتهاها مبتدأ وخبر على حذف مضاف اي منتهى علمها. وعشية على حذف مضاف ايضا اي عشية يوم ، وضمير ضحاها يعود إلى عشية لأن كلا من العشية والضحى جزء من يوم واحد.


المعنى :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى). إذا قامت القيامة دمرت الكون بأرضه وسمائه ، ولم يبق من شيء إلا خالق كل شيء .. وهذه هي الطامة الكبرى ، واي شيء اكبر منها وأعظم ، ومن هنا قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى). إذا انتقل من الفانية إلى الباقية يرى صحيفة أعماله مع الجزاء ، إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ ، وعندئذ يتذكر سعيه في الحياة الدنيا وما كسبت يداه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) لا يحجبه عن رؤيتها حاجب ، ولا يحرسها منه حارس ، وفوق ذلك : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ـ ٧١ مريم.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى). من انقاد إلى أهوائه أوردته المهالك ، ومن تغلب عليها أبصر الطريق ، وبلغ من الخير غايته .. والهوى علة العلل ، وصدق من قال : من أطاع هواه اعطى عدوه مناه. وقال آخر : إن حقيقة الإنسان هي نفسه ، فإذا تغلب عليها الهوى أصبح مخلوقا آخر لا يشبه الإنسان في قلبه ولا عقله. ومما قاله الإمام علي (ع) في وصف من قاس الحق بأهوائه : «لا يعرف باب الهدى فيتبعه ، ولا باب العمى فيجتنبه ، فذلك ميت الأحياء». وتجدر الاشارة إلى ان المراد بالهوى ما خالف الحق والعدل ، وإلا فإن النفس تشتهي الحلال كما تشتهي الحرام.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) متى تقوم القيامة؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها). يطلبون منك يا محمد أن تحدد لهم اليوم الذي تقوم فيه القيامة ، ولا يدخل هذا في اختصاصك ، ولا في شيء من وظيفتك ، والمطلوب منك ان تخوف الناس من القيامة وأهوالها ، أما متى تكون فعلم ذلك عند الله ، وقد شاءت حكمته أن يخفيها عن عباده حتى الأنبياء والمقربين ، وأن لا تأتيهم إلا بغتة. وتقدم مثله في الآية ١٨٧ من سورة الأعراف : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها


لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ج ٣ ص ٤٣١.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها). أنكروا القيامة حتى إذا رأوها أيقنوا انها الحق الذي لا ريب فيه ، وانها دار القرار ، وان الدنيا طريق اليها وممر ، فإذا طوت أهلها بالموت أدركوا ان أعمارهم فيها كانت أشبه بطيف او بساعة من نهار .. ومثله الآية ٤٥ من سورة يونس : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) ج ٤ ص ١٦٤.


سورة عبس

٤٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عبس وتولى الآية ١ ـ ١٦ :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

اللغة :

صحف كتب. ومكرمة من التكريم والتعظيم. ومرفوعة من رفعة القدر وعلو الشأن. ومطهرة منزهة عن العبث والضلال. وسفرة وسفراء جمع سفير وسافر والمراد بهم هنا الملائكة والأنبياء. والبررة جمع بارّ.

الإعراب :

المصدر من ان جاءه مفعول من أجله لعبس. وما يدريك مبتدأ وخبر. ومن


استغنى مبتدأ وأنت مبتدأ ثان وجملة تصدى خبر الثاني والجملة منه ومن خبره خبر الأول وأصل تصدى تتصدى. وما عليك «ما» نافية تعمل عمل ليس واسمها محذوف. وعليك متعلق بمحذوف خبرا لما النافية ، والمصدر من ان لا تزكى مجرور بفي المقدرة والمجرور متعلق باسم «ما» أي ما بأس كائن عليك في عدم تزكيته. وضمير انها لآيات القرآن. وضمير ذكره لله أو للقرآن. وفي صحف صفة لتذكرة أي مثبتة في صحف مكرمة ، ويجوز ان تكون في صحف خبرا لمبتدأ محذوف اي هي في صحف.

من هو العابس؟

اتفق المفسرون على ان الأعمى هو ابن ام مكتوم صاحب رسول الله (ص) وابن خال خديجة زوجة الرسول ، واختلفوا في العابس. فقيل : انه مجهول ، ولهذا القول وجه ، لأن الله سبحانه ذكره بضمير الغائب ، ولم يبين لنا من هو؟. ومثله كثير في القرآن ، ومنه : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) القيامة ـ ٣٣. وقيل : هو رجل من بني أمية كان عند رسول الله (ص) فلما رأى الأعمى تقذر منه ، وأعرض عنه. والمشهور بين المفسرين وغيرهم ان الذي عبس وتولى هو رسول الله (ص) ، وان السبب لذلك ان ابن مكتوم أتاه وهو في مكة ، وكان عنده عتاة الشرك من ذوي الجاه والمال : عتبة وشيبة ابنا ربيعة وابو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم ، وكان مقبلا عليهم ، ومشغولا بهم دون الجالسين ، يذكّرهم بالله ، ويحذرهم عاقبة الشرك والبغي ، ويعدهم خير الدنيا والآخرة ان أسلموا ، وهو يرجو بذلك هدايتهم ، وان يكونوا قوة للإسلام ، وان يكفوا شرهم ـ على الأقل ـ وكان الإسلام ضعيفا آنذاك وفي محنة وشدة من كيدهم وعدائهم.

فقطع الفقير الأعمى كلام الرسول مع القوم ، وقال : علمني يا رسول الله شيئا أنتفع به مما علمك الله .. فمضى الرسول في كلامه مع القوم ، ولما أعاد الأعمى وكرر كره الرسول منه ذلك ، وظهرت كراهيته في وجهه ، فعاتب سبحانه نبيه الكريم بضمير الغائب «عبس وتولى» ثم بضمير المخاطب (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى).


هذا ما ذهب اليه أكثر المفسرين ، وله وجه أرجح وأقوى من الوجه الأول لمكان ضمير المخاطب «أنت» فان المراد به الرسول ـ بحسب الظاهر ـ وعليه يكون بيانا وتفسيرا للضمير الغائب في عبس والتفاتا من الغائب الى الحاضر .. ولكن قول المفسرين : ان الله عاتب النبي على ذلك لا وجه له على الإطلاق حيث لا موجب للعتاب في فعل الرسول (ص) لأنه أراد أن يغتنم الفرصة قبل فواتها مع أولئك العتاة ، أن يغتنمها ويستغلها لمصلحة الإسلام والمسلمين لا لمصلحته ومصلحة أهله وذويه ، أما تعليم المسلم الأحكام والفروع فليس له وقت محدود بل هو ممكن في كل وقت ، وبتعبير الفقهاء ان اسلام الكافر مضيّق يفوت بفوات وقته ، أما تعليم المسلم أحكام الدين فموسّع يمكن القيام به في أي حين ، والمضيق أهم ، والموسع مهم والأهم مقدم بحكم العقل .. اذن ، عمل الرسول آنذاك كان خيرا وحكمة.

وتسأل : على هذا ينبغي أن يوجه اللوم والعتاب على الأعمى دون غيره مع ان الله سبحانه قد أثنى عليه ، ودافع عنه؟

الجواب : لا لوم ولا عتاب على النبي ولا على الأعمى في هذه الآيات ، وانما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي بقصد أن يستميلهم ويرغبهم في الإسلام لأن الله يقول لنبيه في هذه الآيات : لما ذا تتعجل النصر لدين الله ، وتسلك اليه كل سبيل حتى بلغ الأمر ان ترجو الخير وتأمل هداية أشقى الخلق وأكثرهم فسادا وضلالا .. دعهم في طغيانهم ، وأغلظ لهم ، فإنهم أحقر من أن ينتصر الله بهم لدينه ، وأضعف من أن يقفوا في طريق الإسلام وتقدمه ، فإن الله سيذل أعداءه مهما بلغوا من الجاه والمال ، ويظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .. فهذه الآيات قريبة في معناها من قوله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ـ ٨ فاطر. ثم انتقل سبحانه الى تقرير الحقيقة المطلقة ، وهي (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قررها بأسلوب آخر ، وهو ان الذي يخشى ويزكى وتنفعه الذكرى هو الذي يستحق التكريم والتعظيم ، أما من يعرض عن الحق ولا ينتفع بمواعظ الله فيجب نبذه واحتقاره ، وان كان أغنى الأغنياء وسيد الوجهاء.


المعنى :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) وهو ابن ام مكتوم ، قصد الرسول الأعظم (ص) ليسأله عن أحكام دينه ، فأعرض عنه لاشتغاله بما هو أهم كما ذكرنا .. وكان هذا الأعمى من المهاجرين الأولين ، والمؤذن الثاني لرسول الله (ص) واستخلفه على المدينة يصلي في الناس أكثر من مرة. وقيل : انه ولد أعمى وان اسمه عبد الله ، ووصفه سبحانه بالأعمى للاشارة الى عذره في الإلحاح بالمسألة (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى). أي شيء جعلك داريا وعارفا بحقيقة هذا الأعمى؟. ولو استجبت لرغبته وألقيت بعض أحكام الدين لانتفع وعمل بما تلقيه عليه.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى). أعرضت عمن يشعر بالحاجة الى ما عندك من علم الله ، وأقبلت على من يرى نفسه في غنى عن الله وعنك بما يملك من جاه ومال ، ترجو هدايته ورجوعه عن الضلال. وهل ترجى الهداية ممن أعماه الهوى والجهل : (فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ـ ٤٣ يونس. (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى). لا شيء عليك ولا على الإسلام من كفر الكافر وضلاله ، ومثله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) ـ ٤٢ المائدة. (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى). تشاغلت بالمشركين طمعا بإسلامهم وهدايتهم ، وتعافلت عن المؤمن الذي قصدك للاستفادة من عملك اتكالا على إيمانه ، وان في وقت التعليم سعة وفسحة .. فدع الطغاة لله وحده فهو لهم بالمرصاد ، وأقبل على من تفتح قلبه للهدى والخير.

(كَلَّا) ان الله لا ينصر دينه بمن يرى نفسه في غنى عن الله وعنك بما عنده من جاه ومال ، وانما ينصر الحق بالطيبين أمثال هذا الأعمى ، وان كانوا من الفقراء والمساكين (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ). ضمير انها يعود إلى آيات القرآن أو الى الهداية التي فيه ، وضمير ذكره يعود الى الله او الى القرآن ، والمعنى ان هذا القرآن كاف واف في الهداية لمن طلبها ، وما عليك يا محمد إلا البلاغ والتذكير ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ثم وصف سبحانه هداية القرآن وتعاليمه وأحكامه بقوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) لها شأنها وكرامتها عند الله


(مرفوعة) عالية بتعاليمها النافعة ، وحكمها البالغة (مُطَهَّرَةٍ) من العبث والضلال (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ). ان تلك الصحف الإلهية في حصن حصين ينقلها الملائكة المقربون عن العلي الأعلى الى أنبيائه المعصومين ، وهم يبلغونها بدورهم الى الناس بدقة وأمانة.

قتل الانسان ما اكفره الآية ١٧ ـ ٤٢ :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

اللغة :

المراد بقتل هنا الدعاء بالعذاب والهلاك. والمراد بالإنسان المجرم. فقدره اي أنشأه خلقا بعد خلق وطورا بعد طور. وأنشره أحياه بعد الموت. والقضب ما


يؤكل رطبا طريا من الخضار والبقول ويقطع مرة بعد مرة. وغلبا ضخمة وعظيمة. والأبّ مرعى الدواب. والمراد بالصاخة القيامة مثل القارعة ، وفي تفسير الرازي : معنى الصاخة الصاكة للآذان بشدة صوتها. وترهقها تغشاها. وقترة سواد.

الإعراب :

ما أكفره «ما» نكرة بمعنى شيء عظيم ومحلها الرفع بالابتداء. وأكفره فعل ماض لا يتصرف ، وفيه ضمير مستتر يعود على «ما» والهاء مفعول به لأن المعنى شيء عظيم جعله كافرا. السبيل مفعول لفعل مقدر أي يسّر السبيل يسّره للإنسان. ولمّا يقض أي لم يقض. وما اسم موصول مفعولا ليقض والعائد محذوف اي ما أمره به. والمصدر من أنّا بدل اشتمال من طعامه. وغلبا صفة لحدائق وهي جمع غلباء. ومتاعا مفعول من أجله لأنبتنا. وجواب إذا جاءت محذوف أي فما أعظم ندم المجرمين.

المعنى :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ). جاء في تفسير الرازي نقلا عن جماعة من المفسرين : «ان المراد بالإنسان هنا كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر». ونحن مع هذا القول أولا ، لأن الواقع يؤيده ويشهد به ، فلولا الطمع والتكالب على الحطام وكنز المال لعاش الناس في رفاهية وأمان. قال الشيخ محمد عبده : «ان هذا الدعاء على الإنسان بأبشع الدعوات هو كناية عن انه قد بلغ من القبح مبلغا لا يستحق معه الحياة ، ومنشأ الشناعة نسيانه لما يتقلب فيه من النعم ، وذهوله عن مسديها حتى إذا ذكّر بالحق أعرض عن الذكرى» .. ولا شك في نعمة الوجود والإدراك والسمع والبصر ، بل هي من أعظم النعم ، ولكن نعمة الوجود وما اليه لا تبعث على التعالي والطغيان ما دامت عامة شاملة ، وانما الذي يخرج الإنسان المجرم عن حده ويبعثه على البغي والعدوان هو إحساسه بثروته وامتيازه عن غيره.


(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ). من أنت أيها الإنسان الضعيف حتى تستنكف عن طاعة الله ، وتتطاول على عباده؟ فكّر في أصلك ، وفي انتقالك من خلق الى خلق ، وفي مصيرك ومآلك ... فمن الذي أوجدك ولم تك شيئا ، وأنشأك في بطن أمك حالا بعد حال ، ثم أخرجك في أحسن تقويم .. هل الصدفة فعلت هذا كله؟ (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ). مهد للإنسان الطريق الى الخير بشيئين : الأول الإرشاد اليه والترغيب فيه. الثاني العقل والقدرة على العمل. وأيضا مهد له الطريق الى الحياة بشيئين : الأول ما أودعه تعالى في الطبيعة من الخيرات الكافية بحاجاته. الثاني ما أودعه في الإنسان من الطاقة والاستعداد لاستغلال الطبيعة وتكييفها كما يشاء. وتقدم مثله في العديد من الآيات. انظر تفسير الآية الأولى وما بعدها من سورة الإنسان.

(ثُمَّ أَماتَهُ) بعد انقضاء أجله (فَأَقْبَرَهُ) أمر سبحانه بدفن الإنسان بعد موته ، ونهى عن تركه مطروحا للوحوش والطيور اشارة الى كرامته عند الله حتى بعد خروج الروح منه فكيف إذا كان حيا؟ (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ). خلقه ثم أماته فأقبره ، ثم يبعثه كما كان للحساب والجزاء .. ولو لا هذا البعث لكان وجود الإنسان عبثا في عبث. انظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس فقرة «الحساب والجزاء حتم». أما قوله تعالى : (إِذا شاءَ) فيشير الى انه هو وحده يعلم متى يكون الحشر والنشر (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ). الضمير في يقضي يعود الى الإنسان المجرم المهمل ، والمعنى لقد زودنا الإنسان بجميع الطاقات والمعدات لفعل الخير وصالح الأعمال ، وما تركنا له من عذر يتعلل به ، ومع ذلك أهمل وقصر أكثر الناس ، بل ان الكثير منهم طغوا وبغوا واتخذوا من نعم الله عليهم وسيلة للفساد والاعتداء على العباد.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) وهو بين يديه ، وفيه قوام حياته ووجوده ، فلينظر اليه ، ويسأل عقله : من الذي يسر له هذا الطعام؟ الطبيعة؟ ومن الذي أوجد الطبيعة؟ الصدفة؟ وهل للصدفة عقل يقدر ويدبر؟ فأوجدت الطبيعة بما فيها من أسباب الطعام والشراب وما الى ذلك من الدقة واحكام الصنع (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا). كلا .. الله وحده هو الذي أوجد الماء وأنزله من السماء ، وسبق أكثر من مرة ان الظواهر الكونية تسند اليه تعالى لأنه مصدر الوجود وسبب الأسباب


(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) أي ان النبات يشق تربة الأرض ليخرج منها تماما كما يشق الفرخ قشرة البيضة التي هو فيها (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع غلباء وهي الضخمة العظيمة من الشجر وغيرها : والمعنى ان تلك الحدائق عظيمة بأشجارها وثمارها ، وظلالها وجمالها.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). والابّ المرعى ، والمتاع ما يتمتع به الإنسان والحيوان. قال الشيخ محمد عبده : «روي ان أبا بكر الصديق سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟ وعن عمر بن الخطاب انه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا عرفناه فما الأب؟. ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب؟ .. ولا تظن ان سيدنا عمر ينهى عن تتبع معاني القرآن ، وانما يريد أن يعلمك ان الذي عليك من حيث انت مؤمن ان تفهم جملة المعنى».

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) القيامة ، وهي تصك الآذان بصوتها حتى تكاد تصمها (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). لا أحباب ولا أنساب يوم القيامة لأن كل انسان مشغول بنفسه منصرف لما هو فيه عن غيره .. هذا ، إلى انه أعزل من كل شيء. وفيه إيماء الى ان الذين يحرص الإنسان عليهم في الحياة الدنيا ، ويعصي الله من أجلهم ـ لا يغنون عنه شيئا في الآخرة ، ولا هو عنهم بمغن شيئا. وفي بعض التفاسير : ان ذكر الأرحام في الآية جاء على الترتيب الطبيعي حيث قدمت الأخ ثم الأبوين ثم الزوجة والولد لأن عاطفة الإنسان نحو أبويه أقوى منها نحو أخيه ، وعاطفته نحو زوجته وولده أقوى منها نحو أبويه. فكأنه قال تعالى : يفر المرء من أخيه بل من امه وأبيه بل من صاحبته وبنيه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) اي مضيئة ، من أسفر الصبح (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) فرحا وسرورا بما أعد الله لها من المقام الكريم والأجر العظيم (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) الذل والهوان (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) يعلوها سواد الحزن والكآبة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ). ووصف الكفرة بالفجور يومئ الى ان الفاجر المتهتك هو والكافر بمنزلة سواء عند الله حتى ولو حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.


وللشيخ محمد عبده كلام طويل حول هذه الآية نلخصه بالآتي : «من طلب الحق لوجه الحق وعمل به ، او أدركه الموت وهو لا يزال في طلبه ـ من كان هذا شأنه في الحياة الدنيا فهو الذي يضحك ويستبشر يوم القيامة بفضل الله ، ومن احتقر عقله وشغل نفسه بتبرير الأهواء والتماس الحيل لتقرير الباطل كما كان يفعل أعداء الأنبياء فهو الذي يعلو وجهه سواد الحزن ، وغبرة الذل يوم القيامة لأنه من الكفرة الفجرة ، ذلك ان الدين ينهى عن الفواحش ، وهو يقترفها ، الدين يأمر بصيانة المصالح العامة ، وهو يفتك بها ، الدين يطالب أهله ببذل المال في سبيل الخير ، وهو يسلب المال لينفقه في سبيل الشر ، الدين يأمر بالعدل ، وهو أظلم الظالمين ، الدين يأمر بالصدق ، وهو يكذب ويحب الكاذبين .. ومن كان هذا شأنه فما ذا يكون حاله يوم يتجلى الجبار ، ويرتفع الستار»؟.


سورة التّكوير

٢٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اذا الشمس كورت الآية ١ ـ ١٤ :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

الإعراب :

إذا ظرف زمان بمعنى وقت ، وتتضمن معنى الشرط ، ومحلها النصب بجوابها وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). وارتفعت الشمس بفعل محذوف يفسره الموجود اي إذا كورّت الشمس كورت. ومثلها إذا النجوم انكدرت وما بعدها.

المعنى :

أشار سبحانه في هذه الآيات الى بعض ما يحدث يوم القيامة الى ساعة الحساب ، وتلك الحوادث هي :


١ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ). معنى التكوير اللف ، ومنه تكوير العمامة ، والمراد من تكوير الشمس طيها وخفاؤها بعد ان كانت ظاهرة للعيان ، بل ومضرب المثل في الوضوح والظهور ، وسبب طيها ما يعتريها من الخراب.

٢ ـ (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). وانكدار الشيء انقلابه حتى يصير أسفله أعلاه ؛ والمراد من انكدار النجوم تساقطها وانتثارها. وفي الآية ٢ من سورة الانفطار : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ).

٣ ـ (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). اقتلعت من أماكنها ، وسارت في الهواء.

٤ ـ (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ). العشار النوق الحوامل ، وهي أنفس وأثمن مال عند العرب ، وعطّلت تركت وأهملت. وهذا كناية عن شدة الهول وذهول الإنسان عن كل شيء في ذلك اليوم.

٥ ـ (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). تنفر مذعورة عند خراب الكون ، وتموت خوفا. وقال الرازي وصاحب مجمع البيان : «ان الله يجمع الوحوش حتى يقتص لبعضها من بعض». ويلاحظ بأن الله لا يحاسب حتى يكلف ، ولا يكلف حتى يهب العقل .. به يثيب ، وبه يعاقب ولو كان للوحوش عقل لامتنعت عن الإنسان ، وكانت معه بمنزلة سواء.

٦ ـ (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ). في كتب اللغة سجر البحر فاض ماؤه ، وعليه يكون المعنى ان مياه البحار تنطلق هنا وهناك ، لا يمسكها شيء نتيجة لخراب الكون ، ومثله (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) ـ الانفطار. وقال الشيخ محمد عبده : قد يكون تسجيرها ضرامها نارا ، فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها ، وعندئذ يذهب الماء بخارا ، ولا يبقى في البحار إلا النار ، وقد ورد في بعض الأخبار ان البحر غطاء جهنم ، والبحث العلمي أثبت ذلك ، ويشهد عليه غليان البراكين والزلازل.

٧ ـ (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ). أي عادت كل نفس آدمية الى الجسم الأول الذي فارقته عند الموت.

٨ ـ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). وهي البنت الصغيرة تدفن


حية ، فإنها تبعث وتسأل على مسمع من وائدها : لما ذا وأدك الوائدون؟ ليكون أشد وقعا على الوائد. أنظر تفسير الآية ٥٨ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٢٣.

٩ ـ (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ). يعطى لكل انسان غدا كتاب اعماله خيرها وشرها. وقد يكون هذا كناية عن ان أعمال العباد يوم القيامة تظهر لهم بكاملها كما هي ، ومهما يكن فما علينا ان نبحث عن حقيقة تلك الصحف والكتب.

١٠ ـ (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ). اي كشفت وأزيل منها الكواكب التي كانت تحجب ما وراءها كما يزال الجلد عن الذبيحة ، ويظهر ما تحته من اللحم.

١١ ـ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ). أوقدت وأضرمت.

١٢ ـ (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ). قربت من أهلها ، وقربوا منها لأنها أعدت لهم ، وأعدوا لها. ومثله (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ـ ٣١ ق.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). هذا جواب الشروط الاثني عشر المتقدمة ، والمعنى إذا حدث ما سبق ذكره أقدم كل انسان على ربه ، وهو يعلم ما ذا يحمل معه من الأعمال ، وما تزود به من خير أو شر. وفي نهج البلاغة : «وان قادما يقدم ـ على ربه ـ بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة ، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تجزون به أنفسكم».

الخنس والكنس الآية ١٥ ـ ٢٩ :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))


اللغة :

الخنس جمع خانس وخانسة من خنس الشيء إذا رجع والجواري جمع جارية من الجري. والكنس جمع كانس وكانسة من كنس الظبي إذا استتر في المكان الذي يأوي اليه ، والمراد بالخنس والكنس هنا النجوم. وعسعس الليل من الاضداد يستعمل بمعنى أقبل وأدبر ، والمراد هنا الإدبار لقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ـ ٣٣ المدثر. وتنفس الصبح أسفر وامتد نوره. والمراد بالرسول هنا جبريل. وذو العرش الله. ومكين صاحب مكانة. والأفق المبين هو الأفق الأعلى الذي ذكره سبحانه في الآية ٧ من سورة النجم ، وضنين بخيل.

الاعراب :

الجواري صفة للخنس. وضمير انه يعود الى القرآن الذي دل عليه السياق ، والجملة جواب القسم. وكريم وما بعده صفة لرسول. وما صاحبكم عطف على انه لقول الخ وكذلك وما هو. أين تذهبون «أين» ظرف مكان منصوب محلا بنزع الخافض أي الى أين ، وفي مجمع البيان : تقول العرب : ذهبت الشام وخرجت الشام أي منها وإليها. ولمن شاء بدل بعض من العالمين بإعادة حرف الجر.

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ). أسلفنا ان «لا» هذه عند أكثر المفسرين زائدة ، وعند البعض منهم نافية على أساس ان الأمر واضح لا يحتاج الى قسم .. ونتيجة القولين واحدة ، قال الشيخ محمد عبده : يؤتى بهذه العبارة إذا أريد تعظيم المقسم به ، وانه لا يعظم بالقسم لأنه عظيم بنفسه (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) المراد بالخنس الكنس جميع النجوم ، وقيل : بل النجوم الخمس فقط : عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل ، وهي جوار لأنها تدور في أفلاكها ، واختلفوا لما ذا وصفت بالخنس الكنس؟. قال الشيخ محمد عبده ما معناه : ان الله سبحانه وصفها بالكنس


لأنها تختفي عن الرائي في ضوء الشمس كما تختفي الظبية في كناسها ، ووصفها سبحانه بالخنس لأنها ترجع الى الظهور للعيان بعد غياب الشمس ، ويتفق هذا في نتيجته مع تفسير الطبرسي في مجمع البيان حيث قال ما نصه بالحرف : «هي النجوم تخنس بالنهار ، وتبدو بالليل». والفرق بين التفسيرين ان الخنس هنا عند صاحب المجمع هو الاختفاء ، والكنس الظهور ، والعكس عند الشيخ محمد عبده .. وعلى أية حال فإن الله سبحانه أقسم بالنجوم للتنبيه الى ما في صنعها من الدلائل على قدرة المبدع وحكمته.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ). هذا قسم ثان منه تعالى بإدبار الليل وإقبال النهار لأنه عطف على القسم. وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن : «تقرأ في القرآن ألفاظا فتترك في السمع رنينا وأصداء وصورا حينما يقسم الله بالليل والنهار فيقول : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) .. «عسعس» .. هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه .. (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ان ضوء الفجر هنا مرئي ومسموع .. انك تكاد تسمع سقسقة العصفور وصيحة الديك».

