سورة التوبة



سورة التّوبة

وتسمى أيضا براءة والفاضحة لأنها فضحت أمر المنافقين ، عدد آياتها ١٢٩ ، وهي مدنية.

واتفق الصحابة والقراء على إسقاط البسملة من أولها ، لأن السورة نزلت لرفع الأمان ، والبسملة أمان ، لمكان الرحمن الرحيم ، وقيل : انها والأنفال سورة واحدة.

براء من الله ورسوله الآية ١ ـ ٤ :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))


اللغة :

المراد بالبراءة هنا انقطاع العصمة. والسّيح السير على مهل. والاخزاء الإذلال. والأذان الاعلام.

الإعراب :

براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه براءة. واربعة أشهر ظرف متعلق بفسيحوا. واذان خبر لمبتدأ محذوف أي وهي اذان. ورسوله مبتدأ والخبر محذوف أي ورسوله بريء ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في بريء لأنه اسم فاعل. الا الذين عاهدتم (الذين) منصوب على الاستثناء من المشركين. وشيئا مفعول مطلق.

المعنى :

في العام الثامن للهجرة فتح النبي (ص) مكة ، وفي التاسع نزلت هذه السورة ، وفي العاشر حج النبي حجة الوداع ، وفي الحادي عشر توفي صلى الله عليه وآله. فهذه السورة ليست آخر سورة نزلت من القرآن ، ولكنها من الأواخر ، ولذا تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين المسلمين والمشركين .. قال طه حسين في كتاب «مرآة الإسلام» :

«زاد اقبال العرب على الإسلام بعد الحجة التي حجها ابو بكر سنة تسع ، ففي هذه الحجة أرسل النبي عليا ليلحق بأبي بكر ، ويتلو على الناس قرآنا ، فكان فصلا بين عهدين : عهد كان يقوى الإسلام فيه شيئا فشيئا ، وكان للشرك مع ذلك بقاء في بعض قبائل العرب ، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للإسلام .. وهذا القرآن ـ أي الذي تلاه عليّ على الناس والذي فرّق الله به بين هذين العهدين ـ هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة ، فأعلن فيها براءة الله ورسوله من المشركين وحرم فيها أن يقرب المشركون البيت ، أو يلموا به ، او يطوف به عريان».


(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قدمنا ان هذه السورة نزلت في العام التالي للفتح ، حيث عظم أمر الإسلام ، وانتشر في الجزيرة العربية كلها ، وكانت له الكلمة العليا ، ومع ذلك بقي للشرك جيوب في بعض قبائل العرب ، وكيلا تكون هذه الجيوب طابورا خامسا في المجتمع الاسلامي أمر الله نبيه ـ في هذه السورة ـ أن يعلن البراءة من المشركين ، وبالأصح أن ينذر بالحرب كل مشرك يقيم في الجزيرة العربية ، حتى يقول : لا إله إلا الله ، ويدخل فيما دخل فيه الناس. ويشمل هذا الانذار جميع المشركين ، حتى الذين عاهدهم النبي (ص) على الهدنة والمسالمة إلا في حال واحدة أشار اليها سبحانه بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) ويأتي التفسير.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ). فسيحوا أي قولوا أيها المسلمون للمشركين : سيروا في الأرض آمنين طوال هذه المدة .. بعد إعلان الحرب على المشركين أمهلهم الله سبحانه أربعة أشهر يتنقلون فيها آمنين ، حيث يشاءون لا يمسهم أحد بسوء ، فإن أسلموا بعدها فقد سلموا ، وفازوا دنيا وآخرة ، وان أصروا على الشرك فجزاؤهم القتل في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، ولن يجدوا من ذلك مهربا.

وتسأل : ان قتال المشرك ، حتى ينطق بكلمة التوحيد لا يتفق مع قوله تعالى في الآية ٢٥٦ من سورة البقرة : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) وقوله في الآية ٩٩ من سورة يونس : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) .. ان الإسلام دين السلم لا دين الحرب؟.

الجواب : أجل ، ان الإسلام لا يكره أحدا على قول لا إله الا الله ، وانما يدعو اليه بالحكمة والدليل : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ ٢٩ الكهف». ولكن قد تستدعي مصلحة المجتمع الاسلامي في ظروف خاصة ان لا يكون فيه مشركون ، لأنهم يسعون في الأرض فسادا .. وفي هذه الحال يجوز للمسلمين أن يكرهوا المشركين على النطق بكلمة التوحيد .. ومشركو الجزيرة العربية كانوا آنذاك طابورا خامسا في المجتمع الاسلامي الجديد. ومن أجل


هذا كان الحكم فيهم القتل أو اظهار الإسلام ، وبه يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم. وبكلمة ان الحكم خاص بمشركي الجزيرة آنذاك ، لسبب خاص ، وتقدم الكلام عن ذلك في ج ١ ص ٣٩٦ عند تفسير الآية ٢٥٦ من سورة البقرة.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ، أي العاشر من ذي الحجة ، وكان ابتداء الأشهر الأربعة بهذا اليوم من سنة تسع للهجرة ، وانتهاؤها في عاشر ربيع الآخر من سنة عشر ، وبعد هذه المهلة تعين مصير المشركين في الجزيرة العربية الإسلام أو القتل ، والخيار لهم بين هذين ، لأن الأوضاع في الجزيرة آنذاك كانت تستدعي ذلك كما أشرنا.

وذكر المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي وابو حيان الأندلسي : انه لما نزلت سورة التوبة امر النبي (ص) عليا ان يذهب الى اهل الموسم في مكة ليقرأها عليهم ، فقيل له : لو بعثت بها أبا بكر. فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني. وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة ، وقال : ايها الناس اني رسول رسول الله إليكم ، وتلا الآيات.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). بعد أن امر نبيه ان يمهل المشركين اربعة أشهر ، حتى الذين نقضوا عهد المسلمين وغدروا بهم ـ بعد هذا استثنى سبحانه من المشركين قوما كان بينهم وبين المسلمين عهد المهادنة والمسالمة إلى أمد ، وحافظوا على هذا العهد ، ولم يغدروا ويخونوا ، استثنى هؤلاء ، ولم يمهلهم اربعة أشهر فقط ، بل امهلهم الى مدتهم ، مهما بلغت جزاء على وفائهم. وقال كثير من المفسرين «ان هؤلاء المشركين الأوفياء هم قوم من كنانة ، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، فأتم النبي (ص) لهم العهد.

وتدل هذه الآية على ان المعاهد لا يجب عليه الوفاء بالعهد إلا إذا وفي به الطرف الآخر نصا وفحوى ، فان اخل بشيء منه يعدّ خائنا وناقضا له ، ولا عهد لمن خان العهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وهم الذين يتقون نقض العهد ؛ وسائر المفاسد.


فاذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ٥ ـ ٨ :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

اللغة :

انسلاخ الأشهر انقضاؤها. والحصر المنع من الخروج. والمراد بالمرصد هنا الممر والمجاز الذي يرصد فيه. وظهر عليه غلبه وظفر به. والمراد بالمراقبة هنا المحافظة. والإلّ الجوار وقيل القرابة. والذمة والذمام العهد.

الإعراب :

كل مرصد منصوب على الظرفية متعلقا باقعدوا ، تماما كالصراط في قوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم. وأحد فاعل فعل محذوف دل عليه ما بعده ، أي


وان استجارك أحد من المشركين استجارك. كيف يكون (كيف) خبر كان ، وعهد اسمها. فما استقاموا لكم (ما) مصدرية ظرفية ، والظرف متعلق بفاستقيموا لهم ، والتقدير فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. وكيف وإن (كيف) خبر كان محذوفة هي واسمها أي كيف يكون لهم عهد. وإلا مفعول يرقبوا.

المعنى :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). وجدتموهم ادركتموهم ، وخذوهم ائسروهم ، واحصروهم احبسوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد راقبوهم وترصدوهم في كل طريق يمرون به ، ولا تدعوا أحدا يفلت منهم. أما الأشهر الحرم فقد ذكرنا عند تفسير الآية ١٩٤ من سورة البقرة : ان الله حرّم القتال في أربعة أشهر : ذي القعدة ، وذي الحجة ، والمحرم ، ورجب. وهذه الأشهر غير مرادة هنا ، وانما المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية الأشهر الأربعة التي حرّم الله فيها قتال مشركي الجزيرة العربية ، وأباح لهم طوال هذه المدة ان يسيحوا في الأرض آمنين ابتداء من عاشر ذي الحجة سنة ٩ ه‍ الى عاشر ربيع الآخر سنة ١٠ ه‍ ، وبعدها أمر المسلمين بقتل المشركين وأسرهم وحبسهم وملاحقتهم انّى اتجهوا إذا لم يسلموا او يهاجروا من الجزيرة قبل انتهاء المدة اتقاء لشرّهم وفسادهم.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي ان أظهروا الإسلام قبل انقضاء الأجل المضروب لهم ، وأقاموا الشعائر الاسلامية وأهمها اقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ان فعلوا ذلك فهم في أمن وأمان يجري عليهم ما يجري على المسلمين ، دون تفاوت.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ). ان اي مشرك ممن يجوز قتله إذا استجار وطلب الأمان من المسلمين فعليهم ان يجيروه ويعطوه الأمان على نفسه وماله ، وان يدعوه إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، فان قبل جرت عليه أحكام المسلمين ، وان رفض فلا يحل قتله ، ويجب


أن يوصله المسلمون إلى مكان يأمن فيه على نفسه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) ذلك اشارة إلى اجارة المسلم للمشرك ، وإسماعه كلام الله ، وإبلاغه مأمنه ، وقوله : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) بيان للسبب ، وهو جهل المشركين المستجيرين بالإسلام وحقيقته.

وأفتى الفقهاء بأن للمسلم ان يؤمّن حين القتال آحادا من المشركين المقاتلين شريطة عدم المفسدة في الأمان بأن لا يكون المستجير جاسوسا ، ولا يتعطل الجهاد والقتال بأمانه.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ). هذه الآية مكملة للآية الأولى والرابعة من هذه السورة ، فقد أوجب سبحانه في الآية الأولى نقض العهد مع المشركين الذين خانوه ولم يفوا به ، وهؤلاء الناكثون هم المعنيون بقوله تعالى هنا : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ). وأوجب سبحانه في الآية الرابعة الوفاء بعهد المشركين الذين وفوا بالعهد ولم ينقصوا منه شيئا ، وهم قوم من كنانة كما أشرنا ، وهؤلاء الأوفياء هم المعنيون بالاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). أي ابقوا معهم على عهد المهادنة والمسالمة ما بقوا عليه ، لأن الله يكره أهل الخيانة والغدر ، ويحب الأوفياء والأتقياء ، وقوله : عند المسجد الحرام يشير الى المكان الذي تم فيه الاتفاق مع كنانة ، لأن النبي (ص) عاهدهم مع من عاهد في الحديبية ، وهي قريبة من مكة المكرمة.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ). ضمير يظهروا ويرقبوا يعود الى الناكثين ، وقد وصفهم عظمت صفاته أولا باللؤم والشراسة ، لأنهم لو قدروا على المسلمين لفعلوا بهم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد ولا لانسانية ، ووصفهم ثانية بالنفاق وانهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وثالثا وصفهم بالفسق ، وكل صفة من هذه الثلاث تقضي عليهم بأشد العقوبات ، وبإسقاطهم من جميع حقوق الانسانية ، لا من حق الوفاء لهم بالعهد فقط ، فكيف إذا اتصفوا بالرذائل الثلاث مجتمعة! وتسأل : ان الكفار كلهم فاسقون ، لأن الكفر فسق وزيادة ، فكيف استثنى سبحانه البعض بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)؟.


الجواب : ان معنى قوله (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ). ان اكثرية الكفار يستمرون على الكفر والفسق ولا ترجى هدايتهم بحال ، وقليل منهم من يرجع عن غيّه ، وعلى هذا يكون المراد بالفسق هنا الاستمرار عليه وعدم الرجوع عنه ، وهذا النوع من التعبير كثير في القرآن الكريم.

اشتروا بآيات الله الآية ٩ ـ ١٥ :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))


الإعراب :

ساء فعل ماض ، وما مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل لساء أي ساء عملهم. وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم. وأول مرة منصوب على الظرف متعلقا ببدءوكم. والمصدر المنسبك من ان تخشوه مجرور بحرف جر محذوف ، والمجرور متعلق بأحق أي فالله أحق بالخشية. ويعذبهم مجزوم جوابا للأمر ، وهو قاتلوهم. ويتوب بالرفع ، لأن الكلام مستأنف ، ولا يجوز عطف يتوب على يعذبهم لأن قبول التوبة ليست جوابا للقتال كالتعذيب والخزي.

المعنى :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). الضمير يعود الى المشركين الذين أمر الله بقتلهم ، والمعنى ان هؤلاء رفضوا الإسلام وحاربوه وصدوا عنه خوفا على مصالحهم التي آثروها على ما جاءهم من آيات الله وبيناته .. ولا تختص هذه الآية بالمشركين وأهل الكتاب ، بل تشمل الذين يحرفوّن الدين وفقا لاهواء المستعمرين والمستغلين ، وسبق نظير هذه الآية في سورة آل عمران الآية ١٨٧ ج ٢ ص ٢٢٦.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ). وتسأل : ان هذه الآية نظير الآية السابقة ٨ ، وهي (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فلما ذا أعاد؟.

الجواب : خاطب الله سبحانه في الآية السابقة صحابة النبي (ص) ، وقال لهم : لو ظفر المشركون بكم لفعلوا الأعاجيب .. وربما توهم متوهم ان المشركين يضمرون الحقد والعداء للنبي والصحابة بالخصوص ، أي لأشخاصهم فقط ، فدفع سبحانه هذا التوهم بأن عداء المشركين للمسلمين آنذاك هو عداء مبدأي لا شخصي ، انه عداء الكفر للايمان ، والباطل للحق : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ـ ٨ البروج».

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ


لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). تتفق هذه الآية مع الآية الخامسة من هذه السورة في فعل الشرط ، وهو (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) وتفترق في جواب الشرط ، فالجواب في السابقة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي دعوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بسوء ، والجواب في هذه الآية (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) اي أنتم وهم سواء في الحقوق ، لا سيد ومسود ، وآكل ومأكول ، كما كانت الحال بين المشركين. ومع الاختلاف في جواب الشرط ينتفي التكرار ، على ان التكرار في القرآن غير عزيز.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). الايمان بفتح الهمزة العهود والمواثيق ، والإمام هو السيد والقائد ، وعبّر سبحانه عن قتال أهل الكفر بقتال أئمتهم لأنهم هم الذين يقودونهم إلى الحرب ، وينكثون العهد ، ويطعنون ويجرّؤون أتباعهم على الطعن في النبي والقرآن ، وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) يشير إلى ان القصد من القتال هو ردع المشركين عن الإصرار على قتال المسلمين : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) ـ ٢١٧ البقرة».

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ألا أداة طلب مثل هلا ، والخطاب موجه للمسلمين ، وضمير نكثوا وهموا وبدأوا عائد الى كفار قريش لأنهم عاهدوا رسول الله (ص) على ترك القتال عشر سنين ، يأمن فيها الفريقان على أنفسهم وحلفائهم ، وكان ذلك سنة ست للهجرة ولكنهم لم يلبثوا ان نكثوا العهد ، وايضا هم الذين هموا بقتل الرسول حتى اضطروه إلى الهجرة ، وهم الذين بدأوا القتال يوم بدر.

وبعد ان ذكّر سبحانه المسلمين بما فعل المشركون من نكث العهد ، وإخراج الرسول وبدء القتال ـ حثهم على الجهاد والقتال ، حيث لا رادع سواه ، ثم أذهب سبحانه الخوف من قلوب المسلمين بقوله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يشير إلى ان الخوف من الله حقا وواقعا لا يكون ولن يكون إلا ممن يؤمن بالله حقا وواقعا ، اما غيره فإنه لا يخاف الله إطلاقا ، وان خافه فخوفه خيال عابر. قال الإمام علي (ع) : «كل خوف محقق إلا خوف الله فانه معلول» اي ان خوف الإنسان من غير الله له واقع


ملموس ، أما خوفه من الله فلا واقع له ، وانما هو مجرد خيال يعبر ويزول بأدنى شاغل.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ). هذه الأوصاف تناسب فتح مكة ، لأن الله أذل واخزى به صناديد قريش ، ونصر المسلمين ، وشفى صدور المؤمنين الذين استضعفهم جبابرة الشرك قبل الهجرة ، وأذاقوهم ألوانا من العذاب والتنكيل.

(وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). كانت مكة عاصمة الحجاز ، ومركز كل نشاط في الجزيرة العربية ، وكان سادتها يشهرون سيف البغي والإرهاب على كل من تحدثه نفسه بالانضمام إلى محمد (ص) ، وبعد أن فتحها انتشرت عليها ظلال الإسلام واستسلم أولئك السادة الطغاة ، بل ان بعضهم أسلم طوعا ، لا خوفا ، وظاهرا وواقعا ، وهؤلاء هم الذين تاب الله عليهم ، وأثابهم على إخلاصهم وصدق ايمانهم.

وبعد ، فإن كل حكم تضمنته هذه الآيات فهو خاص بمشركي العرب آنذاك ، لأنهم هم الذين أخرجوا الرسول (ص) وحاربوه وخانوا عهده .. وعلى افتراض انها توجب جهاد المشركين في كل زمان ومكان : فإن هذا الجهاد لا يجوز إلا بقيادة دولة اسلامية برئاسة المعصوم أو من ينوب عنه .. فأين هي الآن؟. وقد دعا اليها من دعا ، وألّف حزبا من أجلها بزعمه ، ثم تبين انه عميل ، فحوكم على عمالته وخيانته للأمة والوطن ، وتخلى عنه من خدع به من المغفلين ، ولم يعرف أين مكانه الآن .. أجل ، ان جهاد الإنسان ودفاعه عن حريته وماله ووطنه لا يتوقف على وجود دولة اسلامية ، ولا يحتاج إلى الإذن من المعصوم ، وغير المعصوم ، لأن الدفاع عن النفس والوطن ، ونضال المستعمرين والمستثمرين حق تقدسه جميع الشرائع والقوانين ، وأشرنا الى ذلك في ج ١ ص ٢٩٩ وج ٢ ص ٩٠ ، وعند تفسير الآية ٤٩ من الأنفال ، فقرة : هل الفدائيون مخربون؟.


أم حسبتو ان تتركوا الآية ١٦ ـ ١٨ :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

اللغة :

وليجة الرجل خاصته وبطانته من دون الناس ، والمراد بها هنا بطانة السوء وتعلق على الواحد والكثير.

الإعراب :

قال الطبرسي : أم حسبتم معطوف على قوله : الا تقاتلون في الآية ١٣. وشاهدين حال من فاعل يعمروا. وفي النار متعلق بخالدون ، وفيه تقديم ، والأصل وهم خالدون في النار.

المعنى :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ). تقدم تفسيره في ج ٢ ص ١٦٥ الآية ١٤٢ من سورة آل عمران.


(وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً). أفضل الطاعات عند الله جهاد المبطلين أعداء الحق والانسانية ، وإلى هذا الجهاد أشار بقوله سبحانه : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ). وأكبر المعاصي الركون اليهم ، واليه أشار تعالى بقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ ...) الخ) ، وكل من يلجأ الى أهل البغي والعدوان ويربط مصلحته بمصالحهم فهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ، وعلى كل مخلص أن يشهر به ، ويكشف عن دوره في التخريب والعمالة ، ليميز الناس بينه وبين المكافح الأمين ، ويضعوا كلا في المكان الذي يستحقه. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). أجل ، انه خبير عليم ، ولكنه لا يعاقب أحدا على ما يعلم منه ، بل على ما تكشف عنه بفعله وسلوكه.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ). جاء في كتب اللغة. يقال : عمر المنزل بأهله أي صار مسكونا بهم ، وعمر فلان ربه أي عبده. وشاع على ألسنة الناس : المساجد عامرة بذكر الله. وفي الحديث : «قال الله : بيوتي في الأرض المساجد ، وان زواري فيها عمارها». وعلى هذا المعنى يحمل قوله تعالى : (يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) أي ليس للمشركين أن يدخلوها ، ويقيموا فيها عبادتهم الوثنية ، كما كانوا يفعلون أيام الجاهلية ، وبالأولى أن لا يكون لهم التولية عليها ، ويؤيد ارادة هذا المعنى قوله تعالى : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) لأن عبادتهم الأصنام ودعاءهم اللات والعزّى شهادة من أنفسهم على أنفسهم بأنهم كافرون بالله ، ومن كفر بالله لا يحق له ان يدخل بيوت الله (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأن الله لا يقبل مع الشرك عملا (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لأن الشرك أحبط جميع أعمالهم ، حتى ما كان حسنا لولا الشرك.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ). أي لا يجوز لأحد أن يدخل المساجد ويتعبد فيها أو يتولى شيئا من أمورها إلا إذا اجتمعت فيه هذه الصفات ، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر ، وإقامة الشعائر الدينية ، وأهمها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والخوف من الله أي الإخلاص له في الأقوال والأفعال (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) إلى الحق والعمل به ، وكلمة عسى من الله تفيد اليقين ، لأن الشك محال عليه.


سقاية الحاج الآية ١٩ ـ ٢٢ :

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

اللغة :

تطلق السقاية على الآلة تتخذ لسقي الماء ، وايضا تطلق على سقي الناس الماء ، وهذا المعنى هو المراد هنا.

الإعراب :

سقاية الحاج على حذف مضاف اي اصحاب سقاية الحاج. ودرجة تمييز ، وخالدين حال من الضمير في لهم.

المعنى :

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ). المراد بسقاية الحاجّ سقي الناس الماء في الحجّ ، وبعمارة المسجد


هنا خدمته. وجاء في اكثر التفاسير ، ومنها تفسير الطبري والرازي والنيسابوري والسيوطي :

«ان العباس بن عبد المطلب كان يسقي الناس في الحجّ ، وان طلحة بن شيبة من بني عبد الدار كان يحمل مفتاح الكعبة ، فقال طلحة : انا صاحب البيت معي مفتاحه ، وقال العباس : انا صاحب السقاية ، فقال علي بن أبي طالب : لا ادري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وانا صاحب الجهاد. فأنزل الله أجعلتم سقاية الحاج الخ».

فعلي هو المقصود بقوله تعالى : (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا هو ميزان الفضل عند الله : الايمان به والجهاد في سبيله ، اما الوظائف والمناصب فكثيرا ما قادت أصحابها إلى المفاسد والمهالك (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) في الجزاء والثواب (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد ان دعاهم إلى الهدى ، فرفضوا بسوء اختيارهم.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). واين تقع سقاية الحاج وعمارة المسجد من الايمان والهجرة والجهاد ، ومرّ نظير هذه الآية في سورة الأنفال الآية ٧٢. وكلمة أعظم هنا لا تعني المفاضلة ، وإنما تعني مجرد ثبوت الفضل للمؤمنين ، لأن الكافرين لا شيء لهم عند الله من الدرجات.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). قال صاحب (البحر المحيط) : «اتصف المؤمنون بصفات ثلاث : الايمان والهجرة والجهاد فقابلهم الله بثلاث : الرحمة والرضوان والجنان.» وأطال الرازي الكلام في بيان الفرق بين هذه الأوصاف .. اما نحن فنرى انها هي والفوز والأجر تعبّر عن معنى واحد ، وهو ان المؤمنين العاملين هم في رعاية الله وامانه ، وكلمة رضوان الله تغني عن الجميع: «ورضوان من الله اكبر» ولكنه جل شأنه أراد التعظيم من شأنهم ، وترغيب عباده في الايمان والعمل الصالح.


لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء الآية ٢٣ ـ ٢٤ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

اللغة :

استحب وأحب بمعنى واحد ، مثل استجاب وأجاب. والاقتراف هنا الاكتساب. والتربص الانتظار. والمراد بأمر الله هنا عقوبته.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ). المراد بالولاية هنا النصرة. لقد امر الإسلام بصلة الرحم ، وحث عليها ، واعتبر عقوق الوالدين من الكبائر ، واوصى بالجار ، وبالوفاء للأصدقاء وبكل عقد وعهد ، وأباح للمسلمين ان يبروا ويقسطوا إلى المشركين ، كل أولاء جائز على شريطة ان لا تحرّم حلالا ، او تحلل حراما ، فإذا وقف الأب في جانب الباطل ـ مثلا ـ فلا يجوز للابن ان يناصره في موقفه هذا ، بل عليه أن يقاومه ويردعه ان استطاع ، فقوله تعالى : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى


الْإِيمانِ). يشمل كل معصية بطبيعة الحال ، فإذا كان أبوك او أخوك مسلما ، وظلم سواه فعليك ان تنصر المظلوم على الظالم ، وان كان أباك او أخاك (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). جاء في الحديث : «العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء». وبكلمة ان الحق فوق القرابة والصداقة.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). قيل : نزلت هذه الآية في حادثة خاصة ، وقد يكون هذا حقا ، ولكن لفظها عام ، وكذلك حكمها ، فهي تحدد المؤمن بحد واضح ودقيق ، فمن آثر الحق على مصلحته الخاصة عند صراعهما واصطدامهما فهو مؤمن وطيب ، ومن آثر مصلحته على الحق فهو منافق وخبيث .. هذا هو مفترق الطريق بين المؤمن وغير المؤمن ، كما حددته الآية ، وما جاء فيها من ذكر الأرحام والأموال والمساكن انما ذكر على سبيل المثال لمن قدم منفعته على الحق الذي عبر عنه تعالى بحب الله ورسوله ، وإلا فإن هناك منافع اخرى كالحرص على الحياة ، وحب الجاه والسلطان ، وما اليهما.

والإنسان بفطرته يحب نفسه واهله وأمواله ، والدين لا يأبى ذلك ، ولا يحجر على احد ان يستمتع بما يشاء ، ويحب من يريد ، شريطة أن يتقي الله في هذا الاستمتاع والحب ، وان يكون على حساب جهوده ، لا على حساب الآخرين .. فعن البخاري ان عمر بن الخطاب قال للنبي (ص) : «لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي ، فقال النبي (ص) : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب اليك من نفسك التي بين جنبيك». ولا معنى لحب النبي (ص) الا طاعته والعمل بشريعته. وتكلمنا عن هذا الموضوع في ج ٢ ص ٤٥٧ عند تفسير الآية ١٣٥ من سورة النساء.

لقد نصركم الله الآية ٢٥ ـ ٢٧ :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ


فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

اللغة :

مواطن جمع موطن ، وهو مقر الإنسان ومحل إقامته ، واستوطن بالمكان اتخذه موطنا. وحنين واد بين مكة والطائف. والرحبة السعة. والسكينة الطمأنينة.

الإعراب :

مواطن ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل. ويوم معطوف على محل مواطن ، لأن كل مجرور لفظا فهو منصوب محلا ، أي ونصركم يوم حنين. وإذ بدل من يوم. بما رحبت ما مصدرية ، والمصدر المنسبك مجرور بالباء متعلقا بمحذوف حالا من الأرض ، والباء هنا بمعنى مع. ومدبرين حال من الضمير في وليتم.

قصة حنين :

حنين واد بين مكة والطائف ، وتسمى غزوته بغزوة حنين ، وغزوة أو طاس وغزوة هوازن ، وكانت في شوال سنة ثمان للهجرة.

لما فتح النبي (ص) مكة خافته هوازن وثقيف ، فجمعوا لحربه الألوف ، وبلغ رسول الله ما أجمعوا عليه ، فتهيأ للقائهم باثني عشر ألف رجل ، عشرة من


أصحابه الذين فتح بهم مكة ، وألفان من الطلقاء ، ومنهم ابو سفيان وابنه معاوية. وتوجه النبي (ص) إلى هوازن ، وكان طريقه على وادي حنين ، وكان ضيقا منحدرا ، وكان جيش العدو قد سبقهم إلى احتلال مضايقه ، وكمن فيها ، وما ان وصل المسلمون الى قلب الوادي ، حتى أمطرهم العدو بوابل من سهامه ، فانهزم الناس ، وأولهم ابو سفيان. قال الشيخ الغزالي في فقه السيرة : «وعاد إلى بعضهم كفره بالله ورسوله ، فقال ابو سفيان : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، ولا عجب فإن الأزلام التي كان يستقسم بها في جاهليته لا تزال في كنانته».

وثبت مع رسول الله علي شاهرا سيفه بين يدي رسول الله (ص) والعباس آخذا بلجام بغلته ، والفضل بن العباس عن يمين النبي ، والمغيرة بن الحارث بن عبد المطلب وزيد بن أسامة ، وأيمن بن ام أيمن ، وقتل بين يدي الرسول (ص). وحين رأى المشركون انهزام المسلمين خرجوا من شعاب الوادي ، وقصدوا رسول الله ، فقال لعمه العباس ، وكان جهوري الصوت : ناد القوم ، وذكرهم العهد ، فنادى بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة اين تفرون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله ، فلما سمع الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم ، وهم يقولون : لبيك ، لبيك فاستقبل بهم النبي الاعداء واقتتل الفريقان قتالا شديدا.

وكان حامل راية المشركين وطليعتهم رجل يدعى أبا جرول ، فكان يكر على المسلمين وينال منهم ، فبرز له علي بن أبي طالب وقتله ، وبقتله تفرقت جموع المشركين ، وتم النصر للنبي والمؤمنين ، ولما علم الطلقاء بانتصار المسلمين وكثرة الغنائم رجعوا إلى رسول الله. وفي تفسير البحر المحيط ان الطلقاء فروا وقصدوا بذلك إلقاء الهزيمة في المؤمنين. وقال الشرقاوي في كتاب (محمد رسول الحرية) : «إن ألفين من قريش ، على رأسهم ابو سفيان أسلموا خوفا أو طمعا قد جاءوا اليوم لا لينصروا الإسلام ، بل ليخذلوه ، وليشيعوا الانهزام بين المجاهدين القدماء!!».

وهكذا المنافقون والانتهازيون يتظاهرون بالإخلاص ، ويندسون في صفوف الأحرار يدبرون المؤامرات ، فان نجحت بلغوا ما يريدون ، وان نجح الأحرار


قالوا لهم : نحن وأنتم شركاء. وتقدم الكلام عن هؤلاء في ج ٢ ص ٤٦٦.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) منها وقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قال الرازي : «ان رجلا من المسلمين قال : لن نغلب اليوم من قلة ، فساء ذلك رسول الله (ص) ، وقيل : انه هو قالها ، وقيل : قالها أبو بكر ، واسناد هذه الكلمة إلى الرسول بعيد».

(فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). فمن الاعجاب بالكثرة إلى ابشع الهزائم التي لم يجدوا معها في الأرض مكانا ينجيهم من عدوهم ، وهذه نهاية كل من تاه بغروره ، واستهان بعدوه.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) السكينة الثقة والاطمئنان ، ومعنى إنزالها على النبي (ص) بقاؤه ثابتا في قلب المعركة ساكن الجأش ، شديد البأس يدبر الأمر ويحكمه على الرغم من فرار جيشه الذي بلغ ١٢ ألفا إلا نفرا لا يتجاوزون العشرة ، وجيش العدو يعد بالألوف .. قال الرواة : كان النبي يدفع ببغلته نحو العدو ولا يبالي ، وهو ينادي المنهزمين ، ويقول : إلي عباد الله أنا رسول الله أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .. والمؤمنون الذين أنزل الله سكينته عليهم هم الذين ثبتوا مع رسول الله ولم يفروا عنه ، والذين عادوا إلى المعركة بعد الهزيمة ، واستجابوا لنداء النبي مخلصين ، ومعنى إنزال السكينة عليهم تسكين قلوبهم ، وإزالة الخوف والرعب منها.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال الرازي : «لا خلاف ان المراد إنزال الملائكة». أما نحن فنعتقد ان لله جنودا من الملائكة وغير الملائكة لا تحصى أنواعها فكيف أفرادها!. ومن تلك الأنواع قوى النفس وغرائزها ، ومنها قوى خارجية ، والآية لم تبين نوع هذه الجنود التي أنزلها الله يوم حنين ، لذلك نترك علمها لله الذي قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ـ ٣١ المدثر». (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة وأخذ الأموال ، وعذبهم في الآخرة بنار جهنم وسوء المصير.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ان الله كريم


لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم ، وبابه مفتوح لكل طارق ، فمن فر عن رسول الله من المسلمين ، ثم تاب فان الله يحب التوابين ، ومن كفر وحارب الله ورسوله ، ثم تاب وآمن وعمل صالحا فهو من المفلحين. قال المؤرخون : بعد ان انتهت المعركة ، ووزعت الغنائم جاء وفد من هوازن مسلما ، وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّهم ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. فقبل إسلامهم ، ورد عليهم النساء والعيال.

المشركون نجس الآية ٢٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

اللغة :

النجس القذر ، وهو مصدر يطلق بلفظ واحد على المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. والعيلة الفقر يقال عال الرجل إذا افتقر.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). أي العام التاسع للهجرة ، وهو العام الذي قرأ فيه علي (ع) على الناس آيات البراءة. وكلمة المشركين يستعملها القرآن ـ غالبا ـ في عبدة الأوثان بخاصة مشركي العرب ، ويستعمل كلمة أهل الكتاب في اليهود والنصارى ، وقد


عطف المشركين على أهل الكتاب في الآية ١٠٥ من سورة البقرة : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ). والآية ١ من البينة : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) والعطف يشعر بأن المعطوف غير المعطوف عليه ، مع العلم بأن كلا من عطف التفسير ، وعطف الخاص على العام ، والعام على الخاص جائز ، ولكن مع القرينة.

واختلف الفقهاء في منع الكفار من المساجد. قال الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام دون غيره. وقال مالك : يمنعون من كل مسجد. وقال أبو حنيفة : لا يمنعون إطلاقا ، لا من المسجد الحرام ولا من غيره (الرازي عند تفسير هذه الآية).

والذي نراه ان النجس يجب منعه من كل مسجد ، وان كان فيه وجب إخراجه منه ، سواء أكان النجس إنسانا ، أم حيوانا ، أم غيرهما ، وسواء أكانت النجاسة متعدية تستلزم تلويث المسجد وهتكه ، ام لم تكن ، والدليل على ذلك ان الآية أطلقت حكم التحريم ، ولم تقيده بشيء.

ونريد بالإنسان النجس الجاحد وعابد الأوثان ، أما اهل الكتاب فقد أثبتنا طهارتهم عند تفسير الآية ٥ من سورة المائدة.

وتسأل : ان قوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ). يدل على صحة قول الشافعي من ان المنع خاص بالمسجد الحرام ، دون غيره ، لأنه لم يقل : فلا يقربوا كل مسجد.

الجواب : ان مجموع الآية يدل على العموم ، لا على الخصوص ، لأن المتبادر إلى الأذهان من الآية بمجموعها ان علة المنع من الدخول هي النجاسة واحترام المسجد عند الله ، وليس من شك ان كل مسجد هو محترم عند الله لأنه منسوب اليه جلّت عظمته .. والحكم يدور مع علته اثباتا ونفيا. ولذا أجمع الفقهاء على تحريم الوسكي ، مع أنه لا نص عليها بالخصوص اكتفاء بالنص على علة التحريم ، وهو الإسكار.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). كان المشركون في جميع أنحاء الجزيرة العربية يقصدون مكة للحج والتجارة ،


وكان أهل مكة ينتفعون بذلك ، فيبيعونهم ويشترون منهم ، ويؤجرون لهم المساكن ، ومكة تقع في واد غير ذي زرع ، ولما منع الله المشركين منها خاف بعض أهلها الفقر ، فقال لهم سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي ان خفتم الفقر بسبب انقطاع المشركين عن مكة فإن الله يعوض عليكم بوجه آخر ، لأن أسباب الرزق عنده بعدد قطرات المطر ، كما في الحديث ، وصدق الله العظيم ، فقد فتح على المسلمين البلاد والغنائم ، ودخل الناس في دينه أفواجا ، وتوجهوا بقلوبهم وأموالهم إلى مكة بالملايين ، ورأى أهلها من الغنى ما لم يحلموا به من قبل.

وتسأل : ما هو الغرض من قوله تعالى : (إِنْ شاءَ) مع العلم بأنه قد شاء؟.

الجواب : قد يكون القصد الاشارة إلى انه يجري المسببات على أسبابها ، وقد يكون المراد مجرد تعليم عباده ان يتّكلوا في جميع أعمالهم على الله ، ويعلقوا تحقيق أهدافهم على مشيئته مع السعي : كما في قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ـ ٢٣ الكهف».

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ٢٩ ـ ٣٣ :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا


إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

اللغة :

الجزية الضريبة على الرؤوس والأشخاص ، لا على الأرض أو التجارة أو الماشية. والصّغار الذل. ويضاهئون يشابهون ويحاكون. ويؤفكون يصرفون عن الحق إلى الباطل. والأحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها ، وهو العالم. والرهبان جمع راهب وهو المنقطع للعبادة.

الإعراب :

عن يد قائم مقام الحال أي نقدا ، وصاحب الحال الواو في يعطوا. وأنّى في محل نصب على الحال. وعما يشركون (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك مجرور بعن متعلقا بسبحانه ، والمصدر المنسبك من ان يتم نوره منصوب بيأبى لأنها بمعنى لا يريد اي لا يريد الله إلا إتمام نوره بإعلاء كلمة التوحيد.

المعنى :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ). بعد ان أمر سبحانه بقتال المشركين إذا لم يسلموا ولم يخرجوا من


الجزيرة العربية ـ أمر في هذه الآية بقتال أهل الكتاب إذا لم يعطوا الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام. وقد وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يحرمون حرام الله ، ولا يدينون بالحق.

وتجدر الإشارة الى أن (من) في قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هي لبيان الجنس ، تماما كما في قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ). وقيل : هي للتبعيض مثل منهم كذا ، ومنهم كذا.

وهنا سؤالان : الأول ان الآية نفت عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر ، مع العلم بأنهم يؤمنون بوجود الله ، لأن كلمة أهل الكتاب تدل بذاتها على ايمانهم بالله الذي أنزل التوراة والإنجيل ، وكذلك يؤمنون باليوم الآخر بنص الآية ٨٠ من سورة البقرة : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) .. اجل ، انهم لا يدينون دين الحق ، فاليهود يعبدون المال ، والكنيسة تبيع صكوك الغفران ، وتقول بالحلول والاتحاد.

ونجد الجواب في الآية التي بعد هذه الآية بلا فاصل ، وهي قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ). ووجه الجواب ان اليهود والنصارى جعلوا لله ولدا ، ومعنى هذا انهم يؤمنون بإله لا وجود له إلا في أوهامهم ، أما الإله الموجود حقا وواقعا فإنهم لا يؤمنون به .. فلقد تصوروا من عندياتهم إلها موصوفا بأنه يلد أولادا ، ونظّموا علاقاتهم معه وفقا لهذا التصور الخاطئ ، أما الإله الحقيقي ، وهو الذي لم يلد ولم يولد ، فإنهم لا يؤمنون به ، ولا تربطهم به أية رابطة قريبة أو بعيدة. وبكلمة أخصر وأوضح ان الإله الموجود لا يؤمنون به ، والإله الذي يؤمنون به لا وجود له.

والنتيجة الحتمية لذلك انهم لا يؤمنون بالله ، وبديهة ان من لا يؤمن بالله لا يؤمن بالآخرة إيمانا صحيحا ، ولا يدين دين الحق ، وان خيل اليه انه من المؤمنين بالآخرة ، والمتدينين بالحق ، لأن الإيمان بالله هو الأصل ، وما عداه فرع ، أي انه يؤمن بالآخرة والدين اللذين لا عين لهما ولا أثر إلا في خيالهم ، كقولهم : لا تمسنا النار إلا أياما معدودة .. وهذا هو الدين الذي يصدق فيه قول من قال : ان الدين من صنع الوهم والخيال ، وانه يبتعد بصاحبه عن حقيقته وواقعه.


السؤال الثاني : ان الإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه بدليل قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). وقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). فكيف أمر بقتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون؟.

وقد ذكرنا هذا السؤال عند تفسير الآية ٢ من هذه السورة التي أمرت بقتال المشركين ، وأجبنا عنه بأن الأمر بقتالهم كان حكما خاصا آنذاك لسبب خاص ، وهو ان المجتمع الاسلامي كان في بدء تكوينه ، وان المشركين كانوا طابورا خامسا يكيدون للإسلام وأهله ، فاقتضت المصلحة إخراجهم من الجزيرة أو قتلهم .. والأمر هنا بقتال اهل الكتاب أمر خاص بالذين كانوا في الجزيرة لسبب خاص ايضا ، وهو ان اهل الكتاب كانوا يتحالفون مع المشركين على محاربة المسلمين ، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي لهم ، وجعلهم حلفاء له.

وفوق ذلك فإن محور هذه السورة يقوم على غزوة تبوك ، كما يأتي في الآية ٣٨ وما بعدها ، وقد بلغ النبيّ (ص) ان الروم ، وهم في الشام على أطراف الجزيرة ، يجمعون الجيوش للانقضاض على الإسلام وأهله ، وكانت كل القرائن والدلائل تؤكد ان أهل الكتاب في الجزيرة كانوا عينا وعونا للروم النصارى على المسلمين ، وانهم يتآمرون معهم على النبي ومن اتبعه من المؤمنين. ومن أجل هذا كان الحكم فيهم القتل أو إلقاء السلاح والخضوع لحكم الإسلام ، مع إعطاء الجزية التي تعبّر عن مسالمتهم والوفاء بعهدهم ، فان اختاروا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم واعطاؤهم الحرية في دينهم ومعاملاتهم ، وإذا اسلموا كان لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، وإلا فالقتل اتقاء لشرهم.

وأطال المفسرون والفقهاء الكلام عن محل الجزية وتقديرها وشروطها ، وكان حديثهم عنها فيما مضى مجديا حيث كان للإسلام دولته وقوته ، أما اليوم فالحديث عن الجزية تكثير كلام.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) .. أما قول النصارى بأن المسيح ابن الله فمعروف ، وتكلمنا عنه عند تفسير الآية ١٧ من سورة المائدة ، أما قول اليهود عزير ابن الله فقد نقل صاحب تفسير المنار ان اسم عزير جاء في اسفار اليهود المقدسة ، وأيضا نقل عن دائرة المعارف اليهودية


ان عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية. وفي تفسير الطبري والرازي والطبرسي ان جماعة من اليهود قالوا للنبي (ص) : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم ان عزيرا ابن الله. فنزلت الآية.

وعلى أية حال ، فان النبي (ص) قد جابه يهود عصره بهذه الآية ، وما نقل أحد انهم كذبوا وأنكروا مع شدة حرصهم على تكذيب النبي ، فدل ذلك على انهم كانوا يؤمنون بذلك آنذاك.

(ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). يضاهئون يشابهون ، وقاتلهم الله انّى يؤفكون اي لعنهم الله كيف يصرفون عن الصدق إلى الافك ، والمعنى ان قول اليهود والنصارى يشبه قول المشركين العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله وقول الوثنيين من قدامى الرومان واليونان والبوذيين وغيرهم.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). هذا دليل آخر بأنهم لا يؤمنون بالله ، بل بما يقول رجال دينهم وعقيدتهم. قال الإمام جعفر الصادق (ع) : انهم ما صاموا ولا صلوا لهم ، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم ، وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وهذا عين ما جاء في الحديث من ان عدي بن حاتم قال لرسول الله (ص) : لسنا نعبدهم. فقال له النبي : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم فتستحلونه؟ قال عدي : بلى. قال النبي فتلك عبادتهم. وقال «فولتر» : لا يعلم قسيسونا شيئا سوى اننا سريعو التصديق لما يقولون.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال الرازي في تفسيره : المعنى ظاهر. ولكن مفسرا آخر أبى إلا ان يقول : اي يعبدون إلها عظيم الشأن.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) المراد بنور الله هنا الإسلام ، والمعنى ان أهل الكتاب حاولوا القضاء على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فكان مثلهم في ذلك مثل من يحاول إطفاء النور الذي عم الكون بنفخة من عنده (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) هذا وعد من الله على لسان نبيه بأن ينصر


الإسلام ، ويظهره في مشارق الأرض ومغاربها ، وصدق الله ورسوله ، وتحقق الوعد الذي دل على نبوة محمد (ص) وصدقه في كل ما اخبر به.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). هذه الآية بيان وتفصيل للآية التي قبلها ، وقد أظهر الله المسلمين على المشركين في البلاد العربية ، وعلى اليهود حيث أخرجهم المسلمون منها ، وعلى النصارى في الشام والمغرب ، وعلى المجوس في فارس. قال الإمام علي (ع) : ان هذا الإسلام أذل الأديان بعزته ، ووضع الملل برفعته ، وأهان أعداءه بكرامته.

والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ٣٤ ـ ٣٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

الإعراب :

والذين يكنزون مبتدأ ، والخبر فبشرهم ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، ويوم ظرف والعامل فيه أليم ، وعليها قائم مقام نائب الفاعل ، وضمير عليها وبها عائد إلى المكنوزات. وهذا اشارة الى الكيّ ، وهو مصدر مفهوم من فتكوى ، ومحله الرفع بالابتداء ، وما كنزتم خبر ، والجملة مفعول لقول محذوف أي فيقال لهم : هذا ما كنزتم الخ.


المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ). في الآية السابقة وصف سبحانه اليهود والنصارى بأنهم يتخذون رؤساءهم الدينيين أربابا من دون الله ، وفي هذه الآية وصف أولئك الرؤساء بأكل المال بالباطل ، والصد عن سبيل الله ، والمراد بأكل المال بالباطل أخذه بغير وجه شرعي ، كالرشوة على الحكم بغير الحق ، والربا الذي فشا بين اليهود ، وبيع صكوك الغفران عند الكاثوليك ، وما إلى ذلك. قال المؤرخون : مر على رجال الكنيسة عهد كانوا فيه من أغنى الفئات.

والمراد بصدهم عن سبيل الله تحجيرهم على العقول ، ومنع الناس من اعتناق الإسلام ، بل وحملهم على الطعن فيه وفي نبيه .. لقد ثار فولتر على الكنيسة ، ونعى على رجالها تكالبهم على المال ، وطعن في التوراة لما فيها من التناقض والاحالة والقحة على حد تعبيره ، فحرمته الكنيسة ، وطالب بعض رجالها بسجنه مدى الحياة (١) فانهارت أعصاب الأديب الفرنسي من الخوف ، ولم يجد وسيلة للخلاص إلا أن يستشفع لدى البابا بنوا الرابع عشر بكتاب يؤلفه في سب محمد (ص) ، ففعل وعفت عنه الكنيسة ، وباركت الكتاب والكاتب.

أبو ذر والاشتراكية :

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). لقد كثر الكلام حول هذه الآية ، حتى ان بعضهم استدل بها على ثبوت الاشتراكية في الإسلام ، وشطح آخرون في زعمهم ان أبا ذر كان اشتراكيا ، لأنه كان يهدد بهذه الآية الذين استأثروا بمال الله دون عياله .. وفيما يلي نعرض معنى الآية ، وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد ، وفي ضوئه نحاكم قول من استدل بالآية على اشتراكية أبي ذر.

__________________

(١). كتاب فولتر لجوستاف لانسون ترجمة محمد غنيمي هلال.


١ ـ قال معاوية بن أبي سفيان : هذه الآية نزلت في اهل الكتاب ، ولا تشمل المسلمين ، اي ان للمسلمين في نظره ان يكنزوا من المال ما يشاءون ولا ينفقوا منه شيئا في سبيل الله ، ونقل هذا القول عن عثمان بن عفان .. فعن «الدرّ المنثور» للسيوطي ان عثمان لما كتب المصاحف أرادوا ان يحذفوا الواو من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ليكون الكانزون صفة للأحبار والرهبان ، فعارض بعض الصحابة ، وقال : لتلحقن الواو ، او لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.

والصحيح ان الآية تشمل كل من يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله مسلما كان او غير مسلم عملا بعموم اللفظ ، فقد روي عن زيد بن وهب انه مر بالربذة ، فرأى أبا ذر ، قال له : ما أنزلك هنا؟ قال : كنت بالشام ، فقرأت والذين يكنزون الذهب والفضة ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينا ، انها في اهل الكتاب ، فقلت : انها فينا وفيهم ، فشكاني إلى عثمان ، فأبعدني إلى حيث ترى.

٢ ـ الكنز في اللغة الجمع ، يقال : كنز المال إذا جمعه ، ولفظ الذهب والفضة خاص ، ولكن الحكم عام يشمل المال بشتى اصنافه ، حتى الأرض والمعادن والشجر والبناء والماشية والمعامل والمراكب ، لأن الذين هددهم الله بعذاب أليم هم الأثرياء الأشحاء ، وليس خصوص مالكي الذهب والفضة المضروبين نقدا .. والا كان ملوك النفط ومن اليهم اسعد الناس وأكرمهم عند الله دنيا وآخرة ، والذي يدلنا على ارادة العموم انه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين ، لأنهم فهموا منها جميع الأموال ، ولما سألوا النبي (ص) أقرهم على فهمهم ، وقال لهم : ان الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم.

٣ ـ الإنفاق في سبيل الله يشمل الجهاد للدفاع عن الدين والوطن ، وبناء المدارس والمصحات ودور الأيتام ، والصدقات على الفقراء ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وأفضل موارد الإنفاق ما فيه إعزاز الحق واهله.

٤ ـ أجمعت المذاهب الأربعة على انه ليس في المال حق غير الزكاة.


(احكام القرآن لأبي بكر المعافري الأندلسي). وقال اكثر فقهاء الشيعة الإمامية : ليس في المال حق غير الخمس والزكاة. وقال الشيخ الطوسي : ان فيه حقا آخر ، وهو ما أشار اليه الإمام جعفر الصادق بقوله : ان الله فرض في اموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة ، لأنه قال : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ـ ١٩ الذاريات». والحق المعلوم هو شيء يفرضه الرجل على نفسه بقدر طاقته وسعته ، فيؤدي الذي فرض ، ان شاء في كل يوم ، أو في كل جمعة ، او في كل شهر ، قلّ او كثر غير انه يداوم عليه .. ولكن قول الإمام : (يفرضه الرجل على نفسه) يشعر بالاستحباب ، لا بالوجوب لأن الواجب فرض من الله لا من سواه.

والذي نراه ـ بعد ان تتبعنا آي الذكر الحكيم ـ ان على الأغنياء وجوبا لا استحبابا ان يبذلوا من أموالهم ـ غير الخمس والزكاة ـ للدفاع عن الدين والوطن عند الاقتضاء ، وعلى ولي المسلمين ان يجبرهم على ذلك ، بل وعلى الجهاد بالنفس إذا اقتضت الحال. وآيات هذا الباب تعد بالعشرات.

٥ ـ (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). هذا كناية عن شدة العذاب وهوله ، وهو نظير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

٦ ـ تبين مما قدمنا ان الآية تدل نصا وفحوى على ان الأغنياء يجب عليهم أن ينفقوا جزءا من أموالهم في سبيل الله ، وان من أمسك يده عن الإنفاق عاقبه الله بالعذاب الأليم ، أما مقدار هذا الجزء ، وهل هو الخمس أو العشر ، أر أقل أو اكثر ، أو هو من الزكاة او من غيرها ، اما هذا فلا تدل عليه الآية بالعبارة ولا بالاشارة ، فأين ـ إذن ـ مكان الدلالة فيها على الاشتراكية؟. ان الاشتراكية نظام اقتصادي ينظر قبل كل شيء إلى وسائل الانتاج كالأرض وما اليها ، ويحدد مالكها ، ثم ينظر إلى الانتاج نفسه وطرق نموه وزيادته وكيفية توزيعه .. وهذا شيء. وحث الأغنياء على البذل شيء آخر.

وبهذا يتبين ان قول من قال : ان أبا ذر كان اشتراكيا لأنه هدد الأغنياء بهذه


الآية ، يتبين ان هذا القول خطأ واشتباه .. ان أبا ذر لا يعرف الاشتراكية ، ولا شيء إلا الإسلام ، مثله في ذلك مثل اي مسلم ، ولكنه كان مخلصا لدينه ، أخلص للإسلام ، ونبذ الأطماع والأغراض. وهذا التجرد والإخلاص هو الذي جرأه على ان يتحدى قريشا ، ويسخر من آلهتهم يوم أسلم ، حيث وقف في الكعبة مناديا بأعلى صوته : لا إله إلا الله محمد رسول الله .. نادى بكلمة الإسلام على رؤوس قريش يوم لا حول ولا قوة للمسلمين ، ولا يجرأ احد منهم على النطق باسم الله الواحد ومحمد إلا في الخفاء .. وتكرر منه هذا الموقف ، وأعاد نفسه مع عثمان ومعاوية ، وكما لاقى من المشركين الضرب الدامي ، فقد لاقى من عثمان الطرد والنفي .. ولكنه لم يأبه ، لأنه ما غضب في حياته كلها إلا لله وحده.

والخلاصة ان كل ما فعله ابو ذر انه طالب الفئة الحاكمة بالعدل وانصاف المحكومين ، وخوّفها من العذاب الأليم ، وحث المظلومين على مقاومة الظالمين ، واسترداد حقوقهم ممن ظلمهم .. فأين هذا من الاشتراكية؟. وتكلمنا عن نسبة الاشتراكية لأبي ذر في كتاب «مع الشيعة الإمامية» بعنوان «هل ابو ذر اشتراكي»؟ وفي كتاب «مع علماء النجف الأشرف» بعنوان «ابو ذر».

ان عدة الشهور الآية ٣٦ ـ ٣٧ :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))


اللغة :

القيم المستقيم. والنسيء التأخير. ويواطئوا يوافقوا.

الإعراب :

عند الله متعلق بعدة. واثنا عشر في محل رفع خبرا لأن. وفي كتاب الله متعلق بمحذوف صفة لاثناعشر. ويوم خلق متعلق بكتاب على أن يكون بمعنى الكتابة. وكافة حال من فاعل قاتلوا لأنها بمعنى جميعا. وعاما مفعول فيه. والمصدر المنسبك من ليواطئوا مجرور باللام ، والعامل في الجار والمجرور يحرمونه.

الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). المراد بعند الله وفي كتاب الله ان للاثني عشر شهرا وجودا حقيقيا في عالم الطبيعة ، تماما كالأرض والسماء ، لا في عالم الاعتبار والتشريع كالحلال والحرام ، والمراد بيوم خلق السموات والأرض انه تعالى خلق الكون على حال تكون فيه عدة الشهور اثني عشر شهرا منذ اللحظة الأولى لوجود السموات والأرض أي ان عدة الشهور هذه ليست من وضع الإنسان ، ومن مواليد أفكاره ومخترعاته وإنما هي نتيجة حتمية لسنن الكون ونظام الخلق.

هذا هو معنى الآية. وبديهة ان الإنسان يقيس الوقت ويحدده بما يراه حسا وعيانا .. وإذا نظرنا إلى الكائنات الطبيعية التي تهدينا إلى معرفة الوقت لم نجد إلا الشمس والقمر ، والشمس تجري دائما وفي كل يوم على وتسيرة واحدة شروقا وغروبا ، لا فرق بين يوم ويوم ، وكل ما نعرفه بواسطتها هو وقت الصباح والمساء والظهيرة ، ولا يتصل هذا بمعرفة الشهر من قريب أو بعيد. بخلاف كوكب القمر فانه يظهر للعيان على شكل خاص في اليوم الأول من كل شهر ، وبهذا اليوم


نحدد الشهر ، ومتى عرفنا الشهر عرفنا السنة.

وعلى هذا تكون الأشهر القمرية هي الأشهر الجارية على سنن الطبيعة دون غيرها ، ومن أجل هذا وقّت الله بها الحج والصيام وعدة المطلّقات والرضاع ، كما وقّت الصلاة اليومية بالشمس لأنها السبيل لمعرفة أجزاء اليوم. وبكلمة ان الشمس لمعرفة الساعات ، والقمر لمعرفة الأشهر. وعلى هذا الأساس كان الإنسان الأول يحسب أوقاته. قال الرازي : «ان مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية ، لا شمسية ، وهذا حكم ورثوه عن إبراهيم واسمعيل».

وفي بعض التفاسير ان الحكمة من جعل الحج والصيام في الشهر القمري هي أن يدورا في جميع فصول السنة وأجزائها ، يسهلان تارة ويشقان أخرى .. ولا يستند هذا الاجتهاد إلى أصل ، ولكن لا مانع منه ، حيث لم يقصد به إثبات حكم شرعي : وإنما هو لبيان مصلحة الحكم الثابت شرعا.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) من هذه الأربعة ثلاثة متتابعة : ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، وشهر واحد فرد ، وهو رجب ، وسميت حرما لتحريم القتال فيها في الجاهلية والإسلام ، وسبق الكلام عن ذلك أكثر من مرة. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ان تقسيم الأشهر إلى اثني عشر شهرا على الحساب القمري هو التقسيم الصحيح ، ولا يجوز التحريف فيها ولا في الأشهر الحرم بالهوى والغرض (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) باستحلال القتال في الأشهر الحرم ، ولا باعتداء بعضكم على بعض في أي وقت من الأوقات ، وكل من عصى الله في كبيرة أو صغيرة فقد ظلم نفسه بتعرضها لعذاب الله وغضبه.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). هذا هو الداء الشافي والعلاج السليم .. النفير العام ، والجهاد الشامل سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، أما أنصاف الحلول فخضوع واستسلام للظلم والعدوان .. لقد تظاهر الصهاينة والمستعمرون كافة على العرب والمسلمين كافة بلا استثناء ، وأقاموا على أرض العرب قاعدة عسكرية عدوانية ، أطلقوا عليها اسم دولة إسرائيل ، لينطلقوا منها للاعتداء على البلاد العربية والاسلامية .. نحن الآن في شهر تشرين الأول من سنة ١٩٦٨ ، والاتصالات مستمرة داخل الأمم المتحدة وخارجها لحل مشكلة الشرق الأوسط


حلا سلميا أي على أساس انصاف الحلول التي يحصل عن طريقها المعتدي على شروط ومكاسب تشجعه على العدوان كلما سنحت الفرصة ، ثم يتعود انصاف الحلول ، ويحصل بها على ما يبتغي ، وهكذا دواليك ، حتى تتم له السيطرة على الجميع .. والسبيل الوحيد لاستئصال الداء من جذوره هو ما رسمه الله لنا بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الذين تحرروا من الأحقاد والمطامع ، ووحدوا صفوفهم كافة لقتال عدوهم وعدو الله والانسانية.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً). النسيء مصدر بمعنى الانساء أي التأخير ، والمراد به هنا ان المشركين كانوا يؤخرون حرمة شهر كالمحرم إلى شهر آخر لا حرمة له كصفر ، فإذا كان من مصلحتهم أن يقاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا فيه ولم يبالوا ، ولكنهم يحرمون بدلا عنه شهرا آخر من أشهر الحلال لتكون الأشهر المحرمة أربعة من كل عام (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ). وأوضح تفسير لهذا ما نقل عن ابن عباس : انهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرام أربعة مطابقة لما ذكره الله ، وهذا هو المراد من المواطأة.

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ). الأهواء والاغراض هي التي تعمي صاحبها عن سوء عمله فتريه الشر خيرا ، والحسن قبيحا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ). أي تركهم لما هم فيه بعد اليأس من هدايتهم. انظر ج ٢ ص ٣٩٩. الإضلال من الله سلبي. لا ايجابي.

ما لكم اذا قيل لكم الآية ٣٨ ـ ٤٠ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ


إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

اللغة :

النفر من الشيء الفرار منه ، وإلى الشيء الاقدام عليه ، وهذا المعنى هو المراد هنا. والتثاقل التباطؤ ضد التسرع. والاستبدال جعل أحد الشيئين بدلا من الآخر مع طلبه. والسكينة سكون النفس واطمئنانها.

الإعراب :

اثاقلتم أصلها تثاقلتم ، ثم أدغمت التاء في الثاء ، وجيء بألف الوصل ليمكن الابتداء بها. وإلا تنفروا (إلا) مركبة من كلمتين : إن ولا ، ومثلها إلا تنصروه. وإذ أخرجه (إذ) ظرف متعلق بنصره ، وإذ الثانية بدل من إذ الأولى ، وإذ الثالثة بدل ثان. وثاني اثنين حال من الهاء في أخرجه. وكلمة الذين كفروا بالنصب مفعولا لجعل. وكلمة الله بالرفع على الابتداء ، والجملة مستأنفة ، لأن كلمة الله لا تعطف على كلمة الذين كفروا ، ولأنها عليا بذاتها ، لا بجعل جاعل.


غزوة تبوك :

هذه الآيات إلى القريب من آخر السورة نزلت في غزوة تبوك ، وما لابسها من الأحداث ، وتتلخص بأن الروم كانوا يملكون الشام ، وهي على حدود الجزيرة وقد سمعوا بقوة الإسلام ونموه ، فخاف هرقل ملك الروم على دولته من المسلمين ، وقال : لئن تركتهم حتى يقبلوا فلن تقوم لدولتي في الشرق قائمة ، وعزم أن يكون هو البادئ.

ورأى النبي (ص) أن لا ينتظر حتى يأتي هرقل بجنوده إلى المدينة ، فاستنفر الناس إلى قتال الروم ، وكان الحرّ في الجزيرة آنذاك على أشده ، فوجد المنافقون الفرصة للتخذيل ، وخوّفوا المسلمين من بعد السفر ، وقسوة القيظ ، وكثرة العدو ، ولاقت دعوتهم هوى في نفوس ضعاف الايمان ، فاعتذروا وتعللوا .. ولكن النبي (ص) أعلن الجهاد والنفير العام ، ولم يأذن بالتخلف إلا للمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون.

وعلى الرغم من تخذيل المنافقين وتثبيطهم فقد تطوع لقتال الروم حوالى ٣٠ ألفا .. وقبل أن يخرج النبي (ص) بجيشه إلى الروم خلّف على أهله وعياله عليّ ابن أبي طالب ، قال مسلم في صحيحه ج ٢ ص ١٠٨ طبعة ١٣٤٨ ه‍ : «فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟. فقال رسول الله (ص) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟».

ومضى جيش المسلمين ، وانطلقوا جميعا يخوضون الصحارى في لهيب يشوي الوجوه والأبدان .. وعلى الطريق لحق بهم الصحابي الجليل أبو ذر ماشيا ، إذ لم يجد ما يركبه. بينما انسحب رأس النفاق ابن أبيّ بجزء من الجيش ، وعادوا إلى المدينة ، فاستقبلتهم النساء بالعويل ، وحثون في وجوههم التراب.

وبعد سبعة أيام من السير المضني بلغ جيش الإسلام حدود الدولة الرومانية ، وتقدم أمير المنطقة يعرض على النبي (ص) الصلح على أن يدفع الجزية ، فقبل النبي ، وتقدم بجيشه ، حتى بلغ مدينة تبوك ، وتقع في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق ، وكان ذلك في رجب سنة تسع للهجرة ، وصادف أن حاكم تبوك كان خارجا للصيد ، فأسره المسلمون ، واستسلمت المدينة ، وانتقل


الرسول (ص) من موقعة إلى موقعة ، حتى قهر حاميات الحدود الرومانية ، وحرر القبائل العربية هناك من حكم الروم .. حدث هذا كله في ٢٠ يوما.

وعاد المسلمون إلى المدينة محملين بالغنائم ، وقرر النبي (ص) مقاطعة من تخلف عن جيش الإسلام ، وحرم على الناس أن يكلموهم أو يعاملوهم ، حتى الزوجات والأبناء ، والتفصيل في الآيات الآتية بخاصة عند تفسير الآية ١١٧ و ١١٨.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ). ولما استنفر النبي (ص) المسلمين لغزوة تبوك شق ذلك على البعض منهم ، وآثروا الميل إلى الخلود والإقامة في أرضهم وبيوتهم ، وكان من عادة النبي إذا خرج إلى غزوة أن يوهم الناس انه خارج إلى غيرها لمصلحة الحرب التي تستدعي الكتمان .. ولكنه صرح بهذه الغزوة ليكون الناس على بصيرة مما يلاقيه فيها من المشاق والمصاعب ، واعتذر بعض المفسرين عمن تباطأ وتثاقل بأن الوقت كان شديد الحرارة ، والناس في ضيق من قلة الطعام ، وبأن ثمار المدينة كان قد تم صلاحها ، وآن وقت قطافها .. ومهما يكن ، فإن الخطاب ـ بطبيعة الحال ـ موجه إلى المتثاقلين عن الجهاد ، وقد عاتبهم الله بقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ). أي هل يليق بإيمانكم وعقولكم أن تؤثروا نعيم الدنيا الحقير الزائل على نعيم الآخرة العظيم الدائم؟.

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً). (الا) مركبة من ان الشرطية ، ولا النافية. والمعنى ان لم تستجيبوا لدعوة النبي والخروج معه إلى قتال الروم فإن الله ينزل بكم العذاب الأليم أيها المتثاقلون والمنافقون ، وينصر نبيه بأيدي غيركم ، ولا يضر الله ورسوله تباطؤ المتثاقلين ولا نفاق المنافقين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه عقابكم ، ولا نصرة دينه ونبيه بأصحاب خير منكم.

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). يشير إلى حادثة


المكر والمؤامرة التي دبرها كفار قريش لقتل النبي (ص) ، وهو نائم في فراشه ، وإلى نجاته منهم بمبيت عليّ في مكانه ، وهجرته من مكة إلى المدينة بعد أن أطلعه الله على كيدهم ومكرهم .. وتكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية ٣٠ من سورة الأنفال. (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا). المراد بثاني اثنين والصاحب ، أبو بكر ، لأنه كان مع النبي في هجرته ، وقد اختبآ معا من المشركين في غار جبل ثور. قال الرازي : «لما طلب المشركون الأثر وقربوا من الغار بكى أبو بكر خوفا على النبي ، فقال له : لا تحزن إن الله معنا. فقال أبو بكر : إن الله معنا. فقال الرسول : نعم».

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها). قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره (النهر المارد من البحر) : «قال ابن عباس : السكينة الرحمة والوقار. والضمير في عليه عائد على رسول الله (ص) ، إذ هو المحدث عنه» ويتفق هذا مع قول شيخ الأزهر المراغي ، حيث قال في تفسيره ما نصه بالحرف : «أي فأنزل الله طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله ، وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة». وأيضا يتفق مع سياق الآية لأن الضمائر في نصره وأخرجه وأيده كلها تعود إلى النبي (ص). (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا). كلمة الله هي التوحيد ، وكلمة الذين كفروا هي الشرك والكفر.(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقد اقتضت حكمته أن ينصر نبيه بعزته ، ويظهر دينه على جميع الأديان.

انفروا خفافا وثقالا الآية ٤١ ـ ٤٣ :

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا


لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

اللغة :

الخفة هنا استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة ، والثقل لمن يمكنه بصعوبة ، والمراد بهما النفر على كل حال. والعرض ما يعرض للإنسان من متاع غير دائم. السفر القاصد الهين : من القصد وهو الاعتدال. والشقة الطريق التي يشق سلوكها.

الإعراب :

خفافا وثقالا حال من الواو في انفروا. ولو كان عرضا اسم كان محذوف أي لو كان ما دعوا اليه. ولم متعلق بأذنت ومثلها لهم. ويتبين منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، والمصدر المنسبك مجرور بحتى متعلقا بمحذوف أي هلا اخرتهم إلى أن يتبين لك.

النفير العام :

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). الخفاف جمع خفيف ، والمراد به هنا من يستطيع الجهاد بيسر ، والثقال جمع ثقيل ، وهو من يستطيع الجهاد بشيء من المشقة. والآية تدل على وجوب النفير العام ، واليك البيان.

إذا حاول العدو أن يعتدي على دين الإسلام بتحريف كتاب الله وما ثبت من سنة نبيه ، أو بصد المسلمين ومنعهم عن اقامة الفرائض والشعائر الدينية ، أو حاول الاستيلاء على بلد من بلادهم ـ إذا كان الأمر كذلك وجب على المسلمين


أن يجاهدوا هذا العدو ، ويردعوه عن غيه وضلاله ، فإن أمكن ردعه بجهاد بعض المسلمين وجب الجهاد به كفاية إذا قام البعض سقط عن الكل ، وإذا أهملوا جميعا فهم مسؤولون ومستحقون للعقاب بلا استثناء ، وإذا توقف الردع على النفير العام كان الجهاد عينا على الشبان والشيوخ والنساء والمرضى ، من كل حسب قدرته.

قال صاحب الجواهر : «إذا داهم المسلمين عدو من الكفار يخشى منه على بيضة الإسلام ، أو يريد الكافر الاستيلاء على بلاد المسلمين وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم ، إذا كان كذلك وجب الدفاع على الحر والعبد والذكر والأنثى والسليم والمريض والأعمى والأعرج وغيرهم إن احتيج اليهم ، ولا يتوقف على حضور الإمام ولا اذنه ، ولا يختص بالمعتدى عليهم والمقصودين بالخصوص ، بل يجب النهوض على كل من علم بالحال ، وإن لم يكن الاعتداء موجها اليه .. هذا إذا لم يعلم بأن من يراد الاعتداء عليهم قادرون على صد العدو ومقاومته».

هذا هو عهد الله أخذه على كل مسلم باتفاق جميع المذاهب ، تماما كاتفاقهم على وجوب الصوم والصلاة ، والحج والزكاة .. وقد ابتلي المسلمون والعرب الآن بعصابة صهيونية استعمارية اعتدت على دينهم وبلادهم ، وقتلت وشردت وسجنت الألوف .. فعلى كل عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها أن يجاهد بكل طاقاته ضد هذه العصابة المسماة بدولة إسرائيل. أي النفير خير للمسلمين في دينهم ودنياهم. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). أجل ، نحن نعلم بأن النفير لجهاد إسرائيل واجب على كل مسلم ، ولكن الذي يمنعنا عن جهاد إسرائيل هم القادة الخائنون ، فعلينا أن نجاهد هؤلاء قبل كل شيء لأنهم علة العلل ، ولولا خيانتهم لدينهم وأمتهم ، وطاعتهم العمياء للصهيونية والاستعمار ما كان لاسرائيل عين ولا أثر.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) ضمير اتبعوك يعود إلى من تخلّف عن الخروج مع النبي (ص) في غزوة تبوك ، والعرض القريب الغنيمة الباردة ، والسفر القاصد هو السهل القريب ، والمعنى لو دعوتهم يا محمد إلى المنفعة العاجلة لأسرعوا إلى تلبيتك (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ). فالسفر إلى الشام ، ودونها الصحراء بعواصفها الرملية ، وهجيرها اللاهب ، والعدو ودولة الروم أقوى دول


الأرض آنذاك .. فكيف يستجيبون لدعوتك ، والحال هذه؟ ولا يختص هذا الوصف بمن تخلّف عن غزوة تبوك ، فإن النفس تميل بطبعها إلى الراحة والمنفعة ، ولكن أهل الايمان يروضون أنفسهم بالتقوى ، فتستهين بكل شيء يرضي الله ورسوله. قال الإمام علي (ع) : أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه. وتقدم ما يتصل بذلك في ج ٢ ص ٣٢٣ عند تفسير الآية ٣٧ من سورة النساء.

(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ). هذا إخبار من الله لنبيه بأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك قد أعدوا له عند رجوعه الأعذار والأيمان الكاذبة .. وبديهة ان صفة الكذب لا تنفك عن المنافق وإلا لم يكن منافقا (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) لأنهم أهلكوا دينهم بالكذب والنفاق (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أعذارهم وايمانهم .. وقيل : لا يكذب إلا جبان ، ونعطف على الجبان من أهلكته المطامع.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ). حين دعا النبي (ص) الناس إلى الجهاد استأذن بعضهم بالتخلف ، وتعللوا بالمعاذير ، فأذن النبي لهم قبل أن يعلم صدقهم من كذبهم فيما اعتذروا به ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك ، وقال له : كان الأولى أن تتريث في الاذن لهم حتى تنكشف حقيقتهم هذا ما يعطيه ظاهر الآية.

وتسأل : ان النبي (ص) معصوم عن الخطأ ، وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يستدعي وجود الذنب ، وكذلك الإنكار في قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟.

الجواب : ان العفو من الله لا يستدعي وجوب الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان جميع الأنبياء يطلبون العفو منه تعالى .. أما الاستفهام الانكاري فالأمر فيه سهل ، حيث يصح في العمل المباح وغيره ، فتقول لصاحبك : لم فعلت هذا؟ وأنت لا تريه انه ارتكب منكرا ، وإنما تريد شيئا آخر ، والغرض هنا من عتاب الله لنبيه هو بيان كذب المنافقين في اعتذارهم ، وانه كان لمجرد الفرار من الجهاد ، وهذا الأسلوب أبلغ في الدلالة على نفي العذر من كل أسلوب .. هذا ، إلى أن سبحانه قال في الآية ١١٧ من هذه السورة : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ). وإذا كانت التوبة لا تدل وجود الذنب فبالأولى العفو والاستفهام.


لا يستأذنك الذين يؤمنون الآية ٤٤ ـ ٤٨ :

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

اللغة :

العدة الأهبة. وانبعاثهم خروجهم. فثبطهم أوهن عزمهم. والخبال الاضطراب في الرأي. وخلالكم بينكم. والمراد بالفتنة هنا التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. وقلبوا لك الأمور أي دبروا لك المكايد من كل وجه.

المعنى :

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ). وما هو السبب المبرر للاستئذان ما دام الجهاد واجبا؟. وهل يستأذن المؤمن حقا بأن يصلي ويصوم وان يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله؟.


(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ان كلا من هذه الآية والتي قبلها تدل بالمفهوم على معنى الأخرى ، لأن معنى : المؤمن لا يستأذن في التخلف عن الجهاد أن غير المؤمن يستأذن ، ومعنى غير المؤمن يستأذن ان المؤمن لا يستأذن .. وجمع الله بين الآيتين لتأكيد المعنى وتقريره.

(وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ). أي انهم يتظاهرون بالإسلام ، أما في الواقع فهم مشككون لا يجزمون بصدقه ولا بكذبه ، وهذا هو النفاق لأن الصادق المخلص يتصرف بما يمليه عليه عقله ، ويعلنه على الملأ شكا كان أو يقينا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) مع رسول الله إلى غزوة تبوك (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) من الزاد والراحلة. وقد كانوا قادرين على ذلك (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) مع المؤمنين ، لأنهم لا يخرجون إلا للفساد والفتنة ، كما فعلوا في غزوة حنين ، حيث خرج أبو سفيان ومن لف لفه مع الرسول ، ولما حمي الوطيس ولوا الأدبار وتضعضع جيش المسلمين (فَثَبَّطَهُمْ) ان الله سبحانه أمرهم بالخروج لأجل الجهاد ، فعزموا على الخروج للفساد واشاعة الذعر والاضطراب في جيش المسلمين ، كما قال في الآية التالية : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) فثبطهم الله عن هذا الخروج الذي أرادوا به الفتنة والفساد ، ولم يثبطهم عن الخروج للجهاد والقتال ، كيف وقد أمرهم به (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي مع النسوة والأطفال والعجزة. ولم يبين سبحانه من الذي قال لهم هذا ، هل هي أنفسهم الأمارة ، أو لسان الحال ، أو بعضهم لبعض؟. الله العالم.

وتسأل : قال تعالى لنبيه في الآية ٤٣ : «لم أذنت لهم». وفي هذه الآية قال : «كره الله انبعاثهم فثبطهم» فكيف تجمع بين الآيتين؟.

وتعرف الجواب مما قلناه في تفسير قوله تعالى : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وانه ليس عتابا واستفهاما حقيقيا ، وإنما الغرض منه بيان كذب المنافقين في معاذيرهم.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ). هذا بيان للحكمة في كراهيته تعالى خروج المنافقين في جيش المسلمين ، وانهم يندسون بينهم للكيد وبث التفرقة والفوضى بين الصفوف .. وهؤلاء موجودون في كل مكان وزمان ، ويعرفون اليوم بالطابور الخامس (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) وهم


السذج البسطاء الذين يؤخذون بالكواذب ، وينعقون مع كل ناعق (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ). يشير سبحانه إلى مكرهم وكيدهم للرسول قبل تبوك ، ومنه فرار أبي سفيان في غزوة حنين ، واعتزال ابن أبيّ بثلث الجيش في غزوة أحد.

(حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) كل ما أراده الله فهو حق ، وكل ما عداه فهو باطل ، وقد أراد سبحانه النصر للإسلام ونبيه ، فتم ما أراد وهيأ له الأسباب بفتح مكة ، والظفر في حنين ، وتبوك ، وبتطهير الجزيرة من اليهود الغدرة الفجرة ، والمراد بقوله : (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) ان هذا النصر قد شهده الناس ، كل الناس .. وما زال حتى اليوم وإلى آخر يوم يقترن اسم محمد ابن عبد الله باسم الله في مشارق الأرض ومغاربها.

ومنهم من يقول ائذن لي الآية ٤٩ ـ ٥٢ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))


الإعراب :

ألا في الفتنة (ألا) أداة تنبيه. وتربصون أصلها تتربصون. والمصدر المنسبك من أن يصيبكم مفعول نتربص.

المعنى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أجمع المفسرون على أن رسول الله (ص) لما دعا إلى غزوة تبوك قال له جد بن قيس ـ وكان من شيوخ المنافقين ـ : ائذن لي يا رسول الله في القعود ، فإني رجل أحب النساء وأخشى إن أنا رأيت الروميات أن أفتتن بهن .. فنزلت الآية .. زعم هذا المنافق أنه يخاف الإثم بالتعرض للنساء إذا غزا مع النبي (ص) ولم يتأثم من التعرض لغضب الله ورسوله (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي زعموا الفرار من الإثم فوقعوا فيما فروا منه ، أو أشد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) من جميع الجهات ، ولا يجدون عنها محيصا .. لقد دعاهم الرسول إلى الخلاص بالتوبة من ذنوبهم التي أحاطت بهم من كل جهة ، فرفضوا دعوته ، فأحاط بهم العذاب من كل جانب.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) كما هو شأن الخبيث اللئيم يموت بغيظه إذا أصاب الطيبون الأبرار ما يحبون ، ويطير فرحا إذا نالهم ما يكرهون (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) ويدل السياق أن المراد بالمصيبة هنا انكسار جيش المسلمين ، لأن قولهم : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) معناه ان المنافقين كانوا يتحدثون فيما بينهم فرحين مستبشرين بما حل بالمسلمين من مكروه ويقول بعضهم لبعض : لقد أخذنا حذرنا وتيقظنا إلى ما صار اليه جيش محمد .. وتقدم نظيره في الآية ١٢٠ من سورة آل عمران : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها). وفي قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) ـ ٤٩ الأنفال».

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) معناه قل أيها الرسول لأولئك المنافقين : نحن الذين تيقظوا وأخذوا حذرهم ، لا أنتم ، لأنكم قعدتم مع القاعدين ، أما نحن


فجاهدنا في سبيل الله بعد أن أعددنا للجهاد عدته .. وقد جرى صراعنا مع أعداء الحق على سنة الله في المعارك ، يوم لنا ، ويوم علينا ، والحرب بيننا وبينهم ما زالت قائمة ، والأمور بخواتيمها ، والنصر لنا في النهاية ، وكل آت قريب (هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الذين يعدون العدة ، ثم يسيرون على اسم الله ، فان أصابتهم حسنة قالوا : هذه من فضل الله ورحمته ، وان أصابتهم مصيبة قالوا : انها بقضاء الله وقدره ، وهم في الحالين على إخلاصهم ، وعلى يقين من دينهم ، وان الله مظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ). وهما النصر أو الشهادة ، وفي النصر إذلال الكافرين والمنافقين ، وفي الشهادة الثواب العظيم ، وكلاهما عزة وكرامة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ان عاقبة المؤمنين المجاهدين إحدى الحسنيين على سبيل مانعة الخلو : اما النصر والغلبة ، واما الفوز بالشهادة في سبيل الله ، وعاقبة المنافقين والكافرين احدى السوءيين : اما العذاب من الله ، واما التنكيل بأيدي المؤمنين حين يأذن الله لهم في ذلك.

صدقات المنافقين الآية ٥٣ ـ ٥٧ :

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ


وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

اللغة :

الطوع الانقياد بالارادة والاختيار. والزهق الخروج بصعوبة ، وكل هالك زاهق. والفرق بفتح الراء الخوف. والملجأ المكان الذي يتحصن فيه ، ومثله المعقل والموئل والمعتصم والمعتمد. ومغارات جمع مغارة ، من غار الشيء في الشيء. والمدّخل بتشديد الدال السرب في الأرض يدخله الإنسان بمشقة. والجماح السرعة التي تتعذر مقاومتها.

الإعراب :

أنفقوا لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر ، وطوعا أو كرها قائم مقام الحال ، أي سواء أنففتم طائعين أم كارهين فلن يقبل منكم. وتسبك ان تقبل بمصدر على انه مجرور بمن محذوفة. ونفقاتهم نائب فاعل. والمصدر المنسبك من انهم كفروا فاعل منعهم أي ما منعهم من تقبل نفقاتهم الا كفرهم.

المعنى :

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) بعد أن تجهز النبي (ص) لغزوة تبوك طلب منه بعض المنافقين ان يعفيه من الجهاد. وعرض عليه شيئا من ماله ، فأمر الله رسوله الكريم ان يقول لهذا المنافق وأمثاله : لا حاجة لله في أموالكم ، وانها مردودة عليكم ، سواء أبذلتموها عن رضا ، ام عن كره.

وتسأل : لقد عرفنا وجه الرد ، مع البذل عن كره ، فما هو الوجه لردها.


مع البذل عن رضا؟.

الجواب : لأنهم ما أرادوا بالبذل عن رضا وجه الله ، وانما أرادوا الشهرة والجاه ، ولا فرق بين البذل عن رضا لهذه الغاية ، وبين البذل عن كره خوفا ان ينكشفوا على حقيقتهم ، لأن كلا منهما لغير الله ، ومن أجل هذا خاطبهم الله بقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ). ووصفهم بالفسق يشير الى ان الفسق هو العلة لعدم القبول ، ويعبّر الأصوليون عن هذا وأمثاله بمناسبة الحكم للموضوع.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) لقد بذل المنافقون أموالهم لا لشيء الا ليقال : انهم بذلوا لله ، وهم به كافرون .. وهذا النفاق والرياء هو السبب في عدم قبول ما يبذلون ، ولو أنفقوا لوجه الانسانية فقط ، كالملحد يطعم جائعا بدافع الشفقة والرحمة لأمكن القول : هل جزاء الإحسان الا الإحسان ، أما النفاق فهو سوء ، ومن يعمل سوءا يجز به .. راجع ج ٢ ص ٢١١ فقرة «الكافر وعمل الخير».

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) وهذه الحال نتيجة حتمية للكفر ، لأن الصلاة لله والإنفاق في سبيله فرع عن الايمان به.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). وتسأل : ان الأموال والأولاد قد تكون سببا لعذاب الآخرة ، فقد اشتهر أناس بالوداعة والصلاح ايام بؤسهم ، حتى إذا آتاهم الله من فضله طغوا وبغوا .. قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ـ ٦ العلق» ، وقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ـ ٢٨ الأنفال» .. أما ان تكون الأموال والأولاد سببا لعذاب الدنيا فالأمر على العكس عند الناس بخاصة المال الذي بحثوا عنه تحت الأرض وفي اعماق البحار ، وحين تقدم العلم أخذوا يبحثون عنه في كوكب القمر وغيره .. هذا ، الى ان قوله : (لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لا يتفق مع قوله (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ـ ٤٦ الكهف). وعلى افتراض ان الأموال والأولاد سبب العذاب في هذه الحياة فإن هذا العذاب لا يختص بالمنافقين وحدهم ، بل يعم الناس أجمعين بطبيعة الحال؟.


الجواب : أجل ، ان هذا السؤال او الإشكال محكم ، ولا مفر منه لو أريد بالآية العموم والشمول ، اما لو أريد بها واقع معين فلا يتجه الإشكال من الأساس ، وسياق الكلام الذي قبل الآية وبعدها يدل بوضوح على ان الضمير في ليعذبهم عائد الى خصوص المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله (ص) ، وبصورة أخص المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ـ كما قيل ـ وفيهم من له الكثير من الأموال ، والعديد من الأولاد .. وكيلا يقول قائل : كيف يكون هؤلاء من القوم الفاسقين وقد أنعم الله عليهم بالمال والبنين ، كيلا يقال هذا قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). وقد عذب الله أولئك المنافقين بأولادهم ، لأن أبناءهم اعتنقوا الإسلام وأخلصوا له على العكس من آبائهم ، ولا شيء أشد حسرة على الوالد من أن يكون ولده على غير دينه وعقيدته .. فلقد أسلم ابن عبد الله بن أبي ، وعرض على النبي (ص) أن يقتل أباه عبد الله كبير المنافقين فرفض النبي (ص).

وأيضا عذبهم الله بأموالهم ، لأنهم كانوا على يقين انها ستئول من بعدهم الى الذين هم على غير دينهم وطريقهم .. فالآية مختصة بالمنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله (ص) ولا تتعدى الى غيرهم ، وبهذا يتبين انه لا وجه لما ذكره المفسرون من أن الله عذبهم بالأموال لأنهم قد تعبوا في جمعها ، وعذبهم بالأولاد لأنهم يتألمون لمرضهم وفقدهم .. وبديهة ان هذا الألم ، وذاك التعب لا يختصان بالمنافقين ، بل يشملان كل ذي مال وأهل.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي يموتون على الكفر ، فيعذبهم الله بكفرهم في الآخرة ، كما عذبهم بأموالهم في الدنيا على النحو الذي ذكرنا. قال الطبرسي في مجمع البيان : ان ارادة الله تعلقت بزهوق أنفسهم ، لا بكفرهم ، وهذا كما تقول : أريد أن اضربه ، وهو عاص ، فالارادة تعلقت بالضرب ، لا بالعصيان.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ). وأية جدوى لهم في هذا الحلف ، وقد شهد الله بأنهم أسلموا خوفا ، لا اقتناعا (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) والفرق الخوف والرعب ، وقد امتلأت به قلوب المنافقين من قوة المسلمين (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ). أي يسرعون لا يرد


وجوههم شيء .. لم يستطع المنافقون الخروج من المدينة ، وأيضا لم يجرءوا على الجهر بالكفر ، لأن الإسلام قد دخل في كل دار من دور الأوس والخزرج ، فاضطروا الى أن يسلموا بأطراف ألسنتهم ، وهم كافرون في أعماق قلوبهم يتحينون الفرص للكيد بالإسلام ، والغدر بالمسلمين.

فان اعطوا منها رضوا الآة ٥٨ ـ ٥٩ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

اللغة :

اللمز العيب والطعن في الوجه.

الإعراب :

إذا هم يسخطون (إذا) حرف مفاجأة ، وتختص بالجملة الاسمية ، ولا تحتاج الى جواب ، وما بعدها مبتدأ وخبر ، والجملة جواب ان لم يعطوا ، وقد وقعت إذا في جواب الشرط كالفاء. وجواب لو محذوف أي لكان خيرا لهم.

المعنى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ). ضمير منهم يعود الى المنافقين ، والمعنى


ان بعض المنافقين يعيب النبي (ص) ويطعن عليه في قسمة الزكاة ، ويزعم انه يحابي فيها ، وجاء في تفسير الطبري عن أبي سعيد الخدري قال : بينما رسول الله (ص) يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال له : ويلك ومن يعدل ان لم أعدل. فقال عمر : ائذن لي يا رسول الله بضرب عنقه. قال الرسول (ص) : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته ، وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. آيتهم رجل اسود احدى يديه مثل ثدي المرأة ، يخرجون على حين فترة من الناس فنزل قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ). قال ابو سعيد : أشهد اني سمعت هذا من رسول الله (ص) ، واشهد ان عليا رحمة الله عليه حين قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله (ص)» ..

(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ). كان النبي (ص) يوزع الصدقات كما بينها الله في الآية التالية ، فيرضى المؤمنون ، ويسخط المنافقون ، ويلمزونه في قسمته .. والحق ان أكثر الناس على حق ، والآية تشمل كل من لا يرضى بنصيبه ، ولو رضي كل انسان بما يستحق لعاش الجميع في أمن ورخاء.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في أن يغنينا عن الصدقات وغيرها من صلات الناس والحاجة اليهم .. وهذه الآية تحث الإنسان على ان يعف عما في أيدي الناس ، ويتكل على الله ، وكدّ اليمين وعرق الجبين. قال الإمام علي (ع) : الغنى الأكبر اليأس مما في أيدي الناس .. ولا أعرف أحدا يستحق الازدراء والاحتقار أكثر ممن يرجو الناس ، وهو قادر أن يستغني عنهم ولو بالصبر.

مستحقو الزكاة الآية ٦٠ :

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ


وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

الإعراب :

للفقراء اللام للتمليك أو الاختصاص ، أي ان الله سبحانه ملّك او خصّ قسما من الزكاة للفقراء. وفي الرقاب (في) ظرفية اي ان قسما من الزكاة ينفق في فك العبيد من الرق. وفريضة حال من الصدقات أي مفروضة ، ويجوز أن تكون مفعولا مطلقا ، أي فرض الله الصدقات فريضة.

المعنى :

المراد بالصدقات هنا الزكاة المفروضة ، وتكلم الفقهاء عن حكمها وشروطها والأعيان التي تجب فيها والمستحقين لها ، وعرضنا ذلك مفصلا في الجزء الثاني من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق. وفي ج ١ من التفسير الكاشف ص ٤٢٨ تكلمنا عن الزكاة كمبدأ أقره الإسلام ، ونتكلم هنا تبعا للآية الكريمة عن أصناف المستحقين لها ، وهم ثمانية :

١ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ). قال الإمامية : الفقير الشرعي من لا يملك مئونة السنة له ولعياله. وقال الحنفية : من يملك أقل من نصاب الزكاة. وقال الشافعية والحنابلة : من وجد نصف كفايته لا يعد فقيرا. وقال الإمامية والشافعية والحنابلة : من قدر على الاكتساب لا تحل له الزكاة. وقال الحنفية والمالكية : بل تحل.

٢ ـ (وَالْمَساكِينِ). قال جماعة : ان كلمة فقير وكلمة مسكين إذا اجتمعتا عبّرت كل منهما عن معنى غير معنى الأخرى ، وإذا افترقتا عبّرتا عن معنى واحد ، وقالوا : ان الفرق عند الاجتماع هو ان الفقير لا يسأل ، والمسكين يسأل ،


ومهما يكن ، فإن العبرة بالحاجة ، وكل منهما محتاج.

٣ ـ (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها). وهم الجباة الذين يعينهم الإمام أو نائبه للقيام بتحصيل الزكاة وحفظها ، ثم تأديتها الى من يقسمها على المستحقين ، وما يأخذه الجباة يعتبر أجرا لهم على عملهم لا صدقة ، ولذا تعطى لهم ، وان كانوا أغنياء.

٤ ـ (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ). وهم قوم يراد استمالتهم الى الإسلام ، أو ليستعين بهم المسلمون فيما يعود بالنفع على الإسلام.

٥ ـ (وَفِي الرِّقابِ). أي تبذل الزكاة لفك العبيد وتحريرهم من الرق. ولا موضوع اليوم لهذا الصنف.

٦ ـ (وَالْغارِمِينَ). وهم الذين تحملوا ديونا عجزوا عن وفائها ، فتؤدي عنهم من الزكاة ، على شريطة أن لا يكونوا قد صرفوها في الإثم والمعصية.

٧ ـ (وَفِي سَبِيلِ اللهِ). وسبيل الله كل ما يرضيه ، يتقرب به اليه كائنا ما كان ، كشق طريق أو بناء مصح أو معهد ، وأفضله الدفاع عن الدين والوطن.

٨ ـ (وَابْنِ السَّبِيلِ). وهو المنقطع في سفره عن بلده ، فيعطى ما يستعين به على العودة الى وطنه ، وان كان غنيا فيه ، على شريطة أن لا يكون سفره في معصية.

ويقولون هو اذن الآية ٦١ ـ ٦٣ :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ


وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

اللغة :

يقال : رجل اذن ، أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه. والمحادة المخالفة.

الإعراب :

اذن خير لكم (اذن) خبر لمبتدأ محذوف أي هو اذن خير ، و (خير) مجرور بالاضافة مثل رجل صدق. ويؤمن للمؤمنين اللام زائدة ، لأن يؤمن بمعنى يصدق المؤمنين. والله مبتدأ والخبر محذوف أي الله أحق بالرضا. ورسوله أحق مبتدأ وخبر. والمصدر المنسبك من أن ترضوه مجرور بالباء المحذوفة متعلقا بأحق. والهاء في انه ضمير الشأن اسم ان ، وخبرها الجملة من من يحادد ، والمصدر المنسبك من ان وما بعدها سد مسد المفعولين ليعلموا. وفأن له بفتح الهمزة ، والمصدر منها واسمها وخبرها خبر لمبتدأ محذوف أي فجزاؤه ان له نار جهنم.

المعنى :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ). كان النبي (ص) يعامل كل انسان بظاهره ، ولا يبحث عن باطنه عملا بمبدإ الظاهر للناس ، والباطن لله ، وهذا اصل من أصول الشريعة الإسلامية يبتني عليه كثير من الأحكام ، وقد استغله المنافقون ، فكانوا يفلتون من طاعة الله ورسوله ، ويعتذرون فيقبل منهم الرسول ويعفو .. والغريب انهم اتخذوا من هذه الفضيلة وسيلة للطعن فيه ، ونسبوه الى سرعة التصديق والتأثر بكل ما يسمع ، دون ان يتدبر ويميز بين ما هو جدير


بالقبول ، وما هو جدير بالرفض .. ولو انه (ص) واجههم بكذبهم ونفاقهم ، وعاملهم بما يستحقون من العقوبة لكان شرا لهم ، ولقالوا : فظ غليظ .. لقد عابوه فيما يعود عليهم بالخير والنفع ، وهنا مكان الغرابة .. لكن اللئيم لا يكثر عليه شيء ، لأنه ينظر الى كل شيء بمرآة نفسه السوداء ، حتى الى من يحسن اليه .. وصدق الذي قال :

من تكن نفسه بغير جمال

لا يرى في الوجود شيئا جميلا

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) هذا رد من الله على أولئك المنافقين ، ويتلخص الرد بأن النبي اذن خير ، لا اذن شر .. يقبل منكم ما لا ضرر فيه على انسان ، ويرفض ما فيه الضرر ، كالغيبة والنميمة (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق الصادقين منهم تصديق تسليم واقتناع ، أما المنافقون فيصدقهم فيما لا ضرر فيه تصديق ملاطفة ومجاملة (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). رحمة معطوف على اذن خير ، وهو من باب عطف العام على الخاص لأن اذن الخير رحمة أيضا (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لأن من آذى رسول الله فقد آذى الله.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ). كما يزعمون ، والضمير في يحلفون عائد إلى الذين قالوا : هو أذن. والخطاب في لكم وفي ليرضوكم للنبي والمؤمنين ، فلقد أخبرهم الله تعالى في هذه الآية ان المنافقين حين علموا باطلاعكم على ما قالوه في حق النبي (ص) خافوا منكم فالتجأوا إلى اليمين الكاذبة ليرضوكم ، وكان الأولى بهم أن يرضوا الله ورسوله بالتوبة والإخلاص. وفي الحديث من حلف على يمين ، وهو يعلم انه كاذب فقد بارز الله بالمحاربة .. وفي التعبير بيرضوه دون يرضوهما اشعار بأن إرضاء الرسول هو عين إرضاء الله ، كما أن ايذاءه عين إيذائه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ). يحادد أي يخالف. وهذه الآية تأكيد لقوله في الآية السابقة : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان ، وهو يشرح هذه الآية :

«كل نبي أوذي بما لا يحيط به البيان ، وكان محمد (ص) أشدهم في ذلك كما قال: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت. ولما كانت الاذية سبب التصفية كان


المعنى ما صفى نبي مثل ما صفيت .. وانما كان الحسن مسموما ، والحسين مذبوحا رضي الله عنهما بسبب ان كمال تعينهما كان بالشهادة ، وكان النبي (ص) قادرا على تخليصهما بالشفاعة من الله ، ولكنه رأى كمالهما في رتبتهما راجحا على الخلاص ، حتى انه دفع قارورتين لواحدة من أزواجه المطهرة ، وقال لها : إذا اصفر ما في إحداهما يكون الحسن شهيدا بالسم ، وإذا احمر ما في الأخرى يكون الحسين شهيدا بالذبح .. فكان كذلك».

حذر المنافقون الآية ٦٤ ـ ٦٦ :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

اللغة :

مخرج أي مظهر. والخوض في الشيء الدخول فيه.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان تنزل مفعول يحذر ، ويجوز جره بمن محذوفة. أبا لله متعلق بيستهزئون.


المعنى :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ). لم يحذر المنافقون حقيقة وواقعا من نزول الوحي في شأنهم ، وإنما أظهروا الحذر على وجه الاستهزاء والسخرية .. كانوا يطعنون في النبي (ص) فقال بعضهم لبعض ساخرا : احذروا ان تنزل في شأنكم سورة .. والدليل على ان هذا هو المراد قوله تعالى مهددا : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا). هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان المنافقين لا يؤمنون بالوحي فكيف يحذرون منه على وجه الحقيقة؟.

وذهب أكثر المفسرين إلى أن الضمير في عليهم وفي تنبئهم يعود الى المؤمنين ، وان الضمير في قلوبهم يعود الى المنافقين.

ويلاحظ أولا : ان المؤمنين لم يرد لهم ذكر في الآية ، وان المذكورين فيها صراحة هم المنافقون ، كما ان الآية التي قبلها تحدثت عن المنافقين ، دون غيرهم .. ثانيا يلزم من هذا التفسير التفكيك بين الضمائر ، مع عدم الدليل على ذلك.

ومن أجل هذا نرجح الرأي القائل بأن الضمائر كلها تعود الى المنافقين ، وان على في (عليهم) بمعنى في كما هي في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي في ملكه ، ومثلها أيضا فيما يقال : كان هذا على عهد مضى ، وعليه يكون المعنى يحذر المنافقون ـ تهكما ـ ان تنزل سورة تكشف عما يضمرون من العداء للإسلام والمسلمين. فتوعدهم الله سبحانه بأن السورة التي سخروا من نزولها نازلة لا محالة ، وانها تقابلهم وجها لوجه ، فيعتذرون حيث لا تنفعهم المعاذير.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). تكلم قوم من المنافقين بما لا ينبغي في حق رسول الله (ص) ، ولما سألهم قالوا : كنا هازلين لا جادين .. واختلف المفسرون في أسماء من قالوا هذا ، ونوع ما قالوا .. والآية لا تشير الى شيء من ذلك ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ). ان قولهم : كنا نخوض ونلعب أقبح من الذنب الذي اعتذروا منه .. فهل الله جلت عظمته لعبة للتسلي والتلهي؟. وهل أرسل أنبياءه للسخرية


والاستهزاء؟ .. وتدل الآية ان كل من استهزأ بالدين وأحكامه الثابتة بالبداهة فهو كافر.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ). وتسأل : ان هذا يدل على انهم كانوا مؤمنين قبل الاستهزاء ، وان السبب الموجب هو الاستهزاء ، مع العلم بأنهم كانوا كافرين من قبل في سرهم وواقعهم ، وان كفرهم هو السبب الموجب للاستهزاء؟.

الجواب : كانوا قبل اعترافهم بالاستهزاء بالدين كافرين واقعا مسلمين حكما ، لأنهم أظهروا الإسلام ، فجرى عليهم ما يجري على المسلمين من الأحكام التي تبنى على الظاهر ، لا على الواقع ، وبعد أن اعترفوا بالاستهزاء صاروا كافرين واقعا وحكما يجري عليهم أحكام المرتدين.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) كان المنافقون صنفين : الرؤساء المتبوعين الذين يتربصون بالإسلام ، ويكيدون لنبيه ، ويسخرون منه ، والضعاف التابعين ، فأمر الله سبحانه نبيه الأكرم بالعفو عن هؤلاء لضعفهم وبعقاب أولئك لأنهم علة العلل .. وقيل : ان الله سبحانه عفا عمن تاب منهم ، وعاقب من أصر على الكفر والنفاق.

المنافقون والمنافقات الآية ٦٧ ـ ٧٠ :

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا


بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

اللغة :

نسوا الله تركوا طاعته فنسيهم ترك ثوابهم. والخلاق النصيب. وخضم دخلتم في الباطل. وأصحاب مدين قوم شعيب. والمؤتفكات جمع مؤتفكة من ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت. والمراد بالمؤتفكات هنا قرى قوم لوط.

الإعراب :

المنافقون والمنافقات مبتدأ أول ، وبعضهم مبتدأ ثان ومن بعض خبر ، والجملة خبر الأول. كالذين من قبلكم الكاف بمعنى مثل في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي وعد الله المنافقين وعدا مثل وعد الذين من قبلكم. ومثله كما استمتع ، وكالذي خاضوا ، أي استمتعتم بخلاقكم استمتاعا مثل استمتاع الذين من قبلكم ، وخضتم خوضا مثل خوض الذي خاضوا ، والذي هنا اسم جنس بمعنى الذين. وقوم نوح بدل من الذين المجرور بإضافة نبأ. والمصدر المنسبك من ليظلمهم متعلق بمحذوف خبرا لكان أي : فما كان الله مريدا لظلمهم.


المعنى :

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) كناية عن تشابههم وصفا وعملا ، ثم بيّن وجه التشابه بقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ). والمنكر الذي أمروا به هو الكفر والنفاق ، والمعروف الذي نهوا عنه هو الإيمان وطاعة الله ورسوله ، أما أيديهم فإنهم قبضوها عن الإنفاق في سبيل الله ، ونسيانهم لله تركهم لطاعته ، ونسيانه لهم حرمانهم من رحمته (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الناكبون عن سبيل الرحمن الى سبيل الشيطان.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها). بعد ان بيّن سبحانه مساوئ المنافقين توعدهم وتوعد كل كافر بنار الجحيم (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي جزاء كاف واف على أعمالهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا يخف ولا ينقطع.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا). يقول سبحانه : أنتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد (ص) مثل المنافقين الذين خلوا استمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، وكانوا أقوى منكم وأكثر مالا وأولادا ، فاستمتعتم أنتم أيضا بنصيبكم من حطام هذه الحياة ، وخضتم في الباطل كما خاض الأولون (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطلت حسناتهم ، ان كان لهم حسنات كالعيش بكد اليمين وعرق الجبين .. وبطلانها في الآخرة بعدم الثواب عليها ، أما بطلانها في الدنيا فلأنها لا ترفع من شأن الكافر والمنافق عند أهل الوعي والإيمان (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم أتبعوا أنفسهم في تدبير الدسائس والمؤامرات على المؤمنين الطيبين ، ثم دارت عليهم الدائرة دنيا وآخرة.

والخلاصة ان الله سبحانه قال للمنافقين المعاصرين للرسول الأعظم (ص) ، اتركوا الكفر والنفاق ، واتعظوا بالذين خلوا قبلكم من أمثالكم قبل أن يتعظ بكم من يأتي بعدكم.


(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ). أصحاب مدين قوم شعيب ، والمؤتفكات قوم لوط. (انظر فقرة اللغة) .. لقد ذكّر الله سبحانه المنافقين بهؤلاء الأقوام ، لأن بلادهم كانت قريبة من بلاد العرب ، وكانوا في كثرة من المال والولد ، وقوم ابراهيم أهلكوا بسلب النعمة ، وعاد بالريح ، وقوم نوح بالغرق ، وثمود بالصيحة ، ومدين بعذاب الظلة ، والمؤتفكات بجعل عاليها سافلها ، وتقدم الكلام عن ذلك في سورة الأعراف (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإصرارهم على الخطايا والذنوب.

والمؤمنون والمؤمنات الآية ٧١ ـ ٧٢ :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

اللغة :

العدن الاقامة والخلود ، والرضوان مصدر رضي.


المعنى :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) المراد بالولاية هنا النصرة ، بعد ان ذكر سبحانه المنافقين برذائلهم ذكر المؤمنين بفضائلهم ، وان بعضهم يناصر بعضا ، ومن ادعى الايمان بالله ورسوله ، ولم يناصر إخوانه في هذا الايمان فهو منافق ، تشمله الآيات السابقة التي نزلت في المنافقين (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) حقيقة لا رياء كالمنافقين (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ولا يبخلون بها كما يبخل المنافقون (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ويستمرون على هذه الطاعة مهما كانت النتائج (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أما المنافقون فقد لعنهم وأعد لهم نار جهنم خالدين فيها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قادر على إعزاز المؤمنين ، وإذلال الكافرين والمنافقين.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) وعدن الاقامة ، وكل من أرضى الله في أعماله ومقاصده فالله يرضى عنه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك اشارة الى الجنات والمساكن الطيبة والرضوان. وتقدم نظيره في ج ٢ ص ٢٣ عند تفسير الآية ١٥ من سورة آل عمران.

جاهد الكفار والمنافقين الآية ٧٣ ـ ٧٤ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً


أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

اللغة :

الغلظة الخشونة في المعاملة. وهمّ بالشيء إذا أراده ، والهم دون العزم الا ان يبلغ نهاية القوة في النفس.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أغناهم مفعول نقموا ، أي ما كرهوا الا إغناء الله إياهم. ومن ولي (من) زائدة وولي مبتدأ.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). استعمل النبي (ص) اللين مع المنافقين فما أجدى ، بل جرّ أهم التسامح على الطعن فيه والقول بأنه أذن ، فأمره الله سبحانه ان يغلظ عليهم ويجاهدهم .. ولكنه لم يبيّن نوع الجهاد : هل هو بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر؟. ومعنى هذا ان الله قد ترك ذلك الى تقدير النبي (ص) فيجاهدهم بما يراه من الحكمة والمصلحة.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ). الضمير في يحلفون وقالوا عائد الى قوم من المنافقين ، فإنهم نطقوا بكلمة الكفر في حق رسول الله (ص) ، ولما سألهم خافوا وحلفوا ، فكذبهم الله ، وثبت صحة ما نسب اليهم .. ولم يذكر جلّ وعز أسماء الذين حلفوا اليمين الكاذبة ، ولا كلمة الكفر التي نطقوا بها ، كيلا يتعبد المسلمون بتلاوتها. وقال الشيخ المراغي في تفسيره :

«وأصح ما روي ان رسول الله (ص) كان جالسا في ظل شجرة فقال :


انه سيأتيكم انسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموا ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه الرسول ، فقال له : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فتجاوز عنهم ، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الخ».

(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ). هذا مثل قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ومر تفسيره في الآية ٦٦ من هذه السورة.

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا). في تفسير الرازي والبحر المحيط والمنار والمراغي وغيره : ان جماعة من المنافقين اتفقوا على الفتك بالرسول ، فأخبره الله بذلك ، فاحترز منهم ، ولم يصلوا الى مقصودهم. وفي الجزء الثاني من كتاب «الأعيان» للسيد محمد الأمين :

«رجع رسول الله (ص) من تبوك الى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه ، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فأخبر رسول الله (ص) خبرهم».

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ). ضمير نقموا وأغناهم يعود الى المنافقين ، وقد كان كثير منهم في ضنك من العيش يقاسون مرارة البؤس والفقر قبل أن ينطقوا بكلمة الإسلام ، وبعد أن قالوها بأطراف ألسنتهم تدفقت عليهم الأرزاق ، لأن النبي (ص) كان يساويهم في الغنائم بسائر المسلمين ، ووفى ديون بعضهم ، فكان جزاؤه منهم ان قالوا عنه ما قالوا : ثم همّوا باغتياله .. فوبخهم سبحانه على عقوقهم وكفران النعم بهذا الأسلوب ، وهو مثل قولك لمن عقّك بعد إحسانك اليه : ما لي عندك ذنب الا الإحسان اليك.

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ). ان باب الله مفتوح على مصراعيه لكل طارق ، والسبيل اليه سهل يسير ، حتى على الكافرين والمنافقين ، لا يكلفهم سوى الاعتذار عما سلف ، والصدق فيما يأتي.

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أما عذابهم في الآخرة فمعلوم ، واما عذابهم في الدنيا فلأن المنافقين في خوف دائم ان يفتضح أمرهم ،


وينتهك سترهم ، ومن أجل هذا يرهبون كل شيء ، ويحسبون كل صيحة انها عليهم ، لا على غيرهم ، كما وصفهم تعالى بقوله : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) ـ ٤ المنافقون». (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). ومن ينصر أو يجرأ ان ينصر من تكشفت عوراته وسيئاته على عيون الملأ.

ومنهم من عاهد الله الآية ٧٥ ـ ٧٨ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

اللغة :

أعقبهم أورثهم. والنجوى الكلام الخفي.

الإعراب :

فلما آتاهم (لما) هنا حرف وجود لوجود أي لما وجد الفضل وجد البخل ، وتختص لما بالماضي ، ومن فضله سد مسد المفعول الثاني لآتاهم. ولنصدقن أصله لنتصدقن ، فأدغمت التاء بالصاد. وفاعل أعقبهم ضمير مستتر يعود الى البخل ،


وهو مصدر متصيد من بخلوا. والهاء في يلقونه تعود إلى الجزاء على البخل ، والمعنى انهم يموتون على النفاق.

المعنى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ). قال أهل التفاسير : «ان هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار ، اسمه ثعلبة بن حاطب ، قال لرسول الله (ص) : ادع الله ان يرزقني مالا. فقال له : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، أما لك في رسول الله اسوة حسنة ، والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت .. ولكن ثعلبة لم يقنع ، فأعاد على النبي وألح ، وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال النبي : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ ثعلبة بعض غنيمات ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها إلى واد من أوديتها ، ثم كثرت ، حتى تباعد عن المدينة وأوديتها ، وانقطع عن الجمعة والجماعة .. وبعث اليه رسول الله (ص) من يأخذ الزكاة منه ، فأبى وبخل وقال : ما هذه إلا أخت الجزية. فقال رسول الله : يا ويح ثعلبة ، وأنزل الله هذه الآيات».

وسواء أنزلت هذه الآيات في ثعلبة ، أم في غيره فإن هذه الحادثة أو الحكاية تبين المراد من هذه الآيات بأوضح أسلوب ، وتكلمنا عما يتصل بذلك في ج ٢ ص ١٦٧ ، فقرة تغير الأخلاق والأفكار عند تفسير الآية ١٤٣ من آل عمران.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ). جاء في تفسير البحر المحيط : ان الحسن وقتادة وأبا مسلم قالوا : ان فاعل أعقبهم ضمير مستتر يعود الى البخل .. واختار هذا الطبرسي والمراغي ، وعليه تعود الهاء في يلقونه الى جزاء البخل ، والمعنى ان البخل أورثهم نفاقا لا يفارقهم حتى الموت ، وذكر تعالى لذلك سببين :الأول (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ). والثاني (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ). وهذان


الوصفان أي الخلف بالوعد ، والكذب في الحديث من أخص أوصاف المنافقين ، قال الرسول الأعظم (ص) : «آيه المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). السر ما تنطوي عليه الصدور ، والنجوى الكلام الخفي يتناجى به اثنان أو أكثر ، والغيوب جمع غيب ، وهو ما غاب عن جميع الخلق ، والمعنى كيف تجرأ هؤلاء المنافقون على إضمار الكفر ، والتناجي به؟. ألم يعلموا ان الله مطلع على ما تخفي صدورهم وما يدور على ألسنتهم ، وانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

الذين يلمزون المطوعين الآية ٧٩ ـ ٨٠ :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

اللغة :

لمزه عابه. والمطوع أصله المتطوع ، فأدغمت التاء في الطاء ، والمراد به هنا من يؤدي ما يزيد على الوجوب في أمواله. والجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة.

الإعراب :

الذين يلمزون مبتدأ وخبره سخر الله منهم ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون.


وسبعين قائم مقام المفعول المطلق ، لأن المعنى سبعين استغفارا.

المعنى :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ). اللمز العيب ، والمراد بالتطوع هنا بذل المال تفضلا لا وجوبا. وما زال الحديث عن المنافقين ، وهاتان الآيتان تعرضان لونا آخر من آثامهم وأذاهم المتصل للنبي والمؤمنين .. في ذات يوم حث النبي (ص) على البذل في سبيل الله ، فاستجاب المؤمنون من صحابته ، وتطوع بعضهم بالآلاف. وبعضهم بصاع من تمر ، كل حسب طاقته ، فعابهم المنافقون ، وقالوا عن المكثر : انه يبذل رئاء ، وعن المقل : انه يذكّر بنفسه .. ان شأن المنافقين الرياء فيما يقولون ويفعلون ، فقاسوا الغير على أنفسهم ، ووصفوه بوحي من واقعهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يشير الى الفقراء الدين تصدقوا بالقليل لأنه مبلغ طاقتهم (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) استخفافا بما بذلوه. ومن كلام الإمام علي (ع) : لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ومعنى سخرية الخالق جل وعلا انه يجازي الساخر بالعذاب الأليم على سخريته.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) سبعين مرة كناية عن الكثرة ، وما زال العرب يبالغون بالسبعة والسبعين. وقال قائل : ان الله سبحانه ترك الخيار للتنبيه في ان يستغفر للمنافقين أو لا يستغفر لهم لأن (أو) في الآية للتخيير بزعمه .. وهذا اشتباه ، فإن قوله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) دليل قاطع على انه لا سبيل لهم الى العفو والمغفرة. وعليه تكون (أو) للتسوية .. وفي رواية ان الله سبحانه حين أنزل في المنافقين (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) طلبوا من النبي أن يستغفر لهم ، فأنزل الله عليه (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وتسأل : ان الله يحب التوابين ، ويغفر لهم ذنوبهم مهما عظمت ، فما هو السر في قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)؟.


وقد أجاب سبحانه عن هذا في الآية نفسها ، حيث قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). انهم اعتذروا ، وطلبوا من النبي (ص) ان يستغفر لهم ، ولكن نفاقا ورياء ، أما في واقعهم فإنهم مصرون على الكفر والعناد .. وانما يتقبل الله من المتقين ، لا من المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.

فرح المخلفون بمقعدهم الآية ٨١ ـ ٨٣ :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

اللغة :

المخلفون جمع مخلّف ، وهو المتروك اسم مفعول ، أي ان رسول الله (ص) هو الذي تركهم. وبمقعدهم بصيغة اسم المصدر والمراد به المصدر ، أي بقعودهم. وخلاف تأتي مصدرا بمعنى المخالفة ، وظرفا بمعنى بعد. ورجعك الله ردك الله. فاقعدوا مع الخالفين أي مع القاعدين أو الباقين ، وهم النساء والصبيان والعجزة.

