
بسم الله الرحمن
الرحيم
بسمه تعالى
الحمد لله رب
العالمين والصلوة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على
اعدائهم ومخالفيهم من الآن إلى قيام يوم الدين وبعد فهذا هو الجزء السابع والأخير
من كتابنا المدرس الافضل فيما يزمز ويشار اليه في المطول واسئل الله تعالى أن
يوفقني لاتمامه كما وفقني لأتمام سائر الأجزاء انه سميع مجيب.
الفن الثالث من الفنون الثلاثة ـ علم البديع
الأضافة هنا
عهدية أي المعلوم اضافته الى البديع والبديع في اللغة كما في المصباح ما كان فيه
معنى التعجب وذلك لغرابته وكونه عادما للنظير (وهو) أي علم البديع (علم) أي ملكة
أو قواعد (يعرف به) أي بذلك العلم أي بتلك الملكة أو القواعد (وجوه تحسين الكلام)
أي الامور التي بها يحسن الكلام معنى أو لفظا (أي يتصور معانيها) وبعبارة أخرى أنا
نتمكن بتلك الملكة أو القواعد أن تتصور ان هذا الامر مما يحسن به الكلام معنى أو
لفظا (ويعلم) به أي بذلك العلم أي بتلك الملكة أو القواعد (أعدادها) اي اعداد وجوه
التحسين (وتفاصيلها) حسبما يأتي في طي المسائل الآتية (بقدر الطاقة) التي اعطاها
الله المفضال للأشخاص بقدر أستعداداتهم
وقابلياتهم وإنما قيد بذلك لأن الوجوه المحسنة البديعية غير منحصرة في عدد
معين لا يمكن زيادتها عليه.
لا يقال فعلى
هذا تكون الوجوه المحسنة مجهولة والتعريف بالمجهول غير صحيح.
لأنا نقول
الاضافة هنا للعهد (فوجوه تحسين الكلام اشارة الى الوجوه المذكورة في صدر الكتاب
في قوله وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا) فكأنه يقول علم يعرف به الوجوه المشار
اليها في صدر الكتاب وهي الوجوه التي تحسن الكلام وتورثه قبولا بعد رعاية البلاغة
مع الفصاحه.
(و) حينئذ يكون
(قوله بعد رعاية المطابقة أي مطابقة الكلام لمقتضى الحال) المبينة هناك أي في علم
المعاني (و) بعد (رعاية وضوح الدلالة) المبينة في علم البيان (أي الخلو عن التعقيد
المعنوي) وأما الخلو عن التعقيد اللفظي فهو داخل في قوله بعد رعاية المطابقة لأن
المطابقة لا تعتبر إلا بعد الفصاحة وهي تتوقف على الخلو عن التعقيد اللفظي.
والحاصل أن
قوله هذا (للتنبيه ان هذه الوجوه إنما تعد محسنة للكلام بعد رعاية) هذين (الأمرين)
المذكورين (وإلا) أي وان لم تراع هذين الأمرين (لكان) ما ذكر من الوجوه (كتعليق
الدرر على اعناق الخنازير) وفيه اشارة لطيفة الى أن رتبة هذا العلم بعد ذينك
العلمين.
(فقوله بعد)
ظرف لغو (متعلق بالمصدر أعني تحسين الكلام) فيكون المعنى أن تحسين الكلام بهذه
الوجوه إنما يكون بعد رعاية الأمرين فبعدية التحسين إنما هي من حيث الملاحظة لا من
حيث الوجود لأن وجود التحسين مقارن لوجود الأمرين وأما اذا جعل ظرفا مستقرا بأن
يكون متعلقا
بمحذوف من أفعال العموم فالذي بعدهما حينئذ هو الحصول فيقتضي انه متأخر
عنهما في الوجود لأن المعنى حينئذ حالة كون التحسين حاصلا بعدهما.
(ولا يجوز أن
يكون المراد بوجوه التحسين مفهومها الأعم) يعني (الشامل للمطابقة لمقتضى الحال
والخلو عن التعقيد وغير ذلك مما يورث الكلام حسنا سواء كان داخلا في البلاغة او
غير داخل) فيها (ويكون قوله بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة احترازا عما يكون
داخلا في البلاغة مما يتبين في علم المعاني) وهو المطابقة لمقتضى الحال (و) في علم
(البيان) وهو الخلو عن التعقيد المعنوي (و) في علم متن اللغة وهو السلامة عن وهو
الغرابة (و) في علم (الصرف) وهو السلامة عن مخالفة القياس (و) في علم (النحو) وهو
السلامة عن ضعف التأليف والتعقيد اللفظي وقد بين كل ذلك في المقدمة فراجع ان شئت.
وإنما لا يجوز
ذلك (لأنه يدخل فيها) أي في الوجوه (حينئذ) أي حين اذ يكون المراد بوجوه التحسين
مفهومها الأعم الشامل لما ذكر (بعض ما ليس من المحسنات التابعة لبلاغة الكلام
كالخلو عن التنافر مثلا) وجه عدم كونه من المحسنات التابعة للبلاغة انه كسائر ما
اشترط في بلاغة الكلام وفصاحته داخل في البلاغة فليس تابعا في ايراث الحسن الذاتي
للكلام (مع انه) أي الخلو عن التنافر (ليس من علم البديع).
والحاصل انه
يلزم على هذا المفهوم العام أن يدخل في هذا الفن أي علم البديع بعض ما ليس منه وهو
الخلو من التنافر فأنه ليس داخلا في علمي المعاني والبيان ولا في غيرهما من العلوم
المذكورة بل يدرك كما تقدم في آخر المقدمة بالحس اذ به يدرك ان مستشزرا متنافر دون
مزتفع وكذا تنافر الكلمات.
فتحصل مما
بيناه أن حاصل الكلام في المقام انه لو أريد بوجوه التحسين مفهومها الاعم الشامل
للمطابقة لمقتضى الحال والخلو عن التعقيد وغير ذلك مما يورث حسنا سواء كان داخلا
في البلاغة أو غير داخل وجعل قوله بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة احترازا عما
يكون داخلا في البلاغة مما يتبين في العلوم المذكورة لكان تعريف علم البديع غير
مانع وذلك غير جائز.
(وهي أي وجوه
تحسين الكلام ضربان) أي قسمان قسم (معنوي أي راجع الى تحسين المعنى بحسب العراقة
والاصالة) العطف تفسيري وإنما نسب هذا القسم الى المعنى لأنه راجع الى تحسينه اولا
وبالذات بمعنى أن هذا القسم قصد أن يكون كل فرد من أفراده محسنا للمعنى لذاته (وإن
كان بعضها لا يخلو عن تحسين ما للفظ) أيضا.
والحاصل ان
التحسين في هذا القسم تحسين للمعنى اولا ومتعلق به لذاته وأما تعلق القصد بكونه
تحسينا للفظ فيكون ثانيا وبالعرض وإنما يكون هكذا لأن هذه الوجوه قد يكون بعضها
محسنا للفظ لكن القصد الأصلي منها إنما هو الى كونها محسنة للمعنى كما يأتي بيانه
في المشاكلة اذ هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير نحو :
قالوا اقترح
شيئا نجد لك طبخة
|
|
قلت اطبخوا
لي جبة وقميصا
|
فقد عبر عن
الخياطة بالطبخ لوقوعها في صحبته فاللفظ حسن لما فيه من ايهام المجانسة اللفظية
لان المعنى مختلف واللفظ متفق لكن الغرض الاصلي انما هو المعنى وهو جعل الخياطة
كطبخ الطعام في أقتراحها لوقوعها في صحبته وأما تعلق الغرض بتحسينه اللفظي المشار
اليه فهو ثانيا وبالعرض وعلى وجه المرجوحية وكذلك العكس كما في قولهم عادات
السادات سادات
العادات ففيه تحسين اللفظ والغرض الاصلي تحسين المعنى وهو الاخبار بعكس
الفقرة الاولى مع صحته.
(و) قسم (لفظي
أي راجع الى اللفظ كذلك) أي وان كان بعض أفراده لا يخلو عن تحسين ما للمعنى حسبما
يأتي بيانه في محله انشاء الله تعالى.
(وبدء بالمعنوي
لأن المقصود الاصلي) في مقام التفهيم والتفهم (والغرض الأولى) في ذلك المقام (هو
المعاني) فينبغي حينئذ الإهتمام بالوجوه المحسنة لها وتقديمها على الوجوه المحسنة
لغيرها (والالفاظ توابع) من حيث أن المعنى يستحضر في ذهن المتكلم او لا ثم يؤتي
باللفظ على طبقة (وقوالب لها) أي للمعاني والى ذلك أشار الشيخ فيما نقلنا عنه في
صدر الكتاب وهذا نصه لما كانت المعاني تتبين بالالفاظ ولم يكن لترتيب المعاني سبيل
إلا بترتيب الألفاظ الى آخر ما ذكر هناك.
(فقال اما
المعنوي فالمذكور منه في) هذا (الكتاب تسعة وعشرون) وجها (فمنه المطابقة وتسمى
الطباق والتضاد أيضا و) يسمى (التطبيق والتكافوء أيضا) ويعرف وجه التسمية من قوله (وهي
الجمع) في كلام واحد أو ما هو في حكم كلام واحد بأن يكون بين الكلامين أو أكثر
اتصال بوجه ما (بين متضادين أي معنيين متقابلين) هذا أقل ما يحصل به المطابقة
بالجمع بين أكثر من معنيين فهو نظير باب التنازع في النحو حيث يقول الناظم ان
عاملان اقتضيا في اسم عمل فأنه قد يكون التنازع بين اكثر من عاملين (في الجملة
يعني ليس المراد بالمتضادين ههنا) خصوص (الامرين الوجوديين المتواردين على محل
واحد بينهما غاية الخلاف كالسواد والبياض بل) المراد ما هو (أعم من ذلك وهو ما
يكون بينهما تقابل وتناف)
عطف تفسير (في الجملة وفي بعض الاحوال) كما في التقابل الاعتباري وسيأتي
بيانه الآن (سواء كان التقابل حقيقيا) كتقابل الأمرين الذين بينهما غاية الخلاف
لذاتيهما كتقابل القدم والحدوث (أو اعتباريا) وذلك كتقابل الأحياء والاماتة فأنهما
لا يتقابلان إلا بإعتبار بعض الاحوال وهو ان يتعلق الأحياء بحياة جرم في وقت
والأماتة بأماتته في ذلك الوقت وإلا فلا تقابل بينهما بأعتبار ذاتهما ولا بأعتبار
المتعلق عند تعدد الوقت.
(وسواء كان)
التقابل الحقيقي (تقابل التضاد) كالسواد والبياض وكتقابل الحركة والسكون على الجرم
الموجود بناء على انهما وجوديان (أو تقابل الايجاب والسلب) كتقابل مطلق الوجود
وسلبه (أو تقابل العدم والملكة) كتقابل العمى والبصر وكتقابل القدرة والعجز بناء على
أن العجز عدم القدرة عمن شأنه الاتصاف بها (او تقابل التضايف) كتقابل الأبوة
والبنوة (او ما يشبه شيئا من ذلك) أي ما يكون ملحقا بذلك مما يشعر بالتنافي
لأشتماله بوجه ما على ما يوجب التنافي بين شيئين وسيأتي بيانه عنقريب في قوله (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ
بَيْنَهُمْ) وغيرها من الآيات التي تذكر هناك وبما ذكرنا من الأمثلة
يتضح المراد من قوله (على ما يجييء من الأمثلة) فعليك بتطبيق ما ذكرنا على ما
يجييء من الامثلة (ويكون ذلك الجمع) بين متضادين (بلفظين من نوع) واحد (من أنواع
الكلمة) بأن يكونا (اسمين نحو قوله تعالى (وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)) الأيقاظ جمع يقظ على وزن عضد أو كتف بمعنى يقظان
والرقود جمع راقد فالجمع بين ايقاظ ورقود مطابقة لأن اليقظة تشتمل على الادراك
بالحواس والنوم يشتمل على عدمه فبينهما شبه العدم والملكة بأعتبار لازميهما واما بأعتبار
ذاتيهما فبينهما التضاد لأن النوم عزض يمنع ادراك الحواس واليقظة عزض
يقتضي الادراك بها وان قلنا ان اليقظة عدم ذلك الادراك كان بينهما تقابل
عدم وملكة وكيفكان فهما اسمان.
(أو فعلين نحو)
قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي (يُحْيِي
وَيُمِيتُ)) وله اختلاف الليل والنهار الشاهد في الاحياء والاماتة
وقد تقدم الكلام فيهما آنفا فلا نعيده (أو حرفين نحو قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ)) لما كان التقابل بين اللام وعلى غير ظاهر بخلاف ما ذكر
بينه التفتازاني بقوله (فأن في اللام معنى الانتفاع) وذلك لأن اللام مشعرة
بالملكية المؤذنة بالانتفاع (وفي على معنى التضرر) وذلك لأن على تشعر بالعلو
المشغر بالتحمل أو الثقل المؤذن بالتضرر فصار تقابلهما أي اللام وعلى كتقابل النفع
والضرر وهما ضدان (أي لها) أي للنفس (ما كسبت من خير) من ثواب الطاعات (وعليها) أي
على النفس (ما أكتسبت من شر) من عقاب المعاصي (لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر
بمعصيتها غيرها) هذا الحصر مستفاد من تقديم الجار والمجرور على عامله فالانتفاع
الحاصل من الدعاء والصدقة ونحوهما للغير انتفاع بثمرة الطاعة لا بنفسها فتدبر
جيدا.
(وتخصيص الخير
بالكسب) أي بالثلاثي المجرد (والشر بالاكتساب) أي بالثلاثي المزيد فيه (لأن
الاكتساب) أي باب الافتعال (فيه اعتمال) أي تعمل أي تكلف بالطلب (والشر تشتهيه
الأنفس وتنجذب اليه فكانت أجد في تحصيله واعمل) وذلك لأن النفس امارة بالسوء.
قال في شرح
النظام في بحث معاني باب الافتعال ما هذا نصه وأفتعال للمطاوعة غالبا نحو غممته اي
احدثت فيه الغم فاغتم والاتخاذ نحو اشتوى أي اتخذ النوى لنفسه. وبمعنى التفاعل نحو
اجتوروا واختصموا بمعنى تجاوروا وتخاصموا للتصرف وهو المعاناة في تحصيل الشيء
والمبالغة
الاحتيال فيه نحو اكتسب والفرق بينه وبين كسب ان ذلك تحصيل شيء على أي وجه
كان بخلاف الاكتساب ولهذا قال عز من قائل لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت تنبيها على
ان الثواب انما يرجى على أي فعل حسن كان وان كان صدر عنه على سبيل الاتفاق والعقاب
لا يكون الا على منهى عنه بولغ في ارتكابه وانسد طريق الاعتذار عنه انتهى.
قال المحشى
معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان ومعنى الاكتساب المبالغة والاعتمال فيه و
من ذلك قوله
تعالى (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه فأثبت لهم ثواب
الفعل على أي وجه كان ولم يثبت عليهم عقاب الفعل الا على وجه المبالغة والاعتمال
فيه.
قال الزمخشري
لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة اليه وامارة به كانت في تحصيله اعمل
واجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله وصف
بما لا دلالة على الاعتمال والتصرف انتهى.
(او من نوعين
عطف على) على ما سبق اعني (قوله من نوع والقسمة) الثنائية العقلية (تقتضي ان يكون
هذا ثلاثة اقسام اسم مع فعل واسم مع حرف وفعل مع حرف لكن الموجود) من هذه الاقسام
الثلاثة في الكلام البليغ (هو) القسم (الاول) اي اسم وفعل (فقط نحو قوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)) اي ضالا فهديناه (فأن الموت) المعتبر في ميتا (والاحياء)
الدال على الحياة مما يتقابلان في الجملة) حسبما مر بيانه آنفا (وقد ذكر الاول)
يعني الموت (بالاسم والثاني) يعني الاحياء (بالفعل) المعتبر فيه الحياة.
(وهو اي الطباق
ضربان) احدهما (طباق الايجاب) وهو ان يكون اللفظان المتقابلان معناهما موجبا (كما
مر) في الامثلة المتقدمة (و) ثانيهما (طباق السلب وهو ان يجمع بين فعلي مصدر واحد
احدهما مثبت والآخر منفي او احدهما امر والاخر نهي) فان الامر يدل على طلب الفعل
والنهي على طلب الكف عن الفعل والفعل والكف متضادان فيكون التقابل باعتبار الكف
والفعل لا باعتبار مصدر الفعلين لاتحاده فيهما وانما جعل هذا من تقابل السلب
والايجاب لان المطلوب في احدهما كما يأتي سلب من حيث المعنى وفي الاخر ايجاب كذلك (فالاول)
وهو ما كان احدهما مثبتا والاخر منفيا (نحو قوله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) ظاهرا من الحياة الدنيا) فان العلم الاول منفي والثاني
مثبت وفيهما تقابل في الجملة اي باعتبار النفي والاثبات مع قطع النظر عن خصوصية
العلم لا مطلقا لان المنفى علم ينفع في الاخرة والمثبت علم لا ينفع فيها فلا تنافي
بينهما مع هذه الخصوصية.
(والثاني) وهو
ان يكون احدهما امرا والاخر نهيا (نحو (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)) هذه الآية نظير الاية المتقدمة اذ من المعلوم أن
الخشية ليست مامورا بها ومنهيا عنها من جهة واحدة بل من جهتين كما في الاية
المتقدمة فقد امر بها باعتبار كونها لله تعالى ونهى عنها بأعتبار كونها للناس
فالتنافي بينهما انما هو في الجملة اي باعتبار المتعلق مع قطع النظر عن الخصوصية
لا مطلقا لان المأمور بها الخشية لله والمنهي عنها الخشية للناس فتأمل.
(ومن) اقسام (الطباق
ما سماه بعضهم تدبيجا من دبج المطر الارض) اذا سقاها فانتت ازهارا مختلفة كذا في
المصباح ومن ذلك يعرف
وجه التفسير في قوله (وفسره) ذلك البعض (بان يذكر في معنى المدح أو غيره)
كالهجاء والرثاء ونحوهما (الوان) مختلفة فذكر الالوان في الكلام تشبيه بما يحدث
بالمطر من الوان النبات والازهار ويحتمل ان يكون مأخوذا من الدبج وهو النقش لان
ذكر الالوان كالنقش على البساط وكذلك الديباج للثوب المعروف.
(لقصد الكناية)
بالكلام المشتمل على تلك الالوان (او التورية) بذلك الكلام وسيأتي المراد من
التورية (واراد) البعض (بالالوان ما فوق الواحد) ولو كان اثنين بقرينة ما يذكره من
المثال الآتي وذلك بناء على ما هو المصطلح عند أهل الميزان.
(ولما كان هذا
داخلا في تفسير الطباق) المذكور في اول المبحث (لما بين اللونين) او الالوان (من
التقابل) الظاهر (صرح المصنف بأنه من أقسام الطباق وليس قسما من المعنوي برأسه) اي
على حدة.
(فتدبيج
الكناية نحو قول ابي تمام في مرثية ابي نهشل محمد بن حميد حين استشهد تردى ثياب
الموت حمرا فما اتى لها اي لتلك الثياب الليل الا وهي من سندس خصر اي ارتدى الثياب
الملطخة بالدم فلم ينقض يوم قتله ولم يدخل في ليلته الا وقد صارت الثياب من سندس
خضر أي من ثياب الجنة فقد ذكر) ابو تمام (لون الحمرة والخضرة والقصد من) اللون (الاول
الكناية عن القتل) لان التردي بثياب الموت حال كونها حمرا يلزم منه القتل (و)
القصد (من) اللون (الثاني الكناية عن دخول الجنة) لما علم ان اهل الجنة يلبسون
الحرير الاخضز وصيرورة هذه الثياب الحمر تلك الثياب الخضر عبارة عن انقلاب حال
القتل الى حال التنعم بالجنة.
(وما في هذا
البيت من الكناية قد بلغ من الوضوح الى حيث يستغني عن البيان ولا ينفيه الا من لا
يعرف معنى الكناية) وهو معذور لانه ليس من أهل الدراية ومضرات الجهل ليس لها
نهاية.
(واما تدبيج
التورية) والمراد منها ان يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد وهذا هو
الايهام الذي تقدم في صدر الكتاب (فكقول الحريري فمذ اغبر العيش الاخضر) خضرة
العيش كناية عن طيبه ونعومته وكماله لان اخضرار العود والنبات يدل على طيبه
ونعومته وكونه على اكمل حال فيكنى به عن لازمه في الجملة الذي هو الطيب والحسن
والكمال واغبرار العيش كناية عن ضيقه ونقصانه وكونه في حال التلف لان اغبرار
النبات والارض يدل على الذبول والتغير والرثاثة فيكنى به عن هذا اللازم (وازور) أي
تباعد واعرض ومال عني (المحبوب الاصفر) الشاهد هنا وسيأتي بيانه (اسود يومي الابيض)
اسوداد اليوم كناية عن ضيق الحال وكثرة الهموم فيه لان اسوداد الزمان كالليل
يناسبه الهموم ووصفه بالبياض كناية عن سعة الحال والفرح والسرور لان بياض النهار
يناسب ذلك (وابيض فودى الاسود) الفود شعر جانب الرأس مما يلي الاذن وابيضاض فوده
كناية عن ضعف بنيته ووهنه من كثرة الهموم والاحزان (حتى رثي لي) اي رق لي واشفق
علي (العدو الازرق) أي الخالص العداوة الشديدها وانما وصف العدو الشديد العداوة
بالزرقة لانه في الاصل كان اهل الروم اعداء للعرب والزرقة غالبة عليهم ثم وصف كل
عدو شديد العذاوة بها على طريق الكناية وان لم يكن ازرق (فياحبذا الموت الاحمرة)
حمرة الموت كناية عن شدته ويحتمل ان يراد بالموت الاحمر القتل.
اما الشاهد (فالمعنى
القريب للمحبوب الاصفر هو الانسان الذي له صفرة والبعيد هو الذهب وهو المراد هنا
فيكون تورية).
وقد علم من
جميع ما ذكرنا ان جمع الالوان لا يقتضي ان يكون في كل لون تورية بل قد تجمع
الالوان لقصد التورية بؤاحد منها كما هنا فان الحريري جمع بين الاغبرار والاخضرار
والاصفزار والاسوداد والأبيضاض والزرقة والحمرة وقد بينا ان التورية في واحد منها
والباقي كناية.
(ويلحق به اي
بالطباق شيئان احدهما الجمع بين معنيين يتعلق احدهما بما يقابل الاخر نوع تعلق مثل
السببية واللزوم) وبعبارة اخرى احدهما الجمع بين معنيين ليس احدهما مقابلا للاخر
لكن يتعلق احدهما بمعنى يقابل المعنى الآخر وذلك التعلق اما لوجود السببية
والمسببية بين المتعلق بالكسر والمتعلق بالفتح او لوجود الملازمة بينهما واما نفس
المعنيين فلا تقابل بينهما بل بين احدهما ومتعلق الآخر نحو) الرحمة والشدة في (قوله
تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
فان الرحمة وان
لم تكن مقابلة للشدة) فانه لا تنافي بينهما لانهما قد يجتمعان فان الرحمة قد تكون
شديدة (لكنها) أي الرحمة (مسببة عن اللين الذي هو ضد الشدة) ومن المعلوم ان منافي
السبب لا يجب أن يكون منافيا للمسبب كالبرودة والحرارة بالنسبة لتأثز الحاسة.
والحاصل انه قد
جمع في الآية بين الرحمة والشدة والرحمة لا تقابل الشدة وانما تقابل الرحمة
الفظاظة والشدة انما يقابل اللين لكن الرحمة مسببة عن اللين المقابل للشدة وذلك
لان اللين حالة قلبية في الانسان تقتضي الانعطاف على من يستحقه والانعطاف هو
الرحمة فقد قوبل في الآية بين معنيين هما الرحمة والشدة
واحدهما وهو الرحمة له تعلق السببية اي كون الرحمة مسببة عن اللين ويحتمل
ان يقال ان الشدة لها تعلق بمقابل الرحمة وهو الفظاظة وعدم الانعطاف لان عدم
الانعطاف لازم للشدة التي هي حالة قلبية توجب الانعطاف على مستحقة.
ولا يذهب عليك
ان اصل الشدة واللين في المحسوسات وقد تقدم في الفن الثاني ان الشدة فيها الصلابة
واللين فيها ضدها وهي صفة تقتضي صحة الغمز الى الباطن والنفوذ فيه والشدة بخلافها.
(ونحو قوله
تعالى (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) فان ابتغاء الفضل) اي الكسب والاشتغال بأمور المعاش (وان
لم يكن مقابلا للسكون لكنه يستلزم الحركة المضادة للسكون) ومن هنا قيل بالفارسية (از
تو حركت از ما بركت) نقلا عن الله تعالى (ومنه) اي من القسم الاول من الملحق
بالطباق (قوله تعالى (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) لان اذخال النار يستلزم الاحراق المضاذ للاغراق)
لاستلزام احدهما توقد النار والاخر اطفائها.
(والثاني) مما
يلحق بالطباق (الجمع بين معنيين غير متقابلين) ولا يتعلق احدهما بما يقابل الآخر
وبهذا فارق ما قبله اعني القسم الاول من الملحق (عبر عنهما بلفظين يتقابل معنياهما
الحقيقيان نحو قوله أي قول دعبل) بكسر الدال والياء وسكون العين ويجوز فتحها ايضا
على قول (لا تعجبي يا سلم) ترخيم سلمى او المراد يا سالمة من العيوب فهو من باب
زيد عدل اي عادل (من رجل يعني نفسه) عبر عن نفسه باسم الظاهر لاجل ان يتمكن من
الوصف بالجملة (ضحك المشيب برأسه) المشيب والشيب عبارة عن بياض الشعر (اي ظهر
ظهورا تاما فبكى ذلك الرجل) بسبب قرب الموت او بسبب تاسف مضى الشباب من دون اياب
(فانه لا تقابل بين البكاء وظهور المشيب) بل بينهما كمال المناسبة (لكنه
عبر عن ظهور المشيب) على سبيل المجاز (بالضحك الذي يكون معناه الحقيقي مضادا لمعنى
البكاء ويسمى) هذا القسم (الثاني ايهام التضاد) بخلاف القسم الاول فانه ليس له اسم
خاص بل هو عام وهو ملحق بالطباق (لان المعنيين المذكورين) في هذا القسم يعني
البكاء وظهور المشيب (وان لم يكونا متقابلين حتى يكون التضاد حقيقيا لكنهما قد
ذكرا بلفظين) يعني لفظ البكاء ولفظ الضحك (يوهمان بالتضاد نظرا الى الظاهر) اي
ظاهز اللفظين المذكورين (والحمل) اي حمل اللفظين المذكورين (على الحقيقة) التي
ليست مرادة وحقيقة الضحك عبارة عن هيئة للفم معتبرة من ابتداء حركة وانتهاء الى
شكل مخصوص واما البكاء فمعناه الحقيقي ظاهر.
(ودخل فيه أي
في الطباق بالتفسير الذي سبق) وهو الجمع بين امرين متقابلين ولو في الجملة او امور
كذلك (ما يختص باسم المقابلة الذي جعلها السكاكي وغيره قسما برأسه من المحسنات
المعنوية وهي أن يؤدي بمعنيين متوافقين) اي غير متقابلين وسيصرح بذلك (او أكثر اي
بمعان متوافقة ثم) يؤتي (بما يقابل ذلك أي ثم يوتي بما يقابل المعنيين المتوافقين
او المعاني المتوافقة على الترتيب) أي يكون ما يؤتى به ثانيا على ترتيب ما اتى به
اولا بحيث يكون الاول للاول والثاني للثاني وهكذا فهو نظير ما يأتي من اللف والنشر
(فيدخل في الطباق لانه حينئذ يكون جمعا بين معنيين متقابلين في الجملة) او بين
معان كذلك.
(والمراد
بالتوافق) كما اشرنا سابقا (خلاف التقابل لا ان يكونا متناسبين ومتماثلين فان ذلك
غير مشروط كما يجيء من الامثلة) فيشمل هذا القسم الخلافين كالانسان والحمار
والمتناسبين كما يأتي في مراعاة
النظير والمتماثلين في اصل الحقيقة كمصداق الكاتب والانسان.
(ثم يخص به) اي
بهذا القسم الذي يختص باسم المقابلة (اسم المقابلة بالاضافة الى العدد الذي وقع
عليه المقابلة مثل مقابلة الاثنين بالاثنين نحو قوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا
كَثِيراً)) فانه (اتى) أولا (بالضحك والقلة المتوافقين ثم) اتى (بالبكاء
والكثرة المتقابلين لهما) ثانيا (ومقابلة الثلاثة بالثلاثة نحو قوله اي قول ابي
دلامة) :
ما احسن
الدين والدنيا اذا اجتمعا
|
|
واقبح الكفر
والافلاس بالرجل
|
فانه اي الشاعر
(قابل الحسن والدين والغنى بالقبح والكفر والافلاس) أي جعل الثلاثة الاولى مقابلة
للثلاثة الاخيرة (على الترتيب) وذلك ظاهر.
(ومقابلة
الاربعة بالاربعة نحو قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)) هذه افعال اربعة (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) وهذه اربعة اخرى فوقع كل واحد من هذه الافعال الاربعة
في مقابل واحد من تلك الافعال الاربعة.
(ولما كان
التقابل في الجميع ظاهرا الا مقابلة الاتقاء والاستغناء) فان التقوى اما ان تفسر
برعاية اوامر الله تعالى ونواهية والاعتناء بها خوفا منه تعالى او محبة فيه او
تفسير بنفس خوف الله او محبته الموجب كل منهما لتلك الرعاية واما الاستغناء فان
كان معناه عدم طلب المأل لكثرته فلا يقابل التقوى بذلك المعنى وان كان معناه عدم
طلب الدنيا للقناعة فكذلك وان كان شيئا آخر فمعه خفاء (بينه بقوله والمراد باستغنى
انه زهد فيما عند الله) من الثواب الاخروي فصار بتركه طلبه (كأنه مستغن عنه اي عما
عند الله تعالى) اي لا يحتاج اليه لو كان له ميز وذلك ان العاقل لا يترك طلب شيء
الا ان كان مستغنيا عنه فعبر بالاستغناء عن
ترك طلب ما عند الله تعالى على وجه الترفع عنه على سبيل الانكار وهذا كفر (فلم
يتق او استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة فلم يتق) ايضا لانه اما ان يكون ذلك
على وجه يؤديه الى انكار النعيم فيكون كافرا ومنه قول يزيد لعنه الله لا خبر جاء
ولا وحي نزل وقول اللعين الاخر لا خبر جاء ولا وحي نزل ومعلوم ان هذا يعود الى
الوجه الاول من معنى الاستغناء واما ان يكون ذلك سفها وشغلا باللذة المحرمة
العاجلة عن ذلك النعيم كما هو الحال في الفسقة (فيكون الاستغناء مستلزما لعدم
الاتقاء المقابل للاتقاء) فعدم الاتقاء ليس هو نفس الاستغناء بالشهوات بل
الاستغناء ملزومه فيكون من قبيل الملحق بالطباق فهو نظير اشداء على الكفار رحماء
بينهم وهذا هو المراد بقوله (ففي هذا المثال تنبيه على ان المقابلة قد تركب من
الطباق وقد تركب مما هو ملحق بالطباق لما مر من ان مثل مقابلة الاتقاء والاستغناء
من قبيل الملحق بالطباق) وهو الجمع بين معنيين يتعلق احدهما بما يقابل الاخر نوع
تعلق (مثل مقابلة الشدة والرحمة) حسبما مر بيانه آنفا.
(وزاد السكاكي
في تعريف المقابلة قيدا آخر) فلا تحصيل المقابلة عنده الا به (حيث قال هي) اي
المقابلة (ان تجمع شيئين متوافقين او أكثر وضديهما) أو اضدادها (وإذا شرط ههنا أي
فيما بين المتوافقين) أو المتوافقات (أمر شرط ثمة أي فيما بين الضدين او الاضداد
ضده اي ضد ذلك الامر كهاتين الايتين) المتقدمتين (فانه لما جعل التيسير مشتركا بين
الاعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده اي ضد التيسير وهو التعسير المعبر عنه بقوله (لِلْعُسْرى) مشتركا بين اضدادها أي اضداد تلك) الامور الثلاثة (المذكورات
وهي) اي الاضداد (البخل والاستغناء
والتكذيب فعلى هذا) الذي قاله السكاكي (لا يكون بيت ابي دلامة من المقابلة
لانه اشترط في الدين والدنيا الاجتماع ولم يشترط في الكفر والافلاس ضده) أي ضد
الاجتماع اي الافتراق.
وليعلم ان
المراد بالشرط ههنا مطلق التقيد والتعلق لا الشرط المعروف لان التيسير والتعسير
المذكورين في الآيتين ليسا شرطين وانما هما امران اشترك في كل منهما امور متوافقة.
(ومنه أي من
المعنوي مراعاة النظير ويسمى التناسب والتوفيق أيضا و) يسى (الايتلاف والتلفيق ايضا)
ويعرف وجه التسمية بكل واحد من هذه الاسماء بقوله (وهي جمع امر وما يناسبه) لكن
يجب ان (لا) يكون المناسبة بينهما (بالتضاد) بل بالتوافق في الشكل او في ترتب بعض
على بعض او في الادراك أو في شيء مما يشبه من ذلك كما يظهر من الامثلة الاتية (والمناسبة
بالتضاد ان يكون كل منهما مقابلا للاخر وبهذا القيد يخرج الطباق) لانه كما مر
الجمع بين متضادين اي معنيين متقابلين في الجملة (وذلك) الجمع المسمى بمراعاة
النظير (قد يكون بالجمع بين الامرين نحو (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)) أي يجريان بحساب معلوم المقدار في قطعها للابراج
الاثنى عشر المعروفة والدرجات الفلكية لا يزيدان عليه ولا ينقصان فالشمس نقطع
الفلك ذلك تقدير العزيز العليم.
(وقد يكون
بالجمع بين ثلثه امور نحو قوله اي قؤل البحتري في الابل (المهزولة (كالقسي) جمع
قوس (المعطفات اي المنحنيات) مأخوذ (من عطف العود) من باب التفعيل (وعطفه) اي من
الثلاثي المجرد وفي الصورتين معناه (حناه) وهو صفة كاشفة للقسي او صفة مؤكدة له اذ
لا يكون القوس الا كذلك (بل الاسهم) اي بل كالاسهم حال
كونها (مبرية اي منحوتة) مأخوذ (من برئه) اي (نحته بل الاوتار) أي بل
كالاوتار فهي اي الابل هزيلة جدا.
وحاصل المعنى
ان الابل في رقة اعضائها وشكلها شابهت تلك القسي بل شابهت ما هي ارق منها وهي
الاسهم بل شابهت مأ هي ارق منهأ وهي الاوتار اي الخيوط الجامعة بين طرفي القوس.
والشاهد في انه
(جمع بين القوس والسهم والوتر وبينها مناسبة وفيها اضرابات ثلاثة وهي تدل على ان القوس
اغلظ من السهم المبري والسهم المبري اغلظ من الوتر والوتر والوتر أرق من الكل.
(وقد يكون)
الجمع (بين اربعة) امور (كقول بعضهم للمهلبي الوزير انت ايها الوزير اسمعيلي الوعد
شعيبي التوفيق يؤسفي العهد محمدي الخلق) فجمع بين الانبياء الاربعة عليهم الصلوة
والسّلام وفيه مناسبة.
(وقد يكون)
الجمع (بين اكثر) من الاربعة (كقول ابن رشيق) : بفتح الراء وكسر الشين :
اصح واقوى ما
سمعناه في الندى
|
|
من الخبر
المأثور منذ قديم
|
احاديث
ترويها السيول عن الحياة
|
|
عن البحر عن
كف الامير تميم
|
فقد جمع اولا
بين ستة امور متناسبة وثانيا بين اربعة أشياء متناسبة أيضا بل خمسة أشياء (فانه
ناسب فيه) اولا (بين الصحة والقوة والسماع والخبر المأثور والاحاديث والرواية)
والتناسب في هذه الامور الستة ظاهر لمن له المام بعلم الرجال والدراية.
(وكذا ناسب
ايضا) ثانيا (بين السيل والحيا) بالقصر اي المطر (والبحر وكف تميم مع ما في البيت
الثاني من صحة الترتيب والعنعنة)
وهي قول الراوي عن فلان عن فلان عن فلان وهكذا حتى يصل الى من كان المقصود
الاقصى الوصول الى قوله واما بيان صحة الترتيب والعنعنة في البيت فهو قوله (اذ جعل
الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الاحاديث فان السيول اصلها المطر والمطر
اصله البحز على ما يقال) وإلى ذلك اشير في قوله :
شربن بماء البحر ثم ترفعت
وقد ذكره ابن
هشام في حرف الباء (والبحز اصله كف الممدوح على ادعاء الشاعر) ومن هنا قيل احسن
الشعر اكذبه.
(ومنها اي من
مراعاة النظير ما يسميه بعضهم تشابه الاطراف وهو ان يختم الكلام بما يناسب ابتدائه
في المعنى).
وانما كان
تشابه الاطراف نوعا خاصا من مراعاة النظير لانها الجمع بين متناسبين مطلقا اي سواء
كان احدهما في الختم والاخر في الابتداء كما في تشابه الاطراف فانه قاصر على الجمع
بين متناسبين أحدهما في الابتداء والاخر في الانتهاء.
والتناسب قد
يكون ظاهرا نحو قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فان اللطيف باعتبار اشتماله من حيث المعنى على الدقة (يناسب
كونه غير مدرك) بفتح الراء (للابصار والخبير يناسب كونه مدركا) بكسر الراء (للاشياء
لان المدرك) بكسر الراء (للشيء يكون خبيرا به) والخبير من له علم بالخفيات ومن
جملة الخفيات بل للظواهر الابصار فيدركها فظهر التناسب بين ابتداء الاية المباركة
وإنتهائها.
(وقد يكون)
التناسب (خفيا) يحتاج الى دقة نظر وتأمل صادق
(كقوله تعالى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ)) والمراد من العباد كما يظهر من سياق الآية والله
العالم العصاة المستحقون للعذاب ومن هنا جاء الخفاء كما أشار اليه بقوله (فأن قوله
(إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) يوهم ان الفاصلة) اي آخر الآية (الغفور الرحيم) بدل
العزيز للحكيم (لكن يعرف بعد التأمل) الصائب والتفطن الثاقب (ان الواجب) والمناسب
للمقام (هو (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) لانه لا يغفر لمن يستحق العذاب الا من ليس فوقه احد يرد
عليه حكمه فهو) اي الله جل جلاله (العزيز اي الغالب) القاهر لانه مأخوذ (من عزه
يعزه غلبه) ومن هنا صار القانون عند الدول في زماننا ان العفو عن الاعدام انما هو
بيذ الشخص الاول في الدولة (ثم وجت ان يوصف بالحكيم على سبيل الاحتراس لئلا يتوهم
انه خارج عن الحكمة) فذكر الحكيم اشارة الى ان فعله ذلك لحكمة وسر يراعى قهرا
وعدلا فكأنه قيل ان تغفر لهولاء العصاة المذنبين وتعف عنهم فانت أهل لذلك (اذ
الحكيم من يضع الشيء في محله أي ان تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا اعتراض عليك
لاحد في ذلك) لان العدل (والحكمة فيما فعلته) ولو أخفيت عن الخلق.
(ويلحق بها أي
بمراعاة النظير ان يجمع بين معنيين غير متناسبين) في انفسهما لعدم وجود شيء من
أوجه التناسب من تقارن او علية او نحوهما ولكن عبر عن ذينك المعنيين (بلفظين يكون
لهما معنيان) اخران (متناسبان وان لم يكونا مقصودين ههنا) وهذا صادق بأن لا يقصد
واحد منهما او يكون أحدهما مقصودا دون الآخر (نحو قوله تعالى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)) أي يجريان في فلكهما بحساب معلوم لا يزيد ولا ينقص (و (النَّجْمُ) أي النبات الذي ينجم اي يظهر من الارض ولا ساق
له كالبقول) كالبصل والفجل وغيرهما (و (الشَّجَرُ) الذي له ساق يسجدان أي ينقادان لله تعالى فيما خلقا له)
من المنافع كل على حسبما امر به تكوينا.
(فالنجم بهذا
المعنى) المقصود ههنا (وان لم يكن مناسبا للشمس والقمر لكنه قد يكون بمعنى الكوكب
وهو) اي الكوكب (مناسب لهما) لانه يقترن معهما في الخيال لكونه مثلهما من حيث انه
ايضا جسم نوراني سماوي ويرى مع القمر غالبا ومع الشمس احيانا (ولهذا يسمى ايهام
التناسب كما مر) انفا (في ايهام التضاد) فانه يوجه بتوجيه مثل التوجيه الذي وجه به
ايهام التضاد فان المعنيين هناك قد ذكرا بلفظين يوهمان التضاد بحسب الظاهر وههنا
قد ذكرا بلفظين يوهمان التناسب كذلك فنسبة ايهام التناسب من مراعاة النظير كنسبة
ايهام التضاد من المطابقة فتدبر جيدا (ومن) جملة (ايهام التناسب بيت السقط).
وحرف كنون
تحت راء ولم يكن
|
|
بدال يؤم
الرسم غيره النقط
|
والمراد من (الحرف)
ههنا (الناقة المهزولة) قال في المصباح وقول زهير حرف ابوها اخوها المعنى ان جملا
نزا على ابنته فولدت جملين ثم ان احد الجملين نزا على امه وهي اخته من أبيه فولدت
منه ناقة فهذه الناقة الثانية هي الموصوفة في بيت زهير فاحد الجملين الاخوين ابوها
لانه أولدها وهو ايضا اخوها من امها والجمل الاخر عمها لانه اخو أبيها وهو أيضا
خالها لانه اخو امها انتهى.
(وهي) اي الحرف
(مجرورة معطوفة على الرهط في البيت السابق) وهو قوله :
تجل عن الرهط
الاماني غادة
|
|
لها من عقيل
في مماليكها رهط
|
(و) المراد من (النون هو) الحرف (المعروف
من حروف المعجم)
أي الحروف التي ازيلت عجمته بما يميزه عن غيره بنقط وشكل فالهمزة للسلب كذا
في المصباح.
(شبه) الشاعر (به)
اي بالنون (الناقة) المهزولة (في الدقة والانحناء وليس المراد بها الحوت على ما
وهم) في شرح المفتاح لان الشارح فسره فيه بالحوت (وراء اسم فاعل من رايته) اي (اصبت
ريته) كما اشار اليه السيوطي في بحث افعال القلوب (وكلك دال اسم فاعل) لانه مأخوذ (من
دلا الركائب اذا رفق بسوقها) بفتح السين وسكون الواو من سقت الدابة سوقا (وأراد
بالنقط ما تقاطر على الرسوم) والعلائم للابنية (من المطر وقوله يؤم الزسم صفة راء
والمعنى) اي معنى البيتين (تجل) اي تعظم (هذه الحبيبة عن ان تركب من النوق) جمع
ناقة (ما هي في الضمر) اي في الدقة وقلة اللحم (والانحناء كالنون يركبها) اي
الناقة (الاعرابي لزيارة الاطلال) الطلل الشاخص من الاثار والجمع اطلال مثل سبب
واسباب (فيضرب) الاعرابي برجله (ريتها) أي رية الناقة (اذ لا حراك بها من شدة
الهزال) والشاعر (يريد) بهذا الكلام (ان مراكب هذه الحبيبة سمان) لاعجاف (ذوات
اسنه) اي كثيرة اللحم لا هزيلة واما الشاهد ففي ذكر الحرف والنون والزاء والدال
والنقط ايهام ان المراد بها معانيها المتناسبة) المعروفة عند الكل وألحال أنه ليس
كذلك اذ المراد بها ما ذكرناه من المعانى التي لا يعرفها الا الخواص.
قال في الايضاح
(واما) جوابه يأتي بعد اسطر) وهو قوله فالاول داخل الخ (ما يسميه بعضهم بالتفويف
من قولهم برد مفوف للذي على لون) من الالوان (وفيه خطوط بيض على الطول وهؤ ان يؤدى
فى الكلام
بمعان) متعددة (متلائمة وجمل مستوية المقادير) لفظا (او متقاربة المقادير)
لفظا (كقول من يصف سحابا) :
تسربل وشيا
من خروز تطرزت
|
|
مطارفها طززا
من البزق كالتبز
|
فوشى بلا رقم
ونقش بلا يد
|
|
ودمع بلا عين
وضحك بلا ثغر
|
(تسربل اي لبس السربال والوشي ثوب
منقوش والخزوز جمع خز وتطرزت اي اتخذت الطراز والمطارف جمع مطرف وهو رداء من خز
مربع له اعلام) اي علامات (والطرز جمع طزاز وهو علم الثوب وكقول ديك الجن).
احل وامرر
وضر وانفع
|
|
ولن واخشن
ورش وابر وانتدت للمعالي
|
(اي كن حلوا للاولياء) والاحبة وكن
(مرا على الاعداء ضارا للمخالف نافعا للموافق لينا لمن يلاين خشنا لمن يخاشن ورش
اي اصلح حال من يختل حاله وابرء من برء القلم) أي (نحته اي أفسد حال المفسدين
وانتدب اى اجب للمعاني) اي الامور التي توجب كمال الانسان وعظمته (واجمعها يقال
ندبه لامر فانتدب اي دعاه له فأجاب) حاصل هذه الفقرة الاخيرة بالفارسية :
كسب كمال كن
كه عزيز جهان شوى
|
|
كس بى كمال
نيرزد به نيم جو
|
(فالاول) اي قول من يصف سحابا (داخل
في مراعاة النظير) قد تقدم بيانه (لكونه جمعا بين الامور المتناسبة والثاني) اي
قول ديك الجن (داخل في الطباق) قد تقدم بيانه ايضا لكونه جمعا بين الامور المتناسبة)
ومن قبيل الاول قول بعض ملوك القاجار بالفارسية :
نه هرگز بر
دلم دردى
|
|
نه بر خواطر
مرا گردى
|
جهان را جملة
اوردي
|
|
بكامم أي
جهان ارا
|
(ومنه اي من المعنوي الارصاد وهو)
في اللغة (نصب الرقيب في الطريق (مأخوذ (من رصدته رقبته والرصيد السبع الذي يزصد
ليثب الى الصيد والرصد القوم الذين يرصدون كالحرس) واوضح من ذلك ما قاله في
المصباح وهذا نصه الرصد الطريق والجمع ارصاد مثل سبب واسباب ورصدته رصدا من باب
قتل قعدت له على الطريق والفاعل راصد وربما جمع على رصد مثل خادم وخدم والرصدى
نسبة الى الرصد وهو الذي يقعد على الطريق ينتظر الناس ليأخذ شيئا من أموالهم ظلما
وعدوانا وقعد فلان بالمرصد وزان جعفر وبالمرصاد بالكسر وبالمرتصد ايضا أي بطريق
الارتقاب والانتظار وربك بالمرصاد اي مراقبك فلا يخفى عليه شيء من افعالك ولا
تفوته انتهى.
(يستوي فيه) اي
في الرصد (الواحد والجمع والمؤنث) والتثنية والمذكر وانما سمي هذا القسم ارصادا
لان السامع يرصد ذهنه للقافية بما يدل عليها فيما قبلها كما ينصب القطاع اي السراق
من ينظر القافلة ليعرفوا هل يقاومونهم وهل معهم شيء يأخذونه منهم او لا.