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ). هذا جواب القسم ، وضمير انه للقرآن المفهوم من السياق ، والمراد بالرسول جبريل ، وأضاف سبحانه القرآن الى جبريل لأنه حامله وناقله عن الله الى رسول الله (ص) ، ولجبريل كرامة ومكانة عند الله ، وهو أمين على التنزيل ، وقوي على أدائه وعلى غيره من الأعمال الموكلة اليه. وتقدم مثله في الآية ٦ من سورة النجم (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ثم بمعنى هناك ، وهي اشارة الى المكان الذي يطاع فيه جبريل ، وهو من عالم الغيب الذي لا يعرف حقيقته إلا الله.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). الخطاب لعتاة قريش ، وصاحبهم محمد (ص) ، وقد رماه بعضهم بالجنون كما جاء في الآية ٦ من سورة الحجر (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ج ٤ ص ٤٦٨. فبرأه الله مما يفترون. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة القلم (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ). أتقولون : محمد مجنون حين يخبركم عن الجنة والنار؟. كلا ، ان القرآن وحي من الله ، أوحاه


الى رسوله بلسان جبريل الذي رآه محمد في الأفق الواضح على صورته وحقيقته رؤية صادقة لا شك فيها. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة النجم.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ). ضمير هو لرسول الله (ص) والغيب القرآن ، والمعنى ما كان محمد ليكتم القرآن ، ويسكت عن إعلان الحق مخافة ان تقولوا ايها المشركون : هو مجنون ، بل يعلنه على الاشهاد ولا تأخذه في الحق لومة لائم (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ). هذا رد لزعمهم بأن ما يتكلم به الرسول قد نفثه الشيطان على لسانه .. وهل توحي الشياطين بالهدى والخير ، والحق والعدل؟ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) في أحكامكم وضلالكم؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). ان القرآن آمر بالخير ، زاجر عن الشر ، وفوق هذا كله فيه تبيان كل شيء فكيف يكون قول شيطان رجيم؟.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ). القرآن هدى وصلاح لمن يرغب في الهداية والاستقامة ، أما من يصر على الضلال فلا ينتفع بذكر ، ولا تؤثر فيه عظة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). قال الرازي : هذه الآية تدل على ان الإنسان مسيّر غير مخيّر .. ويرده ان معنى الآية هو ان الله سبحانه طلب من العبد أن يستقيم على جادة الحق والعدل ، ولكن المعاند يأبى إلا الانحراف ، ولا يستقيم إلا إذا أجبره الله على ذلك .. وهذا يتنافى مع عدل الله وحكمته ، وبتعبير ثان ان الله سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وارادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ومن ثم كلفه بالطاعة من دونه ، ولو شاء سبحانه لسلب الإنسان ارادة العقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه.


سورة الانفطار

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

الإعراب :

السماء فاعل لفعل مقدر يفسره الفعل الموجود ، وكذلك الكواكب والبحار والقبور. علمت نفس جواب إذا. وما غرك «ما» استفهام مبتدأ وجملة غرك


خبر. والذي خلقك صفة ثانية لربك. وفي أي صورة متعلق بركبك وما زائدة إعرابا وجملة شاء صفة لصورة ، ولم يقرن ركبك بالفاء لأنها بيان لعدلك. وكراما صفة لحافظين وكذلك كاتبين. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. وما يوم الدين «ما» خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر. ويوم لا تملك «يوم» مفعول لفعل مقدر أي اذكر يوم لا تملك.

المعنى :

هذه السورة تماما كالسورة السابقة ، تعرض صورا لبعض ما يحدث عند قيام الساعة ، وما بعدها من الحساب والجزاء.

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقت وتساقطت كواكبها ، ومثله (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) ـ ٣٧ الرحمن. (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) هوت وبادت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) ارتفعت أمواجها وانطلقت مشرّقة ومغربة ... أو تبخر ماؤها ، واندلعت النيران من باطنها. انظر تفسير (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) في السورة السابقة. (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) البعثرة والبحثرة في اللغة اثارة الشيء بقلب باطنه الى ظاهره ، وبالعكس ، والمراد هنا من البعثرة ان الساعة آتية لا ريب فيها (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ـ ٧ الحج. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ). بعد البعث يعلم كل انسان ما قدمت يداه من خير أو شر ، وما ترك منهما.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ). فسواك أي أودع فيك من القوى الظاهرة والباطنة ما جعلك إنسانا كاملا ، وعدلك أي جعل أعضاءك متوازية ، فلم يجعل احدى يديك أطول من الأخرى ، ولا احدى العينين أصغر ، ولا بعض الأعضاء اسود والبعض الآخر ابيض الخ.

واختلفوا : ما هو المراد من الكريم في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟ فقال البعض : وصف سبحانه نفسه هنا بالكريم ليلهم عبده المذنب الجواب ، ويعلّمه ان يقول غدا إذا سئل عن ذنبه : غرني عفوك وكرمك .. وقال الشيخ


محمد عبده : هذا تلاعب بالتأويل ، وتضليل للناظر في كتاب الله .. واللائق ان يفسر الكريم هنا بالعظيم في جميع صفاته تعالى ، وان من كان كذلك فلا يترك عبيده سدى بلا سؤال ولا جزاء ، بل يحاسبهم ويثيب الأخيار منهم ، ويعاقب الأشرار ، وعليه فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بالدنيا وزخرفها.

وللإمام علي (ع) كلام طويل حول هذه الآية ، أدرج مع خطب نهج البلاغة ، ويتلخص في مجمله بالآتي : ما الذي جرأك ايها الإنسان على معصية ربك ، وأنت تقيم في كنفه ، وتتقلب في نعمه؟ هل غرك منه إقباله عليك بالنعم ، وأنت متول عنه الى غيره؟. أما تعلم ان هذا الإقبال تفضل منه عليك ، وإمهال لك كي تؤوب الى رشدك وترجع عن غيك؟.

وعلى هذا يكون المراد بكرمه تعالى في الآية هو إمهاله لعبده المذنب وعدم أخذه بالعقوبة العاجلة ، وان عليه أن يبادر الى التوبة والإنابة ، ولا يغتر بالإمهال والإمداد.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال بعض المفسرين : أي لم يجعلك خنزيرا أو حمارا. وقال آخر : صوّرك كما أراد طولا أو قصرا ، سوادا أو بياضا .. والذي نفهمه من هذه الآية هو فكّر أيها الإنسان في إحكام خلقك ، وإتقان تركيبك لتدرك عظمة الله في خلقه ، وان الذي أنشأك في أحسن تقويم قادر على ان يعيدك الى الحياة ثانية (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ). ارتدعوا عن ضلالكم الذي لا مصدر له إلا التكذيب بالبعث .. فإنكم محاسبون ومسؤولون لا محالة عما كنتم تعملون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ، ولا يستركم منهم شيء ، ومعنى كرام انهم أقوياء أمناء يؤدون مهمتهم على أتم الوجوه وأكملها. وتقدم مثله في الآية ٨٠ من سورة الزخرف. وتجدر الاشارة الى ان الذي يجب علينا اعتقاده ان أعمال العباد تحفظ وتحصى ، أما كيف؟ وبأي شيء؟ فنحن غير مسؤولين عن ذلك.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ). الأبرار هم أهل الصدق وصالح الأعمال ، وجزاؤهم عند ربهم مغفرة وأجر كريم ، والفجار هم الذين يعيثون في الأرض فسادا ، وجزاؤهم نزل من حميم وتصلية جحيم (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) مطرف عين .. أبدا شقاء لازم ، وعذاب دائم (وَما أَدْراكَ


ما يَوْمُ الدِّينِ). انك تجهل حقيقة اليوم الآخر .. انه فوق التصور بشدائده وأهواله (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ). هذا تأكيد وتضخيم لنكاله وأثقاله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). لا أحد يملك نفعا ولا ضرا في ذاك اليوم لنفسه ولا لغيره (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فهو المتفرد بالأمر والنهي ، فلا مشير ولا نصير ، بل ولا شفيع إلا لمن اذن له الرحمن وقال صوابا.


سورة المطفّفين

٣٦ آية مكية ، وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ويل للمطففين الآية ١ ـ ١٧ :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

الإعراب :

ويل مبتدأ ، وللمطففين خبر. الذين صفة للمطففين. والمصدر من انهم مبعوثون


ساد مسد المفعولين ليظن. ويوم يقوم «يوم» منصوب بمبعوثين. وما أدراك مبتدأ وخبر ، ومثله ما سجّين. وكتاب خبر لمبتدأ مقدر أي هو كتاب مرقوم. والذين يكذبون صفة للمكذبين. وأثيم صفة لمعتد. وأساطير خبر لمبتدأ مقدر أي هي أساطير.

المعنى :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ). الويل الهلاك والعذاب ، والمطففون فئة من الأقوياء يتاجرون بقوتهم ونفوذهم .. انهم يبيعون ويشترون ، ولكنهم يشترون بأبخس الأثمان ، ويبيعون بأغلاها ، وفي الحالين يحققون أقصى حد من الأرباح ، ويرغمون الناس بطريق الاحتكار أو بغيره على الاستسلام لجورهم ، ويبررونه باسم العمل الحر والتجارة الحرة .. وتطورت أساليب الاستغلال مع الزمن وبتقدم العلم واكتشاف الأسواق ، وظهور البترول وغيره من المعادن .. وأخيرا وجد مطففو هذا العصر في صناعة الحرب وسياسة الركض وراء التسلح ـ أفضل الوسائل لتركيم الثروات ، وحفظ الأرباح في أعلى المستويات.

ويبتدئ تاريخ التطفيف بما أشار اليه سبحانه بقوله : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). أي كالوا لهم أو وزنوا لهم .. انهم يستعملون الكيل والميزان ، ولكن عندهم مكيالان وميزانان ، فيأخذون بالأعلى ويعطون بالأدنى .. ويدل هذا على ان المطففين كان لهم من القوة ما يكرهون به الناس على ما يريدون ، وقد تكون هذه القوة مالا أو جاها أو احتكارا أو غير ذلك فالمهم عندهم هو الربح أيا كان سببه! .. ومهما كان معنى التطفيف والمطففين فإن المراد هنا كل من أخذ من الناس بالباطل أو منعهم الحق ظلما وعدوانا.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). لنفترض ان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل لا يعتقدون بلقاء الله وناره وجنته .. ولكن ألا يظنون ذلك أو يحتملونه ـ على الأقل ـ ومجرد الاحتمال بأن الإنسان سيقوم بين يدي رب العالمين لنقاش الحساب كاف في الردع والإحجام .. وكيف


يحجم الإنسان عما يظن بل يتوهم انه يعود عليه بالضرر اليسير في الحياة الدنيا ، ولا يحجم إذا ظن انه ملاق ربه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعاقب عليها؟ .. اللهم إلا إذا جحد من غير شك وتردد.

(كَلَّا). لا يظن الذين يأكلون أموال الناس بالباطل انهم غير مبعوثين ليوم عظيم يقف فيه الناس بين يدي الله للحساب والجزاء .. قال الشيخ محمد عبده : لا فرق بين من أنكر اليوم الآخر وبين من تأوّل فيما يدفع عنه العقاب وينجيه من الحساب ، فإن التأويل لا يبتعد به عن منزلة المنكر ، بل هو معه في النار وبئس القرار (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ). كتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة. واختلفوا في معنى سجين ، وأقرب الأقوال الى الافهام انه اسم للسجل الذي أثبت فيه أسماء الفجار وأعمالهم ، والى هذا ذهب صاحب مجمع البيان لأنه قال : «هو ظاهر التلاوة» ووافقه الشيخ محمد عبده وقيل : هو من السجن بمعنى الحبس (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ). من الذي جعلك به داريا؟ فان علمه عند الله وحده (كِتابٌ مَرْقُومٌ) فيه علامات تدل على أعمال المسيئين.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ). هذا تهديد ووعيد لمن يكذّب باليوم الآخر. وتقدم في العديد من الآيات. انظر سورة المرسلات (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). ضمير به يعود الى يوم الدين ، والمراد بآياتنا القرآن .. واليوم الآخر عذاب وجحيم على الطغاة المعتدين فكيف يؤمنون به؟ قال الشيخ محمد عبده : من كان ميالا الى العدل في أخلاقه وأفعاله فأيسر شيء عليه التصديق باليوم الآخر ، ومن اعتدى على حقوق الناس يكاد يمتنع عليه الإذعان بأخبار الآخرة لأن في ذلك قضاء على نفسه بالسفه ، وحكما عليها بالظلم (كَلَّا) ليس القرآن واليوم الآخر بأساطير وخرافات كما يزعم الجاحدون (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). تراكمت الذنوب على قلوب المجرمين حتى أعمتها عن رؤية الحق.

(كَلَّا). ارتدعوا عن الذنوب التي تعميكم عن الحق (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ). لقد حجبتهم المعاصي عن الله ، وحالت بينهم وبين رحمته (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ). بعد أن يطردوا من رحمة الله يقذف بهم في سواء الجحيم


(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). يقول لهم ملائكة العذاب هذا القول زيادة في الإيلام والتنكيل. وتقدم مثله مرارا ، من ذلك الآية ٢٠ من سورة السجدة.

ختامه مسك الآية ١٨ ـ ٣٦ :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

الإعراب :

ما أدراك «ما» مبتدأ وأدراك فعل ماض والجملة خبر. ما عليون مبتدأ وخبر. كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هو كتاب. عينا مفعول لفعل مقدر أي أعني عينا. فكهين حال ، ومثله حافظين.


المعنى :

(كَلَّا). ارتدعوا عن التكذيب باليوم الآخر (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) هو سجل أثبت فيه أسماء الأبرار وأعمالهم ، وقد أودع في مكان عال يتفق مع مقام الأبرار وعليه يكون معنى كتاب الكتابة (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ). فيه علامات تدل على كريم الأفعال ، وجليل الصفات (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ). هذا الكتاب لا ريب فيه ، وهو محسوس يراه كل من يقترب منه. وقيل : المراد بالمقربين الملائكة (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ). هذا بيان لثواب أهل البر والإحسان (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ). الأرائك الأسرّة وينظرون أي تتمتع أبصارهم بأبهى المناظر وأجملها (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). تدل ملامحهم انهم من أهل الجنة. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة عبس.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ). الرحيق الخمر الصافية. وقد ختمت أوانيها بالمسك بدل الطين (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ). نعيم الجنة هو الذي يستحق السباق والتنافس لأنه باق ببقاء الله ، أما حطام الدنيا فإلى زوال ، وكل حي فيها الى فناء (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ). ضمير مزاجه يعود الى الرحيق ، وهذا الرحيق ممزوج بماء من عين اسمها تسنيم ، وانما سميت بذلك لأن ماءها يأتي من العلو ، فطابق الاسم المسمى كما قال الشيخ محمد عبده. والمقربون هم الأبرار الذين أعد الله لهم ما ذكره من النعيم ، والغرض من هذه الآيات الحث والترغيب في الايمان وصالح الأعمال.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ). بعد أن ذكر سبحانه المتقين ذكر المجرمين ، وانهم كانوا في الدنيا يختالون ويتعالون على المؤمنين ، ويتخذون منهم مادة للضحك والسخرية .. لا لشيء إلا لعجزهم عن رد الأذى (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) عليهم ساخرين بهم كما هو دأب الأراذل والأنذال (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ). متلذذين بالغيبة وذكر السوء (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ). وهكذا الخونة يزرون بالمخلصين ، والفجرة بالمتقين. وفي تفسير الرازي : مرّ الإمام علي (ع) ونفر من المسلمين بجماعة من المنافقين ، فضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا الى أصحابهم وقالوا رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا


منه. فنزلت هذه الآية قبل ان يصل علي الى رسول الله (ص).

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ). ضمير أرسلوا للكفار ، وضمير عليهم للمؤمنين ، والمعنى ان الله سبحانه ما أرسل الكفار رقباء على المؤمنين حتى يحفظوا أعمالهم ، ويحصوا حركاتهم. وقال الشيخ محمد عبده : ضمير أرسلوا للمؤمنين ، وضمير عليهم للكافرين ، والمعنى قال الكافرون : ما أرسل الله المؤمنين ليرشدونا ويعظونا. وهذا القول خلاف الظاهر وبعيد عن الافهام.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ). وضحك المؤمنين من المجرمين في اليوم الآخر ـ خير وفضيلة لأنه استخفاف بأعداء الله ، أما ضحك المجرمين من المؤمنين في الدنيا فهو جريمة كبرى لأنه استخفاف بأولياء الله (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) الى صنع الله بأعدائه وأعدائهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ويضحك منهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). ثوّب أي جوزي. ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ، فأضحك الله المؤمنين من الكفار في الآخرة ، واحدة بواحدة ، ولكن شتان ما بين الاثنتين.


سورة الانشقاق

٢٥ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اذا السماء انشقت الآية ١ ـ ١٥ :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

الإعراب :

العامل بإذا محذوف أي أذكر إذا السماء الخ وأيضا جواب إذا محذوف أي لقي الإنسان خالقه. فملاقيه خبر لمبتدأ محذوف أي أنت ملاقيه. ومسرورا حال. وان لن «ان» مخففة من الثقيلة أي انه. بلى إيجاب بعد النفي.


المعنى :

هذه السورة كسورتي التكوير والانفطار ، تبين أهوال القيامة ، وانقسام الناس في يوم الدين الى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ). تنشق وتنفطر حين يريد الله خراب العالم الذي نحن فيه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها). ومعنى أذن في اللغة استمع ، يقال : حدثته فأذن لي أي استمع لي ، وعليه يكون المعنى ان السماء استجابت وأذعنت لأمر الله ، وبكلمة ان الله على كل شيء قدير (وَحُقَّتْ) أي وحق لها ان تمتثل وتنقاد لأمره تعالى لأنها مخلوقة له وفي قبضته (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ). إذا قامت القيامة فقدت الأرض تماسكها وزال ما فيها من جبال وغيرها ، وعندئذ تصبح الأرض ملساء (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي ما في جوفها من الأموات وغيرهم (وَتَخَلَّتْ). أصبح باطنها خاليا مما كان فيه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) تماما كالسماء .. انه تعالى يتصرف في الكون بأرضه وسمائه خلقا وبقاء وفناء.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ). المراد بالكدح هنا عمل الإنسان لنفسه من خير وشر ، والمعنى ان الإنسان غير مخلد في الحياة الدنيا ، وهو مجدّ في السير الى ربه ، وملاقيه بأعماله لا محالة ، وليس بينه وبين لقاء الله إلا الموت ، وما دام العمر في إدبار ، والموت في إقبال فما أسرع الملتقى .. فلينظر ناظر ما ذا أعد للقاء الله وحسابه؟ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً). كل من آمن وعمل صالحا يؤتى غدا كتابه بيمينه ، والمراد بأهله هنا المؤمنون الصالحون من أمثاله حيث يجتمعون في الجنة على سرر متقابلين ، أما الحساب اليسير فهو الخفيف الهيّن الذي لا حرج فيه ولا مشقة ، وفي الحديث : من حاسب نفسه في الدنيا هان الحساب عليه في الآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً). المراد بمن أوتي كتابه وراء ظهره المجرم الآثم ، والثبور الهلاك ، والسعير النار. وتقدم مثله في الآية ١٤ من سورة الفرقان.


وتسأل : قال تعالى هنا : ان المجرم يعطى كتابه من وراء ظهره ، وقال في الآية ٢٥ من سورة الحاقة : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

وأجاب كثير من المفسرين بأن يمين المجرم تغل الى عنقه يوم القيامة ، أما شماله فتجعل وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه. وقال الشيخ محمد عبده : إتيان الكتاب باليمين أو اليسار أو وراء الظهر هو تمثيل وتصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم .. فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر ، وهو التناول باليمين ، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر ، وتمنى لو لم تكشف له ، وهذا هو التناول باليسار ، أو وراء الظهر ، اذن لا داعي الى الجمع بين الآيتين باختراع معنى لا يليق بكتاب الله كما جرى عليه كثير من المفسرين.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً). كان في الدنيا ، وهو بين أهله ، يلهو ويلعب ، ولا يفكر في حساب وجزاء (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع بعد الموت الى ربه ، ولا أحد يسأله عن ذنبه (بَلى). هو راجع ومسؤول ما في ذلك ريب (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله ، فيحاسبه عليها ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

فلا اقسم بالشفق الآية ١٦ ـ ٢٥ :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))


المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ). سبق الكلام عن (فَلا أُقْسِمُ) أكثر من مرة. انظر تفسير الآية ٧٥ من سورة الواقعة والآية ١٥ من سورة التكوير .. والشفق الحمرة الباقية في الأفق من آثار غروب الشمس ، وقد يكون الغرض من القسم هو التنبيه الى هذا الوقت لأنه مرحلة الانتقال من النهار وأتعابه الى الليل وراحته.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار ، فأفراد الاسرة يجمعهم الليل بعد ان فرقهم عمل النهار ، وكذا الجيران والأصحاب يجتمعون في الليل للسمر ، قال الشيخ محمد عبده : لا يخفى عليك ان ما انتشر بالنهار يجتمع بالليل حتى ان جناحيك اللذين تمدهما الى العمل في النهار تضمهما الى جنبيك في الليل .. والليل يضم الأمهات الى أفراخها ، ويرد السائمات الى مناخها (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ). تم وتكامل نوره ليلة ١٣ و ١٤ و ١٥ ، وتسمى هذه الليالي بالليالي البيض.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). هذا جواب القسم ، وقرئ بفتح الباء خطابا للإنسان ، وبضمها خطابا للناس ، والمعنى لا بد أن يمر الإنسان بالعديد من الأطوار ، فمن النطفة الى الجنين ، ومنه الى الطفولة ، الى الشباب ، ثم الكهولة ، الى الهرم وأرذل العمر .. وأيضا يلاقي في حياته ألوانا من الصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والحزن والفرح .. وكذلك الجماعات تتقدم وتتأخر .. وهكذا تتصرف الدنيا بأهلها حالا بعد حال حتى يقفوا جميعا بين يدي الله للحساب والجزاء.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مع ان الأسباب الموجبة للايمان لا يبلغها الإحصاء في الآفاق وفي أنفسهم (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يعترفون به ولا يسلمون ، وقال الشيخ محمد عبده : لا تظن ان قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم .. بلى قد بلغ واقنع فيما بلغ ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الايمان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل ، وانما هو تقصير المستدل وإعراضه عن الهدى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) بالحق


مكابرة منهم وعنادا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يضمرون في صدورهم من الأهداف والأغراض ، وما هي إلا الحرص على مناصبهم ومكاسبهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء بما كانوا يعملون (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). الاستثناء هنا منقطع أي ولكن الذين آمنوا الخ ، وغير ممنون أي غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم. وتقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة فصلت ج ٦ ص ٤٧٦.


سورة البروج

٢٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))


الإعراب :

والسماء الواو للقسم. وذات البروج صفة للسماء. واليوم وما بعده عطف على السماء. وقتل جواب القسم ، وقيل الجواب محذوف. دل عليه قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) والتقدير : لقد ابتلي المؤمنون من قبلكم بأكثر مما ابتليتم. والنار بدل اشتمال من الأخدود. وذات الوقود صفة للنار. إذ هم «إذ» في محل نصب بقتل. والمصدر من أن يؤمنوا مفعول لنقموا .. وفرعون وثمود بدل من الجنود على حذف مضاف أي جنود فرعون وثمود.

المعنى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). كل ما علاك فهو سماء ، أما البروج فقيل : هي الكواكب العظيمة ، لأن كل كوكب منها يبدو للعيان كالبرج العظيم ، وقيل : هي المنازل الاثنا عشر التي تعرفها العرب ، وتقطعها الشمس في سنة بظاهر الرؤية وهي برج الحمل والثور والجوزاء ، والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت .. وسواء أريد المعنى الأول أم الثاني أم هما معا فان الغرض هو التنبيه الى ما في الكواكب من دقة الصنع وبالغ الحكمة لنستدل بذلك على وجود الخالق وعظمته (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) هو يوم القيامة.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ). تعددت الأقوال وتضاربت في معنى الشاهد والمشهود هنا ، وقد أنهى بعض المفسرين الأقوال الى ٤٨ قولا ، منها ١٦ في معنى الشاهد ، و ٣٢ في معنى المشهود! .. وقال الشيخ محمد عبده : المراد بالشاهد هنا كل ما له حس يشاهد به ، والمراد بالمشهود الشيء المحسوس الذي وقعت عليه المشاهدة ، واستدل على صحة هذا التفسير بأمرين : الأول انه الحقيقة الظاهرة من دلالة اللفظ. الثاني ان الله سبحانه أقسم أول ما أقسم بكواكب السماء ، وفي هذه الكواكب غيب وشهادة ، أما الشهادة فلأن نورها وحركاتها وطلوعها ومغيبها كل ذلك يرى بالحس والمشاهدة ، وأما الغيب فلأن حقيقتها وما فيها من قوى لا يدرك بالمشاهدة والحواس .. ثم أقسم سبحانه باليوم الآخر ، وهو غيب صرف


لا يتصل بالمشاهدة من قريب أو بعيد ، ثم أقسم بالشاهد والمشهود أي بما هو شهادة صرف ، وعلى هذا يكون سبحانه قد أقسم بجميع العوالم ، سواء منها ما كان من عالم الغيب فقط ، أم من عالم الشهادة فقط ، أم منهما معا ، والغرض من ذلك هو ان يلفت الناظرين الى الكائنات بشتى أنواعها ، ويعتبروا بما ظهر منها من الإحكام والنظام ، ويبذلوا الجهد لمعرفة ما غاب واستتر.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). الأخدود شق في الأرض يحفر مستطيلا ، وأصحابه قوم كافرون لهم بأس وسلطان ، وقيل : المراد بهم ذو نواس وقومه ، وهو أحد ملوك اليمن. وأيا كان اصحاب الأخدود فإن هذه الآيات تشير الى أناس طغاة قد حفروا خندقا وأضرموه بنار تسطع باللهب ، ثم جاءوا بالمؤمنين المخلصين وعرضوهم على النار ، فمن رجع عن دينه ووافقهم على الكفر والبغي تركوه ، ومن أصر على الايمان والإخلاص أحرقوه ، وهم قاعدون على جوانب الخندق حول النار يتلذذون ويتمتعون بمشاهدة الأجسام تحترق حية طرية (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). هذا هو ذنبهم الأول والأخير هو الايمان بالله مالك الملك القادر القاهر العالم بكل شيء والمستحق وحده للحمد. ووصف سبحانه نفسه بهذه الصفات للاشارة الى انه لا مفر للطغاة من سلطان الله وعذابه. ومثله (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ـ ٢٨ غافر.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ). بعد أن أشار سبحانه الى أهل الأخدود الجبابرة عرّض بعتاة قريش الذين آذوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم كفارا بعد ايمانهم ، وقد هددهم سبحانه إذا لم يرتدعوا ، هددهم وتوعدهم بأليم العذاب .. وعطف عذاب الحريق على عذاب جهنم من باب عطف التفسير والتوضيح ، والغرض منه تأكيد الوعيد والتهديد ، وزيادة التخويف والتهويل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). تقدم مثله في العديد من الآيات ، وجاء ذكره هنا على طريقة القرآن الكريم حيث يقرن هلاك المجرمين بفوز المتقين ، ونعيم هؤلاء بجحيم أولئك (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). البطش


الأخذ بعنف ، فكيف إذا كان شديدا ، ومن جبار السموات والأرض؟. والخطاب هنا لرسول الله (ص) والغرض منه تهديد الذين يؤذون الرسول ومن آمن معه (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ). ومن كان قادرا على بدء الخلق وإعادته فهو على البطش بالطغاة أقدر (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ). لمّا ذكر سبحانه شدة العذاب قرنها بمغفرته ولطفه ليرجع اليه العاصون بالتوبة ولا ييأسوا من رحمته ، فإن غضبه تعالى على المذنبين لا يمنعه من الرحمة بهم (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) صاحب الملك والسيطرة.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ). ومراده تعالى يتحقق بمجرد ارادته من غير حاجة لشيء آخر ، قال الإمام علي (ع) : «فاعل لا باضطراب آلة مقدر لا بجولة فكر .. يريد ولا يضمر .. يقول لمن أراد كونه : كن فيكون لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وانما كلامه سبحانه فعل منه». وقد أراد ، جلت حكمته ، هلاك الأمم السابقة الذين كذبوا رسلهم فكان ما أراد (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ). وهم من الذين اهلكهم الله بتكذيب رسلهم ، وهل هنا بمعنى قد مثل (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ). والمعنى قد سمعت يا محمد وسمع قومك ما حل بثمود قوم صالح وبفرعون وملئه ، وكيف انتقم الله منهم لمّا كذبوا الرسل ، فكذلك ينتقم سبحانه من الذين كذبوك متى أراد.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ). ان فئة من الذين كفروا ، ومنهم عتاة قريش يجحدون الحق لا لشيء إلا لأنهم مولعون بتكذيبه ومعاندته أينما كان ويكون ، وإلا فأي عذر لهم في إنكاره وقد قامت عليه الدلائل والبينات ، وظهرت كوضح النهار؟. (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ). انهم في قبضة الله يقلبهم كيف يشاء ، ويهلكهم متى أراد .. وفيه إيماء الى انهم لا يرتدعون عن التكذيب بالحق حتى يروا العذاب (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) عظيم الشأن ، لأن كل ما فيه حق وعدل مع قيام الحجة ووضوح البرهان ، وما كذّب به إلا المجرمون (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التحريف مصون من التغيير والتبديل .. وللمفسرين كلام طويل وعريض حول اللوح المحفوظ ، ونحن غير مسؤولين عن تحديده ومعرفة حقيقته .. والراسخون في العلم يؤمنون بالغيب المحجوب ، ويحجمون عن الشروح والتفاصيل.