الإعراب :

خلاف رسول الله ان كان بمعنى بعد فهو ظرف منصوب والعامل فيه مقعدهم ،


وان كان مصدرا بمعنى المخالفة فهو مفعول لأجله لفرح. وحرا تمييز. واللام في ليضحكوا لام الأمر وعملها الجزم ، ومثلها اللام في ليبكوا. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ضحكا قليلا. ومثله كثيرا أي بكاء كثيرا. وجزاء مفعول لأجله ليبكوا. وأبدا منصوب على الظرفية ، ومعناه الاستقبال. وأول مرة قائم مقام الظرف ، أي في أول مرة.

المعنى :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). حكى الله سبحانه فيما سبق قول بعض المنافقين للنبي ائذن لي في القعود عن الجهاد ، وأخبر في هذه الآية عن فرحهم بهذا القعود مخالفة لرسول الله ، وكراهية للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله بعامة ، وفي غزوة تبوك بخاصة ، لأن الآيات نزلت فيها.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ). اشفقوا على أنفسهم من حر الدنيا ، ولم يشفقوا عليها من نار جهنم ، وهي أشد حرا ، وأطول أمدا .. هذا ، إلى أن من ترك جهاد الطغاة ألبسه الله ثوب الذل في الدنيا ، وسيم الخسف ومنع النّصفة .. وما غزي العرب والمسلمون في عقر دارهم إلا حين تواكلوا وتخاذلوا ، وآثروا الخزي والمذلة على الاستشهاد من أجل العزة والكرامة.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). الأمر بالضحك والبكاء معناه الإخبار بأن المنافقين ، وان فرحوا بمقعدهم عن الجهاد فان هذا الفرح ليس بشيء بالنسبة الى ما سيلقونه من الخزي والذل في الدنيا ، وهم في الآخرة أذل وأخزى.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) الخطاب للنبي (ص) ، ومعنى رجعك ردك من غزوة تبوك الى المدينة ، والمراد بالطائفة جماعة المنافقين ، وضمير منهم يعود إلى من تأخر في المدينة عن الغزو ، فإن بعض هؤلاء تأخر لعذر صحيح


(فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك الى الغزو أو غير الغزو (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). لقد تخلفوا عن الجهاد الواجب ، فعاقبهم الله بالحرمان من صحبة النبي (ص) ، والخروج معه الى الحرب وغيرها ، وهذا النوع من العقاب أشد على النفس من وقع السهام ، ويأتي في الآية ٩٥ قوله تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) ثم بيّن سبحانه سبب النهي عن إخراجهم مع النبي ، واشراكهم في قتال العدو بقوله : (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) قعدوا عن النبي (ص) في ساعة العسرة فلن يقبلوا بعدها .. ومن اختار لنفسه الهوان يدعه الله وما اختار ، والمراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء.

ولا تصل على احد منهم الآية ٨٤ ـ ٨٩ :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))


اللغة :

الطول بالفتح والتشديد الغنى والقوة. والخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد. وطبع على قلوبهم ختم عليها.

الإعراب :

منهم متعلق بمحذوف صفة لأحد ، وجملة مات صفة ثانية. وأبدا ظرف متعلق بتصلّ. وان آمنوا (ان) للتفسير بمعنى أي.

الصلاة على جنازة المنافق والفاسق :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). الخطاب في لا تصلّ للنبي ، وضمير منهم يعود الى المنافقين .. وكان من عادة النبي (ص) إذا مات أحد أصحابه ان يصلي عليه ، ويقف على قبره يستغفر له ويقول لمن حضر : استغفروا لأخيكم ، وسلوا التثبيت له ، فإنه الآن يسأل. وبعد أن نزلت هذه الآية امتنع النبي (ص) عن الصلاة على المنافقين ، لأنها صريحة في النهي عن الصلاة عليهم ، والوقوف على قبورهم للدعاء لهم ، أما سبب هذا النهي فهو إصرارهم على الكفر بالله ورسوله ، وموتهم على هذا الإصرار والعناد الذي عبّر عنه تعالى بقوله ، (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). هذا هو المعنى الظاهر من الآية ، وتتصل به المسائل التالية :

١ ـ المنافق قسم من أقسام الكافر ، بل هو أسوأ حالا منه ، لأنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام ، ومن أجل هذا تحرم الصلاة على جنازته ، وقوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) صريح في ذلك ، وأوضح منه أو مثله في الوضوح قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ـ ١١٤ التوبة». أما الفاسق فهو


قسم من أقسام المسلم ، لأنه يؤمن بالله ورسوله ظاهرا وباطنا ، ولكنه يعصي الله في أحكامه ، فتجب عليه الصلاة ، ولا يجوز تركها بحال.

في ذات يوم جاءني أحد علماء جبل عامل ، وقال : دعيت الى الصلاة على جنازة رجل أعلم بفسقه ، فهل تجوز لي الصلاة عليه؟. قلت : بل تجب عليك كفاية. قال : والفسق؟. فرويت له قول الإمام جعفر الصادق (ع) : «صلّ على من مات من أهل القبلة ، وحسابه على الله». قال : ولكن المصلي لا بد أن يدعو للميت بعد التكبيرة الرابعة ، والمعروف أن يقول في دعائه له : اللهم لا نعلم منه إلا خيرا ، فان قلتها كنت كاذبا. قلت له : قل : اللهم نعلم منه خيرا ، واقصد بالخير الإسلام.

٢ ـ اختلف المفسرون تبعا لاختلاف الروايات : هل صلى النبي (ص) على جنازة رأس النفاق عبد الله بن أبيّ؟. والأقوال في ذلك ثلاثة : الأول أنه صلى ، حيث كان يأمل أن يدخل بسبب هذه الصلاة خلق كثير في الإسلام .. وهذا مجرد حدس ، ولا يجوز أن نثبت أو نفسر به شيئا من أفعال المعصوم. القول الثاني : ان النبي (ص) أراد أن يصلي عليه ، فأخذ جبريل بثوبه ، وتلا عليه الآية : ولا تصلّ على أحد منهم. القول الثالث : انه ما صلى عليه. وجاء في مجمع البيان : «والأكثر في الرواية انه لم يصلّ عليه». وخير ما قرأت في هذا الباب ما جاء في تفسير الشيخ المراغي ، قال ما معناه : ان البخاري وغيره رووا ان النبي (ص) صلى على ابن أبيّ ، ولما سئل قال : ان الله خيرني في الصلاة على المنافقين ، لأنه قال لي : استغفر لهم أو لا تستغفر. ثم علّق المراغي على هذا الحديث بأن كثيرا من العلماء قد حكموا بعدم صحته ، لأن آية النهي عن الصلاة على المنافقين نزلت قبل موت ابن أبيّ ، ومحال أن يخالف الرسول الأعظم (ص) كتاب الله ، وأيضا محال أن يقول : ان الله خيرني بقوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لأن قوله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) دليل قاطع على أن (أو) هنا ليست للتخيير ، فالحديث بنفسه يدل على انه كذب وافتراء على الله ورسوله.

٣ ـ قال الطبرسي في مجمع البيان : «في هذه الآية دلالة على ان القيام على


القبر للدعاء عبادة مشروعة». ولا يختلف احد من فقهاء المسلمين في ان الدعاء للأموات يجوز شرعا ، تماما كالدعاء للأحياء ، بل الأموات أحوج ، ما دمنا نعتقد بالبعث وحسابه وعقابه ، ولا فرق بين أن يكون الدعاء على القبور ، أو على غيرها.

أما زيارة القبور فقد أجمع الفقهاء على جوازها ما عدا أئمة الوهابية .. وقد روى السنة في ثلاثة كتب من صحاحهم أحاديث تنطق صراحة بالجواز ، قال مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الأول ، باب استئذان النبي (ص) ربه في زيارة قبر أمه : «زار النبي (ص) قبر أمه ، وقال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر بالموت». وقال ابن حجر العسقلاني في ج ٣ من كتاب فتح الباري بشرح البخاري ، باب زيارة القبور : «أخرج مسلم عن النبي (ص) انه قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها» .. وزاد أبو داود والنسائي ـ وهما من أصحاب الصحاح ـ فإنها تذكرة الآخرة ، وللحاكم من حديث عن النبي : وترق القلب ، وتدمع العين ، فلا تقولوا هجرا .. وتزهد في الدنيا».

وتكلمنا عن ذلك في كتاب : هذه هي الوهابية. ثم عقدنا فصلا بعنوان زيارة القبور في كتاب ، من هنا وهناك. أما حساب القبر فقد تكلمنا عنه في المجلد الأول من هذا التفسير ص ٤٠٧ عند تفسير الآية ٢٥٩ من سورة البقرة. وقد نعود ثانية الى هذا الموضوع عند الاقتضاء.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ). تقدم نظيره في الآية ٥٥ من هذه السورة ، وقال المفسرون : إنما أعاد سبحانه تأكيدا للتحذير من الإعجاب بالمال والولد والاشتغال بهما ، وقلنا أكثر من مرة : ان التكرار في القرآن غير عزيز.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ). وأولو الطول هم الطغاة المترفون الذين يتفادون كل ما يمس مصالحهم من قريب أو بعيد .. والإيمان بالله معناه المساواة بينهم وبين سائر الناس ، والجهاد مع رسوله معناه الجهاد ضد البغي والفساد ،


أي ضدهم .. وإذا كان الإيمان بالله ، والجهاد مع رسوله يعرضان مصالحهم للخطر فهم حرب على الله ورسوله فوق ألّا يؤمنوا بالله ويجاهدوا مع رسوله .. ولكن قد اعترضتهم مشكلة ، وهي كيف يرفضون دعوة الرسول للجهاد معه ، وفي الوقت نفسه يزعمون الإيمان بنبوته ، وأخيرا وجدوا الحل ، وهو أن يستأذنوه في القعود .. ولكن هذا الاستئذان قد فضحهم وكشف عن كفرهم ونفاقهم ، وانهم يتسترون باسم الإسلام خوفا على أنفسهم.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) وهم العجزة والصبيان والنساء ، وكفى بذلك خزيا وهوانا (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) طبع مبني للمجهول ، أي ان الأغراض والأهواء قد أعمت قلوبهم عن الحق ، وصدتهم عن اتباعه.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ). أي إذا تخلّف المنافقون عن الجهاد فقد قام به النبي ، والذين أخلصوا لله في ايمانهم ، فهو نظير قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ـ ٨٩ الانعام». (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والخيرات والفلاح دنيا وآخرة نتيجة حتمية للايمان بالله والجهاد في سبيل الحق والعدل ، ولا تختص كلمة الخيرات بالخير المادي فقط ، بل تشمل المادي والمعنوي معا ، وطريف قول بعض المفسرين : ان المراد بالخيرات هنا الحور العين دون غيرهن معبّرا بذلك عن أحب الأشياء الى قلبه ، كما يبدو.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم نظيره في الآية ٧٢ من هذه السورة ، والسورة ١٥ من آل عمران.

وجاء المعذرون الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ


وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

اللغة :

المعذرون جمع معذر بفتح العين وتشديد الذال ، وله معنيان : الاول المعتذر من اعتذر ، سواء أكان له عذر أم لم يكن. الثاني من التعذير ، وهو التقصير أي يريك العذر ، ولا عذر له. والأعراب سكان البادية. ونصحوا أخلصوا.

الإعراب :

حرج اسم ليس مؤخر ، وعلى الضعفاء خبر مقدم. وإذا ظرف متعلق بمحذوف أي لا يخرجون. ولتحملهم أي على الإبل أو غيرها. وحزنا مفعول لأجله لتفيض. والمصدر المنسبك من ألا يجدوا مجرور بحرف جر محذوف أي لعدم وجود النفقة.

المعنى :

بعد ان بيّن سبحانه أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة تعرّض هنا للمتخلفين عن الجهاد من أهل البادية ، وانهم صنفان : الأول قصد النبيّ (ص) واعتذر اليه


واستأذنه في التخلف ، وهذا الصنف هم المعنيون بقوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ). الصنف الثاني : قعدوا كاذبين على الله ورسوله ، واليهم أشار بقوله: (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). وتقسيم المتخلفين إلى معذرين وكاذبين يدل على ان المراد بالمعذرين من تخلف لعذر صحيح ، ولذا سكت الله عن المعذرين ، ولم يهددهم بالعذاب الأليم ، كما هدد الكاذبين بقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وتسأل : ان سياق الآية يقتضي حذف (منهم) لأن الكاذبين على الله ورسوله كلهم كافرون ، لا بعضهم؟.

وأجاب الرازي بأنه تعالى كان عالما ان البعض منهم سيؤمن ، ويتخلص من العقاب ، فذكر لفظة (من) للدلالة على التبعيض .. والذي نراه نحن في الجواب : ان الذين قعدوا كاذبين على الله ورسوله على صنفين : منهم من كذبوا في اعتذارهم طلبا للراحة وفرارا من أعباء الجهاد ، مع إيمانهم بالله ورسوله ظاهرا وباطنا ، وهؤلاء ليسوا بكافرين بل متهاونين. وصنف اعتذروا مع إنكارهم باطنا نبوة محمد (ص). وهؤلاء كافرون مستحقون للخلود في العذاب. فجاءت كلمة منهم للدلالة على ان الكافرين هم الذين تخلفوا منكرين الرسالة ، دون الذين تخلفوا تهاونا ، لا جحودا.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). استنفر النبي (ص) الناس للجهاد ، فبادر اليه قوم ، وتخلف آخرون ، ومن هؤلاء المنافقون والكاذبون على الله ورسوله ، وتقدم الحديث عنهم ، ويأتي أيضا ، ومنهم اصحاب الاعذار الحقيقية ، وهؤلاء لا أثم عليهم ولا لوم ، وهم ثلاثة أصناف :

١ ـ الضعفاء العاجزون عن القتال لشيخوخة ، أو لعلة في أصل تكوينهم ، كمن خلق ضعيفا في بدنه لا يطيق القتال بحال.

٢ ـ المرضى ، والفرق بين المريض والضعيف ان علة المريض غير ملازمة لخلقه وتكوينه ، مع العلم بأن كلا منهما يجوز إطلاقه على الآخر.

٣ ـ الفقراء الذين لا يجدون النفقة ولا من يضمنها لهم .. فإن وجود مثل هؤلاء بين المقاتلين يخلق لهم مشكلة تعوقهم عن بلوغ الهدف المطلوب.


لقد أباح الله سبحانه لهؤلاء الأصناف الثلاثة أن يتخلفوا عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن يكونوا مخلصين في إيمانهم قائمين ببقية ما عليهم من الواجبات ، كحراسة المدينة ، والمحافظة على عيال المجاهدين وأموالهم ، وما إلى ذلك.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وكل من قام بواجبه كاملا فهو محسن في نظر الإسلام أيا كان نوع الواجب ، وكل من أخل به فهو مسيء. وقد أسقط الله الجهاد عن المرضى والفقراء ، فإن قاموا بما عليهم من الواجبات الأخر فهم محسنون ، وليس لأحد عليهم من طريق لمؤاخذتهم. وقد اتخذ الفقهاء من هذه الآية أصلا شرعيا فرعوا عليه كثيرا من الأحكام ، منها إذا استودع انسان مالا عند غيره ، فتلف المال فلا يضمن الوديع إلا إذا قصّر في حفظ المال أو تعدى عليه ، ومنها ان الحاكم الجامع للشروط إذا أخطأ في الحكم فلا شيء عليه إذا كان قد بذل الجهد لمعرفة الحق ، ومنها إذا رأى انسان مال غيره معرضا للهلاك المؤكد ، بحيث إذا تركه لم يبق منه شيء ، فأتلف بعضه بقصد ان يسلم البعض الآخر لصاحب المال ، إذا كان كذلك فلا يضمن المتلف شيئا في مثل هذه الحال ، لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، إلى غير ذلك من الأحكام.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ). اتفق الرواة والمفسرون على ان هذه الآية نزلت في جماعة من المسلمين أتوا النبي (ص) وهو يتهيأ لغزوة تبوك ، وقالوا له : يا رسول الله لا نملك راحلة للذهاب معك الى الجهاد ، وطلبوا منه مركبا يحملهم. فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، فسحّت أعينهم بالدمع لحرمانهم من الجهاد بين يدي الرسول الأعظم (ص) .. ثم اختلف المفسرون في أسماء هؤلاء وعددهم .. وليس ذلك بالشيء المهم ، ما دامت الآية واضحة الدلالة على الواقعة ، ولا قائل بنفيها.

وتسأل : ان هؤلاء يدخلون في صنف الفقراء المشار اليهم بقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) فما الفائدة من الاعادة؟.

وأجاب بعض المفسرين بأن الفقراء لا يجدون مأكلا ولا محملا ، والبكاؤون يجدون المأكل دون المحمل .. وقد تكون الفائدة التنويه بصدق البكائين وإخلاصهم ومكانتهم عند الله .. وعلى أية حال ، فإن الله سبحانه نفى المسئولية عن كل


من تخلّف عن الجهاد لعجزه عنه ، سواء أتمثل هذا العجز في المرض أم في عدم المأكل ، أم المحمل.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ومعنى هذه الآية يتفق مع مضمون الآيتين السابقتين ٨٦ و ٨٧ .. وخلاصة المعنى المقصود ان الله سبحانه بعد أن نفى المسئولية عن الفقراء والمرضى أثبتها على الأغنياء الأصحاء الذين يتخلفون عن الجهاد ، ومحال أن يعمل هؤلاء للصالح العام ، ويتعاونوا مع المخلصين فيما يمس بمصالحهم من قريب أو بعيد ، وهم على استعداد في كل حين أن يبيعوا دينهم ووطنهم للشيطان إذا ضمن لهم الربح والاستغلال .. وهكذا منذ القديم يناضل المستضعفون في بسالة لتحطيم الكفر والبغي ، ويقود أصحاب الطول والحول الثورة المضادة ان سنحت لهم الفرصة ، والا قبعوا في الزوايا يتربصون الدوائر بالمجاهدين.


الجزء الحادي عشر



يعتذرون اليكم الآية ٩٤ ـ ٩٦ :

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

الإعراب :

نبأنا بمعنى عرفنا تتعدى إلى مفعولين الأول ضمير (نا) والثاني محذوف أي طرفا ومن اخباركم صفة للمفعول المحذوف. وجزاء مفعول لأجله لمأواهم لأنه بمعنى تحرقهم جهنم.

المعنى :

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) يدل سياق الآية على انها نزلت في أثناء عودة جيش المسلمين من غزوة تبوك ، حيث أخبرهم الله سبحانه أنهم حين يصلون إلى المدينة يستقبلهم المنافقون معتذرين اليهم عن تخلفهم وقعودهم .. انهم يعتذرون ، ولكن بالكواذب والأباطيل ، ولذا قال الله لنبيه :

(قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ). هذا نهي منه تعالى أن يقبلوا عذرا من المنافقين ، وأمر للنبي (ص) أن يقول لهم : لا أصدقكم في


شيء مما تعتذرون ، لأن الله قد أوحى إليّ بما تخفي صدوركم من الشر والنفاق (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي لا نقبل اعتذاركم ، حتى تثبتوا ـ فيما سيأتي ـ بالأفعال لا بالأقوال انكم صادقون في نواياكم وأهدافكم ، ومخلصون في الإيمان بالله ورسوله ، كما تزعمون.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). الغيب ما غاب علمه عن غير الله ، والشهادة ما نعرفه ونشاهده. والمعنى انكم ستقفون غدا بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية ، فيخبركم بأعمالكم ، ويجازيكم عليها ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أي رجعتم من غزوة تبوك (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) المراد بالإعراض هنا السكوت عن نفاقهم وعدم توبيخهم عليه (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) والمراد بهذا الإعراض إهمالهم احتقارا وازدراء ، وفي بعض الروايات ان النبي أمر المسلمين أن يقاطعوهم ، ثم بيّن سبحانه علة إهمالهم واحتقارهم بقوله : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الرجس القذر ، وفي الحديث : أحكم الناس من فر من جهال الناس. وفي حديث آخر : إياكم ومجالسة الموتى. فقيل : من هم يا رسول الله؟ قال : كل ضال عن الايمان ، جائر عن الأحكام.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) حلفوا أولا ـ كما في الآية السابقة ـ طلبا للصفح وعدم مؤاخذتهم على الذنب ، كما دل قوله : (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ). وحلفوا ثانية طلبا للرضا وحسن المعاملة ، كما جاء في هذه الآية (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) .. ومن علامات المنافق كثرة الحلف لشعوره بأنه متهم بالكذب : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ١٤ المجادلة». ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله :

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ). هذا التلطف في النهي أبلغ الاساليب على الإطلاق (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) .. ان رضا المؤمن من رضا الله ، والله لا يرضى عن الفاسقين ، فكيف يرضى المؤمن عنهم؟ ومن ادعى الايمان بالله ، وهو راض على من غضب الله عليه فإنه منافق .. ما في ذلك ريب.


الأعراب أشد كفراً ونفاقاً الآية ٩٧ ـ ٩٩ :

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

اللغة :

العربي عام ، والأعرابي خاص بمن يسكن البادية. والمغرم الغرامة. والتربص الانتظار. والدائرة المصيبة. وقربات جمع قربة ، وهي طلب الثواب والكرامة من الله بحسن الطاعة. والمراد بالصلاة هنا الدعاء.

الإعراب :

كفرا ونفاقا تمييز. والمصدر المنسبك من ألا يعلموا مجرور بالباء المحذوفة أي أجدر بعدم العلم. وما ينفق مفعول أول ليتخذ ، وقربات مفعول ثان ، وصلوات الرسول معطوف على قربات ، وقيل : على ما ينفق. وألا أداة تنبيه.

البدوي والحضري :

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ


وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ليس هذا تقسيما للناس على أساس البداوة والحضارة ، وتفضيلا للحضري على البدوي ، كيف؟. وقد أخبر سبحانه في الآية الآتية ان قوما من الأعراب قد أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم .. ولو كانت البداوة إثما بما هي لحرمها الله ، تماما كما حرم الظلم والبهتان .. ان القرآن يقسم الناس على أساس التقوى أي الايمان بالله والعمل الصالح ، وقد بيّن هذه الحقيقة وأكدها بشتى الأساليب ، بل هي الغاية الأولى من انزال القرآن ودعوته وتعاليمه وشريعته.

والآية التي نحن بصددها تومئ الى ذلك ، فإن قوله تعالى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا الخ .. يشعر بأن سبب الذم هو الكفر والنفاق ، والجهل بأحكام الله التي أنزلها على نبيه .. وليست البداوة بما هي سببا للذم .. أجل ، ان حياة البادية وبعدها عن أسباب الحضارة والمعرفة توجب غلظة الطبع وجفوته ، والتجاوز عن الحد .. فالذنب ـ اذن ـ هو ذنب الظروف والبيئة .. وليس ذنب البدوي المسكين. وفي بعض الروايات : «تفقهوا في الحلال والحرام وإلا فأنتم أعراب» أي مثيلهم في الجهل والبعد عن الحضارة ، وفي رواية ثانية : «من لم يتورع في دين الله ابتلاه بسكنى الرساتيق» أي مع أهل الجهل والغلظة.

وبعد هذا التمهيد نعود إلى الآية. والمعنى المقصود منها ان في أهل البادية كفارا ومنافقين ، تماما كما في أهل الحضر ، ولكن كفار البادية ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم المتحضرين. هذا محصل المعنى الظاهر من الآية ، ونعطف عليه وإذا كان السبب الموجب هو الجهل والطبع الغليظ فينبغي أيضا أن يكونوا أشد إيمانا إذا آمنوا ، وإخلاصا إذا أخلصوا ، لأن السبب واحد.

وبهذه المناسبة نشير إلى ما جاء في ميزان الشعراني باب الشهادات : «ان الحنابلة لا يقبلون شهادة البدوي على الحضري مطلقا ، والمالكية يقبلونها في الجراح والقتل خاصة ، ولا يقبلونها فيما عدا ذلك من الحقوق» .. وقد فهمنا وجه الدليل لقول من قال : لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم ، أما مساواة البدوي المسلم لغير المسلم في الشهادة فلا نعرف لها وجها .. قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ـ ٢ الطلاق» .. ولم يقل من أهل الحضر .. ان العبرة من قبول الشهادة بالعدالة ، لا بالحضارة وغيرها.


(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً). بعد أن ذكر سبحانه ان في الأعراب منافقين ذكر ان هؤلاء ينفقون من أموالهم ، ولكن يرون هذا الإنفاق غرامة ظالمة ، لا شيء وراءها غير الخسران. وان الثواب والجزاء عليها يوم القيامة حديث خرافة. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) ينتظرون أن يتغلب أعداء الإسلام على المسلمين ، ويتمنون القضاء عليه وعليهم ، ليستريحوا من هذه الغرامة الظالمة الخاسرة في عقيدتهم (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) قال جماعة من المفسرين : هذا دعاء على المنافقين أن يصيبهم ما تمنوه للمؤمنين. ويجوز أن يكون إخبارا عن الحال التي يكون عليها المنافقون يوم القيامة من العذاب والوبال (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ما يقولون ، ويعلم ما يكتمون.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ). ان أهل البادية كغيرهم ، منهم المنافق الذي يظهر خلاف ما يضمر ، ويرى ما ينفق مغرما ، لا واجبا ، كما أشارت الآية السابقة ، ومنهم المؤمن المخلص الذي ينفق لوجه الله وثوابه ، ورغبة في دعاء الرسول له بالبركة والاستغفار ، كما أشارت هذه الآية (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ضمير انها يعود إلى النفقة المدلول عليها بينفق ، وقربة أي ان هذه النفقة تقربهم من الله زلفى ، والمعنى ان الذين آمنوا وأنفقوا تقربا الى الله فإنه يقبل نفقتهم ، ويدخلهم بسببها في جنته ، ويغفر لهم ما فرط منهم من الزلل والخطيئات.

والسابقون الأولون الآية ١٠٠ ـ ١٠٢ :

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ


مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

اللغة :

مردوا على النفاق أي ثبتوا عليه ، وأتقنوا أساليبه ، ويقال : شيطان مارد ومريد أي عات وعنيد.

الإعراب :

السابقون مبتدأ والأولون صفة ، ورضي الله خبر المبتدأ. وممن حولكم خبر مقدم ، ومنافقون مبتدأ مؤخر. ومن أهل المدينة خبر لمبتدأ محذوف ، أي من أهل المدينة قوم مردوا ، وجملة مردوا صفة لقوم. وآخرون مبتدأ ، واعترفوا صفة ، وخلطوا خبر.

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآيات الثلاث أربعة أصناف من الأمة ، ثم أضاف اليها صنفا خامسا في الآية الآتية ١٠٦ ، ونتكلم عنه حين نصل اليه. أما الأصناف الاربعة فهي :

١ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الأولون صفة للسابقين ، وقد جعلت كلا من المهاجرين والأنصار صنفين : سابق ولا حق ، وليس من


شك ان المراد السبق في الهجرة والنصرة ، لان الوصف يشعر بهما ، ولكن الله سبحانه لم يحدد زمن هذا السبق ، ولذا اختلف المفسرون ، فمن قائل : ان المراد الهجرة والنصرة قبل يوم بدر ، وقائل : قبل بيعة الرضوان ، وهي التي حصلت تحت الشجرة يوم الحديبية ، وقال ثالث : من صلى القبلتين .. والذي نراه ان المراد بالسابقين الأولين من سبق في الهجرة والنصرة قبل ان يملك المسلمون القوة الرادعة لمن يعتدي عليهم ، ويفتن ضعيفهم عن دينه ، كما كان يفعل المشركون في بدء الدعوة ، وعلى هذا يكون القول الاول هو الراجح ، لان قوة المسلمين انما ظهرت يوم بدر ، وفيه أحس المشركون بمناعة الإسلام وبأسه.

٢ ـ (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) وهم كل من سار على طريق السابقين المخلصين. قال الطبرسي : «يدخل في ذلك من يجيء بعدهم الى يوم القيامة». وقد جاء تحديد التابعين بإحسان في الآية ١٠ من سورة الحشر : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). ونرجو ان يتعظ بهذه الآية من يدعون الايمان ، وهم غارقون في غل التحاسد الى الآذان.

وهذان الصنفان : السابقون ، والتابعون (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) رضي الله عنهم بطاعتهم وإخلاصهم ورضوا عنه بما أفاض عليهم من نعمه (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اي لا فوز بالمعنى الصحيح الا بمرضاة الله.

وتسأل : الظاهر من الآية ان مجرد السبق الى الهجرة والنصرة كاف واف في رضوان الله ، وانه حسنة لا تضر معه سيئة ، فهل هذا الظاهر حجة ملزمة ، بحيث يجب علينا ان نقدس كل من سبق الى الهجرة والنصرة ، حتى ولو ثبتت عليه المعصية.

الجواب : ان المراد بالسابقين الأولين من أقام على طاعة الله ، ومات على سنة رسول الله (ص) ، أما من عصى وأساء بعد السبق فلا تشمله مرضاة الله ، كيف؟ وهو القائل : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ـ) ١٢٢ النساء». والقائل : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ـ)


٥١ ابراهيم». وروى البخاري في الجزء التاسع من صحيحه ، كتاب الفتن : «ان رسول الله (ص) يقول يوم القيامة : أي ربي أصحابي .. فيقول له : لا تدري ما أحدثوا بعدك .. فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي».

وليس من شك ان للسابق في الهجرة والنصرة الافضلية على اللاحق ، ولكن هذا شيء ، والسماح له بالمعصية ، أو عدم الحساب عليها شيء آخر.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). ذكر سبحانه المنافقين في العديد من الآيات ، وذكرهم هنا لمناسبة ذكر المؤمنين السابقين واللاحقين ، وليخبر نبيه الأكرم بمكانهم وموطنهم : وانهم محيطون به من كل جانب ، فهم موجودون في المدينة التي يقيم فيها ، وفي البادية التي حولها ، وان منافقي المدينة بوجه خاص قد مهروا في فن النفاق ، وأتقنوه الى أن استطاعوا التكتم به عن الرسول رغم ملازمتهم له ، ومخالطته لهم.

ثم بيّن سبحانه جزاء المنافقين بقوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ). وهذا العذاب الأخير الذي يردون اليه معروف ، وهو عذاب جهنم ، أما نوع العذاب وزمنه في المرة الاولى والثانية قبل عذاب جهنم ـ فلم تشر اليه الآية .. وغير بعيد أن يكون العذاب في المرة الأولى عند الموت لقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ـ ٥٠ الانفال». أما العذاب في المرة الثانية فهو عذاب القبر للأحاديث الكثيرة : ان قبر الكافر حفرة من حفر جهنم ، وقبر المؤمن روضة من رياض الجنة.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً). وهؤلاء هم المؤمنون الذين يحسنون أحيانا بدافع من ايمانهم ، ويتغلب الهوى حينا على ايمانهم ، فيسيئون ، وهم الأكثرية الغالبة «ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها» ولا ينتقل من خير الا الى خير .. الا من عصم ربك.

ثم بيّن سبحانه حكم هؤلاء بقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لأنهم شعروا بالخطيئة ، واعترفوا بها ، فأصبحوا بذلك محل الرجاء لرحمة الله وغفرانه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وفي مجمع البيان : «قال المفسرون : عسى من الله واجبة ،


وإنما قال عسى ، حتى يكونوا بين طمع واشفاق ، فيكون ذلك أبعد عن الاتكال على العفو وإهمال التوبة».

خذ من أموالهم صدقة الآية ١٠٣ ـ ١٠٦ :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

اللغة :

المراد بالسكنى هنا راحة النفس واطمئنانها. والإرجاء التأخير.

الإعراب :

خذ خطاب للنبي ، وكذلك تطهرهم وتزكيهم ، وجملة تطهر خبر لمبتدأ محذوف ، أي فأنت تطهرهم ، ولا يستقيم الكلام إلا بهذا الإعراب مع وجود كلمة (بها) لأن تطهرهم وتزكيهم وردتا بالرفع ، فلو جعلت الجملة صفة للصدقة لكان المعنى صدقة مطهرة ومزكاة بالصدقة لأن ضمير (بها) يعود إلى الصدقة.


أما قول من قال : ان التاء في تطهرهم للصدقة وفي تزكيهم للنبي فهو تفكيك بين الكلام الواحد مع عدم الدليل. وهو مبتدأ ويقبل التوبة خبر ، والجملة خبر ان ، ولا يجوز أن يكون هو ضمير الفصل لأن ما بعده فعل.

المعنى :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). اتفقوا على أن ضمير (بها) يعود إلى الصدقة ، واختلفوا في ضمير (أموالهم) ، فقيل : يعود الى الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وقيل : بل يعود الى جميع الأغنياء ، لأن الآية نزلت في الزكاة المفروضة. وهذا القول أقرب إلى الاعتبار ، وعليه يكون المعنى خذ يا أيها الرسول الزكاة من أموال الأغنياء فإنها مطهرة لهم من دنس البخل بحق الله. وتكلمنا عن الزكاة عند تفسير الآية ٦٠ من هذه السورة ، وفي ج ١ ص ٤٢٨ عند تفسير الآية ٢٧٤ من سورة البقرة.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). المراد بالصلاة هنا الدعاء ، والسكن راحة النفس ، والمعنى ادع ايها الرسول لمن يؤدي الزكاة بالبركة والمغفرة فإنه يغتبط بدعائك ، وترتاح نفسه اليه (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ويستجيب دعاءك للمزكين ، ويعلم نية من يؤدي الزكاة عن طيب نفس تقربا إلى الله وحده.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). ويومئ السياق إلى أن التوبة ذكرت هنا للإشارة إلى ان من منع الزكاة ، ثم تاب وأداها كاملة فإن الله يقبل توبته ، ويأخذ صدقته ، ومعنى أخذه لها انه جلّت كلمته يثيب عليها ، فقد جاء في الحديث : «ان الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل». وكف الرحمن كناية عن قبوله لها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي يقبل التوبة ، ويرحم التائبين.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). ذكر هذه الآية محيي الدين بن العربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ، وشرحها بكلام هذا توضيحه وتلخيصه : ان معنى الرؤية يختلف باختلاف الرائي ، فمعنى الرؤية من


الله للشيء ان يحيط به علما من جميع جهاته ، ومعناها من الرسول (ص) ان يعلم الشيء المرئي من وجهة الوحي الذي نزل عليه ، ومعناها من المؤمن العارف أن يعلمه بقدر ما علم وفهم من الوحي المنزل على الرسول (ص) .. وعلى هذا فمن عمل لله فان الله يعلم حقيقة عمله ، ويرضى عنه ، والرسول يعلم أيضا أن هذا العمل مرضي عند الله ، والمؤمن العارف أيضا يعلم انه مرضي عند الرسول ، والنتيجة الحتمية لذلك ان من يعمل صالحا فهو مرضي عند الله والرسول والمؤمنين.

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). تقدم نظيره مع تفسيره في الآية ٩٤ من هذه السورة.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ). ذكر سبحانه في الآية ١٠٠ وما بعدها أربعة أصناف : السابقين الى الهجرة والنصرة ، والتابعين لهم بإحسان ، والمنافقين ، والمعترفين بذنوبهم .. وأشار في هذه الآية إلى قوم لم يحددهم بصفاتهم كما فعل في الأصناف الأربعة ، ولم يصرح بحكمهم في هذه الآية ، وانما قال : انهم مؤجّلون الى عذاب الله أو مغفرته ، أي ان أمرهم موكول اليه وحده ، وقد أبهمه عليهم وعلى الناس ، وقد تكون الحكمة في هذا الإبهام ان يترددوا بين الخوف والرجاء ، فلا يطمعوا ولا ييأسوا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بما يصلح هؤلاء وغيرهم ، وحكيم في إرجاء النص على حكمهم ، وفي كل ما يفعل.

وقال كثير من المفسرين : ان هذه الآية نزلت في جماعة من المسلمين تخلفوا عن الرسول في غزوة تبوك ، ثم ندموا .. وقد نصت الآية الآتية ١١٨ على ان ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن الخروج الى تبوك مع رسول الله (ص) ، ثم تابوا ، وان الله قبل توبتهم ، وأعلن قبولها ، ولم يدعهم في التردد بين الخوف والرجاء .. هذا ما بدا لنا عند تفسير الآية التي نحن بصددها ، ولا ندري ما نجد من المعاني حين يسيطر جو الآية ١١٨. فالى هناك.

مسجد الضرار الآية ١٠٧ ـ ١١٠ :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً


لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

اللغة :

الضرار طلب الضرر ومحاولته. والارصاد الارتقاب. والشفا الحرف ، يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه. والجرف جانب الوادي الذي ينحرف بالماء ، وأصله الاجتراف. وهار من الانهيار.

الإعراب :

ضرارا مفعول من أجله لاتخذوا ، ومثله ما بعده. ولمسجد مبتدأ ، وجملة أسس صفة ، وأحق خبر ، والمصدر المنسبك من أن تقوم مجرور بالباء المحذوفة. وفيه الاولى متعلقة بتقوم ، وفيه الثانية خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر. وعلى تقوى متعلق بأسس ، ومثله على شفا.


المعنى :

عرضت الآيات السابقة ألوانا شتى لنفاق المنافقين ، وتعرض هذه الآية لونا آخر من نفاقهم وحيلهم ، فقد رأى جماعة من منافقي المدينة ان أفضل وسيلة يكيدون فيها للإسلام ونبيه محمد (ص) ان يبنوا مسجدا تحت ستار التجمع لعبادة الله والمناداة فيه بأن محمدا رسول الله ، وتحت هذا الشعار يعملون للكفر بالله ورسوله ، والإضرار بالإسلام والمسلمين وتفريق كلمتهم .. وبالفعل بنوا هذا المسجد ، وأحكموا بنيانه ، وأنفقوا عليه المبالغ ، وبعد إتمامه ذهبوا الى رسول الله ، وقالوا : ان بيوتنا قاصية عن مسجدك ، ويصعب علينا الحضور فيه ، ونكره الصلاة في غير جماعة ، وقد بنينا مسجدا لهذه الغاية ، وللضعفاء وأهل العلة ، فإن رأيت ان تصلي فيه لنتيمّن ونتبرك بالصلاة في موضع صلاتك .. هذا هو شأن المنافقين والخائنين في كل عصر ، يحملون شعارات البناء ، ويعملون وراءها للهدم والتخريب .. ولكن سرعان ما تتكشف عوراتهم ، ويفتضحون لدى جميع الناس ، كما افتضح أصحاب مسجد الضرار ، حيث أنزل الله فيهم على نبيه يخبره بحقيقتهم في قوله :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ). تقول الآية الكريمة : ان الذين بنوا مسجد الضرار يهدفون من ورائه الى أربعة أغراض : الاول الإضرار بالمسلمين. الثاني الكفر بالله ، والطعن في نبيه. الثالث تفريق كلمة المسلمين وانشقاقهم على رسول الله. الرابع جعل المسجد معقلا لمن حارب الله ورسوله من قبل.

واتفق المفسرون وكتّاب السيرة النبوية على ان المقصود بهذا العدو الذي حارب الله ورسوله من قبل هو رجل من الخزرج يقال له : أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر ، وكانت له رئاسة ومكانة بين قومه ، ولما قدم النبي (ص) الى المدينة بارزه هذا اللعين بالعداوة ، وكان رسول الله يسميه الفاسق ، وحين رأى أمر النبي في ارتفاع فر الى مكة يحرّض قريشا على النبي ، وبعد فتحها فر الى الطائف ، ولما أسلم أهلها فر الى الشام ، ومن هناك كتب الى المنافقين من أنصاره أن يستعدوا


ويبنوا له مسجدا ، لأنه سيأتيهم بجنود قيصر لحرب محمد (ص) (١).

ولما نزلت هذه الآية قال النبي (ص) لبعض أصحابه : «انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه» ففعلوا ذلك ، وأمر النبي (ص) ان يتخذ مكانا لإلقاء الجيف والقمامة .. وجاء في بعض الروايات تشبيه مسجد الضرار بالعجل الذي عبده بنو إسرائيل ، وموسى حي ، وكما أمر سبحانه نبيه موسى بتحطيم العجل فقد أمر رسوله الأعظم محمدا بهدم مسجد الضرار .. وكل مسجد او معهد او ناد يتخذ للدس والمؤامرات على المؤمنين والمخلصين فهو عجل بني إسرائيل ومسجد الضرار ، يجب هدمه واتخاذه محلا للقذارات.

ومنذ ظهر النفط في البلاد العربية ، وقامت من أجله الشركات الأجنبية ظهر معها المئات من مساجد الضرار في صور وأشكال شتى ، منها ما يحمل اسم المعبد او معهد الدراسات ، ومنها اسم المكتبة العامة ، او الجمعية الدينية ، ومنها اسم النادي الثقافي أو الرياضي ، ومنها ما ظهر في شكل كتاب او صحيفة أو محاضرة تذاع وتنشر باسم الدين والوطن ، ولا هدف من ورائها إلا محق الدين والوطن .. وما إلى ذلك من المشاريع التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب .. وتكلمنا عن الشعارات الدينية في ج ٢ ص ١٦٦ من هذا التفسير.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). الضمير في ليحلفن يعود الى الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ، والمعنى ان هؤلاء المنافقين حلفوا لرسول الله (ص) ان غايتهم من بناء المسجد هي العبادة لله ، ومنفعة المسلمين ، والله يعلم انهم ما بنوه الا إضرارا بالمصلين ، وكفرا بالله ، وتفريقا بين المؤمنين ، ومعقلا لمن حارب الله ورسوله (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) الخطاب للنبي ، والنهي عام ، للجميع ، تماما مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). وقال المفسرون : المراد بالقيام في قوله : (لا تَقُمْ فِيهِ) الصلاة ، والظاهر ان القيام هنا أعم يشمل الصلاة وغيرها .. وعلى أية حال ، فإن قوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) دليل

__________________

(١). كان لأبي عامر هذا الفاسق ابن ، اسمه حنظلة ، من اجل الصحابة وأخلصهم لله ورسوله ، وقتل معه يوم احد ، وكان جنبا ، فغسلته الملائكة ، فسمي غسيل الملائكة.


قاطع على عدم صحة الصلاة في كل مسجد بني إضرارا بالمسلمين ، وتفريقا لكلمتهم ، وان من صلى فيه فصلاته باطلة ، وعليه أن يعيدها في مكان آخر ، لأن النهي في العبادة يدل على الفساد.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). قيل : ان المراد به مسجد رسول الله (ص) لأنه هو الذي بني من أول يوم بالمدينة. وقيل : بل مسجد قبا الذي بناه بنو عمرو بن عوف .. وقبا موضع في جنوب المدينة ، ويبعد عنها حوالي ميلين ، والظاهر ان المراد به كل مسجد بني على التقوى ، لأن (مسجدا) نكرة منوّنة ، وهي لا تختص بواحد معين ، وقوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) معناه انه بني للإسلام منذ اللحظة الأولى لوجوده وبنائه ، وأحق هنا بمعنى حقيق وجدير ، وليست للتفضيل ، لأن مسجد الضرار لا تصح الصلاة فيه بحال.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي ان هذا المسجد الذي أسس على التقوى يؤمه المخلصون للصلاة وعبادة الله ، لا للنفاق والتآمر على الإسلام ونبيه كالذين يؤمون مسجد الضرار .. وعبّر سبحانه عن الصلاة هنا بالطهارة لأنها تطهر من الذنوب ، فقد جاء في الحديث : «ان الصلاة كالنهر الجاري ، من اغتسل فيه كل يوم خمس مرات لم يبق في بدنه شيء من الدرن كذلك من صلى كل يوم خمس مرات لم يبق عليه شيء من الذنوب». هذا ما فهمناه من الآية ، مع الاعتراف بأن أحدا من المفسرين لم يفسر الطهارة بالصلاة ـ كما نعلم ـ وان أكثرهم او الكثير منهم فسرها بطهارة الغائط بالماء.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). بيّنا معاني المفردات في فقرة اللغة ، والمقصود من الآية بيان الفرق بين مسجد التقوى ، ومسجد الضرار ، فإن بنيان هذا لا ثبات له ، وسرعان ما ينهار بأهله في نار جهنم ، تماما كالذي بني على حافة النهر أو في معرض السيل ، أما بنيان مسجد التقوى فثابت الأساس لا يزعزعه شيء ، واهله في أمن وأمان ، فالآية نظير قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)


ـ ٢٠ الحشر» .. وطريف قول بعض المفسرين بأن نار جهنم إشارة الى ما حدث في الدنيا ، حيث خرجت نار جهنم من مسجد الضرار ، وبقي دخانها إلى زمان أبي جعفر المنصور.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). المراد بالريبة هنا ان المنافقين لم يؤمنوا بنبوة محمد (ص). وتقطع قلوبهم كناية عن موتهم ، والمعنى انهم بنوا المسجد مرتابين غير مؤمنين بمحمد ، وسيبقون على هذا الريب حتى الموت.

الله يشتري ويبيع الآية ١١١ ـ ١١٢ :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

الإعراب :

وعدا منصوب على المصدرية أي وعدهم وعدا. والتائبون خبر لمبتدأ محذوف أي هم التائبون.


المعنى :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ). المشتري هو الله سبحانه ، والبائع المؤمنون ، والثمن الجنة ، والمثمن الأنفس والأموال ، والواسطة في إتمام الصفقة بين البائع والمشتري هم الأنبياء ، على ان يسلم البائع الشيء المبيع عند الطلب ، أما الثمن فمؤجل ، والله هو الضامن له ، إذ لا أحد أوفى منه وأغنى.

وتسأل : ان الله خالق الأنفس ، ورازق الأموال ، فكيف يشتري المالك ما هو ملك له؟.

الجواب : ليس هذا شراء بالمعنى المعروف ، وانما هو حث وترغيب في الطاعة .. وعبّر سبحانه عنه بالشراء لأمرين : أن يثق المطيع بالجزاء والثواب على طاعته ، تماما كما يثق البائع باستحقاقه الثمن بدلا عن سلعته. الثاني : التنبيه الى ان الايمان ليس مجرد كلمات تمضغها الأفواه ، وصورة تمر بالأذهان ، وعاطفة تحس في القلوب ، وانما هو بذل وتضحية بالنفس والمال النفيس رغبة في ثواب الله الذي هو أغلى وأبقى ، تماما كما يتنازل البائع عن ملكه مختارا طمعا في الثمن الذي يراه أنفع وأجدى.

ان أعز شيء على الإنسان حياته ونفسه التي بين جنبيه ، أما حبه للمال فلأنه الوسيلة لحفظها وتحقق أهوائها ورغباتها ، وقد امتحن الله سبحانه من يدّعون الايمان ، امتحنهم بأعز الأشياء لديهم ، ليتميز الصادق في إيمانه من الكاذب ، ولا يحتج هذا غدا بصومه وصلاته ، وقد بخل وأحجم عن العطاء والبذل من نفسه وماله.

(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) هذا مثل قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي هو الذي أوجبها على نفسه ، فصارت حقا عليه بهذا الإيجاب ، وقد وعد سبحانه المجاهدين بالجنة فصارت حقا لهم عليه بهذا الوعد ، بخاصة بعد أن سجله (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) والغرض من هذا التأكيد ان يكون المجاهدون على يقين من الجزاء وعظيم الثواب ، حتى كأنهم يرونه رأي العين ، فيفرحون ويستبشرون. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا تأكيد آخر للوعد بالجزاء وحسن الثواب ، وقال علماء الكلام : إذا


وعد الله بالثواب فهو منجز ما وعد ، وإذا توعد بالعقاب فهو بالخيار ان عاقب فبعدله ، وان عفا فبفضله ، وما الله بظلّام للعبيد .. وتكلمنا عن ثمن الجنة في ج ١ ص ٢٤٢ عند تفسير الآية ١٥٥ من سورة البقرة .. ثم وصف سبحانه الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته ، وصفهم بالأوصاف التالية :

(التَّائِبُونَ) من كل تقصير ، ولو من فعل ما يكره فعله ولا يجب تركه (الْعابِدُونَ) أي المخلصون لله في جميع أعمالهم ، (الْحامِدُونَ) الله في السراء والضراء ، (السَّائِحُونَ) في الأرض لطلب العلم أو الرزق الحلال ، (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المصلون ، (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي ينشرون الدعوة الى الله وطاعته ، ويجاهدون كل من يحاول العبث بحق من حقوقه وحقوق عباده وعياله ، (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وحدوده تعالى هي حلاله وحرامه ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الموصوفين بهذه الصفات بأن لهم من الله فضلا كبيرا.

أبو طالب والاستغفار المشركين الآية ١١٣ ـ ١١٤ :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

اللغة :

الأواه كثير التأوه والتحسر مأخوذ من أوه كلمة توجع.


النزول :

تكلم الناس كثيرا حول إسلام أبي طالب عم النبي (ص) ، واختلفت فيه الأقوال ، ووضعت فيه الكتب قديما وحديثا ، وأثير هذا الموضوع على صفحات مجلة العربي في العدد ١٠٨ و ١١٠.

واستدل القائلون بإسلامه بما لاقاه في سبيل الرسول الأعظم (ص) من سراة قومه وصناديدهم ، وبأقواله في مدح الرسول شعرا ونثرا. أما القائلون بأنه مات على الشرك فقد استدلوا بروايات تقول : ان هاتين الآيتين نزلتا في شأن أبي طالب.

وحين بلغت في التفسير الى هنا تتبعت الروايات والأقوال في صفحات الماضي والحاضر حول السبب لنزول الآيتين فخرجت بأن الرواة والمفسرين افترقوا في سبب نزول الآيتين إلى ثلاثة أقوال.

القول الأول :

ان جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا المشركين ، كما استغفر ابراهيم (ع) لأبيه. فنزلت الآيتان. ذكر هذا القول الطبري والرازي وأبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط ، وصاحب تفسير المنار وغيرهم. وهذا القول أرجح من قول الآخرين ، لأن في الآيتين كلمات تشعر به ، منها قوله تعالى : (.. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) فنهي المؤمنين عن الاستغفار لأقربائهم المشركين يشعر بأنهم كانوا يستغفرون لهم، أو حاولوا ذلك ومنها قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) فإنه يحسن جوابا عن قول المؤمنين : كما استغفر ابراهيم لأبيه.

القول الثاني :

ان النبي (ص) أتى قبر أمه ، وبكى عنده ، واستأذن ربه أن يستغفر لها ، فنزلت الآيتان ، ذكر هذا القول الذين نقلنا عنهم القول الأول. وهذا القول


أي ان الآيتين نزلتا حين بكى النبي عند قبر أمه أرجح من القول انهما نزلتا حين وفاة عمه أبي طالب ، لأن أبا طالب مات في مكة عام الحزن ، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات ، وسورة التوبة التي جاءت فيها الآيتان نزلت بالمدينة سنة تسع للهجرة أي بعد وفاة أبي طالب بحوالى ١٢ سنة.

القول الثالث :

ان الآيتين نزلتا في أبي طالب بدعوى ان النبي قال لعمه أبي طالب ، وهو يحتضر : أي عم قل لا إله إلا الله فامتنع ... فقال النبي : لأستغفرن الله لك ما لم أنه عنك.

وردّ هذا القول جماعة من العلماء أولا بأن الآيتين ـ كما أشرنا ـ نزلتا بعد وفاة أبي طالب. ثانيا : بأن أبا طالب مات بعد أن اسلم وأخلص في إسلامه (انظر الغدير للأميني ج ٧ ص ٣٦٩ وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧).

طبيعة الحال :

ولو صرفنا النظر عن أقوال المفسرين والرواة ، وعللنا عقيدة أبي طالب تعليلا يستمد مقوماته من طبيعة الحال ، لو فعلنا ذلك لجاءت النتيجة ان أبا طالب كان يؤمن بصدق محمد (ص) في جميع أقواله وأفعاله ... وهذا هو الإسلام بالذات.

نشأ النبي (ص) يتيم الأبوين ... مات أبوه ، وهو حمل ، وقيل : كان في المهد فكفله جده عبد المطلب ، وماتت أمه : وله من العمر ست سنوات ، وبقي في كنف جده ثماني سنوات ، ولما حضرته الوفاة أو كل الجد أمر حفيده الى عمه أبي طالب ، ولم يكن أبو طالب أكبر أولاد عبد المطلب ، ولا أكثرهم مالا ، وانما كان أعظم اخوته قدرا ، وأكرمهم خلقا ، وأنداهم يدا ، فقام أبو طالب برعايته أحسن قيام ، وأحبه حبا شديدا ، وآثره على نفسه وأولاده ، ونظم في مدحه القصائد الطوال والقصار ، وكان يتبرك به ، ويلجأ اليه في الملمات ، لما ظهر على يده من الكرامات. فعن ابن عساكر ان أهل مكة قحطوا ، فخرج أبو طالب ،


ومعه محمد ، وهو غلام ، فاستسقى بوجهه ، فأغدقت السماء واختصبت الأرض ، فقال أبو طالب :

وابيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال إسماعيل حقي في «روح البيان» عند تفسير الآية ٥٤ من سورة يوسف :

«لقد آسى أبو طالب رسول الله (ص) وذب عنه ما دام حيا» ، فالأصح انه ممن أحياه الله للايمان كما سبق في المجلد الأول.

ما هو السر؟

وإذا كان أبو طالب يحب محمدا ، ويؤثره على نفسه ، ويستميت في نصرته ، ويثق بصدقه واستقامته ، وقد رأى ما رأى من كراماته قبل النبوة وبعدها ، إذا كان ذلك كله فلما ذا ـ يا ترى ـ لم يؤمن بنبوته؟ فإن صح الزعم بأن أبا طالب غير مسلم فينبغي أن يكون هناك سر منعه من الإسلام ... وما هو هذا السر؟ هل رأى أبو طالب من محمد ، وهو يعرف سره وحقيقته ، هل رأى منه ما يتنافى مع النبوة؟ حاشا خاتم النبيين وسيد المرسلين ، ومن ادعى هذا فما هو من الإسلام في شيء .. ثم كيف استطاع محمد (ص) أن يقنع رعاة الإبل بنبوته ، ومن لا يعرف عنه شيئا من قبل ، وعجز عن اقناع عمه أبي طالب الذي يعرف مصدره ومخبره؟ هل كان أبو طالب أقل ذكاء من أعراب البادية ، أو كان في نفسه هوى يمنعه من الإسلام ، كما منع أصحاب الأغراض والأهواء؟.

والهوى الذي يمنع أبا طالب من اعتناق الإسلام ـ على فرض وجوده ـ لا يخلو أن يكون واحدا من اثنين : إما الخوف على ماله وثروته ، والمفروض ان أبا طالب عاش فقيرا ، ومات فقيرا ، وإما الخوف أن تذهب الرئاسة من بيت هاشم الى غيره ، والمفروض العكس .. وإذا انتفى هذا وذاك انتفى المانع من اسلام أبي طالب ، وإذا عطفنا انتفاء المانع على وجود المقتضي لإسلامه ، وهو حبه لمحمد وعلمه بحقيقته ، كانت النتيجة ان أبا طالب من السابقين الى الإسلام لا من المسلمين فحسب.


وإذا بطل القول بأن الآيتين نزلتا في أبي طالب ، ولم تثبت صحة الرواية بأنهما نزلتا في ام النبي (ص) تعين القول الأول ، اي انهما نزلتا في قوم من المؤمنين كانوا يستغفرون أو يحاولون الاستغفار لموتاهم المشركين. وظاهر الآيتين صريح في ذلك.

المعنى :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى). جاء في تفسير الطبري : «ان رجالا من أصحاب النبي (ص) قالوا : يا نبي الله ان من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا تستغفر لهم؟. قال : بلى ولأستغفرن لأبي كما استغفر ابراهيم لأبيه. فأنزل الله .. ما كان لنبي الخ».

وتسأل : كيف اذن النبي (ص) لأصحابه بالاستغفار لآبائهم المشركين ، وهو محرم؟.

الجواب : كل شيء جائز حتى يرد النهي عنه ، وحين أذن النبي بالاستغفار لم يكن النهي عنه قد نزل من السماء ، وبعد نزوله منعهم عنه.

ثم بيّن سبحانه سبب النهي في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). تدلنا هذه الآية على ان الإنسان يحكم عليه بظاهر حاله كفرا وإيمانا ، وان من كان ظاهره الكفر لا يجوز الاستغفار له ، ولا الترحم عليه.

وتسأل : إذا كان الاستغفار للمشركين محرما فكيف استغفر النبي لقومه حين كسروا رباعيته ، وشجوا وجهه ، فلقد ثبت انه قال : اللهم اغفر لقومي انهم لا يعلمون؟

وأجاب عن هذا السؤال كثير من المفسرين بأن الآية نهت عن الاستغفار للمشركين الأموات ، دون الأحياء الذين يرجى ايمانهم. والذي نراه في الجواب ان الاستغفار منه (ص) كان لإسقاط حقه الشخصي عن المشركين ، لا لإسقاط حقوق الله ، وطلب الغفران عن الشرك. وليس من شك ان لكل انسان أن يسقط حقه الخاص عن المسلم والكافر.


سؤال ثان : كان ابراهيم يدعو أباه إلى الإيمان ، ويلح عليه في هذه الدعوة ، ووعده ان يستغفر له : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ـ ٤ الممتحنة». وقد وفى ابراهيم بوعده واستغفر له : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) ـ ٤١ ابراهيم». فكيف استغفر ابراهيم لأبيه مع العلم بأن الاستغفار للمشركين غير جائز؟.

فأجاب سبحانه عن ذلك بقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي ان ابراهيم (ع) إنما استغفر لأبيه لأنه كان قد وعده أن يؤمن بالله ، فلما نكث بالوعد ، وتبيّن انه غير صادق بوعده تبرأ منه .. وغير بعيد أن يكون دعاء ابراهيم لأبيه ، تماما كدعاء محمد (ص) لقومه المشركين ، أي لإسقاط حقه الشخصي ، لا إسقاط حق الله وطلب المغفرة من الشرك. ويشعر بذلك قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) والأواه الخاشع المتضرع ، والحليم من يعفو عند المقدرة ، وقد عفا ابراهيم (ع) عن قول أبيه له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ـ ٤٦ مريم».

وما كان الله ليضل قوماً الآية ١١٥ ـ ١١٦ :

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

المعنى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) المراد ب (لِيُضِلَّ) الحساب والمؤاخذة ، وب (قَوْماً) المؤمنون خاصة بدليل قوله : (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)


والمعنى ان المؤمنين إذا عملوا عملا لا يعرفون : هل هو حلال او حرام ، كما لو استغفروا لمشرك او ترحموا عليه جهلا بالتحريم ـ فان الله سبحانه لا يؤاخذهم (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) بيانا واضحا ، فإن عصوا بعد البيان استحقوا العقاب ، وخير تفسير لهذه الآية قول الرسول الأعظم (ص) : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه». وقول الإمام جعفر الصادق (ع) : كل شيء مطلق ، حتى يرد فيه نهي.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). الآية واضحة المعنى ، وتقدمت أكثر من مرة ، وتأتي مرات ، والغرض أن يكون الإنسان دائما مع الله ، وعلى ذكر من عظمته ، وانه المالك وحده لناصيته ، كي لا يتجاوز حدا من حدوده.

لقد تاب الله على النبي الآية ١١٧ ـ ١١٩ :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

اللغة :

العسرة الشدة والضيق. والزيغ الميل. وخلفوا تخلفوا وتأخروا. والرحب السعة ، ومنه مرحبا أي وسعك المكان.


الإعراب :

اسم كاد ضمير الشأن ، وجملة يزيغ خبر ، أي من بعد ما كاد الشأن أو الحال يزيغ قلوب فريق. وعلى الثلاثة عطف على النبي أي وتاب على الثلاثة. وبما رحبت (ما) مصدرية أي برحبها. والا كلمتان : ان المخففة من الثقيلة ولا ، واسم ان ضمير الشأن ، ولا نافية للجنس ، وملجأ اسمها ، ومن الله خبر ، والمصدر المنسبك من ان وما بعدها ساد مسد مفعولي ظنوا.

المعنى :

ما زال الحديث عن غزوة تبوك وما يتصل بها من أحداث ، ولهذه الغزوة خصائص تميزها عن سائر الغزوات ، منها او أهمها ان جيشها كان في جهد من الحر والجوع والعطش والعري والركب ، ومن أجل هذا سمي جيش العسرة. قال الرواة : كان العشرة من جيش المسلمين يعتقبون بعيرا واحدا ، يركب الرجل ساعة ثم ينزل ، فيركب صاحبه ، وكان زادهم الشعير المسوس ، والتمر المدود ، وكان الواحد منهم يلوك التمرة ، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه ، أما الماء فقد كانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة ، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ، ويبلّون به ألسنتهم. وقد تخلف عن هذه الغزوة المنافقون ، وتقدم الحديث عنهم ، أما المؤمنون الذين اتبعوا النبي (ص) في غزوة تبوك فأشار سبحانه اليهم بقوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ). إذا قيل : تاب فلان فهم الناس من هذا القول ان المذكور كان قد ارتكب ذنبا ثم ندم وعزم جادا على تركه وعدم العودة اليه ، وإذا قيل : تاب الله عليه فهموا ان الله قبل توبته ، وقد يراد من توبة الله على الإنسان رحمته تعالى ورضوانه مع القرينة الدالة على ذلك ، والمعنى الأول أي قبول الله سبحانه التوبة هو المراد بتوبته على الثلاثة الذين خلفوا ، والمعنى الثاني أي الرحمة والرضوان هو المراد بتوبته تعالى على النبي والصحابة الذين اتبعوه وائتمروا بأمره حتى في ساعة العسرة ، أما القرينة على ارادة الرضوان من توبته تعالى على النبي وصحابته فهي طبيعة الحال ، ونعني


بها عصمة النبي (ص) عن الذنوب ، وطاعة من تابعه في ساعة العسرة.

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) تخلّف عن النبي من تخلف ، وتبعه المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، ولكن جماعة من هؤلاء عند ما قاسوا الشدة والقسوة في سفرهم انهارت أعصابهم ، وهمّوا أن يفارقوا الرسول (ص) ، ولكن الله سبحانه ثبتهم وعصمهم ، فصبروا واحتسبوا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) مما كانوا قد همّوا به من مفارقة النبي (ص). والمراد بالتوبة هنا ان الله سبحانه يعاملهم معاملة من لم يهم بالذنب ، لأن من همّ بالسيئة ولم يفعلها فلا تكتب عليه (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأنه علم منهم الصدق في ايمانهم ، والإخلاص في نياتهم ، وان ما همّوا به كان مجرد عارض لم يترك أي أثر.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ٩) اتفق المفسرون والرواة على ان ثلاثة من مؤمني الأنصار تخلفوا عن النبي في غزوة تبوك كسلا وتهاونا ، لا نفاقا وعنادا ، وهم كعب بن مالك الشاعر ، ومروان بن الربيع ، وهلال بن أمية الواقفي .. ونترك الحديث عن هؤلاء لطه حسين ، فقد لخص ما اتفق عليه الجميع ودلت عليه الآية بأسلوبه المعروف ، قال في كتاب «مرآة الإسلام» :

«كان هؤلاء الثلاثة أشد ايمانا بالله ورسوله ، وأصدق حبا لهما من أن يضيفا الى تخلفهم خطيئة الكذب ، فآثروا الصدق وفاء لدينهم ، وإشفاقا ان يفضح الله كذبهم ، فاعترفوا بذنوبهم ، وسمع النبي منهم ، وأعلن انهم قد صدقوه ، ومع ذلك لم يعف عنهم ، وأمر المؤمنين ان لا يكلموهم. وينظر هؤلاء فإذا هم قد اقتطعوا من الناس اقتطاعا ، وإذا هم في عزلة بغيضة الى أنفسهم كان السجن أهون منها .. وفي ذات يوم أرسل النبي اليهم من يبلغهم انه يأمرهم ان يعتزلوا نساءهم ، وليس في هذا شيء من الغرابة ، فنساؤهم مؤمنات ، وقد صدر الأمر الى المؤمنين باعتزالهم ، فليعتزلهم نساؤهم أيضا ، وبعد ان مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة ، وقد أخذ الندم من قلوبهم أقوى مأخذ أنزل الله توبته عليهم ، وابتهج المؤمنون كلهم لذلك ، فكانوا يهنئون هؤلاء الثلاثة بتوبة الله عليهم. وقد فرح كعب ، وهو أحد الثلاثة فرحا شديدا ، وهمّ ان يتصدق بماله كله ، فأمره


النبي أن يمسك بعضا ، ويتصدق ببعض ، وعاهد كعب النبي ألا يكذب في حديث حتى يموت».

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التواب مبالغة في قبوله تعالى لتوبة التائبين ، وتسأل : ان الظاهر من قوله تعالى : (تابَ عَلَيْهِمْ) انهم قد تابوا ، وقبل توبتهم ، والظاهر من قوله : (لِيَتُوبُوا) انهم لم يتوبوا بعد ، فما هو وجه الجمع؟.

وأجيب بأجوبة أرجحها ان المراد بتاب عليهم انه تعالى يقبل توبتهم لكي يتوبوا ولا يصروا على الذنب ، ويقولوا : لو قبل الله منا التوبة لتبنا ، فهو أشبه بما لو أساء اليك من تحب ، وأنت تريد أن تغفر له ، ولكن بسبب ، فتلقنه العذر ليعتذر هو وتغفر أنت. وعقدنا فصلا خاصا للتوبة في ج ٢ ص ٢٧٥ الآية ١٧ من سورة النساء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). والصادقون هم النبي ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وبتعبير ثان ليس المراد بالصدق هنا مجرد عدم الكذب في الحديث ، لأن كثيرا من الناس لا يكذبون ، ومع ذلك لا يجوز الاقتداء بهم في كل شيء ، وإنما المراد به الصدق في القول والعلم والعمل الذي يؤهل صاحبه لامامة الناس واقتدائهم به.

ما كان لأهل المدينة الآية ١٢٠ ـ ١٢١ :

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ


إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

اللغة :

النصب التعب. والمخمصة المجاعة وامرأة خمصانة ضامرة البطن. والموطئ الأرض.

المعنى :

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ). ما كان لأهل المدينة ، اللفظ إخبار ، ومعناه النهي أي لا يجوز لهم التخلف ، وكلمة محمد اسم لشخص الرسول الأعظم (ص) ، والمراد بها هنا دين الله والحق ، لأن دين الحق مجسم في شخصه الكريم. ونصرة الحق تجب على كل مسلم ، ولا تختص بأهل المدينة ومن حولهم ، وانما خص هؤلاء بالذكر لقربهم وجوارهم ولمناسبة الحديث عن غزوة تبوك ، والمعنى ان على كل مسلم أن يناصر الحق ، ويكافح الباطل ، ولا يؤثر منافعه ومصالحه على دين محمد متعللا بالكواذب كما فعل المنافقون.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ). ذلك إشارة الى النهي عن التخلف ، والقعود عن جهاد المبطلين وكفاحهم ، والظمأ العطش ، والنصب التعب ، والمخمصة الجوع ، والموطئ الأرض .. وآلم شيء للإنسان ان تطأ أقدام عدوه تراب بلده ووطنه مسلما كان أو غير مسلم ، اللهم


الا إذا كان عميلا ، لا دين له ولا ضمير .. والإسلام لا يجيز لأحد كائنا من كان ان يطأ أرضا لغيره الا لسببين : الأول أن يكون ذلك لدفع الضرر عن أهلها ، كما إذا شبت النار في بيت من البيوت ، فتدخله لإطفاء الحريق ودفع الضرر عن المالك والمجاورين. السبب الثاني : ان تدخل قوة عادلة بلدا لتردع أهله عما يبيتون من الظلم والعدوان على بلد آخر ، تماما كما فعل النبي (ص) في غزوة تبوك بعد عزم الروم على غزو المدينة والقضاء على الإسلام ونبيه.

(إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وكفى المرء عظمة ان يراه الله محسنا ، ولا شيء أيسر على الإنسان من عمل الإحسان ، ما دام الله يكتب قعوده وقيامه بل وموطئا واحدا يطأه طاعة لله ، يكتب ذلك كله حسنات.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). هذا وما قبله يتلخص بقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ، والغرض من هذا التفصيل الترغيب في عمل الخير ، والتحريض على جهاد من يسعى في الأرض فسادا.

فلولا نفر من كل فرقة الآية ١٢٢ ـ ١٢٣ :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

اللغة :

النفر الخروج للجهاد. والفرقة الجماعة الكثيرة. والطائفة الجماعة القليلة. والتفقه تعلّم الفقه. والذين يلونكم أي من كانت بلادهم قريبة لبلدكم. والغلظة الشدة.


الإعراب :

كافة حال. ولولا إذا دخلت على الفعل كما هي في الآية ، فمعناها الطلب مثل هلا. وإذا دخلت على الاسم فهي حرف يدل على امتناع شيء لوجود غيره. والمصدر المنسبك من ليتفقهوا مجرور باللام يتعلق بنفر.

المعنى :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). هذه الآية تتصل بالآية السابقة ، وهي (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ). ووجه الاتصال بين الآيتين انه حين نزلت الآية السابقة قالت القبائل المسلمة : والله لا نتخلف بعد اليوم عن الغزو مع رسول الله ، وتدفقوا على المدينة لهذه الغاية. فأنزل سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي لا يطلب منهم أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، بل يختلف ذلك باختلاف الغزوات والمقتضيات ، فتارة يجب الجهاد عينا على كل فرد ، ولا يسقط عن الكل بفعل البعض ، وتارة يجب كفاية متى قام به البعض سقط عن الآخرين ، أما تعيين أحد الواجبين فموكول لأمر النبي (ص) .. ينفر المسلمون كافة إذا استنفرهم كافة ، وينفرون جماعة دون جماعة إذا استنفرهم كذلك.

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). بعد ان بيّن سبحانه ان النفير العام لا يجب في كل غزوة بيّن ان هناك واجبات أخرى غير الجهاد يجب القيام بها تماما كما يجب القيام بالجهاد ، منها أن ينفر من كل بلد أو قبيلة جماعة الى المدينة المنورة أو غيرها ليتفقهوا في دين الله ، ويعرفوا حلاله وحرامه ، ثم يعودوا الى قومهم ، فيرشدوهم ويحذروهم من عذاب الله على معصيته ومخالفة أمره (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ومعنى لعل هنا الطلب ، لا الترجي ، أي يجب عليهم أن يسمعوا من المرشدين ويطيعوا.

هذا ما نذهب اليه في تفسير هذه الآية مخالفين أكثر المفسرين أو الكثير منهم


الذين جعلوا التفقه في الدين صفة للطائفة المقيمة ، لا للطائفة النافرة ، وقالوا في شرح الآية : ان على المسلمين أن ينقسموا طائفتين : طائفة تنفر للجهاد ، وأخرى تبقى في المدينة تتعلم السنن والفرائض .. والتفسير الذي ذهبنا اليه له أصل في روايات أهل بيت الرسول (ص) ، وهم أدرى بالقرآن وأسراره ، من تلك الروايات : ان سائلا سأل الإمام جعفر الصادق (ع) عن معنى قول النبي (ص) : اختلاف امتي رحمة؟. فقال : ليس المراد بالاختلاف النزاع ، وإلا كان اتفاقهم عذابا ، وإنما المراد به التردد في الأرض لطلب العلم ، ثم استدل الإمام على ارادة هذا المعنى بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) الخ ..) وليس من شك ان هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كان التفقه صفة للطائفة النافرة ، لا الطائفة المقيمة.

واستدل علماء الأصول بهذه الآية على ان خبر الواحد المنقول عن المعصوم حجة يجب العمل به في الأحكام الشرعية ، ووجه الاستدلال بالآية ان الله سبحانه أوجب على العالم أن يعلّم وينذر ، وإذا وجب هذا على العالم وجب على الجاهل أن يقبل قول العالم ويعمل به ، وإلا كان وجوب التعليم والانذار لغوا .. وأيضا إذا وجب على الجاهل أن يتعلم فقد وجب على العالم أن يعلم ، وإلا كان وجوب التعلم على الجاهل لغوا .. قال الإمام علي (ع) : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا ، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) تحث هذه الآية المسلمين على تحصين الحدود وصيانتها من أعداء الله وأعدائهم. فقد جاء في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) : «أي قاتلوا من قرب منكم من الكفار الأقرب منهم فالأقرب الا ان تكون هناك موادعة ـ أي هدنة أو معاهدة ـ .. وفي هذه دلالة على انه يجب على أهل كل ثغر الدفاع عن أنفسهم إذا خافوا على بيضة الإسلام ـ أو على بلد من بلاد المسلمين ـ وإن لم يكن هناك إمام عادل». وفي المجلد الأول من هذا التفسير ص ٢٦٩ تكلمنا مفصلا عن مقاتلة الكفار بعنوان «الإسلام حرب على الظلم والفساد».


الإمام زين العابدين ومقومات الحرب :

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) الغلظة هنا كناية عن القوة والمنعة ، وتحصين الحدود تحصينا محكما (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الذين آمنوا به ايمانا صادقا ، وأخلصوا في قتال أعدائه وأعدائهم ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ، تماما كما أمرهم الله جلت حكمته.

ومن روائع ما جاء في هذا الباب دعاء للإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) ناجى به ربه ، ودعا لأصحاب الثغور وحماة البلاد الاسلامية ، وقد ضمنه الخطوط العريضة للانتصار في الحرب على العدو ، قال فيما قال :

«اللهم صل على محمد وآل محمد ، وكثّر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ، ودبر أمرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم بالمكر ، وعرّفهم ما يجهلون ، وعلّمهم ما لا يعلمون ، وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنة نصب أعينهم».

هذه الخطوط التي ذكرها هي المقومات الأساسية للنصر التي انتهى اليها العلم الحديث ـ فيما نظن ـ : كثرة السلاح ، فمهما تحطم منه يبقى ما فيه الكفاية ، وشحذه ومضاؤه ، ويدخل فيه جميع الأسلحة الحديثة ، حتى الذرة والصواريخ الموجهة ، والمؤنة الوافرة لكل جندي ، والعلم بفنون الحرب واستعمال السلاح وبكل ما يتصل بالحرب من التدبير والاقدام أو الاحجام ومعرفة طرق المكر والكيد بالعدو وتضليله عما يبيت له ، وتوحيد الصفوف وجمع القلوب على الإخلاص في القتال والصبر على آلامه حتى الموت ، ونسيان الدنيا وحطامها عند اللقاء والطعن والضرب ، والايمان بأن شهادة الإنسان في سبيل دينه ووطنه هو الربح والفوز الأكبر .. أما بيت القصيد في هذه المناجاة فقول الإمام : «وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون واجعل الجنة نصب أعينهم».

وهل أتي العرب والمسلمون قديما وحديثا ، وصاروا أكلة لكل آكل الا عن طريق المال الفتون؟. وكفى بنكسة ٥ حزيران سنة ١٩٦٧ شاهدا ودليلا .. لقد مضى على هذه الكلمات ثلاثة عشر قرنا ، ومع هذا لو ان قائدا عظيما من قادة


الحرب في هذا العصر وضع كتابا في أسباب النصر لما كان الا شرحا لهذه الكلمات الموجزة التي نطق بها الإمام زين العابدين وسيد الساجدين.

واذا ما انزلت سورة الآية ١٢٤ ـ ١٢٧ :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

الإعراب :

إذا ما (ما) زائدة. وأما بفتح الهمزة ، وتشديد الميم حرف شرط وتفصيل ، ويجب أن يربط جوابها بالفاء. وإيمانا تمييز. وهل يراكم من أحد الجملة مفعول لقول محذوف أي يقولون : هل يراكم من أحد ، ومن زائدة ، وأحد فاعل.

المعنى :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً). ضمير منهم يعود إلى المنافقين ، والمعنى ان بعض المنافقين كانوا يستخفون بالقرآن ، ويتساءلون :


أي عجب في هذا؟. فيجعلون من أنفسهم التي سودتها المطامع والآثام مقياسا للحق والصدق .. والغريب ان المشركين كانوا يعترفون بعظمة القرآن وتأثيره البالغ في النفوس ، ويوصي بعضهم بعضا بعدم الاستماع اليه مخافة أن يجذبهم الى الإسلام من حيث لا يشعرون : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ـ ٢٦ فصلت». وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان النفاق اسوأ أثرا ، وأشد جرما من الشرك.

وأجاب سبحانه المنافقين بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي إذا لم تجدوا أيها المنافقون في نفوسكم أثرا طيبا لسور القرآن وآياته بعد أن طبعت عليها الأهواء والأغراض فإن المؤمنين يزدادون بها هدى ويقينا لأن نفوسهم نقية زاكية لم تدنسها الأقذار والأرجاس كنفوسكم (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) كلما نزلت سورة أو آية من القرآن لأنها تبشرهم بالجنة ، وترشدهم الى الطريق القويم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ). كل من ابتعد عن الحق والواقع واستمد إيمانه وآراءه من ذاته وتصوراته فهو مريض القلب والعقل ، وإذا دعي إلى النزول على حكم الواقع ورفض ـ ازداد مرضه وتفاقم .. والنفاق مرض لأنه تزييف وتحريف ، والمنافق يزداد مرضا كلما أوغل في الجحود والعناد للحق وآياته .. وينطبق على المنافق الحديث الذي يشبه الحريص على الدنيا مثل دودة القز ، كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج ، حتى تموت غما (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) بسوء اختيارهم ، تماما كما ماتت دودة القز بصنع يديها.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ). المراد بالفتنة هنا افتضاح المنافقين وإظهار أمرهم لدى الجميع ، وتتصل هذه الآية بالآية التي قبلها وهي (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) الخ) ووجه الاتصال ان المنافقين كانوا يبيتون الشر للنبي (ص) ، ويطعنون به ، من ذلك قولهم : هو أذن ـ كما سبق ـ وكان الله سبحانه يخبر نبيه الأكرم بما يبيتون ويطعنون ، والنبي (ص) يعاتبهم ويفضحهم ، وقد تكرر هذا في كل عام مرة أو أكثر ، وفيه دلالة قاطعة على صدق الرسول ، وان القرآن من عند الله ، فكان عليهم أن يتعظوا ويؤمنوا ، ولا يقولوا ساخرين ومستهزئين : أيكم زادته هذه إيمانا .. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ
وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) وما يذكر إلا أولو الألباب ، وقد أعمت الشهوات قلوبهم وألبابهم.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ). هذا هو شأن المنافقين في كل زمان ومكان ، إذا عجزوا عن مجابهة الحق ، ومواجهة الحجة بالحجة ، تسارقوا النظر وتغامزوا وتضاحكوا معبرين بذلك عن رسوخهم في الكفر والضلالة ، وعدم الارعواء عن الباطل .. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي يقولون هذا بلسان المقال أو الحال : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ـ ١٠٧ النساء».

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي فعلوا فعلتهم وانصرفوا إلى شأنهم غافلين عن جريمتهم كأن لم يفعلوا شيئا (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). صرف الله قلوبهم عن الحق بعد أن أقام عليه الحجج والبينات ، وبعد ان عاندوه ورفضوا التسليم له ، فهم السبب المباشر للصرف ، وأسند الى الله بواسطتهم ، وقد جرت عادة القرآن الكريم ان يضيف الى الله الكثير من أفعال عباده بالنظر الى انه خالقهم والمتصرف في الكون وأشيائه.

بالمؤمنين رؤوف رحيم الآية ١٢٨ ـ ١٢٩ :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

اللغة :

عزيز عليه أي شاقّ عليه. والعنت الشدة والمشقة. والحرص على الشيء الشح به لشديد الرغبة فيه.


الإعراب :

عزيز صفة للرسول. وما عنتم (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل لعزيز. وحريص ورؤوف ورحيم صفات مثل عزيز ، وبالمؤمنين متعلق برءوف. وحسبي بمعنى كافيني مبتدأ ولفظ الجلالة فاعل ساد مسد الخبر ، ويجوز أن يكون حسبي خبرا مقدما ، والله مبتدأ.

المعنى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) هذا الخطاب موجه لكل آدمي يبحث عن الحقيقة ، ويريد الهداية اليها ، والرسول هو محمد بن عبد الله (ص) بعثه الله للبشرية جمعاء ، لينقذها من الجهالة والضلالة ، ويرشدها الى طريق الحق والخير ، وما على من يبتغيهما الا ان ينظر بوعي وتجرد الى سيرة محمد (ص) وسنته والكتاب الذي جاء به من عند الله ، فلقد آمن به مئات الملايين قديما وحديثا ، وفيهم العلماء والفلاسفة الذين تركوا دين الآباء والأجداد واعتنقوا الإسلام بعد ان ارتاحت اليه عقولهم وقلوبهم ، وبعد أن رأوا نبيه الأكرم كما وصفه الله بقوله :

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). عزيز عليه ان يلقى كائن على وجه الأرض مكروها ، حتى ولو كان حيوانا ، حريص على هداية كل الناس وسعادتهم وصلاح شأنهم ، أما رأفته ورحمته فقد عمت الناس أجمعين : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء». ومن أحاديثه : «أنا رجمة مهداة .. الراحمون يرحمهم الله .. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

وتسأل : قال سبحانه في هذه الآية : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال في سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي المؤمنين وغير المؤمنين ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : ان المراد بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ان دين محمد هو دين الانسانية ، وشريعته رحمة بكل الناس لو اتبعوها وعملوا بها لملأت الأرض خيرا وعدلا ، أما قوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فمعناه انه شديد الرأفة


والرحمة بمن آمن بالحق ، وكف أذاه عن الناس ، أما من يعتدي عليهم ، ويعبث بحق من حقوقهم فإنه يقسو عليه قسوته على الباطل والفساد ، ولا تأخذه فيه هوادة ورأفة ، وهذا هو دين الانسانية والرحمة ، فقد نهى سبحانه عن الرأفة في اقامة الحدود على المجرمين ، قال تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) ـ ٢ النور».

وقال ابن العربي في الجزء الرابع من «الفتوحات المكية» : المراد بالمؤمنين من آمن بالحق وبالباطل ، لا خصوص من آمن بالحق .. وهذه شطحة صوفية.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). هذه هي مهمة الرسول : التبليغ ، وكفى. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، وكان النبي (ص) على يقين قاطع بأن الله كافيه ومقويه بنصره وعنايته ، لأنه توكل عليه وحده لا إله إلا هو .. ونختم هذه السورة بما ختمها صاحب تفسير المنار ، قال :

«أما اصطفاؤه تعالى لبني هاشم على قريش فقد كان بما امتازوا به من الفضائل والمكارم ، فهاشم هو صاحب إيلاف قريش الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على حمايتهم في رحلة الصيف الى الشام ، ومن حكومة اليمن في رحلة الشتاء ، وهو أول من هشم الثريد للفقراء من قومه ولأهل موسم الحج كافة ، وقد أربى عليه بالسخاء والكرم ولده عبد المطلب. وجملة القول ان بني هاشم كانوا أكرم قريش أخلاقا ، وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، لا ينازعهم احد في ذلك».

وفي بعض الروايات ان آخر آية نزلت من السماء قوله تعالى :

(حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).



سورة يونس



سورة يونس

مكية ، وآياتها ١٠٩ ، وقيل : ان ثلاث آيات منها أو أربعا مدنية ، وموضوعها كموضوعات السور المكية يدور على اثبات أصول العقيدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب الحكيم الآية ١ ـ ٢ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

اللغة :

الآية العلامة. والمراد بالكتاب هنا القرآن. ويستعمل الحكيم بمعنى الحاكم والمحكم وذي الحكمة ، وهذا المعنى أظهر. وقدم صدق أي سابقة حسنة.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أوحينا اسم كان ، وعجبا خبرها ، وللناس حال من العجب. وان انذر (ان) مفسرة بمعنى أي. والمصدر المنسبك من انّ لهم قدم صدق مجرور بالباء المحذوفة ، ويتعلق ببشر.


المعنى :

(الر) سبق الكلام عن هذه الحروف في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ). تلك إشارة الى أن كل آية من آيات القرآن تشتمل على الحكمة وفصل الخطاب.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ). لقد استكثر الجاحدون ان يتصل الله بعبد من عباده ، ويصطفيه من دونهم .. ولهذا الاستبعاد أسبابه :

أولها : انهم قاسوا محمدا (ص) على أنفسهم ، فإذا لم يتصل الله بهم فينبغي ان لا يتصل بغيرهم .. ونجد الجواب عن ذلك في الآية ١٢٤ من الأنعام : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) اي ان لمحمد (ص) من الصفات والمكرمات ما يؤهله للرسالة من دونهم.

ثانيها : انهم جهلوا نوع الاتصال بالله ، وحسبوا ان اتصاله تعالى بمحمد ، تماما كاتصال بعضهم ببعض ، وهذا ما ترفضه العقول .. ونجد الجواب عن هذا الوهم في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) ـ ٥١ الشورى».

ثالثها : وهو الأهم ، ان محمدا (ص) قد جاءهم بما لا يعتقدون ولا يألفون : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ـ ٢٤ المؤمنون» .. والجواب قوله تعالى : (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٥٤ الأنبياء».

(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). بعد ان بيّن سبحانه عجب الكافرين من الوحي الى محمد (ص) بيّن حقيقة ما أوحى به اليه ، وانه إنذار وتبشير ، إنذار لمن خالف وعصى أمر الله بالعذاب الأليم ، وتبشير لمن امتثل وأطاع بالثواب الجزيل ، وعبّر عن هذا الثواب بقوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وإذا كان هذا هو الوحي أو الموحى به ، وكان محمد (ص) أهلا لتحمله وتبليغه فأين مكان العجب؟. ان الله سبحانه لا يترك الناس من غير رسول أمين يبلغهم عنه ما يريده لهم من الخير ، ويكرهه من الشر ، ليجتنبوا هذا ، ويفعلوا ذلك ، ولكيلا تكون لهم الحجة عليه لو خالفوا ،


ومحمد (ص) هو الأمين على هذه الرسالة والتبليغ من دون الناس ، فوجب أن يكون هو الرسول المبلّغ عن الله من دونهم.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ). وصفوا محمدا (ص) بالساحر ، لأنهم أنكروا ان يكون القرآن وحيا من الله ، وأيضا عجزوا ان يأتوا بسورة من مثله ، فلم يبق في زعمهم إلا السحر .. وجهلوا أو تجاهلوا ان كل ما في القرآن حقائق لا ريب فيها ، وان السحر كواذب لا تبتنى على أساس.

الخلق في ستة ايام الآية ٣ ـ ٤ :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

الإعراب :

جملة يدبر حال من الضمير في استوى. وما من شفيع (من) زائدة وشفيع مبتدأ ، ومن بعد اذنه (من) زائدة. وجميعا حال من الضمير في مرجعكم. وعد الله منصوب على المصدر. ومثله حقا. وبما كانوا متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف اي ذلك بما كانوا.


المعنى :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ). ان ايام الله تعالى ليست كأيامنا هذه ، ومن اين تأتي الأيام قبل ان يوجد الكون؟. اذن ، فالمراد بالأيام هنا الدفعات او الأطوار ، اما العرش فالمراد به الاستيلاء ، وتقدمت هذه الآية مع تفسيرها في سورة الأعراف الآية ٥٤.

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) هذا كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ـ ٢٥٥ البقرة» ، وتفسيره في ج ١ ص ٣٩٤.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) لأنه هو الذي يستحق العبادة ، اما المال والأنساب والسلطان فليست بآلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) اي أفلا تعقلون بأن الله وحده هو الجدير بالطاعة والعبادة.

الحساب والجزاء حتم :

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). ان مسألة بداية الخلق وإعادته هي احدى المشكلات الفلسفية الكبرى .. فبعض الناس يقولون : ان الكون وجد من تلقاء نفسه ومن غير موجد .. وهؤلاء أشبه بمن رأى كلاما مكتوبا ، فقال : انه وجد صدفة ، لا لشيء الا لأنه لم ير الكاتب رأي العين. ان الذي خطّ سطور الكون أعظم بكثير من الذي خط حبرا على ورق ، والعيون احقر من ان تراه ، ورأته العقول من الطرق التي تؤدي حتما الى الايمان .. وقد وضعنا في هذه الطرق كتابين : «الله والعقل» و «وفلسفة المبدأ والمعاد» ، ولخصنا بعضها في ج ١ ص ٥٩ وج ٢ ص ٢٣٠ من هذا التفسير.

اما بعث الأموات واعادتهم ثانية للحساب والجزاء فقد نزل به الوحي ، ولا يأباه العقل فوجب التصديق والايمان به.

وقد بيّن سبحانه الحكمة من اعادة الموتى بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ). أقدر الله سبحانه الإنسان على الفعل ، ومنحه عقلا يميز به بين


الخير والشر ، ونهاه عن هذا ، وأمره بذاك ، فأطاعه من أطاع ، وعصاه من عصى ، ثم مضى كل الى حفرته ، دون ان يثاب المطيع ويعاقب العاصي ، بل ان كثيرا من العصاة طغوا وبغوا ، وملأوا الأرض ظلما وجورا ، ولم يحاسبهم محاسب ، ويسألهم سائل ، فإن افترض انه لا بعث ولا حساب غدا فمعنى هذا ان الظالم والمظلوم ، والمؤمن والكافر عند الله سواء ، بل الكافر به خير وأفضل عنده من المؤمن ، والطاغية المفسد أكرم على الله ممن استشهد في سبيل مرضاته .. ولا شك في ان هذا يتنافى مع عدل الله وحكمته وقدرته ، بل ومع وجوده .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. وقد رأينا كثيرا من المظلومين يصرخون من الأعماق قائلين : لو كان الله موجودا لما أبقى طاغية على وجه الأرض .. وليس هذا القول الا انعكاسا عن غريزة الايمان بوجود عادل قادر يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكنهم تعجلوا القصاص لحرقة الألم ، وذهلوا عن فطرتهم التي فطرهم الله (١) فقالوا ما قالوا.

كتبت في اثبات البعث والحساب والجزاء مؤلفات ومقالات وعند تفسير الآيات المتصلة بذلك ، وتعيدني اليه الآن الآية التي أفسرها ، وقد اوحت إليّ بأن أقوى الأدلة على ثبوت البعث قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ١٧ غافر». وهي بمعنى الآية التي نفسرها ، ولكنها أوضح .. انها تحمل برهانها معها ، وتدل على نفسها بنفسها .. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت. ولما ذا؟ لأنه لا ظلم عند الله ، بل هو سريع الحساب. والتحليل العقلي لهذه القضية انه لو لا هذا اليوم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت لكان الله ظالما ، ووجوده نقمة ، وتكليفه عبثا .. سبحانه وتعالى عما يصفون .. والنتيجة الحتمية لهذا المنطق ان كل من أنكر البعث والحساب والجزاء فقد أنكر وجود الله من حيث يريد أو لا يريد.

__________________

(١). انظر تفسير الآية ٤١ من الأنعام ، فقرة «الله والفطرة».


عدد السنين والحساب الآية ٥ ـ ١٠ :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

اللغة :

قدّر الشيء جعله على مقدار معين. والغفلة النسيان. والمراد بدعواهم هنا دعاؤهم.

الإعراب :

الياء في ضياء منقلبة عن واو لأن الأصل ضوء. وقدره بمعنى صيّره ، والهاء مفعول أول ، ومنازل مفعول ثان. لآيات لقوم يتقون (آيات) اسم ان مؤخر ، وفي اختلاف الليل خبر مقدم. أولئك مأواهم النار فأولئك مبتدأ أول ، ومأواهم


مبتدأ ثان ، والنار خبره ، والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ، والأول وخبره خبر ان الذين لا يرجون. ودعواهم مبتدأ ، وسبحانك منصوب على المصدر وهو ساد مسد الخبر ، أو ان خبر المبتدأ محذوف تقديره قولهم سبحانك. وان الحمد (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، أي انه الحمد ، والجملة خبر آخر ودعواهم مجرور بالاضافة.

المعنى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). قيل : ان الضياء والنور كلمتان مترادفتان تعبّر ان عن معنى واحد. وقيل : ان معنى كل يختلف عن معنى الأخرى ، فكلمة الضوء تدل على ما كان نوره ذاتيا ، وليس مستمدا من غيره كضوء الشمس ، وكلمة النور تدل على ما كان نوره مكتسبا من الغير كنور القمر ، فإنه مكتسب من الشمس .. ويلاحظ بأن الآية لم ترد لبيان شيء من ذلك ، وانما القصد التنبيه على وحدانية الله وقدرته ، تماما كالآية التي بعدها بلا فاصل ، وان الحكمة من كوكب الشمس والقمر ما أشار اليه بقوله :

(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ). الضمير في قدره يعود الى القمر ، والمعنى ان الله سبحانه جعل للقمر منازل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، تماما كغيره من سنن الطبيعة ، والقصد من هذا الثبات هو ضبط الأوقات الذي لا تتم الحياة الا به ، وتكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية ٣٦ من سورة التوبة والآية ٩٦ من سورة الأنعام. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). لقد فصل سبحانه آيات الكون خلقا وإيجادا ، وشرحا وبيانا ليتدبرها كل من وهبه الله الاستعداد للتأمل والتعقل الذي يؤدي الى الايمان بالله وقدرته وحكمته .. وسبق أكثر من مرة انه جل وعز يسند اليه الظواهر الكونية ، والتغيرات الجارية على سننها الطبيعية ، يسندها اليه من باب اسناد الفعل الى سببه الأول الكامن وراء الظواهر ، ليبقى الإنسان دائما على تذكّر من الخالق المتصرف في الكون.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ


يَتَّقُونَ). سبق نظيره مع التفسير في ج ١ ص ٢٥١ الآية ١٦٤ من سورة البقرة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) هذه الآية تهديد ووعيد لمن لا يؤمن بالآخرة وحسابها ، ويقول : من مات فات ، مندفعا مع أهوائه وشهواته ، غافلا عن الكون وما فيه من عبر وعظات ، وعن دعوة الأنبياء والمصلحين ، منصرفا عن كل شيء الا عن الدنيا وملذاتها (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). هذا جزاء من كذب باليوم الآخر ، واتخذ إلهه هواه غير مكترث بحق ولا بعدل .. وتجدر الاشارة الى ان هذا التهديد والوعيد لا يختص بمن كفر بلقاء الله قولا وعملا ، فإنه يشمل أيضا من آمن به نظريا ، وجحده عمليا .. فالذين يصلّون ويصومون ويؤمنون بالحساب والعقاب ، ثم لا يتورعون عن حرمات الله فهم في نار جهنم مع من جحد وعاند جزاء بما كسبت يداه.

أين المتقون؟

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). المراد بالهداية هنا الثواب ، أي ان الله يثيبهم بسبب إيمانهم .. ذكر سبحانه في الآية السابقة الجاحدين وأوصافهم ومآلهم ، وذكر في هذه الآية المؤمنين وأوصافهم ومآلهم ، كعادته جل ثناؤه من المقابلة بين الأضداد وصفا ومآلا ، فالمؤمنون على عكس الجاحدين يرجون لقاء الله ، ويتورعون عن محارمه عملا بمقتضى دينهم وإيمانهم ، والله سبحانه يثيبهم بجنات تجري من تحتها الأنهار .. وقد جاء في الحديث : ان الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي .. أين المتقون؟. هذا هو نداء الله يوم الحق والفصل : أين المتقون الصادقون في أقوالهم ، المخلصون في أعمالهم ، أما نداء الشيطان في هذه الدار ، دار الظلم والفساد فأين الطغاة المجرمون المتهتكون المفسدون؟.

وكل من أكرم مؤمنا تقيا لإيمانه وتقواه فقد نادى بنداء الله : أين المتقون؟. وكل من احترم طاغية لاجرامه فقد نادى بنداء الشيطان : أين المجرمون؟. قال


الإمام الصادق (ع) : يكره القيام تعظيما إلا لرجل في الدين ، وقال : لا تقبل يد أحد إلا يد رسول الله (ص) أو من أريد به رسول الله (ص).

والحكم في تعظيم الرجال يختلف باختلاف الموارد ، فان كان تشجيعا للإثم ومعصية الله فهو حرام ، وان كان للتحابب والتآلف ، ودفع الضرر أو قضاء حاجة محتاج فهو حسن ، وإلا فمكروه ، أما تعظيم المجاهد لجهاده ، والمخلص لاخلاصه ، والمصلح لإصلاحه ، والعالم لعلمه وعمله به فهو من تعظيم شعائر الله وحرماته الذي أشار اليه بقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ـ ٣٢ الحج». وقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ـ ٣٠ الحج».

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). هذه الآية بجملتها إخبار بأن أهل الجنة في روح وريحان لا يشغلهم شيء مما كان يهمهم في الحياة الدنيا من جلب مصلحة أو دفع مضرة .. فلا يطالبون بإقامة العدل والسلام ، ولا بإقرار الأمن والنظام ، ولا بزيادة الأجور والمرتبات ، ولا بشيء على الإطلاق ، فكل شيء مما تشتهيه الأنفس ، وتلذه الأعين جاهز متوافر ، وما عليهم إذا أرادوا شيئا إلا أن يستحضروا صورته في أذهانهم ، ومن أجل هذا تفرغوا للتسبيح والتحميد ، والتحيات الزاكيات : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) ـ ٢٦ الواقعة». وقد سمعوا هذا السلام من الله حين لقائه : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ـ ٤٤ الأحزاب». وسمعوه من الملائكة : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ـ أي الجنة ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ـ ٧٣ الزمر». وسمعه بعضهم من بعض. وتكلمنا عن تحية الإسلام عند تفسير الآية ٥٤ من الأنعام.

ولو يجعل الله الشر الآية ١١ ـ ١٤ :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ


فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

اللغة :

الطغيان مجاوزة الحد في الشر. والعمه التحير والتردد في الضلال. والقرون جمع قرن ، وهو أهل كل عصر. والخلائف جمع خليفة ، وهو من يخلف غيره في شيء.

الإعراب :

بالخير الباء للتعدية ، لجنبه في موضع الحال أي دعانا مضطجعا. وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف أي كأنه لم يدعنا. وكذلك الكاف بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي تزيينا مثل ذلك. ومثله كذلك نجزي. والمصدر المنسبك من ليؤمنوا متعلق بمحذوف على انه خبر لكانوا أي وما كانوا مريدين للايمان. وكيف محل نصب بتعملون.

المعنى :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) المراد


بالخير هنا ما ينتفع به الإنسان في هذه الحياة ، ومن أجل هذا يستعجل به ، ولا يصبر عنه ، والمراد بالشر ما يتضرر به ، وهو يأباه ويكرهه بفطرته الا لسبب عارض كدرء ما هو أشد ، قال الشاعر :

تحملت بعض الشر خوف جميعه

كذلك بعض الشر أهون من بعض

أو يكون الإنسان في حال غير طبيعية كمن يقدم على الانتحار ، أو في حال عناد يواجه خصما عجز عن مقاومة حجته بحجة مثلها ، كما عجز المشركون عن الرد على محمد (ص) حين أظهر الله على يده ما أظهر من المعجزات ، وقالوا : اللهم ان كان ما يقوله محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم .. وقد أجاب سبحانه كل من يستعجل الشر ونزول العذاب من السماء ، أجابه بأن الحكمة تقتضي أن لا يستجيب الله الى طلبه ، وأن يستبقيه الى حين ، فربما زال العارض الذي تمنّى معه الشر ، وتحقق بعده الخير ، كما حصل من كثير من الذين قالوا : اللهم أمطر علينا حجارة من السماء ، فقد أسلم منهم جماعة ، وخرج من صلب آخرين كثير من المؤمنين ، ولو عجل الله بأجلهم لما حصل شيء من ذلك.

والخلاصة انهم استعجلوا وقوع الشر ، تماما كما يستعجلون الخير ، ولكن الله سبحانه أخرهم الى ما أراده لهم من الخير.

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). أي انه تعالى لا يعجل العذاب لمن لا يوقنون بالبعث ممن كفر بنبوة محمد (ص) ، بل يتركهم وشأنهم ، حتى لو تمردوا على أمره سبحانه ، وترددوا في الطغيان والعصيان.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً). لجنبه وقاعدا وقائما كناية عن خضوعه وتضرعه في جميع حالاته وحركاته وسكناته ، والمعنى لو نزل أدنى مكروه بمن استعجل الشر لفقد الصبر ، وانهارت أعصابه ، ولجأ إلينا خاضعا متذللا في جميع أحواله لنكشف عنه الضر (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ). ان الأوضاع الفاسدة قد تضطر الإنسان الى الكذب والرباء والتملق لمن حاجته في يده ، ولكن ما الذي يضطره الى العقوق ونكران


الجميل ، والتنكر لمن دعاه بالأمس الى قضاء حاجته خاضعا متذللا ، حتى إذا استجاب له ، وحصل منه على ما يريد تجاهله ، ومر به كأن لم يدعه الى ضر مسه؟ .. ولا يصح تفسير هذا العقوق بالأوضاع الفاسدة ، ولا بشيء الا بالاستهتار ، والكفر بالحق والقيم ، والإسراف في هذا الاستهتار والكفر (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). والذي زين لهم سوء أعمالهم هو اللامبالاة بشيء الا بمنافعهم وأطماعهم.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). هذا تهديد من الله للذين كذبوا محمدا (ص) بأن يحل بهم من العذاب ما حل بمن كان قبلهم من الأمم الذين كذبوا رسلهم. ومر نظير هذه الآية مع تفسيرها في سورة الأنعام الآية ٦.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). تمضي أمة وتخلفها أخرى ، أما الغاية من وجوه الإنسان في هذه الأرض فهو العلم والعمل النافع ..

وتسأل : ان الله سبحانه يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات». وتقول انت : ان الله خلق الإنسان للعلم والعمل النافع؟.

الجواب : ان المراد بالعبادة في الآية المذكورة العمل الصالح بدليل قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ـ ١٠ فاطر». بل ان سبحانه خلق الكون بأرضه وسمائه من أجل العمل الصالح ، قال جلت عظمته : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٧ هود». وبيّنّا معنى الابتلاء والاختبار من الله عند تفسير الآية ٩٤ من المائدة.

انت بقرآن غر هذا الآية ١٥ ـ ١٧ :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ


أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

اللغة :

من تلقاء نفسي أي من عند نفسي ، ويستعمل بمعنى الاتجاه ، يقال : جلس تلقاءه أي تجاهه. العمر بضم العين والميم البقاء ، وبفتح العين وسكون الميم يستعمل في البقاء ، وفي القسم ، تقول : لعمري ما فعلت أي لديني ما فعلت.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أبدله اسم يكون ، ولي خبر. وان اتبع (ان) نافية. وأدراكم فعل ماض من دريت. وعمرا على حذف مضاف أي مقدار عمر ، ثم حذف الظرف وأقيم المضاف مقامه.

المعنى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ). المراد بالذين لا يرجون لقاء الله المشركون .. وكان النبي (ص) يحتج عليهم وعلى اليهود والنصارى بالقرآن ، ويجادلهم بالتي هي أحسن ، وكان الجدال بينه وبين المشركين واليهود عنيفا ، لأنهم كانوا أشد الناس عداوة له ، وإعراضا عنه ، وسبق الكلام عن ذلك في العديد من الآيات ، أما النصارى فمنهم من وفد


عليه ، ودفع له الجزية كنصارى نجران ، ومنهم من همّ بغزو المدينة ، فقطع النبي (ص) الطريق عليهم وغزاهم في أرض الشام.

وكان المشركون يقترحون على النبي (ص) ألوانا من جهلهم وعبثهم ، من ذلك ما أشارت اليه الآية ١١٨ من سورة البقرة ، حيث طلبوا من النبي أن يكلمهم الله مشافهة ، أما الآية التي نفسرها فهي تحكي اقتراحهم على رسول الله (ص) أن يأتيهم بقرآن غير هذا في جملته ، أو يحرفه بالتقليم والتطعيم ، لأن هذا القرآن قد آتاهم بدين جديد : فهو يدعو الى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء ، ويقر مبدأ العدالة والمساواة ، ويلغي الطبقات والامتيازات ، ويحرم الربا والظلم ، وهم يدينون بتعدد الآلهة ، وينكرون البعث ، ويبيحون ما يشتهون ، فطلبوا من محمد (ص) أن يأتيهم بقرآن يقرهم على دينهم وتقاليدهم ، أو يحذف من القرآن الذي أتاهم به ما لا يرتضونه ـ على الأقل ـ ..

وأي فرق بين هذا الطلب من مشركي الجاهلية ، وبين الكثير من شباب حضارة القرن العشرين الذين يقولون : ولما ذا الدين ، والحلال والحرام؟ .. أجل ، ان في حضارة المنيجوب والميكروجوب غنى عن كل مبدأ ودين.

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). الرسول ناقل عن الله ، لا مشرع ، تماما كراوي الحديث عن الرسول. وقد جاء في الحديث عنه انه قال : «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» فكيف يكذب هو على الله؟. حاشا لصاحب العصمة عن الخطأ والزلل .. وفي الآية تعريض بمن يفتي ويحكم بغير دليل من الشرع ، وفيها أيضا الدليل القاطع على ان النبي ما حكم قط باجتهاده ، وان جميع أحكامه كانت بوحي من الله ، وان من أجاز الاجتهاد عليه فقد قاسه بغيره من الفقهاء .. وبالمناسبة نشير الى ان الشيعة منعوا الاجتهاد على النبي (ص). واختلف السنة فيما بينهم ، فمنهم من وافق الشيعة ، وكثير منهم أجاز الاجتهاد على النبي.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ). وضمير تلوته وبه يعودان إلى القرآن ، والمعنى لو شاء الله إلا يرسلني إليكم لتعلموا وتعملوا بالقرآن ما دعوتكم اليه ، ولكني فعلت ما فعلت تنفيذا لمشيئة الله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ


أَفَلا تَعْقِلُونَ). ان من عاش في قومه أربعين عاما من قبل أن يوحى اليه لم يقرأ فيها كتابا ، ولم يلقن من أحد علما ، ولا بدرت منه أية بادرة يؤاخذ عليها ، بل كانت حياته كلها فضائل ومكرمات ، وصدقا وأمانة حتى سمي الصادق الأمين ، أفلا تعقلون ان من كان هذا شأنه فهو أبعد الناس عن الكذب والافتراء؟ .. هذا ، إلى أن حقائق القرآن حجة كافية وافية في الدلالة على صدقه وعظمته.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ). معنى افترى على الله كذبا انه نسب إلى دين الله ما هو بريء منه ، ومعنى كذّب بآياته انه نفى عنه ما هو منه في الصميم ، وهذه هي البدعة التي قال عنها الرسول الأعظم : «كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار» (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لأن طريق الفلاح والنجاة هو الصدق والإخلاص ، أما الكذب والافتراء فهو طريق الهلاك والخذلان ، ولا يسلكه إلا شقي مجرم.

ويقولون هؤلاء شفعاؤنا الآية ١٨ ـ ٢٠ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

المعنى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). هؤلاء هم الذين قالوا


لرسول الله (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدله. فقد كانوا يعبدون الأصنام معتقدين انها تنفع وتضر بدليل قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ولكن اعتقادهم لا يقوم على أساس سوى الوهم والخيال .. وقد أمر الله محمدا (ص) أن يقول مكذبا زعمهم: (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). ادعى المشركون ان أصنامهم تشفع لهم عند الله ، ولو كان هذا حقا لعلم الله بهذه الشفاعة ، وحيث انه لا يعلم بها وجب أن تكون دعوى المشركين كذبا وافتراء.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) على فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ثم شتّتهم الهوى عن أصلهم ، وفرّقهم شيعا في دينهم بعد أن اهتدوا الى ملذات الحياة ، وتسابقوا الى نيلها (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). المراد بكلمة الله هنا عدم التعجيل بالعقوبة للعصاة ، وبالمثوبة للطائعين ، بل يؤخرهم جميعا الى يوم يبعثون ، ليبلغ كل انسان بإرادته الى ما يرتضيه لنفسه من خير أو شر ، وفضيلة أو رذيلة ، ولو عجل الله بالعقوبة الى من أساء من الناس لقضي بينهم بالوفاق وعدم الاختلاف ، ولكن خوفا لا طوعا .. وليس من شك ان هذا إلجاء يبطل معه الثواب والعقاب ، ونقض لحكمته تعالى التي قضت بأن يظهر كل انسان على حقيقته عن طريق ما يزاوله من أعمال ، ويختاره لنفسه من كمال .. ومر نظير هذه الآية في سورة البقرة الآية ٢١٣ ، وفي سورة المائدة الآية ٤٨.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). لقد أنزل الله على محمد (ص) العديد من الآيات والمعجزات ، ولكن المشركين الذين قالوا هذا يريدون آية على أهوائهم ، ومعجزة هم يقترحونها ويفرضونها مثل قولهم : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ـ ١١٨ البقرة». وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ـ ٧ الفرقان» ، وما الى ذلك من لغوهم وعبثهم. وسبق الكلام عن اقتراحاتهم الفاسدة في ج ١ ص ١٨٨ عند تفسير الآية ١١٨ من سورة البقرة.

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين : ان الآية التي طلبتموها هي في يد الله ، وليس لي من الأمر


شيء ، ولا أدري ان كان الله ينزلها أو لا ينزلها من السماء ، فأنا وأنتم سواء في ذلك ، فلننتظر لنرى أي الفريقين أحق بالأمن من غضب الله وعقابه.

قل الله اسرع مكرا الآية ٢١ ـ ٢٣ :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

اللغة :

المراد بمكر الله تدبيره الخفي الذي يفوّت على الماكر المخادع مكره وخداعه. وقد يستعمل مكر الله بعذابه. والتسيير التحريك دون اختيار من المتحرك ، ومنه مسيّر غير مخير. والفلك السفن ويطلق على الجمع والواحد. والعاصف الذي يعصف الأشياء ويكسرها ، ومنه ريح عاصف وعاصفة. وأحيط به أي هلك.


الإعراب :

إذا لهم (إذا) للمفاجأة وقعت في جواب إذا أذقنا. ومكرا تمييز. والنون في جرين ضمير الفلك. وضمير بهم للناس. ومخلصين حال من الضمير في دعوا. وإذا هم (إذا) للمفاجأة وقعت في جواب لما. ومتاع الحياة منصوب على المصدر أي تمتعوا متاع الحياة ، ويجوز الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك متاع.

المعنى :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا). قيل المراد بالناس هنا المشركون خاصة ، وليس هذا القول ببعيد عن قرينة السياق ، فإن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين ، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون التهديد عاما يشمل كل من جحد أنعم الله ، سواء أكان الجحود من المؤمن أم الكافر ، قبل الضراء أم بعدها .. وفي جميع الحالات فإن مضمون هذه الآية يلتقي مع الآية السابقة رقم ١٢ ، وهي : «وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه». فهذه الآية تقول : ان الإنسان يذكر الله في العسر ، وينساه في اليسر ، والآية التي التي نفسرها تقول : إذا جعل الله عسر الإنسان يسرا مكر في آياته ، والمراد بهذا المكر انه يجحد آيات الله ، ويكذّب بأن الله سبحانه هو السبب في كشف الضر والبلوى عنه ، ويفسر هذا الكشف بأسباب لا أصل لها ولا أساس ، كالأصنام والكواكب والصدفة ، وما إلى ذلك من التفسيرات الفاسدة التي تختلف باختلاف الأشخاص وأوهامهم ومعتقداتهم.

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ). المراد بمكر الله تعالى انه يجازي الماكرين على مكرهم ، ويعد لهم العذاب الأليم من حيث لا يشعرون. وتكلمنا عن المراد بمكره تعالى مفصلا في ج ٢ ص ٦٨ عند تفسير الآية ٥٤ من سورة آل عمران ، والمراد بالرسل الكاتبين الملائكة ، والمعنى انه تعالى يحصي أعمال الماكرين ، ويجازيهم عليها بما يستحقون.


(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي انه جلت حكمته وهب عباده القدرة على السير فيهما ، والغرض من هذه الاشارة التذكير بفضله وأنعمه لنكون له من الشاكرين .. سبحانك اللهم ما أبين كرمك على من أرضاك وأغضبك .. ومن الطريف قول أبي بكر المغافري في أحكام القرآن : ان هذه الآية تدل على ان ركوب البحر جائز وغير محرم ، وأطال الكلام في التدليل على جواز ركوب البحر ... وذهل عن القاعدة الشرعية التي يعرفها الجاهل والعالم بأن التحريم يحتاج إلى الدليل ، وليس الجواز.

(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). الريح تؤنث وتذكر لأنه تعالى وصفها بالطيبة وبالعاصف ، وهذه الآية تدل على ان الإنسان قد جبل بفطرته على الإيمان بالله لرجوعه اليه عند الشدائد .. انظر تفسير الآية ٤١ من سورة الأنعام ، فقرة : الله والفطرة. وذكر صاحب المنار عند تفسير هذه الآية ما نصه :

«كان المشركون لا يدعون عند الشدائد الا الله ربهم ، أما الكثير من مسلمي هذا الزمان بزعمهم فإنهم لا يدعون الله عند الشدائد ، وانما يدعون الأموات كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم ، ويتأوله لهم بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره». ومثله تماما في تفسير المراغي.

وقرأت في الصحف المصرية ان المصريين يرمون أوراقا في ضريح الولي يشكون اليه فيها من خصومهم ، ويرجون الميت أن يقتص لهم ممن ظلمهم وأساء اليهم ، ونقلت طرفا من هذه الشكاوى في كتاب «من هنا وهناك» ، أما تدفق الجموع على قبر الولي للاحتفال بمولده فندع وصفه لجريدة «الجمهورية» المصرية عدد ١ ـ ١١ ـ ١٩٦٨ : «مثل يوم الحشر كانت الزحمة ، كتل بشرية متلاصقة ومتدافعة كأنها أمواج متلاطمة : أو كحقل مزروع بالبشر».


(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). عاهدوا الله أن يتقوه ويشكروه إذا كشف عنهم ، ولما فعل نكثوا العهد ، وهذا تكرار للآية السابقة بتعبير آخر ، قال سبحانه في الآية السابقة : إذا لهم مكر في آياتنا ، وقال في هذه الآية : إذا هم يبغون في الأرض ، والمعنى واحد أو المعنيان متلازمان متشابكان ، والغاية إبراز عتوهم وتمردهم في أقبح الصور.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأن من سل سيف البغي قتل به (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). قد يفرح الباغي ويطرب من نشوة النصر ، ولكن الى حين ، ثم تأتي الزفرات والحسرات ، قال رسول الله (ص) : ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر ، ولا يحيق المكر السيء الا بأهله ، والنكث ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، والبغي ، يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم.