(ويسميه بعضهم
التسهيم) ايضا (و) ذلك لانه يقال (برد مسهم) اذا كان (فيه خطوط مستوية) كانه فيه
سهام فان الكلام في هذا القسم كالبرد المسهم المستوي الخطوط للزينة (وهو) اي
الارصاد في الاصطلاح (ان يجعل قبل العجز من الفقرة) بكسر الفاء وسكون القاف (وهي
في النثر بمنزلة البيت من الشعر).
قال في المصباح
وفقارة الظهر بالفتح الخرزة والجمع فقار بحذف الهاء مثل سحابة وسحاب قال ابن
السكيت ولا يقال فقارة بالكسر والفقرة
لغة في الفقارة وجمعها فقر وفقرات مثل سدرة وسدر وسدرات ومنه قيل لآخر كل
بيت من القصيدة والخطبة فقرة تشبيها بفقرة الظهر انتهى.
(مثلا قوله) اي
الحريري في وصف خطيب اسمه ابو زيد السروجي وهو مبتدء خبره فقرة (وهو) اي الخطيب (يطبع
الاسجاع) يقال طبعت السيف والدرهم اي عملته وطبعت من الطين جرة عملتها منه
والاسجاع جمع سجع وهو الكلام الملتزم في آخره حرف مخصوص فهو قريب من الفقرة او هو
نفسها في المصداق (بجواهر لفظه) اي بألفاظه الشبيهة بالجواهر كاللؤلؤ والمرجان (فقرة)
هذا هو الخبر (ويقرع الاسماع بزواجر وعظة فقرة اخرى) قرع الاسماع بزواجر الوعظ
عبارة عن اسماع الموعظة على وجه يحرك الشامع نحو المقصود.
وانما كان كل
واحد منهما فقرة لان كلا منهما بمنزلة مصراع البيت (وهي) اي الفقرة (في الاصل) اسم
لعظم الظهر ثم أستعيرت وأريد بها (حلى) بفتح الحاء وسكون اللام (يصاغ على شكل فقرة
الظهر) فتأمل (او) يجعل قبل العجز (من البيت ما يدل عليه اي على العجز وهو) اي
العجز (آخر كلمة) اي الكلمة الاخيرة (من البيت) أي اذا كان شعرا (او) من (الفقرة)
اي اذا كان نثرا كل ذلك (اذا عرف) السامع (الروي) فمعرفة العجز من حيث المادة
والصورة تكون بأمرين لان المادة يدل عليها الارصاد والصورة يدل عليها الروي والى
ذلك اشار بقوله (الظرف) يعني اذا (متعلق بيدل اي انما يجب فهم العجز في الارصاد
بالنسبة الى من يعرف الروي وهو الحرف الذي يبني عليه الابيات) أي اذا كان الكلام
نظما (او) اواخر (الفقر) اي اذا كان الكلام نثرا (ويجب تكراره) اي تكرار الروي (في
كل منها) اي اواخر
الابيات او الفقر وانما قيد الدلالة بمعرفة الروي (فانه قد يكون من الارصاد
ما لا يعرف فيه العجز) مادة وصورة (لعدم معرفة حرف الروي كقوله تعالى (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً
واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فانه لو لم يعرف ان حرف الروي) في الايات التي قبل هذه
الآية (النون لربما توهم ان العجز هاهنا) اي في هذه الآية (فيما فيه اختلفوا او (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)).
هذا ولكن لا
يذهب عليك انه بظاهره يدل على انه لو عرف ان حرف الروي النون لفهم أن صيغة العجز
يختلفون وليس كذلك لجواز ان يفهم ان صيغته مختلفون فالاولى ان يقول لو لم يعرف حرف
الروي من حيث انه روي لتلك القافية اذ لا بد من العلم بصيغة القافية ايضا فتدبر
جيدا.
(وكقوله) :
احلت دمي من
غير جرم وحرمت
|
|
بلا سبب يوم
اللقاء كلامي
|
فليس الذي
حللته بمحلل
|
|
وليس الذي
حرمته بحرام
|
(فانه لو لم يعرف ان القافية)
صيغتها (مثل سلام وكلام لربما توهم ان) صيغة (العجز بمحرم) واما اذا عرف ان حرف
الروي الميم وصيغة القافية على وزن سلام وكلام يعرف ان صيغة العجز حرام.
(فالارصاد في
الفقرة نحو قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) فقوله تعالى (لِيَظْلِمَهُمْ) ارصاد لانه يدل على أن مادة العجز من مادة الظلم اذ لا
معنى لان يقال مثلا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم ينفعون أو يمنعون من
الهلاك او نحو ذلك واما الصيغة وكونها مختومة بنون بعد واو فتعرف بحرف الروي
الكائن فيما
قبل هذه الآية اعني قوله تعالى (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فتأمل.
(و) الارصاد (في
البيت نحو قوله اي قول عمرو بن معد يكرب)
اذا لم تستطع
شيئا فدعه
|
|
وجاوزه الى
ما تستطيع
|
فقوله اذا لم
تستطع ارصاد لانه يدل على ان مادة العجز من مادة الاستطاعة الموجبة لا السالبة اذ
لا يصح ان يقال اذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه الى ما لا تستطيع او الى كل ما
تشتهيه أو الى كل ما نريد ولو كنت لا تستطيعه او نحو ذلك والذوق السليم والفهم
المستقيم شاهدا صدق على ذلك.
(ومنه اي من
المعنوي المشاكلة وهو) اي وهذا القسم من المعنوي (ذكر الشيء) كالخياطة في المثال
الاتي (بلفظ غيره) كالطبخ فيه (لوقوعه في صحبته اي لوقوع ذلك الشي) اي الخياطة (في
صحبة ذلك الغير) اي الطبخ (تحقيقا او مقدرا اي وقوعا محققا او مقدرا) هذا التفسير
لدفع ما يوهم أن قوله تحقيقا راجع للذكر وليس كذلك بل هو راجع الى الوقوع فالمراد
بقوله تحقيقا ان يذكر ذلك الشيء بلفظ غيره لوقؤعه في صحبة ذلك الغير صحبة تحقيق
بان يذكر ذلك الغير عند ذكر ذلك الشيء والمراد بقوله تقديرا ان يحصل العلم بذلك
الغير عند ذكر ذلك الشيء فصار ذلك الغير مقدرا والمقدر كالمذكور فوقع ذلك الشيء في
صحبة ذلك الغير.
(فالاول) اي
فالقسم الاول من المشاكلة وهو ذكر الشيء بلفظ غير لوقوعه في صحبته وقوعا محققا (كقوله
قالؤا اقترح شيئا) مأخؤذ (من اقترحت عليه) اي على فلان (شيئا) تقول ذلك (اذا سئلته)
أي
سئلت فلانا (اياه) اي الشيء (من غير روية) اي من غير تأمل وفكر (وطلبته)
بتاء الخطاب تفسير لقوله سئلته (على سبيل التكليف) اي الالزام (والتحكم) تفسير
للتكليف.
والحاصل ان
اقتراح مأخوذ من الاقتراح الذي معناه بالفارسية (فرمان دادن وفرمايش كردن) على
سبيل الالزام والاستعلاء (لا من اقترح الشيء) أي (ابتدعه) واخترعه (ومنه) اي من
هذا الاخير (اقتراح الكلام لارتجاله) اي للنطق به من غير روية ولا فكر (فانه) أي
هذا الاخير (غير مناسب) المقصود من البيت (على ما لا يخفى) على من يراجع ما ذكرنا
في معنى البيت من القصة (نجد) بضم النون وكسر الجيم (مجزوم على انه جواب الامر)
يعنى اقترح وهو اي نجد مأخوذ (من الاجادة وهو تحسين الشيء ويحتمل ان يكون مأخوذا
من الوجدان فتكون النون مفتوحة (لك طبخه قلت اطبخؤا لي جبة وقميصا أي خيطوا)
والشاهد في انه ذكر خياطة الجبة بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام ونحوه) أي ونحو
هذا المثال في كونه مشاكلة لوقوع الشيء في صحبة الغير تحقيقا (تعلم ما في نفسي ولا
اعلم ما في نفسك حيث اطلق النفس على ذات الله تعالى) للمشاكلة اي وقوعه بصحبة ذي
النفس أعني ياء المتكلم وهذا بناء على ان النفس مخصوصة بالحيوان أو بالحادث الحي
مطلقا كما يدل عليه قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) هكذا قيل ولكن يمكن ان يقال انه لا مشاكلة في الآية وان
النفس فيها عام مخصوص بمن يقبل الموت والا فالنفس تطلق على ذاته تعالى كما ورد ذلك
في غير واحد من الاخبار والآيات من دون ان يكون هناك مشاكلة ومصاحبة للغير فاللفظ
اعني النفس في هذه الآية اطلق على معناه
لا على غيره لمصاحبته لذي النفس فتدبر جيدا.
وليعلم ان
الظاهر من كلام الجمهور ان المشاكلة بقسميها مجاز لغوي لانها كلمة مستعملة في غير
ما وضعت له لعلاقة لان الوقوع في صحبة الغير من قبيل علاقة المجاورة وقد تقدم بيانها
في الفن الثاني فانهم وان لم يصرحوا هناك على ان الوقوع في صحبة الغير من اقسام
العلاقات لكنهم صرحوا على ما يرجع اليه وهو المجاورة.
وقال بعضهم ان
المشاكلة قسم ثالث لا حقيقة ولا مجاز اما كونها غير حقيقة فظاهر لان اللفظ لم
يستعمل فيما وضع له واما كونها غير مجاز فلعدم العلاقة المعتبرة لان الوقوع في
صحبة الغير ليس من العلاقة ولا يرجع الى المجاورة المعتبرة علاقة لانها المجاورة
بين مدلول اللفظ المتجوز به وبين مدلول اللفظ المتجوز عنه اي تقارنهما في الخيال
والمشاكلة ليست كذلك لان المشاكلة ان يعدل عن اللفظ الدال على المعنى المراد إلى
لفظ غيره من دون ان يكون هناك مجاورة بين مدلولي اللفظين وتقارن بينهما في الخيال
فليس فيها الا مجرد ذكر المصاحب بلفظ غيره لمصاحبتهما في الذكر ولو كان هذا القدر
من المحاورة يكفي في التجوز لصح التجوز في نحو قؤلنا جاء زيد وعمرو بان يقال جاء زيد
وزيد مرادا بزيد الثاني عمرو لوقوعه في صحبته وهو لا يصح قطعا بشهادة الذوق السليم
والفهم المستقيم.
(والثاني) من
قسمي المشاكلة (وهو ما يكون وقوعه في صحبة الغير تقديرا نحو قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ
وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هكذا الآية (الى قوله تعالى (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) والشاهد في الآية المباركة كما يظهر من آخر كلام الخطيب
انه عبر عن الايمان بالله بصبغة للمشاكلة لوقوعه في صبغة النصارى (وهو اي قوله
تعالى (صِبْغَةَ اللهِ) مصدر) للهيئة كما قال الناظم :
وفعلة لمرة
كجلسة
|
|
وفعلة لهيئة
كجلسة
|
(لانه فعلة) بكسر الفاء (من صبغ
كالجلسة) بكسر الجيم المذكور في بيت الناظم (من جلس وهي) الصبغة (الحالة) اي
الهيئة (التي تقع عليها الصبغ) وهي مصدر (مؤكد لا منا بالله) واما قول التفتازاني (اي
تطهير الله) فهو تفسير ل (صِبْغَةَ اللهِ) (لان الايمان يطهر النفوس) من رذيلة الكفر (فيكون امنا مشتملا) من حيث
المعنى (على تطهير الله لنفوس المؤمنين ودالا عليه) من باب اشتمال الملزوم على
اللازم ودلالته عليه (فيكون (صِبْغَةَ اللهِ) بمعنى تطهير الله مؤكدا لمضمون قوله تعالى (آمَنَّا بِاللهِ) فيكون قوله) أي قول الخطيب (لان الايمان تعليلا لكونه)
اي لكون صبغة الله (مؤكدا ل (آمَنَّا بِاللهِ)).
والحاصل انه
لما كان الايمان المدلول لامنا متضمنا اي مستلزما للتطهير عن رذيلة الكفر كان صبغة
الدال على التطهير مؤكدا لامنا لدلالته على لازمه البين ومؤكد اللازم مؤكد للملزوم
فهو اي صبغة الله معمول اي مفعول مطلق حينئذ لامنا لتضمنه باللزوم معناه او معمول
أي مفعول مطلق لفعل من لفظه اي صبغنا الله صبغة ولا ينافي ذلك كونه مؤكدا لامنا من
حيث المعنى كما لا يخفى على من له ذوق سليم.
(ثم اشار الى
بيان المشاركة) وقد عرفت اجماله مما ذكرناه (و)
اشار الى بيان كيفية (وقوع تطهير الله) الذي هو معنى صبغة الله (في صحبة ما)
اي في صحبة الغمس الذي (يعبر عنه بالصبغ تقديرا بقوله والاصل فيه اي في هذا المعنى
وهو ذكر التطهير بلفظ الصبغ) تقديرا (ان النصارى كانوا يغمسون اولادهم في ماء اصفر)
اللون بسبب شيء يجعلونه في ذلك الماء كالزعفران (يسمونه) اي يسمون ذلك الماء
الاصفر (المعمودية).
قيل اصل هذا
الاسم كان للماء الذي غسل به عيسى (ع) ثالث ولادته ثم انهم يعتقدون انهم مزجوه
بماء اخر فكلما اخذوا منه شيئا صبوا عليه ماء آخر بدل ما أخذ ويعتقدون ان ذلك
الماء باق الى الآن (ويقولون) اي يظنون (انه اي الغمس في ذلك الماء تطهير لهم) من
غير دينهم (فاذا فعل الواحد منهم بولده ذلك) الغمس (قال الان صار) الولد (نصرانيا
حقا) لانه تطهر عن سائر الاديان.
ولما كان الغمس
في الماء الاصفر الذي من شانه ان يغير لون الولد ناسب ان يسمى ذلك الغمس تهيئة من
الصبغ لكونه بماء مخصوص يصبغ لغزض مخصوص.
(فأمر المسلمون
بان يقولوا لهم) اي للنصارى (قولؤا) بدل ذلك الغمس (امنا بالله وصبغنا الله
بالايمان صبغة) مخصوصة (لا مثل صبغتنا) بذلك الماء (وطهرنا) الله (به) اي بالايمان
(تطهيرا) مخصوصا (لا مثل تطهيرنا) بذلك الماء فاذا قلتم ذلك واعتقدتموه فقد اصبتم
والا فانتم في ضلال (هذا) اي قولنا فأمر المسلمون الخ (اذا كان الخطاب في قولوا
آمنا بالله للكافرين) اي النصارى (واما اذا كأن الخطاب) في قولوا آمنا بالله (للمسلمين
فالمعنى ان المسلمين امر وابان
يقولوا صبغنا الله بالايمان صبغة ولم يصبغ صبغتكم ايها النصارى بالماء
الاصفر الذي تعتقدون ان الصبغ به والغمس فيه تطهير لكم.
فتحصل من جميع
ما ذكرنا ان النصارى لما اقتضى فعلهم صبغا ونزلت الاية للرد عليهم عبر عن المراد
أي عن الايمان بالله والتطهير عن رذيلة الكفر بالصبغة للمشاكلة لوقوعه في صحبة ما
يعبر عنه بالصبغ تقديرا والى ذلك المتحصل أشار بقوله (فعبر عن الايمان بالله بصبغة
الله للمشاكلة لوقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا بهذه القرينة الحالية التي هي
سبب النزول من غمس النصارى اولادهم في الماء الاصفر) الذي من شأنه ان يصبغ الاولاد
بالصفرة (وان لم يذكر ذلك) الصبغ (لفظا وهذا كما تقول لمن يغرس الاشجار اغرس كما
يغرس فلان تزيد) بفلان (رجلا يصطنع) أي يعمل الخير ويوصله (الى الكرام ويحسن اليهم)
عطف تفسيري لقوله يصطنع الى الكرام (فتعبر) انت ايها المتكلم بهذا الكلام الناصح
للمخاطب الغارس للاشجار (عن الاصطناع بلفظ الغرس للمشاكلة بقرينة الحال) أي بقرينة
كون حالة المخاطب غرس الاشجار (وان لم يكن له) أي للغرس الذي يفعله المخاطب ذكر في
المقال) فكأنك قلت هذا يغرس الاشجار فاغرس انت الاحسان مثل فلان الذي يصطنع الى
الكرام وقريب مما نحن فيه اي المشاكلة ما قيل بالفارسية :
اگر بت پرستي
بتي را پرست
|
|
كه دارد
هزاران بت وبت پرست
|
وقد تقدم ذلك
في الفن الاول فتذكر.
(ومنه أي
المعنوي المزاوجة وهي ان تزاوج) بفتح الواو فعل مبني للمفعول (اي توقع) بفتح القاف
كذلك (المزاوجة) هذا بناء (على ان الفعل) اي تزاوج مسند الى ضمير) عائد الى (المصدر)
يعني المزاوجة (كما في قولهم وقد حيل بين العير والنزوان).
قال ابن هشام
في الباب الرابع في بحث الامور التي يكتسبها الاسم بالاضافة الحادي عشر البناء
وذلك في ثلاثة ابواب احدها ان يكون المضاف مبهما كغير ـ ودون وقد استدل على ذلك
بأمور منها قوله تعالى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ومنا دون ذلك قاله الاخفش وخولف واجيب عن الاول بان
نائب الفاعل ضمير المصدر اي وحيل هو اي الحول كما في قوله :
وقالت متى
يبخل عليك ويعتلل
|
|
يسوءك وان
يكشف غرامك تذرب
|
اي ويعتلل هواي
الاعتلال الى ان قال ومنها قوله تعالى (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) فيمن فتح بينا قاله الاخفش ويؤيده قرائة الرفع وقيل بين
ظرف والفاعل ضمير مستتر راجع الى مصدر الفعل اي لقد وقع التقطع بينكم او الى الوصل
اي لقد تقطع الوصل لان (وَما نَرى مَعَكُمْ
شُفَعاءَكُمُ) يدل على التهاجر وهو يستلزم عدم التواصل او الى (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) على ان الفعلين تنازعاه ويؤيد التأويل قوله :
اهم بامر
الحزم لو استطيعه
|
|
وقد حيل بين
العير والنزوان
|
بفتح بين مع
اضافته الى معرب انتهى.
(بين معنيين)
كنهي الناهي والاصاخة في البيت الاتي (في الشرط والجزاء اي يجعل معنيان واقعان في
الشرط والجزاء) وذلك بأن يقع احد ذينك المعنيين في مكان الشرط بان يوتي به بعد
اداته ولن يقع الآخر في موضع الجزاء بان ربط بالشرط وجعل جوابا له (مزدوجين) اي
مستويين (في ان رتب على كل منهما معنى رتب على الآخر).
والحاصل ان
معنى ازدواج المعنيين الواقع احدهما شرطا والآخر
جزاء ان يجمع بينهما في بناء معنى من المعاني كاللجاج في البيت الآتي على
كل منهما فاذا بنى معنى على كل منهما فقد ازدوجا اي اجتمع الشرط والجزاء واستويا
في ذلك المعنى الذي بنى عليهما (كقوله اي قول البحتري اذا ما نهى الناهي ومنعنى عن
حبها فلج بي الهوى ولزمني) الهوى اي صار الهوى لازما لي ومن صفاتي واصل اللجاج
كثرة الكلام والخصومة والتزامها وادامتها استعمل ههنا في مطلق اللزوم فهو مجاز
مرسل من باب استعمال المقيد في المطلق كاستعمال المرسن في الانف (اصاخت) المحبوبة (الى
الواشي) اي (استمعت الى النمام) سمى النمام واشيا لأن الوشي في اللغة النقش
والزينة والنمام هو (الذي يشي حديثه ويزينه) ليروج منه الكذب والنميمة (و) من هنا (صدقته)
المحبوبة (فيما افترى) الواشي (على فلج بها الهجر) الشاهد في ان الشاعر (زاوج بين
نهي الناهي) الواقع في موضع الشرط (و) بين (اصاختها الى الوشي) الواقعة في موضع
الجزاء واجمع بين هذين المعنيين (الواقعين في الشرط والجزاء في ان رتب عليهما لجاج
شيء) اي لجاج الهوى في نهي الناهي ولجاج الهجر في الاصاخة ولا يخفى عليك ان كنت من
أهل الفطانة والدراية انه قد علم مما اوضحناه في بيان محل الاستشهاد ان قوله فلج
بي الهوى عطف على قوله نهى الناهي وجواب الشرط اصاخت وقوله فلج بها الهجر عطف على
الجواب فتفطن.
(ومثله) اي مثل
البيت السابق في كونه مزاوجة (قوله) اي قول البحتري (ايضا) فالبيتان كلاهما له :
اذا احتربت
يوما ففاضت دمائها
|
|
تذكرت القربى
ففاضت دموعها
|
الشاهد في انه (زواج
بين الاحتراب وتذكر القربى الواقعين في
في الشرط والجزاء) وسوى بينهما (في ترتب فيضان شيء عليهما) اي فيضان الدماء
في الاول وفيضان الدموع في الثاني.
(ومن تتبع
الامثلة المذكورة للمزاوجة علم ان معناها ما ذكرنا) من ان تجمع بين المعنيين
الواقع احدهما في الشرط والآخر في الجزاء في ان ترتب على كل منهما معنى رتب على الآخر
(لا ما يسبق الى الوهم من ان معناها ان تجمع بين معنيين في الشرط ومعنيين في
الجزاء كما) في البيت المذكور في كلام الخطيب فانه (جمع) فيه (في الشرط بين نهي
الناهي ولجاج الهوى وفي الجزاء بين اصاختها الى الواشي ولجاج الهجر) وهذا التوهم
غلط فاحش (اذ لا يعرف احد يقول بالمزاوجة في مثل قولنا اذا جائني زيد فسلم على
اجلسته وانعمت عليه) مع انه جمع فيه بين معنيين في الشرط وهما المجيء والتسليم
وبين معنيين في الجزاء وهما الاجلاس والانعام فوجب الحمل على ما ذكرنا اذ هو
المعروف والمأخوذ من كلام القوم.
(ومنه اي من
المعنوي العكس والتبديل وهو ان يقدم في الكلام جزء على جزء اخر ثم يؤخر ذلك
المتقدم عن الجزء الاخير) اي عن الجزء المؤخر اولا وبعبارة اخرى هو ان يتكزر
الجزئين الواقع فيهما العكس والتبديل بالتقديم والتأخير.
وليعلم ان
عبارة الخطيب ليست بصريحة فيما هو المراد فانها محتملة لغير المراد لان قوله ثم
يؤخر ذلك محتمل لان يكون المراد ما ذكره التفتازاني واوضحناه لك اي ثم يؤخر ذلك
الجزء المتقدم عن ذلك الجزء المؤخر ويحتمل ثم يؤخر ذلك الجزء المتقدم عن غير الجزء
المؤخز فقط ويحتمل ثم يؤخر ذلك الجزء المتقدم عن الجزء مطلقا اي عن الجزء
الذي كان مؤخرا او عن غيره والصحيح هو الاحتمال الاول (والعبارة الصريحة)
فيه (ما ذكره القوم حيث قالوا هو) اي العكس والتبديل (ان تقدم في الكلام جزء) منه
سواء كان ركنا له ام لا (ثم تعكس) اي (فتقدم
ما اخرت) او لا
(وتؤخر ما قدمت) كذلك فان هذه العبارة صريحة بان المقدم ثانيا) هو الذي كان مؤخرا
اولا وهذا يقتضي كما قلنا تكرار الجزئين.
(واما ظاهر
عبارة المصنف فيصدق على مثل قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) لان تخشى جزء من الكلام قدم ثم أخر وليس من العكس بل
يأتي في المحسنات اللفظية انه من رد العجز على الصدر (و) كذلك (قول الشاعر) :
سريع الى ابن
العم يلطم وجهه
|
|
وليس الى
داعي الندى بسريع
|
(ولا عكس فيه) لانه يأتي ايضا انه
من رد العجز الى الصدر (ويقع العكس) والتبديل (على وجوه منها ان يقع بين أحد طرفي
الجملة وما أضيف اليه ذلك الطرف نحو عادات السادات سادات العادات فان العكس قد وقع
بين العادات وهو احد طرفي الكلام وبين السادات وهو الذي اضيف اليه العادات ومعنى
وقوعه) اي وقوع العكس (بينهما انه قدم العادات على السادات) وجعل مبتدء (ثم عكس
فقدم السادات على العادات) وجعل خبرا فظهر ان العكس انما وقع بين المضاف والمضاف
اليه وهما مبتدء مرة وخبر مرة اخرى فيصدق ان العكس وقع بين احد طزفي الجملة ومن
هذا القبيل كلام الملوك ملوك الكلام كلام الامير امير الكلام.
واما معنى
المثال فهو ان الامر المعتادة للسادات اي الاكابر والاعيان
أفضل واشرف من الامور المعتادة لغيرهم لكن بشرط ان يكون السيد سيدا عملا.
(ومنها اي من
الوجوه ان يقع) العكس (بين متعلقي فعلين في جملتين) قد تقدم المراد من المتعلق في
الباب الرابع من الفن الاول فتذكر (نحو (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فقد وقع العكس بين الحي والميت بان قدم) اولا (الحي
واخر الميت ثم عكس) ثانيا (فقدم الميت واخر الحي وهما متعلقان لفعلين في جملتين)
اما نفس الفعل الواقع فيهما فلم يقع فيه تقديم وتأخير بل في متعلقهيهما ومن هذا
القبيل قوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) فالاولى ان يقال ان يقع بين متعلقي عاملين في جملتين
فافهم.
(ومنها اي من
الوجوه ان يقع) العكس (بين لفظين في طرفي جملتين نحو (لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ)) الشاهد في انه (قد وقع العكس بين هن وهم حيت قدم) اولا
(هن على هم ثم عكس فأخر) ثانيا (هن من هم وهما لفظان واقعان في طرفي جملتين).
والحاصل ان
الآية المباركة جملتان في كل منهما لفظان هما الضميران احدهما ضمير جمع المذكر وهو
هم والاخر ضمير جمع المؤنث وهو هن وقد وقع ضمير الاناث منهما في الطرف الاول الذي
هو المسند اليه من الجملة الاولى ووقع ضمير الذكور في الطرف الثاني الذي هو المسند
من تلك الجملة الاولى وعكس ذلك في الجملة الثانية فوقع ما للذكور في الطرف الاول
منها وما للاناث في الطرف الثاني منها كما تزى فصدق ان العكس وقع بين لفظين في
طرفي جملتين فتدبر جيدا (ومنها) اي من الوجوه (ان يقع بين طرفي الجملة) بالتمام من
دون ان يكونا مضافا
ومضافا اليه كما في الوجه الاول فلا يتوهم انه هو بعينه (كما قلت).
طويت باحراز
الفنون ونيلها
|
|
رداء شبابي
والجنون فنؤن
|
فحين تعاطيت
الفنون وخطها
|
|
تبين لي ان
الفنون جنون
|
فقدم الجنون
اولا وجعل مبتدء واخر فنون وجعل خبرا ثم عكس فقدم الفنون وآخر جنون على العكس مما
ذكر.
(ومنه اي من
المعنوي الرجوع وهو العؤد الى الكلام السابق بالنقض اي بنقضه) اي بنقض الكلام
السابق (وابطاله لنكتة كقوله اي قول زهير) :
قف بالديار
التي لم يعفها القدم
|
|
بلى وغيرها
الارواح والديم
|
(بدء الكلام السابق على ان تطاول
الزمان وتقادم العهد لم يعف الديار ثم عاد اليه) اي الى الكلام السابق (ونقضه
وابطله (بانه قد غيرها الرياح والامطار) وهذا العود والنقض (لنكتة وهو) اي النكتة (اظهار
الكآبة والحزن والحيرة والدهش) اي ذهاب العقل (حتى كأنه اخبر اولا بما لا تحقق له)
أي فكأنه اخبر بغير الواقع حقيقة (ثم رجع اليه عقله وافاق) من الدهشة (بعض الافاقة
فتدارك) غلطه في هذا الاخبار (فنقض) وابطل (كلامه السابق) حال كونه (قائلا بل
عفاها القدم وغيرها الارواح والديم) فائدة اعلم ان تعبير التفتازاني بالرياح
بالياء من الاغلاط على ما ذكره في المصباح وهذا نصه الريح الهواء المسخر بين
السماء والارض واصلها الواو بدليل تصغيرها على رويحة لكن قلبت ياء لانكسارها ما
قبلها والجمع ارواح ورياح وبعضهم يقول ارياح بالياء على لفظ الواحد وغلطه ابو حاتم
قال وسئلته عن ذلك فقال الا تراهم
قالوا رياح بالياء على لفظ الواحد قال فقلت له انما قالوا رياح بالياء
للكسرة هي غير موجود في ارياح فسلم ذلك انتهى.
(ومثله فاف
لهذا الدهر لا بل لاهله) والشاهد فيه الرجوع لان الشاعر أظهر الضجرة والكراهة من
الدهر أولا ثم عاد اليه فأظهر الضجرة والكراهة من اهله لعلمه بان الذنب لهم لاله.
(ومنه اي من
المعنوي التورية ويسمى الايهام ايضا وهو ان يطلق لفظ له معنيان) او اكثر سواء كانا
حقيقيين او مجازيين او احدهما حقيقيا والاخر مجازيا لا يعتبر بينهما لزوم وانتقال
من احدهما الى الآخر وبهذا تتمتاز التورية عن المجاز والكناية ويعلم ان التورية
ليست من ايراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح والخفا حتى تكؤن من علم البيان
فتدبر.
(قريب) الى
الفهم لكثرة استعمال اللفظ فيه (وبعيد) عن الفهم لقلة استعمال اللفظ فيه فكان
المعنى القريب ساتر للبعيد والبعيد مورى ومستور تحته وبه صارت التورية من المحسنات
المعنوية فان ارادة المعنى المقصود تحت الستر كالصورة الحسنة ولو كان المعنيان
متساويين في الفهم لم يكن تورية بل اجمالا.
(ويراد البعيد
اعتمادا على قرينة خفية) وانما اشترط الخفاء لاجل أن يذهب الوهم قبل التأمل الى
ارادة المعنى القريب فلو كانت القرينة واضحة لم يكن اللفظ تورية لعدم ستر المعنى
القريب للبعيد ولكن لا يشترط ان يكون خفاء القرينة بالنسبة الى المخاطب بل يكفي
ولو باعتبار السامعين فلا يرد ان القرينة في الاية الآتية واضحة للنبي وآله (ع)
فتأمل فانه دقيق واما اذا لم يكن هناك قرينة اصلا فلم يفهم حينئذ
الا القريب فيخرج اللفظ عن التورية.
(وهي ضربان)
احدهما (مجردة وهي التي لا تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب) فتكون مجردة
لتجردها عما يرشح خفائها وقد تقدم معنى الترشيح في بحث الاستعارة (نحو (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فان الاستواء له معنيان قريب وهو الاستقرار حسا على سطح
من السطوح وبعيد وهو الاستيلاء اي الارتفاع على الشيء بالقهر والغلبة فكانت الآية
المباركة تورية مجردة (فانه تعالى اراد ب (اسْتَوى) معناه البعيد وهو استؤلى ولم يقرن به شيء مما يلائم
المعنى القريب الذي هو الاستقرار والقرينة خفية وهي استحالة الاستقرار حسا عليه
تعالى والاستحالة متوفقة على أدلة نفي الجسمية عنه تعالى والادلة على ذلك ليست مما
يفهمه كل واحد بلا تأمل ولذلك ذهب الى الجسمية جمع كثير خذ لهم الله من دون
استحياء منه تعالى وتقدس والبحث طويل الذيل ليس هنا محله.
(و) ثانيهما (مرشحة)
هذا (عطف على مجردة) وقد تقدم معنى الترشيح في الموضع المذكور (وهي) اي المرشحة
التورية (التي تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب المورى به) اي المعنى القريب
الذي ورى بسببه (عن المعنى البعيد) الذي هو (المراد) وتلك الملائمة (اما بلفظ قبله)
أي قبل المعنى القريب الذي ورى بسببه عن المعنى البعيد المراد (نحو (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)) اصله ايدي جمع يد والشاهد فيه (فانه تعالى أراد (بِأَيْدٍ) معنا البعيد اعني القدرة) والقوة (وقد قرن بها ما يلائم
المعنى القريب اعني الجارحة المخصوصة وهو) اي ما يلائم المعنى القريب (قوله (بَنَيْناها)) وجه الملائمة ان البناء بالمعنى المتعارف يحصل عادة
بألجأرحة المخصوصة وهو أي بنيناها ذكر قبل الايدي.
(أو) تلك
الملائمة (بلفظ بعده) اي بعد المعنى القريب الذي ورى بسببه عن المعنى المراد (كقول
القاضي ابي الفضل عياض يصف ربيعا باردا) مع ان شأن فصل الربيع الذي اوله الحمل
الدفء وعدم البرودة
كان كانون
اهدى من ملابسه
|
|
لشهر تموز
انواعا من الحلل
|
أو الغزالة
من طول المدى خرفت
|
|
فما تفرق بين
الجدى والجمل
|
كانون وتموز
شهران روميان يقع الاول في الشتاء والثاني في الصيف والشاهد في الغزالة (يعني كان
الشمس من كبرها وطول مدتها صارت خرفة) اي (قليل العقل فنزلت في برج الجدي) الذي هو
أول اشهر الشتاء (في اوان الحلول ببرج الحمل) الذي هو اول اشهر الربيع وأما الشاهد
فانه (اراد بالغزالة معناها البعيد اعني الشمس وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب
الذي ليس بمراد اعني الرشا) قال في المصباح الرشا مهموز ولد الظبية اذا تحرك ومشى
وهو الغزال والجمع ارشاء مثل سبب وأسباب (حيث ذكر الخرافة) بعد الغزالة والخزافة
كما تقدم قلة العقل وفساده للكبر وكثرة العمز وهو يناسب الحيوان لا الجزم السماوي
المعروف.
والحاصل أن
التورية في الغزالة مرشحة بسبب ذكر الخرافة الملائمة لمعناها القريب بعدها (وكذا
ذكر الجدي والحمل) فأنهما ايضا يلائمان لمعناها القريب لأن الاول معناه القريب ولد
العنز والثاني معناه القريب ولد الضان وهما يناسبان لولد الظبية وقد ذكرا بعدها
وأنت بعد التأمل الصادق تعرف أن الجدي والحمل أيضا تورية مرشحة فأن المراد بهما
ههنا معناهما البعيد أعني البرجين المعروفين من بروج السنة غاية الأمر فأنه ذكر
الملائم لمعناهما القريب قبلهما وهو الغزالة فالتورية من قبيل الضرب الاول من
قسمي المرشحة فعلى ما ذكرنا لا يخفى عليك ما في قوله (وقد يكون كل من
التوريتين ترشيحا للأخرى) فأنه مشعر بأن ليس في قول عياض كل من التوريتين ترشيحا
للآخر وليس كذلك لما بيناه فهو أيضا (كبيت السقط).
إذا صدق الجد
افترى العم للفتى
|
|
مكارم لا
تخفى وان كذب الخال
|
وفي بعض النسخ
لا تكرى أي لا تنام وعليه بنى المغنى في الشواهد فلكل من الجد والعم والخال معنيان
قريب وبعيد أما القريب فظاهر وأما البعيد فهو ما ذكره التفتازاني بقوله (أراد
بالجد الحظ) يعني البخت وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا
اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (وبالعم الجماعة من الناس وبالخال) القوة (المخيلة) أو العلامة فكل واحد من
هذه الالفاظ الثلاثة تورية مرشحة للآخر والبيان هو البيان في قول عياض فلا فرق بين
البيتين من حيث الشاهد.
(فأن قلت)
حاصلة كما يأتي ان جعل قوله تعالى (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) من التورية المرشحة غير مطابق لما عليه المحققون (قد
ذكر صاحب الكشاف في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) انه تمثيل) وتصوير لعظمته جل جلاله (لأنه لما كان
الاستواء على العرش وهو سرير الملك) بضم الميم أي السلطنة والغلبة (مما يرادف
الملك) بضم الميم كذلك جعلوه) أي جعلو الاستواء على العرش (كناية عن الملك) أي
السلطنة والغلبة.
والحاصل أن
الملك والسلطنة لازم والاستقرار على العرش وهو سرير الملك ملزوم فأطلق الملزوم
وأريد اللازم (ولما أمتنع ههنا) أي في (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) (المعنى الحقيقي) لاستحالة الاستقرار والجلوس عليه تعالى وتقدس (صار مجازا)
فهو استعارة تمثيلية حيث شبهت الهيئة الحاصلة
من تصرفه جل جلاله في الاشياء بالايجاد والاعدام والقهر والغلبة والامر
والنهي كيفما يقتضي حكمته بالهيئة الحاصلة من استقرار الملك بفتح الميم على عرشه
ووجه الشبه أن كل واحدة من الهيئتين تدل على الملك والسلطنة التامة ثم أستعير على
العرش أستوى الموضوع للهيئة المشبه بها للهيئة المشبهة على طريق الاستعارة
التمثيلية وقد تقدم بيان ذلك في اول بحث المجاز المركب مفصلا. فاذا لا تغتر بما في
بعض الحواشي من انه ليس المراد انه استعارة تمثيلية أو تشبيه تمثيلي لعدم علاقة
التشبيه انتهى.
وقد تقدم هناك
أيضا أن المستعار يجب أن يكون اللفظ الذي هو حق المشبه به أخذ منه عارية للمشبه
ففيما نحن أخذ ما للمشبه واستعمل حق المشبه به أخذ منه عارية للمشبه ففيما نحن فيه
أخذ ما للمشبه به واستعمل في المشبه حسبما بيناه فصار مجازا مركبا واستعارة (كقوله
تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو بخيل بل يداه مبسوطتان أي هو جواد من غير تصور يد
ولا غل ولا بسط والتفسير) أي تفسير اليد بالنعمة والتمحل للتثنية) أي تثنية يد في
قوله (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) بأن يقال مثلا أحدى اليدين النعم الظاهرية والاخرى
النعم الباطنية هذا ألتفسير والتمحل من ضيق العطن) العطن المناخ بضم الميم مكان
اناخة الابل (ويقال له بالفارسية خوابكاه شتر) وضيق العطن كناية عن عدم فهم المعنى
المراد (والمنافرة من علم البيان مسيرة أعوام) حاصلة انه لا يعرف طرق التعبير عن
المعنى وانه بعيد عن معرفة ذلك غاية البعد إذ المغنى في المجاز المركب لا يتوقف
على ان يجعل للمفردات معنى حقيقي أو مجازي بل المغنى انما يؤخذ من المجموع من حيث
المجموع أي من الهيئة الحاصلة من ضم المفردات بعضها الى بعض حسبما بيناه في الآية
المتقدمة يظهر كل ذلك مما
بينه في قوله (وكذا قوله تعالى (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) تمثيل) أي استعارة تمثيلية ومجاز مركب (وتصوير لعظمته
تعالى وتوقيف) أي افهام وتفهيم (على كنه جلاله) تعالى وتقدس بالاجمال وعلى قدر ما
يمكن إدراكه للبشر (من غير ذهاب بالايدي) أو بمفرد آخر من المفردات (إلى جهة حقيقة
أو مجاز بل يذهب الى اخذ الزبدة والخلاصة من الكلام من غير أن يتمحل لمفرداته
حقيقة أو مجاز) وقد تقدم في أول بحث المجاز المركب ما يفيد ههنا فراجع أن شئت.
(وقد شدد) صاحب
الكشاف (النكير على من يفسر اليد) في قوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (بالنعمة والايدي) في قوله تعالى (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (بالقدرة والاستواء) في قوله تعالى أن الله (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) بالاستيلاء) والسلطنة (واليمين) في قوله تعالى (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (بالقدرة).
والحاصل أن هذه
التفاسير للألفاظ المذكورة في هذه الآيات خروج عما يقتضيه علم البيان فأن هذه
الآيات استعارة تمثيلية والمفردات في الاستعارة التمثيلية يجب ان تبقى بحالها لأن
الكلام في الاستعارة التمثيلية ينقل الى المراد مع بقاء مفردات الكلام على حالها
في المعنى المنقول عنه فإن كانت المفردات فيه حقايق بقيت كذلك وان كانت مجازات
بقيت كذلك وذلك لما تقدم في بحث الاستعارة انه يجب في التمثيل ان يكون لفظ المشبه
به المستعمل في المشبه باقيا على ما كان من غير تغيير فلو تطرق تغيير الى المثل
لما كان لفظ المشبه به بعينه فلا يكون استعارة فلا يكون مثلا وقد حقق التفتازاني
ذلك هناك بما يظهر وجه ما قلناه فراجع ان شئت التحقيق.
(وذكر الشيخ في
دلائل الاعجاز انهم) أي المفسرين (وان كانوا
يقولون المراد باليمين القدرة فذلك تفسير منهم على الجملة) أي بالاجمال من
غير أن يبينوا حقيقة المعنى المراد من مجموع الكلام (وقصدهم) من تفسير اليمين
بالخصوص (الى نفي الجارحة) أي اليد عنه تعالى وتقدس (بسرعة خوفا على السامع من
خطرات) أي من شبهات (تقع للجهال وأهل التشبيه) الذين يزعمون في حقه تعالى وتقدس ما
هو منزه عن ذلك كالمجسمة والمشبهة وامثالهم من ذوي العقائد الفاسدة (والا) اي وان
لم يكن قصدهم الى ما ذكر (فكل ذلك) المذكور من اليمين والايدي ونحوهما من الالفاظ
التي تدل على ما هو محال على الله تعالى (من طريق التمثيل) اي الاستعارة التمثيلية
فيجب ان يذهب الى اخذ الزبدة والخلاصة من الكلام من غير ان يتمحل لمفرداته حقيقة
أو مجاز.
فتحصل من جميع
ما ذكر ان استشهاد الخطيب للتورية المرشحة بقوله تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) حسبما تقدم بيانه غير مطأبق لمأ عليه المحققون أعني
صاحب الكشاف والشيخ ونحوهما لأنهم أنكروا على من فسر الايدي بالقدرة واليد بالنعمة
على ما تقدم بيانه مفصلا.
(قلت قد جرى
المصنف في جعل الايتين) المذكورتين في كلامه (مثالين للتورية على ما اشتهر بين أهل
الظاهر من المفسرين) للقصد والخوف المذكورين ومن هنا قال السكاكي اكثر متشابهات
القرآن تورية واما ما ذكره صاحب الكشاف والشيخ وامثالهمأ من المحققين فهو بيأن
لحقيقة المعنى المراد فلا تنافي البين ولا اعتراض على شيء من الكلامين.
(ومنه اي من
المعنوي الاستخدام وهو) على قسمين الاؤل (ان يراد بلفظ له معنيان احدهما أي احد
المعنيين) سواء كانا حقيقيين أو مجازيين او أحدهما حقيقي والآخر مجازي وسواء كانا
قريبين ام بعيدين
ام كان احدهما قريبا والاخر بعيدا.
واما التقييد
بالمعنيين فهو نظير ما قلناه آنفا من أنه بيأن لأقل ما يجب فيه كما في باب التنازع
فلا مفهوم للاثنين بل الاكثر كذلك.
(ثم يراد
بضميره أي بالضمير الراجع الى ذلك اللفظ معناه الآخر) والثاني (أو يراد بأحد
ضميريه أي ضميري ذلك اللفظ) الذي له معنيان (أحدهما اي احد المعنيين ثم يراد
بالآخر أي بالضمير الآخر معناه الآخر فالاول كقوله) :
اذا نزل
السماء بأرض قوم
|
|
رعيناه وان
كانوا غضصابا
|
الشاهد في انه (أراد
بالسماء الغيث) أي المطر (وبالضمير الراجع اليه في رعيناه النبت) والنبات احد
معيني السماء لأنه مجاز عنه بأعتبار أن المطر سببه وإنما جاز عود الضمير على
النبات وان لم يتقدم له ذكر لأنه قد تقدم ذكر سببه أعني السماء التي أريد بها
المطر.
(والثاني كقوله
أي قول البحتري) :
فسقى الغضا
والساكنيه
|
|
وان هم شيوه
بين جوانحي وضلوع
|
والشاهد في أنه
(أراد بأحد الضميرين الراجعين الى الغضا) بالغين والضاد المعجمين اسم شجر في
البادية (وهو) أي أحد الضميرين (المجرور) بالاضافة (في الساكنية المكان) النابت
شجر الغضا فيه أي وسقى السأكنين في المكان الذي ينبت فيه الغضا فهو مجاز من قبيل
اطلاق الحال على المحل (و) أراد (با) لضمير (الآخر وهو المنصوب) بالمفعولية (في
شبوه النار) التي تتوقد في الغضا (أي أوقدوا بين جوانحي) وهي الاضلاع تحت الترائب
وهي مما يلي الصدر وضلوعي وهي كذلك لكنه مما يلى الظهر (نار الغضا يعني نار الهوى
التي تشبه نار الغضا) في الشدة
والاحراق والى هذه النار أشار الشاعر الفارسي حيث يقول :
يا رب اين
اتش كه بر جان منست
|
|
سرد كن ز
انسان كه كردي بر خليل
|
وعده وصل چون
شود نزديك
|
|
اتش عشق
تيزتر كردد
|
والحاصل انه
ذكر الغضا أولا بمعنى الشجر وأعاد عليه الضمير ثانيا بمعنى النار الموقدة فيه
واطلاق الغضا على كل من المكان الثابت فيه والنار الموقدة فيه مجاز.
(ومنه أي من
المعنوي اللف والنشر وهو) على وجهين الوجه الاول (ذكر متعدد على التفصيل) وذلك بأن
يعبر عن كل واحد من أفراد مجموع ذلك المعنى المتعدد بلفظه الخاص به بحيث يفصله عما
عداه والوجه الثاني (و) على (الاجمال) وذلك بأن يعبر عن المجموع بلفظ واحد يجتمع
فيه ذلك المجموع (ثم) أي بعد ذكر المتعدد على أحد الوجهين المذكورين (ذكر ما لكل)
واحد (من أحاد هذا المتعدد من غير تعيين) أي من غير أن يعين لشيء مما ذكر أولا ما
هو له مما ذكر ثانيا ويكون ترك التعيين (ثقة) أي لأجل الثقة (بأن السامع يرده) أي
يرد ما لكل من أحاد هذا المتعدد (اليه) أي الى ما هو له.
وإنما يفعل ذلك
حيث يعلم أن السامع يعلم ما لكل بسبب القرنية اللفظية فيتكل عليها كان يقال رأيت
الشخصين ضاحكا وعابسة فتأنيث عابسة يدل عابسة يدل على أن الشخص العابس هو المرئة
والضاحك هو الرجل أو بسبب القرنية المعنوية كان يقال لقيت الصديق والعدو فأكرمت
وأهنت فأن القرنية هنا معنوية وهو أن المستحق للاكرام الصديق والمستحق للأهانة
العدو.
(فالاول وهو أن
يكون ذكر (المتعدد على التفصيل ضربان لأن
النشر أما على ترتيب اللف بأن يكون الاول من النشر للأول من اللف والثاني
للثاني وهكذا) أي والثالث للثالث والرابع للرابع وهكذا (على الترتيب) والى ذلك
أشار أبو نصر الفراهي حيث يقول بالفارسية :
لف ونشر مرتب
انرادان
|
|
كه دو لفظ
أورند ودو معنى
|
لفظ اول
بمعنى أول
|
|
لفظ ثاني
بمعنى ثاني
|
(نحو (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ)) والشاهد في انه (ذكر الليل والنهار على التفصيل ثم ذكر
ما للليل وهو السكون فيه وما للنهار وهو الابتغاء من فضل الله على الترتيب) هذا هو
الضرب الاول من الوجه الاول.