سورة الطّارق

١٧ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

الإعراب :

والسماء الواو للقسم. والطارق عطف على السماء. وما أدراك «ما» اللفظ استفهام والمعنى التعجب ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وأدراك فعل ماض ، والكاف مفعول ، والفاعل مستتر ، والجملة خبر. وما الطارق مبتدأ وخبر. والنجم بدل من الطارق. والثاقب صفة النجم. وان نافية ، وكل نفس مبتدأ : ولمّا بمعنى الا ، وحافظ خبر ، والجملة جواب القسم. فلينظر مجزوم بلام الأمر. ودافق صفة لماء ، وهو اسم مفعول بصيغة اسم الفاعل أي مدفوق مثل عيشة راضية أي مرضية. ويوم تبلى «يوم» متعلق برجعه. وذات الرجع صفة للسماء. وذات


الصدع صفة للأرض. انه لقول فصل جواب القسم. ورويدا صفة لمفعول مطلق محذوف أي امهالا رويدا والمعنى امهالا قليلا.

المعنى :

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ). كل ما علاك فهو سماء ، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق ، ولا يكون الطروق إلا في الليل ، والمراد بالطارق هنا النجم الثاقب لأن النجم لا يظهر إلا ليلا ، والثاقب هو المضيء ، تقول العرب : أثقب نارك أي أضئها ، وقد وصف به النجم لأن ضوأه يثقب الظلام ، كأنّ الظلام جلد أسود ، والنجم يثقبه بضوئه ، وصيغة وما أدراك تشعر بتفخيم الشيء وتعظيم شأنه .. اقسم سبحانه بالنجم المضيء لينبه الى ما فيه من عظيم النفع ، وعجيب الصنع ، اما المقسم عليه فقد أشار اليه سبحانه بقوله (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) يحفظ أقوالها وأعمالها ، ويحصي حركاتها وأسرارها حتى ينتهي أجلها ، وتلقى ربها ، فتجد عنده ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ، وبتعبير ثان (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ـ ١٧ الإسراء ج ٥ ص ٣٢.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ).

الماء الدافق هو النطفة ، والصلب كل عظم من الظهر فيه فقار ، والترائب موضع القلادة من الصدر ، والمراد بالصلب صلب الرجل ، وبالترائب ترائب المرأة ، وهما مصدر النطفة التي يتولد منها الإنسان ، ومنذ أمد غير بعيد اهتدى العلم الحديث الى هذه الحقيقة التي جاءت على لسان الأمي العربي ، ومعنى الآية إذا عرفت أيها الإنسان ان الله سبحانه يعلم سرك وجهرك فعليك أن تنظر الى نفسك ، وتفكر في وجودك ، فلقد بدئت من نطفة خرجت من ظهر أبيك وترائب أمك ، ثم وضعت في قرار مكين الى أجل معلوم .. الى ان صرت في أحسن تقويم مملوءا بالحياة والعاطفة والإدراك ، فكر وتدبر ذلك لتعلم ان الذي أنشأك وهداك قادر على ان يعيدك ثانية الى الحياة ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ). فالنشأة الأولى تشهد بالنشأة الثانية (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ).


السرائر جمع سريرة ، وتبلى أي تختبر بكشفها وإظهارها ، والمعنى ان الله سبحانه يبعث الإنسان في يوم لا ستر فيه ولا خفاء ، ولا جدال ولا حجاج ، ولا حول ولا قوة لأحد من نفسه أو من غيره إلا قوة الايمان وصالح الأعمال.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ). الرجع الماء ، والصدع النبات. اقسم سبحانه بالسماء التي تفيض بماء الحياة ، وبالأرض التي تجود بالخيرات والأقوات (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ). ضمير انه للقرآن ، وهو جد لا عبث فيه ، وحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وهذا رد على من قال : انه سحر وأساطير (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً). ضمير انهم يعود الى الذين كذبوا الرسول الأعظم (ص) ، ويكيدون أي يدبرون الدسائس والمؤامرات ضد الرسول والمؤمنين ، وأكيد أبطل كيدهم ، وانقض مؤامراتهم ، ورويدا قليلا ، والمعنى اني بالمرصاد ـ يا محمد ـ لمن يحاول إبطال أمرك بالدسائس والمكايد :. انتظر قليلا ، وترى ما يحل بهم من الخزي والنكال. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٥٤ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٦٨ فقرة (اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).


سورة الأعلى

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

الإعراب :

اسم ربك مفعول به لسبّح ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه كهذه الآية وبالباء كقوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ـ ٣ النصر. والأعلى صفة لربك ، ومثله الذي خلق. فلا تنسى «لا» نافية أي فما تنسى. وما شاء «ما» بمعنى الذي ومحلها النصب على الاستثناء أي لا تنسى شيئا من القرآن إلا الذي أراد الله ان تنساه منه. والذي يصلى النار نعت للأشقى.


المعنى :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). الخطاب خاص بالرسول (ص) والتكليف يعم الجميع ، والمعنى نزه الله عن الشريك والصاحبة والولد ، وكل ما لا يليق بعظمته وجلاله ، ولا شيء أدل على تنزيه الخالق من كلمة «لا إله إلا الله» وانما أمر سبحانه بتسبيح الاسم دون الذات لأن مبلغ جهد الإنسان ان يعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى ، أما الذات فلا تقع عليها العقول والافهام (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). خلق ما خلق فأقام حده ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). جعل لكل شيء غاية ويسره اليها ، وخير تفسير لهذه الآية قول الإمام علي (ع) : قدر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبره فألطف تدبيره ، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته ، ويقصر دون الانتهاء لغايته (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) متاعا للأنام ، ورزقا للأنعام (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى). الغثاء الجاف اليابس ، والأحوى يميل لونه الى السواد ، وبديهة ان النبات ينتفع به غضا طريا ، وأيضا ينتفع به هشيما باليا حيث يكون علفا للحيوانات .. وفيه إيماء الى ان كل حي الى زوال.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى). هذه بشرى من الله لنبيه الكريم بأن القرآن سينزل على قلبه ويرسخ فيه ، ولا يفوته منه حرف واحد. وتقدم مثله في الآية ١٧ من سورة القيامة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ). قال بعض المفسرين : معناه ان الله لا ينسي نبيه شيئا من القرآن إلا الآية التي ينسخها. ونحن مع الذين قالوا : ان الغرض من الاستثناء هو التنبيه على ان الحفظ وعدم النسيان هو تفضل وتكرم من الله على نبيه ، وليس بالأمر الحتم والواجب ، ولو أراد سبحانه أن ينسي النبي لفعل ، ولم يعجزه شيء ، ومثله (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ـ ١٠٧ هود أي ان الخلود هو بمشيئة الله وارادته ولو أراد إخراجهم من جهنم لا يمنعه من ذلك مانع.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى). ليس من شك ان الله بكل شيء عليم ، وأشار سبحانه هنا الى ذلك بعد ذكر النسيان ليقول لنبيه الكريم : نحن نعلم ما في نفسك وانك كنت تخاف أن يفوتك شيء من القرآن .. كلا ، لن يفوتك شيء ، كن في أمان واطمئنان (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى). المراد باليسرى الشريعة السهلة السمحة ،


والمعنى ان الله سبحانه يسهل لك يا محمد سبيل الوحي بآياته وأحكامه حتى تحفظها وتبلغها وتعمل بها كما أراد الله.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى). ليس من شك ان التذكير واجب حتى مع العلم بأنه لا يجدي نفعا لالقاء الحجة وقطع المعذرة والا امتنع الحساب والعقاب ، قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ١٦٥ النساء. وعليه تكون «ان» هنا بعيدة كل البعد عن معنى الشرط والقيد ، وان المراد بها بيان الواقع أي ان الذكرى ينتفع بها من يبتغي الهداية ، أما من يصر على الضلال فلا ينتفع بشيء ، ويدل على ارادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى). فالذكرى تنفع لا محالة من يوقظه الخوف من الله ، ولا يعرض عنها إلا شقي أعمت الشهوات بصيرته ، وغلبت عليه شقوته (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) بشدائدها وأهوالها (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى). ونفسره بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر ج ٦ ص ٢٩٣.

وقال الشيخ محمد عبده وهو يفسر (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : إياك ان تنخدع بما يقوله أولئك الذين يلبسون لباس العلماء ، ويزعمون مزاعم السفهاء من انه لا يجب عليهم التذكير لأنه لا ينفع ، ويحتجون بقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) فإن ذلك منهم ضلال وتضليل ، ولو صدق قولهم لما وجب التذكير في وقت من الأوقات لأنه لا يخلو زمان من معاندين ، ولا يسلم قائل من جاحدين ، وقد يعرف بعضهم انه ينطق عن الهوى ولكنه يدافع عن جبنه ، ويحتج لكسله ، ويحب ان يزين نفسه في أعين الناس ، وان أوقعها في سخط الله».

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى). المراد بالفلاح هنا النجاة من غضب الله وعذابه ، وبالتزكية التطهير من الذنوب والآثام (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). المراد بالذكر هنا ما يقرّب من الخير ، ويبعد عن الشر ، أما حركة اللسان من حيث هي فليست غاية في نفسها .. ولا شيء من أمر الله ونهيه إلا وهو وسيلة لفعل الخير والبعد عن الشر ، وكفى دليلا على هذه الحقيقة قول الرسول الأعظم (ص) : انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ١٠٨ الأنبياء أما الصلاة فالمراد بها الصلوات الخمس لأنها عمود الدين.


(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا). هنا يكمن السر الأول والأخير لإعراض من أعرض عن الحق عامدا متعمدا .. ملكته الدنيا ملك السيد لعبده ، وأقبل عليها إقبال الطفل على ثدي أمه ، فذهبت به عن الله والحق والانسانية (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) بل لا خير في الدنيا إطلاقا إلا ما كان وسيلة لخير الآخرة ، لأن عمار الدنيا الى خراب ، وسلطانها الى زوال ، ومالها الى نفاد. وفي نهج البلاغة : كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكل شيء في الآخرة عيانه أعظم من سماعه. واعلموا ان ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). هذا اشارة الى قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) والمعنى ان دعوة الرسل من ناحية العقيدة واحدة لأن الذي أرسلهم واحد ، وقوله واحد لا تهافت فيه ولا تناقض ، وإذا كان هناك اختلاف فهو في بعض الفروع التي يستدعيها تطور الزمن وتغير المجتمع ، وما دام الأمر كذلك فعلى من يؤمن بإبراهيم كالعرب وبموسى كاليهود أن يؤمنوا أيضا بمحمد (ص) وإلا كانوا من الذين يؤمنون بالمبدأ الواحد ويكفرون به في آن واحد.


سورة الغاشية

٢٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))


الإعراب :

قال ابن خالويه في كتاب إعراب ثلاثين سورة : هل لفظه استفهام ، ومعناه «قد» وكل ما في القرآن من «هل أتاك» فهو بمعنى قد أتاك. وجوه مبتدأ وخاشعة خبر ويومئذ متعلق به ، وعاملة خبر ثان وناصبة خبر ثالث. وراضية بدل من ناعمة ولسعيها متعلق براضية. وفيها خبر مقدم ، وسرر مبتدأ مؤخر ، ومرفوعة نعت لسرر. كيف مفعول مطلق بمعنى أي خلق خلقت أو حال أي على أيّ حال خلقت. الا من تولى استثناء منقطع أي لكن من تولى.

المعنى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ). الخطاب للرسول (ص) ولكن السبب الموجب يعم الجميع ، والغاشية القيامة ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها ، والمعنى هل تعرف شيئا عن يوم القيامة؟ .. ان الناس فيه فريقان : الفريق الأول (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) يظهر عليها أثر الذل والخزي والهوان (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) من النصب وهو التعب ، والمعنى ان أصحاب هذه الوجوه عملوا في الدنيا كثيرا ، وتعبوا كثيرا ، ولكن لغير الله .. فما أصابوا من عملهم إلا التعب والكد في الدنيا ، والحسرة والعذاب في الآخرة ، فكان المهنأ لغيرهم ، والعبء على ظهرهم. وفي نهج البلاغة : ان أخسر الناس صفقة ، وأخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه في طلب ماله ولم تساعده المقادير على ارادته ، فخرج من الدنيا بحسرته ، وقدم على الآخرة بتبعته (تَصْلى ناراً حامِيَةً) تكوى بنار مستعرة (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) وهي الشديدة الحرارة ، من أنى الماء يأنى إذا سخن ، وبلغ من الحرارة غايتها ، ومثله (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ـ ٤٤ الرحمن (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال صاحب القاموس المحيط : الضريع نبت لا تقربه دابة لخبثه. ومهما يكن فإنه رديء وبيل ، ويكفي أن يكون طعام أهل النار (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا.


وهذا هو الفريق الثاني : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت أجرها في الآخرة على عملها في الدنيا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة وعظيمة في جميع صفاتها ومزاياها ، ومثله (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) ـ ٢١ الحاقة. (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) كلاما لا جدوى منه ، ومثله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) ـ ٢٥ الواقعة. (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) جنات تجري من تحتها الأنهار (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) عن الأرض (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على جانب العين ، فإذا أرادوا الشراب تناولوا بها الماء (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) النمارق جمع نمرقة ، وهي الوسادة ـ المسند أو المخدة ـ (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الزرابي البسط ، ومبثوثة متفرقة هنا وهناك ، وكل ما جاء هنا في وصف الجنة هو بعض ما تقدم في عشرات الآيات ، وكل ما قيل أو يقال في وصفها فهو تفسير وبيان لقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ). وتسأل : لما ذا خص سبحانه الإبل بالذكر دون الحيوانات؟.

وأجاب الشيخ محمد عبده بأنها أفضل دواب العرب وأعمها نفعا ، ولأنها خلق عجيب ، فإنها على شدتها تنقاد للضعيف ، ثم في تركيبها ما أعد لحمل الأثقال ، وهي تبرك لتحمل ، ثم تنهض بما تحمل مع الصبر على السير والعطش والجوع ، وفيها غير ذلك ما لا يماثلها حيوان آخر.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) فوق الأرض بكواكبها اللامعة النافعة (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أوتادا للأرض : فسكنت على حركتها ، ولو لا الجبال لمادت بأهلها ، وزالت عن مواضعها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فجعلها الله لخلقه مهادا يقيمون عليها ويمشون في مناكبها. وتجدر الاشارة الى ان المراد بالتسطيح هنا تسطيح الأرض في رؤية العين لا في الواقع ، وقد أشار سبحانه الى كروية الأرض في الآية ٥ من سورة الزمر. أنظر ج ٦ ص ٣٩٥. وقال الشيخ محمد عبده : انما حسن ذكر الجمال مع السماء والجبال والأرض لأن هذه المخلوقات هي ما تقع تحت نظر العرب في أوديتهم وبواديهم.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ). هذا أبلغ وأوضح تحديد لمهمة الرسول : التذكير ،


ومثله (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ـ ٥٤ النور. (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). لست ـ يا محمد ـ مسلّطا عليهم حتى تكرههم على الايمان ، ولكن ليس معنى هذا ان الذين كذبوك يتركون سدى .. كلا ، انهم إلينا راجعون ، وبأعمالهم ومقاصدهم مرتهنون ، ولا جزاء لهم إلا عذاب الخزي والهون.


سورة الفجر

٣٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والفجر وليال عشر الآية ١ ـ ١٦ :

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦))

الإعراب :

والفجر الواو للقسم. وليال عطف. وعشر صفة لليال. والأصل يسري بالياء ، وحذفت لتوافق رؤوس الآيات والكسرة دليل عليها. وإرم لا تنصرف


للتعريف والتأنيث وهي اسم قبيلة ، وإعرابها بدل أو عطف بيان لعاد. وذات العماد صفة لإرم. والتي لم يخلق صفة ثانية. وثمود عطف على عاد ، وهو اسم لا ينصرف للتعريف والتأنيث لأنه اسم قبيلة والذين جابوا نعت له. الإنسان مبتدأ. وإذا ما «ما» زائدة. وجملة يقول خبر لمبتدأ محذوف أي هو يقول والجملة منه ومن خبره خبر الإنسان. والأصل أكرمني وأهانني وحذفت الياء للوقف وتدل عليها الكسرة على نون الوقاية.

المعنى :

(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ). المراد بالفجر كل فجر أخذا بظاهر اللفظ ، أما ليال عشر فلا ظهور لها في عشر معينة ، ولا قرينة تعينها ، ولا هي معهودة لنا ، ومن أجل هذا نسكت عما سكت الله عنه ، أما القول بأنها أوائل ذي الحجة أو المحرم أو الأواخر من رمضان ـ فيحتاج الى دليل .. وحاول الشيخ محمد عبده ان يعينها بالأوائل من كل شهر ، وأنفد وسعه ، ولكنه لم يأت بحجة مقنعة .. والغريب ان تلميذه المراغي قلّده في كل ما قال ، ونقل عبارته ـ على طولها ـ دون أن يشير الى مصدرها كما هي عادته .. وفي تفسير الشفع والوتر أقوال ، أقربها الى ظاهر اللفظ انهما اشارة الى الحساب وضبط المقادير ، وأقسم سبحانه بالحساب للتنبيه الى فوائده. والمراد بسير الليل مضيه وذهابه ، وبهذا جمع سبحانه في قسمه بين اقبال النهار وادبار الليل ، كما في الآية ٣٣ من سورة المدثر : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ).

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ). هذا الاستفهام لتقرير الواقع ، والمراد بالقسم هنا الحجة والدليل لأن فيه تأكيدا لثبوت الحق ، والحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ له معان منها ديار ثمود ، وحجر الكعبة : والمراد هنا العقل لأنه يحجر صاحبه ويمنعه عن كثير من التصرفات ، والمعنى ان في الأشياء التي أقسم بها سبحانه حجة كافية على وجود الله وقدرته وحكمته لأن ما فيها من التدبير والحكمة يدل على ذلك بوضوح تماما كما يدل الزرع على وجود الزارع.


(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ). عاد قوم هود ، وارم اسم قبيلة عاد نسبة الى أحد أجدادها المسمى بإرم. وقال الشيخ محمد عبده : المراد بالعماد هنا أعمدة خيامهم ، أو هو كناية عما كان لهم من القوة والمنعة .. والأقرب الى الصواب ان المراد بالعماد هنا المباني والمصانع لأن نبيهم قال لهم مقرعا : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ـ ١٢٨ الشعراء. أجل ، نحن مع الشيخ محمد عبده في قوله : «روى المفسرون هنا حكايات في تصوير إرم ذات العماد ، كان يجب أن ينزه عنها كتاب الله ، فإذا وقع اليك شيء من كتبهم ، فتخط ببصرك ما تجده في وصف إرم وإياك ان تنظر فيه». وتقدم الكلام عن عاد ونبيهم هود في ج ٣ ص ٣٤٧ وج ٤ ص ٢٣٩ وج ٥ ص ٥٠٨ وغير ذلك.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ). ثمود قوم صالح ، وجابوا الصخر إشارة الى ما جاء في الآية ١٤٩ من سورة الشعراء : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ). وتقدم الكلام عن ثمود ونبيهم صالح في ج ٣ ص ٣٥٠ وج ٤ ص ٢٤٤ وج ٥ ص ٥١١ وج ٦ ص ٢٦ وغير ذلك (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي المباني العظيمة الثابتة كالأهرام (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ). الذين وما بعده صفة لعاد وثمود وفرعون ، وخص سبحانه السوط لأنه يومئ الى تكرار العذاب ، وقد أخذ سبحانه عادا بالريح ، وثمود بالصيحة ، وفرعون وقومه بالغرق (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ). هذا جواب القسم في أول السورة ، وقيل الجواب محذوف والتقدير ليعذبن المجرمين ، والنتيجة واحد على التقديرين ، والمعنى واضح ، وهو انه تعالى يعلم مقاصد العباد وأفعالهم ، ويجازيهم بحسبها.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ). الإنسان هنا اسم جنس ، وأكرمه ونعمه وسع عليه في الرزق ، وقدر عليه ضيق عليه ، والابتلاء الاختبار ، ومعنى اختباره سبحانه لعبده ان يوجد له سببا يظهره على حقيقته كالغنى والفقر ، فان شكر مع الغنى وصبر مع الفقر استحق الثواب ، وان كفر مع الفقر وطغى مع


الغنى استحق العذاب ، وبكلام آخر ان الاختبار منه تعالى هو ان يوجد المحك الذي يظهر أفعال الطيب والخبيث تمهيدا لجزاء من أحسن بالحسنى ، ومن أساء بما كسبت يداه مع قيام الحجة عليه بما ظهر من إساءته .. هذا شأن الله مع عبده الإنسان ، أما شأن الإنسان الضال فهو ان يقيس كرامته عند الله بما يمن عليه من نعمه ، فان وسع الرزق عليه ظن انه أقرب المقربين الى الله ، وانه لا يسأله عن شيء ولا يعاقبه على شيء مهما قال وفعل ، وينطبق هذا تماما على عتاة المشركين ، فقد كانوا يستدلون على إكرام الله لهم بكثرة الأموال ، وعلى اهانته تعالى للمؤمنين بالفقر والعوز .. وإذا ضيق تعالى على الضال في الرزق عسى أن يتوب ويرتدع ظن ان الله قد أذله وأهانه ، وكفى بالعبد لؤما وتمردا على خالقه ان يظن به ظن السوء. وعن الإمام علي (ع) : إذا ضاق المسلم فلا يشكونّ من ربه ، وليشك الى ربه الذي بيده مقاليد الأمور. وتقدم مثله في الآية ٣٥ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٧٥.

وتحبون المال حباً جماً الآية ١٧ ـ ٣٠ :

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))


الإعراب :

كلا حرف ردع وزجر. وتحاضون الأصل تتحاضون لأن المعنى لا يحض بعضكم بعضا. ولمّا صفة لأكل. وجمّا صفة لحب. ودكا حال أي مكررا. وصفا مصدر في موضع الحال أي مصطفين. والذكرى مبتدأ مؤخر وانّى خبر مقدم. وراضية حال وكذلك مرضية.

المعنى :

(كَلَّا). ليست الكرامة عند الله بالمال ، بل بالتقوى ، ولا الاهانة بالفقر ، بل بسوء المقاصد والأعمال (بَلْ) أنتم أشر خلق الله للأسباب التالية :

١ ـ (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ). لا تحسنون الى المشردين الذين لا حامي لهم ولا كفيل من الدولة ولا من ذويهم ، ولا تهتمون بشأنهم ورعايتهم.

٢ ـ (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). لا يحث بعضكم بعضا على البذل والإنفاق من أجل البائسين وإصلاح شأنهم.

٣ ـ (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا). التراث هو المال الذي ينتقل من الميت الى ورثته ، واللم الشديد ، وأكثر الثروات الموروثة فيها حق معلوم للسائل والمحروم ، ولكن الورثة يحرمون صاحب الحق من حقه.

٤ ـ (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) ميراثا كان أم غير ميراث ، حلالا كان أم حراما ، والجم معناه الكثير.

(كَلَّا). لا ينبغي للإنسان أن يشح بالمال في سبيل الخير فانه مسؤول عن ذلك (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا). الدك الدق والضرب ، وتكرار كلمة الدك تشير الى التتابع أي دكا بعد دك ، والمعنى تزول الجاذبية والتماسك بين أجزاء الأرض يوم القيامة ، ويدك بعضها بعضا ، ويتوالى الدك والضرب حتى ينهار كل ما على وجه الأرض من جبال وعمار. وتقدم مثله في الآية ١٤ من سورة الحاقة (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). جاء ربك أي أمره وقضاؤه وهيبته وجلاله وحكمه وسلطانه ، وصفّا صفا أي صفوفا متعددة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ).