مثل الحياة الدنيا الآية ٢٤ ـ ٢٥ :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

اللغة :

للزخرف معان ، منها الذهب ، ومنها حسن الشيء في مظهره. وغني بالمكان أقام فيه ، والمغاني المنازل. والمراد بدار السلام هنا الجنة.


المعنى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ). الباء في (به) للسببية ، أي ان الدنيا التي تباهون بها وتفاخرون هي أشبه بمطر نزل على الأرض ، فأخصبت وأنبتت من كل زوج بهيج ، واختلط بعض نباتها ببعض لكثرته ونموه (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ). كل الأحياء عيال على الأرض تملأ بطونهم الجائعة ، فالناس يأكلون حب الزرع وثمر الشجر ، والدواب تأكل الحشائش وما اليها.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) كالعروس المجلوة انصرفت عن كل شيء ، وتفرغت ليتمتع العريس بها (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) ويملكون التصرف في ثرواتها ، ويملئون بها جيوبهم وخزائنهم ـ بعد هذا الوثوق والاطمئنان (أَتاها أَمْرُنا) وهو الهلاك والآفات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) تماما كالأرض المحصودة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) بعد أن زال كل شيء حتى الآثار التي تخبر عما كان .. فيالنكد الطالع .. لقد خابت الآمال ، وتبخرت الأحلام.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في ان متاع الدنيا إلى زوال ، وان من ركن اليه وحدها فقد ركن إلى سراب ، وانه ليس بشيء تراق له الدماء ، وتثار من أجله الحروب ، وتسخر لها عقول العباقرة وكبار العلماء.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) قال المفسرون : المراد بدار السلام الجنة ، وليس من شك ان الجنة دار السعادة والسلام ، ولكن دعوة الله تعم كل عمل يحقق لعياله الأمن والراحة ، بل ان الله سبحانه حرم الجنة إلا على المتقين والعاملين في هذه السبيل (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ان دعوة الله سبحانه لعمل الخير تشمل كل بالغ عاقل : دون استثناء ، فمن عصى وأهمل فهو الضال ومن أطاع وعمل فهو المهتدي ، ويصح أن تسند هدايته هذه إلى الله لأن الطريق الذي سلكه اليها كان بأمر الله وعنايته وتوفيقه ، أما ضلال من ضل فلا تصح نسبته اليه تعالى بحال ، لأنه قد نهاه عنه ، والله لا ينهى عبده عن عمل ثم يلجئه اليه إلجاء.


للذين أحسنوا الحسنى الآية ٢٦ ـ ٣٠ :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

اللغة :

يرهق وجوههم أي يغشاها ويغطيها. وقتر بفتح القاف والراء غبار أو دخان أسود ، والذلة الهوان ، والعاصم المانع. وزيّلنا فرّقنا وميّزنا.

الإعراب :

للذين أحسنوا خبر مقدم ، والحسنى مبتدأ مؤخر. والذين كسبوا مبتدأ ، وجزاء سيئة خبر ، وبمثلها متعلق بجزاء ، وقيل : جزاء مبتدأ ثان ، وبمثلها خبره. وقطعا مفعول ثان لأغشيت لأنها بمعنى ألبست. ومظلما صفة لقطع ، وقيل حال.


وجميعا حال من ضمير نحشرهم. ومكانكم في محل نصب قام مقام فعل الأمر أي الزموا. وأنتم توكيد للضمير في الزموا. وكفى بالله الباء زائدة ، والله فاعل ، وشهيدا حال ، ويجوز أن يكون تمييزا على معنى من شهيد. وان كنا (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها (نا) محذوف وجملة كنا خبر ، واللام في لغافلين للفرق بين ان النافية والمخففة. وهنالك ظرف زمان منصوب بتبلو. ومولاهم بدل من الله ، والحق صفة.

المعنى :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال الرازي : نظير هذه الآية قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). ويلاحظ بأن الإحسان يختص بالتفضل على الغير ، والحسن ما كان محبوبا للفطرة سواء أكان تفضلا ، أم لم يكن ، ويدخل فيه حسن العقيدة ، وحسن القول والفعل ، ونية الخير ، بل والشعور بالذنب ، فكل هذه محبوبة لله وللفطرة ، وهو سبحانه يكافئ عليها بالحسنى ، اذن ، فالآية نظير قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) ـ ٢٣ الشورى». واختلف المفسرون في معنى الزيادة ، لأنها ان كانت من نوع الحسنى فما هي بزيادة ، وان كانت غيرها فالكلمة مبهمة ، والذي نفهمه نحن ان المراد بالزيادة هنا انه جل ثناؤه يثيب الذين أحسنوا بأكثر مما يستحقون ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ـ ١٧٢ النساء». فعطف الزيادة على توفية الأجور دليل على ما قلناه.

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). كل ما في القلب من حزن وسرور ، وأمن وخوف ينعكس أثره في الوجه بوضوح ، ولكن أثر الخوف والقلق أظهر أثرا فيه من غيره ، بخاصة وجوه أهل النار إذا عاينوها ، فإنها تسود من الرعب ، حتى كأنها مغطاة بدخان ، أو بغبار أسود ، أما أهل الجنة فوجوههم ضاحكة مستبشرة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) ـ ٤٠ عبس» ، أي تغطيها غبرة سوداء.


(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها). ان الله عادل يجزي من أساء بما يستحق ، ولا يظلمه مثقال ذرة ، بل ويعفو عن كثير ، لأنه كريم ، ولجوده وكرمه يضاعف لمن أحسن أضعافا كثيرة (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي ترهق المسيئين ذلة الفضيحة وكسوف الخزي ، ولا أحد أذل وأخزى ممن يفتضح على رؤوس الأشهاد (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يمنع عنهم سخط الله وعذابه.

(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). بعد أن قال سبحانه : ان الذين أحسنوا لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال : ان الذين أساءوا تسود وجوههم حتى كأنها قطعة من الليل البهيم. قال الإمام علي (ع) : ما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الذين أحسنوا والذين أساءوا (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ). يقف غدا للحساب في موقف واحد المشركون والذين كانوا يزعمونهم شركاء لله ، ويتقابلون وجها لوجه ليدلي كل فريق بحجته فتخيب آمال المشركين فيمن كانوا يأملون بهم ، ويرجون منهم النفع في هذا الموقف ، ويتبين لهم انهم كانوا على ضلال في شركهم وعنادهم لرسل الله وكتبه.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ان الله سبحانه يميز يوم الحساب بين جميع خلقه بصفاتهم التي هم فيها وعليها ، ويظهر كل واحد على حقيقته ، وعندها يتبين للمشركين انه لا أحد يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، وان الأمر لله وحده لا شريك له ولا ند (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) حين أوقف الله المشركين والذين يعبدون في موقف واحد ، وقابل بينهم وجها لوجه ، قال هؤلاء لأولئك : ما كنتم لنا عابدين ، وانما خيل ذلك إليكم ، وصوّرت لكم الأوهام ان لله شركاء واننا نحن أولئك الشركاء الذين لا وجود لهم الا في مخيلتكم ، فأنتم في الحقيقة تعبدون لا شيء ، ونحن شيء ، اذن لستم لنا بعابدين (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم انكم اخترعتم في أوهامكم شركاء لا وجود لهم ، وأيضا يعلم ببراءتنا من شرككم (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) لا نعرف عنها شيئا ، وفيه إيماء الى نفي الأهلية عنهم للعبادة ، وانهم عبيد وليسوا بمعبودين.


(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). أي انه تعالى يجمع الناس للحساب ، ويجزي كل نفس بما كسبت ، ولا تجد شيئا مما كانت تعتقده وتتوهمه ينفعها ويدفع عنها الا العمل الخالص لوجه الله وحده .. وقد تكرر هذا المعنى بأساليب شتى في العديد من الآيات.

من يرزقكم من السماء والأرض الآية ٣١ ـ ٣٤ :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤))

اللغة :

تصرفون من الصرف عن الشيء إلى غيره ، أي كيف تعدلون عن التوحيد إلى الشرك. وهذا المعنى هو المراد من قوله : فأنى تؤفكون.

الإعراب :

فأنّى تصرفون (أنى) مجرورة بإلى محذوفة أي الى أين تصرفون ، والعامل


الفعل المذكور ، ومثلها فأنّى تؤفكون. والمصدر المنسبك من أنهم وخبرها مجرور باللام المحذوفة ، والعامل حقت أي حقت كلمة ربك عليهم لعدم إيمانهم.

المعنى :

أركان الإيمان الحق عند الله ثلاثة : الوحدانية ، والنبوة ، والبعث ، وعرض القرآن ألوانا من الأدلة على هذه الأركان ، وسبق بيانها مفصلا ، والآيات التي نفسرها الآن والتي بعدها من هذا الباب ، لأنها وردت لإبطال الشرك وزعم المشركين بأن أصنامهم تقربهم من الله زلفى ، وانه لا بعث ولا حساب ، وان القرآن افتراه محمد على الله .. وفيما يلي إبطال هذه المزاعم:

١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). كل سبب من أسباب الرزق قريبا كان أو بعيدا لا بد أن يكون سماويا أو أرضيا ، فمن الأسباب السماوية المطر والضياء وغيرهما مما اكتشفه العلماء أو يكتشفونه في المستقبل القريب أو البعيد ، ومن الأسباب الأرضية النبات والحيوان والمعادن ، وجميع الأسباب ترجع الى الله وحده بواسطة السنن والنواميس الكونية ، لأنه تعالى هو خالق الكون ، والمشركون يعترفون بهذه الحقيقة ، ويقرون بأن الله هو الخالق الرازق .. وهنا يأتي السؤال ، ويرد عليهم هذا الاشكال : ما دمتم تعتقدون أيها المشركون بأن الله هو الخالق الرازق فكيف تجعلون له شركاء؟. وكيف يكون الشيء شريكا مع العلم بأنه لا أثر له على الإطلاق؟. وهل يصح أن تكون شريكي أيها القارئ ـ في تأليف هذا الكتاب ، وأنا الذي فكرت وصبرت وكتبت؟ .. وقد بسطنا القول في هذا الموضوع ، وذكرنا الأدلة الكافية على بطلان الشرك وفساده في ج ٢ ص ٣٤٤ عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء.

٢ ـ (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) خص سبحانه هاتين الحاستين بالذكر لأنهما الوسيلة الأولى لتحصيل العلوم ، حتى النظرية منها ، لأنها تنتهي إلى الحس والمشاهدة. وقال الرازي عند تفسير الآية : «كان علي رضي الله عنه يقول : سبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وانطق بلحم».


٣ ـ (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي يملك الموت والحياة ، ومن أمثلة خروج الحي من الميت ما يأكله الحيوان ويمر بمعدته وامعائه وتجري عليه جميع عمليات التحليل ، وبالنهاية تتكوّن منه خلايا جديدة بدلا من الخلايا القديمة ، ومن أمثلة خروج الميت من الحي موت الخلايا التي يتخلص منها الجسم الحي بالتنفس والافراز. وتكلمنا عن الحياة عند تفسير الآية ٩٥ من سورة الأنعام ، فقرة : «من أين جاءت الحياة».

٤ ـ (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في الكون كله بما فيه ومن فيه (فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله وتخافونه فيما اخترعتم له من شركاء؟ .. انهم لا ينكرون ان الله وحده هو الذي يرزق ويملك السمع والبصر والموت والحياة والأمر كله ، ولكنهم يجعلون لله شركاء .. أما سر هذا التناقض فهو انهم نظروا الى الخالق نظرة موضوعية فآمنوا بأنه المكوّن والمصور ، ثم نظروا الى ما يقربهم منه زلفى نظرة عاطفية ذاتية فأخطأوا الواقع ، فبدلا أن يتقربوا اليه بالعمل والإخلاص اخترعوا له في أوهامهم شركاء ، وتقربوا بهم اليه.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أبدا لا واسطة بينهما اما حق وهدى واما باطل وضلال ، والله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض بالحق وفيهما أسباب الرزق ، وخلق السمع والبصر بالحق ، وهما طريق العلم : وهو يملك الموت والحياة بالحق ، وهذا الملك دليل القدرة والعظمة ، وهو يدبر الأمر بالحق ، وهذا التدبير يدل على العلم والحكمة .. فأي شيء بعد هذا الا الضلال والباطل والجهل والعناد (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تاركين الحق الى الضلال ، والتوحيد الى الشرك.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). كذلك اشارة الى ما تقدم من انه ليس بعد الحق الا الضلال ، والمراد بكلمة ربك هنا العذاب كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ـ ٧١ الزمر» ، والمراد بالذين فسقوا المشركون ، والمعنى ان الله سيعاقب المشركين عقاب من عاند الحق ورفض الايمان به بحال من الأحوال ، لأن هذا هو شأنهم في الواقع ، فلقد دعوا الى التوحيد ، وقامت عليه عندهم الدلائل والبينات ، ومع ذلك أصروا على الشرك وماتوا عليه.


(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي قل يا محمد للمشركين : ان الله يخلق الشيء من لا شيء ، ويعيد الحياة لمن مات ، فهل يقدر شركاؤكم على ذلك؟ وإذا عجزوا عنه فكيف تتحولون عن التوحيد الى الشرك؟

وتسأل : لقد عرفنا وجه الاحتجاج على المشركين بأن الله يبدأ الخلق لأنهم يعترفون بذلك ، أما الاحتجاج عليهم بإعادته فلم نعرف له وجها لأن المشركين ينكرون الاعادة والحشر والنشر؟.

الجواب : لقد أقام القرآن في العديد من آياته الحجج الكافية الوافية على الاعادة والحشر والنشر ، وعجز المشركون عن ردها والطعن فيها ، وعجزهم هذا هو الوجه في إلزامهم والاحتجاج عليهم بأن الله يعيد الخلق كما بدأه أول مرة. وبكلمة ان الحكم يرتكز على الدليل ، لا على تسليم الخصم به.

من يهدي الى الحق الآية ٣٥ ـ ٣٩ :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ


كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

الإعراب :

هل من شركائكم (من) هنا للتبعيض أي هل بعض شركائكم. ومن يهدي الى الحق (يهدي) وهدى تتعدى الى مفعولين ، الى الأول بنفسها والى الثاني بواسطة الى أو اللام ، والمفعول الأول هنا محذوف أي من يهدي أحدا الى الحق. والله يهدي للحق تقديره يهدي من يشاء للحق. وأحق هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعنى حقيق. والمصدر المنسبك من يتبع مجرور بياء محذوفة أي حقيق بالاتباع. والمصدر المنسبك من أن يهدى في محل نصب على الاستثناء. وأمن لا يهدّي بفتح الياء وتشديد الدال معناه لا يهتدي في نفسه. فما لكم مبتدأ وخبر ، وكيف في محل نصب بتحكمون. وشيئا في قوله : «لا يغني من الحق شيئا» مفعول مطلق. «وما كان هذا القرآن» هذا اسم كان والقرآن عطف بيان ، والمصدر المنسبك من أن يفترى خبر كان أي ما كان هذا القرآن افتراء ، وتصديق بالنصب خبر كان محذوفة أي ولكن كان القرآن تصديق ، وتفصيل الكتاب عطف على تصديق. وام يقولون (ام) منقطعة أي أيقولون. ولما يأتهم أي لم يأتهم. وكيف خبر كان مقدم ، وعاقبة اسمها مؤخر.

المعنى :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ). تضمنت هذه الآية الرد على من يعبد مع الله إلها آخر ، ووجه الرد ان أول صفة يجب أن يتحلى بها المعبود أن يكون هاديا الى الحق بذاته ، دون أن يستمد الهداية من غيره ، أما من لا يهدي الى الحق فلا يصلح للألوهية بحال .. وهذه حقيقة لا تقبل الجدال والنقاش ،


ولذا أمر الله نبيه محمدا (ص) أن يحتج بها على المشركين ، ويلقي عليهم هذا السؤال المحرج: هل يوجد واحد من أصنامكم هذه التي تعبدونها من يهدي الى الحق؟. وليس من شك انهم لم يجرءوا على الجواب لأن أصنامهم أحجار صماء نحتوها بأيديهم. وبما ان النبي (ص) يملك الدليل القاطع على ان الله يهدي الى الحق وجّه الله اليه هذا الأمر :

(قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) دون غيره ، وهدايته ذاتية غير مكتسبة ، والدليل على ان الله يهدي الى الحق الرسل الذين أرسلهم الى عباده مبشرين ومنذرين ، والكتب التي أنزلها عليهم ، وفيها الآيات البينات التي ترشد الناس الى خيرهم وسعادتهم ، وهذا محمد يقابل المشركين والجاحدين وجها لوجه ، ويتحداهم بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء ، فأين هي رسل شركائكم أيها المشركون وكتبها؟. ولو كان لله شريك لجاءتنا رسله.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليس الغرض من ذلك المقارنة بين الله جلت كلمته وبين الأصنام ، كلا .. وإنما القصد إيقاظ المشركين وتنبيههم إلى جهلهم وضلالهم عسى أن يؤوبوا الى رشدهم ، ويرجعوا عن غيهم.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى). أحق هنا بمعنى حقيق وجدير ، و (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) بتشديد الدال معناها لا يهتدي .. بعد أن ذكر سبحانه ان الله يهدي الى الحق ، وان غيره لا يهدي الى الحق ، بعد هذه المقدمة أوضح نتيجتها ، وهي ان الله وحده هو الذي يجب أن يتبع دون غيره ، وأشار الى هذه النتيجة بهذا السؤال الذي يحمل معه الجواب : أيهما يجب اتباعه والاهتداء بهديه : الله الهادي بذاته ، أم شركاؤكم التي لا تهتدي إلا بمعلم ومرشد؟.

وتسأل : ان مشركي مكة المخاطبين بهذا السؤال كانوا يعبدون الأصنام ، وهي أحجار لا تهتدي وان حاول المعلمون والمرشدون هدايتها ، فما هو الوجه لقوله تعالى : الا ان يهدى؟.

وأجاب المفسرون بأن هذا على سبيل الفرض ، أي لو افترض ـ جدلا ـ أن أصنامكم أيها المشركون تهتدي ان هديت فهي لا تصلح أن تهدي إلى الحق ،


ومن كان كذلك فلا يكون إلها .. والأولى في الجواب ان الآية وردت للرد على جميع المشركين ، لا على مشركي مكة فقط الذين يعبدون الأحجار بل عليهم ، وعلى من يعبد إنسانا أو ملكا من الملائكة ، وعلى هذا يكون معنى الآية ان كل من لا يهدي إلى الحق بذاته فهو لا يصلح للألوهية ، سواء أكان فاقد الأهلية والاستعداد للهداية كالحجر أم كان قابلا لأن يهتدي بواسطة المعلم والمرشد كالإنسان والملك. (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وتؤمنون بالخرافات والضلالات ، مع الأدلة الواضحة على فسادها وبطلانها؟.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الضمير في أكثرهم يعود إلى المشركين ، وأخرج بعضهم ، لأن فئة من المشركين كانوا يعتقدون بصدق محمد ونبوته ، ويعلمون علم اليقين بأن أصنامهم ليست بشيء ، ولكنهم عاندوا وكابروا حرصا على منافعهم وامتيازاتهم ، أما الأكثرية الغالبة من المشركين فقد كانوا يعبدون الأصنام تقليدا للآباء .. وعبّر سبحانه عن عبادتهم لها بالظن مع انهم كانوا على يقين بأنها تضر وتنفع ، لأن يقينهم هذا لا يستند إلى أساس صحيح ، وكل يقين يستند الى التقليد وما اليه يجوز التعبير عنه بالظن ، وتكلمنا عن التقليد مفصلا في ج ١ ص ٢٥٩ عند تفسير الآية ١٧٠ من سورة البقرة.

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ليس المراد بالظن هنا عدم القطع والجزم ، كما يبدو للوهلة الأولى ، وإنما المراد به الإيمان بأصل من أصول الدين ، أو بفرع من فروعه بلا دليل من العقل أو الوحي ، حتى ولو بلغ هذا الإيمان مبلغ القطع والجزم ، كتقليد المشركين في عبادة الأصنام ، والحاد الملحدين قبل أن ينظروا ويبحثوا عن سبب الكون ووجوده ، وما فيه من نظام وانسجام ، وهل كان بالصدفة أو بتدبير عليم حكيم؟.

وهذه الآية واضحة الدلالة على نفي القياس وبطلانه فيما يرجع إلى القضايا الدينية ، لأنه عمل بالظن الذي لا يغني عن الحق في أصول العقيدة ، وأحكام الشريعة.

أما القضايا الزمنية ، والشؤون الدنيوية فخارجة عن موضوع الآية. وكيف ينهى الله عن اتباع الظن في الزراعة والتجارة والعلاقات الاجتماعية؟ .. ولو وقف الناس في كل شيء عند العلم واليقين فقط لتعطلت الحياة .. أجل ، لا يجوز


إدانة أحد بشيء وتجريمه والشهادة عليه إلا بعد العلم ، والسر هو الحرص على أن تسبر الحياة في طريقها القويم ، وبالاختصار ان اتباع الظن حتم في موارد ، ونهي في موارد ، وصاحبه بالخيار في موارد أخرى .. ومن أحب معرفة التفاصيل فليرجع إلى كتاب فرائد الأصول المعروف بالرسائل للشيخ العظيم الأنصاري ، فقد تعمق في بحثه ، واستغرق حوالى ١٥٠ صفحة بالقياس الكبير.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ). هذا تهديد للمشركين الذين اتبعوا الظن في عبادة الأصنام وتكذيب النبي (ص) دون أن يقيسوا ظنهم هذا بمقياس الفطرة والعقل ، وهو أيضا تهديد لكل من يتبع الظن في أمر من أمور الدين.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) لاعجازه في الأسلوب ، ولما فيه من علوم وشريعة انسانية ، وآداب اجتماعية ، وإخبار بالغيب ، وما الى ذلك مما يستحيل معه ان يكون من عند غير الله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مما تقدمه من الكتب الإلهية (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) المراد بالكتاب هنا كل ما شرّعه الله مما يحتاجه الإنسان لسعادته دنيا وآخرة (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا ينبغي لعاقل ان يرتاب في كتاب الله ، وقد حوى من المعجزات والآيات ما تذعن له الفطرة الصافية والعقل السليم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). سبق نظيره مع التفسير المفصل في سورة البقرة الآية ٢٣ ج ١ ص ٦٤.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) هذا هو شأن الجاهل الأرعن يسرع الى التصديق أو التكذيب قبل أن يتأمل ويتدبر ، وفي قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) اشارة الى ان العاقل لا يثبت شيئا ولا ينفيه الا بعد أن يدرسه بروية وهدوء دراسة شاملة كاملة من جميع جهاته (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ان المشركين كذبوا بالقرآن قبل أن يعرفوا ما فيه من حقائق وأسرار ، ولو انهم عقلوا تعاليمه وأحكامه لصدقوا به إن كانوا من طلاب الحقيقة.

وجاء في مجمع البيان : «قيل : ان أمير المؤمنين علي (ع) أخذ من هذه الآية قوله : الناس أعداء ما جهلوا ، وأخذ قوله : قيمة كل امرئ ما يحسن


من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، وأخذ قوله : تكلموا تعرفوا من قوله سبحانه : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوم نوح وعاد وثمود ، وغيرهم ممن كذبوا رسلهم قبل أن يدركوا حقيقة ما جاؤوهم به من الخير والرشاد (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) من الهلاك والوبال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ ٤٥ الأنعام».

ومنهم من يؤمن به الآية ٤٠ ـ ٤٤ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

المعنى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ). ضمير منهم يعود الى المشركين ، وضمير به يعود الى القرآن ، والمعنى ان المشركين بالنظر الى القرآن على قسمين : قسم ترك الشرك وآمن بكتاب الله مخلصا ، وبديهة ان الايمان بكتاب


الله ايمان بالله وبمحمد (ص). وقسم أصر على الشرك عنادا وحرصا على منافعه ، وهؤلاء هم الذين هددهم الله بقوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) وهذا يومئ الى أن كلمة مفسد لا تختص بمن يفتن بين الناس أو يعتدي عليهم ، بل تعم كل من عرف الحق ، ولم يعمل به.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ). سألني كثير من المؤمنين عن واجبهم الشرعي تجاه أبنائهم الذين جرفتهم تيارات التمدين ، وتهاونوا في الدين وأحكامه .. فأجبتهم بأن على الوالد أن يربي أولاده الصغار على الدين ، وينشئهم على مبادئه الضرورية ، فيلقّنهم أصول العقيدة ، ويمرنهم على العبادة الواجبة كالصلاة والصيام ، ومعرفة الحرام كالكذب والغيبة وتعاطي المسكرات وما اليها الى ان يبلغوا راشدين ، فإن قصّر في هذا الدور كان مسؤولا أمام الله .. وبعد الرشد يقف معهم موقف البشير النذير ، فإن لم يستجيبوا فهو معذور عند الله ، ثم اتلوا هذه الآية ، أو ما في معناها من الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ ٢٩ الكهف» ، وقول الرسول الأعظم (ص) : «الولد سيد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين ، فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة والا فاضرب على جنبه ، فقد أعذرت الى الله تعالى». أي يترك الولد في السبع الأولى لصغر سنه ، ويؤدب في السبع الثانية كمن لا ارادة له ، ويوجه في السبع الثالثة كمستقل ، وقوله : فاضرب على جنبه كناية عن اليأس منه ، وان الوالد غير مسؤول عن سيئات ولده.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي ان من المشركين أو المكذبين من يستمعون الى النبي (ص) بآذانهم فقط ، أما قلوبهم وعقولهم فهي غائبة عنه ، تماما كمن لا سمع له (أفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) كلام الله وكلامك أيها الرسول .. نزّل الله سبحانه من سمع ولم يفهم ، أو فهم ولم يعمل ـ نزّله منزلة من لا سمع له ، لأن الغاية من حاسة السمع الاستفادة منها ، والانتفاع بها ، فإذا لم تتحقق هذه الغاية كان وجود الحاسة وعدمها سواء.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) بأبصارهم ، ولكنهم لا يعرفون قدرك ومقامك


أيها الرسول ، حتى كأنهم بلا أبصار (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي كما انك لا تقدر ان تجعل الأصم سميعا ، والأعمى بصيرا كذلك لا تستطيع ان تهدي بالقرآن من يستمع وينظر اليه واليك من خلال أهوائه وأغراضه .. وقديما قيل : الهوى يعمي ويصم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ما في ذلك ريب ، لأن الله أعطاهم القدرة والإدراك ، وبيّن لهم طريق الخير والشر ، فنهاهم عن هذا ، وأمرهم بذاك ، وجعل الخيار بأيديهم ، فمن أطاع فقد اختار لنفسه النجاة ، ومن عصى فقد اختار لها الهلاك .. وغريب ان تخفى هذه الحقيقة الواضحة على الأشاعرة ، ويدركها إبليس اللعين ، حيث يقول لأتباعه يوم لا كذب ولا خداع : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ ٢٢ ابراهيم».

ويوم يحشرهم الآية ٤٥ ـ ٤٧ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

الإعراب :

يوم مفعول لفعل محذوف أي أنذرهم يوم نحشرهم. وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي كأنهم. وساعة ظرف متعلق بيلبثوا. ومن النهار متعلق بمحذوف


صفة لساعة ، وجملة كأنهم وما بعدها حال من ضمير يحشرهم ، أي مشبهين من لم يلبث إلا ساعة. وإنما مركبة من كلمتين ان الشرطية وما الزائدة ، وجواب الشرط فإلينا مرجعهم. وثم هنا للترتيب لفظا ، لا معنى.

المعنى :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ). قوله : ساعة من النهار كناية عن ان الحياة وان طالت وطابت فهي قصيرة الأمد ، لأنها إلى فناء .. وأقوال الناس في ذم الدنيا نثرا وشعرا تستغرق مجلدات .. وغريبة الغرائب انهم يجمعون قولا على ذمها ، وعملا على حبها ، فيجمعون بين الذم وحب المذموم. بل لو ردوا الى الدنيا بعد الموت وأهواله لعادوا لما نهوا عنه ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان الرجال لا تعرف بالأقوال.

(يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ). ظاهر اللفظ يدل على ان المجرمين يعرف بعضهم بعضا يوم الحشر ، وبالأولى الطيبون.

وتسأل : ألا يتنافى هذا بظاهره ، مع قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ـ ٢ الحج»؟.

الجواب : فرق بين يوم النشر والحشر ، وبين يوم القيامة الذي هو عبارة عن خراب الكون ودماره ، وآية الحج تحكي حال الناس يوم القيامة ، وقوله تعالى : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يحكي حالهم يوم الحشر .. هذا ، إلى أن مواقف الحشر كثيرة يملك الناس ادراكهم في موقف بخاصة عند الحساب ، ويفقدونه في مواقف ، كما لو عرضوا على النار (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). كل من عمل لشيء لا وجود له ، أو أهمل ولم يعمل للشيء الموجود الذي يرتبط بكيانه ومصيره ـ فهو من الضالين الخاسرين. وهذه حال من عمل للدنيا دون الآخرة ، سواء أكذّب بها ، أم صدق ولم يعمل لها.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ). الخطاب في نرينك ونتوفينك للنبي (ص) ، وضمير نعدهم ومرجعهم للذين كذّبوا بنبوته ،


والمعنى ان الله سبحانه هدد وتوعد المكذبين بالخزي والذل على تكذيبهم ، وهذا الخزي واقع بهم لا محالة في حياة الرسول أو بعد وفاته ، وفي سائر الأحوال فان مصيرهم اليه تعالى ، فيعذبهم العذاب الأكبر (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ).أي مطلع على جميع أفعالهم ، لا يغيب شيء منها عن علمه : وسيجازيهم عليها بما يستحقون.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يبشرها وينذرها ، وبعد الانذار والاعذار يكون الحساب والعقاب ، إذ لا عقوبة من غير نص (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) وبلغهم ما تجب معرفته عليهم من أمور الدين ، ولم يبق من عذر لمعتذر (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فيحكم لمن استجاب لله ورسوله بالفوز والثواب ، وعلى من أعرض ونأى بالخذلان والعقاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا نقصان من ثواب من أطاع ، وقد يزداد ، ولا زيادة في عقاب من عصى ، وقد تشمله الرحمة ، وهذا المعنى يدل عليه قوله تعالى : (بِالْقِسْطِ) ولكن من عادة القرآن أن يؤكد كل ما يتصل بالآخرة وثوابها وعقابها.

متى هذا الوعد الآية ٤٨ ـ ٥٦ :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أحَقٌّ


هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

الإعراب :

متى هذا الوعد ، هذا مبتدأ مؤخر ، ومتى خبر مقدم ، والوعد عطف بيان. وما شاء الله (ما) مصدرية والمصدر المنسبك مجرور بباء محذوفة ، أي بمشيئة الله. وبياتا ظرف زمان أي ليلا والعامل فيه أتاكم. وما ذا يستعجل مبتدأ وخبر أي ما الذي ، ويجوز أن تكون ما ذا كلمة واحدة بمعنى أي شيء : وعليه يكون محلها النصب بيستعجل. وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام كما تقدم على الواو والفاء بقصد التقرير والتقريع. والآن كلمتان همزة الاستفهام والآن ظرف زمان متعلق بآمنتم محذوفة أي آلآن آمنتم ، ولا تتعلق بآمنتم المتقدمة على همزة الاستفهام لأن النحاة قالوا : الاستفهام يمنع الفعل من العمل فيما بعده. وهو مبتدأ مؤخر ، وحق خبر مقدم. وإي حرف جواب بمعنى نعم في القسم خاصة. وانه لحق جواب القسم. والمصدر المنسبك من ان لكل نفس فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت. وألا ان (ألا) أداة تنبيه.

المعنى :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). في الآية السابقة ٤٥ هدد سبحانه المكذبين بلقائه ، هددهم بأنه سيحييهم بعد الموت ، ويعاقبهم على تكذيبهم.


وفي هذه الآية ٤٨ أشار تعالى الى انهم أجابوا عن هذا التهديد بقولهم استخفافا واستهزاء : متى يكون ذلك؟. (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي انكم تسألونني عن شيء لا املك من أمره شيئا ، بل ولا من أمر نفسي ، فبالأولى غيرها. وتقدم نظيره في سورة الأعراف الآية ١٨٧.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). تقدم مثله في سورة الأعراف الآية ٣٣ ، وتكلمنا عن الأجل مفصلا في ج ٢ ص ١٧١ فقرة «الأجل محتوم» عند تفسير الآية ١٤٥ من سورة آل عمران.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ). أرأيتم معناها اخبروني .. كذب المشركون بعذاب الآخرة ، واستعجلوه مستهزئين ، فأمر الله نبيه ان يقول لهم : اخبروني ما أنتم صانعون إذا نزل بكم العذاب ، وأنتم إيقاظ او نيام ، ثم اي عذاب تستعجلون ايها الحمقى؟ هل تستعجلون عذاب الدنيا ، او عذاب الآخرة؟ وأيا كان هل تقدرون على دفعه والخلاص منه؟ وهل من احد يستطيع الفرار من الله الا اليه؟.

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ). لقد شاهدنا كثيرا من الحمقى يحاولون الاقدام على الأخطار والمهالك ، او يحجمون عما فيه خيرهم وصلاحهم ، فينصحهم العقلاء المشفقون ، ويحذرونهم سوء العواقب ، فيصمون آذانهم ، ويركبون عنادهم ، فيفعلون الشر ، او يتركون الخير مستخفين بالعاقبة ومن حذّر منها ، حتى إذا وقعت الواقعة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا في نصح الناصحين .. وهذا هو بالذات حال المكذبين باليوم الآخر ، كذبوا به ، حيث ينفعهم التصديق والعمل ، وصدقوا به ، حيث لا عمل ولا جدوى من الاعتراف والتصديق.

(آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) آلآن وأنتم في يوم الحساب والعقاب الذي لا ايمان فيه ولا عمل تعترفون وتؤمنون ، وفي يوم الايمان والعمل أنكرتم وأعرضتم؟. ان الايمان بالله واليوم الآخر هو الاعتراف بهما في علم الغيب ، اما الاعتراف بهما بعد الرؤية وجها لوجه فما هو من الايمان المطلوب في شيء ، وان استحال الفرض بالنسبة الى رؤيته تعالى.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ). السجن المؤبد في الحياة الدنيا


ينتهي بالموت ، اما من سجن في جهنم فلا يقضى عليه فيموت ، ولا يخفف عنه من عذابها (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). ولو عوقبوا بما لم يكسبوا لكان الله ظالما .. حاشا من لا يشغله غضبه عن عدله.

بالله عليك يا محمد أنت نبي؟

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) العذاب الذي وعدتنا به (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). ذكر القرآن الكثير من الآيات والبينات على نبوة محمد وصدقه في جميع أقواله وأفعاله ، منها آية التحدي بالقرآن ، ومنها آية المباهلة ، ومنها الآية ١٦ من هذه السورة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). ووجه الدلالة فيها أن من عرفه الناس بالأمانة والصدق والاستقامة أربعين عاما فعليهم أن يصدقوه في جميع أقواله ، حتى يثبت العكس .. وقد اشتهر النبي (ص) قبل البعثة بالصادق الأمين فعلى من عرفه بهذا الوصف ان يصدقه في دعوى النبوة انسجاما مع علمه بأمانة محمد (ص) .. ولكن الأهواء والمآرب تحول بين المرء وقلبه وعقله .. أما الذين تجردوا عن الغايات والشهوات ، وطلبوا الحق لوجه الحق فقد آمنوا به منذ البداية ، ومن هؤلاء من اكتفى بمجرد قوله : أنا رسول الله ، ولم يطلب بينة ولا يمينا معتمدا على السوابق كعلي بن أبي طالب ، ومنهم من طلب البينة ، ومنهم من اكتفى باليمين كضمام بن ثعلبة : قال الرواة : وفيهم الإمام ابن حنبل والبخاري ومسلم :

بينما رسول الله في المسجد إذ دخل رجل ، وقال : أيكم محمد؟. فأرشد اليه.

قال الرجل لمحمد (ص) : اني أسألك فمشدد عليك في المسألة ، فلا تجد علي في نفسك.

النبي : سل ما بدا لك.

الرجل : أسألك بربك ورب من قبلك : هل أرسلك الله الى الناس كلهم؟

النبي : اللهم نعم.


الرجل : أنشدك الله : هل أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟

النبي : اللهم نعم.

الرجل : أنشدك الله : هل أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟.

النبي : اللهم نعم.

الرجل : أنشدك الله : هل أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟.

النبي : اللهم نعم.

الرجل : آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي .. أنا ضمام ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. ثم خرج الرجل من المسجد ، وكان أشعر ذا عقيصتين ـ العقيصة من الشعر المفتول والمجدول ـ فقال النبي (ص) : ان صدق الرجل يدخل الجنة.

ولما أقدم على قومه اجتمعوا اليه : فكان أول كلامه ان قال : بئست اللات والعزى. فقالوا : صه يا ضمام ، اتق البرص والجذام. قال : ويلكم انهما ما يضران ولا ينفعان ، ان الله قد بعث إليكم رسولا ، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، واني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله ، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.

وكما آمن هو بمحمد من أيسر الطرق وأبسطها كذلك أسلم قومه رجالا ونساء من هذا الطريق بالذات. وهكذا كل من كان الحق بغيته وأمنيته يؤمن به بمجرد أن تلوح دلائله ، من أي نحو أتت ، تماما كصاحب الحاجة يعمى عن كل شيء الا عنها .. وقديما قيل : الحكمة ضالة المؤمن يأخذها انّى وجدها. والمراد بالمؤمن كل من يؤمن بالحق بمجرد ظهوره من غير كلفة ومشقة : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) ـ ٥٧ الأعراف».

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) من هول العذاب وشدته ، ولا ينفعها الفداء شيئا. والغرض من هذا الفرض التأكيد على انه لا يجدي في ذاك اليوم شيء الا الايمان والعمل الصالح : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا


تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ـ ١٢٣ البقرة» (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ولكن حيث لا ينفع الندم أسرّوه ، أم أعلنوه (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) تقدم هذا بنصه الحرفي في الآية ٤٧ من هذه السورة ، وذكر هناك لمناسبة تحذير الرسول للمكذبين ، وأعيد هنا لمناسبة عدم الجدوى من الفداء لو أمكن.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحكم ويفعل ما يشاء ، ولا رادّ لمشيئته (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) في مجيء اليوم الآخر وثوابه وعقابه ، وفي كل ما وعد (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور .. وأكثر الذين يعلمون ويؤمنون بهذا البعث لا يعملون له. وإذا كانت الأكثرية على وجه العموم لا تعلم ، وأكثرية «الأقلية» التي تعلم لا تعمل فالنتيجة الحتمية ان العالم العامل أندر من الذهب الأحمر.

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). فيعاقب من علم ولم يعمل بعذاب أشد وأعظم من عذاب من أهمل وقصّر في طلب المعرفة من أجل العمل .. ان هذا مسؤول ما في ذلك ريب ، ولكن مسؤولية من ترك العمل بعلمه أعظم بكثير .. ان السعي لوفاء الدين واجب ومن تركه فهو آثم ، ولكن إثم من ترك ، وهو يملك المال بالفعل ، أشد وأعظم.

لقد جائكم موعظة الآية ٥٧ ـ ٦٠ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)


وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

الإعراب :

شفاء هنا مصدر بمعنى الفاعل أي شاف ، مثل رجل عدل بمعنى عادل. وبفضل الله وبرحمته متعلق بفعل محذوف دل عليه الموجود ، أي قل : ليفرحوا بفضل الله وبرحمته. وفبذلك اشارة الى فضل الله ورحمته ، وتتعلق بفليفرحوا ، والغرض من هذا التأكيد الإيماء الى ان الإنسان لا ينبغي له ان يفرح بشيء الا بفضل الله ورحمته. وما في قوله تعالى : ما أنزل الله للاستفهام الانكاري ، وموضعها النصب بأنزل. وآلله مركب من كلمتين : همزة الاستفهام ، ولفظ الجلالة ، أي أالله. وما ظن الذين (ما) مبتدأ ، وظن خبر.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). هذه الأوصاف الأربعة : الموعظة والشفاء والهدى والرحمة هي أوصاف القرآن الكريم ، والغرض من ذكرها الرد على المشركين ، وعلى كل من يرتاب في كتاب الله ، ويرفض الاعتراف به ، ووجه الرد ان القرآن يعظ الناس بالموعظة الحسنة ، ويشفي القلوب من الأهواء والرذائل ، ويهدي للتي هي أقوم ، وهو رحمة تنجي من يؤمن به ويعمل من الهلاك والعذاب ، وعلى هذا فمن رفضه فقد رفض هذه المبادئ التي هي دعائم الحق والخير ، وسبل النجاة والأمان.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). أي ان العاقل لا يفرح بالمال وأسباب الملذات في هذه الحياة ، وانما يفرح ويغتبط بفضل الله ورحمته .. وقد أطال المفسرون الكلام حول معنى فضل الله ورحمته ، وبيان


الفرق بينهما .. وسياق الآية يدل على ان المراد بهما هنا الهداية الى طريق الخير والنجاة ، تماما كالفضل والرحمة في قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) ـ ١١٢ النساء». فقوله : (أَنْ يُضِلُّوكَ) يدل على ان المراد بفضله ورحمته تعالى الهداية أو التثبيت عليها ، لأنها ضد الضلال ، ومثلها الآية ٦٤ من سورة البقرة : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً). هذه الآية قريبة المعنى من الآية ١٠٣ من سورة المائدة التي مر تفسيرها في ج ٣ ص ١٣٧ ، ومحصل المعنى ان الله أمر نبيه أن يقول لمشركي مكة الذين جعلوا في الأنعام بحيرة وسائبة ، وما اليهما ، أمره أن يقول لهم : اخبروني أي شيء وهب الله لكم من الرزق الذي جعل فيه حلالا وحراما ، حتى قسمتم هذا التقسيم ، والاستفهام هنا للإنكار ، أي انه تعالى ما جعل شيئا من هذا ، بل هو من عندياتكم فأنتم وحدكم حرّمتم ما حرمتم (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ، ولا يمكنهم الادعاء بأن الله أذن لهم فتعين انهم مفترون.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ). أي هل يتصور الذين يحللون ويحرمون من تلقائهم ان الله يتركهم غدا بلا عقاب على كذبهم وافترائهم؟ اذن لا فرق عنده بين من اتقى ومن عصى .. كيف؟ وهو القائل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ـ ٢٨ ص». وهذا التوبيخ والتقريع من أبلغ أساليب التهديد والوعيد.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما أنعم عليهم من العقل والشرع الذي أمرهم بالخير ، ونهاهم عن الشر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) اي لا يعملون بوحي العقل ، ولا بحكم الشرع.


وما تكون في شأن الآية ٦١ ـ ٦٤ :

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

اللغة :

الشأن والبال والحال بمعنى واحد ، تقول : ما شأنك؟ وما بالك؟ وما حالك. تفيضون فيه تدخلون فيه. ويعزب يغيب. والذرة النملة الصغيرة ، وتطلق أيضا على الدقيقة من الغبار. والمراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ. والبشرى والبشارة بمعنى واحد ، وهي الخبر السار.

الإعراب :

ألا أداة تنبيه. والذين آمنوا مبتدأ ، ولهم البشرى خبر. وفي الحياة الدنيا وفي الآخرة متعلق بالبشرى. ولا تبديل (لا) نافية للجنس تعمل عمل ان ، وتبديل اسمها ولكلمات الله خبرها.


المعنى :

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ). الخطاب في تكون للنبي (ص) ، والضمير في منه للشأن ، وضمير تعملون للنبي وأمته ، وضمير فيه للعمل ، وتفيضون فيه أي تدخلون فيه ، والمعنى الجملي أن ما من حال يكون عليها النبي وأمته إلا وهي في علم الله (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). معنى يعزب يغيب ، والكتاب المبين اللوح المحفوظ ، ويتلخص مجموع الآية بأن الله واسع عليم بكل شيء دون استثناء ، والمراد بعلمه هنا جزاؤه على أقوال الناس وأفعالهم خيرا كانت أو شرا ، كبيرة كانت أو صغيرة ، واطلاق علمه على جزائه تعالى من باب اطلاق السبب وارادة المسبب ، لأن علمه بما يصدر من الإنسان سبب للجزاء عليه ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ووصف الإمام علي (ع) أولياء الله بقوله : «هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها ، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها ، فأماتوا ما خشوا أن يميتهم ـ أي الهوى ـ وتركوا منها ما علموا انه سيتركهم». وقال : «ان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به ، وان ولي محمد من أطاع الله وان بعدت لحمته ، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته». ومعنى هذا ان مجرد التصديق بلا تقوى وعمل لا يجدي نفعا ، واليه يشير قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). وتكلمنا عن ذلك في ج ١ ص ٣١٤ فقرة : «لا ايمان بلا تقوى» عند تفسير الآية ٢١٢ من سورة البقرة ، وفي ج ٢ ص ٢٣٧ فقرة «التقوى» في آخر سورة آل عمران.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). ضمير لهم يعود الى المتقين ، وبشارتهم في الدنيا من الله تعالى انهم على حق في عقيدتهم وعملهم .. وليس من شك ان النفس تطمئن وتستشعر الغبطة والسعادة إذا كانت على ثقة من دينها


وأعمالها ، أما بشارة المتقين في الآخرة فهي فرحتهم بنعمة الله وفضله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ـ ١٧١ آل عمران».

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لأن الله لا يخلف وعده ، وإذا أراد شيئا فلا راد لمشيئته : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) ـ ١٠٧ يونس» (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي ليس وراءه فوز ، وكل فوز يأتي نتيجة للايمان بالحق والجهاد في سبيله فهو عظيم.

ان العزة لله جميعا الآية ٦٥ ـ ٧٠ :

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))


اللغة :

العزة الغلبة والقوة ، ويعز بفتح العين إذا اشتد وبكسرها إذا صار نادرا. والخرص الحدس والقول بلا علم. ومبصرا على سبيل المجاز أي مبصرا فيه ، مثل ليل نائم أي فيه. والسلطان الحجة والبرهان.

الإعراب :

ان العزة لله جملة مستأنفة ، وليست مفعولا للقول لأن النبي (ص) لا يحزنه قولهم : العزة لله. وما يتبع (ما) نافية ، ومفعول يتبع محذوف أي ما يتبعون شريك الله حقيقة ، لأن الله لا شريك له. إن يتبعون (ان) نافية. وان هم مثلها. والمصدر المنسبك من لتسكنوا متعلق بمحذوف مفعولا لجعل أي جعل الليل مظلما لسكنكم فيه. وان عندكم من سلطان (ان) نافية ، وعندكم خبر مقدم ، ومن زائدة اعرابا ، وسلطان مبتدأ مؤخر ، وبهذا متعلق بسلطان. ومتاع في الدنيا خبر مبتدأ محذوف أي ذلك متاع.

المعنى :

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). جن جنون المرابين وأرباب الامتيازات من دعوة محمد (ص) الى العدل والمساواة ، وتحريم الظلم والاستغلال ، جن جنونهم من هذه الدعوة التي تؤدي بعزهم وثرائهم ، وهم يملكون السطوة وخزائن الأرض .. فقاوموا النبي (ص) أول ما قاوموه بالافتراءات والاشاعات ، وقالوا : هو مجنون. فما صدقهم أحد ، فقالوا : هو ساحر. فكذبتهم الوقائع ، فصمموا على اغتياله ، وتشاوروا في طريق الاغتيال ، فقال الله لنبيه الأكرم : لا تبال بما يقولون عنك ، وما يدبرونه لك ، فإن القوة والعزة جميعا لله ، لا للمال ، ولا للجاه ، فهو الذي يعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، وسينتقم من الذين كذبوك ، وقالوا عنك ما قالوا .. ولا يجدون وليا ولا نصيرا يدرأ عنهم


نقمة الله وغضبه (هُوَ السَّمِيعُ) لافترائهم عليك (الْعَلِيمُ) بما يدبرونه لك من الكيد .. وانه لهم لبالمرصاد.

وتسأل : لقد دلت هذه الآية على ان العزة بكاملها لله وحده ، لا يشاركها فيها أحد ، مع ان الآية ٨ من سورة «المنافقون» تقول : «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»؟.

الجواب : ان عزة الرسول والمؤمنين هي لله ، ومن الله ، فبه يعتزون ، ومنه يستمدون.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ومن كان له هذا الملك فهو قادر على نصرة نبيه ، وإعزازه والانتقام من أعدائه. وقال تعالى (من) ولم يقل (ما) لأن الكلام عن المشركين الذين افتروا الكذب على الله ونبيه (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ). إذا اتبعت إنسانا معتقدا بصلاحه ، وهو ضال في الواقع فأنت لا تتبع صالحا ، بل ضالا ، وهذه هي حال من يعبد الأصنام معتقدا بأنها شريكة لله .. انه لا يعبد شركاء الله لسبب واضح وبسيط ، وهو انه ليس لله شركاء ، ويوضح ارادة هذا المعنى قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وقوله : ان هم الا يخرصون تأكيد لقوله : ان يتبعون الا الظن ، والجملتان تفسير وتوضيح لقوله : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء. وسبق نظير هذه الآية مع البيان في الآية ٢٨ من هذه السورة.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). مبصرا أي نبصر فيه للكد والكدح ، أما الليل فظلام لأنه للسكن من متاعب النهار ، وأوضح تفسير لهذه الآية قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ـ أي جعلناها مظلمة ـ (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ـ ١٢ الاسراء».

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). سبق مثله مع ذكر الأدلة على نفي الولد عنه تعالى في سورة البقرة الآية ١١٧ ج ١ ص ١٨٦ ، وتكلمنا عن الأقانيم الثلاثة : الأب والابن وروح القدس في ج ٢ ص ٣٤٤.


(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) في الآخرة التي هي خير وأبقى من حياتنا هذه. ويكون عذابهم أشد ، وحسرتهم أعظم إذا كان افتراؤهم قولا في ذات الله وصفاته ، ونسبة الشريك له والصاحبة والولد.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي ان ما فيه المشركون من نعم هو متاع حقير ، وان كثر ما لهم ، واتسع جاههم ، لأنه قصير الأمد ، ومشوب بالمنغصات ، وما هو بشيء إذا قيس بنعيم الآخرة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بالله ونعمه وتكذيب رسله.

نبأ نوح الآية ٧١ ـ ٧٣ :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

اللغة :

النبأ الخبر الذي له شأن. واجمع الأمر عزم عليه من غير تردد. والغمة


ضيق الأمر الذي يوجب الحزن ، وضده الفرجة ، وتستعمل في الستر ، يقال : غم الهلال إذا حال الغيم دون رؤيته. وخلائف أي يخلفون من مضى.

الإعراب :

إذ ظرف في محل نصب بنبإ. وشركاءكم بالنصب عطفا على أمركم بتقدير وأمر شركاءكم. وان اجري (ان) نافية. والمصدر المنسبك من أن أكون مجرور بالباء المحذوفة أي بكوني. وكيف في محل نصب خبرا لكان ، وعاقبة اسمها.

المعنى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) الخطاب في اتل لمحمد (ص) ، وضمير عليهم لمشركي مكة (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ). ذكّر محمد (ص) المشركين من قومه ، وأنذرهم بالعذاب الأليم ، فثقل عليهم تذكيره وإنذاره ، ولكنه أصر على دعوته ، فثقل عليهم مقامه ، وحاولوا اغتياله ، فأمره الله أن يتلو عليهم خبر نوح الذي ذكّر قومه وأنذرهم ، فكبر عليهم تذكيره ومقامه ، تماما كما كبر تذكير محمد ومقامه على مشركي مكة.

ويتلخص نبأ نوح الذي تلاه محمد (ص) هنا على مشركي مكة بأن نوحا تحدى المكذبين له ، وقال لهم : اني متوكل على الله واثق بالنصر عليكم ، وان كنتم أكثر عددا ، وأقوى عدة ، لأن الله وعدني بنصره ، وهو لا يخلف الميعاد ، أما تهديدكم اياي فإنه لا يثنيني عن المضي في الدعوة الى الله ، وما عليكم الا ان تجمعوا كل ما تقدرون عليه ، وتضموا إليكم من تعبدون من دون الله ، وتبلغوا كل غاية في الجهر بالعداء ، ومواجهتي بالشر والإيذاء ، وتعجلوا ذلك ، ولا تنتظروا.


(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي فإن أعرضتم عن دعوتي فلست مباليا باعراضكم ، لأنه لا يجلب لي ضرا ولا يفوّت عليّ نفعا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) لا عليكم ، لأني عامل له ، لا لكم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقد أطعت وأديت رسالة الله على وجهها ، ولا شيء بعد هذا أسلمتم أو كفرتم.

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا). وهكذا ينتهي كل شيء .. هلاك المكذبين ، ونجاة المؤمنين ، واستخلافهم مكان المكذبين الهالكين (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ). الخطاب للنبي (ص) ، والغرض منه أن يحذر مشركو مكة من ان يصيبهم مثل ما أصاب قوم نوح ، وسبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف الآية ٧٢.

ثم بعثنا من بعده رسلاً الآية ٧٤ ـ ٨٢ :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ


إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

اللغة :

الملأ أشراف القوم. واللفت بفتح اللام الصّرف عن الأمر أو إلى الأمر.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ليؤمنوا متعلق بمحذوف خبرا لكانوا أي فما كانوا مريدين للايمان. ومفعول أتقولون جملة محذوفة أي أتقولون للحق هو سحر ، ثم استأنف مستنكرا أسحر هذا ، وسحر خبر مقدم ، وهذا مبتدأ مؤخر ، والجملة لا محل لها من الاعراب. وتكون عطفا على لتلفتنا ، والكبرياء اسم تكون ، ولكما خبرها ، وفي الأرض متعلق بالكبرياء. وبمؤمنين الباء زائدة اعرابا ، ومؤمنون خبر نحن. وما جئتم به السحر (ما) استفهامية ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة جئتم خبر ، والسحر بدل من (ما) على تقدير الاستفهام أي السحر ، مثل كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟.

المعنى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ). ضمير بعده يعود إلى نوح ، والمعنى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى قومهم كإبراهيم وهود وصالح ، ومعهم الدلائل والمعجزات ، ولكن هذه المعجزات والدلائل لم تثنهم عن الشرك ، وتحولهم إلى الايمان بوحدانية الله ، واليوم الآخر ، فلقد كذبوا بهما من قبل أن تأتيهم الرسل بالبينات ،


وظلوا على هذا التكذيب بعد مجيء الرسل وإنذارهم ، تماما كما كانوا مصرين على التكذيب بالوحدانية والبعث قبل مجيء الرسل اليهم ، وهذا هو المراد بقوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ). وبكلمة انهم لم ينتفعوا بعلم الرسل وهدايتهم.

حول الهداية والضلال :

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ). وتسأل : إذا كان الله هو الذي طبع على قلوبهم فكيف يعذبهم؟.

الجواب : لقد شاء الله سبحانه أن يكون للهداية طريقها الخاص ، وهو اتباع رسله ، وللضلالة طريقها كذلك ، وهو اتباع الهوى ، فمن مضى على طريق الرسل بلغ الهدى ، وكان حتما من المهتدين : ومن مضى على طريق الهوى فهو حتما من الضالين المعتدين ، تماما كما قدر الله جل وعز أن من رمى بنفسه من علو شاهق فهو من الهالكين ، وان من ألقى بها في البحر جاهلا بفن السباحة فهو من الغارقين ، وبهذا الاعتبار أي ارتباط الطريقين بمشيئة الله صح اسناد الطبع والختم اليه تعالى ، وسبق الكلام عن ذلك أكثر من مرة ، وبعبارات شتى.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا الضمير يعود إلى الرسل الذين جاءوا بعد نوح (ع) (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) وهي المعجزات كالعصا واليد البيضاء ، وقوله : (بَعَثْنا) يدل بوضوح على ان هرون نبي مرسل تماما كأخيه موسى ، وقيل : ان هرون يكبر موسى بثلاث سنوات (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وكل من استنكف عن قبول الحق والرضوخ له فهو مجرم (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو المعجزات التي أظهرها الله على يد موسى (ع) (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وهكذا قال مشركو قريش عن محمد (ص) لما جاءهم بالقرآن واعجازه .. ومحال ان يسلم المصلح من افتراءات المفسدين ، وهم يكيفونها بحسب الزمن ، كان الناس من قبل يؤمنون بالسحر ، فقال المفترون عن المصلح : انه ساحر ، أما اليوم حيث لا ايمان بالسحر فإنهم يقولون عنه فوضوي خارج على النظام!.


(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) كيف؟. والحق يستهدف هداية الناس الى الواقع ، والسحر يزيف الواقع ويحرفه ، ويضلل الناس عنه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) وهل يفلح المشعوذ الدجّال؟. (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) ـ أي تصرفنا ـ (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). هذه معزوفة يرددها من يحافظ على الأوضاع الفاسدة التي تضمن له منافعه ومكاسبه .. فالمسألة مسألة خوف على المصالح والسلطان ، لا مسألة آباء وأصنام .. والدليل ما حكاه الله عنهم بقوله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ). هذا قول فرعون وجلاوزته لموسى وأخيه (ع) ، والمعنى ان الدافع لكما على ادعاء الرسالة من الله هو ان يكون لكما الملك والسلطنة في أرض مصر من دوننا .. وبهذا يفصح فرعون وملؤه عن تخوفهم على ملكهم وطغيانهم ، ولذا قالوا لموسى وهرون ، (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بل مقاومين ومحاربين دفاعا عن منافعنا وامتيازاتنا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) وهو لا يعلم ما ذا يخبئ الدهر له فلما جاء السحرة قال لهم موسى (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ). قال هذا مستخفا بهم وبسحرهم وفرعونهم لأن الله سبحانه وعده الفوز والنصر (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) هو باطل من أصله ، ولكن الله سيظهر بطلانه للناس ، أما عصا موسى فلا يأتيها الباطل إطلاقا لأنها حق من عند الله (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) بل يزيله ويمحقه (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وهي الحجج الدامغة ، والبراهين القاطعة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) لأن كراهيتهم لا تعطل مشيئة الله.

فما آمن لموسى الآية ٨٣ ـ ٨٩ :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ


مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

اللغة :

الذرية النسل. والفتنة الابتلاء والاختبار. وعال في الأرض أي مستبد. وتبوأ المكان أقام فيه. والقبلة ما يكون تلقاء الوجه ، ومنه قبلة الصلاة. والطمس الازالة. واشدد هنا مأخوذة من الشدة ضد الرخاء والراحة.

الإعراب :

على خوف متعلق بمحذوف حالا من ذرية. وضمير ملئهم يعود على قوم موسى ، لأنهم أقرب من الذرية لفظا ، والضمير يعود الى الأقرب. والمصدر المنسبك من ان يفتنهم بدل اشتمال من فرعون. ويا قوم أصله يا قومي ، وحذفت الياء تخفيفا. وان تبوءا (ان) بمعنى أي مفسرة لأوحينا ، وتبوءا فعل أمر بمعنى اجعلا ، ولقومكما اللام زائدة اعرابا وقومكما مفعول أول وبيوتا مفعول ثان.


ومصر ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، ويجوز أن تصرف لخفتها كما تصرف هند. والخطاب في اجعلوا وأقيموا لموسى وأخيه ومن تبعهما. والخطاب في بشّر لموسى. واللام في ليضلوا للعاقبة. فلا يؤمنوا عطف على ليضلوا ، وما بينهما دعاء مفترض. ولا تتبعانّ اللام ناهية ، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد ، ومحله الجزم.

المعنى :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ). بعد أن ألقى موسى العصا ، واظهر الله الحق على يده في مشهد عام آمن السحرة وخلق كثير ، أما قبل إلقاء العصا فقد آمن به الفتيان والشبان من بني إسرائيل ، لأن الشباب من كل قوم كانوا وما زالوا يتحمسون لكل جديد ، ولكنهم آمنوا بموسى ، وهم خائفون من فرعون ومن رؤوس الاسرائيليين أيضا ان يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدوا عن دينهم ، فلقد كان أرباب المصالح من اليهود يتآمرون مع فرعون ، ويناصرونه على المستضعفين من قومهم ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أهل الأديان في كل زمان ومكان (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي طاغية مستبد (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) لا يقف في استبداده وطغيانه عند حد.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ). موسى (ع) أعزل من كل شيء إلا من الحق ، وفرعون يملك كل شيء إلا الحق ، وقد تسلط على من آمن بموسى يضطهدهم وينكل بهم ، فقال لهم موسى : لا قوة لي ولا لكم تصد طغيان فرعون عنكم وظلمه لكم إلا التوكل على الله ، والثقة بوعده ان العاقبة للمتقين ، فسلموا الأمر اليه ان كنتم مطيعين حقا لأوامره. وقد ذكر لهم ثلاثة أوصاف : الايمان ، وهو التصديق في القلب ، والإسلام ، والمراد به هنا الانقياد والاستسلام لأمره تعالى ، والتوكل ، وهو الإخلاص والتفويض الى الله وحده .. فمن جمع هذه الأوصاف كان الله معه.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وتركنا اليه أمرنا ، فهو أعلم بحالنا وصالحنا ، وهو


على كل شيء قدير. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). المراد بالظالمين هنا الكافرون ، وهم فرعون وقومه ، أما الفتنة فالمراد بها العذاب ، والمعنى لا تجعلنا محلا لعذابهم (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). المراد بالكافرين الظالمون ، وهم فرعون وقومه الذين اضطهدوا وظلموا بني إسرائيل ، والمراد بالنجاة الخلاص من ظلمهم واضطهادهم ، وعليه تكون هذه الآية تفسيرا للتي قبلها.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً). أي لا تخرجا من مصر ، وابقيا فيها ، واتخذا مساكن لبني إسرائيل يأوون اليها ، ويعتصمون بها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) الخطاب لموسى وأخيه ومن تبعهما. وقيل : معناه اجعلوا بيوتكم متقابلة في جهة واحدة ، أي اسكنوا جميعا في حي واحد ، وهذا التفسير أرجح من تفسير البيوت بالمساجد ، أي اجعلوا بيوتكم مساجد ، ووجه الرجحان ان البيوت غير المساجد ، فهذه للعبادة فقط ، وتلك للسكن (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لأنها ترمز إلى الإخلاص لله ، وتجمع القلوب على الاحساس المتحد (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنجاة من فرعون وملئه في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وخص الخطاب بموسى وحده لأنه الأصل في الرسالة ، وهرون تبع له.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). نزلت هذه الآية في زمن لم يكن الناس يعرفون شيئا عما تحتويه قبور الفراعنة ، ثم كشف الحفر والتنقيب فيها عن هذه الأموال والزينة التي نص عليها القرآن ، وهذا شاهد محسوس لا يقبل الشك والريب في ان القرآن وحي من علام الغيوب. (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) اللام في ليضلوا للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب أي كانت نتيجة انعام الله عليهم بالزينة والمال ان عصوه بدلا من أن يطيعوه.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) بمحقها وتدميرها .. وقد يظن ظان ان في هذا الدعاء إيماء إلى ان موسى طلب من الله ان يمنع الغنى والترف عن أهل البغي والضلال كيلا يزدادوا بغيا وطغيانا .. ولكن الذنب ذنب الأوضاع الفاسدة التي نهى الله عنها. وبسطنا الكلام عن ذلك في ج ٣ ص ٩٤ فقرة : «الرزق وفساد الأوضاع عند تفسير الآية ٦٦ من المائدة».

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) قيل : معناها واطبع على قلوبهم. وقيل : بل المراد


ثبتهم على المقام في بلدهم ، حتى يروا هلاك أموالهم رأي العين ، والذي نراه أن اشدد هنا مأخوذة من الشدة والبلاء ضد الراحة والرخاء ، أي ان موسى (ع) سأل الله تعالى أن ينزل الشدائد على قلوبهم ، وهذا يتناسب تماما مع سؤاله ان ينزلها الله على أموالهم. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). هذه الجملة معطوفة على ليضلوا عن سبيلك ، والمعنى ان عاقبة تقلب فرعون وملئه في نعم الله ان ضلوا وأصروا على الكفر ، وان لا يؤمنوا إلا عند حلول العذاب حيث لا يقبل الإيمان .. وليس من شك ان موسى (ع) ما دعا عليهم وقال هذا القول إلا بعد اليأس من صلاحهم.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وهي انزال الآفات على أموال فرعون وملئه ، والمصائب والشدائد على قلوبهم (فَاسْتَقِيما) على الطريقة التي أنتما عليها من الجهاد في سبيل الدعوة الى الحق. (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) عظمة الله وحكمته .. وجاز هنا نهي المعصوم عن الذنب لأنه من الله ، لا من سواه ، فإن من شأن الأعلى أن يأمر وينهى من دونه كائنة ما تكون منزلته.

وجاوزنا ببني اسرائيل البحر الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ


صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

اللغة :

ننجيك من النجوة ، وهي المكان المرتفع من الأرض. والمراد بآية هنا العبرة والعظة. ومبوأ صدق أي منزلا صالحا ، والعرب يضيفون الشيء الجيد إلى الصدق.

الإعراب :

ببني إسرائيل الباء للتعدية ، وبغيا وعدوا مفعول لأجله لاتبعهم. وآلآن مركبة من كلمتين : همزة الاستفهام والآن اي أالآن ، والظرف متعلق بمحذوف اي آلآن تؤمن. ومبوأ صدق منصوب على الظرفية ببوأنا ان أريد به المكان ، وان أريد به المصدر فهو مفعول مطلق.

المعنى :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) سبق نظيره في سورة البقرة الآية ٥٠ وسورة الأعراف الآية ١٣٨.

نهاية الطاغية :

(حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). بالأمس كان ينتفخ فرعون ويقول : أنا ربكم الأعلى. وحين أدركه الغرق قال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، ما كان أغناه عن


الحالين؟. لا هذه ولا تلك ، فقد كان باب الطاعة مفتوحا أمامه حين عصى ، أما الآن فلا طاعة ولا عصيان ، إذ لا ارادة ولا اختيار .. وهذا هو شأن الخسيس اللئيم يتعاظم عند النعماء ، ويتصاغر عند البأساء.

والتاريخ يعيد نفسه ، وأعني بذلك سنة الله في خلقه التي أشار اليها مؤكدا بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ـ ٤٣ فاطر». وإسرائيل اليوم تسير بمساندة الاستعمار على سنة فرعون بالذات.

كان فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل ، ويستحيي نساءهم ، وفعلت إسرائيل بأبناء الشعب الفلسطيني أكثر بكثير مما فعله فرعون.

وقال فرعون : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟. وقالت إسرائيل : أليست لي فلسطين وخيراتها ، ومعها مرتفعات الجولان ، والضفة الغربية؟.

وقال فرعون : أنا ربكم الأعلى. وقالت ربيبة الاستعمار وحربته ، «لا غالب لي اليوم». ولم تمض الأيام ، حتى بدأت سنة الله تعمل عملها ، فمن إغراق ايلات الى موقعة الكرامة ، ومن تدمير مواقع الصواريخ لاسرائيل إلى عمل الفدائيين الذي اضطر «دايان» الى القول : على اليهود ان يستعدوا لتوسيع قبورهم .. وسيقول عاجلا أو آجلا : آمنت بالذي آمن به العرب والمسلمون ، تماما كما قال فرعون من قبل : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، لأنها سارت على نفس الطريق الذي سار عليه ، وستكون نهايتها نهايته لا محالة.

وقد يقول قائل : ان الصراع مع إسرائيل طويل ومركز. ونقول في جوابه أجل ، ولكن النصر النهائي لأصحاب الحق مهما طال الزمن ، والتاريخ البعيد والقريب يشهد بهذه الحقيقة من عهد فرعون وهامان الى عهد هتلر وموسيليني.

(آلْآنَ) بعد أن فات ما فات تقول : آمنت (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حيث كان الخيار بيدك في التوبة والرجوع الى الحق ، ولكنك طغيت وبغيت (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فذق جزاء عملك بالغرق والهلاك (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) لا بروحك ونلقي بجثتك على نجوة من الأرض ليشاهدها من كان يعظم من شأنك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يتعظ بها كل من تحدثه نفسه بالسير على طريق الفساد ..


ولكن ما أكثر العبر ، وأقل الاعتبار ، ومن أجل هذا استدرك سبحانه ، وقال (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وغير مغفول عنهم.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ). والمراد بالصدق هنا الخصب بدليل قوله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) والمعنى اسكناهم بعد هلاك فرعون بلادا خصبة طيبة ، واختلف المفسرون في تحديد هذه البلاد ، فمنهم من قال : هي فلسطين. ومنهم من قال : هي مصر ، وهذا هو الأرجح لقوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ) ـ اي فرعون وقومه ـ (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ـ ٥٨ الشعراء». فالآية صريحة في ان الله اسكن بني إسرائيل ديار فرعون وقومه.

(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ). المراد بالعلم هنا التوراة كما نزلت على موسى (ع) ، وكان فيها الإخبار بنبوة محمد (ص). وكان بنو إسرائيل قبل نزولها كلمة واحدة في كفرهم وضلالهم ، وبعد ان جاءتهم التوراة اختلفوا فيما بينهم على عهد موسى وبعده ، فقد تمرد عليه أكثرهم ، وعبدوا العجل ، وقالوا له : أرنا الله جهرة .. واذهب أنت وربك ، الى غير ذلك مما سجله عليهم القرآن (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) حيث لا كذب في ذلك اليوم ، ولا رياء ، ولا شيء إلا الحق يظهر للجميع جليا واضحا.

فإن كنت في شك الآية ٩٤ ـ ٩٧ :

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))


الإعراب :

النون في قوله : فلا تكونن للتأكيد ، ودخلت على المضارع لمكان لا الناهية. وحتى يروا أي ان يروا. ويروا هنا تتعدى إلى مفعول واحد لأنها بصرية ، لا قلبية.

المعنى :

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ). المراد بالذين يقرءون الكتاب علماء الإنجيل والتوراة ، والشيء المسئول عنه هو ما جاء في القرآن من قصة موسى وغيره من الأنبياء بقرينة السياق ، لأن الآيات نزلت في قصة موسى مع فرعون.

وتسأل : ما هو الوجه في قوله تعالى لنبيه الأكرم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) مع العلم ان النبي لا يشك في ذلك ، كيف؟ وقد تحمّل من الأذى في سبيل رسالته ما لم يتحمله نبي ولا مصلح.

الجواب : الوجه ان يقول النبي (ص) لمن يشك فيما ذكره القرآن من قصة موسى وغيره من الأنبياء ، ان يقول له : اسأل عن ذلك العلماء المنصفين من أهل الكتاب ، فإنه ثابت في التوراة والإنجيل ، تماما كما جاء في القرآن.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ). المراد بالامتراء الشك ، والمعنى بلّغ الناس يا محمد ان من يشك أو يكذب بالحق الذي أنزل اليك فهو من المعذبين الخاسرين يوم القيامة .. وعبّر سبحانه عن هذا المعنى بنهي النبي عن الشك والتكذيب ليقول محمد (ص) للناس : أنا بشر مثلكم وواحد منكم أحاسب وأعاقب كأي انسان يشك أو يكذب بآيات الله إذا أنا شككت وكذبت .. وهذا الأسلوب هو أبلغ الأساليب وأنجحها في الدعوة الى الحق الذي تتساوى أمامه جميع الناس.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى


يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). المراد بكلمة ربك هنا العذاب ، ولا يؤمنون خبر ان الذين حقت عليهم ، والمعنى ان الذين يعذبهم الله هم الذين لا يؤمنون بالحق بحال ، حتى ولو قام عليه ألف دليل .. اللهم إلا إذا شاهدوا العذاب وأيقنوا به .. ومعلوم ان الايمان في هذه الحال لا يجدي شيئا ، لأنه تماما كإيمان فرعون حين أدركه الغرق ، وتقدم الكلام عنه قريبا في الآية ٩٠.

قوم يونس الآية ٩٨ ـ ١٠٠ :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

اللغة :

الخزي الذل. والحين مدة من الزمن ، والمراد به هنا العمر الطبيعي للإنسان. والرجس الشيء القذر ، والمراد به هنا الكفر.

الإعراب :

لولا بمعنى هلا ، وتستعمل على وجهين : الأول الطلب مثل لولا تأتينا. الثاني التوبيخ مثل لولا امتنعت عن ضلالك. وقرية على حذف مضاف أي أهل


قرية. وقوم يونس منصوب على الاستثناء المنقطع اي لكن قوم يونس ، ويونس ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

القصة :

وصف الله سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين ، وبصاحب الحوت ، وبذي النون أي الحوت ، وأيضا وصفه بالمغاضب لقومه ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فلم يستجيبوا له ، فدعا الله عليهم ، ورحل عنهم يائسا من إيمانهم .. وفي سورة القلم أمر الله نبيه محمدا (ص) أن يصبر ولا يتعجل بالدعاء على قومه بالعذاب كما فعل يونس : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ـ ٤٨ القلم».

أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مائة ألف : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ـ ١٤٧ الصافات». وقال الرواة والمفسرون : ان قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل ، وانهم كانوا يعبدون الأصنام ، فنهاهم يونس عن الكفر ، وأمرهم بالتوحيد ، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء.

وبعد ان رحل يونس عن قومه أتتهم نذر العذاب ، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا الى الله ، ودعوه مخلصين ان يكشف عنهم العذاب ، ففعل ، وأبقاهم الى انقضاء آجالهم ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

وقال المفسرون : ان قوم يونس لبسوا المسوح ، وخرجوا الى الصحراء ، ومعهم النساء والأطفال والدواب ، وفرقوا بين كل والدة وولدها إنسانا وحيوانا ، فحن بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها ، واختلطت أصوات الآدميين بأصوات الحيوانات ، فرفع الله عنهم العذاب ، ورجعوا الى ديارهم آمنين.

أما يونس فقد ضرب في الأرض ، حتى انتهى الى ساحل البحر ، فوجد جماعة في سفينة ، فسألهم ان يصحبوه ، ففعلوا ، ولما توسطوا البحر بعث الله عليهم


حوتا عظيما حبس عليهم سفينتهم ، فأيقنوا انه يطلب واحدا منهم ، فاتفقوا على الاقتراع ، فوقع السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر ، فابتلعه الحوت ، كما جاء في سورة الصافات : وان يونس لمن المرسلين إذ ابق ـ اي هرب ـ الى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين ـ اي المغلوبين بالقرعة ـ فالتقمه الحوت وهو مليم ، اي وهو يلوم نفسه.

وألهم الله الحوت ان يطوي يونس في بطنه ، دون ان يمسه بأذى ، وفزع يونس الى ربه يناديه ويستجير به ، وهو في جوف الحوت (١) ، والى هذا أشارت الآية ٨٧ من سورة الأنبياء : «فنادى في الظلمات ان لا إله إلا انت سبحانك اني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين».

ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد ان لبث في جوفه ما شاء الله ان يلبث. قال المفسرون : ان يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط ، وان الله أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) ـ اي في مكان خال من النبات ـ (وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) ـ ١٤٦ الصافات». قالوا ، وعاد يونس بعد هذا الى قومه ، ففرحوا بقدومه ، وفرح هو بإيمانهم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً). أي لو شاء الله ان يكره الناس على الايمان ويلجئهم اليه إلجاء ، أو يخلقهم منذ البداية مؤمنين ـ لو شاء ذلك لما وجد كافر على ظهرها ، ولو فعل لبطل الثواب والعقاب ، وكان فعل الإنسان كالثمرة على الشجرة .. وسبق نظير هذه الآية في سورة الأنعام : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ـ ٣٥» .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) ـ ١٠٧» وفي سورة البقرة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ـ ٢٥٣». وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ٣٨٨.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الخطاب لمحمد (ص) ، والمعنى لقد شاءت حكمته تعالى ان يكون الخيار في الانقياد الى الحق ، او عناده بيد

__________________

(١). لو تنبه الى هذه الآية الكريمة الذين ينسبون المخترعات الحديثة الى القرآن لقالوا : ان حوت يونس يشير الى الغواصة. انظر المجلد الأول من هذا التفسير ص ٣٨ ، فقرة «القرآن والعلم الحديث».


الإنسان ، ليتميز الخبيث من الطيب ، ولا احد في مقدوره ان يعاند مشيئة الله .. فعلام ـ اذن ـ تحزن وتذهب نفسك على كفرهم وعدم ايمانهم؟. والقصد من هذا التخفيف عن الرسول الأعظم (ص). وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات ، منها قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) ـ ٤٤ ق» اي بمسلط .. ان عليك الا البلاغ.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). ان للإنسان حالات ، ولكلّ سببها ، ومنها الايمان ، وطريقة النظر الى آيات الله بوعي وتجرد ، فمن أدركها على وجهها وحقيقتها انتهى حتما الى الايمان بحكم الله ومشيئته ، لأنه هو الذي جعل التدبر لآياته سببا للايمان به ، ومن أعرض عنها انتهى حتما الى الكفر أيضا بحكم الله لأنه هو الذي جعل الإعراض عن آياته سببا للكفر ، ولكنه تعالى جعل الخيار في سلوك احد الطرفين بيد الإنسان ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ـ ١٠ الشمس» اي ان الفلاح ثابت حتما لمن طهر نفسه من الأهواء والشهوات ، والخيبة ثابتة حتما لمن دنسها بالأقذار والآثام.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). المراد بالرجس هنا الكفر المقابل للايمان الذي هو بإذن الله ، والمعنى ان الإعراض عن آيات الله وعدم تدبرها يؤدي حتما الى الكفر ، كما ان تدبرها يؤدي حتما الى الايمان. وبهذا يتبين ان المراد بإذن الله الايمان اللازم لادراك الدلائل والبينات التي أقامها الله على وجوده ، على أن يكون مع هذا الإدراك الانصاف والتجرد عن الغايات والأهواء.

وما معنى الآيات والنذر الآية ١٠١ ـ ١٠٦ :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي


شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

اللغة :

النذر جمع نذير ، وهو الذي يحذر من العواقب. والحنيف المائل عن الباطل الى الحق.

الإعراب :

ما ذا (ما) استفهام مبتدأ ، وذا بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون الكلمتان بمعنى أي شيء مبتدأ والخبر في السموات. وما تغني الآيات (ما) نافية وليست باستفهام. وكذلك الكاف بمعنى مثل مفعول ننج ، اي مثل ذلك الانجاء ، والاشارة هنا الى إنجاء قوم يونس ، وحقا منصوب على المصدر أي يحق حقا ، وعلينا متعلق بحق او بيحق. والمصدر المنسبك من ان أكون مجرور بالباء المحذوفة. ومثله وان أقم اي وبالاستقامة. وحذفت الياء من ننج للتخفيف ، وحنيفا حال من الدين.

المعنى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لمناسبة ذكر الايمان في الآية السابقة امر سبحانه بالنظر في الكون وعجائبه لأنه السبيل الى معرفة الله والايمان به. وتقدمت آيات كثيرة بهذا المعنى (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)


كل دليل على الحق فهو ينذر من يخالفه بالعقوبة ، وكل رسول من عند الله تعالى فهو يحمل معه الدليل على رسالته ، ولكن الأدلة والرسل لا ينتفع بها إلا من كان الحق ضالته يأخذه انّى وجده ، ولو كان فيه ذهاب نفسه ، أما من لا يرى في الدين والحق والانسانية إلا مصلحته ومنافعه ، أما هذا فهو عدو الأدلة والبراهين ، والأنبياء والمصلحين ، فكيف ينتفع بها ويؤمن بمبادئها؟.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ). يقال : ايام فلان ويراد ايام دولته او ايام محنته ، والمراد بأيام الذين خلوا ايام قوم نوح وعاد وثمود ، وما حل بهم من الهلاك والعذاب ، وضمير ينتظرون يعود الى الذين كذبوا محمدا (ص) بدليل قوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فانه تهديد لمن كذب محمدا بسوء العاقبة.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا). هذه الجملة عطف على جمل محذوفة والتقدير انه قد جرت سنة الله في خلقه ان يرسل الى الناس رسلا منهم مبشرين ومنذرين ، فيصدقهم البعض ، ويكذبهم آخرون ، فيهلك المكذبين ، ثم ينجي الرسل والمؤمنين .. قال صاحب المنار : «هذا من الإيجاز المعجز الذي انفرد به القرآن» .. ووجه الاعجاز ان الله سبحانه ذكر جملة واحدة تدل دلالة واضحة على عدد من الجمل المحذوفة.

(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بعد ان قال سبحانه : انه ينجي المؤمنين قال : ان نجاة المؤمن من العذاب حق له على الله يطالبه به ، تماما كأصحاب الحقوق ، وان على الله تعالى ان يؤديه له كاملا غير منقوص ، وهذا رد صريح على السنة الذين قالوا : ان الله سبحانه له ان يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي (المواقف ج ٨ المقصد الخامس والسادس من المرصد الثاني في المعاد).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). لقد أدى النبي (ص) امانة الله الى خلقه ، وبلّغهم رسالات ربهم ، فاستجاب له من استجاب وأبى من أبى ، فأمره الله تعالى أن يقول للذين أصروا على الشرك : ان كنتم في شك من ديني فأنا لا أعبد أصناما لا تعقل كما تفعلون ، ولكن أعبد إلها قادرا عادلا ، وحكيما عالما ، وهو الذي يقبض أرواحكم ، فأي المعبودين جدير بالشك؟.


وهذا نوع من أساليب الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). المراد بالوجه هنا النفس ، والمعنى ان الله أمرني ان اتجه اليه معتنقا الإسلام ، سائرا على نهجه قولا وعملا دون سائر الأديان.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ). والنبي لا يدعو أحدا من دون الله ، ومحال ان يدعو سواه ، وإنما القصد الإخبار بأن من يدعو غير الله فهو من الظالمين الخاسرين.

وتجدر الاشارة الى ان الآيات الثلاث الأخيرة تعبر عن معنى واحد بعبارات شتى ، وهو الأمر بالإيمان ونبذ الشرك ، مع اختلاف يسير في المعنى ، فالآية الأولى أمرت بالإيمان ، مع الاشارة الى ان دين التوحيد لا ينبغي الشك فيه ، وان الذي فيه الشك والريب هو دين الشرك وعبادة الأصنام ، والآية الثانية أمرت بالايمان ، مع الاشارة الى ان الإسلام هو الدين القيم الذي لا عوج فيه ، دون سائر الأديان ، والآية الثالثة أمرت بالايمان مع الاشارة الى أن من يبتغي غير الإسلام دينا فهو من الظالمين لأنفسهم. وعلى أية حال فان من عادة القرآن ان يكرر ويؤكد كل ما يتصل بالعقيدة وأصولها.

وان يمسك الله بضر الآية ١٠٧ ـ ١٠٩ :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))


المعنى :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ). قد يتضرر الإنسان بما كسبت يداه ، كما لو أقدم مختارا على الإضرار بنفسه ، أو ترك العمل مع قدرته عليه ، أو أقدم على عمل ما هو بأهل له ، وقبل ان يعد له العدة ، وهذا الضرر لا تصح نسبته إلى الله لأنه تعالى أمر بالعمل والاعداد له ، ونهى عن الإضرار بشتى أنواعه. وقد يتضرر الإنسان بسبب الأوضاع الفاسدة في المجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا أيضا لا ينسب إلى الله ، لأنه تعالى نهى عن الفساد ، وأمر بالصلاح والإصلاح. وقد يتضرر الإنسان لا من كسبه ولا من مجتمعه ، كما لو ولد ناقص الخلقة ، أو كان بليدا لا استعداد فيه للعلم والمعرفة ، مهما جد واجتهد ، أو نزلت عليه صاعقة من السماء ، وما إلى ذلك ، وهذا النوع من الضرر هو المراد بقوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) مع العلم بأنه لو شاء سبحانه أن يكشف الضر من أية جهة أتى لانكشف وزال ، لأنه على كل شيء قدير.

(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). قدمنا ان الضرر لا تصح نسبته إلى الله تعالى بقول مطلق ، أما الخير فتصح نسبته اليه بشتى أنواعه ، سواء أكان لعمل الإنسان تأثير فيه ، أم لم يكن ، لأنه تعالى يريد الخير ويأمر به ، وهو الذي أقدر الإنسان عليه (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ورحمته وسعت كل شيء ، تماما كعلمه وقدرته.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). ويتلخص معنى هذه الآية بقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ـ ٢١ الطور» ، وتقدم نظيرها في سورة الأنعام الآية ١٠٤ ج ٣ ص ٢٣٨.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). هذه الآية تحدد وظيفة الرسول بتبليغ الوحي ، والعمل به ، والصبر على ما يلاقيه في سبيل ذلك من أذى المكذبين إلى أن يظهر الله دينه ، ويعلي كلمته .. وهذه هي مهمة كل من ينوب عن المعصوم في تبليغ أحكام الله ونشرها.



سورة هود



سورة هود

مكية ، وآياتها ١٢٣ ، ونزلت بعد سورة يونس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب احكمت آياته الأية ١ ـ ٤ :

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

اللغة :

أحكمت آياته أي أتقنت. وفصّلت أي جعلت واضحة مبينة. والمتاع الشيء الذي ينتفع به. والأجل المسمى العمر المقدر.

الإعراب :

كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب. ولدن ظرف زمان أو مكان بمعنى عند ، ولكنه مبني ، لأنه لا يفارق الظرفية ، فلا يقع خبرا ولا حالا أو صفة أو صلة لموصول ، ويضاف دائما إلى ما بعده إلا في غدوة ، فيجوز فيها الجر والنصب ، تقول : لقيته لدن غدوة بالجر ، وغدوة بالنصب على التمييز. وألّا تعبدوا (ألا) مركبة من كلمتين : ان ولا و (ان) بمعنى أي مفسرة لفصلّت لأن هذا الفعل فيه معنى القول دون حروفه ، فهي هنا مثل كتبت اليه ألّا يفعل


كذا. وان استغفروا عطف على ألّا تعبدوا. ولا في ألّا تعبدوا للنهي ، ولذا جزم الفعل المضارع.

المعنى :

(الر) مثل ألم في أول سورة البقرة ، فراجع. (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). المراد بالكتاب القرآن ، والمعنى ان هذا القرآن واضح المعاني محكم النظم ، لا نقص فيه ولا خلل ، لأنه ممن يقدّر الأمور ويدبرها على أساس العلم والحكمة ، قال بعض العارفين : ان لله كتابين : واحد تكويني ، وهو هذا الكون ، والآخر تدويني ، وهو القرآن ، وكل منهما محكم من جميع جهاته على أتم الوجوه وأكملها .. وتكلم العلماء من أديان شتى عن عظمة القرآن ، نقلت طرفا من أقوالهم في كتاب «الإسلام والعقل» فصل «النبوة».

ومن الصدف اني قرأت ـ وأنا أفسر هذه الآية ـ مقالا عن كتاب «محمد» للمستشرق الفرنسي مكسيم رودينسون ، نشرته مجلة المصور المصرية في عدد ٢٢ تشرين الثاني سنة ١٩٦٨ ، وفيه : «يؤكد المؤلف ان القرآن نقل إلى الأجيال التالية رسالة الإنسان المقهور المستغل ، ذلك الإنسان الثائر على الظلم والقهر ، وزوده بحافز التسلح بالقوة لكي يقهر المستبدين والظالمين والمنافقين ـ ثم قال المؤلف ـ ان الإسلام نظام وعقيدة وأسلوب حياة ، ونظرة شاملة الى الكون والإنسان».

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). ياء انني لمحمد (ص) ، وهاء منه لله تعالى ، ونذير بالعقاب على المعصية ، وبشير بالثواب على الطاعة .. بعد أن ذكر سبحانه ان آيات القرآن محكمة ومفصلة قال : من هذه الآيات التوحيد والإخلاص في العبادة لله وحده ، والاعتراف بأن محمدا (ص) ينذر ويبشر بلسان الله تعالى.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). أي ان تعبدوا الله وحده ، وتؤمنوا بنبوة محمد ، وتطلبوا المغفرة من الله ، وتتوبوا اليه ، والفرق بين الاستغفار والتوبة ان الاستغفار طلب العفو عما مضى بصرف النظر عما يأتي ، أما التوبة فهي طلب الغفران عن الماضي ، مع العهد على ترك المعاصي في المستقبل.

(يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ). بعد أن


أمر سبحانه بالإخلاص لله في العبادة ، والاعتراف لمحمد (ص) بالرسالة ، وبالاستغفار والتوبة ، بعد هذا ذكر سبحانه ان جزاء التائبين المطيعين في الدنيا ان لا يستأصلهم كما استأصل الكافرين من قبلهم ، بل يبقيهم الى ان يستوفوا آجالهم ، أما جزاؤهم في الآخرة فلكل من الثواب حسب عمله قلة وكثرة.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) بكثرة أهواله وشدتها ، وهي جزاء من تولّى وأعرض عن الحق (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبقدرته يحيي الموتى ، ويجمع للحساب ، ويجزي كلا بما يستحق ، وهو القاهر فوق عباده.

يثنون صدورهم الآية ٥

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

اللغة :

ثنى الشيء عطف بعضه على بعض فطواه. والاستخفاء طلب خفاء الشيء. واستغشى الثوب تغطى به ، وهو كناية عن أخفى الحالات ، أي ان الله يعلم نواياهم ، ويعلم أيضا أخفى محاولاتهم لخفائها.

الإعراب :

الا أداة تنبيه. والمصدر المنسبك من ليستخفوا مجرور باللام ، والعامل فيه يثنون. وحين ظرف زمان متعلق بيعلم.

المعنى :

ضمير انهم للمشركين والمنافقين ، وضمير منه للنبي ، ومعنى الآية بمجموعها ان قوما كانت تنطوي قلوبهم على العداوة والبغضاء لرسول الله (ص) ، وكانوا يخفون ذلك عنه ، فأخبره الله بحقيقتهم ، وانه تعالى يعلم بخطرات قلوبهم ، وجميع حالاتهم ، وانه يعاقبهم عليها بما هم أهل له.



الجزء الثّاني عشر



وما من دابة في الأرض الآية ٦ ـ ٨ :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

اللغة :

الدابة لغة لكل حي يدب على الأرض ، وعرفا لما يركب كالخيل والبغال والحمير. ومستقر الشيء موضع قراره ، ومستودعه .. الموضع الذي كان فيه قبل استقراره من صلب أو رحم أو بيضة. والأمة تطلق على الجماعة وعلى المدة من الزمن ، وهي المرادة هنا. وحاق بهم أي نزل وأحاط.

الإعراب :

وما من دابة : (من) زائدة اعرابا ، ودابة مبتدأ ، ورزقها مبتدأ ثان وعلى الله خبره ، والجملة خبر الأول ، وفي الأرض متعلق بمحذوف صفة لدابة. والمصدر المنسبك من ليبلوكم متعلق بخلق السموات. ويوم يأتيهم ليس مصروفا ، يوم متعلق بمصروف ، وجملة يأتيهم مجرور بإضافة يوم ، واسم ليس مستتر يعود إلى العذاب ، ومصروفا خبرها.


المعنى :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها). خلق سبحانه الأرض ، وأودع فيها ما يحتاجه كل حي يدب عليها من الذرّة والبعوضة إلى الفيل والإنسان ، وايضا أودع في كل من دبّ القدرة على السعي لتحصيل رزقه من الأرض ، وعلى هذا يكون معنى الآية ان الله قد جعل لكل حي رزقا مدخورا في الأرض ، وليس معناها ان الله قدّر لكل حي رزقه الخاص به الذي لا يزيد بالسعي ، ولا ينقص بتركه ، كما توهم البعض ، قال صاحب «تفسير المنار» : «لقد زعم بعض العباد والشعراء ان الكسب وعدمه سواء ، كقول بعض الجاهلين المتواكلين غير المتوكلين :

جرى قلم القضاء بما يكون

فسيان التحرك والسكون

جنون منك ان تسعى لرزق

ويرزق في غشاوته الجنين

ان هذا الشاعر «أحق بالجنون ممن يسعى لرزقه». وتراجع فقرة : «الله أصلح الأرض والإنسان أفسدها» ج ٣ من هذا التفسير ص ٣٤٠ ، وفقرة : «هل الرزق صدفة أو قدر ص ١٣١» ، وفقرة : «الرزق وفساد الأوضاع ص ٩٤».

(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). المستودع المكان الذي كانت فيه قبل ان تدب على الأرض ، والمستقر الذي قرت فيه بعد الدبيب ، والكتاب المبين كناية عن ان الله قد أحاط بكل شيء علما ، والمعنى ان الله يوجد أسباب العيش والحياة لكل دابة ، حيث كانت وتكون لأنه قادر على كل شيء ، عالم بكل شيء.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). تقدم مثله مع التفسير في سورة الأعراف الآية ٥٤ ج ٣ ص ٣٣٨.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) المراد بعرش الله ملكه واستيلاؤه ، والماء معروف ، وتدل الآية على ان الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض ، أما من أين


جاء؟ وهل كان قائما على قرار؟ فلا نص على شيء من ذلك في آية ، أو رواية متواترة ، والعقل وحده لا يملك العلم به ، لذا نترك البحث عنه ، وكل ما قرأنا في هذا الباب لا يعدو الحدس والتخمين ، أما المادة الأولى التي وجد منها الكون فلا تفسير لها عندنا إلا قوله تعالى : كوني فكانت ، ومن أنكر هذا علينا تلونا قوله سبحانه : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي ان الله أودع فينا وفي الأرض ما أودع من الطاقات ليميز بين الذين يعيشون بكدّ اليمين ، والذين يعيشون على حساب المستضعفين ، فيعاقب هؤلاء على عصيانهم ويثيب أولئك على طاعتهم.

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). هذه الآيات كغيرها من الآيات الكثيرة التي أخبرت عن المكذبين بالبعث ، مع فارق واحد ، وهو الاخبار عنهم هنا بأنهم شبهوا الحديث عن البعث بالسحر في التمويه على الناس وخداعهم ، لينقادوا الى طاعة النبي ، ويضمن لنفسه الرئاسة عليهم.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) ـ أي مدة مقدرة ـ (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ)؟ وما الذي منع من وقوع العذاب علينا الآن ان كان حقا (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ـ العذاب ـ (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لأن بأسه تعالى لا يرد عن القوم المجرمين (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ينزل بهم العذاب جزاء استخفافهم به ، وعدم خوفهم من الله وغضبه .. وأشد الذنوب ما استخف به صاحبه ، كما قال الامام علي (ع). ومن أقواله: ان احسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا منه.

حول الانسان الآية ٩ ـ ١١ :

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ


لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

اللغة :

ذاق الشيء اختبر طعمه ، وأذاقه جعله يذوقه ، والمراد بالاذاقة هنا الإعطاء. ونزع الشيء من مكانه قلعه. ويئوس مبالغة في اليائس. وقال الطبرسي : النعماء النعمة تظهر على صاحبها ، والضراء المضرة كذلك أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء.

الإعراب :

ولئن أذقنا اللام جواب قسم محذوف. وجملة انه ليؤوس سادة مسد جواب القسم والشرط المستفاد من (ان). والا الذين صبروا في محل نصب على الاستثناء المتصل من الإنسان.

المعنى :

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ). إذا رزق الإنسان البسطة في الصحة ، والسعة في المال ، والبر في الأهل ، ثم أصيب بشيء بها أو بشيء منها بسبب من الأسباب الجارية ـ إذا كان كذلك قطع الرجاء من رحمة الله ، وكفر بنعمه ، حتى ما تبقّى له من نعم (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ). وإذا خرج من عسر إلى يسر ، ومن خوف إلى أمن أخذته النشوة وتعاظم على الناس ، ونسي ما كان فيه بالأمس. وقدمنا مرارا ان الله يسند الأحداث كلها اليه من باب اسناد الشيء إلى


سببه الأول ، وخالق الكون بما فيه.

ولا بد من الاشارة إلى ان القرآن ينظر إلى الإنسان من خلال عقيدته وسلوكه ، بماذا يؤمن؟ وما ذا يعمل؟. وهذه النظرة نتيجة لازمة لطبيعة القرآن من حيث انه كتاب دين وهداية. وعلى هذا الأساس يحكم على الإنسان بأنه صالح أو طالح طيب أو خبيث. ومعلوم ان العقيدة التي دعا اليها هي الايمان بالله ورسله واليوم الآخر ، وان العمل الذي امر به هو العمل الصالح : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ـ ٧ البينة» .. وبكلمة ان الإسلام يوجه الإنسان إلى الغاية التي يجب أن يكرس حياته من أجلها ، فإن انحرف عنها نعته القرآن بأقبح الأوصاف كالظالم والخاسر والكافر والجاهل والطاغي والكنود ، وما إلى ذلك من الرذائل.

ان هذه الأوصاف ليست تحديدا لطبيعة الإنسان وماهيته ، وانما هي تفسير لسلوكه في بعض مواقفه ، ويدلنا على ذلك ان كل صفة ذكرها القرآن مقرونة بحادثة من الحوادث ، فلقد وصف الإنسان باليأس إذا نزلت به نازلة ، وبالفرح والبطر إذا استغنى ، وبالجزع والهلع إذا مسه الضر ، ونحو ذلك. وقد خفيت هذه الحقيقة على كثيرين ، وظنوا ان هذه الأوصاف وردت في القرآن تحديدا لحقيقة الإنسان وماهيته وأخذوا ينعتونه بها في غير المناسبات التي جاءت في كتاب الله .. ولو صدق ظنهم لما جاز أن يؤاخذ الله على الكفر والطغيان ، وكان قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) تكريما للكفر والظلم .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وعلى هذا يكون المراد بالإنسان في قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) من لا يؤمن بالله ، أو آمن به نظريا لا عمليا ، لأن من آمن به حقا فإنه يتوكل عليه وحده في جميع حالاته ، ويشكره في السراء والضراء ، ويخشى ويتواضع إذا استغنى ، ويصبر ويرجو إذا افتقر ، فإن الايمان نصفان : نصف خوف ، ونصف رجاء.

والذي يؤكد ان المراد بالإنسان من ذكرنا ، وليس مطلق الإنسان قوله تعالى بلا فاصل: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).


صبروا على ما أصابهم من الضراء ايمانا بالله وطمعا بثوابه ورضوانه ، وعملوا الصالحات في الشدة والرخاء ، وهذه هي سمة أرباب العقائد والمبادئ ، لأن العقيدة متى استقرت في القلب تصبح كالروح في الجسم لا تفارقه إلا بالموت.

لولا انزل عليه كنز الآية ١٢ ـ ١٤ :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

اللغة :

ضيق الصدر كناية عن الغم والحزن. والكنز ما يدخر من المال. وفي مجمع البيان اختلق واخترق وخرق وخرص وخلق إذا كذب.

الإعراب :

لعلّ تعمل عمل ان ، ومعناها هنا الاستفهام على رأي الكوفيين كما في مغني اللبيب. وضائق به صدرك ، ضائق مبتدأ وضمير به يعود الى بعض ما يوحى ،


وصدرك فاعل ضائق سادّ مسد الخبر. والمصدر المنسبك من ان يقولوا مفعول لأجله لتارك أي مخافة قولهم. ولولا بمعنى هلا. أم يقولون افتراه / (ام) بمعنى بل ، وضمير افتراه لبعض ما يوحى ، أو لما يوحى. ومثله صفة لسور ، ومفتريات صفة ثانية. وما في انما انزل كافة لأن عن العمل. وان لا إله إلا هو ، والجملة من لا واسمها وخبرها خبر ان.

المعنى :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ). كان النبي (ص) يتلو على المشركين آيات من القرآن داعيا الى الايمان بالوحدانية والبعث ، وكانوا يهزءون حينا ، وحينا يقترحون عليه معجزات تعنتا ، لا استرشادا ، وكان موقفهم هذا من دعوة النبي (ص) يحزنه ويؤلمه ، فقال له المولى جل ثناؤه مخففا عنه : امض في دعوتك ، ولا تبال بما يقولون ويقترحون .. وما ذا تصنع لتتقي أقوالهم وتعنتهم؟ هل تترك بعض ما يوحى اليك ، وتحذف من القرآن ما لا يعجبهم من آياته؟. كلا ، انك لن تفعل. اذن ، لما ذا الحزن وضيق الصدر؟. هذا هو المعنى المراد من قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) لأن النبي (ص) معصوم ، لا يترك شيئا مما يوحى اليه ، ومحال ان يترك ، فالآية أشبه بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ـ ٤٢ المائدة».

(وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) اقترح المشركون على النبي فيما اقترحوا ان تمطر السماء ذهبا وفضة ، أو يأتي ملك من الملائكة يشهد بنبوته .. هكذا يفكر أصحاب الأموال والثروات قديما وحديثا ، ويؤمنون بأن المناصب الشريفة يجب أن تكون وقفا على الأغنياء ، أما الفقراء فيجب ان يكونوا بمعزل عن القيادات والمناصب .. وكان تعنتهم هذا يسبب للنبي الهمّ والكرب ، فقال له المولى : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) عليك ان تبلغ ما أوحي اليك ، ولا تكترث بسفاهة السفهاء ، وجهل الجهلاء (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). فالأقوال لديه محفوظة ، والسرائر مبلوّة ، وكل نفس بما كسبت رهينة .. ويتصل بهذه الآية ما ذكرناه في ج ٣ ص ٢٤٨ بعنوان : «طراز من الناس».


(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). سبق نظير هذه الآية مع الكلام مفصلا عن اعجاز القرآن في ج ١ ص ٦٤ عند تفسير الآية ٢٣ من سورة البقرة.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). ضمير لم يستجيبوا للمكذبين بالقرآن ، وخطاب (لكم) للنبي وكل داعية الى الإسلام ، وخطاب فاعلموا لكل من كذب بالقرآن في كل عصر ومصر ، والمعنى فليعلم المكذبون الذين عجزوا عن معارضة القرآن انه نزل على محمد (ص) من عند الله الذي لا إله سواه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) حيث لا سبيل لكم بعد العجز عن المعارضة إلا التسليم والإذعان.

وكفى القرآن اعجازا انه باق على قيمته وعظمته رغم القرون الطوال ، وسيبقى كذلك يجذب اليه كل قارئ وسامع الى آخر يوم ، وما ذاك إلا لأن حقائقه انسانية وجدانية يعترف بها كل ذي لبّ أيا كان مذهبه ومشربه.

من كان يريد الحياة الدنيا الآية ١٥ ـ ١٧ :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))


اللغة :

التوفية تأدية الحق كاملا ، والبخس تأديته ناقصا. وحبط الشيء فساده وبطلانه. والبينة ما يتبين به الحق من الباطل. والمرية الشك.

الإعراب :

نوفّ مضارع مجزوم جوابا لمن كان. وباطل مبتدأ ، وما كانوا فاعل لباطل ساد مسد الخبر ، ويجوز ان تكون (ما) مبتدأ مؤخر ، وباطل خبر مقدم. أفمن كان على بينة (من) مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره كمن لا بينة له. والهاء في يتلوه تعود إلى البينة لأنها بمعنى البرهان. ومن قبله كتاب موسى عطف على شاهد. واماما حال.

المعنى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ).

من يزرع يحصد ، ومن يتاجر متقنا فن التجارة يربح ، ومن يجتهد في مدرسته ينجح ، ومن يقم المصانع ، ويحفر المناجم ، ويحتكر المعادن تكدس الأموال في خزائنه .. وهكذا كل من سعى لشيء يلقى ثمرة سعيه مؤمنا كان أو كافرا ، فالأرزاق تأتي نتيجة للأعمال لا ينقصها كفر ، ولا يزيدها ايمان ، وهذا هو الذي اراده الله من قوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ). أجل للأوضاع الفاسدة تأثيرها كما ذكرنا في ج ٣ ص ٩٤.

ونعيم الحياة في الآخرة يناط بالعمل في الدنيا تماما كالزينة في هذه الحياة ، سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ـ ١٤٢ آل عمران». وقال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ـ ١٩ الاسراء». ومن سعى لرزقه الحلال الطيب فقد سعى للدنيا والآخرة معا.


(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ). أولئك اشارة الى الذين انغمسوا في الدنيا وانصرفوا عن غيرها ، ولا جزاء لهم عند الله إلا عذاب الحريق (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ضمير فيها يعود إلى الحياة الدنيا ، والمعنى ان جميع أعمالهم ليست بشيء عند الله ، حتى لو انتفع بها الناس ما دام القصد منها غير وجه الخير والانسانية.

والخلاصة ان من سلك سبيلا أدت به إلى غاياتها ونتائجها ، والعاقل من يختار لنفسه سبيل النجاة ، ولا تخدعه المغريات.

وبعد ان ذكر سبحانه من يعمل لحياة الدنيا منصرفا عما سواها ذكر من يعمل لله ، ويدعو اليه ، وهو على بينة من أمره ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ). المراد به محمد (ص) ، وبينته من الله القرآن.

٢ ـ (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ). قال الطبري والرازي وأبو حيان الأندلسي وغيرهم من المفسرين : «اختلفوا في المراد من هذا الشاهد الذي يشهد لمحمد بالرسالة ، قيل : انه جبريل ، وقيل : لسان محمد ، وقيل : انه علي بن أبي طالب». والذين قالوا هذا استدلوا بحديث رواه البخاري في الجزء الخامس من صحيحه ، وهذا نصه بالحرف : «قال النبي (ص) لعلي : أنت مني وأنا منك ، وقال عمر توفي رسول الله (ص) ، وهو عنه راض».

٣ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً). لقد بشرت التوراة بمحمد ونبوته قبل ان يشهد له القرآن ، والتوراة كتاب الله أنزله على موسى ، وإمام يقتدى به في الأمور الدينية ، ورحمة لمن عمل بها قبل التحريف.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). ضمير به عائد الى محمد (ص) وأولئك اشارة الى الذين يتبعون دلائل الحق وبيناته ، كالقرآن وكتاب موسى كما نزل عليه ، وهؤلاء المشار اليهم لم يذكروا صراحة في الآية ، ولكنهم مذكورون فيها بأوصافهم (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ). المراد بالأحزاب من أجمعوا على عداوة رسول الله وحربه ، قال صاحب تفسير المنار والشيخ المراغي : «قال مقاتل : هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبد الله ، ومن اليهم من اليهود والنصارى».


(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). المرية الشك والريب ، وضمير منه وانه يعودان الى محمد أو القرآن ، والخطاب في لا تك موجه لكل من سمع برسالة محمد ، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يشك في أن محمدا رسول الله ، وان القرآن وحي من الله بعد أن قامت الدلائل والبينات على ذلك.

وإذا ساغ لإنسان أن يشك بأن التوراة والإنجيل قد بشّرا بنبوة محمد فهل يسوغ له أن يشك في أن محمدا قد منح الناس أسباب الحياة ، وانه قد أتى بما لم يأت به نبي ولا مصلح. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بالحق ، لأنه عدو ألد لبغيهم وفسادهم في الأرض ، أو لأنهم لا يهتمون بالدين حقا كان أو باطلا ، ما دامت معايشهم لا تعتمد عليه .. ونحن ندع هؤلاء وما يختارون على أن يتركوا غيرهم وما يختار ، ولا يطعنوا في دين لا يعرفون منه الا الاسم.

اولئك يعرضون على ربهم الآية ١٨ ـ ٢٤ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ


الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

اللغة :

الأشهاد جمع شاهد. والعوج بكسر العين الالتواء عن الحق ، وبفتحها الالتواء في الأشياء المادية كالعصا ونحوها ، وأخبتوا الى ربهم أي خضعوا واطمأنوا.

الإعراب :

كذبا مفعول مطلق لافترى ، لأنه مثل جلست قعودا. والذين يصدون عن سبيل الله عطف بيان من الظالمين. وعوجا حال من واو يبغونها منحرفين أو ضالين. وهم بالآخرة هم كافرون. (هم) الثانية تأكيد ل (هم) الأولى. ومن أولياء (من) زائدة اعرابا. وأولياء اسم ما كان لهم. ويضاعف لهم العذاب جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وما كانوا يستطيعون (ما) نافية. ولا جرم بمعنى لا محالة ، فلا نافية للجنس ، ومحالة اسمها مبني على الفتح ، لأنه مركب مع لا تركيب خمسة عشر على حد تعبير النحاة ، والمصدر المنسبك من انهم وخبرها مجرور بمن محذوفة خبرا للا. وعن الفرّاء ان لا جرم كانت بمعنى لا محالة ، ثم تحولت الى معنى القسم وصارت كلمة واحدة بمعنى حقا. ومثلا تمييز من فاعل يستويان ، والأصل هل يستوي مثلهما.

المعنى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً). وإذا كان شر القول الكذب على المخلوق فكيف إذا كان على الخالق؟! وللافتراء على الله مظاهر ، منها خلق الشركاء


والشفعاء ، ومنها التحليل والتحريم بلا دليل من كتاب أو سنة ، ومنها السلب والنهب باسم الحرية والديمقراطية.

(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ). أولئك إشارة إلى المفترين ، وانهم سيقفون غدا للحساب ، وتعرض أقوالهم وأفعالهم على الله (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). ان الله سبحانه لا يحتاج الى شهود لأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، يحكم بعلمه وعدله ، وينفذ بكلمة «كن». أما شهادة الملائكة والأنبياء ، وشهادة ألسن المكذبين والضالين وأيديهم وأرجلهم ، أما هذه الشهادة فالمقصود منها أن يزداد المجرمون حسرة ، وان يكونوا على يقين بأنه لا حجة لهم ولا عذر يلجئون اليه ، ولا مفر لهم من لعنة الله وعذابه.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). هذه الآية بيان وتفسير للظالمين الذين لعنهم الله ، وانهم يمنعون الناس عن التوحيد والإيمان بالبعث ، ويغرونهم بالشرك ، والكفر باليوم الآخر (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) كيف ولو شاء الله ما ترك على ظهرها من دابة (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حتى الأصنام التي كانوا يؤلهونها ويعبدونها ، والأحبار والرهبان الذين اتخذوهم أربابا.

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ). هذا جواب عن سؤال مقدر ، فكأنّ سائلا يسأل : ما هو حكم الذين افتروا على الله ، وصدوا عن سبيله ، وكفروا باليوم الآخر؟. فأجاب سبحانه : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) ومضاعفة العذاب هنا كناية عن هوله وشدته ، لأن الأسباب كثيرا ما تتداخل إذا كان أثرها واحدا ، وقيل : لا تداخل في الأسباب ، حتى ولو كان المسبب واحدا ، فيعذبون مرة على الافتراء ، ومرة على الصد ، ومرة على الجحود بالبعث (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ). هذا تعليل لمضاعفة العذاب ، وان الله انما يضاعفه لهم ، لأنهم كانوا في الحياة الدنيا لا يطيقون سماع الحق ، ولا النظر اليه لإغراقهم في الكفر والعناد.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) وأخسر الناس صفقة من خسر نفسه بعذاب لا يقضي عليها ، ولا يخفّف عنها (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من خلق الشركاء


لله ، والشفعاء لديه ، ونسبة التحليل والتحريم اليه كذبا وافتراء (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ). بعد أن قال سبحانه : انهم خسروا أنفسهم أكد هذا الخسر بأنه واقع لا محالة ، ولا مفر لهم منه بحال.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). لما ذكر سبحانه الكافرين وعقوبتهم ثنى بذكر المؤمنين ومثوبتهم على عادة القرآن من المقارنة بين الأضداد. والإخبات الخشوع والطمأنينة ، قال الطبرسي : «أصل الإخبات الاستواء من الخبت ، وهو الأرض المستوية الواسعة ، فكأنّ الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه» .. ويقال : خبت ذكره ، أي خفي.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ). الفريقان هما الكافر والمؤمن ، فالأول لا ينتفع بحواسه ، كما لا ينتفع الأعمى بعينيه ، والأصم بأذنيه ، والثاني ينتفع بهما ، قال الإمام علي (ع) : من اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم. ونفس الشيء يقال عن السميع (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي صفة وحالا ومآلا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وتتفكرون فيما بينهما من التفاوت.

رسالة نوح الآية ٢٥ ـ ٢٦ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

الإعراب :

ولقد الواو ابتدائية أي واقعة في ابتداء الكلام ، واللام جواب قسم محذوف. وإني لكم بكسر همزة إني على تقدير فقال : إني ، وبفتحها على تقدير بأني أي


أرسلناه بالإنذار ، ويكون هذا من باب الالتفات من الغيبة الى الحضور ووضع اني مكان انه. وان لا تعبدوا (ان) مفسرة ، ولا ناهية.

المعنى :

يتلخص معنى الآيتين بأن قوم نوح كانوا يعبدون الأوثان ، وقيل : انهم أول من أشرك بالله ، واتخذ له أندادا ، فأرسله الله اليهم بشيرا ونذيرا ، فأدى رسالته بهذه الكلمات القصار : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، وأظهر الرفق بهم ، والإشفاق عليهم من عذاب الله إن أصروا على الشرك. وهذه هي الركيزة الأولى لرسالة جميع الأنبياء

بين نوح وقومه الآية ٢٧ ـ ٣١ :

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ


وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

اللغة :

الرذل الحقير ، وجمعه أرذل ، مثل كلب وأكلب ، وأراذل جمع الجمع مثل أكالب جمع لأكلب. وبادي الرأي أوله أي قبل التأمل .. وأرأيتم أي أخبروني. وعميت خفيت. وأ نلزمكموها أي أنكرهكم عليها.

الإعراب :

بشرا مفعول ثان لنراك ان كانت الرؤية قلبية ، وحال من كاف نراك ان كانت بصرية. ومثلنا صفة للبشر. وهم أراذلنا مبتدأ وخبر. وبادي الرأي ظرف زمان أي وقت حدوث أول الرأي ، وهو منصوب باتبعك. وآتاني تحتاج الى مفعولين لأنها بمعنى أعطاني ، وياء المتكلم مفعول أول ، ورحمة مفعول ثان. وأ نلزمكموها تتعدى أيضا الى مفعولين والأول هنا كاف الخطاب ، والثاني ضمير الغائب ، وكلاهما متصلان ، ويجوز فصل الثاني ، فتقول ، أنلزمكم إياها. وقد اجتمع في أنلزمكموها ثلاثة ضمائر : ضمير المتكلم والمخاطب والغائب. تذكرون وأصلها تتذكرون.

المعنى :

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا). لما دعا نوح قومه الى التوحيد ردوا عليه دعوته قبل أن يدرسوها ، ويتدبروا حقيقتها .. وتذرعوا بشبهتين : الأولى كيف يتبعونه ، وهو واحد منهم؟. فكثير عليه أن


يتحدث باسم الله من دونهم .. انهم نظروا الى القائل ، ولم ينظروا الى القول ، وقاسوا الحق بالرجال ، ولم يقيسوا الرجال بالحق.