(و) الضرب
الثاني من الوجه الاول (أما غير ترتيبه أي ترتيب اللف وهو) أي الضرب الثاني من
الوجه الاول (ضربان لأنه أما أن يكون الاول من النشر للآخر من اللف والثاني) (لما
قبله) أي لما قبل الآخر من اللف (وهكذا) أي يكون الثالث من النشر لما قبل الثاني
من اللف وهكذا (على الترتيب) والى هذا أشار ابو نصر الفراهي بقوله :
لف ونشر مشوش
ان رادان
|
|
كه دو لفظ
أورند وذو معنى
|
لفظ ثاني
بمعنى أول
|
|
لفظ أول
بمعنى ثاني
|
(وليسم) هذا القسم (معكوس الترتيب كقوله
أي قول ابن حيوس) :
كيف أسلو
وانت حقف وغصن
|
|
وغزال لحظا
وقد أوردنا
|
(فاللحظ للغزال والقد للغصن والردف
للحقف) قال في المصباح حقف الشيء حقوفا من باب قعد أعوج فهو حاقف وظبي حاقف للذي
انحنى وتثنى من جرح أو غيره ويقال للرمل المعوج حقف والجمع أحقاف
مثل حمل واحمال وقال أيضا والنقاء الكثيب من الرمل والى ذلك أشار بقوله (وهو
النقا من الرمل) فأنه (شبه به) أي بالحقف (الكفل) أي كفل المحبوبة (في العظم
والاستدارة) وكذا شبه لحظ المحبوبة بلحظ الغزال وقدها بقد الغصن.
(و) الضرب
الثاني من الضرب الثاني من الوجه الاول (أو لا يكون كذلك وليسم) هذا القسم (مختلط
الترتيب) وذلك بأن يكون الاول من النشر للآخر من اللف والثاني من النشر للأول من
اللف والآخر من النشر للوسط من اللف (كقوله) الاحسن أن يقول كقولنا لأن المثال من
مخترعاته (هو شمس وأسد وبحر جودا وبهاء وشجاعة) لأن الجود وهو الاول من النشر عائد
للبحر وهو الآخر من اللف والبهاء وهو الثاني من النشر عائد للأول من اللف وهو
الشمس والشجاعة وهو الآخر من النشر عائد للوسط من اللف وهو الاسد هذا ولكن المناسب
أن يسمى هذا القسم مشبوشا لا ما قبله إلا أن يقال لا مشاحة في الاصطلاح.
فأن قلت قد علم
مما تقدم انه في جميع هذه الاقسام من قرنية لفظية أو معنوية يتكل عليه في رد كل
واحد من احاد النشر الى ما يناسبه من احاد اللف فما معنى اللف في هذه الاقسام
اللتي ذكرت للوجه الاول مع ان اللف هو الضم والجمع ولا لف بهذا المعنى لما ذكر
بالتفصيل بل يكون ههنا رد مفصل الى مفصل للمناسبة فالاولى أن يقال ههنا رد نشر الى
نشر لا رد نشر الى لف.
قلت في النشر
ههنا بيان بعض أحوال المفصل أولا ففيه زيادة تفصيل له بأعتبار أحواله فناسب ان
يسمى الثاني نشرا أي بيانا لما أنطوى أولا اي ابهم وسمي المبهم ملفوفا لأن الملفوف
مبهم في باطنه وسمي المتبين
منشورا لأن المنشور تبينت باطنه فتأمل جيدا.
فأن قلت ان
الظاهر من الآية الكريمة وجود التعيين لفظا فيما سمي نشر أو ذلك لأن الضمير
المجرور في لتسكنوا فيه عائد الى الليل واقعا فقد تعين ما يعود اليه السكون وليست
من قبيل قولنا رأيت الشخصين ضاحكا وعابسة لان التأنيث عارض للفظ فصار قرنية واللفظ
في نفسه محتمل بخلاف الضمير في الآية الكريمة فلا تكون من هذا الباب لأنه اشترط
فيه عدم التعيين :
قلنا ان المراد
بعدم التعيين كون اللفظ بحسب ظاهره محتملا والضمير في نفسه وبظاهره يحتمل الليل
والنهار ولا اختصاص له بأحدهما وان كان مصداقه في الواقع ونفس الامر الليل وليس
المراد بعدم التتعيين عدم التعيين واقعا اذ لا معنى له لانه لو اريد به ذلك لم
يتحقق لف ونشر ابدا لتبين المراد في الواقع بكل نشر.
(و) الوجه (الثاني
وهو ان يكون ذكر المتعدد على سبيل الاجمال نحو قوله تعالى (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)) وإنما أفرد اسم كان وهو الضمير المستتر فيها وجمع
خبرها مراعاة للفظ من ومعناه قال في المصباح هود اسم نبي عليهالسلام عربي ولهذا ينصرف وهاد الرجل هوذا اذا رجع فهو هائد
والجمع هود مثل بازل وبزل وسمي بالجمع وبالمضارع انتهى.
فتحصل من كلامه
ان اهل التوراة لهم اسمان أحدهما هود وهو جمع هائد والآخر يهود وهو مضارع هاد وقال
أيضا ويقال هم يهود غير منصرف للعلمية ووزن الفعل ويجوز دخول الالف واللام فيقال
اليهود وعلى هذا فلا يمتنع التنوين لانه نقل عن وزن الفعل الى باب الاسماء
والنسبة اليه يهودي وقيل اليهودي نسبة الى يهود بن يعقوب عليهالسلام وهكذا اورد الصغاني يهودا في باب المهملة وهود الرجل
ابنه جعله يهوديا وتهود دخل في دين اليهود انتهى.
وقال ايضا رجل
نصراني بفتح النون وامرأة نصرانية وربما قيل نصران ونصرانة ويقال هو نسبة الى قرية
اسمها نصرة قاله الواحدي ولهذا قيل في الواحد نصري على القياس والنصارى جمعه مثل
مهري ومهاري ثم اطلق النصراني على كل من تعتد بهذا الدين انتهى.
(فان الضمير)
أي الواو (في قالوا لليهود والنصارى) معا (فذكر الفريقان) اي اليهود والنصارى
بواسطة الضمير (على سبيل الاجمال دون التفصيل) اي دون ان يقول وقالت اليهود لن
يدخل الجنة الا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصاري (ثم ذكر
ما لكل منهما فالمتعدد المذكور اجمالا هو الفريقان) المعبر عنهما بالواو في قالوا.
(و) يجوز (لك ان
تجعله) اي المتعدد المذكور اجمالا (قول الفريقين فانه قد لف بين القولين في قالوا
أي قالت اليهود) لن يدخل الجنة الا من كان نصارى (وهذا) اي جعل المتعدد المذكور
اجمالا قول الفريقين (معنى قوله) اي قول الخطيب (في الايضاح فلف فان مالف بينهما
في هذا الباب هو المتعدد المذكور اولا على ما صرح به صاحب المفتاح حيث قال هو ان
يلف بين الشيئين في الذكر ثم تتبعهما كلاما مشتملا على) نشر (متعلق باحدهما و) على
نشر (متعلق بآخر) منهما (من غير تعيين) لما يتعلق به كل واحد منهما ثقة بان السامع
يرد كلا منهما الى ما يتعلق به.
(اي وقالت
اليهود لن يدخل الجنة الا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان
نصارى فلف بين الفريقين) اجمالا هذا على الاول اي على ان يكون المتعدد المذكور
اجمالا هو الفريقين (أو) بين (القولين اجمالا) على الثاني اي على ان يكون المتعدد
المذكور اجمالا هو القولين كل ذلك (لعدم الالتباس والثقة بان السامع يرد الى كل
فريق) ان كان اللف بين الفريقين (او) الى (كل قول) ان كان اللف بين القولين (مقوله)
اي ذلك الذي لف مع غيره (للعلم بتضليل كل فريق) من اليهود والنصارى (صاحبه واعتقاد
انه انما يدخل الجنة هو لأصاحبه) فبهذا يعلم أن لن يدخل الجنة راجع مرة الى اليهود
ومرة الى النصارى لا الى المجموع وان كان مفاد الضمير في قالوا المجموع ويعلم به
ايضا ان القول الراجع إلى اليهود غير القول الراجع إلى النصارى لان الاستثناء في
القول الراجع الى اليهود الا من كان هودا فقط والاستثناء في القول الراجع الى
النصارى إلا من كان نصارى والدليل على ذلك قوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ) أي ليس للنصارى دين صحيح فلا يدخلون الجنة (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ
عَلى شَيْءٍ) اي ليس لهم دين صحيح فلا يدخلون الجنة.
فتحصل من ذلك
انه ليس القائل في قالوا فريقا واحدا ولا القول قولا واحدا فيجب ان يرجع ويرد الى
كل فريق القول المناسب له حسبما بين في قول الخطيب اي وقالت اليهود لن يدخل الجنة
الا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصارى (وهذا الضرب)
الثاني (لا يتصور فيه الترتيب وعدمه) اي لا يتصور فيه ان يكون مرتبا ولا مشوشا
بخلاف الضرب الاول فانه يتصور فيه ذلك وقد مر
مفصلا.
(وههنا نوع آخر
من اللف لطيف المسلك وهو ان يذكر متعدد على التفصيل) بطريق اللف اي يكون في ذلك
المتعدد المذكور مفصلا لف بوجه ما (ثم يذكر ما لكل) اي يذكر بعد ذلك ما هو نشر لكل
واحد مما لف في ذلك المتعدد (ويوتي بعده) اي بعد ذكر ما لكل (بذكر ذلك المتعدد)
المفصل اولا (على الاجمال) ثانيا سواء كان ذلك المتعدد على الاجمال (ملفوظا) اي
مذكورا كفعلت كذا في المثال الآتي (أو مقدرا) كشرع ذلك في الآية الآتية (فيقع
النشر بين لفين احدهما مفصل والآخر مجمل وهذا) النوع من اللف والنشر (معنى لطيف
مسلكه وذلك كما تقول ضربت زيدا وأعطيت عمرا وخرجت عن بلد كذا) هذه الافعال الثلاثة
المتعدد المذكور على التفصيل وفيها لف من حيث عدم ذكر عللها معها (للتأديب
والاكرام ومخافة الشر) هذه العلل الثلاث نشر لتلك الافعال الثلاثة فيكون الاولى
منها للأول من الافعال والثانية للثاني والثالثة للثالث أما قوله (فعلت كذا) فهو
المتعدد المذكور على الاجمال لفظا والمراد منه الافعال الثلاثة المتقدمة وفيها لف
أيضا فوقع النشر أعني العلل الثلاث بين لفين.
(وعليه) أي على
هذا النوع من اللف حمل (قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)) هذه الجملة الأولى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) هذه الجملة الثانية (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) هذه الجملة الثالثة ففي كل واحدة من هذه الجمل الثلاث
لف من حيث عدم ذكر عللها معها وهي أي عللها قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فهذه
الجمل الثلاث نشر لتلك الجمل الثلاث المتقدمة وعلل لها وأما اللف الثاني
فهو مقدر وسيأتي تقديره في قوله (قال صاحب الكشاف الفعل المعلل) به الجمل الثلاث
المتقدمة (محذوف) وهو شرع ذلك كما سيصرح بعيد هذا ولفظة ذلك أشارة الى تلك الجمل
والتذكير بأعتبار تأويلها بمذكور (مدلول عليه) أي على الفعل المعلل (بما سبق) من
الجمل المتقدمة فيكون (تقديره) أي تقدير الفعل المعلل ((وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع) أي بين (ذلك) المذكور من الجمل الثلاث المتقدمة (يعني
جملة ما ذكر من) الجمل وهو (أمر الشاهد) أي شاهد الشهر (بصوم الشهر وأمر المرخص له
بمراعاة عدة ما أفطر فيه) أي في الشهر ومن الترخيص في اباحة الفطر) والحاصل أن
اللف الثاني محذوف وهو شرع ذلك ولفظة ذلك فيه أشارة الى ما ذكر من الجمل الثلاث
المتقدمة (فقوله تعالى (لِتُكْمِلُوا)
الْعِدَّةَ) (علة) ونشر لما يستفاد من الجملة الثانية أعني (الامر بمراعاة العدة) فأن
هذا الامر يستفاد من قوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) فكأنه قيل يجب عليه أي على شاهد الشهر قضاء ما فات من
الصوم بسبب المرض أو السفر مراعيا عدة مافات (و) قوله تعالى ((لِتُكَبِّرُوا) اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) (علة) ونشر (ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر) الموجب للفوت
والمراد من كيفية القضاء والخروج عن العهدة المطابقة بين عدد الفائت والقضاء (و)
قوله ((لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص) في الافطار للمريض
والمسافر (والتيسير) لهما وهذا الترخيص والتيسير يستفاد من قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) الى قوله تعالى (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ).
(وهذا) النوع
من اللف والنشر وهو أن يقع النشر بين لفين أحدهما مفصل والآخر مجمل سواء كان
المجمل ملفوظا أي مذكورا كالمثال المتقدم أو مقدرا كالآية الكريمة حسبما بيناه (نوع
آخر من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدى الى تبينه) أي الى فهمه (إلا النقاب) على
وزن كتاب أي الباحث عن المعاني الدقيقة التي لا تظهر بسهولة (المحدث) أي من يلقى
في روعه من جهة الملا الأعلى فلا يخطى في ظنه كذا في مفردات الراغب فحاصل المعنى
إنه لا يعرف هذا النوع إلا البحاثة النحرير (من علماء البيان) الذين لهم قصب السبق
في أمثال هذا الميدان.
(هذا كلامه) أي
كلام صاحب الكشاف (وعليه اشكال وهو انه) أي صاحب الكشاف (جعل الاول من تفاصيل
المعللات) أي من الجمل الثلاث المتقدمة التي هي اللف الاول (أمر الشاهد بصوم الشهر
ولم يجعل شيئا من العلل) الثلاث التي أولها لتكملوا وآخرها تشكرون (راجعا اليه) أي
الى الاول من تفاصيل المعللات (وجعل (وَلِتُكَبِّرُوا)) وهو أول العلل (علة ما علم من كيفية القضاء وهو) أي ما
علم من الكيفية (مما لم يذكر في تفصيل المعللات) أي في اللف الاول اعني الجمل
الثلاث المتقدمة (فما ذكره في بيان تطبيق العلل غير موافق لما ذكره من تقدير
الكلام) حاصل الاشكال انه جعل ولتكبروا علة لما هو غير مذكور في المعللات أعني
كيفية القضاء وما هو مذكور ومحتاج الى علة اعني أمر الشاهد بالصوم لم يجعل له علة
وبعبارة أخرى ذكر معللا بلا ذكر علة له وذكر علة بلا ذكر معلل لها لانه لم يذكر
لأمر الشاهد بالصوم علة ولقوله (وَلِتُكَبِّرُوا) معللا.
(ويمكن التفصي
عنه) أي عن هذا الاشكال (بأن يقال ان ذكر
أمر الشاهد بصوم الشهر في تفصيل المعللات ليس لأنه بأستقلاله معلل بشيء من
العلل المذكورة بل هو توطئة وتمهيد لتفرع الترخيص) في الافطار لمن كان مريضا أو
على سفر (ومراعاة العدة وكيفية القضاء عليه) أي على أمر الشاهد بصوم الشهر (ويشهد
بما ذكرنا) أي بأن ذكر أمر الشاهد بصوم الشهر توطئة وتمهيد لتفرع تلك الامور
الثلاثة عليه (انه لم يقل) في صدر كلامه من أمر الشاهد بصوم الشهر (ومن أمر المرخص
له بأعادة حرف الجر) يعني لفظة من (كما قال) بعده (ومن الترخيص) في اباحة الفطر.
والحاصل أن ترك
لفظة من في قوله وأمر المرخص له بأعادة ما أفطر فيه وذكرها في قوله ومن الترخيص في
أباحة الفطر يشهدان وينبهان على أن ذكر أمر الشاهد بصوم الشهر توطئة وتمهيد للتفرع
المذكور.
(فالحاصل أن
المذكور فيما سبق من الكلام) في الآية الكريمة (بعد أمر الشاهد بصوم الشهر) شيئان
أحدهما (هو الترخيص) في الافطار لمن كان مريضا أو على سفر (و) ثانيهما (أمر المرخص
له بمراعاة عدة ما أفطر) من أيام المرض أو السفر (ليصومها) أي تلك الايام (في أيام
آخر وفي هذا) الأخير (دلالة واضحة على) شيء ثالث وهو (تعليم كيفية القضاء) والمراد
من الكيفية المطابقة بين العددين أي عدد ما أفطر وعدد القضاء ومن الواضح ان
للمراعاة المذكورة دلالة واضحة على تلك الكيفية (فصار المذكور بعد الامر بصوم
الشهر ثلاثة) أشياء معللة (أحدها أمر المرخص له بمراعاة العدة والثاني تعليم كيفية
القضاء والثالث الترخيص وجميع ذلك متفرع على الأمر بصوم الشهر فجعل كلا من العلل)
الثلاث (راجعا الى واحدة من هذه) الجمل (الثلاثة)
المذكورة بعد الامر بصوم الشهر فصار لكل معلل عليحدة علة عليحدها.
(وقد يقال)
للتفصى عن هذا الاشكال (أن قوله) أي قول صاحب الكشاف ((وَلِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة شامل لأمر الشاهد بصوم الشهر)
أيضا وبعبارة أخرى مراعاة العدة قسمان احديهما مراعاة عدة أيام الشهر كلها وهذا
لمن يقدر على الاداء أعني لمن ليس مريضا ولا على سفر والاخرى مراعات عدة أيام
المرض أو السفر (بناء على أن العدة هي الشهر كله في الشاهد) الذي يقدر على الصوم
أي الذي ليس مريضا ولا على سفر (وعدة أيام الافطار في المرخص له) أي من كان مريضا
أو على سفر فصار ولتكملوا علة للأمر بكلتا المراعاتين لا لمراعاة أيام الافطار فقط
فلا يرد عليه انه لم يجعل شيئا من العلل راجعا الى أمر الشاهد بصوم الشهر (وفيه
نظر اذ لا معنى لتعليل أمر الشاهد بصوم الشهر بأكمال عدة أيام الشهر) لانه من قبيل
توضيح الواضحات بل من قبيل تعليل ما هو حاصل بحصوله لأن من صام الشهر كله فقد اكمل
العدة اي عدة الشهر (على انه لا ارتياب في ان الامر بمراعاة الغدة في قوله) أي قول
صاحب الكشاف ((وَلِتُكْمِلُوا) علة الامر بمراعاة العدة اشارة الى) المعلل (المذكور
قبله وهو امر المرخص له بمراعاة عدة ما افظر فيه) أي في الشهر فلا يشمل لأمر
الشاهد بصوم الشهر فلا وجه لان يقال ان قوله (وَلِتُكْمِلُوا) علة الامر بمراعاة العدة شامل لامر الشاهد بصوم الشهر
الخ فلا يصح هذا في التفصي فالوجه في التفصي ما ذكر اولا من ان ذكر امر الشاهد
بصوم الشهر توطئة وتمهيد للتفرع المذكور فلا يحتاج هو بنفسه الى علة.
بقي في المقام
شيء يجب ان نذكرك به وهو انه قد تقدم في الفن
الثاني في بحث التشبيه عند قول الخطيب وان تعدد طرفاه فأما ملفوق الخ ان
ذكر هذه الاقسام في ذلك البحث انما هو لتكميل أقسام التشبيه والا فهو من هذا الفن
فراجع وتذكر.
(ومنه اي من
المعنوي الجمع وهو ان يجمع بين متعدد في حكم) واحد (وذلك المتعدد قد يكون اثنين
كقوله تعالى (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)) اي يتزين بهما الانسان في الدنيأ ويذهبأن عن قريب
والشاهد في انه جمع المال والبنون في حكم وهو زينة الحياة الدنيا.
(وقد يكون اكثر
نحو قول ابي العتاهية) :
علمت يا
مجاشع بن مسعدة
|
|
ان الشباب
والفراغ والجدة
|
(اي الاستغناء) هذا تفسير للجدة (يقال
وجد في المال وجدا) بفتح الواو (ووجدا) بكسرها (ووجدا) بضمها (وجدة) كعدة فللفعل
المذكور أربعة مصادر ثلاثة بثبوت الواو مثلثة والرابع حذف الواو على قياس عدة وأما
الشباب فهو حداثة السن من شب الغلام يشب شبابا والفراغ الخلو عن الشواغل المانعة
عن اتباع الهوى (أي أستغني) هذا تفسير للفعل (مفسدة للمرء اي مفسدة) هذا على تأويل
المفسدة بالمفسد ولو لا التأويل لوجب ان يقول اية مفسدة فتأمل وكيفما كان فلفظة أي
للكمال والتعظيم فالمعنى مفسدة عظيمة قال ابن هشام في حرف الالف اي بفتح الهمزة
وتشديد الياء اسم يأتي على خمسة أوجه الى ان قال والرابع ان تكون دالة على معنى
الكمال فتكون صفة للنكرة نحو زيد رجل اي كامل في صفات الرجال وحالا للمعرفة كمررت
بعبد الله أي رجل انتهى.
(هي) اي
المفسدة (ما يدعو صاحبه الى الفساد) اي الخروج
عن الاعتدال قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا ويضاده الصلاح كذا في مفردات
الراغب.
(ومنه اي من
المعنوي التفريق وهو ايقاع تباين) ليس المراد التباين الاصطلاحي بل المراد المعني
اللغوي أي ايقاع إفتراق (بين أمرين) مشتركين (من نوع) واحد سواء كان الاتحاد فيه
بالحقيقة او بالادعاء مثل نوال الغمام ونوال الامير في البيت الاتي فان النوع الذي
يجمعهما هو مطلق النوال أي العطاء سواء كان ذلك الايقاع (في المدح) كالبيت الآتي (او
غيره) كالغزل والرثاء والهجو فالمدح (كقوله اي قول الوطؤاط :
ما نوال
الغمام وقت ربيع
|
|
كنوال الامير
يوم سخاء
|
|
فنوال الامير بدرة
عين
(هي) اي البدرة (عشرة الاف درهم)
والعين النقد من المال والتنكير فيه للتعظيم (ونوال الغمام قطرة ماء) التنكير فيه
للتحقير.
(ومنه أي من
المعنوي التقسيم وهو ذكر متعدد ثم اضافة) أي نسبة (ما لكل) أي نسبة ما لكل واحد من
المتعدد (اليه) أي الى ذلك الواحد (على التعيين) فأن اشتبه الحال على السامع لم
يضر فأن المراد قصد المتكلم التعيين لا تحققه خارجا (وبهذا القيد) اي بقوله على
التعيين (يخرج عنه) أي عن التقسيم (اللف والنشر) لما تقدم من ان اللف والنشر ذكر
متعدد ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين من طرف المتكلم ثقة بأن السامع يرده اليه
فيكون النسبة بينهما التباين (وقد أهمله) أي هذا القيد (السكاكي فيكون التقسيم
عنده أعم من اللف والنشر) لأن التقسيم عنده ذكر متعدد ثم اضافة ما لكل اليه سواء
عينه المتكلم أم لم يعينه واللف والنشر مشروط بعدم التعيين فهو قسم من التقسيم فكل
لف ونشر
تقسيم ولا عكس.
(ولقائل ان
يقول ان كلام السكاكي موافق لما ذكره الخطيب والوجه في ذلك (أن ذكر الاضافة) في
تعريف التقسيم (معن عن هذا القيد) لأن الاضافة كما أشرنا انفا ان يقصد المتكلم
نسبة ما لكل اليه وهذا عبارة أخرى عن قصد التعيين والحاصل انه في التقسيم يضيف
المتكلم أي ينسب ما لكل واحد اليه واضافة ما لكل اليه تستلزم تعيينه ففي التقسيم
اضافة وتعيين من المتكلم بخلاف اللف والنشر فأن المتكلم انما يذكر ما لكل واحد من
غير اضافة وتعيين فلا يشمل التعريف اللف والنشر (اذ ليس في اللف والنشر اضافة ما
لكل اليه بل يذكر فيه ما لكل) من غير تعيين (حتى يضيفه السامع اليه ويرده عليه
فليتأمل فأنه دقيق) وبالتأمل حقيق (كقوله أي قول المتلمس ولا يقيم على ضيم أي ظلم
يراد به الضمير) المجرور في به (راجع الى المستثنى منه المقدر العام أي لا يقيم
أحد على ظلم يراد ذلك الظلم بذلك الاحد إلا الأذلان هذا استثناء مفرغ وقد أسند
اليه الفعل أعني لا يقيم في الظاهر وان كان في الحقيقة مسندا الى العام المحذوف)
يعني أحد (غير الحي) عطف بيان أو بدل عن الأذلان أو ختر لمبتدء محذوف اي احدهما
غير الحي (العير) بفتح العين يطلق على (الحمار الوحشي والاهلي) وان كان أطلاقه على
الوحشي اكثر (وهو) أي الاهلي (المناسب ههنا) فالمراد الحمار المشترك بين الحي
والحي في الاصل بطن من بطون العرب والمراد هنا مطلق الجماعة التي لهم الحق في
ركوبه عند الحاجة ولا يراعيه أحد منهم (و) ثانيهما (الوند) يجوز فيه العطف
والبدلية أيضا وهي بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء
لغة وأهل نجد يسكنون التاء ويدغمون بعد القلب فيصير
ود يقال وتدت الوتد اذا أثبته بحائط أو بالارض كذا في المصباح بتغيير ما.
(هذا أي عير
الحي على الخسف أي الذل) على بمعنى مع وهو متعلق بمربوط أي هذا مع ما به من الذل
والهوان حيث لا يراعيه أحد من الراكبين (مربوط برمته هي) أي الرمة بضم الراء
وتشديد الميم (قطعة حبل بالية) كذا في المصباح (وذا أي الوتد يشج ويدق رأسه) بحجر
أو حديد ونحوهما (فلا يرثي أي لا يرق ولا بزحم له أحد) ومع ذلك كله يصبران
ويتحملان ما يفعل بهما ويقيمان عليه وهذا أقصى مراتب الذل والهوان لا يقيم عليه
إلا هذان الأذلان.
والشاهد في أنه
(ذكر العير والوتد ثم اضاف الى الاول الربط مع الخسف والى الثاني الشج على التعيين)
قصدا حاصل وجه التعيين ان ذا بدون حرف التنبيه أشارة الى القريب ومع حرف التنبيه
للبعيد (فأن قلت) لا نسلم الفرق المذكور لأن (هذا وذا متساويان في الاشارة الى
القريب وكل منهما يحتمل أن يكون اشارة الى العير والى الوتد فلا يتحقق التعيين
وحينئذ يكون البيت من قبيل اللف والنشر) لا التقسيم.
(قلت لا نسلم
التساوي بل في حرف التنبيه) في هذا (إيماء الى أن القرب فيه أقل) من القرب في
المجرد عن حرف التنبيه (و) ايماء الى (إنه) أي القرب بحيث (يفتقر الى تنبيه ما)
ولأجل ذلك جييء بحرف التنبيه بخلاف المجرد عنه (فيكون) هذا (أشارة الى عير الحي)
وذا أشارة الى الوتد فيتحقق التعيين.
هذا ما يقتضيه
ظاهر العبارة ولكنه مخالف لما تقدم في بحث تعريف المسند اليه من أن ذا للقريب
فالمسئلة تحتاج الى تتبع تام (ولو سلم) التساوي جعلت هذا اشارة الى عير الحي وذا
الى الوتد أو بالعكس يحصل
التعيين غاية ما في الباب ان التعيين محتمل) لوجهين الاول ان يكون الاول
للاول والثاني للثاني والثاني أن يكون الاول للثاني والثاني للأول (يحصل التعيين)
قصدا (ومثل هذا) التعيين الذي يحصل قصدا (ليس في اللف والنشر) فأن التعيين فيه لا
عن قصد (فليتأمل) حتى تعرف الفرق بينهما.
(ومنه أي من
المعنوي الجمع مع التفريق وهو ان يدخل) ببناء الفعل للمفعول (شيئان في معنى) من
المعاني كالمشابهة بالنار في البيت الآتي والحاصل ان يجمعهما في أن يحكم عليهما
بشيء واحد (ويفرق بين جهتي الادخال) كالضوء والحر في البيت الآتي (كقوله أي قول
الوطواط) :
فوجهك كالنار
في ضوئها
|
|
وقلبي كالنار
في حرها
|
والشاهد في انه
(ادخل قلبه ووجه الحبيب في كونهما كالنار ثم فرق بينهما بأن ادخال الوجه فيه) أي
في كونهما كالنار (من جهة الضوء واللمعان وادخل القلب من جهة الحر والاحتراق)
الغرض من عطف اللمعان والاحتراق بيان ان المراد بالضوء والحر ما كان لنفسها لا
لغيرها.
(ومنه أي من
المعنوي الجمع مع التقسيم وهو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه أو بالعكس أي تقسيم
متعدد ثم جمعه تحت حكم فالاول كقوله أي الجمع ثم التقسيم كقول أبي الطيب في مدح
سيف الدولة لما غزا بلاد الروم ولم يفتح لكنه سبى وقتل منهم خلقا كثيرا فقال أبو
الطيب قصيدة تسلية منها قوله (حتى أقام الممدوح وهو سيف الدولة) ابن حمدان
الهمداني (ولتضمين الاقامة معنى التسليط عداها) اي الاقامة (بعلي) الدال على
الاستعلاء والسلطة وقد ذكرنا قاعدة التضمين في المكررات في بحث حروف الجر فراجع ان
شئت (فقال) مشيرا الى التضمين (على ارباض جمع ربض وهي ما حول المدينة فهي مرادف
للسور (خرشنة)
بفتح الخاء وسكون الراء وفتح الشين المعجمة والنون (هي بلدة من بلاد الروم
تشقى به الروم) حال من فاعل أقام والمراد من شقائهم به قتلهم على يديه وسبى
أزواجهم ونهب أموالهم وحرق زراعاتهم (والصلبان جمع صليب النصارى والبيع جمع بيعة
بكسر الباء) فيهما (وسكون اليا) في المفرد وفتحها في الجمع (وهي معبد النصارى) أو
اليهود) وحتى متعلق) أي مرتبط (بالفعل في البيت السابق أعني قاد المقانب) وجه
الارتباط انه عطف الفعل الذي بعده عليه فليس حتى جارة كما يوهمه كلامه لأن الجار
لا يجوز دخوله على الفعل الغير المؤل بالاسم والمقانب جمع مقنب وهو ما بين
الثلاثين الى الاربعين من الخيل والمراد هنا الراكب عليها كما يدل عليه قوله (يعني
قاد العساكر حتى اقام حول هذه المدينة) يعني خرشنة (وقد شقيت به) أي بسيف الدولة (الروم
وهذه الاشياء) أي الصلبان والبيع (فقد جمع) الشاعر (في هذا البيت شقاء الروم
بالممدوح اجمالا لأنه) أي الشقاء (يشمل القتل والنهب والسبي وغير ذلك) مما هو شقاء
كحرق ما زرعوا (ثم قسم في البيت الثاني وفصله فقال للسبي ما نكحوا) من النساء (والقتل
ما ولدوا) من الرجال والاطفال المحاربين وهؤلاء وان كانوا من ذوي العقول والموضوع
لهم لفظة من (لم يقل من نكحوا ومن ولدوا ليوافق قوله والنهب ما جمعوا والنار ما
زرعوا) وهذه الاشياء ليست من ذوي العقول والموضوع لها لفظة ما (ولأن في التعبير
عنهم) أي عن ذوي العقول أي عن النساء والرجال والولدان (بلفظ ما دلالة على الاهانة
وقلة المبالاة بهم حتى كأنهم ليسوا من جنس ذوي العقول).
قال في حاشية
البهجة المرضية قال التفتازاني وأما ما فهي كمن بعينها
إلا انها تختص بغير ذوي للعلم وأما قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والذي بناها فبالنظر إلى أن كنهه تعالى يحتجب عن
الاوهأم وهم يستعملونها فيما لا يدرك كنهه أيضا وما في قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) وإن كانت عبارة عن النساء وهي من ذوات العلم ولكن لما
دخلت تحت تصرف الازواج وملكها الازواج ملك متعة وكانت ناقصات عقل مع أن عقد النكاح
متعلق في الحقيقة بالبضع وهو ليس من ذوات العلم عبر عنها بلفظ هوالة التعبير عن
غير ذوي العلم وقيل ما طاب لكم انتهى.
فتحصل مما ذكر
من الشاهد ان الجمع إنما هو في الشقاء والتقسيم هو السبي والقتل والنهب والنار لكن
الاولى ان يقال جمع في هذا البيت الروم الشامل للنساء والأولاد والمال والزرع في
حكم وهو الشقاء ثم قسم ذلك الحكم الى سبي وقتل ونهب واحراق ورجع لكل واحد من هذه
الاقسام ما يناسبه فرجع للسبي ما نكحوا من النساء وللقتل ما ولدوا وللنهب ما جمعوا
من الاموال وللنار ما زرعوا فأشجارهم للأحراق تحت القدور ومزروعاتهم للطبخ والخبز
بالنار.
وأما ما عطف
على الروم من الصلبان والبيع فلم يتعرض له في التقسيم حتى يقال انه من المعنوي
المتقدم اي من المتعدد المجموع في الحكم ثم التقسيم.
والحاصل أن
الشقاء وان تعلق بالروم والصلبان والبيع إلا أن التقسيم خاص بشقاء الروم لا بشيء
آخر.
(و) قد وقع
ههنا في ترتيب ابيات القصيدة اشتباه وهو انه قد (ذكر صاحب المفتاح قبل هذا البيت)
المذكور في كلام الخطيب (قوله) أي قول ابي الطيب :
الدهر معتذر
والسيف منتظر
|
|
وارضهم لك
مصطاف ومرتبع
|
(و) جعل صاحب المفتاح الشاهد في
قوله والدهر معتذر الخ وفي البيت المذكور في كلام الخطيب معا فانه (قال قد جمع)
ابو الطيب (فيه) أي في الدهر معتذر الخ (ارض العدو وما فيها في كونها خالصة
للممدوح ثم قسم في هذا البيت) المذكور في كلام الخطيب (و) الحق ان ذلك اشتباه محض
من صاحب المفتاح لان (المذكور فيما رأيناه من نسخ ديوان ابي الطيب وما وقع عليه
الشرح) اي شرح ديوان ابي الطيب (موافق لما أورده المصنف) وهو ان الجمع والتقسيم
كليهما في هذا البيت المذكور في كلام الخطيب حسبما بيناه (و) ذلك لان (قوله) اي
قول ابي الطيب (والدهر معتذر بعد قوله للسبي ما نكحوا بابيات كثيرة) فليراجع
الديوان وشرحه.
(والثاني كقوله
اي التقسيم ثم الجمع كقول حسان بن ثابت) في مدح الانصار (قوم اذا حاربوا ضروا
عدوهم أو حاولوا أي طلبوا النفع في اشياعهم أي اتباعهم وانصارهم نفعوا سجية اي
غريزة وخلق) خبر مقدم (تلك) مبتدء مؤخر (منهم) صفة لسجية وكذا قوله (غير محدثة)
فقد فصل بين الصفة والموصوف بالمبتدء والمعنى ان تلك الخصلة أعني اضرار الاعداء
ونفع الاتباع غريزة فيهم وطبيعة لهم (ان الخلائق جمع خليقة وهي الطبيعة والخلق)
بضمتين (فاعلم) جملة اعتراضية للتنبيه وطلب الاصغاء والفهم والمخاطب به نظير ما
تقدم في بحث المسند اليه من انه لا يريد بالخطاب مخاطبا معينا فلا يختص بهذا
الخطأب مخأطب دون والجملة خبر ان الخلائق وان مع الاسم والخبر جملة مستأنفة جوابا
لسؤال مخاطب فالمخاطب به كل من يصلح للخطاب (شرهأ البدع) مبتدء وخبر
مقدر نشأ من قوله غير محدثة كانه قائل يقول لم جعلتها غير محدثة مع انها
ممدوحة مطلقا.
والبدع (جمع
بدعة وهي في الاصل) الاولى ان يقول في اصطلاح الفقهاء فانهم قسموها الى أقسام
وجعلوا منهأ (الحدث في الدين بعد الاستكمال) اي بعد استكمال الدين بالكتاب والسنة
قال الشهيد في قواعده على ما في حاشية اللمعة في بحث الآذان محدثات الامور بعد عهد
النبي (ص) تنقسم اقساما لا يطلق اسم البدعة عندنا الا على محرم منها ثم عد
المحدثات بقوله أو لها الواجب وثانيهأ المحرم وثالثها المستحب رابعها المكروه
وخامسها المباح وذكر لكل واحدا مثلة من أراد الاطلاع فليراجع.
ونسب الى شرح
المشكوة على ما نقل ايضا هناك ما هذا نصه البدعة خمسة اقسام واجبة كعلم النحو وحفظ
اعراب القرآن والحديث وكتدوين اصول الفقه ومحرمة كمذهب القدريه والجبرية والمرجئة
ومندوبة كأحداث المدارس وكل احسان لم تعهد في العصر الاول ومكروهة كتزيين المساجد
وتزويق المصاحف ومباحة كالمضاجعة عقب الصبح والعصر والتوسع في تزايد المآكل
المشارب والملابس والمساكن والمساجد انتهى.
هذا هو المعنى
المراد منها المتداول في السنة اهل الاصطلاح (و) لكن المراد بالبدع (ههنا مستحدثات
الاخلاق لا ما هو كالغرائز منها) فالاخلاق بعضها يشبه الغرائز وبعضها مستحدث فشر
الاخلاق ما كان مستحدثا لا ما كان كالغرائز فان قلت كون الصفة في الانسان بدعة أي
حادثا ينافي كونها خلقا لان الخلق كمأ تقدم آنفا الغريزة والسجية أي الطبيعة وهي
لازمة لا حادثة قلنا الصفة الحادثة في الانسأن قد تسمى خلقا
باعتبار دوامها بعد حدوثهأ فتكون الصفة خلقا دوامأ وبدعة ابتداء.
والشاهد في انه
(قسم في البيت الاول صفة الممدوحين الى ضر الاعداء ونفع الاولياء ثم جمعها في
البيت الثاني في كونها سجية حيث قال سجية تلك منهم) غير محدثة.
(ومنه اي من
المعنوي الجمع مع التفريق والتقسيم ولم يتعرض لتفسيره لكونه معلوما مما سبق من
تفسيرات هذه الامور الثلاثة) أي الجمع والتفريق والتقسيم فان كل واحد منها قد تقدم
بيانه مفصلا وحاصله ان يجمع بين متعدد في حكم ثم يفرق اي يوقع التباين بينها ثم
يضاف لكل واحد ما يناسبه.
(كقوله تعالى
يوم يأتي) قرء (يَأْتِ) بغير ياء كما في قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) والضمير في يأتي عائد الى الله او الى اليوم (يعني يأتي
الله اي امره أو يأتي اليوم أي هوله) أي خوفه والتأويل بالهول والخوف انما لمناسبة
المقام لان المقصود انما هو ذلك لا الاخبأر بمجيء الزمأن (والظرف) يعني يوم يأتي (منصوب
بأضمار اذكر او) منصوب (بقوله لا تكلم) فيه (نفس بما ينفع من جواب او شفاعة) وانما
انحصر التكلم في الجواب أو الشفاعة اما لعدم المنع من غيرهما على الاطلاق او لانه
الانسب بقوله تعالى قبل هذه الآية (فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) الآية ولان عدم التكلم بما ينفع هو الموجب لزيادة شدة
الهول فان المنع من الكلام بغير ذلك كمطالبة الخصم بالحق لا يوجب ذلك (الا بأذنه
اي باذن الله كقوله تعالى (لا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)).
(و) ان قلت
الاستثناء في هذه الآية تفيد انهم يتكلمون باذنه تعالى وهذا مناف لقوله تعالى في
آية اخرى (يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ).
قلت (هذا)
الاستثناء (في موقف وقوله تعالى (يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) في موقف آخر والمأذون فيه هو الجواب الحق والممنوع عنه
هو العذر الباطل) فلا تنافي (فمنهم اي من أهل الموقف شقي وجب له النار بمقتضى
الوعيد (و) منهم اي من أهل الموقف (سعيد وجبت له الجنة بمقتضى الوعد (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير اخراج النفس) الى الخارج على وجه مخصوص اي بشدة (والشهيق
رده) الى الباطن كذلك (خالِدِينَ فِيها) أي في النأر ((ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي سمواث الآخرة وارضها لانها) اي سمواث الآخرة وارضها (مخلوقة
للابد) وأما سموات الدنيا وأرضها فقال الله جل جلاله ونطوي السماء ونبدل الارض غير
الارض والسموات (أو) أن المراد سموات الدنيا وأرضها ولا ينافي فنائها كونها دالة
على التأبيد لأن الكلام من باب الكناية والمراد طول المدة فكأنه قيل خالدين فيها
خلودا طويلا لا نهاية له والى ذلك أشار بقوله (هي عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع
كقول العرب) لا أفعله (ما أقام بثير) بالثاء المثلثة ثم البأء اسم جبل (وما لاح
كوكب) أي لا افعله أبدا (ونحو ذلك) مما هو وارد في كلام العرب والعجم كثيرا فعليك
بالتتبع ((إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع ولكنه ممتد الى غير النهاية) يعني الى
الأبد.
(فأن قلت ما
معنى الاستثناء في قوله (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ)) مع أن أهل الجنة لا يخرجون منها أصلا وكذا أهل النار
لا يخرجون منها والاستثناء يفيد خروجهم.
(قلت هو
استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة يعني أهل النار لا
يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون في الزمهرير ونحوه من أنواع العذاب سوى عذاب
النار) وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم واهانته اياهم بقوله (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).
(وكذا أهل
الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل) موقعا منهم (وهو رضوان الله) كما قال (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) ولهم (ما يتفصل به الله عليهم سوى) ثواب الجنة (مما لا
يعرف كنهه إلا الله) فما ذكرنا هو المراد بالاستثناء والدليل عليه قوله تعالى (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع أي يعطي أهل الجنة عطاء الذي لا انقطاع له
كما انه جل جلاله يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما قال (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (كذا ذكره صاحب الكشاف) بتغيير مأ وهو (بناء على مذهبه) أي الاعتزال
والتفويض وقد ذكرنا بعض الكلام في الفساق من المؤمنين بناء على مذهبه في مفتتح
الكتاب فراجع ان شئت.
ثم قال فتأمله
فأن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا يخدعنك عنه قول المجبرة أن المراد بالاستثناء خروج
أهل الكبائر من النار بالشفاعة فأن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل
بأفترائهم وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت (في الصحاح ان
بني فلان لنابتة شر والنوابت من الاحداث الاعمار) عن عبد الله بن عمرو بن عاص
ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها
أحقابا وقد بلغني ان من الضلال من اغتر بهذا الحديث فأعتقد أن الكفار لا يخلدون في
النار وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين زادنا الله
هداية الى الحق ومعرفة بكتابه وتنبيها على ان نعقل عنه ولئن صح هذا عن ابن
الغاص فمعناه انهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهريز فذلك خلو جهنم وصفق
أبوابها وأقول ما كان لأبن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبيطالب رضى الله
عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث.
(وأما عندنا)
أي الاشاعرة (فمعناه) أي معنى الاستثناء (ان فساق المؤمنين لا يخلدون في النار)
وذلك بالشفاعة كما صرح بذلك في الكشاف (وهذا كاف في صحة الاستثناء لأن صرف الحكم
عن الكل) أي الاستثناء (في وقت ما يكفيه صرفه عن البعض) أي عن فساق المؤمنين (وكذا
الاستثناء الثاني معناه أن بعض أهل الجنة لا يخلدون فيها وهم المؤمنون الفاسقون
الذين فارقوا الجنة أيام عذابهم) في جهنم أو في غيرها (والتأييد من مبدء معين كما
ينتقض بأعتبار الانتهاء فكذلك ينتقض بأعتبار الابتداء).
ويعجبني أن
انقل كلاما يتضح به المراد غاية الاتضاح لأنه وان كان موجبا للتطويل لكنه موجب
لنفع جليل لمن كان طالبا لمسائل مهمة من هذا القبيل قال القوشجي في شرح قول
الخواجة ويجب دوامهما ما هذا نصه ذهب المعتزلة الى أنه يجب دوام ثواب أهل النعيم
وعقاب أهل الجحيم واختاره المصنف وأحتج عليه بوجوه الاول أن دوام الثواب على
الطاعة وكذا دوام العقاب على المعصية يبعث المكلف على فغل الطاعة ويزجره عن
المغصية فيكون لطفا واللطف واجب واليه أشار بقوله لأشتماله على اللطف.
الثاني أن
المدح والذم دائمان اذ لا وقت إلا ويحسن فيه مدح المطيع وذم العاصي وهما معلولا
الطاعة والمعصية فيجب دوام الثواب والعقاب لأن دوام أحد المعلولين يستلزم دوام
المعلول الآخر واليه أشار بقوله ولدوام المدح والذم.
الثالث ان
الثواب لو كان منقطعا لحصل لصاحبه الالم بأنقطاعه والعقاب لو كان منقطعا لحصل
لصاحبه السرور بأنقطاعه فلم يكن الثواب والعقاب خالصين عن شوب لكن يجب خلوصهما لما
سيأتي متصلا بهذا البحث والى هذا أشار بقوله ولحصول نقيضهما لولاه أي يلزم بأنقطاع
الثواب الذي هو النفع حصول ضرر الألم الذي هو نقيضه وبأنقطاع العقاب الذي هو الضرر
حصول نفع السرور الذي هو نقيضه.
ثم قال في شرح
قول الخواجة والاحباط باطل لأستلزامه الظلم ولقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ) ما هذا نصه ذهب جماعة من المغتزلة الى الاحباط والتكفير
على معنى أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بمعصيته المتأخرة ويكفر ذنوبه المتقدمة
بطاعته المتأخرة.
ونفاه المحققون
وأختاره المصنف وأحتج عليه بأنه ظلم لأن من أطاع وأساء وكان اسائته أكثر يكون
بمنزلة من لم يحسن ومن كان احسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يساء وان تساويا يكون
مساويا لمن لم يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء ولقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ) والايفاء بوعده واجب.
ثم القائلون
بالاحباط والتكفير أختلفوا فقال أبو علي أن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى هو على
حاله وقال أبو هاشم ينتفي الاقل بالاكثر وينتفي من الاكثر بالاقل ما ساواه ويبقى
الزائد مستحقا وان تساويا صار أكأن لم يكن وهذا هو الموازنة والمصنف أراد أبطال
مذهب أبي هاشم فقال ولعدم الأولوية اذا كان الآخر ضعفا وحصول المتناقضين مع
التساوي.
تقريره أنالو
فرضنا أنه استحق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب فأسقاط احدى
الخمسين من العقاب دون الأخرى
ليس أولى من العكس فأما أن يسقطا معا وهو خلاف مذهبه أو لا يسقط شيء منهما
وهو المطلوب.
ولو فرضنا انه
أستحق خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب فأن تقدم اسقاط أحدهما للآخر لم
يسقط الباقي بالمعدوم لأستحالة صيرورة المغلوب والمعدوم غالبا ومؤثرا وان تقارنا
لزم وجودهما وعدمهما معا لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو عدما دفعة وجدا
دفعة لأن العلة موجودة حال حدوث المعلول وهما موجودان حالكونهما معدومين فيلزم
الجمع بين النقيضين.