يكشف عنها يوم القيامة لكل ناظر ، وتصبح في عالم الشهادة بعد ان كانت في عالم الغيب.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي). قال الناصحون والمنذرون للمجرم المتمرد : اعمل لحياتك في الدنيا والآخرة. فقال : وأية آخرة؟ .. انها وهم وخيال .. ولما جاء يوم الفصل ، ورأى مكانه في جهنم قال : هنا حياتي الباقية ومقري الدائم ، أما الحياة الدنيا فقد كانت ممرا ومجازا .. يا ليتني أخذت من الفانية الى الباقية .. نسي الآخرة وهو في الدنيا حيث تنفعه التوبة والذكرى ، وتذكر وهو في الآخرة .. وانّى له الذكرى؟ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ). قرئ لا يعذب ولا يوثق بالبناء للفاعل ، وأيضا قرئ بالبناء لمفعول لم يسمّ فاعله ، والمعنى على القراءتين ان أسوأ عذاب من عذاب الدنيا هو عافية إذا قيس بأدنى عذاب من عذاب الآخرة.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي). بعد ان ذكر سبحانه النفس الامارة التي لا تطمئن إلا لمصالحها وأهوائها ـ ذكر النفس المطمئنة ، وهي التي آمنت بالله وصغت الى ذكره ، وعملت بأمره ونهيه ، وقد بيّن سبحانه أصحاب هذه النفس بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ـ ٢٩ الرعد. ومعنى راضية مرضية انها تحمد أجرها ومقامها عند الله لأن الله حمد سعيها وأعمالها. وقال الشيخ محمد عبده في معنى الرجوع اليه تعالى والدخول في عباده : «الرجوع الى الله تمثيل للكرامة عنده وإلا فإن الله معنا حيث كنا ، والدخول في عباده ان تكون منهم ، والعباد الذين يستحقون نسبة الاختصاص به هم العباد المتقون المكرمون ، والجنة معروفة».


سورة البلد

٢٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

الإعراب :

(لا أُقْسِمُلا) زائدة ، وقيل : نافية ، وتقدم الكلام عنها عند تفسير الآية ٧٥ من سورة الواقعة و ١٥ من سورة التكوير. و (الْبَلَدِ) عطف بيان من هذا. (لَقَدْ خَلَقْنَا) جواب القسم. و (فِي كَبَدٍ) متعلق بمحذوف حالا من (الْإِنْسانَ) أي مكابدا.


(أَنْ لَنْ يَقْدِرَ) أي انه لن. و (النَّجْدَيْنِ) مفعول ثان لهديناه لأن المعنى عرفناه النجدين. (وَما أَدْراكَما) مبتدأ وجملة (أَدْراكَ) خبر. و (مَا الْعَقَبَةُ) مبتدأ وخبر. و (فَكُ) خبر لمبتدأ محذوف أي هي فك. و (يَتِيماً) مفعول (إِطْعامٌ). وأصل (تَواصَوْا) تواصيوا ، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين.

المعنى :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). المراد بالبلد مكة المكرمة بأشرف بيت وضع للناس مباركا ، وبأعظم نبي ولد فيها ، وأرسل رحمة للعالمين (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ). الخطاب لمحمد (ص) وحل أي حال ومقيم ، والواو للحال ، وعليه يكون القسم بمكة مقيدا بإقامة الرسول فيها إشعارا بأن مكة زادت رفعة بمولده وإقامته. واختار الشيخ محمد عبده قول من قال : ان حلا هنا بمعنى الحلال لا بمعنى الحلول أي ان أهل مكة استحلوا إيذاء الرسول في البلد الأمين حتى اضطروه الى الهجرة منه. وهذا المعنى صحيح في نفسه ، ولكنه بعيد عن مدلول اللفظ ، فإن المتبادر الى الافهام من (أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) هو أنت مقيم فيه ، لا أنت حلال فيه.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ). هذا داخل في المقسم به ، وقال جماعة من المفسرين : المراد بالوالد هنا آدم ، وبالولد ذريته ، وانما قال تعالى : وما ولد ولم يقل : ومن ولد ـ ما زال الكلام للجماعة ـ ليشير سبحانه الى ان المولود عظيم الشأن كما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ـ ٣٦ آل عمران. وقال آخرون : منهم ابن عباس والطبري والشيخ محمد عبده : ان المراد كل والد ومولود إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا .. وهذا القول أقرب الى ظاهر اللفظ من غيره ، أما الغرض من القسم بالوالد والمولود فهو التنبيه الى إنشاء الكائنات الحية وتطورها من خلق الى خلق ، من النطفة الى الإنسان أو الحيوان ، ومن الحبة الى الشجرة وغيرها من النبات.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ). هذا جواب القسم. وكبد التعب والمشقة ، والمعنى ان الله سبحانه خلق الإنسان مجدا كادحا يتصارع مع ميوله ورغباته ، ومع أتعاب الحياة وشدائدها ، ثم بعد هذا يقاسي سكرات الموت ، وظلمة القبر ووحشته ،


ثم أهوال القيامة والعرض على الله لنقاش الحساب عما قال وفعل (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ). في يحسب ضمير يعود الى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمعنى ان بعض الناس يظن انه قد بلغ من القوة والمنعة الى حيث لا يقدر عليه أحد كائنا من كان ، وينسى انه خلق ضعيفا ، يقاسي الأهوال والشدائد ، وانه مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة كما قال الإمام على (ع).

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، ويدل السياق ان في يقول ضميرا يعود الى الغني الذي ينفق أمواله للشهرة وحسن الاحدوثة ، ويمسك عن الإنفاق في سبيل الله والخير ، والمعنى إذا قيل لهذا المبذر : لما ذا لا تنفق في سبيل الله؟ قال : انا أنفق الكثير حتى أوشك مالي على النفاد والهلاك ، ولكني لا أنفقه في السبيل التي تدعونني اليها (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ). أيظن هذا المفتون بالشهرة والظهور ان الله غافل عنه وعن أعماله وأهدافه. وفي الحديث : يسأل المرء غدا عن جسمه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). جاء في تفسير الرازي : ان الذي قال : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) قال أيضا بلسان المقال أو الحال : من الذي يحاسبني على مالي أمسكته أو أنفقته؟. فأجابه سبحانه : يحاسبك الذي جعل لك هذه الأعضاء .. وهذا قريب جدا الى واقع الحال ، ومهما يكن فإن العينين اشارة الى نعمة الرؤية والبصر ، واللسان الى نعمة الكلام والبيان ، والهداية الى نعمة العقل والإدراك ، والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر ، وبالعقل يحذر الإنسان من هذا ، ويسلك ذاك ، وفي نهج البلاغة : «كفاك من عقلك انه أوضح لك سبيل غيك من رشدك». ويتفرع على هذا الإيضاح ان الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله ، وان لله الحجة عليه إذا أساء حيث وهبه القدرة والإدراك وأمره ونهاه. ومثله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ـ ٣ الإنسان.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ). صيغة ما أدراك تستعمل للتفخيم والتعظيم ، واقتحم الشيء دخل فيه بشدة ، والعقبة في اللغة الطريق الصعب في الجبل ، والمراد بها هنا الأعمال الصالحة لأنها تحتاج الى جهد وجهاد ، وصبر على


المشاق ، والى كبح الميول والرغبات بخاصة بذل المال في سبيل الخير ، ومن الأعمال الصالحة أو من أهمها ما أشار اليه سبحانه بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ). فك الرقبة عتقها حيث كان في المجتمع آنذاك عبيد وإماء ، والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة في النسب ، والمتربة الفقر الشديد بحيث بلغ بصاحبه ان يفترش التراب ، والتواصي بالصبر ان يوصي المؤمنون بعضهم بعضا بالصبر على الجهاد لإحقاق الحق ، ورفض الاستسلام للباطل ، وأيضا ان يتواصوا بالرحمة ، وهي المواساة وحب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه ، ومجمل المعنى ان الذي أنفق أمواله حبا بالشهرة والظهور لم يتجاوز العقبة التي بينه وبين النجاة من العذاب والهلاك ، بل هو أخسر الناس صفقة ومن أكثرهم عذابا ، ولو انه أنفق في سبيل الله وكان من الذين تواصوا بالصبر والرحمة ـ لتجاوز تلك العقبة ، وكان في أمن وأمان من غضب الله وعذابه.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). أولئك اشارة الى الذين آمنوا وأنفقوا وتواصوا بالصبر والمرحمة ، وأصحاب الميمنة هم الميامين الأخيار الذين يعطون غدا كتب الأمان والسعادة بإيمانهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ). أصحاب المشأمة هم المشئومون الأشرار الذين يعطون كتب الخزي والشقاء بشمائلهم ومن وراء ظهورهم ، ويساقون الى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها ، فإذا دخلوها أطبقت عليهم الى ما لا نهاية.


سورة الشّمس

مكية وآياتها ١٥.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

الإعراب :

والشمس الواو للقسم وما بعدها عطف. وما في وما بناها وما طحاها وما سوّاها مصدرية ، والمصدر المنسبك معطوف على ما قبله أي وبنائها وطحوها وتسويتها. فقد أفلح جواب القسم مع حذف اللام الواقعة في الجواب أي لقد أفلح. ناقة الله مفعول لفعل محذوف أي احذروا ناقة الله.

المعنى :

أقسم سبحانه في هذه السورة بالضياء وبالظلمة ، وبكواكب السماء وإحكامها ،


والأرض وتمهيدها ، والنفس واستعدادها ، أقسم بذلك كله ان التقي هو الرابح الناجح ، والمجرم هو الخائب الخاسر ، والتفصيل فيما يلي :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها). أقسم سبحانه بالشمس من حيث هي ظهرت أم احتجبت لأنها خلق عظيم ، وأيضا أقسم بضيائها لأن المراد بالضحو هنا الظهور والوضوح ، فإذا أضيف الى الشمس كان معنى ضحاها ضياءها (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها). ضمير تلاها يعود الى الشمس ، والمعنى ان الله سبحانه أقسم بالقمر حين يتصل ضوءه بضوء الشمس بحيث لا تفصل الظلمة بينهما ، وذلك في الليالي البيض : الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها). أيضا الهاء في جلاها تعود الى الشمس ، والمعنى انه تعالى أقسم بالنهار الذي أظهر الشمس وأبرزها للعيان جلية واضحة ، والغرض من القسم بالضياء التنبيه الى فوائده العظمى لنشكر الله ونحمده.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها). أيضا الهاء تعود الى الشمس ، واقسم ، جلت حكمته ، بالليل حين يغطي ضوء الشمس ، ولا يبقى لها من أثر ، لا مباشرة كما هي الحال في النهار ، ولا بواسطة ضوء القمر المستفاد من الشمس ، وذلك في الليلة الأولى والأخيرة من الشهر الهلالي حيث لا يظهر الهلال للعيان أو يظهر ضعيفا .. ولليل منافع كما للنهار ، ومن منافع الليل السكينة والراحة.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) اي وبنائها لأن «ما» هنا مصدرية ، والمراد بناء ما فيها من الكواكب السابحة في أفلاكها ، وشد بعضها بعضا برباط الجاذبية. وتقدم مثله في الآية ٤٧ من سورة الذاريات و ٦ من سورة ق و ١٢ من سورة النبأ (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي وطحوها ، وفي الآية ٣١ من سورة النازعات : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) والدحو والطحو بمعنى واحد ، وهو البسط والتمهيد. وتقدم مثله في العديد من الآيات منها الآية ٢٢ من سورة البقرة.

النفس وتسويتها :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي وتسويتها ، والنفس شيء يكون به الإنسان إنسانا ، والحيوان حيوانا ، ولا نعرف هذا الشيء بحقيقته بل بآثاره كالنمو والحركة والسمع


والبصر والشعور بالألم في الإنسان والحيوان ، وكعلم الإنسان بالكليات. والمراد بالنفس هنا نفس الإنسان فقط لقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) فإن الفجور والتقوى من صفات الإنسان لا الحيوان ، وعليه يكون معنى تسوية نفس الإنسان ان الله سبحانه خلق فيها الاستعداد التام لعمل الخير والشر معا بحيث تكون قدرته على أحدهما مساوية لقدرته على الآخر ، ثم نهاه عن الشر ، وأمره بالخير ، والذي يدلنا على ارادة هذا المعنى قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ـ ٣ الإنسان. وانما خلق سبحانه في نفس الإنسان الاستعداد للفجور والتقوى معا لأن الإنسان انما يكون إنسانا بحريته وارادته ، وبقدرته على الحسن والقبيح ، ولو قدر على أحدهما دون الآخر لكان كريشة في مهب الريح لا يستحق مدحا ولا ذما ، ولا ثوابا ولا عقابا على ما يفعل ويترك.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها). هذا جواب القسم ، والفلاح الفوز ، والزكاة الطهارة ، والخيبة الخسران ، والتدسية النقص .. بعد أن أقسم سبحانه بالضياء والظلمة والكواكب وبنائها ، والأرض وتمهيدها ، والنفس واستعدادها بعد هذا قال : من اختار الخير على الشر وطهر نفسه من دنس الآثام فهو الفائز الرابح ، ومن اختار الشر على الخير ولوث نفسه بالذنوب والقبائح فهو الخائب الخاسر.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها). مفعول كذبت محذوف أي كذبت ثمود نبيها صالحا ، وثمود اسم قبيلة ، ولا ينصرف للتأنيث والتعريف ، وطغوى مصدر بمعنى الطغيان (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها). انبعث أي أسرع الى عقر الناقة ، وهذا الأشقى يضرب المثل بشقائه منذ آلاف السنين (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها). رسول الله هو صالح ، وناقة الله ناقته التي جعلت معجزة له ، وسقياها إشارة الى ما جاء في الآية ١٥٥ وما بعدها من سورة الشعراء : (قالَ ـ صالح لقومه ـ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) ج ٥ ص ٥١١.

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها). قال سبحانه عقروها مع ان العاقر واحد لأنهم رضوا عن فعله ، بل حرضوه عليه كما في الآية ٢٩ من سورة القمر (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ). ودمدم عليهم أي أطبق عليهم


العذاب. فسواها أي دمر مساكنها على أهلها أجمعين ولم يفلت منهم كبير ولا صغير (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ـ ٢٥ الأنفال. وتقدم الكلام عن ثمود ونبيهم صالح مرات ، آخرها في الآية ٩ من سورة الفجر. (وَلا يَخافُ عُقْباها). قال أكثر المفسرين : الضمير المستتر في يخاف يعود اليه تعالى أي ان الله سبحانه أهلك ثمود ولا يخاف عاقبة إهلاكهم ، وقال البعض : يعود الضمير الى أشقاها ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير «إذا انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها فقال لهم رسول الله الخ. ويجوز أن يعود الضمير اليه تعالى على معنى ان الله سبحانه لا معارض له ولا منازع في أمره (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ـ ١٥٤ آل عمران.

سورة الليل

٢١ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥)


الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

الإعراب :

والليل الواو للقسم. وما خلق الذكر «ما» مصدرية أي وخلق الذكر. ان سعيكم جواب القسم. فأما للتفصيل. وبالحسنى صفة لمحذوف أي بالخصلة الحسنى ، ومثله لليسرى. تلظى الأصل تتلظى. الذي كذّب صفة للأشقى. والذي يؤتي صفة للأتقى. ومن زائدة إعرابا ونعمة مبتدأ وجملة تجزى صفة لنعمة. وابتغاء مفعول من أجله لتجزى.

المعنى :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى). يغشى يغطي الأشياء ، وتجلى ظهر ، وهذا القسم منه تعالى مثله في السورة السابقة (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها). وبيّنا هناك ان الغرض من القسم بالضياء والظلام هو التنبيه الى ما لهما من منافع (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). «ما» هنا مصدرية أي وخلق الذكر والأنثى ، ويطرد هذا الخلق في كل حي إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا ، وبه يتم التناسل وتمتد الحياة ، وهنا أسئلة تطرح نفسها ، وهي : من الذي أوجد الحياة في هذا الكائن دون ذاك؟ ومن الذي أعد الحي وأهّله لوظيفة التناسل؟ ولما ذا يأتي المولود تارة ذكرا وأنثى أخرى مع ان مصدرهما واحد ، فهل فعلت المادة العمياء كل هذا الفعل الدقيق المحكم ، أو هو من باب الصدفة؟ وهل اكتشف العلم ان المادة الواحدة تكون علة لأحوال شتى دون أن يتدخل عنصر آخر في شأنها؟. أما الصدفة فهي جهد العاجز. فلم يبق من الفروض والتفاسير إلا المدبر العليم الذي يرسم ويخطط وفقا للحكمة البالغة ، والنظام الكامل الشامل.


(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). هذا جواب القسم ، والمعنى ان أعمال الإنسان منها الخيرات ومنها الهفوات ..

وتسأل : ان هذه قضية بديهية لا تحتاج الى يمين ، فلما ذا أكدها سبحانه بالقسم؟

الجواب : أجل ، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) قضية بديهية من حيث هي وبصرف النظر عن عواقبها ونتائجها ، أما مع النظر الى ما يترتب عليها كتيسير المحسن لليسرى والمسيء للعسرى وما الى ذلك ـ فإنها تحتاج الى التأكيد أو لا مانع من تأكيدها ـ على الأقل ـ والمقسم عليه هنا هو مجموع قوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) وما بعده ، وهو :

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) بذل في سبيل الخير لوجه الخير (وَاتَّقى) ابتعد عن الحرام والآثام (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى). آمن بالجنة والنار والحلال والحرام ، وعمل بموجب إيمانه وإلا فإيمانه سراب لأن الايمان وسيلة الى العمل وليس غاية في نفسه (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) اختلف المفسرون في معنى اليسرى ، فمن قائل : انها الجنة ، وقائل : هي الخير ، وقال الشيخ محمد عبده : «هي خطة تكميل النفس وانمائها بالكمال». أما نحن فنفسر اليسرى هنا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ـ ٤ الطلاق أي يشمله الله بعنايته ، ويوفقه الى ما فيه خيره وصلاحه.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بالبذل في سبيل الله (وَاسْتَغْنى) بماله عن الاعانة بالله ، وعن آخرته بدنياه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) فقال : لا جنة ولا نار ولا حلال ولا حرام (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). المراد بالعسرى هنا السقوط في هوة السيئات والانحرافات ، والدليل على ارادة هذا المعنى قوله تعالى : (إِذا تَرَدَّى) والمراد بتيسيره ندعه وأهواءه ، ولا نردعه بالقوة عما يختاره لنفسه من التردي والهلاك (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى). «ما» استفهام بمعنى الإنكار ، ويجوز أن تكون نفيا محضا ، والمراد بالتردي السقوط في حضيض الرذائل والقبائح.

ويتلخص معنى هذه الآيات من قوله تعالى : فأما من أعطى الى قوله تردى ، يتلخص بأن سنة الله في خلقه أن يبيّن لهم طريقي الصلاح والفساد ، ويمنحهم القدرة على فعلهما وتركهما ، ثم يعامل كلا بما يختاره لنفسه ، فان آثر الخير والصلاح شمله بتوفيقه وعنايته ، وان اختار الشر والفساد تخلى عنه ، وأو كله الى نفسه وأهوائه تقوده الى الشدائد والمهالك.


(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). هذا جواب عن سؤال مقدر ، وهو : كيف تخلى سبحانه عن المسيء ووكله الى نفسه وأهوائه؟ ألا يتنافى هذا مع لطفه ورحمته؟. فأجاب سبحانه بأن عليه أن يزود العبد بالقدرة على العمل ، وبالعقل الذي يميز بين الخير والشر ، ثم يبين له ويرشده ويبشره وينذره ، وقد تحقق ذلك كله على أكمل وجه ، وهو منتهى اللطف والرحمة ، أما العمل والاهتداء فعلى العبد وحده ، ولا يلجئه الله اليه لأن الإلجاء يسلب الإنسان حريته وارادته ، بل وانسانيته لأن الإنسان بحريته وارادته. وتجدر الاشارة الى ان كلمة «على» هنا تدل على الوجوب خلافا للشيخ محمد عبده وغيره من الأشاعرة لأن الوجوب إذا نسب الى العبد فمعناه ان الغير أوجب عليه ، ولو ترك لكان مسؤولا ، وإذا نسب اليه تعالى فمعناه هو الذي أوجب على نفسه ما أوجب أي انه وعد وليس لوعده مترك. قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ ٥٤ الانعام.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى). الله وحده مالك الملك في الدنيا والآخرة ، ولا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا معصية من عصى ، ولا يجد العاصون مفرا من حكمه وسلطانه (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى). أمر سبحانه ونهى وحذر من عصى نارا تتلهب وتتسعر لعله يتوب من ذنبه ويرجع الى ربه (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى). يصلاها أي يدخل النار ويعذب فيها ، وقيل : المراد بالأشقى هنا الكافر وقال الشيخ محمد عبده : «الأشقى من هو أشد شقاء من غيره». والصحيح ان التفضيل هنا غير مقصود من جهة دخول النار ، لأنه ما من شقي إلا هو ذائقها : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ـ ١٠٦ هود. والتفاوت بين الشقي والأشقى انما هو في أليم العذاب وشدته لا في أصل العذاب ، وعليه يكون المراد بالأشقى هنا من عصى الله وأعرض عن أمره سواء أعرض عنه لأنه لا يؤمن بالله وشريعته ، أم آمن به وبشريعته ولكنه قصّر وتهاون ، لا فرق بين الاثنين لأن الايمان وسيلة للعمل ، وليس غاية في نفسه ، فقد ثبت بنص القرآن ان من آمن ولم يعمل فهو والكافر بمنزلة سواء ، قال تعالى : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ـ ١٥٩ الانعام أي لم تؤمن إطلاقا أو آمنت ولم تعمل.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى). الهاء في سيجنبها تعود الى النار ، ومعنى يجنبها يبتعد


عن الأسباب المؤدية اليها ، وهي محارم الله ، وعليه يكون المراد بالاتقى التقي (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى). يؤتى من الإيتاء ، وهو الإعطاء ، والمعنى يعطي ماله وينفقه في سبيل الخير ليطهر نفسه من الذنوب ، ويتقرب الى الله ، ولا ينفقه للشهرة والاستعلاء ، ولا للتجارة والرياء.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى). قد يكون الإنفاق بدافع الشهرة والظهور ، أو من باب هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، كما لو أهديت من أسدى اليك يدا لترد اليه إحسانه ، وقد يكون الإنفاق بقصد الربح والتجارة ، فتنفق بيد لتأخذ باليد الأخرى كما ينفق رجال السياسة على المشاريع الخيرية وغيرها أيام الانتخابات لاكتساب الأصوات .. والمؤمن لا يقصد شيئا من ذلك أو غيره (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) طالبا ثوابه خائفا من عذابه (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) ـ ٩ الإنسان. (وَلَسَوْفَ يَرْضى). يعطي الله من أنفق لوجهه كل ما يرضيه ، وفوق ما كان يرجو ويأمل. وقيل : الضمير في يرضى يعود الى الله لا الى الأتقى ، والمعنى واحد على التقديرين لأن الله إذا رضي على عبده أرضاه لا محالة.

وقال الشيخ محمد عبده : روى المفسرون هنا أسبابا للنزول ، وان الآيات نزلت في أبي بكر ، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعنا من التصديق به مانع ، ولكن معنى الآيات لا يزال عاما.


سورة الضّحى

١١ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

الإعراب :

والضحى الواو للقسم ، والليل عطف على الضحى ، و «ما» نافية ، والجملة جواب القسم. وما قلى المفعول محذوف أي وما قلاك. وللآخرة اللام للتأكيد ومثلها لسوف وجملة سوف يعطيك ربك خبر لمبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك ربك لأن لام الابتداء المؤكدة لا تدخل إلا على الأسماء. ويتيما مفعول ثان ليجدك. ومفعول آوى محذوف أي فآواك ، فهدى فهداك ، فأغنى فأغناك. فأما اليتيم «أما» هنا تتضمن معنى الشرط أي مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ، فاليتيم مفعول مقدم لتقهر ولا ناهية ، ومثله وأما السائل فلا تنهر.

المعنى :

(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى). المراد بالضحى هنا النهار كله بدليل مقابلته


بالليل ، وانما عبّر سبحانه عن النهار بالضحى لأن الضحى صدر النهار على حد تعبير الرازي ، أو شباب النهار على تعبير الشيخ محمد عبده ، ومعنى السجو السكون ، يقال : ليل ساج إذا سكنت ريحه واشتدت ظلمته ، وبحر ساج إذا سكن ، والمراد بسجو الليل سكون أهله وانقطاعهم عن الحركة ، مثل ليل نائم ونهار صائم أي فيه ، وأقسم سبحانه بهاتين الآيتين لأنهما من آياته الكبرى .. وتجدر الاشارة الى ان كثيرا من الفقهاء قالوا : ان النبي (ص) صلى صلاة الضحى يوم فتح مكة ، وهي ركعتان عند البعض ، وأكثر عند آخرين ، وندب عند الجميع. وقال الشيعة الإمامية : لا حصر للصلاة المندوبة ، فهي قربان كل تقي فمن شاء استقل ومن شاء استكثر ، ولكل انسان أن يصلي ركعتين ابتداء في كل زمان ومكان بنية القربة المطلقة اليه تعالى.

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). هذا جواب القسم ، ومعناه ما تركك وما أبغضك ، واتفق الرواة والمفسرون على ان الوحي قد احتبس عن رسول الله (ص) أياما ، فقال المشركون : ان إله محمد قد قلاه ، وان الناموس قد أبغضه ، فأنزل الله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). وقال الشيخ محمد عبده ، ونعم ما قال : ليس في نسق السورة ما يشير الى ذلك ، ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي؟. ولكن النبي كان قد اشتاق الى الوحي بعد ان ذاق حلاوته ، وكل ذوق يصحبه قلق ، وكل قلق يشوبه خوف وقد جاء في الصحيح ان النبي (ص) حزن لفترة الوحي حزنا كبيرا.