وتسأل : ان هذا لا يختص بقوم نوح (ع) ، فلقد رأينا أكثر الناس ينقادون الى الغريب ، دون القريب ، حتى اشتهر في الأمثال : بنت الدار عوراء.

الجواب : أجل ، ان هذا الخلق لا يختص بقوم نوح ، والآية لا تنفيه عن غيرهم ، وانما تذمهم من أجله ، وهذا لا ينفي الذم عن أمثالهم وأشباههم.

الشبهة الثانية التي تذرع بها المترفون قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) والأراذل في مفهومهم الفقراء والمساكين الذين لا جاه لهم ولا مال ، والمترفون أجل وأعظم من أن يؤمنوا بمن آمن به الأراذل (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) الخطاب في (لكم) لنوح ومن آمن معه ، والمعنى قال المترفون الطغاة لنوح والمؤمنين : كيف نتبعكم ولا تمتازون علينا بجاه ولا مال ، تماما كما قال مشركو قريش لمحمد (ص) : «لولا أنزل عليه كنز» .. (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ـ ٣١ الزخرف» (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) لأنكم فقراء مساكين .. هذا هو منطق الأثرياء الضالين ، التعصب للجاه والمال .. أما النوايا الخيرية ، والأعمال الصالحة فكلام فارغ.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ). هذا جواب قولهم : كيف نؤمن لك ، وأنت بشر مثلنا؟. ومعنى الجواب اخبروني ما أصنع إذا اختارني الله لرسالته ، وخصني من دونكم برحمته ، وزودني ببينة منه على هذه الرسالة؟. ما رأيكم؟. هل أرفضها ، وأقول لله ، لا أريد النبوة منك ، ولا أحمل رسالتك إلى عبادك ، لأنكم لا تعقلون؟ (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت الرسالة عليكم ، وعجزتم عن فهمها (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي أتريدون مني ان أكرهكم على الإيمان برسالتي (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)؟. وإذا كره القلب عمي عن رؤية الحق.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) ـ أي على الانذار ـ (مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ). لأن من يتكلم باسم الله لا يطلب الأجر من سواه ان كان صادقا في كلامه ، والمرتزقة باسم الدين هم الذين يسألون الناس أموالهم وصدقاتهم ، وما أكثرهم في هذا العصر.


(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ). وما هو المبرر لطردهم؟. ألأنهم فقراء؟. وليس الفقر ذنبا عند الله. أو لأن إيمانهم زائف وغير صحيح فهم ذاهبون إلى ربهم، وهو أعلم بمقاصدهم وضمائرهم؟. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) والناس أعداء ما جهلوا.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) هل تدفعون عني أنتم أو غيركم عذابه ان فعلت ذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وكيف يتذكر من لا يخشى العواقب؟. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ). هذا القول من نوح (ع) شرح وتفسير لقوله أولا : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وليس من شرط النذير ان يملك الأموال والأرزاق ، حتى يكذّب الفقير إذا ادعى الانذار باسم الله ، ولا من شرطه أيضا ان يعلم الغيب لترد دعواه النبوة إذا لم يخبر بالمغيبات ، ولا أن يكون ملكا من الملائكة كي يقال له : ما أنت إلا بشر.

(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ). من الطبيعي أن يكون الترف هو مقياس الحق والخير عند المترفين ، بل وعند الجهلاء والسفهاء .. أما عند الله وأهل الله فمقياس الخير التقوى والعمل الصالح ، ونوح (ع) يقيس بمقياس الله ، فكيف يقول للمؤمنين : لن يؤتيكم الله خيرا؟ تماما كما قال لهم المترفون الطغاة .. اللهم الا إذا صار طاغية مثلهم (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) كالذين أشركوا بالله ، وكفروا بكتبه ورسله.

قالوا يا نوح قد جادلتنا الآية ٣٢ ـ ٣٥ :

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ


يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

اللغة :

الجدال مأخوذ من جدل الحبل أي فتله ، لأن كل واحد من المتخاصمين يفتل صاحبه عن مذهبه وحجته.

الإعراب :

ولا ينفعكم نصحي قرينة دالة على جوابين محذوفين لشرطين موجودين : الأول إن أردت ، والثاني إن كان الله. وقوله هو ربكم كلام مستأنف ، ولا يجوز أن يكون جوابا للشرط.

المعنى :

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). لما أفحم نوح قومه بالحجة والبرهان ضاقوا به ، ولم يجدوا أية وسيلة يتذرعون بها لجحودهم وانكارهم إلا أن يتحدّوا نوحا بأن ينزل عليهم ما خوّفهم به من العذاب ، ولما سألوه ذلك (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). أي أنتم أهون على الله من أن تعجزوه ، لأنه على كل شيء قدير وله وحده الخلق والأمر .. وقال مشركو مكة لرسول الله مثلما قال قوم نوح لنبيهم. أنظر تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنفال ج ٣ ص ٤٧٣.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ). لقد أراد لهم النصح ، بل وأكثر من نصحهم ، ولكن ما الفائدة إذا قست القلوب ولم تمل لهداية (إِنْ


كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ). ان الله لا يخلق الغواية في الإنسان ، ولو فعل لسلبه انسانيته ، ولكن قضت سنة الله في خلقه ان من سلك بإرادته طريق الغواية كان حتما من الغاوين ، تماما كما قضت بهلاك من ينتحر مختارا .. وبهذا الاعتبار صحت نسبة الغواية إليه تعالى. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٧٤ من سورة يونس ، فقرة : «حول الهداية والضلال» (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولا مفر من لقائه وحسابه وجزائه.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ). ظاهر السياق يدل على ضمير يقولون عائد الى قوم نوح ، وهاء افتراه الى الوحي الذي بلغهم إياه ، والمعنى قل يا نوح لقومك : ان كنت كاذبا فيما أقول كما تزعمون فأنا وحدي المسئول عن ذلك ، وعلي إثمه وعقابه ، وان كنت صادقا فأنتم المسئولون ، وعليكم وحدكم يقع عقاب التكذيب ، وأنا بريء من أعمالكم وجرائمكم.

وقيل : ان هذه الآية جاءت معترضة في قصة نوح ، وانها نزلت في مشركي قريش ، لأنهم ارتابوا في صدق محمد (ص) حين تلا عليهم هذه القصة ، فأمره الله أن يقول لهم : لا عليكم ان كنت مفتريا ، فعليّ وحدي تبعة ما أفتري .. وهذا المعنى جائز في نفسه ، ولكنه بعيد عن ظاهر السياق.

وأوحي الى نوح الآية ٣٦ ـ ٣٩ :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))


اللغة :

الابتئاس الحزن. والفلك السفينة ، ويستوي فيه الواحد والجمع. والمقيم الدائم.

الإعراب :

المصدر المنسبك من انه نائب فاعل لأوحي. والا من قد آمن (من) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع لأن الكفر غير الايمان. وكلما (ما) مصدرية ظرفية أي مدة مرور الملأ عليه ، والظرف متعلق بسخروا منه. وتعلمون هنا تتعدى الى مفعول واحد لأنها بمعنى تعرفون. ومن يأتيه مفعول لتعلمون ، وهي اسم موصول ، وقيل : استفهام بمعنى أينا.

المعنى :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ). أنبأ الله نوحا (ع) بأن مهمته قد انتهت بعد أن أدى الرسالة على وجهها ، وألقى الحجة على من أعرض وتولى ، وانه لن يستجيب له أحد بعد الآن ، وعزّاه الله سبحانه عن ذلك ، لأن نوحا قد تألم وحزن لاصرارهم على الشرك.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). بأعيننا كناية عن حفظه تعالى ورعايته ، والمراد بوحينا أمره وتعاليمه ، بعد أن أمره الله بصنع الفلك نهاه عن التوسل اليه في شأن الذين ظلموا أنفسهم ، لأن كلمة العذاب قد حقت عليهم أجمعين.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) لأنه صنعها في فلاة من الأرض بعيدا عن الماء .. سخروا وضحكوا لأنهم أيقنوا بأنه لا شيء وراء ما يبصرون ، وهذا هو شأن الجاهل يركن الى الظاهر ، ولا يدخل في حسابه ما وراءه من تقدير وتدبير. وقيل : ان قوم نوح ما رأوا سفينة قبل


ذلك ، ولا عرفوا كيفية الانتفاع بها ، ولذلك سخروا وتعجبوا .. والمعروف ان الفينيقيين من أوائل من صنع السفن وركب البحار ، ونقل أبو حيان الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط» عن ابن عباس ان نوحا قطع خشب السفينة من غابات جبال لبنان .. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان جبال لبنان كانت معروفة بالغابات منذ القديم .. وكذا الفينيقيون قطعوا أخشاب سفنهم من هذه الغابات.

المؤمنون والمستهزءون :

(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ). جهلوا حقيقة السفينة والغرض منها ، ولم يحسبوا لمخبآت الدهر وملماته ، فاسترسلوا مع أهوائهم يهزءون ويسخرون ، أما نوح فقد كان على ثقة من أمره وانه يصنع ما يصنع بعين الله ورعايته ، وانه ومن معه بمنجاة من الهلاك ، وان مصير الساخرين الى الغرق لا محالة ، وهذا المصير هو الذي سخر منهم ، أما نوح فبيان الواقع وترجمانه.

وما أشبه المستهترين بالدين من شباب هذا العصر بالذين كفروا من قوم نوح. سخر هؤلاء من سفينة النجاة ، وسخر الشباب المستهتر من المؤمنين ، وقالوا : أصلاة وصيام في القرن العشرين؟. تماما كما قال الذين كفروا : أسفينة في اليابسة ، حيث لا بحر ولا ماء؟. جهلوا حقيقة السفينة وأسرارها ، فسخروا من نوح ، وجهل الشباب أسرار الصوم والصلاة ، فسخروا من الصائمين المصلين ، أفأمن الشباب المستهتر الهازئ بالدين وأهله ان يصيبهم ما أصاب الذين سخروا من نوح وسفينته؟.

وفار التنور الآية ٤٠ ـ ٤٤ :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ


اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

اللغة :

مجراها من الجري ، وهو السير ، ومرساها من الارساء ، وهو الثبوت ، أي بسم الله سيرها وثبوتها. ومعزل أي مكان عزلة وانفراد. وأقلعي أي امسكي عن المطر. وغيض الماء غار في الأرض. والجودي جبل في الموصل كما قيل.

الإعراب :

نقل ابن هشام في كتاب المغني عن الجمهور ان حتى إذا دخلت على إذا تكون حرف ابتداء ، وإذا ظرفية في محل نصب بشرطها أو جوابها. من كل زوجين اثنين قرئ بتنوين كل ، أي من كل نوع ، وعلى هذا يكون زوجين مفعولا لا حمل واثنين توكيدا له ، وقرئ بإضافة كل الى زوجين ، وعليه يكون اثنين مفعولا لا حمل ، ومن كل زوجين متعلق بمحذوف حالا من اثنين. وأهلك معطوف


على مفعول احمل ، ومثله ومن آمن. بسم الله متعلق بمحذوف حالا من واو اركبوا أي متبركين باسم الله ، ومجراها ومرساها ظرفا زمان على حذف مضاف أي وقت جريها وارسائها. ويجوز أن يكونا مبتدأ والخبر بسم الله .. ولا عاصم (لا) نافية للجنس وعاصم اسمها ، واليوم متعلق بمحذوف خبرها ، وإلا من رحم الله (من) في محل نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من رحمه الله معصوم. وبعدا مصدر مؤكد أي بعد بعدا.

المعنى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ). الفوران الارتفاع ، وللتنور معان في اللغة ، منها وجه الأرض ، وهو المراد هنا ، ونظيره «وفجرنا الأرض عيونا» والمعنى حين أتى أمر الله ، وأخذ الماء ينبع من الأرض (قُلْنَا) ـ لنوح ـ (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، وكلمة كلّ تدل على عموم ما تضاف اليه ، ويختلف هذا العموم سعة وضيقا باختلاف موارده ، فكلمة شيء في قوله تعالى : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) تعم جميع الكائنات دون استثناء ، وهي في قوله عن بلقيس : «وأوتيت من كل شيء» تختص بأشياء زمانها أو بلدها ، وعلى هذا يكون المراد من كل زوجين في الآية ما يستطيع نوح (ع) أن يحمله معه في السفينة من أنواع الأحياء أو المخلوقات ، لا من جميع أنواعها ، والا كان طول السفينة وعرضها مئات الأميال.

(وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي واحمل أهلك في السفينة ولا تحمل منهم من ننهاك عن حمله. وتجدر الاشارة الى ان الله سبحانه لم يقل لنوح : لا تحمل ولدا مع العلم بأن الله قد أغرقه مع الكافرين. وقال المفسرون : ان أبناء نوح الثلاثة الذين حملهم معه حام وسام ويافث ، أما من كتب عليه الهلاك من أهله فهو أحد أبنائه الذي أشار اليه سبحانه بقوله : «فكان من المغرقين» وقيل : اسمه كنعان ، وامرأة نوح أيضا كانت من الهالكين لقوله تعالى في الآية ١٠ من سورة التحريم : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) ..(وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ، أي واحمل العصبة القليلة التي آمنت معك.


(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وامتثل نوح (ع) أمر الله ، ودعا المؤمنين من أهله وأصحابه أن يركبوا معه السفينة ، وهو ومن معه يسمون عليها في الجريان والرسو .. ورأيت تفسيرا لبعض الصوفية يقول : المراد بسفينة النجاة هنا الشريعة ، وبالأمواج أهواء النفس وشهواتها .. فتساءلت ، وأنا أقرأ هذا التفسير : هل يا ترى استوحى بعض الشيوخ من هذا التفسير تسمية كتابه أو رسالته بسفينة النجاة؟.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ). وفي هذه الحال التي هي أشبه بسكرات الموت ينظر نوح الى ولده بحسرة ، ويدعوه الى الايمان وسبيل النجاة قبل أن يلفظ النفس الأخير (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ). مسكين الأب .. ما مسّ الأذى طرفا من جسم ولده الا ومسه في روحه وقلبه .. لقد أيقن نوح بأن ابنه هالك لا محالة ان أصر على الشرك ، فهتف بلهفة الأبوة : يا بني آمن بالله واركب معنا .. ولكن لا حياة لمن تنادي ، فإن رعونة الفتوة قد أعمته عن سوء العاقبة (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ). لقد صوّر له الجهل والغرور ان المشكلة مشكلة ماء ، وانه يحلها بالصعود الى الجبل ، ولم يدر انها مشيئة الله وغضبه على المشركين والمتمردين.

(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ). فأجابه نوح ليست المشكلة مشكلة ماء كما تظن ، وانما هي مشيئة الله التي لا مفر منها الى غيره .. فمن رحم الله نجا ، ومن غضب عليه هلك (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وفي أثناء الحديث بين الوالد وولده ارتفع الموج ، وغاب الولد عن عيني والده .. والذي حدث لنوح (ع) مع ولده يحدث لكثير من الآباء مع أبنائهم الذين يسيئون تقدير الأمور وعواقبها ، ويكون مصيرهم تماما كمصير ابن نوح.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ). أمر الله الأرض أن تبتلع الماء ، وأمر السماء أن تكف عن الصب ، فكفت هذه ، وابتلعت تلك ، وانتهى الأمر بنجاة المؤمنين ، وهلاك المشركين ، وإذا بالسفينة تستقر على الجودي ، وهو جبل بالموصل كما قيل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين كذبوا بالحق. وبعدا كلمة دعاء أي أبعدهم الله عن رحمته ، مثل سحقا في قوله تعالى : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ ١١ الملك».


ونادى نوح ربه الآية ٤٥ ـ ٤٩ :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

الإعراب :

ربّ منادى ، وأصلها ربي ، وحذفت الياء للتخفيف. وعمل غير صالح على حذف مضاف أي ذو عمل. وبه متعلق بعلم. والمصدر المنسبك من أسألك مجرور بمن محذوفة أي أعوذ بك من سؤالك. والا كلمتان ان الشرطية ولا النافية وأدغمت النون باللام ، وتغفر فعل الشرط ، وأكن جوابه. وأمم الأولى عطف على الضمير في أهبط أي اهبط انت وأمم ممن معك. وأمم الثانية مبتدأ وسنمتعهم خبر والجملة مستأنفة. وتلك مبتدأ ومن أنباء الغيب خبر ، وجملة نوحيها حال من أنباء الغيب.


المعنى :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) في الآية السابقة ٤٠ أمر الله نوحا أن يحمل أهله في السفينة إلا من ينهاه عن حمله منهم ، ولم ينه الله نوحا عن حمل ابنه ، كما لم يأمره بحمله ، بل سكت عن ذلك لحكمة هناك .. فظن نوح ان الله سبحانه قد كتب النجاة الى جميع أهله ، سواء منهم الطائع والعاصي ، ومن أجل هذا نادى ربه مستنجزا وعده في ابنه بحسب ظنه ، لأنه من أهله.

وتسأل : ان نوحا نبي ، والنبي معصوم ، فكيف يجوز عليه أن يظن خلاف الواقع؟.

الجواب : ان الظن المخالف للواقع لا يضر بالعصمة إذا كان مجردا عن العمل ، ولم يترتب عليه أي اثر في الخارج ، لأنه يكون ، والحال هذه ، أشبه بالخيال يمر بالذهن ثم يزول ، كأن لم يكن .. وعلى فرض ان المعصوم أراد العمل بظنه المخالف للواقع فان الله سبحانه يكشف له عنه ، ويعصمه عن الوقوع في الخطأ. وأوضحنا ذلك عند تفسير الآية ١٠٥ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٣٠.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي ذو عمل غير صالح .. يقول الله جلت عظمته لنوح جوابا له عن سؤاله في شأن ولده ، يقول له : لقد أمرتك أن تحمل أهلك في السفينة إلا من أنهاك عن حمله ، وما نهيتك عن حمل أحد منهم لحكمة اقتضت ذلك ، ولكن سبقت مشيئتي أن يكون ابنك من المغرقين ، لأنه ليس من أهلك بسبب عمله غير الصالح ، فإن أهل الأنبياء هم المتقون الصالحون ، وان بعد النسب ، وان أعداءهم العاصون ، وان قرب النسب .. ويؤكد ارادة هذا المعنى قوله تعالى في الآية ٦٨ من سورة آل عمران : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ومنه أخذ الإمام علي قوله : «ان ولي محمد من أطاع الله ، وان بعدت لحمته ، وان عدو محمد من عصى الله ، وان قربت قرابته». وقال الشاعر :

كانت مودة سلمان لهم رحما

ولم تكن بين نوح وابنه رحم


(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). ان الشيء الذي لم يكن يعلمه نوح (ع) هو ما كتب الله لابنه من الغرق ، لأن الله سبحانه قد طوى العلم بغرقه عن أبيه أول الأمر لمصلحة اقتضت ذلك ، ولما سأل نوح ربه عن ابنه قال له : لا تسألني عما طويت علمه عنك قبل الغرق ، ولا تطالبني بابنك اني أعظك أن تكون من الجاهلين ، أي ان طالبت به فأنت من الجاهلين (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ). أي لا اسألك عن ابني ولا أطالبك به بعد ان اعلمتني الحقيقة ، بل أرضى (١) بحكمك وقضائك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ). هذا مجرد خشوع من نوح لله تعالى ، وليس استغفارا من ذنب وقع ، كما هو شأن الأنبياء والصلحاء ، وتكلمنا عن ذلك في ج ٢ ص ٢٧٧.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ). لما انتهى الطوفان ، وأغرق الله المشركين أمر الله نوحا ان يهبط الى الأرض هو ومن معه بسلام وبركات في المعايش والأرزاق ، ينتشرون هنا وهناك أمما مستقلا بعضها عن بعض ، ثم يتناسل منهم أمم آخرون كقوم عاد وثمود يمتعهم قليلا في الدنيا ، ثم يمسهم العذاب بكفرهم وعصيانهم.

أسطورة حول العاشر من المحرم :

تقول الاسطورة : ان نوحا هبط بسفينته الى الأرض يوم عاشوراء ، فصام شكرا لله ، وكان قد فرغ منه الزاد ، فجمع كفا من حمص ومثله من عدس ، ومثله من حنطة حتى صارت سبعة حبوب ، فطبخها نوح وأكلوا منها جميعا حتى شبعوا ، فشاعت هذه الأسطورة واتخذها الناس في بعض البلاد سنّة يوم عاشوراء.

__________________

(١). اضطربت اقوال كثير من المفسرين هنا حيث فهموا من الآية ان الله يقول لنوح : لا تسألني ، ونوح يقول له: انا ما سألتك فكيف تقول لي : لا تسألني؟. ثم أخذوا يؤولون بالوهم والخيال ، ومما ذكرناه يتبين ان الآية واضحة لا تحتاج الى التأويل.


(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ). الخطاب في اليك وما بعده لمحمد (ص) .. بعد ان أنبأ الله سبحانه رسوله الأكرم محمدا (ص) بقصة نوح قال له : ان هذه القصة هي وحي منا اليك ، وما كنت تعلمها من قبل انت ولا قريش ، وعليك أن تصبر على ما تلاقيه من قومك في سبيل دعوتك ، كما صبر نوح على قومه ، وكما كانت العاقبة له ولمن آمن معه فستكون العاقبة لك وللمسلمين ، لأنها دائما تكون للصابرين المتقين.

الطوفان ثابت عند الأمم :

وحكاية الطوفان لا تختص بكتب الأديان ، فقد جاء ذكر الطوفان في ألواح بابل وأشور ، وقد عثر الباحثون على لوح يشير الى هذه القصة ، ويرجع تاريخه الى ٢١٠٠ سنة قبل الميلاد ، وأكد العارفون الذين لا تربطهم بالدين أية صلة ان قصة الطوفان تعرفها الأمم القديمة في الهند واليونان واليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرها ، وإذا اختلفت قصة الطوفان عند الأمم في التفاصيل فإنها تتفق في الجوهر ، وان السبب هو عقاب البشر على كفرهم وظلمهم.

هود الآة ٥٠ ـ ٥٦ :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ


وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

اللغة :

فطر الشيء فطرا أي شقه ، فظهر ما فيه. ومدرار مبالغة في الدر ، وهو القطر المتتابع غير المفسد. واعتراك أصابك. والناصية قصاص الشعر ، والمراد بأخذها هنا ملك الأمر كله.

الإعراب :

والى عاد أخاهم هودا ، أخاهم مفعول لفعل محذوف أي وأرسلنا الى عاد أخاهم. وهودا بدل من الأخ. ويا قوم على حذف ياء المتكلم أي يا قومي. وما لكم (ما) نافية ولكم خبر مقدم ، ومن زائدة إعرابا ، وإله مبتدأ مؤخر. ومدرارا حال من السماء ، ولم يقل مدرارة لأن مفعالا للمبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث. وقوة مفعول ليزدكم لأنها بمعنى يعطكم. ومجرمين حال من فاعل تتولوا. ان نقول الا اعتراك (ان) نافية ، وجملة اعتراك محكية لنقول ، ولا داعي للحذف والتقدير كما فعل صاحب مجمع البيان.


المعنى :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) بعبادة الأوثان .. وهود من عاد نسبا ووطنا ، ولذا وصفه سبحانه بأخيهم ، ورسالته هذه الى قومه هي رسالة جميع الأنبياء ، وسبق نظيرها من نوح في الآية ٢٦ من هذه السورة ، ومن هود نفسه في الآية ٦٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٧ ، وذكرنا مكان قبره ، وانه أول من تكلم بالعربية ، وانه أبو اليمن ومضر. فراجع.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) ان من يعمل لله لا يطلب الرزق من غيره ، وان الله وحده هو الذي ينفع ويضر ، ومر تفسيره في الآية ٢٩ من هذه السورة.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). والفرق بين الاستغفار والتوبة ان الاستغفار طلب العفو عن الماضي مع صرف النظر عن الآتي ، اما التوبة فطلب العفو عما مضى مع التعهد بترك المعصية فيما يأتي (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ). يظهر من هذا انهم كانوا اصحاب زرع وضرع ، حيث رغّبهم سبحانه في كثرة المطر ، كما ان قوله : (يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) يدل على انهم كانوا على شيء من القوة المادية والمعنوية ، ويومئ الى ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) ـ ٧ الفجر».

وتسأل : لقد ربط الله في هذه الآية بين الايمان ، وبين انزال المطر ، فكيف تجمع بينها وبين قولك عند تفسير الآية ٢ من سورة الأنفال وغيرها : ان الايمان لا ينبت قمحا ، لأن الله يجري الأمور على سنن الكون؟.

الجواب : أجل ، ان الله يجري الأمور على سننها الكونية ، ما في ذلك ريب .. ولكن هذا لا يمنع من وجود المعجزات ، وخوارق سنن الكون لحكمة تستدعي ذلك .. ان جميع الأسباب الطبيعية وغيرها تنتهي الى مشيئته تعالى ، فهي وحدها سبب الأسباب ، وقد تتعلق هذه المشيئة القدسية بوجود شيء ما مباشرة وبلا واسطة


خارقا لجميع الأسباب المألوفة ، فيوجد بلا سببه المألوف كطوفان نوح ، وما اليه من المعجزات .. وقد شاء الله تعالى ألا تظهر هذه المعجزات الخارقة للنواميس الا بوجود نبي من الأنبياء اثباتا لنبوته ، أو استجابة لدعوته ، أو انتقاما من أعدائه .. ومن أجل ذلك كانت نادرة الوقوع. وبكلمة ان جريان الأشياء في هذه الحياة على أسبابها شيء ، والمعجزة التي تستند الى مشيئة الله مباشرة شيء آخر.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ). هذا كذب منهم وبهتان ، لأن الله سبحانه ما أرسل رسولا إلا وزوده بالحجة الكافية الوافية على رسالته ، ولكن قوم هود أبوا الاستجابة له ولحججه وبيناته لأنها تخالف أهواءهم ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أقوام الأنبياء والرسل: (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ـ ٧١ المائدة».

(وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) قال صاحب المغني : (عن) هنا للتعليل ، والمعنى لا نترك الشرك لمجرد قولك اتركوه بلا بينة ودليل (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) هذا توضيح وتأكيد لقولهم : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا). وعلى هؤلاء وأمثالهم يصدق قول من قال : الإنسان هو الذي خلق الآلهة ، وليست الآلهة هي التي خلقت الإنسان.

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ). ان قولهم هذا يصور مدى جهلهم وإيمانهم بالخرافات والأساطير .. أحجار صماء يعتقدون انها تضر من ينهى عن عبادتها! .. ومتى بلغ الإنسان هذا الحد من الجهل فلا يجدي معه شيء ، ولذا وصفه الله في العديد من آياته بالأعمى والأصم.

(قالَ) ـ لهم هود ـ (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ). لما قالوا لهود (ع) : ان بعض آلهتنا أصابك بسوء تحداهم بأن يجتمعوا هم وآلهتهم ، ويبذلوا كل جهد لايذائه ، وهو على استعداد لتحمل النتائج ، ويتضمن تحديه هذا التنبيه الى انهم مغفلون ومخدوعون. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) هذا تعليل لعجزهم عن إيذائه واستخفافه بهم وبأصنامهم (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) فالكل في قبضته تعالى ، ولا يملك أحد معه لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)


فهو ينصر ويخذل ويثيب ويعاقب على أساس هذا الصراط ، صراط الحق والعدل.

وتسأل : إذا كان الله سبحانه آخذا بزمام العبد وناصيته ، وهو تعالى على صراط مستقيم ـ فإنه يلزم من ذلك أمران : الاول أن يكون العبد مسيرا غير مخير ، كما هو شأن المقود مع القائد. الثاني أن يكون كل انسان على صراط مستقيم في جميع أفعاله وأقواله ، لأنه تابع لله ، تماما كما تتبع الدابة الآخذ بزمامها ، والله سبحانه على صراط مستقيم ، فينبغي أن يكون العبد كذلك؟.

الجواب : ليس المراد بقوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها). ان العبد لا ارادة له ولا اختيار في شيء ، وانما هو كناية عن قدرة الله على كل شيء ، وانه هو وحده الضار النافع ردا على المشركين الذين نسبوا الى أصنامهم لقدرة على الضر والنفع.

فإن تولوا الآية ٥٧ ـ ٦٠ :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

الإعراب :

تولوا أصلها تتولوا. ويستخلف الجملة مستأنفة ، ولذا رفع الفعل. وشيئا


مفعول مطلق لتضرونه. وتلك عاد مبتدأ وخبر ، والاشارة الى آثارهم أو قبورهم. وألا أداة تنبيه ، وبعدا اي بعد بعدا. وقوم هود بدل من عاد.

المعنى :

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) غير وان ولا مقصر (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) بعد ان ينزل عذابه بكم في الدنيا قبل الآخرة (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم عن الايمان (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يراقب الأشياء ، ويدبرها بعلمه وحكمته. قال ابن عربي في «الفتوحات المكية» : «كما ان ربك على كل شيء حفيظ فهو بكل شيء محفوظ». يشير الى قول من قال : وفي كل شيء له آية.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ). المراد بأمرنا عذابنا ، وبالنجاة الاولى من عذاب الدنيا ، وبالنجاة الثانية من عذاب الآخرة ، وقيل : ان النجاة الاولى كانت لبيان النجاة من العذاب من حيث هو بصرف النظر عن نوعه وانه خفيف او ثقيل ، أما النجاة الثانية فهي لبيان نوع العذاب الذي نزل بقوم هود ، وانه كان من الوزن الثقيل .. وكل من المعنيين محتمل. وتقدمت الاشارة الى نجاة هود ومن معه في سورة الاعراف الآية ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٨.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). بعد ان أوجز سبحانه قصة عاد أشار الى سبب هلاكهم ، وانه كفرهم بالله وآياته ، وعصيانهم لرسله وأحكامه ، وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وتهاونهم في مقاومة الباطل ، وانقيادهم لقادة الضلال والطغيان .. وقال سبحانه : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ولم يقل : وعصوا رسوله لان من عصى واحدا من أنبياء الله ورسله فقد عصى الجميع بالنظر الى ان رسالة الكل واحدة ، وهي الدعوة الى الايمان بالوحدانية والبعث.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي انهم فعلوا ما يستوجب اللعن


دنيا وآخرة ، ومعنى اللعن البعد عن كل خير ، ولذا قال سبحانه : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوه (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ). وكرر كلمة هود مع ألا مبالغة في الذم ، وتأكيدا للتهديد.

صالح الآية ٦١ ـ ٦٣ :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

اللغة :

أنشأكم من الأرض أوجدكم منها. واستعمركم فيها من العمران أي جعلكم تعمرونها. ومرجوا نرجو منك الخير. والمريب الموجب للتهمة والريبة. فما تزيدونني غير تخسير أي الا خسرانا.

الإعراب :

والى ثمود أخاهم أي وأرسلنا الى ثمود. وصالحا بدل من الأخ. ومريب صفة مؤكدة للشك مثل ظل ظليل. واننا يجوز فيها وانّا بحذف إحدى النونات


الثلاث تخفيفا. وأرأيتم معلقة عن العمل لوجود ان الشرطية. وغير قال أبو البقاء في كتاب «الاملاء» : الأقوى ان غير هنا استثناء في المعنى ومفعول ثان لتزيدوني.

المعنى :

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). مر بالحرف الواحد في سورة الأعراف الآية ٧٣ ج ٣ ص ٣٤٩. ونظيره ما قاله هود في الآية ٥٠ من سورته. وهذه هي دعوة جميع الأنبياء التي لا تتغير ولا تتعدل من عصر الى عصر.

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). ما من حي إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا الا وينتمي في أصله الى الأرض ، مباشرة أو بالواسطة ، واليها يعود (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة ، أي الاستعمار ، استعملها في احياء الأرض وتعميرها ، وهذا المعنى من أحسن المعاني وأكملها ، أما اليوم فإن هذه الكلمة تستعمل في الظلم والطغيان ، واستعباد الشعوب المستضعفة ، وهو من أقبح المعاني وأسوأها .. أنظر فقرة «الله أصلح الأرض ، والإنسان أفسدها» ج ٣ ص ٣٤٠ (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). هذا بالحرف ما قاله هود لقومه في الآية ٥٢ من هذه السورة ، وعند تفسيرها بيّنا الفرق بين طلب الغفران والتوبة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) قريب ممن أخلص في عمله ، مجيب لمن استجاب لدعوته.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) النهي عن عبادة الأوثان ، أما الآن وبعد ان نهيتنا عن الأوثان فقد خاب فيك الظن (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) .. ان هذا لشيء عجاب .. لقد عبدوها أجيالا وقرونا ، وقرّبوا لها القرابين ، وما نهاهم أحد عنها ، فكيف يستجيبون لدعوته؟ .. (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). هذا هو منطق الجهل في كل زمان ومكان .. كل شيء الا العادات والتقاليد.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ). قالوا لصالح (ع) : نحن في شك من أمرك. فقال لهم :


اخبروني ما ذا أصنع ان كنت على يقين من ان الله أرسلني إليكم ، وأمرني ان أدعوكم الى التوحيد ، وزودني بالأدلة الكافية الوافية على هذه الرسالة؟ فهل اعصي أمره لأجل مرضاتكم؟ ومن الذي يمنعني من عذابه ان عصيت؟.

(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ). قال جماعة من المفسرين : معناه ان أطعتكم جعلتموني خاسرا. وقال آخرون : بل معناه لا تزيدونني بإعراضكم عن دعوتي الا ان أنسبكم الى الخسران. والذي نراه ان صالحا أراد بقوله هذا ان يفهم قومه انه لو أرضاهم لربح ثقتهم ، ولكنه يخسر مرضاة الله ، وخسارته هذه تزيد كثيرا عن ربحه بثقتهم ومرضاتهم.

ناقة الله الآية ٦٤ ـ ٦٨ :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

اللغة :

المراد بالآية هنا المعجزة. وبالدار البلد ، يقال : ديار فلان أي بلده. والمراد


بالصيحة صوت الصاعقة. وجاثمين ساقطين على وجوههم. وغني بالمكان أقام فيه.

الإعراب :

هذه مبتدأ وناقة الله خبر ، ولكم حال مقدم من آية ، وآية حال من ناقة الله ، والعامل فيه اسم الاشارة لأنه بمعنى أشير فيأخذكم منصوب بأن مضمرة بعد الفاء. وأيام أصلها ايوام ، ثم قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياءان. فصارت أيام. ومن خزي معطوف على نجينا أي ونجيناهم من خزي ، وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف أي كأنهم لم يغنوا.

المعنى :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ). تقدمت في سورة الأعراف الآية ٧٣ ج ٣ ص ٣٤٩.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). أمرهم صالح (ع) ان يتركوا الناقة وشأنها ، فعقروها ولم يكترثوا ، فأنذرهم بنزول العذاب بعد ثلاثة أيام. وعن ابن عباس انه تعالى أمهلهم هذه المدة ترغيبا لهم في الايمان والتوبة ، ولكنهم أصروا على الكفر لأنهم لم يصدقوا صالحا بوعده ووعيده.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). وبعد ثلاثة أيام نزل العذاب ، فسلم المؤمنون ، وهلك الكافرون بعد ان قامت عليهم الحجة .. وهذه نهاية كل من لج وتمادى في الغي والفساد.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ). قال هنا : فأخذ الذين ظلموا الصيحة ، وقال في الآية ٧٨ من سورة الأعراف : فأخذتهم الرجفة. ووجه الجمع ان الصيحة أحدثت في قلوبهم الخوف والرجفة. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم


لم يقيموا في ديارهم ، ولم يتمتعوا بأموالهم وأولادهم ، ولم يضحكوا للدنيا وتضحك لهم. والعاقل من اعتبر بالغير ، وانتفع بالنذر.

الملائكة يبشرون ابراهيم الآية ٦٩ ـ ٧٣ :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

اللغة :

فما لبث أي أسرع وما ابطأ. والعجل ولد البقرة. والحنيذ المشوي بالحجارة المحماة ، دون أن تمسه النار مباشرة ، وهو ألذ وأطيب من المشوي بالنار. ونكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد ، ضد عرفه أي ان ابراهيم لم يعرف سببا لامتناعهم عن الأكل. والإيجاس الاحساس أي أحس بالخوف منهم. والويل كلمة للتفجع. والبعل الزوج وجمعه بعولة.


الإعراب :

ولقد معطوف على ما قبله ، واللام للتأكيد ، وقد للتحقيق وقيل : للتوقع. وكلمة جاءت هنا متضمنة معنى قصدت ولذا تعدى الفعل إلى مفعول ، وهو ابراهيم. ويجوز أن تكون كلمة جاءت على ظاهرها ، وابراهيم منصوب بنزع الخافض أي جاءت رسلنا الى ابراهيم. وسلاما منصوب على المصدرية أي سلموا سلاما. وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي امري سلام ، أو مبتدأ والخبر محذوف أي عليكم سلام. والمصدر المنسبك من ان جاء مجرور بعن محذوفة أي ما تأخر المجيء بالعجل. وخيفة مفعول أوجس ، وهو من الأفعال التي تتعدى بنفسها تارة ، وبحرف الجر أخرى ، تقول : أحسست شيئا ، وأحسست بشيء. وامرأته قائمة الجملة حال. ويعقوب مفعول لفعل محذوف أي ووهبنا له من وراء اسحق يعقوب ، ويجوز الرفع على انه مبتدأ ومن وراء خبر. ويا ويلتا أصله يا ويلتي مثل يا عجبا أصله يا عجبي ، ثم انقلبت الياء ألفا ، ويا حرف نداء وويلتا منادى أي يا ويل احضر. وهذا بعلي مبتدأ وخبر. وشيخا حال من بعلي ، والعامل فيه اسم الاشارة لأنه بمعنى أشير ، ويجوز رفع شيخ على ان يكون بعلي مبتدأ ثانيا ، وشيخ خبره ، والجملة خبر للمبتدإ الأول. وأهل البيت منصوب على النداء أي يا أهل البيت.

المعنى :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ). الرسل جمع رسول ، والمراد ان جماعة من الملائكة دخلوا على ابراهيم في صورة الآدميين ليبشروه باسحق ، وقد بدأوا بالتحية ، فرد عليهم بمثلها أو بأحسن منها ، وأشار سبحانه الى هؤلاء في الآية ٢٤ من سورة الذاريات : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) .. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) وكان ابراهيم (ع) معروفا بالكرم وحب الأضياف ، ولذا أسرع وهيأ لهم عجلا مشويا عملا بظاهر حالهم ، وكان العجل سمينا بدليل قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ـ ٢٧ الذاريات.


(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). امتنعوا عن الطعام لأنهم ليسوا بشرا ، وخاف ابراهيم (ع) منهم لأنه عاملهم على انهم من البشر ، وإذا بهم ليسوا كما ظن ، وهو لا يعلم ما ذا يريدون .. وكل انسان معصوما كان أو غير معصوم إذا فاجأه أمر لا يعرف عواقبه يوجس منه خيفة ، ولما رأى الملائكة ما به (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ولا نريد بك ولا بقومك سوءا. وفي سورة الحجر الآية ٥٣ صارحهم بهذا الخوف حيث (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ).

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ). وقيامها كناية عن سماعها لما دار بين بعلها والملائكة ، أما ضحكها فلكل حديث عندهن بشاشة ، والله أعلم بالسبب الذي أضحكها ، وقد ذهب المفسرون فيه مذاهب (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي تلد هي اسحق ، ويولد لاسحق يعقوب ، وفيه دلالة على ان ولد الولد ولد.

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). تعجبت حيث لم تجر العادة ان تلد من هي في سنها ، ويلد لمن هو في سن زوجها ، وعن سفر التكوين ان ابراهيم (ع) كان عمره مائة سنة آنذاك ، وان سارة كانت في التسعين. ونحن لا نعترف بهذا السفر ، وكل ما نعرفه انهما كانا متقدمين في السن ، أما التحديد فعلمه عند ربي.

(قالُوا) ـ اي الملائكة ـ (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) كيف؟. وانما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) وقد خصكم بالكثير من نعمه ، وهذه واحدة منها ، وما هي بأعجب من جعل النار بردا وسلاما على ابراهيم (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). هذه الجملة توضيح وتأكيد لما قبلها ، والحميد صاحب الأفعال المحمودة ، والمجيد صاحب الفضل والجود ، اذن ، فلا عجب إذا أعطى الله من سأله ومن لم يسأله ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب.


ابراهيم يجادل في قوم لوط الآية ٧٤ ـ ٧٦ :

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

اللغة :

الروع بفتح الراء الخوف ، وبضمها النفس. والحليم الذي يصبر على جهل الغير وأذاه ولا يعالجه بالعقوبة. والأواه مبالغة في التأوه مما يكره. والمنيب الذي يرجع الى الله في كل أمر.

الإعراب :

وجاءته عطف على ذهب. وجملة يجادلنا حال ، وجواب لما محذوف أي لما ذهب الروع أخذ في القول مجادلا. وحليم خبر ان ، وأواه خبر بعد خبر ، ومثله منيب. والضمير في إنه للشأن. وعذاب فاعل آتيهم ، وغير مردود صفة لعذاب.

المعنى :

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) بعد ان عرف إبراهيم هوية أضيافه ومهمتهم اطمأن اليهم ، واغتبط هو وامرأته بالبشرى السارة بالابن والحفيد ، ولكن أزعجه ما سمع من ملائكة العذاب في شأن قوم لوط ، فأخذ يجادل من أجلهم .. وقال جمهور المفسرين ، ومنهم الرازي وصاحب


المنار : لم يجادل إبراهيم من أجل قوم لوط ، وإنما جادل من أجل لوط ، وانه خاف أن يصيبه ما يصيب قومه من العذاب ، واستدل المفسرون على ذلك بالآية ٣٢ من سورة العنكبوت : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). والصحيح ان هذه الآية لا تمت الى مجادلة ابراهيم بصلة ، وإنما هي مجرد اخبار منه بأن فيها لوطا ، ولذا قالوا له : نحن أعلم بمن فيها. والآية التي نفسرها نص في المجادلة من أجل قوم لوط ، لا من أجل لوط .. بالاضافة الى قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فالضمير في انهم وآتيهم يعودان الى قوم لوط الذين جادل ابراهيم فيهم ومن أجلهم.

ولكن المفسرين قالوا : ان المجادلة في قوم لوط جرأة على الله وابراهيم (ع) معصوم عن الذنب ، فلا بد ان تكون المجادلة في لوط ، لا في قومه.

ويلاحظ أولا : لا فرق بين المجادلة في لوط ، وفي قومه ، فإن كانت هذه جرأة فكذلك تلك.

ثانيا : ان المجادلة مع الله في دفع العذاب عن عباده أو تأخيره ليست من الذنب والمعصية في شيء ، بل العكس هو الصحيح ، لأن هذه المجادلة لا مخالفة فيها ولا نزاع ، وإنما هي من باب طلب الرحمة من القوي للضعيف ، وهذا الطلب يدل على الحلم والرأفة ، ولذا أثنى الله على ابراهيم بأجمل الثناء ، ووصفه بأنه (لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) بعد ان سأله الرفق بقوم لوط.

ثالثا : ان ابراهيم جادل في قوم لوط ليكون على يقين من أنهم بلغوا من التمرد الحد الذي لا يرجى معه صلاحهم وهدايتهم ، تماما كقوله : «بلى ولكن ليطمئن قلبي». ويؤكد ارادة هذا المعنى قوله سبحانه : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ). أي لا تسألني يا ابراهيم في قوم لوط ، فإنهم مهلكون لا محالة ، لاصرارهم على الشرك والفساد وايأس منهم ومن توبتهم.


لوط الآية ٧٧ ـ ٧٠ :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

اللغة :

سيء بهم اي وقع لوط فيما أساءه بسبب مجيء الرسل. والذرع منتهى الطاقة ، ومثله الذراع ، تقول : ضقت به ذرعا او ذراعا اي صعب عليك احتماله. والعصيب الشديد. ويهرعون يسرعون ، ولا تستعمل صيغة الفاعل فيه الا على لفظ المفعول ، ومثله أولع. ولا تخزون اي لا تخجلوني. والرشيد العاقل. والمراد بالركن الشديد الناصر الذي يعصمه من قومه.

الإعراب :

سيء مبني للمفعول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر عائد الى لوط. وذرعا تمييز. وجاءه بمعنى قصده ولذا تعدى الفعل الى مفعول. ومن قبل الواو للحال. ويا قوم أصله يا قومي. وهؤلاء مبتدأ وبناتي عطف بيان او بدل وهنّ ضمير فصل لا محل له من الاعراب وأطهر خبر ، ويجوز ان تكون هنّ مبتدأ ثانيا


وأطهر خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول. ولا تخزون أصله لا تخزوني. والضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث. ولو ان لي (لو) للتمني ولا تحتاج الى جواب.

المعنى :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً). انطلق الرسل من عند ابراهيم (ع) الى لوط ، وفي ج ٣ ص ٣٥٣ عند تفسير الآية ٨٠ من سورة الأعراف ذكرنا ان لوطا هو ابن اخي ابراهيم ، وانه كان في شرق الأردن ، وان قومه أول من اتى الرجال شهوة دون النساء .. وكانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهرا ، لا سرا ، ومن امتنع عنهم اغتصبوه قهرا ، حتى ولو كان من الضيوف الشرفاء .. ومن اجل هذا لما اتى رسل الله لوطا على هيئة الآدميين خاف من قومه ان يعتدوا عليهم ، وهو عاجز عن مقاومتهم ومدافعتهم ، فتألم (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قال الرازي : وانما قيل للشديد : عصيب لأنه يعصب بالشر.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) اسرعوا الى بيت لوط ، وفي ظنهم ان هذه المرة كغيرها (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ولم يحسبوا للعواقب والمخبآت (قالَ) ـ لوط ـ (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) والمراد ببناته بنات أمته ، لأن النبي في أمته كالوالد في أسرته ، والمعنى تزوجوا النساء ، واستمتعوا بهن حلالا طيبا ، ودعوا اللواط ، فإنه رجس من عمل الشيطان (فَاتَّقُوا اللهَ) يخوفهم من الله ، وهو أهون شيء عند اهل الفسق والفجور (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) ان كنتم لا تخافون الله فاخجلوا من أنفسكم ، ولا تمتهنوا كرامتي في الاعتداء على ضيوفي (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) عاقل يحول بينكم وبين ما تريدون؟.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) ـ أي من رغبة ـ (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ). قد علمت وتعلم .. الى هذا الحد تبلغ الصلافة بالإنسان إذا تحرر من القيود ، وتنكر للقيم ، وفقد الشعور بالمسؤولية .. وقد علمت أننا لا نرغب


في البنات ، وان رغبتنا في الرجال والغلمان ، وعلمت أيضا اننا لا نكترث بك ولا بإلهك ، فعلام هذا الفضول في قولك : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).

ولقوم لوط أشباه ونظائر في الوقاحة والصلافة ، وما أكثرهم اليوم!. ومنهم مربون ومعلمون في المدارس والجامعات .. ونحن لا نشك ان في رجال الدين من هم أسوأ ألف مرة من هؤلاء ، ولكن المؤكد ان العالم يكون اسوأ حالا مما هو عليه الآن لو لم يكن هناك دعاة الى الدين والقيم.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ). بعد ان آيس لوط من من قومه تمنى ان يكون له ناصر ينصره عليهم ، أو مجير يجيره منهم ، تمنى هذا ، وهو لا يعلم ان نصر الله عنده وفي بيته ، وانه لم يبق من الوقت لهلاك الظالمين سوى سواد ليلته.

لن يصلوا اليك الآية ٨١ ـ ٨٣ :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

اللغة :

السرى بالضم والاسراء يكون في الليل ، والسير يكون في النهار ، يقال : سرى واسري به ليلا ، وسار نهارا. والقطع من الليل بكسر القاف جزء منه.


والسجيل الطين المتحجر. ومنضود وضع بعضه على بعض. ومسومة عليها علامة.

الإعراب :

الا امرأتك استثناء من أهلك. ولا يلتفت منكم أحد جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. وضمير انه للشأن. وما أصابهم فاعل مصيبها. وعاليها مفعول أول لجعلنا وسافلها مفعول ثان. ومنضود صفة لسجيل. ومسومة صفة لحجارة. وهي تعود الى الحجارة أو الى قرى لوط. ومحلها الرفع بالابتداء ، وببعيد الباء زائدة اعرابا وبعيد خبر.

المعنى :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ). قال الرازي : لما رأت الملائكة قلق لوط وحزنه بشّروه بأنواع البشارات : إحداها انهم رسل الله. ثانيها ان الكفار لا يصلون إلى ما هموا به ثالثها انه تعالى مهلكهم. رابعها انه ينجيه وأهله من العذاب. خامسها ان لوط في ركن شديد لأن الله ناصره على القوم الظالمين.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ). طلب الملائكة من لوط (ع) ان يخرج ليلا بأهله ، وألا ينظر أحد منهم إلى ما وراءه .. وربما كانت الحكمة من ذلك ألا يرى الملتفت ما نزل في دياره من الهلاك فيرق ويحزن .. اما امرأة لوط فقد تركها بأمر الله مع القوم الكافرين لأنها منهم ، فكان عليها ما عليهم من لعنة الله وغضبه. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). هذا من كلام الملائكة ، ويومئ الى الجواب عن استعجال من استعجل نزول الهلاك بالقوم.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها). المراد بأمر الله هنا حكمه وقضاؤه ، وضمير عاليها يعود الى قرى لوط ، ومثله ضمير سافلها ، أي ان الله سبحانه


خسف الأرض بتلك القرى ، وفي بعض التفاسير انها تبعد عن بيت المقدس ثلاثة أيام. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ). وقد جاء تفسير السجيل بالطين في الآية ٣٢ من سورة الذاريات : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والمنضود المتراكم بعضه فوق بعض أو ينزل متتابعا بعضه اثر بعض ، والمسومة التي لها علامة خاصة ، ولا تصيب إلا من يستحقها ، والمعنى ان الله انزل على قرى لوط عذابين : المطر بهذه الحجارة ، والخسف.

(وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). قال المفسرون : المراد بالظالمين هنا كفار مكة ، وان الله توعدهم بما أصاب قوم لوط من الهلاك إن هم أصروا على تكذيب محمد (ص). وليس هذا ببعيد ، مع العلم بأن كل ظالم في شرق الأرض وغربها معرّض لنزول العذاب به من السماء ، او من المعذبين في الأرض .. فإن كل ثورة تحررية حدثت او تحدث لا مصدر لها الا النقمة على الظلم واهله ، والفساد وأنصاره.

شعيب الآية ٨٤ ـ ٨٦ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))


اللغة :

البخس النقص والعيب. والعثو الفساد. ومفسدين اي متعمدين. وبقية الله ما يبقى بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال ، وان قل.

الإعراب :

والى مدين معطوف على ما قبله اي وأرسلنا الى مدين أخاهم ، وشعيبا بدل من الأخ. ومن إله (من) زائدة إعرابا. ومحيط صفة ليوم لفظا ، ولعذاب معنى ، وصح وصف اليوم بالاحاطة مع انه وصف للعذاب لمكان الاضافة. وأشياءهم بدل اشتمال من الناس. ومفسدين حال من واو لا تعثوا. وبقية الله مبتدأ ، وخير خبر. والباء في بحفيظ زائدة إعرابا.

المعنى :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). مرّ بالحرف الواحد في الآية ٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٦.

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ). هذا نهي عن التطفيف ، ومثله الآية الأولى من المطففين : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) اي ينقصون (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) المراد بالخير السعة في الرزق (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) هذا إنذار لهم بالعذاب ان أصروا على العصيان.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بعد أن نهاهم عن النقصان أمرهم بالوفاء والتمام ، والمعنيان واحد ، ولا نفهم الغرض من ذلك إلا التأكيد (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ). والأشياء تشمل كل شيء ، ومنه الحق المادي والمعنوي وعليه يكون التحريم عاما للبخس في الكيل والميزان ، ولبخس الإنسان وانتقاصه في علمه أو خلقه.


(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). ظاهر اللفظ يدل على ان المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين ، لأن العثو والفساد بمعنى واحد ، فوجب إما تأويل كلمة العثو بالسعي ، ويكون المعنى ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وإما تأويل كلمة مفسدين بمتعمدين ، ويكون المعنى ولا تفسدوا في الأرض متعمدين أو معتدين ، وذلك بأن تثيروا الحرب وتسفكوا الدماء بلا سبب موجب ، اما إذا كانت الحرب للقضاء على الفساد والحرب فيكون تركها ، والحال هذه ، هو الفساد ، ومن هنا كان الجهاد من أفضل الطاعات. وهذا التأويل أرجح من غيره.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ان الحلال الطيب خير وأبقى وان قل ، والحرام الخبيث شر محض وان كثر ، ولو بحثنا عن أسباب الحروب في هذا العصر لوجدناها تكمن في الاحتكارات وتكدس الثروات في ايدي القلة القليلة ، وحرمان الاكثرية الغالبة .. ومن الصدف اني قرأت في صحف اليوم ٢٤ / ١٢ / ١٩٦٨ ان جماعة من اللندنيين تظاهروا بالأمس متوجهين الى قصر باكنجهام ، وقدموا مذكرة الى الملكة يطالبونها بأن تتخلى عن قصرها الذي يستوعب ألف شخص ، بينما لا يجد ٦ آلاف شخص مسكنا لهم في لندن وحدها .. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يمنعكم عن المعصية بالقهر والغلبة ، ولا مهمة لي سوى النصح والتبليغ ، وقد أديتها كاملة ، وخرجت من عهدتها ومسؤوليتها.

أصلاتك تأمرك الآية ٨٧ ـ ٩٠ :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ


وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

اللغة :

أنيب ارجع. ولا يجرمنكم أي لا يكسبنكم. والشقاق شدة الخلاف ، حيث يكون كل طرف من المتخاصمين في شق غير الذي فيه الآخر.

الإعراب :

المصدر المنسبك من أن نترك مجرور بالباء المحذوفة. والمصدر من أن نفعل معطوف على ما يعبد آباؤنا ، والتقدير أصلاتك تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا أو بترك فعل ما نشاء في أموالنا. وما استطعت (ما) مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي ، ويجوز ان تكون اسم موصول في محل نصب بدلا من الإصلاح أي الا الإصلاح الذي استطيعه. وشقاقي فاعل يجر منكم ، والمصدر من ان يصيبكم مفعول ثان ليجر منكم.

الاشتراكية والرأسمالية عبر التاريخ :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا). كل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر يتخذ من الصلاة موضوعا للاستهزاء والسخرية من المصلين ، وقد كان شعيب (ع) ولا شك من المصلين ..


ولما أمر قومه بنبذ الأصنام وعبادة الله وحده ، ونهاهم عن الاستغلال والكسب الحرام تهكموا به ، وقالوا : أصلاتك التي تصليها ، وتدل على السفه والحماقة أوحت اليك ان تأمرنا بترك التقاليد والعادات التي ألفها الآباء والأجداد جيلا بعد جيل ، وان تنهانا عن تحصيل المال كيف نشاء؟ (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)؟. أي هل انت عاقل في قولك هذا؟. وتتضمن هذه الآية الدلالات التالية :

١ ـ ان رسالة الأنبياء لا تنحصر بالدعوة الى اقامة الشعائر ، بل تشمل ايضا الحياة الاجتماعية ، وتحد من حرية الإنسان في تصرفاته ، وتقيده بعدم الاعتداء على غيره ، وتحجر عليه كل عمل يستلزم الإضرار بالفرد او الجماعة ، وأوضح دليل على ذلك قوله : «ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين».

٢ ـ لقد دلت الآية ان أشد الناس عداوة للأنبياء والمصلين هم الذين يجمعون المال بالخديعة والاحتيال ، ويتصرفون في مقدرات الناس على أهوائهم ، تماما كما تفعل شركات الاستغلال والاحتكار.

٣ ـ تدل الآية ايضا على ان للرأسمالية المتطرفة جذورا وأنصارا في التاريخ ، والشواهد على ذلك من الآثار لا يبلغها الإحصاء .. وهذه الرأسمالية تطلق للفرد الحرية الكاملة في تحصيل الثروة واستغلالها في مشاريع السلب والنهب ، وأوضح تعريف لها قول المترفين لشعيب : «او ان نفعل في أموالنا ما نشاء». فليس مرادهم بهذا ان ينفقوا أموالهم في المأكل والملبس .. كلا ، وانما مرادهم ان يستغلوا أموالهم في السيطرة على الناس ، والتحكم بأقواتهم.

وكما دل التاريخ على ان الإنسان قديم العهد بهذه الرأسمالية فقد دل أيضا على انه قديم العهد بالاشتراكية ، فقد جاء في دروس التاريخ للمؤرخ «ول ديورانت» : ان الباحثين قد عثروا على لوحة سومرية يرجع تاريخها الى ٢١٠٠ قبل الميلاد ، تقول : كانت الدولة هي التي توجه الاقتصاد القومي. وان في بابل سنة ١٧٥٠ قبل الميلاد كان قانون حامورابي يحدد أسعار كل شيء. وان في عصر البطالمة سنة ٣١٣ قبل الميلاد كانت الدولة تملك الأرض ، وتدير الزراعة ، الى غير ذلك.

والإسلام يرفض كلا من الاشتراكية والرأسمالية بمعناهما الشائع اليوم ، ويقر


كل ما من شأنه ان يواجه الصعاب ، ويحل مشكلات الحياة ، دون ان يبخس الناس أشياءهم. انظر فقرة «الغني وكيل لا أصيل» عند تفسير الآية ١٨٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي). تقدم في الآية ٢٨ من هذه السورة.

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) بعد أن أمر شعيب (ع) قومه بالكسب الحلال الطيب ونهاهم عن الحرام الخبيث احتج عليهم بما أنعم الله عليه من الرزق الكافي الوافي بجميع حاجاته ، مع انه أبعد الناس عن الحرام .. فأسباب الرزق الحسن ـ اذن ـ لا تنحصر بالحرام ، ومحال ان يحصر الله الرزق بباب من الأبواب ، ثم يحرمه على عباده ، وقول شعيب (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) يومئ الى انه كان في سعة من العيش.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ). ولو فعل لكانت الحجة لهم عليه ، ولا حجة له عليهم ، ومن شروط النبي ان تكون جميع صفاته مبشرة لا منفرة ، والطباع تنفر من الذين يقولون ما لا يفعلون (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ). والمصلح يعظ الناس بأفعاله قبل أقواله ، ويستمر في دعوته متحملا في سبيلها الأذى والمشاق ، ومن أجل هذا كان شعيب وغيره من الأنبياء يأكلون من عمل أيديهم ، ويتحملون الأذى من الكافرين والمعاندين (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) اي انه سيمضي في تأدية رسالته مهما تكن النتائج متوكلا على الله وطالبا منه العون وراجعا اليه في جميع أموره.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ). لا يجرمنكم اي لا يكسبنكم ، والمعنى لا يكسبنكم عداؤكم لي نزول العذاب بكم ، فما عادى قوم نبيهم الا ونزل بهم العذاب ، ومن الشواهد على ذلك أقوام الأنبياء المذكورين. فقوله : لا يجرمنكم شقاقي الخ مثل قولك لمن عق أباه : لا يكسبنك عقوقك لأبيك غضب الله عليك (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). مر نظيره مع التفسير في الآية ٥٢ و ٦١


من هذه السورة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) يرحم من استغفر واعتذر ، ويتودد الى عباده بالانعام عليهم ، والنصح لهم ، والإمهال لعلهم يرجعون.

ولولا رهطك لرجمناك الآية ٩١ ـ ٩٥ :

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

اللغة :

الفقه الفهم. والرهط الجماعة. والرجم الرمي بالحجارة ، والظهري بكسر الظاء المتروك وراء الظهر لا يعتنى به. والمكانة الحالة التي يتمكن بها صاحبها من عمله. وارتقبوا انتظروا. والمراد بالصيحة هنا صيحة العذاب. والجاثم البارك على ركبتيه مكبا على وجهه ، ويطلق على الملازم لمكانه لا يتحول عنه. وغني بالمكان أقام فيه. وبعدا دعاء بالهلاك.


الإعراب :

وما أنت علينا بعزيز (ما) نافية وانت مبتدأ وعلينا متعلق بعزيز ، وعزيز خبر والباء زائدة اعرابا. وظهريا مفعول ثان لاتخذتموه. ومكانتكم مصدر مكن. ومن استفهام في محل رفع بالابتداء ، وجملة يأتيه عذاب خبر ، وتعلمون معلق عن العمل لمكان الاستفهام. وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي كأنهم لم يغنوا فيها. وبعدا منصوب على المصدرية أي بعد بعدا.

المعنى :

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ). لقد فهموا كل ما قاله لهم من الأمر والنهي ، والتهديد والوعيد ، وانما أرادوا بقولهم هذا انهم لا يرون أي مبرر لنزول العذاب الذي هددهم به شعيب ، كيف وهم في زعمهم الأبرياء الأتقياء؟ فعبادة الأوثان يبررها عمل الآباء ، وتطفيف الكيل والميزان يبرره مبدأ الحرية في كسب المال .. فدعوة شعيب ، إذن ، ما هي إلا وسيلة للشغب والتخريب وهذا هو بالذات منطق القراصنة في كل زمان ومكان ، يسلبون ويقتلون ، فإذا اعترض عليهم معترض قالوا له : انت مخرب هدّام تثير المشاكل والحروب ، وتعمل ضد الأمن والسلم ، لأن السلم في مفهومهم أن تركع الناس لطغيانهم ، وتسجد لآثامهم.

(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا يمنعنا من البطش بك مانع ، فالسكوت أسلم لك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ). قد يسأل سائل : كيف نفوا القوة عنه ، وأثبتوها لقومه؟.أليست قوة الرجل من قوة قومه؟. قلت : لا تلازم بين القوتين ، فربما كانت قوة قرابة الرجل عليه ، لا له ، فقد كانت قريش أعدى أعداء محمد القرشي (ص). وفي بعض التفاسير أن قوم شعيب كانوا على الشرك ، وان قول المشركين : لولا رهطك أرادوا به لولا احترامنا رهطك لرجمناك. ولفظ الآية لا يأبى هذا المعنى.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ)؟. وأي عجب في هذا عند أهل


الجهل والضلالة؟. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ـ ٢٨ فاطر». (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا). وظهريا كناية عن نسيانه وعدم الاهتمام به (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي. وهذا مثل قوله على لسان الرسول الأعظم : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ٤٠ يونس». وقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ). هذا تهديد من شعيب لقومه بنزول العذاب ولا شيء أدل على نبوته من هذه الثقة بالغيب.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ). مر نظيره في الآية ٦٦ ـ ٦٨ من هذه السورة.

موسى الآية ٩٦ ـ ٩٩ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

اللغة :

السلطان المبين الدليل الظاهر. والملأ اشراف القوم. والمراد بأمر فرعون أفعاله وتصرفاته. والورد بلوغ الماء ، والمورود الماء بالذات ، واستعمل هنا في النار مجازا. والرفد بكسر الراء العطاء ، والمرفود المعطى.


الإعراب :

فأوردهم ماض لفظا ، ومستقبل معنى أي فيوردهم ، وكل مستقبل محقق الوقوع يجوز التعبير عنه بصيغة الماضي. وبئس من أفعال الذم ، والورد فاعل ، والمورود مبتدأ ، وهو المخصوص بالذم. والجملة من الفعل والفاعل خبر مقدم.

المعنى :

لما ذكر سبحانه ما أصاب قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أشار الى فرعون وقومه ، والغاية هي العبرة والعظة ، ويتلخص معنى هذه الآيات الأربع بأن الله سبحانه أرسل موسى (ع) الى فرعون وقومه بالأدلة والبينات ، ومنها التوراة والعصا واليد ، ولكن فرعون أصر على الكفر والطغيان ، كما أصر قومه على متابعته ، والائتمار بأمره ، فكانت عاقبة التابع والمتبوع اللعنة والهلاك في هذه الدار ، والنار في الدار الآخرة.

ولو لم يجد فرعون أنصارا لما تجرأ وقال : أنا ربكم الأعلى .. ما علمت لكم من إله غيري ، وكل مضل ومفسد لا يجرأ على الظهور الا حيث يجد الأنصار والأتباع .. وطبيعة الإنسان هي هي في كل عصر ، والذي يتغير هو الاسم والأسلوب ، وقد كان الاسم في الماضي فرعون ونمرود ، واسمها في الحاضر أحلاف عسكرية ، وشركة «فاكوم ، وأرامكو» ، وما اليهما .. اما أنصارها فهم الذين يقبضون منها في الظلام ، ويمشون كالأشراف بين الناس.

ذلك من انباء القرى الآية ١٠٠ ـ ١٠٢ :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ


اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

اللغة :

الشيء القائم هو الموجود بنحو من الأنحاء ولو بآثاره ، والحصيد الزرع المحصود من الأصل ، يقال : حصدهم بالسيف إذا قتلهم. والتتبيب التخسير ، ومنه تبّت يدا أبي لهب أي خسرت.

الإعراب :

ذلك مبتدأ ، ومن انباء القرى خبر ، ويجوز ان تكون ذلك مفعول لفعل محذوف اي نقص ذلك. وقائم مبتدأ ومنها خبر مقدم. وحصيد مبتدأ وخبره محذوف اي ومنها حصيد. وواو زادوهم للأصنام على التنزيل منزلة العقلاء ، او على غير الأعم الأغلب. وغير مر إعرابها في الآية ٦٣ من هذه السورة. وكذلك الكاف بمعنى مثل خبر مقدم ، وأخذ ربك مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ). بعد أن ذكر سبحانه طرفا من قصص الأمم الماضية مع أنبيائهم قال لنبيه الأكرم (ص) : ان بعض تلك الأمم بقي شيء من آثارها ، وشبه الآثار الباقية بالزرع القائم على ساقه ، لأن كلا منهما ظاهر للعيان ، والبعض لم يبق شيء من آثارها ، وشبه هذه بالزرع المحصود الذي تعرت الأرض مما يشير اليه ، وقال بعض المفسرين : ان التي بقي أثرها هي بلاد عاد وثمود ، والتي لا أثر لها هي بلاد نوح ولوط .. أما نحن


فنترك الكلام في ذلك لعلماء الآثار .. وعلى أية حال فان بيان هذه القصص بلسان محمد (ص) دليل قاطع على نبوته ، وانها من وحي السماء ، لا من نسيج الخيال ، ولا نقلا عمن قال.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم رسل الله وإصرارهم على الشرك والفساد ، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم بحوالى عشرين آية (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ). آلهتهم أصنامهم ، وواو زادوهم تعود اليها ، وأمر ربك عذابه ، والتتبيب التخسير ، وفي الآية ٦٣ من هذه السورة : (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ). ويتلخص المعنى بقوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) ـ ٥٥ الفرقان».

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) اي ان الله سبحانه يهلك الكافرين الظالمين بمثل الطوفان والخسف وصيحة العذاب (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ولكن بعد الانذار والإعذار بلسان رسل الله مشافهة ومجابهة وجها لوجه .. وقلنا مشافهة ومجابهة لأن الكفر والفساد في هذا العصر أكثر منه في أي عصر مضى ، والاعذار والإنذار موجودان فيه بحكم العقل والكتب السماوية والأحاديث النبوية ، ومع ذلك لا طوفان ولا خسف ولا حجارة من سجيل ، ولا نعرف سرا لذلك إلا الظن بأن مشيئة الله تعالى قضت بهلاك الذين يجابهون أنبياءهم بالتكذيب ، دون الذين يعصون الوحي والعقل .. والظن لا يغني عن الحق. والله أعلم.

وذلك يوم مشهود الآية ١٠٣ ـ ١٠٩ :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا


فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

اللغة :

يوم مشهود يشهده الخلائق. وأجل معدود معين في علم الله. والزفير في اللغة أول صوت الحمار ، والشهيق آخره ، وقد كنّى بهما سبحانه عن آلام اهل النار وأحزانهم. ومجذوذ مقطوع. والمرية الشك.

الإعراب :

ذلك يوم مبتدأ وخبر ، ومجموع صفة ليوم ، والناس نائب فاعل لمجموع. ويوم يأت يوم متعلق بلا تكلم نفس ، وحذفت الياء من يأتي للتخفيف ، وفيها ضمير مستتر يعود الى يوم مجموع ، ولا يجوز ان يعود الى يوم يأت لأنه مضاف الى الإتيان ، والمضاف اليه بمنزلة الجزء من الكلمة ، وفي النار متعلق بمحذوف أي فيستقرون في النار ، وخالدين حال من ضمير يستقرون. وما دامت (ما) مصدرية ظرفية اي مدة دوام السموات والأرض ، والظرف متعلق بخالدين. وعطاء منصوب على المصدرية ، وغير مجذوذ صفة للعطاء. ونصيبهم مفعول لموفوهم ، وغير منقوص حال من نصيبهم.


المعنى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). ان في ذلك اشارة الى أخذه تعالى للقرى الظالم أهلها بالعذاب الشديد ، والمعنى ان في هذا الأخذ الأليم عبرة لمن آمن بالله ، وتذكيرا لمن يخاف عذاب يوم تشهده جميع الخلائق حين يجمعهم الله فيه للحساب والجزاء.

وتسأل : ان الطوفان او الزلزال ونحوه كثيرا ما يحدث لأسباب طبيعية ، والطبيعة عمياء لا تميز بين المؤمن والجاحد ، والمجرم والبريء ، فمن الجائز أن يكون الذي حدث لأقوام الأنبياء من هذا الباب؟

الجواب : لقد كان النبي ينذر قومه بحدوث العذاب ، ويحدد نوعه ووقته قبل حدوثه ، فيأتي قوله على وفق الواقع ومن صلبه ، ولا يمكن تفسير ذلك بالتنبؤ العلمي حيث لا مراصد ولا أدوات للعلم في ذاك العهد ، وأيضا لا يمكن تفسيره بالبديهة والحدس لأن النبي كان يخبر عن ثقة وبلسان الجزم ، ويقول : هذه هي الحقيقة وسترون ، ولا بالصدفة لمكان التكرار ، وإذا بطلت جميع هذه الفروض والتفسيرات تعين التفسير بالوحي ومشيئة الله لأنه هو وحده الفرض الصحيح.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ). لكل شيء عند الله مدة وأجل لا يسبقه ولا يتجاوزه ، ومن ذلك فناء الدنيا ومجيء الآخرة (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فيؤذن لها بالكلام والدفاع في موقف دون موقف ، كما هو الشأن في الكثير من محاكم الدنيا (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وشقاوة الإنسان غدا أو سعادته انما تكون بعمله في الدنيا ، لا بقضاء الله وقدره ، أما خبر «الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه» فمشكوك فيه ، وظاهره يناقض عدل الله ورحمته .. الى جانب انه من اخبار الآحاد ، وهي حجة في الأحكام الشرعية كالحلال والحرام والطاهر والنجس ، لا في أصول العقيدة وما يتصل بها.

ثم حدد أهل الشقاوة بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ). وبديهة ان الله لا يعذب إلا من تمرد وأفسد ، فالشقاوة ـ اذن ـ تكون بالكسب والعمل ، لا بالقضاء والقدر .. والزفير والشهيق كناية عن أحزان أهل النار


وآلامهم (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). وقد أطال المفسرون الكلام حول التعليق على مشيئة الله هنا ، وذكروا وجوها جعلت المعنى من الطلاسم والمتشابهات ، وهو من المحكمات والواضحات ، ويتلخص بأن من يدخل جهنم بأي ذنب من الذنوب فلا يستطيع الخروج منها بنفسه ، ولا بشفيع ومعين ، ولا بفداء ، فهو من هذه الجهة خالد فيها .. ولكن إذا شاء الله أن يخرجه منها خرج ، وانتفى عنه وصف الخلود في النار ، لأن ارادته تعالى لا يحدها شيء (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، وكل شيء يرجع في النهاية الى إرادته ولا ترجع إرادته إلا اليه وحده ، فسبب الخلود يؤثر أثره ما دام الخالق مريدا له ذلك ؛ وان لم يشأ لم يكن عملا بمبدإ : «إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون».

وكما حدد أهل الشقاوة بالخالدين في النار حدد أهل السعادة بالخالدين في الجنة (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع. وتسأل : ان من يدخل الجنة فلا يخرج منها ، اذن ، ما هو القصد من التعليق على مشيئة الله تعالى؟.

وقيل في الجواب : ان الله يخرجهم من نعيم الجنة إلى نعيم مثله أو أحسن .. أما الذي نفهمه نحن من هذا التعليق فهو مجرد الاشارة الى قدرة الله وعظمته ، وان الأسباب المعروفة انما تفعل فعلها إذا لم تصطدم بإرادته تعالى ، فالنار تحرق إذا لم يقل لها الخالق : كوني بردا وسلاما.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ). الخطاب لمحمد (ص) ، وهؤلاء إشارة الى قومه الذين كذبوه ، وما شك محمد ، ولن يشك أبدا في أنهم على باطل في عبادتهم ، ولكن القصد توبيخهم وتحذيرهم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ). هذا تعليل لليقين وعدم الريب في بطلان ما يعبد هؤلاء ، لأنه مثل ما عبد الأولون الذين جل بهم العذاب لشركهم وعبادتهم الأصنام. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) تماما كما وفينا لآبائهم النصيب الذي استحقوه من العذاب ، ولم ننقص منه شيئا.

وتسأل : ان هذا تقنيط من عفو الله ورحمته ، وهو يتنافى مع قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ٥٢ الزمر».


الجواب : ان المراد بقوله : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) هو الترغيب في التوبة ، وان من تاب تاب الله عليه. والمراد من قوله : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) ان من أصر على الشرك ، ولم يتب فإن الله يجازيه بما يستحق .. ولسنا نشك في ان الله يعفو ويرحم من يرحم الناس ، ويعمل لصالحهم ، أما الذين يعتدون على حريتهم وحقوقهم فلا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينصرون.

ولولا كلمة سبقت من ربك الآية ١١٠ ـ ١١٥ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

اللغة :

شك مريب مثل عجب عجيب وظل ظليل أي قوي أو دائم ، وقيل : معناه شك أوقع في الريب ، وهو ترجيح الكذب على الصدق. وطرفا النهار الغدوة والعشية


والمراد من الطرف الأول الصبح ، والطرف الثاني الظهر والعصر. والزلف من الليل الساعات الأولى منه ، وواحدها زلفة وسميت بذلك لقربها من النهار ، والمراد بها هنا المغرب والعشاء.

الإعراب :

اختلف النحاة وأهل التفسير في إعراب لمّا في قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ). فقيل : هي بمعنى الا. وقيل : ان اللام داخلة على خبر ان وما بمعنى الذي ، والتقدير ان كلا للذي هو ليوفينهم أعمالهم ، وقال ابن هشام في كتاب «المغني» : الأولى عندي ان لما بمعنى لم ومجزومها محذوف أي لم يوفوا أعمالهم الى الآن ، وسيوفونها ، وقيل غير ذلك ، وأيسر الأوجه ان تكون بمعنى الا. ومن تاب في موضع رفع عطفا على الفاعل في استقم ، ويجوز النصب على ان تكون مفعولا معه. وفتمسكم النار منصوب بأن مضمرة جوابا للنهي ، والمصدر المنسبك مبتدأ ، وخبره محذوف أي فمس النار كائن أو حاصل لكم. وطرفي النهار ظرف منصوب بأقم. وزلفا عطف عليه.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ). المراد بالكتاب هنا التوراة ، وقد اختلف فيه قوم موسى ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر ، وهكذا كل أمة قديما وحديثا لم تتفق كلمتها على نبيها ومرشدها الناصح الأمين ، بل كان بنو إسرائيل يقتلون أنبياءهم ، حتى الذين آمنوا بموسى حرفوا التوراة من بعده ، وأحيوا البدع والضلالات .. اذن ، فلا عجب إن آمن بك يا محمد قوم ، وكفر بك آخرون.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). المراد بكلمة الله قضاؤه بتأخير العذاب ، وضمير بينهم يعود الى المختلفين في كتاب التوراة ، وقد شاءت حكمته تعالى ألا يستأصلهم بعذاب الدنيا (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). ما زال


الكلام عن موسى وقومه وكتابه ، وقد أبعد من قال : انتقل الكلام بهذه الجملة من موسى وبني إسرائيل الى محمد (ص) وقريش .. وشك مريب أي قوي ، مثل عجب عجيب ، وقناطير مقنطرة ، والقصد من الآية بمجموعها ان الله سبحانه أخر الى يوم القيامة عذاب من كذّب بالتوراة من قوم موسى ، وبالقرآن من قوم محمد (ص) (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي ان كلا من المكذب والمصدق سيلاقي غدا جزاء عمله كافيا وافيا ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

الاستقامة :

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). يختلف معنى الاستقامة باختلاف الذي تنسب اليه ، فمعنى قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أنه يهدي الى هذا الصراط ، ويأمر به ، وعلى أساسه يثيب ويعاقب ، وان جميع أفعاله تعالى على وفق الحكمة والمصلحة : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) ـ ١١٦ المؤمنون» : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ ص».

وإذا وصفت بالاستقامة عينا من الأعيان ، وقلت : ان هذا الشيء مستقيم فمعناه أنه قد وضع في الموضع اللائق به ، أما الإنسان المستقيم فأحسن تحديد له قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ـ ١٨ الزمر». وأحسن القول عند الله ومن آمن به هو هذا القرآن : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) ـ ٢٣ الزمر». وأحسن القول عند الله والناس أجمعين والجاحدين هو ما يستريح اليه الضمير العالمي ، لا ضمير اللصوص وسفاكي الدماء. وفي الحديث عن رسول الله (ص) انه قال «شيبتني سورة هود». وقيل : انه أراد هذه الآية من سورة هود ، لأن أمته أمرت بالاستقامة ، وهو غير واثق من استجابتها واستقامتها .. ونحن لا نستبعد هذا التفسير على أن يكون المراد من الأمة قادتها ، لأنهم أصل الداء ، ومصدر البلاء .. وفي ج ١ ص ٢٦ من هذا التفسير تحدثنا عن الاستقامة ، وان الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه يتلخص بكلمة واحدة ، وهي الاستقامة.


مسؤولية التضامن ضد الظلم :

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ). ولا يختص الذين ظلموا بالمعتدين على الناس وحرياتهم ، فقد جاء في الأخبار وفي نهج البلاغة :

«الظلم ثلاثة : ظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب ، فاما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله ، واما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ـ أي صغار الذنوب ـ واما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم لبعض».

ومعنى الركون الى الشيء الاعتماد عليه ، ولكن المراد بالركون الى الظالمين في الآية ما يعم السكوت عنهم لوجوب النهي عن المنكر ، وفي الحديث : «إذا رأى الناس المنكر بينهم ، فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : «نصرة المؤمن على المؤمن فريضة واجبة». وفي كتاب الوسائل باب «الجهاد عن المعصوم» : ان المسلم يقاتل عن بيضة الإسلام ، أو عند الخوف على ديار المسلمين. واستنادا إلى هذه الأخبار وغيرها قسم الفقهاء الجهاد إلى نوعين :

الأول : جهاد الغزو في سبيل الله ، وانتشار الإسلام. الثاني : الدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين ، والدفاع عن النفس والمال والعرض ، بل الدفاع عن الحق إطلاقا ، سواء أكان له ، أم لغيره ، قال صاحب الجواهر : «إذا داهم عدو من الكفار يخشى منه على بيضة الإسلام ، أو يريد الكافر الاستيلاء على بلاد المسلمين ، وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم ـ إذا كان كذلك وجب الدفاع على الحر والعبد الذكر والأنثى ، والسليم والمريض ، والأعمى والأعرج ، وغيرهم ان احتيج اليهم. ولا يتوقف الوجوب على حضور الإمام ، ولا اذنه ، ولا يختص بالمعتدى عليهم والمقصودين بالخصوص ، بل يجب النهوض على كل من علم بالحال ، وان لم يكن الاعتداء موجها اليه ، هذا إذا لم يعلم بأن من يراد الاعتداء عليهم قادرين على صد العدو ومقاومته ، ويتأكد الوجوب على الأقرب من مكان الهجوم فالأقرب».


ثم قال صاحب الجواهر : «ودفاع الإنسان عن نفسه واجب ، وان لم يظن سلامتها ، لأنه معرض للخطر على كل حال ، أما دفاعه عن عرضه وماله فواجب ان غلب على ظنه السلامة بنفسه مخافة ان تذهب النفس مع العرض والمال. وكذا يجب على الإنسان أن يدافع عن حياة الغير وماله وعرضه بشرط أن يغلب على ظنه السلامة بنفسه».

وأفتى الفقهاء بوجوب إنقاذ الغريق ، وإطفاء الحريق إذا شب في مال الغير ، وبأن على المصلي أن يقطع صلاته ليدفع الخطر عن نفس محترمة أو مال يجب حفظه سواء أكان له أم لغيره ، وان من رأى طفلا في فلاة لا يستقل بدفع الأذى عن نفسه وجب عليه التقاطه وحفظه. وروي ان ثلاثة نفر رفعوا الى الإمام علي (ع) : واحدا أمسك رجلا ، والثاني قتله ، والثالث رأى ولم يحرك ساكنا ، فقضى بقتل القاتل ، وسجن الممسك مؤبدا ، وان تسمل عينا الممسك. وقد عمل الفقهاء بهذه الرواية.

ويجد الباحث المتتبع لكتب الفقه الكثير من هذا النوع ، وفيه الدلالة القاطعة على ان نصرة الإنسان لأخيه الإنسان ونجدته تجب شرعا إذا توقف عليها صيانة أمر هام.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ). والطرف الأول من النهار الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف من الليل المغرب والعشاء. وفي الآية ٧٨ من سورة الاسراء : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ودلوك الشمس زوالها ، وهو وقت صلاة الظهر وبعدها العصر ، وغسق الليل ظلمته ، وهو وقت صلاة المغرب وبعدها العشاء ، وقرآن الفجر يعني صلاة الصبح يشهدها الناس ، والتفصيل في كتب الفقه ومنها الجزء الأول من فقه الإمام الصادق.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). نقل صاحب مجمع البيان عن أكثر المفسرين ان المراد بالحسنات هنا الصلوات الخمس ، وانها تكفّر ما بينها من الذنوب. وقال آخرون : بل المراد بها مجرد قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر. وكل من التفسيرين يرفضه العقل والفطرة ، حيث لا ترابط ولا تلازم بين الأحكام والتكاليف لا شرعا ولا عقلا ولا قانونا ولا عرفا .. فطاعة أي حكم وجوبا كان أو تحريما لا تناط بطاعة غيره أو معصيته. أما حديث كلما صلى صلاة كفّر ما بينهما من الذنوب ، وما اليه فهو كناية عن ان الصلاة كثيرة


الحسنات ، فإن كان للمصلي سيئات وضعت هذه في كفة ، وتلك في كفة ، وذهبت كل حسنة بسيئة شريطة ألا تكون كبيرة ، ولا حقا من حقوق الناس. وتقدم الكلام عن هذا الموضوع بعنوان : «الإحباط» عند تفسير الآية ٢١٧ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٢٦.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ). ذلك اشارة الى الأمر بالاستقامة ، واقامة الصلاة ، والنهي عن الركون الى الظالمين ، والمراد بالذاكرين المتعظون (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وفيه اشارة الى ان من يستقيم على الطريقة المثلى لا بد ان يلاقي الكثير من أهل الضلال والانحراف ، وان الصبر في جهادهم من أفضل الطاعات ، وأعظم الحسنات.

فلولا كان من القرون الآية ١١٦ ـ ١١٩ :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

اللغة :

القرون جمع قرن ، وهو أهل كل عصر ، وشاع تقديره بمائة سنة. وبقية الشيء ما يبقى منه ، يقال : بقية السلف الصالح أي من بقي منهم بعد ذهاب أكثرهم. والترف النعمة والجدة أي اتبعوا ملذات الدنيا فأبطرتهم وأفسدتهم ، يقال : أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته.


الإعراب :

لولا حرف يفيد الطلب والحث على الفعل مثل هلا. وكان هنا تامة بمعنى وجد ، وأولو بقية فاعل. وإلا قليلا منصوب على الاستثناء المنقطع ، أي ولكن قليلا. ويهلك منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، ومتعلق بخبر كان المحذوف أي وما كان ربك مريدا لهلاك أهل القرى. وأهلها مصلحون الواو للحال. وإلا من رحم (من) في موضع نصب على الاستثناء المتصل من واو لا يزالون. ولذلك خلقهم أي للرحمة. ولاملأن اللام جواب لقسم محذوف أي يمينا لاملأن. وأجمعين حال مؤكدة ، وصاحب الحال الجنة والناس.

المعنى :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ). بعد ان ذكر سبحانه ما حل بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الهلاك والدمار بسبب تمردهم وفسادهم في الأرض قال عز من قائل : ما وجد في تلك الأمم ـ وكان ينبغي ان يوجد ـ أهل خير وصلاح يصدون الظالم عن الظلم ، والمفسد عن الفساد .. ولكن ظلم المترفون : وسكت عنهم آخرون ، فاستحق الجميع عذاب الله وغضبه (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ). المراد بهؤلاء القليل الأنبياء ومن آمن معهم ، ومن الجارة في (ممن) بيان للقليل ، وفي (منهم) للتبعيض ، وضمير الجماعة يعود الى القرون ، والمعنى ان الفئة المؤمنة التي أنجاها الله من الهلاك كانت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، ولكن لا أمر لمن لا يطاع.

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ). المراد بما أترفوا فيه أموالهم وأملاكهم أي ان البقية الصالحة نهت المترفين عن الفساد في الأرض ، ولكن هؤلاء انقادوا الى الترف والنعيم ، وآثروا العاجلة على الآجلة ، وأصروا على الإثم والمعصية ، ولا سر إلا ترفهم ونعيمهم : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ـ ٣٥ سبأ».


(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) وإلا تساوى لديه المحسن والمسيء ، والصالح والطالح حاشا لله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) ـ ١٤٦ النساء».

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة :

منذ ان نزلت هذه الآية ، حتى اليوم ، وأكثر الناس ، أو الكثير منهم يقولون : ولما ذا لم يشأ ، ويا ليته شاء ليريح البلاد والعباد من احن الطائفية وويلاتها؟ ويتضح الجواب مما يلي:

١ ـ ينبغي قبل كل شيء أن نكون على يقين بأن الله سبحانه لا يريد لعباده وعياله ان يتباغضوا ويتناحروا ، كيف ، وهو القائل : «ولا تنازعوا فتفشلوا». وليس من الضروري إذا لم يكرههم على الوئام والوفاق ان يريد لهم النزاع والصراع .. فإذا قلت ـ مثلا ـ لا أحب أن يكون أولادي على رأي واحد في السياسة فليس معنى هذا انك تريدهم متقاتلين متناحرين.

٢ ـ ان للاكراه على الدين ـ بمعنى الاعتقاد ـ طريقين : الأول استعمال القوة. الثاني ان يخلق الله الايمان في القلب كما خلق اللسان في الفم ، والطريق الأول يتناقض مع مبدأ الدين نفسه ، بل ومنطق العقل أيضا ، لأن القوة لا تصنع الإيمان والاعتقاد ، بل العكس هو الصحيح فان الايمان الحق طريقه الأدلة والبراهين ، ومن أجل هذا عرض القرآن هذه الأدلة في أساليب شتى ، وحض الإنسان على النظر اليها وتدبرها ، لينتهي منها مختارا الى الايمان بالله ورسوله واليوم الآخر .. أما الأمر بالقتال من أجل الدين فالمراد منه القتال للعمل بشريعة الحق والعدل ، والحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه.

أما الطريق الثاني ، وهو ان يخلق الله الايمان في قلب الإنسان فإنه يخرج الإنسان عن انسانيته ، ويجعل أفعاله بالنسبة اليه ، تماما كالثمرة على الشجرة ، لا ارادة له ولا كسب ولا تفكّر وتدبّر لخلق الكون وما فيه ، ولا استحقاق لمدح أو ذم ، ولا لثواب أو عقاب على شيء. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ٣٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٣ و ٣٨٨.


والخلاصة ان الله سبحانه لم يشأ بطريق من الطرق أن يكره الناس على الايمان لأنه لو شاء لسلب عنهم صفة الانسانية ، وكانوا أشبه بالحيوانات والحشرات ، لا يتحملون أية تبعة ، ولا يحاسبون على شيء ، ولكن شاء الله سبحانه أن يميز الإنسان عن كل مخلوق ، ويرتفع به الى حيث لا شيء فوقه الا خالق الكون والإنسان .. ومحال أن يبلغ هذه العظمة من غير جهد واختيار ، ولذا أمده الله بالقدرة والإدراك والوجدان ، والهداية الى النجدين ، ثم ترك له حرية الاختيار ، ليتحمل وحده تبعة ما يختار ، وتتحقق له بذلك الانسانية الكافية الوافية.

فجاءت النتيجة أن يختلف الناس في عقائدهم وآرائهم. أنظر فقرة «ليس بالإمكان أبدع مما كان» ج ٢ ص ٣٨٤ ، وفقرة «الاختلاف بين الناس» ج ١ ص ٣١٨ (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أي ان الناس اختلفوا فيما مضى ، وسيستمرون على هذا الاختلاف الى الأبد ، لأنه نتيجة حتمية لجعل الإنسان مخيرا غير مسير ، يتجه الى حيث شاء وأراد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) والمراد بالمرحومين الذين يتوخون الحقيقة بإخلاص وتجرد ، وهؤلاء لا يتطاحنون ويتناحرون على الحطام ، وإذا اختلفوا فإنما يختلفون في الرأي ووجهة النظر «واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية». وتعدد وجهات النظر شيء مفيد ، لأن القول القوي هو الذي يكون قويا رغم وجود الأقوال الأخرى.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي أن الله خلقهم لرحمته وللتراحم فيما بينهم ، وانما تشملهم رحمته تعالى إذا طلبوا الحق وعملوا به لوجه الحق. وقال أبو بكر المعافري الأندلسي في أحكام القرآن : ان الله خلق الناس ليختلفوا فيما بينهم ، لا ليتراحموا ويتعاطفوا ، لأن الله بزعمه يريد الشر والكفر والمعصية ـ على حد تعبيره ـ ولا ينطق بهذا الا شر الناس وأجرأهم على الله ، لأن من يعبد ربا يريد الشر فبالأولى أن يكون هو مريدا له .. وان أراد الله الشر والكفر والمعصية كما يقول هذا المعافري فأي فرق بينه وبين من قال : «لأغوينهم أجمعين»؟ سبحانه وتعالى عما يصفه الظالمون.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي أنه تعالى يملأ جهنم بالعصاة أتباع الشيطان من الجن والإنس ، وفي هذا المعنى قوله تعالى خطابا لإبليس : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ـ ٨٥ ص».


وكلا نقص عليك الآية ١٧٠ ـ ١٢٣ :

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

اللغة :

نثبت نقوي. ومكانة الإنسان حاله التي تمكنه من العمل.

الإعراب :

كلا مفعول به لنقص عليك ، والتنوين عوض المضاف اليه المحذوف ، والتقدير وكل نبأ نقص ، ويجوز ان تكون كل مفعولا مطلقا على تقدير وكل القصص نقص عليك. ومن أنباء الرسل متعلق بمحذوف صفة لكل. وما نثبت به (ما) في موضع نصب بدلا من كل. وبغافل الباء زائدة اعرابا ، وغافل خبر ربك.

المعنى :

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). هذه اشارة الى السورة ، والذكرى التذكرة والاعتبار والمراد بتثبيت فؤاد الرسول (ص) أن يصبر ويتحمل الأذى في سبيل رسالته وتبليغها


الى الناس ، والمعنى ان الذي قصصناه عليك من أنباء الرسل مع أقوامهم هو حق لا ريب فيه ، وان الغرض منه أن نخفف عنك ما تلاقيه من الأذى ، فإن من رأى مصيبة غيره خفّت مصيبته ، وأيضا في هذه القصص عظة وعبرة لمن يتعظ ويعتبر.

وتجدر الاشارة الى أن المؤرخين القدامى كانوا يهتمون بالأحداث السياسية والدولية ، ثم اهتم الجدد بالاقتصاد والعلم والفن والأدب وغيره من نشاط الإنسان ، أما القرآن الكريم فإنه يستخلص من الأحداث العبر والعظات التي تهدي الإنسان الى سواء السبيل ، وقوله تعالى : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) صريح في ذلك ، ومثله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) مر نظيره في الآية ١٣٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٦٧. (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أيضا مر في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٨٩.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل سر عنده علانية ، وكل غيب عنده شهادة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ـ ٥٩ الأنعام» ج ٣ ص ١٩٩.

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ولا شيء يستطيع الهرب من سلطانه (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) الفاء للتفريع على ما قبلها أي إذا كان هذا شأنه جل وعلا فهو جدير بالعبادة والاعتماد عليه دون غيره ، وأمر الركوع والسجود سهل يسير ، أما الثقة بالله ، والإعراض عمن سواه فصعب وعسير الا على المتقين (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وفي نهج البلاغة : فلا تغفل فلست بمغفول عنك .. فيا حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة. والله سبحانه المسئول أن يعصمنا عما تعقبه الندامة والكآبة.



سورة يوسف



سورة يوسف

هي مكية ، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ان ٤ آيات منها مدنية : الآية ١ و ٢ و ٣ و ٧ ، ومجموع آياتها ١١١.

اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب المبين الآية ١ ـ ٣ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

الإعراب :

تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. وقرآنا حال من هاء أنزلناه. وعربيا حال من القرآن أو صفة له. وقال الطبرسي وأبو البقاء : يجوز أن يكون قرآن توطئة للحال مثل مررت بزيد رجلا صالحا ، فصالحا حال ، ورجلا توطئة له. وأحسن القصص مفعول مطلق لنقص بالنظر الى اضافة أحسن للقصص. وبما أوحينا (ما) مصدرية أي بوحينا ، ويجوز أن تكون موصولة أي بالذي أوحينا. وهذا مفعول أوحينا. والقرآن عطف بيان من هذا. وان كنت (ان) مخففة من الثقيلة ، واللام في (لَمِنَ الْغافِلِينَ) للفرق بين ان المخففة وان النافية.


المعنى :

(الر) تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ). تلك اشارة الى آيات هذه السورة ، والكتاب المبين هو القرآن ، وانما وصف بالمبين لأنه ظاهر على نبوة محمد (ص) ، ومظهر للهداية والرشاد.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). المعنى ظاهر ، وهو ان الله سبحانه أنزل القرآن بلغة العرب ليدركوا سره وعظمته ، ويعقلوا معانيه ، ويعملوا بها. وتسأل : ان محمدا (ص) أرسل لجميع الناس كما قالت الآية ٢٨ من سورة سبأ ، ونزول القرآن باللغة العربية يشعر بأن محمدا مرسل إلى العرب خاصة ، دون غيرهم ، فما هو طريق الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : أولا ان نزول القرآن بالعربية لا يستدعي أن يكون العرب وحدهم مكلفين بأحكامه وتعاليمه ، فالقرآن والمؤمنون به يصدقون بالتوراة التي أنزلت على موسى (ع) ، وبالإنجيل الذي أنزل على عيسى (ع) ، مع ان لغتهما غير لغة القرآن ومن آمن بالقرآن.

ثانيا : ان اللغة وسيلة ، والمعاني هي الغاية ، ومحال ان تكون المعاني كاللغة وقفا على قوم دون آخرين ، فإن القيم الانسانية يؤمن بها الناس ، كل الناس ، وبكلمة ان القوميات تتعدد بتعدد اللغات ، أما المعاني فمشاع بين الجميع ، لا قومية لها ولا جنسية.

ثالثا : إذا لم يرسل النبي بلغة قومه فبأية لغة يخاطبهم ، مع العلم بأنه لا توجد لغة إنسانية تعرفها جميع القوميات ، وهنا يكمن السر في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ـ ٤ ابراهيم».

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ). المراد بالقصص أنباء الرسل التي جاءت في القرآن الكريم ، وهي أحسن الأنباء لما فيها من العبر والحكم. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه الأنباء ، لأنها حدثت مند قرون ، وهي مجهولة على وجه العموم. وهذا دليل قاطع على انها وحي من الله. وما كانت معلومات النبي قبل الوحي تعد شيئا بالقياس الى علمه


بعد نزول الوحي عليه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ـ ٥٢ الشورى». ومن درس القرآن ، وتدبر معانيه ينتهي حتما إلى الإيمان بأنه لا يعقل ان ينبثق بمجموعه إلا عمن أحاط بكل شيء علما.

رأيت أحد عشر كوكباً الآية ٤ ـ ٦ :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

اللغة :

الرؤيا للمنام ، والرؤية لليقظة. والاجتباء الاختيار ، وأصله من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته ، كما قال الطبرسي. وتأويل الشيء الاخبار بمآله وعاقبته.

الإعراب :

يا أبت التاء عوض عن الياء ، لأن الأصل يا أبي ، فحذفت الياء ، وجيء


بالتاء بدلا عنها ، وقال أبو البقاء وأبو حيان الأندلسي : لا يجوز الجمع بين التاء والياء ، فلا يصح يا أبتي ، وقيل : التاء للتفخيم مثل تاء علّامة ونسابة. وأحد عشر من الأعداد المركبة ، وهي مبنية على الفتح صدرا وعجزا من أحد عشر إلى تسعة عشر ، ما عدا (اثنا عشر واثنتا عشرة) فان الصدر يعرب بالألف رفعا ، وبالياء نصبا وجرا ، أما العجز فيبنى على الفتح. وكوكبا تمييز. ورأيتهم تكرار لرأيت لطول الكلام ، وأعاد ضمير (هم) على الكواكب لأنها سجدت ، والسجود من صفات العقلاء. وساجدين حال لأن الرؤية هنا بصرية ، وليست قلبية كي تتعدى إلى مفعولين. وفكيدوا منصوب بإضمار ان على جواب النهي ، وكاد تتعدى بنفسها تارة ، وبغيرها تارة ، تقول : كاده وكاد له ، كما تقول شكرتك وشكرت لك. وكيدا مفعول مطلق. وكذلك الكاف بمعنى مثل في موضع نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي اجتباء مثل ذلك. وابراهيم واسحق بدلان من أبويك.

المعنى :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). يوسف هو ابن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل (ع) ، ويسمى يعقوب إسرائيل أيضا ، وكان معناه آنذاك عبد الله ، أما اليوم فإن إسرائيل عبد الاستعمار وقاعدته.

وفي ذات يوم رأى يوسف رؤيا قصها على أبيه يعقوب ، وهي انه رأى في منامه ١١ كوكبا والشمس والقمر سجدا له ، فعلم أبوه ان هذه رؤيا صادقة ، واستبشر بمستقبل ولده الذي كان يعزه ويؤثره. وفي جملة من التفاسير ان عمر يوسف كان إذ ذاك سبع سنين. ولا نعرف مصدرا صحيحا لهذا التحديد ، ولكنه كان غلاما يافعا بهي الطلعة ، جميل الهيئة ، يضرب المثل بحسنه وجماله ، كما يظهر من مجرى القصة وحوادثها ، أما الكواكب فهم اخوته في التأويل ، والشمس والقمر أبواه ، ويشعر بذلك قوله : «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» ويأتي التفصيل.


(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ). خاف عليه أبوه من اخوته ان هم سمعوا منه ما سمع ، وفهموا ما فهم ، لأنه يعرف غيرتهم مما خصه به من الحب والاعزاز ، فنصحه أن لا يحدثهم برؤياه خشية أن يثير حقدهم وكراهيتهم ، وان يغريهم الشيطان بالكيد له ، ونصب الحبائل لهلاكه. وسنتكلم عن الأحلام فيما يأتي من المناسبات.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ). يجتبيك أي يصطفيك على غيرك ، ويفيض عليك بأنواع الكرامات ، وقيل : المراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا ، لأن يوسف قد بلغ الغاية في تفسيرها ومعرفة مآلها .. ولكن ظاهر اللفظ أعم من ذلك ، والأنسب بنبوة يوسف أن يكون تأويل الأحاديث كناية عن معرفة الحقائق ، وان الله سبحانه سيعلمه ما لم يكن يعلم.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ). ان نعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى ، وأكملها إطلاقا النبوة والرسالة ، وقد أنعم الله بها على ابراهيم جد يعقوب ، وعلى اسحق جد يوسف ، وعلى يعقوب نفسه ، وسينعم بها على يوسف بعد هذه الرؤيا ، وعلى أكثر من واحد من أحفاد يعقوب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). عليم بمن يجتبيه ويصطفيه للنبوة والرسالة ، حكيم في هذا الاصطفاء وفي جميع قضاياه.

يوسف واخوته الآية ٧ ـ ١٥ :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي


غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

اللغة :

المراد بالآيات هنا العبر. والعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. والجب البئر. وغيابة الجب غوره وما غاب منه عن عين الناظر. وكل ما غيب شيئا وستره فهو غيابة. والسيارة جمع سيار ، وهو المسافر. ويرتع أي يتنعم.

الإعراب :

اللام في ليوسف في جواب القسم. ويخل مجزوم بجواب الأمر. وتكونوا عطف على يخل. وأرضا مفعول فيه لا طرحوه. وصالحين صفة للقوم. ويلتقطه مجزوم بجواب الأمر ، ومثله يرتع. والمصدر من أن تذهبوا به فاعل يحزنني. ومصدر أن يأكله مجرور بمن محذوفة. ومصدر ان يجعلوه مجرور بعلى أيضا محذوفة.

المصلحة فوق القرابة :

الإنسان عبد مطيع لإحساسه وشعوره ، وليس في استطاعته أن ينعزل عنه أو


يتجاهله. كيف؟ وهل ينفصل الشيء عن ذاته وهويته؟. والمحرك الأول لهذا الشعور هو المصلحة ، أي طلب اللذة ، وطرد الألم ، وهي المثل الأعلى للإنسان ، واليها يستند الدور الحاسم فيما يفعل أو يترك.

أما القرابة فليست بشيء يحرك الإنسان إذا لم تحقق له شيئا من اللذة ، أو تبتعد به عن الألم ، فحب الإنسان لقريب من أرحامه يقاس بهذه المصلحة ، وعلى نسبتها يضعف الحب أو يقوى ، وأوضح مثال على ذلك ان حزن القريب وأسفه على فقيد من أقاربه يأتي على مقدار نفعه منه في حياته ـ غالبا ـ ويصبح القريب من ألد الأعداء إذا تسبب في آلام قريبه ، أو أفسد عليه لذته وراحته .. فكم من والدة قضت على حياة وليدها لتشبع شهوتها (١) وتتمتع بلذتها؟. وكم من ولد استعجل ميراثه من أبيه فأودى بحياته؟. وقتل قابيل هابيل ، وهما أول أخوين انبثقا من نطفة واحدة ، وتكوّنا في رحم واحد .. وألقى أولاد إسرائيل يوسف في غيابة الجب ، ولم تأخذهم به رأفة على رغم القربى وصلة الدم.

ولذا قال علي أمير المؤمنين (ع) : «القرابة الى المودة أحوج من المودة الى القرابة» حتى المودة والصداقة مصدرها اللذة الروحية ، ولكن كثيرا ما يذهل الإنسان عن نفسه ، ويسهو عن واقعه ، فيشرح بمنطق القرابة ما يفعله بوحي من مصلحته.

وليس من الضروري أن تكون هذه المصلحة التي تحرك الإنسان شخصيته ، فإن المخلص الواعي يؤمن قولا وعملا بأن مصلحته فرع عن مصلحة الجماعة ، فيألم لألمها ، ويفرح لفرحها ، ويرى الخير ، كل الخير ، في احقاق الحق وإقامة العدل .. أما غير المخلص فلا يرى هما غير همه ، ولا حياة غير حياته ، تماما كما فعل أبناء إسرائيل بيوسف ، ليتمتعوا وحدهم بعطف أبيهم .. ولكن الله سبحانه عاقبهم بالحرمان ، وباءوا بغضب على غضب من الله ونبيه يعقوب ، وظفر يوسف بالعز والكرامة ، ووقفوا بين يديه أذلاء يعترفون بالذنب، ويطلبون

__________________

(١). قرأت في الصحف ان امرأة كانت مع عشيقها ، وطفلها الصغير نائم بالقرب منها ، ولما بكى أماتته خنقا ، وقرأت ايضا ان فتاة قتلت أبويها بالسم ، ولما سئلت قالت : أريد ان يخلو البيت لي ولعشيقي. وهكذا يرحل الدين والضمير والرحم إذا جاءت الشهوات.


العفو والصفح بقولهم : «تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين».

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ). ألقى أبناء إسرائيل يوسف في الجب ، لا لشيء إلا لأن أباه فضله عليهم بالعطف والحنان ، وحاربت قريش محمدا ، وبالغت في إيذائه ، وهو قرشي مثلهم ، لأن الله فضله عليهم ، وعلى الناس أجمعين ، ونصر الله يوسف على اخوته ، وكذلك نصر محمدا (ص) على عشيرته ، وفي ذلك عبر وعظات لمن أراد معرفة الحقائق ، ويعتبر بها.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). معنى هذه الآية وما بعدها ظاهر ، ومع هذا نعقب على كل آية بما يناسبها .. لما رأى أبناء إسرائيل ميل أبيهم الى يوسف وأخيه غلى الحقد والحسد في قلوبهم ، وقال بعضهم لبعض : ما الذي حمل هذا الشيخ على أن يؤثر هذين الصبيين علينا ، ونحن أكبر سنا ، وأشد قوة ، وأكثر نفعا وخدمة؟. إن هذا هو الحيف والضلال .. وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم ثانية اسمها راحيل ، وكثيرا ما يكون تعدد الأمهات سببا للحقد والحسد بين بني العلّات.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ). تآمروا على قتله ، لا لشيء باعترافهم إلا ليحتكروا عطف أبيهم من دونه .. وهذا هو منطق الاحتكار والمحتكر .. اقتل وشرد .. حتى الأقارب والأرحام حرصا على الأرباح والمكاسب.

(وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ). قال كثير من المفسرين : ان المراد بالصلاح هنا صلاح الدين ، وانهم يتوبون الى الله بعد فعلتهم الشنعاء. ولكن ظاهر السياق يدل على ان المراد بالصلاح صلاح شأنهم مع أبيهم ، وان يتفرغ لهم وحدهم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ). السيارة هم المسافرون. وعن سفر التكوين من التوراة ان الذي أشار عليهم بهذا هو أخوهم روبين ، وانه قد كان في نيته أن يخرج يوسف من الجب بعد ذهاب اخوته.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ). نحبه ونريد له الخير .. وهكذا الغادر الماكر في كل زمان ومكان ، ذئب في جلد حمل (أَرْسِلْهُ


مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). لقد علموا ان أباهم يحب يوسف ، ويحب أن يتنعم ويفرح ، وعلموا أيضا شدة حرصه عليه ، فدخلوا الى نفسه من أبوابها .. يوسف يلعب ، وهم يحرسونه من كل مكروه .. حاميها حراميها. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ). اعتذر اليهم بأنه لا يطيق فراق يوسف. فضاعف هذا العذر من حقدهم على يوسف. وأيضا اعتذر بأنه يخاف عليه من الذئب ، وعقّب الرازي على هذا العذر بقوله : «وكأنه قد لقنهم الحجة ، وفي الأمثال : ان البلاء موكل بالمنطق».

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ). أي عاجزون لا نصلح لشيء : واغتر الشيخ بقولهم وأرسل معهم يوسف ، وكانوا من القوم الخاسرين (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) ونفذوا ما أجمعوا عليه ، وهم يحسبون انهم قد أصابوا ما يريدون .. ولكن يوسف فوّض أمره الى الله فوقاه سيئات مكرهم (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فألقى الله في روع يوسف انك ناج من محنتك هذه ، وانك سوف تخبرهم بصنيعهم هذا دون أن يعرفوا من أنت.

بين أولاد إسرائيل وأولاد العلماء :

وبهذه المناسبة نذكر أوجه الشبه بين بعض أولاد العلماء بالدين ، وأولاد إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب.

قال أولاد إسرائيل : «ان أبانا لفي ضلال مبين».

وبهذا الوصف ينعت بعض أولاد العلماء آباءهم إذا قالوا كلمة أو تصرفوا تصرفا لا يعجبهم ولا يتفق مع أهوائهم ، حتى ولو كان وحيا منزلا.

وقال أولاد إسرائيل : «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين».

وهكذا يفعل بعض أولاد العلماء .. يتآمرون على الناصح الأمين ، ويدسون عليه الدسائس والمفتريات ليخلو لهم وجه أبيهم وللشياطين من أمثالهم ، ثم يوحون اليه


بما استوحوه من وسطاء الشر وعملاء الشيطان ، ويقبضون الأجر بالعملة الصعبة والنقد النادر ، وكلما كان التأثير بالغا تضاعف الأجر.

وجاء أولاد إسرائيل على قميص يوسف «بدم كذب».

وفي كل يوم يحمل بعض أولاد العلماء لأبيهم أحاديث وروايات ابتدعوها ظلما وزورا ينالون بها من مقام المخلص الأمين ، ويرفعون من شأن الخائن العميل عند أبيهم ليأخذ منه ومنهم دون مراقب ومعاتب.

وجاء أولاد إسرائيل «أباهم عشاء يبكون» يسترون فعلتهم الشنعاء بالنفاق ودموع التماسيح.

وتظاهر أولاد العلماء أمام أبيهم المقدس بالتقى والقداسة كذبا ورياء ، لينخدع بدسائسهم ومؤامرتهم.

وجاؤ آبائهم عشاء يبكون الآية ١٦ ـ ٢٠ :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))


اللغة :

الاستباق من السبق ، ومنه المسابقة ، ويكون برمي السهام ، وعلى الخيل والإبل ، وعلى الأقدام. والمراد بالمتاع هنا ما يحمله المسافر من زاد ولباس. وسولت زينت. والوارد هو الذي يتقدم القوم ليستقي لهم. والدلو مؤنث ، وقد يذكّر ، وأدلى دلوه أرسلها في البئر. ويا بشرى كلمة تقال عند البشارة ، مثل يا عجبا تقال عند التعجب. وأسرّوه أي انهم وجدوه في الجب : وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم. وبضاعة أي سلعة ومكسبا. وشروه باعوه. والبخس النقص من الحق ، يقال : بخسه الكيل إذا أعطاه دون حقه.

الإعراب :

عشاء ظرف زمان منصوب بجاءوا. وجملة يبكون حال ، ومثلها جملة نستبق. وعلى قميصه حال مقدم من دم كذب. فصبر جميل (صبر) خبر لمبتدأ محذوف ، وجميل صفة لصبر أي فأمري صبر جميل. ويا بشرى منادى أي احضري يا بشارة فهذا أوانك. وبضاعة حال. ودراهم بدل من ثمن.

المعنى :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) تمويها لما لفقوا من الكذب والتزوير (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في العدو أو الرمي (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ). وفي الأمثال : براءة الذئب من دم يوسف. ونقل عن أحد القصاصين القدامى انه كان يحكي قصة يوسف لجماعة ، ولما وصل الى الذئب قال : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف (هكذا). فقال له بعض من حضر : ان الذئب لم يأكل يوسف. فقال القصاص : فليكن هذا الاسم للذئب الذي لم يأكل يوسف. (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) لأنها كذبة مكشوفة (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ). وعن الإمام علي (ع) : كفى بالكاذب عقوبة انه إذا قال الصدق لا يصدّق.


(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) المعنى ظاهر ، ولما لم يجد المفسرون ما يقولونه اختلفوا في الدم الذي جاء به أولاد إسرائيل : هل هو دم ظبي أو دم سخلة. وقال آخر : على هنا بمعنى فوق. وقال غيره : لما رأى يعقوب قميص ابنه صحيحا قال : والله ما رأيت أحلم من هذا الذئب أكل ابني ولم يمزق قميصه ، أما نحن فنؤمن بأن يعقوب (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). هذا ما نزل به الوحي في جواب يعقوب لأولاده ، ولا دليل على غيره. وتومئ الآية إلى أن يعقوب شعر بكذبهم لحسدهم الشديد ليوسف ، ولكنه صبر مفوّضا أمره الى الله.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) جماعة من المسافرين ، وفي سفر التكوين من التوراة انهم كانوا من الاسماعيليين أي من العرب لأنهم ينتهون بنسبهم الى إسماعيل بن ابراهيم (ع). (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي من يرد الماء ويأتيهم به (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أرسله في البئر ولما رأى الوارد يوسف في البئر (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يبشر نفسه أو جماعته بهذه الغنيمة ، فأخرجوه من البئر (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي من الناس ، لئلا يتعرف عليه أهله ، واعتبره السيارة رقيقا من جملة سلعهم التجارية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ). هذا تهديد للسيارة أخفوا أمره ، وعرضوه للبيع على انه رقيق ، وهو حر.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ). شرى الشيء باعه. واشتراه ابتاعه. والبخس القليل الناقص عن ثمن المثل. وقال كثير من المفسرين : ان أهل ذاك الزمان كانوا يزنون الثمن إذا كان كثيرا ، ويعدونه إذا كان قليلا ، وان قوله تعالى : دراهم معدودات يشير الى قلة ثمن يوسف (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) حيث تعجلوا التخلص منه بأبخس الأثمان ، لئلا يتهموا بسرقته.

وقال الذي اشتراه الآية ٢١ ـ ٢٢ :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا


أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

اللغة :

الثواء الاقامة ، والمثوى موضع الاقامة ، والمراد بأكرمي مثواه أحسني معاملته. ومكّنا له في الأرض جعلنا له مكانة فيها. وبلغ أشده أي استكمل قوته جسما وعقلا.

الإعراب :

مصر لا تنصرف للعلمية والتأنيث. وعسى تامة ، والمصدر من أن ينفعنا فاعل. ولنعلمه منصوب بأن مضمرة ، والمصدر مجرور باللام ، ومتعلق بفعل محذوف أي ولتعليمه من تأويل الأحاديث مكناه.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). عرض يوسف للبيع في أسواق مصر ، فاشتراه العزيز ، وهو لقب لأكبر وزراء الملك وأمنائه ، والذي دلنا على انه هو المشتري قوله تعالى : «وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه» .. وقد توسم العزيز في يوسف الذكاء والنجابة ، فأوصى به خيرا ، وقال لامرأته : احسني معاملته ، واكرمي إقامته عندنا ، وعلل ذلك بأنه يرجو إذا بلغ يوسف أشده أن يقوم بتدبير شئونهم ،


أو يتبنوه ، لأن العزيز كان عقيما ، لا ولد له ، كما قال أكثر المفسرين. والآية تومئ الى ذلك (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ). أنعم الله على يوسف بالنجاة من كيد اخوته وإخراجه من البئر ، ثم بجعله في بيت العزيز ، بيت الجدة والرفاه ، وبتمكنه في قلب صاحب البيت ، ثم بتعليمه حقائق الأمور ، ومنها تعبير الرؤيا ، وهذه النعم وما اليها قد رفعت من شأن يوسف عند الناس ، وجعلته محلا لثقة الجميع واحترامهم ، ومهدت له أن يتولى خزائن الأرض في مصر ، وان يقول له ملكها : «انك اليوم لدينا مكين أمين».