وأجيب بأن كل
واحد من العملين يؤثر في الاستحقاق الناشيء عن الآخر حتى يبقى من أحد الاستحقاقين
بقية بحسب رجحانه فليس الكاسر والمنكسر واحدا كما لم يتحدا في المزاج أيضا.
والحق انه ليس
ههنا تأثير وتأثر حقيقي بل معنى أحباط الطاعة واستحقاق الثواب أن الله تعالى لا
يثيبه عليها ومعنى الموازنة انه لا يثيب عليها ويترك العقوبة على المعصية بقدرها
وحينئذ يخرج الجواب عن الصورة الاولى أيضا فأن اسقاط احدى الخمستين وان لم يكن
أولى من الاخرى لكن المختار يرجح ايهما شاء على ما مر من امثلة الهارب والجائع
وغيرهما.
ثم قال في شرح
قول الخواجة والكافر مخلد وعقاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاق الثواب بايمانه
ولقبحه عند العقلاء اتفق المسلمون على أن عذاب الكفار المعاندين دائم لا ينقطع
والكافر المبالغ في الاجتهاد الذي لم يصل الى المطلوب زعم الجاحظ والعنبري انه
معذور لقوله تعالى (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ولان تعذيبه مع بذله الجهد والطاقة من غير تقصير قبيح
عقلا.
وذهب الباقون
الى انه غير معذور وادعوا الاجماع عليه قبل ظهور المخالفين قالوا كفار عهد رسول
الله (ص) بخلودهم في النار لم يكونؤا عن آخرهم معاندين بل منهم من اعتقد الكفر بعد
بذل المجهود ومنهم من بقى على الشك بعد افراغ الوسع وختم الله على قلوبهم ولم يشرح
صدورهم للأسلام فلم يهتدوا الى حقيقته ولم ينقل عن أحدهم قبل المخالفين هذا الفرق
الذي ذكره الجاحظ والعنبري وقوله تعالى (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) خطاب على أهل الدين لا الى الخارجين من الدين وكذلك
اطفال المشركين عند الاكثرين لدخولهم في العمومات ولما روى ان النبي قال هم في
النار حين سئلت خديجة عن حالهم.
وقالت المعتزلة
وبعض الاشاعرة لا يغذبون بل هم خدام اهل الجنة لما ورد في الحديث ولان تعذيب من لا
جرم له ظلم واما ان عذاب صاحب الكبيرة هل هو منقطع ام لا فذهب أهل السنة والامامية
من الشيعة وطائفة من المعتزلة الى انه ينقطع واختاره المصنف واحتج عليه بان صاحب
الكبيرة مستحق الثواب بايمانه لقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ولا شك ان الايمان أعظم أعمال الخير فان استحق العقاب
بالمعصية فأما أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالاتفاق أو بالعكس وهو المطلوب
وانه لو لم ينقطع عذابه يلزم انه اذا عبد الله مكلف مدة عمره ثم عمل كبيرة في آخر
عمره لا ينقطع عذابه وهو قبح عقلا.
ثم قال في شرح
قوله والسمعيات متأولة ودوام العقاب مختص بالكافر السمعيات التي تمسك المعتزلة بها
في عدم انقطاع عذاب صاحب الكبيرة مثل قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ* فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ*
يُدْخِلْهُ
ناراً خالِداً فِيها) متأولة اما بتخصيص العمومات بالكفأر او بحمل الخلود على
المكث الطويل واما قولهم ان الثواب والعقاب ينبغي ان يكؤنا دائمين لما تقدم فان
اريد بدوام العقاب دوام عقاب الكفار فمسلم والا فممنوع.
ثم قال في شرح
قول الخواجة والعفو واقع لأنه حقه تعالى فجاز اسقاطه ولا ضرر عليه في تركه المكلف
فحسن اسقاطه ولانه احسان والمسمع اتفقت الامة على ان الله تعالى يعفو عن الصغائر
مطلقا وعن الكبائر بعد التوبة ولا يعفو عن الكفر قط واختلفوا في جواز العفو عن
الكبائر بدون التؤبة فذهب جماعة من المعتزلة الى انه جائز عقلا وغيرها جائز سمعا
وذهب الباقون الى وقوعه عقلا وسمعا واختاره المصنف واحتج على وقوعه عقلا بان
العقاب حق الله تعالى فجاز له اسقاط حقه وبأن العقاب ضرر على المكلف ولا ضرر على
الله تعالى باسقاطه وكل ما كان كذلك فاسقاظه حسن وكل ما هو حسن فهو واقع ولأن
العفو احسان والاحسان على الله تعالى واجب وعلى وقوعه سمعا بالدلائل السمعية مثل
قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الى غير ذلك من النصوص.
فأن قيل يجوز
حمل النصوص على العفو عن الصغائر أو عن الكبائر بعد التوبة.
قلنا هذا مع
كونه عدولا عن الظاهر من غير دليل ومخالفة لأقاويل من يعتد به من المفسرين بلا
ضرورة ومما لا يكاد يصح في بعض الآيات كقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية فأن المغفرة بالتوبة يعم الشرك
وما دونه فلا يصح التفرقة بأثباته لما دونه وكذا يعم كل واحد من العصاة فلا
يلائم التعليق لمن يشاء المفيد للبعضية على أن في تخصيصها اخلالا بالمقصود اعني
تهويل شأن الشرك ببلوغه النهاية في القبح بحيث لا يغفره ويغفر جميع ما سواه.
ثم قال في شرح
قول الخواجة والاجماع على الشفاعة وقيل لزيادة المنافع ويطيل منا في حقه اتفق
المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أو فسر بالشفاعة ثم أختلفوا فذهب المعتزلة الى إنها
عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب وأبطله المصنف بأن الشفاعة
لو كانت زيادة المنافع للمؤمنين لكنا شافعين للنبي لأنا نطلب زيادة المنافع له وهو
مستحق الثواب والتالي باطل لأن الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له.
ثم قال الخواجة
ونفى المطاع لا يستلزم نفى المجاب (المطاع هو الذي يجب على المشفع عنده ولو كان
القبول لازما عليه مضطرا فيه والمحاب هو الذي يجاب وان كان للمجيب أيضا أن لا يجيب
فتأمل جيدا) فقال القوشجي أشارة الى جواب دليل المعتزلة تقريره ان الله تعالى قال (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ) نفي الله تعالى قبول الشفاعة على الظالمين فلا يكون
الشفاعة ثابتة في حق العصاة.
وتقرير الجواب
أنه تعالى نفى الشفيع الذي يطاع ونفى الشفيع الخاص لا يستلزم نفي الشفيع مطلقا.
ثم قال في شرح
قول الخواجة وباقي السمعيات متأولة بالكفار أشارة الى جواب استدلالهم بمثل قوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وقوله تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) تقرير الجواب أن هذه الآيات متأولة بتخصيصها
بالكفار جمعا بين الادلة على أنا لا نسلم العموم في الازمان والاحوال وان
سوق الكلام لعموم السلب لا لسلب العموم وأيضا الظالم على الاطلاق هو الكافر ونفى
النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة لأنها طلت على خضوع والنصرة ربما ينبيء عن مدافعة
ومغال.
ثم قال في شرح
قول الخواجة قيل في اسقاط المضار والحق صدق الشفاعة فيهما وثبوت الثاني له لقوله (ص)
أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي ذهب طائفة الى أن الشفاعة بالنسبة الى العصاة
في أسقاط المضار عنهم والحق عند المصنف صدق الشفاعة فيهما أي في زيادة المنافع لهم
وفي أسقاط المضار عنهم اذ يقال شفع فلان لفلان اذا طلب له زيادة منافع واسقاط
مضار.
ثم قال القوشجي
أقول وحينئذ يعود وجه الأبطال المذكور اعني لزوم كوننا شافعين للنبي (ص) ويمكن
الجواب عنهما بأعتبار زيادة قيد فيهما أعني كون الشفيع أعلى حالا من المشفوع له ثم
بين (الخواجة) ثبوت الشفاعة بالمعنى الثاني للنبي بقوله أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر
من امتي انتهى اللهم أرزقني شفاعته وآله الطيبين الطاهرين عند الممات وفي القبر
ويوم الدين رحم الله من قال أمين.
وإنما أطنبت
الكلام في هذا المقام لما تقدم فلنعد الى ما كنا فيه من الآية المباركة المستشهد
بها (و) هو أن (أطلاق السعادة عليهم) أي على المؤمنين الفاسقين الذين فارقو الجنة
أيام عذابهم (بأعتبار تشرفهم بسعادة الايمان والتوحيد وان شقوا بسبب المعاصي) التي
أستوجبت. دخولهم في العذاب.
وأما الشاهد (فقد
جمع الانفس في عدم التكلم بقوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ)
لأن النكرة) الواقعة (في سياق النفي) كنفس في الآية (تعم) أي يفيد العموم
وضعا وسيأتي منا بيانه (ثم فرق بان أوقع التباين بينها بأن بغضها شقى وبعضها سعيد
بقوله (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) اذ الانفس وأهل الموقف واحد ثم قسم وأضاف الى السعداء
مالهم من نعيم الجنة والى الاشقياء ما لهم من عذاب النار بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الى آخره).
أعلم أن لهم في
أفادة النكرة في سياق النفي العموم وضعا وجوها منها ما تمسك به المحقق صاحب
الشرايع من أن السيد اذا قال لعبده لا تضرب أحدا فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدا
عد مخالفا والتبادر دليل الحقيقة.
ومنها ما تمسك
به نجم الأئمة من أن قولك أكلت شيئا يناقضه قولك ما أكلت شيئا فلو لم تكن الثانية عامة
لم تحصل المناقضة.
ومنها ما تمسك
به نجم الأئمة أيضا من أن ذلك لو لم تكن للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله
توحيدا.
ومنها انه لو
لم يكن للعموم لما صح الاستثناء في قولنا ما رأيت أحدا والتالي في الجميع باطل
فالمقدم مثله وأما الملازمة فظاهرة ومنها ظهور الاتفاق عليه.
وقد يناقش في
جميع الوجوه المذكورة أما في الاول فبالمنع من كون التبادر من نفس اللفظ حتى يكون
اللفظ موضوعا له بل ان النكرة في سياق النفي إنما تدل على نفي الفرد المنتشر أو
نفى الطبيعة من حيث هي ويلزم منه نفى جميع الافراد الذي هو العموم وبعبارة أخرى
دلالة النكرة المنفية على العموم التزامية فعدها من صيغ الغموم وضعا بمغنى كونها
حقيقة فيه مطلقا لا يخلو عن تمحل ظاهر.
وقد يجاب عما
ذكر بأن الاصل في التبادر أن يكون من جهة اللفظ وهو علامة الحقيقة ويؤيد ما ذكر
أمران أحدهما أنه لو كانت بالالتزام لكان هناك انتقالان والمتحقق انتقال واحد
وثانيهما انه لو كان العموم مستفادا من الطبيعة لما صح الاستثناء الأعلى تقدير
كونه منقطعا وذلك واضح والأصل فيه الاتصال.
وأما في الثاني
فبأن غاية ما ذكر الدلالة على العموم وهي أعم من الالتزام فلا يكون هنا دليل على
الوضع إلا أن يقال الاصل ان تكون من جهة الوضع.
وأما في الثالث
فلما تقدم اليه الاشارة من أنه ان لم تكن حقيقة في العموم فلا يمتنع إرادة العموم
منها وعلى هذا فمهما لم يرد المتكلم منها العموم فلا تكون قوله توحيدا وان أراد
ذلك كان توحيدا لكن لا يكون العموم من مقتضيات اللفظ بل من قرنية حال المتكلم
الدالة على إرادة التوحيد.
وأما في الرابع
فبان صحة الاستثناء لا تدل على كون اللفظ موضوعا للعموم لأن الاستثناء كما قال
النحاة أخراج ما لولاه لصح دخوله لا وجب.
وأما في الخامس
فبالمنع منه لوجود المخالف نعم قد يدعى شذوذه لكن الحق أن أفادتها العموم في
الجملة مما لا ريب فيه ولا شبهة يعتريه وأما النزاع في انها بالالتزام أو غيره
فقليل الفائدة.
ومما ينبغي
التنبيه عليه ما قاله الشهيد في التمهيد وهذا نصه النكرة في سياق النفي للعموم
سواء باشرها النافي نحو ما أحد قائما أو باشر عاملها نحو ما قام أحد وسواء كان
النافي ما أم لم أم لن ام ليس ام غيرهأ انتهى وهو جيد جدا لكن بقى هنا شيء تتميما
للمرام وان كان موجبا
لتطويل الكلام وهو انه هل الفعل المنفي نحو لا يضرب ولم يضرب وما ضرب
والمنهي نحو لا يضرب نكرة في سياق النفي فيلزم أفادته للعموم أولا بل هو خارج عن
محل البحث يظهر من اتفاق النحاة ان الجملة نكرة الاول وفيه نظر لأن نجم الأئمة منع
كون الجملة الفعلية نكرة محتجا بأن التنكير كالتعريف من خواص وعوارض ما يدل على
الذات وهو الاسم وأستدل على الاول بوجهين آخرين الاول أن الجملة يوصف بها النكرة
دون المعرفة وأجاب عنه نجم الأئمة بأن ذلك لمناسبتها من حيث يصح تأويلها بها كما
تقول في قام رجل ذهب أبوه قام رجل ذاهب أبوه والثاني أن الفعل حكم والاحكام من
النكرات لأن الحكم بشيء على آخر يجب أن يكون مجهولا عند السامع وإلا تلغى الكلام
ولذا قالوا أن النار حارة ليس بكلام وكذا السماء فوقنا والارض تحتنا.
وأجاب عنه نجم
الأئمة بأن النكرة في اصطلاحهم ليس كون الشيء مجهولا عند السامع بل كون الذات غير
مشار بها في خارج قال سلمنا أن كون الشيء مجهولا نكرة نقول ان النكرة ليس نفي
الخبر والصفة بل المجهول انتساب ما تضمنه الخبر والصفة الى المحكوم عليه فان
المجهول في جائني زيد العالم وزيد هو العالم انتساب العلم الى زيد ولو وجب
تنكيرهما بحيث اذا وقعتا في سياق النفي أفادتا العموم انتهى.
(وقد يطلق
التقسيم على أمرين آخرين أحدهما ان تذكر أحوال الشيء مضافا) أي منسوبا (الى كل من
تلك الاحوال ما يليق به كقوله أي قول أبي الطيب :
سأطلب حقي
بالقنا ومشائخ
|
|
كأنهم من طول
ما التثموا مردثقال
|
القنا بالقاف
والنون جمع قناة وهي الرمح ويمكن ان يكون بالفاء
والتاء كما نقل عن بعض النسخ وهو المناسب لمشايخ قال بعضهم بناء على هذه
النسخة أراد بالفتى نفسه وبالمشائخ قومه وجماعته من الرجال الذين لهم لحي
والالتثام وضع اللثام على الانف والفم وكان ذلك من عادة العرب في الحرب للتوقي عن
الغبار ولئلا يعرف الانسان فيطلب أو يهرب عنه خصمه ان كان مشهورا بالشجاعة كما وقع
في صفين بين علي (ع) وعمروعاص في بعض الايام ولتخفي حاله أن كان شيخا فلا يطمع فيه
خصمه الثابت وشبههم بالمرد لعدم ظهور لحاهم وسترها باللثام لكثرة ملازمتهم للحروب
وقوله ثقال بالجر صفة مشايخ ويجوز الرفع على القطع أي هم ثقال (لشدة وطئهم على
الاعداء وثباتهم على اللقاء) فهم ثقال (اذا لاقوا أي حاربوا الاعداء) و (خفاف) أي (مسرعين
الى الاجابة إذا دعوا إلى كفاية منهم ومدافعة خطب) أي أمر شديد ينزل والجمع خطوب
مثل فلس وفلوس كذا في المصباح وهم (كثير إذا شدوا) بفتح الشين أي حملوا على
الاعداء وإنما قال هم كثير (لأن واحدا منهم يقوم مقام جماعة) وهم (قليل اذا عدوا)
والشاهد في أنه (ذكر أحوال المشايخ) من الثقل والخفة والكثرة والقلة (وأضاف) أي
نشب (الى كل منها ما يناسبها) فأضاف للثقل حال الملاقاة وللخفة حال الدعوة للأجابة
وللكثرة حال الشدة والحمل على الاعداء وللقلة حال العد (وهو) أي الشاهد حسبما ما
ذكرنا (ظاهر).
وإنما لم يكن
هذا من قبيل التقسيم السابق لأن التقسيم السابق يذكر فيه نفس المتعدد مضافا فالكل
مما قصد من أفراده ما يناسبه وهذا لم يذكر فيه نفس المتعدد المذكور أولا وإنما
ذكرت أحواله وأضيف لكل من تلك الاحوال ما يليق بها كما رأيت حسبما بيناه.
(والثاني
استيفاء اقسام الشيء كقوله تعالى (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ)) من المزاوجة بمعنى الجمع أي يجمع لهم (ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشاءُ عَقِيماً) أي لا يولد له أصلا لأنه عليم بالحكمة في ذلك قدير على
ما يريد لا يتعاصى عليه شيء مما أراده وإنما كانت الآية المباركة من قبيل استيفاء
أقسام الشيء (فأن الانسان) المتزوج (أما ان يكون له ولدا ولا يكون) له ولد (واذا
كان) له ولد (فأما أن يكون) الولد (ذكرا) فقط (أو انثى) فقط (أو ذكرا وانثى) معا (وقد
أستوفى جميع الاقسام وذكرها وإنما قدم ذكر الاناث لأن سياق الآية على انه تعالى
يفعل ما يشاء لا ما يشائه الانسان فكأن ذكر الاناث اللاتي هن من جملة ما لا يشائه
الانسان أهم).
وبعبارة أخرى
إنما قدم الاناث في الذكر على الذكور هنا لأن سياق الآية في بيان انه ليس للأنسان
ما يشاء من الولادة وإنما يكون منها ما يشاء الله تعالى والذي لا يريده الانسان هو
الاناث فناسب تقديم الدال عليهن.
(لكنه لجبر
تأخير الذكور عرفهم باللام لأن في التعريف تنويها) أي تعظيما وترفيعا (بالذكر)
وبعبارة أخرى عرف الذكور باللام للأشارة الى مرتبتهم والامتنان بهم (فكأنه قال
ويهب لمن يشاء الفرسان اللذين لا يخفى عليكم) وبعبارة أخرى كأنه قيل ويهب لمن يشاء
الجنس المعروف لكم المعهود كما له لديكم فأعطى للفظ الاناث مناسبة التقديم وأعطى
للفظ الذكور مناسبة التنويه أي التعظيم وترفيع الشأن والمنزلة.
(ثم أعطى كلا
الجنسين حقهما من التقديم فقدم الذكور وآخر الاناث) في قوله تعالى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) (تنبيها على ان تقديم الاناث)
اولا (لم يكن لتقدمهن) على الذكور من حيث الشأن (بل لمقتض آخر وهو ما ذكر
انفا من ان سياق الآية على انه تعالى يفعل ما يشاء لا ما يشائه الانسان.
وليعلم انه قد
احتج بهذه الآية على انتفاء الخنثي المشكل والحق وجوده واختلف فيه أهو قسم ثالث
غير الذكر والانثى اولا ؤ الصحيح انه لا يخرج عنهما وإنما لم يصرح به لأن الآية في
معرض الامتنان وهو فرد نادر فاقتصر على الغالب.
(ومنه اي من
المعنوي التجريد وهو ان ينتزع) اي يستخرج (من امر ذي صفة امر آخر مثله فيها أي
مماثل لذلك الامر ذي الصفة في تلك الصفة مبالغة في كمالها فيه اي لاجل المبالغة
لكمال تلك الصفة في ذلك الامر) الاول (ذي الصفة) الذي انتزع منه امر آخر (حتى كأنه)
أي الامر الاول ذي الصفة (بلغ من الاتصاف بتلك الصفة الى حيث يصح ان ينتزع) اي ان
يستخرج (منه موصوف آخر بتلك الصفة) مثلا اذا قيل لي من فلان صديق حميم فكأنه قيل
خرج لي من فلان واتاني منه صديق آخر ولا شك ان هذا يفيد المبالغة في وصف فلان
بالصداقة لان جعل شيء مبدء ومنشأ لذي وصف يدل على كمال ذلك الشيء باعتبار ذلك
الوصف.
(وهو اي
التجريد اقسام منها ان تكون بمن التجريدية) جعل بعضهم التجريد معنى براسه لكلمة من
وقال بعض آخر ان الاصح انها من الابتدائية لان المناسب لكلمة من حيث دخلت على
المنتزع منه ان تكون للابتداء لان المنتزع مبتدء وناشيء من المنتزع منه الذي هو
مدخول من فتدبر جيدا كما ان باء التجريد على ما سيصرح به عن قريب
باء الملابسة والمصاحبة فالتجريد بمن التجريدية (نحو قولهم لي من فلان صديق
حميم) قد تقدم معناه آنفا واما معنى حميم) واما معنى حميم فقال الجوهري (في الصحاح
حميمك قريبك الذي تهتم لامرئه) اي شأنه (اي بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أي مع (ذلك
الحد ان يستخلص) اي ان يستخرج (منه اي من فلان صديق آخر (مثله في الصداقة) ومن
المعلوم ان المبالغة انما يناسبها كل المناسبة خروج (صديق منه لان صداقته بلغت الى
حيث يستخلص منه صديق آخر.
(ومنها) أي من
اقسام التجريد (ما يكون بالباء التجريدة الداخلة على المنتزع منه) لا على المنتزع
كما في القسم الآتي (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالكرم والجود (لئن سئلت
فلانا لتسئلن به البحر) فقائل هذا القول (بالغ في اتصافه) اي اتصاف فلان (بالسماحة)
أي بالكرم والجود (حتى انتزع منه بحرا في السماحة) أي في الكرم والجود.
(وزعم بعضهم ان
من التجريدية والباء التجريدية على حذف مضاف فمعنى قولهم لقيت من زيد اسدا لقيت من
لقائه اسدا) فالمضاف المحذوف لفظ لقاء (و) قال ذلك البعض أن (الغرض) من الكلام (شبيهه
(أي تشبيهه زيد (بالاسد وكذا معنى لقيت به اشدا لقيت بلقائه اشدا) فالمحذوف ففيه
ايضا المضاف (و) لكن لا اطراد في زعمه اذ (لا يخفى ضعف هذا التقدير في مثل قولنا
لي من فلان صديق حميم) وذلك (لفوات المبالغة) المقصودة من الكلام (في) صورة (تقدير)
المضاف بان يقال ان التقدير في المثال (حصل لي من حصوله صديق) حميم (فليتأمل) وجه
التأمل انه اذا كان لقاء زيد لقاء الاسد حصل المبالغة بجعله عين الاسد كما في
الاستعارة وان فاتت المبالغة الحاصلة من التجريد فيكون مراد البعض من قوله
والغرض التشبيه ان المقصود الاصلي التشبيه.
(ومنها) اي من
اقسام التجريد (ما يكون بدخول باء المعية والمصاحبة في المنتزع) لا المنتزع منه (نحو
قوله وشوهاء) مأخوذ (من شاهت الوجوه) اي (قبحت) الوجوه (وفرس شؤهاء صفة محمودة
يراد بها) اي بالصفة أي بشوهاء (سعة اشداقها) اي جوانب فمها (وقيل اراد بها) أي
بشوهاء (فرسا قبيح الوجه) والمنظر (لما أصابها من شدائد الحرب) والجراحات الواردة
عليها في ميدان الحرب (تعدو أي تسرع) في هذا التفسير نظر يظهر وجه مما قاله في
المصباح وهذا نصه وعدا في مشيه عدوا من باب قال قارب الهرولة وهو دون الجري فتأمل (بمستلئم
أي لابس لأمة وهي الدرع والباء) في بمستلئم (للملابسة والمصاحبة) وقوله (مثل
الفنيق) صفة مستلئم (وهو الفحل المكرم) من الابل (عند أهله) وقوله (المرحل) صفة
الفنيق وهو مأخوذ (من رحّل البعير) أي (اشخصه) أي اقامه (عن مكانه وأرسله) وحاصل
المعنى ما ذكره بقوله (أي تعدو بي ومعي من نفسي لابس درع لكمال استعدادي للحرب)
والشاهد في انه أي الشاعر (بالغ في اتصافه) أي في اتصاف نفسه (بالاستعداد للحرب
حتى انتزع منه مستعد آخر لابس درع) وقد أدخل الباء على المنتزع ذون المنتزع منه
كما في القسم قبل هذا.
(ومنها) أي ومن
اقسام التجريد (ما يكون بدخول) كلمة (في في المنتزع منه نحو قوله تعالى (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)) الضمير المؤنث عائد الى جهنم (أي) لهم (في جهنم) دار
الخلد (وهي) أي جهنم نفسها (دار الخلد لكنه) أي الله عزوجل (انتزع منها دارا أخرى وجعلها) أي الدار الاخرى
المنتزع من جهنم (معدة) أي مهيئة (في جهنم لأجل الكفار) وقوله (تهويلا
لأمرها) علة لانتزاع الدار الاخرى منها وكذلك قوله (ومبالغة في اتصافها) أي اتصاف
جهنم (بالشدة) أي بشدة العذاب فأن المبالغة في الخلود يوجب شدة العذاب فأن احتمال
الانقطاع يهونه.
(ومنها) أي من
اقسام التجريد (ما يكون بدون توسط حرف) من الحروف (نحو قوله أي قول قتادة بن مسلمة
الحنفي فلئن بقيت لارحلن بغزوة تحوي أي تجمع الغنائم) هذه الجملة (صفة غزوة وروى
نحو الغنائم فالظرف) أي جملة نحو الغنائم (منصوب بارحلن) أما الفعل في قوله (أو
يموت) فهو (منصوب بأن) المصدرية حالكونها (مضمرة كأنه قال إلا أن يموت) أشارة الى
ما ذكره الناظم في باب أعراب الفعل بقوله :
كذاك بعد أو
اذا يصلح في
|
|
موضعها حتى
أو إلا أن خفى
|
(كريم) فاعل يموت (يعني بالكريم
نفسه) والشاهد فيه (فكأنه انتزع من نفسه كريما) آخر (مبالغة) أي للمبالغة (في كرمه)
أي في كون الشاعر كريما (ولهذا) أي وللأنتزاع والمبالغة المذكورين (لم يقل) الشاعر
(أو أموت وهذا) الذي ذكر في البيت من أنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كريميته (بخلاف
قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ) اذ لا معنى للأنتزاع فيه) اذ الرب على ما قيل أسم
والاسم لا يدل على وصف من الاوصاف فضلا عن المبالغة فيه فلذلك كانت الآية من قبيل
الالتفات على ما تقدم في بابه والبيت من قبيل التجريد (وقيل تقديره أو يموت مني
كريم فيكون من القسم الاول أعني ما يكون بمن التجريدية) لا من هذا القسم الذي يكون
بدون توسط حرف من الحروف (وفيه نظر اذ لا حاجة الى هذا التقدير لحصول التجريد
بدونه) أي بدون التقدير (و) الحال انه (لا قرينة عليه)
أي على هذا التقدير.
(وبهذا) الذي
بينا في وجه النظر (يسقط ما قيل انه أراد أن في البيت نظر لأنه من باب الالتفات من
التكلم) في لأرحلن (الى الغيبة) في أو يموت كريم (لأنه أراد بالكريم نفسه) فلا
تعدد فيه فليس من باب التجريد لأنه أي التجريد مبنى على التعدد.
وبعبارة أخرى
الالتفات مبني على الاتحاد والتجريد مبنى على التعدد وهما أي الاتحاد والتعدد
متنافيان وذلك لأن المعنى المعبر عنه في الالتفات بالطريق الاول والثاني واحد
والمعبر عنه باللفظ الدال على المنتزع منه وباللفظ الدال على المنتزع متعدد بحسب
الاعتبار اذ المقصود من التجريد أن المنتزع شيء آخر غير المنتزع منه.
(ورد بأن
التجريد لا ينافي الالتفات) اذ التعدد في التجريد كما قلت إنما هو بحسب الاعتبار
لا بحسب الحقيقة فيجوز اجتماعه مع الالتفات بل هو) أي الاجتماع وعدم التنافي واقع)
ومن هنا قالوا أن بين التجريد والألتفات عموما وخصوصا من وجه فيوجد التجريد دون
الالتفات في نحو تطاول ليلك عند الجمهور لا السكاكي وقد تقدم بيانه هناك ويوجد
الالتفات دون التجريد في نحو تكلفني ليلى ويوجدان معا في نحو قوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وقد لا يوجد شيء منهما كغالب آيات القرآن الكريم.
وأما قوله (بأن
يجرد المتكلم نفسه من ذاته ويجعلها مخاطبا لنكتة كالتوبيخ في تطاول ليلك بالاثمد
والنصح في قوله :
أقول لها اذا
جشات وجاشت
|
|
مكانك تحمدي
أو تستريحي
|
فأنما يصح على
قول السكاكي لا الجمهور فراجع بحث الالتفات.
(ومنها) أي من
اقسام التجريد (ما يكون بطريق الكناية) التي هي عبارة عن ذكر اللازم وارادة
الملزوم أو بالعكس على ما مر في الفن الثاني نحو قوله :
يا خير من
يركب المطي ولا
|
|
يشرب كأسا
بكف من بخلا
|
فقوله ولا يشرب
كأسا بكف من بخلا كناية عن المراد (أي يشرب الكأس بكف جواد فقد انتزع من الممدوح
جوادا يشرب هو الكأس بكفيه على طريق الكناية لأنه إذا نفى عنه الشرب بكف البخيل
فقد أثبت له الشرب بكف كريم ومعلوم أنه يشرب بكفه فهو ذلك الكريم) الآخر الذي يشرب
هو الكأس بكفه.
والحاصل انه قد
أنتزع من المخاطب أي من الممدوح كريما آخر وكنى عن شربه بكفه بنفي الشرب بكف
البخيل وبعبارة أخرى أطلق أسم الملزوم الذي هو نفى الشرب بكف البخيل على اللازم
وهو الشرب بكف الكريم وذلك لأن المخاطب أي الممدوح لما تحقق له الشرب في نفس الامر
لكونه من أهل الشرب ولم يكن شربه بكف بخيل فقد كان بكف كريم لا محالة اذ لا واسطة
بينهما.
(وقد خفى هذا)
المعنى الذي بيناه من انه انتزع من الممدوح جوادا آخر يشرب الممدوح كأسا أي اناء
من خمر بكف هذا الجواد الآخر (على بعضهم لدقته فزعم ان الخطاب) في قوله يا خير من
يركب المطي (ان كان لنفسه) أي لنفس الشاعر حسبما يأتي في المتن الآتي (فهو تجريد)
لأنه انتزع من نفسه شخصا آخر فجعله أمامه وخاطبه وإذا كان هذا تجريدا فيكون قوله
ولا يشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم ووصفا لمن جعله أمامه وخاطبه لأن
التجريد وقع أولا في قوله يا خير من يركب المطي
(وإلا) أي وان لم يكن الخطاب لنفسه أي وان لم ينتزع من نفسه شخصا آخر حتى
يكون ذلك تجريدا (فليس) قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا (من التجريد في شيء وإنما
هو كناية عن كون الممدوح غير بخيل).
والحاصل أن
البعض زعم أن جعل قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا تجريدا بطريق الكناية غير صحيح
لأن الخطاب في قوله يا خير من يركب المطي أن كان لنفسه حسبما يأتي بعيد هذا في
المتن الآتي فهو تجريد لأنه جعل نفسه شخصا آخر أمامه فخاطبه بقوله يا خير من يركب
المطي واذا كان هذا تجريدا فقوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم فيكون
وصفا لذلك الشخص المنتزع أعني المخاطب ولا تجريد في هذه الكناية بل وقع التجريد
قبلها والكلام إنما هو في كون الكناية نفسها متضمنة للتجريد ولم يدل ذلك على هذا
وان كان الخطاب لغيره كان قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم الذي هو
ذلك المخاطب فليس من التجريد في شيء.
(و) لكن (لم
يعرف) هذا البعض (ان كونه) أي كون ولا يشرب بكف من بخلا (كناية لا ينافي التجريد)
اذ يصح ان ينتزع شيء من شيء ثم يعبر عن المنتزع بلفظ يدل عليه بطريق الكناية كما
يصح ان يعبر عنه بلفظ يدل عليه بطريق التصريح.
(و) لم يعرف
أيضا هذا البعض (أنه وان كان الخطاب لنفسه) فهو تجريد لكنه (لم يكن قسما برأسه
ويكون داخلا في قوله ومنها مخاطبة الانسان نفسه) والحاصل أنا نختار أن الخطاب
لغيره والتجريد حاصل وكونه كناية لا ينافي التجريد حسبما بيناه وان كون الخطاب
لنفسه صحيح والتجريد يحصل معه لكنه لا يصح حمل كلام الخطيب عليه لأنه حينئذ لا يكون
قسما
برأسه والحال انه جعله كذلك.
(و) أما (بيان
التجريد) في مخاطبة الانسان نفسه فهو (انه) أي الانسان (ينتزع فيها) في المخاطبة (من
نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام) كالفقر في البيت الآتي في المتن
وكالعشق في البيت الآتي في كلام التفتازاني (ثم يخاطبه) أي يخاطب ذلك الشخص
المنتزع (كقوله أي قول أبي الطيب) :
لاخيل عندك
تهديها ولا مال
|
|
فليسعد النطق
ان لم يسعد الحال
|
(أراد بالحال الغني) وأما الشاهد (فكأنه
أنتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال) أي في الفقر.
والحاصل أن
الكلام سيق لبيان فقره وانه عديم الخيل والمال أي لا شيء عنده يهديه ليكافي بذلك
احسان الممدوح فأنتزع من نفسه مخاطبا مثله في هذه الصفة التي هي كونه فقيرا بحيث
لاخيل عنده ولا مال فخاطبه بقوله لا خيل عندك الخ.
(ومثله) أي مثل
قول أبي الطيب في كونه من هذا القسم الذي هو مخاطبة الانسان نفسه (قول الاعشى) :
ودع هريرة أن
الركب مرتحل
|
|
وهل تطيق
وداعا أيها الرجل
|
والشاهد فيه
انه انتزع من نفسه رجلا عاشقا ثم خاطبه بقوله ودع هريرة الخ.
(ومنه أي من
المعنوي المبالغة المقبولة لأن المردودة لا تكون من المحسنات) أعلم انهم أختلفوا
في المبالغة فمنهم من لا يرى له فضلا محتجا بأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وكان
على نهج الصدق ولانها لا يصدر عن ضعيف عاجز عن اختراع الكلام وتأكيده فيتشبث بها
لسد
خلل الحاصل من ضعفه وعجزه في كلامه.
ومنهم من يقصر
الفضل والحسن عليها وينسب المحاسن كلها) اليها محتجا بما أشتهر عندهم من أن أحسن
الشعر أكذبه ومنهم من فصل فجعل بعضا مقبولا وبعضا غير مقبول والى ما بيناه أشار
بقوله (وفي هذا) أي في تقييده المبالغة بالمقبولة (أشارة الى الرد على من زعم انها
مردودة مطلقا) أي سواء كانت تبليغا أو اغراقا أو غلوا وسيأتي بيان كل واحد منها
بعيد هذا (لأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهج الصدق) والذي فيه مبالغة
لا صدق فيه فهو ليس من أشعر بيت يشهد له قول حسبان) :
وإنما الشعر
لب المرء يعزضصه
|
|
على المجالس
ان كيسا وان حمقا
|
فأن أشعر بيت
أنت قائلة
|
|
بيث يقال اذا
أنشدته صدقا
|
(و) أشارة أيضا الى الرد (على من
زعم انها مقبولة مطلقا) قد تقدم المراد من الاطلاق (بل) أدعى أن (الفضل مقصور
عليها لأن أحسن الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه ولهذا أستدرك النابغة على
حسان) قال في المصباح إستدركت ما فات وتداركته وأصل التدارك اللحوق) انتهى فحاصل
معنى العبارة ان النابغة لحق على حسان وذمه (في قوله) :
لنا الجفنات
الغر يلمعن بالضحى
|
|
وأسيافنا
يقطرن من نجدة دما
|
حيث أستعمل جمع
القلة أعني الجفنات والاسياف) وكان المناسب للمدح والافتخار أن يقول الجفان
والسيوف لأنهما للكثرة (وذكر وقت الضحوة وهو وقت تناول الطعام) وكان المناسب أن
يقول يلمعن كل وقت (وقال يقطرن دون يسلن) من السيلان (ويفضن) من الفيضان (أو نحو
ذلك) مما يدل على كثرة القتلى فهذان مذهبان مطلقان مردودان (بل المذهب المرضى)
التفصيل وهو (أن المبالغة منها مقبولة ومنها مردودة فالمصنف
أشار الى تفسير المبالغة مطلقا) أي سواء كانت مقبولة أو مردودة (و) أشار (الى
تقسيمها ليتعين) أي ليتميز (المقبولة من المردودة ولذا) أي ولأجل ان المراد تفسير
المبالغة مطلقا (لم يقل وهي) أي لم يأت بالضمير بأن يقول وهي لئلا يعود الى
المقبولة (بل قال والمبالغة) أي أتى بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يعود الى
المقبولة وقد نقدم نظير ذلك في أول بحث الاسناد الخبري فراجع ان شئت.
والحاصل أن
مطلق المبالغة هو (ان يدعى لوصف بلوغه في الشدة) أي في طرف الافراط ومرتبة الصعود (والضعف)
أي في طزف التفزيط والنزول والامثلة الآتية كلها المشدة ولم يمثل المضعف فتنبه
وأما قوله (حدا) فهو (مفعول بلوغه مستحيلا) عقلا وعادة كما في العلو أو عادة لا
عقلا كما في الاغراق (أو مستبعدا) بأن كان ممكنا عقلا وعادة لكنه مستبعد.
(و) أن قلت لم
يدعى المتكلم البليغ بلوغ الوصف في الشدة والضعف الى ذلك الحد.
قلت (إنما يدعى
ذلك) البلوغ أي بلوغ الوصف لذلك الحد (لئلا يظن انه أي ذلك الوصف غير متناة فيه أي)
غير بالغ الى النهاية (في الشدة والضعف وتذكير الضمير) وكذا أفراده في قوله انه (بأعتبار
عودة الى أحد الأمرين) هما الشدة والضعف والأحد مذكر مفرد فكأنه قال لئلا يظن انه
غير متناه في أحد الأمرين المذكورين أعني الشدة والضعف.
فتحصل من كلامه
انه اذا ذكر متعاطفان بأو يعاد الضمير على أحدهما مطلقا أي بأي معنى من المعاني
تكون كلمة أو ولكن نقل عن ابن هشام أن أفراد الضمير في المتعاطفين باو اذا كانت
للأبهام كما تقول جائني زيد أو
عمرو فأكرمته اذ معنى الكلام جائني أحدهما فأكرمت ذلك الأحد فأن كانت
للتقسيم عاد الضمير عليهما معا كما في قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا
أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فحكمها حكم الواو في وجوب المطابقة.
(وتنحصر
المبالغة في) ثلاثة أقسام وهي (التبليغ والاغراق والغلو) وذلك (لأن المدعى) الذي
بولغ فيه (ان كان ممكنا عقلا وعادة فتبليغ) فيسمى تبليغا مأخوذ من قولهم بلغ
الفارس اذا مد يده بالعنان ليزداد الفرس في الجري (كقوله أي قول امرء القيس يصف
فرسا له بأنه لا يعرق وان أكثر العدو) والجري (فعادى) ذلك الفرس (عداء في الصحاح
العداء بالكسر) أي بكسر العين (للوالات بين الصيدين) بحيث (يصرع أحدهما على أثر
الآخر في طلق واحد) أي في شوط واحد.
فحاصل المعنى
انه والى ذلك الفرس في شوط واحد (بين ثور ونعجة) أي والى ذلك الفرس بين هذين
الصيدين أي جرح احدهما على أثر الآخر في شوط واحد من غير أن يتخلله وقفة لراحة
ونحوها (أراد بالثور الذكر من بقر الوحش وبالنعجة الانثى منها).
وأما قوله (ادراكا)
فهو بكسر الدال على وزن كتاب أي متتابعا وهو تأكيد لقوله عداء لأن التتابع
والموالاة بمعنى واحد (فلم يتضح) ذلك الفرس (بماء) وقوله (فيغسل مجزوم معطوف على
لم ينضح أي لم يعرق فلم يغسل) يحتمل انه أراد بالغسل المنفي غسل العرق فيكون تأكيد
النفي العرق ويحتمل انه أراد به الغسل بالماء القراح أي لم يصبه وسخ العرق وأثره
حتى يحتاج للغسل بالماء القراح.
والشاهد في أنه
(ادعى أن هذا الفرس أدرك ثورا وبقرة وحثيين في مضمار) أي في شوط (واحد ولم يعرق
وهذا ممكن عقلا وعادة) وان
كان وجود ذلك في الفرس في غاية الندرة ومن ثم كانت مبالغة.
(وان كان)
المدعى المبالغ فيه (ممكنا عقلا لا عادة فاغراق) أي يسمى اغراقا مأخوذ من قولهم
أغرق الفرس إذا أستوفى الحد في جريه (كقوله) :
ونكرم جارنا
ما دام فينا
|
|
ونتبعه
الكرامة حيث مالا
|
والشاهد في أنه
(ادعى أن جاره لا يميل) أي لا يسافر ولا يبعد (عنه الى جانب إلا وهو) أي المتكلم (يرسل
الكرامة والعطاء على أثره وهذا ممكن عقلا ممتنع عادة) ولكن في زمانتا يلحق
بالممتنع عقلا فتنبه.
(وهما أي
التبليغ والاغراق مقبولان) معا وذلك لعدم ظهور الكذب فيهما الموجب للرد.
(وإلا أي وان
لم يكن) المدعي (ممكنا لا عقلا ولا عادة) أي ويلزم أن لا يكون ممكنا عادة أيضا
وإنما قلنا يلزم ان لا يكون ممكنا عادة أيضا (لأمتناع أن يكون) المدعى (ممكنا عادة
ممتنعا عقلا) اذ لا يتصور أن يكون الشيء ممكنا عادة ممتنعا عقلا ضرورة ان الممكن
عادة ممكن عقلا ولا عكس أي ليس كل ممكن عقلا ممكنا عادة لأن دائرة العقل أوسع من
العادة (فغلو) أي يسمى غلوا مأخوذ من غلا في الشيء اذا تجاوز الحد فيه (كقوله أي
قول أبي نواس وأخفت) بسكون الفاء وفتح التاء (اهل الشرك حتى انه الضمير للشأن
لتخافك النطف التي لم تخلق) والشاهد في انه (ادعى انه يخاف الممدوح النطف الغير
المخلوقة وهذا) الخوف أي خوف النطف الغير المخلوقة من الممدوح (ممتنع عقلا وعادة)
لأن شرط الخوف عقلا الحياة فيستحيل حصول الخوف من الفاقد للحياة.
(والمقبول منه
أي من الغلو أصناف منها) أي من تلك الاصناف (ما أدخل عليه ما يقربه الى الصحة) أي
ما أدخل عليه لفظ يقرب الامر
الذي وقع فيه الغلو الى الصحة أي الى امكان وقوعه هذا ولكن الاولى أن يقول
منها ما أدخل عليه ما يخرجه عن الامتناع بدل قوله ما يقربه الى الصحة تادبا إذ صحة
كلام رب العزة لا مزيد عليها فكيف يقال فيه ما يقربه الى الصحة (نحو لفظة يكاد في)
قوله تعالى (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) فالمدعى المبالغ فيه اضائة الزيت كأضائة المصباح من غير
نار ولا شك ان اضائة الزيت اضائة كأضائة المصباح بلا نار محال عقلا وعادة فلو قيل
في غير القرآن هذا الزيت يضيء كأصائة المصباح بلا نار لكان مردودا وحيث وضع لفظة
كاد لقرب الخبر ودنوه كما بين ذلك في النحو وقيل يكاد يضيء أفاد أن المحال لم يقع
ولكن قرب من الوقوع مبالغة لأن المعنى يقرب زيتها من الاضائة والحال انه لم تمسسه نار
ومعنى قرب المحال من الوقوع توهم وجود أسباب الوقوع وقرب المحال من الوقوع قريب من
الصحة اذ قد تكثر أسباب الوهم المتخيل بها وقوعه ولو كان لا يقع.
(وعليه) أي
وعلى هذا الصنف ورد (بيت السقط) :
شجا ركبا
وأفراسا وابلا
|
|
وزاد فكاد أن
يشجوا الرحالا
|
والوجه فيه
يعلم مما تقدم في الآية المباركة.
(ومنها) أي ومن
اصناف المقبول من الغلو (ما تضمن نوعا حسنا من التخييل) أي تخييل الصحة وذلك لكون
ما أشتمل على الغلو يسبق الى الوهم امكانه لرؤية شيء كالغبار في البيت الآتي يغالط
الوهم فيه فيتوهم صحته والتقييد بكونه حسنا للأشارة الى أن تخييل الصحة وحده لا
يكفي اذ لا يخلو منه محال حتى اخافة النطف في البيت المتقدم وإنما المعتبر ما يحسن
لصحة مغالطة الوهم فيه بخلاف ما يبدو انتفائه للوهم
بأدنى التفات كما في أخافة النطف فليس التخييل فيه على تقدير وجوده فيه
حسنا فليس مقبولا لعدم حسنه وأما ما كان خسنا فهو مقبول (كقوله أي قول أبي الطيب
عقدت سنابكها) جمع سنبك بضم السين فاعل عقدت (عليها) و (الضميران) المؤنثان في
سبابكها وعليها (للجيأد أي عقدت سنأبك تلك الجياد) أي حوافرها (فوق رئوسها عثيرا)
بكسر العين وسكون الثاء المثلثة وفتح الياء المثناة من تحت (أي غبارا) وهو مفعول
عقدت (لو تبتغي تلك الجياد عنقا هو نوع من السير عليه أي على ذلك العثير لأمكنا أي
أمكن العنق) أي السير.
والشاهد في أنه
(ادعى أن الغبار المرتفع من سنابك الخيل قد أجتمع فوق رئوسها متراكما متكثفا بحيث
صار أرضا يمكن ان يسير عليها تلك الجياد وهذا) السير أي سير الجياد على الغبار (ممتنع
عقلا وعادة لكنه تخييل حسن) لأنه نشاء من ادعاء كثرة الغبار وكونه كالارض التي في
الهواء.
(وقد أجتمعا أي)
السببان الموجبان للقبول وهما (ادخال ما يقرب الى الصحة وتضمن نوع حسن من التخييل
في قوله أي قول القاضي الارجاني) بفتح الراء المشددة بعد همزة مفتوحة نسبة الى
ارجان وهي على ما قال في معجم البلدان مدينة كبيرة كثيرة الخير بها نخيل كثير
وزيتون وفواكه الجروم والصرود وهي برية بحرية سهلية جبلية مائها يسيح بينها وبين
البحر مرحلة وبينها وبين شيراز ستون فرسخا وبينها وبين سوق الاهواز ستون فرسخا
وكان أول من انشائها فيما حكته الفرس قباد بن فيروز والد انوشروان العادل لما
أسترجع الملك من أخيه جاماسب وغزا الروم افتتح من ديار بكر مدينتين ميافارقين وأحد
وكانتا في أيدي الروم
وامر فبنى فيما بين حد فارس والاهواز مدينة سماها أبزقباذ وهي التي تدعى
ارجان انتهى بأختصار.