وبهذه المناسبة أشير الى اني قرأت كل ما نشر للشيخ محمد عبده ، فاكتشفت ان عظمة هذا الرجل وشهرته لا تكمن في علمه فقط ، ولا في سعة اطلاعه ، فان بعض تلاميذه ـ على ما رأيت ـ أوسع منه اطلاعا على الحواشي والشروح ، ومعرفة بأقوال السلف والخلف ، وانما السر الوحيد لعظمة هذا الشيخ يكمن في ثقته بالحق وإخلاصه له وجرأته على إعلانه ولو خالف الأولين والآخرين .. ومن أجل هذا كفرته عمائم السوء .. ولكن التاريخ قد أنصفه منها ، فوضعه في مكان الصدارة ، وألقى بها في سلة المهملات.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). الخطاب للرسول الأعظم (ص) والمراد بالآخرة هنا الحياة الآخرة ، والحياة الدنيا ابتداء من


نزول الوحي عليه الى يوم القيامة لأنه ما من يوم يمر إلا ويولد فيه المئات من المسلمين ، بالاضافة الى من يدخل في دين الله من الأمم والطوائف ، وكل ذلك كسب لمحمد (ص) ورسالة محمد ، ومعنى الآية ان الله سبحانه سيزيدك يا محمد من فضله يوما بعد يوم حتى قيام الساعة ، وفوق ذلك أنت في الآخرة أجلّ وأعظم ، فهل يرضيك هذا؟ وهل لك وراءه من مطلب؟ ثم ذكر سبحانه نبيه الكريم بجانب من نعمه عليه قبل البعثة ، وكأنه يقول له : لقد أنعمت عليك منذ يومك الأول الى ما لا نهاية. وهذه بعض النعم السابقة على البعثة :

١ ـ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى). هذا الاستفهام لتقرير الواقع أي لقد كنت كذلك. قال الشيخ محمد عبده : «كان النبي (ص) يتيما لأن والده توفي بالمدينة ، وهو في بطن أمه ، فكفله جده عبد المطلب خير كفالة ، ثم مات جده وهو في الثامنة من عمره ، فكفله عمه أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب ، وكان شديد العناية به في صغره ، عظيم المحبة له في كبره ، وما زال يحميه وينصره بعد ان أكرمه الله بالنبوة حتى قبض ، فتجرأت عليه قريش بعد موت عمه حتى اضطرته الى الهجرة ، فذاك إيواء الله لنبيه وهو يتيم».

٢ ـ (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى). اختلف المفسرون ما هو المراد بالضلال هنا؟ وقد أنهى الرازي أقوالهم الى عشرين قولا! .. أقربها الى الصواب والواقع ان النبي (ص) كان حائرا في أمر قومه ، وضلالهم في عقائدهم وتقاليدهم ، وفساد أعمالهم وجهلهم وتفرق كلمتهم .. ولا يدري ما هو السبيل الى هدايتهم حتى نزل عليه الوحي فيه تبيان كل شيء ، وهدى ورحمة للعالمين ، فضلال النبي (ص) : حيرته كيف يهدي الكافرين ، وهداه نزول القرآن عليه.

٣ ـ (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى). العائل هو الفقير سواء أكان عنده عيال أم لم يكن ، وقال الرواة : ان الرسول (ص) لم يرث من أبيه إلا ناقة وجارية ، ولكن الله قد أغناه برعاية عمه أبي طالب ، ومال خديجة بنت خويلد ، وبالغنائم.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ). ومن كان يتيما وفقيرا فما أجدره برعاية الفقراء والأيتام والاهتمام بشأنهم .. وليس من شك ان هذا تعريض وتأديب لكل من حاول أو يحاول أن يقهر يتيما أو ينهر فقيرا والا فإن رسول


الرحمة على خلق عظيم وبالضعفاء رؤوف رحيم (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) شكرا لله وحمدا. وفي الحديث الشريف ان التحدث بنعم الله شكر له. وقال الإمام الصادق (ع) في معنى هذه الآية : فحدث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن اليك وهداك. وقال الشيخ محمد عبده : «فحدث أي أوسع في البذل على الفقراء». وتبعه في هذا التفسير تلميذه المراغي ، وهو بعيد عن ظاهر اللفظ ومدلوله ، فان المتبادر الى الافهام من كلمة «فحدث» هو التحدث بنعم الله شكرا له وحمدا. وما أكثر ما يستدل الشيخ محمد عبده بالتبادر.

سورة الانشراح

٨ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

الإعراب :

الذي أنقض نعت لوزرك. ويسرا اسم ان ومع العسر خبرها.

المعنى :

قال الرازي : «يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز ان هذه السورة وسورة الضحى واحدة ، وكانا يقرءانهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي دعاهما الى ذلك هو ان قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ)


كالعطف على قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً). وقال صاحب مجمع البيان : روى أصحابنا ـ أي الشيعة الإمامية ـ انهما سورة واحدة لتعلق إحداهما بالأخرى ، وجمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة ، وكذلك في سورة ألم تر كيف .. ولإيلاف قريش. وقال الشيخ المراغي : «نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وهي شديدة الاتصال بما قبلها». وقال صاحب الظلال : «نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وكأنها تكملة لها».

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ). ضاق النبي (ص) ذرعا بفساد المجتمع الذي كان يعيش فيه ، وحار في أمره وهو يلتمس الطريق لاصلاح قومه وهدايتهم حتى نزل عليه القرآن ، وأنار له السبيل الى ما يبتغيه من صلاح وإصلاح ، فاطمأن قلبه وانشرح صدره (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ). الوزر الحمل الثقيل ، والمراد به هنا همّ النبي وغمه لما كان عليه قومه من الشرك والضلال ، فأراح الله نبيّه بالقرآن الكريم من الهمّ والغمّ ، وعليه يكون المراد من وضعنا عنك الخ هو عين المراد من ألم نشرح لك صدرك. ولا فرق إلا في الأسلوب والتعبير ، والغرض زيادة الإيضاح والتأكيد (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). وأي شيء أعلى وأرفع من اقتران اسم محمد باسم الله ، وطاعته بطاعته (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ ٨٠ النساء. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ـ ٣٦ الأحزاب.

ومعنى هذا ان قول محمد (ص) هو قول الله بالذات.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً). المعنى واضح ، وهو ان الشدة يعقبها الفرج عاجلا أو آجلا لأن المراد بمع هنا تأكيد الأمل في وقوع اليسر وان طال الزمن ، وليس المراد بها المصاحبة والمقارنة.

وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار : فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا؟

الجواب : لا نرى له وجها إلا تأكيد هذه القضية في النفوس وتمكينها من القلوب لأنها موضع الشك والريب عند أكثر الناس أو الكثير منهم ، أما الرواية القائلة : «لن يغلب عسر يسرين» فقد تأملناها مليا ، وفهمنا اليسر الأول وانه كشف العسر ، ولكن لم نفهم اليسر الثاني. وقيل : هو ثواب الآخرة. وهذا أبعد من بعيد عن ظاهر اللفظ وسياق الآية لأنها تتكلم عن عسر الدنيا ويسرها ،


وليس عن الآخرة وثوابها .. وأيضا قيل : ان العسر الثاني هو عين العسر الأول لأن كلا منهما مقرون بالألف واللام للجنس ، أما اليسر فقد أعيد على التنكير ، وإذا أعيدت النكرة كان المراد من الثاني غير المراد من الأول! .. ولا يستند هذا القول الى حجة ، وما هو إلا لعب بالألفاظ ، لأنك إذا قلت لخصمك : لي عليك درهمان. فقال : ان لك درهما ان لك درهما لا يكون هذا إقرارا منه بالدرهمين.

وحاول الشيخ محمد عبده ان يخالف بين العسرين ، لا بين اليسرين ، فقال : المراد بالعسر الأول العسر المعهود عند المخاطبين ، أما العسر الثاني فأعم ، وقد أطال الشرح والبيان لتأييد رأيه ، ولكنه لم يأت بشيء تركن اليه النفس ، فإن المتبادر من العسر الأول هو عين المتبادر من الثاني ، ولا فرق بينهما في المبنى ولا في المعنى.

سؤال ثان : لقد رأينا كثيرا من الناس يلازمهم العسر حتى الممات ، ولا يتفق هذا مع ظاهر الآية ، فما هو الجواب؟.

الجواب : ان الحكم في الآية مبني على الأعم الأغلب ، لا على العموم والشمول .. هذا ، الى أنها تبعث الأمل في النفوس ، وتدفعها على العمل للخلاص مما تعانيه مع الاعتصام بالله والتوكل عليه.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) المراد بالنصب هنا التعب ، والمعنى إذا فرغت يا محمد من العمل لأجل الحياة فاتعب واجتهد للحياة من أجل الآخرة. وتجدر الاشارة الى ان بعض المأجورين للفتنة وبث النعرات بين أهل المذاهب الاسلامية قد نسب الى الشيعة الإمامية انهم يفسرون كلمة فانصب في الآية الكريمة بأنصب عليا للخلافة .. ويكفي في الرد على هذا الافتراء ما قاله صاحب مجمع البيان ، وهو من شيوخ المفسرين عند الشيعة الإمامية ، قال عند تفسير هذه الآية ما نصه بالحرف : «ومعنى انصب من النصب ، وهو التعب أي لا تشتغل بالراحة». (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ). لا تتجه بقلبك لغير الله ، ولا تستعن بأحد سواه. قال الرسول الأعظم (ص) : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم انه لو اجتمعت الانس والجن على ان ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعت على ان يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.


سورة التّين

٨ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

الإعراب :

والتين الواو للقسم. وأسفل صفة لموصوف محذوف أي الى مكان أسفل السافلين.

وبعد ظرف مبني على الضم. وبأحكم الحاكمين خبر ليس والباء زائدة.

المعنى :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ). اختلفوا ما هو المراد بالتين والزيتون ، على أقوال ، أبعدها عن ظاهر اللفظ ومدلوله ما ذهب اليه الشيخ محمد عبده حيث قال : التين اشارة الى آدم وحواء ، وهما في الجنة «وعند ما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين والزيتون اشارة الى عهد نوح وذريته». ولا نرى مبررا لهذا التأويل لأن المتبادر الى الافهام من كلمة التين هذا التين الذي يؤكل ، ومن كلمة الزيتون هذا الزيتون الذي يعصر ، ولا مانع في حكم العقل أن يقسم الله سبحانه بما شاء من خلقه باعتراف الشيخ محمد عبده ، وما أكثر ما يستند الشيخ


محمد عبده الى التبادر في تفسيره لآي الذكر الحكيم .. أما الحكمة من القسم فقد تكون للتنبيه الى ما لهما من فوائد ، وقد تكون غير ذلك ، وما أكثر ما نجهل. (وَطُورِ سِينِينَ) الطور الجبل الذي كلّم الله عليه موسى. وسينين سيناء.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). وهو مكة التي شرفها الله بميلاد محمد (ص) وكرمها ببيته الحرام ، ومثله (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). هذا جواب القسم ، وهو القصد من السورة كلها ، والتقويم التعديل والتنظيم .. أقسم سبحانه انه شمل الإنسان بلطفه وعنايته حين أوجده وأنشأه ، فخلق جسمه في أبدع الصور والأشكال ، وأودع في روحه من القوى والغرائز ما تسمو به على جميع المخلوقات ان شاء وأراد ، أو تهوي به الى الحضيض ان انحرف مع أهوائه ونزواته ، وإذا كان الله سبحانه قد اعتنى بالإنسان هذه العناية وأهلّه الى الرفعة والكمال فجدير بالإنسان أن يعتني بنفسه ، ولا ينحرف بها عما خلقت له وعليه من الجمال والكمال. ومثله (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ـ ٦٤ غافر.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ). الهاء في رددناه تعود الى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمراد بأسفل سافلين هنا جهنم ، ولو لا السياق لقلنا : المراد به أرذل العمر من الهرم والكبر ، ولكن قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قرينة واضحة على ارادة جهنم من أسفل سافلين .. والمعنى لقد خلقنا الإنسان في أحسن خلقة جسما وروحا ، ولكن بعض أفراده أو أكثرهم عصوا الله وكفروا بأنعمه ، فردّهم الى الدرك الأسفل من النار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). لكن الذين آمنوا وعملوا مخلصين بموجب ايمانهم يتنعمون في الجنان خالدين فيها أبدا ... إن الله عنده أجر عظيم. وتقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة فصلت.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ). «ما» لفظها استفهام ومعناها إنكار ، ويكذبك أي ما يحملك على التكذيب بدين الله بعد ان قامت عليه الأدلة والبراهين ، ومنها خلق الإنسان في أحسن تقويم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)؟ بلى انه أحكمهم صنعا وتدبيرا ، وأعدلهم قولا وفعلا ، وهو يقضي بالحق على من كذّب به استكبارا وعنادا.


سورة العلق

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

الإعراب :

الذي خلق نعت لربك. وخلق الإنسان بدل بعض من خلق الاولى لأنه تخصيص بعد تعميم. وربك مبتدأ والأكرم نعت والذي علم بالقلم خبر. وعلم الإنسان بدل اشتمال من علم بالقلم. كلا ردع. والمصدر من ان رآه مفعول من أجله ليطغى. ولنسفعا الأصل لنسفعن بنون التوكيد الخفيفة وكتبت ألفا لأنها كالتنوين. وناصية كاذبة بدل من الناصية. وناديه على حذف مضاف أي أهل ناديه.

المعنى :

قيل : أول ما نزل على رسول الله (ص) فاتحة الكتاب ، وهذا القول يتناسب مع الاسم ، ولكنه قول نادر. وقيل : أول ما نزل يا أيها المدثر ، والقائلون


بهذا قليل. وذهب أكثر المفسرين والرواة والعلماء الى ان أول ما نزل سورتنا هذه او أوائلها. قال الشيخ محمد عبده : «صح في الاخبار ان النبي (ص) أول ما تمثل له الملك الذي تلقى عنه الوحي قال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم» ومهما يكن فان على المسلم أن يؤمن ايمانا لا ريب فيه ان كل ما في القرآن هو من عند الله ، ولا يطلب منه البحث عن زمن الآيات وتاريخ نزولها.

والذي لا شك فيه ان الوحي نزل على الرسول الأعظم (ص) وهو في الأربعين من عمره الشريف ، وانه كان من قبل يؤمن بإله واحد ولا يشرك به شيئا ، وكانت ثقته به لا تتزعزع أبدا ، أما مصدر هذا الايمان فأمران : الأول ذاتي وهو عقله وفطرته. والثاني موروث عن جده ابراهيم الخليل (ع) ... ومن تتبع حياة النبي (ص) وسيرته يجد الكثير من الشواهد على إيمانه بإله واحد ، من ذلك انه ما سجد لصنم قط في صغره وكبره. ونقل الرواة ان أحد المشركين قال له قبل أن يبلغ سن الرجال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني عن كذا. فقال له محمد (ص) : لا تسألني باللات والعزى فو الله ما بغضت شيئا بغضهما. وكان بينه وبين مشرك خلاف في شيء قبل البعثة ، فقال له المشرك : احلف باللات والعزى. فقال : ما حلفت بهما قط ، وإني أعرض عنهما.

وأيضا من ذلك قول زوجته السيدة خديجة حين شكا اليها ما أصابه عند نزول الوحي : «والله ما يخزيك الله أبدا ، انك تصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق». وفي هذه العبارة التاريخية ـ أي والله ما يخزيك الله ـ تظهر لنا بطريقة لا تحتمل الجدل فكرة الإله الواحد تشيع في الوسط العائلي المحمدي حتى قبيل دعوته ـ كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي».

وفي كل عصر من العصور حتى في عصر الجاهلية الجهلاء وجد أفراد آمنوا بالإله الواحد بدافع من عقولهم وصفاء فطرتهم ، ومنهم ورقة بن نوفل ، وزيد ابن عمرو ، وعثمان بن الحويرث وغيرهم. أنظر ج ٥ من ، هذا التفسير ص ٩٦ فقرة «الحنفاء» فهل يكثر على سيد الكونين وأشرف الخلق من الأولين والآخرين أن يهتدي بعقله الى الله الواحد القهار؟.


(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). هذا أول ما نزل من القرآن كما أشرنا ، ويؤيده الأمر بالابتداء باسمه تعالى. وقال سبحانه : الذي خلق مع حذف المفعول تعميما له وانه خالق لجميع الكائنات ، قال علماء العربية : ان حذف المتعلق يدل على العموم.

وتسأل : كان النبي (ص) أميا لا يقرأ ولا يكتب ، والله سبحانه يعلم ذلك من نبيّه ، فكيف يوجه له الأمر بالقراءة؟ أليس هذا تكليفا بما لا يطاق؟.

وأجاب الشيخ محمد عبده بأن الأمر في قوله تعالى : اقرأ باسم ربك هو أمر تكويني يقول للشيء : كن فيكون ، وليس أمرا تكليفيا مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. أنظر ج ١ ص ٧٢ فقرة «التكوين والتشريع». وعليه يكون المعنى كن الآن قارئا ، وإن لم تكن كذلك من قبل ، فإن الرب الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يجعلك يا محمد قارئا من غير أن تتعلم القراءة.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ). بعد أن ذكر سبحانه انه خالق كل شيء خص الإنسان تكريما له (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء وتنبيها على عظيم قدرته تعالى التي جعلت من العلقة ـ وهي دم جامد ـ هذا الإنسان العظيم العجيب بتركيبه وغرائزه كي يستدل بذلك على وجود الخالق القادر (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ـ ٦٧ مريم.

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). اقرأ هذا الأمر تأكيد للأمر الأول بالقراءة. وربك الأكرم الذي علم بالقلم جملة مستأنفة ، ومعناها ان الله كريم ولا حد لكرمه تماما كقدرته وعلمه ، ولا شيء أدل على جوده وفضله من انه ، جلت عظمته ، ارتقى بالإنسان من أدنى المراتب وهي العلقة الى أعلاها وهي الكتابة بالقلم ، ولها من الفوائد ما لا يبلغه الإحصاء ، من ذلك انها تربط الماضي بالمستقبل ، وشرق الأرض بغربها ، بخاصة بعد اكتشاف الطباعة التي جعلت العلم مشاعا للجميع حتى العميان يقرءون الكتابة بالحروف البارزة ، وإذا كان اللسان يفصح عما في الجنان فإن كلامه يذهب مع الريح ، ومن هنا قيل : القلم ينوب عن اللسان ، واللسان لا ينوب عن القلم.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). الله سبحانه لا يقذف العلم بقلب الإنسان ، وانما


يمنحه العقل الذي هو مصدر العلوم ، وليس للعقل حد ينتهي اليه لا الصعود إلى القمر ولا الى المريخ ، وكذلك علوم الإنسان ، فإنها تزداد يوما بعد يوم الى ما لا نهاية .. واتفق أكثر المفسرين على ان هذه الآيات من أول السورة الى هنا نزلت دفعة واحدة ، أما بقية السورة فمتأخرة زمانا.

المال والطغيان :

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). كلا للردع ، والطغيان تجاوز الحد ، والحكم على الإنسان باعتبار الأغلب من أفراده .. وأكثر الناس ـ وكنت منهم ـ يستشهدون بهذه الآية على ان الإنسان يستعلي ويظلم حين يملك من المال والثروة أكثر من غيره .. وعلى هذا جمهور المفسرين. قال الرازي : «أول السورة يدل على مدح العلم ، وآخرها على مذمة المال». وقال صاحب مجمع البيان : «أي إن رأى نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته وأمواله وقوته». وقال الشيخ محمد عبده : أي متى أحس من نفسه وبقطع النظر عما قبلها ، وهو قوله تعالى : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). أما إذا نظرنا الى مجموع الآيتين ، وانهما وردتا في كلام واحد بلا فاصل بينهما ، ولا بد من هذا النظر ، إذا فعلنا ذلك كان المعنى ان الإنسان يتجاوز الحدود المشروعة حين يرى نفسه غنيا بالعلم وأدواته كالمختبرات والمصانع ، ويظلم من هو دونه بقسوة وضراوة ، ويؤيد هذا التفسير بالاضافة الى ظاهر السياق ـ انه الواقع الذي تعيش فيه الانسانية الآن ، فإن الذين يملكون العلم يحاولون أن يخضعوا العالم كله لسيطرتهم واستغلالهم ، بعد أن اتجهوا بالعلم الى الانتاج الحربي والصناعة العسكرية ؛ وأصبح لديهم من الأسلحة ما يقضون به على الكرة الأرضية بما فيها في بضع ساعات .. هذا هو التفسير الصحيح لقوله تعالى : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) نقول هذا ، ونحن من المؤمنين بالحقيقة الشائعة «الإنسان ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن» ولكن الحقيقة في ذاتها شيء ، ودلالة اللفظ والسياق شيء آخر.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) لا تغتر بالدنيا وزينتها أيها الطاغية ، ولا بالعلم وقنابله والمال وخداعه فإن قوة الحق أمضى من القنابل النووية .. فهذه ثورة الإنسان ضد


الاستغلال والاستعباد في الهند الصينية وغيرها قد لقنت أرباب المعامل والصناعة العسكرية في امريكا أبلغ الدروس ، ثم يردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئهم بما كانوا يعملون.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى). هذا انكار على كل من ينهى عن المعروف بطريق أو بآخر (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى). أخبرني عن هذا الضال الذي ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر ـ هل هو على حق في نهيه وأمره (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). لقد كذب هذا الضال بالحق وأعرض عنه ، أفلا يخشى عذاب الله الذي يعلم سره وعلانيته؟.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ). الناصية شعر الجبهة ، والسفع الجذب بشدة ، وكانت العرب تأنف من الجر بالناصية ، وتعده غاية الاذلال والتحقير ، لأنه للحيوان لا للإنسان ، وكاذبة خاطئة أي صاحبها كاذب خاطئ ، والمعنى ليرتدع هذا الضال عن ضلاله وإلا قدمناه بناصيته الى عذاب الحريق (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) النادي المجلس ، وفي الكلام حذف مضاف أي ليدع هذا الضال أهل مجلسه يمنعوا عنه العذاب ، والمراد بأهل مجلسه أعوانه وعشيرته ، ومثله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) ـ ٥٦ الإسراء.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ). وهم ملائكة العذاب ، والزبانية من الزبن بفتح الزاي ، وهو الدفع أي ان الملائكة يدفعون بالطاغية الى نار جهنم ، وأصل «سندع» بالواو في آخر الكلمة ولكنها حذفت في كتابة المصاحف (كلا) زجر عن متابعة الطاغية والإصغاء لدعاياته المضللة (لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ) لله وحده ، ولا تخش من مخلوق كائنا من كان (وَاقْتَرِبْ) أي وتقرب إلى الله بأعمال الخير ، وأفضلها جهاد الطغاة.

وقسّم الفقهاء السجود إلى سجدة الصلاة المعهودة ، وسجدة السهو ومكانها بعد الصلاة بلا فاصل وموجبها الخلل في الصلاة زيادة أو نقصانا ، والتفصيل في كتب الفقه ، وسجدة الشكر عند تجدد نعمة أو دفع نقمة ، وسجدة التلاوة ، وقد أوجبها الإمامية عند تلاوة آية السجدة من سورة ألم تنزيل ، وسورة حم فصلت ، وسورة النجم ، وسورة العلق ، وما عدا ذلك فهو ندب لا فرض.


سورة القدر

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

الإعراب :

ما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما ليلة القدر مبتدأ وخبر. وليلة القدر مبتدأ وخير خبر. تنزل أي تتنزل. وسلام خبر مقدم وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي سلامة ، وهي مبتدأ مؤخر. وحتى حرف جر بمعنى الى ومطلع مجرور بها متعلقا بسلام وقيل بتنزل.

المعنى :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). الضمير في أنزلناه للقرآن لحضوره في الأذهان ، وليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان المبارك للأحاديث المتضافرة ، ولقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ـ ١٨٥ البقرة فإذا عطفنا هذه الآية على قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كانت النتيجة ان ليلة القدر


هي احدى ليالي شهر رمضان. وتعددت الأقوال في تعيين هذه الليلة من الشهر المذكور تبعا لتعدد الأحاديث ، وسكت كتاب الله عن ذلك للحث على إحياء جميع ليالي شهر رمضان بالعبادة كما قيل.

وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان سائلا سأله عنها فقال له : اطلبها في تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، وجرت العادة عند أهل السنة أن يقيموا شعائرها في ليلة ٢٧.

وأطرف ما قرأته حول تعيين هذه الليلة ما جاء في كتاب أحكام القرآن لأبي بكر المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي المالكي ، قال صاحب الكتاب ما نصه بالحرف : انها في ليلة ٢٧ لأن العلماء عدوا حروف السورة فلما بلغوا الى كلمة «هي» وجدوها سبعة وعشرين حرفا ، فحكموا عليها بها ـ أي حكموا على ليلة القدر بالحروف المعدودة ـ وهو أمر بين وعلى النظر بعد التفطن له هين ، ولا يهتدي له إلا من كان صادق الفكر سديد العبرة». وليست هذه «العبقرية» في الاستنتاج ، وهذا «الورع» في تفسير كلام الله ـ بالشيء الغريب عن الذي فال معلقا على فتوى للإمام الشافعي : «هذا كلام من لم يذق طعم الفقه». وأيضا قال تعليقا على فتوى للإمام أبي حنيفة : «هذا فقه ضعيف». أنظر كتاب «أحكام القرآن» ج ٢ ص ٢٣٩ طبعة ٣٣١ ه‍.

وقال الشيخ محمد عبده : ليلة القدر هي ليلة عبادة وخشوع وتذكر لنعمة الحق والدين .. ولكن المسلمين في هذه الأيام يتحدثون فيها بما لا ينظر الله اليهم ، ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه ، بل إن أصغوا فإنما يصغون لنغمة تالي القرآن .. ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال فضلا عن الراشدين من الرجال.

واختلفوا : هل نزل القرآن جملة واحدة أو نجوما؟ والحق انه نزل نجوما ، وان معنى أنزلناه في ليلة القدر ان ابتداء النزول كان في هذه الليلة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٩٥ فقرة «هل نزل القرآن نجوما»؟. وأيضا اختلفوا : لما ذا سميت هذه الليلة بليلة القدر؟ فمن قائل : لأن الله سبحانه يقدّر ويقسم الأرزاق والآجال في هذه الليلة بين عباده ،


وقائل : ان المراد بالقدر هنا الشرف والعظمة. وهذا القول أقرب الى كلمة القدر لأنه يقال : فلان له قدر أي شرف وعظمة ، ويؤيده ان الله سبحانه وصف هذه الليلة بالمباركة في الآية ٣ من سورة الدخان (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) والبركة السعادة والنمو ، وليس من شك ان الانسانية تنمو وتسعد لو سارت على نهج القرآن الذي نزل في ليلة القدر.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ). هذا تعظيم لشأنها وعلو قدرها وانه فوق التصور (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لا قدر فيه وإلا لزم تفضيل الشيء على نفسه ، والمعنى ان من أحيا ليلة القدر بالعبادة وعمل الخير فكأنما عبد الله ألف شهر. قال الرازي : «هذه الآية فيها بشارة عظيمة ، وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة فهي انه تعالى ذكر ان هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقول النبي (ص) لعلي (ع) لمبارزة علي مع عمر بن ود أفضل من عمل امتي الى يوم القيامة ، فلم يقل مثل عمله بل قال أفضل ، كأنه يقول : حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف».