(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ). أراد اخوة يوسف له الشر ، وأراد الله له الخير «إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون». (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان الأمر لله وحده ، وان من طغى وبغى مغترا بحوله وطوله أخذه الله من مأمنه أخذ عزيز مقتدر.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً). بلغ أشده أي اشتد واستكمل قوته جسما وعقلا ، وفي الغالب يبدأ هذا الاشتداد ببلوغ المرء سن الثلاثين ، ويستمر الاشتداد الجسمي حتى الأربعين ، وفي هذه المدة يتم الاستعداد للنبوة وتلقي الوحي ، والمراد بالحكم هنا الحكمة ، وهي وضع الشيء في موضعه ، ومنها وآتيناه الحكم صبيا ، والمعنى ان يوسف بعد أن استكمل الرشد منحه الله العلم ، ووفقه الى العمل به. وقيل : المراد بالعلم هنا النبوة ، وليس هذا ببعيد لأن يوسف من الأنبياء (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). لقد أحسن يوسف بصبره وطاعته لله ، فأحسن الله اليه ، لأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقالت هيث لك الآية ٢٣ :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣))


اللغة :

المراودة المطالبة برفق ولين مع ضرب من المخادعة. وهيت أقبل أو أسرع.

الإعراب :

هيت اسم فعل بمعنى اقبل أو اسرع. واللام في لك لبيان الفاعل أي اسرع أنت ، مثل سقيا لك ، وشكرا لك. ومعاذ الله منصوب على المصدر. وضمير انه للشأن ، وجملة لا يفلح الظالمون خبر.

المعنى :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ). راودته كلمة تدل على ان المرأة خادعت الرجل وراوغته ليريد منها ما تريده منه ، وهذه الكلمة بمفردها غاية في الاحتشام ونزاهة التعبير .. ولكن بعض المفسرين سود في شرحها وتفسيرها صفحات عرض فيها صورا لاغراء امرأة العزيز يوسف بمحاسنها ومفاتنها ، ولا مصدر لذلك إلا الاسرائيليات. قال صاحب المنار ، ونعم ما قال :

«نقل رواة الاسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة انه كذب ، فان مثله لا يعلم إلا من الله تعالى ، أو بالرواية الصحيحة ، ولا يستطيع أحد ان يدعي هذا»(١).

الإنسان والمال والجنس :

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ). وتساءل مصطفى صادق الرافعي : لما ذا قال : وغلقت

__________________

(١). نقل الشيخ المراغي هذه العبارة بالحرف ، ولم يشر الى مصدرها ، او يضعها بين قوسين ، وهكذا فعل في الكثير من أقوال صاحب «تفسير المنار» ، ينقلها موهما انه هو القائل .. وللشيخ رأيه.


الأبواب ، ولم يقل : وأغلقت الأبواب؟. وأجاب : «بأن هذا يشعر انها لما يئست ورأت منه محاولة الانصراف أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة ، وتجري من باب إلى باب ، وتضطرب يدها في الاغلاق كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط».

أما نحن فلا نرى أي فرق بين غلقت وأغلقت ، وان دل تصوير الرافعي على شيء فإنما يدل على مكانته في الأدب ، ومقدرته على إخراج شيء من لا شيء. ومهما يكن فقد عاش يوسف مع امرأة العزيز تحت سقف واحد أمدا غير قصير ، وكان في ريعان شبابه ، وضيء الطلعة ، فتانا في هيئته ومنظره .. فلا عجب أن تفتتن به ، وتتهالك «امرأة». وأيضا لا عجب أن يصمد يوسف (ع) لوسائلها ، وينجو من حبائلها على رغم ان الجنس صرع كثيرا من العقول .. فليس الإنسان عبدا لغريزة الجنس فقط ، كما قال فرويد : ولا للرغبة في المال والاقتصاد ، كما قال ماركس : وانما هو مسير بكثير من الدوافع والمحرضات ، منها الجنس والمال ، ومنها الشهرة والسيطرة ، ومنها الدين والعادات ، وحب الخير والوطن ، ونحو ذلك.

وقد يتنازع الإنسان عاملان متضادان : خيّر يهديه إلى سبيل النجاة ، وشرير يسوقه إلى طريق الهلاك ، ويتذبذب هو بينهما أمدا يطول أو يقصر الى ان يتغلب أحد العاملين على الآخر ، وقد يستمر التوازن بينهما إلى النهاية ، فيبقى الإنسان حائرا مذبذبا تبعا لهذا التوازن مدى حياته.

وقد تنازع امرأة العزيز عاملان : شهوتها الحيوانية تدعوها الى مراودة يوسف عن نفسه ، وينهاها العز والكبرياء عن التذلل لمن ابتاعه زوجها بثمن بخس ، وبقيت تتذبذب حائرة بين هذين العاملين أمدا غير قصير ، ثم انهارت أعصابها ، ووقعت فريسة النزوة وشهوة الجنس التي تجسمت في قولها الثائر الفاجر : «هيت لك» .. ولا تقولها أنثى إلا إذا اشتد اهتياجها وغليانها حتى بلغ الجنون.

أما يوسف (ع) فلم يكن له الا دافع واحد ، ورغبة واحدة هي التي تقوده وتسيره ، ولا ذرة لغيرها في قلبه وعقله .. وهي تقوى الله ومرضاته ، فهي هي لذته ومتعته ، ومطلبه وأمنيته : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ


الظَّالِمُونَ) .. أعوذ بالله أن أعصي له أمرا ، كيف؟ وقد أفاض علي الكثير من فضله وإحسانه ، إذ أخرجني من البئر ، وسخر لي قلب العزيز الذي أنزلني منه منزلة الأبناء الأبرار .. كيف أظلم نفسي بمعصية الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين؟. وهكذا يصنع الايمان الصادق بأهله ، يعصمهم من المحرمات ، ويبتعد بهم عن الهفوات إذا خاضوا المعارك مع الشيطان وحزبه.

وقال أكثر المفسرين : ضمير (إِنَّهُ رَبِّي) يعود الى العزيز زوج المرأة ، وان المعنى قد أكرمني زوجك وأحسن إليّ فكيف أخونه فيك؟ .. أما السياق فيرجح رجوع الضمير الى لفظ الجلالة لقربه منه في قوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي). وليس للعزيز ذكر في الآية على الإطلاق .. بالاضافة الى أن الدافع لامتناع يوسف عنها هو الخوف من الله ، وليس مجرد الوفاء للعزيز .. وعلى افتراض رجوع الضمير الى العزيز فإن المقصود توبيخها والتعريض بها ، وان الأولى بها أن تكون تقية وفية لزوجها الذي سمت به الى علو الدرجات.

ولقد همت به وهم بها الآية ٢٤ ـ ٢٩ :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ


كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

اللغة :

قال الطبرسي في مجمع البيان للهمّ معان ، منها العزم ، ومنها خطور الشيء بالبال دون العزم عليه ، ومنها الرغبة كقول القائل : هذا أهم الأشياء إليّ. والقد شق الشيء طولا أي قطعت قميصه طولا من خلف. واستبقا الباب تسابقا اليه ، وألفيا أي وجدا.

الإعراب :

المصدر من ان رأى مبتدأ ، والخبر محذوف ، وجواب لولا محذوف أيضا ، والتقدير لولا رؤيته برهان ربه كائنة لهمّ بها. كذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب مفعولا لفعل محذوف أي أريناه مثل ذلك لنصرف ، والمصدر من أن نصرف مجرور باللام متعلقا بأريناه المحذوفة. والباب منصوب بنزع الخافض أي واستبقا الى الباب ، مثل واختار موسى قومه أي من قومه. ما جزاء (ما) نافية ، وجزاء مبتدأ ، والمصدر من أن يسجن خبر ، أي السجن. أو عذاب عطف عليه. يوسف منادى أي يا يوسف أعرض عن هذا.

المعنى :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). في المجلد الأول من هذا التفسير ص ٨٦ و ١٩٦ والمجلد الثاني ص ٣٥٩ تكلمنا عن العصمة ، وان الأنبياء كلهم معصومون. وعلى هذا تفرع السؤال الآتي : ان يوسف معصوم


لأنه نبي ، وقوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) يومئ الى عزمه على القبيح ، والاستجابة لمراودة التي هو في بيتها؟.

وأجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة بعضها فيه وقاحة ، وبعضها بعيد عن ظاهر الكلام .. وأقرب الأجوبة الى الظاهر ومقام الأنبياء ان في الآية تقديما وتأخيرا ، والأصل هكذا (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). ومعنى هذا انه ما همّ بها إطلاقا ، تماما كقول القائل : لولا فلان لهلكت.

وببيان ثان : ان جميع المقتضيات كانت متوافرة للفعل ، فالمرأة باذلة بل متهالكة ، وهو قوي وقادر من حيث الرجولة ، والخلوة تامة بأكمل معانيها ، فلا سامع ولا ناظر .. ولكن هناك مانع ليوسف أقوى من كل زاجر ، وأعظم من كل سامع وناظر ، وهو علمه بحلال الله وحرامه ، وحياؤه منه ، ويقينه بأن الله أقرب اليه من حبل الوريد ، وانه يعلم ما توسوس به نفسه ، بل وما هو أخفى من ذلك .. هذا هو البرهان الذي منع يوسف عن التفكير بالحرام ، ويمنع كل من آمن حقا وصدقا بالله واليوم الآخر ، نبيا كان أو غير نبي ، وقال قائل : ان يوسف ما تجلى له برهان ربه هذا الا حين همّت به ، وهمّ بها .. حاشا للأنبياء والصديقين .. ان برهان الله لازم لا ينفك بحال عن المؤمنين الصادقين منفردين ومجتمعين بالحسان وبغير الحسان.

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ). السوء كيد امرأة العزيز ، والفحشاء الزنا ، والمعنى ان الله مع المتقين الذين يلتجئون اليه مخلصين ، فيحرسهم ويصونهم ممن أراد بهم سوءا ، أو حاول ان يوقعهم في الضلالة والغواية ، تماما كما فعل بيوسف ، التجأ الى ربه ، وخاطبه مخلصا بقوله : «والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم».

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ). حاول يوسف التخلص منها بالفرار من بيتها ، فعدت خلفه كالجمل الهائج ، وأدركته قبل أن يهرب من الباب ، وجذبت قميصه من الخلف فشقته طولا .. وهنا وقعت المفاجأة بمجيء الزوج صدفة (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ). قال صاحب تفسير المنار : «كان النساء


في مصر يلقبن الزوج بالسيد ، واستمر هذا الى زماننا». دخل سيدها البيت فرأى يوسف واقفا ، وقميصه ممزقا ، وقبل أن يسأل عن الخبر (قالَتْ) ـ له ـ (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ). قالت هذا بكل هدوء ، ودون أن يظهر عليها أي أثر للمفاجأة ، قالت لزوجها : ما جزاء من أراد بي السوء ـ وهي نفسها السوء ـ ومع هذا تتهم الطهر والقداسة بالسوء ، وتطلب معاقبته عليه.

ويذكرنا هذا بالذين يثيرون الآن الحروب في فيتنام والشرق الأوسط والكونغو وغيرها ، ويسلحون الجلادين للفتك بالمستضعفين في أنغولا وجنوب افريقيا وروديسيا ، وأمريكا اللاتينية وغيرها ، ويقيمون ضد من يخرج عن طاعتهم أكثر من ألف قاعدة عسكرية في شرق الأرض وغربها مجهزة بأنواع المبيدات البشرية ، ومع هذا يدعون انهم قتلوا الفيتناميين ، وسلحوا إسرائيل ، ودفعوها الى العدوان والتقتيل والتخريب والتشريد للمحافظة على السلم ، وأمن الشعوب ، وصيانة حقوق الضعفاء. ـ اذن ـ أية غرابة بعد هذا إذا انقادت «امرأة» لنزوتها ، وكذبت على زوجها لتستر خطيئتها؟.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). وأنا امتنعت عليها ، وفررت منها ، فلحقت بي ، وفعلت بثوبي ما ترى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). تكلم المفسرون ، وأطالوا هذا الكلام حول هذا الشاهد ، فمن قائل : انه ابن عمها ، وقائل : انه من أصحاب زوجها ، وذهب آخرون الى انه كان صبيا في المهد .. أما نحن فنقف عند ظاهر الوحي الذي دل على ان الشاهد كان من أسرتها ، وانه كان بالغا راشدا لقوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ). هذا ما نطق به الوحي ، أما أين كان هذا الشاهد؟. ومتى أدلى بشهادته؟. وهل جاء صدفة ، أو بدعوة منها أو من زوجها ، اما هذا أو غير هذا فقد سكت الله عنه ، وفي الحديث : ان الله سكت عن أشياء فلا تتكلفوها.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). اقتنع الزوج وأيقن بصدق يوسف (ع) وكذبها ، ولكنه رأى الستر والكتمان


أولى من التشهير والفضيحة ، فاكتفى بقوله لها : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) .. وهذا الوصف يعجب النساء لأنه شهادة بذكائهن وان الرجال لا يفطنون لمكرهن وحيلهن.

وتسأل : جاء في هذه الآية : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). وجاء في الآية ٧٥ من سورة النساء : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). فهل معنى هذا ان كيد النساء أقوى وأعظم من كيد الشيطان؟.

الجواب : ان كيد النساء من كيد الشيطان ، فكيده أصل ، وكيدهن فرع. والمراد بضعف الشيطان في كيده انه لا سلطان له على عباد الله الا من اتبعه من الغاوين ، والمراد بعظمة النساء في كيدهن انهن أقوى جنود الشيطان وأتباعه ، فقد روي عن إبليس انه قال : النساء فخوخي ومصائدي ، فإذا اجتمعت عليّ لعنات الصالحين ذهبت الى النساء فطابت نفسي بهن ..

ثم قال العزيز (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا). اكتمه يا يوسف ، ولا تخبر أحدا بما حدث ، وقال لزوجته : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ). وهذا دليل قاطع على ان الزوج أيقن ببراءة يوسف ، وخطيئة زوجته. وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط» : «كان العزيز قليل الغيرة ، وهذا مقتضى طبيعة تربة مصر وبيئتها». ورد عليه صاحب «تفسير المنار» بقوله : «هذا كلام غير مبني على علم صحيح» ونضيف اليه ان مبعثه الهوى والغرض.

وانما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخطيئة تصدر من الرجال والنساء ، ولفظ خاطئين يصح إطلاقه على الجميع من باب التغليب ، أما لفظ خاطئات فيختص بالإناث فقط.

القضاء بشاهد الحال :

ليس المراد بالشاهد في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ) من نص الشارع على الأخذ بشهادته في فصل الخصومات ، وانما المراد به الخبير الذي يستنتج بذكائه من واقعة معلومة لديه معرفة واقعة مجهولة ، فشق القميص معلوم وثابت بالعيان ، وقد جرت


العادة إذا أخذ الإنسان من خلفه أن يتمزق ثوبه من هذه الجهة ، وإذا أخذ من أمامه أن يتمزق من الأمام ، وبهذا توصل قريب امرأة العزيز الى التمييز بين الصادق والكاذب.

وبهذه المناسبة نشير الى ان ما يمكن الاعتماد عليه لمعرفة الحق المتنازع فيه ينحصر في ثلاثة أنواع :

النوع الأول : كل ما من شأنه أن يفيد العلم بالضرورة واللزوم العقلي ، مثل أن يدعي من بلغ الأربعين انه ابن أو أب لمن هو في هذه السن أو ما دونها بقليل ، أو يدعي بأنه ورث عن أبيه هذه البناية مع العلم بأن أباه عاش ومات فقيرا ، ولم يترك شيئا لوراثه .. وهذه الدعوى وأمثالها ترفض ابتداء ، ولا يفتقر ردها الى نص من الشارع ، لأنها مردودة بطبعها ، وبالاحساس الغريزي عند كل انسان ، ويحكم على مدعيها بكل ما يستدعيه الرد ويلزمه من الآثار.

النوع الثاني : ما نص الشارع صراحة على العمل به ، والاعتماد عليه في الحكم كالاقرار واليد وشهادة العدلين ، ويسمى هذا النوع في اصطلاح فقهاء الشريعة الاسلامية ، بالبينة الشرعية ، وعند أهل الشرائع الوضعية بالقرينة القانونية ، واتفق الجميع على ان القاضي يجب عليه أن يتعبد ويحكم بما نص عليه الشارع ، سواء أحصل له العلم منه ، أم لم يحصل.

النوع الثالث : ما يستخرجه القاضي باجتهاده وذكائه من القرائن التي ترافق موضوع الدعوى وظروفها ، وهي لا تدخل تحت حصر ، لأنها قرائن خاصة تستنتج من دعوى خاصة. وبديهة ان لكل دعوى موضوعها وظروفها ، ولكل قاض فهمه واجتهاده .. ومن هذه القرائن ان كان قميصه قدّ من قبل الخ ، ومنها أيضا ما نسب لسليمان بن داود ، أو الإمام علي (ع) من الحكم بين المرأتين اللتين ادعتا الولد ، وقوله : ائتوني بسكين أشقه بينهما ، فسمحت إحداهما دون الأخرى ، فقضى به لهذه.

وأغرب ما قرأته في هذا الباب ما نقله «الشاطبي» في «الموافقات» ج ٢ ص ٢٦٧ المسألة الحادية عشرة : «ان أبا بكر أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا


رؤيت». أي ان رجلا مات ولم يوص في حياته ، ثم أوصى بعد موته ، وأبلغ وصيته لمن أراد في المنام ، فنفذ أبو بكر هذه الوصية.

أمرأة العزيز ونسوة المديبة الآية ٣٠ ـ ٣٥ :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

اللغة :

شغفها أي بلغ شغاف قلبها ، وهو غلاف القلب على هيئة الكيس. والمراد بكيدهن قولهن الذي أردن به اغضابها ، واشاعة أمرها. وأعتدت أعدّت


وهيأت. والمتكأ ما يتكأ عليه من فرش ونحوه. وقطّعن أيديهن جرحنها. فاستعصم طلب العصمة وامتنع عما أرادت منه.

الإعراب :

وقال نسوة أي جمع النسوة. وحبا تمييز محول عن فاعل أي شغفها حبه ، مثل طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد. ومتكأ أصله موتكأ لأنه من توكأ ، فأبدلت الواو تاء وأدغمت التاءان. وحاش لله أصلها حاشا ، وحذفت الألف تخفيفا ، وهي فعل ماض ، والفاعل ضمير مستتر يعود الى يوسف. ولله اللام حرف جر : والمعنى بعد يوسف عن المعصية لأجل طاعة الله. وقيل : الله فاعل واللام لبيان الفاعل أي حاشا الله. وما هذا بشرا (ما) نافية تعمل عمل ليس على لغة أهل الحجاز ، وهذا اسمها وبشرا خبرها. وان هذا (ان) نافية بمعنى ما. وذلكن (كن) للخطاب ، لا للضمير ولا محل له من الاعراب ، وذا اسم اشارة مبتدأ ، والذي لمتنني فيه خبر. وليكونا من الصاغرين الأصل ليكونن بالنون الخفيفة ، وكتبت بالألف تبعا لخط المصحف. مثل لنسفعا بالناصية. وربّ أصله يا ربي. والسجن أحب مبتدأ وخبر. وإلا مركبة من كلمتين : ان الشرطية ولا النافية.

المعنى :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). شاع في مصر ، وبالخصوص على ألسنة النسوة ان امرأة العزيز افتتنت بغلامها ، ودعته لنفسها ، ولكنه عزف عنها وزهد فيها ، وقد اجترحت بهذا خطيئة لا تغتفر.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بقولهن ، وأطلق المكر هنا على القول لأنهن ما أردن به وجه الحق ، بل أردن مجرد التشهير بها. وقال بعض المفسرين : لعلهن لمنها لانكشاف المراودة وظهورها ، وانه كان الأولى بها ان تحكم الخطة ليتم كل


شيء تحت الستار .. ويصح هذا القول في الفاجرات ، لا العفيفات (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً). أرادت أن تمكر بهن كما مكرن بها ، فأقامت لهن مأدبة في قصرها ، وحاطتهن بهالة من النعيم : متكآت وثيرة وأرائك مريحة ، وطعام سخي شهي ، وأعطت كل واحدة سكينا حادة لتقطع بها اللحم والفاكهة .. واستعمال السكين في الأكل آنذاك يومئ الى الحضارة. وفي تفسير الطبري ان السكاكين لا تدفع الى من دعي الى مجلس إلا لقطع ما يؤكل ، فذكرها يغني عن ذكر المأكول الذي قطعت به.

(وَقالَتِ) ـ ليوسف ـ (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) من شدة الدهشة والذهول ، وقال المفسرون : قطعن أي جرحن ، ولكن الظاهر من القطع الابانة ، لا الجرح .. ومهما يكن فان مثل هذه الحادثة تفسر بالاجتهاد فيما تستدعيه ظروفها وملابساتها ، لا بالنص الحرفي لدلالة اللفظ (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) في صورة البشر لهيبته وجماله الذي جر عليه أنواع البلاء والمحن.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ). قالت هذا بلغة الحرية التي تطالب بها فئة من بنات الجيل الجديد ، حرية بلا مسؤولية ، حتى في التهتك والتفسخ .. ونحن من أنصار الحرية للرجال والنساء ، ولكن في حدود المسئولية عن الأقوال والأفعال (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) على المكشوف (فَاسْتَعْصَمَ) انصرف عني وأعرض (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ). قال صاحب «تفسير المنار» : «والله ما عجبي من يوسف ان راودته مولاته فاستعصم .. وانما عجبي بل اعجابي بيوسف (ع) ان نظره الى الله لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا». ونعطف على هذا القول ان الله سبحانه ضرب يوسف مثلا للمؤمن المخلص ليعرف به المؤمن المزيف الذي يكيف الدين حسب أهوائه وأغراضه.

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). ليس المراد بأحب هنا التفضيل ، بل مجرد الاختيار ، تماما كقولك : الصحة أحب إليّ من المرض. وقال يدعونني بصيغة الجمع لأن النسوة اللاتي رأينه رغبن فيه أيضا بدليل الآية ٥٠


«قال ارجع الى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء» .. وآثر يوسف السجن لأنه على مرارته أحلى عاقبة من لذة الحرام ، ومهما اشتدت وطأة السجن فإن الدين أقوى منه.

وتسأل : إذا خيّر المرء بين الزنا والسجن ، ولا مفر له من أحدهما ، فهل يجوز له أن يزني؟.

الجواب : لا يجوز لأن الخيار وقع بين الزنا المحرم ذاتا ، وبين السجن الذي تقع تبعته على الظالم ، لا على المظلوم الا إذا كان السجن علة تامة لمحرم أشد وأعظم ، فيجوز حينئذ أن يزني دفعا لأشد الضررين ، وارتكابا لأخف المحذورين ، ولذا إذا خيّر بين الزنا والقتل فعليه أن يختار الزنا .. هذا في غير المعصوم ، لأن المعصوم له حكم آخر.

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ). لما كثر على يوسف الإغراء والتهديد خاف على نفسه أن تضعف في جنب الله ، ففزع اليه تعالى يطلب المخرج ، ويقول : إلهي لقد نزل بي ما لا طاقة لي به الا بمعونتك ، وأنت القادر على كشفه ، فإن لم تكشفه عني تضعف قوتي ، وتقل حيلتي (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) كما استجاب له من قبل وصرف عنه كيد اخوته ، وما أخلص عبد لخالقه الا جعل له فرجا ومخرجا : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ـ ٤٧ الروم» (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع دعاء من تضرع اليه ، ويعلم اخلاص من أخلص له.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). ضمير لهم يعود الى العزيز وامرأته ومن على رأيهما ، وقيل : يعود الى العزيز وحده ، وصح بصيغة الجمع لأنه لم يذكر باسمه ، والمراد بالآيات الدلائل التي دلت على براءة يوسف ونزاهته ، و (حَتَّى حِينٍ) أي يسجن سجنا مؤقتا ، لا مؤبدا .. ولا ذنب له الا الطهر والعفاف ، ولو كان خائنا مثلهم لرفعوه مكانا عليا .. أبى يوسف ان ينصاع لرغبة المجرمين فعاقبوه كمجرم .. وهكذا في جميع أدوار التاريخ يعاني الحر الكريم إذا ألقى به القدر في بيئة الظلم والفساد ، ولكن الله مع الذين اتقوا


وصبروا على الهول في سبيله ، لا في سبيل أنفسهم ، ويمد للباغي أمدا ، ثم تدور عليه دائرة السوء ، ويؤيد الله بنصره من آمن وصبر ، تماما كما حدث ليوسف مع اخوته وامرأة العزيز ، حيث قال له اخوته بعد ان آتاه الله الملك : «تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين». وقالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين.

ودخل معه السجن فتيان الآية ٣٦ ـ ٣٨ :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

الإعراب :

فوق ظرف مكان والعامل فيه احمل ، وجملة تأكل صفة للخبز. وهم بالآخرة هم كافرون ، هم الأولى مبتدأ ، والثانية تأكيد وكافرون خبر وبالآخرة متعلق بالخبر. ما كان لنا (ما) نافية ، ولنا خبر كان مقدم ، والمصدر من ان نشرك اسم كان ومن زائدة اعرابا ، وشيء مفعول مطلق. لنشرك. أي شيئا من الشرك.


المعنى :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) ـ أي عنبا ـ (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ). دخل يوسف الطهر السجن ، وبقيت امرأة العزيز الرجس في قصرها طليقة تأمر وتنهى ، ولكن يوسف دخل السجن طيب النفس ، وهو الذي أحبه وآثره لأن فيه راحة الضمير ، والنجاة من المعصية ، والفوز بمرضاة الله ، أما امرأة العزيز فهي في سجن من العذاب الأليم ، عذاب الضمير والحرمان والفضيحة.

ودخل مع يوسف (ع) السجن فيمن دخل اثنان من حاشية الملك : ساقيه ، وخازن طعامه لتهمة ألصقت بهما ، قال الساقي : رأيت فيما يرى النائم اني أعصر خمرا ـ أي عنبا لأنه يؤول الى الخمر ـ وقال الخازن : أما أنا فرأيت على رأسي خبزا يخطفه سرب من الطير ، ويذهب به (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) خبرنا بتفسير ما رأينا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في سيرتك مع أهل السجن.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما). ذكر في تفسيره ستة اقوال ، ويتلخص أقربها الى ظاهر اللفظ بأن يوسف قال للسائلين : انا وأنتما محجوبان في هذا المكان لا يعلم أحدنا ما ذا يجري في خارجه ، ومع هذا فأنا اعلم أي طعام يرسل إليكما ، ما هو نوعه ، وما هي الغاية من إرساله قبل أن يرسل.

وتسأل : لقد سألاه عن تعبير ما رأيا فأجابهما بأنه يخبر عن الغيب فيما يأتيهما من طعام ، وهذا لا يمت الى السؤال بصلة؟.

أجل ، ليس هذا تعبيرا للرؤيا ، ولكنه تمهيد له ، فلقد أراد يوسف ان يغتنم هذه الفرصة ليثبت لأهل السجن انه نبي مرسل من عند الله ، واستدل على نبوته بالإخبار عن الغيب ، تماما كما استدل عيسى (ع) على صدقه بقوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) ـ ٤٩ آل عمران». وبديهة ان الغرض الأول ليوسف (ع) ان يبث بين السجناء عقيدة التوحيد والاعتراف باليوم الآخر ، كما هو شأن الأنبياء ، ويظهر ذلك من أقواله التالية :


(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). ذا إشارة الى الاخبار بالغيب و (كما) حرف خطاب للسائلين عن تعبير الرؤيا ، والمعنى ان ما أخبركم به من الغيب ليس كهانة ولا سحرا أو عرافة ، وإنما هو وحي أوحاه الله إليّ كما أوحى الى الأنبياء من آبائي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). أي برئت من قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .. وفي هذا تعريض ـ ولكن بلطف ورفق ـ بالسجناء وغيرهم من المشركين ، لتكون دعوته أوقع في نفوسهم ، وفي التاريخ ان المصريين كانوا يومذاك يعبدون آلهة ، منها الشمس ، ويسمونها (رع) ، ومنها عجلهم (ابيس).

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ). لقد كان هؤلاء مشهورين مكرمين عند الجميع وبالخصوص ابراهيم الخليل (ع) ، ولذلك أضاف يوسف نفسه اليهم نسبا ودينا ، قال الرازي :

«لما ادعى يوسف النبوة وتحدى بالمعجزة ، وهي علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وان أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة آبائه لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا ان درجة ابراهيم وإسحاق ويعقوب كانت معروفة عند الناس ، فإذا ظهر انه ولدهم عظموه ، وكان انقيادهم له أتمّ ، وتأثير كلامه في قلوبهم أكمل».

(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ). أي ان اختصاصنا بالنبوة فضل من الله حيث رآنا أكفاء لرسالته ، وأيضا فضل على الناس لأنهم بنا اهتدوا إلى سواء السبيل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) بل يشركون ويجحدون : وكلما زادوا غنى ازدادوا كفرا وطغيانا.

ياصاحبي السجن الآية ٣٩ ـ ٤٠ :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)


ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

اللغة :

الدين القيم هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

الإعراب :

أأرباب الهمزة استفهام انكاري. ومتفرقون صفة. وسميتموها تتعدى إلى مفعولين والثاني محذوف أي سميتموها آلهة. وأنتم توكيد لضمير الفاعل ، وآباؤكم عطف عليه أو على الضمير المتصل. ومن سلطان (من) زائدة إعرابا وسلطان مفعول أنزل. وان الحكم (ان) نافية. والا تعبدوا (الا) مركبة من كلمتين ان المصدرية ولا النافية ، والمصدر المنسبك مجرور بالباء المحذوفة ، أي أمر بعدم عبادة غيره.

المعنى :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). المراد بصاحبي السجن الفتيان اللذان دخلا السجن مع يوسف ، وسألاه عن تعبير الرؤيا ، وأضافهما الى السجن بالنظر لاقامتهما فيه ، مثل أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ويحتمل أن يكون يوسف أضافهما الى نفسه أي يا صاحبيّ في السجن ، وحذفت (في) توسعا ، والأول أظهر ، ومهما يكن فإن يوسف (ع) قد جادلهما فيما يعبدان وقومهما من دون الله ، وأورد الجدال والحجاج في صيغة السؤال والاستفهام لأنه أقرب


الى الطباع من المجابهة بفساد العقيدة .. وقد ذكرنا الدليل على التوحيد في ج ٢ ص ٣٤٤ عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء.

ثم خطا يوسف (ع) خطوة ثانية في الدعوة الى التوحيد ، ونبذ الشرك ، وقال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). انكم تعبدون مجرد أسماء لا وجود لمعانيها إطلاقا ، وكل ما لا وجود له لا أثر له ، وتستحيل اقامة الدليل عليه .. فمعبودكم ـ اذن ـ خيال في خيال .. وهكذا العالم الحكيم ينتقل من أسلوب الى أسلوب لاقناع الجاهل ، يلوح ثم يصرّخ حتى يصل الى ما يبتغيه من الإذعان والتسليم لدعوته.

لا حكم الا لله :

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ). معنى لا تعبدوا الا إياه واضح ، أما معنى الحكم لله فيحتاج الى تفسير ، ويتلخص بأن حكم الله على قسمين : الأول قضاؤه وقدره ، وهذا لا مفر منه للإنسان. الثاني حلال الله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي. ومعلوم ان الله تعالى لا يتصل بعباده بلا واسطة ، ويحكم بينهم مباشرة في هذه الحياة ، وانما يشرع الأحكام ويبلّغها لعباده بلسان أنبيائه. ورسله والمراد بالحكم لله المعنى الثاني وانه تعالى هو مصدر التشريع ، وليس الأفراد ولا الجماعات ، ولا أية سلطة الا الله وحده لا محلّل ولا محرم الا هو ، ومن حكم بشيء فلا يكون حكمه حقا وعدلا الا إذا كان على وفق ما أوحى الله ، وأجمع كلمة تعبّر عن ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ـ ٤٥ المائدة» ، وفي آية ثانية هم الفاسقون ، وفي ثالثة هم الكافرون ، فأي حكم لا يعبّر عن ارادة الله ومرضاته فهو كفر وظلم وفسق ، وبتعبير ثان ان حكم الله أشبه بالخارطة يضعها المهندس للبنّاء ، ومن يتولى الحكم ويمارسه أشبه بالباني.

وقد استوحينا هذا التفسير من قول الإمام علي (ع) ، فإنه لما سمع قول الخوارج : لا حكم الا لله قال : «كلمة حق أريد بها باطل ، نعم لا حكم الا


لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة الا لله .. وانه لا بد للناس من أمير بر ، أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر». أي ان حق التشريع لله وحده ، وعلى الناس أن يطبّقوا ما شرعه الله ، والذي يحملهم على هذا هو هذا الأمير ، والخوارج خلطوا بين مصدر الشريعة ، وبين من يطبّقها ويزاولها ، ولم يميزوا بين الاثنين.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). ذلك اشارة الى حصر التشريع والعبادة بالله ، والمعنى ان الدين المستقيم الذي لا عوج فيه هو الذي يخص الله وحده بالتشريع والعبادة ، وليس لأي انسان أن يستعبد الناس ، أو يشرع لهم الأحكام والحلال والحرام ، فالكل حتى الأنبياء عبيد لله يعملون بأمره ونهيه ، ومعنى هذا ان كل الناس خلقوا اخوة متساوين ، وقد منحهم خالقهم حقوقا انسانية أبدية لا تقبل التبديل أو التعديل ، وأظهر هذه الحقوق الحياة والحرية والسعي الى السعادة ، ومن وقف في طريق حق منها فهو أعدى أعداء الله ودينه وشريعته.

تعبير رؤيا صاحبي السجن الآية ٤١ ـ ٤٢ :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))


اللغة والإعراب :

بضع من الأعداد ، ويطلق على الثلاثة الى العشرة ، ونصب على انه ظرف زمان لاضافته الى سنين ، والعامل فيه لبث.

المعنى :

بعد أن أدى يوسف واجب الدعوة الى الله تعالى عبّر لكل من الساقي وخازن الطعام ما رآه في منامه ، فقال للساقي : تنجو من السجن ، وتعود الى سابق عهدك ساقيا للملك ، وقال للخازن أو للخباز : تصلب وتأكل الطير من رأسك ، وقد كان يوسف على ثقة من تعبيره لأنه وحي من الله ، ولذا قال لهما : ان هذا الأمر قد بتّ فيه ، وانتهى حكمه.

وقال يوسف للساقي الناجي : إذا رجعت الى قصر الملك فقل له : اني سجنت من غير محاكمة أو سؤال ، وإذا فحص عن الحقيقة ظهر اني أخذت بغير سبب. وعاد الساقي الى القصر ، ونسي في زحمة أعماله في خدمة الملك أن يذكر يوسف ، فلبث في السجن بضع سنين .. وفي رواية انها سبع ، وقيل بل ١٢ والله أعلم.

سبع بقرات سمان الآية ٤٣ ـ ٤٩ :

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ


فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

اللغة :

سمان جمع سمين وسمينة. والعجاف ضد السمان ، وهو جمع أعجف للذكر وعجفاء للأنثى أي هزيل وهزيلة. وعبرت الرؤيا فسرتها ، وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط : المشهور تخفيف الباء وأنكر البعض تشديدها. والأضغاث جمع ضغث ، وهو الحزمة من كل شيء ، وقيل : من النبات فقط يختلط فيها الرطب باليابس. وادّكر واذكر بمعنى واحد ، قال الطبرسي في مجمع البيان : الأجود الدال وأصله اذتكار. وبعد أمة أي بعد حين. والدأب العادة والمراد به هنا الدوام على الزرع. وتحصنون أي تحرزون ، يقال : أحصنه احصانا إذا جعله في حرز. ويغاث الناس أي يفرج الله عنهم ، ويطلق الغيث على المطر وعلى ما ينبت بسببه. ويعصرون أي يستخرجون العصير مما يعصر كالعنب والزيتون ، وهو كناية عن الخصب.

الإعراب :

للرؤيا اللام زائدة لتقوية الفعل وبيان المفعول ، ومثلها لربهم يرهبون. وأضغاث


خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أضغاث. ودأبا مصدر وضع موضع الحال أي دائبين. وصاحب الحال واو تزرعون. ومفعول يعصرون محذوف أي ما من شأنه أن يعصر.

الأحلام ونظرية فرويد :

الأحلام ظاهرة نفسية ، وقد تناولها بالبحث والتمحيص علماء النفس وكثير غيرهم من كل مذهب ، وتكلموا عنها كثيرا ، وما أتوا بضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بشتى أنواعها .. أجل ، لقد اهتدوا الى المصدر الأول لنوع من الأحلام ، وفسروه تفسيرا صحيحا ، واكتشفوا منه بعض الأمراض العصبية ، لأنه انعكاس عنها ، ولكن هناك أحلاما تتكلم بغير لغة الحالم ونفسه وحياته ، وعجز العلماء عن تفسيرها.

وحاول «فرويد» أن يفرض التفسير الجنسي على جميع الأحلام ، بل وعلى كل شيء في هذه الحياة أو على أكثر أشيائها .. فالأحلام عنده كلها رموز جنسية ، دون استثناء ، والأمراض العصبية سببها كبت الغريزة الجنسية ، وحب الولد لوالدته ناشئ عن التفكير فيها وغيرته من أبيه عليها ، وكذلك تعشق البنت أباها ، وتغار من أمها عليه ، بل كذلك جميع الصداقات والأشواق .. حتى فكرة التدين والضمير مصدرها الخوف من مضاجعة المحارم .. وعلى هذه فقس ما سواها ..

ورد العارفون هذه النظرية بأن الإنسان مسير بالعديد من الغرائز ، لا بغريزة الجنس فقط ، وألف «جاسترو» البولندي كتابا في جزءين ردا على فرويد ، وأسماه : الأحلام والجنس ، وترجمه فوزي الشتوي ، ومما جاء فيه ان العلماء درسوا بضعة آلاف من الأحلام لبضع مئات من الناس ، فوجدوا أن أقل من ٥٠ بالمائة منها لا يمكن تفسيرها بنظرية فرويد ، وان هذه النظرية تترك كثيرا من الأسئلة بغير إجابة. وقال أديب ذكي معاصر.

«ان نظرية فرويد لا تدين سوى صاحبها ، فهو صاحب الخيال الجنسي الذي يرى في كل شيء مستدير عضوا انثويا ، وفي كل مستطيل عضوا مذكرا .. أما


الانسانية فهي بريئة من هذا الرأي ، ان هذه النظرية الضيقة لا يمكن أن تكون صادقة ، فالإنسان ليس عبدا للجنس فقط ، وإنما هو عبد لأكثر من لذة ، لذة الجنس ، ولذة الحب ، ولذة الصداقة ، ولذة الجمال ، ولذة المعرفة ، ولذة السيطرة ، ولذة القوة ، ولذة الحرية ، والسعادة هي ائتلاف هذه اللذات في حياة منسجمة ، وفي نظرة رحبة واسعة الأفق».

والذي نراه ان الأحلام على أنواع :

«منها» ما هو انعكاس لعادات الإنسان وتفكيره ، كالفيلسوف يرى انه يناقش أفلاطون وأرسطو ، والمسلم يصلي في المسجد ، والمسيحي يصلّب في الكنيسة والفلاح يزرع ، والباني يبني ، وما أشبه ذلك. وهذا النوع واضح ولا يختلف فيه اثنان ، لأنه يحمل تفسيره معه.

و «منها» ما هو غريب عن حياة الحالم وتفكيره ، كرؤيا الملك البقرات والسنبلات .. وما هو فلاح ، ولا براعي بقر ، وجاءت رؤياه إنذارا بما حدث من الجدب بعد الخصب.

و «منها» ما يقع في اليقظة ، تماما كما رآه الإنسان في منامه دون زيادة أو نقصان .. وهذا نادر جدا ، ولكنه حدث قطعا ، وحتى الآن لم يهتد العلم إلى تفسير هذا النوع والنوع الذي قبله ، وقد يهتدي اليه في المستقبل القريب أو البعيد .. وفسرهما البعض بالصدفة .. وليس من شك ان الصدفة هي ملجأ العجزة ، وقال آخر : انهما نتيجة لحاسة في الإنسان نجهل كنهها .. وهذا أيضا من العجز.

وفي سنة ١٩٥٦ رأيت فيما يرى النائم المرحوم أخي الشيخ عبد الكريم ، وكان قد مضى على وفاته عشرون سنة ، وأخبرني عما سيحدث وعيّن الوقت ، فكان كما قال .. وبعد هذا بسنوات رأيت رؤيا فصدقت ، وكانت سوءا كالأولى ، فقلت لصديق لي مداعبا : ان رؤيا الشر تصدق ، دون رؤيا الخير .. وحين وصلت في التفسير الى أول سورة يوسف قرأت هذه العبارة للرازي : «اعلم ان الحكماء يقولون : ان الرؤيا الرديئة يظهر تفسيرها عن قريب» فتعجبت ، وتذكرت قول الشاعر البائس :

فإن أر خيرا في المنام فنازح

وان أر شرا فهو مني مقرب


والخلاصة انه لا يوجد ضابط كلي يمكن الاعتماد عليه في تفسير الأحلام بكاملها لأنها أنواع متضادة متباينة ، فمنها صدى لوساوس النفس وظروفها ، وهذا النوع واضح بوضوح مصدره. ومنها ما هو صورة طبق الأصل عن الحادث الذي يقع في اليقظة بعد الحلم ، وهذا النوع نجهل سره ومصدره. ومنها ما هو رموز وإشارات مسبقة الى الواقع المحسوس قبل وقوعه ، كالكواكب التي سجدت ليوسف ، والخبز الذي حمله الفتى المسجون فوق رأسه ، والبقرات والسنبلات التي رآها ملك مصر ، وهذا كسابقه لا نعرف له سرا ولا مصدرا. أما من قال بأن هذا النوع والذي قبله بشرى من الله ، أو حاسة في الإنسان فقد ادعى لنفسه العلم بالغيب ، ولا يرضى أن ينسب الى الجهل ، حتى بما حجب الله علمه عن عباده.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ). في ذات يوم أصبح ملك مصر على رؤيا غريبة .. رأى بقرات يأكلهن بقرات مثلهن ، وما حدث مثل هذا قط ، وبالخصوص ان المهازيل أكلن السمان ، وأيضا رأى سنابل يابسات تلتوي على سنابل خضر في حقل واحد .. وهذا غريب عن المعتاد.

فدعا رجال حاشيته ، وكهنة دولته ، وقال لهم : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ). فعجزوا عن التفسير و (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ). المعنى واضح ، ولكن للرازي هنا كلاما مفيدا يتلخص بأن الله تعالى جعل رؤيا الملك سببا لخلاص يوسف (ع) ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ، وقد شاهد الملك ان الضعيف يستولي على القوي ، وهذا بعيد عن الفطرة ، فأيقن ان الرؤيا تنذر بالشرّ ، ولكنه جهل حقيقته وتفاصيله ، فتشوّق إلى المعرفة ، وجمع المعبرين وسألهم عن تفسير ما رأى ، ولكن الله أعماهم عن الحقيقة ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من سجنه .. ثم قال الرازي : ان المعبرين ما نفوا عن أنفسهم العلم بالتعبير ، وانما قسموا الرؤيا إلى قسمين : منتظمة يسهل معرفتها ، ومضطربة لا تفسير لها إلا الوهم والخيال ، وقالوا : ان رؤيا الملك من النوع الذي لا تفسير له ، أو لا يعرفون هم له تفسيرا ، وان المتبحر في علم الرؤيا قد يهتدي إلى تفسيره.


(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ). سبق ان يوسف حين دخل السجن دخل معه فتيان ، وان أحدهما رأى انه يعصر خمرا ، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا ، فعبر لهما يوسف ما رأيا وأحسن التعبير حيث نجا الأول ، وصلب الثاني كما قال .. وهذه الآية تشير الى الذي نجا ، وقال له يوسف آنذاك : اذكرني عند ربك ، فأنساه الشيطان وصية يوسف ، ولما رأى حيرة الملك واهتمامه بتعبير رؤياه وعجز المعبرين تذكر يوسف ، فأخبر الملك عنه وعن صلاحه وعلمه بتعبير الرؤيا ، وقال : لو أرسلتني اليه أيها الملك لجئتك بالخبر اليقين.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ). أمر الملك ساقيه أن ينطلق الى الرجل الصالح الذي حدثه عنه ، وان يقص عليه رؤياه ، ثم يأتيه بما يسمع منه ، فانطلق الساقي الى يوسف ، وبطبيعة الحال اعتذر له عن نسيانه ، بعد أن لقّبه بما هو أهل له من الصدق ، ثم نقل له رؤيا الملك بالحرف ليأتي التفسير على وفق النص (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). أي اخبرني عن التأويل لأنقله عنك الى الملك وحاشيته ، فيعلمون بفضلك ومكانتك ، فيخرجونك من السجن.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) قال يوسف للسائل مفسرا رؤيا الملك : تزرعون سبع سنين متوالية ، وتكون هذه السنين خصبة طيبة ، وهي المشار اليها بالبقرات السمان والسنابل الخضر ، كل سنبلة وبقرة ترمز الى سنة ، ثم نصح لهم يوسف ، وقال : كل ما تحصدونه من الزرع ادخروا سنابله ، ولا تدوسوه لأن القمح في سنابله يصان من السوس والرطوبة : أما الذي تريدون أكله فدوسوه ، مع مراعاة الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أسند الأكل إلى السنين ، والمراد أهلها ، وهذا كثير في كلام العرب ، والمعنى ان السنين المخصبة تعقبها سبع سنين مجدبة ، يتجهم فيها وجه الأرض ، ولا تنبت شيئا ، فتأكلون كل ما ادخرتموه فيما مضى ، ولا يبقى إلا القليل للبذر (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). أي يأتي بعد السبع


الشداد عام خصب يغيث الله فيه الناس من الشدة بالماء ، فينبت الزرع ، وينمو الشجر ، ويعصر الناس من ثمره خمرا وزيتا وأنواع الدهون والأشربة .. وتجدر الاشارة الى أنه لم يرد في رؤيا الملك أي رمز الى هذا العام ، وانما هو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله أو من ارتضى من رسول.

وقال الملك ائتوني به الآية ٥٠ ـ ٥٣ :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

اللغة :

ما بال النسوة أي ما شأنهن ، ومثله ما خطبكن مع الإشعار بأنه شأن عظيم وجدير بأن يخاطب الإنسان فيه صاحبه. وحصحص أي تبين وظهر.

الإعراب :

ما بال النسوة مبتدأ وخبر ، ومثله ما خطبكن. وحاش لله مرّ إعرابه في الآية ٣١ من هذه السورة. وذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. وليعلم منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر مجرور باللام متعلقا بمحذوف أي أقوله


ليعلم. والا ما رحم ربي (ما) اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب على الاستثناء أي الا نفسا رحمها ربي. وقيل : يجوز أن تكون مصدرية ظرفية أي الا وقت رحمة ربي.

المعنى :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف .. بعد أن عبّر يوسف الصديق للرسول رؤيا الملك ، ونصح كيف يستعدون لمواجهة السنين الشداد ، بعد هذا رجع الرسول الى سيده بالتعبير والنصح ، واكتشف الملك ان وراء قول يوسف علما جما ، وإخلاصا صادقا ، فأحب ان يقربه اليه لينتفع بعلمه وإخلاصه ، وقال : ائتوني به ، واكتفى القرآن الكريم من هذه الحادثة بقول الملك لأن القارئ يستحضر منه سائر اللوازم التي لا تنفك عنه.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) ودعاه الى حضرة الملك (قالَ) ـ يوسف ـ (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). المراد بالرب هنا السيد .. رفض يوسف الخروج من السجن ، ولم يتهالك على الاستجابة لدعوة الملك ـ كما يفعل الكثير من المتّسمين بسمة الدين ـ بل لم يقم لها وزنا لأمور :

١ ـ ان المؤمن حقا لا يرى عظيما سوى الله : ولا يبالي بشيء في سبيل اظهار الحق وإعلانه ، ومن أجل هذا رفض الصدّيق أن يخرج من السجن بالعفو والتفضل ، وأصر على إعلان الحق قبل كل شيء ، وصمم ان يصبر على السجن وألمه مدى الحياة ، أو يخرج منه مرفوع الرأس مبرأ من كل بهمة.

٢ ـ أحب يوسف أن يجري التحقيق ويتم في غيبته ودون أن يتدخل هو فيه لأن ذلك أبلغ في نزاهته وبراءته ، وأدل على عظمته وحلمه وأناته.

٣ ـ ان يوسف واثق من براءته ، ومطمئن بأن التحقيق سيكن في مصلحته ، وان عدم الاسراع الى الخروج من السجن أدعى الى ثقة الناس واستجابتهم لرسالته .. بالاضافة الى انه يقطع الطريق على من يتوسل بالتهمة الى الطعن فيه عند الملك حين يقربه منه ، وعند غير الملك حين يدعوه الى الله والحق.

ورجع الرسول الى الملك وأخبره بأن يوسف لا يخرج من السجن الا بعد التحقيق


في شأن التهمة التي سجن من أجلها ، فاهتم الملك ، وأحضر النسوة و (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) .. هذا اعتراف جازم قاطع لكل شبهة ، لأنه من الخصم بالذات .. حاشاه من السوء .. انه لمن الصادقين .. وهكذا تتجلى الحقائق ـ وان طال بها الزمن ـ ويستسلم لها أهل الضلالة مرغمين ، حيث لا مجال للفرار والإنكار.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). اختلف المفسرون في هذه الآية ، فمن قائل انها من كلام يوسف (ع) ، وان المعنى اني طلبت التحقيق مع النسوة ليعلم العزيز اني لم أخنه في زوجته حال غيابه. ومن قائل : ان الآية من كلام امرأة العزيز ، ونحن مع هذا القائل عملا بظاهر السياق من اتصال بعض الكلام ببعض ، وعليه يكون الضمير في لم أخنه ليوسف ، ومرادها بعدم خيانته انها لم تذكره بسوء مدة غيابه في السجن حتى هذه الساعة ، أما إحالتها الذنب عليه حين قالت لزوجها ما قالت فقد كان ذلك بحضور يوسف ، لا بغيابه (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) بل يفضحهم ويهتك سترهم ، وينصر المؤمنين عليهم ، تماما كما فضح النسوة ، ونصر يوسف : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ـ ٧٠ الأنبياء».

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). الإنسان حيوان عاقل ومتدين ، فهو بحيوانيته أو بنفسه الأمارة يميل الى الشهوات والملذات ، لا يبالي بعقل ولا بدين ، وهو بدينه وعقله يرغم نفسه على الوقوف عند حدود الشرع والعقل إذا حاولت تجاوزها والانحراف عنها .. ومن أطلق العنان لنفسه تعمل ما تشتهي وتريد فهو حيوان في صورة انسان ، بل الحيوان خير منه لأنه غير مسؤول عن شيء ، ولذا قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ـ ٤٤ ـ الفرقان». أجل ، قد يضعف الإنسان بعض الأحيان أمام نفسه وشهوته ، ولكن المؤمن العاقل يعود بعدها الى رشده ، ويتوب من هفوته ، فيغفر له ، ويصفح عنه لأن الله غفور رحيم.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) معناه ان النفس ، آية نفس لا تسلم من العيوب الا نفسا عصمها الله من الخطايا والذنوب كنفوس الأنبياء والأئمة الأطهار .. والمهم ان لا يصر المذنب على ذنبه ويعرض أبدا عن ربه. قال الإمام علي (ع) : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه. أي أصر عليه ، ولم يستغفر الله منه.



الجزء الثّالث عشر



يوسف عزيز مصر الآية ٥٤ ـ ٥٧ :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

اللغة :

أستخلصه أجعله خالصا لنفسي. والمكين من التمكين أي انت عندنا ذو مكانة ومنزلة. ويتبوأ منها يتخذ منها منزلا.

الإعراب :

فاعل كلّمه ضمير مستتر يجوز أن يكون للملك وليوسف أيضا لأن المعنى يصح على التقديرين. وضمير قال انك الخ. مستتر يعود الى الملك. وضمير قال اجعلني الخ. يعود الى يوسف. ومفعول مكنا محذوف أي مكنا الأمر ليوسف ، ويجوز أن يكون يوسف هو المفعول واللام زائدة. وجملة يتبوأ حال من يوسف. وحيث ظرف منصوب بيتبوأ.

المعنى :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ


أَمِينٌ). بعد أن شهدت امرأة العزيز والنسوة على أنفسهن ، وعرف الناس جميعا ان يوسف منزّه عن الاغراض والعيوب ، بعد هذا رضي يوسف بالخروج من السجن ، وطلبه الملك ليكون زعيما في مملكته وعونا له على تدبيرها وادارتها. ولما اجتمع به ، وسمع منه وقع حبه واحترامه في قلبه ، وقال له فيما قال : أنت محترم عندنا ومؤتمن على كل شيء في الدولة ، وما قال الملك هذا إلا حين أيقن بمقدرته وعلمه وحكمته. وقيل ان يوسف كان عمره آنذاك ٣٠ سنة ، وفي «مجمع البيان» ان يوسف سلم على الملك بالعربية ، ولما سأله من أين لك هذا اللسان؟ قال : هو لسان عمي إسماعيل ، وفي تفسير المنار ان ملك مصر كان في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة «الهكسوس» (١) وقال الطبري ان هذا الملك كان اسمه الوليد بن الريان.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). بعد أن فوض الملك الأمر ليوسف في كل ما يريد ويختار من المناصب اختار الولاية على خزانة الدولة واقتصادها (٢) ، اختار هذه الولاية بعد أن خيّر ، ولم يطلبها ابتداء كي يقال : كيف طلب الولاية .. وعلى افتراض انه طلبها ابتداء فلم يطلبها لمصلحته الخاصة ، بل للصالح العام ، وليحفظ للمستضعفين حقوقهم وبالخصوص في سني القحط والمجاعة .. لقد علم يوسف ان البلاد مقبلة على بلاء وشدة ، فإذا لم يكن صاحب الخزانة حفيظا عليها عليما بشئونها ضاعت حقوق الناس بخاصة الفقراء والمساكين .. هذا الى أن المال عصب الأمة وحياتها ، فإذا لم يكن زمامه بيد الأكفاء علما وخلقا كان مصير الأمة الى الهلاك والدمار ، حتى في سني الخصب والرخاء.

أما إذا كانت مقادير الأمة بيد الأكفاء والأمناء فإنهم يقودونها الى خيرها وصلاحها دنيا وآخرة ، وقد نقل كثيرون ان يوسف حين تولى أمر الخزانة ، ورأى الناس من عدله وحسن تدبيره ما صان لكل ذي حق حقه آمنوا برسالته ،

__________________

(١). قرأت في جريدة «اخبار اليوم» المصرية تاريخ ٢٥ ـ ١ ـ ١٩٦٩ ان بعثة جامعة فيينا المكونة من ٦ من علماء الآثار أعلنت ان الهكسوس كانوا عربا.

(٢). في مصر يسمون وزير المالية بوزير الخزانة : وغير بعيد ان يكون مصدر التسمية قول يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض».


حتى الملك آمن وشهد ان لا إله الا الله وان يوسف رسول الله ، قال إسماعيل حقي في «روح البيان» :

«قال مجاهد : أسلم الملك على يد يوسف ، وجمع كثير من الناس» ، وعقّب صاحب «تفسير البيان» على قول مجاهد بهذه الكلمة : «إذا كان الإحسان الى يوسف والإكرام له سببا للايمان والعرفان فما ظنك بمن آسى رسول الله (ص) وذب عنه ما دام حيا وهو عمه أبو طالب ، فالأصح انه ممن أحياه الله للايمان ، كما سبق في المجلد الأول». وسبق الكلام عن اسلام أبي طالب عند تفسير الآية ١١٣ من سورة التوبة.

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). أحفظ المال من الإسراف والضياع ، وأعلم المستحقين له من غيرهم ، وأضع كل شيء في موضعه. وعن الإمام جعفر الصادق انه قال : يجوز للرجل أن يزكي نفسه إذا اضطر الى ذلك ، فلقد قال يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم».

وفي بعض التفاسير : «لم يقل يوسف للملك : عشت يا مولاي ، أنا عبدك الخاضع ، كما يقول المتملقون للطواغيت ، وانما طالب بما يعتقد انه قادر على النهوض به من أعباء الأزمة ، وصيانة الأرواح من الموت ، والبلاد من الخراب .. فيا ليت المتملقين للطغاة يقرءون القرآن ليعرفوا ان الكرامة والاباء والاعتزاز يدر من الربح أضعاف ما يدر التمرغ والتزلف والانحناء». قال الرازي : روي ان الملك قال ليوسف : «أحب ان أشركك في كل شيء الا في أهلي والأكل معي. فقال له يوسف : لا آكل معك وأنا يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل».

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). صبر يوسف على إلقائه في البئر ، وعلى بيعه في سوق العبيد ، وخدمته في بيت العزيز ، وعلى التهمة بالخيانة ، والسجن ، والأسر ، صبر على ذلك وأكثر من ذلك ، صبر واحتسب وتوكل على الله .. فما ذا كانت النتيجة؟. لقد خرج من السجن خروج الأبطال من معارك النصر .. خرج ليحكم في الأرض مطلق اليد مسموع الكلمة ، نافذ السلطان .. وهكذا يوفّى الصابرون


أجرهم في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). وأجر الآخرة الجنة التي «لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها» كما قال الإمام علي (ع) .. وأين من هذا النعيم الدائم الذي لا يشوبه بؤس ولا هرم ذلك الملك الزائل المشوب بالأتعاب والآلام؟. وفي بعض الروايات ان امرأة العزيز أتت يوسف في السنين العجاف تطلب منه قوتا ، وقد مات زوجها ورماها الدهر بالخطوب ، ونال منها ما نال ، وان يوسف لما رآها قال لها : ما الذي أوصلك الى ما أرى؟. فقالت له : سبحان من جعل الملوك بمعصيته عبيدا ، وجعل العبيد بطاعته ملوكا.

وجاء اخوة يوسف الآية ٥٨ ـ ٦٢ :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

اللغة :

منكرون أي لم يعرفوه. ويختلف معنى الجهاز باختلاف مورده من جهاز العروس الى جهاز الميت ، والمراد به هنا الطعام الذي جاءوا من أجله. وخير


المنزلين أي للضيوف. وقال لفتيانه أي لخدمه. والرحال جمع رحل ، وهو ما يوضع على ظهر الدابة كالسرج ، والمراد به هنا أوعيتهم التي توضع فوق السرج ونحوه. وانقلبوا رجعوا.

الإعراب :

ألا ترون (ألا) أداة تنبيه. ولا تقربون أصلها ولا تقربوني ، وحذفت الياء للتخفيف.

المعنى :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). امتد القحط الى البلاد المجاورة لمصر ، ومنها فلسطين أرض كنعان ، حيث يقيم نبي الله يعقوب ، وكان قد شاع ان عزيز مصر قد أعد للجوع عدته ، وانه يوزع الحنطة بالقسط بين الناس ، لا فرق عنده بين شعب وشعب ، وكان قد نزل ببيت يعقوب من العوز ما نزل بغيره ، فأمر بنيه أن يتجهزوا ، ويذهبوا الى مصر يشترون الطعام ، فذهبوا ، وهم عشرة ، ولما وصلوا الى مصر دخلوا على يوسف ، وهو في مجلس الولاية ، لأنه كان يشرف على أمر الميرة بنفسه ، فعرفهم وما عرفوه.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ). بعد أن أعد لهم كل ما جاءوا من أجله ، وما يحتاجون اليه في سفرهم (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ). قال أهل التفاسير : ان يوسف أكرم وفادة اخوته ، وأحسن ضيافتهم ، فاطمأنوا اليه ، وحدثوه عن حياتهم وعن أبيهم ، وان لهم أخا من أبيهم أصغر منهم ، وبعد هذا قال لهم يوسف : ائتوني بهذا الأخ الأصغر ، ولا شيء في الآية ولا في غيرها يدل على انهم حدثوه عن أبيهم وأخيهم ، أما إكرامه لهم فتدل عليه قرينة الحال وقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). فإذا جئتموني بأخيكم أوفي الكيل له أيضا ، وأكرمه كما أكرمتكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).


المعنى واضح ، وبالمناسبة نشير الى أن الفقهاء أجمعوا على ان لكل من البائع من والمشتري أن يشترط لنفسه ما يشاء على ان لا يحلل شرطه حراما ، ولا يحرم حلالا ، وشرط يوسف على اخوته من هذا النوع.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ). انهم يعلمون بأن أباهم يضنّ بأخيهم ، ولا يأتمنهم عليه بعد فعلتهم بيوسف .. ولذا قالوا سنراود أي نجتهد ونتلطف لاقناع أبيه رغم صعوبة المطلب ومناله (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ). أمر يوسف خدمه أن يدسوا بضاعة اخوته التي اشتروا بها الطعام ، يدسوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون.

(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). هذا تعليل لإرجاع الثمن الى اخوته ، وان القصد منه ترغيبهم في العودة اليه ثانية ، فإنهم إذا فتحوا رحالهم ووجدوا فيها بضاعتهم ، بعثهم ذلك الى الرجوع طمعا في جوده وكرمه .. وغير بعيد ان من مقاصد يوسف أن يطمئن أبوه ، ولا يثقل عليه إرسال أخيه له.

فأرسل معنا اخانا الآية ٦٣ ـ ٩٦ :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))


اللغة :

المراد بالمتاع هنا وعاء الطعام. ونمير أي نجلب الميرة بكسر الميم ، وهي الطعام. والمراد بكيل البعير حمله. وموثقا أي عهدا. وان يحاط بكم أي ان تغلبوا على أمركم.

الإعراب :

نكتل مجزوم جوابا لأرسل. وحافظا تمييز ، ويجوز في غير القرآن الجر بالاضافة فتقول : الله خير حافظ ، ونقل الطبرسي عن الزجّاج ان حافظا يجوز أن يكون حالا ، وهذا خطأ حيث يصير المعنى ان الله ليس بخير الا إذا كان حافظا .. تعالى الله .. ما نبغي (ما) استفهام في محل نصب مفعولا مقدما لنبغي. وتؤتون منصوب بأن بعد حتى ، وأصله تؤتوني بالياء وحذفت تخفيفا. والمصدر من أن يحاط منصوب على الاستثناء أي حال الاحاطة بكم.

المعنى :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) في المستقبل ، يشيرون بذلك الى ما قاله يوسف لهم : «فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ..». ثم قالوا لأبيهم : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وعدوه بحفظه وصيانته كيلا يضن به عليهم (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) الذي فعلتم به ما فعلتم .. ثم انصرف عنهم ، والتجأ الى الله ، وقال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأنا أعتمد في صيانة ولدي على حفظ الله ، لا حفظكم ، وهو يرحم ضعفي وشيخوختي. وقيل : ان اسم ولده الأصغر الذي طلبه يوسف كان بنيامين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) فأسرعوا الى أبيهم مسرورين و (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ما ذا نطلب من عزيز مصر؟. وبأي


شيء نعتذر له إذا لم نأته بأخينا ، وقد أكرمنا بما ترى من رد الثمن؟. (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) قيل : كانت نعالا وجلودا ، وقال بعض المفسرين الجدد : انهم وجدوا بضاعتهم ولم يجدوا قمحا ، وان يوسف لم يعطهم شيئا ليضطرهم الى العودة بأخيهم .. وهذا خطأ لأنه يتنافى مع ظاهر القرآن ، وهو قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) بالاضافة الى ان منع الطعام عن الأهل والأقربين مع شدة حاجتهم اليه قسوة ولؤم ، ويوسف (ع) أجلّ وأعظم ، أما قولهم : منع عنا الكيل فالمراد به منع ثانية وفي المستقبل كما أشرنا.

(وَنَمِيرُ أَهْلَنا) نأتيهم بالميرة ، وهي الطعام (وَنَحْفَظُ أَخانا) من كل مكروه (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأن يوسف كان يعطي للرجل حمل بعير واحد اقتصادا في الطعام كي ينال منه الجميع ، فإذا صحبوا أخاهم معهم ازدادوا حملا من الطعام (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي ان زيادة الحمل ميسرة مع وجود أخينا ، أما بدونه فلا لأن العزيز لا يبيع للرجل إلا حملا واحدا في هذه الأزمة المجدبة ..

ورأى يعقوب ان الحاجة ماسة الى الطعام ، لأن ما جاءوا به من مصر أوشك على النفاد ، فاستسلم لضغط الحاجة ، لا لضغط أبنائه ، بالاضافة الى ثقته بالعزيز بعد ان سمع الكثير عنه ، ورأى من صنعه مع أولاده. (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ). اذن لهم بأخيهم بنيامين على أن يعطوه عهدا أكيدا ان يرجعوه اليه سليما معافى إلا ان ينزل بهم ما لم يكن في الحسبان (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). فأعطوه العهد الذي أراد ، وأكدوا الايمان بأنهم يفدونه بالأرواح ، وعندها قال : الله وحده هو الشاهد على عهدكم هذا ، فان وفيتم جازاكم أحسن الجزاء ، وان غدرتم كافأكم بأشد العقوبات.

لا تدخلوا من باب واحد الآية ٦٧ ـ ٦٨ :

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ


وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

الإعراب :

من شيء (من) زائدة اعرابا وشيء مفعول مطلق لأغني. وفاعل يغني عنهم ضمير مستتر يعود الى التفريق المفهوم من قوله : أبواب متفرقة. والا حاجة مفعول من أجله ليغني ، وقيل : نصبت حاجة على الاستثناء المنقطع ، لأن المعنى لكن حاجة.

المعنى :

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). بعد أن أعطوا أباهم الميثاق المؤكد أذن لهم بصحبة أخيهم ، وأوصاهم بوصيته هذه ، ويظهر منها انه قد كان للمدينة أبواب ، لا باب واحد ، وفي بعض التفاسير انها كانت أربعة. واختلف المفسرون في الغرض من وصية يعقوب أبناءه ان يدخلوا من أبواب متفرقة ، وما أتى واحد منهم بما تركن اليه النفس .. وقد يكون الغرض انهم ان دخلوا مجتمعين ، وهم أحد عشر رجلا ترامت نحوهم الأنظار ، وكثرت التساؤلات والإشارات ، أو ان الغرض ان يعرفوا أخبار المدينة ، ويطلعوا على أحوالها لعلهم يقفون على ما يومئ الى يوسف وأخباره ، ومهما يكن فنحن غير مكلفين بالبحث عن السبب ما دامت الآية لم تشر اليه .. وفي تفسير «البحر المحيط» ان يعقوب أمر بنيه أن يبلغوا تحياته لعزيز مصر ، ويقولوا له : ان


أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا ، وان يوسف بكى حين سمع هذه الرسالة .. وليس هذا ببعيد عن الموضوع وطبيعته.

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). عند تفسير الآية ٤٠ من هذه السورة ، فقرة «لا حكم الا لله» بيّنا ان حكمه تعالى يطلق على حلاله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي ، وأيضا يطلق على قضائه وقدره الذي لا مفر منه للإنسان ، وسياق الآية يدل ان هذا هو المراد بحكم الله هنا ، وعليه يكون المعنى اني حريص عليكم ، ناصح لكم ، ولكن حرصي ونصحي لا يغني عن قضاء الله وقدره .. وغرضه من ذلك أن يبين لأبنائه ان على الإنسان ان لا يعتمد على العمل وحده ، ولا على الايمان وحده ، بل عليه أن يعمل ويجتهد متوكلا على الله ، ومعتقدا بأنه هو الذي يمده ويعينه ، ولذا قال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي أنا مؤمن بالله متوكل عليه ، لا على غيره ، وعلى كل من آمن بالله أن يكون كذلك.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرقة (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). اسم كان ضمير مستتر يعود الى الدخول المستفاد من قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا) والمعنى ان أولاد يعقوب دخلوا المدينة من أبواب متفرقة امتثالا لأمر والدهم ، ولكن دخولهم لم يجد نفعا ، ولم يرد بلاء كما قال يعقوب : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، حيث اتهموا بالسرقة ، وأخذ منهم بنيامين ، ورجعوا الى أبيهم منكسرين كما يأتي. (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها). اختلف المفسرون في تحديد هذه الحاجة التي قضاها الله ليعقوب ، فمن قائل : ان لا يصاب أولاده بالعين عند دخولهم الى مصر. وقائل : ان لا ينالهم العزيز بسوء الخ .. والذي نراه ـ استنادا الى طبيعة الحال ، والى الآيات الدالة على حرصه ولهفته على يوسف وأخيه ـ ان الحاجة الأولى والأخيرة ليعقوب من هذه الحياة كانت سلامة يوسف وأخيه ، واجتماعه بهما قرير العين ، وقد أتم الله له ما أراد على أحسن حال.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ). ضمير انه وعلمناه يعودان الى يعقوب. وهو نبي ، وكل نبي يؤدبه الله بآدابه ، ويعلمه من لدنه علما ، ومن تأدب يعقوب


بآداب الله صبره على البلاء ، وتوكله على الله ، وعدم يأسه من رحمته ، ومن علمه مما علمه الله إيمانه بأن فوق تدبير العباد لله تدبيرا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان الحكم لله ، وان تدبيرهم من غير عناية الله وتوفيقه لا يجديهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا.

أنا أخوك فلا تبتئس الآية ٦٩ ـ ٧٦ :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

اللغة :

آوى اليه أخاه ضمه اليه ، ولا تبتئس أي لا تحزن مأخوذ من البؤس. والسقاية لغة


وعاء يسقى به ، والمراد بها هنا الصواع بدليل قوله : نفقد صواع الملك. والصواع والصاع بمعنى واحد ، وهو المكيال. والعير الإبل. وزعيم كفيل.

الإعراب :

تالله التاء للقسم مثل الواو ، ولكنها تختص باسم الله ، فلا يقال تالرحمن وتالقرآن. وجزاؤه مبتدأ ، ومن وجد خبر أي جزاؤه استعباد من وجد في رحله. والمصدر من ان يشاء مجرور بالباء المحذوفة أي الا بمشيئة الله. ودرجات مجرورة بإلى محذوفة.

المعنى :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). ذكر أهل التفاسير ، ومنهم الطبري والرازي والطبرسي وأبو حيان الأندلسي ، ذكروا في شرح هذه الآية تفصيلات لا دليل عليها من القرآن ، ولا هي من خصائص الواقعة التي لا تنفك عنها ، ولكنها تلائمها وتناسبها ، ومن أجل هذا نلخص أقوالهم بأن اخوة يوسف لما وصلوا الى مصر دعاهم الى طعامه ، وأجلسهم مثنى مثنى لغاية أرادها ، وهي ان يبقى اخوه بنيامين وحيدا ليجلسه معه على مائدته ، تماما كما آخى الرسول الأعظم (ص) بين أصحابه مثنى مثنى ، وأبقى عليا لنفسه ، وبعد الطعام أنزل يوسف كل اثنين من اخوته في حجرة ، وبات اخوه بنيامين معه في حجرته ، وعند ما اختلى به قال له : أتحب ان أكون أخاك؟. فأجابه : ومن يجد أخا مثلك؟. ولكن لم يلدك يعقوب ، ولا راحيل ، وراحيل هي أم يوسف وبنيامين ، فعانقه وقال : أجل ، لقد ولدني يعقوب وراحيل ، فأنا أخوك ، ولا تحزن بما كان من إخوتك معي ومعك .. ففرح بنيامين للمفاجأة السارة ، وحمد الله.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). أراد يوسف أن يفصل بنيامين عن اخوته ، ويبقيه عنده ،


ولم يكن ذلك ممكنا إلا بمبرر ، وكان من شريعة آل يعقوب استرقاق السارق ، فدس غلمان يوسف بأمر منه المكيال في رحل أخيه بنيامين ، ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب : يا اصحاب العير انكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.

فدهش أولاد يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ). قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم .. وهذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة. (قالُوا) ـ اي غلمان يوسف ـ (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ). وهذا الضامن هو الذي قال : أيتها العير انكم لسارقون على عهدة المفسرين ، وضمن بشرط ان يرجع السارق المكيال من تلقاء نفسه ، وهذه الآية تدخل في بابين من أبواب الفقه : الجعالة والضمان ، والجعالة هي الالتزام بمال معين لقاء عمل معين لأي عامل كان كقولك : من فعل كذا فله كيت. والضمان هو التعهد بالوفاء كقول المنادي : وأبا به زعيم أي ضامن للوفاء بحمل البعير من القمح ، وفي الحديث : «الزعيم غارم».

(قالُوا) ـ أي أولاد يعقوب ـ (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ). ناقشوا وجادلوا وأقاموا الدليل على براءتهم ونزاهتهم ، وقالوا فيما قالوا : كيف تتهموننا بالسرقة ، وقد علمتم من نسبنا وسيرتنا في السفرة الأولى والثانية أنّا لم نأت إلى هذا البلد للخيانة والفساد ، وانما لنشتري الطعام لأهلنا .. وفي كثير من التفاسير ان أولاد يعقوب لما وجدوا بضاعتهم في رحلهم بعد عودتهم الى أهلهم في السفرة الاولى ظنوا انها وضعت فيه سهوا ، فلم يستحلوها ، بل حملوها من بلدهم الى مصر وارجعوها الى العزيز ، واشتهر ذلك عنهم ، حتى عرفوا بالأمانة والصلاح .. وهذا الذي ذكره المفسرون غير بعيد ، بل اليه يومئ قول أولاد يعقوب : (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ).

وتسأل كيف استحل يوسف ان يدس المكيال في وعاء أخيه ، ويوجه التهمة لإخوته ، مع علمه ببراءتهم؟.

الجواب : أولا ان هذه واقعة خاصة ، ولها ظروفها ومبرراتها الخاصة ، فلا يجوز القياس عليها ، ولا النقض بها .. ثانيا : ان المقصود الأول بتهمة السرقة هو بنيامين أخو يوسف لأمه وأبيه ، وقد جرى ذلك برضا منه ، والاتفاق معه


لحكمة اقتضت ذلك ، وهي في نفس الوقت لا تخالف أصلا من أصول الشريعة ، كتحليل الحرام ، أو تحريم الحلال .. هذا ، الى ان احتيال أولاد يعقوب على أبيهم لانتزاع ولده يوسف منه ، والغدر به ، وإلقاءه في الجب بقصد القتل في أبشع صورة ، ان هذا سرقة وزيادة.

سؤال ثان : كيف استباح يوسف أن يحول بين أخيه وأبيه ، ويزيده كربا على كربه؟.

الجواب : ان كل ما فعله يوسف كان لمصلحة أخيه وأبيه ، وهو على يقين بأن أباه يقره ، بل ويشكره عليه متى اطلع على الحقيقة .. وقد حدث ذلك بالفعل. وبديهة ان الأمور تقاس بعواقبها لا بأسلوبها ، وفي سائر الأحوال فإن الأنبياء لا يتهمون في جانب الحق.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ). ضمير قالوا يعود الى غلمان يوسف ، وضمير جزاؤه الى السارق ، والخطاب في كنتم لأولاد يعقوب ، والغرض من هذا السؤال انتزاع الاعتراف منهم بأن السارق يؤخذ عبدا أو أسيرا جزاء على فعله .. ليكون هذا الاعتراف حجة عليهم إذا أخذ يوسف أخاه ، وضمه اليه.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). فهو جزاؤه زيادة في الإيضاح ، تماما كما تقول : جزاء القاتل القتل فهو جزاؤه .. أجاب اخوة يوسف : من وجدتم الصاع في وعائه فخذوه أسيرا او عبدا ، وهذا هو شرعنا في عقوبة السارقين ، ونحن على يقين من براءتنا ، وطهارة اعراقنا.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ). بدأ المفتش بأوعيتهم تغطية للحيلة ، حتى إذا انتهى الى وعاء بنيامين استخرج المكيال منه ، وأشهره في وجوههم. وصعق أبناء يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة .. ولكن أين هذه مما قاساه يوسف في ظلمات الجب وحيدا فريدا؟.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ). اي أوحينا اليه بهذا التدبير ليقول اخوته من تلقائهم : ان للعزيز ان يأخذ أخاهم أسيرا او عبدا ، وسمى هذا كيدا لأن ظاهره غير واقعه ، وجاز شرعا لأنه لا يحلل حراما ، ولا يحرم حلالا. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) المراد بالملك ملك مصر ، وبدينه شرعه وقضاؤه ، والمعنى لولا هذا


التدبير لتعذر على يوسف ان يضم أخاه اليه. ذلك بأن من شرع ملك مصر وقضائه ان لا يعاقب السارق بالأسر او الاسترقاق ، بل بعقوبة أخرى كالسجن أو الضرب ويوسف لا يريد المكروه لأخيه ، فأوحى الله اليه بهذا التدبير وهو المقصود بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

والخلاصة ان الحكمة اقتضت ان لا يقول يوسف : هذا أخي ، ولا ان يأخذه بغير مبرر ، ولو ظاهرا ، وكان من شريعة آل يعقوب أن يسترق السارق ، ومن شريعة الملك وأهل مصر ان يسجن أو يضرب ، فاتخذ يوسف هذا التدبير الذي أوحاه الله اليه ليلزم اخوته بما ألزموا به أنفسهم. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم والنبوة ، كما رفعنا يوسف على اخوته. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) حتى ينتهي الى العلي الأعلى. وفيه إيماء الى ان اخوة يوسف كانوا علماء ، ولكن يوسف اعلم وأكمل.

ان يسرق فقد سرخ اخ الآية ٧٧ ـ ٨٠ :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠))


اللغة :

استيأسوا ويئسوا بمعنى واحد. وخلصوا انفردوا عن الناس. ونجيا اي متناجين متشاورين. وموثقا اي عهدا. وفرطتم قصرتم. فلن أبرح لن أفارق.

الإعراب :

ضمير أسرها يعود الى مقالتهم انه سرق. ومكانا تمييز. وأبا اسم ان وشيخا كبيرا صفة ، وله خبر ان. ومكانه ظرف منصوب بخذ. ومعاذ الله منصوب على المصدرية ، والمصدر من ان نأخذ مجرور بمن محذوفة ، والمصدر المجرور متعلق بمعاذ الله. وإذا فيها معنى الجزاء اي ان أخذنا غيره فنحن ظالمون. ومن قبل متعلق بفرطتم وما في (ما فَرَّطْتُمْ) زائدة اعرابا. ويأذن مضارع منصوب بأن بعد حتى. أو يحكم عطف على يأذن.

المعنى :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). ضمير قالوا يعود الى اخوة يوسف ، وضمير يسرق الى أخيه بنيامين ، أما المقصود بأخ له فهو يوسف بالذات .. وكل ما دلت عليه الآية ان اخوة يوسف ألصقوا تهمة السرقة به ، ولا اشارة فيها ولا في غيرها من الآيات الى ان يوسف سرق في طفولته بيضة أو دجاجة أو صنما لجده أبي أمه أو منطقة لعمته أو غير ذلك .. ولكن القرآن سجل صراحة الكذب على اخوة يوسف في قولهم : أكله الذئب ، بالاضافة الى حقدهم الذي دفع بهم الى فعل ما فعلوا .. وعلى هذا يسوغ لنا ان نقول : انهم كانوا كاذبين في نسبة السرقة الى يوسف حين طفولته ، وانها من عندياتهم ، وقولنا هذا وان كان مجرد استنتاج فإن فيه شيئا من المنطق ، أو هو احتمال غير بعيد ـ على الأقل ـ.

وأخذ المفسرون بقول اخوة يوسف أخذ المسلّمات ، حتى كأن الكذب مستحيل


في حقهم ، وراحوا يبحثون عن الشيء الذي سرقه يوسف ، فمن قائل : انه بيضة سرقها وأعطاها لجائع ، وقائل : بل دجاجة ، وقال ثالث : سرق صنما لجده أبي أمه وكسره ، وذهب رابع الى ان عمته بنت اسحق كانت تحضنه صغيرا ، ولما شب أراد أبوه ان ينتزعه منها ، فاتهمته بسرقة منطقة أبيها اسحق ـ وهي ما يشد به الوسط ـ ليبقى عندها عبدا ، لأن عقوبة السارق كانت الاستعباد ، وعلى هذا اكثر المفسرين ، وغريب ان لا يتنبه واحد منهم الى ان حكم الأطفال في جميع الشرائع غير حكم الكبار .. وأغرب منه قول بعض الصوفيين : ان أولاد يعقوب أرادوا بتهمة السرقة ان يوسف سرق منهم قلب أبيهم.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ). تجاهل مقالتهم حلما وكرما ، كما قال الشاعر :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فأعف ثم أقول لا يعنيني

(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). قال هذا في سره بدليل قوله تعالى : (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ).(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من نسبة السرقة إليّ والى أخي ، وانها محض افتراء.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). بعد ان أصبحوا تجاه الأمر الواقع ، وان العدل عندهم يقضي باسترقاق أخيهم بنيامين التجأوا الى التماس الرحمة بالعفو والصفح ، او أخذ الفداء والبدل ، وان يختار العزيز واحدا منهم ، وهم عشرة بين يديه ، طلبوا هذا وألحوا في الطلب ، وتشفعوا اليه ببره وصلاحه ، وبشيخوخة أبيهم ، وعظيم منزلته وقدرته ، وبضعفه وشغفه بولده بنيامين ، فعلوا هذا وأكثر منه لا حبا بأخيهم ، بل تخلصا من أبيهم ومسؤولية العهد الذي أخذه عليهم.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ). رفض يوسف طلبهم ورجاءهم ، وأصر على أخذ أخيه لأمر أراد الله ان يتمه بعد الامتحان والبلوى .. وتجدر الاشارة الى أن يوسف عبّر أدق تعبير وأحكمه عن براءة أخيه من السرقة في قوله : «من وجدنا متاعنا عنده» حيث فهم منه اخوة يوسف من سرق متاعنا ، والمقصود منه من استخرجنا متاعنا من وعائه ، والفرق بعيد بينهما.


(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا). بعد ان يئس أولاد يعقوب من تخليص أخيهم اعتزلوا الناس يتشاورون فيما يعتذرون لأبيهم (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) قال بعض المفسرين : المراد كبيرهم عقلا ، لا سنا. وقال آخرون : بل سنا وعقلا ، وهذا هو المتبادر إلى الأذهان ، ومهما يكن فان هذا الكبير قال لإخوته : ان أباكم قد أخذ عليكم عهدا ، واستحلفكم أن تأتوه بأخيكم ، فما ذا تقولون له إذا ابتم اليه من دونه؟. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) يشير الى القائهم إياه في الجب ، وما قاساه أبوهم نتيجة لذلك.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). قرر كبيرهم أن يبقى في جوار أخيه حياء وخجلا من أبيه ، وان لا يبرح الأرض التي فيها بنيامين الا بإذن من أبيه ، أو بفرج من الله بأي نحو شاء ، ولو بالموت. وما طال الأمد ، حتى جاء الفرج ، وانكشف الكرب عن الجميع ، ويأتي التفصيل.

وما شهدنا الا بما علمنا الآية ٨١ ـ ٨٧ :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ


ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

اللغة :

سوّلت لكم أنفسكم أي زينت. وابيضت عيناه كناية عن كثرة البكاء ، وقيل : أصاب عينيه غشاوة بيضاء غطت على البصر. والكظم تجرع الغيظ وإمساكه في القلب. والحرض المشرف على الهلاك ، وهو لا يجمع ولا يثنى لأنه مصدر. وبث الخبر أظهره وأذاعه ، والمراد بالبث هنا الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه. والتحسس طلب الشيء بالحواس كالسمع والبصر.

الإعراب :

واسأل القرية أي أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه. والعير أي واسأل أهل العير. وصبر خبر لمبتدأ محذوف ، وجميل صفة لصبر أي فأمري صبر جميل. وعسى الله لفظ الجلالة فاعل عسى ، والمصدر من أن يأتي مجرور بالباء المحذوفة أي عسى الله بأن يأتي ، قال ابن الناظم في «شرح الالفية» : «والحق ان أفعال المقاربة ملحقة بكان إذا لم يقترن الفعل بعدها بأن ، أما إذا اقترن بها فلا». وجميعا حال. ويا أسفا أصلها يا أسفي ، ثم أبدلت الياء ألفا ، والأسف هنا منادى أي احضر أيها الاسف. وقيل : يجوز أن تكون الألف في يا أسفا ألف الندبة. وتفتأ أي لا تفتأ ، وحذفت (لا) للعلم بها. وجملة تذكر خبر تفتأ. وتكون منصوب بأن بعد حتى ، أو تكون عطف على تكون الأولى.


المعنى :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ). هذا قول كبيرهم ، فهو يوصي اخوته ان لا يقولوا لأبيهم الا الحق ، وذلك بأن يخبروه بأنهم رأوا غلمان العزيز يستخرجون مكيال الملك من وعاء بنيامين ، وان العزيز أصر على أخذه .. هذا ما شاهدناه ، والله أعلم بما وراء ذلك ، ولو علمنا الغيب ما سألناك ان تسمح لنا به ، ولا أعطيناك العهد بأن نرجعه اليك ، وقد بذلنا المجهود ، واعذرنا الى الله واليك.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي اسأل أهل مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) واسأل أيضا القافلة التي جئنا معها من مصر ، فقد رأت ما رأينا ، وهي الى جوارك في أرض كنعان (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك ، وهم في هذه المرة يتكلمون بثقة وجرأة لأنهم على يقين من صدقهم على العكس من موقفهم الأول مع أبيهم حين أتوه بدم كذب على قميص يوسف.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً). لما رجعوا الى أبيهم وأخبروه بما حدث قال : كلا ، بل زينت لكم أنفسكم الكيد لولدي ، كما فعلتم من قبل بأخيه يوسف. وتساءل المفسرون : كيف اتهم يعقوب بنيه بالكيد قبل ان يتثبت من الحقيقة ، وهو نبي معصوم؟. ثم أجابوا بوجوه لا تستند الى أساس ، وأحسن الوجوه التي ذكروها على ما فيه ـ ان مراد يعقوب أن أنفسكم صورت لكم ان بنيامين سارق ، وما هو بسارق .. وفي رأينا ان يعقوب اتهمهم بالكيد قياسا على صنيعهم مع يوسف ، ولكنه لم يجزم بقول قاطع لعدم الدليل على كذبهم ، وأيضا لم يأخذهم بالظن من حيث العقوبة لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا .. وهذا لا يتنافى مع مقام النبوة ، لأن النبي لا يعلم الغيب ، وهو كأي انسان يحتمل ويظن ، والفرق بينه وبين غيره انه لا يرتب أثرا على ظنه كما يفعل غير المعصوم.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال هذا حين غاب عنه بنيامين ، ومن قبل قال حين غاب يوسف : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). هذا هو شعار الصالحين ، يحزنون ،


وهم في جميع الحالات على الله متوكلون. كما قال سيد الأنبياء وخاتم الرسل (ص) : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول الا ما يرضي ربنا. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً). وهم يوسف وبنيامين ، والأخ الثالث الذي بقي بجوار أخيه في مصر .. وفي كلمة عسى شعاع من الأمل ، وبالخصوص إذا كانت ممن يؤمن بالغيب إيمانه بالواقع الملموس كالأنبياء والصديقين ، وفي نهج البلاغة : «لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده». وفي هذا المعنى كثير من الأحاديث (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يعلم حزني وألمي ، ويدبر الأمور على حكمته.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ). اعتزل الناس ليندب وحده من لن ينساه أبدا ، يندبه بهذه الصرخة الحزينة : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وزاده فراق ولده بنيامين حزنا على حزن ، وبكاء على بكاء (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ). أصيبتا بالقرحة من آثار البكاء ، فهو يتنفس منهما بالدموع ، كما يتنفس من رئتيه بالآهات والحسرات (فَهُوَ كَظِيمٌ) يتجرع الغيظ ويتجلد ، ولكن على حساب جسمه وأعصابه.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي الميتين ، والحرض المرض أو المريض الذي لا ينتفع بنفسه ، والمعنى ان أولاد يعقوب قالوا له : لا تزال تلهج بذكر يوسف ، حتى تمرض او تموت بلا جدوى لأن يوسف ذهب ولن يعود (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لا إليكم لأن الشكوى لمن لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا ذل وسفه. قال الإمام علي (ع) : «الله الله ان تشكو الى من لا يشّكي شجوكم ـ أي يزيل الشكوى ـ ولا ينقص برأيه ما قد أبرم لكم» ..

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). نكب يعقوب ، وابتلي بفراق يوسف ، ولكنه في الوقت نفسه يحسن الظن بالله ، ويثق به ، ولا ييأس من رحمته ، ويؤمن بأن عاقبة الصبر الفرج ، كما دل قوله لبنيه : «ولا تيأسوا من روح الله» وإذا عطفنا ثقته بالله على رؤيا يوسف في صغره جاءت النتيجة ان يعقوب مطمئن على حياة يوسف الى حد كبير ، ولكنه لا يعلم أين هو؟. وكيف حاله؟.


وهل يعيش في عبودية او في حرية؟. ومن هنا كان حزنه وقلقه.

لا تفاؤل ولا تشاؤم :

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) ـ اي فرجه ـ (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). اذهبوا وتحسسوا ولا تيأسوا ، قرن الأمل بالعمل ، ومعنى هذا انه إذا انتفى العمل انعكست الآية ، واقترن اليأس بالكسل ، وصحت القاعدة طردا وعكسا. وكان الأمل والرجاء مع الإهمال جهلا وسفها .. وكلمة تحسسوا توحي بوجوب العمل بكل الحواس ظاهرها وباطنها .. وهكذا العاقل إذا نزلت به نازلة دفعت به الى الكفاح والنضال للقضاء على أسبابها ، سواء أكانت هذه الأسباب هي الأوضاع الفاسدة ، أم كان السبب يكمن في نفس الإنسان كالتقصير واللامبالاة ، وإذا أصابته حسنة ـ أي العاقل ـ خاف من ضربات الدهر وغائلته ، وتحصن بتقوى الله وطاعته ، ولا يطغيه غنى ، ولا يبطره جاه ، قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ـ ٩٩ الأعراف».

ونخلص من هذا الى ان المتشائم الذي يقول : لا جدوى من العمل هو الشؤم بالذات ، ومثله المتفائل مع الكسل وترك العمل .. والإنسان السوي من كان بين بين ، يعمل ويناضل عند الشدة ، ولا ييأس من روح الله وفرجه ، ويخاف ويحذر عند الرخاء ، ولا يأمن مكر الله وبأسه.

انا يوسف الآية ٨٨ ـ ٩٣ :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا


أإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

اللغة :

المراد بالضر هنا المجاعة. والبضاعة المزجاة الرديئة أو القليلة ، ويقال : أزجى الشيء إذا دفعه برفق ، ومنه قوله تعالى : «ان الله يزجي سحابا». وآثرك اختارك وفضلك. وخاطئين جمع خاطئ ، وقيل : الفرق بين الخاطئ والمخطئ ان الأول يتعمد الخطيئة ، والثاني يريد الصواب فيخطئه. والتثريب التعنيف والعقوبة ، يقال : ثرّب فلان على فلان إذا عدد ذنوبه عليه.

الإعراب :

هل علمتم استفهام ومعناه التقريع أي ما أعظم ما ارتكبتم. وما فعلتم (ما) استفهام والمعنى اي شيء فعلتم ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة فعلتم خبر ، وعلمتم معلقة عن العمل لفظا لمكان الاستفهام وعاملة معنى لأن الجملة من المبتدأ والخبر محلها النصب بفعلتم. لأنت يوسف اللام للابتداء وأنت ضمير فصل ويوسف خبر لائنك ، ويجوز ان يكون أنت مبتدأ ويوسف خبر ، والجملة خبر ان. لا تثريب (لا) نافية للجنس وتثريب اسمها وهو مبني على الفتح لأنه مفرد ، وعليكم متعلق بمحذوف خبرا للا ، واليوم متعلق بما تعلق به الخبر. ويأت


مجزوم بجواب الطلب ، وهو القوة ، وبصيرا حال من أبي ، وأجمعين حال من لأهلكم.

المعنى :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أوصى يعقوب بنيه أن يعودوا الى مصر ، فقبلوا منه ، وعادوا اليها مرة ثالثة .. ودخلوا على العزيز منكسرين مسترحمين ، وبدأوا بالشكوى من الجهد والمجاعة .. مسنا وأهلنا الضر .. تصدق علينا .. ان الله يحب المتصدقين .. وإذا جئناك ببضاعة لا تليق فلأن الدهر غير مؤات .. قالوا هذا ، وهم أحفاد ابراهيم الخليل (ع) ، ولكن الشدة بلغت غايتها .. وجاءت النتيجة فوق ما يتصورون ، وهذه هي:

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ). بعد ان استمع يوسف لاستعطاف اخوته وتضرعهم ، وعرف بؤس أهله وحاجتهم رقّ وتغلبت عليه عاطفة الرحم وقرابة الدم ، وقال لهم معاتبا أو واعظا : أتذكرون يوما استجبتم فيه لدعوة الشيطان ؛ فألقيتم بأخيكم يوسف في غيابة الجب ، وأذقتم أخاه بنيامين من بعده صنوف الأذى؟. ألم تقولوا بالأمس القريب : «ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل؟. وهل يفعل الجاهل أكثر من فعلكم هذا؟.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ). وللمفسرين هنا كلام لا يتحمله لفظ الآية ، ولكنه يتفق مع طبيعة الموضوع ، ويساعد الاعتبار عليه ، وملخصه ان اخوة يوسف حين قال لهم ما قال تذكروا ما كانوا يعرفونه من ملامح وجهه ، ونبرات صوته ، وإشارات يده .. ومهما يكن فقد التمع في خاطرهم أو خاطر بعضهم انه يوسف (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ). قالوا هذا وانتظروا الجواب ، فكانت المفاجأة التي لا تخطر على بال (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) .. وأريد من القارئ أن يقف هنا قليلا ، ويقارن بين موقفهم هذا الضعيف الذليل ، وبين موقفهم يوم ألقوا يوسف في الجب ، لا يأخذهم فيه دين ولا رحم .. ولا


عجب (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) دنيا وآخرة ، والمراد بالمحسنين هنا الذين عملوا وثابروا وصبروا على الصعوبات ، وقد يهزمهم المسيئون الأشرار مرة أو مرات ، ولكن العاقبة للمتقين ، والشواهد على ذلك لا تقع تحت حصر من عهد النمرود الى عهد هتلر .. وقد ابتليت الانسانية اليوم بالصهيونية المتجسمة باسرائيل ، وبالاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة أعتى عتاة الشر والفساد في هذا العصر .. ولسنا نشك إطلاقا في ان مصير الاثنتين هو مصير كل طاغ وباغ سابق ولا حق .. ولا نقول هذا لمجرد التعبير عما نحب ونرغب .. كلا ، فإنه منطق طبيعي لتطور الحياة والتاريخ .. ان للحق أهلا يطالبون به ، ويضحون من اجله ، وان للخير قوى تناصره وتؤازره ، وستتحد في يوم من الأيام ضد الظلم والطغيان ، وتدور الدائرة على اهله وأنصاره.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ). اعترفوا بأن الله فضله عليهم علما وعقلا ، وكمالا وجمالا ، وأخيرا بالجاه والسلطان .. وأقروا بالذنب ، وطلبوا العفو والصفح ، ويوسف كريم وابن كريم ولذا (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) عفى يوسف عما مضى بلا تعنيف وتأنيب ، ودعا الله ان يغفر لهم ما فرط منهم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لمن تاب وأناب. وفي نهج البلاغة ، «لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تلهه رحمة عن عقاب» وتواتر عن النبي الأعظم (ص) انه حين فتح مكة قال لقريش : ما تظنون اني فاعل بكم؟ قالوا : نظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم كما قال اخي يوسف.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ). وتعود بنا هذه الآية الى الآية ١٧ وهي : «قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب .. وجاءوا على قميصه بدم كذب ..». نعود الى هذه الآية لنقارن بين القميص الأول والقميص الثاني ، فالأول جر على يعقوب البلاء والأدواء ، أما الثاني ففيه الشفاء والهناء ، ونقارن ايضا بين موقف ابنائه حين جاءوه بالقميص الأول معزين ، وموقفهم حين أتوه بالثاني مهنئين.

وإذا سأل سائل : كيف يكون إلقاء القميص على البصر سببا لشفائه؟ أجبنا


بأنه لا نجد تفسيرا لذلك الا المعجزة الخارقة ، تماما كنار ابراهيم ، وعصا موسى ، وكلام عيسى في المهد ، فهؤلاء أنبياء ، ويوسف وأبوه نبيان.

اني لاجد ريح يوسف الآية ٩٤ ـ ٩٨ :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

اللغة :

فصلت العير تجاوزت المكان الذي كانت فيه. والفند ضعف الرأي والمراد تسفّهون رأيي وتقولون قد خرف من الكبر. وفي ضلالك أي خطئك.

الإعراب :

لولا حرف امتناع ، والمصدر من ان تفندون مبتدأ والخبر محذوف. وجواب لولا محذوف ايضا اي لولا تفنيدكم حاصل لصدقتموني. فلما ان جاء (ان) زائدة اعرابا.


المعنى :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ). فصلت العير اي تحركت من المكان الذي كانت فيه ، وهو مصر ، واتجهت الى أرض كنعان حيث يسكن يعقوب : وتفندون تنسبونني الى الفند ، وهو الخرف .. وظاهر الآية يدل على ان يعقوب شم رائحة القميص من مكان بعيد ، وبمجرد ان تحرك الركب من مكانه ، وقبل ان يتجاوز أرض مصر ، مع ان المسافة بين يعقوب وحامل القميص كانت مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : عشرة .. وأبقى المفسرون اللفظ على ظاهره ، وقالوا : ان يعقوب وجد ريح القميص حقيقة على الرغم من بعد المسافة عنه ، واعتبروا ذلك معجزة خص الله بها يعقوب.

وغير بعيد أن يكون الريح كناية عن الحدس المصيب الذي يقع للإنسان في بعض الأحيان بخاصة لأهل القلوب الطيبة الصافية ، وان يعقوب قد أحس قلبه بدنو اللقاء ، فعبّر عنه بريح يوسف ، ويرجح ارادة هذا المعنى ان اليأس من لقاء يوسف ما خامر قلب يعقوب لحظة واحدة ، ويشهد على ذلك قوله : فتحسسوا من يوسف وأخيه. وقوله : عسى أن يأتيني بهم جميعا. وقوله ليوسف : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك .. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك. وقوله : اني اعلم من الله ما لا تعلمون.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ). ضمير قالوا يعود الى من كان حاضرا في مجلس يعقوب حين قال : أجد ريح يوسف ، والمعنى ان الذين حضروا مجلس يعقوب قالوا له : أنت مخطئ في إصرارك وانتظارك يوسف الذي ذهب كما ذهب غيره من الأموات. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) .. وما كان يعقوب مخطئا في حدسه ، فلقد جاء البشير يحمل قميص يوسف ، وما ان مس وجه يعقوب ، حتى عادت اليه نعمة البصر ، وسعادة الحياة ، وقيل : ان الذي حمل هذا القميص هو الذي حمل القميص الملطخ بدم كذب قبل أربعين سنة ، ليمحو السيئة بالحسنة ، وأيضا قيل لا عجب ان يرتد بصر يعقوب بمجرد البشرى «فكثيرا ما شفى السرور والفرح من الأمراض ، وتجارب الطب شاهد صدق على ذلك».

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). يشير الى قوله في الآية


٨٦ : «قال انما أشكو بثي وحزني الى الله واعلم من الله ما لا تعلمون» وقد مر شرحها.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ). ندم اخوة يوسف على فعلتهم ، وتابوا من خطيئتهم ، وسألوا أباهم ان يدعو الى الله ان يقبل منهم التوبة ، ويغفر لهم الذنب ، وشرطوا على أنفسهم ان لا يعودوا الى معصية.

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). قال بعض المفسرين الجدد : «ان كلمة سوف لا تخلو من الاشارة الى قلب انسان مكلوم». يريد أن قلب يعقوب ما زال فيه شيء على بنيه رغم توبتهم وطلبهم المغفرة .. وهذا اشتباه وقياس لقلوب الأنبياء على قلوب سائر الناس ، والصحيح ان يعقوب أرجأ الدعاء لهم بقبول التوبة الى خلوته وانقطاعه الى ربه في الظلمات والاسحار ، لأن ذلك ادعى للقبول والاستجابة ، قال سبحانه : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ـ ١٨ الذاريات». وقال : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) ـ ١٧ آل عمران».

اجتماع يوسف ويعقوب الآية ٩٩ ـ ١٠٢ :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي


بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

اللغة :

آوى اليه أبويه ضمهما اليه. والعرش السرير الذي يجلس عليه الملك أو الرئيس وتأويل الرؤيا تفسيرها بما تؤول اليه. ونزغ الشيطان أفسد. وفاطر السموات والأرض خالقهما على غير مثال سابق.

الإعراب :

سجدا مفعول مطلق مبين للنوع. وأبت أصلها بالياء ، وحذفت للتخفيف. وحقا مفعول ثان لجعل لأنها بمعنى صيّر. والمصدر من ان نزغ مجرور بإضافة بعد. وربّ أصله يا ربي. وفاطر السموات أي يا فاطر السموات ، ويجوز أن يكون صفة لربي لأنه منادى مضاف. وذلك مبتدأ ومن انباء الغيب خبر.

المعنى :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ). حزن يعقوب وأرسل الدمع مدرارا على فراق يوسف ، وهو يعلم ان البكاء لا يجديه شيئا ، ولكنه كان يخفف به من لوعة البعد ، وحرقة الفراق ، وامتد حزنه أمدا طويلا لأن يوسف اقام سنوات في بيت الذي اشتراه بثمن بخس ، وسنوات في السجن ، وسنوات يدبر شئون البلاد المصرية ، منها سبع رخاء قبل ان يلتقي مع اهله ، حيث كان اللقاء في سني الجدب ، وكان كلما طال الزمن ازداد حزن يعقوب كما يومئ قول


من قال له : «تالله انك لفي ضلالك القديم».

وإذا عرفنا مبلغ الحزن في نفس يعقوب من ألم الفراق عرفنا مبلغ فرحته وسعادته بلقاء يوسف ، لأن الفرحة بالشفاء من الاسقام تأتي على قدر ما تركته هذه من الأوجاع والآلام ، أو تزيد أضعافا.

وقال جماعة من المفسرين : المراد بأبويه أبوه وخالته ، لأن امه ماتت من قبل .. وابعد البعض في قوله : ان امه ماتت ، ثم نشرت من قبرها لترى عظمة ولدها وتسجد له .. ولا طائل من هذا التحقيق وأمثاله الا تكثير الكلام.

وتسأل : ان صدر الآية لا يتفق مع عجزها ، لأن الصدر يقول : لما دخلوا على يوسف ضم أبويه اليه ، ومعلوم ان يوسف كان في مصر ، والعجز يقول : بعد ان دخلوا عليه ، وهو في مصر قال لهم : ادخلوا مصر ـ كما هو الظاهر من سياق الآية ـ ومعنى هذا انهم بعد ان دخلوا مصر قال لهم ادخلوا مصر؟.

وقيل في الجواب : ان يوسف أقام لأهله سرادقات بالقرب من الحدود ، وفيها دخلوا عليه ، وضم أبويه اليه ، ولما استأنفوا السير من السرادقات متجهين الى مصر قال لهم : ادخلوا مصر .. وهذا الجواب يحمّل لفظ الآية أكثر مما يتحمل ، وغير بعيد أن يكون مراده من ادخلوا مصر أقيموا فيها آمنين ، كما حدث ذلك بالفعل ، حيث أقطعهم الملك أرضا خصبة في مصر ، وظلت سلالة يعقوب فيها أمدا طويلا .. فقد جاء في مجمع البيان : «وانما قال لهم : آمنين. لأنهم كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجوازهم ـ أي بجواز السفر كما هو المتبع في هذا العصر ـ قال وهب : ان آل يعقوب دخلوا مصر وهم ٧٣ إنسانا ، وخرجوا مع موسى الذي هو من نسل يعقوب ، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا» .. وأيضا في مجمع البيان ان بين يوسف وموسى ٤٠٠ سنة.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أجلسهما على السرير الذي كان يجلس عليه ، وهو يدير شئون المملكة تعظيما لهما (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً). ضمير خروا عائد الى ابوي يوسف واخوته ، وضمير له الى يوسف ، والمراد بالسجود هنا الانحناء تعظيما وتكريما ، وكان الانحناء تحية الناس للمعظم في ذاك العصر ، كما في بعض


التفاسير. وقيل : ان ضمير له عائد الى الله ، وان السجود كان شكرا له تعالى على هذه النعمة الكبرى .. وهذا القول يخالف ظاهر السياق ، ولا يتفق مع قول يوسف في الآية ٤ : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، أي له لا لغيره.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا). يشير إلى قوله في أول السورة : «يا أبت اني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين». وسبق الشرح والتفصيل. وفي تفسير الرازي : «اختلفوا في مقدار المدة بين وقت اللقاء وبين الرؤيا ، فقيل : ٨٠ سنة. وقبل ٧٠. وقيل : ٤٠ وهو قول الأكثر .. وكان عمره ١٢٠ سنة». ونحن لا نعلم يقينا كم كان عمره حين ألقي في الجب ، ولا المدة التي أقامها في بيت الذي اشتراه ، ولا أمد سجنه وحكمه ، لأننا لم نهتد الى أصل يصح الاعتماد عليه ، وأقوال المفسرين والرواة متضاربة .. ولكن الأكثر على انه عاش ١٢٠ سنة.

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). ان الله سبحانه يبتلي الإنسان بالرخاء كما يبتليه بالشدة : (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ـ ٤٠ النمل». وقال الإمام علي (ع) : «لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظما». وقد ابتلي يوسف بالضراء فصبر وبالسراء فشكر ، وها هو يحدث بنعمة الله عليه ، ويعدد إحسانه اليه .. اخرجني من السجن ، وسما بي الى الحكم ، وجاء بأهلي من البادية ، حيث كانوا يرعون الإبل والأغنام ، حتى هذه أهلكها الجدب والقحط ، وأصبحوا على الأرض البيضاء لا يملكون شيئا ، ويقولون للعزيز : تصدق علينا ان الله يحب المتصدقين ، فأغناهم الله بيوسف وكفاهم شر الفقر والعوز.

ولم يذكر إخراجه من الجب مراعاة لشعور اخوته ، وأيضا نسب ما كان منهم الى الشيطان وقال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ولم ينسبه اليهم لنفس السبب (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) يلطف بالطيبين ، ويبلغ بهم إلى ما يشاؤه لهم من العز والكرامة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). والفرق بين حكمة الله وعلمه ان جميع أفعاله وأحكامه تأتي على وفق الحكمة : «ربنا ما خلقت هذا باطلا». اما علمه فلا ينفك عن المعلوم ، فمتى علم بأن في هذا الشيء


حكمة وجد فورا ، وبكلمة ان علمه هو قوله للشيء كن فيكون.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). فاطر السموات والأرض أي خالقهما على غير مثال سابق لهما ، وذكر السموات بصيغة الجمع ، والأرض بصيغة المفرد لأن الإنسان يرى بعينيه سموات كثيرة ، ولا يرى الا أرضا واحدة. أنت وليّي أي تتولى جميع أموري في الدارين .. بعد أن حدث يوسف بنعم الله عليه توجه اليه تعالى شاكرا ما بسط له من الملك ، وما خصه به من النبوة ، متوكلا عليه في جميع شئونه ، ومتوسلا اليه ان يميته على طاعته ومرضاته ، وان يلحقه بصالح من مضى من آبائه ، ويجعله من صالح من بقي من أبنائهم.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). بعد أن ذكر سبحانه قصة يوسف توجه الى رسوله الأكرم محمد (ص) بهذه الآية ، والغرض منها إلقاء الحجة على من أنكر نبوته ، وملخصها ان ما قصصناه من أمر يوسف بهذا التفصيل لم يشاهده محمد بنفسه ، ولا قرأه في كتاب ، ولا سمعه من انسان ، وانما هو وحي من الله دال على صدقه ونبوته (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ). ضميرا اجمعوا وهم يعود الى اخوة يوسف ، والخطاب موجه الى محمد (ص) وكل الناس يعرفون ان محمدا لم يكن حاضرا حين أجمعوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب : وحين مكروا بأبيه وقالوا أكله الذئب .. وأيضا كل الناس يعرفون ان محمدا ما قرأ كتابا ولا تتلمذ على أستاذ .. فلم يبق ـ اذن ـ من طريق الى معرفته بهذا الغيب الا وحي السماء .. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٤٩ هود».


هل سورة يوسف قصة غرام؟

قد يظن من النظرة الأولى ان سورة يوسف أشبه بقصة بطلتها امرأة تحكمت فيها أنوثة حيوانية عشقت فتى وسيما لم تر رجلا مثله بين الرجال لحسنه وجماله ، وان هذا الفتى عزف عنها متحصنا بتقوى الله والخوف من حسابه وعقابه ، تماما كقصة سلّامة المغنية مع عبد الرحمن القس (١).

وفي الناس من قال : كان الأولى ان لا تذكر هذه السورة في كتاب الله العزيز ، وقال بعض المؤمنين : ان لله حكمة غامضة في هذه السورة لا نعرفها ، وأحسن هؤلاء في تحفظهم كما أساء الميمونية من الخوارج ، حيث أنكروا سورة يوسف لأنها قصة غرام في زعمهم ، وخرجوا بذلك عن جميع المذاهب الاسلامية.

والحقيقة التي انتهينا اليها ، ونحن نفسر هذه السورة الكريمة ان من قرأها بامعان وتدبر ، وأدرك أسرارها وأهدافها يؤمن ايمانا قاطعا بأنها تقدم أوضح الأمثلة من الحس والتجربة على ان القيم الروحية كثيرا ما يكون الالتزام بها وسيلة للنجاح في هذه الحياة على رغم الأوضاع الفاسدة ، وان من قرأها قراءة سريعة يقول ما قاله الميمونية : انها قصة غرام ، أو ما قاله بعض المؤمنين : «لله حكمة فيها لا نعرفها». أجل ، لا يعرفها الا من تدبر كلمات الله وآياته .. ونعرض فيما يلي طرفا من الحقائق التي اشتملت عليها هذه السورة والتي تفرض نفسها وصدقها على كل من يتوخى الحقيقة ويبحث عنها :

١ ـ ان الصراع بين الحق والباطل قائم ودائم في هذه الحياة لا صلح بينهما ولا هوادة .. والنتيجة الطبيعية لذلك ان من يسلك طريق الباطل يقاومه المحقون ، ولكن بالعدل والصدق ، لا بالكذب والغش والخديعة ، لأنهم يرفضون أي سلاح لا يقره الحق والعدل .. ومن يسلك طريق الحق يحاربه المبطلون ، ولكن بالافتراء والدس وأنواع الكيد والمكر ، لأن من يصر على الباطل لا يملك الا التزييف

__________________

(١). اقرأها في «العقد الفريد» ج ٧.


والتزوير ، ومن هنا كان الحق غالي الثمن ، كثير التكاليف على من يتبعه ويستمسك به.

وقد ضرب الله مثلا على هذه الحقيقة بيوسف ، راودته امرأة العزيز عن نفسه ، فأبى واستعصم بتقوى الله ، فهددته بالسجن ان لم يفعل ، فأصر ولم يفعل ، وقال : ربّ السجن أحب إليّ ، فسجن ودفع الثمن غاليا من نفسه ، لأن الدين أثمن وأغلى .. ولكن الذين يصارعون الحق يلقون السلاح في النهاية ، ويستسلمون للمحقين رغم أنوفهم ، تماما كما حدث لاخوة يوسف وامرأة العزيز.

٢ ـ ان قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) يعطينا ضابطا عاما ، ومقياسا صحيحا للتمييز بين المؤمن وغير المؤمن .. فمن استجاب لهذا البرهان ساعة الابتلاء والامتحان ، كما استجاب له يوسف الصديق ، فهو من الذين استقر الايمان واليقين في قلوبهم حقا وصدقا ، ومن اندفع وراء رغبته وشهوته ، وتجاهل برهان ربه وأمره بطاعته فما هو من الدين والايمان في شيء.

٣ ـ ان الأخيار يقاسون ، ولا شك ، الكثير من الرزايا والخطوب إذا ألقى بهم الدهر في بيئة ظالمة في نظامها ، فاسدة في أوضاعها .. ولكن إذا تعقدت المشاكل ، واستعصى الحل على الجميع اضطروا والتجأوا الى الاكفاء متضرعين ، كما التجأ ملك مصر الى يوسف ، وهو في سجنه ليقي البلاد من شر السنين العجاف .. ان الأوضاع الفاسدة ترفع من شأن الأشرار الفاسدين ، وتحط من شأن الطيبين ، ولكن الشدائد تظهر كلا على حقيقته ، وتضعه في موضعه.

٤ ـ ان ترويض النفس على الاحتمال في سبيل الحق يأتي بأحسن النتائج وأفضلها : فلقد صبر يوسف الصديق على البئر والسجن ، والبيع كالعبيد ، والتهمة بالخيانة ، فكانت النتيجة ان أصبح السيد المطاع ، يقول له الملك : انك اليوم لدينا مكين أمين ، ويقف اخوته بين يديه منكسرين مسترحمين : تصدق علينا ان الله يحب المتصدقين ، وفي النهاية يخرون له ساجدين ..

هذا عرض سريع لبعض العظات والعبر في هذه السورة الكريمة ، ومن أحب التفصيل فليقرأها كاملة مع التفسير.


وما اكثرالناس بمؤمنين الآية ١٠٣ ـ ١٠٧ :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

اللغة :

الغشاء الغطاء ، والمراد بالغاشية هنا العقوبة الشاملة. والمراد بالساعة القيامة والبغتة الفجأة.

الإعراب :

كأين كلمة واحدة بمعنى كم ، وأصلها كلمتان كاف التشبيه وأي المنونة ونونها بدل عن التنوين ، ومميزها مجرور بمن في الغالب ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة يمرون عليها خبر ، ولا يكون خبرها إلا جملة. وعليها هنا بمعنى بها مثل اركبوا على اسم الله. وبغتة مصدر في موضع الحال من الساعة.