(يصف طول الليل)
:
يخيل لي أن
سمر الشهب في الدجى
|
|
وشدت بأهدابي
اليهن اجفاني
|
(أي يوقع في خيالي أن الشهب محكمة
بالمسامير) في ظلمة الليل (لا تزول عن مكانها وان أجفان عيني قد شدت) أي ربطت
أجفاني (بأهدابها) مائلة (الى الشهب لطول سهري في ذلك الليل وعدم انطباقها
والتقائها وهذا) أي احكام الشهب بالمسامير في الظلمة وربط أجفانه بأهداب عينه (أمر
ممتنع عقلا وعادة لكنه تخييل حسن) لأنه يسبق الى الوهم صحته من جهة أن هذا المحسوس
تقع المغالطة فيه وذلك لأن النجوم لما بدت من جانب الظلمة ولم يظهر غيرها صارت
النجوم كالدر المرصع به بساط أسود فيسبق الى الوهم من تخييل المشابهة قبل الالتفات
الى دليل استحالة شد النجوم بالمسامير في الظلمة صحة ذلك ولما أدعى انه ملازم
للسهر وانه لا يفتر عن رؤية النجوم في الظلمة فصارت عينه كأنها لا تطرف نزلت أهدابه
مع الاجفان بمنزلة حبل مع شيء شد به بجامع التعلق وعدم التزلزل فيسبق الى الوهم من
تخييل المشابهة بما ذكر صحة ذلك أيضا يدرك جميع ما ذكرنا بالذوق السليم والفهم
المستقيم.
الى هنا كان
الكلام في تضمن المبالغة في هذا البيت نوع حسن من التخييل (ولفظ يخيل مما يقربه
الى الصحة) والحاصل أن في المبالغة في البيت التخييل موجود في نفسه والتصريح بلفظ
التخيل أعني قوله يخيل لي يقرب من الصحة فقد اجتمع في الغلو في هذا البيت السببان
الموجبان لقبوله.
(ومنها) أي من
أصناف الغلو المقبول (ما أخرج مخرج الهزل) وهو الكلام الذي لا يراد به إلا
المطايبة والضحك (والخلاعة) وهي عدم المبالاة بما يقول القائل لعدم المانع الذي
يمنعه من غير الصدق كقوله) :
أسكر بالأمس
ان عزمت على الشر
|
|
ب غدا أن ذا
من العجب
|
ففي هذا البيت
مبالغة في شغفه بالشرب فأدعى ان شغفة بالشرب وصل الى حد انه يسكر بالامس عند غرمه
على الشرب غدا ولا شك أن سكره بالأمس عند عزه على الشرب غدا محال أن أريد بالسكر
ما يترتب على الشرب وهو المقصود هنا ولكن لما اتى بالكلام على سبيل الهزل لمجرد
تحسين المجالس والتضاحك على سبيل الخلاعة وعدم المبالاة بالتكلم بالقبيح كان ذلك
الغلو مقبولا لأن ما يوجب التضاحك من المحال لا يعد صاحبه موصوفا بنقيصة الكذب
فالمسوغ في هذا الكذب موجود وأما الكذب بلا مسوغ فهو نقيصة عند جميع العقلاء.
(ومنه أي من
المعنوي المذهب الكلامي وهو إيراد حجة للمطلوب) أي على المطلوب (على طريقة أهل
الكلام وهو) أي كونها على طريقة أهل الكلام (ان يكون) الحجة والتذكير بأعتبار كون
الحجة بمعنى الدليل والبرهان وبعبارة أخرى هو كون الدليل على طريق أهل الكلام بأن
يؤتي به على صورة قياس استثنائي أو أقتراني يكون (بعد تسليم المقدمات مستلزمة)
عقلا أو عادة (للمطلوب).
هذا ما يقتضيه
شرح ظاهر العبارة لكن التحقيق أن المراد بكون الحجة على طريقة أهل الكلام صحة أخذ
المقدمات من الكلام المأتي به لأثبات المطلوب على صورة القياس الاقتراني أو
الاستثنائي لا وجود تلك الصورة بالفعل بل صحة وجودها من قوة الكلام في الجملة
كافية كما يشعر بذلك
الامثلة الآتية.
(نحو قوله
تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما) أي في السماء والارض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي غير الله (لَفَسَدَتا) والآية المباركة على صورة قياس استثنائي ذكر شرطيته
وحذف منه الاستثنائية التي أستثنى فيه نقيض التالي والمطلوب لظهورهما بالتقدير في
الآية هكذا لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا لكنهما لم يفسدا فلم يكن فيهما الهة
وهذا هو المطلوب والى الاستثنائية المحذوفة أشار بقوله (واللازم) أي التالي (وهو
فساد السموات والارض باطل لأن المراد) من فسادهما (خروجهما عن النظام الذي هما
عليه) لما تقرر عادة من فساد المحكوم فيه عند تعدد الحاكم فعلى هذا تكون الملازمة
بين المقدم أعني التعدد والتالي أعني الفساد عادية لا عقلية وسيشير الى ذلك بعيد
هذا (فكذا الملزوم وهو تعدد الالهة) باطل أيضا.
(وفي التمثيل
بالآية رد على الجاحظ حيث ذهب الى أن المذهب الكلامي ليس في القرآن) والحال أن هذه
الآية وردت على المذهب الكلامي حسبما بيناه فكيف ينكر وجوده في القرآن (وكأنه أراد
بذلك) الانكار (ما يكون برهانا وهو) كما بين في محله (القياس المؤلف من المقدمات
اليقينية القطعية التي لا يحتمل النقيض بوجه ما والآية ليست كذلك لأن تعدد الالهة
ليس قطعي الاستلزام للفساد) لجواز أن يتفقوا (وإنما هو) أي استلزام تعدد الالهة
للفساد (من المشهورات الصادقة) بحسب العرف لأنه تقرر في عرف الناس أن المملكة اذا
كان فيها ملكان او رئيسان لم تستمر بل تفسد.
والحاصل أن هذه
الآية دليل اقناعي لا برهاني بناء على ان المراد بالفساد كما قال التفتازاني
خروجهما عن النظام المشاهد الذي هما عليه
وأما لو أريد به عدم الكون أي عدم الوجود من أصله كانت الملازمة قطعية وكان
الدليل برهانا وذلك لأنه لو تعدد الالهة لجاز اختلافهما ولو توافقا بالفعل وجواز
الاختلاف يلزمه جواز التمانع وجواز التمانع يلزمه عجز الاله وعجز الاله يلزمه عدم
وجود السماء والارض وما فيهما وعلى كل حال فقد حذف الاستثنائية والمطلوب لظهورهما
حسبما بيناه فتدبر جيدا.
(و) نحو (قوله
أي قول النابغة من قصيدة يعتذر فيها الى النعمان المنذر وقد كان مدح ال جفنة
بالشام فتنكر النعمان) أي تغير واغتاظ (من ذلك) المدح لانه كان بينهم وبينه عداوة (حلفت)
أي حلفت لك بالله ما أبغضتك ولا احتقرتك ولا عرضت عند مدحي ال جفنة بذمك أي ما كان
قصدي عند مدحي أياهم التعريض بذمك (ولم أترك لنفسك) بسبب الحلف (ريبة هي) أي
الريبة (ما يريب الانسان ويقلقه وأراد بها) هنا (الشك) فحاصل المعنى اني لم أبق
عندك بسبب اليمين شكا في اني لست لك بمبغض ولا عدو بل أني باق على اخلاصي ومحبتي
لك الذي كنت عليه فلم أترك بسبب هذا اليمين نفسك تتهمني بأني غيرت اخلاصي لك
وابدلتك بغيرك (وليس وراء الله للمرء مطلب أي هو أعلى المطالب والحلف به أعلى
الاحلاف) فلا ينبغي للمحلوف له بالله العظيم أن يطلب ما يتحقق به الصدق سوى اليمين
بالله اذ ليس وراء الله أعظم منه يطلب الصدق بالحلف به لأنه أعظم وأعلى من كل شيء
فلا يكون الحالف به كاذبا فاليمين به كاف عن كل يمين وقسم (لئن كنت قد بلغت) مبنى
للمفعول تاء الخطاب نائب الفاعل (عنى خيانة) أي غشا وعداوة وبغضا (لمبلغك الواشي)
وهو المفتن الذي يذهب بالكلام على وجه الافساد (أغش) من كل غاش وهو مأخوذ (من غش
إذا خان و) الواشي (أكذب) من كل كاذب (واللام في لئن كنت موطئة
للقسم) وهي كما بين في النحو اللام التي تدل على القسم المحذوف (وفى لمبلغك
جواب القسم) أي تدل على أن المذكور بعدها جواب القسم لا جزاء الشرط اذ هو محذوف دل
عليه جواب القسم والى ما ذكرنا أشار الناظم بقوله :
وأحذف لدى
اجتماع شرط وقسم
|
|
جواب ما أخرت
وهو ملتزم
|
(ولكنني كنت امرء لي جانب) أي جهة (من
الارض) أي لي جهة مخصوصة من الارض لا يشاركني فيها غيري من الشعراء وأراد بذلك
الجانب من الارض الشام (فيه) أي في ذلك الجانب (مستراد) هذا أسم مكان كما أشار
اليه بقوله (أي موضع يتردد فيه لطلب) المعيشة (والرزق) من ملوك الشام يعني ال جفنة
(ومنتجع) أي المتزل الذي يطلب فيه) العشب و (الكلاء) أي الحشيش رطبا كان أو يابسا
والمستراد مأخوذ (من أراد الكلاء وارتاده) حاصل المعنى المراد هنا طلب المعروف من
ملوك الشام (ومذهت) أي ذهاب لقضاء الحاجات لكون ذلك الجانب مظنة الغنى والوجدان (ملوك)
مبتدء حذف خبره والجملة مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل من في ذلك الجانب والى
ما ذكرنا أشار بقوله (أي في ذلك الجانب ملوك ويحتمل أن يكون ملوك بدلا من جانب
بتقدير المضاف أي مكان ملوك أو انه بدل من مستراد ويكون باقيا على حقيقته أي من
دون أن يكون فيه مجاز الحذف وعلى كل من الاحتمالات الثلاثة فقد فهم المقصود وهو أن
طلب الرزق من هؤلاء الملوك لا من ذلك الجانب وقوله (أخوان) أشارة الى أن هؤلاء
الملوك متصفون بالتواضع لأنهم مع اتصافهم برفعة الملك يصيرون الناس أخوانا لهم
ويعاملونهم معاملة الاخوان بسبب تواضغهم فأندفع بهذا البيان ما يقال ان وصفهم
بالاخوة ينافي وصفهم بالملوك للعلم
بأن المادح ليس ملكا مثلهم فكونهم ملوكا لا يناست كونهم أخوانا للمادح (اذا
ما مدحتهم) لفظة ما زائدة (أحكم) مبنى للمفعول أي أجعل حاكما (في أموالهم) ومتصرفا
فيها بما شئت أخذ أو تركا (وأقرب) ايضا مبنى للمفعول اي اجعل قريبا منهم بسبب
التوقير والتعظيم والاعطاء (كفعلك أي يجعلونني حكما في أموالهم ومقربا عنهم رفيع
المنزلة عندهم كما تفعل أنت في قوم أراك اصطنعتهم) أي اصطفيتهم أي اخترتهم (واحسنت
اليهم فلم ترهم) أي لم تعدهم (في مدحهم لك أذنبوا) أي لم تعدهم مذنبين في مدحهم
إياك (يعني لا تلمني ولا تعاتبني على مدح ال جفنة وقد أحسنوا الى كما لا تلوم قوما
مدحوك وقد أحسنت اليهم فكما أن مدح اولئك لك لا يعد ذنبا كذلك مدحي لمن أحسن الى).
وقد أعترض على
المصنف حيث مثل بهذه الابيات للمذهب الكلامي مع أن مذهب الكلامي كما بين في صدر
المبحث هو ايراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام وذلك بأن يذكر قياس اقتراني أو
أستثنائي يكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب (وهذه الحجة) المذكورة في هذه
الابيات حسبما بين (على صورة التمثيل) وهو تشبيه جزئي بجزئي آخر وهذا هو (الذي
يسميه الفقهاء قياسا).
(و) قد اجيب عن
هذا الاعتراض بانه (يمكن رده) اي رد هذا المثال (الى صورة قياس استثنائي بان يقال
لو كان مدحي لال جفنة ذنبا لكان مدح ذلك القوم لك ايضا ذنبا) بيان الملازمة اتحأد
الموجب للمدحين وهو وجود الاحسان فاذا كان احد السببين ذنبا كان الآخر كذلك (لكن
اللازم) وهو كون مدح ذلك القوم لك ذنبا (باطل فكذا الملزوم) وهو كون مدحي لآل لفنة
ذنبا فثبت المطلوب وهو انتفاء الذنب عني
بالمدح ولزم منه نفي العتب اذ لا عتب الا على ذنب.
ويمكن رده الى
قياس اقتراني فيقال هكذا مدحي مدح بسبب الاحسان وكل مدح بسبب الاحسان فلا عتب فيه
ينتج مدحي لا عتت فيه ودليل الصغرى الوقوع والمشاهدة ودليل الكبرى تسليم المخاطب
ذلك في مادحيه.
(ومما ورد على
صورة القياس الاقتراني قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهو أهون عليه اي الاعادة اهون وأسهل عليه من البدء)
هذا صغرى (وكل ما هو اهون فهو داخل في الامكان) هذا كبرى فثبت المطلوب وهو (فالاعادة
ادخل في الامكان) والمراد من الامكان هو الصدوري لا الذاتي اذ الذاتي لا يقبل
الشدة والضعف بناء على ما قرر في العلم الاعلى.
(و) مما ورد
ايضا على صورة القياس الاقتراني قوله تعالى (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ
لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) اي القمر افل) هذا صغرى (وربي ليس بافل) هذا كبرى ينتج (فالقمر
ليس بربي) وهذا هو المطلوب فتأمل.
(ومنه أي من
المعنوي حسن التعليل وهو ان تدعي) اي تثبت (لوصف علة مناسبة له) ويكون ذلك الادعاء
والاثبات (باعتبار لطيف غير حقيقي) المراد بالاعتبار النظر والملاحظة بالعقل
والمراد باللطف الدقة والى ذلك اشار التفتازاني بقوله (اي بان تنظز نظرا يشتمل على
لطف ودقة واشار الى المراد من قول الخطيب غير حقيقي بقوله (ولا يكون) ذلك الاعتبار
(موافقا لما في نفس الامر بعني يجب ان لا يكون ما اعتبر علة له في الواقع) بل
اعتبر كونها علة بوجه يتخيل بذلك الوجه كؤن التعليل صحيحا وإلا أي لو كانت تلك
العلة التي أعتبرت مناسبة للوصف حقيقة أي علة له في الواقع (لما كان من محسنات
الكلام لعدم تصرف فيه كما
تقول قتل فلان اعادية لدفع ضررهم) فأنه ليس في شيء من حسن التعليل وذلك لأن
دفع الضرر علة في الواقع لقتل الاعادي.
(وبهذا) المعنى
الذي فسرنا الغير الحقيقي من أنه عبارة عما لا يكون لما في نفس الامر (يظهر فساد
ما يتوهم من أن هذا الوصف) أي قوله غير حقيقي (غير مفيد) لأنه من توضيح الواضحات (لأن)
من المعلوم عندهم ان (الاعتبارات لا يكون إلا غير حقيقي) فالأولى أسقاط قوله غير
حقيقي لأن قوله بأعتبار لطيف يغني عنه لأن الاعتبار كما قلنا لا يكون إلا غير
حقيقي.
وبعبارة أخرى
الاعتباري ما لا وجود له في الخارج والحقيقي ما له وجود في الخارج وحينئذ
فالاعتباري لا يكون إلا غير حقيقي فهذا الوصف غير مفيد.
(ومنشأ هذا
الوهم أنه سمع أرباب المعقول) (يطلقون الاعتباري على ما يقابل الحقيقي) وهو كما
تقدم في بحث التشبيه عند قول الخطيب وأما أضافية ما لا تحقق لمفهومه إلا بحسب
اعتبار العقل (ولو كان الامر كما توهم) من ان الأعتباري لا يكون إلا غير حقيقي أي
لا وجود له في الخارج (لوجب أن يكون جميع أعتبارات العقل غير مطابق للواقع) وهذا
اللازم باطل جزما لأن ما يعتبره العقل وينظر فيه بعضه مطابق للواقع كحسن الاحسان
وقبح العدوأن وكالمثال المتقدم وبعضه غير مطابق للواقع كالأمثلة الآتية.
(وهو) أي حسن
التعليل (أربعة أضرب) وذلك (لأن الصفة التي أدعى لها علة مناسبة اما ثابتة) في
نفسها (قصد بيان علتهأ) بحسب الادعاء لا بحسب الواقع لأنها كما تقدم انفا في صدر
المبحث ليست علة بحسب
الواقع (أو غير ثابتة أريد اثباتها والاولى) أي الصفة الثابتة في نفسها
قسمان لأنها (أما ان لا يظهر لها في العادة علة) أخرى غير العلة التي أريد بيانها (وان
كانت) تلك الصفة الثابتة (لا تخلو في الواقع) وفي نفس الامر (عن علة) لأن كل حكم
لا يخلو عن علة في الواقع غاية الامر أن العلة الواقعية قد تظهر لنا وتارة تخفى
لنا وذلك لما تقرر في العلم الاعلى أن الشيء لا يوجد إلا لحكمة وعلة (كقوله أي قول
أبي الطيب لم يحك أي لم يشابه نائلك أي عطائك السحاب) حاصل المعنى أن عطاء السحاب
لا يشابه عطائك في الكثرة ولا في الصدور عن الأختيار ولا في وقوعه موقعه المناسب
له لأن السحاب لا اختيار لها في نزول المطر فقد يكون نزوله في غير موقعه المناسب
كما هو المحسوس المشاهد لكل أحد (وإنما حمت به أي صارت محمومة بسبب نائلك وتفوقه)
أي تفوق نائلك (عليها) اي على السحاب أي على نائلها.
وبعبارة أخرى
إنما صارت السحاب محمومة بسبب غيرتها من عدم مشابهة نائلها لنائلك وتفوق نائلك على
نائلها وعلوه عليه في الكم والكيف (فصبيبها الرحضاء) بفتح الحاء وضم الراء وهو عرق
المحموم والى هذا المعنى أشار بقوله (أي فالمصبوب من السحاب هو عرق الحمى) وأما
الشاهد فبينه بقوله (فنزول المطر من السحاب صفة ثابتة له) في نفسها (لا يظهر لها
علة في العادة وقد علله) الشاعر (بأنه) أي بأن نزول المطر (عرق حماها الحادثة) تلك
الحمى (بسبب عطاء الممدوح) فالعلة هي الحمى والصفة هي نزول المطر ولا شك ان
إستخراج هذه العلة المناسبة إنما يحتاج الى نظر لطيف وتأمل دقيق وليست علة في نفس
الامر وفي الواقع.
(أو يظهر لها
أي لتلك الصفة) في العادة (علة) أخرى (غير العلة
المذكورة) في كلام المتكلم وإنما قيد العلة الظاهرة بكونها غير العلة
المذكورة (اذ لو كانت علتها) أي علة تلك الصفة (هي) العلة (المذكورة) في الكلام (لكانت)
العلة (المذكورة) في الكلام (علة حقيقية) أي موافقا لما في نفس الامر (فلا يكون من
حسن التعليل) لما مر في أول المبحث من أنه لا بد في حسن التعليل من ان لا يكون
موافقا لما في نفس الامر.
(كقوله أي قول
أبي الطيب) :
ما به قتل
أعاديه ولكن
|
|
يتقي اخلاف
ما ترجو الذئاب
|
وأما الشاهد
فقد بينه بقوله (فأن قتل الاعداء أي قتل الملوك أعدائهم إنما يكون في العادة لدفع
مضرتهم حتى يصفو لهم مملكتهم عن منازعتهم لا لما ذكره) الشاعر (من أن طبيعة الكرم
قد غلبت عليه) أي على الممدوح (و) غلبت عليه أيضا (محبته أن يصدق رجاء الراجين
بعثته) تلك الطبيعة والمحبة (على قتل أعاديه لما علم) الممدوح (انه لما غدا) أي
ذهب غدوة وهي ما بين صلوة الصبح وطلوع الشمس هذا أصله ثم استعمل في الذهاب (للحرب
غدت) أي صارت (الذئاب ترجو أن يتسع عليها الرزق من قتلاهم وهذا مبالغة في وصفه
بالجود ويتضمن المبالغة في وصفه بالشجاعة على وجه تخييلي أي تناهى) الممدوح (في
الشجاعة حتى ظهر ذلك للحيوانات العجم) أي الغير الناطقة (من الذئاب وغيرها فأذا
غدا للحرب رجت الذئاب أن تنالوا من لحوم أعدائه ويتضمن أيضا مدحه بأنه ليس ممن
يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق أي ليست قوته الغضبية متصفة برزيلة الافراط
ويتضمن أيضا قصور اعدائه عنه وفرط امنه منهم وانه لا يحتاج الى قتلهم واستيصالهم)
أي أهلاكهم جميعا قال ، في المصباح استأصلته قلعته بأصوله ومنه قيل أستأصل الله
الكفار أي أهلكهم جميعا
انتهى.
(والثانية أي
الصفة الغير الثابتة التي أريد اثباتها أما ممكنة) في نفسها مع الجزم بأنتفائها
لكنها ممكنة الحصول في ذاتها (كقوله أي قول مسلم بن الوليد يا واشيا) الواشي
النمام الساعي بالكلام بين الناس على وجه الافساد (حسنت فينا اسائته) هذه الجملة
صفة واشيا والمراد باسائة الواشي افساده وحسن اسائة الواشي هو الصفة الغير الثابتة
التي أريد إثباتها فعلله بقوله (نجى حذارك أي حذاري أياك) أي حسن اسائتك فينا لأجل
أن اسائتك اوجبت حذاري منك فنجى حذارك انساني أي انسان عيني (ويقال له بالفارسية
مردمك ديده) والحاصل أن اسائتك أوجبت حذاري منك فلم أبك لئلا تشعر بأني عاشق فيذهب
الى المحبوبة فيقول لها كلاما ويأتي عندي ويقول كلاما فيفسد بيني وبين المحبوبة
ولما تركت البكاء نجا انسان عيني (من الغرق في الدموع).
وأما الشاهد (فأن
استحسان اسائة الواشبي ممكن لكن لما خالف الشاعر) كل (الناس فيه) أي في استحسان
اسائة الواشي (حيث لا يستحسن الناس اسائة الواشي وان كان ممكنا عقبه أي عقب الشاعر
استحسان اسائة الواشي بأن حذاره أي حذار الشاعر منه أي من الواشى نجى انسانه أي
انسان عين الشاعر من الغرق في الدموع حيث ترك البكاء خوفا منه) أي من الواشي
وليعلم أن الغرق في الدموع كناية عن العمى فتبصر.
فأن قلت ان صحة
التمثيل بهذا البيت متوقفة على أمرين الاول عدم وقوع المعلل والثاني كون العلة غير
مطابقة لنفس الامر وكلا هذين الامر غير ثابت في البيت لأن من ادعى ان اسائة الواشي
حسنت عنده لغرض من الاغراض لا يعد كاذبا وحينئذ فالصفة المعللة على هذا ثابتة
والعلة التي
هي نجاة انسانه من الغرق بترك البكاء لخوف الواشي لا يكذب مدعيها لصحة
وقوعها وحينئذ فلا يكون هذا البيت من هذا القسم ولا من حسن التعليل وذلك لأنه لمطابقة
العلة لا يكون من حسن التعليل ولثبوت العلة لا يكون من هذا القسم.
قلت المعتاد أن
حسن اسائة الواشي لا يقع من أحد فعدم وقوع الصفة مبني على المعتاد وترك البكاء
لخوف الواشي باطل عادة لأن من غلبه البكاء لم يبال بمن حضر عادة سواء كان واشيا أو
غير واش فدعاوي الشاعر استحسانات فرضية لأن احسن الشعر أكذبه فصح التمثيل بالبيت.
أما قوله (أو
غير ممكنة) فهو (عطف) أي معطوف (على اما ممكنة كقوله) أي قول المصنف لأن (هذا
البيت) المستشهد به (للمصنف وقد وجد) المصنف (بينا فارسيا في هذا المعنى فترجمه)
بالعربية وإنما قال كقوله ولم يقل كقولي نظرا لمعناه فانه للشاعر الفارسي والبيت
الفارسي هكذا :
گر نبودي عزم
جوزا خدمتش
|
|
كس نديدي بر
ميان أو كمر
|
(لو لم يكن نية الجوزاء خدمته)
|
|
(لما رأيت عليها عقد منتطق)
|
العقد مصدر
بمعنى الشد والربط والمنتطق اسم فاعل أو اسم مفعول أي منتطق به وعلى كلا الوجهين
مأخوذ (من انتطق أي شد النطاق) في وسطه والجوزاء أحد البروج الاثنى عشر وهو البرج
الاخير من البروج الثلاثة لفصل الصيف وقد يسمى كما في عجائب المخلوقات كوكبة
التوامين وذلك لأنهما على صورة غلامين عريانين رأساهما في الشمال والمشرق وأرجلهما
في المغرب (وحول الجوزاء كواكب) وعددها على ما يظهر من كلام القزويني في عجائب
المخلوقات ستة والعرب تسمى الاثنين النيرين اللذين على رأسهما
الذراع المبسوطة واللذين على ثدي التوام الثاني الهقعة واللذين على قدم
التوام المتقدم وقدام قدمه النجاتي (يقال لها) أي لهذه الكواكب الستة (نطاق
الجوزاء) وحاصل معنى البيت كما تقدم ان الجوزاء مع ارتفاعها لها عزم ونية على خدمة
الممدوح ومن أجل ذلك انتطقت أي شدت النطاق تهيوا لخدمته فلو لم تنو خدمته ما رأيت
عليها نطاقا شدت به وسطها.
أما الشاهد (فنية
الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ممكنة) لأن النية بمعنى العزم والارادة وإنما يكون
ذلك ممن له إدراك بخلاف غيره كالجوزاء (كذا ذكره المصنف) في الايضاح لكن عبارته
هكذا فان نية الجوزاء خدمته ممتنعة) أي غير ممكنة (والامر في ذلك سهل لأن المؤدي
واحد وقد أشرنا الى ذلك مرتين.
(وفيه) أي وفي
كون هذا البيت من القسم الرابع أي من الصفة الغير الممكنة (نظر) حاصل النظر أن
الصفة ليست هي نية الجوزاء خدمة الممدوح بل هي علة والصفة رؤية عقد النطاق وذلك
ممكن ومحسوس (لأن المفهوم من الكلام على ما هو أصل لو من امتناع الجزاء لأمتناع
الشرط) وقد تقدم بيان ذلك في الباب الثالث في بحث تقييد الفعل بالشرط مستوفي (ان
يكون نية الجوزاء خدمته علة لرؤية عقد النطاق عليها ورؤية عقد النطاق عليها أعني
الحالة) الحادثة من الكواكب الستة حول الجوزاء (الشبيهة) تلك الحالة بأنتطاق
المنطق صفة) ممكنة لأنها كما ترى (ثابتة قصد تعليلها بنية خدمة الممدوح) بعبارة
أخرى أصل لو ان يكون جوابها معلولا لمضمون شرطها فأذا قلت لو جئتني أكرمتك كان
التركيب مفيدا أن العلة في عدم الاكرام عدم المجيء واذا قلت لو لم تأتني لم أكرمك
كان التركيت مفيدا ان العلة في وجود الاكرام الأتيان وظاهر كلام المصنف في
البيت أن المعلول مضمون الشرط والعلة فيه مضمون الجزاء وهذا خلاف ما هو
المشهور في لو والحق ما ذكرنا من العكس (فيكون هذا) البيت (من الضرب الاول) اي من
الصفة الثابتة التي قصد بيان علتها (مثل قوله لم يحك نائلك السحاب البيت) لان كلا
منهما عللت فيه صفة ثابتة بعلة غير مطابقة فحينئذ لا يصح تمثيل الخطيب به للقسم
الرابع لانه من القسم الاول (فمن زعم انه) اي الخطيب (اراد أن الانتطاق صفة ممتنعة
الثبوت للجوزاء وقد اثبتها الشاعر وعللها بنية خدمة الممدوح فقد اخطا مرتين)
احدهما (لان حديث نطاق الجوزاء) وهو الكواكب الست التي تقدم بيانها (اشهر من من ان
يمكن انكاره بل هو محسوس اذ المراد به الحالة الشبهية بأنتطاق المنتق و) الثانية (لأن
المصنف قد صرح في الايضاح بخلاف ذلك) لانه كما نقلنا كلامه آنفا قال فان نية
الجوزاء خدمته ممتنعة فكيف يقال انه اراد هنا ان الانتطاق صفة ممتنعة الثبوت
للجوزاء هل هذا الا تفسير لما يرضى صاحبه بل هو في الحقيقة اجتهاد في مقابل النص.
(فان قلت هل
يجوز) ان يصحح ما ذكره المصنف بما تقدم في الباب الثالث من أن لو تستعمل عند ارباب
المعقول للدلالة على ان العلم بانتفاء الثاني أي الجزاء علة للعلم بانتفاء الاول
اي الشرط حاصله (ان يكون لو في البيت مثلها في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) اعني الاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط).
ولا يذهب عليك
ان الانتفاء في البيت في الشرط والجزاء بعد دخول لو عليهما راجع الى الاثبات وذلك
لأن لو نفي ونفي النفي أثبات ولذلك قال (فيكون رؤية ما على الجوزاء من هيئة
الانتطاق) الذي هو الجزاء (علة لكون نيته) أي نية الحوزاء (خدمة الممدوح اي دليلا
عليه)
أي على كون نيته خدمة الممدوح (كما ان انتفاء الفساد) في الآية الكريمة (دليل
على انتفاء تعدد الالهة والحاصل ان العلة المذكورة) في الكلام (قد يقصد كونها علة
لثبوت الوصف ووجوده كما في الضربين الاولين لان ثبوته معلوم) فلا يحتاج الى دليل
يوجب العلم به (وقد يقصد كونها علة للعلم به) اي بالوصف أي دليلا عليه (كما في
الآخرين لعدم العلم بثبوته بل الغرض اثباته).
وبعبارة أخرى
العلة على قسمين فانها قد تكون سببا لوجود الشيء في الخارج وتسمى حينئذ واسطة في
الثبوت وقد تكون سببا لحصول العلم به وذلك اذا كان المستدل عليه مجهولا فتكون
العلة دليلا عليه وتسمى حينئذ واسطة في الاثبات والعلة المذكورة في الضربين
الاولين من القسم الاول لان ثبوت الوصف فيهما معلوم وفي الضربين الاخيرين من القسم
الثاني لان المستدل عليه فيهما مجهول.
(فاذا جعلت نية
خدمة الممدوح علة للانتطاق كان من الضرب الاول) من الضربين الاولين لان ثبوت
الأنتطاق معلوم ومحسوس لا يحتاج الى دليل يحصل به العلم بثبوته (واذا جعل الانتطاق
دليلا على كون النية خدمة للمدوح كان من الضرب) الاخير من الضربين الاخيرين اي كان
من الضرب (الرابع فيصح التمثيل) وذلك لان كون النية خدمة للمدوح مما هو مجهول لا
يعلمه بل لا يقربه احد غير الشاعر فحينئذ يمكن حمل كلام المصنف في الايضاح على هذا
القسم بأن يقال مراده فيه أن انتطاق الجوزاء جعل علة اي دليلا على كون نية الجوزء
خدمة الممدوح فلا يتوجه عليه ما ذكره التفتازاني بقوله وفيه نظر لان المفهوم الخ.
(قلت) نعم لكنه
أي القول بأن المراد من العلة ما كان دليلا وواسطة في
الاثبات (لا يخلو عن تكلف لان الظاهر من قوله) اي المصنف (أن يدعى لوصف علة
مناسبة انها علة لنفس ذلك الوصف) اي علة وواسطة في الثبوت (لا) علة (للعلم به) اي
لا واسطة في الاثبات (والحق به أي بحسن التعليل ما بنى على الشك) اي الاتيان بعلة
ترتب الاثيان بها على الشك فيؤتي في الكلام بما يدل على الشك (ولكونه مبنيا على
الشك لم يجعل من حسن التعليل) بل جعل ملحقا به (لان فيه) أي في حسن التعليل (ادعاء
واصرارا) على تحقق المدعى (والشك ينافيه) أي ينافي الادعاء والاصرار.
(كقوله أي قول
ابي تمام كان السحاب الغر جمع الاغر والمراد) من السحاب الغر (السحاب الماطرة
الغريزة المياه غيبن تحتها حبيبا فمأ ترقى) هو من رقأ يرقأ مهموز اللام بمعنى سكن
يسكن والى ذلك أشار بقوله (اراد ترقأ بالهمزة فخففها) اي ابدل الهمزة الفا للضرورة
على غير قياس لان الهمزة التي تبدل الفا شرط ابدالها قياسا سكونهأ قأل الرضي في
شرح قول ابن الحاجب في باب الابدال أن ابدال الهمزة بالالف مطرد لكنه غير لازم الا
عند أهل الحجاز وضابطه كل همزة ساكتة مفتوح ما قبلها والهمزة فيما نحن متحركة لا
ترقأ مضارع فالابدال كما قلنا ضرورة (اي ما يسكن لهن) اي للسحاب (مدامع والضمير)
المؤنث (في تحتها لربى في البيت الذي قبله وهو قوله :
ربي شفعت ريح
الصبا بنسنيمها
|
|
الى المزن
حتى جادها وهوها مع
|
(يعني ساقت الريح المزن) جمع مزنة
وهي السحاب الابيض (اليها) أي الى الربي وهو جمع ربوة وهي التل المرتفع من الارض (حتى
جادها) مأخوذ (من الجود) بفتح الجيم (وهو المطر العظيم القطر) أي الكثير يقال
جاد السحاب الارض فهي مجيدة اذا أصابها الجود (والها مع السائل) أي المطر
العزيز.
وأما الشاهد (فقد
علل على سبيل الشك) حيث قال كان السحاب الغر الخ وهذا مبني على ما نقله عن الزجاج
في الفن الثاني في بحث أداة التشبيه فكأنه يقول بكاء السحاب أوجب الى الشك فعلل
فراجع وتأمل (نزول المطر من السحاب) الذي عبر عنه بالبكاء (بأنها غيبت حبيبا تحت
تلك الربى فهي) أي السحاب (تبكي عليها) أي على الربى والحاصل أن السحاب البيض يوجت
الشك ببكائها ونزول المطر منها في إنها غيبت حبيبا تحت الربى فمن أجل ذلك لا ينقطع
دمعها فبكائها صفة عللت على سبيل الشك بدفن حبيب تحت تلك الربى ولا يخفى ما في
تسمية نزول المطر بكاء من لطف التجوز وبه حسن التعليل.
(وهذا البيت
يشير الى قول محمد بن وهيب) :
طللان طال
عليهما الأمد
|
|
درسا فلا علم
ولا نضد
|
لبسا البلى
فكأنما وجدا
|
|
بعد الاحبة
مثل ما أجد
|
العلم العلامة
من طراز وغيره والنضد جعل بعض الشيء على بعض كذا في المصباح.
(وقال بعض
النقاد) جمع الناقد وهو من ينظر في الدراهم ليعرف جيدها وزيفها والمراد هنا من
ينظر في الكلام ليعرف المراد منه وما فيه من المحاسن والعيوب من حيث الفصاحة
والبلاغة وما يتبعهما من البديع (فسر هذا البيت) أي بيت أبي تمام (قوم فقالوا أراد)
أبو تمام (بحبيب نفسه و) قال بعض النقاد (لا أدري ما هذا التفسير) الذي فسروا
البيت به.
(قلت وجه هذا
التفسير أنه قصد به) أين بهذا التفسير الملائمة) أي
المناسبة (لمطلع القصيدة) أي لأولها (وهو قوله) :
إلا أن صدري
من عزائي بلاقع
|
|
عشية ساقتني
الديار البلاقع
|
(وفي بعض النسخ من الديوان) أي
ديوان أبي تمام (هذا البيت قبل قوله كان السحاب الغر) الخ (وعلى هذا) أي وعلى هذا
البعض أي على هذه النسخة التي هذا البيت قبل قوله كان السحاب الغر الخ (فالضمير في
تحتها للديار البلاقع) لا للربى على ما تقدم انفا (وكان نفس أبي تمام هو الحبيب
الذي فقدته السحاب في تلك الديار) ولا يخفى لطف هذا المعنى حيث أن اسم أبي تمام
حبيب.
(ومنه أي من
المعنوي التفريع) أي ما يسمى بالتفريع (وهو) أي التفريع (أن يثبت لمتعلق أمر حكم
بعد اثباته أي اثبات ذلك الحكم لمتعلق له آخر) المراد من المتعلق ماله نسبة وتعلق
يصح بأعتبارها الاضافة ونحوها كما في الاحلام والدماء في البيت الآتي حيث صح
اضافتهما الى ضمير الجمع المراد به أهل البيت عليهمالسلام والمراد من الحكم المحكوم به كالشفاء الذي حكم به على
الاحلام والدماء وقد ظهر مما أوضحناه لك ان المراد من أمر في كلام الخطيب ما أضيف
أو نسب اليه المتعلق كضمير الجمع في البيت الآتي وظهر أيضا انه لا بد في التفريع
من متعلقين منسوبين لأمر واحد بحيث يكون اثبات الحكم للمتعلق الثاني بعد اثباته
للمتعلق الاول (على وجه يشعر) الاثبات الثاني (بالتفريع والتعقيب) على الاثبات
الأول وذلك بأن يثبت الحكم كالشفاء ثانياء للمتعلق الثاني بأداة ليست لمطلق الجمع (وهو)
أي قوله على وجه يشعر بالتفريع والتعقيب حسبما بيناه (احتراز عن نحو قولنا غلام
زيد راكب وأبوه راجل) وذلك لعدم التفريع والتعقيب في الاثبات الثاني وان أتحد
الحكم فيهما لأن الواو
لمطلق الجمع فما قبلها وما بعدها سيان لا دلالة فيها المتقدم والتأخر في
شيء منهما كما أشار الى ذلك في الالفية بقوله :
فأعطف بواو
سابقا ولا حقا
|
|
في الحكم أو
مصاحبا موافقا
|
فتحصل من مجموع
ما ذكرنا أن المراد بالتفريع التبعية في الذكر والتعقيب الصوري من غير أن يكون
هناك أداة تفيد مطلق الجمع سواء كان بأداة تفريع اعني الفاء التي تسمى فاء النتيجة
حسبما بيناه في الكلام المفيد في بحث المفردات أم لا (كقوله أي قول الكميت من
قصيدة يمدح بها أهل البيت عليهمالسلام) :
أحلامكم
لسقام الجهل شافية
|
|
كما دمائكم
تشفى من الكلب
|
(الكلب بفتح اللام شبه جنون يحدث
للانسان من عض الكلب الكلب وهو كلب يأكل لحوم الناس فيأخذه) أي الكلب (من ذلك) أي
من أكل لحوم الناس (شبه جنون) وعلامة ذلك أن يحمر عيناه ولا بزال يدخل ذنبه تحت
رجليه كذا في حياة الحيوان (لا يعض انسانا الاكلب) أي عرض عليه شبه جنون (ولا دواء
له) أي لهذا الانسان الذي عرض عليه الكلب (أنجع) أي انفع واكثر تأثيرا في دفع هذا
المرض من شرب دم ملك) أو شريف.
قيل يشترط كون
ذلك الدم من أصبع من أصابع رجله اليسرى فتؤخذ منه قطرة على تمرة ونحوها وتطعم
المعضوض يجد الشفاء بأن الله وقيل ينفع مطلقا من أي محل.
(يعني أنتم)
أهل البيت (ع) أرباب العقول الراجحة وملوك واشراف) وعن الاول كنى بوصفهم بشفاء
احلامهم من الجهل وعن الثاني بوصفهم بشفاء دمائهم عن داء الكلب وفي طريقته) من حيث
الشفاء من داء الكلب لا من حيث التفريع فالمقصود أن كون دماء الملوك والاشراف أنفع
شيء للكلب أمر مشهور عندهم التأييد نحو قولهم حتى يبيض القار) أي الزفت وهو جسم له
سواد
والدليل عليه (قول الحماسي بناة) جمع بان أي انتم بناة (مكارم) أي اخلاق
حسنة (واساة) جمع أس وهو المداواة والعلاج (كلم) جمع كلوم وهو الجراحة (دمائكم من
الكلب شفاء) حاصل معنى قول الحماسي أنتم الذين تبنون المكارم وترفعون أساسها
بأظهارها وانتم الذين تواسوا أي تطبون الكلم أي جراحات القلوب من الفقر والفاقة
وغيرهما.
وأما الشاهد في
بيت الكميت (فقد فرع على وصفهم بشفاء أحلامهم) أي عقولهم (لسقام الجهل وصفهم بشفاء
دمائهم من داء الكلب) وبعبارة أخرى أثبت لدمائهم إنها تشفى من الكلب بعد أن أثبت
لأحلامهم أي عقولهم انها تشفى من سقام الجهل وقد رأيت في بعض الروايات أن الامام
الصادق عليهالسلام قال لبعض أصحابه ما مضمونه أن ما نقوله سعوط المجانين.
(ومنه أي من المعنوي
تأكيد المدح بما يشبه الذم) وذلك بأن يبالغ في المدح الى أن يأتي المتكلم بعبارة
يتوهم السامع في باديء الامر إنه ذم وليعلم أن (النظر في هذه التسمية على الاعم
الاغلب وإلا) أي وإن لم يكن النظر في هذه التسمية على الاعم الاغلب (فقد يكون ذلك
في غير المدح والذم ويكون) أيضا (من محسنات الكلام كقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني أن أمكن لكم أن تنكحوا ما قد سلف فأنكحوه فلا يحل
لكم غيره وذلك) النكاح أي نكاح ما قد سلف (غير ممكن) لأن ما مضى مضى فلا يمكن
حصوله في المستقبل بعد النهي البة (والغرض المبالغة في تحريمه وليسم تأكيد الشي
بما يشبه نقيضه).
قال في الكشاف
فان قلت كيف استثنى ما قد سلف مما نكح ابائكم قلت كما استثنى غير ان سيوفهم من
قوله ولا عيب فيهم يعني أن أمكنكم
ان تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن والغرض
المبالغة في تحريمه وسد الطريق الى اباحته كما يعلق بالمحال في التأييد نحو قولهم
حتى يبيض القار) أي الزفت وهو جسم له سواد شديد لا يمكن ان يصير ابيض (وحتى يلج
الجمل في سم الخياط انتهى.
وقال المحشي
هناك على قول الزمخشري وكانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه من ذي مرواتهم
ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتي ومن ثم قيل ومقتا كأنه قيل
هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح قبيح ممقوت في المروة ولا مزيد على ما يقبح
القبيحين ما هذا نصه ينكحون روابهم في الصحاح الراب زوج الام والرابة إمرأة الاب
وربيب الرجل ابن امرئته من غيره ونكاح المقت كان في الجاهلية ان يتزوج امرأة أبيه
ثم قال وعندي في هذا الاستثناء سر آخر وهو ان هذا المنهي عنه لفظاعته وبشاعته عند
اكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع جدير ان يمتثل النهي فيه فيجتنب فكأنه
قد امتثل النهي عنه حتى صار مخبرا عن عدم وقوعه وكأنه قيل ما يقع نكاح الابناء
المنكوحات للاباء ولا يؤخذ منه شيء إلا ما قد سلف وأما في المستقبل بعد النهي فلا
يقع منه شيء انتهى.
(وليسم) هذا
الاستثناء في الآية (تأكيدا لشيء بما يشبه نقيضه) وذلك لانه أكد عدم جواز نكاح منكوحات
الآباء بهذا الاستثناء الذي يشبه بظاهره في بادي الامر جواز نكاحهن.
(وهو ضربان)
الاولى أن يقول وهو ضروب لأنه بعد الفراغ عن هذين الضربين يقول ومنه أي من تأكيد
المدح بما يشبه الذي ضرب آخر الخ (افضلهما) أي ابلغهما (ان يستثني من صفة ذم منفية
عن الشيء صفة
مدح لذلك الشيء) وبعبارة أخرى أن ينفي عن الممدوح صفة ذم وذلك كنفي العيب
في البيت الآتي ثم يستثني من صفة الذم المنفية صفة مدح وذلك كاستثناء فلول السيوف
من قراع الكتائب (بتقدير) اي بسبب فرض المتكلم (دخولها فيها أي دخول صفة المدح في
صفة الذم) فليس المراد بالتقدير ادعاء الدخول على وجه الجزم والتصميم بل فرض
الدخول على وجه الشك المفاد من التعليق باداة الشرط وانما كان ذلك من تأكيد المدح
لان الاستثناء من النفي اثبات فيكون استثناء صفة المدح بعد نفي الذم اثباتا للمدح
فجاء فيه تأكيد المدح لان نفي صفة الذم على وجه العموم أولا حتى لا يبقى ذم في
المنفي عنه ايضا مدح (كقوله اي قول النابغة الذبياني) نسبة لذبيان بالضم والكسر
قبيلة من العرب (ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهن فلول أي كسور في حدها) فهم من
التفسير ان الفلول جمع (والواحد فل) بفتح الفاء والجمع بضمها (من قراع الكتائب) القراع
بكسر القاف المضاربة بالسيوف والكتائب جمع كتيبة وهي الجماعة المستعدة للقتال من
المائة الى الألف وتسمى تلك الجماعة الجيش والى ذلك اشار بقوله (اي مضاربة الجيش)
اما الشاهد (فالعيب صفة ذم منفية) على سبيل العموم والاستغراق (قد استثنى منها صفة
مدح هو ان سيوفهم ذوات فلول أي ان كان فلول السيف عيبا) ثبت العيب والا فلا (فاثبت)
بصيغة الماضي أي اثبت الشاعر (شيئا منه أي من العيب على تقدير) أي على فرض (كونه
منه اي كون فلول السيف من العيب وهذا) أي قوله على تقدير كونه منه (زيادة توضيح
للمقصود وتصريح به وإلا فهو مفهوم من بنائه على الشرط المذكور) أي قوله إن كان
فلول السيف عيبا (وهو أي هذا التقدير وهو كون الفلول عيبا محال لأنه كناية عن كمال
الشجاعة) والشجاعة من الملكات
المستحسنة فكيف يكون عيبا (فهو أي اثبات الشيء من العيب في المعنى تغليق
بالمحال) وإنما قال في المعنى لأنه ليس في اللفظ تغليق أي أداة شرط والمحالية في
ذلك (كما يقال) لا أفعله (حتى يبيض القار) أي الزفت (وحتى يلج الجمل في سم الخياط)
(فالتأكيد فيه أي تأكيد المدح ونفى صفة الذم في هذا الضرب) من جهتين الاولى (من
جهة انه كدعوى الشيء ببينة) وبرهان (لأنك قد علقت نقيض المطلوب وهو اثبات شيء من
العيب بالمحال) وهو كون الفلول عيبا (والمعلق بالمحال محال فعدم العيب ثابت).
وبعبارة أخرى
قد نقرر أن الاستدلال قد يكون بطريق دليل الخلف وذلك بأن يقال هذا الشيء لو ثبت
ثبت المحال فان الخصم إذا سلم هذا اللزوم لزم قطعا انتفاء ذلك الشيء فيلزم ثبوت
نقيضه واذا كان نقيضه هو المدعى لزم اثباته بحجة التعليق بالمحال والاستثناء
الواقع في هذا الضرب بمنزلة القول المذكور في الصورة لأن المتكلم علق ثبوت العيب
الذي هو نقيض المدعى على كون المستثنى عيبا وكونه عيبا محال والمعلق على المحال
محال فيكون ثبوت العيب فيهم محالا فيلزم ثبوت نقيضه وهو عدم العيب الذي هو المدعى.