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). كثرت في هذه الآية التفاسير والأقوال ، ونذكر أولا معاني مفرداتها ثم مجمل المعنى. وتنزل لا يحتاج الى تفسير ، ولكن الله سبحانه لم يذكر الى أين تنزل ملائكته ليلة القدر؟ هل تنزل الى أرضنا أو الى غيرها من الأفلاك أو الى كل مكان كما يقتضيه حذف المتعلق؟. والروح هو جبريل ، وضمير فيها يعود الى ليلة القدر ، وبإذن ربهم أي بأمره ، ومن كل أمر «من» سببية أي لأجل ، وكل أمر يعم كل شيء في السموات والأرض ، ومجمل المعنى ان الله سبحانه يأمر في ليلة القدر الملائكة بالنزول الى كل مكان من أجل كل شيء .. وإذا سئلنا : ما هو المراد من أجل كل شيء؟ هل هو تدبير الأشياء وتقرير مصيرها أو معاينتها واحصاؤها أو غير ذلك ، إذا سئلنا عن ذلك قلنا : الله أعلم. وقال الشيخ محمد عبده : المراد ان أول عهد النبي (ص) بشهود الملائكة كان في ليلة القدر! .. وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). ضمير هي يعود الى ليلة القدر ، ولكن


هل المراد ان السلام الى مطلع الفجر يكون في جميع ليالي القدر وانه لا يقع شيء من الشرور والآفات في أية ليلة من ليالي القدر ، أو ان السلام الى مطلع الفجر كان في خصوص الليلة التي نزل فيها القرآن على قلب رسول الله؟. الظاهر من عبارة المفسرين العموم ، ومن عبارة الشيخ محمد عبده الخصوص ، قال : «انها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى .. فرج الله فيها عن نبيه وفتح له فيها سبيل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع اليه».

سورة البيّنة

٨ آيات. قيل مدنية وقيل مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ


جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

الإعراب :

منفكين خبر لم يكن. ورسول بدل من البينة. ومن الله متعلق بمحذوف صفة لرسول. وفيها خبر مقدم وكتب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لصحف. ومخلصين حال من فاعل ليعبدوا. والدين مفعول مخلصين. وحنفاء حال ثانية. في نار جهنم خبر ان الذين كفروا. وأولئك مبتدأ أول وهم مبتدأ ثان وشر خبر الثاني والجملة خبر الأول. وأبدا ظرف زمان متعلق بالخلود ومؤكد له.

المعنى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وبالمشركين عبدة الأوثان من العرب ، ومنفكين أي مفارقين .. وكان أهل الكتاب قد قرأوا في كتبهم ان الله سيبعث نبيا يهدي الى الحق ، وأيضا سمع المشركون بهذا النبي ، فكان بين الفريقين شبه اجماع على بعثة النبي الموعود ، وكثيرا ما كان يقع الخصام والعناد بين أهل الكتاب والمشركين ، ويدعي كل فريق انه المحق والآخر هو المبطل ، ثم يتفقون على ان يرجئوا حكم الفصل بينهم الى مجيء النبي الموعود ، وانهم متى جاء آمنوا به وأذعنوا لحكمه ، وهو المقصود بالبينة التي بينها سبحانه بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). المراد برسول الله هنا محمد (ص) وبالصحف القرآن ، والجمع باعتبار تعدد سوره أو أوراقه لأن كل ورقة مكتوبة يقال لها صحيفة ، ومطهرة أي منزهة عن الباطل والتحريف ، وضمير فيها يعود الى الصحف ، والمراد بالكتب ان القرآن فيه تبيان الكثير مما أنزله الله في الكتب السماوية السابقة كصحف ابراهيم والتوراة والإنجيل والزبور بل فيه تبيان ما نزل على جميع


الأنبياء من الهدى وأصول الدين ، والمراد بالقيمة المستقيمة على نهج الحق ، والمعنى ان محمدا (ص) لما جاء بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء أعرض عنه المشركون وأهل الكتاب ، ونكثوا العهد الذي كانوا قد أبرموه على أن يتحاكموا لدى النبي الموعود.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). هذه البينة جاءت أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم ، فالمراد بها غير المراد بالبينة في الآية السابقة ، والمعنى ان أهل الكتاب تمادوا في الغي والضلال بإعراضهم عن دعوة محمد (ص) الذي جاءهم بالبينات تماما كما تمادوا في السفاهة والضلالة بعد أنبيائهم الذين جاءوهم بالأدلة والحجج ، وذلك ان اليهود انقسموا الى فرق بعد موسى ، وكذلك النصارى تفرقوا شيعا بعد عيسى ، وما كان هذا الاختلاف والانقسام عن جهل بالدين ، وإنما فرقتهم الأهواء والمنافع. وتقدم مثله في الآية ١٠٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٢٧ والآية ١٧ من سورة الجاثية.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). حنفاء جمع حنيف ، وهو من استقام على الحق مائلا عن كل باطل ، والمعنى ان أهل الكتاب تفرقوا في دينهم مع ان دين الله واحد وواضح ، وهو الإخلاص لله وحده ، والاستقامة على الحق والهدى ، واقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وهذا دين الكتب السماوية المستقيمة على الصراط القويم ، فمن أين جاء تعدد الأديان والطوائف والمذاهب؟. قال الشيخ محمد عبده : «هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب ، فما نقول نحن في حالنا؟ ألا ينعى كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين بعد أن صرنا فيه شيعا ، وملأناه بدعا ومحدثات». أنظر ج ١ ص ١٨٠ فقرة «أيضا المسلمون يكفر بعضهم بعضا».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ). المراد بالكافرين هنا كل من جحد الحق الذي قام عليه الدليل ، سواء أجحده عنادا وبعد ان علم به ، أم لأنه يأبى البحث عن الحق والنظر اليه والى دليله ، وقد اتفق علماء المسلمين على ان حكم الجاهل المقصر في البحث عن الحق تماما كحكم العالم به التارك له عن قصد وعمد ، وليس من شك ان من أعرض


عن الحق بلا مبرر هو شر أهل الأرض تماما كمن جعل لله شريكا ، ولا جزاء لهذا وذاك إلا الخزي والعذاب.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). آمنوا بالحق وعملوا بموجب ايمانهم (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). كل من بحث عن الحق وعمل به لوجه الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم ـ فلا أحد أفضل منه إلا من اختاره الله لرسالته ، واصطفاه أمينا على وحيه (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). رضي عنهم لأنهم عملوا بمرضاته فأثابهم بملك دائم ، ونعيم قائم ، ورضوا عنه بما أفاضه عليهم من فضله ونعمه. وتقدم مثله في الآية ١١٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٥٣ والآية ١٠٠ من سورة التوبة ج ٤ ص ٩٥ والآية ٢٢ من سورة المجادلة.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). لقد أعد سبحانه الجزاء الحسن لمن خشي الرحمن بالغيب وقال صوابا. قال الشيخ محمد عبده : «أراد سبحانه بهذه الكلمة الرفيعة ان يدفع سوء الفهم الذي وقع فيه العامة والخاصة وهو ان مجرد الاعتقاد الموروث من الأبوين ومعرفة ظواهر بعض الأحكام وأداء بعض العبادات ، مجرد هذا يكفي في نيل ما أعده الله للمؤمنين ، وان امتلأت قلوبهم بالحقد والحسد والكبرياء والرياء ، وأفواههم بالكذب والنميمة والافتراء ، وسرائرهم بالرق والعبودية للأمراء بل لمن دون الأمراء .. كلا ، لا ينالون حسن الجزاء لأن خشية الله لم تحل قلوبهم ، ولم تهذب شيئا من نفوسهم ، ولا يكون ذلك إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه».


سورة الزّلزلة

٨ آيات مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

الإعراب :

زلزالها مفعول مطلق. ومالها؟ مبتدأ وخبر. ويومئذ تحدّث : «يومئذ» بدل من «إذا» لأنها بمعنى حين. والمصدر من ان ربك أوحى متعلق بتحدث. ويومئذ منصوب بيصدر. وأشتاتا حال. والمصدر من ليروا متعلق بيصدر. وخيرا تمييز مبين لمثقال ذرة لأن المعنى ذرة من خير ، ومثله شرا.

المعنى :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). هذا تخويف من أهوال يوم القيامة الذي تضطرب فيه الأرض وتهتز اهتزازا شديدا ، ومثله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ


زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ـ ١ الحج» ج ٥ ص ٣٠٨ (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها). أخرجت كل ما طوته في جوفها من أموات وكنوز ومدن وحضارات (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)؟ ما لهذه الأرض تموج على غير عادتها؟ ما الذي جرى لها؟ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها). حديث الإنسان أن يظهر ما يكنه في نفسه ، وحديث الأرض يوم القيامة أن تبرز للعيان ما ابتلعته من عجائب وغرائب مدى الدهور والعصور .. ولست أدري : هل يشاهد يومئذ علماء الآثار هذا المعرض المذهل المدهش؟.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها). كل ما يحدث للأرض يوم القيامة هو بأمر الله تعالى. وقال الشيخ محمد عبده : «ولا مانع من أن يكون خراب الأرض في آخر عمرها بسبب من الأسباب التي تهدم بناءها وتجعلها هباء منثورا». وكأنه يشير بقوله هذا الى التفجيرات النووية على سطح الأرض وجوفها مع العلم بأنها لم تكن في أيامه .. وقوله قريب جدا لأن عمر الأرض لا ينتهي بمرور الزمن كما هو شأن الكائنات الحية ، بل بخلل يعرض لها أو لجزء من أجزائها الرئيسية.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ). يوم القيامة يبدل الله الكون غير الكون ، ويلحق آخر الخلق بأوله ، ويذهبون بقضّهم وقضيضهم الى حيث يرى كل واحد منهم جزاء عمله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). في تفسير الرازي وغيره : ان الذرة أصغر النمل. وفي كتاب «القرآن والعلم الحديث» لنوفل «الذرة هي أقل جزء يمكن أن يصل اليه تقسيم المادة ، ولا يزيد حجمها على جزء من عشرة ملايين من المليمتر». ويقال أيضا : ان الذرة لا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر ، وانما تعرف بآثارها ، والمعنى واضح ، وهو ان الإنسان يجد غدا عند الله جزاء عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ بالغا ما بلغ العمل من الصغر .. وبديهة ان جزاء كل شيء بحسبه كما وكيفا.

وتسأل : هل المؤمن والكافر في ذلك سواء ، أم ان من كفر بالله لا يقبل منه عمل الخير ولا يثاب عليه حتى ولو أتى به لوجه الخير والانسانية؟

الجواب : كل شيء بحسابه ، فإذا فعل الكافر خيرا يعذب عذاب الكفر ، ويجزى على عمل الخير بما تستدعيه الحكمة الإلهية من ثواب الدنيا أو التخفيف من


عذاب الآخرة. وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا في ج ٢ ص ٢١١ بعنوان : الكافر وعمل الخير.

سؤال ثان : لقد دل كثير من الآيات ان الكفر يحبط الأعمال ، وإن كانت كلها حسنات؟.

وقد أجاب عن هذا بعض العلماء بأن معنى الإحباط ان حسنات الكافر لا تنجيه من عذاب الكفر ، وليس معناه ان الله سبحانه لا يثيبه عليها إطلاقا حتى في الدنيا.

سورة العاديات

١١ آية مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

الإعراب :

ضبحا مصدر في موضع الحال أي ضابحة. وقدحا مفعول مطلق للموريات لأن الوري فيه معنى القدح ، فهو مثل قمت وقوفا. وصبحا منصوب على الظرفية. فأثرن النون علامة التأنيث. ونقعا مفعول به ، ومثله جمعا ، وقال أبو البقاء : جمعا حال. إن الإنسان الخ جواب القسم. لربه متعلق بكنود. على ذلك متعلق بشهيد. لحب الخير متعلق بشديد. يومئذ متعلق بخبير.


المعنى :

جاء في مجمع البيان وغيره ان رسول الله (ص) أرسل سرية الى حي من بني كنانة ، فأبطأت عليه ، فقال المنافقون : ان رجالها قتلوا ، فنزلت هذه السورة تخبر النبي (ص) بسلامتهم وتكذب المرجفين.

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً). العاديات جمع العادية من العدو ، وهو الجري بسرعة ، والمراد بالعاديات هنا الخيل ، وقيل الإبل ، والضبح صوت أنفاسها عند العدو (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً). الموريات من قولهم : أورى النار إذا أوقدها ، والقدح الضرب لإخراج النار ، والمعنى ان الخيل عند عدوها تضرب الحجارة بحوافرها فيتطاير منها الشرر ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أغارت الخيل على العدو وقت الصبح لتأخذه على غفلة منه (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً).أثرن حركن ، والضمير في به يعود الى وقت الصبح ، والباء ظرفية أي فيه ، والنقع الغبار (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً). وسطن توسطن ، وأيضا ضمير به يعود الى وقت الصبح ، والمراد بالجمع هنا جمع العدو ، والمعنى هاجمت الخيل العدو وقت الصباح.

أقسم سبحانه بخيل المعركة ، وبالأحرى أقسم بالقوة وإعداد العدة ليحث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ، والتسلّح بالقوة لردع أعداء الله والانسانية .. ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد ان الله سبحانه قد حث المؤمنين في العديد من آياته وبشتى الأساليب أن يكون لديهم أمضى سلاح يرهبون به الطغاة المعتدين الذين لا يفهمون إلا بلغة القوة .. من ذلك قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ـ ٦٠ الأنفال. وقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) ـ ١٠٢ النساء وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) ـ ٩٢ النحل. الى غير ذلك من الآيات التي تأمر بكل ما من شأنه أن يجعل كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى. وبهذا يتبين معنا ان ذكر الخيل وضبحها ، وقدحها ونقعها انما هو كناية عن إعداد العدة لصيانة الحق والدفاع عن أهله ، وكنى سبحانه بالخيل عن القوة لأنها كانت آنذاك من أبرز مظاهرها.

وقال الشيخ محمد عبده ، وهو يفسر هذه الآيات : أليس غريبا ان أناسا


يزعمون ان القرآن كتابهم ، وهم أبعد الناس عن الرجولة وصفاتها ، لقد كلمت أستاذا منهم يشار اليه بالبنان في منافع بعض العلوم كي تدرس في الأزهر فقال : «اذن يجب أن نعلم الطلبة ركوب الخيل أيضا». قال هذا ليفحمني ، فهل يتفق قوله مع الايمان بكتاب الله؟ أنصف ثم احكم.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). هذا جواب القسم ، والكنود جاحد النعمة ، والحكم في الآية على الإنسان باعتبار الأغلب من أفراده ، والمعنى ان أكثر الناس ينسون الله عند النعم ، ويشكرونه عليها بالبذل منها في سبيله ، قال الرسول الأعظم (ص) : الكنود هو الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي ان أفعال الكنود تشهد عليه بلسان الحال انه كافر بأنعم الله .. وأشد أنواع الكفر بالله ونعمه ان يستظهر بها الإنسان على عباد الله وعياله.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). قال المفسرون : المراد بالخير هنا المال .. وليس من شك ان من اشتد حبه للمال فقد تجرد عن انسانيته وكفر بكل القيم إلا إذا كانت وسيلة لجمع المال .. ولو بحثنا عن الأسباب الموجبة لمآسي الانسانية وويلاتها لوجدناها تكمن في التنافس على الثروات وجمع المال. قال هربرت ماركيوز الذي عمل استاذا للفلسفة في جامعات كولومبيا ، وهارفارد ، وبرانديز في الولايات المتحدة قال في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد : «من أين يأتي الحير في عصر لا يخلق إلا الشر حيث سيطرت المادة بشكل جعل الإنسان هو العبد ، وهي السيد القوي المتحكم».

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ). الضمير المستتر في يعلم يعود الى الإنسان أو الى الكنود ، ومفعول يعلم محذوف أي أفلا يعلم الإنسان مآله ومصيره؟ وبعثر ما في القبور خرج منها الموتى للحساب والجزاء ، وحصّل ما في الصدور ظهر ما فيها من النبات والمخبآت ، وضمير بهم يعود الى المبعوثين من القبور ، وخبير اشارة الى انه تعالى محيط بمقاصدهم وأعمالهم ومجازيهم عليها بما يستحقون. والآية تهديد ووعيد لكل من كفر بأنعم الله وتطاول بها على عباده. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٣٥ من سورة البقرة.


سورة القارعة

١١ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

الإعراب :

القارعة مبتدأ ، ما القارعة «ما» مبتدأ ثان والقارعة خبر والجملة خبر المبتدأ الأول. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما القارعة مبتدأ وخبر. يوم منصوب بفعل محذوف أي تحدث القارعة يوم يكون الخ. ماهية «ما» خبر مقدم وهي مبتدأ مؤخر والهاء للسكت. نار خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار حامية.

المعنى :

(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بأهوالها ، ومثلها الحاقة والصاخة والطامة وما اليها (مَا الْقارِعَةُ) استفهام أريد به تعظيم شأنها (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ما الذي جعلك بها داريا؟. انها فوق التصور (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ). هذا بيان لبعض ما يحدث فيها لا لبيان حقيقتها ، والفراش معلوم وهو الطير الصغير الذي يترامى ليلا على السراج ، والمبثوث المتفرق المنتشر ..


شبّه سبحانه حال الخلق يوم القيامة بحال الفراش في الجهل والحيرة وتساقط أكثرها في النار (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). العهن الصوف ، ونفشه ان تفرق شعراته بعضها عن بعض.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ). والمراد به من طابت سريرته وصلح عمله (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي يرضاها ويهنأ بها (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ). والمراد به من خبثت سريرته وساء عمله. وتكلمنا مفصلا عن حقيقة الميزان يوم القيامة في ج ٥ ص ٢٨٠ فقرة «الميزان يوم القيامة وصاحب الأسفار» (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) المراد بأمه هنا ما يأويه ويحضنه ، وبالهاوية جهنم لأن المجرم يهوي بها ، وقد بينها سبحانه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) هذا كل ما يمكن أن تعرفه عن جهنم ، أما إدراك حقيقتها فتعجز عنه الافهام لأن قعرها بعيد ، وعذابها جديد.

سورة التّكاثر

٨ آيات مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

الإعراب :

كلا حرف ردع وزجر والثانية والثالثة تأكيد. لو تعلمون الجواب محذوف أي لما ألهاكم التكاثر. أو لارتدعتم عما أنتم فيه. وعلم اليقين مفعول مطلق وهو


من باب إضافة الشيء الى نفسه مثل مسجد الجامع. لترونّ اللام في جواب القسم. لترونها تأكيد لترون. لتسألن اللام في جواب القسم. ويومئذ منصوب بتسألن.

المعنى :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ). ألهاكم شغلكم وصرفكم عن الحق وصالح الأعمال ، والتكاثر التفاخر بكثرة الأموال وما إليها من قول المباهي : أنا أكثر منك مالا أو جاها (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ). مضيتم في الغفلة والضلال حتى أدرككم الموت. وللإمام علي (ع) كلام طويل قاله بعد تلاوة هذه الآية الكريمة ، وقد أدرج في نهج البلاغة ، ومنه «أبمصارع آبائهم يفخرون؟ أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ ولأن يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا».

(كَلَّا) ارتدعوا عن التكاثر والتفاخر فإنه لا يجديكم نفعا (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يحل بكم من العذاب (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). هذا تأكيد للتهديد (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو كنتم تعلمون علما قاطعا مآل المتكاثرين لارتدعتم عن التكاثر والتفاخر ، وفيه إيماء الى ان العلم بلا عمل هو والجهل سواء ، وفي ذلك يقول الإمام (ع) : «العلم يهتف بالعمل ، فان أجابه وإلا ارتحل عنه». (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). هذا تهديد لمن كذب بها أو آمن ولم يعمل بموجب إيمانه ، وقد كنّى سبحانه برؤية الجحيم عن الدخول فيها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ). هذا تأكيد للعلم بها ، وانه علم العيان والمشاهدة ، وتجدر الاشارة الى ان أية نظرية لا تستند الى العيان والمشاهدة مباشرة أو بالواسطة فما هي من العلم في شيء ، فالعلم الحق هو ان ترى الشيء نفسه ، أو ترى آثاره التي تدل عليه ، ويسمى الأول علم العيان ، والثاني علم البرهان.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). المراد بالنعيم هنا الأموال التي يتكاثر ويتفاخر بها أربابها بلسان المقال أو الحال ، وهم مسؤولون عنها أمام الله : من أين اكتسبوها؟ وفي أي شيء أنفقوها؟ هل اكتسبوها من كد اليمين وعرق الجبين ، أو من السلب والتهب؟. وهل أنفقوها في حلال أو حرام؟ أما ما تدعو اليه الحاجة من المأكل والملبس والمسكن فليس من النعيم المقصود في هذه الآية.


سورة العصر

٣ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

المعنى :

(وَالْعَصْرِ). اختلفوا : ما هو المراد بالعصر ، وفي ذلك أقوال : الأول ان الله سبحانه أقسم بصلاة العصر لا بالعصر نفسه ، فهو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه ، أما الغرض من القسم بصلاة العصر فهو التنبيه على فضلها كما في الآية ٢٣٨ من سورة البقرة (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). وهذا بعيد عن الفهم العام .. القول الثاني ان المراد بالعصر عهد الرسول (ص) .. وهذا أبعد من الأول .. القول الثالث ان المراد به الطرف الأخير من النهار ، وانه تعالى أقسم بآخر النهار في هذه الآية كما أقسم بأوله في الآية ١ من سورة الشمس (وَالشَّمْسِ وَضُحاها). وهذا القول غير بعيد عن دلالة اللفظ ، وأقرب منه القول الرابع وهو ان المراد بالعصر الدهر أي الزمن الذي تقع فيه الحوادث والأفعال ، والسياق يومئ الى ذلك فإن قوله تعالى بلا فصل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) يشعر بأن الخاسر هو الإنسان وليس الزمان لأنه لا يعد شيئا في نفسه يخسر أو يربح ، ويذم أو يمدح! قال الشيخ محمد عبده : كان من عادة العرب ان يجتمعوا وقت العصر ويتذاكروا في شئونهم ، وقد يؤدي حديثهم الى ما يكرهون ، فيتوهم


الناس ان هذا الوقت مذموم ، فأقسم الله به لينبه على ان الزمان لا يذم ، وانما هو ظرف للحسنات والسيئات ولشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال ، وانما يذم ما فيه من الأفعال الممقوتة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان من كان موضوعا للتكليف ومسؤولا عن أقواله وأفعاله ، وهذا الإنسان خائب خاسر بحكم القرآن وإن كان ثريا يملك الملايين ، وعالما يكشف أسرار الطبيعة ويسخرها لمصلحته ، وقويا يخضع الناس لسيطرته ، وبليغا يحسن صناعة الكلام والوعظ .. انه خائب خاسر إلا إذا آمن بالله وحلاله وحرامه وناره وجنته ، وانعكس هذا الايمان على أقواله وأفعاله ، وإلا فإن الايمان بلا عمل مجرد فكرة ونظرية .. ولقد قرأت فيما قرأت ان الطيارين الأمريكان الثلاثة الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما في اليابان ، ومات وتشوّه بسببها مئات الألوف ، كان كل واحد منهم يحمل معه نسخة من «الكتاب المقدس» الى جانب قنبلة الفناء والدمار!! وتسأل : أليس قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) يدل بظاهره ان الإنسان خاسر بطبعه ، وان جميع أفراده في الخسر سواء ، وإذ كان الأمر كذلك فلا يصح تقسيم الإنسان الى صالح وطالح وخاسر ورابح لأن ما بالذات لا يتغير؟ وبالتالي فما هو المبرر لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؟.

الجواب ان الله سبحانه لم يحكم على طبيعة الإنسان بالخسر من حيث هو وباعتبار جميع أفراده .. كلا ، وانما حكم عليه باعتبار الأعم الأغلب من أفراده ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). فالإنسان بطبعه لا يعد خاسرا ولا رابحا لأنه من هذه الحيثية يملك الأهلية والاستعداد لهما معا ، فالحكم عليه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وانما يحكم عليه بأحد الوصفين بالنظر الى عقيدته واعماله ، لا بالنظر الى ذاته وطبعه ، فقد أشرنا فيما سبق أكثر من مرة ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل والقدرة على الشر والخير وأمره بهذا ونهاه عن ذلك ، وخلى بينه وبين ما يختار ولم يفرض الدين والعمل عليه فرضا ويخلقهما فيه كما يخلق الكائنات ، ولو فعل لسلخ الانسانية عن الإنسان إذ لا انسانية بلا حرية وإرادة ، وعليه فلا يكون الإنسان خاسرا ولا رابحا إلا باعتبار عقيدته وأعماله ، فقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ


آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) معناه ان الذين لم يؤمنوا أو آمنوا ولم يعملوا هم الخائبون الخاسرون ، أما الذين آمنوا وعملوا فهم الفائزون الرابحون.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). هذا عطف على آمنوا وعملوا ، والمعنى ان الفائزين غدا هم الذين آمنوا بالله وشريعته ، وعملوا بما يمليه هذا الايمان ، وأوصى بعضهم بعضا بالحق والصبر ، وعرّف الشيخ محمد عبده الحق بقوله : «ما ارشد اليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة». وهذا تعريف للحقيقة لا للحق ، والفرق بينهما ان الحقيقة بنت البرهان ، أما الحق فهو قائم بنفسه سواء أدلت عليه البينات أم لم تدل ، فإن كثيرا من الناس يعجزون عن اثبات حقهم بالدليل القاطع والعيان .. وعلى أية حال فإن كل عمل فيه لله رضى وللناس صلاح فهو حق وخير وعدل ، أما الصبر فالمراد به ان نثبت على الحق ، ونقول للمبطل : لا ، مهما كانت النتائج.

والخلاصة ان أعظم ما في الإنسان ، وأهم ما أنعم الله به على الإنسان هو انه تعالى أعطاه القدرة الكافية الوافية على أن يكون ملاكا أو شيطانا ، رابحا أو خاسرا ، وانه ، جلت حكمته ، جعل الحرية له وحده في أن يختار لنفسه ما يشاء من الشقاء والخسران ، والربح والسعادة ، وان الله يعامله بما يختاره لنفسه ربحا أو خسرانا بعد أن هداه النجدين .. وأي فضل أعظم من هذا الفضل ، وعدل أعظم من هذا العدل؟.