المعنى :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). ان لمحمد (ص) آيات ومعجزات


تدل على نبوته ، منها شريعته وسيرته ، ومنها القرآن ببلاغته وتعاليمه وحقائقه واخباره بالغيب ، ومن هذا الاخبار قصة يوسف بتفاصيلها ، كما ذكرنا في الآية ١٠٢ من هذه السورة.

وقد كان النبي (ص) حريصا على إيمان الناس وهدايتهم ، بخاصة قومه من قريش ، ولكن الأكثر منهم لم يستجيبوا لدعوة الله ، اما حرصا على منافعهم الخاصة كالرؤساء والأقوياء ، واما جهلا وتقليدا كالضعفاء والتابعين ، وفي هذه الآية قال سبحانه لنبيه الكريم : انك لا تهدي من أحببت على رغم إخلاصك ومعجزاتك ، وأنت في غنى عنهم وعن إيمانهم (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). وضمير هو يعود الى القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، ويوجه العقول الى آيات الله ودلائل عدله ووحدانيته ، يهدي ويوجه بلسان الرسول الأعظم (ص) بلا مال ولا جعل.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ). كأنّ الله تعالى يقول لنبيه هوّن عليك إذا لم يؤمنوا بك وبدلائل نبوتك فإنهم قد كفروا بي وأنا خالقهم ورازقهم. وقد ملأت الكون وأنفسهم بالدلائل على عظمتي وقدرتي ، ومع هذا اعرضوا عنها وكفروا بي وبها ، وهي بمرأى منهم ومسمع فلا عجب إذا كفروا بك ، وأعرضوا عنك وعما أظهرته على يدك من الآيات والمعجزات ..

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). هذه الآية جواب عن سؤال مقدر حول الآية السابقة ، وهي : «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين». ومحصل السؤال : كيف قال سبحانه : وما أكثر الناس بمؤمنين مع العلم بأن العرب وأهل الكتاب يقرون بوجود الخالق ، وقد كانوا أكثر الناس يومذاك؟. بل ان القرآن يعترف صراحة بذلك ، حيث قال في الآية ٦١ من سورة العنكبوت : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). فأجاب سبحانه عن هذا السؤال المقدر بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). أي انهم يقرون بوجود الخالق ، ولكن أكثرهم يجعل له شريكا ، فاليهود أو طائفة منهم يقولون : لله ولد هو عزير. والنصارى يقولون : بل


المسيح ، والعرب يشركون الأصنام في العبادة ، ويخاطبون الله بقولهم : لبيك لا شريك لك الا شريك هو لك ، تملكه وما ملك .. ولا فرق بين من جحد وأشرك.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). في الآية ١٠٣ قال سبحانه لنبيه : انهم لا يؤمنون بك ، وفي الآية ١٠٥ قال : انهم كفروا بي وأنا الخالق الرازق ، وفي الآية ١٠٦ قال : حتى أكثر المقرين بي جعلوا لي شريكا ، فكان من الطبيعي أن يعقّب على ذلك بالتهديد والوعيد بالعذاب الأليم.

وتسأل : ان ذكر البغتة يغني عن ذكر «وهم لا يشعرون» فما هو الغرض من التكرار؟.

الجواب : ان لفظ البغتة يومئ الى وقوع العذاب حين يقظة الحواس ، أما عدم الشعور بمجيء العذاب فقد يكون في اليقظة ، والناس منصرفون الى أعمالهم ، وقد يكون في النوم ، ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) ـ ٥٠ يونس».

قل هذه سبيلي الآية ١٠٨ ـ ١١١ :

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ


نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

اللغة :

السبيل الطريق ، وكلاهما يذكّر ويؤنّث ، والإسلام طريق الى الخير دنيا وآخرة. والمراد بالبصيرة هنا الحجة الواضحة. استيأس بمعنى يئس. وظنوا هنا بمعنى تيقنوا. والبأس العقاب. والعبرة كل حادثة تعبّر لك عما تهتدي به وتتعظ. والألباب جمع لب ، وهو عقل الإنسان ، وسمي العقل لبا لأنه أفضل ما في الإنسان.

الإعراب :

على بصيرة متعلق بمحذوف حالا من ضمير ادعو وانا تأكيد له ، ومن اتبعني عطف عليه ، وسبحان منصوب على المصدرية أي أسبح الله تسبيحا. كيف خبر مقدم لكان ، وعاقبة اسمها ، والجملة في محل نصب مفعولا لينظروا. (ما كان) فيها ضمير مستتر يعود الى القرآن أو المتلو ، وحديثا خبر كان. وتصديق خبر لكان محذوفة مع اسمها أي ولكن كان القرآن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيلا وهدى ورحمة عطف على التصديق.

المعنى :

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). أمر الله محمدا


أن يقول للمشركين : هذه سبيلي وسنتي ، وحقيقتها ظاهرا وواقعا هي الدعوة الى الله عن علم وبالحجة والمنطق .. وليس من شك ان كل الأنبياء وأتباعهم المخلصين يدعون الى الايمان بالله واليوم الآخر ، واقامة الحق والعدل ، يدعون الى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة ، ومجابهة الحجة بالحجة ، والفكرة بالفكرة على المنطق السليم الذي تعتمد عليه رسالة النبيين ، ودعوة المصلحين (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا بيان وتفسير لدعوة محمد (ص) وانها منزهة عن الشرك بشتى معانيه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى). المراد بأهل القرى من يسكن الحضر دون البادية ، سواء أكان المصر الذي يسكن فيه الحضريون كبيرا ، أم صغيرا. وقال المفسرون : «تدل الآية على ان الله ما بعث امرأة على الإطلاق ، ولا رجلا من البدو لأن فيهم غلظة وجفاء» .. ذكر المفسرون جفاء أهل البادية ، ونسوا انهم أصدق لهجة ، وأصفى فطرة من أهل الحضر ، وأيضا نسوا اهتمام النساء بأحمر الشفاه وتبييض الخدود ، وعلى أية حال فان الله أعلم حيث يجعل رسالته .. أما الغرض من الآية فهو إلقاء الحجة على من أنكر رسالة محمد (ص) بأنه لم يكن الوحيد في رسالته ، فلقد كان الرسل من قبله رجالا مثله يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وكانت دعوتهم تماما كدعوته ، فكيف عجبتم أيها المشركون من إرسال محمد ، ولم تعجبوا من إرسال غيره؟ .. وتصلح هذه الآية جوابا للذين أشار اليهم سبحانه في الآية ٤١ من سورة الفرقان : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). مر نظيره مع التفسير في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩ (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). وقوله للذين اتقوا من أوضح الدلالات على ان الطريق الى سعادة الإنسان في الآخرة هو العمل الصالح في هذه الحياة ، وأصلح الأعمال فيها ما يهدف الى خير الإنسان وهدايته ، وصيانة حقه وحريته من العبث والظلم.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). دعا الرسل الأمم الى الله فلم يستجيبوا ،


فأنذروهم بعذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة فسخروا واستهانوا .. وانتظر الرسل نزول العذاب على المستهزئين ، وطال أمد الانتظار الى حد يستدعي اليأس والظن بأن العذاب لن يأتي ، والوعيد به لن يتحقق. ولما بلغ أمد الانتظار هذا المبلغ جاء النصر للأنبياء ، وصدق الوعيد والتهديد ، ووقع العذاب على المجرمين ، ونجا الذين اتقوا لا يمسهم السوء ، ولا هم يحزنون .. فقاله تعالى : استيأس الرسل وظنوا الخ إن هو إلا كناية عن ألم الانتظار وطول مدته ، ومثل هذا الأسلوب في الكنايات والمبالغات كثير ومألوف في اللغة العربية ، وللمفسرين هنا أقول وآراء بعيدة كل البعد عن دلالة اللفظ وسياق الكلام ، بالاضافة الى أنها تزيد القارئ حيرة وتضليلا.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ). الضمير في قصصهم يعود الى يوسف مع اخوته ، ومع امرأة العزيز والملك .. وقد بينا فيما سبق ان في قصة يوسف ألوانا من العبر والعظات ، وأهمها ان من ييأس من الناس ، ويعتمد على الله وحده فلا بد أن تكون عاقبته الى خير.

(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ان كل ما جاء في القرآن هو حق وصدق ، ومنه قصة يوسف ، وقد جاءت على وفق ما أنزله الله على أنبيائه السابقين في الكتب السماوية مع العلم بأن محمدا لم يقرأها بنفسه ولم يسمعها من غيره ، هذا الى جانب ان في القرآن بيان العقيدة والشريعة ، وانه هدى لمن يطلب الهداية لوجهها ، ورحمة لمن يعمل بأحكامه ويتعظ بمواعظه .. وليس من شك ان الذين يتعظون بهدى الله هم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ـ ٨٢ الأنعام».


سورة الرّعد



سورة الرّعد

وفيها قولان : مدنية ومكية ، وآياتها ٤٣.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آات الکتاب الآية ١ :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

الإعراب :

تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. والذي أنزل مبتدأ والحق خبر.

المعنى :

(المر) سبق مثله مع التفسير في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ). أي ان آيات هذه السورة هي من القرآن الكريم ، أما الغرض من هذا الاخبار فهو بيان ان هذه السورة حق لأنها من القرآن ، وهو حق فهي مثله ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ). ويأتي هنا هذا السؤال : ما الدليل على أن القرآن حق؟. وتجد الجواب في ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٨. قال الإمام علي (ع) : ان القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات الا به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن


ولا بغيره من أقوال الحق والعدل الا من يرى خيره في خير الناس ، وشره في شرهم. قيل لرجل من أهل الله : احترق السوق الذي فيه حانوتك ، ولكن سلم حانوتك .. فقال : الحمد لله. ثم تنبه الى انه قد عصى الله ، حيث أراد لنفسه الخير دون الناس ، فاستغفر من ذنبه وتاب ، وأمثال هذا هم الفئة القليلة الذين يقفون في الجانب المضاد للفئة الكثيرة التي عناها الله بقوله: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

رفع السموات بغر عمد الآية ٢ ـ ٤ :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

اللغة :

الرواسي الجبال الرواسخ. ويغشي يغطي. وجنات بساتين. وصنوان هي


النخلات الكثيرة يجمعها أصل واحد ، وغير صنوان متفرقات ومن أصول شتى ، وواحد الصنوان صنو. والأكل بضم الهمزة والكاف ما يؤكل.

الإعراب :

ضمير ترونها يعود الى السموات ، وجملة ترونها صفة للسموات لا للعمد أي أنها في واقعها تماما كما ترونها بلا عمد. وجملة يدبر مستأنفة ، ومثلها يفصل. واثنين تأكيد لزوجين. وفاعل يغشي ضمير مستتر يعود الى الله ، والليل مفعول أول والنهار مفعول ثان.

المعنى :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها). قلنا في فقرة الإعراب : ان الهاء في ترونها عائدة الى السموات ، وان الجملة الفعلية صفة لها ، لا للعمد ، وعليه يكون المعنى ان الله رفع السموات بأمره ، وهي مرفوعة في الواقع تماما كما ترونها في الظاهر من غير عمد. وفي مستدرك نهج البلاغة ان الإمام عليا (ع) وصف السماء بقوله : «رفع السماء بغير عمد ـ أي واقعا وظاهرا ـ وبسط الأرض على الهواء بغير أركان». وفي نهج البلاغة : «أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها من غير قرار ، ورفعها بغير دعائم».

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). هذا كناية عن انه تعالى يملك الكون ويدبر أمره بعلمه وحكمته ، كما قال في الآية نفسها : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ومرت هذه الجملة في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ، والآية ٣ من سورة يونس ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) بانتظام كما ترى أعيننا ، ولغاية معينة كما تدرك عقولنا .. والشمس تقطع فلكها في سنة ، والقمر في شهر ، كانا كذلك منذ ملايين السنين ، وسيبقيان كذلك الى ما شاء الله ، لا تختلف سنة عن سنة ، ولا لحظة عن لحظة ، وهذا دليل قاطع على وجود عليم حكيم ، أما الصدفة فيبطلها النظام والتكرار.


(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) كل أمر بلا استثناء ومنه تسخير الشمس والقمر ، وإرسال الرسل ، وانزال الكتب .. الى ما لا نهاية (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين الدلائل على وجوده .. ولما ذا (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) خلق سبحانه الكون ، وأحكمه على أكمل الوجوه ، والعقول السليمة تدرك هذا التدبير والأحكام ، وتستدل به على وجود المدبر الحكيم ، وقدرته على اعادة الخلق ، لأن من قدر على إيجاد الكون من لا شيء ، ورتب ما فيه من الكواكب وغيرها في غاية الإحكام والدقة فبالأولى أن يقدر على جمعه بعد تفرّقه ، فإذا ثبتت القدرة على الاعادة بحكم العقل ، وقد أخبر الصادق الأمين عن الوحي بأنها سوف تقع لا محالة كان وقوعها حتما لا مفر منه.

وبعد ان ذكر سبحانه السموات ذكر الأرض ، والغرض واحد ، وهو تنبيه الغافلين الى الأدلة الكونية على وجود الله وعظمته ، وأن من خلق هذا الكون الضخم بأرضه وسمائه قادر على أن يرسل الرسل ، وينزل الكتب ، ويحيي الموتى ، وهذه الأدلة منها سماوية كرفع السموات بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر ، ومنها أرضية كالتي أشار اليها سبحانه بقوله :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ). أي بسطها ومهدها ، قال تعالى في الآية ١٩ من سورة نوح : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً). أي واسعة. وفي الآية ٣٠ من سورة النازعات : «والأرض بعد ذلك دحاها». ودحو الشيء في اللغة بسطه وتمهيده. ومن الواضح ان بسط الأرض وسعتها وتمهيدها لا يدل من قريب أو بعيد على انها مسطحة أو كرة ، لأن الجسم إذا كبر حجمه كالأرض كانت كل جهة منه ممتدة ومتسعة في الطول والعرض ، وان كان على شكل الكرة ، وعليه فلا شيء في الآية يمنع من القول بكروية الأرض التي لا ريب فيها ، قال الرازي عند تفسير هذه الآية : «انه ثبت بالدلائل ان الأرض كرة ، فكيف يمكن المكابرة في ذلك .. والأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح». وكان علماء اليونان في عهد أرسطو متفقين على كروية الأرض ، ولكنهم قالوا بسكونها.


٢ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) لفظ الرواسي صفة للثوابت من كل نوع ، ولكنه غلب على الجبال لكثرة الاستعمال ، بحيث إذا أطلق لفظ الرواسي من غير ذكر الموصوف فهم منه الجبال ، والحكمة من وجودها استقرار الأرض وثباتها ، قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ـ ٧ النبأ».

٣ ـ (وَأَنْهاراً) قرن سبحانه الأنهار بالجبال لأنها تتفجر من تحتها ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) ـ ٢٧ المرسلات».

٤ ـ (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). أي ان كل صنف من الثمر في نباته زوجان : ذكر وأنثى ظاهران كفحول النخل وإناثها ، أو خفيان كسائر النباتات ، قال الشيخ المراغي في تفسيره : «فقد أثبت العلم حديثا ان الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب الا من اثنين ذكر وأنثى ، وقد يكونان في شجرة كأغلب الأشجار ، أو شجرتين كالنخل». وفي مجلة «العلوم» اللبنانية عدد آب ١٩٦٧ مقال بعنوان «كيف تبعث الحياة في الكائنات» جاء فيه ان الحشرات تحمل على أجسامها اللقاح الضروري الى أكمام الزهر دون أن تخطئ في التبليغ وان الطائر يلقح زهرة الزنبق بمنقاره. انها لمعجزة .. وفي الحرب العالمية الثانية نزل الحلفاء بكورسيكا فمرض الزيتون وقلّ ثمره ، وأرادت أمريكا مساعدة الأهالي فرشت الزيتون بمادة د. د. ت. فماتت الحشرة الضارة ، ولكن مات معها سائر الحشرات الأخرى ، فكانت النتيجة في السنة التالية لا شيء إطلاقا لأية شجرة من الزيتون والليمون واللوز. وبهذا يتبين ان الثمر لا يكون الا بلقاح الذكر للأنثى.

٥ ـ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) مرّ تفسيره في الآية ٥٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٩ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذا الكون الذي يسير وفقا لقوانين ثابتة لا يحيد عنها بحال ، ولولا ثبوتها لاستحال على العلماء أن يرصدوها ويستفيدوا منها قواعد عامة ، ومن الواضح ان الدوام ينفي الصدفة ، ومن أجل هذا آمن الكثير من علماء الطبيعة بوجود الله تعالى.

٦ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ان اجزاء الأرض يلتصق بعضها ببعض ومع ذلك تتنوع إلى سهل وجبل وصلب ورخو وخصب وجدب وتراب ورمل


وسواد وبياض ، وما أشبه. والسر هو أمر الله وتدبيره في خلقه (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) بساتين من الكرمة (وَزَرْعٌ) من أنواع شتى (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) هي النخيلات من أصل واحد غير متنوع لأن النخل على أنواع (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) هي النخيلات من أصول متنوعة ، وخص الأعناب والنخيل بالذكر لأنهما الثمر الغالب أو مظهر الثراء أو هما معا في ذاك العصر ، ويشعر بذلك قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) ـ ٣٢ الكهف».

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) كالمطر أو البئر أو النهر ، وأيضا المكان واحد بالقرب والمجاورة ، ومع ذلك يختلف الثمر لونا وحجما ورائحة وطعما ، والسر تدبير الله وحكمته (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) على الرغم من ان وسائل التكوين والنمو واحدة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أي ان في هذا التفاوت مع وحدة المكان والماء والهواء دلائل واضحة على وجود المدبر الحكيم عند من لا يؤمن بشيء إلا بعد التفكر والتدبر. ومن أقوال الإمام علي : لا علم كالتفكر ، ولا حسب كالتواضع.

السيد الأفغاني والدهريون :

وأحسن شرح لهذه الآية بمجموعها ما جاء في رسالة الرد على الدهريين للسيد جمال الدين الافغاني ، قال «إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحدها التاريخ إلا ظنا ، وأصولها تضرب في بقعة واحدة ، وفروعها تذهب في هواء واحد ، فما السبب في اختلاف كل منها عن الأخرى في بنيتها وشكلها وأوراقها وطولها وقصرها وضخامتها ورقتها وزهرها وثمرها وطعمها ورائحتها ، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟. أظن انه لا سبيل الى الجواب سوى العجز عنه .. وإذا قيل له : هذه أسماك بحيرة أورال وبحر قزوين مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في الميدان ، نرى فيها اختلافا نوعيا وتباينا بعيدا في الألوان والأشكال


والأعمال ، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر». أي الضيق.

وتسأل : ان لدارون ان يجيب السيد الافغاني بأن علماء النبات يعرفون الأسباب الطبيعية لهذا الاختلاف ، ويستطيعون الكشف عنها لكل طالب وراغب .. فلا ضرورة ، والحال هذه ، إلى افتراض وجود المدبر فيما وراء الطبيعة؟.

الجواب : لو سلمنا جدلا بأن علماء النبات يعرفون ذلك فان لمعرفتهم حدا تقف عنده ولا تتجاوزه ، وهو السبب القريب المباشر للتفاوت .. ولو سألوا عن السبب البعيد الذي أوجد السبب القريب لم يجدوا تفسيرا له إلا بأحد فرضين : اما الصدفة ، واما وجود مدبر حكيم وراء الطبيعة ، والفرض الأول باطل لأن الصدفة لا تتكرر ولا تدوم ، فتعين الثاني .. وسبق البيان أكثر من مرة ان من عادة القرآن أن يسند لله جميع الحوادث الطبيعية المتولدة من أسبابها الكونية ، من باب اسناد الشيء الى فاعله الأول لهدف التذكير بالله ، وانه خالق الكون بأرضه وسمائه.

وتقول : ان للدهريين أيضا ان يسألوا بدورهم عن السبب لوجود المدبر وراء الطبيعة؟.

ونجيب بأن هذا السؤال غير وارد من أساسه لأن الفرض ان المدبر لا سبب له ، وانه هو سبب الأسباب ، فالسؤال عن سببه تماما كالسؤال : من خلق الله بعد الفرض انه خالق غير مخلوق ، وكالسؤال عن سبب صدق العين فيما ترى ، والاذن فيما تسمع مع الفرض انهما حجة قاطعة لكل شك وشبهة.

اننا لفي خلق جديد الآية ٥ ـ ٧ :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ


النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

اللغة :

الاغلال جمع غل ، وهو قيد تشد به اليد الى العنق ، والسيئة النقمة ، والحسنة النعمة. والمثلات جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء ، وهي العقوبة مع وجود أثر يدل عليها كجدع الأنف ونحوه.

الإعراب :

فعجب خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر. وإذا في محل نصب تتعلق بفعل محذوف دل عليه الكلام أي : أإذا كنا ترابا نبعث. وأولئك الذين كفروا بربهم مبتدأ وخبر لأن الكلام تام ومفيد. ومثله أولئك الأغلال في أعناقهم. وأولئك أصحاب النار مبتدأ أول وثان وهم ضمير فصل ، وخالدون خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وفيها متعلق «بخالدون». وقبل ظرف متعلق بيستعجلونك. وهاد مبتدأ مؤخر وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لأن أصله هادي كقاضي. ولكل قوم خبر مقدم ، والجملة مستأنفة.

المعنى :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). الخطاب لمحمد (ص) ، وضمير قولهم للمشركين الذين أنكروا نبوته ، والمعنى : ان تعجب


من عبادة المشركين للأصنام ، وانكارهم نبوتك فإن تكذيبهم بالبعث أعجب وأغرب ، ذلك انهم يعترفون بأنه تعالى خلق الكون وأوجده ، ومن قدر على ذلك فبالأولى ان يقدر على اعادة الإنسان بعد موته.

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). ذكر سبحانه أولئك ثلاث مرات مبالغة في التهديد والتعبير عن غضبه وسخطه .. وقوله : أولئك الذين كفروا بربهم يدل على ان من آمن بان الله هو خالق الكون يلزمه حتما أن يؤمن بأنه تعالى قادر على ان يبعث من في القبور ، ومن أنكر ذلك فقد كفر بالله من حيث يريد أو لا يريد ، ومن جمع بين الإيمان بالله ، وبين الإيمان بعجزه عن احياء الأموات فقد جمع بين النقيضين والمشركون قد أنكروا البعث لأن الله بزعمهم لا يقدر عليه كما يشعر قولهم : أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد .. اذن ، هم منكرون لله في واقعهم ، وان اعترفوا به بألسنتهم.

الماديون والحياة بعد الموت :

أنكر الماديون وجود الله ، وبالأولى أن ينكروا الحياة بعد الموت ، ودليلهم واحد لا تبديل فيه ولا تعديل ، وهو كل ما يظهر للحواس عيانا ومشاهدة يجب الايمان به ، وكل ما يخفى عليها يجب نفيه وإنكاره ، فالحواس هي الأول والآخر ، والظاهر والباطن على حد تعبيرهم .. اذن ، كيف يؤمنون بالجنة ولم يأكلوا ثمارها؟ وكيف يعتقدون بجهنم ولم تصلهم بنارها؟.

ونحن نسألهم بدورنا : من أين لكم هذا العلم أو الايمان بأن الحواس الظاهرة هي وحدها طريق الحق والواقع ، وما عداها لغو وكلام فارغ؟ على حد تعبيرهم أيضا. فإن قلتم جاءنا من شهادة الحواس قلنا : نحن عندنا حواس ، وما رأينا أحدا ـ غيركم ـ يقول : لا تصدقوا الا الحواس. وان قلتم : جاءنا من غير الحواس فقد ناقضتم أنفسكم بأنفسكم ، حيث آمنتم بما لا شاهد عليه من الحواس.

في سنة ١٩٦٢ ألّفت كتابا في الرد على الماديين ، وهو كتاب «فلسفة المبدأ


والمعاد» طبع ونفدت نسخه في أمد قصير ، ثم قرأت بعده كثيرا عن الماديين والردود عليهم ، من ذلك :

١ ـ يجب على منطق الماديين ان لا يوجد أي فرق بين الإنسان صانع المعجزات وبين أحقر الحشرات التي تولدت من العفونة والقذارات ، ما دام كل منهما ابنا شرعيا للصدفة والطبيعة العمياء ولم تنله يد العناية والتدبير.

٢ ـ لقد وجد العلماء في دماغ الإنسان ١٤ ألف مليون خط منسقة ومرتبة ترتيبا محكما ودقيقا ، يعجز عنه أعظم المهندسين بل كلهم مجتمعين ، بحيث إذا انحرف واحد منها قيد شعرة عن موقعه ذهب ادراك الإنسان أو اضطرب ، تماما كما يحدث لنور الكهرباء إذا اختلت الأسلاك .. ولا تفسير لذلك عند العقل إذا لم يفرض وجود مدبر حكيم لا يحس بالعين أو الأذن أو اليد أو الأنف أو اللسان .. ومهما بلغت الصدفة من المعجزات والخوارق فإنها لا تنشئ محطة كهرباء واحدة ، وتوصل بها ١٤ ألف مليون خط محكمة الصنع والوضع في آن واحد ، فكيف إذا كانت هذه المحطات على عدد رؤوس الآدميين وأدمغتهم؟ .. وفوق ذلك أنها تحس وتشعر.

٣ ـ يقول الماديون : ان دماغ الإنسان ، تماما كالعقل الالكتروني ، كلاهما مجموعة من أجزاء جامدة مرتبة ومنسقة على شكل تترتب عليه تلك الآثار والمعطيات .. وأجابهم العالم الفرنسي «كوسا» بقوله : «إذا زعقت سيارتي القديمة ، وتأوهت مثل المصاب بآلام الروماتزم فهل يمكنني أن أقول : ان سيارتي تعاني من آلام الروماتزم؟. وإذا حشرج فيها الكاربوريتر عند ما أضغط على البنزين فهل يمكن أن أقول : انه مصاب بالربو؟» ..

ونعطف نحن على قول هذا العالم ان الترتيب والتنسيق في العقل الالكتروني جاء من فعل الإنسان ما في ذلك ريب ، ولكن من الذي رتب ونسق دماغ الإنسان؟ وإذا اخترع الإنسان عقلا الكترونيا فهل يستطيع هذا العقل الالكتروني أن يخترع عقلا مثله أو دونه ولو دبوسا؟. وفي كتاب «العمل والمخ» للعالم السوفيتي يوري باخلوف ، ترجمة شكري عازر : «الذين يظنون ان في إمكان الآلة أن تحل محل المخ الانساني يخطئون خطأ جسيما .. ان المخ الانساني يمتاز بقابليته لتلقّي المهارات


والعبقريات والعادات إلى ما لا نهاية ، أما العقل الالكتروني فإنه محدود ، وخاضع لما يقرر له الإنسان».

٤ ـ «ان أعظم اكتشاف للنحل ـ غير ما هو معروف عنه ـ انه عرف قبل الإنسان جهاز التكييف ، فإذا ارتفعت درجة الحرارة في خلية النحل يذهب فوج منه ويأتي بالماء في خراطيمه ويضعه في خزان ، حتى إذا اجتمع منه قدر الكفاية قام فوج آخر برشه ، وهزّ ثالث أجنحته ليصنع تيارا من الهواء ، فيتبخر الماء بسرعة ، ومع هذا التبخر تنخفض درجة الحرارة» (١).

من الذي ألهم النحل الى الاختراع ، الصدفة ، أو ان وراء الطبيعة قوة وحقيقة هي المدخل الى الطبيعة ونظامها؟ .. وللنحل والنمل وغيرهما حكايات تفوق التصور ولا تفسير لها إلا بوجود مدبر حكيم .. ونعود الى قول فولتير الذي أشرنا اليه فيما سبق أكثر من مرة ، وهو «امام الفكرة في وجود الله عقبات ، ولكن في الفكرة المضادة حماقات .. وهكذا ينتقل الإنسان من شك إلى شك حتى يصل الى ان التصديق بالله هو الأقرب ، وبه تتعلق القوانين الضرورية للعالم».

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ). المراد بالسيئة هنا العقاب ، وبالحسنة الثواب ، وبالمثلات العقوبات .. دعا رسول الله (ص) المشركين إلى التوحيد ، ووعدهم بالثواب ان استجابوا ، وتوعدهم بالعقاب ان استنكفوا ، وبدلا من ان يستجيبوا ويتوبوا من الشرك ازدادوا تمردا وطغيانا ، وأخذتهم العزة بالإثم ، وقالوا : عجل لنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ، قالوا هذا ولم يعتبروا بالأمم الخالية الذين عصوا رسل ربهم ، فأخذهم الله أخذا وبيلا.

وتجدر الاشارة الى ان الغفلة عن الاعتبار والاتعاظ لا تختص بالمشركين وحدهم فإن أكثر الناس لا يعتبرون بالغير ، ولا يتعظون بالعبر ، حتى الواعظين .. والسر أن الاكثرية الغالبة تنقاد لمصلحتها وعاطفتها ، لا لعقلها ودينها ، وفي الأمثال الغربية : المرأة تقود الرجل من بطنه لا من عقله.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ). المراد

__________________

(١). مجلة روز اليوسف المصرية عدد ٢٧ / ١ / ١٩٦٩ عن كتاب بين الإنسان والآلة. السيبر ناطيقا تأليف يلنيا سابارينا.


بالمغفرة هنا الامهال وعدم تعجيل العقوبة على الذنب ، والقرينة على ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لأن المغفرة لا تجتمع بحال مع العقوبة الأخروية فضلا عن شدتها ، والمعنى ان الله سبحانه لا يعاقب العبد بمجرد ان يذنب ويسيء ، وانما يؤخره ، ويفتح له باب التوبة على مصراعيه ، عسى أن يرجع عن غيه ، ويثوب إلى رشده.

وقيل في تفسير الآية : ان الله تعالى يغفر الذنوب للعصاة من المسلمين ، ويشدد العقاب على الكافرين .. وهذا التفسير خلاف الظاهر ، بالاضافة إلى أنه إغراء بالمعصية ، وتشجيع للعصاة .. والحق ما قلناه ، والدليل قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) ـ ٦١ النحل». فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ). مر نظيره في الآية ٣٧ من الأنعام ج ٣ ص ١٨٤. وتكلمنا مفصلا عن معجزة محمد (ص) وطلب المكابرين عند تفسير الآية ١١٨ من سورة البقرة ص ١٨٩.

علم الله الآية ٨ ـ ١١ :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))


اللغة :

الغيض ذهاب المائع في جهة العمق ، ومنه غيض الماء أي ذهب في الأرض وغار ، ويستعمل الغيض في النقصان ، وهذا المعنى هو المراد بقرينة قوله تعالى : وما تزداد ، وينبغي أن يكون المقصود زيادة الأرحام ونقصانها في عدد الأولاد. والمتعالي المستعلي على كل شيء. والسارب الجاري. ومعقبات جمع معقبة ، والمراد بها هنا حواسه وغرائزه التي تحرس كيانه.

الإعراب :

ما تحمل (ما) اسم موصول في موضع نصب بيعلم ، وقال الطبرسي : هي استفهام في موضع نصب بتحمل ، والمعنى أي شيء تحمل ، والجملة معلقة بيعلم. وكل شيء مبتدأ ، وبمقدار متعلق بمحذوف خبرا للمبتدإ ، وعنده ظرف متعلق بما تعلق به الخبر ، والتقدير كل شيء كائن بمقدار عند الله. وعالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف أي هو عالم الغيب. وسواء خبر مقدم ، ومن أسرّ مبتدأ مؤخر. ومن وال (من) زائدة اعرابا ووال مبتدأ مؤخر ، وما لهم خبر مقدم.

المعنى :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ). ذكر سبحانه في الآية السابقة ان المشركين طلبوا من محمد (ص) المزيد من المعجزات الدالة على نبوته ، وفي هذه الآية قال : انه تعالى يعلم ما في أرحام النساء ذكرا كان أو أنثى ، واحدا أو أكثر ، ناقصا أو تاما ، ومن يعلم هذا يعلم ان طلب المزيد من المعجزات انما هو لأجل العناد والمكابرة لا بقصد الاسترشاد وطلب الهداية .. وفي نهج البلاغة : ان الله يعلم ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وشقي أو سعيد.

واتفق المسلمون جميعا ان الله تعالى يعلم جميع المخلوقات كبيرها وصغيرها ،


لأن كل مخلوق فهو معلوم لدى خالقه. وبتعبير محيي الدين بن العربي : ان ما من موجود في العالم الا وله وجه خاص الى موجده .. ثم اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في ان الله يعلم الجزئيات كأفراد الحيوان والنبات والجماد علما مباشرا ومن غير توسط ، أو يعلمها بتوسط أسبابها وما تتولد منه؟. قال المتكلمون بالأول ، وذهب الفلاسفة الى الثاني.

ونحن لا نرى أية جدوى في هذا الخلاف ، لأن على المسلم أن يؤمن بأن علم الله شامل لكل شيء كليا كان أو جزئيا ، حتى خفقة القلب واللمحة في الذهن ، أما الايمان بأن علمه تعالى على هذا النحو دون ذاك فليس من الدين في شيء .. وهناك أحاديث تنهى عن التفكر في ذات الله ، وتأمر بالتفكر في خلقه وصنعه.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) فلا يخلقه عبثا ومن غير أصول ، بل لكل شيء حده ونظامه في الكم من حيث أجزاؤه ومقوماته وخواصه وآثاره ، وفي الكيف من حيث شكله وصورته ومكانه وزمانه ، وأسبابه وسننه ـ كل ذلك على ما تستدعيه الحكمة والمصلحة .. وكل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرى ويراقب ، ويعادل ويقيس ، وقد يخطئ أو يصيب ، لأن علم الإنسان مكتسب يفتقر الى سبب ، وكثيرا ما يظن ان هذا الشيء سبب للعلم بكذا ، وهو في واقعه جهل محض ، أما علمه تعالى فهو ذاتي وعين الواقع.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ). ليس المراد بالكبر الضخامة ، وبالعلو المكان المحسوس ، بل هما كناية عن عظمة الله في ذاته وصفاته ، وعالم الغيب ما غاب عنا علمه ، وعالم الشهادة ما نراه ونشاهده .. ان الكون مليء بالمخلوقات من شتى الأجناس والأصناف العلوية والسفلية ، فمن الجراثيم الى الإنسان والملائكة ، ومن المعادن الى النبات والحيوان ، الى الماء والهواء ، وما فيهما ، الى ما لا نهاية ، وقد يعلم الإنسان طرفا من أشياء الكون ، ولكن علمه مهما بلغ لا يعد شيئا الى جانب ما غاب عنه ، فأكثر الحقائق وضوحا تبطن الكثير من الأسرار ، ولا يعلم كلّ ما في الكون الا خالق الكون ، فهو وحده الذي يتساوى لديه السر والعلن ، والغائب والشاهد وما أوتيتم من العلم الا قليلا.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ


بِالنَّهارِ). مر نظيره في الآية ٧٨ من التوبة ، والآية ٣ من الأنعام ج ٣ ص ١٥٩.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ). ضمير له ويديه وخلفه يعود الى الإنسان ، كما هو الظاهر من سياق الكلام ، ومعقبات كناية عن حواس الإنسان وغرائزه التي لها تأثيرها في صيانته وحفظ كيانه ، و (من) في قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بمعنى الباء مثلها في قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ـ ٤٥ الشورى». أي بطرف خفي ، وفي ذلك رواية عن الإمام أبي جعفر الصادق (ع). وقال المفسرون : المراد بالمعقبات الملائكة ، وفي بعض التفاسير ان الله يرسل عشرة من الملائكة بالنهار يحرسون الإنسان ، وعند الغروب يذهب هؤلاء ، ويأتي عشرة آخرون يحرسون بالليل ، وهكذا يفعل مع كل فرد من أفراد الإنسان في كل يوم من الأيام ، اما إبليس فيقوم بدور الغواية وتضليل الإنسان بالنهار ، وأولاده بالليل.

وبالإضافة إلى ان هذا بعيد عن دلالة اللفظ فإن الافهام والأذواق ترفضه وتأباه والذي نتصوره نحن ان المراد بالمعقبات حواس الإنسان وغرائزه التي بها يحفظ وجوده وكيانه ، كما أشرنا ، وان المعنى ان الله سبحانه خلق الإنسان ، وجعل فيه السمع والبصر والإدراك وغيرها من الصفات والغرائز لتحرسه وتصونه ، وهذا المعنى وان كان بعيدا عن دلالة اللفظ فإنه يتفق مع الواقع ، ولا ينفيه السياق ، فبالادراك يميز الإنسان بين النافع والضار ، وبالبصر يعرف طريق السلامة ، وبحب الذات يتحفظ من المهلكات.

لا يغير حتى يغيروا :

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). قال المفسرون : ان هذه الآية تدل على ان القوم الذين يعيشون بنعمة المال والأمن الجاه فإن الله لا يغيرها عنهم ما داموا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، فان عصوا زالت عنهم هذه النعمة.

أما نحن فنفسر الآية في ضوء تعاليم الإسلام ، وواقع الحياة ، وما يتحمله لفظ


الآية من معنى .. أما تعاليم الإسلام فمن أهمها وجوب جهاد النفس إذا مالت الى المحرمات والموبقات ، أو رضيت بالذل والفقر ، والجهاد بالنفس والمال في سبيل العدل والتحرر من الظلم والرق .. وليس من شك ان من استنكف عن الهوان ، واستهان بالحياة وأبى إلا الكرامة أو الموت شمله الله بعنايته ، وأخذ بيده إلى ما يبتغيه ويهدف اليه. ومن خلد إلى الراحة والكسل مهما كانت نتائجه يخذله الله ، ويكله الى ضعفه ، ولا ينظر اليه أو يسمع له ، وان ملأ الدنيا تضرعا وبكاء ، وعبادة ودعاء.

وبهذا يتضح معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ،) وانه جلت عظمته يبقي الإنسان في البؤس والهوان ، ما دام في جموده وركوده ، لا يقاوم باطلا ، ولا يحرك ساكنا للتخلص مما هو فيه .. أجل ، ان الله لا يغير ما بنا من فقر حتى نعتقد ان الفقر من الأرض لا من السماء ، وحتى نكافح ونجاهد ضد الاستغلال والاستثمار ، وحتى نقيم المصانع ، وننشىء المزارع ، والله لا يغير ما بنا من جهل حتى نبني الجامعات والمختبرات ، والله لا يغير ما بنا من عبودية حتى نثور على الظالمين والمستبدين ، والله لا يغير ما بنا من شتات حتى نخلص النوايا ، ونزيل ما بيننا من الحدود والحواجز.

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ). المراد بالسوء هنا العذاب ، ومتى أراده الله لإنسان أو لفئة فلا منجى مما أراد الا اليه ، وهو عادل لا يريده الا لمن يستحقه ، والوالي من صفات الله لأنه يلي الأمور ويقوم عليها بالعناية والتدبير.

هو الذي يريكم البرق الآية ١٢ ـ ١٥ :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ


يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

اللغة :

السحاب الثقال لأنها مثقلة بالماء. والمحال بكسر الميم الكيد ، يقال : ما حله مماحلة إذا كاده ومكر به ، والمراد به هنا ان الله سبحانه شديد القوة. والظلال جمع ظل ، وهو خيال الشيء. والغدو جمع غدوة ، والغدوات جمع غداة ، وهي الصباح. والآصال جمع أصيل وهو المساء ما بين العصر والمغرب.

الإعراب :

خوفا وطمعا مفعول من أجله عند أبي البقاء ، ومصدر وقع موقع الحال من الخطاب في يريكم عند الطبرسي. وكباسط متعلق بمفعول مطلق محذوف أي الا استجابة كاستجابة باسط كفيه الى الماء. وليبلغ منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المجرور باللام متعلق بباسط ، وفاعل يبلغ ضمير مستتر يعود الى الماء. وطوعا وكرها قائمان مقام المفعول المطلق أي سجودا طوعا وكرها ، أو في موضع الحال أي طائعين ومكرهين. وظلالهم معطوف على من في السموات. وبالغدو متعلق بيسجد.


المعنى :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ). ان الله سبحانه خلق الكون ، وللكون خصائص وسنن لها آثارها وظواهرها ، ومنها البرق والرعد والسحاب والصواعق ، وما الى ذلك مما يشاهده العالم والجاهل ، والمؤمن والملحد. ولا يعرف شيئا من حقائقها وطبيعتها الا أهل الاختصاص .. وأسندها سبحانه اليه ، ولم يسندها الى الأسباب الكونية المباشرة ، أسندها اليه من باب اسناد الشيء الى سببه الأول ، والغرض التذكير بأنه سبب الأسباب ، واليه وحده ترجع الأمور كلها.

وقوله تعالى : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، اشارة الى ان البرق قد يكون نذيرا بالصواعق ، وقد يكون بشيرا بالغيث ، فيخاف الإنسان من ذاك ، ويأمل بهذا في آن واحد. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ). المراد بتسبيح الرعد ما فيه من الدلالة على قدرة الله وعظمته ، تماما كدلالة الكتابة على الكاتب ، والبناء على الباني ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ ٤٤ الاسراء». أي يدل عليه ، وبتعبير ثان ان كل فعل حسن ومتقن فهو يدل على فاعله بطبعه ووضعه ، ويحمده ويثني عليه بلسان حاله .. وليس من شك ان كل ما في الكون متقن غاية الإتقان فهو يدل على خالقه بوضعه ويثني عليه بلسان حاله .. ومن الطريف قول بعض المتصوفة : ان الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم.

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ). وتسأل : ان كلا من الصواعق والزلازل ظاهرة من ظواهر الطبيعة وسننها .. ومن الواضح ان الطبيعة عمياء لا تميز بين الأنبياء والأشقياء ، وتعم الجميع بخيرها وشرها ، لا فرق عندها بين أشد المكروبات فتكا وإيذاء ، وبين أكثر الناس عبقرية وصلاحا ، مع ان قوله تعالى : (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ، يشعر بالفرق؟.

الجواب : المراد بالصواعق هنا العذاب الذي أنزله سبحانه على الذين أصروا على الشرك ، وعاندوا أنبياءهم ورسلهم كقوم عاد وثمود بدليل قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ـ ١٣ فصلت» ،


وقوله : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) ـ ١٥٣ النساء». وتقدم أكثر من مرة ان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ). ضمير (هم) يعود الى المشركين ، والمعنى ان هؤلاء يجادلون في قدرة الله وعظمته ، وفي محمد (ص) ونبوته ، والبعث وإمكانه ، يجادلون ويكابرون مع ظهور الدلائل على قدرة الله ، والمعجزات الباهرة على نبوة محمد (ص) ونزول العذاب على من جحد وأنكر البعث والحساب (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد القوة والبطش بأعدائه وأعداء أوليائه. وبالاختصار المشركون يجادلون بالقول ، والله يبطش بالفعل «ان بطش ربك لشديد».

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). ان الله هو الحق ، فمن عمل له ، وتوكل عليه أجزل له الثواب ، ومن عصى وتمرد حق عليه العقاب ، ومن دعا غيره كالأصنام ونحوها فقد دعا باطلا وسرابا ، وحجرا وجمادا لا يضر ولا ينفع (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) تماما كالظامئ يحسب الدخان سحابا ، والسراب ماء ، فيمد كفيه ليملأهما بالماء ، ويفتح فاه ليشرب ويبرد من غلته ، وإذا بالآمال تتبخر الى حسرات وزفرات.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). مر نظيره مع التفسير في الآية ٨٣ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠١.

(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). الظل خيال الجسم الذي يلازمه ويتحرك بحركته ، تماما كصورة الشيء في المرآة ، وخص سبحانه الغدوات والعشايا بالذكر لأن الظل يطول ويمتد في هذين الوقتين ، والمعنى ان من في السماء والأرض يسجد لله ، وكذلك ظلالهما تسجد له.

وتسأل : ان الظل ما هو بشيء في ذاته ، واسمه يدل عليه ، وانما هو تبع لصاحبه ، ولذا يضرب المثل به على العدم واللاشيء ، فكيف جعله الله طرفا مقابلا لصاحبه ، وعطف أحدهما على الآخر.

وأجاب الصوفية بأن المراد بمن في السموات والأرض الأجسام ، وبالظلال الأرواح .. والذي نفهمه نحن ان الظلال كناية عن التعميم لكل شيء ، وان كل


ما في الكون يسجد لله ، أي يقر بوجوده من باب دلالة المصنوع على الصانع ، حتى الظل يسجد له لو كان شيئا مذكورا.

هل يستوي الأعمى والبصير الآية ١٦ :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

الإعراب :

أم هل (ام) هنا منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام ، أي بل أهل تستوي الظلمات الخ وهمزة الاستفهام تغني عن هل ، ولكنهما تجتمعان في كلام العرب مثل أهل كان كذا. ومثلها أم جعلوا أي بل اجعلوا والاستفهام للإنكار.

المعنى :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). بعد ان ذكر سبحانه ان كل ما في الكون خاضع لقدرته عاد الى المشركين ، وسألهم بلسان نبيه الكريم : من الذي خلق الكون بأرضه وسمائه؟. هل خلقه الله أو أصنامكم التي تعبدون؟. ولما كان


السؤال يحمل معه الجواب ، ولا يستطيع المسئول إنكاره أمر الله محمدا ان يجيب عنهم (قُلِ اللهُ).

(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا). مرة ثانية ، وتأكيدا للحجة يأمر الله محمدا ان يقول للمشركين : انكم تعبدون أحجارا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فكيف تملك ذلك لغيرها؟ .. وليست هذه الآية ردا على المشركين وحدهم بل هي رد أيضا على من قال : ان في عقول الناس غنى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب من السماء ، فلقد كان عبدة الأحجار ، وما زالوا من أهل العقول عند أنفسهم وعند كثير من الناس.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المراد بالأعمى الكافر لأنه لم يفرق بين الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وبين مالك الضر والنفع .. والمراد بالبصير المؤمن الذي يفرق بينهما (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) الظلمات كناية عن الكفر ، والنور كناية عن الإيمان ، قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ـ ١ ابراهيم» أي من الكفر إلى الإيمان.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). هذا رد على المشركين ، وخلاصته ان الأحجار التي تعبدونها لا تخلق شيئا مثل خلق الله كي تقولوا : الله يخلق ، والأصنام أيضا تخلق مثله تماما ، وإذا كان الله مستحقا للألوهية والعبادة فهي أيضا تستحق الألوهية والعبادة ، والتوضيح فيما يلي.

عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله :

تنقسم معرفة الإنسان إلى قسمين : فطرية ذاتية ، ونظرية اجتهادية ، والفطرية هي التي لا تحتاج إلى جد واجتهاد ، بل تحصل تلقائيا بمجرد التصور ، كالعلم بأن النور غير الظلام ، والعمى غير البصر ، والطول غير القصر ، والحجر مخلوق غير خالق ، ويشترك في هذه المعرفة (١) العالم والجهل على السواء ، ومن أخطأ فيها

__________________

(١). فرق البعض بين العلم والمعرفة بأن العلم يتعلق بالكليات ، والمعرفة تتعلق بالجزئيات ، اما نحن فلا نجد فرقا بينهما ، قال تعالى : «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» ولم يقل قد عرف ، مع العلم بأن مشرب كل سبط من أسباط إسرائيل كان خاصا.


فهو غير معذور.

أما المعرفة النظرية الاجتهادية فلا تحصل تلقائيا وبمجرد التصور ، بل تحتاج إلى إعمال الفكر والجد والاجتهاد ، كالعلم بأن الماء بسيط أو مركب ، وان هذا المرض من الأمراض المعدية أو غيرها ، ويسمى هذه النوع بالقضايا النظرية التي تختلف فيها الأنظار باختلاف الأشخاص ومواهبهم ومعارفهم ، والخطأ فيها مغتفر لصاحبه إذا كان بعد الجد وبذل الجهد ، لأن ادراك الصواب في كل شيء متعذر أو متعسر.

والأصنام التي عبدها المشركون لا شبه بينها وبين الإله في وجه من الوجوه من قريب أو بعيد كي يعذر من شك أو احتمل انها شريكة لله في خلقه ، كيف وقد بالت عليها الكلاب والثعالب؟. فعبادتها أكثر قبحا وسفها من وصف الظلام بالنور ، والعمى بالبصر.

وتسأل : لا ريب في ان المعرفة منها فطرية لا يختلف فيها اثنان ، ومنها اجتهادية يعذر فيها المخطئ ، وان نفي الألوهية عن الأحجار من البديهات دون النظريات كما قلت .. ولكن المشركين قد عبدوها بالفعل ، وكانوا عقلاء في تصرفاتهم ، فما هو التعليل؟

الجواب : ان فريقا منهم عبدها على حرف ، وبقصد الكسب والمنفعة ، وفريقا آخر عبدها تقليدا بعامل التلقين والوراثة .. ومن الواضحات الفطرية ان سلطان العقل يضعف ويتراجع أمام التقاليد والعادات ، بخاصة إذا طال عليها الزمن ، وتوارثها جيل عن جيل ، ومن هنا كان الدين السليم حتما وضرورة تفرضها طبيعة الإنسان بالغا ما بلغ من العلم والعقل .. فإن كثيرا من الذين تعودوا أساليب العلم وطرقه الدقيقة في هذا العصر يؤمنون بالخرافات .. قال (غوستاف لوبون) في كتاب «الآراء والمعتقدات» : «ان العلماء تبدو عليهم السذاجة كما تبدو على الجهلة الأميين .. فالعالم قلما يبدو أسنى من الجاهل في الأمور التي ليست من اختصاصه ، وبهذه الملاحظة ندرك السبب في ان أفضل العلماء يؤمنون بأشد الأوهام خطلا». ثم ضرب على ذلك كثيرا من الأمثلة ، منها ان عالما كبيرا في عصره كان لا يخرج من بيته الى المختبر الا ومعه قطعة من حبل المشنوق تقيه بزعمه حسد الحاسدين ، وسحر الساحرين.


(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). واحد في ذاته ، وفي صفاته وفي خلقه ، وقاهر لكل معاند وعاص لحكم من أحكامه. وفي ج ٢ ص ٣٤٤ ذكرنا الأدلة على وحدانية الباري ، ونعطف عليها ما جاء في كتاب «دفاع عن الإسلام» تأليف (لورا فيشيا فاغليري) ترجمة الأستاذ منير البعلبكي ، قالت المؤلفة : «دعا الرسول العربي الى عقيدة التوحيد ، وخاض صراعا مكشوفا مع بعض النزعات الرجعية التي تقود المرء الى الشرك .. دعا محمد الناس الى قراءة كتاب الحياة ، والتفكير في الكون وسننه ، إذ كان واثقا بأن كل عاقل لا بد أن يؤمن آخر الأمر بإله واحد».

فأما الزبد فيذهب جفاء الآية ١٧ ـ ١٨ :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

اللغة :

الزبد بفتح الزين والباء ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة ، ويسمى غثاء. والفرق


بينه وبين الفقاقيع ان هذه منتفخة كنفاخات الأطفال ، والزبد كرغوة الصابون. والرابي العالي ، أي ان الزبد يعلو فوق الماء والحلية تؤخذ من الذهب والفضة. والمتاع من الحديد والنحاس والرصاص وشبه ذلك. والجفاء بضم الجيم الباطل. والمهاد بكسر الميم الفراش.

الإعراب :

زبد مثله (زبد) مبتدأ مؤخر ، ومثله صفة له ، وخبر المبتدأ محذوف وهو الذي تعلق به مما يوقدون ، وابتغاء حلية مفعول لأجله ليوقدون. وكذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب بيضرب. وجفاء حال من الضمير في يذهب. الذين استجابوا خبر مقدم ، والحسنى مبتدأ مؤخر. والذين لم يستجيبوا مبتدأ ، وجملة لو أن لهم خبر. وما في الأرض اسم أن ، والمصدر المنسبك فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت أن لهم الخ. وجميعا حال ، ومثله عطف على اسم أن.

المعنى :

في الآية السابقة قارن سبحانه بين المؤمن والكافر ، وضرب لذلك مثلين : الأول المقارنة بين الأعمى والبصير .. فالكافر كالأعمى ، والمؤمن كالبصير. المثل الثاني المقارنة بين الظلمات والنور .. والكافر كالظلمات ، والمؤمن كالنور.

وفي الآية التي نحن بصددها قارن جلت حكمته بين الحق والباطل ، وضرب أيضا لذلك مثلين : الأول المقارنة بين الماء الذي يمكث في الأرض ، ويحمل للناس الخير والحياة ، وبين الزبد الذي يعلو وينتفخ طافيا على وجه الماء ، ثم يقذف به السيل ، ويذهب مع الريح .. والحق كالماء النافع ، والباطل كالزبد الذي تبدده الأرياح. وهذا ما أراده سبحانه بقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً). والمراد بقدرها ان كل واد من الأودية يحتمل من ماء المطر بمقداره سعة وضيقا وعمقا .. وما زاد ينبسط على وجه الأرض.


أما المثال الذي ضربه سبحانه للمقارنة بين الحق والباطل فهو المقارنة بين المعادن تذاب في النار ليصاغ منها الحلي كالذهب والفضة ، أو يصاغ منها آنية أو آلة كالحديد والرصاص والنحاس ، وبين الزبد الذي يطفو فوق المعدن المذاب ، وهذا الزبد يضمحل تماما كما يضمحل الزبد الذي يحمله السيل .. والحق كالمعدن النافع أيا كان نوعه ، والباطل كالزبد الخبيث الذي يطفو فوق المعدن حين يذاب في النار ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ). فقوله : مما يوقدون معناه ان من المعادن ما يذاب في النار ليصاغ منه الزينة أو الآنية أو الآلة ، وقوله : زبد مثله معناه ان للمعادن زبدا لا جدوى منه تماما كالزبد الذي يحمله السيل.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ). أي يمثل الله ويصور الحق بيانا في صورة الماء والمعادن اللذين ينتفع بهما ، والباطل في صورة الزبد الذي لا ينتفع به (فَأَمَّا الزَّبَدُ) وهو الذي يحمله السيل أو يطفو على المعادن إذا أذيبت (فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو الماء والمعادن (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) للخير والحياة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) للحق والباطل وغيرهما.

ان كثيرا من المعاني يصعب إدراكها على الافهام ، وبالخصوص عند السواد الأعظم ، والتمثيل من أجدى الوسائل لتوضيحها والكشف عنها ، بالاضافة الى ان التمثيل كثيرا ما يضيف على البيان سموا وجمالا ، وقد ضرب الله الأمثال في العديد من آياته البيانية ، منها تمثيله الكفر والايمان بالظلمات والنور ، والعمى والبصر ، وتمثيله في هذه الآية الحق بالماء والمعدن ، والباطل بالزبد.

وتصور هذه الآية الإسلام في حقيقته ، والأصح تصور المسلم الحق في انه الذي ينفع الناس ، ويستمر نفعه لهم ويدوم ، تماما كالذي يحيي الأرض بعد موتها ، وكالمعدن الصلب تقام به المعامل والمصانع تنتج الآلات والأدوات ، وتبنى الحضارات ، فتقرب البعيد ، وتنشئ الأساطيل ، وتغزو الفضاء ، وتحرث الأرض ، وتملأ الدنيا خيرا وأمنا ورخاء .. والنتيجة الحتمية لذلك ان كل من نفع وأصلح وعمل من أجل حياة الإنسان وحريته وأمنه وهنائه فانه يلتقي بعمله هذا مع أهداف الإسلام ، وان لم يكن مسلما ، لأنه تماما كالماء والمعدن اللذين ضربهما الله مثلا


للحق .. وان كل من عمل لشقاء الإنسان فما هو من الإسلام في شيء ، وان صام الدهر ، ووصل صلاة الليل بصلاة الفجر.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى). أي لدعوة ربهم ، وهي العمل لمنفعة الناس ، ولحياة أفضل ، أما الحسنى فالمراد بها الأجر والثواب ، وان أهل الحق ينتفعون به ، تماما كما تنتفع الأرض بالماء.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الذين لا خير فيهم كالزبد (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ). تقدم نظيره في الآية ٥٤ من سورة يونس ، والآية ٩١ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٦.

انما انزل اليك من ربك الحق الآية ١٩ ـ ٢٥ :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ


بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

اللغة :

الدرء الدفع. والعدن بسكون الدال الاقامة ، يقال : عدن في المكان إذا أقام فيه. والعقبى من العاقبة ، وهي النهاية التي تؤدي اليها البداية ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ.

الإعراب :

أفمن يعلم الهمزة للاستفهام ، والمراد به الإنكار ، ومن مبتدأ ، وخبره كمن هو أعمى. وانما كلمتان : (أن) التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، و (ما) الموصولة. والذين يوفون عطف بيان أو بدل من أولو الألباب. والذين يصلون وما بعده من الموصولات مبتدأ ، والخبر جملة أولئك لهم عقبى الدار ، ولهم متعلق بعقبى. وصبروا ابتغاء وجه ربهم (ابتغاء) مفعول من أجله. وسرا قائم مقام المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وعلانية معطوف عليه ، ويجوز أن يكونا قائمين مقام الحال أي مسرّين ومعلنين. وجنات عدن بدل من عقبى الدار. وسلام عليكم مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول لقول محذوف أي يقولون : سلام عليكم. وبما صبرتم (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك متعلق بما تعلقت به عليكم.

المعنى :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). بعد أن شبّه سبحانه الكافر بالأعمى ، والمؤمن بالبصير في الآية ١٦ ،


ثم شبّه الحق بالماء والباطل بالزبد في الآية ١٧ ـ بعد هذا ذكر هنا ان من يؤمن بمحمد فهو البصير المحق ، ومن كفر به فهو الضال الأعمى ، وأخبر تعالى عن هذه الحقيقة بصيغة الاستفهام لتقريع المنكر وتوبيخه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين يصغون لصوت العقل ، ومن لا يصغي اليه الا إذا وافق هواه فهو كمن لا عقل له. ثم ذكر سبحانه أوصاف أولي الألباب ، وهي تدل بوضوح على ان المراد بأولي الألباب المؤمنون المتقون.

١ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ). وكل ما قام عليه الدليل فهو عهد الله ، وعلى الإنسان أن يعمل بمؤداه .. ولكن الأبالسة يحرّفون الحقائق على أهوائهم ، ثم ينسبون هذه الأهواء الشيطانية الى الله والحق .. تعالى الله عما يصف المفترون (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) هذا تأكيد لقوله : يوفون بعهد الله ، حيث يلزم من الوفاء بالعهد انتفاء نقضه ونقيضه.

٢ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). ذكر المفسرون أقوالا في تفسير ما أمر الله به أن يوصل ، وأقربها الى روح الإسلام ومبادئه قول من قال : ان المراد به مناصرة الإنسان لأخيه الإنسان ، والتعاون معه على كشف الضر عنه ، وجلب النفع له قريبا كان أو بعيدا.

٣ ـ (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عمليا لا نظريا ، وفعلا لا قولا فقط ، قال الإمام علي : بالايمان يستدل على الصالحات ، وبالصالحات يستدل على الايمان.

٤ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ). يجاهدون في سبيل الله ، ويصبرون على جراح الجهاد وآلامه ، لا يبتغون جزاء ولا شكورا الا مرضاة الله وحده.

٥ ـ (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) التي أولها التكبير : الله أكبر ، لا كبير سواه كائنا من كان ، والكل لديه سواء ، وآخرها التهليل والتسليم ، لا إله الا هو ولا يعبد سواه ، فلا المال ولا الجاه ولا الأنساب آلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها الا قوة الله وحده لا شريك له.

٦ ـ (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً). المال هو المحك .. أنظر ما كتبناه تحت هذا العنوان في تفسير الآية ٩٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٧.


٧ ـ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). المراد بالحسنة هنا العفو والصفح ، وبالسيئة الحق الخاص يكون بين اثنين كالقصاص ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ـ ١٧٨ البقرة». أما حق الله فلا هوادة فيه ، قال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ ٢ النور».

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). كل الصالحين والطيبين يدخلون الجنة ، وإذا كانوا في الدنيا أرحاما وأحبابا يزدادون فرحا وسرورا بجمع الشمل ، ويتذكرون أيام الدنيا ، ويشكرون الله على الخلاص من همومها وأعبائها ، وإذا اختلفت الأعمال في الخير والشر تقطعت الأنساب والأسباب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون : «فريق في الجنة وفريق في السعير».

(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). يزور الملائكة أهل الجنة تكريما وتعظيما. وقوله : بما صبرتم يومئ إلى أن الجنة محرمة إلا على من جاهد وصبر وتحمل متاعب الجهاد ومشاقه. قال الإمام علي (ع) : «الجنة حفت بالمكاره ، والنار حفت بالشهوات ، واعلموا انه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره ، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة».

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ). بعد ان ذكر سبحانه الصالحين وأوصافهم ، وما أعد لهم من حسن الثواب والمآب ذكر الفاسدين والمفسدين .. وبالتعبير الدارج بعد أن ذكر أنصار الثورة على الفساد ذكر أنصار الثورة المضادة ، وطبيعي أن يكون هؤلاء في صفاتهم وأعمالهم على الضد من أولئك ، فالصالحون يوفون بعهد الله ، فيعملون بوحي من العقل والضمير وبكل ما دل عليه الدليل والمفسدون ينقضون عهده جل وعلا فيعملون بوحي من الشيطان ، يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون الحق وهم يعلمون (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). فيتولون الطغاة المجرمين ، ويناصرونهم على الأحرار الطيبين ، تماما على العكس مما أمر الله به ، ونهى عنه.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بمظاهرة الظالم الغاشم ، وإثارة الفتن والقلاقل ،


وتضليل السذج الأبرياء ، واشاعة التفسخ والانحلال ، ونشر الجرائم والموبقات ، ونحو ذلك من أنواع الفساد والضلال (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). وإذا كان الأشرار في أعمالهم على العكس من الأخيار فمن الطبيعي أن يكونوا أيضا على العكس في الجزاء والثواب .. للأخيار الجنة ونعم الدار ، وللأشرار جهنم وبئس القرار.

يبسط الرزق الآية ٢٦ ـ ٢٩ :

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

اللغة :

يبسط يوسع. ويقدر يضيق. والمتاع ما فيه متعة ولكنها قليلة. والانابة الرجوع الى الحق بعد الضلال ، ويقال : انتاب فلان القوم إذا أتاهم المرة تلو المرة. وطوبى من طاب ، وهي تأنيث الأطيب. والمآب المنقلب.

الإعراب :

وما (ما) نافية ، والحياة مبتدأ ، والدنيا صفة ، وفي الآخرة على حذف


مضاف أي في جنب الآخرة ، والمجرور متعلق بمحذوف حالا من الحياة ، ومتاع خبر. ولولا أداة طلب بمعنى هلا. والذين آمنوا الأولى في محل نصب بدل من (مَنْ أَنابَ). والذين آمنوا الثانية كلام مستأنف ، ومحلها الرفع مبتدأ أول ، وطوبى مبتدأ ثان ، ولهم خبره ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول. وحسن مآب عطف على طوبى ، ويجوز أن تكون طوبى خبر الذين ولها متعلقة بها.

الإنسان والرزق :

عند تفسير الآية ١٠٠ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٣١ تكلمنا مفصلا عن الرزق وأسبابه بعنوان : هل الرزق صدفة أو قدر؟. وذكرنا هذه الآية : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فيما ذكرنا من الآيات ، وأيضا تعرضنا لهذا الموضوع عند تفسير الآية ٦٦ من سورة المائدة ج ٣ ص ٩٤ ، والآن نعود اليه بأسلوب آخر بالنظر لأهميته.

للإنسان صفات كثيرة ، منها ذاتية تلازمه ولا تنفك عنه بحال ، مثل أن يكون طويلا أو قصيرا ، وابن غني أو فقير ، ومنها غير ذاتية مثل أن يكون فلاحا أو تاجرا أو موظفا أو طبيبا ونحو ذلك.

وللغنى أسباب ، منها النسب أي الغنى عن طريق الميراث وهو مشروع في الدين ، وان لم يدخل تحت قدرة الإنسان ، ومنها الاحتكار والاستغلال كالربا والغش والسلب والنهب ، والتجارة بالمحرمات ، وهذا حرام ، ما في ذلك ريب ، ومنها كد اليمين وعرق الجبين ، كالزراعة والصناعة وما اليهما ، وهذا خير الأسباب وأفضلها عقلا وشرعا.

وللفقر أسباب أيضا : منها الإهمال والكسل ، وتقع التبعة فيه على الكسول المهمل ، ومنها فساد الأوضاع التي تجعل القيادة والزعامة للخونة والأقوياء ، وتبعد الشرفاء والضعفاء. وهذا السبب يحكم العقل والشرع بتحريمه وعدم شرعيته. وبكلمة ان كلا من الفقر والغنى له أسبابه المحسوسة المشاهدة بالعيان.

وبهذا يتبين معنا ان الفقر والغنى من صنع الأرض ، لا من صنع السماء في


الأعم الأغلب .. حيث يشذ بعض الموارد عن الأسباب المألوفة ، فيسميها البعض بتوفيق من الله ، والبعض الآخر بالصدفة أو الحظ .. ولكن لا أحد يستطيع القول : ان القضاء والقدر يعاكس بعض الناس في كل شيء ، ويحول أبدا ودائما بينهم وبين ثمرة جهدهم وأعمالهم ، وانه يحالف آخرين ويناصرهم في كل شيء ، ويحقق لهم أكثر مما يأملون ، وفوق ما كانوا يتصورون من غير سعي وجد .. لا أحد يستطيع أن يثبت ذلك ، والا بطلت المقاييس ، وتخلفت المسببات عن أسبابها ، وكان العمل والتحفظ والإتقان ألفاظا بلا معنى.

وتسأل : ان قولك هذا لا يتفق مع ظاهر الآية ، وهي قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)؟.

الجواب : ان الناس في حياتهم وواقعهم فريقان : فريق موسع عليهم في الرزق ، وفريق مضيق عليهم فيه ، وكل من الغنى والفقر يتولد من أسبابه الخاصة التي أشرنا اليها ، وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) هو وصف لواقع الناس ، وحكاية لحالهم التي هم عليها ، فكأنه يقول : الناس فريقان : غني وفقير .. وأضاف سبحانه الفقر والغنى اليه لتنبيه الأذهان انه تعالى هو خالق الكون الذي فيه شقاء وهناء ، وبؤس ونعيم .. وإذا سأل سائل : ولما ذا لم يخلق كونا لا شقاء فيه ولا بؤس أحلناه على ما كتبنا بعنوان : «ليس بالإمكان أبدع مما كان» عند تفسير الآية ٧٨ من النساء ج ٢ ص ٣٨٤.

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ). تقدم نظيره مرات ، منها في الآية ١٨٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٢٤ ، ونعطف على ما ذكرنا هناك ان فريقا من الناس يفرحون بالمال لأنه يستر عيوبهم وقبائحهم ، وكثير منهم لا يرون الفضيلة والخير الا في المال والثراء ، والمعروف عن الأمريكيين انهم لا ينظرون الى شيء الا من خلال الدولار ، وبه وحده يقيسون عظمة الرجال ، حتى العلماء والعباقرة قيمتهم ما في جيوبهم ، لا ما في رؤوسهم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). مر نظيره في الآية ١١٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩ ، والآية ٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ ، والآية ٢٠ من سورة يونس وبالحرف الواحد من السورة التي نحن فيها الآية ٧.


(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). أنظر «الإضلال من الله سلبي لا ايجابي» ج ٢ ص ٣٩٩ عند تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، و «الهدى والضلال» ج ١ ص ٧٠ عند تفسير الآية ٢٦ من سورة البقرة.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). لما ذكر سبحانه أهل المال ، وفرحهم الناشئ عن اطمئنانهم الى عيشهم وحياتهم ذكر المؤمنين ، وانهم هم الذين يطمئنون بذكر الله .. والاطمئنان معنى زائد على أصل الايمان ، وهو ثبات الايمان واستقراره ، أو هو أعلى درجاته ومراتبه ، فقد جاء في الآية ٢٦٠ من سورة البقرة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وفي الآية ١٠٦ من سورة النحل : «وقلبه مطمئن بالايمان». أي ثابت ومستقر.

أما الذكر فليس المراد به مجرد الكلام الملفوظ المسموع ، وانما المراد به الذكر الذي يزيد الذاكر يقينا بالله ، وثقة بوعده ووعيده ، فإذا لم يتحقق هذا الأثر. فلا يعد التلفظ بالتقديس والتسبيح ذكرا حقيقيا .. والذكر الذي يزيد الذاكر يقينا وثقة هو المراد من قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ـ ١٥٢ البقرة».

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ). المراد بطوبى الجنة ، والمآب المرجع والمنقلب ، والآية بمعنى قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ـ ٢٥ البقرة».

كذلك أرسلناك في أمة الآية ٣٠ ـ ٣١ :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ


آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

اللغة :

خلت مضت. ومتاب اسم مصدر من تاب. وسيّرت به الجبال أي سارت بسببه. وقطعت به الأرض شققت أنهارا وعيونا. وكلّم به الموتى جعلها تتكلم. وييئس يعلم في لغة هوازن. وقارعة مصيبة.

الإعراب :

هو ربي مبتدأ وخبر ، وجملة لا إله إلا هو خبر ثان. ولو ان قرآنا جواب لو محذوف دل عليه الكلام ، والتقدير لكان هذا القرآن. والمصدر المنسبك من ان لو يشاء مفعول ييئس. وبما صنعوا (ما) مصدرية أي بصنعهم ، ويجوز أن تكون موصولة أي بالذي صنعوه. وفاعل تحل ضمير مستتر يعود الى قارعة. وقريبا حال من هذا الضمير المستتر.

المعنى :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ). الخطاب موجه لمحمد (ص) ، وضمير عليهم يعود إلى الأمة التي أرسل اليهم. وقد أرسل الله من قبله الى الأمم الخالية رسلا مبشرين ومنذرين ، وللغاية نفسها أرسل محمدا ، فأي بدع في ذلك؟. فما هم بأول قوم أرسل الله اليهم رسولا ، ولا هو بأول رسول يتلو على الناس ما أوحي اليه من


ربه (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ). هذا هو إيمان محمد (ص) ، وهذه هي دعوته : يؤمن بالله وحده ، ويلتجئ اليه في جميع أموره ، ولا يرى لغيره من سلطان ، ويدعو الناس جميعا الى هذا الايمان ، وهي دعوة تدل على نفسها بنفسها.

تفكير الطغاة :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً). مر نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وتكلمنا حولها مفصلا بعنوان طراز من الناس في ج ٣ ص ٢٤٨. وأيضا يأتي مثلها في الآية ٩٠ وما بعدها من سورة الاسراء ، ونعطف على ما قدمناه ان هذه الآية تصور الطريقة التي يفكر بها الطغاة الذين تقوم حياتهم على استغلال الضعفاء واستعبادهم .. فلا الفطرة والعقل ، ولا الحس والمشاهدة ، ولا الخوارق والمعجزات ، ولا شيء يغير من عتو الطغاة المستغلين وضراوتهم .. والدافع الأول والأخير هو إخلاصهم لوجودهم وكيانهم الذي يقوم على السلب والنهب .. ومع هذا يريدهم محمد (ص) أن يعترفوا به وبالقرآن .. ولما ذا يعترفون؟. ألان الجبال تسير ـ بكتاب من السماء ـ بلا عجلات ، وتكلمهم الأموات؟. ثم ما ذا؟. وأية جدوى لهم في ذلك ، بل وفي رؤية الله وجها لوجه؟. هل تزداد أرباحهم ، وتكثر أموالهم؟.

هذا هو تفكيرهم ، وهذه هي اللغة التي يفهمونها ويصغون اليها ، ولا يستمعون إلى غيرها .. لغة الكسب والربح الجنيه والدولار ، اما الحق والعدل ، اما المنطق والعقل فحديث خرافة يصدقه الأطفال ، ويؤمن به الجهال .. وهل بعد هذا يسأل سائل : كيف لم يؤمن الطغاة بمحمد ، ودعوته دعوة العدل والإحسان؟. وأي ذنب أعظم من هذه الدعوة التي تستأصل الظلم والفساد من الجذور؟. وأي عاقل يوقع بيده الحكم بإعدامه؟.

بهذه الطريقة وحدها يفكر الذين تقوم حياتهم على السلب والنهب في كل زمان ومكان .. فكر بها أبو جهل وأبو سفيان في عهد محمد (ص) ، وفكر بها في


عصرنا هتلر وموسوليني ، وتفكر بها اليوم وفي عصر الفضاء الدول الاستعمارية بقيادة أمريكا ، وكفى دليلا على ذلك انها تضغط بكل قواها على أعضاء الأمم المتحدة كي يتجاهلوا أية قضية تمت الى العدالة بسبب ، فإذا فشلت في هذا الميدان وقفت موقفا صريحا ومعاديا لكل شعب يطلب العدل والانصاف من المعتدين عليه ، وناصرت الظلم والطغيان أينما كان ويكون ، وسواء أجاء من إسرائيل أم البرتغال أم الحكومة العنصرية في روديسيا وجنوب افريقيا ، أو غيرها .. والسر هو اخلاص الولايات المتحدة لطبيعتها أو لنظامها كقائد للاستعمار الحديث في هذا العصر ، ومصير هذه القيادة تماما كمصير النازية الهتلرية وغيرها ، وقد ظهرت الدلائل في فيتنام ، أما الاستياء من سياسة المستعمرين فقد عم الشرق والغرب ولن يمر هذا الاستياء دون أن يترك أثره الفعال.

وكنت من قبل أعجب من بعض الناس كيف يستهينون بالطيبين المخلصين ، ولا يقدرونهم حق قدرهم ، وكيف يرونهم كغيرهم من الأناس العاديين ، حتى ولو أتوا بالعجب العجاب ، وضحوا بأعز ما يملكون من أجل احقاق الحق ، عجبت من ذلك حتى وصلت بالتفسير الى هذه الآية فأدركت ان هذا التفكير ليس مقصورا على من أفسد وطغى بالفعل ، فإن كثيرا من الناس قد أسقطوا من حسابهم جميع الفضائل والقيم ، ولم يقيموا وزنا الا للكسب والربح تماما كغيرهم من الذين حاربوا محمدا ، ووقفوا في هيئة الأمم ومجلس الأمن في جانب إسرائيل وعدوانها سوى ان هؤلاء تمهد لهم السبيل الى الفساد والطغيان فسلكوه ، ولما عجز عنه الذين يستهينون بالخير وأهله وقفوا موقف الحياد.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً). قال الطبري : اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله تعالى : أفلم ييئس .. ثم قال : والصواب إن تأويل ذلك أفلم يتبين ، ونقل هذا التفسير عن جماعة كثر ، منهم الإمام علي (ع). ونحن من الذين يؤمنون بأن أهل البيت أدرى بالذي فيه. ومهما يكن فإن المقصود بالذين آمنوا صحابة الرسول الأعظم (ص) حيث تمنوا متلهفين ان يؤمن المشركون بالله ورسوله ، فقال لهم جلت عظمته : إلى متى تطمعون في إيمان المشركين؟. ألم تعلموا وتتبينوا انهم لا يؤمنون بحال حتى ولو كلمهم


الموتى ، وسارت الجبال؟ .. دعوهم وطغيانهم ، ولو شاء الله أن يلجئهم الى الايمان لفعل ، ولكن حكمته تعالى قضت بأن يترك الإنسان وما يختاره لنفسه حرصا على حريته وانسانيته ، ولو سلبه الحرية والارادة لم يكن شيئا مذكورا ، ولما استحق مدحا أو ذما ، ولا ثوابا أو عقابا .. انظر تفسيرنا لقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ـ ١١٨ هود».

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ). المراد بالذين كفروا من كذّب بنبوة محمد (ص) ، والمعنى انه تعالى لا يترك في الدنيا هؤلاء المكذبين من غير تأديب ، بل ينزل عليهم الكوارث والبلايا الحين بعد الحين بسبب موقفهم من رسول الله (ص) ، أو ينزل مصيبة من حولهم تملأ قلوبهم خوفا ورعبا ، ويتابع ذلك حتى ينجز الله وعده لنبيه بالنصر (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ). كيف؟. ووعده أصدق الوعد ، والصحابة وكل مؤمن على ثقة بأن الله منجز وعده ، وناصر جنده لا محالة.

وقد استهزي برسل من قبلك الآية ٣٢ ـ ٣٤ :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))


اللغة :

أمليت أمهلت. وقائم على نفس أي رقيب عليها ومدبر لأمورها.

الإعراب :

كيف خبر مقدم لكان ، وعقاب اسمها ، والأصل عقابي. والجملة مفعول لفعل محذوف أي فانظر كيف الخ. أفمن (من) اسم موصول مبتدأ والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك. وهو قائم مبتدأ وخبر ، والجملة صلة الموصول. أم تنبئونه (أم) منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أتنبئونه. ومن يضلل (من) مبتدأ وفما نافية ، وله متعلق بمحذوف خبرا لهاد ، ومن الداخلة عليه زائدة اعرابا ، والجملة خبر من يضلل الله.

المعنى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ). يقول سبحانه لنبيه محمد (ص) : اصبر وامض في دعوتك ، وهون عليك أمر الذين كذبوك وسخروا منك وابعدوا في اقتراحاتهم عليك ، فلقد فعل فعلهم من كان قبلهم ، فأطلت لهم ومددت الأجل ، ثم أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، وهذه بالذات عاقبة الذين كذبوا برسالتك.

وما أرسل الله نبيا الا وهو مزود بأمرين : العلم بالأدلة الكونية والعقلية على وجود الخالق ووحدانيته ، ومعجزة تظهر على يده ، وتدل على نبوته ، وبالأولى يقنع الناس بالتوحيد ، وبالثانية يقنعهم بأنه رسول من ربه ، وكان الذين لا يؤمنون الا بمنافعهم وأرباحهم يستهزئون ويسخرون من الأنبياء وأدلتهم ومعجزاتهم ، والله يمد لهم الأجل ليؤبوا الى رشدهم ، وليعذر اليهم بالإملاء ، كما اعذر اليهم بالحجج.


(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يحرسها ويراقبها ويحصي عليها كل شيء ويجازيها بالثواب ان أحسنت ، وبالعقاب ان أساءت ، أفمن يكون بهذه الصفات تجعل الأحجار شريكة له؟ .. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) لا يشبهونه بشيء (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ ١٧ النحل)؟ .. (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي اذكروا أيها المشركون صفة واحدة لأصنامكم تستحق بها العبادة .. وهذا التحدي يشبه السخرية والتهكم ، تماما كما لو قال الجبان : أنا أشجع الشجعان. فتقول له : اذكر لنا شاهدا واحدا على شجاعتك.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ). الله يقول : لا شريك لي. وهم يقولون له ، بل لك شركاء كثيرون .. ومعنى قولهم هذا في واقعه ان الله لا يعلم وهم يعلمون ، وانهم يخبرونه بشيء يجهله .. تعالى الله عما يصفون ، وبتعبير أهل المنطق إذا وجد الملزوم وجد اللازم ، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ـ إذا وجدت الشمس وجد النهار ، وإذا انتفت الشمس فلا نهار ، وإذا انتفى النهار فلا شمس أيضا ظاهرا وواقعا .. وكذلك إذا وجد الشريك علم الله بوجوده حتما ، وحيث ان الله لا يعلم به فلا شريك ، والا يلزم جهله تعالى الله عن ذلك.

وانما خص سبحانه الأرض بالذكر مع انه تعالى لا شريك له في الأرض ولا في السماء ، لأن الحديث يتعلق بالأصنام ، وهي في الأرض لا في السماء.

(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ). وضعت الكلمات لتدل على معنى موجود ، وأية كلمة لا تدل على ذلك فهي شيء في الظاهر ، ولا شيء في الواقع ، وكلمة شركاء الله من هذا الباب أسماء بلا مسميات : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ـ ٢٣ النجم» ، ومرّ نظيره في الآية ٧٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٨ ، والآية ٤٠ من سورة يوسف.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ). معنى المكر في اللغة الخداع ، وقد خدع المشركون بالأصنام ، فظنوها شريكة لله في خلقه ، وزينت لهم أنفسهم هذا المكر والخداع (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) بالبناء للمجهول أي ان الذي زينته له أنفسهم صدهم عن الحق والايمان بالله ووحدانيته (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). أنظر


تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، فقرة «الإضلال من الله سلبي لا ايجابي» ج ٢ ص ٣٩٩.

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالخزي والهوان (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) لأن كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، كما قال الإمام علي (ع). (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يقيهم العذاب ويدفعه عنهم.

مثل الجنة الآية ٣٥ ـ ٣٨ :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨))

اللغة :

الأكل بضم الهمزة المأكول. والمراد بالكتاب القرآن وبالذين آتيناهم الكتاب


صحابة النبي (ص) لأنهم هم الذين فرحوا به عند نزوله ، والمراد بالأحزاب أهل الأديان الذين تحزبوا وتعصبوا ضد الإسلام ، فإنهم يكفرون ببعض القرآن ويؤمنون ببعض. والمآب المرجع. والواقي الحافظ.

الإعراب :

قال المفسرون : ان سيبويه أعرب مثل الجنة مبتدأ ، والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، والمعنى ان وصف الجنة هو ما ذكرناه في القرآن. والتي عطف بيان من الجنة ، والعائد على الاسم الموصول محذوف أي وعد بها المتقون ، وجملة تجري حال من الجنة. وأكلها دائم مبتدأ وخبر ، وظلها أي وظلها دائم. ومن الأحزاب خبر مقدم ، ومن ينكر مبتدأ مؤخر. وحكما حال من هاء أنزلناه ، وعربيا صفة للحكم. والمصدر المنسبك من ان يأتي اسم كان.

المعنى :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها). لما ذكر سبحانه عقاب الكافرين ذكر ثواب المتقين ، كما هو شأنه تعالى في المقارنة بين الضدين والمتشابهين ، وثواب المتقين الجنة بنعيمها الدائم أنهارا وثمارا وظلالا (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا). تلك إشارة الى الجنة ، والعقبى المنقلب والمصير ، والمتقون هم الذين يناصرون الحق وأهله ، ويقاومون الباطل وأهله ، وفي بعض الأخبار : ان الايمان فوق الإسلام ، والتقوى فوق الايمان ، واليقين فوق التقوى والمراد باليقين الثقة بالله ، والتوكل عليه.

(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ). وليس المراد بالكافر هنا خصوص من جحد بالله أو أشرك به ، بل كل من عاند الحق ، وهو به عليم .. فقد جاء في كثير من الأخبار ان النفاق كفر ، والرياء شرك. وقد وصف سبحانه الظالمين بالكفر في الآية ٩٩ من الاسراء : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) كما وصف الكافرين والمشركين بالظلم في العديد من الآيات.


الشيعة الإمامية والصحابة :

دأب بعض المأجورين والجاهلين على إثارة الفتن والنعرات بين المسلمين لتشتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم ، دأبوا على ذلك عن طريق الدس والافتراء على الشيعة الامامية ، وذلك بأن نسبوا اليهم النيل من مقام الصحابة ، وتأليه علي ، والقول بتحريف القرآن الذي يهتز له العرش .. وما إلى ذلك من الكذب والبهتان .. وكتبت المقالات الطوال في الرد على هؤلاء الأدعياء والعملاء ، ثم وضعت في الشيعة الامامية كتاب «مع الشيعة الامامية». و «الشيعة والحاكمون».

و «الاثنا عشرية وأهل البيت». و «الشيعة والتشيع» وهو أكبر وأضخم من الجميع ، وغرضي الأول من المقالات والمؤلفات جلاء الحقيقة لمن يرغب في معرفتها ، وإبطال ما قيل أو يقال حول هذه الطائفة من الافتراءات والأكاذيب.

وأشرت هنا إلى ما كتبت وألفت في هذا الموضوع لمناسبة تتضح مما يلي :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). قال أبو حيان الأندلسي والزمخشري والشيخ المراغي والبيضاوي وغيرهم من علماء السنة قالوا : المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بمحمد من اليهود والنصارى .. وقال الطبرسي في مجمع البيان ما نصه بالحرف : «يريد الله سبحانه أصحاب النبي (ص) الذين آمنوا به ، وصدقوه وأعطوا القرآن ، وفرحوا بإنزاله». والطبرسي من أجل علماء الشيعة الامامية وثقاتهم (ت ٥٤٨ ه‍) .. فالكثير من علماء السنة فسروا الآية بمن أسلم من أهل الكتاب ، وفسرها الشيعة الامامية بصحابة الرسول الأعظم (ص) ، ولو كانوا ينالون من مقام الصحابة لاتجه شيخهم الطبرسي في تفسير هذه الآية الى غير هذا الوجه .. وبهذا يتبين الدس ممن نسب اليهم هذه الفرية.

وكان ابان بن تغلب أحد الكبار في تلامذة الإمام جعفر الصادق (ع) ، حتى ان الإمام كان يأمر الشيعة أن يأخذوا الدين عنه ، وفي ذات يوم سأله رجل عن الشيعة؟. وكان يدعى هذا السائل «أبو البلاد». فقال له ابان : انهم الذين إذا اختلف الناس في الرواية عن النبي (ص) أخذوا برواية علي عن النبي ، وإذا اختلف الناس في قول علي (ع) أخذ الشيعة بقول جعفر الصادق عن علي ..


فالمسألة ـ إذن ـ عند الشيعة الامامية مسألة ثقة بالرواية عن محمد (ص) لا مسألة سب وشتم أصحاب محمد .. والسر لاعتماد الشيعة على أهل البيت فيما ثبت عن جدهم ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي (ص) باب «من فضائل علي بن أبي طالب» انه قال : «انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي ، فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها ثلاثا».

(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ). المراد بالأحزاب أهل الملل والأديان الأخرى كاليهود والنصارى وغيرهم ممن أنكروا ما يخالف أهواءهم ، واعترفوا بما بوافقها من القرآن .. ومن الواضح ان اعتراف هؤلاء ، وانكارهم سواء ، لأنه اعتراف بما يهوون ، لا بالقرآن (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ). هذا هو الإسلام : لا إله إلا الله له الملك واليه وحده الدعوة الى العبادة ، واليه المرجع والمصير.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا). المراد بالحكم القرآن لأنه حكم الله ، وما عداه حكم الجاهلية ، كما قال سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ـ ٥١ المائدة». وكما أرسل الله كل نبي بلغة قومه فقد أرسل محمدا كذلك: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ـ ٤ ابراهيم». وعند تفسير الآية ٢ من سورة يوسف بيّنا السبب لنزول القرآن بلغة العرب مع ان محمدا رسول الله الى الناس جميعا.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ). الخطاب لمحمد ، والضمير في أهوائهم الى الأحزاب من أهل الملل والأديان ـ غير الإسلام ـ والله يعلم ان النبي لا ولن يتبع أهواءهم .. والغرض من هذا النهي ان يثبت ويستمر في الدعوة الى الحق ، ولا يخشى في الله لومة لائم ، وقدمنا أكثر من مرة ان الأمر من الأعلى لا يلحظ فيه مقام المأمور مهما بلغ من العظمة ما دامت دون عظمة الآمر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً). إذا أفحم المبطل


ولم يجد حجة يتذرع بها أخذ باللف والدوران ، وقاس الأشياء بخياله وأوهامه ، وهذه هي بالذات حال المشركين مع محمد (ص) .. أتاهم بالدلائل والبينات ، ولما عجزوا عن ردها قالوا : كيف يكون نبيا ، وله نساء وأولاد؟. وهذا المنطق العليل يتفق تماما مع منطق الذين آمنوا بالرهبانية وقد رد الله عليهم بأن محمدا كنوح وابراهيم وإسماعيل وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين لهم نساء وأبناء ، فأي عجب في ذلك؟. وفي الحديث عن النبي (ص) انه قال : «أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وهذا رد أيضا على المشركين الذين اقترحوا على رسول الله أن يأتيهم بما يهوون من المعجزات .. ووجه الرد ، ان الله سبحانه قد زود نبيه محمدا بما هو كاف واف في الدلالة على نبوته لمن تدبر واعتبر ، وطلب الحق لوجه الحق ، أما الاستجابة لأهواء العنود المكابر فلا يحتمها عقل ولا عرف ، وأمرها متروك الى الله وحكمته جل وعز (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). لكل شيء أجل معجزة كان أو عذابا أو غيرهما ، والأجل محتوم لا يتقدم ولا يتأخر ، وهو مكتوم أيضا لا يعلمه الا الله.

يمحو الله ما يشاء ويثبت الآية ٣٩ ـ ٤٣ :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))


اللغة :

المراد بالمحو هما نسخ الأحكام. وأم الكتاب أصله ، وعلمه تعالى هو الأصل لجميع الكتب السماوية. وأطراف الأرض جوانبها. وقيل : الأطراف هنا جمع طرف بكسر الطاء ، وهو الشيء الكريم ، وان الأرض تنقص بموت كرامها. وهذا المعنى بعيد عن سياق الآية. ولا معقب لحكمه أي لا راد له.

الإعراب :

انما مركبة من كلمتين : ان الشرطية وما الزائدة اعرابا. ونرينك مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. وجواب الشرط فإنما عليك البلاغ. وجملة ننقصها حال من ضمير نأتي. ولا معقب (لا) نافية للجنس ومعقب اسمها ولحكمه خبر ، والجملة حال من ضمير يحكم. وكفى بالله الباء زائدة اعرابا ولفظ الجلالة فاعل كفى ، وشهيدا حال أو تمييز على معنى من شهيد. ومن عنده (من) اسم موصول في محل جر عطفا على لفظ الجلالة ، أي وكفى بمن عنده ، وعنده خبر مقدم ، وعلم الكتاب مبتدأ مؤخر ، والجملة صلة الموصول.

المعنى :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). أم الكتاب كناية عن علمه تعالى بما كان ويكون ، ولو جاز لنا تفسير الألفاظ بالذوق والاستحسان لفسرنا الكتاب بالكون ، والأم بعناصره وأسراره ، لأن لله كتابين وفي كل منهما آيات بينات على وجوده ووحدانيته ، وجلاله وعظمته : أحدهما ينطق بلسان الحال ، وهو الكون ، والآخر بلسان المقال ، وهو القرآن.

أما المحو والإثبات فقد نقل الطبرسي في معناهما ثمانية أقوال ، وأقربها ان المراد بالمحو نسخ الشريعة كالشرائع القديمة ، أو نسخ بعض أحكامها كنسخ الصلاة الى بيت المقدس من الشريعة الاسلامية. أما الإثبات فالمراد به إقرار الأحكام


ورسوخها إلى بوم القيامة ، وعليه يكون المعنى ان الله سبحانه ينسخ أو يقر الشريعة كلا أو بعضا حسبما تستدعيه الحكمة والمصلحة ، وهو جلت عظمته عالم بما يصلح العباد وما يفسدهم ، فينهاهم عن هذا ، ويؤمرهم بذاك دواما أو مؤقتا على مقتضى علمه بأمد المضار والمنافع .. وتكلمنا عن النسخ عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة البقرة ج ١ ص ١٦٩.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ). هذه الآية تتصل بالآية ٣١ من هذه السورة ، وهي قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ). ووجه الاتصال ظاهر حيث قال الله لنبيه : انه سينزل العذاب على من كذبه لا محالة ، ثم قال له في الآية التي نحن بصددها : سواء أريناك عذابهم أم توفيناك قبل ذلك فان مهمتك الأولى والأخيرة ان تؤدي رسالتك على وجهها وكفى وما عدا ذلك علينا ، لا عليك.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها). الأرض كرة لا أطراف لها كما للجسم المسطح ، ولكنها كبيرة تتسع لملايين الأجناس والأنواع من الكائنات والمخلوقات ، وهي في تغير دائم .. فبينا يرى الإنسان أو يسمع ان هذه البقعة من الأرض آهلة بالسكان وأسباب الحضارة وأنواعها ، وتلك البقعة صحراء جرداء وإذا بالآهلة خراب يباب ، وبالصحراء جنات وعيون .. وأهل الأرض كذلك : حضارات تحيا ، وأخرى تموت ، وملك يقوم ، وآخر يزول .. وهكذا دواليك ، لا يدوم بؤس ولا نعيم في هذه الأرض .. قال الإمام علي (ع) : «احذروا الدنيا فإنها غدارة غرارة ، خدوع معطية منوع ، ملبسة نزوع ، لا يدوم رخاؤها ، ولا ينقضي عناؤها». وقوله تعالى : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) يشير الى هذا المعنى ، وان العاقل يتعظ ويعتبر بهذه التقلبات والتغيرات : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ ١٠٩ يوسف».

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ). وقد حكم بالهلاك على القوم المجرمين ، فنفذ فيهم حكمه وبأسه : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ـ ١١ الرعد».


(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً). والمراد بمكر الله إبطال مكر الماكرين وتدبيرهم. انظر تفسير الآية ٥٤ من سورة آل عمران ، فقرة الله خير الماكرين ج ٢ ص ٦٨ (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) لأنه واسع عليم (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) يوم ينقلبون الى ربهم ، ويقولون : هذا يوم عسير.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً). أنكروا رسالة محمد (ص) رغم البينات والدلائل .. لأنها حرب وثورة على الظلم والطغيان ، وعلى كل تقليد يحول دون الإنسان وحريته وأمنه وسعادته.

راحة الضمير والوجدان :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). أمر الله نبيه في هذه الآية ان يقول للمشركين : إذا أنكرتم رسالتي فإن الله يشهد بأني رسول من عنده ، وأيضا المنصفون من علماء التوراة والإنجيل يشهدون بذلك .. هذا هو المعنى الظاهر ، وهو المراد ، وعليه جميع المفسرين ، ونحن معهم ، ولكنا نلمس من وراء هذا الظاهر معنى كبيرا وجليلا ينطبق على كل من آمن بالحق وعمل به ، وأنكره عليه المفسدون في الأرض ، ولاقى منه ما لاقاه الأنبياء والمصلحون ، ويتلخص هذا المعنى الكبير الجليل الذي ترمز اليه الآية بأن كل من استراح ضميره الى شيء وشهد معه الوجدان السليم فإن الله أيضا يشهد وملائكته والمنصفون من عباده بأنه على حق ، نبيا كان أو غير نبي.

وتسأل : متى يكون الإنسان مرتاح الضمير ، ويشهد معه الوجدان السليم؟. الجواب : ان الإنسان لا يكون من أهل الضمير الحي والوجدان السليم الا إذا آمن بقيم انسانية كالعدالة والحرية والصدق والأمانة ، وما الى ذلك مما يعود خيره على الجميع ، ومتى آمن الإنسان بالقيم ، ولاءم بين تصرفاته وإيمانه استراح ضميره وشهد له وجدانه ، ومتى وقع الانفصال بين التصرف والايمان تأرق ضميره ، وأنحى عليه لوما وتقريعا.


وأهل الضمير والوجدان لا يهتمون الا بقيمتهم أمام ضميرهم ، وأمام الناس الطيبين من أمثالهم الذين يشاركونهم الايمان بالمثل والقيم الانسانية ، أما قيمتهم عند من لا ضمير له ، ولا يرى الا نفسه وصالحه فلا يهتمون بها على الإطلاق ، بل يتهمون أنفسهم ، ويتوبون الى الله إذا رضي عنهم المفسدون.

وفي يقيني ان أكثر الناس سعادة هم أهل المبادئ الحقة الذين لا يعملون الا بما استراحت اليه ضمائرهم.

وتقول : ان كثيرا من الناس يشعرون بالسعادة إذا وجدوا ما يبتغون ، ومع ذلك لا يؤمنون بقيمة ولا مبدأ .. وهل السعادة الا شعور الإنسان بأنه يجد ما أراد؟ وهل الشقاء الا الاحساس بحرمانه مما يريد؟.

الجواب : أولا ان حديثنا مقصور منذ البداية على أهل الضمير دون غيرهم ، وهؤلاء لا ضمير لهم. ثانيا : ان كثيرا من الذين يجاهرون بإنكار القيم يقرونها في قرارة أنفسهم ، ولكن لما غلبت عليهم شقوتهم حاولوا إخفاء هذا الغلب والعجز بإنكار ما يقرون ويؤمنون ، وقالوا كاذبين على أنفسهم : لو كان هناك قيم لالتزمنا بها وحرصنا عليها ، تماما كما ينكر المجرم جريمته وهو على يقين منها.


سورة ابراهيم



سورة ابراهيم

مكية ، وعدد آياتها ٥٢ ، وقيل : منها آيتان مدنيتان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الدين نور الآية ١ ـ ٤ :

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

اللغة :

العزيز الغالب. والحميد المحمود .. والويل الهلاك. ويستحبون يختارون ويؤثرون. وبلسان قومه بلغتهم.


الإعراب :

كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب. وجملة أنزلناه صفة لكتاب. والى صراط العزيز بدل من قوله الى النور باعادة حرف الجر. والله الذي (الله) بدل من العزيز ، والذي له ما في السموات الخ. صفة لله أي مالك السموات والأرض وما فيهما. وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر ، والجملة صلة الموصول. وويل مبتدأ ، وللكافرين خبر. والذين يستحبون عطف بيان من الكافرين أو صفة أي المستحبين. وعوجا مصدر في موضع الحال أي معوجين ضالين. ويجوز أن يكون عوجا مفعولا به إذا قدرت ويبغون لها العوج. فيضل بالرفع ، ولا يجوز النصب بالعطف على ليبين ، حيث يصير المعنى ان الله أرسل الرسول ليضل.

المعنى :

(الر) تقدم نظيره في أول سورة البقرة. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). المراد بالكتاب القرآن ، وأنزلناه اليك الخطاب لمحمد (ص) ، وبإذن ربهم أي بأمر الله تعالى ، وتدل الآية بوضوح على ان الهدف الأساسي من إرسال محمد (ص) وانزال القرآن عليه هو ان يجند بدعوته كل طاقات الناس للعمل متكاتفين متضامنين من أجل الانسانية وخيرها واطمئنانها ، لأن إخراج الناس من الظلمات الى النور لا يتم بالدعوات والصلوات ، وانما يكون بالجهاد الجماعي لا الفردي ، وكفاح المنظمات لا الأفراد ، كفاحهم ضد المستغلين والمستثمرين ، وضد الجهل والخرافة ، وضد الأوضاع الفاسدة ، والتقاليد البالية.

وبالفعل آخى محمد (ص) بين أصحابه ، وبث فيهم روح الصفاء والمحبة ، وروح الفداء والتضحية لإعلاء كلمة الله والانسانية ، وجعل منهم ـ وهم الأجلاف الجاهليون ـ رسل خير وعلم وحضارة .. وبهذه المناسبة ننبه الأذهان الى الدجالين والانتهازيين الذين يشجعون الخرافة ، ويناصرون الطغاة باسم الدين .. ان هؤلاء


من أعدى أعداء الله ورسوله ، لأن الدين نور ، والخرافة ظلمات ، والدين صراط الله الحميد ، والظلم صراط الشيطان الرجيم.

وتسأل : تقول الآية ٣٣ من سورة التوبة : «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون». ومعنى هذا في ظاهره ان الله أرسل محمدا بقصد أن يكون دينه فوق الأديان ، فما هو وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)؟.

الجواب : أولا ان المراد بالدين في قوله : ليظهره على الدين هو الشرك بدليل قوله : ولو كره المشركون. ثانيا : ان الأديان في عهد محمد (ص) كانت كلها ظلمات ، حتى السماوية منها لعبت بها أيدي التحريف. ثالثا : ان إعلاء دين محمد هو إعلاء للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه ، ومهما يكن فإن أي مبدأ ينتفع به الناس بجهة من الجهات فانه يلتقي في هذه الجهة مع دين الله ، ودعوة محمد رسول الله (ص).

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). تكرر هذا في كتاب الله عشرات المرات ، والقصد التذكير بأن الله هو خالق الكون ، والمسيطر على من فيه وما فيه. ثم ذكر سبحانه جزاء الكافرين ، وطرفا من صفاتهم :

١ ـ (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ). هذا وعد ووعيد للكافر على كفره ، وان جزاءه الهلاك والعذاب الأليم ، قال الرازي : انما خصهم بالويل لأنهم يولون من العذاب ، ويقولون : يا ويلاه.

٢ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ). هذا أول وصف للكافرين وهو انهم يؤثرون الباطل على الحق ، والظلم على العدل ، والفساد على الصلاح .. وكل من كان كذلك فهو كافر ، أو يلتقي مع الكافرين في عمله ، وعليه ما عليهم من اللعنة والعذاب ، وان صلّى وصام ، وحج الى بيت الله الحرام.

٣ ـ (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيمنعون الناس عن طريق الحق والهداية ، وكانوا بذلك ضالين مضلين ، وفاسدين مفسدين.

٤ ـ (وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). وعوجا تشير إلى انهم يتوصلون الى غاياتهم بأساليب ملتوية ومحرمة ، كالكذب والغش والمؤامرات والتعاون


مع الطغاة ، ولا يختص هذا الوصف بالكافرين والمشركين ، فان كثيرا من المسلمين يكذبون ويخونون ويتآمرون مع أعداء الله والوطن على عيال الله ومقدّراتهم .. وهؤلاء شر مكانا من الكافرين وأضل سبيلا. وقوله تعالى : في ضلال بعيد معناه انهم أمعنوا في الضلال والفساد ، حتى بلغوا غايته.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فيفهموا عنه ، وتتحقق الغاية من رسالته ، ولو وجدت لغة انسانية عامة تفهمها جميع القوميات لأرسل بها محمد (ص) لأنه رسول الله الى الناس جميعا في كل زمان ومكان .. وينبغي التنبه الى الفرق بين قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ، وبين القول : ما أرسلنا رسولا الا الى أهل لغته ، فالصيغة الأولى لا تمنع ان يكون الرسول عاما ، ولغته خاصة ، على عكس الصيغة الثانية ، حيث تحصر رسالة الرسول بقومه وحدهم .. انظر تفسير الآية ٢ من سورة يوسف.

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أرسل الله رسله الى عباده لانقاذهم من الجهالة والضلالة ، فمن استمع وأطاع فهو المهتدي ، ومن أعرض وعصى فهو الضال ، فالهداية ـ اذن ـ تقاس بطاعة الله ، والضلال بمعصيته .. ولو ان الله لم يشرع أحكاما ، ولم يرسل رسلا لتبليغها لما كانت الطاعة والمعصية ولا الهدى والضلال ، ولكنه تعالى شرّع وأرسل ، فنتج عن ذلك الطاعة والمعصية والهدى والضلال ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الهدى والضلال اليه جلت حكمته. أنظر ج ١ ص ٧٠ وج ٢ ص ٣٩٩.

ولقد أرسلنا موسى الآية ٥ ـ ٨ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ


آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

اللغة :

يسومونكم أي يذيقونكم. ويستحيون نساءكم أي يستبقوهن أحياء للاسترقاق. وتأذن من الأذان وهو الاعلام.

الإعراب :

ان اخرج (ان) مفسرة بمعنى أي. وجملة يسومونكم حال من آل فرعون. وفي ذلكم بلاء مبتدأ وخبر. وإذ تأذن معطوف على إذ أنجاكم. ولئن شكرتم اللام للتوطئة تدخل على الشرط لتدل على ان الجواب له وللشرط معا. لأزيدنكم اللام وما دخلت عليه سادان مسد جواب القسم والشرط.

المعنى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ـ الدالة على نبوته ـ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). عاد الحديث الى موسى (ع) وبني إسرائيل الذين أقرحوا قلبه ، وأدموا فؤاده ، عاد الحديث اليهم ، وقد تكرر فيما سبق عشرات المرات ، ولا أعرف سرا لتكرار الحديث عنهم أكثر من غيرهم الا انهم قد شذوا عن الناس ،


كل الناس طبيعة وعملا ، كما أشرت فيما تقدم ، ولا أخفي اني أشعر بعبء ثقيل عند تفسير الآيات التي فيها اسم بني إسرائيل.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ). وأظهر هذه الأيام ، وأعظمها نعمة عليهم يوم أنجاهم الله من عذاب فرعون وحررهم من الرق والعبودية .. لله من حكم .. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. صبرا على بلائك أملا بنصرك وآلائك .. ذلك اشارة الى التذكير ، والمراد بالآيات هنا العبر والعظات ، ومن الواضح ان الذي يتعظ ويعتبر هو المؤمن حقا الذي يشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البلاء ، مع الجد والاجتهاد في الخلاص مما يعانيه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). ذكّر موسى (ع) بني إسرائيل بما صنعه فرعون بهم من الذبح والاسترقاق ، وبنعمة الخلاص من ذلك ، وأمرهم أن يذكروا الله ويشكروه على هذه النعمة .. ولكنهم لم يذكروه ولم يشكروه ، بل كفروا بالله ، وجحدوا نعمته ، وتمردوا عليه وعلى نبيهم موسى ، وقالوا له : أرنا الله جهرة ، وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا .. ومروا على قوم يعبدون أصناما لهم ، فقالوا ، يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، ثم عبدوا من دون الله عجلا جسدا له خوار مكافأة لله الذي أنجاهم من عذاب فرعون .. ولما يئس منهم موسى ، وضاق بهم ذرعا توجه الى الله وقال : ربي اني لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين .. فأي عجب بعد هذا إذا تنكر اليهود لنعمة المسلمين عليهم يوم نبذهم العالم ، حيث لا أمريكا ولا انكلترا ولا المانيا الغربية تتخذ منهم سمسارا مخلصا ، وكلبا حارسا للاستعمار والنازية؟. ومر نظير هذه الآية في ج ١ ص ٩٨ الآية ٤٩ من سورة البقرة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). المراد بالكفر هنا الكفران ، وهو عقوق المنعم وجحود نعمته ، لأن الحديث عن جحود بني إسرائيل لأنعم الله ، ولأن الشكر يقابله الكفران ، لا الكفر ، وقد ذكرا في آية واحدة. وقال المفسرون أو الكثير منهم : المراد ان الله إذا أنعم


على عبده بنعمة فشكرها واعترف لله بها أدام الله عليه هذه النعمة وضاعفها ، قالوا هذا أخذا بالقول المشهور : «بالشكر تدوم النعم».

وفي رأينا ان المراد بزيادة النعمة هنا زيادتها في الآخرة ، لا في الدنيا ، لأنه من المؤكد ان المراد بالعذاب الشديد على الكفران عذاب الآخرة ، فيكون الأجر على الشكر كذلك ، وثبت عن رسول الله (ص) انه ساوى في العطاء بين الصالح والطالح ، وقال الإمام علي (ع) : لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وانما المال مال الله؟ .. هذا ، الى أنّا نشاهد الأموال تتراكم وتتدفق على الطغاة كلما ازدادوا عتوا وطغيانا .. أجل ، لو كان المراد بالشكر المحافظة على المال وحسن تدبيره واستثماره لكان لقول المفسرين وجه ، ولكنه خلاف الظاهر ، ولا قائل به حتى من المفسرين أنفسهم.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ). والحمد لله لا لغيره ، والاستغناء به لا بسواه ، وبدل هذا القول من موسى على حرقته ويأسه من بني إسرائيل وهدايتهم.

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم الآية ٩ ـ ١٢ :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا


بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

اللغة :

شك مريب مثل ظل ظليل ، وعجب عجيب وأعجب أي قوي ، وليلة ليلاء ، وليل أليل أي طويل وشديد السواد. والسلطان الحجة والبرهان.

الإعراب :

قوم نوح بدل من قبلكم ، وما بعده معطوف على قوم نوح. وجملة لا يعلمهم إلا الله حال من الذين من بعدهم. وقال كثيرون ، منهم الزمخشري والبيضاوي قالوا : انها معترضة. ولم ندرك وجه الاعتراض لأنه لا يكون إلا بين أمرين يطلب كل منهما الآخر ، ولا شيء من ذلك هنا لأن جملة جاءتهم رسلهم استئناف لا محل لها من الاعراب ، فكأن سائلا يسأل : وما هو نبأ الذين من قبلهم؟. فأجاب : جاءتهم رسلهم الخ. وفي أفواههم قيل : في هنا بمعنى الى ، أي الى أفواههم. أفي الله شك مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، وفاطر صفة لله. والمصدر المنسبك من ان نأتيكم بسلطان اسم كان ، ولنا خبرها. وما لنا (ما) استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ولنا خبر ، والمصدر من ألا نتوكل مجرور بفي محذوفة. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا أي غير متوكلين.


المعنى :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ). سياق الكلام يدل على ان هذا خطاب من موسى (ع) لبني إسرائيل ، لا من محمد لمشركي العرب أو غيرهم كما قيل. والمعنى ان موسى قال لبني إسرائيل واعظا محذرا : لقد سمعتم بطوفان نوح ، وبالقواصم والعظائم التي حلت بعاد وثمود ، وكثير غيرهم مما لا يحيط علما بعددهم إلا الله .. فعل سبحانه بهم ذلك لأنهم عصوا الرسل وتمردوا على دعوتهم ، أفلا تعتبرون وتتعظون بالأمم الخالية؟. قال هذا موسى لقومه ، وأكثر من هذا ، ولكن إسرائيل هي هي أولا وآخرا.

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ). كل رسول من الله الى عباده لا بد أن يكون مزودا منه تعالى بحجة قاطعة تدل على انه موفد منه اليهم ، أشبه بالسفير يقدم أوراق اعتماده من دولته للدولة التي انتدب سفيرا لديها ، وعلى هذا يكون المراد بالبينات المعجزات الدالة على نبوة الأنبياء ورسالتهم (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) الضمير يعود الى قوم نوح ومن بعدهم ممن تقدم ذكرهم ، ورد اليد الى الفم كناية عن شدة الغيظ والإمعان في الاعراض ، ومثله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ـ ١١٩ آل عمران». (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). ارتاب المشركون أو أظهروا الارتياب في صدق أنبيائهم ، وكانوا من قبل يعترفون لهم بالصدق والإخلاص .. ولما ذا؟. لا لشيء إلا لأن الأنبياء دعوهم الى التزام الحق والعدل ، وترك الظلم والباطل .. وهذا هو بالذات منطق الانتهازيين قديما وحديثا .. ينكرون اليوم ما اعترفوا به بالأمس وبالعكس ، والسر يكمن في الأرباح والمكاسب ، فهم معها أينما كانت وتكون ..

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟. أجل ، انه لأعجب العجب أن يشكوا في موضع الايمان ، ويؤمنوا في موضع الشك .. لقد جحدوا بخالقهم ووحدانيته ، وآمنوا بالأحجار وعبدوها من دون الله ، وهي نحت أيديهم تبول عليها الكلاب والذئاب .. (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). تعالى الله ما أكرمه وأحلمه .. يدعو عباده الى عفوه ورحمته ، ويتولون عنه إلى ما


يضرهم ولا ينفعهم (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ولا يعجل العقوبة ، بل يمهلكم لتؤوبوا الى الرشد والهداية.

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يدل هذا القول على مدى تفكيرهم ، وانهم يذهبون فيه الى ان الناس العاديين لا يحق لهم أن يتولوا القيادات والمناصب الرفيعة وان بلغوا من الإخلاص والصدق والتضحية أعلى المراتب (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) .. فآباؤهم أعز عليهم من الله ، وتقليدهم على الضلال أحق وأولى من طاعة الله على الهدى ، حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

(فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). لقد أتاهم الرسل بالحجج البالغة ، والمعجزات الدالة على صدقهم ، ولكن المشركين أرادوا معجزات خاصة من النوع الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ـ ١٢ هود» ، وقوله (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) ـ ٩٠ الأسراء». فهم يطلبون المعجزة ولكن من خلال البطون ، لا من خلال العقول.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). ان الله حكيم ، ولأنه حكيم وعليم فلا يمن برسالته إلا على من هو كفؤ لها يتحلى بالصفات والمؤهلات لحملها وأدائها : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام». (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). انظر تفسير الآية ٣٨ من سورة الرعد ، والآية ٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ ، والآية ١١٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩.

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). ونلخص المعنى ـ على وضوحه وغناه عن التفسير ـ بأن الرسل قالوا للمشركين : نحن نبلّغ عن الله ، وندعو اليه ، ولا نكترث بمن أدبر وتولى ، ولا نبالي بما يصيبنا من أذاكم في هذا السبيل ، لأننا على ثقة من ربنا ، وبينة من أمرنا ، وان دل هذا التساؤل : «وما لنا الا نتوكل على الله»


ان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان الأنبياء لا يرون شيئا في الوجود إلا الله وفي الله وحده.

لنخرجكم من أرضنا الآية ١٣ ـ ١٧ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

اللغة :

الملة الدين. واستفتحوا طلبوا الفتح والنصر على الأعداء. والجبار إذا وصف به تعالى فمعناه العالي الذي لا يناله شيء ، وإذا وصف به الإنسان فمعناه المتعالي المتكبر ، وقد يطلق على من يصلح الأمور ويجبر كسرها. والعنيد مبالغة المعاند وهو الذي يخالف الحق مع علمه به. والصديد القيح المختلط بالدم. ويسيغه يبتلعه.

الإعراب :

أو لتعودن (أو) بمعنى إلا ان ، مثل قولك : لا أذهب أو تفعل كذا أي الا


ان تفعل كذا. واستفتحوا عطف على فأوحى اليهم ربهم. وما هو بميت (هو) مبتدأ والباء زائدة اعرابا وميت خبر.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). دعا الأنبياء دعوة الحق والعدل بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم يكرهوا أحدا على دينهم وعقيدتهم لأن دعوتهم تقوم على أساس عدم الإكراه في الدين ، وان كانت في طبيعتها ثورة على المعتدين والمستغلين ، ومن هنا أعلن هؤلاء الثورة المضادة على الأنبياء ، وخيّروهم بين النفي والارتداد الى الكفر .. وسبق نظير ذلك في الآية ٨٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٦٣.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) ـ أي وجودي وسطوتي ـ (وَخافَ وَعِيدِ). بعد أن بلغ الأمر بالمشركين الى تهديد الأنبياء بالنفي إذا لم يشركوا مثلهم جاءت ارادته تعالى لتضرب الطواغيت الضربة القاضية ، وتورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) ـ ٢٧ الأحزاب».

أنصاف الحلول :

وتجدر الاشارة بهذه المناسبة الى أمرين :

الأول : انه جل وعلا بعد أن ذكر تطاول أهل البغي والفساد ، وتماديهم في الضلال قال : ان مصيرهم الهلاك والدمار نتيجة لبغيهم وضلالهم ، وان عاقبة المتقين النصر والتمكين في الأرض ، وهذا هو منهج القرآن في ذكر المسببات مع أسبابها ، والنتائج مع مقدماتها ، ولهذه الطريقة فوائدها ، منها الترغيب في الحق وعمل الخير ، والترهيب من الشر والباطل ، ومنها أن يتفاءل الإنسان بحسن العاقبة وانتصار الحق ، حتى ولو أخذ الباطل مأخذه وان لا يستسلم لأهله وان تطاولوا وصالوا وجالوا لأن الكرة ستكون عليهم في النهاية وان طال الأمد. وقد جرى


على هذه الطريقة الكثير من الخطباء وأصحاب الأقلام ، فإنهم يذكرون اساءة من أساء ، ثم يعقبون عليها واثقين بأن الشر لا يجزى به الا فاعله.