(و) الثانية (من
جهة أن الاصل في مطلق الاستثناء) سواء كان أداته لفظة إلا أو غيرها كلفظة غير في
البيت وكلفظة بيد في الحديث الآتي (هو الاتصال أي كون المستثنى منه بحيث يدخل فيه
المستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء ليكون ذكر المستثنى آخر أجاله عن الحكم
الثابت للمستثنى منه وذلك لأن الاستثناء المنقطع مجاز على ما تقرر في أصول الفقه)
واختلف في المراد من ذلك فقيل قولهم الاستثناء المنقطع مجاز يريدون به ان استعمال
أداة الاستثناء في الأستثناء المنقطع مجاز وذلك لأن وضع الاداة للأخراج ولا
إخراج في المنقطع وأما اطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع فهو حقيقة اصطلاحا
كأطلاقه على المتصل وقيل بل المراد ان اطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع مجاز أيضا
لأن لفظ الاستثناء معناه صرف العامل عن تناول المستثنى هذا ولكن الظاهر من كلام
المصباح هو القول الاول فراجع.
(واذا كان
الاصل في الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها وهو المستثنى يوهم) ذلك
الذكر (اخراج شيء وهو المستثنى مما قبلها أي ما قبل الأداة وهو المستثنى منه يعني
يوقع في وهم السامع وظنه أن غرض المتكلم أن يخرج شيئا من أفراد ما نفاه) وقوله (من
المنفى) متعلق بقوله أن يخرج حاصله أن يخرج شيئا من أفراد العيب (ويريد) المتكلم (اثباته)
اي اثبات ذلك الشيء الخارج من أفراد العيب (حتى يحصل فيهم) أي في الممدوحين (شيء
من العيب) قال في المصباح في مادة وهم توهمت أي ظننت وقال أيضا ويتعدى بالهمزة
والتضعيف وقد يستعمل المهموز لازما ولم يظهر لي وجه المناسبة بين قول الخطيب يوهم
وقول التفتازاني (يقال توهمت الشيء اي ظننته وأوهمته غيري) لأن قول الخطيب من باب
الافعال لا من باب التفعل فتأمل جيدا.
(فاذا وليها أي
الاداة صفة مدح) لم يقل إذا استثنى منها صفة مدح حقيقة فأن الاستثناء متصلا كان أو
منقطعا لا بد فيه من اختلاف الحكمين إيجابا وسلبا ولا اختلاف ههنا وإنما يفيد
التأكيد لكونه في صورة الاستثناء والى ذلك أشار بقوله انفا فذكر أداته الخ (وتحول
الاستثناء من الاتصال) الذي يوهمه ذكر الاداة (الى الانقطاع جاء التأكيد لما فيه)
أي في استثناء صفة المدح من نفى العيب الذي هو أيضا صفة مدح (من المدح على المدح)
والحاصل أن في هذا الاستثناء زيادة المدح على المدح مع أن المدح الثاني
المزيد أعني غير ان سيوفهم على وجه أبلغ وان المدح الاول المزيد عليه أعني
نفى العيب على سبيل العموم حيث أستعمل لا التي لنفي الجنس وهي لتوكيد النفي وقد
صرح بذلك السيوطي في شرح قول الناظم عمل أن اجعل للا الخ.
(وللأشعدر) أي
ولأشعار هذا الاستثناء (بأنه) أي المتكلم (لم يجد فيه) أي في الممدوح وفي هذا
الاستثناء (صفة ذم حتى يستثنيها فأضطر الى استثناء صفة مدح) فتحول الاستثناء عن
أصله الى الانقطاع (مع ما فيه من نوع خلابة) أي خديعة يقال خلبه يخلبه اذا خدعه
والاسم الخلابة والفاعل خلوب مثل رسول اي كثير الخداع كذا في المصباح بادنى تغيير
والى ما فسرنا به الخلابة أشار بقوله (وتأخيذ للقلوب).
الى هنا كان
الكلام في الضرب الاول الذي هو أفضل الضربين (والضرب الثاني من تأكيد المدح بما
يشبه الذم أن يثبت لشيء صفة مدح) لكن سيشير بعيد هذا انه ليس في هذا الضرب عموم
واستغراق (ويعقب بأداة الاستثناء أي يذكر عقيب اثبات صفة المدح لذلك الشيء أداة
استثناء يليها صفة مدح أخرى له أي لذلك الشيء نحو) قوله (ص) (أنا افصح العرب بيد
اني من قريش) واسترضعت من بني سعد (وبيد بمغنى غير) أي بيد في هذا الحديث بمعنى
غير لأن صحة التمثيل مبنية على ذلك وأما على ما قاله ابن هشام في المغنى من أن بيد
في هذا الحديث حرف تعليل بمعنى من أجل والمعنى أنا افصح العرب لأجل اني من قريش
واسترضعت من بني سعد فلا يكون من هذا الباب ومعنى التعليل هنا أن لكونه من قريش
واسترضاعه من بني سعد دخل في ذلك لأنهما من فصحاء العرب لا انه علة تامة واما قوله
(وهو من أداة الاستثناء) فهو مبني على ما ذكره
الخطيب لا على ما ذكره ابن هشام فلا تغفل.
(واصل
الاستثناء فيه أي في هذا الضرب) الثاني (أيضا أن يكون منقطعا كما أن الاستثناء في
الضرب الاول منقطع لكون المستثنى) في كلا الضربين (غير داخل في المستثنى منه) أما
في الضرب الاول فلان المفروض أن المراد حسبما بيناه أن يستثنى من العيب خلافة فلم
يدخل المستثنى في المستثنى منه فيجب أن يكون الاستثناء فيه منقطعا.
وأما في الضرب
الثاني فلانتفاء العموم في المستثنى منه فلم يدخل المستثنى في المستثنى منه وذلك
لأن كل واحد مما ذكر في هذا الضرب قبل أداة الاستثناء وبعدها صفة خاصة فلا يكون
المذكور بعد الاداة داخلا فيما قبل الاداة فيجب أن يكون الاستثناء فيه أيضا منقطعا
(وهذا) أي كون أصل الاستثناء في هذا الضرب الثاني هو الانقطاع (لا ينافي قوله)
انفا في الضرب الاول (أن الاصل في مطلق الاستثناء هو الاتصال) وجه عدم التنافي أن
اصالة الانقطاع إنما هو بالنسبة الى خصوص هذا الضرب الثاني واصالة الاتصال إنما هو
بالنسبة الى مطلق الاستثناء وذلك كمطلق الحيوان والعقرب فان الاصل في الاول أن
يكون بصيرا وفي الثانية على ما قيل أن تكون عمياء فلا يكون الحكم الاول في الاول
الحكم الثاني في الثاني فكذا فيما نحن فيه فلا تنافي بين الكلامين وأيضا الحكم
بأصالة الانقطاع بعد ملاحظة أداة الاستثناء والحكم بأصالة الاتصال بدون الملاحظة (فليتامل)
فأنه دقيق.
(لكنه أي
الاستثناء المنقطع في هذا الضرب) الثاني (لم يقدر متصلا كما) قدر ذلك (في الضرب
الاول) حسبما تقدم بيانه (بل بقى) الاستثناء في هذا الضرب الثاني (على حاله من
الانقطاع لأنه ليس في هذا الضرب)
الثاني (صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح) المذكورة بعد أداة
الاستثناء (فيها) أي في صفة الذم (واذا لم يقدر الاستثناء في هذا الضرب) الثاني (متصلا
فلا يفيد) هذا الضرب الثاني (التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين في
الضرب الاول وهو) ما تقدم انفا من (ان الاصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته
قبل ذكر المستثنى يوهم اخراج شيء مما قبلها من حيث انه استثناء فاذا ذكر بعد
الاداة صفة مدح أخرى) مرادا بها ثبوتها أيضا (جاء التاكيد) لأنه ثبوت بعد ثبوت.
(ولا يتأتى فيه
التأكيد من الوجه الاول اعني دعوى الشيء ببينة) وبرهان لان كونه (ص) من قريش لا
يكون بينة على انه (ص) افصح العرب (لانه) اي دعوى الشيء ببينة وبرهان (مبني على
التعليق بالمحال المبني على تقدير الاستثناء متصلا) حسبما تقدم بيانه.
(ولهذا اي ولكون
التأكيد في هذا الضرب من الوجه الثاني فقط كان الضرب اول افضل لافادته التأكيد من
الوجهين) حسبما تقدم مفصلاء واما قوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً إِلَّا سَلاماً) فيحتمل ان يكؤن من الضرب الاول) وذلك (بان يقدر) اي بأن
يفرض (السّلام داخلا في اللغو) ادعاء لا حقيقة وسيأتي بعيد هذا انه يحتمل ان يجعل
السّلام داخلا في اللغو حقيقة (فيفيد التأكيد من وجهين) حسبما تقدم في قول النابغة
الذبياني (و) يحتمل (ان يكون من الضرب الثاني) وذلك (بان لا يقدر ذلك) الدخول اي
دخول السّلام في اللغو (ويجعل الاستثناء من اصله منقطعا) فلا يفيد التأكيد الا من
الوجه الثاني من الوجهين المذكورين في الضرب الاول (ويحتمل وجها آخر وهو ان يجعل
الاستثناء
متصلا حقيقة) وذلك لان معنى السّلام الدعاء بالسلامة واهل الجنة أغنياء عن
ذلك) اي عن الدعاء بالسلامة للقطع بحصولها لهم بقوله تعالى (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوها خالِدِينَ) واما مطلق الدعاء فليسوا أغنياء عنه.
فالغناء انما
هو بالنسبة الى الدعاء بالسلامة (فكأن ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام لو لا ما
فيه من فائدة الاكرام وكأنه قيل لا يسمعؤن فيها لغوا الا هذا النوع من اللغو) الذي
فيه اكرام وتحية.
(وقوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) يمكن حمله على كل من ضربي تأكيد المدح بما يشبه الذم
كما مر) في الآية المتقدمة (و) لكن (لا يمكن حمله على الوجه الثالث أعني حقيقة
الاستثناء المتصل) وذلك (لأن قولهم) أي قول أهل الجنة بعضهم لبعض (سلاما وان امكن
جعله من قبيل اللغو) حسبما مر آنفا من انهم اغنياء عن ذلك (لكنه لا يمكن جعله من
قبيل التاثيم وهو النسبة الى الاثم) وذلك لما بين في علم الصرف من ان من معاني باب
التفعيل النسبة نحو فسقته أي نسبته الى الفسق فراجع ان شئت.
(و) ان قلت انا
اجعل الاستثناء من الاول فقط اي من قوله لغوا ليصير الاستثناء متصلا على الوجه
الثالث.
قلت (ليس لك في
الكلام ان تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل من الاول) فقط (مثل ان تقول ما
جائني رجل ولا امرأة الا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب ان تؤخر ذكر الرجل) وفي
المقام كلام قد ذكر في الاصول في بحث تعقب المخصص متعددا فراجع ان شئت.
(ومنه اي من
تأكيد المدح بما يشبه الذم ضرب آخر وهو ان يؤتي بالاستثناء مفرغا) وهو ان لا يذكر
المستثنى منه (ويكون العامل) في
المستثنى (مما فيه معنى الذم و) يكون (المستثنى مما فيه معنى المدح) المراد
من العامل في الآية الآتية قوله تنقم والمراد من المستثنى قوله الايمان (نحو قوله
تعالى) حكاية ((وَما تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) أي ما تعيب منا الا أصل المناقب والمفاخر كلها وهو
الايمان بآيأت الله تعالى) وذلك مما لا يخالف فيه عاقل فلا يضر كون بعض السفلة في
زماننا وفرعون واتباعه في زمان موسى عليهالسلام يعتقده عيبا فانهم كالانعأم بل اضل سبيلا. وانما يكون
في تنقم معنى الذم لانه (يقال نقم منه وانتقم اذا عابه وكرهه وعليه) اي على هذا
الضرب الآخر ايضا (قوله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا) فأن الاستفهام فيه) اي في هل تنقمون (للانكار فيكون
بمعنى النفي) وقد تقدم بيان ذلك في الباب السادس في قوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) فراجع ان شئت.
(وهو) أي هذا
الضرب الآخر (كالضرب الاول في افادة التأكيد من وجهين) أي من جهة إنه كدعوى الشيء
ببنية وبرهان ومن جهة أن الاصل في مطلق الاستثناء هو الاتصال الى آخر ما ذكر هناك
فتذكر.
(والاستدراك
الدال عليه لفظ لكن في هذا الباب أي باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كالاستثناء في
أفادة المراد) وذلك لأن الاستثناء والاستدراك من واد واحد اذ كل منهما لأخراج ما
هو بصدد الدخول وهما أو حقيقة وبعبارة أخرى كل واحد منهما لأخراج ما لولاه لدخل
فأنك اذا قلت في الاستدراك زيد شجاع لكنه بخيل فلفظة لكن لأخراج ما اوهم ثبوت الشجاعة
دخوله لأن الشجاعة تلائم الكرم كما أنك اذا قلت في الاستثناء جاء القوم إلا زيدا
فهو لأخراج ما أوهم عموم القوم دخوله وان كان الأيهام في الاول بطريق الايهام
والملائمة والثاني بطريق الدلالة على
سبيل التضمن وهو أقوى (كما في قوله أي قول أبي الفضل بديع الزمان الهمداني
يمدح خلف بن أحمد السجستاني) :
هو البدر إلا
انه البحر زاخرا
|
|
سوى انه
الضرغام لكنه الوبل
|
(فالأولان) وهما قوله إلا انه
البحر وسوى انه الضرغام (استثناء أن مثل قوله (ص) بيد اني من قريش) لأنه اثبت فيه
أولا (صفة مدح وعقبها بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى غاية الأمر أن الصفة
الاخرى في البيت قد تعددت (وقوله لكنه الوبل استدراك يفيد من التأكيد ما يفيده هذا
الضرب من الاستثناء) أي الضرب الذي أستشهد له بقوله (ص) أنا افصح العرب بيد أني من
قريش (لأنه) كما تقدم هناك (استثناء منقطع) وقد تقدم بيانه هناك (و) لفظ (إلا فيه)
أي في البيت (بمعنى لكن) الاستدراكية.
(ومنه أي من
المعنوي) عكس ما تقدم اعني (تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو ضربان احدهما أن يستثنى
من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم له بتقدير دخولها فيها أي دخول صفة الذم في صفة
المدح) المنفية فيفيد ثبوت صفة الذم فيحصل من ذلك صفتان للذم احديهما بسبب نفي صفة
المدح اذ يلزم من ذلك ثبوت نقيضها لأمتناع ارتفاع النقيضين والاخرى بسبب الاستثناء
لأن الاستثناء بعد النفي اثبات (كقولك فلان لا خير فيه إلا انه يسيء الى من أحسن
اليه) فيجري فيه ما تقدم في الضرب الاول في تأكيد المدح لأنه لما كان فيه تقدير
الاتصال لوجود العموم على أن يكون المعنى لا خير فيه إلا الاسائة للمحسن أن كانت
خيرا كان فيه تعليق بالمحال فيكون كأثبات الذم بالبينة وكان فيه أيضا من كون الاصل
في الاستثناء الاتصال الأشعار بأنه طلب الأصل وهو استثناء المدح
ليقع الاتصال فلما لم يجده استثنى ذما فجاء ذم على ذم بوجه أبلغ.
(وثانيهما أن
يثبت للشيء صفه دم وتعقب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له) اي للشيء (كقولك
فلان فاسق إلا انه جاهل) والاتصال الذي يكون معه التعليق بالمحال لا يوجد في هذا
الضرب الثاني فلا يفيد التأكيد بالوجه الاول كما في الضرب الاول واما كونه كدعوى
الشيء ببينة وبرهان فهو لا يتأتى هنا لأنه كما تقدم آنفا يتوقف على التعليق
بالمحال وهو يتوقف على اتصال الاستثناء وهو لا يتأتى هنا لأن المستثنى منه هنا صفة
خاصة لا يمكن دخول شيء فيها وإنما يفيده بالوجه الثاني وهو أن الاستثناء لما كان
أصله الاتصال فالعدول عن الاتصال الى الانفصال يشعر بأنه طلب استثناء المدح فلم
يجده فاتى بالذم بوجه أبلغ فجاء تأكيد الذم (فالضرب الاول يفيد التأكيد من وجهين
والثاني من وجه واحد وتحقيقهما) أي تحقيق الضربين في أفادة التاكيد من وجهين أو من
وجه واحد (على قياس ما مر) في تأكيد المدح بما يشبه الذم وقد أشرنا نحن الى ذلك
هنا اجمالا.
(ويتأتي منه)
أي من تأكيد الذم بما يشبه المدح (الضرب الآخر اعني الاستثناء المفرغ نحو فلان لا
يستحسن منه إلا جهله) وهذا الضرب أيضا يفيد التأكيد من وجهين كالضرب الاول وذلك لأنه
كدعوى الشيء ببينة وبرهان اذ نفى منه كل ما يستحسن بالمرة ثم استثنى من المنفى
الجهل أن كان الجهل مما يستحسن وذلك أي كون الجهل مما يستحسن محال فجاء فيه
التعليق بالمحال ولأن الكلام من جهة كون الاصل في الاستثناء الاتصال يشعر بأن
المتكلم طلب الاصل وهو استثناء ما يستحسن ليقع الاتصال فلما لم يجده استثنى ما لا
يستحسن اعني الجهل.
(والاستدراك
فيه بمنزلة الاستثناء) وقد تقدم بيان ذلك انفا نحو)
فلان (جاهل لكنه فاسق) والاتصال لا يتأتى هنا لأن الجهل صفة خاصة لا يمكن
دخول الفسق فيها فتأمل.
(ومنه أي من
المعنوي الاستتباع وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر كقوله أي قول أبي
الطيب نهبت من الاعمار مالوحويته أي جمعته لهنئت الدنيا بأنك خالد) والشاهد فيه في
ان الشاعر قد (مدحه بالنهاية في الشجاعة اذ كثر قتلاه بحيث لو ورث اعمارهم لخلد في
الدنيا على وجه) متعلق بقوله مدحه والمراد من الوجه كون الدنيا مهنئة بخلوده لو
ورث اعمار المقتولين وهذا الوجه (استتبع) أي استلزم (مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا
ونظامها حيث جعل الدنيا مهناة بخلوده ولا معنى لتهنئة أحد بشيء لا فائدة له فيه).
والحاصل أن
الشاعر لما مدحه بنهاية الشجاعة وجعل خلوده تهنأ به الدنيا كان مدحه بنهاية
الشجاعة على الوجه المذكور وهو تهنئة الدنيا بخلوده مستتبعا ومستلزما لمدحه بكونه
سببا لصلاح الدنيا وحسن نظامها لأن المراد بتهنئة الدنيا تهنئة أهلها فلو لم يكن
للممدوح فائدة لأهل الدنيا ما هنئوا ببقائه اذ لا تهنئة لأحد بشيء لا فائدة فيه.
(قال علي بن
عيسى الربعي وفيه أي في البيت وجهان آخران من المدح) غير الاستتباع فقول
التفتازاني قال علي بن عيسى الربعي اشارة الى أن استخراج هذين الوجهين الآخرين ليس
للخطيب كما هو ظاهر المتن بل هو ناقل لذلك عن الربعي ففيه أشارة للأعتراض على
الخطيب.
(احدهما) أي
أحد الوجهين الآخرين (انه) أي الممدوح (نهب الاعمار دون الاموال وهذا مما ينبيء عن
علو الهمة) وان همته إنما تتعلق بمعالي الامور لأن الذي يميل للمال إنما هو ذو
الهمة الدنية والاموال يعطيها
ولا ينهبها والارواح ينهبها فالعدول عن الاموال الى الاعمار إنما هو لعلو
الهمة وذلك مما يمدح به.
(وثانيهما) أي
ثاني الوجهين الآخرين (انه) أي الممدوح (لم يكن ظالما) في قتلهم أي قتل مقتولية
لأنه لم يقصد بذلك الاصلاح الدنيا وأهلها وذلك لأن تهنئة الدنيا إنما هي تهنئة
لأهلها فلو كان ظالما في قتل من قتل لما كان لأهل الدنيا سرور بخلوده) بل يكون
سرورها بهلاكه ومعلوم ان كونه غير ظالم مدح فهم من التهنئة لأستلزامها اياه فالمدح
الاول لازم للمعى الذي جعل أصلا وهو النهاية في الشجاعة والمدح الثاني لازم للمعنى
الذي جعل مستتبعا بالفتح وهو كونه سببا لصلاح الدنيا.
(ومنه أي من
المعنوي الادماج يقال) لغة (ادمج الشيء في الثوب اذا لف فيه وهو) اصطلاحا (ان يضمن
كلام) أي أن يجعل المتكلم الكلام الذي (سيق لمعنى مدحا كان) ذلك المعنى (أو غيره
معنى آخر) وهذا اعني قوله معنى آخر (منصوب مفعول ثان ليضمن وقد أسند) يضمن (الى
المفعول الاول) وهو قوله كلام.
والحاصل أن
قوله يضمن على صيغة المبنى للمفعول والنائب هو كلام وقوله سيق لمعنى نعت لكلام
وقوله معنى آخر المفعول الثاني ليضمن فهو منصوب به بعد أن رفع به المفعول الاول
بالنيابة وقوله معنى آخر أعم من ان يكون مدحا أو غيره.
(و) فهم من
قوله يضمن أن (هذا المعنى الثاني) يعني المعنى الآخر (يجب ان لا يكون مصرحا به ولا
يكون في الكلام أشعار بأنه مسوق لأجله) وإلا لم يكن ذلك من الادماج (فمن قال في
قول الشاعر) :
أبي دهرنا
أسعافنا في نفوسنا
|
|
وأسعفنا فيمن
نحب ونكرم
|
فقلت له
نعماك فيهم اتمها
|
|
ودع أمرنا أن
المهم المقدم
|
المقصود بالذات
من هذه الابيات التهنئة بالوزارة لبعض الوزراء حيث أن الدهر أسعفه أي قضى حاجته
بتلك الوزارة وكان الشاعر يحبه ويحب الوزارة أيضا فمن قال (انه) أي الشاعر (ادمج
شكوى الزمان) حيث لم يسعفه بنيل الوزارة (في التهنئ) أي في تهنئة بعض الوزراء (حيث
اسعفه الزمان بالوزارة (فقد سهى لأن الشكاية مصرح بها) حيث قال أبي دهرنا أسعافنا
في نفوسنا (فكيف تكون) تلك الشكاية (مدمجة) بل لو قيل أن هذا الكلام مسوق للشكاية
والتهنئة مدمجة كان أقرب واليه أشار بقوله (ولو جعل التهنئة مدمجة لكان أقرب) ولا
ينافي هذا ما قلنا من أن المقصود بالذات من هذه الابيات هو التهنئة لبعض الوزراء
لأن القصد الذاتي لا ينافي أفادة ذلك المقصود بطريق الادماج بأن يؤتى به بعد
التصريح بغيره وقول الشاعر اتمها أي اتم ما ابتدأته من النعمى أي الانعام واثرك
امرنا فأن امرهم مهم والمهم مقدم.
(فهو) أي الادماج
(اعم من الاستتباع لشموله المدح وغيره) كما صرح به انفا بقوله مدحا كان أو غيره (واختصاص
الاستتباع بالمدح) فالادمأج (كقوله أي قول أبي الطيب أقلب فيه اي في ذلك الليل
اجفاني) عبر بالمضارع لدلالته على تكرر تقليب الاجفان ليلا وهو دليل على السهر
والاجفان جمع جفن كفلس وهو غطاء العين من أعلى واسفل (كأني) في حالة تقليبها (أعد
بها) أي بالاجفان أي بتحريكها وتقليبها فجعل اجفانه كالسبحة أو الاصابع يعد بها (على
الدهر الذنوبا) أي ذنوب الدهر التي فعلها معه من تفريقه بينه وبين الاحبة ومن عدم
استقامة الحال فليس المراد ذنوب الشاعر التي فعلها في الدهر اذ لا معنى لعدها على
الدهر.
وأما الشاهد (فأنه
ضمن وصف الليل بالطول) وهو المعنى المسوق له الكلام أولا فأدمج فيه (الشكاية) من
الدهر فلو صرح بالشكاية أولا لم يكن ذلك من الادماج كما تقدم في قوله أبي دهرنا
الخ (يعني لكثرة تقليبي لأجفاني في ذلك الليل كأني أعد على الدهر ذنوبه) وقد بيناه
انفا.
(وقوله معنى
آخر أراد به الجنس) أي جنس المعنى الآخر (أعم من ان يكون واحدا كما في بيت أبي
الطيب) المتقدم يعني قوله أقلب فيه اجفاني الخ (أو أكثر كما في قول ابن نباتة) :
ولا بد لي من
جهلة في وصاله
|
|
فمن لي بخل
أودع الحلم عنده
|
حاصل معنى
البيت أن وصال المحبوب لا يتيسر إلا بترك الوقار ومدارات رقبائه وملازمة عتبه
والطرد والشتم وغيرهما مما هو من افعال الجهلاء والاستفهام في قوله فمن لي بخل
للأنكار أي ليس لي خل أي صديق أودع الحلم عنده ثم أفعل الافعال المذكورة التي هي
من أفعال الجهلاء حتى يتيسر لي وصاله.
وأما الشاهد (فأنه)
أي الشاعر (أدمج في الغزل) ثلاثة اشياء الاول (الفخر بكونه حليما حيث كنى عن ذلك)
أي عن كونه حليما (بالاستفهام) الانكاري (عن وجود خليل صالح لأن يودعه حلمه)
والحاصل انه لا يوجد خليل أمين يودع عنده حلمه (و) الثاني انه (ضمن الفخر بذلك) أي
بكونه حليما (شكوى الزمان) أي شكوى ابنائه وذلك (لتغير الاخوان حيث أخرج الاستفهام
مخرج الانكار تنبيها) أي للتنبيه (على انه لم يبق في الاخوان من يصلح لهذا الشأن)
أي لأن يودع عنده حلمه (و) الثالث انه (نبه بذلك) أي بأن يجعل حلمه عند الصديق
بطريق الوديعة بحيث يسترده في وقت آخر (على انه لم يعزم على مفارقة حلمه أبدا) أي
دائما (لكن لما
كان) الشاعر (مريدا) وقاصدا (لوصل هذا المحبوب الموقوف) ذلك الوصل (على
الجهل المنافي للحلم عزم على انه ان وجد من يصلح لأن يودعه حلمه أودعه) أي اودع
الحلم (اياه) أي الصديق (فأن الودايع تستعاد آخر الامر) وفيه ادماج رابع وهو وصف
نفسه بأنه لا يميل الى الجهل بالطبع والاختيار وإنما يجهل لوصال المحبوب للأضطرار
لأنه لا بد له منه وخامس وهو أنه لا يفعله الامرة واحدة لنيل المقصود الاهم والى
ذلك أشار بقوله جهلة لأن هذا الوزن للمرة كما بين في النحو.
(ومنه أي من
المعنوي التوجيه ويسمى) أيضا (محتمل الضدين) وإنما يظهر وجه التسمية بذلك من قوله (وهو
إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين) أي متباينين متضادين كالمدح والذم والشتم
والدعاء فلا يكفي فيه مجرد كون المعنيين متغايرين كان يقال رأيت العين في مقام
يحتمل العين الجارية والباكية مثلا على السواء فأنه ليس من التوجيه لأن المعنيين
متغايران ولا تضاد بينهما وإنما التوجيه (كقول من قال لاعور يسمى عمرا) وهو خياط :
خاط لي عمرو
قباء
|
|
ليت عينيه
سواء
|
فأسئل الناس
جميعا
|
|
أمديح أم
هجاء
|
وفي بعض النسخ
:
قلت شعرا ليس
يدري
|
|
أمديح أم
هجاء
|
روى أن بشارا
أعطى لخياط أعور اسمه عمرو ثوبا ليخيطه له فقال له الخياط لأخبطنه بحيث لا يعلم
اقباء هو أم غيره فقال له بشار لئن فعلت ذلك لأقولن فيك شعرا لا يدري اهجاء أم
غيره فلما خاط الخياط ذلك الثوب قال بشار البيتين (فأنه يحتمل تمنى أن يصير العين
العوراء صحيحة
فيكون مدحا وتمنى خير وبالعكس فيكون ذما).
فأن قلت الظاهر
أن الشاعر أراد المدح لأنه بأزاء الخياطة وهي احسان ومقابل الاحسان يكون احسانا
فلم يستو الاحتمالان وحينئذ فلا يتجه عده من التوجيه وذلك لاشتراط الاستواء في
الاحتمالين وههنا ليس كذلك.
قلت أراد
استواء الاحتمالين في التوجيه بالنظر لنفس اللفظ وان ترجح أحد الأحتمالين بالنظر
الى القرنية وأيضا كون الشعر في مقابلة الخياطة لا يعين كون الشاعر أراد المدح
لأحتمال أن يكون أفسد الخياطة فدعا عليه.
(قال السكاكي
ومنه أي من التوجيه متشابهات القرآن بأعتبار وهو احتمالها) في الجملة (الوجهين
المختلفين وتفارقه) أي وتفارق المتشابهات التوجيه (بأعتبار آخر وهو انه يجب في
التوجيه استواء الاحتمالين وفي المتشابهات) كما تقدم في هذا الفن في بحث التورية
في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله تعالى (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) وهما من المتشابهات (أحد المعنيين قريب والآخر بعيد)
وقد تقدم بيان ذلك هناك فراجع إن شئت (ولهذا قال السكاكي وأكثر متشابهات القرآن من
قبيل التورية والابهام) وقد ذكر في القوانين في بحث المحكم والمتشابه ما يوضح
المقام فراجع إن شئت.
(ومنه أي من
المعنوي الهزل الذي يراد به الجد) والجد بكسر الجيم ضد الهزل الذي هو اللعب واللهو
وبعبارة أخرى هو أن يذكر الشيء على سبيل اللعب والمطايبة ويقصد به أمر صحيح واقعي
في الحقيقة والفرق بينه وبين التهكم ان التهكم ظاهره جد وباطنه هزل وهذا بعكسه وهو
واقع في كلامهم (كقوله) :
اذا ما تميمي
أتاك مفاخرا
|
|
فقل عد عن ذا
كيف أكلك للضب
|
أما الشاهد فهو
أن قولك للتميمي وقت مفاخرته بحضورك لا تفتخر وقل لي كيف أكلك للضب هزل ظاهر لكنك
تريد به الجد وهو ذم التميمي بأكله الضب وانه لا مفاخرة مع إرتكابه أكل الضب الذي
لا يرتكبه أشراف الناس وعلم من هذا أن الهزلية بأعتبار استعمال الكلام والجدية
باعتبار ما قصد منه.
(ومنه أي من
المعنوي تجاهل العارف وهو كما سماه السكاكي سوق المعلوم مساق غيره) المساق مصدر
ميمي السوق أي سوق المعلوم سوقا كسوق غيره أي كسوق المجهول وذلك بأن يعبر عنه بما
يدل على أنه مجهول وذلك (لنكتة) أي لفائدة وهو متعلق بتجاهل العارف فلو عبر عن
المعلوم بعبارة المجهول لا لنكتة كان يقال هل زيد في الدار حيث يعلم انه في الدار
ولا نكتة في الاستفهام لم يكن ذلك من المحسنات بل يكون لغوا لا يليق بالبلغاء.
(وقال) أيضا (لا
أحب تسميته بالتجاهل لوروده في كلام الله تعالى) كقوله تعالى (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) وتسمية الكلام المنسوب الى الله تعالى بتجاهل العارف
اسائة أدب بخلاف تسميته بسوق المعلوم مساق غيره فأنه أقرب الى الادب من الأول وان
كان الغير فيها عبارة عن المجهول لكن دلالتها عليه ليست بصريحة فتكون أستر وقد
تقدم بعض الكلام في الآية في الباب الاول عند قول الخطيب وقد ينزل العالم بهما
منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم فراجع إن شئت.
وأما النكتة
فهي (كالتوبيخ في قول الخارجية) هي ليلى بنت طريف ترثى أخاها الوليد حين قتله
اليزيد بن المزيد الشيباني (أيا شجر الخابور هو) أي الخابور فهو (من نواحي ديار
بكر).
قال في معجم
البلدان الخابور اسم لنهر كبير بين رأس عين والفرات من أرض الجزيرة ولاية واسعة
وبلدان جمة غلب عليها اسمه فنسبت اليه من البلاد قرقيساء وماكسين والمجدل وعربان
واصل هذا النهر من العيون التي برأس عين وينصاب اليه فاضل الهرماس ومد وهو نهر
نصيبين فيصير نهرا كبيرا ويمتد فيسقى هذه البلاد تم ينتهي الى قرقيساء فيصب عندها
في الفرات وفيه من أبيات أخت الوليد بن طريف ترثى أخاها.
وقال فيه أيضا
ديار بكر هي بلاد كبيرة واسعة تنسب الى بكر ابن وائل بن قاسط بن هنب افصى بن دعمي
بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار معد بن عدنان وحدها ما غرب من دجلة الى بلاد
الجبل المطل على نصيبين الى دجلة ومنه حصن كيفا وأمد وميافارقين وقد يتجاوز دجلة
الى سعرت وحيزان وحيسني وما تخلل ذلك من البلاد ولا يتجاوز السهل انتهى.
وهذا النهر
ينبت على حافتيه أشجار كثيرة وشجر الخابور نوع من تلك الاشجار النابتة على حافتي
النهر (مالك مورقا) اسم فاعل (من أورق الشجر) أي (صار ذا ورق) وذلك لما ذكرنا في
المكررات في باب ابنية المصادر من أن باب الافعال قد يأتى للصيرورة أي لصيرورة
الفاعل منسوبا الى ما أشتق منه نحو أغد البعيرأي صار ذا غدة فراجع ان شئت.
(كأنك لم تجزع
علي بن طريف فهي) أي الشاعرة (تعلم أن الشجر لم يجزع علي ابن طريف) لأن الجزع لا
يكون إلا من العاقل (لكنها تجاهلت) فأظهرت انه من ذوي العقول وانه يجزع عليه جزعا
يوجب ذبوله وانه لا يخرج ورقه فلما أورق وبخته على اخراج الورق (فأستعملت لفظ كان
الدال على الشك) في جزعه واذا كان الشجر يوبخ على عدم الجزع فغيره أخرى بأن يكون
موبخا بفتح الباء.
فالتجاهل هنا
المؤدي لتنزيل غير العالم منزلة العالم صار وسيلة للتوبيخ على كونه مورقا ناضرا لا
ذابلا ووسيلة الى ادعاء أن ماثره بلغت الى حيث تعلم بها الجمادات ولو لا ذلك
التنزيل والادعاء لما حسن التوبيخ ولما أتضح ظهور المأثر حتى للجمادات فتبصر وتدبر
جيدا.
(وبهذا) الذي
وجهنا البيت يعلم أن ليس يجب في كان ان يكون للتشبيه بل يستعمل في مقام الشك في
الحكم) وقد يستعمل عند الظن بثبوت الخبر من غير قصد الى التشبيه وقد تقدم الكلام
في ذلك في بحث أداة التشبيه في الفن الثاني فراجع ان شئت.
(والمبالغة أي
وكالمبالغة في المدح كقوله أي قول البحتري) :
ألمع برق سرى
أم ضوء مصباح
|
|
أم ابتسامتها
بالمنظر الضاحي
|
(أي الظاهر) هذا تفسير للضاحي لأنه
مأخوذ من ضحا الطريق اذا ظهر والباء في قوله بالمنظر بمعنى في وأراد بالمنظر المحل
الذي ينظر وهو الوجه فهو بفتح الظاء.
وأما الشاهد
فهو أنه أي البحتري تجاهل وادعى انه ألتبس عليه الأمر والدليل على ذلك انه (بالغ
في مدح ابتسامتها حيث لم يفرق بينها وبين لمع البرق وضوء المصباح) وبعبارة أخرى
أفاد التجاهل المنزل منزلة الجهل المبالغة بحيث انه لم يدر هل ذلك اللمعان المشاهد
من أسنانها عند الابتسام لمع برق سري أم هو ضوء مصباح أم ضوء ابتسامتها الكائنة في
منظرها الضاحي.
(أو المبالغة
في الذم في قوله أي قول زهير) :
وما أدري
وسوف أخاك أدري
|
|
أقوم ال حصين
ام نساء
|
والشاهد في انه
أي زهير يعلم ان ال حصن رجال لكنه تجاهل
وأظهر انه ألتبس عليه أمرهم في الحال ولو كان سيعلم في المستقبل فلم يدر في
الحال هل هم رجال أم نساء فتجاهله المنزل منزلة الجهل فيه اظهار المبالغة في ذمهم
بأنهم بحيث يلتبسون بالنساء في قلة فائدتهم فكان في هذا التجاهل اظهار لنهاية الذم
وانهم في منزلة النساء.
و (فيه) أي في
هذا البيت (دلالة على أن) لفظ (القوم) موضوع (للرجال خاصة) وذلك لأنه أي زهير قابل
بين النساء والقوم فمعادلته بينهم تدل على أن القوم لا يتناول النساء بل هو مخصوص
بالرجال لغة ويدل عليه قوله تعالى (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ
مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى
أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) هذا ولكن قد يقال أن القوم اسم لمجموع الرجال والنساء
بدليل قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ).
قال في المصباح
القوم جماعة الرجال ليس فيهم امرئة الواحد رجل امرء من غير لفظه والجمع أقوام سموا
بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات قال الصغاني وربما دخل النساء تبعا لأن قوم كل نبي
رجال ونساء ويذكر القوم ويؤنث فيقال قام القوم وقامت القوم وكذلك كل اسم جمع لا
واحد له من لفظه نحو رهط ونفر وقوم الرجل اقربائه الذين أجتمعوا معه في جد واحد
وقد يقيم الرجل بين الاجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة وفي التنزيل (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) قيل كان مقيما بينهم ولم يكن منهم وقيل كانوا قومه
انتهى.
(والتدله أي
كالتحير والدهش) أي ذهاب العقل بسبب العشق وبعبارة أخرى يتجاهل العارف للتدله (في
الحب) وذلك كما (في قوله أي قول الحسين بن عبد الله تالله) قسم استعطاف للظبيات
المناديات ليستمعن كلامه فتجيبه (يا ظبيات القاع) والقاع (هو المستوى من الارض) أي
الارض
المستوية واضافة الظبيات الى القاع بتقدير في ولكونها بتقدير اللام وجه
مخرج (ليلاي) أي ليلا المنسوبة الى (منكن أم ليلا من البشر) فالشاهد فيه انه يعلم
أن ليلى من البشر لكنه تجاهل وأظهر انه أدهشه الحب أي العشق بحيث لا يدري هل هي من
الظبيات الوحشية أم من البشر فلذلك سئل الظبيات عن حالها و (في اضافة ليلا الى
نفسه اولا والتصريح بأسمها الظاهر ثانيا تلذذ) أي استلذاذ أكثر من عدم الاضافة ومن
الاضمار.
(ومن هذا
القبيل) أي من قبيل التدله والتحير (خطاب الاطلال) أي الشاخص من الآثار أي آثار
المنازل والبيوت لأن شخص الشيء طلله كذا في المصباح (والرسوم) أي علائم الابنية (والمنازل
والاستفهام منها كقوله) :
امنزلتي سلمى
سلام عليكما
|
|
هل الازمن
اللآتي مضين رواجع
|
وهل يرجع
التسليم أو يكشف العمى
|
|
ثلاث الاثافي
والديار البلاقع
|
والشاهد فيه
انه لما رأى المنازل خالية من سلمى وأهلها أدهش من الغرام فناداها أي المنازل نداء
العقلاء وسلم عليها ثم رجع اليه عقله فلام نفسه فقال استنكارا لذلك هل يرجع
التسليم أي هل يرد السّلام الثلاث الاثافي وهي الاحجار الثلاثة التي يوضع عليها
القدر واحدها اثفية بتشديد الياء.
(وكالتحقير
كقوله تعالى حكاية عن الكفار (هَلْ نَدُلُّكُمْ
عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ)) والشاهد فيه إنهم (يعنون) برجل (محمدا ص) فتجاهلوا في
شأنه (ص) (كان لم يكونوا يعرفون منه (ص) إلا انه (ص) رجل ما وهو (ص) عندهم أظهر من
الشمس) وأبين من الأمس.
(وكالتعريض)
بالمخاطب (في قوله تعالى (إِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) والشاهد فيه انه ترك تعيين انهم في الضلال مع كون ذلك
معلوما فكأنه (ص) لا يدري ذلك فلم يصرح بنسبة الضلال الى المخاطبين لئلا يزيد
غضبهم فأسمعهم ذلك على سبيل التعريض ليتفكروا في أنفسهم فيؤديهم النظر الصحيح الى
أن يعرفوا انهم هم الكائنون في الضلال وقد تقدم الكلام في تفسير التعريض في بحث
الكناية كما انه تقدم بعض الكلام في هذه الآية في باب العطف على المسند اليه فراجع
ان شئت.
(وكغير ذلك)
المذكور من أقسام تجاهل العارف (من الاعتبارات) المناسبة للحال والمقام فأن ما ذكر
من الاقسام نموذج وقليل من كثير من نكث التجاهل وأما بيان جميع نكتها فلا يدخل تحت
حصر ولا يضبطها قلم لأنها مما يراه الذوق السليم والفهم المستقيم مناسبا للحال
والمقام.
(ومنه أي من
المعنوي القول بالموجب) المراد بالقول الاعتراف أي اعتراف المتكلم بما يوجبه كلام
المخاطب وبعبارة أخرى تسليم المتكلم دليل الخصم مع بقاء النزاع أما بأثبات مناط
مقصوده في شيء آخر كما في الضرب الاول وأما بحمل لفظ في كلامه على غير ما قصده كما
في الضرب الثاني وأما لفظ الموجب فهو بكسر الجيم اسم فاعل لأن المراد به كما يأتي
الصفة الموجبة للحكم كما في الضرب الاول أو اللفظ الموجب لحمله على غير ما قصده
كما في الضرب الثاني ويحتمل أن يكون بفتح الجيم اسم مفعول فيكون المراد منه حينئذ
القول بالحكم الذي أوجبته الصفة أو القول بالمعنى الآخر الذي يكون للفظ فأتضح بما
قدمنا قوله (وهو ضربان أحدهما أن يقع صفة في كلام الغير) كالاعزية فأنه صفة وقعت
في كلام المنافقين (كناية عن شيء) أي عن فريقهم (اثبت له أي لذلك الشيء أي
لفريقهم (حكم) والمراد بالحكم في الآية الاخراج (فتثبتها لغيره أي فتثبت
أنت في كلامك تلك الصفة) أي الاعزية (لغير ذلك الشيء) أي لغير المنافقين أي الله
ورسوله وللمؤمنين (من غير أن تتعرض لثبوته) أي لثبوت الحكم يعني الاخراج (له) أي
للغير أي لله ورسوله والمؤمنين (أو نفيه) أي نفي الحكم (عنه) أي عن الغير (أي من
غير أن تتعرض لثبوت ذلك الحكم) أي الاخراج (لذلك الغير) أي لله ورسوله والمؤمنين (أو
لأنتفائه عن ذلك الغير) أي عن الله ورسوله والمؤمنين.
فتحصل مما
بيناه انه لو تعرضت في كلامك للحكم اثباتا أو نفيا خرج الكلام عن القول بالموجب
مثلا اذا قال خصمك القوى ليخرجن القوى من هذه المدرسة الطلاب الضعفاء مريدا بالقوى
نفسه مثبتا له حكم الاخراج فلو أثبت لنفسك القوة ولم تتعرض لحكم الاخراج بأن تقول
ردا عليه أنا القوى لأن الضعيف اعتماده على الله كان كلامك حينئذ من القول بالموجب
وان قلت أنا القوى سوف أخرجك من المدرسة بعون الله تعالى لم يكن من القول بالموجب.
(نحو قوله
تعالى (يَقُولُونَ)) أي المنافقون (لَئِنْ رَجَعْنا) من هذه الغزوة أي من غزوة بني المصطلق (إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ) أي المنافقون (مِنْهَا) أي من المدينة (الْأَذَلَّ) أي المؤمنين فرد الله جل جلاله على المنافقين وقال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وأما الشاهد (فالأعز صفة وقعت في كلام) الغير أي (المنافقين
كناية عن فريقهم و) وقع (الاذل) وهو أيضا صفة (كناية عن المؤمنين وقد أثبتوا) أي
المنافقون (لفريقهم المكنى عنه بالاعز الاخراج) وبعبارة أخرى وقع في كلام
المنافقين صفة أعني الأعزوهي كناية عن فريقهم فأثبتوا لفريقهم الحكم وهو الاخراج (فأثبت
الله في الرد عليهم
صفة العزة لغير فريقهم وهو) أي الغير (الله ورسوله والمؤمنون) وذلك بعد أن
سلم للمنافقين أن الاعز يخرج الاذل فكأنه قيل نعم الاعز يخرج الاذل لكن العزة لله
ورسوله والمؤمنون لا لكم أيها المنافقون (ولم يتعرض) الله جل جلاله لثبوت ذلك
الحكم الذي هو الاخراج للموصوفين بالعزة أعني الله ورسوله والمؤمنين ولا لنفيه
عنهم) اذ قد تقدم أنفا أنه لو تعرض لذلك لم يكن من القول بالموجب ولكن لا يذهب
عليك انه يلزم من ثبوت الصفة لله ورسوله والمؤمنين ثبوت الحكم لهم.
(و) الضرب (الثاني)
من القول بالموجب (حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله أي حالكون
خلاف مراده من المعاني التي يحتملها ذلك اللفظ) الواقع في كلام الغير فظهر من ذلك
انه لو كان اللفظ غير صالح للمعنى الذي هو خلاف مراده كان الحمل عليه عبثا لا
بديعا محسنا للكلام.
وأما قوله (بذكر
متعلقه) فهو (متعلق بالحمل) والباء فيه المسببية (أي يحمل) ذلك اللفظ (على خلاف
مراده بأن) أي بسبب أن (يذكر متعلق ذلك اللفظ) والمراد من المتعلق على ما يظهر من
مساق كلامهم مطلق ما يناسب المعنى المحمول عليه لا خصوص المتعلق الاصطلاحي مما
تقدم في بحث متعلقات الفعل فراجع ان شئت.
(كقوله ثقلت)
بتشديد القاف وضم التاء (اذا أتيت مرارا) وفي بعض النسخ اذ بالف واحدة وفي النسخة
التي عندي بألفين وعلى كلا الوجهين الظرف متعلق بقوله قلت أو لقوله ثقلت (قال ثقلت)
بتشديد القاف وفتح التاء (كاهلي) الكاهل ما بين الكتفين (بالايادي) أي المنن
والنعم (فلفظ
ثقلت) الاول (وقع في كلام الغير) يعني في كلام الشاعر (بمعنى حملتك المئونة)
أي المشقة من أكل وشرب ونحوهما مما يستلزم اكرام الضيف (و) بمعنى (ثقلتك بالأتيان)
أي بأتياني (مرة بعد أخرى وقد حمله) أي وقد حمل المخاطب لفظ ثقلت (على) خلاف مراد
الشاعر أي على (تثقيل عاتقه) أي كتفه (بالايادي) وقوله (والمنن والنعم) كما نبهناك
عطف تفسير للأيادي.
وحاصل معنى
البيت أن الشاعر يقول لمخاطبه ثقلت عليك وحملتك المشقة بأتياني اليك مرارا فقال له
المخاطب صدقت في كونك ثقلت على لكن ثقلت كاهلي بالمنن لا حملتني فجعل اتيانه اليه
نعما عديدة حتى اثقلت عاتقه.