سورة الهمزة

٩ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

الإعراب :

ويل مبتدأ ، وصح الابتداء بالنكرة لأنها مفيدة ومعناها الدعاء ، ولكل همزة


خبر ، ولمزة بدل من همزة ، والتاء المضمومة فيهما للمبالغة. والذي جمع مالا بدل من همزة لمزة. وعدّده فعل ماض من العدد. كلا حرف ردع وزجر. ولينبذن اللام في جواب القسم والنون للتوكيد ، والضمير المستتر في الفعل يعود الى كل همزة لمزة جمع مالا وعدّده. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما الحطمة مبتدأ وخبر. ونار خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار. والتي صفة لنار. وموصدة خبر انها. وعليهم متعلق به. وفي عمد متعلق بمحذوف صفة لموصدة. وممددة صفة لعمد.

المعنى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). الويل الخزي والهوان. ويقال : رجل همزة لمزة أي عيّاب مغتاب ، وقيل : الهمز يكون بالعين والشدق واليد ، واللمز باللسان. وسواء أكان الوصفان بمعنى أم بمعنيين فان القاسم المشترك بينهما إيذاء الناس والطعن في أعراضهم بالقول أو بالفعل .. وهذا دأب الوضيع اللئيم الذي يحقد على كل نبيل لا لشيء إلا لشعوره النقص من نفسه ، فيحاول تغطيته بالنيل من كرامة الآخرين. قال الإمام علي : أسوأ الناس من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولا يثق به أحد لسوء فعله. (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ). يجمع المال من حل وحرام ، ويحسبه ويعده آنا بعد آن شغفا به ، وهو الذي حمله ودفعه الى غمز الناس ولمزهم ذاهلا انه عما قليل يفارقه وتبقى عليه تبعته وحسابه.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ). أيظن ان هذا المال الذي جمعه وعدّده يدفع عنه الموت إذا نزل بساحته ، أو ينجيه من حساب الله وعذابه (كَلَّا) ان المال لا يدفع حتفه ، ولا يشفع به عند الله (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). وهي جهنم تحطم وتدمر الطغاة المتغطرسين ، والنبذ يشعر بالازدراء والاحتقار (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) انها فوق التصور (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) هي نار الله لا نار الناس ، ونار الغضب لا نار الحطب (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ). المراد بتطلع هنا العلو والطلوع ، يقال : طلع الجبل وأطلع عليه إذا علاه. وقيل : المراد العلم والمعرفة .. وهذا بعيد عن الفهم العام ، والأفئدة كناية عن ان النار تعلو وتحرق كل عضو من أعضاء المجرمين ، وخص سبحانه الأفئدة بالذكر لأنها موطن الكفر واللؤم (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة لا مفر لهم منها إلا اليها (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) هذا كناية عن شدة الاطباق والأحكام. وتقدم مثله في الآية ٢٠ من سورة البلد.


سورة الفيل

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

الإعراب :

كيف مفعول مطلق لفعل لأن المعنى أيّ فعل فعل ربك. وتر هنا معلقة عن العمل لوجود كيف التي لا يعمل ما قبلها فيما بعدها. وأبابيل صفة للطير ومعناه جماعات. وكعصف الكاف بمعنى مثل وهي مفعول ثان لجعل.

ملخص القصة :

هذه القصة حدثت في عام مولد الرسول الأعظم (ص) واختصارها ان الأحباش بعد أن تغلبوا على اليمن قصدوا مكة مزمعين أن يهدموا الكعبة ، فساروا يتقدمهم فيل أو أكثر حتى وصلوا الى مكان بالقرب من مكة يقال له «المغمّس» فنزلوا فيه ، وأرسل رئيسهم أبرهة ـ كما تسميه الرواة ـ الى قريش من يخبرهم بأنه لم يأت لحربهم ، وانما أتى لهدم البيت ، فإن لم يعرضوا له بحرب فلا حاجة له


بدمائهم .. وما ان همّ أبرهة بهدم البيت حتى أرسل الله عليه وعلى جيشه أسرابا من الطير ترميهم بحصى صغيرة لا تصيب أحدا منهم إلا أصيب بمرض الجدري يتناثر منه اللحم ويتساقط ، فذعر الجيش وصاحبه ، ورحلوا هاربين ، وقد أصيب أبرهة بهذا الداء ، ومات في صنعاء.

وقال الدكتور طه حسين في كتاب «مرآة الإسلام» : «وفي هذه الموقعة أظهر عبد المطلب من الصبر والجلد ، ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش ، ذلك انه قد أشار على قريش ان تخلي مكة ، فسمع له قومه ، وأقام هو بمكة لم يعتزلها ، وانما أقام عند الكعبة يدعو الله ويستنصره. ويقول الرواة : ان الجيش أغار على إبل قريش فاحتازها ، وجاء عبد المطلب الى أبرهة ، ولما دخل عليه لم يكلمه إلا في إبل له ، فصغر في نفس ابرهة ، وقال له : كنت أظن انك تكلمني في شأن مكة وشأن هذا البيت الذي تعظمونه. قال عبد المطلب : إني أكلمك في مالي الذي أملكه ، أما البيت فإن له ربّا يحميه إن شاء. فأرسل الله على ابرهة وجيشه من تلك الطير التي رمتهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول ، وعادت قريش الى مكة ، فازداد إكبارهم لعبد المطلب وشجاعته وثقته وثباته».

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)؟. الخطاب لرسول الله (ص) والاستفهام لتقرير الواقع أي انك تعلم يا محمد ما صنع الله بأصحاب الفيل ، وهم الأحباش الذين أشرنا الى قصتهم ، والقصد من هذا الخطاب هو تسلية الرسول بأن الذي أهلك أصحاب الفيل قادر على إهلاك المكذبين برسالة محمد (ص). (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ). الكيد والمكر بمعنى واحد ، وهو تدبير السوء في الخفاء ، والمراد بالتضليل هنا التضييع ، يقال : ضلل كيده إذا جعله ضائعا ، والمعنى ان الأحباش دبروا السوء لبيت الله الحرام ، ولكن الله سبحانه ضيع كيدهم وخيب سعيهم (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي جماعات ، قال المفسرون والرواة : جاءت طيور صغيرة من جهة البحر فوجا بعد فوج (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)


وهو الطين المتحجر (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ). العصف ورق الشجر سمي بذلك لأن الريح تعصف به إذا قطع ، ومأكول أي كالذي تأكله الدواب.

وقال الشيخ محمد عبده : «فيجوز لك أن تعتقد ان هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بحسد دخل في مسامه ، فأثار تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه».

ويلاحظ بأن قوله : «يجوز لك أن تعتقد ان هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب .. وان هذه الحجارة من الطين المسموم» ان هذا القول يفتقر الى الحجة لأن القطع لا يكون علما وحقا إلا إذا استند الى دليل قاطع أو عيان ومشاهدة على حد تعبير الشيخ محمد عبده ، ولو قال : يجوز لك أن تحتمل لكان أقرب الى الصواب .. أما نحن فنأخذ بظاهر النص كما فعل المسلمون الأولون ما دام العقل لا يأباه.

سورة قريش

٤ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))


الإعراب :

من جعل هذه السورة وسورة الفيل واحدة قال : لإيلاف قريش يتعلق بقوله تعالى : «فجعلهم» ، في آخر السورة السابقة اي ان الله أهلك اصحاب الفيل لتطمئن قريش في بلدها ، ومن جعلها سورة مستقلة قال : لإيلاف قريش يتعلق بفليعبدوا ، او بمحذوف اي اعجبوا لإيلاف قريش. وإيلافهم بدل من إيلاف قريش. ورحلة مفعول إيلافهم. فليعبدوا مجزوم بلام الأمر. والذي أطعمهم صفة لرب هذا البيت.

المعنى :

اختلفوا : هل هذه السورة مستقلة عن سورة الفيل ، او هما سورة واحدة؟ قال الحافظ محمد بن احمد الكلبي في تفسير التسهيل : «ويؤيد القول بأنهما سورة واحدة انهما في مصحف أبي بن كعب كذلك لا فصل بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب». ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية ، وقال صاحب الظلال : «هذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوّها».

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ). الإيلاف هو الإيناس ضد الايحاش ، وقريش اسم لقبائل عربية من ولد النضر بن كنانة ، وفي بعض التفاسير : إن قريشا تصغير قرش ، وهي التجارة ، سمّوا بذلك لأنهم كانوا يتجرون ، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ). كان سكان مكة في القرن السادس للمسيح ثلاث فئات : الأولى قريش ، ولها كل الحقوق. الثانية حلفاء قريش وهم أناس من العرب. الثالثة العبيد الذين لا يملكون شيئا حتى أنفسهم ، وكان لقريش رحلتان للتجارة : إحداهما الى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف ، وكانوا يذهبون في تجارتهم آمنين ، ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بأذى لأنهم سكان مكة وجيران بيت الله الحرام كما قال المفسرون ، أو كما نظن نحن من أن


العرب لا غنى لهم عن الحج إلى مكة ، فإذا تعرضوا لقوافل قريش اقتصوا منهم حين يحجون إلى بلدهم.

ويقول الرواة : ان محمدا (ص) ذهب ذات عام مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام ، وكان في الثانية عشرة من عمره الشريف ، وان عمه لم يكد يبلغ مشارف الشام حتى عاد به مسرعا الى مكة ، لأن راهبا من رهبان النصارى أوصاه بأن يحرزه في مكة من مكر اليهود والنصارى .. وأيضا قال الرواة : ان محمدا (ص) خرج مع عمه الزبير الى اليمن في رحلة الشتاء ، وكان قد جاوز العشرين بقليل .. كان هذا قبل أن يخرج الى الشام بمال خديجة.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الضمير يعود الى قريش ، يأمرهم الله سبحانه بترك الأصنام وعبادة الواحد الأحد (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). يذكّر سبحانه بهذه الآية طغاة قريش الذين عبدوا الأصنام من دون الله ، وكذبوا نبيه الكريم محمدا ، يذكرهم بحادث الفيل كيف أنجاهم من ابرهة وجيشه ولو لا فضله تعالى لكانوا هم العصف المأكول دون أصحاب الفيل. وأيضا يذكرهم تعالى بما أنعم عليهم من الرزق بسبب الرحلتين ولولاهما لهلكوا جوعا لأنهم بواد غير ذي زرع ، وفوق ذلك كله جعلهم آمنين مطمئنين على أموالهم وأرواحهم في حلهم وتر حالهم ، ولو لا فضله عز وجلّ لتخطّفهم الناس من كل مكان .. أبعد هذا كله يعبدون الأصنام ويكفرون بأنعم الله ويتوسلون بسواه ، ويكذبون رسوله العظيم؟ حقا ان الإنسان لظلوم كفار.


سورة الماعون

٧ آيات مكية. وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

الإعراب :

فذلك مبتدأ ، والذي يدع خبر. فويل مبتدأ وللمصلين خبر. الذين هم عن صلاتهم صفة للمصلين. والذين هم يراءون بدل من الذين الأولى.

المعنى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ). أرأيت أي هل علمت؟ والصيغة للاستفهام. ومعناها استنكار ما حدث والخطاب عام للجميع ، لأن هذه السورة بمجموعها تدل بوضوح على التآخي بين الدين والعمل وتعتبره جزءا منه أو لازما لا ينفك عنه ، ومن ثم نفت الدين عن الذي يتصف بالرذائل التالية :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ). والمراد بيدعّه يدفعه عن حقه بعنف أو غير عنف ، أو يهينه ويؤذيه ، أو يتسلط عليه بنحو من الأنحاء ظلما وعدوانا ، والمراد باليتيم كل ضعيف لا يستطيع الذب عن نفسه ، صغيرا كان أم كبيرا. وخص سبحانه اليتيم بالذكر لأنه أضعف من كل ضعيف ، والمعنى كل ظالم هو كافر مكذب بدين


الله ، وإن صلّى وصام لأن دين الله لا تغني فيه المظاهر والشعائر إلا مع التقوى والكف عن المحارم .. أجل ، من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، ولكن حكمه في الآخرة حكم الكافر. أنظر تفسير الآية ٥٥ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٨.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). المراد بالحض هنا التعاون مع الآخرين على الاهتمام بشأن المعوزين والعاطلين عن العمل ، والمراد بالمسكين من لا يملك سببا للرزق وسد الحاجة. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٣٤ من سورة الحاقة والآية ١٨ من سورة الفجر.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ). السهو هنا النسيان ، وهذا غير مراد هنا لأن الناسي غير مسؤول عقلا وشرعا ، قال الرسول الأعظم (ص) : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان». اذن ، لا بد من حمل السهو هنا على معنى آخر غير النسيان ، وقد بيّن سبحانه هذا المعنى الآخر بقوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي لا يعيرون الماعون تقربا الى الله بل يعيرونه رئاء الناس ، ومجمل المعنى ان الساهين عن صلاتهم يصلّون ، ولكن نفاقا وخوفا من الناس لا من الله .. انهم يبدون حسن الظاهر ، ويخفون القبائح والرذائل .. هذا هو شأنهم في جميع أعمالهم ، يتقربون بها الى عباد الله ، ويتباعدون عنه تعالى وعن مرضاته حتى الماعون لا يعيرونه إلا رياء ونفاقا .. وبهذا يتضح ان الله سبحانه ذكر الماعون للتمثيل على ريائهم في كل شيء لا في الصلاة فقط بل بأتفه الأشياء أيضا كإعارة الماعون.


سورة الكوثر

٣ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

الإعراب :

الكوثر مفعول ثان لأعطيناك. ومفعول انحر محذوف أي انحر أضحيتك. و «هو» ضمير فصّل.

المعنى :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ). الكوثر مبالغة في الكثرة ، واختلفوا : ما هو المراد بهذه الكثرة البالغة ، وأقرب الأقوال الى الافهام ما نقله المفسرون عن ابن عباس وسعيد بن جبير من ان المراد بالكوثر هنا جميع نعم الله على رسوله الأعظم لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة التي لا حد ولا حصر لها ، وقيل لسعيد : ان أناسا يقولون : ان الكوثر نهر في الجنة. فقال : «إن هذا النهر من الخير الكثير الذي أعطاه الله لمحمد (ص)» .. ولكن الطغاة المترفين يستخفون بهذا الكوثر ولا يرونه شيئا ، ويقولون عن الرسول الأعظم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ـ ١٢ هود. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). بعد أن ذكّر سبحانه نبيه الكريم بما أعطاه من النعم أمره بالشكر ، وأن تكون صلاته ونسكه لله وحده. وفي رواية ان المراد بالنحر هنا رفع اليدين حذاء الوجه عند استقبال القبلة للصلاة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).


هذه جملة مستأنفة ، والشانئ المبغض من الشنآن بمعنى العداوة ، واختلفوا في المراد من الأبتر ، وأقرب الأقوال ان عدو محمد (ص) هباء لا أثر له ولا ذكر ، أما ذكره (ص) وأثره فباق ببقاء الله ، وأكثر المفسرين على ان أحد المشركين قال : محمد أبتر لا ولد له ، فأخبر سبحانه ان هذا القائل هو الأبتر ، وان كان له أولاد .. ولا مانع من الجمع بين المعنيين.

قال الشيخ محمد عبده : «ان شانئ الرسول (ص) لم يكن يشنؤه لشخصه لأن شخصه كان محببا الى النفوس ، وانما كان الشانئون يشنئون ويمقتون ما جاء به من الهدى .. وممن يشنأ ما جاء به الرسول ، ويدخل فيما يضمه معنى الأبتر أولئك الذين يتركون كتاب الله ، ويتمسكون بالظنون وأقوال غير المعصومين .. ويلصقون البدع بالدين ، فإذا ذكّروا بالقرآن لووا رؤسهم .. فلا عجب ان ترى الغضب الإلهي يتبعهم في كل مكان ، ويقذف بهم من ذلة الى ذلة وهم لا يشعرون بل ويضحكون».

سورة الكافرون

٦ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))


المعنى :

قيل ان قوما من كفار قريش ذهبوا الى النبي (ص) وقالوا له : أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ، ولا ينبغي أن تسفه أحلام قومك ، ولكن نعبد نحن إلهك سنة ، وتعبد أنت آلهتنا سنة ، فنزلت هذه السورة.

وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار؟ فإن قوله (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هو عين قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ولا فرق إلا ان هذه جملة اسمية ، وتلك جملة فعلية ، أما قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فقد أعاده بالحرف الواحد؟.

وأجابوا عن ذلك بأجوبة ، منها ما ذهب اليه صاحب مجمع البيان ، وهو أن المراد بقوله أولا : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي الآن وفي هذه الحال ، وقوله ثانيا : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي في المستقبل ، فالفرق انما هو في الزمان حالا واستقبالا! ويلاحظ بأن كلا منهما يصلح للحال والاستقبال ، والتعليل يحتاج الى دليل.

ومن الأجوبة ما قاله أبو مسلم واختاره الشيخ محمد عبده ، وهو ان «ما» الأولى اسم موصول بمعنى الذي والمراد به نفس المعبود ، و «ما» الثانية مصدرية ، والمراد بها نفس العبادة ، وعليه يكون المعنى معبودي غير معبودكم ، وعبادتي غير عبادتكم ، وأنا لا أعبد معبودكم ولا عبادتكم ، وأنتم كذلك. ويلاحظ بأنه لا عبادة من غير معبود ، وان ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر.

ومنها ان هذا تكرار يفيد التأكيد ، وكلما كانت الحاجة الى التأكيد أشد كان التكرار أحسن ، ولا شيء أحوج الى التأكيد من نفي الشرك بالله ، ومن ثم حسن التأكيد. ونحن على هذا الرأي.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) على حذف ياء المتكلم أي ديني ، والمعنى لكم الكفر والشرك ، ولي الإخلاص والتوحيد ، ولا علاقة لي بكم ولا بما تعبدون ، وأنتم كذلك .. وهذا تهديد ووعيد. ومثله (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ٤١ يونس ج ٢ ص ١٦٢.


سورة النّصر

٣ آيات مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

الإعراب :

جملة يدخلون حال من الناس أي داخلين ورأيت بصرية تعمل في مفعول واحد ، وهو هنا الناس. وأفواجا حال ثانية.

المعنى :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). قال جمهور المفسرين : ان هذه بشارة من الله سبحانه لنبيه الكريم بفتح مكة والنصر على أعداء الله وأعدائه (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً). المراد بدين الله الإسلام ، وأفواجا أي جماعة بعد جماعة ، وزمرة بعد زمرة ، وكان الكثير من أحياء العرب ينتظرون بإسلامهم فتح مكة ، فلما فتحها الله على نبيه عظم أمر الإسلام وانتشر في الجزيرة العربية كلها في أمد قصير ، وخلق الإسلام العرب خلقا جديدا ، فوحّدهم بعد تفرقهم وأعزهم بعد مذلتهم ، وجعلهم في طليعة الأمم وقادتها الى الخير والصلاح.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ). أمر سبحانه نبيه الأكرم بالحمد والتسبيح


بعد رؤية الفتح والنصر شكرا على أنعمه تعالى ، وتنزيها للنفس عن الزهو بالنصر ، والفرحة بالظفر ، وليس من شك ان الغرض من ذلك أن نتخلق بأخلاق القرآن ، ونتعظ بآدابه. قال الإمام علي (ع) : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً). توبة الله على المعصوم معناها الرحمة له والرضوان عنه ، وتوبته على غيره قبولها منه. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١١٧ من سورة التوبة ج ٤ ص ١١٣.

وروي ان النبي قال عند نزول هذه السورة : نعيت إليّ نفسي ، وان ابنته فاطمة عند ما سمعت ذلك منه بكت. فقال لها : لا تبك ، فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت. وكأنّ الرسول (ص) قد أدرك من هذه السورة دنو أجله ، وانتهاء مهمته بعد حصول النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا.

سورة تبّت

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

الإعراب :

تبت فعل ماض ، ويدا فاعل ، وتب أيضا فعل ماض. وما أغنى «ما» نافية


ومثلها ما كسب. وذات لهب صفة لنار. وامرأته مبتدأ وحمالة خبر. وفي جيدها خبر مقدم ، وحبل مبتدأ مؤخر ، ومن مسد متعلق بمحذوف صفة لحبل.

المعنى :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ). التبّ الهلاك ، وتبّت الأولى دعاء عليه بالهلاك والخسران ، وتبّ الثانية إخبار بأنه هالك خاسر لا محالة ، ويدا أبي لهب كناية عن شخصه ، مثل «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» لأن اليد مظهر القوة وأداة العمل ، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هشام ، فهو عم النبي (ص) ولكنه من أشد الناس عداوة له .. قال المفسرون والرواة : ان النبي (ص) صعد في ذات يوم على الصفا ، ونادى بطون قريش فاجتمعوا ومن جملتهم أبو لهب. فقال : أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي تريد الغارة عليكم أكنتم تصدقوني؟. قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا. فقال : انا نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ، تبا لك. فنزلت هذه السورة.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ). لا يغني عنه مال ولا جاه ولا أولاد غداة الحساب والجزاء ، فكل ذلك حجة عليه ، وحسرة له (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ). هذا هو جزاؤه ، ومآله جهنم وساءت مصيرا.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ). امرأة أبي لهب هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وعمة معاوية ، والحطب كناية عن الشر والإثم الذي يقودها الى النار ، فلقد كانت في غاية العداوة لرسول الله (ص) تمشي بالنميمة عليه بين الناس لإطفاء دعوته ، والمناسبة بين النار والحطب واضحة .. هذا ، الى ان العرب يلقبون المفسد النمام بحامل الحطب لأنه يوقد نار الفتنة. وقيل : انها كانت تجمع الشوك وتنثره في طريق الرسول الأعظم (ص) (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ). الجيد العنق ، والمسد الليف .. بعد أن وصفها سبحانه بحمّالة الحطب أعطاها هذه الصورة العجيبة : تشد الحطب على رأسها بطرف من الحبل ، وطرفه الآخر في عنقها ، فكأن الحطب تاج ، والحبل قلادة.


وتسأل : لقد حارب دعوة الرسول وآذاه كثير من طغاة الشرك كعقبة بن أبي معيط وأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وغيرهم ، ومع ذلك لم يصرح القرآن بأسمائهم ، فلما ذا خص أبا لهب بالذكر وأنزل الله فيه هذه السورة دون غيره؟.

وأجاب الشيخ محمد عبده : بأن أبا لهب كان أشهر المعاندين لدعوة الرسول (ص) والممثل الأكبر لهم ، وقد تأثر النبي من حركاته ، ومن ثم خصه الله بالذكر من دونهم. وختم الشيخ محمد عبده تفسير هذه السورة بقوله : من قال لك : لا يجوز ان تستند في حكم من الأحكام الى كتاب الله وسنّة نبيه بالغا ما بلغت من العلم ، بل يجب عليك ان ترجع الى قول فلان ورأي فلان ، من قال لك هذا فهو أبو لهب ، وكل امرأة تمشي بالنميمة والفساد بين الناس فهي حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

سورة الإخلاص

٤ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(٤))

الاعراب :

ضمير هو يعود الى خالق الكون ، كأن سائلا يسأل : من هو الخالق؟ فأجيب هو الله أحد ، فهو مبتدأ أول ، والله مبتدأ ثان وأحد خبره والجملة خبر الأول. الله الصمد مبتدأ وخبر. وهنا سؤال يطلب الجواب ، وهو لماذا


قال : يلد بلا واو ، ويولد بالواو مع ان كلا منهما مضارع مجزوم؟ وأجاب ابن خالويه ـ ت ٣٧٠ ه‍ في كتاب إعراب ثلاثين سورة بأن لم يلد الأصل فيه يولد بكسر اللام ، فلما حلت الواو بين ياء وكسرة حذفت لأن الياء تشبه الكسرة ، فإن حلت الواو بين ياء وفتحة أو ياء وضمة لم تحذف مثل يوطؤ ويوجل. والواو في يولد حالة بين ياء وفتحة لا بين ياء وكسرة ، ولذا لم تحذف. وأحد اسم يكن ، وكفؤا خبرها ، وله متعلق بكفؤ.

المعنى :

أصول الإسلام ثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، ويتفرع عن الأول صفاته تعالى ، وعن الثاني القرآن والشريعة ، وعن الثالث الحساب والجزاء. وهذه السورة الشريفة تقرر الأصل الأول.

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له في شيء ، ولا فعل شيئا لجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه. وتكلمنا مفصلا عن التوحيد ونفي الشريك عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٤ بعنوان «دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة.

(اللهُ الصَّمَدُ). ومعناه في اللغة السيد الذي يلجأ اليه في الحاجات والمهمات ، والمراد به هنا الغني عن كل شيء ، ويفتقر اليه كل شيء لأنه خالق الأشياء ومصدرها.

(لَمْ يَلِدْ). هذا رد على من زعم ان الله ابنا أو بنات. قال علماء الكلام : لو كان لله ولد لكان مركبا ، ولكل مركب نهاية بانحلال أجزائه ، وأصح من هذا وأوضح أن يقال : لو كان لله ولد لكان له شبيه ووارث لأن الولد يشبه والده ويرثه ، ولا شبيه لله ولا وارث. قال الإمام علي (ع) «لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا وهالكا».

(وَلَمْ يُولَدْ). هذا رد على من زعم ان في الوجود آلهة مولودين. ولو كان الإله مولودا لكان حادثا يبتدئ وجوده بتاريخ ولادته. قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : «لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا» أي تكون بداية وجوده من يوم ولادته.


(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) لا في وجوده وذاته ، ولا في صفاته وأفعاله .. وقد راجعت عشرات المصادر ، وأنا أفسر هذه السورة ، من كتاب الأسفار للملا صدرا والمواقف للايجي الى أبسط التفاسير كالبيضاوي ، ودققت فيها طويلا لاختار أفضلها ، فما وجدت أخصر وأصدق وأوضح من قول الإمام الحسين (ع) فقد سأله أهل البصرة عن معنى الصمد؟ فقال : ان الله سبحانه قد فسر الصمد بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). وعلى هذا التفسير المختصر المفيد يسوغ لنا أن نقول : معنى الله أحد : انه الصمد ، ومعنى الصمد انه لم يلد ولم يولد ، ومعنى لم يلد ولم يولد : انه لم يكن له كفوا أحد.