الأمر الثاني : ان الله سبحانه يتدخل بإرادته لنصرة المحقين على شريطة أن لا يرتدوا عن الحق ، ولا يشكّوا فيه ، ولا يساوموا عليه ، ولا يرضوا بأنصاف الحلول ، ويلتمسوا القليل من حقهم بالكثير من باطل أعداء الله وأعدائهم ، وقد دلت التجارب على ان أنصاف الحلول لا يستفيد منها الا من اعتدى وأفسد في الأرض ، وانها أبدا ودائما تأتي في صالح المبطلين ، لأن أي تنازل عن الحق فهو ربح للغاصب المبطل ، وخسران للحق وأهله .. وهنا يكمن السر في صلابة الإمام علي بن أبي طالب في الحق ، ورفضه انصاف الحلول بشتى صورها وأشكالها.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ). والصديد القيح المختلط بالدم ، وهو هنا كناية عما يصعب شربه وتجرعه لنتنه وقذارته ، أو مرارته وحماوته ، أو لذلك كله ، أما ضمير استفتحوا فقيل : انه يعود الى الرسل. وقيل : الى المشركين. وقيل : اليهما معا. والمعنى يصح على كل الوجوه ، لأن العاقبة كانت كما يجب أن تكون ، نصر المؤمنين ، وخزي الكافرين .. هذا ، الى ان الأنبياء استنصروا الله سبحانه : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ـ ٣٠ العنكبوت». وقال المشركون يوم بدر : اللهم انصر أعلى الجندين. فأجابهم الله بقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) ـ ١٩ الأنفال».

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) لنتنه وقذارته ، وحرارته ومرارته (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وهنا مضاف محذوف أي تأتيه أسباب الموت تحيط به من الجهات الست : شماله ويمينه وخلفه وأمامه وفوقه وتحته (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ولو مات استراح ، وانقطع عنه العذاب ، وقد أراد الله له الدوام والخلود فيه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر».

(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ). ومما قيل في تفسير الغليظ هنا : ان العذاب


يتجدد آنا فآنا ، وحالا بعد حال ، وكل حال أشد وأسوأ من سابقتها .. اللهم عفوا ولطفا بمن آمن بك وبجنتك ونارك ، ولا يبرئ نفسه من معصيتك ، ولكنه يطمع في رحمتك.

أعمالكم كرماد الآية ١٨ ـ ٢١ :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

اللغة :

برزوا لله ظهروا له. ومغنون دافعون. ومحيص منجى ومهرب.

الإعراب :

في اعراب مثل الذين كفروا أقوال ، أرجحها عندنا وعند أبي حيان الأندلسي


ان (مثل) مبتدأ أول وأعمالهم مبتدأ ثان ، وكرماد خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. وفي يوم متعلق بمحذوف حالا من الريح. وعاصف صفة للريح ، وفاعله محذوف أي عاصف ريحه. وذلك مبتدأ والضلال خبر ، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب. من العذاب متعلق بمحذوف حالا من شيء ، وقدم الحال على صاحبه لأن صاحبه نكرة ، ومن شيء (من) زائدة عند أبي البقاء ، لأنها في سياق الاستفهام ، وهو شبيه بالنفي ، وشيء مفعول مغنون لأنه بمعنى تمنعون ، والتقدير هل تمنعون عنا من العذاب شيئا.

المعنى :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ). قال كثير من المفسرين : المراد من الآية ان الكافر لا يثاب على عمل البر ، كالصدقة ونحوها .. وفي رأينا ان كل من فعل الخير بدافع انساني فقد عمل الله أراد ذلك ، أم لم يرد ، وليس من شك ان من عمل لله فأجره على الله لأنه عادل وحكيم ، وأثابه بنحو من الانحاء ، اما في الدنيا ، واما في الآخرة بتخفيف العذاب ، وليس من الضروري ان لا يدخله النار إطلاقا ، فإن آلاء الله لا تحصى كما ولا كيفا. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٧٨ من سورة آل عمران بعنوان : «الكافر وعمل الخير» ج ٢ ص ٢١١.

وعلى هذا يكون معنى الآية ان أي انسان يعمل الخير بدافع تجاري ، لا انساني كالذي ينفق على المشاريع الخيرية أيام الانتخابات ، ان عمل هذا ومن اليه ليس بشيء عند الله ، بل هو أشبه بهواء في شبك ، أو برماد تذروه الرياح ، سواء أكان العامل مسلما أو غير مسلم. قال الإمام علي (ع) : «اعملوا بغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله يكله الله الى من عمل له».

وتسأل : إذا كان هذا الحكم يعم الكافر وغيره فلما ذا ذكرت الآية الكافر وحده؟ الجواب : ان ذكر الكافر بالخصوص لا ينفي الحكم عن غيره ، وانما خصص بالذكر لأنه أظهر الأفراد.


(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). ضمير لا يقدرون عائد لفظا على الكافرين ، وعائد معنى على كل من عمل ويعمل البر بقصد تجاري ، والمراد ان من عمل عملا ليس لله ولا للانسانية فيه نصيب فانه لا ينتفع غدا بعمله ، لأنه تماما كالرماد المتطاير في الهواء ، وصاحبه ضال ، بل وممعن في الضلال ، لأنه تجرد في عمله هذا عن كل سبب يربطه بالله والانسانية.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ). معنى ألم تر ألم تعلم ، والخطاب موجه لكل من يقرأه ويسمعه. وكلمة الحق تشير الى أنه تعالى ما خلق شيئا إلا لحكمة اقتضت ذلك : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ ص» .. بعد أن ذكر سبحانه الذين يعملون لغير الله قال انه في غنى عن الناس وأعمالهم ، ولو شاء لأفناهم جميعا ، وأتى بأمم غيرهم يعملون له وحده ولا يشركون به شيئا ، لأنه على كل شيء قدير ، ولا شيء أدل على ذلك من خلق الكون وعجائبه.

الظالم والمظلوم :

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً). برزوا بلفظ الماضي ، والمراد به الاستقبال لأنه محقق الوقوع ، والمعنى ان الانس والجان ، والملائكة والشياطين ، كل هؤلاء يظهرون لله يوم القيامة ، وما من واحد منهم الا وهو يعلم علم اليقين انه قد تكشف لله على حقيقته ، حتى من كان يكفر به وبالبعث.

(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). كل عاقل مسؤول عن عمله قويا كان أو ضعيفا ، رئيسا أو مرؤوسا : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٣ الحجر» ، بل وما يقولون أيضا : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ـ ١٨ ق». فالتابع يسأل : هل اتبع الهدى أو الضلال؟. وهل عاضد وساند المصلحين أو المفسدين؟ وأيضا المتبوع يسأل ، ومسؤوليته أكبر وأعظم ، لأنه مسؤول عن نفسه وعن


غيره من الاتباع والهمج الرعاع ، فهل يحمل أوزاره وأوزارهم.

ولست أعرف أحدا أعظم وزرا من هذا الطاغية المتبوع الا من تابعه وأعانه على ظلمه ، وهو يعرفه على حقيقته .. ان ظلم الظالم ليس بأسوأ عند الله من صبر المظلوم على الظلم .. ان قتل المظلوم في سبيل حقه شهادة ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .. وهل جرّأ الظالم على الظلم إلا سكوت المظلوم عنه. ولو علم الظالم ان بين جوانح المظلوم نفسا «حسينية» (١) لتحاماه.

ومهما يكن ، فان المراد بالضعفاء في الآية ضعفاء النفوس الذين يتبعون الظالم الضال ، وهم على علم بظلمه وضلاله ، طمعا في جاهه أو ماله ، أو جبنا وإيثارا للسلامة والراحة ، وفي حكمهم في المسئولية والجريمة من يتبع الضال على العمى ، وتقليدا للجموع أو للأصدقاء والأقارب.

وقد صور سبحانه موقف التابعين لأهل الغي والضلال عن علم أو جهل أعمى ، صور موقفهم يوم الحساب مع الطغاة بهذا الحوار : قال ضعفاء النفوس والهمم لرؤساء الدنيا والدجالين من رؤساء الدين : كنا نأتمر بأمركم ، وننتهي بنهيكم .. وها نحن الآن كما ترون بين يدي الله لا حول لنا ولا طول ، يحاسبنا ويعاقبنا على طاعتنا لكم في تكذيب الرسل ، وفي معصية الله ، فهل تدفعون عنا ولو يسيرا من عذاب الله ونقمته؟.

(قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ). المراد بالهداية هنا النجاة والخلاص من عذاب الله ، لأن الجواب يأتي على وفق السؤال ، وقد سأل التابعون متبوعيهم ان يخففوا عنهم يسيرا من العذاب ، فأجابهم المتبوعون : لو استطعنا دفع العذاب لدفعناه عن أنفسنا. هذا هو المعنى المراد من الهداية هنا ولا يستقيم إلا به (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). حيث انتهى كل شيء ، ولا يجدي جدال أو عتاب ، لأن الدار دار حساب وعقاب ، لا دار أقوال وأفعال.

__________________

(١). اشارة الى قول الحسين بن علي (ع) : لا أرى الموت الا سعادة ، والحياة مع الظالمين الا برما.


وعد الرحمن ووعد الشيطان الآية ٢٢ ـ ٢٣ :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

اللغة :

المراد بالسلطان التسليط. ومصرخكم مغيثكم ، يقال استصرخني فأصرخته.

الإعراب :

وعد الحق من اضافة الشيء الى نفسه ، مثل حب الحصيد ومسجد الجامع. من سلطان (من) زائدة وسلطان اسم كان. والمصدر من ان دعوتكم منصوب على الاستثناء المنقطع لأن دعاء الشيطان ليس بسلطان. وأشركتمون أصلها أشركتموني.

خطبة الشيطان :

تكلمنا مفصلا حول فكرة إبليس والشيطان في أول المجلد الأول ، وفي المجلد


الثاني ص ٣٢٤ ، ومجملا عند تفسير الآيات التي اشتملت على ذكر الشيطان .. ونعود هنا الى الموضوع بقول أجمع وأوسع ، لأن الآية التي نحن بصددها من أوضح الآيات دلالة على وجود الشيطان ، وانه حقيقة ثابتة ، وان لم تتعرض الى كنهه وهويته ، وفيما يلي نعرض الجهات التي تتصل بهذه الآية :

١ ـ ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز الشيطان بعبارات شتى ، فتارة يقول عز من قائل : ان الشياطين من نوع الانس والجن كما في الآية ١١٢ من سورة الأنعام : «شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول». وتومئ هذه الآية الى ان كل قول ظاهره الرحمة وباطنه فيه العذاب فهو من عمل الشيطان أيا كان قائله. وتارة يقول : ان للشيطان جنودا وقبيلا كما في الآية ٩٥ من سورة الشعراء : «وجنود إبليس أجمعون». والآية ٢٦ من سورة الأعراف : «انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم» وتدل هذه الآية ان الشياطين لا يحصى لهم عد ، وانهم ليسوا من الأشياء التي ترى بالعين ، وتلمس باليد. وثالثا يقول : ان للشيطان قرناء وأولياء كما في الآية ٣٨ من سورة النساء : «ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا» وفي الآية ٧٥ من سورة النساء : «فقاتلوا أولياء الشيطان» وهذا اللفظ بمفرده يدل على ان قتال الزائغين وجهادهم فرض وحتم ، حتى ولو كانوا «مسلمين». ورابعا يقول جلت حكمته وكلمته : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ـ ٢٢٢ الشعراء» وتدل هذه الآية ان الشياطين هم الكذابون الأفاكون.

أما وظيفة الشيطان وجنوده كما حددها القرآن فهي الإضلال والإغواء للصد عن سبيل الحق والخير ، لا بالجبر والإكراه ، بل بالوسوسة والتزيين ، وبالإغواء والتمويه .. ومن أجل هذا قلنا ونكرر القول : ان أي شيء يزين للإنسان عمل السوء ، ويرغبه في الشر والفساد عن طريق المغريات والمشوقات فهو شيطان رجيم وإبليس اللعين ، سواء أكان هذا الشيء المزين المضلل إنسانا أم مالا أم جاها أم كتابا أم صحيفة أم وسوسة وحديث نفس أم شيئا آخر يرى أو لا يرى ..

هذه هي صورة الشيطان التي انعكست في ذهننا ، ونحن نتابع ونتدبر آيات


الله في كتابه ، ونؤمن بها أيماننا به وبرسوله .. وما عدا ذلك من الجزئيات والتفاصيل ندعه لعلم الله ، وما نحن بمسؤولين عنه ، ولا مكلفين به ، وكل ما يجب علينا هو ان لا ننخدع بالمغريات ، ولا نندفع وراء الشهوات ، ولا نستمع للزائغين والمضللين ، وإذا حدثتنا أنفسنا بشيء من ذلك ، أو حاول مخادع أن يغرينا بالانحراف عن قصد السبيل تذكرنا الله ووعده ووعيده ووقفنا عند حدوده ، بحيث نكون المثل الصالح لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ـ ٢٠٠ الأعراف». انظر ج ٣ ص ٤٤٠.

٢ ـ ان في نفس الإنسان شهوات وغرائز ، وهي أقوى من اي عامل يدفع به الى معصية الله ومخالفة أمره ، لأنها تأتي من الداخل لا من الخارج ، ومن الباطن لا من الظاهر ، فإذا لم يكن في داخل الإنسان وباطنه قوة أعظم وأصلب تردع الميول الشيطانية ، وتكبح جماحها وقع الإنسان صريع الأهواء والمطامع لا محالة .. وليست هذه القوة الرادعة هي العبادة والصلاة ، ولا العلم والتحقيقات ، ولا الفضائل والشمائل ، لا شيء إلا التقوى مع الوعي على ان ينظر المتقي الواعي الى كل شيء من خلالهما معا ، فالتقوى بلا وعي ، والوعي بلا تقوى كلاهما ليسا بشيء يقاوم المغريات ، ويقف في طريق الشهوات .. فلقد رأينا الكثير من المتقين يجهلون أنفسهم وواقعهم ، ويحسبون الهوى دينا ، والغرض ايمانا ، ويصور لهم الوهم أو ابالسة الانس الحلال حراما والحرام حلالا ، والى هؤلاء أشار سبحانه بقوله : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٤ الكهف». أما العلم والعقل بلا تقوى فهما المصدر الأول لكل رذيلة وفساد في الأرض .. والنتيجة الحتمية لذلك ان الواعي بلا تقوى ، والمتقي بلا وعي كلاهما من مصائد الشيطان وشبائكه ، وهذا الأخير أحب الى قلب إبليس وأعلى لديه مقاما.

٣ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ). كل شيء ما عدا الله سبحانه له بداية ونهاية ، وقد تكون بدايته خيرا في ظاهرها ، ونهايته شرا في حقيقتها ، وبالعكس .. ومن أجل هذا لا يسوغ الحكم على شيء عند ظهوره وبدايته ما دامت الغاية في عالم الغيب .. فلقد غبط الناس «قارون» لما خرج عليهم في زينته ، وقالوا : انه سعيد وعظيم ، حتى إذا انخسفت الأرض به وبداره وماله قالوا :


انه شقي وذميم .. والدنيا بداية ، والآخرة نهاية ، وفيها ينكشف القناع والغطاء ، ويعرف كل انسان مصيره ومآله ، حيث لا تزييف ولا تحريف ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ).

٤ ـ (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ). أما وعد الله فهو البعث والحساب والجزاء : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٣ الحجر». أما وعد الشيطان فهو على النقيض من وعد الله : لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ـ ٢٩ الأنعام». هذا ما كان يقوله الشيطان لأوليائه في الحياة الدنيا حيث التزوير والتمويه ، أما في اليوم الآخر حيث لا شيء إلا الحق والعدل فإن الشيطان يظهر على حقيقته ، ويصدق في قوله ولهجته ، وكان من قبل يعلم الناس الكذب والإفك.

٥ ـ (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أبدا لا حول ولا طول للشيطان باعترافه الا دعوة الباطل والضلال والمكر والخداع ، ولا يستجيب له ولدعوته إلا ضعفاء العقول والنفوس والإيمان ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان هو بالحرف ما قاله الله له : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ـ ٤٢ الحجر».

٦ ـ (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). وإذا كان الويل لمن كفّره النمرود فكيف بمن كفّره إبليس؟. وإذا تعوذ الناس من الشيطان فكيف بمن وبخه وتعوذ منه الشيطان؟ .. هذا هو مصير من يخذل الحق والصالحين ، ويناصر الفساد والمفسدين ، وينعق مع كل ناعق .. وقد رأينا كثيرا من شياطين الانس يغررون بالمراهقين وضعاف العقول ، ويغرونهم بالتخريب واشاعة الفوضى ، حتى إذا لقوا ما كسبت أيديهم قال لهم شياطينهم عين ما قاله إبليس لأتباعه وأوليائه عند الحساب والجزاء.

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) الصارخ هو المستغيث ، والمصرخ هو المغيث ، والمعنى ان الشيطان يقول غدا لأتباعه : ما أنا بمغن عنكم شيئا ، ولا أنتم مغنون عني شيئا ، وليست بيني وبينكم أية صلة (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ). يقول إبليس لمن استجاب له : لقد اطعتموني فيما دعوتكم اليه ،


وجعلتموني شريكا لله في وجوب الطاعة ، وأنا بريء من الشرك وممن يشرك ، حتى ولو جعلني لله شريكا في شيء ، أي شيء (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). هذه جملة مستأنفة وليست من كلام الشيطان ، والمراد بها الوعد والوعيد ، ويجوز أن تكون الخاتمة لخطبة إبليس .. ومن الطريف ما جاء في بعض التفاسير من ان إبليس ألقى خطبته هذه على أهل النار من على منبر نصب له .. ولا بد ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون قد ألقاها بمكبر عظيم ، لأن المستمعين ، وهم جميع جنوده وأتباعه أكثر من عدد الرمل والحصى والتراب.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). بعد أن ذكر سبحانه الزائغين وعذابهم ذكر المستقيمين وثوابهم كما هي طريقة القرآن الكريم. ومر نظير هذه الآية في سورة يونس الآية ١٠.

كلمة طيبة وكلمة خبيثة الآية ٢٤ ـ ٢٧ :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

اللغة :

قيل : المراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد والايمان ، وبالكلمة الخبيثة كلمة


الكفر والإلحاد. والصحيح ان المراد بالأولى كلمة الحق ، أيّ حق ، وبالثانية الباطل أي باطل. وثابت راسخ. وفي السماء كناية عن علو الشجرة وارتفاع فروعها وأغصانها. واجتثت اقتلعت واستؤصلت. والقرار الاستقرار.

الإعراب :

كيف مفعول مقدم لضرب ، وهي هنا بمعنى جعل. وكلمة بدل من (مثلا) وطيبة صفة لكلمة. وكشجرة صفة ثانية. وأصلها ثابت مبتدأ وخبر ، والجملة صفة أيضا لكلمة. وجملة تؤتي أكلها صفة لشجرة. وكل حين نصب على انها ظرف زمان ، لأن (حين) ظرف فأعطيت حكمه. ولها خبر مقدم ، ومن زائدة اعرابا ، وقرار مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). قيل : المراد بالكلمة الطيبة هنا كلمة التوحيد : «لا إله الا الله» .. وليس من شك ان التوحيد مصدر الحق ومعدنه ، ومن التوحيد والإخلاص لله وحده أن نفسر الكلمة الطيبة بكل كلمة تنفع الناس ، وتعود عليهم بالخير والصلاح ، ولو بجهة من الجهات ، سواء أكانت الكلمة للدين والشرع ، أم للعلم والفلسفة ، أم للأدب والفن .. فأي انسان انتفع الناس بقوله أو بعمله فهو يلتقي من هذه الجهة مع مبادئ الإسلام والدين أيا كان ويكون .. وأفضل الكلمات والأقوال هي كلمة الثورة ، والصرخة الغاضبة في وجوه حكام الجور ، ومن آزرهم من المأجورين والرجعيين لأنهم أصل الداء ، ومصدر البلاء ، قال الإمام علي (ع) :

«وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الا كنفثة في بحر لجي ، وان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر» لأنه المصدر الأول لكل منكر ، فمن جاهده وأنكر عليه فقد جاهد الآثام


كلها مجتمعة في شخص هذا الحاكم الغاشم .. وفي معنى كلمة الإمام علي هذه أحاديث عن الرسول الأعظم (ص). وكل ما عند علي أمير المؤمنين فهو شعاع من شمس محمد سيد الخلق أجمعين.

ولا شيء أدل على ان المراد بالكلمة الطيبة الكلمة المفيدة النافعة من تشبيهها بالشجرة الطيبة التي (أَصْلُها ثابِتٌ) لا تزعزعه الأعاصير ، ولا تقوى عليه المعاول (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) بعيد عن أوباء الأرض وأقذارها (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) فلا تجود آنا ، وتبخل آنا ، كالتاجر يعطيك ان دفعت ، ويمسك ان أمسكت ، بل هي تعطي أبدا ودائما (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيشبه المعنى الغامض بالمعنى الواضح ليفهم الناس ، كل الناس طريق الهدى فيتبعوه ، وطريق الضلال فيجتنبوه.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ). كل كلمة تضر الناس ولا تنفعهم فهي خبيثة لعينة ، سواء أكانت من مسلم ، أم من غير مسلم عظيم أم حقير ، بل ان سكوت الكبير عن مقاومة الباطل ، ومناصرة الحق يعد من أعظم الجرائم ، وفي الحديث : الساكت عن الحق شيطان أخرس ، وكتب غاندي الى طاغور : «انك شاعر عظيم ، ولكنك تلعب والبيت يحترق .. ان الأغنية الجميلة لا تشبع جائعا ، ولا تشفي مريضا». (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ). هذا أصدق مثل للباطل وأهله الذين يتعالون ويتعاظمون ، ويخيل للجاهل انهم شيء ضخم ، وما هم الا كشجرة بلا أصول وجذور ، فسرعان ما يصبح عاليها سافلها إذا هبت الريح.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). ليس المراد بالمؤمنين من قال : آمنت بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم لم يقم حقا أو يدفع باطلا ، بل المراد بالمؤمنين هنا من عناهم الله بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ـ ١٥ الحجرات». آمنوا وأعربوا عن ايمانهم بالجهاد والفداء. أما إذا ادعوا الايمان بالله ، ولم يقاوموا الظلم والفساد بجرأة وشجاعة فهم مرتابون لا مؤمنون.


ومعنى تثبيتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ان الله سبحانه قد أخبرهم في كتابه وعلى لسان نبيه انهم في رعايته وعنايته ، وانه هو كفيلهم ووليهم وحافظهم وناصرهم ، كما شجعهم وأثنى عليهم بالصدق والإخلاص ، وما اليهما من الفضائل ، أما تثبيته لهم في الآخرة بالقول الثابت فهو قوله عز من قائل لهم يوم القيامة : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ـ ٦٨ الزخرف».

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) بكفرهم وكذبهم وطغيانهم .. والقرآن الكريم يستعمل الظلم كثيرا بمعنى الكفر والشرك ، ولكن المراد بالظلم هنا من ظلم نفسه بالكفر ، وظلم غيره بالعدوان والافتراء ، كما ان المراد بالإضلال هنا العذاب ، تماما كقوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ـ ٣٤ غافر». (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من ثواب الصالحين وعقاب الفاسدين ، ولا راد لمشيئته.

قرأت ، وأنا بصدد تفسير هذه الآية كلمة في جريدة «الأهرام» المصرية عدد ٢١ شباط ١٩٦٩ بعنوان «هل تشهد الانسانية نهاية حرب الذرة وبداية حرب الجراثيم» ، جاء فيها : «لقد ظهر في الأفق سلاح جديد أشد خطرا ، وأكثر قسوة من الأسلحة النووية ، وهو سلاح الجراثيم ، ونشر الأوبئة ، وان من آثار هذا السلاح انه إذا مس الإنسان ذرة منه تقلصت عضلاته ، وبرزت عيناه ، ومات في الحال ، وان لدى أمريكا وبريطانيا معامل ومصانع تنتج هذا السلاح ، وتعدانه الى وقت الحاجة ، فإذا ما اتفقت الدول على حظر انتشار الأسلحة النووية بسبب الضغط العالمي استعملت الدولتان أوبئة الفناء والدمار كبديل عن القنابل الذرية والهيدر وجينية» .. فهل يجتمع الايمان بالله مع النية والعزم على استعمال هذا السلاح؟. وهل صلاة الذين يؤازرون أصحاب هذه النية والعزم تجديهم نفعا عند الله؟.

بدلوا نعمة الله كفرا الآية ٢٨ ـ ٣١ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ


قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

اللغة :

البوار الهلاك. ويصلونها يقاسون حرها. والمراد بالبيع هنا الفدية ، وبالخلال الصداقة.

الإعراب :

كفرا مفعول ثان لبدلوا. وجهنم بدل من دار البوار. وتمتعوا مجزوم بجواب الطلب ، وهو قل. ويقيموا الصلاة مجزوم بلام محذوفة أي ليقيموا. وسرا قائم مقام المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وعلانية معطوف عليه ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي مسرين ومعلنين.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). ضمير أحلوا يعود الى قادة الكفر والضلال ، والمراد بنعمة الله الايمان والهداية ، والمعنى ألا تعجب يا محمد ، أو أيها السامع والقارئ من حال قادة الكفر والضلال الذين اختاروا الضلالة على الهدى ، والجحيم على النعيم ، فحلوا فيها هم ومن اتبعهم ، وكانوا لها حطبا. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ـ ١٥ البقرة».


ونقل الطبري في تفسير هذه الآية ان عمر بن الخطاب قال : «الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية ، فمتعوا الى حين».

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ). جعلوا لله شركاء يحبونهم كحبه ، ويعبدونهم كعبادته .. ومن الواضح انهم فعلوا ذلك بقصد ان يهتدوا لا ان يضلوا عن سواء السبيل ، ومن أجل هذا تكون اللام في ليضلوا لام النتيجة والعاقبة ، ويكون المعنى ان المشركين عبدوا الأصنام بقصد ان يهتدوا بها ، وتقربهم من الله زلفى ، فكانت النتيجة الضلال والهلاك والبعد عن الله ورحمته ، فاللام هنا تماما كاللام في : لدوا للموت وابنوا للخراب (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ). أمر الله نبيه ان يحذر المشركين من سوء العاقبة والمصير ، ويقول لهم : ان متاع الدنيا قليل وان راق لكم ، والآخرة خير لمن اتقى .. ولكن .. هل تجدي لغة الحق والواقع مع الذين لا تحركهم الا الأرباح والمكاسب!

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) التي تذكر المصلي بالله وتحذره من العذاب والعقاب ، وتخلق فيه وازعا ورادعا عن المآثم والجرائم ، ان كان حقا من المؤمنين الصالحين (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً). الزكاة أخت الصلاة ، هذه تذكر المصلي بالله ، وتلك تقربه عند الله زلفى ، ومر نظيره في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٢٥ (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ). والبيع هنا كناية عن الفدية ، والخلال الصداقة ، والمعنى ان من أنفق من ماله في سبيل الله انتفع بهذا الإنفاق في اليوم الآخر ، ومن بخل به كان عليه حسرة وعذابا ، ولا يجديه شيء في ذلك اليوم حيث لا فدية ولا صداقة ، ومر نظيره في الآية ١٨ من سورة الرعد.

وأنزل من السماء ماء الآية ٣٢ ـ ٣٤ :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ


مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

اللغة :

دائبين أي دائمين ، يقال : فلان دأب في العمل إذا استمر فيه. والكفار شديد الكفران والجحود للنعم.

الإعراب :

رزقا مفعول أخرج ، ومن الثمرات حال مقدم ، وصاحب الحال الرزق. ودائبين حال من الشمس والقمر. والمفعول الثاني لآتاكم محذوف أي آتاكم شيئا من كل ما سألتموه.

المعنى :

كل ما جاء في هذه الآيات الثلاث قد مر ذكره ، فخلق السموات والأرض ذكر في الآية ٧٣ من سورة الأنعام وغيرها ، وانزال الماء من السماء ذكر في الآية ٢٢ من سورة البقرة ، والآية ١٨ من سورة الرعد ، وجريان الفلك جاء في الآية ١٦٤ من سورة البقرة ، وتسخير الشمس والقمر في الآية ٢ من سورة الرعد ، والليل والنهار في الآية ٦٧ من سورة يونس .. وقد عدّد سبحانه الكثير من نعمه على عباده في الآية ٣ و ٤ من سورة الرعد ، والآية ١٤٣ و ١٤٤ من سورة الأنعام


وغيرها فيما سبق مرارا مع الشرح والتفسير ، وأعاد سبحانه ذكرها أو ذكر طرف منها هنا لمناسبة الاشارة في الآية الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. ويتلخص معنى هذه الآيات الثلاث بأن نعم الله وآلاءه لا تعد ولا تحصى ، منها خلق السموات والأرض ، وانزال الماء ، وتسخير الفلك والشمس والقمر والليل والنهار ، والإفضال على الناس بشيء مما سألوه ، وما لم يسألوه ومع ذلك يكفر الكثير منهم أو أكثرهم بأنعمه ، ويعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم.

هل الإنسان مجرم بطبعه؟

وبمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) نشير الى ان علماء النفس اختلفوا في الإنسان : هل هو مجرم بطبعه ، وانه ولد ليعتدي على من لم يعتد عليه ، ويكفر بأنعم من أحسن اليه؟ .. وفي سنة ١٨٣٢ اجتمع في امريكا ٥٢٨ عالما من علماء النفس ، وناقشوا هذه القضية ، فذهب أكثرهم الى انه لا دليل على ان الإنسان لا مفر له من ارتكاب الجرائم. وخالف في ذلك جماعة منهم.

أما نحن فإنا نؤمن بأن الإنسان لم يولد مجرما ، والا سقط عنه التكليف ، وكان حسابه وعقابه ظلما وجورا ، والأديان والشرائع لغوا وعبثا ، حيث يكون ، والحال هذه ، كريشة في مهب الريح .. وانما يصير الإنسان مجرما بالعوامل الخارجية كالجوع الذي يحوله الى لص ، والمغريات التي تدفع به الى الخيانة والعمالة ، وما الى ذلك .. وهنا يقع التفاوت بين أفراد الناس في أنفسهم ، فبعض النفوس تضعف أمام المغريات ، وتتغلب عليها الشهوات ، كمن يملك الطعام ، ومع ذلك يطلب المزيد منه بكل وسيلة ، أو يزني وله زوجة تغنيه عن الحرام ، أو يكتم الحق أو يجحد النعم حرصا على جاه أو أية منفعة من متاع الدنيا ، وليس من شك ان هذا قد أذنب وأجرم بإرادته ، لا بطبيعته ، وهو المقصود بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). ومن الواضح ان مجرد الميل الى الحرام لا يجعله حلالا ، ما دامت الفرصة سانحة للصبر والتغلب على هذا الميل. وتقدم ما يتصل بهذا البحث عند تفسير الآية ٩ من هود.


رب اجعل هذا البلد آمنا الآية ٣٥ ـ ٤١ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

الإعراب :

البلد عطف بيان من هذا. وآمنا مفعول ثان لأجعل. والمصدر من أن نعبد مجرور بعن محذوفة. ومن ذريتي (من) للتبعيض أي بعض ذريتي. وعند بيتك متعلق بمحذوف صفة لواد. وليقيموا الصلاة اللام للتعليل ، ويقيموا منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر مجرور بها متعلقا بأسكنت. على الكبر حال من الياء في (لي). ومن ذريتي عطف على الياء في اجعلني أي واجعل من ذريتي مقيم الصلاة.


المعنى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً). ابراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت في مكة المكرمة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ـ ١٢٧ البقرة». ودعا ابراهيم ربه ان يجعل الناس آمنين في مكة على أنفسهم ، واستجاب دعوته ، وكان الاعداء وما زالوا يتلاقون فيها ، ولا يخاف بعضهم بعضا ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ـ ٦٧ العنكبوت».

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). ومحال ان يعبد ابراهيم الأصنام ، وكيف وقد حطمها بيده ، وقال لقومه : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ ٦٧ الأنبياء». ولكن رسل الله وأنبياءه ـ على عصمتهم ـ يخافون المعصية. وهذا الخوف من أعظم الطاعات ، ومن رأى نفسه تقيا نقيا فقد فتح النوافذ فيها للشيطان.

الأنبياء واستجابة الدعاء :

وتسأل : ان ابراهيم طلب من الله ان يجعل أبناءه مؤمنين ، لا يشرك واحد منهم بالله ، وابراهيم نبي مرسل مستجاب الدعوة ، مع العلم بأن الكثير من ذريته قد أشركوا وعبدوا الأصنام ، ومنهم كفار قريش الذين هم من نسله وسلالته؟.

ونقل الرازي عن المفسرين خمسة أجوبة ، ولكن السؤال ما زال قائما يطلب الجواب عنه .. والذي نراه ان حقيقة الدعاء ما هي إلا طلب ورجاء ، سواء أكان من نبي أم غير نبي ، وقد تستدعي حكمته تعالى الاستجابة فيستجيب ، أو الرفض فيرفض ، وليس معنى عدم الاستجابة ان الداعي لا وزن له عند الله كي يضر ذلك بمقام النبوة ، وعصمة الأنبياء على فرض عدم الاستجابة لدعائهم .. كلا ، فإن رفض السؤال بمجرده لا ينبئ عن غضب المسئول على السائل ، بل قد يدل على حبه له ، وحرصه على مصلحته ، فلقد طلب نوح (ع) من الله نجاة ولده من الغرق ، فأجابه المولى بقوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ـ ٤٦ هود».


وبكلام آخر ان دعاء النبي لا يعبر إلا عن حبه ورغبته ، وليس من شك ان الأنبياء يحبون ويرغبون في ايمان الناس جميعا وهدايتهم الى الحق ، ومع ذلك قال الله لسيد المرسلين الأعظم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ـ ٥٦ القصص». ولو تحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم ، ولما قاسى رسل الله من الكفار والفجار ما قاسوه ، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ). ضمير انهن يعود الى الأصنام ، والمعنى ان كثيرا من الناس ضلوا بسبب عبادة الأصنام ، تماما كما تقول : المال أطغى فلانا أي انه طغى بسببه (فَمَنْ تَبِعَنِي) من ذريتي (فَإِنَّهُ مِنِّي) نسبا ودينا (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من عصى ابراهيم (ع) فهو بريء منه ، حتى ولو كان أقرب الناس اليه ، لأن من عصاه فقد عصى الله ، ولكن ابراهيم حليم اوّاه كما وصفه الذي اختاره خليلا واصطفاه. ومن أجل ذلك لم يطلب العذاب للعصاة من ذريته وغير ذريته ، بل ترك أمرهم لله ومغفرته ورحمته .. ومن الواضح ان العقل لا يمنع من العفو عن المشركين ، لأن العذاب على الشرك حق لله ، ان شاء عذب ، وان شاء عفا ، ولا ضرر بالعفو على أحد. أما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فهو دليل سمعي ، ونحن نتكلم عن حكم العقل. أنظر تفسيرنا لهذه الآية في ج ٧ ص ٣٤٢.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ). قال ابراهيم (ع) هذا حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، وهي واد مقفر لا ماء فيه ولا كلأ ، ولا شيء الا بيت الله تقام فيه الصلوات ، وتردد التلبيات ، ولهذه الغاية أسكن ابراهيم بعض أهله وذريته في هذا المكان المقفر المجدب .. ولكن الإنسان لا يحيا بالصلاة وحدها ، بل لا بد له من الخبز أيضا ، ولذا قال ابراهيم : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). وإذا لم يكن عند بيت الله زرع ولا ضرع فلتتوافد الناس عليه للعبادة أو التجارة ، ومعهم الخبز والفاكهة ، وعندها تأكل ذرية ابراهيم ويصلّون ويشكرون. قال موسى (ع) : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)


ـ ٢٤ القصص». قال الإمام علي (ع) : «والله ما سأله الا خبزا يأكله».

وقال شاعر فقيه :

الفضل للخبز الذي لولاه

ما كان يوما يعبد الإله

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). بعد أن سأل ابراهيم الله أن يتوافد الناس الى بيته يحملون لأهله الخبز والفاكهة ليعبدوا الله حق عبادته بقوة ونشاط ، بعد هذا قال لله : ما سؤالي وطلبي الا تضرعا لك وخشوعا ، والا اعترافا بأنك الخالق الرازق ، أما حاجتنا ومصالحنا فأنت أعلم بها منا ، سألناها منك ، أو لم نسأل .. فقول ابراهيم : ما نعلن معناه ما نسأل ونطلب ، ومعنى ما نخفي ما لم نسأل ونطلب.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ). هذا الحمد من ابراهيم يتضمن طلب العون من الله لولديه إسماعيل واسحق ، لأن ابراهيم قد تقدمت به السن ودنا أجله ، فأوكل أمر أهله الى رعاية الله وعنايته ، ولم يبن لهم الدور ، ويكنز مال الله ، ويحرمه عيال الله حرصا على رفاهية ذويه وأبنائه.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ). الصلاة التي عناها ابراهيم ليست من نوع هذه الصلاة التي نصلّيها نحن ، بل من نوع التي عناها الله بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ـ ٤٥ العنكبوت». ومن هنا قسّم الفقهاء الصلاة الى قسمين : صلاة يؤدى بها الواجب فقط ، وصاحبها غير مأجور. وصلاة يؤدى بها الواجب ، وصاحبها مأجور عند الله ، وهي التي تثمر الإخلاص في العمل ، والصدق في معاملة الناس.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ). عند تفسير الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٢ ذكرنا اختلاف السنة والشيعة في ايمان أبي ابراهيم الخليل (ع) ، ومما قلناه : ان هذا النزاع في هذه القضية وأمثالها نزاع عقيم ، وان المطلوب من المسلم هو الاعتقاد بعصمة الأنبياء ، أما الايمان بأن آباءهم كانوا مؤمنين فليس من عقيدة الإسلام في شيء ، ولو قال قائل : أنا أومن بالله ووحدانيته


وبالأنبياء وعصمتهم ، وبالبعث والحساب ، ولا أثبت ولا أنفي الايمان عن آباء الأنبياء ، لو قال هذا أي قائل نقول له : أنت مسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.

الظالم غافل غير مغفول عنه الآية ٤٢ ـ ٤٥ :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

اللغة :

شخص الشيء أي ارتفع ، وتشخص الأبصار تحد النظر ، ولا تغمض لهول ما ترى. وهطع أقبل مسرعا خائفا ، ومهطعين مسرعين الى الداعي. ومقنعي رؤوسهم جمع مقنع بضم الميم وكسر النون ، وهو الذي يرفع رأسه كثيرا من الهول. ولا يرتد اليهم طرفهم أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والحذر. والهواء في قوله : وافئدتهم هواء ، كناية عن ان أفئدتهم ليست بشيء. والزوال الانتقال.

الإعراب :

ليوم على حذف مضاف أي يؤخرهم لجزاء يوم أو عذاب يوم. ومهطعين


حال من ضمير يؤخرهم ، ومثله مقنعي رؤوسهم ، وكذا جملة لا يرتد. والناس مفعول أول لأنذر ويوم مفعول ثان على حذف مضاف أي عذاب يوم ، ولا يجوز ان يكون يوم هنا ظرفا لأن الانذار لا يكون في يوم القيامة. ونجب مجزوم بجواب الطلب ، وهو أخرنا. وفاعل تبين محذوف أي تبين حالهم لكم. وكيف مفعول فعلنا بهم. وقال النحاة : ان كيف لا تكون إلا مفعولا أو حالا أو خبرا.

المعنى :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ). الظلم أنواع : فالكفر والشرك بالله ظلم ، والاعتداء على حق من حقوق الناس ظلم ، سواء أكان الحق ماديا أم أدبيا ، أيا كان المعتدى عليه بخاصة إذا كان ضعيفا ، لأن ظلم الضعيف أفحش الظلم ، ومن أعان ظالما أو رضي بفعله أو سكت عنه ، مع القدرة عليه أو على التشهير به فهو شريك له ، ومن أجل هذا لا يغفل سبحانه عما يعمل الظالمون.

وتكلمنا عن الظلم عند تفسير الآية ١٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٧٩ ، ونعطف على ما قلناه هناك : ان الله سبحانه ما أرسل الرسل ، ولا أنزل الكتب إلا لمحاربة الظلم والظالمين .. وقد وصف الله نفسه في كتابه العزيز بأنه ذو انتقام ولولا الظلم لما كان لهذا الوصف عين ولا أثر ، ومهما امتد أمد الظالم فان الله سينتقم منه بأشد وأعظم ، قال الإمام (ع) : «سينتقم الله ممن ظلم مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب» فمن ظلم إنسانا بكلمة واحدة كان جزاؤه مقامع من حديد ، فكيف بمن حول الأرض إلى جحيم ، وأقام في كل جزء منها قاعدة للموت ، ومخزنا لأسلحة الفناء والدمار؟.

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). أبصارهم شاخصة لا تغمض ولا تطرف من الدهشة والذهول .. ويسرعون في مشيهم ولا يلوون على شيء تلبية لدعوة الداعي ، رافعين رؤوسهم إلى السماء لا يرى واحدهم موطئ قدمه من الدهشة والذهول ، أما قلوبهم فهواء وخواء ، قد اذهب الرعب كل ما فيها من شعور وادراك .. وهكذا تجزى كل نفس بما كسبت.


(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ). أرسل الله أنبياءه ورسله الى عباده مبشرين بثواب الله ، ومنذرين من عقابه ، وكان المجال أمامهم فسيحا وعريضا حين التبشير والانذار ، ولكن أبى أكثر الناس الا نفورا ، وقالوا لرسلهم : أموت ثم بعث ثم نشر؟. ان هذا الا أساطير الأولين .. حتى إذا وقفوا بين يدي الله وانكشف لهم الغطاء قالوا : ربنا أمهلنا بعض الوقت ، فنسمع ونطيع لك ولرسلك .. قالوا هذا حين فات الأوان.

وقد أمر الله نبيه محمدا (ص) ان ينذر المكذبين ، ويحذرهم من هذا اليوم الذي لا اقالة فيه ولا رجعة قبل ان يصلوا اليه ، وان يخبرهم بمآلهم لو أصروا على العناد ، وانهم سيقولون لله : أخّرنا قليلا لنستجيب لدعوة الرسل ، وقد أدى النبي رسالة ربه ، فأخبر وحذر ، ولكن غلبت عليهم المطامع والمنافع ، فكانوا من القوم الخاسرين.

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ). هذا الكلام بكامله يخاطب الله به غدا المكذبين الذين يقولون لله : أعدنا ثانية الى الدنيا لنتبع الرسل ، ومحصل ما يجيبهم به ، عظمت كلمته ، انه يسألهم سؤال توبيخ وتقريع : ألم تقسموا وأنتم في الحياة الدنيا انه لا انتقال من دار الدنيا الى دار الآخرة ، وانه لا جنة ولا نار .. يشير بهذا سبحانه الى ما حكاه عنهم في الآية ٣٨ من النحل : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ). وبعد هذا السؤال أو التوبيخ يقول سبحانه للمكذبين أيضا : لقد علمتم حال من كان قبلكم ، كيف أهلكناهم لما عتوا ، وأسكنّاكم مساكنهم ، وحذرناكم أن تفعلوا فعلهم ، وضربنا لكم بهم الأمثال ، فلم تتعظوا ، وتعتبروا .. والآن حيث لا رجعة ولا تأير تقولون : أخرنا قليلا! .. فأي منطق هذا؟ .. وهل أرسل الله إليكم من قبل رسل لعب وهزل ، حتى يعيدكم ثانية ، ويرسل إليكم رسل حق وجد؟ ..


وقد مكروا مكرهم الآية ٤٦ ـ ٥٢ :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

اللغة :

برزوا ظهروا. ومقرنين مشدودين. والأصفاد جمع صفد ، وهو القيد. وسرابيل جمع سربال ، وهو القميص. والقطران نوع من الدهن تدهن به الإبل إذا جربت ، وللنار فيه اشتعال شديد. وتغشى وجوههم النار تعلوها وتغطيها ، والبلاغ الكفاية ، ومنه البلاغة ، وهي البيان الكافي.

الإعراب :

وعند الله مكرهم مبتدأ وخبر على حذف مضاف أي علم مكرهم. وان كان مكرهم نقل البيضاوي عن الكسائي انّ (ان) مخففة من الثقيلة ومهملة وجاءت اللام بعدها في لتزول لتفصل بين ان النافية وان المخففة. ومخلف وعده رسله ،


مخلف مفعول ثان لتحسبن ، وفي الوقت نفسه يحتاج (مُخْلِفَ) الى مفعولين لأنه اسم فاعل بمعنى أخلف ، وقد أضيف الى المفعول الثاني ، وهو وعده ، ومفعوله الأول رسله ، والأصل مخلف رسله وعده ، ومثله هذا معطي درهم زيدا ، والأصل هذا معطي زيد درهما. يوم تبدّل (يوم) مفعول لفعل محذوف أي اذكر يوم تبدّل. والأرض مفعول أول نائب عن الفاعل ، وغير مفعول ثان لأن تبدّل هنا بمعنى تجعل ، والسموات بالرفع عطف على الأرض الأولى ، وغير السموات محذوفة لدلالة ما قبلها عليها. ومقرنين حال من المجرمين لأن ترى هنا بصرية ، وليست قلبية لتتعدى الى مفعولين.

المعنى :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). ما أرسل الله سبحانه رسولا الى قومه الا مكر به وتآمر عليه أهل الفساد والضلال من عهد نوح الى عهد محمد (ص) : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ـ ١١٢ الأنعام» ، ولا تنحصر أسباب العداء بالتضاد بين الايمان والإلحاد ، وبين الشرك والتوحيد .. كلا ، فإن هذا العداء مظهر لمعنى كلي ومبدأ عام ، وهو العداء بين دعوة الحق وأهل الباطل في كل زمان ومكان .. وبالتعبير الشائع في هذا العصر : العداء والتناقض بين الثورة والثورة المضادة .. وأيا كان سبب المكر والتآمر ، ومهما بلغ من القوة والشدة ، حتى ولو أزاح الجبال الرواسي من مواضعها فإن الله عليم به ويجزي أهله بما يستحقون.

ونشير بهذه المناسبة الى ان كثيرا من الرجال ينعتون النساء بالكيد والمكر ، ويستشهدون بالآية ٢٨ من سورة يوسف : «ان كيدكن عظيم» .. وللنساء ان يجبن الرجال بأن مكرهم لتزول منه الجبال ويستشهدن بهذه الآية .. هذا ، الى ان وصف النساء بالكيد جاء في القرآن الكريم على لسان عزيز مصر ، أما وصف الرجال بالمكر الذي يزيل الجبال فقد جاء على لسان الله بالذات. ومن الطريف ان بعض الرجال يستدل على مكر النساء وشدته بالآية التي نزلت في حق الرجال ،


ويحرّف لفظها بوضع (هن) مكان (هم) جهلا وتسرعا ، ويتلو الآية هكذا : ان مكرهن لتزول منه الجبال.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بنصرة الحق وأهله ، وخذلان الباطل وأنصاره ، ويشير سبحانه بوعده الرسل الى قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ـ ٢١ المجادلة». (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ينتقم لأولياء الحق من أولياء الباطل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) غير السموات ، وذلك بأن تتحول الأرض الى غبار منتشر كما في الآية ٦ من سورة الواقعة : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا). أما كواكب السماء فإنها تتساقط وتتناثر كما جاء في سورة القيامة والتكوير والانفطار.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). على المكشوف لا باب ولا ثياب ، ومما جاء في أرض المحشر وصفاتها : انها بيضاء قاع صفصف ، لا أشجار فيها ولا جبال ولا أودية ، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ، ولم ترتكب فيها خطيئة ، وتصبح السماء كالمهل ـ أي عكر الزيت ـ وتذهب شمسها وقمرها ونجومها ، وتصير الجبال كالعهن ـ أي الصوف المنفوش ـ.

جهنم والأسلحة الجهنمية :

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ). ذكر الله سبحانه في كتابه صورا لعذاب أهل النار ، قراءتها تبعث الرعب في القلوب والنفوس ، والقشعريرة في الجلود والأعصاب ، فكيف بمن يذوق ويختبر .. ومن هذه الصور حشر المجرمين مكبلين بالقيود ، يلبسون ثيابا من مادة شديدة الالتهاب ، وعلى وجوههم غطاء وغشاء من نار ، أما طعامهم فمن شجر الزقوم ، وشرابهم من ماء الصديد ، هذا وهم في جحيم لا يبقي ولا يذر ، ويرمي بشرر كالقصور والجبال.

وتسأل : ألا يتنافى هذا النوع من العذاب مع حلم الله ورحمته ، وجوده ورأفته؟. ألا يكفي لجزاء هذا الإنسان الضعيف بجلده ولحمه ودمه بعض هذا الجحيم الأليم؟. وأجاب بعضهم عن هذا السؤال بأن ما ذكره سبحانه من أنواع العذاب


وصوره ليس على وجه الحقيقة ، وانما أراد به تخويف الناس وردعهم عن الجرائم. ولو ان هذا المجيب رجع الى القرآن الكريم لوجد ان الله سبحانه قد سبق في علمه ان الكثير من عباده سوف يمر بخاطرهم هذا السؤال فأجاب عنه سلفا ، وبيّن الحقيقة في العديد من آياته ، منها ما ذكره هنا بعد ذكر القيود وسرابيل القطران بلا فاصل ، وهو قوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ). ومنها (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ١٤٦ الأعراف». وقوله : «لا يظلمون فتيلا .. وما ربك بظلام للعبيد». ومنها : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٦٠ الأنعام» : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ـ ٢٧ يونس». ومنها : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٤ البقرة».

ومعنى هذه الآيات بمجموعها ان الجرائم والسيئات على أنواع : منها الصغيرة الحقيرة ، ومنها الكبيرة الخطيرة ، وانه تعالى قد أعد لكل جريمة عقوبتها على أساس الحق والعدل ، لا تزيد ، وقد تخفف حسبما تستدعيه حكمته البالغة ، وقوله تعالى : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) صريح في ذلك ، بل وحصر أيضا.

أجل ، هنا سؤال ينبغي أن يسأله كل عاقل ، وهو : من الذي يستحق هذا النوع من العذاب الشديد الأليم؟. وهل هناك جريمة تستوجب كل هذا النكال العظيم الدائم الذي له أول وليس له آخر ، كما قال تعالى : (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر».

الجواب : نعم ، ان في الناس مجرمين يستحقون هذا النوع من العذاب الأليم وأكثر منه أيضا .. ومن هؤلاء الذين يحاربون الحق أو يكتمونه وهم يعلمون ، سواء أكان هذا الحق لله أم للناس .. وأعظم منهم جرما تجار الحروب الذين أعدوا لسفك الدماء وتدمير الحياة الأسلحة الجهنمية ، كالقنابل الذرية والهيدر وجينية والمواد السامة التي تقتل المئات بل والملايين في دقائق معدودات. ان أية عقوبة يعاقب بها السفاحون فهي دون ما يستحقون .. وليست السلاسل والأصفاد وسرابيل النيران بشيء في جانب تدمير البلاد وتشريد العباد وتشويههم وتقتيلهم بمئات الألوف .. ثم هل الشرر المتطاير من جهنم أسوأ أثرا من القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما مع العلم بأن نسبتها من حيث الأثر الى ما يملكه السفاحون الآن من القنابل كنسبة


الواحد الى الألف؟. وهل طعام الزقوم ، وماء الصديد أشد فتكا بالأجسام والأرواح من سلاح الجراثيم الذي يستعمله الآن أعداء الله والانسانية في فيتنام ، ومن قبل في كوريا؟.

وسبق عند تفسير الآية ٢٧ من هذه السورة ان الإنسان إذا مسته ذرة من سلاح الجراثيم تقلصت عضلاته ، وبرزت عيناه ، ومات في الحال .. فهل بعد هذا يشك عاقل في ان الحلم بأصحاب هذا السلاح ظلم ، وان الرحمة بهم إثم ، وانهم لو عوقبوا بأشد من عذاب جهنم لكان عقابهم حقا وعدلا؟. هل يستكثر أي نوع من أنواع العذاب على من لا يروي ظمأه الا دماء الألوف ، ولا يشبع جوعه الا أقوات الملايين ومقدراتهم؟. ولو لم يكن دليل على البعث والحساب الا وجود هذه المظالم لكفى ، إذ لو كانت الدنيا هي كل شيء ، وليس من وراءها عالم آخر ترد فيه الحقوق الى أصحابها ويجد كل ظالم الجزاء الذي يستحقه لكان الموت خيرا من الحياة ، والظلم أفضل من العدل.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). هذا اشارة الى القرآن بكل ما يحويه ، ومنه ما تقدم من التهديد والوعيد ، والمراد بالبلاغ الكفاية ، والمعنى ان الله سبحانه أنزل القرآن على نبيه ، وهو كاف واف بكل ما يحتاج اليه الناس من أمر دينهم ودنياهم ، وهو أيضا يعلمهم بوحدانية الله وعدله ، وينذرهم من مخالفة أمره ونهيه.



الجزء الرّابع عشر

سورة الحجر



سورة الحجر

مكية ، وآياتها ٩٩.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب الآية ١ ـ ٥ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

الإعراب :

رب حرف جر ، ولا تجر الا النكرات ، وإذا دخلت ما عليها كفتها عن العمل الا نادرا ، ومتى كفت عن العمل دخلت على الأسماء المعارف وعلى الفعل كما في الآية ، وقال أبو حيان الأندلسي : «وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجيء في القرآن الا في هذا الموضع. ولو كانوا مسلمين (لو) للتمني ، وقيل : هي مصدرية بمعنى ان : والمصدر المنسبك مفعول يود ، أي يود الذين كفروا كونهم مسلمين. من قرية (من) زائدة اعرابا ، وقرية مفعول أهلكنا. الا ولها كتاب معلوم الواو لتحسين الكلام ، ويجوز حذفها كما في الآية ٢٠٨ من


سورة الشعراء : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ولها خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة للكتاب.

المعنى :

(الر) سبق الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). تلك اشارة الى نفس السورة التي نفسرها ، والقصد الاخبار بأنها آيات من كتاب الله ، وقرآن واضح يميز بين الحق والباطل (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). رب هنا للتكثير ، والمعنى ان كل مجرم غدا ينكشف له الغطاء ، ويتمنى لو كان في الدنيا من المتقين الذين سلموا للحق وعملوا به. انظر تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الآية ١٩ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٦.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). آثروا التمتع بالحياة على اتباع الحق ، فهددهم سبحانه بما يحل بهم غدا من العذاب الأليم (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ). كأن سائلا يسأل : لما ذا لم يعجل الله العقوبة لمن تمرد عليه وعلى رسله؟. فأجاب سبحانه بأن لكل عقوبة أجل ، وانه جلت حكمته ما أهلك أمة من قبل الا عند حلول أجلها ، والجاهل من يغتر بالامهال (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ). انظر تفسير الآية ١٤٥ من سورة آل عمران ، فقرة : «الأجل محتوم» ج ٢ ص ١٧١.

انك لمجنون الآية ٦ ـ ١٨ :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما


كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

اللغة :

المراد بالذكر هنا القرآن. والشيع جمع شيعة ، وهي الفرقة المتفقة على مبدأ واحد دينا وعقيدة. ونسلكه ندخله. والعروج الصعود في الدرج. وسكرت سدت ، والمراد بالبروج هنا منازل الشمس والقمر كما في أكثر التفاسير. والشهاب الشعلة من النار.

الإعراب :

لو ما أداة طلب مثل هلا. واذن حرف جواب وجزاء ، وهي هنا في معنى الجزاء لشرط مقدر ، أي لو نزلت الملائكة لم يمهل الكافرون ، فأذن هنا تؤدي معنى لم التي وقعت جوابا للو. كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. الا من استرق السمع (من) في محل نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق السمع.


المعنى :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). ضمير قالوا يعود الى مشركي قريش ، وقد خاطبوا محمدا بالذي نزل عليه الذكر تهكما واستخفافا ، لأنه في منطقهم ومقاييسهم مجنون يهذي بغير المعقول ، وان كان رحمة للعالمين ، وتقدمت به الانسانية مئات السنين .. والقرآن أيضا من وحي الجنون ، وان كان معجزة المعاجز بعلومه وتعاليمه.

وهذا المنطق لا يختص بعبدة الأصنام ، ولا بالزنادقة والملاحدة ، فإنه يشمل كل من اتخذ من ذاته ومنفعته مقياسا للحق وميزانا للعدل ، حتى ولو قال : لا إله الا الله محمد رسول الله .. أبدا لا فرق بين هذا المسلم النفعي الذي اعترف لمحمد بالنبوة ، وبين المشرك الذي أنكر نبوة محمد ، لا فرق الا ان هذا المسلم آمن بمحمد نظريا ، وكفر به عمليا ، والمشرك أنكره قولا وعملا .. فالنتيجة من حيث العمل واحدة.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). هذا من قول المشركين للنبي (ص) ، وقد اشترطوا لايمانهم به أن تنزل عليهم الملائكة من السماء ، وتشهد لمحمد بالنبوة ، فأجابهم الله بقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ). وملخص الجواب ان الله ينزل ملائكته على الأنبياء والرسل للتبليغ ، ولا ينزلهم على المكذبين والجاحدين الا بالعذاب والهلاك ، كما فعل بالأمم الخالية ، ولو ان الله أجاب المشركين بإنزال الملائكة عليهم لهلكوا عن آخرهم. وسبق نظير الآية سؤالا وجوابا في سورة الأنعام الآية ٨ ج ٣ ص ١٦٤.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). المراد بالذكر القرآن. وقيل : ان ضمير له يعود الى محمد (ص) ، وان الله يحفظه من أعدائه ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فيتعين اعادة الضمير الى القرآن.

وتسأل : من أي شيء يحفظ الله القرآن؟. فإن كان المراد ان الله يحفظه من من التحريف كما قال أكثر المفسرين فبالأمس القريب طبعت إسرائيل ألوف النسخ من القرآن ، وحرّفت ما اشتهت من الآيات ، منها الآية ٨٥ من سورة آل عمران


التي صارت في قرآن إسرائيل : «ومن يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه». وان كان المراد بالحفظ انه لا أحد يستطيع الطعن فيه فهذا خلاف الواقع.

وذكر الرازي والطبرسي عددا من الأجوبة ، ولكنها غير مقنعة. والذي نراه ان المراد بحفظ القرآن ان كل ما فيه هو حق ثابت وراسخ مدى الأزمان ، لا يمكن رده والطعن فيه بالحجة ، بل كلما تقدمت العقول والعلوم ظهرت أدلة جديدة على صدق القرآن وعظمته ، وهذا المعنى الذي فسرنا فيه حفظ القرآن تدل عليه أو تشعر به الآية ٤١ من فصلت (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). الخطاب من قبلك لمحمد ، وشيع الأولين الأمم الماضية ، والمعنى ان شأن المشركين معك الذين كذبوك يا محمد ، وقالوا عنك انك لمجنون ، تماما كشأن المشركين السابقين ما جاءهم نبي إلا كذبوه وسخروا منه .. ومع هذا صبر الأنبياء السابقون على سفاهة أقوامهم وجهالتهم ، فاصبر وتأس بهم. والقصد من ذلك التخفيف والتسرية عن النبي الأعظم (ص). ومر نظيره في سورة الأنعام الآية ٣٤ ج ٣ ص ١٨٢.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). ضمير نسلكه يعود الى الذكر في الآية السابقة : «انا نحن نزلنا الذكر» ومثله ضمير به ، والمعنى ان القرآن لا يدخل في قلوب المجرمين دخول ايمان وتصديق ، بل دخول استخفاف وهزء ، وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بيان وتفسير لقوله : (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) .. اما قوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فمعناه ان المكذبين اللاحقين كالمكذبين السابقين يدخل الباطل في قلوبهم دون الحق ، والضلالة دون الهداية. أما نسبة السلوك الى الله تعالى فهي من باب نسبة الشيء الى السبب الأول البعيد لا إلى السبب القريب المباشر ، وسبق التنبيه الى ذلك أكثر من مرة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). طلب المعاندون من محمد (ص) في الآية السابقة ان


ينزل عليهم الملائكة ، فأجابهم الله سبحانه هناك بأن الملائكة تنزل على المكذبين والمعاندين بالعذاب والهلاك ، ثم عقب سبحانه في هذه الآية على الجواب السابق بأن الله لو فتح لهم أبواب السماء وصعدوا فيها بأجسامهم ورأوا الملائكة وغيرها من العجائب لقالوا : ان محمدا سحر أبصارنا وأرانا الخيال واقعا والواقع خيالا. وسبق نظيره في سورة الأنعام الآية ٧ ج ٣ ص ١٦٣.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ). قال بعض المفسرين : المراد بالبروج النجوم. وقال آخرون ، بل المراد بها منازل الشمس والقمر ، ومهما يكن معنى البروج فليس الغرض من الآية أن ندرس علم الفلك لنعرف حقيقة البروج ، وانما الغرض الأول أن نتدبر قدرة الله وحكمته في خلق السموات والأرض ، وان ما في الكون من الدقة والتنظيم والجمال لأوضح في الدلالة على وجود الله ووحدانيته من نزول الملائكة ، وكل ما اقترحه المتعنتون من المعجزات.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ). كان أهل الجاهلية يعتقدون ان لكل كاهن من الكهنة شيطان يصعد الى السماء ، فيستمع من الملائكة ما يتحدثون به عن أهل الأرض ، ثم ينزل الشيطان الى الكاهن فيخبره بما سمع ، والكاهن بدوره يفشيه بين الناس. والآيتان بمجموعهما رد وتكذيب لهذه الأسطورة ، وان الشياطين لا يستطيعون الوصول الى السماء بحال ، وقوله : (شِهابٌ مُبِينٌ) كناية عن ان الشياطين أعجز وأحقر من أن تسترق السمع من الملائكة كما زعم أهل الجاهلية.

والآرض مددناها الآية ١٩ ـ ٢٥ :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا


الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)

اللغة :

الرواسي الجبال. والشيء الموزون المقدر بقدر. واللواقح جمع لاقح للشجر والسحاب.

الإعراب :

الأرض مفعول لفعل محذوف دل عليه الموجود أي ومددنا الأرض مددناها. ومن لستم له برازقين (من) أيضا مفعول لفعل محذوف أي ورزقنا من لستم له برازقين. وقيل : ان (من) عطف على الضمير المجرور ، وهو لكم أي وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين في الأرض معايش. وان من شيء (ان) نافية ومن زائدة اعرابا ، وشيء مبتدأ ، والخبر جملة عندنا خزائنه. ولواقح حال من الرياح. (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) (نحن) تأكيد لاسم ان ، ويجوز أن تكون مبتدأ ونحيي خبر ، والجملة خبر ان.

المعنى :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ). سبق الكلام مفصلا عما حوته هذه الآية عند تفسير الآية ٣ من سورة الرعد ،


وقوله تعالى : (كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) في معنى قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ٩ الرعد». وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان». أي مراعى فيه كمية المواد والعناصر ، وكيفية الشكل والصورة ، والهدف الذي وجد من أجله ، ولو كان للصدفة والعشوائية شيء من الأثر في وجود الأشياء لما كان فيها هذا الأحكام والتدبير.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ). ضمير فيها يعود الى الأرض ، والمعايش أسباب العيش من الزراعة والتجارة والصناعة ، أما العيش بالسلب والنهب والغش والاحتيال فهو من صنع الشيطان ، لا من جعل الله وخلقه.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ). وكل حي في الأرض لسنا نحن له برازقين ولا مكلفين برزقه ، وانما الغرض من هذه الاشارة أن نعلم ان جميع الأحياء تعيش على رزق الله ، ولا حي يرزق حيا سواه إطلاقا ، حتى الأطفال الذين نعول ، والدواب والانعام التي نملك .. فإن رزقها جميعا على الله وحده ، لا على غيره.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). قال الرازي «اتفق المفسرون : على ان المراد بقوله : (مِنْ شَيْءٍ) هو المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش». والصحيح ان المراد من شيء في الآية المطر وغيره ، لأنها نكرة في سياق النفي ، ومعناها العموم ، تماما كما لو قلت : ما رأيت أحدا ، والمراد بالانزال العطاء ، وبالقدر المعلوم أسباب الرزق ، والمعنى ان الخير كله عند الله ، وهو يعطيه للعاملين المجدين ، لا للكسالى المخنثين : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك». أنظر «هل الرزق صدفة أو قدر» في ج ٣ ص ١٣١.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ). الرياح توصف باللواقح لأنها تحمل السحاب الماطر ، فتلقح الشجر بما تنزل عليه من الأمطار ، والى هذا أشارت الآية ٥٧ من سورة الأعراف : «وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت ـ أي حملت ـ سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت». أنظر تفسير هذه الآية في ج ٣ ص ٣٤٢. وأيضا توصف الرياح باللواقح لأنها تنقل لقاح الأزهار الذكور الى الأزهار الإناث لتخرج الثمر والفواكه.


وليس المراد بقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ان الماء بكامله مجموع في خزان عظيم عند الله ينزل منه الماء الى الأرض ساعة يشاء كما قال بعض المفسرين بل المراد ان الله ينزل الماء بالأسباب الطبيعية للنزول ، وتحفظه الأرض ، وتخرجه العيون شيئا فشيئا لسد الحاجات.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ). نحن الوارثون كناية عن ان كل من عليها فان ، وانه لا يبقى الا وجه ربك ذو الجلال والإكرام (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ذكر الرازي والطبرسي ستة أقوال في معنى المستقدمين والمستأخرين ، والصحيح ان المراد بهما ان الله لا يخفى عليه شيء من أحوال الأولين والآخرين (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). يحشرهم جميعا للحساب والجزاء ، وهو حكيم في حشرهم هذا ، حيث يجد فيه المحسن ثواب إحسانه ، والمسيء عقاب إساءته ، وأيضا هو عليم بمن أحسن وأساء.

الانسان من صلصال الآية ٢٦ ـ ٣١ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١))

اللغة :

المراد بالإنسان هنا آدم أبو البشر. والصلصال الطين اليابس غير المطبوخ فإذا


طبخ فهو فخار. والحمأ الطين المتغير الى السواد. والمسنون المصبوب الذي يمكن تصويره على أية هيئة من الهيئات. ونار السموم شديدة الحرارة ، وتنفذ في المسام. وسويته أتممته.

الإعراب :

من حمأ بدل من صلصال بإعادة حرف الجر. والجان مفعول لفعل محذوف أي وخلقنا الجان خلقناه ، وكلهم تأكيد للملائكة ، وأجمعون تأكيد ثان.

المعنى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). تكلم الناس كثيرا حول أصل الإنسان ، واشتهر عن درون انه قرد ، وبسطنا الكلام عن درون والإنسان عند تفسير الآية ١١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٠٥. ونعود الآن الى الموضوع بأسلوب آخر لمناسبة ذكر الإنسان والصلصال في الآية التي نحن بصددها.

ينحصر طريق المعرفة بالتجربة والمشاهدة والعقل والوحي ، ومن الواضح أنّا بالتحليل في المختبر نعرف ما في الإنسان من مواد ، أما كيف وجد الإنسان ، وعلى أية هيئة كان فلا تجيب عن هذا السؤال وما اليه المختبرات والمعامل. أما المشاهدة فأي انسان رأى وشاهد بداية خلق الإنسان الأول وكيف تكوّن ووجد؟. ولا شيء في الحفريات يدل دلالة واضحة على أصل الإنسان ، وشرحنا ذلك في المجلد الثالث ص ٣٠٥ ، أما سؤال العقل عن أصل الإنسان وكيف كان فهو تماما كسؤاله : من هو أبو فلان ، وهل كان طويلا أو قصيرا .. فلم يبق من طريق الى معرفة أصل الإنسان الا الوحي من خالق الإنسان.

ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد بعض الآيات تقول : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) ـ ٥٤ الفرقان». وبعضها يقول : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ـ ٥٩ آل عمران». وآية ثالثة تقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ


مِنْ طِينٍ) ـ ٢ الأنعام» ، والطين هو الماء والتراب وليس بحقيقة ثالثة. والآية التي نحن بصددها تقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). والصلصال طين يابس. والحمأ طين متغير الى السواد ، والمسنون طين يمكن تكييفه بسهولة. والطين بشتى أنواعه ماء وتراب فأصل الإنسان الأول ماء وتراب ، خلق الله منهما أبا البشر ومنحه الحياة.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ). أنكر جماعة وجود الجن ، وفسر بعض المؤمنين الجن المذكور في القرآن ، فسره بالمكروب الذي لا يرى بالعين ، أي أخذا بالمعنى اللغوي من جن الشيء إذا استتر عن الأعين. وقال آخرون بوجود الجن ، وألفوا كتبا في عدد نفوسهم وبلادهم وعاداتهم وشعرائهم ورؤسائهم ، وزواج الانس منهم وزواجهم من الانس ، ونحن نؤمن بوجود الجن ، لا لشيء إلا لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، ولا نصدق أحدا يدعي رؤية الجن أو يتصل بهم ، ولا نقبل أي حديث عنهم إلا إذا نطق الوحي به صراحة. وقد صرحت هذه الآية والآية ١٥ من الرحمن ان الله خلق الجن من النار. لذا نحن نؤمن بأن أصل الجن من نار ، ولكن أي نار ، وكيف كان الخلق؟ الله أعلم. وقرأت فيما قرأت ان علماء الاختصاص اكتشفوا نوعا من الحشرات لا تحيا إلا بالهواء السام ، ونوعا آخر لا يحيا إلا في آبار البترول والمواد الملتهبة.

وعليه فمن الجائز أن يكون في كوكب الشمس أحياء تتفق في تكوينها مع حرارة الشمس ، كالسمك في الماء ، وتلون الفراشة بلون الوردة ، والسلحفاة بلون الصحراء.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً). قال الله هذا للملائكة ، وقال له الملائكة أيضا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟. وغرضنا من الاشارة الى قول الملائكة التنبيه الى ما ذكرناه عند تفسير الآية ٣٠ من سورة البقرة من ان الله سبحانه قد أفسح لهم مجال السؤال والحوار الذي يشبه الاعتراض ، ثم أفهمهم الحقيقة ، وتلطف في جوابهم .. فعسى أن يتعظ بهذا من يرى نفسه فوق أن يراجع في شيء من أقواله لمكانته العلمية ومنزلته الاجتماعية. أنظر المجلد الأول ص ٨١.


(مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس غير مطبوخ (مِنْ حَمَإٍ) طين متغير الى السواد (مَسْنُونٍ) مرن يمكن تكييفه وتصويره على هيئة انسان أو غيره (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي جعلت الحياة فيه أنظر ج ٢ ص ٥٠١ (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) سبق نظيره في الآية ٣٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٨٢.

الله يسأل وابليس مجيب الآية ٣٢ ـ ٤٤ :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

اللغة :

رجيم أي مرجوم ، والمراد به هنا المطرود من رحمة الله لأن من يطرد يقذف


بالحجارة. وانظرني أمهلني. وجزء مقسوم أي لكل فريق من اتباع إبليس جزء معين في جهنم.

الإعراب :

مالك (ما) مبتدأ ، ولك متعلق بمحذوف خبرا للمبتدإ ، والمصدر من ان لا تكون مجرور بحرف جر محذوف ، والمصدر متعلق بما تعلق به الخبر ، والتقدير أي شيء حملك على عدم السجود؟. لا سجد اللام تأكيد للنفي ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، وهو متعلق بمحذوف خبرا لأكن أي لم أكن مستعدا أو مخلوقا للسجود لبشر. وبما أغويتني الباء للقسم عند البيضاوي ، وما مصدرية وجواب القسم لأزينن ومثله فبعزتك لأغوينهم أجمعين. وأجمعين تأكيد لضمير أغوينهم. وعبادك منصوب على الاستثناء المتصل من الضمير المذكور ، والمخلصين صفة لعبادك. وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة. الا من اتبعك (من) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع لأن الغاوين غير المخلصين. وأجمعين تأكيد للضمير في موعدهم.

المعنى :

أمر سبحانه الملائكة بأن يسجدوا لآدم سجود تحية ، لا سجود عبادة ، فأطاعوا جميعا ، وعصى إبليس. واختلف العلماء في هوية إبليس : هل هو ملك فطرد ، أو شيطان منذ البداية؟. وهذا نزاع عقيم ، ما دام إبليس مذموما مدحورا على كل حال .. وحين امتنع عن السجود سأله المولى جلت عظمته :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)؟. وهل أنت أعلى مكانا ، وأشرف قدرا ممن سجد لآدم؟.

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). عصى إبليس وتمرد لا لشيء إلا تعصبا لأصله وعنصره ، وكل من تعصب لأصل وعنصر فهو ملعون ومذموم ورجيم تماما كإبليس.


(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ). ضمير منها يعود الى الدرجة الرفيعة ، والمعنى ان الله سبحانه طرد إبليس من رحمته الى عذابه ونقمته ، وجعله ملعونا على كل لسان حتى قيام الساعة جزاء على تكبره وامتناعه عن طاعة الله تعالى.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). طلب هذا الامهال لحاجة في نفسه سيصرح بها قريبا.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). وهو ساعة النفخ في الصور الذي دلت عليه الآية ٦٨ من الزمر : «ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض».

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بما امتحنتني به من الأمر بالسجود لآدم الذي أوقعني في الغي والعصيان (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). قطع إبليس عهدا على نفسه ان ينتقم لمأساته من هذا المخلوق الذي كان السبب لطرده من رحمة الله الى لعنته.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذه اشارة الى صيانة المخلصين من الشيطان وغوايته ، وعليّ أي ثابت عليه تعالى ، مثل قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ ٥٤ الأنعام». والمعنى ان الله كتب على نفسه ان الإخلاص هو الصراط المستقيم ، فمن سلكه نجا ، ومن انحرف عنه هلك (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الذين يعبدون الدرهم والدينار ، ويبيعون الدين والبلاد والعباد لكل من يدفع الثمن ، أما الطيبون المخلصون فإبليس أذل وأحقر من ان يدنو منهم فضلا عن تسلطه عليهم. تقدم نظير هذه الآيات في الأعراف الآية ١١ ـ ١٨ ج ٣ ص ٣٠٦.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ). هناك في قعر جهنم يجتمعون جميعا إبليس وأتباعه ، ويتبرأ المتبوع من التابع ، ويلعن كل منهما صاحبه. انظر تفسير الآية ٢٢ من سورة ابراهيم ، فقرة : «خطبة الشيطان».

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). قيل : المراد بالأبواب المعنى الظاهر منها. وقيل : بل المراد منها الطبقات والأدوار ، وان بعض النار


فوق بعض ، وان لكل طبقة اسم يخصها كجهنم والجحيم ولظى وسقر والحطمة وما إلى ذلك .. ومهما كان المراد فان الواقع معلوم ، وهو ان السيئات مراتب ودرجات ، منها الكبيرة الخطيرة ، ومنها الصغيرة الحقيرة ، وما بينهما ، ولكل سيئة ما تستحقه من العذاب دون زيادة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا في آخر سورة ابراهيم بعنوان «جهنم والأسلحة الجهنمية».

ان المتقين في جنات الآية ٤٥ ـ ٥٠ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

اللغة :

السرر جمع سرير. والنصب التعب. ونبيء خبر.

الإعراب :

ادخلوها أي يقال لهم ادخلوها. وبسلام متعلق بمحذوف حالا من واو ادخلوها أي سالمين. وآمنين حال ثانية. وإخوانا حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف الذي تعلقت به في جنات. أي ان المتقين مستقرون في جنات متصافين متحابين. ومتقابلين صفة للإخوان ، وعلى سرر متعلق بمتقابلين. وما هم (ما) نافية وهم


مبتدأ وبمخرجين الباء زائدة اعرابا ، ومخرجون خبر. و (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ (أَنَا) ضمير فصل أو توكيد ، والمصدر من (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ) مجرور بالباء المحذوفة. وان عذابي هو العذاب (هو) ضمير فصل.

المعنى :

بعد أن ذكر سبحانه عاقبة المجرمين والغاوين ، وانهم يحشرون غدا مقرونين في الأصفاد ، وسرابيلهم من قطران ، وتغشى وجوههم النار ، بعد هذا ذكر سبحانه عاقبة المتقين ، وانهم يجازون بالرفاهية والأمان والصفاء والراحة الدائمة ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). حياة طيبة في كل شيء من المأكل والمشرب الى المنظر وحور العين. (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف».

٢ ـ (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ). حياة طيبة وآمنة لا خوف فيها ولا حزن.

٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) والى جانب الرفاهية الصفاء أيضا ، حيث لا حقد يغلي في القلوب ، ويذيبها حسرات ، كما هي حال أهل النار الذين وصفهم سبحانه بقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) ـ ٣٧ الأعراف».

٤ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) .. لا فقر .. لا مرض .. لا خوف .. لا حقد .. وأيضا لا تعب واعياء .. وكل هذه الأوصاف دائمة لا نقصان فيها ولا زوال لها.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ). جمع سبحانه في هاتين الآيتين بين التبشير والتحذير كي لا ييأس العاصي من رحمة الله ومغفرته ، بل يرجع اليه تعالى ويتوب. وكي يحذر المطيع من الزلل وفساد العمل ، فيحتاط ويتواضع ولا يتملكه العجب والغرور. وقال الرازي : لما ذكر الله المغفرة والرحمة بالغ في تأكيدهما بألفاظ ثلاثة هي : (اني) و (أنا) وإدخال الألف


واللام على الغفور الرحيم ، ولما ذكر العذاب لم يقل : (اني) و (أنا) ، بل قال :

ان عذابي هو الخ.

ضيف ابراهيم الآية ٥١ ـ ٦٠ :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

اللغة :

الوجل الخوف والقنوط اليأس. وما خطبكم؟ ما شأنكم؟. وقدرنا قضينا ، أو علمنا ، والغابر الباقي والماكث ، وقد يستعمل فيمن ذهب ومضى. والمراد بالغابرين هنا ان امرأة نوح من الباقين في المدينة مع المهلكين.

الإعراب :

قالوا سلاما منصوب على المصدر أي سلمنا سلاما. وعلى ان مسني متعلق


بمحذوف حالا من الياء في بشرتموني أي أبشرتموني كبيرا. ومن يقنط (من) مبتدأ ويقنط خبر. آل لوط منصوب على الاستثناء المنقطع من قوم مجرمين. وامرأته على الاستثناء المتصل من ضمير «لمنجوهم».

المعنى :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ). الخطاب الى محمد (ص) ، وضمير (هم) يعود الى عباد الله المذكورين في الآية السابقة. وضيف ابراهيم هم الملائكة الذين دخلوا عليه (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) سلّموا عليه ، فرد عليهم ، كما في الآية ٦٩ من سورة هود : «قالوا سلاما قال سلام».

(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لأنه قدّم لهم الطعام فامتنعوا عنه ، فأنكرهم وأوجس منهم خيفة (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ذي شأن ، وفي الآية ١١٢ من سورة الصافات : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ). لم يقل هذا ابراهيم شكا في قدرة الله ، ولا يأسا من رحمته ، بل ليتأكد ويطمئن (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) ظن الملائكة من سؤال ابراهيم انه قانط ، فصحح ظنهم ونفى عنه القنوط (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). وفي قوله هذا دلالة قاطعة على انه لم يسأل شاكا ولا يائسا ، بل متأكدا ومتثبتا على طريقة (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) ما هي المهمة التي أرسلتم من أجلها ـ غير التبشير ـ؟. (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) وهم قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) وهم خاصته وأتباعه المؤمنون (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أهلكها الله مع من أهلك لأنها كانت منافقة تتآمر على زوجها لوط مع أعدائه المشركين ، وسبق نظير هذه الآيات في سورة هود الآية ٦٩ وما بعدها.

آل لوط الآية ٦١ ـ ٧٢ :

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ


جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢))

اللغة :

الاسراء السير في الليل. والقطع من الليل طائفة منه. واتبع ادبارهم أي كن على أثرهم. وقضينا اليه أوحينا اليه.

الإعراب :

الأمر عطف بيان أو بدل من ذلك. والمصدر من ان دابر هؤلاء بدل من ذلك الأمر ، أو مجرور بالباء المحذوفة أي وقضينا بأن دابر هؤلاء. ومصبحين حال من هؤلاء. وجملة يستبشرون حال من أهل المدينة. وعن العالمين على حذف مضاف أي عن ضيافة العالمين. ولعمرك مبتدأ والخبر محذوف أي لعمرك قسمي.

المعنى :

يكرر الله سبحانه قصص الأنبياء وما حدث ممن عاندهم وقاوم رسالتهم ، يكرر


ذلك لنتعظ ونعتبر كيف كان عاقبة المكذبين بالحق ، وكل ما جاء في هذه الآيات التي نحن بصددها قد سبق ذكره مفصلا في سورة هود ، وكذا جاء في المقطع السابق المتعلق بإبراهيم (ع) ، ومن أجل هذا نختصر في تفسير هذه الآيات كما اختصرنا في تفسير الآيات السابقة.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ). خرج الملائكة من عند ابراهيم وتوجهوا الى لوط ، فلما دخلوا عليه ظنهم ضيوفا ، فضاق بهم ذرعا خوفا عليهم من قومه الفجرة (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). لا أعرفكم ولا أعرف ما ذا تريدون .. وكيف دخلتم هذا البلد ، وأهله مشهورون بما يفعلون؟.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ). كشف الملائكة للوط عن حقيقتهم ، وعن المهمة التي جاءوا من أجلها ، وهي إهلاك قوم لوط ، فقد كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وكان نبيهم لوط يحذرهم وينذرهم بعذاب من السماء ، فيشكون ويسخرون .. فقال الملائكة للوط : لقد جئناك بالعذاب الذي حذرتهم منه ، وكذبوك فيه ، وانه واقع لا محالة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ). بعد ان أخبروه بوقوع العذاب أمروه أن ينجو بنفسه وأهله ، وذلك بأن يسير بهم قبل الصبح على ان يكون هو في مؤخرتهم يرعاهم ويتفقدهم ، ولا يدع أحدا يلتفت الى الوراء لئلا يرى العذاب فيجزع ويفزع. (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). أوحى الله الى لوط بأنه سيستأصل الكافرين وقت الصباح عن آخرهم ، ولا يبقى منهم عينا ولا أثرا.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ). قصد الفسقة الفجرة أضياف لوط فرحين يبشر بعضهم بعضا بهذه الغنيمة الباردة ، واسودت الدنيا في وجه لوط ، حيث لم يكن قد عرف حقيقة أضيافه بعد ، فخاطب قومه برفق (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ). خوّفهم من الله ، ولا شيء أهون عليهم منه ، واستنجد بمروءتهم ان يفضحوه ويخزوه في ضيفه ، وهم أبعد الخلق عن المروءة والانسانية.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ). أرأيت الى هذه الصلافة والوقاحة؟. أصبحوا


هم الأبرياء الأتقياء ، ولوط هو المذنب المجرم .. ولما ذا؟. لأنهم نهوه عن معاشرة الناس واستقبال الضيوف فلم ينته! .. ألم ننهك؟ .. وهذا المنطق اللوطي هو منطق كل معتد أثيم لا يقيم وزنا الا لرغبته ومنفعته. فالفيتناميون دعاة حرب وسفاكو دماء عند الأمريكيين لأنهم يرفضون أن تتحكم بهم الولايات المتحدة كما تشاء ، والعرب وحوش مفترسون عند الولايات المتحدة وانكلترا لأنهم يقولون : فلسطين للفلسطينيين لا للصهاينة ، ودول الاستعمار تردد شعارات السلام والحرية في نفس الوقت الذي تضرب فيه الشعوب المستضعفة بالمدافع وقنابل النابالم.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ). عبّر عن نساء قومه ببناته لأن رسول الأمة كالأب لجميع أفرادها ذكورا وإناثا. وقد عرض لوط على قومه أن يتركوا الذكور ، ويتزوجوا الإناث حلالا طيبا. ولكن نفوسهم لا تطيب الا بالحرام ، ولا تميل الا الى الخبائث والآثام. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). قال كثير من المفسرين : ان الخطاب في لعمرك من الله الى محمد (ص). وقال آخرون : انه من الملائكة للوط ، وربما كان هذا أقرب لظاهر السياق. ومهما يكن فإن المعنى ان قوم لوط يتردون في الهوى والضلالة ، ولا يؤوبون الى الرشد والهداية مهما جد الهادي ونصح المرشد.

أخذتهم الصيحة الآية ٧٣ ـ ٨٦ :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ


الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

اللغة :

المراد بالصيحة هنا العذاب. ومشرقين أي داخلين في وقت شروق الشمس. والسجيل طين متحجر. وللمتوسمين جمع متوسم ، وهو صاحب الفراسة الصائبة ، والمراد به هنا العاقل الذي ينتفع بالعظات والعبر. والمراد بأصحاب الأيكة قوم شعيب ، والأيكة الشجر الملتف الكثيف. وللإمام معان شتى ، والمراد به هنا الطريق. واصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح ، والحجر اسم المكان الذي كانوا فيه ، وقيل كل مكان أحيط بالحجارة يسمى حجرا ، والصفح الجميل العفو من غير عتاب ، كما جاء عن الإمام علي (ع).

الإعراب :

مشرقين حال من الضمير في أخذتهم ، ومثلها مصبحين. وآمنين حال من واو ينحتون. وان كان أصحاب الأيكة (ان) مخففة من الثقيلة ومهملة ، واللام بعدها للفصل بينها وبين ان النافية.

المعنى :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ). ضمير (هم) يعود الى قوم لوط ، والمعنى ان العذاب نزل بهم في وقت شروق الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). ضمير عاليها وسافلها يعود الى مدينة لوط ، وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد مع التفسير في سورة هود الآية ٨٢.


(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المراد بالمتوسمين هنا العقلاء الذين يعتبرون وينتفعون بالعظات (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ضمير انها يعود الى مدينة أو قرى لوط التي جعل الله عاليها سافلها. والسبيل الطريق ، والمقيم الموجود الثابت ، والمعنى ان آثار مدينة لوط التي أهلكها الله ما زالت قائمة الى عهد محمد (ص) والطريق اليها موجود ومسلوك يمر عليه الرائح والغادي ، ويشاهد الدمار والآثار .. قال المفسرون : كانت تعرف هذه المدينة باسم سدوم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). أي ان المؤمنين بالله واليوم الآخر يعتقدون بأن ما حل بقوم لوط من العذاب كان جزاء على كفرهم وضلالهم ، أما الملحدون فيقولون : هي حوادث كونية ، وأسباب طبيعية.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ). الأيكة الشجر الملتف الكثيف ، والمراد بأصحابها قوم شعيب .. بعد أن ذكر سبحانه هلاك قوم لوط أشار الى قوم شعيب وانه تعالى أهلكهم لكفرهم وتمردهم على الحق ، وسبق الكلام عن شعيب وقومه عند تفسير الآية ٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٥ ، ويأتي أيضا في سورة الشعراء (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ). ضمير منهم يعود الى أصحاب الايكة ، وهم قوم شعيب ، وضمير انهما يعود الى مدينة لوط وأصحاب الأيكة ، والمراد بالإمام هنا الطريق ، والمعنى ان الدلائل والآثار على هلاك مدينة لوط وبلد شعيب ما زالت قائمة ، والطريق اليها واضح يسلكه كل من أراد أن يشاهد آثار الهلاك والعذاب.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ). أصحاب الحجر هم ثمود ، ونبيهم صالح صاحب الناقة ، والحجر اسم المكان الذي كانوا فيه ، وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا هو صالح ، وانما قال سبحانه كذبوا المرسلين بصيغة الجمع لأن من كذب رسولا واحدا لله فقد كذّب جميع الرسل (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) مع انها كافية وافية في الدلالة على الحق ، ولكنها لا تتفق مع أهوائهم وتقاليدهم الفاسدة (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ). وكانت السكنى في بيت حجر مع الامان من الغزو دليلا على الحضارة في ذاك العصر .. ومن جملة الآيات التي آتاهم الله على يد الرسل الناقة فعقروها وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي وقع عليهم العذاب وقت الصبح (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) وقع عليهم العذاب،


ولم يجدهم ما جمعوا من ثروات ، وما نحتوا وبنوا من دور وقصور. وسبق الكلام عن صالح وقومه عند تفسير الآية ٧٣ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٠.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ). ما من شيء في الكون إلا وجد لحكمة ومنه هلاك الكافرين من الأمم الماضية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ ص» (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) المراد بالساعة القيامة ، وفيها يجازي الله كلا بما يستحق (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ). الخطاب من الله لمحمد يأمره فيه بالاعراض عن المشركين والجاهلين ، وان لا يشغل نفسه بهم ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) ـ ١٠ المزمل».

السبع المثاني والقرآن العظيم الآية ٨٧ ـ ٩٩ :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))


اللغة :

السبع المثاني سورة الفاتحة لأنها سبع آيات ، وبقراءتها يثنى في الصلاة ، وقيل هي السور السبع الطوال في أول القرآن : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس كما في تفسير الطبري. أو الأنفال مع التوبة بدلا عن يونس كما في بعض التفاسير. ولا تمدن عينيك أي لا تنظر. والمراد بالأزواج الأصناف ، والتوضيح في فقرة المعنى. وخفض الجناح كناية عن التواضع ، والمراد بالمقتسمين هنا اليهود والنصارى بالنظر إلى أنهم جعلوا القرآن عضين أي أجزاء ، حيث آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. فاصدع بما تؤمر أي اجهر به وأنفذه. والمراد باليقين هنا الموت.

الإعراب :

سبعا من المثاني (من) بيانية أي سبعا هي المثاني ، ومثلها : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ـ ٣٠ الحج» أي الرجس هي الأوثان. وأزواجا مفعول متعنا به. وكما أنزلنا الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي أنزلنا عليك القرآن العظيم إنزالا مثل ما أنزلنا على المقتسمين. وهذا الاعراب فيه شيء من التكلف ، ولكنه أهون من بقية الأوجه التي ذكرها المفسرون. والذين جعلوا القرآن عضين صفة للمستهزئين أو عطف بيان.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ). اختلفوا في المراد بالسبع المثاني ، وذكر المفسرون خمسة أقوال ، أرجحها ـ فيما نرى ـ انها سورة الفاتحة ، فهي سبع آيات ، ويثنى بها في الصلاة ، وتجمع بين ذكر الربوبية والعبودية. اذن ، هي سبع بآياتها ، ومثاني بصفاتها.

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ). يستعمل الزوج بالصنف ،


ومنه قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ـ ٥٢ الرحمن» أي صنفان. وقوله : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) ـ ٥٨ ص» أي أصناف. وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ـ ٣٦ يس». وعلى هذا يكون المراد بالأزواج في الآية التي نفسرها أصناف الكفار المشركين وأهل الكتاب ، وبكلمة ثانية الكفار بجميع أصنافهم ، وضمير منهم يعود الى الكفار ، ومحصل المعنى لا تنظر يا محمد أو لا تحفل بما تراه من الزينة التي يتمتع بها أصناف الكفار من المشركين وأهل الكتاب (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) كان النبي (ص) يحزن ويتألم لنفور المشركين وعدم ايمانهم ، فأمره المولى جل وعلا بأن لا يهتم ولا يكترث ، ومثله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ـ ٨ فاطر» (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). تواضع للطيبين المخلصين لأن التواضع لهؤلاء تواضع لله ، والتكبر على الخونة المفسدين جهاد في سبيل الله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ـ ٥٤ المائدة».

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ). دعا محمد (ص) الناس دعوة الحق بالحجج والبينات ، وما زالت دعوته قائمة بأدلتها وبراهينها حتى اليوم والى آخر يوم ، وعلى كل عاقل أن ينظرها ويتدبرها ، فإن آمن بها آمن عن بينة ، وان رفضها رفض عن بينة ، أما من ينفر دون أن ينظر فهو ملام ومؤاخذ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ). المراد بالمقتسمين اليهود والنصارى لأنهم هم الذين جعلوا القرآن عضين أي فرّقوه وقسّموه أعضاء وأبعاضا ، حيث آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، كفروا بما يصطدم مع مصالحهم وتقاليدهم ، وآمنوا بما عدا ذلك ، ومحصل المعنى ان الله أنزل القرآن على محمد كما أنزل التوراة على اليهود ، والإنجيل على النصارى الذين آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعض. فأي عجب أن ينزل على محمد كتاب من ربه ما دام قد نزل من قبله أكثر من كتاب!.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). قرر القرآن في هذه الآية مسؤولية الإنسان عن أعماله ، وفي الآية ١٨ من سورة ق قرر مسؤوليته عن أقواله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). وفي الآية ١٩ من سورة غافر قرر مسؤوليته عن مقاصده ونواياه : «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور». ومتى أيقن الإنسان بأن عليه رقيبا قادرا عادلا خاف واتقى .. ومحال أن تنتظم الحياة


الانسانية بدون الشعور بالمسؤولية والالتزام بها.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ادع الى ربك بالحجة والبرهان ، ولا تبال بإعراض من أعرض وادبار من أدبر (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ). ذكر المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي والطبرسي : ان جماعة من مشركي قريش لهم قوة وشوكة كانوا يسخرون ويهزءون من رسول الله (ص). فأهلكهم الله سبحانه بأهون الأسباب وأيسرها ، ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

من الطبيعي ان يحزن النبي (ص) ويتألم إذا استهزأ به المشركون ، وقالوا عنه : مجنون ومفتر على الله ، من الطبيعي أن يضيق صدره بما يقول عنه الكافرون لأنه انسان من لحم ودم يفرح بما يفرح به الناس ، ويحزن مما يحزنون ، ولكن ما هي العلاقة بين الحزن والعبادة ، حتى أمره الله تعالى بأن يلجأ اليها إذا حزن وضاق صدره؟.

الجواب ، ان الله سبحانه لم يأمر نبيه بالعبادة هنا ليبين له ان ضيق الصدر سبب للأمر بالعبادة ، كلا فإن الأمر بعبادة الله غير مقيد بفرح ولا بحزن ، وانما الأمر بالعبادة هنا كناية عن الاتكال على الله والفزع اليه وحده إذا ألمّ بالنبي (ص) ما يؤلمه ويزعجه ، تماما كقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ ٢٠٠ الأعراف». أنظر ج ٣ ص ٤٣٩.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). المراد باليقين هنا الموت لأنه واقع لا محالة والقصد أن يستمر الإنسان في العبادة والإخلاص لله مدة حياته : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ـ ٣١ مريم».



سورة النّحل



سورة النّحل

١٢٨ آية.

بعضها مكي ، وبعضها مدني ، واختلفوا في عدد كل من المكي والمدني ، فقيل : أربعون آية من أولها مكية ، والباقي مدني ، وقيل : كلها مكية ما عدا ثلاث آيات في آخر السورة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية ١ ـ ٤ :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

اللغة :

سبحان كلمة تنزيه. وتعالى ارتفع عن كل ما يشين. والمراد بالروح هنا الوحي مثل قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) ـ ٥٢ الشورى». أي وكذلك أنزلنا اليك وحيا.


الإعراب :

سبحانه منصوب على المصدرية. ومن أمره أي بأمره. وان أنذروا (ان) مفسرة بمعنى أي. وضمير انه للشأن ، وهو اسم ان ، وجملة لا إله إلا الخ خبر ، والمصدر من ان واسمها وخبرها مجرور بالباء المحذوفة. فاتقون أصلها فاتقوني.

المعنى :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). كان النبي ينذر المشركين ويخوّفهم من عذاب أليم ، وكانوا يجيبونه بالسخرية ويستعجلونه العذاب ، ويقولون له : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ ٣٢ الأنفال». فأجابهم سبحانه بأن عذاب الله آت ، وكل آت قريب. وعبّر سبحانه عما يأتي في المستقبل بصيغة أتى الدالة على وقوع الفعل لأن العذاب واقع لا محالة ، وكل ما كان واجب الوقوع فالحال والماضي والاستقبال فيه سواء. وسيقال لهم غدا : هذا الذي كنتم به تستعجلون .. ولا جواب الا ان قالوا : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). المراد بالروح هنا الوحي لأنه للنفوس تماما كالأرواح للأبدان ، ومحصل المعنى ان الله يصطفي لرسالته من هو أهل لها ، وتتلخص هذه الرسالة بالتوحيد عقيدة ، والاستقامة عملا ، لأن كل من اتقى الله فهو على صراط الأمان والاستقامة ، وكل من عصاه فهو على صراط الهلاك والضلالة.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بعد ان ذكر سبحانه في الآية السابقة انه لا إله إلا هو أشار في هذه الآية الى الدليل على ذلك ، وهو ان الله خلق السموات والأرض ، وأحكم خلقهما ، ولم يعنه على ذلك معين ، والخلق من لا شيء بهذا الأحكام والإبداع دليل الألوهية ، كما ان التفرد بالخلق دليل الوحدانية. انظر ج ٢ ص ٣٤٤ فقرة : «دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة».


(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). بعد أن أشار سبحانه الى دليل الوحدانية قال : ولكن هذا الإنسان الضعيف الذي خلقناه من نطفة يكفر بنعمة من أنعم عليه ، ويجحد وجود من أوجده ، ويعبد ما لا يضره ولا ينفعه. وسبق أكثر من مناسبة ان الإنسان لا ينحرف عن الطريق القويم إلا جهلا وتقليدا ، أو لمنفعة شخصية. انظر تفسير الآية ٣٤ من سورة ابراهيم ، فقرة : «هل الإنسان مجرم بطبعه؟.

الانعام والخيل والبغال والحمير الآية ٥ ـ ٩ :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

اللغة :

الانعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز. والدفء ما يتدفأ به ، والمراد به هنا ما يتخذ من جلود الانعام وأصوافها للثياب والفرش. والجمال الزينة. وحين تريحون أي تردون الانعام بالعشي من مراعيها الى مراحها. وحين تسرحون أي حين تخرجونها من مراحها بالغداة الى مراعيها. والأثقال الأمتعة. وبشق الأنفس كناية عن التعب والمشقة. وقصد السبيل الطريق المستقيم الموصل الى الحق ، والجائر المائل عنه.


الإعراب :

الانعام مفعول لفعل محذوف أي خلق الانعام خلقها لكم ، ولكم متعلقة بخلقها. وفيها دفء مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الانعام. وحين ظرف منصوب بجمال. وبالغيه خبر لم تكونوا. والخيل مفعول لفعل محذوف أي وخلق الخيل. ولتركبوها مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المجرور متعلق بخلق المحذوفة ، وزينة معطوفة على محل المصدر المجرور لأنه مفعول لأجله في المعنى ، ويجوز أن تكون زينة مفعولا مطلقا لفعل محذوف أي وتتزينوا بها زينة.

المعنى :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ). نزل القرآن في عصر لا تنتظم فيه الحياة الزراعية وغير الزراعية الا بالحيوان ، وقد ذكر سبحانه أصنافا من الحيوان وفوائدها في العديد من آياته بقصد التذكير بالله ونعمه على عباده ليتقوه في أعمالهم وأقوالهم ، من ذلك ما تقدم في سورة الأنعام الآية ١٤٢ وما بعدها ج ٣ ص ٢٧٣ ، وذكر في الآية التي نفسرها ثلاث فوائد للأنعام : الدفء والمراد به اتقاء البرد بما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها .. وذكر سبحانه بعد الدفء كلمة منافع بدون الألف واللام ، وتنطبق على اللبن والسمن واثارة الأرض أي حرثها ، أما قوله : ومنها تأكلون فيشمل الأكل من لحومها ولحوم أولادها بالاضافة الى درها الذي أشارت اليه كلمة منافع.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ). المراد بالجمال هنا جمال الأنعام في منظرها رائحة غادية ، وبالخصوص إذا كانت سمينة وكثيرة ، وقوله : حين تريحون معناه حين تردّون الأنعام مساء من المرعى الى المراح ، وحين تسرحون أي تخرجونها صباحا من المراح الى المرعى ، وهذا المنظر الجميل للأنعام الثلاث ، وهي غادية رائحة يبعث الانس والانشراح في نفوس أصحابها ، ويغبطهم الناظر اليها.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ). بعد أن ذكر


سبحانه ان من فوائد الأنعام المأكل والملبس ذكر انها وسيلة للمواصلات ، ونقل الأثقال والأحمال من بلد الى بلد ، ولولاها لتحمل الإنسان المتاعب والمشاق (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ومن رأفته ورحمته تسخير الأنعام لتيسير المصالح وتخفيف الآلام.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) بعد ان ذكر سبحانه منافع الأنعام الثلاث أشار الى منافع الخيل والبغال والحمير ، وأهمها الركوب والزينة في ذاك العصر (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ). وقد فسر هذه الجملة كل عالم من خلاله عصره وحياته ، فبعض القدامى قال : المراد ان الله يخلق من أنواع الحيوان والنبات والجماد الكثير الكثير مما لا يعلمه الناس. وقال الطبري : المعنى ان الله يخلق لأهل الجنة من أنواع النعيم ، ولأهل النار من أنواع العذاب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .. وقال بعض المفسرين الجدد ، ومنهم الشيخ المراغي ، قالوا : «هذه اشارة الى الطيارة والسيارة ونحوهما». والمعنى المناسب للسياق ـ فيما نرى ـ ان الله سبحانه بعد ان ذكر هذه المنافع وامتن بها على عباده قال : ان هذا قليل من كثير ، وان هناك منافع لا تعلمونها ولا يبلغها الإحصاء ، ومنها الطيارة والسيارة ، وبكلمة ان قوله : ويخلق ما لا تعلمون أشبه بقوله : وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

ونقل الشعراني في ميزانه عن أبي حنيفة تحريم لحوم الخيل ، وعن الشافعي ومالك وابن حنبل التحليل ، أما عن لحوم البغال والحمير فنقل تحريمها عن الشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل ، وكراهيتها عن مالك. وقال الشيعة الامامية : تحل لحوم الخيل والبغال والحمير على كراهية.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ). على هنا للوجوب ، مثلها في الآية ١٢ من الليل : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). والمعنى ان الله سبحانه كتب على نفسه أن يبين للناس على لسان رسله طريق الحث والهداية (وَمِنْها جائِرٌ) ضمير منها يعود الى السبيل لأن السبيل تؤنث وتذكر ، أي ان من الطرق ما هو مستقيم كالاسلام. ومنها ما هو مائل معوج كغيره من الأديان (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد الله ان يلجئ الناس الى الايمان قهرا عنهم لما كفر واحد منهم ، ولكنه تعالى ترك الإنسان


وما يختار بعد ان هداه النجدين حرصا على انسانيته ، وليستحق الثواب ان اختار الخير ، والعقاب ان اختار الشر. انظر تفسير الآية ١١٨ من هود.

التذكير بنعم الله الآية ١٠ ـ ١ :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

اللغة :

تسيمون من سامت الماشية إذا رعت أي ترعون أنعامكم من النبات من غير كلفة. وذرأ خلق. ومواخر جمع ماخرة ، والمخر شق الماء ، يقال : مخرت


السفينة إذا جرت وانشق الماء يمينا وشمالا. والرواسي الجبال. ان تميد بكم أي تميل وتضطرب. والسبل الطرق. والعلامات المعالم التي يستدل بها على الطريق.

الإعراب :

منه شراب مبتدأ وخبر ومن للتبعيض. ومنه شجر من هنا للسببية. والنجوم مسخرات مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. وبأمره متعلق بمحذوف حالا من الجميع أي من الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. وما ذرأ (ما) اسم موصول في محل نصب بفعل محذوف أي وسخر الذي ذرأ لكم. ومختلفا حال من (ما) وألوانه فاعل لمختلف. ومواخر حال من الفلك لأن ترى هنا بصرية لا قلبية. والمصدر من ان تميد مفعول من أجله لألقى. وأنهارا مفعول لفعل محذوف أي وأجرى أنهارا ، وسبلا أيضا مفعول لفعل محذوف أي وشق سبلا وأقام علامات ، فيقدر لكل منصوب فعل يناسبه. مثل «علفتها تبنا وماء باردا» أي وسقيتها ماء باردا. أفمن يخلق مبتدأ وكمن لا يخلق خبر.

المعنى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ). كل ما قام على ساق من نبات الأرض فهو شجر ، وتسيمون ترعون فيه مواشيكم ، والمعنى ان الله أنعم على عباده بالماء فجعله شرابا لهم ، وأنبت منه الشجر الذي ترعاه المواشي.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وأيضا أنبت الله سبحانه بالماء هذه الأشياء لمصالحنا ومنافعنا ، ولنتفكر ونتدبر قدرة الله وعظمته ونشكر آلاءه بطاعته والعمل بمرضاته ، وأشرنا فيما سبق ان الماء يتولد من أسبابه الطبيعية التي أوجدها الله في هذا الكون ، وإنما أسنده اليه تعالى من باب اسناد الشيء لفاعله الأول. وتقدم نظير هذه الآية في سورة ابراهيم الآية ٣٢ وفي سورة الحجر الآية ٢٢.


(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). تقدم نظيره في سورة الرعد الآية ٢ وفي سورة ابراهيم الآية ٣٣ ، وقوله بأمره يشير الى الرد على الماديين الذين يرجعون جميع الحوادث الكونية الى الطبيعة نفسها.

وتسأل : ألا يغني ذكر الليل عن ذكر القمر ، وذكر النهار عن ذكر الشمس؟.

الجواب : كلا ، لأن الليل قد يوجد من غير القمر ، أما النهار فهو بعض فوائد الشمس وآثارها ، وليس كلها.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). المراد بذرأ خلق وأوجد ، وألوانه أصنافه ، والمعنى ان الله سبحانه سخر لنا ما أودعه في الأرض من معادن جامدة ومائعة ، ونبات وغير ذلك ، ليتذكر متذكر ويشكر شاكر.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ذكر سبحانه من فوائد البحر ثلاثة أشياء :

الأول : الأسماك.

الثاني : الحلية كاللؤلؤ والمرجان ، قال تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) ـ ٢٢ الرحمن». قال المراغي عند تفسير هذه الآية : «توجد حقول من المرجان في البحر الأبيض المتوسط أمام تونس والجزائر ، وتحصد هذه الحقول الدولة الفرنسية وتبيعها على أصحابها أنفسهم ، وكأنهم لم يقرءوا القرآن .. وكأنهم لم يخلقوا في هذه الأرض .. وكأنهم لم يؤمروا بالعمل والاستخراج».

الثالث : السفر بالبحر للتجارة وغيرها.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أقام الجبال في الأرض لتثبت ولا تضطرب ، ومر نظيره في الآية ١٩ من سورة الحجر (وَأَنْهاراً) أجرى أنهارا (وَسُبُلاً) جعل طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بتلك الطرق الى ما تريدون (وَعَلاماتٍ) والمراد بها الدلائل التي تهدي المسافر الى الطريق مثل الجبال والوديان ونحوها


(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) إذا سافروا في الليل برا وبحرا ، مر نظيره في الآية ٩٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٣٣.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) بعد أن ذكر سبحانه انه هو الذي خلق السموات والأرض والإنسان والأنعام والحيوانات والماء والأشجار والشمس والقمر الخ. بعد هذا قال : هل الله الذي خلق هذه الأشياء يكون هو والأحجار والأصنام شركاء وسواء بسواء؟!. وهذا السؤال يحمل جوابه معه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) تقدمت هذه الآية بحروفها في سورة ابراهيم الآية ٣٤ (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لمن قصر في أداء شكره وحقه تعالى ، ولا يسلبه النعمة رحمة به (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ). وإذا كان عالما بما نسر ونعلن فيجب أن نطيعه خوفا من غضبه وعذابه.

الذين يدعون من دون الله الآية ٢٠ ـ ٢٣ :

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

الإعراب :

وهم يخلقون مبتدأ وخبر ، وأموات خبر ثان ، وغير أحياء صفة مؤكدة لأموات. وأيان استفهام عن الزمان بمعنى متى ومحلها النصب بيبعثون. إلهكم مبتدأ أول وإله مبتدأ ثان وواحد خبر الثاني ، والجملة خبر الأول. وقيل : ان لا جرم


كلمة واحدة بمعنى حقا. وقيل : كلمتان مثل لا شك ، وتقدم الكلام عنها عند تفسير الآية ٢٢ من سورة هود.

المعنى :

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ). سبق الحديث عن الشرك والجدال مع المشركين في العديد من الآيات .. والآن وبعد ما ان عدّد سبحانه أنواعا من النعم على عباده أشار بهذه الآيات والتي بعدها الى الكافرين بالله وآلائه ، والجاعلين له شركاء في خلقه ، وقال لهم بكل بساطة ، وبأبلغ حجة : ان الإله المعبود يجب أن يكون خالقا غير مخلوق ، وأنتم أيها المشركون تعبدون مخلوقا غير خالق (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) وأيضا من شروط المعبود أن يكون حيا لا جمادا ، ومعبودكم جماد لا حياة فيه.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). وهذه الجملة يتضح معناها من السؤالين التاليين وجوابيهما :

السؤال الأول : ان واو يشعرون ويبعثون تستعمل في العاقل ، والمشركون يعبدون الأصنام ، فكيف أطلق ضمير العاقل على غير العاقل ، ومثله ضمير (هم) في الآية السابقة؟.

الجواب : ان هذا الاستعمال جاء على وفق عقيدة المشركين الذين يعتقدون بأن الأصنام تعقل وتشعر .. وأي ضير في هذا الاستعمال وأمثاله ما دامت المسألة مسألة ألفاظ وعبارات.

السؤال الثاني : ان الأصنام لا تبعث ، فكيف قال سبحانه : وما يشعرون أيان يبعثون؟.

وأجاب بعض المفسرين بأن ضمير يشعرون يعود الى الأصنام ، وضمير يبعثون الى المشركين ، وعليه يكون المعنى ان الأصنام لا تعلم متى يبعث المشركون من قبورهم ، وإذا لم تعلم الأصنام ذلك ، فكيف تكون أهلا للعبادة؟.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).


ذكر سبحانه في هذه الآية وصفين لمنكري الآخرة : الأول ان قلوبهم قد أنكرت وجحدت اليوم الآخر ، وهم من أجل ذلك لا يعملون أي شيء طمعا في ثواب الله ، أو خوفا من عقابه .. وانما يعملون على أساس الربح والمنفعة في هذه الحياة الدنيا. الوصف الثاني الذي وصفهم الله به في هذه الآية انهم ينفرون من الحق ولا ينقادون له علوا واستكبارا.

(لا جَرَمَ) ليس من شك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). انه تعالى يعلم ان انكارهم كان علوا واستكبارا ، وهو يكره الذين يستنكفون عن الخضوع للحق ، ويعاقبهم بما يستحقون.

قالوا اساطير الأولين الآية ٢٤ ـ ٢٩ :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))


اللغة :

أساطير جمع أسطورة واسطارة ، وهي الشيء المسطور في الكتب من غير دليل على صحته. والأوزار الآثام. والقواعد جمع قاعدة والمراد بها هنا الدعامة. والسّلم الاستسلام. والمثوى مكان الثواء والاقامة.

الإعراب :

ما ذا يجوز أن تكون كلمتين ما للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء وذا خبر بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون كلمة واحدة بمعنى أي شيء ومحلها النصب بأنزل. وأساطير خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أساطير والذي أنزله أساطير. وليحملوا مضارع منصوب بأن مضمرة والمصدر المنسبك مجرور باللام متعلقا بقالوا ، واللام هنا معناها العاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب. أي كان عاقبة قولهم حمل الأوزار. وساء ما يزرون أعربها النحاة والمفسرون كما أعربوا بئس ونعم وما بعدهما ، وذكرنا ذلك في ج ٣ ص ١٨٨. والذي نراه ان ما مصدرية والمصدر المنسبك منها ومن يزرون فاعل ساء أي ساء وزرهم. والذين تتوفاهم نعت للكافرين. وظالمي أنفسهم حال من ضمير تتوفاهم. وخالدين حال من واو ادخلوا. وفلبئس اللام للتأكيد ، وبئس فعل ذم ، وفاعلها مستتر أي بئس المثوى ، ومثوى المتكبرين تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم وهي مبتدأ وجملة بئس وفاعلها خبر.

المعنى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). في الآية السابقة ذكر سبحانه ان الذين أنكروا الآخرة إنما أنكروها علوا واستكبارا عن الخضوع للحق ، وفي هذه الآية حكى عنهم انهم ينعتون القرآن بالخرافات والأساطير .. وفي آيات أخرى حكى انهم ينعتون محمدا تارة بأنه مجنون ، وتارة بأنه شاعر أو كاهن ،


وثالثة بأنه ساحر ، وغرضهم الأول تضليل الناس عن الحق الذي يكشف عن عيوبهم ، ويظهرهم على حقيقتهم .. وقد ذكر الله سبحانه هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله في العديد من آياته ، ووصفهم تارة بأنهم يبغونها عوجا ، وأخرى بأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. وهددهم سبحانه في الآية ١٣ من سورة العنكبوت بقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) وفي معنى هذه الآية الآية التالية :

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ). لقد ضلوا وأضلوا ، وبضلالهم يحملون ذنوبهم كاملة أي لا يغفر الله منها شيئا ، وباضلالهم يحملون الكثير من ذنوب الذين أضلوهم وأفسدوهم. وفي الحديث : «أيما داع دعا الى الهدى فاتبع ـ أي تبعه الناس على ضلاله ـ كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء». فيزاد في عذاب التابعين.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أتى الله على حذف مضاف أي أتى أمر الله بنيانهم ، وهو الهلاك ، والمراد بالبنيان والقواعد والسقف تشبيه أعمالهم بذلك ، والمعنى ان المشركين الأول دبروا المكائد والحيل ضد أنبياء الله ورسله ، فأبطلها الله جميعا ، بل كانت السبب في هلاكهم ودمارهم ، تماما كالذي بنى بيتا وأحكم بنيانه وقواعده ، حتى إذا سكنه واطمأن فيه انهار عليه من الأساس ، وأصبح أعلاه في أسفله. وهذه هي بالذات نهاية كل من عاند الحق ، وبث ضده الافتراءات والدعايات الكاذبة ، سواء أجاء الحق على لسان محمد (ص) أو لسان غيره.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ). المراد بالخزي هنا عذاب النار : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ـ ١٩٢ آل عمران» (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِم). القائل هو الله ، والمقول لهم المشركون ، وتشاقون فيهم معناه تخاصمون في شأن الأصنام ، لأن المشركين كانوا يعبدونها ويدافعون عنها ، ويخاصمون من يشتمها أو يذكرها بسوء ، ويقولون : انها تشفع لنا ، وتقربنا من الله زلفى ..