(وبعده) أي بعد
البيت المذكور (قلت طولت) بضم التاء من الطول بمعنى الامتداد (قال لا بل تطولت)
بفتح التاء من التطول والتفضل (وأبرمت) بضم التاء أي امللت (قال حبل ودادي) أي نعم
أبرمت ولكن أبرمت واحكمت حبل ودادي والى ما فصلنا أشار بقوله (أي طولت الاقامة
والأتيان وأبرمت أي أمللت وأبرم ايضا) بمعنى (احكم والتطول التفضل والانعام فقوله
أبرمت أيضا) أي كالبيت السابق (من هذا القبيل) أي من القول بالموجب (واما قول
الشاعر) قيل هو مولانا ومولى الكونين أمير المؤمنين (ع).
واخوان
حسبتهم دروعا
|
|
فكانوها ولكن
للاعادي
|
وخلتهم سهاما
صائبات
|
|
فكانوها ولكن
في فؤادي
|
وقالوا قد صفت
منا قلوب
|
|
فقد صدقوا
ولكن عن ودادي
|
(فالبيت الثالث من هذا القبيل) أي
من الضرب الثاني فأنه صدر فيه لفظ عن الغير فحمله على غير مراده واللفظ الصادر عن
الغير عبارة عن
الصفاء فكانه قال نعم صدقتم في صفاء قلوبكم ولكن صفائها عن ودادي (و) أما (البيتان
الأولان) فليسا من هذا القبيل لكنهما (قريب منه لأن اللفظ المحمول على معنى آخر)
يعني لفظ دروعا ولفظ سهاما (لم يقع في كلام الغير بل وقع في ظنه بمعنى فحمله على
خلاف ذلك المعنى).
وبعبارة أخرى
البيتان الاولان ليس فيهما حمل صفة ذكرت في كلام الغير على معنى آخر وإنما فيهما
ذكر صفة ظنها المتكلم على وجه فاذا هي على خلافه فيشبهان هذا المعنى بسبب ما فيهما
من كون المعنى فيهما في الجملة على الخلاف.
(ومنه أي من
المعنوي الاطراد وهو أن تأني بأسماء الممدوح أو غيره) والمراد بغيره المذموم أي
المهجو او المرثي ونحوهما مما ليس فيه ذكر الاسم للمدح بل لغيره (واسماء ابائه)
المراد بالجمع ههنا ما فوق الواحد بقرنية المثال (على ترتيب الولادة) وذلك بأن
يذكر اسم الأب تم اسم أبي الأب وهكذا (من غير تكلف في السبك) أي في نظم اللفظ وفهم
عدم التكلف راجع الى الذوق السليم والفهم المستقيم وقيل أن عدم التكلف أن لا يفصل
بين الاسماء بلفظ لا دلالة على النسب فاذا كان الفصل بذلك فيكون فيه تكلف نحو زيد
الاضل ابن عمرو العادل أو نحو زيد بن عمر والتاجر ابن خالد.
(و) إنما (يسمى)
ذكر اسم الشخص واسم ابائه على ترتيب الولادة (أطراد الآن) تلك (الاسماء في تحدرها
كالماء الجاري في أطراده) أي في متابعة بعضه بغضا (وسهولة انسجامه) أي سيلانه
وجريانه (كقوله) :
ان يقتلوك
فقد ثللت عروشهم
|
|
بعتيبة بن
الحارث بن شهاب
|
(يقال ثل الله عروشهم أي هدم ملكهم
ويقال) أيضا (للقوم اذا ذهب
عزهم وتضعضعت حالهم قد ثل عروشهم) وقد أشار التفتازاني الى حاصل معنى البيت
بقوله (أي ان تبجحوا) أي ان يفتخروا (بقتلك وصاروا يفرحون به) أي بقتلك (فقد أثرت
في عزهم وهدمت أساس مجدهم بقتل رئيسهم عتيبة بن الحارث) قال في الايضاح ففيه تعرض
للمقتول به ولشرف المقتول قيل لما سمعه عبد الملك بن مروان قال لو لا القافية لبلغ
به الى آدم (ع).
(ومنه) أي ومن
الاطراد قوله (ص) :
الكريم بن
الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم) وقد تقدم بعض الكلام فيه
وفيما قبله في أوائل الكتاب (هذا تمام الكلام في الضرب المعنوي) من المحسنات
البديعية.
(أما) الضرب (اللفظي
من الوجوه المحسنة للكلام فالمذكور منه في الكتاب سبعة فمنه) أي من الضرب اللفظي (الجناس)
أي النوع المسمى بالجناس بكسر الجيم وهو في الاصل مصدر جانس كقاتل قتالا (بين
اللفظين وهو تشابههما في اللفظ أي في التلفظ) فقط وبعبارة أخرى هو ان لا يتشابها
إلا في اللفظ (فيخرج التشابه في المعنى نحو أسد وسبع أو في مجرد عدد الحروف نحو
ضرب وعلم أو في مجرد الوزن نحو ضرب وقتل ثم) أعلم أن (وجوه التشابه في اللفظ كثيرة
يجيء تفصيلها والجناس ضربان تام وغير تام والتام منه ان يتفقا أي اللفظان في أنواع
الحروف فكل من الالف والباء والتاء الى الآخر) أي الى آخر التسعة والعشرين الحروف
الهجائية (نوع آخر من أنواع الحروف).
فأن قلت قد بين
في محله ان النوع تحته اصناف كثيرة والحروف الهجائية إنما تحتها أشخاص لا اصناف
قلنا مثلا الالف نوع تحته أصناف
كثيرة لأنها أما مقلوبة عن واو أو ياء أو اصلية والباء كذلك نوع تحته أصناف
كثيرة لأنها أما مدغمة أو لا مشددة أولا وعلى هذا القياس كذا اجاب بعضهم ويحتمل أن
يكون المراد بالنوع هنا النوع اللغوي ولا يشترط فيه وجود أصناف تحته فتدبر.
(وبهذا) أي
باشتراط الاتفاق في أنواع الحروف الموجودة في اللفظين (يخرج) عن الجناس التام (نحو
تفرح وتمرح) مما أثفقا في بعض الانواع دون بعض فأن تفرح وتمرح قد أختلفا في الميم
والفاء فليس بينهما جناس تام بل جناس لاحق وسيأتي المراد منه.
(و) أن يتفقا (في
أعدادها) والمراد بتوافق اللفظين في عدد الحروف أن يكون مقدار حروف أحدهما مقدار
الآخر (وبه) أي بأشتراط اتفاق اللفظين في عدد الحروف (يخرج نحو الساق والمساق) لأن
الميم لا يقابلها شيء في الساق لأنها مزيدة فلم يتفق عدد الحروف في اللفظين فليس
بينهما جناس تام بل ناقص وسيأتي المراد منه هذا ولو قيل يخرج نحو الساق والمساق
بالاتفاق في أنواع الحروف الموجودة في اللفظين لم يكن بعيدا اللهم إلا أن يقال كما
يأتي عنقريب أن المشدد في هذا الباب في حكم المخفف فتأمل.
(و) أن يتفقا (في
هياتها) أي هيات الحروف الموجودة في اللفظين (وبه) أي بأشتراط الاتفاق في هيئة
الحروف (يخرج نحو البرد والبرد بفتح احدهما وضم الآخر) أي بفتح الباء في احدهما
وضمها في الآخر وإنما خرج نحوهما لفقدان اتفاق الهيئة فيههما وإنما اشترط الاتفاق
في الهيئة زيادة على الاتفاق في النوع لأن الهيئة أمر زائد على حروف الكلمة فلا
يلزم من الاتفاق في أنواع الحروف الاتفاق في هيئاتها ولا يلزم من
الاتفاق في هيئاتها الاتفاق في نوعها (فأن هيئة الكلمة هي كيفية تحصل لها
بأعتبار حركات الحروف وسكناتها).
الاولى بل
الواجب أن يقول فان هيئة الحروف دون الكلمة لأن الكلام في هيئات الحروف دون هيئات
الكلمة.
والحاصل أن
هيئة الحروف كيفية حاصلة لها بأعتبار حركاتها وسكناتها وتقديم بعضها على بعض ولا
يعتبر في هيئة الحروف حركة الحرف الاخير ولا سكونه لأن الحرف الاخير عرضة للتغير
اذ هو محل الاعراب والوقف فلا يشترط اتفاق الكلمتين في هيئة حرف الاخير.
(فنحو ضرب وقتل
على هيئة واحدة بخلاف ضرب المبنى للفاعل وضرب المبنى للمفعول) وذلك واضح لا يحتاج
الى البيان.
(و) أن يتفقا
في ترتيبها أي تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيره عنه) وبعبارة أخرى يكون المقدم
والمؤخر في أحد اللفظين هو المقدم والمؤخر في الآخر (وبه) أي باشتراط اتفاق
اللفظين في الترتيب (يخرج نحو الفتح والحتف) وذلك واضح لا يحتاج الى البيان.
فقد ظهر من
جميع ما تقدم أن الجناس التام يشترط فيه شروط أربعة وهي الاتفاق في أنواع الحروف
والاتفاق في أعدادها والاتفاق في هيئتها والاتفاق في ترتيبها.
(ووجه الحسن في
هذا القسم أعني التام حسن الافادة مع أن صورته صورة الاعادة) وظاهر الاعادة إنها
تكرار وقد تقدم في أول الكتاب ان التكرار مخل بالفصاحة والمقام ليس منه إلا في
الصورة فحسن لما فيه من حسن الأفادة.
(فأن كان
اللفظان المتفقان في جميع ما ذكر من نوع واحد من أنواع
الكلمة كأسمين أو فعلين أو حرفين سمي) الجناس الحاصل بين اللفظين الذين هما
من نوع واحد (متماثلا لأن التماثل) على ما بين في علم الكلام (هو الاتحاد في النوع)
ولا يذهب عليك أن المستحق بالتسمية بالتماثل إنما هو أحد المتجانسين لا التجانس
بين اللفظين إلا أن يقال لا مشاحة في الاصطلاح.
قال في المعالم
أن كل متغايرين أما أن يكونا متساويين في الصفات النفسية أولا والمراد بالصفة النفسية
ما لا يفتقر اتصاف الذات بها الى تعقل أمر زائد كالانسانية للأنسان وتقابلها
المعنوية المفتقرة الى تعفل امر زائد كالحدوث والتحيز له فأن تساويا فيها فمثلان
كسوادين وبياضين انتهى محل الحاجة من كلامه أعلى الله مقامه.
(ثم الاسمان
أما متفقان في الافراد والجمعية بأن يكونا مفردين نحو قوله تعالى (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي اي القيامة (يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا)) في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ) أي وقتا يسيرا (من ساعات الايام) الدنيوية.
والساعة
أصطلاحا هي جزء من أربعة وعشرين جزء يتجزء بها زمان الليل والنهار فيكون لليل منها
اثنى عشر وللنهار منها مثلها عددا وتخلف كل منهما طولا وقصرا بأعتبار طول كل من
الليل والنهار وقصره فيدخل في الطول من ساعات احدهما ما خرج من ساعات الآخر وهو
ايلاج احدهما في الآخر المشار اليه بقوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).
والساعة في
الآية يحتمل أن يراد بها هذه الاصطلاحية ويحتمل ان يراد بها الساعة اللغوية وهي
اللحظة من الزمان وهذا أقرب.
والشاهد في أن
الساعة الاولى والثانية في الآية قد اتفقتا في نوع
الاسمية وفي جميع الاوجه السابقة إذ لا عبرة بلام التعريف لأنها في حكم
الانفصال فكان الجناس بينهما متماثلا هذا ولكن في الفرق بين الساعة والمساق حيث
جعل الاولى من قسم التام والثاني من قسم الناقص نظر ظاهر فتأمل.
(او) بأن يكونا
(جمعين نحو قول الشاعر) :
حدق الآجال
آجال
|
|
والهوى للمرء
قتال
|
(الاول جمع أجل) بكسر الجيم (وهو
القطيع من بقر الوحش والثاني جمع آجل) بفتحها (والمراد به منتهى الاعمار) والمعنى
أن عيون النساء الشبيهة بقطع البقر من الوحش جالبات للموت والعشق قتال للانسان.
(وأما مختلفان)
بان يكون أحد اللفظين مفردا والآخر جمعا (نحو فلان طويل النجاد وطلاع النجاد) فأن (الاول
مفرد) وقدم تقدم معناه في بحث الكناية (والثاني جمع نجد وهو ما أرتفع من الارض)
هذا كله اذا كان الجناس بين الاسمين وأما مثال ما اذا كان الجناس بين الفعلين نحو
فيد قال لدى القوم وقال لهم كذا وكذا فأن الاول من القيلولة والثاني من القول وما
اذا كان بين الحرفين نحو قد يجود الكريم وقد يعثر الجواد فأن قد الاولى للتكثير
والثانية للتقليل فالمعنى مختلف مع اتفاق اللفظين في نوع الحرفية وفي جميع ما مر.
(وان كان
اللفظان المتفقان فيما ذكر) أي في أنواع الحروف وفي أعدادها وهيئاتها وفي ترتيبها (من
نوعين) أي من (اسم وفعل او أسم وحرف أو فعل وحرف) فحينئذ (يسمى) الجناس التام (مستوفى)
وذلك لاستيفاء كل من اللفظين أوصاف الآخر وان أختلفا في النوع (فالاسم والفعل
كقوله أي قول أبي تمام) في مدح يحيى بن عبد الله البرمكي :
ما مات من
كرم الزمان فانه
|
|
يحيى لدي
يحيى بن عبد الله
|
(لأنه كريم يحيى الكرم ويجدده) ما
الاولى موصولة في محل رفع على الابتداء وخبره جملة فأنه الخ ومن كرم الزمان بيان
لما وحاصل المعنى أن ما ذهب عن أهل الوقت من كرم الزمان الماضي فصار كالميت في عدم
ظهوره فأن ذلك الميت يحيا أي يظهر ويتجدد عند يحيى بن عبد الله يعني ان كل كرم
أندرس فأنه يظهر ويتجدد عند هذا الممدوح فقذ أطلق الموت على الذهاب والاندراس
مجازا ومحل الشاهد قوله فأنه يحيا لدى يحيى فأن الاول فعل والثاني اسم رجل.
أما الجناس بين
اسم وحرف فهو نحو رب رجل شرب رب رجل آخر فرب الاولى جر والثانية اسم العصير
المعلوم وبين حرف وفعل نحو علا زيد على قومه أي ارتفع عليهم فعلى الاولى فعل
والثانية حرف جر.
(وأيضا تقسيم
آخر للتام وهو انه ان كان أحد لفظيه أي لفظي التجنيس التام مركبا) من كلمتين أو من
كلمة وجزء كلمة وسيأتي بيان ذلك (والآخر مفردا سمي جناس التركيب وبعد ان يكون
التجنيس جناس التركيب فأن أتفقا أي لفظا التجنيس اللذان احدهما مركب والآخر مفرد
في الخط) زائدا على ما ذكر وذلك بأن يكون ما يشاهد من هيئة مرسوم المركب مثل ما
يشاهد من مرسوم المفرد (خص هذا النوع من جناس التركيب بأسم المتشابه) وذلك لتشابه
اللفظين في الكتابة كما تشابها في أنواع الاتفاقات المتقدمة غير الاسمية والفعلية
والحرفية والى بعض ما ذكرنا أشار بقوله (لاتفاق لفظيه في الخط أيضا) أي كما اتفقا
فيما ذكر مما تقدم بيانه (كقوله أي قول أبي الفتح البستي اذا ملك لم يكن ذاهبة أي
صاحب همة فدعه) أي اتركه وأبعد عنه (فدولته ذاهبة) أي (غير باقية).
والشاهد في
ذاهبة الاول والثاني فالاول مركب من ذا بمعنى صاحب وهبة وهي فعلة من وهب والثاني
مفرد اذ هو اسم فاعل المؤنث من ذهب وكتابتهما متفقة في الصورة فالجناس بينهما
متشابهة (وكقول أبي العلاء) المعري :
(مطايا مطايا وجدكن منازل
|
|
منأزل عنها
ليس عني بمقلع)
|
وأما الشاهد (فمطا
فعل ماض ويا حرف نداء ومطايا) جمع مطية (منادي والا أي وان لم يتفق اللفظان اللذان
احدهما مفرد والآخر مركب في الخط خص هذا النوع من جناس التركيب بأسم المفروق لأفتراق
اللفظين في الخط كقوله أي قول أبي الفتح البستي) :
كلكم قد أخذ
الجام ولا جام لنا
|
|
ما الذي
ضرمدير الجام لوجا ملنا
|
(اي عاملنا بالجميل) أي انه لا ضرر
عليه في معاملتنا بالحميل بأن يديره علينا كما أداره عليكم والاستفهام في قوله ما
الذي الخ اسكاري فيه عتاب على الحاضرين في المجلس وتحسر على حرمانه من الشرب.
وأما الشاهد
فاللفظ الاول من المتجانسين وهو جام لنا مركب من اسم لا وخبرها وهو المجرور مع حرف
الجز والثاني مركب من فعل ومفعول لكن عدوا الضمير المنصوب المتصل كما بين في علم
الصرف بمنزلة جزء الكلمة فصار المجموع في حكم المفرد ولذلك صح التمثيل به لمفرد
ومركب وإلا كانا مركبين.
(فأن قلت يدخل
في قوله والاخص بأسم المفروق ما يكون اللفظ المركب مركبا من كلمة وبعض كلمة كقول
الحريزي) :
ولا تله عن
تذكار ذنبك وابكه
|
|
بدمع يضاهي
الوبل حال مصابه
|
ومثل لعينيك
الحمام ووقعه
|
|
وروعة ملقاه
ومطعم صابه
|
(فالثاني مركب
من صابه والميم من مطعم والصاب عصارة شجرة مرة والمصاب الاول بالفتح مفعل من صاب
المطر اذا نزل وهما غير متفقين في الخط) لأن الميم من الثاني يكتب منفصلا من صابه (فهل
يسمى مفروقا).
قلت لا اذ يجب
في المفروق ان لا يكون المركب مركبا من كلمة وبعض كلمة) أخرى فأن كان كذلك أي
مركبا من كلمة وبعض كلمة أخرى كما في المثال المتقدم أي قول الحريري فيخص بأسم
المرفو من رفا الثوب جمع ما تقطع منه بالخياطة فكأنه رفيء ببعض الكلمة فأخذ الميم
من طعم ورفى بها صحب فصار مصاب وقد تقدم في الباب الثامن عند قول الخطيت ومنهأ
الاقتران كقولهم للمعرس بالرفاء والبنين معنى آخر للرفا قريبا من هذا المعنى فراجع
ان شئت.
(والتقسيم)
الصحيح الشامل لجميع الاقسام أن يقال (أن المركب أن كان مركبا من كلمة وبعض كلمة
سمي التجنيس مرفوا) كما في قول الحريري المتقدم (وإلا) يكن مركبا من كلمة وبعض
كلمة (فهو اما متشابه) أن اتفق اللفظان في الخط أي تشابها فيه كما في قول البستي
المتقدم (أو مفروق) ان لم يتشابها في الخط بل افترقا فيه كما في قول الاخير للبستي
أعني كلكم قد أخذ الجام الخ (صرح بذلك) الخطيب (في الايضاح ففي عبارة) هذا (الكتاب
تسامح) اذ يرد عليها السؤال المذكور في ان قلت فيحتاج الى الجواب المذكور مع كونها
غير وافية بجميع الاقسام.
ومن أمثلة
المفروق قول الشاعر الفارسي :
أمروز شاه
انجمن دلبران يكيست
|
|
دلبر اگر
هزار بود دل بران يكيست
|
(هذا) التقسيم المتقدم للجناس
التام الذي ذكر اقسامه انفا (إذا كان اللفظان متفقين) في أمور أربعة أي (في أنواع
الحروف واعدادها
وهيئاتها وترتيبها) كما في الامثلة المتقدمة للاقسام المذكورة (وان لم
يكونا) أي اللفظان (متفقين في ذلك) المذكور من الامور الاربعة (فهو أربعة اقسام)
يختص كل قسم منها بأسم يأتي بيانه في المتن الآتي.
(لأن عدم
الاتفاق في ذلك) المذكور من الامور الاربعة (أما أن يكون بالاختلاف في أنواع
الحروف) فقط مع الاتفاق في الثلاثة الأخر (أو في اعدادها) فقط كذلك (أو في هيئاتها)
فقط كذلك (أو في ترتيبها) فقط كذلك.
وإنما قيدنا
الاختلاف بواحد من الامور الاربعة المذكورة مع الاتفاق في الثلاثة الأخر (لأنهما)
أي اللفظان (لو أختلفا في أثنين من ذلك) المذكور من الأمور الاربعة (أو أكثر) يعني
في الثلاثة فقط (حتى لم يبق الاتفاق إلا في النوع والعدد) دون الهيئة والترتيب
كبرح بفتح الباء بمعنى ذهب وربح بكسر الباء (مثلا) أو في النوع والهيئة دون العدد
والتركيب كقبر ورقبة أو في النوع والترتيب دون العدد والهيئة كرجم ورجيم أو في
العدد والهيئة دون النوع والترتيب كرحم وحمق أو في العدد ؤ التركيب دون النوع
والهيئة كضرب وشرف أو في الترتيب والهيئة دون النوع والعدد كاستمد بتشديد اللام
ومر بتشديد الراء.
هذه الصور ألست
كلها فيما كان الاختلاف في اثنين من الامور الاربعة أما لو اختلف اللفظان في أكثر
من اثنين من الامور الاربعة حتى لم يبق الاتفاق إلا فيما أشار اليه بقوله (أو في
الهيئة) فقط دون النوع والعدد والترتيب فذلك نحو ضرب وانغمس (أو) في (العدد فقط)
دون دون الهيئة والنوع والترتيب كأكل وشرف أو في الترتيب فقط دون النوع والهيئة
والعدد كأكل وناصر فتأمل.
(لم يعد ذلك)
المذكور من الصور التي ذكرنا أمثلتها وان كان في بعضها تامل (من باب التجنيس لبعد
التشابه) الجناسي (بينهما) أي بين اللفظين وذلك ظاهر اذ لو لا ذلك لم يخل غالب
الالفاظ من الجناس ويلزم أن يقدر عليه كل أحد من غير الفصحاء لأن التشابه في حرف
واحد مع الاختلاف في اثنين فأكثر كثير وذلك مثل نصر ونكل ومثل ضرب وفرق ومثل ضرب
وسلب فالاولان أشتركا في الاول فقط والثانيان أشتركا في الوسط والثالثان أشتركا في
الآخر وليس شيء من ذلك من التجنيس (فلهذا) الذي بينا من انه لو كان الاختلاف في
اثنين أو أكثر (حصر) الخطيب (المذكور) بقول التفتازاني وان لم يكونا متفقين في ذلك
(في الاقسام الاربعة) التي يذكرها الخطيب بقوله (وان أختلفا وهو) جملة شرطية (عطف
على الجملة الاسمية أعني قوله) فيما تقدم (والتام منه أن يتفقا) ولا مانع منه اذ
قد تقدم في الباب الثاني قبيل بحث لو أن تعاطف الشرطية وغيرها كثير في الكلام قال
الله تعالى (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف (لا يُنْصَرُونَ) على مجموع الشرط والجزاء وقال الله تعالى (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) عطف الشرطية على (قالُوا).
(أو) يقال حفظا
للتناسب بين الجملتين المتعاطفتين انه عطف (على مقدر أي هذا أن اتفقا فيما ذكر) من
الامور الاربعة (وان أختلفا أي لفظا المتجانسين) فيكون من عطف جملة فعلية على جملة
فعلية فيحصل التناسب (في هيئة الحروف فقط وأتفقا في النوع والعدد والترتيب سمي
التجنيس محر فالانحراف هيئة أحد اللفظين عن هيئة الآخر والاختلاف قد يكون في هيئة
الحركة كقولهم جبة) بضم الجيم (البرد) بضم الباء ثوب
معروف (جنة)
بفتح الجيم (البرد) بفتح الباء خلاف الحر (والمراد) أي الشاهد (لفظ البرد بالضم
والبرد بالفتح وأما لفظ الجبة والجنة فمن التجنيس اللاحق) وسيأتي بيانه عنقريب.
(ونحوه أي نحو
قولهم جبة البرد جنة البرد في كونه من التجنيس المحرف و) في (كون الاختلاف في
الهيئة فقط قولهم الجاهل أما مفرط) بسكون الفاء وكسر الراء المسرف في الشيء
والمجاوز عن ألحد (أو مفرط) بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها المقصر في الشيء
ومضيعة.
وإنما جعلناه
من الجناس المحرف مع كون اللفظين غير متفقين في العدد حيث أن الاول اربعة أحرف
والثاني خمسة بزيادة راء مدغمة (لأن الراء) المدغمة (من مفرط وان كان مشدد أو
المشددة حرفان وهذا يقتضي أن يكون مفرط) بتخفيف الراء (ومفرط) بتشديد الراء (مختلفين
في عدد الحروف) كما أوضحناه (لكن لما كان الحرف المشدد يرتفع اللسان عنهما دفعة
واحدة كحرف واحد عد حرفا واحدا) كما بين ذلك في شرح النظام في أول بحث التقاء
الساكنين (فكأنه) أي الحرف المشدد (في الصورة حرف واحد زيدت فيه كيفية) يعني
التشديد (والى هذا أشار بقوله والحرف المشدد في هذا الباب) أي باب التجنيس (في حكم
المخفف) أي في حكم الحرف الواحد لوجهين احدهما ما ذكرنا من أن المشدد يرتفع اللسان
عنهما دفعة واحدة والآخر انهما في الكتابة شيء واحد وعلامة التشديد منفصلة فجعلا
كالحرف الواحد فلهذا جعل من التجنيس الذي لم يقع الاختلاف إلا في الهيئة لا في
العدد.
(فعلى هذا
الراء من مفرط) بتخفيف الراء (مكسور كالراء من مفرط) بتشديد الراء (والاختلاف
بينهما في الهيئة فقط وهو) أي الاختلاف في الهيئة أن الفاء من الاول ساكن ومن
الثاني متحرك وهذا) الاختلاف الذي
هو السكون والحركة في الفاء (غير) الاختلاف (الاول) الذي هو بالحركتين في
الباء في قولهم جبة البرد جنة البرد فان الاختلاف فيه في حركة الباء فان الباء في
الاول مضموم وفي الثاني مفتوح.
(وغير)
الاختلاف الذي في (قولهم) في مقام التحذير من البدعة وهو إدخال ما ليس من الدين أو
لم يعلم انه من الدين في الدين وبعبارة أخرى الحدث في الدين بعد كماله فيقولون في
مقام التحذير من ذلك (البدعة شرك الشرك) الاول كما سيصرح به بفتح الشين معناه شبكة
الصياد والثاني بكسرها الكفر بالله تعالى وحاصل المعنى ان اتخاذ البدعة ديدنا وءدة
يؤدي الى الوقوع في الكفر بالله تعالى كما أن نصب الشبكة للصيد يؤدي عادة لوقوع
الصيد فيها.
وإنما كان
الاختلاف في مفرط ومفرط غير الاختلاف في شرك الشرك لأن الاختلاف في مفرط ومفرط
بالحركة والسكون فقط والاختلاف شرك الشرك بالحركتين أي حركة الشين في الاول اعني
شرك وحركة الشين في الشرك وبالحركة والسكون أيضا أي حركة الراء في الاول وسكونها
في الثاني والحاصل انه أجتمع في شرك الشرك اختلافان اختلاف في ألحركتين وأختلاف في
الحركة والسكون ومن البديهي أن الاختلاف بالسكون لا يمكن اذ هو لا يختلف كالحركة.
والى هذا أشار
بقوله (وقد يكون الاختلاف في الحركة والسكون) أيضا (كقولهم البدعة شرك الشرك)
فأجتمع فيه اختلافان أحدهما الأختلاف في الحركة (فأن الشين من الاول) يعني شرك (مفتوح
ومن الثاني) يعني الشرك (مكسور) (و) الثاني أن (الراء من الاول مفتوح ومن الثاني
ساكن).
فتحصل من مجموع
ما أوضحناه أن الاختلاف في الاول اعني جبة البرد جنة البرد بالحركتين وفي الثاني
أعني مفرط ومفرط بالحركة والسكون وفي الثالث أجتمع الأمران فتدبر جيدا والله
المستعان.
الى هنا كان
الكلام في القسم الاول من الاقسام الاربعة التي أشار إليها التفتازاني اليها بقوله
فيما سبق فلهذا حصر المذكور في الاقسام الاربعة.
وأما القسم
الثاني فهو ما ذكره بقوله (وان أختلفا في اعدادها أي وان اختلف لفظا المتجانسين في
أعداد الحروف بان يكون حرف احدهما أكثر من الآخر بحيث اذا حذف الزائد انفقا في
النوع والهيئة وألترتيب) فحينئذ (سمي الجناس ناقصا لنقصان أحد اللفظين عن الآخر
وهو ستة أقسام لأن) الحرف (الزائد أما حرف واحد أو اكثر وعلى التقديرين فهو) أي الزائد
(أما في الاول) أي في اول اللفظ او) في (الوسط أو) في (الآخر) فيحصل من ضرب
الاثنين في الثلاثة ستة (لكن اللخطيب لم يمثل من اقسام المزيد الاكثر إلا بالمزيد
آخر فالمذكور من الاقسام أربعة.
(والى هذا)
المذكور من الاقسام (أشار بقوله وذلك الاختلاف أما بحرف واحد في الاول مثل قوله
تعالى (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)) فالميم في المساق زائد في اول اللفظ والباقي مجانس
للساق.
(أو في الوسط
نحو جدي) بتشديد الدال (جهدي) فالهاء زائد في الوسط والباقي مجانس لجدي اذ لا عبرة
بتشديد الدال لما تقدم انفا أن المشدد في هذا الباب في حكم المخفف.
وفي معنى
المثال احتمالان احدهما ان يكون المعنى ان جدي أي حظي
ونصيبي من الدنيا مجرد اتعاب نفسي في المكاسب من غير وصول الى ما أريد
فيكون تشكيا وأخبارا بأنه لا يحصل من السعي وتحمل المشقة في طلب الدنيا الى شيء
يفيد وقريب من هذا المعنى ما قاله الشاعر الفارسى :
مدتي در طلب
مال جهان كردم سعى
|
|
چون در آخر
خبرم شد كه ز نفعش ضرر است
|
وكذا قول الآخر
:
دنيا طلبيديم
وبجائي نرسيديم
|
|
ايا چه شود
آخرت ناطلب ما
|
والاحتمال
الثاني أن يكون المعنى أني عصلمي لأعظامي لأن حظي ونصيبي من الدنيا والفضل والكمال
الحاصل لي أو غناي فيها إنما هو بمشقتي وجهدي لا بالوراثة من الاب والجد كبعض
ابناء زماننا فيكون أخبارا بأنه تحمل المشقة في تحصيل الفضل والكمال أو الغنى وانه
ليس ممن يكتفي بكونه ابن فلان فلا يسعى في تحصيل الفضل والكمال أو المال وقريب من
هذا المعنى ما قاله الشاعر الفارسى :
فرزند هنر
باش نه فرزند پدر
|
|
فرزند هنر
زنده كند نام پدر را
|
وكذا قول الآخر
:
گيرم پدر تو
بود فاضل
|
|
از فضل پدر
تو را چه حاصل
|
(أو) الحرف الزائد (في الآخر كقوله
أي قول أبي تمام) :
يمدون من أيد
عواص عواصم
|
|
تصول بأسياف
قواض قواضب
|
الصولة هي
القهر بطريق البطش والصولة أيضا الوثوب وكلاهما مناسب هنا (من في من أيد) متعلق
بمحذوف وجوبا (صفة موصوف محذوف أي يمدون سواعد من أيد).
ولا يذهب عليك
أن ما ذكره التفتازاني ههنا مخالف لما ذكره أخذا
من كلام الرضى في أول بحث ايجاز الحذف من أن الصفة اذا كانت جملة او ظرفا
أو جارا ومجرورا كما صرح بذلك الرضى لا يحذف موصوفها إلا بشرط ان يكون الموصوف بعض
ما قبله من المجرور بمن او بفى وجه المخالفة أن الموصوف ههنا ليس مجرورا بمن ولا
بفى بل منصوب بيمدون.
(او) كلمة من (زائدة
على مذهب الاخفش) حيث جوز زيادة من في الانبات خلافا لجمهور النحويين صرح بذلك
السيوطي عند قول الناظم في باب حروف الجر :
وزيد في نفي
وشبه فجر
|
|
نكرة كما
لباغ من مفر
|
أو للتبعيض
مثلها) أي مثل كلمة من (في قولهم هز من عطفه) أي هز بعض عطفه لأن العطف الشق
والعضو المهزوز الكتف مثلا وهز العطف كناية عن السرور لأن المسرور والفرح يهتز
بسرب السرور والفرح.
(وبالجملة هو)
أي من أيد (الواقع موقع مفعول يمدون وعواص جمع عاصيه) ماخوذ (من عصاه) وهو في
الأصل بمعنى (ضربه) بالعصا والمراد هنا ضربه (بالسيف) وقيل مأخوذ من العصيان وهو
خلاف الطاعة فالمعنى أن تلك الايدي عاصية للاعداء والمراد توصيف تلك الايدي بالشدة
والقوة لأنها لقوتها عاصية لا تطيع من أراد منعها من البطش على الاعداء.
(و) اما
للاصدقاء فهي (عواصم) مأخوذ (من عصمه) بمعنى (حفظه وحماه) فالمعنى قريب من قوله
تعالى في وصف المؤمنين (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
(وقواض) جمع
قاضية مأخوذ (من قضا عليه) أي (حكم) عليه يعني أن تلك الايدي حاكمات على الاعداء
بالهلاك والدمار (وقواضب) جمع قاضبة مأخوذ (من قضبه) أي قطعة يعني أن تلك الايدي
قاطغة لرقاب
الاعداء قاتله لهم.
فالمتحصل من
معنى البيت انهم (اي) الممدوحين (يمدون للضرب يوم الحرب أيد ضاربات للاعداء حاميات
للاولياء صائلات على الاقران بسيوف حاكمة بالقتل قاطعة) للرقاب.
(وربما يسمى
هذا القسم الذي تكون زيادة الحرف في الاخر مطرفا) أيضا كما انه يسمى ناقصا وانما
يسمى بذلك لتطرف الزيادة فيه أي لكونها في الطرف أي في الآخر.
(ووجه حسنه انه
يوهم قبل ورود آخر الكلمة كالميم في من عواصم) أو الباء من قواضب (انها) أي الكلمة
أي عواص من عواصم وقواض من قواضب (هي) نفس (الكلمة التي مضت وإنما اتى بها تأكيدا)
لفظيا (للاولى حتى اذا تمكن آخرها) أي الميم من عواصم أو الباء من قواضب (في نفسك
ووعاه سمعك أنصرف عنك ذلك التوهم) فتعرف انها ليست تأكيدا للاولى بل هي كلمة أخرى
أتى بها لمعنى آخر (وحصل لك فائدة بعد اليأس منها) أي من الفائدة فهي كنعمة غير
مترقبة.
الى هنا كان
الكلام في الاقسام الثلاثة التي كان المزيد فيها حرة واحدا وأما ما كان الزيادة
باكثر من حرف واحد فأشار اليه بقوله (وأما بأكثر) وهو (عطف على قوله أما بحرف)
واحد (و) قد أشرنا أنفا أن الخطيب (لم يذكر منه) أي مما كان الزيادة بأكثر (إلا
قسما واحدا وهو ما يكون الزيادة في الآخر) وذلك أما لعدم اطلاعه على مثال للقسمين
الباقيين أو للاختصار فعليك بالتتبع لعلك تظفر على مثال لهما وإنما ذكر قسما واحدا
لأجل بيان اسمه فتأمل.
(كقولها أي قول
الخنساء) أخت ضحر في رد كلام من لامها في كثرة
البكاء عليه فانها كما روى بكت عليه حتى أبيضت عيناها.
يا عين جودي
بالدمو
|
|
ع المستسهلات
السوافح
|
ان البكاء هو
الشفا
|
|
ء من الجوي
بين الجوانح
|
والشاهد في (من
الجوي أي حرقة القلب وبين الجوانح) اذ الجوأنح زيد في آخره حرفان وهما النون
والحاء فاذا أسقطتهما صار الباقي مساويا للجوي فكان من الجناس الناقص (وربما يسمى
هذا الذي يكون) الزيادة (باكثر من حرف) واحد (مزيلا) لأن الزيادة كانت في آخره
كالذيل ولا يذهب عليك أن الظاهر من وجه التسمية أن الضمير في قول الخطيب يسمى
مذيلا يجب ان يعود الى خصوص هذا القسم المذكور لا الى مطلق ما كان المزيد فيه
حرفان سواء كانا في الاول أو الوسط أو الآخر فما فعله التفتازاني من ارجاع الضمير
الى المطلق لا يخلو من اشكال بل منع فتأمل جيدا.
الى هنا كان
الكلام في القسم الثاني من الاقسام الاربعة التي أشار إليها التفتازاني بقوله فيما
سبق فلهذا حصر المذكور في الاقسام الاربعة.
وأما القسم
الثالث فهو ما ذكره بقوله (وان أختلفا في انواعها أي ان اختلف لفظا المتجانسين في
أنواع الحروف فيشترط أن لا يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد وإلا لبعد بينهما
التشابه فيخرجان عن التجانس كلفظي نصر ونكل) فيما كان الحرف المشترك فيه في الاول (و)
مثل (لفظي ضرب وفرق) فيما كان الحرف المشترك فيه في الوسط (و) مثل (لفظي ضرب وسلب)
فيما كان الحرف المشترك فيه في الآخر فاللفظان في كل واحد من هذه الامثلة الثلاثة
لا يعدان متجانسين لأن الاختلاف فيهما بأكثر من حرف واحد.
(ثم الحرفان
اللذان وقع فيهما الاختلاف) حالكون أحدهما في أحد اللفظين والآخر في الآخر (ان
كانا متقاربين في المخرج) بان كانا حلقين أو شفويين أو من الثنايا العليا فالمراد
من التقارب الاتحاد في المخرج وقد بينا في المكررات في باب الامالة مخارج الحروف
مستقصى فراجع إن شئت (سمى هذا الجناس مضارعا) أي مشابها وإنما سمي بذلك لمشابهة كل
واحد من الحرفين المختلفين للآخر في المخرج حسبما يأتي بيانه في الأمثلة الآتية.
(وهو) أي
الجناس الذي يسمى مضارعا (ثلثة أضرب لأن الحرف الاجنبي) أي المخالف لمقابله (أما
في الاول) أي في اول اللفظين (نحو بيني وبين كنى) معنى الكن في الاصل الستر
والمراد هنا البيت أو المنزل يعني بيني وبين منزلي أو بيتي (ليل دامس) الدامس
الشديد الظلمة (وطريق طامس) الطامس الداثر المطموس العلامات الذي لا يتبين فيه أثر
يهتدي به والشاهد فيه أن الدال في دامس والطاء في طامس حرفان مختلفان إلا إنهما
متقاربان في المخرج لأن مخرج كل واحد منهما اللسان مع اصل الاسنان وقد وقعا في اول
اللفظين.
(أو في الوسط)
أي في وسط اللفظين المتجانسين (نحو قوله تعالى (يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)) والشاهد في (يَنْهَوْنَ) و (يَنْأَوْنَ) فأن الهمزة والهاء حرفان مختلفان إلا إنهما متقاربان في
المخرج اذ كل واحد منهما من حروف الحلق وقد وقعا في الوسط.
(أو في الآخر)
أي في آخر اللفظين (نحو قوله (ص) الخيل معقود في نواصيها الخير) الى يوم القيامة
والشاهد في اللام من الخيل وألرأء من الخير فأنهما حرفان مختلفان إلا إنهما
متقاربان في المخرج لأن مخرج كل واحد منهما الحنك واللسان وقد وقعا في آخر اللفظين
المتجانسين.
(وإلا أي وان
لم يكن الحرفان متقاربين سمي) الجناس (لا حقا) لأن كل واحد من اللفظين ملحق بالآخر
في الجناس بأعتبار أكثر الحروف.
(وهو) أي أي
الحرف الذي وقع فيه الاختلاف بلا تقارب في المخرج (أيضا) مثل الحرف الزائد في
الجناس الناقص (أما في الاول) أي في اول اللفظين المتجانسين (نحو قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)) والشاهد في همزة ولمزة فان بينهما جناسا لا حقا لأن
الهاء واللام مختلفان ومتباعدان في المخرج لأن الهاء من أقصى الحلق واللام من طرف
اللسان وقد وقعا في أول اللفظين المتجانسين.
(الهمز) في
الاصل (الكسر) في المحسوسات (واللمز الطعن) في المحسوسات وغيرها كذا قال بعض
الشراح (وشاع استعمالها) أي استعمال الهمز بناء على ما قال ذلك البعض وجعل بعض آخر
الهمز واللمز كليهما في الاصل مختصا بالمحسوسات وعليه جاء في بعض النسخ الضمير المضاف
اليه لأستعمال تثنية وكذا قال هذا البعض الاخير أي قال وشاع استعمالهما أي استعمال
الهمز واللمز (في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم).
والحاصل أن على
قول البعض الاول الهمز فقط مجاز في الكسر من أعراض الناس لأنه في الاصل موضوع
للكسر في المحسوسات فقط فأستعماله في كسر الاعراض استعمال في غير ما وضع له وأما
اللمز فهو باق على حقيقته أي المعنى العام وهو الطعن في المحسوسات وغيرها
فأستعماله في غير المحسوس أي الاعراض استعمال في الموضوع له وأما على قول البعض
الاخير استعمال اللمز في غير المحسوسات أعني الاعراض مجاز كأستعمال الهمز فيها.
هذا والتحقيق
أن الصحيح ما في النسخة التي جاء الضمير فيها تثنية
إذ في صورة أفراد الضمير يحتاج تأنيث الضمير الراجع إلى الهمز إلى تكلف
وتعسف فالصحيح أن الهمز واللمز في الاصل للكسر والطعن في المحسوسات فقط ثم شاع
استعمالهما مجازا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم.
قال الطريحي
الهمز واللمز العيب والعض من الناس ومنه قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال الليث الهمزة هو الذي يعيبك بوجهك واللمزة الذي
يعيبك بالغيب.
وقيل اللمز ما
يكون باللسان والعين أو الاشارة والهمز لا يكون إلا باللسان وقال غيره هما شيء
واحد ثم قال ولعل هذا أي ورود قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) في غير الفاسق أما فيه فلا لما روى عنه (ص) أذكروا
المرء بما فيه ليحترزه الناس انتهى.
قال الراغب همز
الانسان اغتيابه يقال رجل هامز وهماز وهمزة واللمز الاغتياب وتتبع المعايب ورجل
لماز ولمزة كثير اللمز انتهى بأختصار والتاء في همزة ولمزة على ما قال أبو البقاء
للمبالغه (و) لعله من هنا يقول التفتازاني (بناء فعلة) بضم الفاء وفتح العين (يدل
على الاعتياد) واللزوم (ولا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود) وبعبارة أخرى لا
يقال إلا لمن كان ملازما للضحك واللعن بحيث صار عادة له لا لمن وقع منه ذلك في
الجملة.
(أو في الوسط
نحو قوله تعالى (ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ)) ف (تَفْرَحُونَ) و (تَمْرَحُونَ) بينهما جناس الالحاق لاتفاق نوع حروفهما إلا الفاء
والميم وهما غير متقاربين في المخرج هذا ما أراده الخطيب في المقام ولكنه لا يتم
إلا على رأي من لم يجعل مخرج
الفاء كمخرج الميم ما بين الشفتين وأما على رأي من يجعل مخرجها باطن الشفة
السفلى وطرف الثنايا ومخرج الميم ما بين الشفتين فلا وقد بينا الاختلاف في مخرج
الفاء في المكررات في باب الامالة فزاجع إن شئت.
ولأجل هذا
الاختلاف قال التفتازاني (والاولى أن يمثل بقوله تعالى (إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)) لأن الهاء والدال غير متقاربين مخرجا بالاتفاق لأن
مخرج الهاء كما بينا هناك عند الجميع في الحلق بعد الهمزة وقبل الالف وبعضهم يقول
بالعكس يعني مخرج الهاء بعد الالف وقد يقال الالف والهاء مخرجهما واحد وعند بعض
هذان الحرفان لا مخرج لهما الاهواء الفم.
واما مخرج
الدال كما بينا أيضا هناك فوق طرف اللسان وأصول الثنايا عند الجميع فراجع إن شئت.
والى وجه
الأولوية والأختلاف المذكور أشار التفتازاني بقوله (لأن في عدم تقارب الفاء والميم
الشفويتين نظر) يظهر وجهه مما أوضحناه فتدبر جيدا.
(أو في الآخر
نحو قوله تعالى (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ)) فالأمر والأمن متفقان إلا في الراء والنون وهما غير
متقاربين مخرجا هذا ما أراد الخطيب في المقام لكن الكلام في مخرج الراء والنون
كالكلام في مخرج الفاء والميم من حيث الاختلاف فأن مخرج الراء عند الجمهور كما بين
هناك قريب من مخرج اللام مما يلي طرف اللسان الى منتهاء وما فوق ذلك الحنك وللنون
منهما وما يليهما بعد مخرج الراء وقال بعضهم مخرج الراء هو مخرج النون غير انه
أدخل في ظهر اللسان قليلا لأنحرافه الى اللا أي الراء مائل الى اللام فتدبر جيدا.
إلى هنا كان
الكلام في القسم الثالث وأما الرابع من الاقسام الاربعة المشار اليها بقول التفتازاني
فلهذا حصر المذكور في ألاقسام الاربعة فأشار الخطيب اليه بقوله (وان أختلف في
ترتيبها أي وان اختلف لفظا المتجانسين في ترتيب الحروف بأن يتفقا في النوع والعدد
والهيئة لكن قدم في أحد اللفظين من الحروف ما هو مؤخر في اللفظ الآخر) فحينئذ (سمي
هذا النوع) من الجناس (تجنيس القلب) لوقوع القلب أي عكس الحروف في أحد اللفظين
بالنظر الى الآخر.
(وهو) أي تجنيس
القلب (ضربان لأنه) الضمير للشان (أن وقع الحرف الآخر من الكلمة الاولى أولا من
الثانية والذي قبله ثانيا فهكذا) أي والذي قبل الثاني ثالثا وهكذا (على الترتيب)
أي ترتيب جميع حروف الكلمة الاولى والثانية (سمي) هذا الضرب (قلب الكل) لأنعكاس
ترتيب الحروف كلها (وإلا) أي وان لم يقع كذلك بل وقع الانعكاس في بعض حروف
الكلمتين (سمى) هذا الضرب (قلب البعض) ووجهه ظاهر (واليهما) أي الى مثال الضربين (أشار)
الخطيب (بقوله نحو حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه) الشاهد في فتح وحتف فأن الفاء
والتاء والحاء في كل واحد منهما وقعت بعكسها في الآخر والمثال مأخوذ مما (قال
الاحنف) في مدح سيف الممدوح ورمحه :
حسامك فيه
للاحباب فتح
|
|
ورمحك
للاعداء حتف
|
(ويسمى) هذا القسم (قلب كل) هذا أي
استعمال كل بدون الالف واللام أحسن من استعماله معهما لأن كل لا يدخل عليه الالف
واللام إلا عند المولدين وهكذا لفظ البعض.