سورة الفلق

٥ آيات مكية وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

المعنى :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ). فلق الشيء أي شقّه ، ويطلق الفلق على الخلق كله ، لأن الله سبحانه نقله من العدم الى الوجود ، فكأنه كان مستورا فكشف عنه ، وأيضا يطلق الفلق على الصبح لأنه يزيل الظلام ويحل مكانه ، وهو المراد


هنا عند أكثر المفسرين ، ويؤيده ما جاء في الآية ٩٦ من سورة الأنعام (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) ومهما يكن فإن الله سبحانه هو رب الصبح والخلق كله .. وقد أمر نبيه الكريم ان يعتصم به (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي من شر كل ذي شر إنسانا كان أم غير انسان .. وما من مخلوق إلا وفيه الأهلية التامة للخير والشر ، قوة موجبة وأخرى سالبة ، ولا شيء في الوجود خير محض بذاته إلا خالق الوجود. أنظر ج ٢ ص ٣٨٤ فقرة «ليس بالإمكان أبدع مما كان» .. وبعد أن أمر سبحانه نبيه الأكرم أن يتعوذ من شر كل ذي شر خص بالذكر ما أشار اليه فيما يلي :

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ). الغاسق هو الليل المظلم ، والوقب هنا الدخول ، والمراد بشرّ الليل ما يحدث فيه من مكروه كتنفيذ الدسائس والمؤامرات ، والسرقة والاغتيالات ، والفسق والفجور ، وما الى ذلك من شر يدبر بليل.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ). ليس المراد بالنفاثات هنا الساحرات أو جماعات السحرة ذكورا وإناثا كما قال كثير من المفسرين .. كلا ، وانما المراد كل مشعوذ محتال يتاجر بالشعارات والمبادئ سواء أنفث في العقد مدعيا تسخير الجن كذبا ونفاقا ، أم لم ينفث .. وخص سبحانه النفاثات بالذكر لأنها مظهر الشعوذة وعنوان النفاق.

وروى الرواة عن عائشة ان يهوديا اسمه لبيد بن الأعصم سحر النبي (ص) وأثّر فيه سحره حتى كان يخيل له ان يفعل الشيء وهو لا يفعله ، وان هذه السورة والتي بعدها نزلت في ذلك!. وهذه الرواية يجب طرحها شرعا وعقلا ، أما عقلا فلأن النبي معصوم لا ينطق إلا بالوحي ، فيستحيل ان يخيل له انه يوحى اليه ولا يوحى اليه ، وأما شرعا فلأن الله سبحانه قد كذّب السحر وأهله حيث قال عز من قائل ، (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ـ الى قوله ـ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ـ ٦٦ طه». وأيضا كذّب المشركين الذين وصفوا النبي بالمسحور : (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ـ ٤٧ الإسراء. أنظر ما كتبناه عن السحر وحكمه في ج ١ ص ١٦٤ وفي ج ٣ ص ٣٧٩ بعنوان «حول السحر».

ومن الطريف ما نقله الشيخ محمد عبده عن كثير من المقلدين على حد تعبيره ، حيث قالوا : لقد صح الخبر بتأثير السحر في نفس رسول الله (ص) ومن أنكر


ذلك فقد أبدع في الدين لأن القرآن قد جاء بصحة السحر ، وعلق الشيخ محمد عبده على ذلك بقوله : فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح الى بدعة عند المقلدين ، ويحتجون بالقرآن الذي نفى السحر على ثبوت السحر وتأثيره في رسول الله تماما كما قال المشركون عنه : انه رجل مسحور.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ). الحاسد هو الذي يتمى زوال النعمة عن أهلها ، وان تكون له من دونهم. وفي الحديث المنافق يحسد ، والمؤمن يغبط أي يتمنى أن يكون له من النعمة مثل ما لأخيه ، ولا يتمنى زوالها عنه .. والحسد من أمهات الكثير من الرذائل كالحقد واللؤم والكذب والغيبة والنميمة والمكر والخداع والسعي بكل سبيل لازالة النعمة عن المحسود ، ومن هنا أمر الله سبحانه نبيه الكريم ان يتعوذ من شر الحاسد ، وبهذا يتضح ان المراد من شره سوء مقاصده وأقواله وأفعاله ، لا نظرات عينيه وإضرارها بالمحسود كما قال أكثر المفسرين .. ومن الطريف ما ذكره بعضهم في تفسيره ان رجلا كان مشهورا بإصابة العين ، حتى كان الناس يستأجرونه لهذه الغاية ، وفي ذات يوم استأجرته امرأة ليحسد عدوا لها ويقتله بعينيه ، وصحبته الى الرجل ، وقالت له : هذا هو فاحسده. فقال لها الحاسد : ما أجمل عينيك! فما أتم كلامه حتى عميت.

سورة النّاس

٦ آيات مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))


الإعراب :

ملك الناس عطف بيان لرب الناس ، ومثله إله الناس. والخناس صفة للوسواس ، ومثله الذي يوسوس.

المعنى :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ). الخطاب للنبي (ص) ، والمراد به الناس لأن النبي لا يلجأ ولن يلجأ إلا الى الله وحده. وكلمة الرب تطلق على المالك والسيد والمنعم ، وكلمة الملك على المهيمن والمتصرف والقادر ويطلق الإله على الخالق والمبدع والمصور والقابض والباسط. والله سبحانه خالق الناس والمنعم عليهم والمتصرف بهم والمدبر لشؤونهم ، فجدير بهم ان يعبدوه ويعتصموا به وحده.

وتسأل : أليس الله خالق كل شيء ، ومالك كل شيء ، فلما ذا خص الناس بالذكر؟

الجواب : لأن الناس هم الذين ارتابوا بخالقهم ، وكفروا بأنعمه واستعانوا بغيره ، أو كانوا أكثر طغيانا من سائر المخلوقات على وجه العموم ، فخصهم سبحانه بالذكر لعلهم يهتدون.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ). الوسواس بفتح الواو اسم مصدر بمعنى الوسوسة ، وهو الصوت الخفي الذي لا يحس ، وبكسر الواو مصدر ، والفرق بين المصدر واسم المصدر ان الأول ينظر اليه نسبة الفعل الى فاعل ، واسم المصدر لا ينظر الى الفاعل بل الى الفعل فقط وبصرف النظر عن الفاعل ، وعلى أية حال فإن المراد بالوسوسة هنا ما يحاك في النفس من الأفكار السوداء التي تصد عن الحق وسبيله .. وما من أحد ينجو من حديث النفس ووسوستها إلا من عصم الله ، وهو سبحانه لا يؤاخد العباد على الوسوسة إلا إذا انعكست على قول أو فعل ، قال الرسول الأعظم (ص) : «لكل قلب وسواس ، فإذا فتق الوسواس حجاب القلب ، ونطق به اللسان أخذ به العبد ، وإذا لم يفتق الحجاب ولم ينطق به


اللسان فلا حرج». (الْخَنَّاسِ) من خنس إذا تأخر وتنحى ، والمراد بهذا الوصف هنا ان الإنسان إذا تنبه للوسوسة الشيطانية ، وتعوذ بالله منها مخلصا ذهبت عنه واختفت.

(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). ظاهر الآية يدل بوضوح ان الموسوس اليه نوع واحد ، وهم الناس فقط ، أما الذي يوحي بالوسوسة فنوعان : أحدهما من الجن والآخر من الانس ، ووسوسة انسيّ لإنسيّ مثله أن يزين له الجريمة ويغريه بها ، وهذا واضح وكثير ، أما كيف يوسوس جنيّ لإنسيّ فالله أعلم .. وقد يكون المراد بوسوسة الجن للانس حديث النفس الذي ينبع من داخلها لا من أقوال الآخرين .. وأيا كان مصدر الوسوسة فإن على العبد أن يلجأ الى ربه ويعتصم به وحده من كل شر سواء أكان من نفسه أم من غيره.

وكان الفراغ من هذا التفسير مساء ١٥ جمادى الآخرة من سنة ١٣٩٠ ه‍ الموافق ١٨ آب سنة ١٩٧٠ م ، وقد استغرق حوالي أربع سنوات من العمل المتواصل ليل نهار.

والحمد لله الذي أعانني على تفسير قرآنه ، وسهّل عليّ توضيح بيانه ، وهو سبحانه وحده المسئول أن يجعلني من المعتصمين بحبله ، ويجعله لي ذخيرة ليوم تذخر له الذخائر ، وتبلى فيه السرائر ، وان يزيدني من فضله وإحسانه .. انه منّان كريم. والصلاة على محمد وآله الطيبين.


الفهرس

سورة الدّخان

انزلناه ف للة مباركة الآية ١ ـ ٩................................................ ٥

يوم تأتي السماء بدخان مبين الآية ١٠ ـ ٢١...................................... ٧

هولاء قوم مجرمون الآية ٢٢ ـ ٢٣................................................ ٩

أهم خير أم قوم تبع الآية ٣٤ ـ ٤٢............................................ ١٢

طعام الأثيم وطعام المتقين الآية ٤٣ ـ ٥٩....................................... ١٤

سورة الجاثية

ان في السموات والأرض لآيات المؤمنين الآية ١ ـ ٦.............................. ١٧

ويل لكل أفاك أثيم الآية ٧ ـ ١٥.............................................. ١٩

أيضا بنو اسرائيل ١٦ ـ ٢٠................................................... ٢٢

ضربت الذلة على إسرائيل بحكم التوراة.......................................... ٢٤

اتخذ إله هواه الآية ٢١ ـ ٢٦.................................................. ٢٦

كل امة تدعى الى كتابها الآية ٢٧ ـ ٣١........................................ ٣٠

اليوم ننساكم الآية ٣٢ ـ ٣٧.................................................. ٣٢

سورة الأحقاف

ابن الدليل ان كنتم صادقين الآية ١ ـ ٦........................................ ٣٧

الوثنية في عصر الفضاء....................................................... ٣٩


أم يقولون أفتراء الآية ٧ ـ ١٢................................................. ٤٠

وحمله وفصاله ثلاثون شهراً الآية ١٣ ـ ١٦...................................... ٤٣

قال لوالديه اف لكما ١٧ ـ ٢٠............................................... ٤٧

هود الآية ٢١ ـ ٢٨.......................................................... ٥٠

الجن يستمعون القرآن الآية ٢٩ ـ ٣٢........................................... ٥٣

أليس هذا بالحق الآية ٣٣ ـ ٣٥............................................... ٥٦

سورة محمّد

وآمنوا بما نزل على محمد الآية ١ ـ ٦............................................ ٥٩

ان تنصروا الله ينصركم الآية ٧ ـ ١٤............................................ ٦٢

الدولة الاسلامية............................................................. ٦٤

صفة الجنة الآية ١٥ ـ ١٩.................................................... ٦٧

طاعة وقول معروف الآية ٢٠ ـ ٢٣............................................ ٧١

أفلا يتدبرون القرآن الآية ٢٤ ـ ٣١............................................ ٧٣

ولا تبطلوا أعمالكم الآية ٣٢ ـ ٣٨............................................. ٧٦

القرآن وسياسة الحرب........................................................ ٧٨

سورة الفتح

انا فتحنا الك الآية ١ ـ ٥..................................................... ٨٢

ويعذب المنافقين الآية ٦ ـ ٩................................................... ٨٥

بيعة الرضوان تحت الشجرة الآية ١٠ ـ ١٤...................................... ٨٦

خلاصة القصة.............................................................. ٨٧

المخلفون من الأعراب......................................................... ٨٩

ذرونا نتبعكم الآية ١٥ ـ ١٧.................................................. ٩١

اذ يبايعونك تحت الشجرة الآية ١٨ ـ ٢٤....................................... ٩٣

وصدوكم عن المسجد الحرام الآية ٢٥ ـ ٢٦...................................... ٩٧

رؤيا الرسول الآية ٢٧ ـ ٢٩................................................... ٩٩

الصحابة والقرآن........................................................... ١٠٢

هل الاثنا عشرية باطنيون.................................................... ١٠٤


سورة الحجرات

لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ١ ـ ٥................................ ١٠٦

ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية ٦........................................... ١٠٨

الله حبب اليكم الايمان الآية ٧ ـ ٨........................................... ١١٠

وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية ٩ ـ ١٠................................... ١١٢

الاخوة الدينية والاخوة الانسانية.............................................. ١١٤

لا يسخر قوم من قوم الآية ١١.............................................. ١١٥

كيف تكسب الأصدقاء.................................................... ١١٦

الظن والتجسس والغيبة الآية ١٢............................................. ١١٨

الظن..................................................................... ١١٨

التجسس................................................................. ١٢٠

الغيبة..................................................................... ١٢١

أكرمكم عند الله أتقاكم الآية ١٣ ـ ١٨...................................... ١٢٢

سورة ق

والقرآن المجيد الآة ١ ـ ١١.................................................. ١٢٧

شبهة الآكل والمأكول....................................................... ١٢٩

أفعيينا بالخلق الأول الآية ١٢ ـ ٢٢........................................... ١٣١

مناع الخير الآية ٢٣ ـ ٣٥................................................... ١٣٣

يوم ينادي المنادي الآية ٣٦ ـ ٤٥............................................ ١٣٧

سورة الذاريات

والذاريات ذرواً الآية ١ ـ ١٤................................................. ١٤١

حق السائل والمحروم الآية ١٥ ـ ٣٠........................................... ١٤٣

الله والمعرفة الحسية.......................................................... ١٤٦

فما خطبكم أيها المرسلون الآية ٣١ ـ ٤٦..................................... ١٥٣

ومن كل شيء خلقنا زوجين الآية ٤٧ ـ ٦٠................................... ١٥٥


سورة الطور

والطور الآية ١ ـ ١٦........................................................ ١٦٠

أهل الحنة الآية ١٧ ـ ٢٨................................................... ١٦٢

لا عذرلمن أنكرنبوة محمد الآية ٢٩ ـ ٤٤...................................... ١٦٥

فذرهم حتى يلاقو يومهم الآية ٤٥ ـ ٤٩...................................... ١٦٩

سورة النّجم

رآه .. عند سدرة المتهي الآية ١ ـ ١٨......................................... ١٧٢

فكان قاب قوسين.......................................................... ١٧٣

الثلاث والعزى ومناة الآية ١٩ ـ ٢٦.......................................... ١٧٦

الظن لا يغني عن الحق الآية ٢٧ ـ ٣٢........................................ ١٧٨

ليس للانسان الا ما سعي الآية ٣٣ ـ ٤١..................................... ١٨١

الى ربك المنتهى الآية ٤٢ ـ ٦٢.............................................. ١٨٣

المادة والحياة............................................................... ١٨٥

سورة القمر

وانشق القمر الآية ١ ـ ٨.................................................... ١٨٨

نوح الآية ٩ ـ ١٧.......................................................... ١٩١

هود وصالح الآية ١٨ ـ ٣٢.................................................. ١٩٣

لوط الآية ٣٣ ـ ٤٤........................................................ ١٩٦

كل شي خلقناه بقدر الآية ٤٣ ـ ٥٥......................................... ١٩٩

كل شيء بمقدار........................................................... ٢٠١

سورة الرّحمن

خلق الانسان علمه البيان الآة ١ ـ ١٣....................................... ٢٠٣

كل يوم هو في شأن الآية ١٤ ـ ٣٠.......................................... ٢٠٦

الله والانيان وابن عربي...................................................... ٢٠٩

لا تنفذون إلا بسلطان الآية ٣١ ـ ٤٥........................................ ٢١٠

هل جزاء الاحسان إلا الاحسان الآية ٤٦ ـ ٧٨............................... ٢١٣

الأجر حق والزيادة تفضل................................................... ٢١٥


سورة الواقعة

اذا وقعت الواقعة الآية ١ ـ ٢٧............................................... ٢١٨

أصحاب اليمين الآية ٢٨ ـ ٤١.............................................. ٢٢١

أصحاب الشمال الآية ٤٢ ـ ٥٧............................................. ٢٢٣

أفرايتم ما ترحثون الآية ٥٨ ـ ٧٥............................................. ٢٢٥

لا يمسه الا المطهرون الآية ٧٦ ـ ٩٦.......................................... ٢٢٩

الإسلام وقادة الفكر الأوروبي................................................ ٢٣٢

سورة الحديد

هو الأول والآخر الآية ١ ـ ٦................................................ ٢٣٧

وانفقوا مما جعلكم خلفاء فيه الآية ٧ ـ ١١..................................... ٢٤٠

باطنة الرحمة وظاهرة العذاب الآية ١٢ ـ ١٥................................... ٢٤٣

ألم يأن للذين آمنوا الآية ١٦ ـ ١٩........................................... ٢٤٧

الحياة الدنيا لعب ولهو الآية ٢٠ ـ ٢٤......................................... ٢٥٠

المصائب وصاحب الظلال................................................... ٢٥٢

الحديد فيه بأس شديد الآية ٢٥ ـ ٢٩........................................ ٢٥٤

سورة المجادلة

الظهار الآية ١ ـ ٤......................................................... ٢٦٣

ملخص القصة............................................................. ٢٦٤

النجوى الآية ٥ ـ ١٠....................................................... ٢٦٦

فاسحوا يفسح الله لكم الآية ١١ ـ ١٣....................................... ٢٧٠

صدر المجلس............................................................... ٢٧٢

اتخذوا ايمانهم جنة الآية ١٤ ـ ١٩............................................. ٢٧٤

لأغلبن انا ورسلي الآية ٢٠ ـ ٢٢............................................. ٢٧٦

سورة الحشر

سبح لله الآية ١ ـ ٥........................................................ ٢٨٠

ملخص قصة بني النضير.................................................... ٢٨١

الدعايات المضللة والوقت المناسب............................................ ٢٨٣


كيلا يكون دولة بين الأغنياء الآية ٦ ـ ٨..................................... ٢٨٤

ويؤثرون على أنفسهم الآية ٩ ـ ١٥.......................................... ٢٨٨

فلما كفرقال اني بريء منك الآية ١٦ ـ ٢٠.................................... ٢٩٢

لو أنزلنا هذا القرآن على جبل الآية ٢١ ـ ٢٤.................................. ٢٩٤

سورة الممتحنة

لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء الآية ١ ـ ٣................................... ٢٩٧

ملخص القصة............................................................. ٢٩٨

اسوة حسنة في ابراهيم الآية ٤ ـ ٧............................................ ٢٩٩

لا نهاکم الله عن الدين لم يقاتلو الآية ٨ ـ ٩.................................. ٣٠٢

الدول الصديقة والمعادية..................................................... ٣٠٣

اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية ١٠ ـ ١١.................................. ٣٠٥

اذا جاءك المؤمنات يبعايعنك الآية ١٢ ـ ١٣................................... ٣٠٨

سورة الصّفّ

كأنهم بنيان مرصوص الآية ١ ـ ٦............................................ ٣١١

تحريف التوراة والإنجيل....................................................... ٣١٤

والله متم نوره الآية ٧ ـ ١٤.................................................. ٣١٦

سورة الجمعة

بحث في الأميين رسولا ١ ـ ٤................................................ ٣٢١

كمثل الحمار يحمل اسفاراً الآية ٥ ـ ٨........................................ ٣٢٣

صلاة الجمعة الآية ٩ ـ ١١.................................................. ٣٢٦

سورة المنافقون

هم العدو فاحذرهم الآية ١ ـ ٦.............................................. ٣٢٩

ليخرجن الأعز منها الأذل الآية ٧ ـ ١١....................................... ٣٣٢

سورة التّغابن

فمنكم كافر ومنكم مؤمن الآية ١ ـ ٦........................................ ٣٣٦


ذلك يوم التغابن الآية ٧ ـ ١٣............................................... ٣٣٨

عداوة الأزواج والأولاد الآية ١٤ ـ ١٨......................................... ٣٤٢

سورة الطّارق

فطلقوهن لعدتهن الآية ١ ـ ٥................................................ ٣٤٦

لينفق ذوسعة الآية ٦ ـ ٧.................................................... ٣٥٣

وكأين من قرية الآية ٨ ـ ١٢................................................. ٣٥٦

سبع سموات ومن الأرض مثلهن............................................... ٣٥٨

سورة التّحريم

لم تحرم ما أحل الله الك الآية ١ ـ ٥.......................................... ٣٦٠

وقودها الناس والحجارة الآية ٦ ـ ٩........................................... ٣٦٤

أمرأة نوح وأمرأة لوط الآية ١٠ ـ ١٢.......................................... ٣٦٧

سورة الملك

تبارك الذي بيده الملك الآية ١ ـ ١١.......................................... ٣٧٣

فامشوا في مناكبها الآية ١٢ ـ ١٩............................................ ٣٧٧

يمشي مكبا على وجهه الآية ٢٠ ـ ٣٠........................................ ٣٨٠

سورة القلم

ما أنت بمجنون الآية ١ ـ ١٦................................................ ٣٨٥

فأصبحت كالصريم الآية ١٧ ـ ٣٣.......................................... ٣٨٩

أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية ٣٤ ـ ٤٣.................................... ٣٩٣

فذوني ومن يكذب الآية ٤٤ ـ ٥٢........................................... ٣٩٦

سورة الحاقّة

الحاقة ما الحاقة الآية ١ ـ ١٨................................................ ٤٠٠

حملة العرش................................................................ ٤٠٤

يا ليتها كانت الفاضية الآية ١٩ ـ ٣٧........................................ ٤٠٥

ما تبصرون وما لا تبصرون الآية ٣٨ ـ ٥٢.................................... ٤٠٨


سورة المعارج

مقداره ٥٠ الف سنة الآية ١ ـ ١٨........................................... ٤١٢

الشيطان والبحث عن الغيب................................................ ٤١٤

من هم المصلون الآية ١٩ ـ ٣٥.............................................. ٤١٦

فذوهم يخوضوا ويلعبوا الآية ٣٦ ـ ٤٤......................................... ٤١٩

سورة نوح

دعوت قومي ليلاً ونهاراً الآية ١ ـ ١٢......................................... ٤٢٣

الايمان والرخاء............................................................. ٤٢٦

خلقكم اطواراً الآية ١٣ ـ ٢٠................................................ ٤٢٨

ولا تذرون وداً وسواعاً الآية ٢١ ـ ٢٨......................................... ٤٢٩

سورة الجنّ

استمع نفر من الجن الآية ١ ـ ٧.............................................. ٤٣٣

وانا لمسنا السماء الآية ٨ ـ ١٧............................................... ٤٣٦

ان المساجد لله الآية ١٨ ـ ٢٨............................................... ٤٤٠

سورة المزّمّل

يا أيها الؤمل الآية ١ ـ ٩.................................................... ٤٤٤

شخصية الرسول الأعظم.................................................... ٤٤٦

واهجرهم هجراً جميلا الآية ١٠ ـ ١٩......................................... ٤٤٨

فاقرأوا ما تيسر من القرآن الآية ٢٠........................................... ٤٥٠

سورة المدّثّر

ا اها المدثر الآية ١ ـ ١٠................................................... ٤٥٤

ذرني ومن خلقت وحيداً الآية ١١ ـ ٣١....................................... ٤٥٧

ملخص القصة............................................................. ٤٥٩

وكنا نخوض مع الخائفين الآية ٣٢ ـ ٥٦....................................... ٤٦٣


سورة القيامة

نسوي بنانه الآية ١ ـ ١٩................................................... ٤٦٨

بل تحبون العاجلة الآية ٢٠ ـ ٤٠............................................. ٤٧١

سورة الإنسان

هل اتى على الانسان الآية ١ ـ ٦............................................ ٤٧٦

ويطعمون الطعام على حبه الآية ٧ ـ ٢٢...................................... ٤٨٠

ان هؤلاء يحبون العاجلة الآية ٢٣ ـ ٣١....................................... ٤٨٤

سورة المرسلات

والمرسلات عرفا لآة ١ ـ ٢٨................................................. ٤٨٨

الى ظل ذي ثلاث شعب الآية ٢٩ ـ ٥٠...................................... ٤٩١

سورة النّبا

عم يتساءلون عن النبأ العظيم ١ ـ ١٦........................................ ٤٩٧

يوم الفصل الآية ١٧ ـ ٣٠.................................................. ٤٩٩

ان للمتقين مفازا الآية ٣١ ـ ٤٠............................................. ٥٠٢

سورة النّازعات

والنازعات غرقا الآية ١ ـ ١٤................................................ ٥٠٥

هل اتاك حديث موسى الآية ١٥ ـ ٣٣....................................... ٥٠٨

الطامة الطبري الآية ٣٤ ـ ٤٦............................................... ٥١١

سورة عبس

عبس وتولى الآية ١ ـ ١٦................................................... ٥١٤

من هو العابس............................................................. ٥١٥

قتل الانسان ما اكفره الآية ١٧ ـ ٤٢......................................... ٥١٨


سورة التّكوير

اذا الشمس كورت الآية ١ ـ ١٤............................................. ٥٢٣

الخنس والكنس الآية ١٥ ـ ٢٩.............................................. ٥٢٥

سورة الانفطار

سورة المطفّفين

ويل للمطففين الآية ١ ـ ١٧................................................. ٥٣٣

ختامه مسك الآية ١٨ ـ ٣٦................................................ ٥٣٦

سورة الانشقاق

اذا السماء انشقت الآية ١ ـ ١٥............................................. ٥٣٩

فلا اقسم بالشفق الآية ١٦ ـ ٢٥............................................ ٥٤١

سورة البروج................................................................. ٥٤٤

سورة الطّارق................................................................ ٥٤٨

سورة الأعلى................................................................ ٥٥١

سورة الغاشية................................................................ ٥٥٥

سورة الفجر................................................................. ٥٥٩

والفجر وليال عشر الآية ١ ـ ١٦............................................. ٥٥٩

وتحبون المال حباً جماً الآية ١٧ ـ ٣٠.......................................... ٥٦٢

سورة البلد.................................................................. ٥٦٥

سورة الشّمس............................................................... ٥٦٩

النفس وتسويتها............................................................ ٥٧٠

سورة الليل.................................................................. ٥٧٣

سورة الضّحى............................................................... ٥٧٧

سورة الانشراح.............................................................. ٥٨٠

سورة التّين.................................................................. ٥٨٣

سورة العلق................................................................. ٥٨٥

المال والطغيان.............................................................. ٥٨٨

سورة القدر................................................................. ٥٩٠


سورة البيّنة.................................................................. ٥٩٣

سورة الزّلزلة................................................................. ٥٩٧

سورة العاديات.............................................................. ٥٩٩

سورة القارعة................................................................ ٦٠٢

سورة التّكاثر................................................................ ٦٠٣

سورة العصر................................................................. ٦٠٥

سورة الهمزة................................................................. ٦٠٧

سورة الفيل.................................................................. ٦٠٩

ملخص القصة............................................................. ٦٠٩

سورة قريش................................................................. ٦١١

سورة الماعون............................................................... ٦١٤

سورة الكوثر................................................................ ٦١٦

سورة الكافرون.............................................................. ٦١٧

سورة النّصر................................................................. ٦١٩

سورة تبّت.................................................................. ٦٢٠

سورة الإخلاص.............................................................. ٦٢٢

سورة الفلق................................................................. ٦٢٤

سورة النّاس................................................................. ٦٢٦

التّفسير الكاشف - ٧

المؤلف:
الصفحات: 639