فإذا وقفوا غدا بين الله يسألهم عنها ، ويقول موبخا ومهددا : أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟. وإذا لم يكن شيء من العذاب الا هذا السؤال من العزيز الجبار لكفى.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالحق وعملوا به : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ). والمراد بالكافرين هنا كل من عاند الحق واستنكف عن الخضوع له ملحدا كان أو غير ملحد ، لأن الاثنين الى جهنم وساءت مصيرا.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ظلموا أنفسهم لأنهم ماتوا على الكفر والضلال (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) استسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم الاستسلام والانقياد. وكذبوا بقولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ). ولذا رد سبحانه عليهم بقوله : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من المظالم والمآثم ، واليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تفترون.

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ). وكل من رفض العمل بالحق فهو عند الله من المتكبرين ، سواء انتمى الى الإسلام أم إلى أي دين من الأديان ، ونهايته الخلود في جهنم ، أما أبوابها فقد سبق الكلام عنها عند تفسير الآية ٤٤ من سورة الحجر.

قالوا خيراً الآية ٣٠ ـ ٣٤ :

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ


كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

اللغة :

ينظرون ينتظرون. وحاق بهم أحاط بهم.

الإعراب :

ما ذا بمعنى أي شيء ، ومحلها النصب بأنزل. وخيرا مفعول لفعل محذوف أي أنزل ربنا خيرا. للذين أحسنوا خبر مقدم ، وحسنة مبتدأ مؤخر ، والجملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون بدلا من خير. وجنات عدن مخصوصة بالمدح بنعم. وجملة يدخلونها حال ، ويجوز أن تكون جنات عدن مبتدأ ويدخلونها خبرا ، والجملة مستأنفة ، والمخصوص بالمدح محذوف. وطيبين حال من ضمير تتوفاهم. وجملة يقولون حال من الملائكة.

المعنى :

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً). بعد أن ذكر سبحانه المشركين الذين وصفوا القرآن بالخرافات وأساطير الأولين ذكر في هذه الآية المؤمنين ، وانهم إذا سئلوا عن القرآن ذكروه بالتقديس والتعظيم ، ونعتوه بما نعته الإمام علي في نهج البلاغة : «ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات الا به».

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). هذه الجملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها ، وقيل : بل هي من كلام المتقين ، وانها بدل من خير. والمعنى واحد


على التقديرين ، وهو ان الله سبحانه يجزي المحسنين خيرا في الدنيا ، ولو بالذكر الجميل (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من نعيم الدنيا المشوب بالهمّ والكدر ، والمحدود كما وكيفا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) لأنها دار الهناء الدائم الذي لا تشوبه شائبة من همّ وعناء.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ). لا يدخل هذه الجنة العظمى الا المتقون ، وهم الذين جاهدوا لنصرة الحق ، وصبروا لتحمّل الأذى من أجله ، وقد نص القرآن بوضوح على هذا التحديد للمتقين في الآية ١٤٢ من سورة آل عمران : «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين». أنظر ج ٢ ص ١٦٥ ، وج ١ ص ٢٤٢ فقرة «ثمن الجنة».

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) في مقاصدهم ، وطيبين في أفعالهم وأقوالهم ، وبالخاتمة يقاس الإنسان ، والسعيد من فارق هذه الحياة والله راض عنه ، ويشهد له بأنه من الطيبين الأخيار (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ضمير يقولون للملائكة ، وخطاب عليكم للمؤمنين المتقين .. تسلم ملائكة الرحمة على الطيبين عند الموت ، وتبشرهم بالجنة ، ليطمئنوا ويستبشروا بما أعد الله لهم من الكرامة وعظيم المنزلة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). مر نظيره في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٨٩ (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). هذا تذكير وتحذير للذين كذبوا محمدا (ص) أن يصيبهم ما أصاب الأمم الخالية الذين كذبوا رسلهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) .. حاشا .. كيف؟ .. وقد نهى عن الظلم ، ونعت الظالمين بالضلال في الآية ١١ من سورة لقمان «بل الظالمون في ضلال مبين». ولعنهم في الآية ٤٤ من سورة الأعراف : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، وأوضحها جميعا الآية ٤٤ من سورة يونس : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). كرر سبحانه لفظ الناس دفعا لكل شبهة ، ولولا قول الأشاعرة ـ أي السنة ـ : ان الإنسان مسيّر ، لا مخيّر لكنا في غنى عن هذا التطويل أو التأكيد الذي هو أشبه بتوضيح الواضحات.


(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). أنكر المشركون رسالة محمد (ص) وسخروا منه ومنها ، وصدوا الناس عنها. وسيلاقون ثمرة أعمالهم بالقسط ، وهم لا يظلمون ، بل ان الكثير منهم لاقى جزاء عمله في الدنيا قبل الآخرة.

وقال الذين أشركو الآية ٣٥ ـ ٣٧ :

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

الإعراب :

ان اعبدوا (ان) مفسرة بمعنى أي. فمنهم خبر مقدم ومن هدى مبتدأ مؤخر ، ومثله ومنهم من حقت. وكيف خبر مقدم لكان ، وعاقبة اسمها.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا


وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ). سبق نظيره مع التفسير في الآية ١٤٨ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٧٧.

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). هذا هو مبدأ الطغاة في كل زمان ومكان ينكرون الحق ويحاربون المحقين ، ثم يحيلون ذلك الى مشيئة الله (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) هذه هي مهمة الرسل تبليغ الأوامر والنواهي عن الله تعالى ، أما العمل بها فليس من وظيفتهم في كثير أو قليل. وسبق هذا المعنى في كثير من الآيات.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). تدل هذه الآية على ان الله سبحانه قد أرسل لكل أمة في كل قرن وقطر رسولا يأمرها بعبادة الله وحده ، وينهاها عن عبادة غيره صنما كان أو كوكبا أو إنسانا ، أو أي شيء ، وليس من الضروري ان يكون هذا الرسول بشرا ، فان العقل رسول من الداخل ، كما ان النبي رسول من الخارج. انظر «الله والفطرة» ج ٣ ص ١٨٨.

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ). المراد بالضلالة هنا كلمة العذاب ، مثلها في قوله تعالى : (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) ـ ٢٩ الأعراف» .. أرسل الله سبحانه رسلا مبشرين ومنذرين ، فآمن قوم وكانوا من المهتدين المقربين عند الله ، وكفر آخرون وكانوا من المبعدين المعذبين (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). الخطاب موجه الى مشركي قريش الذين كذبوا محمدا (ص) ، وقد أمرهم الله بأن ينظروا آثار غضبه وعذابه فيمن كذبوا رسلهم من الأمم الماضية ليعتبروا ويتعظوا ، وتكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات ، منها الآية ١٣٧ من آل عمران ج ٢ ص ١٥٩.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). ليس من شك ان رسول الله (ص) يحرص على هداية كل الناس بخاصة قومه قريشا ، ولكن مجرد حرص النبي ليس سببا لوجود الهداية ، وانما السبب هو رغبة الإنسان في الهدى وقدرته عليه ، كما ان السبب لوجود الضلال رغبته فيه وقدرته عليه ، وأقر الله سبحانه وتعالى كلا من هذين السببين بمعنى انه جلت


حكمته قد جعل رغبة الإنسان في الهدى وقدرته عليه نتيجة طبيعية لهدايته ، وأيضا جعل رغبته في الضلال وقدرته عليه نتيجة طبيعية لضلاله ، تماما كشرب السم المؤدي الى التهلكة ، وتجنب المخاطر المؤدي الى النجاة ، وهذا المعنى هو المراد من نسبة الهدى والضلال اليه تعالى في هذه الآية ، وأمثالها .. ومن قال : ان الله يخلق الهدى والضلال في الإنسان خلقا فهو بحكم المشركين الذين حكى الله قولهم في الآية السابقة : «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا». تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وأقسموا بالله الآية ٣٨ ـ ٤٢ :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

اللغة :

الجهد بفتح الجيم التعب ، يقال : جهد في الأمر أي اجتهد فيه وتعب ، وأقسموا جهد ايمانهم أي بالغوا في اليمين واجتهدوا ، والجهد بضم الجيم الاستطاعة يقال : بذل جهده وجهوده أي استطاعته ، وكل ما يطيق. وبوّأ المكان حل فيه ، وبوأه وبوأ له المكان هيأه له وأنزله فيه.


الإعراب :

جهد ايمانهم مفعول مطلق لأقسموا لأن جهد الايمان أغلظها ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي جاهدين في ايمانهم. وبلى حرف جواب ، وتختص بالنفي أو ما في حكمه كالاستفهام ، وتفيد إبطال النفي واثبات المنفي. وعدا منصوب على المصدرية ، ومثله حقا أي وعد وعدا ، وحق حقا. ليبين منصوب بأن مضمرة ، والمصدر مجرور باللام ومتعلق بفعل محذوف أي يبعثهم من أجل البيان والافهام ، ومثله ليعلم. وانما قولنا (انما) مركبة من كلمتين انّ وما الكافة عن العمل ، وقولنا مبتدأ ، ولشيء متعلق بقولنا ، وإذا ظرف زمان أي وقت ارادتنا ، وهو متعلق بقولنا. والمصدر من أن نقول له كن خبر المبتدأ ، وكن هنا تامة ، ومثلها فيكون ، وجملة فيكون خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يكون.

المعنى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ). في الآية ٢٠ من هذه السورة قال تعالى للمشركين : انكم تعبدون مخلوقا غير خالق ، وفي الآية ٢٤ حكى عنهم القول : انهم يصفون القرآن بأساطير الأولين ، وفي الآية ٣٥ ذكر سبحانه انهم أسندوا شركهم وشرك آبائهم الى الله ، وقال تعالى في الآية التي نفسرها : ان المشركين ينكرون البعث ، ويقسمون الايمان المغلظة ، ويجتهدون فيها انه من مات فات لأن الشيء متى تفرقت أجزاؤه فلن يعود ثانية كما كان .. وتكلمنا عن ذلك فيما سبق مرات. أنظر : طرق متنوعة لاثبات المعاد ج ٢ ص ٣٩٦. والماديون والحياة بعد الموت عند تفسير الآية ٥ من سورة الرعد.

(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). كان المشركون يؤمنون بوجود الله ووجود الشركاء له ، وينكرون البعث ، ولأنهم يؤمنون بوجود الله جاء الرد عليهم بأن البعث واقع لا محالة ، لأن الله الذي يؤمنون به هو الذي وعد بالبعث ووعده الحق وقوله الصدق .. أما جمع الأجزاء بعد تفرقها فأهون عليه من خلقها وإيجادها ، لأن من أوجد شيئا من لا شيء فبالأولى أن يوجده من أجزاء متفرقة.


(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ). ان في البعث حكما عديدة : منها تمييز الخبيث من الطيب ، والمحسن من المسيء ، وجزاء كل بما يستحق ، ومنها ان الله سبحانه يبين للخلائق الحق الذي اختلفوا فيه كالتوحيد والنبوة والحلال والحرام (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) ومنها أيضا أن يعلم الذين أقسموا ان الله لا يبعث أحدا ، ان يعلموا ويتأكدوا انهم كانوا كاذبين في ايمانهم.

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). بدأ الله الخلق بكلمة كن ، ويعيده أيضا بهذه الكلمة : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ـ ٢٧ الروم».

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً). هذه الآية تنطبق تماما على المهاجرين من صحابة رسول الله (ص) الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرته ، وفارقوا الدنيا والأهل والمال فرارا بدينهم ، واتباعا لنبيهم ابتغاء مرضاة الله ورسوله ، أما الحسنة التي منحهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة فهي ديارهم وأملاكهم الجديدة بالمدينة فإنها خير وأفضل من ديارهم بمكة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من الدنيا وما فيها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). ضمير كانوا ويعلمون يعودان الى المشركين الذين أنكروا البعث ، أما المؤمنون وبخاصة صحابة الرسول (ص) فإنهم يعلمون علم اليقين ان ثواب الآخرة أكبر وأعظم. وتكلمنا عن الهجرة والمهاجرين في ج ٢ ص ٤١٩ وما بعدها ، وعن المهاجرين والأنصار في ج ٣ ص ٥١٠ وما بعدها.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). ان للمؤمن الحق صفات وعلامات ، وأهمها انكار الذات ، والتضحية في سبيل الله ، والصبر على تحمّل الأذى والمشاق من أجل احقاق الحق ، وإبطال الباطل ، والتوكل على الله وحده ، لا على المال والجاه والأنساب تماما كما كان صحابة الرسول الأعظم (ص).

فأسألوا أهل الذكر الأية ٤٣ ـ ٥٠ :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ


كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

اللغة :

الزبر بضم الزاء الكتب ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ـ ١٩٦ الشعراء». والواحد زبور ، ويقال زبرت الكتاب أي كتبته ، والزبور بفتح الزاء الزجر. وفي تقلبهم أي في تصرفاتهم وذهابهم وإيابهم. ومن معاني التخوف التنقص أي جعل الشيء ناقصا ، وفي مجمع البيان : «قال أكثر المفسرين : معنى على تخوّف على تنقص اما بقتلهم واما بموتهم». ويتفيأ من الفيء ، يقال : فاء الظل إذا رجع وعاد. وداخرون صاغرون. ومن فوقهم كناية عن قدرة الله وعظمته تماما كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ـ ١٨ الأنعام».

الإعراب :

بالبينات متعلق بنوحي اليهم ، وقيل بفعل محذوف أي أرسلنا الرسل بالبينات


والزبر. والمصدر من أن يخسف مفعول أمن. وما خلق الله (ما) اسم موصول. ومن شيء يتفيأ ظلاله بيان لما خلق الله أي ان المراد من (ما) كل ما له ظل. وسجدا حال من الظلال.

المعنى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ). أنكر المشركون نبوة محمد ، وقالوا : ما بعث الله بشرا رسولا .. فأبطل الله زعمهم بأن جميع الأنبياء والرسل السابقين كانوا رجالا يوحى اليهم ، كنوح وابراهيم وإسماعيل وموسى وغيرهم ، لأن الغرض من إرسال الرسل لا يتحقق الا إذا كان الرسول من جنس المرسل اليهم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ـ ٤ ابراهيم» : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) ـ ٩٥ الاسراء» .. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) المراد بأهل الذكر أهل العلم المنصفون ، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم غيرهم ، والمعنى ان كنتم أيها المشركون في ريب من قولنا فاسألوا العارفين يخبروكم ان جميع الأنبياء بشر.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) أي أرسل الله الرسل الى الناس بالبينات ، وهي الدلائل والبراهين ، وبالزبر ، وهي الكتب التي فيها بيان الدين عقيدة وشريعة (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). الخطاب لمحمد (ص) ، والمراد بالذكر هنا القرآن ، ومن الواضح ان الغاية من إرسال الرسل ، وانزال الكتب هداية الناس الى الحق والعدل ، والى حياة الأمن والرخاء ، وقوله : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) معناه لعلهم يتدبرون القرآن ويدركون أسراره وأهدافه ، ويعلمون انه أنزل لخيرهم ومصلحتهم.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ). قال المفسرون : المراد بالذين مكروا هنا مشركو قريش لأنهم هم الذين أساءوا إلى النبي (ص) ، ودبروا ضده الحيل والمؤامرات. وقد خوفهم سبحانه بأربعة أنواع من العذاب :

١ ـ (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ). كما فعل بقارون : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ


الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) ـ ٨١ القصص».

٢ ـ (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ). فيهلكهم الله بغتة كما فعل بقوم لوط.

٣ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ). يهلكهم في حال اشتغالهم وكدهم في الأرض للرزق.

٤ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ). قال أكثر المفسرين ـ والعهدة على الطبرسي ـ : ان المراد بالتخوف هنا التنقص ، وعليه يكون المعنى ان الله سبحانه لا يهلكهم دفعة واحدة ، بل يبتليهم بنقص من الأنفس والأموال شيئا فشيئا ، حتى يأتي على آخرهم. (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ومن رأفته ورحمته أن لا يعجل للعصاة ما يستحقونه من العقوبة أملا بتوبتهم وهدايتهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ضمير يروا يعود إلى الذين مكروا السيئات المذكورين في الآية السابقة ، ويجوز أن يعود الى كل معاند ، لأن الله سبحانه يقول موبخا : ألم ينظر الجاحدون المعاندون الى ما خلق الله؟. والمراد بقوله : (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) كل شيء له ظل وخيال كالجبال والأشجار والحيوان والعمار ونحو ذلك ، أما قوله عن اليمين والشمائل فإنه يشير الى جانبي الشيء الذي له ظل ، لأن ظل الشيء يكون الى جهة من شروق الشمس إلى زوالها أي الظهر ، ثم يتحول الظل إلى جهة ثانية من الظهر الى الليل ، فعبّر سبحانه باليمين عن الجهة الأولى ، وبالشمائل عن الجهة الثانية ، ومثله قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ـ ١٥ الرعد». أما قوله : سجدا لله فهو كناية عن الخضوع والانقياد.

وداخرون أي صاغرون.

وتسأل : لما ذا قال تعالى : اليمين والشمائل ، فأفرد اليمين وجمع الشمائل ، ولم يساو بينهما جمعا أو إفرادا؟.

وأجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أقربها ان من أساليب البلاغة عند العرب إذا ذكروا معنيين للجمع ان يعبروا عن أحد المعنيين بلفظ الواحد ، وعن المعنى الآخر بلفظ الجمع ، كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ).


والخلاصة ان الله سبحانه بعد أن هدد وتوعد المشركين والمعاندين قال في هذه الآية : ان كل ما في الكون ـ غير المشركين والمعاندين ـ هو خاضع ومنقاد لأمره.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). كل المخلوقات والكائنات العلوية والسفلية تدل دلالة واضحة على وجود صانعها وباريها ، وعلى قدرته وعلمه وحكمته ، وهذه الدلالة هي بطبعها تسبيح وتمجيد وسجود وركوع للبارئ المصور ، وهذا هو معنى سجود الكائنات ـ غير العاقلة ـ وهو أيضا المراد من قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ ٤٤ الاسراء». والغرض من ذكر الدابة والملائكة بعد ذكر ما في السموات وما في الأرض هو بيان الشمول لجميع المخلوقات بشتى أنواعها. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١٣ و ١٥ من سورة الرعد.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). تدل هذه الآية صراحة على ان من آمن بالله خافه وأطاع أمره ونهيه ، وتدل ضمنا وتلويحا على ان من يعصي الله ، ثم يدعي الايمان به ، والخوف منه فهو كاذب في دعواه.

انما هو إله واحد الآية ٥١ ـ ٥٥ :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))


اللغة :

الواصب الدائم ، يقال : واصب على الشيء وواظب عليه إذا داوم ، وقيل : معنى الواصب هنا الواجب. والجؤار الاستغاثة برفع الصوت ، وتجأرون ترفعون أصواتكم مستغيثين.

الإعراب :

اثنين تأكيد لإلهين. واياي مفعول مقدم لارهبون. وله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر ، وواصبا حال من الدين والعامل بالحال خبر المبتدأ المحذوف. وما بكم (ما) اسم موصول مبتدأ ، وبكم صلة ، ومن نعمة حال من ضمير بكم ، فمن الله خبر لمبتدأ محذوف أي فهو من الله ، والجملة خبر (ما) الموصولة. وإذا فريق (فريق) فاعل لفعل محذوف أي فإذا يشرك فريق منكم.

المعنى :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). من القواعد المعروفة عند الفقهاء : ان الضرورة تقدّر بقدرها ، وان ما زاد عن الحاجة والضرورة فهو لغو .. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها على شريك الباري ، وذلك بأن فرض وجود مدبر حكيم أمر محتوم لا مفر منه في نظر العقل ، حيث لا يمكن تفسير الكون ، وتعليل ما فيه من نظام وانسجام إلا بوجود مدبر حكيم ، ومع هذا الفرض لا يبقى أي داع لفرض إله آخر في نظر العقل ، بل العقل يرفضه ويأباه. انظر دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة في ج ٢ ص ٣٤٤ .. ثم ان لوحدانية الله آثارا ولوازم أشار سبحانه الى بعضها بقوله :

١ ـ (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون معارض ومنازع لأنه هو خالق السموات والأرض وما فيهما.

٢ ـ (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً). المراد بالدين هنا الانقياد والطاعة ، ومعنى


الواصب الدائم ، وإذا كان الله خالق كل شيء ومالك كل شيء وجب الثبوت والاستمرار في طاعته دون سواه.

٣ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) لأنه خالق كل شيء مباشرة وبكلمة كن ، أو بالواسطة.

(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). المؤمن الحق يثق بالله ويعتمد عليه في جميع الأحوال : أما التاجر فيلجأ اليه ساعة العسرة ، ويتجاهله عند الميسرة ، ومر نظير هذه الآية مع التفسير في سورة يونس الآية ١٢.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ). المراد بالكفر هنا كفران النعم ، ومنها كشف الضر ، واللام في ليكفروا للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب ، والمعنى ان الله أنعم عليهم ، فكانت نتيجة انعامه وتفضله كفرانهم بأنعمه (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبتكم الوخيمة ، وتندمون حيث لا ينفع الندم.

ويجعلون لله البنات الآة ٥٦ ـ ٦٠ :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))


اللغة :

يستعمل القرآن كلمة البشارة في الخبر السار والخبر المؤلم ، قال في الآية ٢٥ من سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ). وقال في الآية ٣ من سورة التوبة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكظم غيظه حبسه ، والكظيم المغموم الممتلئ غيظا ، ولكنه لم يبده. ويتوارى يستخفي. والهون الهوان والذل. والمثل الصفة.

الإعراب :

ولهم ما يشتهون (لهم) خبر مقدم ، وما يشتهون مبتدأ مؤخر. وظل من أخوات كان ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ووجهه اسمها ، ومسودا خبرها. وهو كظيم حال من الوجه أو من صاحبه. وعلى هون متعلق بمحذوف حالا من فاعل يمسكه.

المعنى :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ). واو الجماعة في يجعلون للمشركين. ولما لا يعلمون (ما) اسم موصول ، والمراد بها الأصنام ، والواو في لا يعلمون تعود الى الأصنام تنزيلا لها منزلة العاقل ، كالواو و (هم) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ ٢٠ النحل» ، وجاء هذا التنزيل والاستعمال وفقا لعقيدة المشركين ، والمعنى ان المشركين جعلوا نصيبا من أموالهم للأصنام التي هي جماد لا علم له ولا شعور ، ويجوز أن تكون واو يعلمون للمشركين مثل واو يجعلون ، ويكون المعنى ان المشركين جعلوا نصيبا من أموالهم للأصنام ، وهم يجهلون ان الأصنام لا نصيب لها في أموالهم ولا في غير أموالهم .. ولكن في ارادة هذا المعنى شيء من التكلف لحاجته الى تقدير كلام محذوف .. ومر نظير هذه الآية في سورة الأنعام الآية ١٣٦ ج ٣ ص ٢٦٩.


(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ). سمعوا ان لله ملائكة ، فتوهموها إناثا بل بناتا لله تعالى عما يصفون ، فأضافوا اليه ما يكرهونه لأنفسهم ، ولهم البنون الذين يحبون ، قال تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) ـ ٤٠ الاسراء». وفي بعض التفاسير ان العرب الذين اعتقدوا هذا هم خزاعة وكنانة.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). هذا كناية عن شدة همه وحزنه بالبنت ، وتقول العرب لمن لقي مكروها : اسود وجهه. وعلى الرغم من ان هذه عادة جاهلية ، وقد ندد بها القرآن وسفّه أهلها ـ فإن كثيرا من المسلمين يكرهون البنات ، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى.

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ). كان الرجل في الجاهلية إذا ظهرت آثار الطلق بامرأته اختفى الى أن يعلم بالمولود ، فإن كان ذكرا ظهر وابتهج وان كان أنثى حزن ، وفكّر ما ذا يصنع بهذا المولود المشئوم : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ)؟. فيبقيه متحملا المذلة والمهانة (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) حيا؟. ويروى ان بعض العرب كانوا يدفنون البنات وهن أحياء ، وبعضهم كانوا يرمونها من شاهق ، وآخرون يذبحونها ، ومنهم من كانوا يغرقونها ، إما للغيرة والحمية ، وإما خوفا من الفقر والاملاق كما أشارت الآية ١٥١ من سورة الأنعام : «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم». أنظر ج ٣ ص ٢٧١ و ٢٨٣.

وروي ان رجلا قال : يا رسول الله : ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها إليّ ، فانتهيت بها الى واد بعيد القعر ، فألقيتها فيه ، فقالت : يا أبتي قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء ..

وقد يظن ان الدافع على هذه القسوة الجهل وتخلّف البيئة عن الحضارة والمدنية ، ولكن نحن الآن في عصر الفضاء ، ومع هذا يلقي المستعمرون والصهاينة قنابل النابالم في فيتنام وفلسطين على الشيوخ والأطفال والنساء .. يلقونها لا للغيرة والحمية ولا خوفا من الفقر والاملاق ، بل لزيادة الأرباح ، وتكديس الثروات وتراكمها ، فأي الفريقين أقبح وأسوأ؟ أهل الجاهلية ، أو المستعمرون والصهاينة في عصر


العلم والاشعاع؟. (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ويخترعون ويفعلون. ونحن على يقين ان كل من لجّ وتمادى في الغي ستدور عليه في النهاية دائرة السوء.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). المثل الصفة ، وللطغاة صفة السوء ، وهي الظلم والسلب والفساد ، وقتل الأطفال والأبرياء ، ولله الصفة العليا ، وهي الوحدانية والعدل والعظمة ، وجميع صفات الجلال والكمال. وتجدر الاشارة الى أن الغرض من ذكر الله تعالى مع ذكرهم هو الرد على قولهم : لله البنات ولهم البنون.

انما يعجل من يخاف الموت الآية ٦١ ـ ٦٤ :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

اللغة :

مفرطون بفتح الراء مع تخفيف الطاء أي معجلون ، وبكسر الراء مع التخفيف من الافراط أي متجاوزون الحد ، وبكسر الراء مع التشديد من التفريط أي مقصرون.


الإعراب :

ضمير عليها عائد الى الأرض ، وهي مفهومة من سياق الكلام ، ولفظ دابة يشعر بها. والكذب مفعول تصف. والمصدر من ان لهم بدل من الكذب فكأنه قال : وتصف ألسنتهم ان لهم الحسنى ، ويجوز أن يكون مجرورا بباء محذوفة أي بأن لهم الحسنى. والمصدر من ان لهم النار مجرور بفي محذوفة أي لا شك في ان لهم النار. ولتبين منصوب بأن مضمرة والمصدر المجرور متعلق بأنزلنا ، وهو بمعنى المفعول من أجله ، وهدى ورحمة مفعول من أجله ، أي وأنزلنا عليك الكتاب هدى ورحمة.

المعنى :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ). ظلم الإنسان خالقه بجحوده له ، وبنسبة الشريك والولد اليه ، وأيضا ظلم الإنسان القوي أخاه الضعيف ، فاستعبده وسلبه قوته ومصدر حياته ، وأيضا ظلم نفسه بالكبرياء والطغيان والغرور ، ومع هذا لم يعاجل الله العاصين بالعقوبة ، ولما ذا يعاجل؟. هل يخشى الفوت ، أو يتعجل التشفي ، أو يخاف التوبة من العصاة ، وهو الذي أمرهم بها ، وحثهم عليها؟. وقيل : إنما أخرهم ليراجعوا التوبة. وليس هذا ببعيد عن حلمه وكرمه ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ـ ٥٨ الكهف».

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). تقدم تفسيره في ج ٢ ص ١٧١ فقرة : «الأجل محتوم».

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) وهو قولهم : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي الجنة. وافتروا على الله بأن له شركاء وبناتا ، ثم كذبوا بأن لهم عنده الجنة فكذبّهم سبحانه بقوله : (لا جَرَمَ) لا شك في (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي معجلون اليها.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا) ـ رسلا ـ : (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد ، فلم يستجيبوا


لرسلهم ، وأعرضوا عنهم وآذوهم ، كما أعرض عنك وآذاك مشركو قريش ، فهوّن عليك ولا تحزن (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) وهي كفر وضلال ، وطغيان وفساد (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). لقد تولى الشيطان أمور الطغاة في الحياة الدنيا بعد أن أسلموه الزمام ، فقادهم إلى المآثم والمهالك ، وكان جزاؤه وجزاؤهم عند الله جهنم وساءت مصيرا. قال الامام علي (ع) : «ان أجل الإنسان مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشيطان موكل به ، يزين له المعصية ليركبها ، ويمنيه التوبة ليسوفها ، حتى تنجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها» أي يموت على الضلال والمعصية ، وهذه هي ميتة السوء بالذات.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). الخطاب لمحمد (ص) والكتاب القرآن ، وهو هدى لمن طلب الهداية ورحمة لمن أرادها ، وهو الحكم الفصل في كل عقيدة وشريعة ، وكل قول وفعل .. اللهم اجعلنا من المستمسكين بعروته ، والمهتدين بهدايته.

والله أنزل من السماء ماء الآة ٦٥ ـ ٦٩ :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))


اللغة :

العبرة العظة. الفرث ما يبقى من المأكول في الكرش بعد الهضم ، ويسمى بالثفل أيضا. السائغ ما سهل مروره في الحلق. وللسكر معان منها الخمر. ويعرشون يرفعون من الكروم والسقوف. والذلل جمع الذلول ، وهو الطائع المنقاد.

الإعراب :

أعاد سبحانه على الأنعام ضمير التأنيث في الآية ١٣٨ من سورة الأنعام : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا). فكيف أعاد سبحانه الضمير على الأنعام هنا مذكرا حيث قال : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)؟. وأجابوا عن ذلك بأن الضمير هنا يعود الى بعض الأنعام وهو الإناث لأن الذكور لا لبن فيها. أما في سورة الأنعام فإن الضمير يعود اليها جميعا ، لا الى بعضها دون بعض. ومن ثمرات النخيل على حذف مضاف أي عصير ثمرات النخيل والأعناب ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أي نسقيكم من عصير ثمرات النخيل ، وضمير منه في «تتخذون منه» يعود الى العصير. أن اتخذي (أن) مفسرة بمعنى أي. وذللا حال من السبل ، أو من ضمير اسلكي العائد الى النحل.

المعنى :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر وتعقل للماء وفوائده ، وهذه الآية والتي بعدها من الآيات الكونية التي كررها القرآن بقصد التنبيه الى دلائل التوحيد والبعث ، ومرت هذه الآية بسورة البقرة الآية ٢٢ و ١٦٤ ، وسورة الأنعام الآية ٩٩ ، وسورة الرعد الآية ١٩ ، وسورة ابراهيم الآية ٣٢ ، وبالسورة التي نفسرها الآية ١٠.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ). ذكر سبحانه بعض فوائد الأنعام في الآية ١٤٢ من سورة الأنعام : «ومن الأنعام حمولة وفرشا» وقال في الآية ٨٠ من سورة النحل ،


وهي السورة التي نفسرها : «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين». وأجمع الآيات لفوائد الأنعام ما مر مع التفسير في أول هذه السورة ، وهو قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

وذكر ، جلت حكمته ، هنا من فوائد الأنعام اللبن بالخصوص ، وقال : انه يخرج من بطون بعض الأنعام أي الإناث ـ أنظر فقرة «الإعراب» ـ وانه مستخلص من بين فرث ودم ، والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم ، ويقول العارفون : ان الحيوان يأكل النبات ، وبعد الهضم تطرد امعاؤه الفضلات الضارة الى الخارج ، وتمتص العصارة النافعة التي تتحول الى دم يسري في العروق والغدد حتى إذا وصل بعض هذا الدم الى الغدد التي في الضرع تحوّل الى لبن خالص سائغ للشاربين.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). الظاهر من السكر هنا كل شراب مسكر خمرا كان أو غيره .. ولكن الآية لا تومئ من قريب أو بعيد الى حكم المسكر ، وانه كان حين نزول هذه الآية حلالا أو حراما ، وانما حكت الآية عن عادة الناس من انهم يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب شرابا مسكرا ، أما الرزق الحسن فالمراد به التمر والرطب والزبيب والعنب والخل والرب ، وما إلى ذلك. وجاء في بعض الروايات ان المقصود بالسكر في الآية ما كان حراما وبالرزق ما كان حلالا .. وتكلمنا مفصلا عن الدليل على تحريم الخمر عند تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٢٨. وفي الجزء الرابع من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ، باب الأطعمة والأشربة.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) المراد بالوحي هنا الفطرة التي منحها الله للنحل (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي مما يرفع الناس من الكروم ، قال الرازي : النحل نوعان : نوع يسكن في الجبال والغياض ، ولا يتعهده أحد من الناس ، وهو المراد بقوله : «ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن


الشجر» ونوع يسكن بيوت الناس ، ويكون في تعهدهم ، وهو المراد بقوله «ومما يعرشون».

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والزهر والنبات التي تشتهين (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ادخلي الطرق التي ذللها وعبدها الله لك (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وهو العسل تلقيها من الفم كالريق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) بياضا وحمرة وصفرة تبعا للمرعى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) كفقر الدم ، وسوء الهضم ، والتهاب الفم والرئة والمثانة ، وأمراض الكبد ، وما إلى ذلك مما ذكره الأطباء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في خلق الله وما فيه من بدائع وعجائب تدل على وجود حكيم عليم.

وقد وضع أهل الاختصاص المؤلفات في تدبير النحل وتعاونها ونظامها المحكم في عيشها وبناء بيوتها والدفاع عن نفسها ، وأشرنا فيما سبق الى أنه اكتشف مؤخرا ان النحل عند ما ترتفع درجة الحرارة يبدأ البعض منها بنقل الماء في خراطيمه بينما يقوم البعض الآخر برشه داخل الخلية ، ويهز البعض الآخر أجنحته ليصنع تيارات من الهواء ، فيتبخر بسرعة ، ومع التبخر تنخفض درجة الحرارة. وهذا المثال وحده يعني عن كل ما كتب في هذا الباب.

فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية ٧٠ ـ ٧٤ :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ


ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

اللغة :

أرذل العمر أخسه وأحقره ، وهو الهرم. وما ملكت ايمانهم العبيد والمماليك. والحفدة جمع حافد مثل كفرة وكافر ، والحافد والحفيد ابن الابن ، والسبط يكون ابن الابن وابن البنت ، ولكنه غلب على ابن البنت مقابل الحفيد. ورزق السماء المطر ، ورزق الأرض النبات. وفلا تضربوا لله الأمثال أي لا تجعلوا له أشباها ونظائر في شيء.

الإعراب :

فهم فيه سواء مبتدأ وخبر. وشيئا بدل من «رزقا» ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك أو شيئا ملكا.

المعنى :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). للإنسان أدوار وأطوار يمر بها من الطفولة الى المراهقة والشباب ، ومن الشباب الى الشيخوخة والهرم ، ولكل دور سببه الطبيعي المباشر ، ويسند اليه تعالى لأنه خالق الطبيعة والكون .. وأرذل العمر هو الهرم الذي يضعف معه الجسم والعقل والذاكرة ، وبقية الحواس الظاهرة والباطنة ، ومتى ضعف عضو من أعضاء الشيخ أو حاسة من حواسه انتهى أمرها ، ولا يرجى عودتها الى الحال السابقة ، بل تزداد ضعفا ووهنا مع الأيام ، وبالخصوص الذاكرة ، حيث يفقدها


تماما ، ويرجع الى ما كان أيام الطفولة ، حتى كأنه لم يتعلم شيئا من الدروس ، ولا مر بشيء من التجارب.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ). لقد توهم البعض ان ظاهر الآية يدل على ان الرزق هو بقضاء الله وقدره ، وانه تعالى هو الذي جعل هذا غنيا ، وذاك فقيرا .. ولكن الآية بعيدة كل البعد عن هذا المعنى ، لأنها قد جاءت للرد على المشركين ، وتوضيح ذلك ان المشركين جعلوا لله شركاء. فرد عليهم سبحانه بأنكم لا ترضون أيها المشركون أن يكون عبيدكم شركاء لكم في أموالكم ، وأن تكونوا وإياهم سواء في أرزاقكم وأملاككم ، وإذا لم ترضوا لأنفسكم المساواة بينكم وبين عبيدكم فيما تملكون ، فكيف صح في افهامكم أن يكون عبيد الله شركاء له في خلقه؟. فهل شأن الله تعالى دون شأنكم في ذلك؟.

وبكلام آخر ان الله سبحانه احتج عليهم بمنطقهم ومقاييسهم ، وقال لهم : أنتم سادة بزعمكم ، ولكم عبيد لا يملكون معكم شيئا ، لأن العبد لا يملك مع سيده شيئا .. إذن ، بأي منطق قلتم : ان الأصنام أو غيرها من عبيد الله تملك معه أو عنده شيئا؟.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ظاهر في ان التفضيل في الرزق بقضاء الله وقدره؟.

الجواب : لقد كررنا القول : ان اضافة الرزق وغير الرزق الى الله تعالى انما هو من باب اسناد الشيء الى سببه الأول ، ولتنبيه الأذهان الى ان الله هو خالق الكون وما فيه ، وتكلمنا عن الرزق وفساد الأوضاع في ج ٣ ص ٩٤ ، وأيضا تكلمنا بعنوان : «هل الرزق صدفة» في ج ٣ ص ١٣١ ، وبعنوان : «الإنسان والرزق» عند تفسير الآية ٢٦ من سورة الرعد.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً). من جنسكم ، لا من جنس أدنى أو أرفع ، ليتم الانس للجانبين ، ويحصل التعاون والمشاركة في الحياة من كل الجهات ، وأوضح تفسير لهذه الجملة قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ـ ٢١ الروم».

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). بعد أن ذكر سبحانه نعمة الزواج


ذكر نعمة الأولاد ، وهم كالأموال زينة الحياة الدنيا (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا ، كل أولاء بالاضافة إلى الأزواج والأولاد وبعد هذه النعم كلها (أفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ). المراد بالباطل هنا الشركاء ، والايمان بها نسبة النعم اليها بالانفراد أو الاشتراك مع الله (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث يأكلون رزقه ويعبدون غيره.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ). رزق السماء الغيث ، ورزق الأرض النبات والمعادن ، والمراد بما لا يملك رزقا الأصنام ، ومعنى لا يستطيعون ان الأصنام لا تملك بالفعل : وليس لها القدرة والقابلية للتملك. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) بجعل الأشباه له والنظائر : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ـ ١٠ الشورى» (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). ومن أجل علمه تعالى وجهلكم يجب أن لا تفعلوا ولا تقولوا شيئا لا ما علمكم الله بلسان أنبيائه ورسله.

القادر والعاجز الآية ٧٥ ـ ٧٧ :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))


اللغة :

الأبكم الأخرس. والكل الثقل أي ان هذا الرجل لا يكسب شيئا ، بل هو ثقل وحمل على من يعوله ويتولى أمره. والمراد بالساعة هنا الوقت الذي تقوم فيه القيامة.

الإعراب :

عبدا بدل من «مثلا». ورزقا مفعول به لرزقناه لأن المراد بالرزق هنا المال المرزوق ، وليس الحدث الذي هو المصدر بدليل اعادة ضمير منه عليه. ورزقنا بمعنى أعطينا ولهذا تعدت الى مفعولين. وسرا وجهرا مصدران مكان الحال أي مسرين وجاهرين ، أو مكان المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وإنفاقا جهرا. ورجلين بدل من «مثلا» واحدهما مبتدأ وابكم خبر ، والجملة مستأنفة. وأين للاستفهام عن ظرف المكان ، وقد تتضمن معنى الشرط فتجزم فعلين مجردة من (ما) مثل أين تذهب أذهب ، أو ملحقة بها (ما) كما في هذه الآية. وأو هو أقرب أي بل هو أقرب.

المعنى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ). بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة ان المشركين جعلوا لله أشباها وأندادا ـ ذكر هنا مثالين يقرب بهما الى افهام المشركين ان الله لا ند له ولا ضد ، وخلاصة المثال الأول الذي تضمنته هذه الآية ان مثلكم في مساواة هذه الأصنام مع الله أيها المشركون تماما مثل من سوّى بين عبد لا يملك شيئا ، ويعجز عن كل شيء ، وبين حر غني كريم ينفق سرا وعلانية ولا يخشى أحدا على الإطلاق .. وإذا رفض العقل والفطرة هذه المساواة بين هذا الحر القادر وبين ذاك العبد العاجز فكيف صح في افهامكم ان تساووا بين الله القادر على كل شيء ، وبين الأصنام التي ما هي بشيء؟. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) جملة معترضة


القصد منها انه لا أحد يستحق الحمد والشكر والعبودية الا الله وحده (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الحمد لله لا لسواه.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا هو المثل الثاني ، وخلاصته ان الأخرس العاجز الكل لا يكون مساويا للناطق القادر ـ اذن ـ فكيف ساويتم أيها المشركون في العبادة بين الله الجامع لجميع صفات الجلال والكمال وبين الأحجار التي ليست بشيء؟.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). كل سر عنده تعالى علانية ، وكل غيب عنده شهادة ، ونحوه قوله تعالى في الآية المتقدمة ٧٤ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). هذا تعبير ثان عن قوله : انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .. وفيه تهديد لمن خالف وعاند (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولا أحد يملك معه شيئا ان أراد أن يهلك المشركين والخلق أجمعين.

والله أخرجكم من بطون امهاتكم الآية ٧٨ ـ ٨٣ :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ


سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

اللغة :

يطلق الجو على ما بين الأرض والسماء ، وعلى البر الواسع ، وفي كتب اللغة ان جو كل شيء بطنه وداخله. وسكنا أي السكون والاستقرار في البيت واليه أيضا ، والمراد باليوم الوقت ، وبالظعن السفر ، وبالاقامة الحضر ، والأصواف من الغنم ، والأوبار من الإبل ، والأشعار من المعز ، والأثاث هنا متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها ، ولا واحد له من لفظه ، والمتاع ما يتمتع به الى حين. وظلال جمع ظل ، وهو الفيء ، وكان في بلاد العرب من أعظم النعم لشدة حرها. والأكنان جمع كن ، قال الطبرسي : وهو الموضع الذي يستتر صاحبه فيه ، ويقال : كننت الشيء في كنه أي صنته ، وأكننته أي أخفيته ، وكل ما لبسته من قميص أو درع ونحوه فهو كن. والسرابيل واحدها سربال ، وهو القميص. والبأس الشدة ، والمراد به هنا الحرب ، ولباس الحرب الدرع.

الإعراب :

أمهات أصلها أمات لأنها جمع أم ، وزيدت الهاء للتأكيد كما قال الطبرسي ، أو للفرق بين من يعقل وما لا يعقل كما قال غيره. وجملة لا تعلمون شيئا حال من ضمير المخاطب في أمهاتكم. وشيئا مفعول مطلق أي علما ، ويجوز أن يكون مفعولا به ، ويكون تعلمون بمعنى تعرفون. وأثاثا مفعول لفعل محذوف أي وجعل لكم أثاثا ومتاعا. فإن تولوا جواب الشرط محذوف أي فإن تولوا لم يلزمك شيء لأن الذي عليك هو البلاغ ، وقد أديته وقمت به.


المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآية طرفا من الدلائل على وجود الخالق الحكيم لهذا الكون ، وهذه الدلائل هي في نفس الوقت من نعم الله تعالى على عباده ، منها :

مع الماديين :

١ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) يخرج الإنسان من بطن أمه جاهلا لا يعلم شيئا بطبيعة الحال ، ولكن الله سبحانه زوّده بأداة المعرفة الحسية ، وهي السمع والبصر ، وأداة المعرفة العقلية أيضا ، وهي العقل والفطرة التي عبّر عنها بالأفئدة.

وقال الماديون : ان المادة الصماء العمياء هي التي أنشأت لنفسها بنفسها أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ونجيبهم أولا بأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وثانيا إذا كانت الحياة والإدراك من خصائص المادة ولوازمها وجب أن يكون لكل مادة سمع وبصر وفؤاد لأن عموم السبب يستدعي عموم المسبب.

وإذا قالوا : ان في المادة نوعا من الأجسام وجد على نحو خاص بحيث يلزمه حتما أن يكون الجسم سميعا مبصرا مدركا ، إذا قالوا هذا قلنا لهم : إما أن تقولوا ان المادة بما هي هي تنشئ الحياة والإدراك ، وإما أن لا تقولوا ذلك ، وعلى الأول يجب أن لا يكون شيء في المادة الا وهو وحي مدرك ، وعلى الثاني يجب أن لا توجد الحياة في المادة على الإطلاق .. وكل من الفرضين أو الالزامين باطل بالحس والوجدان ، لأن المشاهد بالعيان ان بعض المادة جامد ، وبعضها حي غير مدرك ، وبعضها حي ومدرك .. وهذا التقسيم والتفاوت دليل قاطع على ان وراء المادة قوة عليمة حكيمة وهي التي منحت الحياة والإدراك لبعض أفراد المادة دون بعض وأوجبت التمييز والتفاوت فيما بينها.

الكون اكبر من الصواريخ :

٢ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَ


فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). المراد بمسخرات مهيئات للطيران ، وبالإمساك عدم السقوط على الأرض ، ومثله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) ـ ١٩ الملك» .. ومن الواضح ان الله سبحانه يجري الأمور على أسبابها ، وقد اشتهر على كل لسان ان الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ، فمعنى قوله تعالى : ما يمسكهن الا الله .. والا الرحمن انه تعالى خلق للطير جناحين ، وزوده بجميع المعدات اللازمة للطيران بين السماء والأرض ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان» .. وقال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ـ ٤٩ القمر». وهذا الخلق والتقدير والتدبير دليل واضح وقاطع على وجود الخالق المدبر.

وتسأل : لقد اخترع الإنسان طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت ، بل اخترع صواريخ تقطع بالساعة آلاف الأميال ، وتنطلق الى القمر والمريخ ، واخترع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض والقمر ، وتتحدث من هناك الى العلماء بلغتهم عما تسمع وترى ، فأين الطيور من هذه المخترعات؟.

وغريب ان يسأل عاقل مثل هذا السؤال ، ويدهش لهذه المخترعات ، ويذهل عن العقل الذي اخترعها وأوجدها .. وبالأصح يذهل عن خالق هذا العقل الذي أوجد هذه المخترعات .. ولو أنصف الإنسان لنظر الى نفسه وعقله ، فإنه أعظم من اختراع الصواريخ والأقمار الصناعية ، لأنه هو مخترعها ومبدعها .. بل لو أنصف لنظر الى خلق الكون فهو أعظم من خلق الإنسان الذي اخترع الصاروخ والقمر الصناعي ، قال تعالى في الآية ٥٧ من غافر : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وخلق الإنسان أكبر من خلق الصاروخ والأقمار الصناعية بملايين المرات.

هذا ، الى ان الحديث منذ بدايته انما هو عن الطير ، والطير من الأحياء ، والطائرة والصاروخ والقمر الصناعي من الجماد ، فالنقض بشيء منها في غير محله .. ومن الواضح المؤكد ان علماء الصواريخ ومعهم علماء الانس والجن لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابة ، ولا خلية من جناح ذبابة : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج».

وتجدر الاشارة الى ان الله سبحانه أسند اليه إمساك الطير في الجو لأنه تعالى


هو السبب الأول الذي خلق الطير وزوده بمعدات الطيران .. وأنكر الأشاعرة وجود الأسباب الطبيعية بشتى أنواعها وأشكالها ، وقالوا : كل الأفعال تسند الى الله مباشرة وبلا واسطة ، سواء أظهرت هذه الأفعال من طير أم حشرة أم حيوان أم انسان أم من الطبيعة .. فلا علاقة على الإطلاق بين الإحراق والنار ، ولا بين الري والشرب ، ولا بين الشبع والأكل .. ولكن الله يوجد الإحراق عند مماسة النار للجسم ، ويوجد الري عند شرب الماء ، والشبع عند أكل الطعام .. ويكفي لرد هذا القول انه يخالف الحس والوجدان ، وان اللازم له أن يكون الإنسان تماما كالحيوان والجماد ، لا يوصف بطيب أو خبيث ، وبمجرم أو بريء ، وانه لا يستحق مدحا ولا ذما ، ولا ثوابا ولا عقابا ، لأن المفروض ان الله هو الفاعل والإنسان ظرف للفعل ، تماما كالإناء الذي يوضع فيه ماء.

٣ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً). والمراد بالسكن هنا الفعل والاستقرار في البيوت ، والمقصود من هذه البيوت ما يؤخذ من الحجر والخشب والحديد والاسمنت وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ). تستخفونها أي حملها خفيف عليكم ، والظعن السفر ، والاقامة الحضر .. بعد أن ذكر البيوت الثابتة ذكر البيوت المتنقلة مع الإنسان من مكان الى مكان كالخيم ، وذكر سبحانه الجلود ، ولم يذكر الكتان والقنب ونحوه ، لأن الجلود كانت هي الغالبة في بلاد العرب .. ومهما يكن فإن قوائم البيت من أي نوع كانت فإنها تدل على وجود خالقها وصانعها .. وأعجبتني هنا عبارة لفقيه يتفاصح ، أنقلها بالحرف الواحد ، قال : «كل ما علاك فأظلك فهو سقف ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت».

احترام البيت في الشريعة :

والبيوت بشتى أنواعها من نعم الله تعالى على عباده ، ولا يعرف قدرها إلا الذين لا بيوت لهم ، وللبيت حرمته في الشريعة الاسلامية ، من ذلك أن لا يدخل الإنسان بيتا حتى يستأذن أهله ، قال تعالى : (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ـ ٢٨ النور.


وقال الفقهاء : من تطلع في بيت انسان من ثقب أو شق باب ، ونحوه فلصاحب البيت أن يزجره أولا ، فإن أصر فله أن يضربه ، أو يرميه بحصاة وما أشبه ، فإذا تضرر المتلصص المتجسس فلا شيء على صاحب البيت ، فقد جاء في الحديث النبوي : «من اطلع عليك ، فحذفته بحصاة ، ففقأت عينه فلا جناح عليك». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : عورة المؤمن على المؤمن حرام .. ومن اطلع على مؤمن في منزله فعيناه مباحتان للمؤمن في تلك الحال.

٤ ـ (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي وجعل لكم من أصوافها الخ ، والصوف من الغنم ، والوبر من الإبل ، والشعر من المعز ، والأثاث معناه في الأصل الكثرة ، يقال : أثّ النبت يئث إذا كثر ، والمراد بالاثاث هنا ما يحتاج اليه المرء من فرش أو لباس ونحوه ، والمتاع كل ما ينتفع الإنسان به في مصالحه وقضاء حوائجه ، وقوله : إلى حين اشارة الى ان متع الحياة كلها مؤقتة لا دوام لها ولا قرار.

فكيف بنعمة الذهب الأسود؟

٥ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً). الظلال جمع ظل ، وهو الفيء الذي يقي من حر الشمس.

٦ ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً). الأكنان جمع كن من كهف وثقب ، ونحوه مما يقي من حر الشمس ، وكل ما يحتاج اليه المرء فهو نعمة إذا وجده حتى فيء الغمامة ، والثقب في الجبل.

٧ ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). وهنا حذف تقديره والبرد ، وانما حذف للعلم به (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ). هذا كناية عن الدرع والمغفرة وغير ذلك (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). والمراد بالإسلام هنا الاستسلام والانقياد للحق والعمل به ، والمعنى انه تعالى أنعم عليهم بالبيوت والأثاث والمتاع والسرابيل والظل وبالكن ليشكروه ويتقوه ، ولا يعثوا في الأرض مفسدين.

وإذا امتن سبحانه على عرب الجاهلية بفيء الغمامة والشجرة ، وبالثقب في الجبل ونحوه ، واعتبر ، جلت عظمته ، هذا الظل ، وهذا الثقب من إتمام النعمة عليهم


وطالبهم لقاء ذلك بالشكر والانقياد للحق ، وهددهم ان عصوا وتمردوا ، إذا كان الظل نعمة والثقب فضلا فكيف بالذهب الأسود الذي يتدفق أبحرا في البلاد العربية؟. وكيف بالفئة التي تتحكم به ، فتبني بثمنه ناطحات السحاب ، وتقتني الجواري والعبيد ، وتمتلك لرفاهيتها أسطولا من الطائرات والسيارات ، وتملأ الأرض إسرافا وفسادا؟.

لقد امتن الله على الماضين بالأنعام والخيل والبغال والحمير ، وبالبيوت من الحجر والجلد ، وبالاثاث من الصوف والوبر والشعر ، وبالسرابيل تقي من الحر والبرد ، بل امتن عليهم بالظل والثقب ، وطالبهم أن يشكروا ويتذكروا ، فكيف بالمترفين المنحرفين في هذا العصر الذين يسكنون الفيلات ، ويؤثثونها بمئات الألوف ، ويكيفون أجواءها كما يشتهون من دفء أو رطوبة ، وحولهم خيام اللاجئين وأكواخ المشردين؟. ومع هذا يدعون الايمان بالله واليوم الآخر.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يا محمد ، وعلينا الحساب ، وقد أديت أنت الرسالة على أكمل الوجوه ، وسنوفيهم نحن حسابهم وجزاءهم. وتقدمت هذه الآية في سورة آل عمران الآية ٢٠ ج ٢ ص ٣٠ ، وفي الآية ٤٠ من سورة الرعد (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها). المراد بمعرفتهم إياها انهم يتنعمون بها ، وبإنكارهم انهم يسندونها الى غير الله ، أي انهم يأكلون رزق الله ، ويعبدون سواه (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يجوز استعمال كلمة الأكثر في معناها الظاهر ، ويجوز أيضا استعمالها بالجميع. والمراد بها هنا كل من بلغه رسالة محمد (ص) وأنكرها عنادا للحق وتمردا عليه.

نبعث من كل أمة شهيداً ٨٤ ـ ٨٩ :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ


شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

اللغة :

المراد بالشهيد هنا الشاهد لهم أو عليهم. ولا يستعتبون أي لا مجال لهم غدا أن يطلبوا الرضا من الله بقول أو فعل. والسلم الاستسلام والانقياد. والتبيان البيان.

الإعراب :

يوم نبعث (يوم) مفعول لفعل محذوف أي اذكر يوم نبعث. وجملة انكم لكاذبون بدل من القول في قوله : فألقوا اليهم القول. دناهم عذابا (عذابا) تمييز لأنه بمعنى زاد عذابهم. وجئنا بك شهيدا (شهيدا) حال من كاف الخطاب. وتبيانا حال ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله أي أنزلناه ليبين للناس كل شيء وليهديهم وليرحمهم.

المعنى :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). هذا تهديد


ووعيد لمن أشار سبحانه اليهم في الآية السابقة بقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها). ووجه التهديد ان الله يجمع الناس غدا ، ويأتي بكل نبي يشهد على أمته أو لها ، ومتى شهد عليها يأخذ الله بقوله وشهادته ، ولا يؤذن لها بالرد والاعتذار ، قال تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) ـ ٣٥ المرسلات. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). المراد بالاستعتاب طلب الرضا ، والمعنى لا يطلب من المشركين أن يسترضوا الله بقول أو فعل ، لأن الآخرة دار حساب وجزاء لا دار أعمال واسترضاء.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). المراد بالذين ظلموا كل ظالم ، سوا أظلم خالقه بالجحود أو الشرك ، أم ظلم غيره بالاعتداء ، أم ظلم نفسه بتعرضها للتهلكة ، فإنه يعذب على ظلمه وذنبه جزاء وفاقا بلا زيادة أو نقصان ، وبلا تأخير أيضا.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ). ضمير ألقوا يعود الى آلهة المشركين ، وضمير اليهم يعود الى المشركين أنفسهم ، وتدل الآية بظاهرها على ان الله يحشر معبود المشركين صنما كان أو غيره لالقاء الحجة على من اتخذه إلها ، وان المشركين حين يرون آلهتهم التي كانوا يعبدون يقولون لله : هؤلاء الذين كنّا ندعوهم شركاء لك ، وان الآلهة ترد عليهم بلسان الحال أو بلسان المقال : انكم أيها المشركون لكاذبون ومفترون في جعلنا شركاء لله. وغير بعيد أن تكون هذه الحكاية لقول المشركين وآلهتهم كناية عن تكشف الحقائق غدا ، وانه لا مجال للكذب والتدليس.

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ). ضمير ألقوا يعود الى المشركين وآلهتهم وانهم يستسلمون وينقادون لأمره تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). وكل مفتر في هذه الحياة تعود عليه مفترياتهم بالخزي والعذاب في اليوم العصيب.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ). فسدوا بكفرهم بالحق ، وأفسدوا بصدهم الغير عن الحق ، فاستحقوا عقابين : أحدهما على الفساد والثاني على الإفساد : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ـ ١٢ العنكبوت».


(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). تقدم هذا المعنى في الآية ٨٤ واعاده في الآية ٨٩ تهديدا للذين كذبوا محمدا (ص). (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ). الخطاب لمحمد (ص) ، وهؤلاء اشارة الى أمته.

وتسأل : ان محمدا (ص) رسول الله الى الناس أجمعين بنص الآية ٢٧ من سبأ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فإذا كانت رسالة محمد في الدنيا عامة للجميع فينبغي أن تكون شهادته في الآخرة على الناس عامة أيضا ، وإذا كانت شهادته في الآخرة على أمته فقط فينبغي أن تكون رسالته خاصة بأمته فقط؟.

الجواب : لا تلازم بين عموم رسالته في الدنيا وعموم شهادته في الآخرة ، لأن رسالة الإسلام تبلغها أمة محمد (ص) من بعده لكل الأمم في كل زمان ومكان والنبي يشهد على أمته انها أهملت ولم تبلغ الرسالة للأجيال.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). الخطاب من الله لنبيه محمد ، والمراد بالكتاب القرآن ، وفيه بيان كل شيء يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق والعبر والعظات (وَهُدىً وَرَحْمَةً) لمن طلب الهداية والرحمة (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). المراد بالبشرى الجنة ، وبالمسلمين كل من استسلم للحق وعمل به.

الله يأمر بالعدل والاحسان الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى


مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

اللغة :

كل ما يلتزمه الإنسان باختياره من فعل أو ترك فهو عهد عند أهل العرف ، ولا يكون عهدا يجب الوفاء به شرعا الا إذا كان العهد لله ومقرونا باسمه تعالى : مثل عاهدت الله ، وعليّ عهد الله. ونقض اليمين الحنث بها. والمراد بتوكيدها هنا عقدها ، ويجوز تأكيدها بالألف ، ولكن بالواو أولى لأنها الأصل. وكفيلا ضامنا الوفاء. وأنكاثا بفتح الهمزة جمع نكث بكسر النون بمعنى منكوث أي محلول ومنقوض. والدخل في كلام العرب كل ما هو غير صحيح كما في تفسير الطبري. وأربى أكثر وأوفر.

الإعراب :

أنكاثا حال مؤكّدة من غزلها. وقيل : منصوب على المصدرية. ودخلا مفعول من أجله لتتخذون. والمصدر من أن تكون أمة مجرور بباء محذوفة أي بكون أمة.

المعنى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). أمرت هذه الآية بثلاث خصال حميدة ، ونهت عن ثلاث خصال قبيحة ، أما الثلاث الحميدة فهي :


العدل ، والإنسان العادل هو الذي ينصف الناس من نفسه ، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه.

والإحسان ، وهو جامع لكل خير ، والناس يفهمون من كلمة محسن من يتبرع بماله أو بسعيه في سبيل الخير.

وإيتاء ذي القربى ، وهو من الإحسان ، وخصه تعالى بالذكر تنويها بفضله وعظمته.

أما الخصال الثلاث القبيحة فهي الفحشاء كالزنا واللواط والخمر والميسر والكذب والبهتان ، وأظهرها الزنا ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ـ ٣٢ الاسراء». والخصلة الثانية من الخصال القبيحة هي المنكر ، وهو كل ما ينكره العقل والشرع. والخصلة الثالثة البغي ، وهو الاعتداء على الناس بالفعل أو القول ، وحكمه عند الله غدا حكم الشرك بالله ، بل أشد ، لأن الشرك اعتداء على حق الله فله إسقاطه ، أما البغي فهو اعتداء على حق الله وحق الناس. ويطلق المنكر على الفحشاء ، والفحشاء على المنكر ، وهما معا على البغي.

(يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). المراد بوعظه سبحانه أمره بالخصال الحميدة الحسنة ، ونهيه عن الخصال القبيحة السيئة ، والغرض من هذا الوعظ أن نكون مؤمنين أتقياء ، وطيبين أصفياء. ونقل الرواة عن ابن مسعود ان هذه أجمع آية للخير والشر في كتاب الله.

وقال عثمان بن مظعون : أسلمت استحياء من رسول الله ، وما قرّ الإسلام في قلبي حتى نزلت هذه الآية ، فآمنت بمحمد (ص) وأتيت عمه أبا طالب ، فأخبرته بأمري ، فقال : يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا ، فإنه لا يأمركم الا بمكارم الأخلاق.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ). إعطاء العهد لله يكون على نحوين : الأول أن يقطع الإنسان على نفسه عهدا لله تعالى ان يفعل شيئا معينا أو يتركه ، كما لو قال : أعاهد الله أن أفعل كذا ، أو أترك كذا. النحو الثاني أن يؤمن بالله ، لأن من آمن به فقد أعطاه عهدا أن يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه ، وكل من العهدين يجب الوفاء به ، والمراد هنا بعهد الله العهد الأول.

(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها). الايمان جمع يمين ، والمراد بتوكيدها عقدها ، لأن اليمين تنعقد إذا لم تكن على معصية ، ولا تنعقد بحال إذا كانت


على معصية. وقيل : ان المراد بتوكيدها تشديدها وتغليظها ، وهذا اشتباه ، حيث يصير المعنى على هذا ان اليمين التي لا تشدد فيها لا يجب الوفاء بها .. مع العلم بأن كل يمين متى تمت يجب الوفاء بها سواء أتشدد الحالف وأغلظ بيمينه وعزمه ، أم لم يتشدد ويغلظ.

(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً). كل من حلف بالله فقد جعل الله كفيلا وضامنا الوفاء ، فإن أخلف فقد خان الله بالذات ، واستحق العقاب والعذاب (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فمن وفي بعهده ويمينه أثابه ثواب المطيعين ، ومن نكث وخان عاقبه عقاب العاصين.

وتجدر الاشارة الى ان كلا من العهد واليمين ينحل بطبعه إذا كان تركه خيرا من فعله ، فمن حلف بالله أو عاهده أن لا يأكل اللحم ـ مثلا ـ وكان في الترك منفعة صحية له ، إذا كان كذلك انعقد العهد واليمين ، فلو طرأ على صحته ما يستدعي أكل اللحم ينحل العهد واليمين ، ويأكل اللحم ولا شيء عليه ، وقد جاء في الحديث : «إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها».

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). بعد قوة أي بعد ابرامه .. وكل شيء ينقض بعد فتله وابرامه فهو نكث ، غزلا كان أو حبلا ، وقد شبه سبحانه ناقض العهد والايمان بناقضة الغزل بعد ابرامه. وقيل : كان بمكة امرأة حمقاء تغزل صوفها في الصباح ، وتنقضه في المساء ، وان الله شبه بها ناقض اليمين ، ومهما يكن فإن الآية توكيد لقوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها).

(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ). حذف من الكلام همزة الاستفهام الانكاري ، والتقدير أتتخذون الخ. والدخل هو الشيء الفاسد والمفسد ، ومنه المكر والخديعة ، وأربى أي أكثر ، والمعنى لا تجعلوا ايمانكم وسيلة للغدر والخيانة ، وذلك بأن تحلفوا للذين هم أكثر منكم وأقوى ليطمئنوا إليكم ، ويثقوا بكم ، وأنتم في نفس الوقت تضمرون أن تنقضوا الايمان ، وتتركوا الذين حلفتم لهم متى رأيتم أقوى منهم عدة ، وأكثر عددا ، ويتلخص المعنى بكلمة واحدة : لا تغدروا.

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ). ضمير به يعود الى أمره بالوفاء بالعهد واليمين ،


والمعنى ان الله تعالى يكلف العباد بتكاليف ليطيع من أطاع مختارا ، ويعصي من عصى مختارا ، ثم يجازي الله كلا بما يستحق ، وتكلمنا مفصلا عن معنى الاختبار من الله عند تفسير الآية ٩٤ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٢٦ (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). يعيد الله العباد يوم القيامة ليتميز المبطل من المحق ، ويكافئ كلا بما يستحق.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). أي ان الله سبحانه لو أراد أن يكره الإنسان على الايمان لكان الناس كلهم أمة واحدة ، ولكنه ترك الإنسان وما يختار ، إذ لو سلبه الحرية والاختيار لكان شأنه شأن الحيوانات والحشرات ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١١٨ من سورة هود ، والآية ٣٤ من سورة الأنعام. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). لا شك ولا ريب عند العقل ان الله لا يضل ولا يهدي أحدا قهرا عنه ، ولو الجأه ألجأه إلى الضلالة والهداية لما صح أن يسأله ويحاسبه ، مع انه قال صراحة ، وبلا فاصل (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، ومعنى الآية ان الله سبحانه يعتبر الإنسان ضالا بعد ان يسلك مختارا طريق الضلال ، ويعتبره هاديا متى سلك سبيل الهداية ، تماما كما يميته إذا انتحر : وينجيه إذا لم يلق بيده الى التهلكة. وسبق الكلام عن الهدى والضلال عند تفسير الآية ٢٦ و ٢٧٢ من سورة البقرة ج ١ ص ٧٠ و ٤٢٦ والآية ٨٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٩٩.

ما عندالله خيرالآة ٩٤ ـ ١٠٠ :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما


كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

اللغة :

النفاد الفناء ضد البقاء. وإذا قرأت القرآن أي إذا أردت قراءة القرآن مثل إذا أكلت فقل باسم الله. والمراد بالسلطان التسلط. ويتولونه أي يطيعونه.

الإعراب :

فتزل منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لأن الفعل وقع جوابا للنهي ، وتذوقوا عطف على فتزل. وانما مركبة من كلمتين : ان التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، وما اسم موصول ، وهي اسم ان ، وعند الله صلة الموصول ، وهو ضمير فصل لا محل له من الاعراب ، وخير خبر ان. وما عندكم مبتدأ ، وينفد خبر. وضمير لنحيينه يعود الى من عمل صالحا باعتبار لفظة (من) المفردة ، وضمير نجزينهم يعود اليها باعتبار معناها ، وهو الجمع هنا.

المعنى :

قال سبحانه في الآية ٩١ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها). وقال في الآية ٩٢ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ


دَخَلاً بَيْنَكُمْ). وقال في الآية ٩٤ ، وهي التي نفسرها : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ). فما هو الغرض من هذا التكرار؟. هل هو التأكيد والاهتمام بالوفاء ، أو هناك غرض آخر؟.

نقل الرازي عن المفسرين ان الله سبحانه نهى أولا عن نقض اليمين الناس أجمعين ، دون أن يقصد جماعة معينين ، ثم نهى جماعة بالخصوص ، وهم الذين بايعوا محمدا (ص) على الإسلام.

وهذا التفصيل بعيد عن مدلول الآيات ، لأن النهي فيها عن نقض اليمين ورد مطلقا غير مقيد ببيعة أو بغيرها .. والأولى في الجواب ان تكرار النهي هنا انما ساغ وحسن ، لأن الله سبحانه عقّب بعد كل نهي بجملة أفادت معنى جديدا ، فقال بعد النهي الأول : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) فذكّر بقوله هذا الحالفين بأنهم جعلوا الله ضامنا للوفاء بايمانهم ، فعليهم أن لا ينكثوا ، والا فقد خانوا الله بالذات .. وقال بعد النهي الثاني : «انما يبلوكم به» وهذا تذكير للحالفين أيضا بأنه يمتحنهم ويختبرهم ليستحقوا الثواب الذي يريده لهم. وقال بعد النهي الثالث : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) وهذا تهديد ووعيد لمن ترك الحق الى الباطل والهدى الى الضلال.

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). كل من صدّ عن سبيل الله والحق وجب ردعه بالوعظ والإرشاد أولا ، فإن تاب وأناب فذاك والا وجب جهاده وساغ أسره وقتله ، هذا في الدنيا ، أما في الآخره فله عذاب عظيم.

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) عهد الله هو الالتزام بالحق والعمل به ، ومنه الوفاء بالعهد واليمين ، والمراد بالثمن القليل المنفعة الدنيوية ، وان كثرت ، والمعنى لا تؤثروا منافعكم الخاصة على الحق ، فتبيعوه بالمال أو الجاه أو بأي متاع من هذه الحياة ، فإن الدنيا بما فيها ليست بشيء في جنب ما أعده الله للمطيعين والمحسنين (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ) من المنافع الدنيوية بالغة ما بلغت كيفا وكما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفرق البعيد بين المنفعة الأخروية والدنيوية ، ثم بيّن سبحانه وجه الفرق بينهما بقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ). وليس من شك ان الدائم أفضل وأشرف من الزائل .. وفوق هذا فإن المنفعة الدنيوية ترافقها الآلام


والمنغصات .. إذا احلولى منها جانب أمرّ منها جانب ، أما المنفعة الاخروية فخالصة من كل شائبة.

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ان الدعوة الى الحق ، والثبات عليه وعليها يستدعيان الأذى من المبطلين بطبيعة الحال .. فمن صبر على البلاء في سبيل الحق ، وثبت على جهاد أعدائه الى النهاية أثابه الله ثواب الصابرين المجاهدين.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ان قوله هذا يومئ الى انه تعالى يجزي الصابرين بالثواب على أحسن أعمالهم ، أما أعمالهم الحسنة والسيئة فإنه لا يجزيهم عليها بشيء ، فهل هذا المعنى هو المراد من الآية؟.

الجواب : ان أعمال الإنسان تنقسم الى طاعات واجبة ومستحبة ، ومعاص ، ومباحات ، وليس من شك ان أحسنها الطاعات ، وأقبحها المعاصي ، والله سبحانه يثيب الصابرين على جميع ما يفعلونه من الطاعات ، ومنها الصبر في طاعة الله ، وهو أفضلها وأشرفها ، أما المباحات فلا يستحق فاعلها ثوابا ولا عقابا .. فالمراد بأحسن ما كانوا يعملون الطاعات بشتى صورها وأشكالها ، وليس المراد الصبر فقط. أجل ، ان الله سبحانه صرح بأنه يجزي الصابرين على حسناتهم ، وسكت عن سيئاتهم ، وفي هذا السكوت وعد أو شبه وعد بأنه تعالى يغفرها برحمته وفضله.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). في هذه الآية جهات :

١ ـ لقد دلت على ان كلا من الذكر والأنثى يقاس بعمله عند الله ، وانه لا فضل للرجل على المرأة إلا بالتقوى ، فان اتقت هي وأطاعت ، وعصى هو ولم يتق فهي خير منه وأكرم عند الله .. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة بعنوان : «بين الرجل والمرأة» ج ١ ص ٣٤٣.

٢ ـ دلت الآية أيضا على ان الايمان مع العمل الصالح سبب للأجر والثواب ، أما أحدهما دون الآخر فلا يستحق صاحبه الثواب .. ولكن الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) يقتضي ان الله سبحانه يعوض على الكافر المحسن بالصحة أو المال أو الجاه أو طول العمر في الدنيا ،


أو بتخفيف العذاب عنه في الآخرة. وسبق الكلام عن ذلك بعنوان : «الكافر وعمل الخير» عند تفسير الآية ١٧٨ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١١.

٣ ـ اختلفوا في الحياة الطيبة التي ذكرها سبحانه بقوله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً). اختلفوا : هل تحصل هذه الحياة في الدنيا أو في الآخرة؟ .. وغريب ان يختلف المفسرون في ذلك ، وهم يشاهدون بالحس والعيان ان الدنيا جنة الكافر ، وسجن المؤمن ، ويتلون بل يشرحون قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٣٥ الزخرف». ومن أجل هذا نرجح ان المراد بالحياة الطيبة هنا الجنة ، وان قوله : ولنجزينهم أجرهم الخ عطف تفسير على قوله : فلنحيينه وتأكيد له ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ـ ١٠٥ النحل».

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ). الخطاب للنبي (ص) ، والتكليف للعموم ، والمعنى ان من أراد ان يقرأ القرآن فليقل قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وفي تفسير الرازي ان مالكا وداود الظاهري قالا : الاستعاذة بعد قراءة القرآن ، لا قبلها جمودا على ظاهر اللفظ ، ومهما يكن فان الاستعاذة من الشيطان قبل القراءة أو بعدها مستحبة ، وليست واجبة بالاتفاق.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). ضمير انه ليس له يعود الى الشيطان ، أما ضمير به مشركون فيجوز أن يعود على ربهم لتقدم ذكره ، ويجوز أن يعود على الشيطان ، على معنى انهم أشركوا بسبب طاعتهم للشيطان ، والمعنى ان الشيطان لا سبيل له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغراء بفعل الحرام ، ولا يستجيب له الا ضعاف القلوب والايمان. وتقدم نظيره مع التفسير في الآية ٢٢ من سورة ابراهيم والآية ٣٩ وما بعدها من سورة الحجر.

آة مكان آة الآة ١٠١ ـ ١٠٥ :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ


أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

اللغة :

التبديل رفع شيء مع وضع غيره مكانه ، وروح القدس جبريل ، والمراد باللسان هنا اللغة. والإلحاد الميل. والفرق بين الأعجم والعجمي ان الأعجم من لا يفصح وان كان عربيا ، والعجمي هو المنسوب الى العجم.

الإعراب :

قالوا جواب إذا ، وجملة والله أعلم معترضة بين إذا وجوابها. ولسان الذي يلحدون اليه مبتدأ ، وخبره أعجمي.

المعنى :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ضمير قالوا يعود الى المشركين الذين كذبوا محمدا (ص) ، وضمير أنت موجه منهم اليه .. ان الله سبحانه خلق الخلق ، وهو العليم الحكيم بما يصلحهم ويفسدهم ، وقد تستدعي الحكمة والمصلحة ان يشرّع سبحانه لعباده حكما لأمد معين ، فيفعل ، حتى إذا انتهى الأمد ارتفع الحكم المحدود به ، وشرّع ـ جلت حكمته ـ حكما آخر مكانه على وفق المصلحة أيضا .. وهذا هو


المراد من قوله : «وإذا بدلنا آية مكان آية». وكان المشركون ، حين يرون هذا التبديل ، يقولون لمحمد (ص) : انك تفعل ذلك من تلقاء نفسك ، وتنسبه الى الله كذبا وافتراء ، والله سبحانه يعلم بأنه هو الذي أنزل هذا التبديل على رسوله الصادق الأمين ، ويعلم انهم هم المفترون بقولهم للرسول الأعظم : «انما انت مفتر».

وأوضح تفسير قرأته لهذه الآية ما روي عن ابن عباس انه إذا نزلت آية في شدة ، ثم نزلت آية ألين منها قال كفار قريش : ان محمدا يسخر بأصحابه ، اليوم يأمر بأمر ، وغدا ينهى عنه ، وانه لا يقول هذه الأشياء الا من عند نفسه ، فأنزل الله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الخ. وتكلمنا عن النسخ عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة البقرة ج ١ ص ١٦٩.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). روح القدس هو جبريل ، وسمي بذلك لأنه نزل بالقدس ، وهو القرآن من عند الله على محمد (ص).

ونظير هذه قوله تعالى في الآية ٨٩ من هذه السورة : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وذكرت الآية هنا للرد على المشركين الذين نسبوا التبديل إلى النبي ، وذكرت هناك بمناسبة قوله تعالى ما معناه ان الله يوم القيامة يبعث من كل أمة شهيدا ، ويبعث محمدا ليشهد على أمته انه قد بلغها القرآن الذي هو تبيان لكل شيء.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). اتهم المشركون محمدا (ص) بأنه تعلم القرآن من غيره ، ونسبه الى الله كذبا وافتراء .. وليس من شك ان هذا من حرب الدعايات الكاذبة يعلنها المفسدون في الأرض على مصلح يثور عليهم وعلى فسادهم وافسادهم .. وقد تطورت اليوم أساليب الدعايات ضد المخلصين والمصلحين ، وبلغت النهاية في الدقة والأحكام ، حتى انخدع بها كثير من الأبرياء الأصفياء.

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). هذا رد لقول المشركين عن محمد (ص) : «انما يعلمه بشر» ، ويظهر من هذا الرد انهم أضافوا التعليم الى رجل معين ، وان هذا الرجل كان أعجميا يعجز عن الإفصاح


بالكلام ، ولذا قال تعالى : ان القرآن ذو بيان وفصاحة فكيف يمكن أن يصدر عن أعجمي؟ .. ان فاقد الشيء لا يعطيه.

ردد هذا الافتراء أعداء الإسلام في حياة محمد (ص) ، ورددوه من بعده أيضا ، وما زال كثير من المبشرين النصارى يجترون هذا الافتراء جاهلين أو متجاهلين بأن في القرآن علوما وفنونا وحكما لم يكن لها في ذاك العهد عين ولا أثر .. ولو افترض وجودها فلا يمكن أن يجمعها ويعلمها واحد ، ولو علمها لتجاوزت شهرته شهرة أرسطو الذي أسماه العرب بالمعلم الأول .. مع العلم بأنه ما ادعى أحد ان رجلا كان في عهد رسول الله يجمع علوم القرآن.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). المراد بآيات الله الدلائل الناطقة بوجوده ، والمعجزات الشاهدة بنبوّة الأنبياء ، والأحكام المنزلة من الله عليهم ، أما الهداية فالمراد بها هنا الثواب ، والمعنى ان الله سبحانه لا يثيب ، بل يعاقب من يكفر بآياته بشتى أنواعها.

الكاذب الكافر :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ولا بالبعث والحساب والجزاء كالمشركين الذين قالوا لمحمد (ص) ما قالوه (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ). انهم يجرءون على الكذب وعلى جميع المفاسد والآثام لأنهم لا يخشون عقابا على الكذب ، ولا يرجون ثوابا على الصدق.

وتسأل : ان قوله تعالى : «انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون» يغني عن قوله : «وأولئك هم الكاذبون». فما هو القصد من هذا التكرار؟.

وأجاب المفسرون بأن القصد منه التنبيه الى ان صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة تماما كما تقول لمن عرف بالكذب : كذبت وأنت الكاذب أي ان دأبك وشأنك الكذب.

سؤال ثان : قال سبحانه : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). وهذا حصر للكذب بالكافرين مع ان كثيرا من الكافرين أصدق وأوثق في أحاديثهم من كثير من الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر؟.

الجواب : ان المسلم الكاذب مؤمن بالله نظريا ، وكافر عمليا ، فهو بوصفه


مؤمنا نظريا وفكريا يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، وبوصفه كافرا في عمله وفعله يعامل في الآخرة معاملة الكافر لهذه الآية ، ولما روي عن النبي من انه سئل : هل يكذب المؤمن؟ فقال : لا. ثم قرأ هذه الآية.

وقلبه مطمئن بالايمان الآة ١٠٦ ـ ١١١ :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

اللغة :

شرح بالكفر صدرا أي اعتقده عن طيب نفس. واستحبوا الحياة الدنيا أي آثروها وقدموها ، ولا جرم لا شك. والمراد بفتنوا هنا ابتلوا. وتجادل عن نفسها تدفع عنها وتسعى في خلاصها.

الإعراب :

ذكر الطبرسي وجهين لإعراب (من) في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ).


وذكر الرازي أربعة أوجه ، واختار ان محلها النصب مفعولا لفعل محذوف أي أعني من كفر بالله ، أما نحن فنختار ان محلها الرفع بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب الله ، وهذه الجملة تدل عليها الجملة الموجودة في نفس الآية ، ومن شرح مبتدأ ، وفعليهم غضب من الله خبر. وصدرا تمييز محول عن فاعل لأن أصله من انشرح صدره للكفر ، وقال الرازي : صدرا مفعول ، وأصله صدره ، وحذف الضمير للعلم به. والمصدر من انهم في الآخرة مجرور بمحذوف أي لا جرم في انهم ، وضمير (هم) فصل والخاسرون خبران. ثم ان ربك للذين هاجروا خبرها جملة ان ربك لغفور رحيم. وان ربك من بعدها توكيد لأن ربك للذين هاجروا الخ.

المعنى :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). تدل هذه الآية على الاذن بالتفوه بكلمة الكفر للنجاة من القتل ، على ان يكون لافظها مؤمنا حقا وصدقا. وجاء في تفسير الرازي : «أكره أناس على كلمة الكفر ، منهم عمار وأبواه ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب وسالم ، وقد عذبوا ، فأما سمية فر بطت بين بعيرين ، ووخزت في قلبها بحربة فقتلت ، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فقال بعضهم : يا رسول الله ان عمارا كفر. فقال الرسول الأعظم (ص) ، كلا ، ان عمارا مليء ايمانا من قرنه الى قدمه ، واختلط الايمان بلحمه ودمه .. فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي ، فجعل الرسول يمسح عينيه ويقول : «ما لك؟ ان عادوا لك فعد بما قلت». وتقدم الكلام عن التقية عند تفسير الآية ٣٠ من سورة آل عمران.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بعد أن ذكر سبحانه من آمن واقعا ، وأظهر الكفر للنجاة من القتل ، وانه معذور عند الله ـ بعد هذا ذكر من كفر ظاهرا وواقعا ، لا لشيء الا رغبة في الكفر ، ولا جزاء لهذا الا غضب الله وعذابه الأليم (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى


الْآخِرَةِ) ذلك اشارة الى غضب الله وعذابه ، واستحبوا آثروا ، والمعنى ان الله سبحانه يطرد الكافرين من رحمته ، ويعذبهم بناره لأنهم آثروا الحياة وزينتها على الآخرة ونعيمها.

وقوله تعالى : ذلك بأنهم استحبوا الخ. صريح في ان العلة لعذابهم وغضب الله عليهم هي استحبابهم الدنيا على الآخرة ، ومعنى هذا ان كل من آثر الهوى على الحق ، والعاجلة على الآجلة فهو عند الله مثل الكافر والمشرك من حيث استحقاقه الغضب من الله والعذاب.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بمعنى انه لا يعتبرهم مهتدين بعد ان استحبوا الكفر على الايمان بطبيعة الحال. وأيضا لا يهديهم بمعنى انه لا يثيبهم .. وليس من شك انه قد هداهم بمعنى انه أقام لهم الأدلة الكافية الوافية على وجوده ونبوة أنبيائه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ـ ١٦ فصلت».

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). تقدم نظيره مع التفسير في سورة البقرة الآية ٦.

(لا جَرَمَ) لا شك (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ). ولا خسران أعظم من غضب الله وعذابه.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). بعد ان ذكر سبحانه حكم من آمن في الواقع ، وكفر في الظاهر مكرها ، بعد هذا ذكر هنا من كان قد آمن برسول الله ، ولكنه بقي بمكة ولم يهاجر معه الى المدينة ، وأعطى المشركين بعض ما أرادوا منه ، ثم تاب وهاجر وجاهد بين يدي رسول الله ، وصبر على جهاد المشركين والفاسدين ، وقد بيّن سبحانه حكم هذا بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). وضمير بعدها يعود الى فعلتهم التي يدل عليها السياق ، أو الى توبتهم مع الهجرة والجهاد والصبر.

وفي كثير من التفاسير ان هذه الآية نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله (ص) كانوا قد تخلفوا بمكة ، ولم يهاجروا مع رسول الله ، فاشتد المشركون عليهم ، حتى فتن البعض منهم عن دينه ، وجاروا المشركين ، ثم ندموا ، وخافوا ان لا تقبل لهم توبة ، فأنزل الله هذه الآية.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها). المراد بالنفس الأولى الإنسان ،


وبالنفس الثانية ذاته ، والمعنى ان كل انسان يوم القيامة يدفع عن نفسه ، ولا يهتم بغيره : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ ٣٧ عبس». (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). ونظيره قوله تعالى : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ٢٢ الجاثية». وقوله : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) ـ ١٥ طه». وقد تكرر هذا المعنى في عشرات الآيات.

قريةكانت آمنة الآة ١١٢ ـ ١١٣ :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

اللغة :

الرزق الرغد الواسع ، وأنعم جمع نعمة.

الإعراب :

قرية بدل من (مثلا). ورغدا حال من رزقها أي واسعا.

المعنى :

اختلف المفسرون في المراد بالقرية المذكورة في الآية : هل هي قرية معينة وموجودة بالفعل ، او انها فرضت على هذه الصورة لضرب المثل بها؟. ونقل


الرازي عن أكثر المفسرين ان المراد بها مكة المكرمة .. ومهما يكن فإن هذه الأوصاف تنطبق على مكة وأهلها ، فان الناس يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ، ولا يخافون الغزو والسلب والنهب ، كما كان يخاف سائر العرب ، ولا يحتاج أهلها ان ينتجعوا الى البلدان ، لأن الرزق كان يأتيها من كل مكان استجابة لدعوة ابراهيم (ع) : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ـ ٣٧ ابراهيم» وقد كفر أهل مكة بأنعم الله حيث كذبوا محمدا (ص) ، وهموا بقتله ، حتى اضطروه الى الهجرة من بلده.

وأصاب أهل مكة الجوع بدعاء رسول الله (ص) عليهم ، حيث قال : «اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فاستجاب الله دعوته ، وأصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقراد والوبر معجونا بالدم ، وكان أحدهم ينظر الى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، أما الخوف فقد زلزلت بهم الأرض سرايا رسول الله (ص).

كلوا واشكروا الآية ١١٤ ـ ١١٩ :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا


السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

الإعراب :

الكذب مفعول لتصف ، وهو مبالغة في كذبهم لأن المعنى ان ألسنتهم تعرّف الناس بحقيقة الكذب ، فهو تماما مثل قولك : وجهه يصف للناس الجمال. والمصدر المنسبك من لتفتروا بدل من لما تصف مع اعادة حرف الجر لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله. ومتاع قليل خبر مبتدأ محذوف أي بقاؤهم متاع قليل.

المعنى :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). تقدم نظيره مع التفسير في الآية ١٧٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٦٤ ، والآية ٥ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٨.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ). كان أهل الجاهلية يحللون ويحرمون من عند أنفسهم ، وينسبون ذلك الى الله تعالى ، من ذلك انهم كانوا يحللون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله ، ويقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وما الى ذلك مما ذكر في سورة الأنعام الآية ١٣٧ وما بعدها ، فنهاهم الله سبحانه عن هذا ، وقال هو كذب وافتراء (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وكل من أسند الى الله حكما أو قولا أو أي شيء من غير دليل قاطع فقد افترى على الله الكذب (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) كيف وقد غضب الله عليهم وأعد لهم عذابا أليما؟. (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وكل منافع الدنيا لا تعدل أيسر عذاب من عذاب الآخرة فكيف إذا كان أليما عظيما؟. : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ـ ٢٣ لقمان».


(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ). الخطاب لمحمد (ص) يذكره الله فيه بما أنبأه به في الآية ١٤٦ من سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) .. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنهم عصوا الله ، وتجاوزوا حدوده ، فعاقبهم بهذا التحريم ، كما جاء في الآية ١٥٨ من سورة النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) مر نظيره مع التفسير في الآية ٥٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٩٧.

ان ابراهيم كان امة الآة ١٢٠ ـ ١٢٤ :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

اللغة :

قانتا مطيعا. وحنيفا مستقيما مائلا عن الباطل إلى الحق. واجتباه اختاره واصطفاه.

الإعراب :

أمة خبر كان وقانتا وحنيفا وشاكرا اخبار متعددة لكان. وحنيفا حال من ابراهيم.


المعنى :

بعد أن أشار سبحانه في الآيات السابقة الى المشركين وانهم حللوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل ، احتج عليهم بإبراهيم (ع) الذي يقدسونه ، ويوجبون الاقتداء به ، وقد وصفه بالصفات التالية :

١ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) واختلفوا في تفسير الأمة ، ونقل الرازي أربعة أقوال ، أرجحها قولان : الأول ان ابراهيم كان يعدل أمة بما فيها. الثاني انه كان إماما ، ومهما يكن فإن المراد بالأمة هنا انه كان عظيما (١).

٢ ـ (قانِتاً لِلَّهِ) أي مطيعا له.

٣ ـ (حَنِيفاً) مستقيما متبعا الحق تاركا الباطل.

٤ ـ (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا رد على المشركين الذين يدعون انهم على ملة ابراهيم.

٥ ـ (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) قد أخلص الشكر لله فيما أنعم عليه.

٦ ـ (اجْتَباهُ) اختاره للنبوة.

٧ ـ (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام ، لا اليهودية ولا النصرانية : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ ٦٦ آل عمران».

٨ ـ (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وهي تعظيم جميع أهل الأديان له ، واعترافهم بنبوته.

٩ ـ (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) تلبية لدعوته حيث قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ـ ٨٢ الشعراء».

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا دليل

__________________

(١). قال صاحب «روح البيان» عند تفسير هذه الآية : جاء في الحديث «الحسين سبط من الأسباط» أي أمة من الأمم لأن السادات من نسل ولده زين العابدين. ثم قال صاحب «روح البيان» : ان جماعة في زمانه قالوا الحسين نبي .. ونحن لم نسمع بهذا من قبل. ولا ريب انه كفر والحاد.


على ان الإسلام وديانة ابراهيم شيء واحد في العقيدة ونبذ الشرك ، فمن يدعي انه على دين ابراهيم ، وهو ينكر نبوة محمد (ص) فقد ناقض نفسه بنفسه من حيث يريد أو لا يريد.

وتسأل : ان محمدا (ص) سيد الأنبياء ، فكيف يؤمر بمتابعة غيره من الأنبياء؟ الجواب : ان الغرض من المتابعة هنا هو الرد على المشركين الذين يعترفون بدين ابراهيم ، وينكرون دين محمد (ص) مع انهما شيء واحد .. هذا ، الى ان الأمر بالمتابعة للأسبقية ، ومن الواضح ان الأسبقية لا تستدعي الأفضلية في كل شيء.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ). ضمير فيه يعود الى السبت ، كما هو الظاهر من السياق ، وجعل هنا بمعنى فرض ، والسبت على حذف مضاف أي فرض الله تعظيم السبت وترك العمل فيه على اليهود وحدهم ، وما فرض تعظيم السبت على أحد قبلهم ولا بعدهم .. وقيل في سبب ذلك ان جماعة منهم رفضوا الجمعة ، وأبوا الا السبت ، فاستجاب الله لهم على شريطة أن لا يصطادوا فيه ، فقبلوا الشرط ، وخالفوه كما هو شأن اليهود في كل زمان ومكان .. ومهما يكن فإن الله سبحانه لم يبين وجه اختلاف اليهود في السبت : هل اختلفوا في جواز العمل فيه ، أو اختلفوا في السبت نفسه ، فمنهم من قال : هو العيد ، ومنهم قال : بل غيره العيد؟. والأرجح انهم اختلفوا في تحريم الصيد فيه بطريق الاحتيال الذي أشرنا اليه عند تفسير الآية ١٦٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤١٠ لأنهم جميعا كانوا متفقين على ان السبت عيد.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وحكمه آنذاك هو أن يثيب المطيعين ، ويعاقب العاصين.

الحكمة والموعظة الحسنة الآة ١٢٥ ـ ١٢٨ :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ


أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

الإعراب :

بمثل ، قال أبو البقاء الباء زائدة. ولئن اللام تدل على قسم محذوف. ولهو خبر اللام واقعة في جواب القسم والجملة سادّ مسد جواب القسم وجواب الشرط. والا بالله على حذف مضاف أي الا بعون الله.

المعنى :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وترشدنا هذه الآية الى ما يلي :

١ ـ ان الدعوة يجب أن تكون للحق خالصة من كل شائبة ، فأي انسان يدعو الى غير الحق فدعوته فساد وضلال ، وأعظم الناس جرما من اتخذ من الدعوة الى الله والحق وسيلة لتدعيم جاهه وكيانه كما يفعل طلاب الزعامة والرئاسة من رجال الدين والدنيا.

٢ ـ أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ومن الواضح ان قوام الحكمة العلم والعقل ، فبالعقل يميز الداعي بين الحق والباطل ، والخير والشر ، وبالشر يعرف أحوال المخاطبين والطريقة التي ينبغي أن يخاطبهم بها من اللين والشدة ، أما الموعظة الحسنة فمنها ، بل من أحسنها ، أن يخاطب المرشد المخطئ بأسلوب يشعر


منه تلقائيا انه مخطئ ، ومن الحمق أن يفاجئه بالتأنيب والتوبيخ ، وقديما قيل : التلويح أبلغ من التصريح. وبكلمة ان الموعظة الحسنة هي التي تحقق الغرض المطلوب كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ـ ٣٣ فصلت».

٣ ـ الجدل بالتي هي أحسن ، وذلك بأن يكون الغرض منه اظهار الحق ، واقناع المنكر ، لا مجرد افحامه والتغلب عليه.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). بعد ان أمر الله نبيه الأكرم ان يبلّغ بالحكمة ، ويجادل بالأحسن قال له : هذا ما عليك ، أما هداية الناس فأنت غير مسؤول عنها .. وفي هذا النص إيماء الى ان الحماس في الدعوة لا يحسن في كل الأمور وعلى كل حال ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ ٢٨ الكهف».

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). هذا مثل قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٤ البقرة». وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الآية مدنية أدرجت في سورة مكية ، وان السبب لنزولها ان المشركين مثّلوا بقتلى المسلمين في وقعة أحد ، وبالخصوص حمزة بن عبد المطلب ، فإنهم شقّوا بطنه ، وأخذت هند ام معاوية كبده فلاكته ، وجدعوا أنفه وصلموا أذنيه وقطعوا مذاكيره ، فقال المسلمون : لئن أمكننا الله من المشركين لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات ، فنزلت الآية.

(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). بعد أن أشار سبحانه إلى ان القصاص لا يجوز إلا بالمثل قال : الأفضل العفو وكظم الغيظ ومثله قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ـ ٤١ الشورى».

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ). أي بعونه تعالى وتوفيقه ، والخطاب لمحمد (ص) والمراد به العموم. وتكلمنا عن الصبر عند تفسير الآية ١٥٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٤٣.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). ما من أحد يدعو الى الخير الا ويلاقي الأذى والعنت من أهل الشر دينيا كان أو زمنيا ، وقد أوصى


سبحانه كل من دعا ويدعو الى سبيله أن لا يحزن لتكذيب من كذّب واعراض من أعرض عن دعوته ، لأن العاقبة لمن اتقى (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) محارمه خوفا منه (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) بجهاد الباطل وأهله ، وبالعفو عن الناس فيما يعود الى الحق الخاص دون العام.

تم تفسير هذا المجلد في الليلة الثامنة من المحرم سنة ١٣٨٩ ه‍ الموافق ٢٧ آذار سنة ١٩٦٩ م ، وكتبت الملزمة الأخيرة منه في مدرسة المقدس السيد الشيرازي بسامراء ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


الفهرست

سورة التّوبة

براء من الله ورسوله الآية ١ ـ ٤.................................................. ٧

فاذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ٥ ـ ٨........................................... ١١

اشتروا بآيات الله الآية ٩ ـ ١٥................................................ ١٤

أم حسبتو ان تتركوا الآية ١٦ ـ ١٨............................................ ١٨

سقاية الحاج الآية ١٩ ـ ٢٢................................................... ٢٠

لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء الآية ٢٣ ـ ٢٤................................ ٢٢

لقد نصركم الله الآية ٢٥ ـ ٢٧................................................ ٢٣

قصة حنين.................................................................. ٢٤

المشركون نجس الآية ٢٢...................................................... ٢٧

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ٢٩ ـ ٣٣...................................... ٢٩

والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ٣٤ ـ ٣٥.................................. ٣٤

أبو ذر والاشتراكية........................................................... ٣٥

ان عدة الشهور الآية ٣٦ ـ ٣٧................................................ ٣٨

الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية............................................ ٣٩

ما لكم اذا قيل لكم الآية ٣٨ ـ ٤٠............................................ ٤١

انفروا خفافا وثقالا الآية ٤١ ـ ٤٣............................................. ٤٥

النفير العام.................................................................. ٤٦

لا يستأذنك الذين يؤمنون الآية ٤٤ ـ ٤٨...................................... ٤٩


ومنهم من يقول ائذن لي الآية ٤٩ ـ ٥٢........................................ ٥١

صدقات المنافقين الآية ٥٣ ـ ٥٧.............................................. ٥٣

فان اعطوا منها رضوا الآة ٥٨ ـ ٥٩........................................... ٥٧

مستحقو الزكاة الآية ٦٠...................................................... ٥٨

ويقولون هو اذن الآية ٦١ ـ ٦٣............................................... ٦٠

حذر المنافقون الآية ٦٤ ـ ٦٦................................................. ٦٣

المنافقون والمنافقات الآية ٦٧ ـ ٧٠............................................. ٦٥

والمؤمنون والمؤمنات الآية ٧١ ـ ٧٢............................................. ٦٨

جاهد الكفار والمنافقين الآية ٧٣ ـ ٧٤......................................... ٦٩

ومنهم من عاهد الله الآية ٧٥ ـ ٧٨............................................ ٧٢

الذين يلمزون المطوعين الآية ٧٩ ـ ٨٠......................................... ٧٤

فرح المخلفون بمقعدهم الآية ٨١ ـ ٨٣.......................................... ٧٦

ولا تصل على احد منهم الآية ٨٤ ـ ٨٩........................................ ٧٨

الصلاة على جنازة المنافق والفاسق.............................................. ٧٩

وجاء المعذرون الآية ٩٠ ـ ٩٣................................................. ٨٢

يعتذرون اليكم الآية ٩٤ ـ ٩٦................................................ ٨٩

الأعراب أشد كفراً ونفاقاً الآية ٩٧ ـ ٩٩........................................ ٩١

والسابقون الأولون الآية ١٠٠ ـ ١٠٢.......................................... ٩٣

خذ من أموالهم صدقة الآية ١٠٣ ـ ١٠٦....................................... ٩٧

مسجد الضرار الآية ١٠٧ ـ ١١٠............................................. ٩٩

الله يشتري ويبيع الآية ١١١ ـ ١١٢.......................................... ١٠٤

أبو طالب والاستغفار المشركين الآية ١١٣ ـ ١١٤.............................. ١٠٦

طبيعة الحال............................................................... ١٠٨

وما كان الله ليضل قوماً الآية ١١٥ ـ ١١٦.................................... ١١١

لقد تاب الله على النبي الآية ١١٧ ـ ١١٩.................................... ١١٢

ما كان لأهل المدينة الآية ١٢٠ ـ ١٢١....................................... ١١٥

فلولا نفر من كل فرقة الآية ١٢٢ ـ ١٢٣...................................... ١١٧

واذا ما انزلت سورة الآية ١٢٤ ـ ١٢٧........................................ ١٢١

بالمؤمنين رؤوف رحيم الآية ١٢٨ ـ ١٢٩...................................... ١٢٣


سورة يونس

تلك آيات الكتاب الحكيم الآية ١ ـ ٢........................................ ١٢٩

الخلق في ستة ايام الآية ٣ ـ ٤................................................ ١٣١

الحساب والجزاء حتم........................................................ ١٣٢

عدد السنين والحساب الآية ٥ ـ ١٠.......................................... ١٣٤

أين المتقون؟............................................................... ١٣٦

ولو يجعل الله الشر الآية ١١ ـ ١٤........................................... ١٣٧

انت بقرآن غر هذا الآية ١٥ ـ ١٧.......................................... ١٤٠

ويقولون هؤلاء شفعاؤنا الآية ١٨ ـ ٢٠........................................ ١٤٣

قل الله اسرع مكرا الآية ٢١ ـ ٢٣............................................ ١٤٥

مثل الحياة الدنيا الآية ٢٤ ـ ٢٥.............................................. ١٤٨

للذين أحسنوا الحسنى الآية ٢٦ ـ ٣٠......................................... ١٥٠

من يرزقكم من السماء والأرض الآية ٣١ ـ ٣٤................................ ١٥٣

من يهدي الى الحق الآية ٣٥ ـ ٣٩........................................... ١٥٦

ومنهم من يؤمن به الآية ٤٠ ـ ٤٤........................................... ١٦١

ويوم يحشرهم الآية ٤٥ ـ ٤٧................................................ ١٦٣

متى هذا الوعد الآية ٤٨ ـ ٥٦............................................... ١٦٥

بالله عليك يا محمد أنت نبي؟................................................ ١٦٨

لقد جائكم موعظة الآية ٥٧ ـ ٦٠........................................... ١٧٠

وما تكون في شأن الآية ٦١ ـ ٦٤............................................ ١٧٣

ان العزة لله جميعا الآية ٦٥ ـ ٧٠............................................. ١٧٥

نبأ نوح الآية ٧١ ـ ٧٣..................................................... ١٧٨

ثم بعثنا من بعده رسلاً الآية ٧٤ ـ ٨٢........................................ ١٨٠

حول الهداية والضلال....................................................... ١٨٢

فما آمن لموسى الآية ٨٣ ـ ٨٩.............................................. ١٨٣

وجاوزنا ببني اسرائيل البحر الآية ٩٠ ـ ٩٣..................................... ١٨٧

نهاية الطاغية............................................................... ١٨٨

فإن كنت في شك الآية ٩٤ ـ ٩٧............................................ ١٩٠

قوم يونس الآية ٩٨ ـ ١٠٠................................................. ١٩٢


القصة.................................................................... ١٩٣

وما معنى الآيات والنذر الآية ١٠١ ـ ١٠٦.................................... ١٩٥

وان يمسك الله بضر الآية ١٠٧ ـ ١٠٩....................................... ١٩٨

سورة هود

كتاب احكمت آياته الأية ١ ـ ٤............................................ ٢٠٣

يثنون صدورهم الآية ٥..................................................... ٢٠٥

وما من دابة في الأرض الآية ٦ ـ ٨........................................... ٢٠٩

حول الانسان الآية ٩ ـ ١١................................................. ٢١١

لولا انزل عليه كنز الآية ١٢ ـ ١٤............................................ ٢١٤

من كان يريد الحياة الدنيا الآية ١٥ ـ ١٧...................................... ٢١٦

اولئك يعرضون على ربهم الآية ١٨ ـ ٢٤...................................... ٢١٩

رسالة نوح الآية ٢٥ ـ ٢٦................................................... ٢٢٢

بين نوح وقومه الآية ٢٧ ـ ٣١............................................... ٢٢٣

قالوا يا نوح قد جادلتنا الآية ٣٢ ـ ٣٥........................................ ٢٢٦

وأوحي الى نوح الآية ٣٦ ـ ٣٩............................................... ٢٢٨

وفار التنور الآية ٤٠ ـ ٤٤.................................................. ٢٣٠

ونادى نوح ربه الآية ٤٥ ـ ٤٩............................................... ٢٣٤

أسطورة حول العاشر من المحرم................................................ ٢٣٦

الطوفان ثابت عند الأمم.................................................... ٢٣٧

هود الآة ٥٠ ـ ٥٦........................................................ ٢٣٧

فإن تولوا الآية ٥٧ ـ ٦٠.................................................... ٢٤١

صالح الآية ٦١ ـ ٦٣....................................................... ٢٤٣

ناقة الله الآية ٦٤ ـ ٦٨..................................................... ٢٤٥

الملائكة يبشرون ابراهيم الآية ٦٩ ـ ٧٣....................................... ٢٤٧

ابراهيم يجادل في قوم لوط الآية ٧٤ ـ ٧٦..................................... ٢٥٠

لوط الآية ٧٧ ـ ٧٠........................................................ ٢٥٢

لن يصلوا اليك الآية ٨١ ـ ٨٣............................................... ٢٥٤

شعيب الآية ٨٤ ـ ٨٦...................................................... ٢٥٦

أصلاتك تأمرك الآية ٨٧ ـ ٩٠.............................................. ٢٥٨


الاشتراكية والرأسمالية عبر التاريخ............................................. ٢٥٩

ولولا رهطك لرجمناك الآية ٩١ ـ ٩٥.......................................... ٢٦٢

موسى الآية ٩٦ ـ ٩٩...................................................... ٢٦٤

ذلك من انباء القرى الآية ١٠٠ ـ ١٠٢....................................... ٢٦٥

وذلك يوم مشهود الآية ١٠٣ ـ ١٠٩........................................ ٢٦٧

ولولا كلمة سبقت من ربك الآية ١١٠ ـ ١١٥................................. ٢٧١

الاستقامة................................................................. ٢٧٣

مسؤولية التضامن ضد الظلم................................................. ٢٧٤

فلولا كان من القرون الآية ١١٦ ـ ١١٩...................................... ٢٧٦

وكلا نقص عليك الآية ١٧٠ ـ ١٢٣......................................... ٢٨٠

سورة يوسف

تلك آيات الكتاب المبين الآية ١ ـ ٣......................................... ٢٨٥

رأيت أحد عشر كوكباً الآية ٤ ـ ٦........................................... ٢٨٧

يوسف واخوته الآية ٧ ـ ١٥................................................. ٢٨٩

المصلحة فوق القرابة........................................................ ٢٩٠

بين أولاد إسرائيل وأولاد العلماء.............................................. ٢٩٣

وجاؤ آبائهم عشاء يبكون الآية ١٦ ـ ٢٠..................................... ٢٩٤

وقال الذي اشتراه الآية ٢١ ـ ٢٢............................................ ٢٩٦

وقالت هيث لك الآية ٢٣.................................................. ٢٩٨

الإنسان والمال والجنس...................................................... ٢٩٩

ولقد همت به وهم بها الآية ٢٤ ـ ٢٩......................................... ٣٠١

القضاء بشاهد الحال........................................................ ٣٠٥

أمرأة العزيز ونسوة المديبة الآية ٣٠ ـ ٣٥...................................... ٣٠٧

ودخل معه السجن فتيان الآية ٣٦ ـ ٣٨...................................... ٣١١

ياصاحبي السجن الآية ٣٩ ـ ٤٠............................................. ٣١٣

لا حكم الا لله............................................................. ٣١٥

تعبير رؤيا صاحبي السجن الآية ٤١ ـ ٤٢..................................... ٣١٦

سبع بقرات سمان الآية ٤٣ ـ ٤٩............................................. ٣١٧


الأحلام ونظرية فرويد....................................................... ٣١٩

وقال الملك ائتوني به الآية ٥٠ ـ ٥٣.......................................... ٣٢٣

يوسف عزيز مصر الآية ٥٤ ـ ٥٧............................................ ٣٢٩

وجاء اخوة يوسف الآية ٥٨ ـ ٦٢............................................ ٣٣٢

فأرسل معنا اخانا الآية ٦٣ ـ ٩٦............................................. ٣٣٤

لا تدخلوا من باب واحد الآية ٦٧ ـ ٦٨...................................... ٣٣٦

أنا أخوك فلا تبتئس الآية ٦٩ ـ ٧٦.......................................... ٣٣٩

ان يسرق فقد سرخ اخ الآية ٧٧ ـ ٨٠........................................ ٣٤٣

وما شهدنا الا بما علمنا الآية ٨١ ـ ٨٧....................................... ٣٤٦

انا يوسف الآية ٨٨ ـ ٩٣................................................... ٣٥٠

اني لاجد ريح يوسف الآية ٩٤ ـ ٩٨......................................... ٣٥٤

اجتماع يوسف ويعقوب الآية ٩٩ ـ ١٠٢..................................... ٣٥٦

هل سورة يوسف قصة غرام.................................................. ٣٦١

وما اكثرالناس بمؤمنين الآية ١٠٣ ـ ١٠٧...................................... ٣٦٣

قل هذه سبيلي الآية ١٠٨ ـ ١١١........................................... ٣٦٥

سورة الرّعد

تلك آات الکتاب الآية ١.................................................. ٣٧١

رفع السموات بغر عمد الآية ٢ ـ ٤.......................................... ٣٧٢

السيد الأفغاني والدهريون.................................................... ٣٧٦

اننا لفي خلق جديد الآية ٥ ـ ٧.............................................. ٣٧٧

الماديون والحياة بعد الموت.................................................... ٣٧٩

علم الله الآية ٨ ـ ١١....................................................... ٣٨٢

لا يغير حتى يغيروا.......................................................... ٣٨٥

هو الذي يريكم البرق الآية ١٢ ـ ١٥......................................... ٣٨٦

هل يستوي الأعمى والبصير الآية ١٦........................................ ٣٩٠

عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله........................................... ٣٩١

فأما الزبد فيذهب جفاء الآية ١٧ ـ ١٨....................................... ٣٩٣

انما انزل اليك من ربك الحق الآية ١٩ ـ ٢٥.................................... ٣٩٦


يبسط الرزق الآية ٢٦ ـ ٢٩................................................. ٤٠٠

الإنسان والرزق............................................................ ٤٠١

كذلك أرسلناك في أمة الآية ٣٠ ـ ٣١........................................ ٤٠٣

تفكير الطغاة.............................................................. ٤٠٥

وقد استهزي برسل من قبلك الآية ٣٢ ـ ٣٤................................... ٤٠٧

مثل الجنة الآية ٣٥ ـ ٣٨.................................................... ٤١٠

الشيعة الإمامية والصحابة................................................... ٤١٢

يمحو الله ما يشاء ويثبت الآية ٣٩ ـ ٤٣...................................... ٤١٤

راحة الضمير والوجدان...................................................... ٤١٧

سورة ابراهيم

الدين نور الآية ١ ـ ٤....................................................... ٤٢١

ولقد أرسلنا موسى الآية ٥ ـ ٨............................................... ٤٢٤

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم الآية ٩ ـ ١٢................................... ٤٢٧

لنخرجكم من أرضنا الآية ١٣ ـ ١٧.......................................... ٤٣١

أعمالكم كرماد الآية ١٨ ـ ٢١.............................................. ٤٣٤

الظالم والمظلوم............................................................. ٤٣٦

وعد الرحمن ووعد الشيطان الآية ٢٢ ـ ٢٣.................................... ٤٣٨

كلمة طيبة وكلمة خبيثة الآية ٢٤ ـ ٢٧....................................... ٤٤٢

بدلوا نعمة الله كفرا الآية ٢٨ ـ ٣١........................................... ٤٤٥

وأنزل من السماء ماء الآية ٣٢ ـ ٣٤......................................... ٤٤٧

هل الإنسان مجرم بطبعه..................................................... ٤٤٩

رب اجعل هذا البلد آمنا الآية ٣٥ ـ ٤١...................................... ٤٥٠

الأنبياء واستجابة الدعاء..................................................... ٤٥١

الظالم غافل غير مغفول عنه الآية ٤٢ ـ ٤٥................................... ٤٥٤

وقد مكروا مكرهم الآية ٤٦ ـ ٥٢............................................ ٤٥٧

جهنم والأسلحة الجهنمية.................................................... ٤٥٩

سورة الحجر

تلك آيات الكتاب الآية ١ ـ ٥.............................................. ٤٦٥


انك لمجنون الآية ٦ ـ ١٨.................................................... ٤٦٦

والآرض مددناها الآية ١٩ ـ ٢٥............................................. ٤٧٠

الانسان من صلصال الآية ٢٦ ـ ٣١......................................... ٤٧٣

الله يسأل وابليس مجيب الآية ٣٢ ـ ٤٤....................................... ٤٧٦

ان المتقين في جنات الآية ٤٥ ـ ٥٠........................................... ٤٧٩

ضيف ابراهيم الآية ٥١ ـ ٦٠................................................ ٤٨١

آل لوط الآية ٦١ ـ ٧٢..................................................... ٤٨٢

أخذتهم الصيحة الآية ٧٣ ـ ٨٦............................................. ٤٨٥

السبع المثاني والقرآن العظيم الآية ٨٧ ـ ٩٩.................................... ٤٨٨

سورة النّحل

أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية ١ ـ ٤........................................ ٤٩٥

الانعام والخيل والبغال والحمير الآية ٥ ـ ٩...................................... ٤٩٧

التذكير بنعم الله الآية ١٠ ـ ١............................................... ٥٠٠

الذين يدعون من دون الله الآية ٢٠ ـ ٢٣..................................... ٥٠٣

قالوا اساطير الأولين الآية ٢٤ ـ ٢٩.......................................... ٥٠٥

قالوا خيراً الآية ٣٠ ـ ٣٤.................................................... ٥٠٨

وقال الذين أشركو الآية ٣٥ ـ ٣٧............................................ ٥١١

وأقسموا بالله الآية ٣٨ ـ ٤٢................................................. ٥١٣

فأسألوا أهل الذكر الأية ٤٣ ـ ٥٠........................................... ٥١٥

انما هو إله واحد الآية ٥١ ـ ٥٥............................................. ٥١٩

ويجعلون لله البنات الآة ٥٦ ـ ٦٠............................................ ٥٢١

انما يعجل من يخاف الموت الآية ٦١ ـ ٦٤..................................... ٥٢٤

والله أنزل من السماء ماء الآة ٦٥ ـ ٦٩...................................... ٥٢٦

فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية ٧٠ ـ ٧٤............................. ٥٢٩

القادر والعاجز الآية ٧٥ ـ ٧٧............................................... ٥٣٢

والله أخرجكم من بطون امهاتكم الآية ٧٨ ـ ٨٣............................... ٥٣٤

الكون اكبر من الصواريخ.................................................... ٥٣٦

احترام البيت في الشريعة..................................................... ٥٣٨


فكيف بنعمة الذهب الأسود................................................ ٥٣٩

نبعث من كل أمة شهيداً ٨٤ ـ ٨٩........................................... ٥٤٠

الله يأمر بالعدل والاحسان الآية ٩٠ ـ ٩٣.................................... ٥٤٣

ما عندالله خيرالآة ٩٤ ـ ١٠٠............................................... ٥٤٧

آة مكان آة الآة ١٠١ ـ ١٠٥............................................. ٥٥١

الكاذب الكافر............................................................ ٥٥٤

وقلبه مطمئن بالايمان الآة ١٠٦ ـ ١١١...................................... ٥٥٥

قريةكانت آمنة الآة ١١٢ ـ ١١٣........................................... ٥٥٨

كلوا واشكروا الآية ١١٤ ـ ١١٩............................................. ٥٥٩

ان ابراهيم كان امة الآة ١٢٠ ـ ١٢٤........................................ ٥٦١

الحكمة والموعظة الحسنة الآة ١٢٥ ـ ١٢٨.................................... ٥٦٣

التفسير الكاشف - ٤

المؤلف:
الصفحات: 575