(و) الضرب
الثاني (نحو اللهم أستر عوراتنا وأمن روعاتنا) فأن
الانعكاس انما وقع في العين والواو وحدهما وأما الالف والتاء والنون فأنها
في محالها فتدبر تعرف (ويسمى) هذا الضرب (قلب بعض) والوجه فيه ظاهر.
(واذا وقع
أحدهما أي أحد المتجانسين في اول البيت والمجانس الآخر في آخره) أي في آخر البيت (يسمى
تجنيس القلب حينئذ مقلوبا مجنحا) وإنما سمي بذلك (لأن اللفظين) اللذين وقع فيهما
القلب (كأنهما جناحان البيت) وقد علم من ذلك أن الجناس المقلوب لا يقع في النثر بل
مختص بالبيت وقد علم أيضا انه يحب في الجناس المقلوب المجنح أن يكون المتجانسين
منفصلين كقوله :
لاح أنوار
الهدى من
|
|
كفه في كل
حال
|
(واذا ولى أحد المتجانسين سواء كان
الجناس المقلوب أو غيره) لا خصوص الجناس المقلوب (ولذا) أي ولأجل هذا التعميم
الشامل لجميع الانواع السابقة لا خصوص جناس المقلوب (ذكره) أي ذكر المبحث (بالاسم
الظاهر دون المضمر) ولو كان مراد الخطيب خصوص جناس المقلوب لكان المناسب الأتيان
بالضمير وقد تقدم نظير هذا البيان في أول بحث التشبيه فتذكر.
(المتجانس
الآخر) حاصلة أن يكون المتجانسين كل واحد منهما متصلا بالآخر بحيث لا يفصل بينهما
شيء من الكلام وإنما أستفيد هذا المعنى من مادة ولي حسبما أشار اليه الجامي في أول
بحث المنصوب بلا التي لنفي الجنس عند قول ابن الحاجب يليها فراجع أن شئت.
فحينئذ (يسمى
الجناس مزدوجا ومكررا ومرددا) لأزدواج اللفظين تواليهما وتكرير احدهما بالآخر
وترداده به (نحو قوله تعالى حكاية عن
الهدهد (جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ
بِنَبَإٍ يَقِينٍ)) فسباء ونباء متصلان بحيث ليس بينهما فاصل وأما الباء
الجارة في بنباء فلا يعد فأصلا وكذا واو العطف في الامثلة الآتية.
وهذا كما صرح
به بعض المحققين كان مثالا للجناس اللاحق المزدوج لأختلاف اللفظين بحرفين غير
متقاربين في المخرج وهما السين والنون وذلك لأن مخرج السين كما بينا في المكررات
في الموضع المشار اليه انفا طرف اللسان والثنايا أي أنها تخرج من بين رأس اللسان
والثنايا من غير أن يتصل طرف اللسان بالثنايا.
وأما مخرج
النون فقال بعضهم بأتحاده مع مخرج السين وبعض آخر بأن مخرجها قريب مما يلي طرف
اللسان الى منتهاه وما فوق ذلك من الحنك.
وقد ظهر لك مما
أوضحناه أن كون المثال من قسم الجناس اللاحق المزدوج دون الجناس المضارع المزدوج
على ما صرح به بعض المحققين لا يتم إلا على بعض الاقوال في مخرج السين والنون
والله العالم بما أراده الخطيب من المثال.
(ونحو قولهم من
طلب شيئا وجد وجد) هذا كقوله تعالى (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) في كونه من الجناس الناقص الذي يكون الزائد حرفا واحدا
في الاول إلا انه يسمى ناقصا مزدوجا والزائد هنا الواو في وجد فعدد جد بالدال
المشددة انقص منه بحرف واحد في الاول والكلام في تشديد الدال يظهر مما تقدم في
الجناس المحرف.
(وقولهم النبيذ
بغير النغم غم وبغير الدسم سم) هذا أيضا مثال للجناس الناقص المزدوج والبيان
البيان إلا أن الزائد هنا في اللفظ الاول
وفي ذلك المثال في الثاني.
(و) أما جناس
الناقص المزدوج الذي يكون الزائد في الآخر فهو (مثل عواص عواصم وقواض قواضب) في
كون هذا المثال مما أستعمله العرب فضلا عن الفصحاء نظر بل منع.
وقد بقي من
الجناس الناقص المزدوج ما كان الزائد في الوسط وذلك كقولك الجد في الجهد.
(و) أما الجناس
المقلوب المزدوج فهو (كقولك حسامه للاولياء وللاعداء فتح وحتف وقد بقى مثالان
آخران احدهما الجناس التام المزدوج وهو كقولك تقوم الساعة في الساعة وثانيهما
الجناس المحرف المزدوج وهو كقولك هذه لك جبة وجنة من البرد للبرد.
(وقد يقال
التجنيس على توافق اللفظين في الكتابة ويسمى تجنيسا خطيا كقوله تعالى (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) هذا يتم بناء على ان النقطة ليست داخلة في كتابة الحروف
وتشخيصها كما كان كذلك في الخط الكوفي على قول ومن هنا جاء الاختلاف في تاريخ بعض
الوفيات هل هو سبعين بعد وفات النبي (ص) أو تسعين فتدبر جيدا.
(وكقوله (ص)
عليكم بالابكار فأنهن أشد حبا وأقل خبا وكقولهم) كان الواجب عليه أن يقول كقول
أمير المؤمنين علي عليهالسلام لأن هذا المثال على ما قاله الچلبي وغيره من المحققين
مما كتبه عليهالسلام الى معاوية (غرك غرك فصار قصار ذلك ذلك فأخش فاحش فعلك
فعلك تهدا بهذا).
والكلام في
المثالين في دخول النقطة في الكتابة وعدمه ما سبق.
(وقد يعد في
هذا النوع) الذي يسمى تجنيسا خطيا (ما لم ينظر فيه الى اتصال الحروف وانفصالها) بل
ينظر الى مجرد الصورة (كقولهم في مسعود) بعد تصحيفه أي تغيير لفظه وسنشير الى معنى
التصحيف بعد أسطر (متى يعود) فأن الياء من متى اذا تكتب متصلة بالياء من يعود يصير
متيعود فاذا نظرنا الى مجرد صورة الحروف مع قطع النظر عن اتصالها وانفصالها فهو
موافق لمسعود خطا اذا قلنا ان النقطة غير داخلة في الكتابة.
وبعبارة أخرى
في مسعود ثلاث سنات أي ثلاث ركزات بعد الميم وكذا في متى يعود اذا أتصل لفظ متى
بيعود فأنه يصير حينئذ متيعود وهو حينئذ موافق في الخط والكتابة لمسعود اذا لم
ينظر الى اتصال الحروف وانفصالها بعد اسقاط النقط حسبما بينا.
(و) كقولهم في
المستنصرية جنة) بعد تصحيفه (المسييء يضربه جنة) فأن لفظ المسييء من الفقرة
الثانية اذا أتصل بيضربه جنة توافق الفقرتان خطا إذا لم ينظر الى اتصال الحروف
وانفصالها.
قال الطريحي
التصحيف تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى وأصله الخطا يقال صحفه فتصحف أي غيره فتغير
حتى ألتبس انتهى.
(وقيل لفاضل
استنصح ثقة) أي اطلب النصحة ممن تعتمد عليه (ايش تصحيفه) أي أي شيء تصحيفه (فقال)
ذلك الفاضل (أتيت بتصحيفه) فأن لفظة الياء والفاء والهاء اذا أنفصلت من تصحيفه
واتصل الباقي بايش يصير الفقرة الثانية أعني ايش تصحيفه كالفقرة الاولى أعني
استنصح ثقة بعد القيدين المذكور.
وللتصحيف
حكايات مضحكة منها أن أحد اهل المنابر الذين يسمون
بالفارسى روضة خوان لم يكن له قدرة على قرائة خط الفارسى قال بالفارسى امام
حسين در روز عاشورا در خيمة بود خرچرب ميكرد وكان العبارة حرحرب ميكرد وقال آخر
بالفارسى سگان ملا علي بگريه در امدند وكان ملاء اعلى بگريه درآمدند وسمعت أحد
الطلاب يسئل من بغض الفضلاء ما معنى ذو اليد بفتح الذال والواو وكسر اللام وكان
العبارة بضم الذال وسكون الواو واللام ومثل هذه الحكايات وقع في كثير من العبارات
ولا سيما في الروايات المأثورة فلا تغفل وكن من المتفطنين.
قال بعض أهل
الدراية جناس التصحيف ان يتغير الشكل والنقط مثل يحسنون ويحسبون وجناس التحريف أن
يتغير الشكل مثل اللها واللهى وجناس التصريف أن يختلف اللفظين بحرف واحد مثل
تفرحون وتمرحون وجناس الترجيع أن يكرر بعض اللفظ نحو ربهم بهم خبير (ويلحق بالجناس)
في تحسين الكلام (شيئان) وان لم يكن فيهما جناس (احدهما أن يجمع اللفظين الاشتقاق)
بأن يكون اللفظان مشتقين من أصل واحد والمراد بالاشتقاق هنا الاشتقاق المعروف الذي
ينصرف اليه لفظ الاشتقاق عند الاطلاق وهو الاصغر (وهو توافق الكلمتين في) ثلاثة
أمور أحدها (الحروف الاصول) الثاني أن تكون تلك الحروف (مرتبة) بحيث لا يكون بين
الكلمتين اختلاف في ترتيب الحروف الاصول (و) الثالث (الاتفاق في أصل المعنى).
قال في مراح
الارواح الاشتقاق ان تجد بين اللفظين تناسبا في اللفظ والمعنى وهو على ثلاثة أنواع
صغير وهو أن يكون بينهما تناسب في الحروف والترتيب (والمعنى أيضا) نحو ضرب من
الضرب وإنما سمى صغيرا
لكفاية أدنى تأمل في معرفة المشتق منه وبه تعرف وجه التسمية في النوعين
الآخرين.
وكبير وهو أن
يكون بينهما تناسب في اللفظ (أي في الحروف) والمعنى دون الترتيب نحو جبذ من الجذب
فأنهما موافقتان في المعنى عند الاكثر.
قال في المصباح
جبذه جبذا من باب ضرب مثل جذبه جذبا قيل مقلوب منه لغة تميمية وأنكره ابن السراج
وقال ليس احدهما مأخوذا من الآخر لأن كل واحد متصرف في نفسه انتهى.
وأكبر وهو أن
يكون بينهما تناسب في المخرج (أي في المعنى أيضا لأن التناسب في المخرج تناسب في
الحروف بأعتبار المعنى) نحو نعق من النهق فأن الاول صوت الغراب والثاني صوت الحمار
فهما متنافي المعنى وأما تناسبهما في المخرج فظاهر اذ العين والهاء كلاهما من
الحلق انتهى بتوسيط كلام المصباح وزيادة منا للتوضيح.
(نحو قوله
تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)) (فَأَقِمْ) و (الْقَيِّمِ) يجمعهما الاشتقاق الصغير (فأنهما مشتقان من قام يقوم)
الاولى أن يقول من القيام وكيفكان فهما متوافقان في الامور الثلاثة المذكورة أي
الحروف الاصول والترتيب والمعنى.
(والثاني أن
يجمعهما أي اللفظين المشابهة) هذا المصدر من قبيل زيد عدل أي عادل فالمشابهة بمعنى
المشابه والى هذا أشار بقوله (وهو ما يشبه الاشتقاق وليس بأشتقاق) أي لا الصغير
ولا الكبير ولا الأكبر (وذلك بأن يوجد في كل) واحد (من اللفظين جميع ما يوجد في
الآخر من الحروف) كالمثال الآتي من التفتازاني على ما صح به بعض شراح المختصر
(أو أكثر) كالمثال الآتي من الخطيب (لكن لا يرجعان الى أصل واحد في
الاشتقاق) ولا تناسب أيضا بينهما في المعنى ويشترط أيضا ان يكون اللفظان بحيث
يتبادر منهما انهما مشتقان من أصل واحد كما في الاشتقاق وإنما اشترط ذلك لئلا يدخل
في هذا القسم نحو عواص وعواصم والجوى والجوانح فان في كل من لفظيهما أكثر ما في
الاخر من الحروف وكذا نحو الحتف والفتح فان في كل منهما مجموع ما في الاخر وليس من
الملحق في شيء لعدم كون اللفظين فيما ذكر على الوجه المذكور.
(نحو قوله
تعالى حكاية عن لوط (ع) (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ
مِنَ الْقالِينَ)) أي من الباغضين فان بين قال والقالين ما يشبه الاشتقاق
فأنه يتوهم في باديء الرأي وقبل التأمل انهما مشتقان من أصل واحد اعني القول مثل
قال والقائلين لكنهما ليسا كذلك (فان قال من القول والقالين من المقلى) على وزن
الرضا وقد يمد كالعداء (فالاول أجوف واوي والثاني ناقص يأتي لكنهما جامعان لأكثر
الحروف اعني القاف واللام.
(ونحو قوله
تعالى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا)) فأن لفظ الارض يوجد فيه جميع ما يوجد في أرضيتم من
الحروف فيتوهم من ذلك إنهما مشتقان من أصل واحد وهو توهم فاسد لأن الهمزة في أرضيتم
ليست اصلية بل هي استفهامية بخلافها في الارض فأنها فيه اصلية فليس بين الارض
وأرضيتم اتحاد في الاشتقاق لكنهما مشتركان في جميع الحروف وان لم يكن بعض الحروف
اعني الهمزة في أرضيتم أصلية لكن يرد حينئذ سؤال الفرق بين المثالين حيث جعل الاول
مثالا لما يجمع الاكثر والثاني لما يجمع الجميع فتأمل تعرف.
(وبهذا) أي
بكون الارض وأرضيتم من هذا القسم (يعرف أن ليس
المراد بما يشبه الاشتقاق الاشتقاق الكبير وذلك لأن الاشتقاق ألكبير) كما
نقلنا عن المراح (هو الاتفاق في الحروف الاصول من غير رعاية الترتيب مثل القمر
والرقم والمرق ونحو ذلك) مثل جبذ والجذب (والارض مع أرضيتم ليس من هذا القبيل) لأن
الهمزة في أرضيتم ليست أصلية بل هي استفهامية (وهو ظاهر) بحيث لا يحتاج الى
البيان.
(ومن أنواع التجنيس)
ما يقال له (تجنيس الاشارة وهو أن لا يظهر التجنيس باللفظ كقوله) :
حلقت لحية
موسى بأسمه
|
|
وبهرون اذا
ما قلبا
|
|
يجعل اللحية شيئا
عجبا
حلقت ماض مبنى
للمفعول ولحية نائب الفاعل أضيفت الى موسى والمراد بأسمه الالة التي يحلق بها
الشعر فأن تلك الالة أسمها أيضا موسى والحجر الذي يحد به تلك الالة اسمه عيسى صرح
بذلك في كتاب نصاب الصبيان حيث يقول بالفارسي (هست عيسى سنك موسى) وقلب هرون نورة
ولا عبرة بالالف الملفوظة في هرون فأنهم يعتبرون في امثال هذا رسم الخط والشاهد
فيه جناس الاشارة لأن اسمه اشارة الى تلك الالة وهي كما ذكرنا مجانس في الاسم
لموسى المذكور.
(ومنه أي من)
أنواع التحسين (اللفظي) لا من الجناس كما توهمه بعضهم صرح بما أوضحناه السكاكي (رد
العجز على الصدر) أي ارجاع العجز الى الصدر بأن ينطق بالعجز كما نطق بالصدر (وهو
في النثر أن يجعل أحد اللفظين المكررين أعني المتفقين في اللفظ والمعنى أو
المتجانسين اي المتشابهين في اللفظ دون المعنى أو الملحقين بهما أي بالمتجانسين
والمراد بهما) أي بالملحقين (اللفظان اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق)
وقد تقدم بيان كل واحد من هذه الاربعة انفا.
والحاصل أن
يجعل أحد هذه الاربعة (في أول الفقرة وقد عرفت) في بحث الارصار (معناها) أي معنى
الفقرة (و) يجعل (اللفظ الآخر) من اللفظين (في آخرها أي آخر الفقرة فيكون) رد
العجز الى الصدر في النثز (أربعة اقسام احدها أن يكون اللفظان مكررين نحو (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ
أَنْ تَخْشاهُ)) فوقع تخشى في أول هذه الفقرة وكرر في آخرها ولا يضر
اتصال الثاني بالهاء في كونه مثل الاول لأن الضمير المتصل كالجزء من الفعل لكون
المفعول به من تتمة الفعل المتعدى.
(والثاني أن
يكونا متجانسين نحو سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل الأول من السؤال والثاني من السيلان)
أي طالب المعروف من الرجل الموصوف باللأمة والرذالة يرجع من عند هذا الرجل اللئيم
والحال أن دمع هذا السائل يسيل لحرمان من العطاء ويحتمل ان يكون المعنى أن دمع
اللئيم يسيل وهذا المعنى أبلغ في ذم اللئيم لدلالته على أن اللئيم لا يطيق السؤال.
(والثالث أن يجمع
اللفظين الاشتقاق نحو) قوله حكاية عن نوح (ع) فقلت (اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) فبين استغفروا وغفارا اتحاد في الاشتقاق ولذلك الحقا
بالمتجانسين.
فأن قلت أن صدر
الآية فقلت لا استغفروا فلا يتم المثال قلت لم يعتبر في الآية لفظ فقلت فيما نحن
فيه قبل استغفروا لأن استغفروا هو أول الفقرة في كلام نوح (ع) والمعتبر فيما نحن
فيه هو اول الكلام في الاصل وأما فقلت فهو لحكاية الكلام الاول وقد تقدم في أوائل
الباب السابع في بحث كمال الانقطاع نظير هذا السؤال مع الجواب فراجع إن
شئت.
والرابع أن
يجمعهما شبه الاشتقاق نحو (قالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)) وقد تقدم الكلام فيه عنقريب فلا نعيده ولكن يجب ان
يعلم أن هذا المثال على العكس مما قبله لأنه اعتبر هناك رد العجز على الصدر في
المحكى وههنا في الحكاية وذلك ظاهر لا يحتاج الى البيان.
الى هنا كان
الكلام في النثر (وهو) حسبما بيناه كان أربعة اقسام وأما رد العجز على الصدر (في
النظم) فهو حسبما ياتي ستة عشر قسما لأنه اما (ان يكون أحدهما اي احد اللفظين
المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما) أي بالمتجانسين ويأتى عنقريب أن
الملحقين بهما قسمان فيصير صور اللفظين أربع (في آخر البيت واللفظ الاخر) من هذه
الصور الاربع (في صدر المصراع الاول أو حشوه أو آخره أو صدر المصراع الثاني) فهذا
أيضا أربع صور ويأتى عنقريب أن الحاصل من ضرب اربع الاول في الاربع الثانية ستة
عشر صورا (وأعتبر صاحب المفتاح قسما آخر) حتى يصير الصور عشرين صورة حاصلة من ضرب
أربع الاولى في خمسة (وهو) أي القسم الآخر الذي أعتبره صاحب المفتاح (أن يكون
اللفظ الآخر في حشو المصراع الثاني نحو) قولك في مدح عالم :
في علمه
وحلمه وزهده
|
|
وعهده مشتهر
مشتهر
|
لفظ المشتهر
الاول بفتح التاء اسم مفعول مأخوذ من أشتهره الناس وأما الثاني فهو أما كالاول
بالتاء المفتوحة كما هو كذلك في بعض شروح المختصر أو بالهاء المشددة المفتوحة اسم
مفعول من باب التفعيل كما هو
كذلك في بعض نسخ المطول الموجود عندي والمعنى على الالاول أن ذلك العالم
أشتهره الناس في تلك الصفات الاربع فكرر مشتهر وعلى الثاني أن ذلك العالم أشتهره
الناس في تلك الصفات الاربع فشهر بها أي صار مشهورا بها.
وكيفكان
فالشاهد على رأي صاحب المفتاح في ان المشتهر الاول وقع في حشو المصراع الثاني ووقع
الثاني في عجزه (و) لكن (رأي المصنف) أن (تركه) أي ترك هذا القسم الآخر الذي
أعتبره صاحب المفتاح (أولى اذ لا معنى فيه لرد العجز على الصدر اذ لا صدارة لحشو
المصراع ألثاني) بالنسبة إلى عجزه (أصلا) لأنه لو كان فيه صدارة بالنسبة لعجزه
لكان لحشو المصراع الاول أيضا صدارة بالنسبة لعجزه فيصير هذا أيضا من اقسام رد
العجز على الصدر والحال انه لم يقل به أحد.
(فالمعتبر عنده)
أي عند الخطيب (أربعة اقسام وهو أن يقع اللفظ الآخر) حسبما ذكر في المتن (في صدر
المصراع الاول أو حشوه أو عجزه أو صدر المصراع الثاني) فهذه أربعة (وعلى كل تقدير)
من هذه الاربعة (فاللفظان) حشما تقدم في كلام التفتازاني (أما مكرران أو متجانسان
أو ملحقان بهما) هذه ثلاثة فحينئذ (يصير) الاقسام (أثنى عشر) قسما (حاصلة من ضرب
أربعة في ثلاثة وبأعتبار أن الملحقين قسمان لأنه) الضمير للشأن (أما ان يجمعهما)
أي الملحقين (الاشتقاق او شبه الاشتقاق) فحينئذ يصير الثلاثة أربعة فحينئذ (تصير
الاقسام ستة عشر) قسما (حاصلة من ضرب أربعة في أربعة لكن المصنف لم يورد من شبه
الاشتقاق إلا مثالا واحدا) وهو كما يأتي عنقريب قول أبي العلاء لو أختصرتم من
الاحسان الخ ولم يذكر الاقسام الثلاثة الباقية من هذا القسم أما لعدم الظفر
بالامثلة الثلاثة
الباقية وأما اكتفاء بأمثلة الاشتقاق فبهذا الاعتبار أورد) المصنف (ثلاثة
عشر مثالا) والثلاثة الباقية يذكرها التفتازاني بعد الفراغ عن الامثلة الثلاثة عشر
التي ذكرها المصنف فأنتظر حتى تاتيك.
(أما ما يكون
اللفظان مكررين) شروع في ذكر الامثلة (فما يكون أحد اللفظ الآخر في صدر المصراع
الاول كقوله :
سريع الى ابن
العم يلطم وجهه
|
|
وليس الى
داعي الندى بسريع
|
والشاهد فيه
واضح لا يحتاج الى بيان وهو أول الاقسام من اللفظين المكررين.
(و) القسم
الثاني (ما يكون اللفظ الاخر في حشو المصراع الاول مثل قوله أي قول صمة بن عبد
الله القشيري :
تمتع من شميم
عرار نجد
|
|
فما بعد
العشية من عرار
|
(هي) أي العرار (وردة ناعمة صفراء
طيبة الرائحة (وموضع من عرار) أي محله (رفع على انه اسم ما) المشبهة بليس ويظهر من
ذلك أن بعد العشية منصوب محلا خبرها المقدم كما صرح بذلك في كتاب الشواهد وهو سهو
ظاهر لأن شرط عمل ما الحجازية بقاء الترتيب وهو منتف هنا صرج بالشرط ابن مالك في
قوله :
اعمال ليس
اعملت ما دون أن
|
|
مع بقا النفي
وترتيب ركن
|
اللهم إلا ان
يقال انه تبع في ذلك ابن عصفور فأنه لم يشترط بقاء الترتيب اذا كان الخبر ظرفا صرح
بذلك السيوطي في شرح البيت المذكور فراجع إن شئت.
(ومن زائدة
وتمتع مفعول أقول في) البيت قبله وهو (قوله) :
أقول لصاحبي
والعيس تهوى
|
|
بنا بين
المنيفة فالضمار
|
(يعني الشاعر
بهذا البيت اني (اجاري) بضم الهمزة من باب المفاعلة مأخوذ من الجري بمعنى السير (رفيقي)
يعني أسير معه وهو يسير معي (واباثه) بضم الهمزة من باب المفاعلة مأخوذ من البث
بمعنى اذاعة الحديث ونشره (غصتنا) أي انا ابث الشكوى والحزن اليه وهو يبث الشكوى
والحزن الى لأن المفاعلة من الطرفين (و) الحال ان (الرواحل) أي العيس أي إلا بال
التي يخالط بياضها من الشقرة والمراد هنا مطلق الابل (تسرع بنا) أي تسير بنا
بالسرعة (بين هذين الموضعين) أي المنيفة والخمار (و) معنى البيت المذكور في المتن
اني (أقول في اثناء ذلك) السير السريع حالكوني (متلهفا) أي حزينا على ما يفوت منا
بسبب الخروج من ارض نجد.
قال في حاشية
الجامي عند قوله عن موجبات التلهف والتأسف ذهب كثير من هل اللغة الى ترادفهما
وانهما بمعنى الحزن وجمع المترادفات في الخطب ربما اورث حسنا.
وفرق بعضهم بأن
التلهف التحزن على ما فات والتأسف مطلق الحزن وقال الجوهري الاسف أشد الحزن
والتلهف الحزن انتهى.
(استمتع) أي
انتفع (بشميم عرار نجد فأنا نعدمه يعني يفوت منا (اذا أمسينا لخروجنا من أرض نجد
ومنابته) أي من المواضع التي ينبت فيها العرار والشاهد لفظ العرار.
(و) القسم
الثالث (ما يكون اللفظ الآخر في آخر المصراع الاول مثل قوله أي قول أبي تمام ومن
كان بالبيض) جمع بيضاء والمراد النساء (الكواعب جمع كاعب) قيل او كاعبة لأن فواعل
يأتي جمعا لفاعل وفاعلة والظاهر انه سهو لأنه من الصفات المختصة بالنساء كالحائض
والحامل فتدبر
(وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهود) أي التي يظهر ثديها لنهوده اي
لأرتفاعه.
(مغرما مولعا)
أي معلقا (فما زلت بالبيض) جمع أبيض (يعني بالسيوف الفواضب) أي (القواطع مغرما)
حاصل المعنى أن من كانت لذته في مخالطة البنات الكواعب فلا التفت اليه لأني ما
زالت لذتي بمخالطة السيوف القواطع واستعمالها في الحروب والشاهد لفظ المغرم.
(و) القسم
الرابع (ما يكون اللفظ الآخر في صدر المصراع الثاني مثل قوله :
وان لم يكن
الا معرج ساعة
|
|
قليلا فاني
نافع لي قليلها
|
(وقبله)
الما على
الدار التي لو وجدتها
|
|
بها أهلها ما
كان وحشا مقيلها
|
(الالمام النزول القليل والتعريج
على الشيء الاقامة عليه وانتصب معرج على انه خبر لم يكن واسمه ضمير الالمام وقليلا
صفة مؤكدة) لمعرج (لأن القلة نفهم من اضافة التعريج الى الساعة) هذا بناء على أن
الاضافة بتقدير اللام لأن الاضافة كما صرح بعض شراح المختصر اذا كانت لامية
أستفيدت منه القلة أي إلا معرجا لساعة أي إلا معرجا منسوبا لساعة فأضافة معرج الى
الساعة أضافة على الاتساع بجعل المفعول فيه مفعولا به لمعرج لا انها ظرف له كما
بيناه في المدرس المخصوص في قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) فيفيد أستيعاب التعريج للساعة فيكون قليلا صفة مؤكدة
وهذا وجه آخر لدلالة الاضافة على القلة غير كونها لامية فتدبر جيدا.
(ويجوز أن يريد)
الشاعر (إلا تعريجا قليلا في ساعة) فالاضافة حينئذ
بتقدير في فلا يفيد الاستيعاب (فيكون الصفة) يعني قليلا (مقيدة) أي مخصصة
لا مؤكدة.
ولا يذهب عليك
أن التعبير بالتعريج بدل معرج إنما هو للأشارة الى أن معرج بمعنى المصدر فتنبه.
(ويجوز أن
يرتفع قليلها) حالكونه (فاعل نافع) سد مسد الخبر فيكون نافع مبتدء وصفيا (أو هو
مبتدء ونافع خبره مقدم عليه) والحاصل انه يجوز في قليلها الوجهان صرح بذلك السيوطي
عند قول الناظم :
والثاني
مبتدء وذا الوصف خبر
|
|
ان في سوى
الافراد طبقا استقر
|
حيث يقول فأن
تطابقا في الافراد نحو أقائم زيد جاز كون ما بعد الوصف فاعلا سد مسد الخبر وكونه
مبتدء مؤخرا والوصف خبرا مقدما انتهى.
(والجملة) على
الوجهين (في محل الرفع على انها خبران) أي قوله فأني (والضمير في قليلها للساعة أي
قليل التعريج في الساعة يعني قفا) تثنية الضمير أما لكون المخاطب متعددا أو لخطاب
الواحد بخطاب المثنى كما قيل بذلك في قوله (أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ) ومن هذا القبيل قوله تعالى حكاية (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً) وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في بحث الالتفات في قوله
تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) فتذكر.
(على الدار
التي لو وجدتها ماهولة) أي ذات أهل وسكان (ما كان موضعها موحشا خاليا لكثرة اهلها
وكثرة النعم فيها وان لم يكن المامكما بها إلا تعريج ساعة فأن قليلها ينفعني ويشفى
غليل وجدي) بتذكر الاحباب الذين كانوا فيها والشاهد لفظ القليل.
(وأما اذا كان
اللفظان متجانسين) فهو أيضا أربعة اقسام اما الاول
(فما يقع احدهما) أي احد المتجانسين (في آخر البيت والآخر في صدر المصراع
الاول مثل قوله اي قول القاضي الارجاني دعاني أي اتركاني) هذا التفسير أشارة الى
أن دعاني تثنية دع فعل أمر من ودع يدع بمعنى ترك يترك لا تثنية دعا يدعوا بمعنى
طلب يطلب (من ملامكما سفاها هو) بفتح السين بمعنى (الخفة وقلة العقل) ونصبه على
التمييز أو مفعول له (فداعى الشوق قبلكما دعاني) هذا (من الدعاء) بمعنى النداء.
والشاهد في
دعاني الواقع في صدر المصراع الاول ودعاني الواقع في آخر البيت وهما ليسا مكررين
بل متجانسين لأن الاول كما تقدم بمعنى اتركاني والثاني بمعنى ناداني.
(و) الثاني (ما
يكون المتجانس الآخر في حشو المصراع الاول قوله أي قول الثعالبي واذ البلابل جمع
بلبل) بضم البائين (وهو الطائر المعروف أفصحت بلغاتها) أي خلصت لغاتها من اللكنة
فأنه يقال كما تقدم في المقدمة فصح الاعجمي وأفصح اذا طلق لسانه وخلصت لغته من
اللكنة وجادت فلم يلحن أي لم يغلط.
والمراد
بلغاتها النغمات التي تصدر منها جعل كل نغمة لغة (فانف) فعل أمر من نفى ينفي (البلابل
جمع بلبال) بفتح البائين (وهو الحزن بأحتساء بلابل جمع بلبلة بالضم) أي بضم
البائين (وهي ابريق فيه الخمر والاحتساء) معناه الشرب) وحاصل المعنى انه إذا حركت
البلابل بنغماتها الحسان الخالصة من اللكنة أحزانك وأشواقك حيث أن الصوت الحسن
يحرك الاحزان والاشواق فانف وباعد عنك تلك الاحزان بالشرب من أباريق الخمر وقريب
من ذلك ما قاله الشاعر الفارسى :
اگر غم لشكر
انكيزد كه خون عاشقان ريزد
|
|
من وساقى بهم
سازيم وبنيادش ـ براندازيم
|
(والمقصود) أي الاستشهاد (بالتمثيل)
بهذا البيت (هو البلابل الثالث) الواقع في آخر البيت (بالنسبة (الى) البلابل (الاول)
الواقع في حشو المصراع الاول ولم يجعل مما وقع في صدر المصراع الاول لتقدم إذا
عليه فالبلابل الاول وقع في الحشو لا في الصدر.
(وأما) البلابل
الثالث (بالنسبة الى) البلابل (الثاني الواقع في حشو المصراع الثاني (فهو من هذا
الباب على مذهب السكاكي) وذلك لما مر عند بيان الاقسام في النظم من أنه أي صاحب
المفتاح أعتبر قسما آخر وهو أن يكون اللفظ الآخر في حشو المصراع الثاني فيكون هذا
البيت مثالا لهذا القسم بالنسبة الى البلابل الثاني أيضا فيكون في هذا البيت
شاهدان لأقسام العشرين على مذهب صاحب المفتاح احدهما لما يكون احد المتجانسين في
آخر البيت والآخر في حشو المصراع الاول كالبلابل الاول وهذا هو مقصود الخطيب
بالتمثيل بهذا البيت.
والشاهد الثاني
لما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والآخر في حشو المصراع الثاني كالبلابل
الثاني وهذا الشاهد الثاني يصح على مذهب السكاكي (دون المصنف) لأنه كما مر عند
بيان الاقسام في النظم غير معتبر عنده ولذا كان رأيه أن تركه أولى اذ لا معنى فيه
لرد العجز على الصدر حسبما بيناه هناك.
(و) الثالث (ما
يكون المتجانس الآخر في آخر المصراع الاول مثل قوله أي قول الحريري فمشعوف بآيات
المثاني أي القرآن قال الجوهري المثاني من القرآن ما كان أقل من المأتين) يعني
السور التي عدد آياتها أقل من
المأتين وهي على ما في مجمع البحرين سبع سور.
(وتسمى فاتحة
الكتاب مثاني لأنها تثنى في كل صلوة ويسمى جميع القرآن مثاني أيضا لاقتران آية
الرحمة بآية العذاب).
وفي حديث أهل
البيت نحن المثاني الذي أعطاها الله نبينا (ص) ومعنى ذلك على ما ذكره الصدوق نحن
الذين قرننا النبي الى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا وأخبر امته بأن لا نفترق
حتى نرد الحوض كذا في مجمع البحرين.
(ومفتون برنات
المثاني أي بنغمات أوتار المزامير التي ضم طاق منها) أي من الاوتار (الى طاق) آخر
حال الضرب عليها ولهذا تسمى الاوتار مثاني و (الواحد منها) أي المفرد من المثاني (على
وزن (مفعل) مأخوذ من (الثنى) بالكسر والقصر اي يعاد مرتين كذا في المصباح والبيت
قاله الحريري في وصف أهل البصرة يقول منهم الصالحون المشعوفون بقرائة القرآن ومنهم
من هو مفتون بالات اللهو والطرب.
(و) الرابع (ما
يكون المتجانس الآخر في صدر المصراع الثاني مثل قوله أي قول القاضى الارجاني
أملتهم ثم تأملتهم فلاح) هذا فعل ماض (أي ظهر لي) كلمة (أن) مخففة من المثقلة
أسمها ضمير الشأن مستكن أي محذوف ويجب أن يكون خبرها حينئذ جملة صرح بذلك السيوطي
عند قول الناظم :
وان تخفف أن
فاسمها أستكن
|
|
والخبر أجعل
جملة من بعد أن
|
فجملة (ليس
فيهم فلاح خبر أن وان مع اسمها وخبرها فاعل فلاح الاول وفلاح الثاني اسم (أي فوز
ونجاة) والشاهد في أن فلاح الاول وقع في صدر المصراع الثاني وفلاح الثاني في آخر
البيت.
(وأما اذا كان
اللفظان ملحقين بالمتجانسين) فهو أيضا أربعة اقسام اما القسم الاول (فما يكون احدهما
في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الاول مثل قوله أي قول البحتري :
ضرائب
أبدعتها في السماح
|
|
فلسنا نرى لك
فيها ضريبا
|
(فالضرائب) الواقع في صدر المصراع
الاول (جمع ضريبة وهي الطبيعة والسجية) أي العادة والملكة (التي ضربت للرجل وطبع
الرجل عليها) كالكرم والجود واللامة والبخل ونحوها ومنها السماحة.
(والضريب)
الواقع في آخر البيت معناه (المثل) بكسر الميم وسكون الثاء يقال ما أقل ضربك في
دهرنا أي مثلك ولله كثر الله في المؤمنين ضربك أي مثلك كذا في المجمع.
(وأصله) أي اصل
الضريب (المثل في ضرب) أي في خلط (القداح) أي انه في الاصل مثل مقيد بالقداح وقد
أريد ههنا مطلق المثل والقداح معناه السهام جمع قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو
سهم القمار لا ريش له ولا نصل وكل واحد من تلك السهام مثل الآخر يخلطون بعضها ببعض
بحيث لا يتميز ويقال لكل واحد منها ضريب لأنه يضرب في جملتها وهو مثلها في عدم
التعيين وهي عشرة سهام معروفة فيما بينهم يقامرون بها في الجاهلية ومن أراد
الاطلاع على كيفية المقامرة بها فليراجع تفسير قوله تعالى (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ
ذلِكُمْ فِسْقٌ).
(فهما) أي
الضرائب والضريبة ليسا لفظين متجانسين لأنهما (راجعان الى أصل واحد في الاشتقاق)
مع أختلافهما في المعنى حسبما أوضحناه.
فأن قلت أن
الضرائب والضريب يجب أن يكونا من قبيل المتجانسين لأختلاف معنييهما حسبما قرر في
جبة البرد جنة البرد اذ لو كانا ملحقين
بالمتجانسين بالاشتقاق لاتحد معناهما كما في قوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) قلت الاختلاف فيهما إنما هو من حيث المصداق والاختلاف
في المصداق لا تنافي كونهما متحدين في مفهوم المشتق منه الذي هو الضرب فجنس الضرب
متحد فيهما وإن كان المصداق في الضرائب الالزام والسجية والطبيعة فهو كضرب الطابع
على الدرهم والخاتم على الكاغذ وفي الضريب ضرب السهام العشرة وخلط بعضها ببغض ففي
كليهما مفهوم المشتق منه موجود وهذا المقدار من الاتحاد كاف في المقام فتدبر جيدا.
وحاصل معنى
البيت انك أبدعت عادات وسجايا في السماح والكرم فلسنا نرى لك في سائر الناس مثلا
في تلك العادات والسجايا.
(و) الثاني (ما
يكون الملحق الآخر في حشو المصراع الاول مثل قوله أي قول أمرء القيس :
اذ المرء لم
يخزن عليه لسانه
|
|
فليس على شيء
سواه بخزان
|
(أي اذا لم يخزن المرء لسانه على
نفسه ولم يحفظه مما يعود ضرره اليه فلا يخزنه على غيره ولا يحفظه مما لا ضرر له
فيه) بطريق أولى لأنه لم يتحافظ فيما يضره فكيف فيما لا يضره وانما يضر غيره.
(فيخزن) الواقع
في حشوا المصراع الاول (وخزان) الواقع في آخر البيت (مما يجمعهما الاشتقاق) مع
اتفاق المعنى فيهما فيكونان ملحقين بالمتجانسين بالأشتقاق.
ومما يجب أن
يعلم ان الخطيب ذكر مثالا واحدا للملحقين بشبه الاشتقاق قبل استكمال أربعة اقسام
الملحقين بالاشتقاق فقال (وقوله أي قول أبي العلاء لو أختصرتم من الاحسان) أي لو
تركتم كثرة الاحسان (زرتكم) لكن أكثرتم من الاحسان فهجرتكم ولا غرابة في ذلك لخروج
احسانكم عن حد الاعتدال (و) ذلك لأن (العذب أي الماء) الصافي الحلو (يهجر
للافراط في الخصر أي البرودة فيترك شربه لعدم احتمال الطبيعة له (يعني أن بعدي
عنكم لكثرة انعامكم على) فقد عجزت عن الشكر فأنا استحيي من المجييء عندكم لأني لا
قدرة لي على القيام بحق شكر نعمائكم الكثيرة على فالبيت مدح لهم.
ويحتمل أن يكون
البيت ذما بأن يكون المعنى انهم أكثروا في الاحسان حتى تحقق منهم جعله في غير محله
سفها فهجرهم لهذه الافعال السفهية.
(وهذا) البيت (أيضا)
أي كالبيت قبله (مثال لما وقع أحد الملحقين) هو الخصر (في آخر البيت والآخر) هو
أختصرتم (في حشو المصراع الاول إلا إنه) كما نبهناك انفا (من القسم الثاني من
الألحاق اعني ما يجمعهما شبه الاشتقاق) لأنه يتبادر في باديء النظر أن أختصرتم
والخصر من مادة واحدة وبعد أمعان النظر يعرف انه ليس كذلك لأن الاول مأخوذ من مادة
الاختصار بمعنى ترك الاكثار في الشيء والثاني مأخوذ من خصر بمعنى برد.
إن قلت انه لا
مادة للخصر لأنه نفسها اذ هو مصدر فليس هنا شبه اشتقاق بل تجانس اذ الخصر لم يؤخذ
من شيء حتى يتبادر كونهما من أصل واحد.
قلت يكفي فيه
القول بكون المصدر مأخوذا من الفعل صرح بهذا القول السيوطي في أول بحب المفعول
المطلق والتبادر يكفي فيه احتمال هذا القول.
وليعلم إنا
جعلنا هذا البيت مما وقع الملحق الآخر في حشو المصراع
الأول لتقدم لو عليه وهذا بخلاف الواو فيما سبق فأن الواو إنما جييء بها
لمجرد الوصل وليست من حروف المعاني المستقلة.
ثم رجع الخطيب
الى استكمال أمثلة الملحقين بالاشتقاق فقال (و) الثالث (ما يكون الملحق الآخر في
آخر المصراع الاول مثل قوله) :
فدع الوعيد
فما وعيدك ضائري
|
|
اطنين اجنحة
الذباب يضير
|
الشاهد في (ضائر
ويضير) فأنهما مما (يجمعهما) الاشتقاق لأنهما مشتقان من الضير بمعنى الضرر وقد وقع
الاول في آخر المصراع الاول والثاني في آخر البيت.
(و) الرابع (ما
يكون الملحق الآخر في صدر المصراع الثاني مثل قوله أي قول أبي تمام في مرثية محمد
بن نهشل حين أستشهد).
ثوى في الثرى
من كان يحيى به الورى
|
|
ويغمر صرف
الدهر نائله الغمر
|
(وقد كانت بيض القواضب أي السيوف
القواطع في الوغى بؤاتر أي قواطع بحسن استعمالها) في الحروب (فهي) أي السيوف (الآن)
يعني بعد موت محمد بن نهشل (بتر) بضم الباء (جمع أبتر) يعني تلك السيوف مقطوعة
الفوائد (أي لم يبق بعده من يستعملها كأستعماله) لأنه كان عارفا بكيفية الضرب
ومتدربا وشجاعا دون غيره.
(فيغمر) الواقع
في صدر المصراع الثاني (من البيت الاول (والغمر) الواقع في آخر البيت (مما يجمعهما
الاشتقاق) لأنهما مأخوذان من الغمر وهو في الاصل كما تقدم في صدر الكتاب في بحث
التكرار ما يغمرك من الماء والمراد هنا لازم ذلك وهو في الاول الستر وفي الثاني
ألكثرة فحاصل المعنى انه سكن في التراب من كان يحيى به الورى ومن كان
عطائه يستر على حوادث الدهر عطاياه الكثيرة.
(وكذا البواتر)
الواقع في صدر المصراع الثاني من البيت الثاني (والبتر) الواقع في آخر البيت
فأنهما أيضا مما يجمعهما الاشتقاق فأنهما مأخوذان من البتر وهو القطع.
ولا يذهب عليك
أن ههنا سؤالا وجوابا تقدم نظيرهما انفا في شرح قول أبي العلاء لو اختصرتم من
الاحسان الخ فتذكر.
وأعلم انه قد
تقدم أن الخطيب لم يذكر من أمثلة الملحقين الذين يجمعها شبه الاشتقاق إلا مثالا
واحدا وهو قول ابي العلاء لو أختصرتم من الاحسان الخ وهو كما مر مما وقع أحد
الملحقين في آخر البيت والآخر في حشو المصراع الاول فبقى من أمثلة هذا القسم ثلاثة
أهملها الخطيب أما لعدم الظفر بها واما اكتفاء بأمثلة الملحقين بالاشتقاق.
وكيفكان فقد
ذكر التفتازاني ما أهمله الخطيب بقوله (وأما الامثلة الثلاثة التي أهملها المصنف
فمثال ما يقع أحد الملحقين اللذين يجمعها شبه الاشتقاق في آخر البيت والملحق الآخر
في صدر المصراع الاول قول الحريري) :
ولاح يلحى
على جرى العنان الى
|
|
ملهى فسحقا
من لائح لاح
|
(فالاول) الواقع في صدر المصراع
الاول فعل (ماض ليلوح) بمعنى ظهر يظهر وقد تقدم لاح بهذا المعنى في وجه التشبيه
التخييلي وفي التشبيه الذي طرفاه مفردان فتذكر.
(و) لاح (الآخر)
الذي وقع في آخر البيت (اسم فاعل من لحاه) بمعنى لأمه وابعده وحاصل معنى البيت انه
ظهر الشيب يلومني على جرى خيل الشهوات الى أماكن اللهو واللذات فبعداله من ظاهر
لائم وقريب من
معنى البيت ما قاله الشاعر الفارسى :
چون پير شدي
حافظ از ميكده بيرون شو
|
|
رندي
وخراباتي در عهد شباب أولى
|
(ومثال ما وقع الملحق الآخر في آخر
المصراع الاول قوله) أي قول الحريري أيضا :
ومضطلع
بتلخيص المعاني
|
|
ومطلع الى
تلخيص عاني
|
المضطلع بالشيء
القوي فيه الناهض به وتلخيص المعاني اختصار الفاظها وتحسين عباراتها والمطلع على
الشيء الناظر اليه.
(فالاول) أي
المعاني الواقع في آخر المصراع الاول مأخوذ (من عني يعني) بمعنى قصد يقصد (والثاني)
أي عاني الواقع في آخر البيت مأخوذ (من عنا يعنو) بمعنى أسر ياسر والعاني الاسير
فتلخيص العاني معناه فكاك الأسير.
(ومثال ما وقع
الملحق الآخر في صدر المصراع الثاني قول الآخر) يعني غير الحريري :
لعمري لقد
كان الثريا مكانه
|
|
ثراء فاضحى
الآن مثواه في الثرى
|
ثراء منصوب على
التمييز وحاصل المعنى اني اقسم بعمري انه كانت الثريا مكانه من حيث الثروة أي
الغناء فانه يقال في العرف لمن صار غنيا وذا ثروة إنه أضحى في الثريا أي ارتفع
مكانته فصار الآن مثواه أي مسكنه في الثرى أي في الارض أي مات ودفن في الارض.
(فالثراء)
الواقع في صدر المصراع الثاني ناقص (واوي) لأنه مأخوذ (من الثروة) بمعنى الغنى (والثرى)
ناقص (يائي) فهما لا يرجعان الى أصل واحد في الاشتقاق لكنه يتبادر في باديء الرأي
انهما يرجعان الى أصل
واحد.
(ومنه أي من
اللفظي السجع وهو قد يطلق على نفس الكلمة الاخيرة من الفقرة بأعتبار كونها موافقة
للكلمة الاخيرة من الفقرة الاخرى كما سيجييء) بيانه.
(وقد يطلق على
توافقهما) وبعبارة أخرى قد يكون السجع بمعنى اسم المفعول فيكون المراد منه الكلمة
المسجوعة وقد يكون بمعناه المصدري فيكون المراد منه توافق الكلمتين فهو نظير العكس
عند أهل الميزان على ما بينه محشى التهذيب وقد بيناه فيما سبق فتذكر.
(والى هذا)
المعنى المصدري (أشار بقوله قيل وهو تواطؤو الفاصلتين من النثر) أي توافقهما (على
حرف واحد في الآخر) أي في آخر الفاصلتين (وهو) أي المعنى المصدري (معنى قول
السكاكي) حيث يقول (هو أي السجع (في النثر كالقافية في الشعر وفيه) أي فيما فهمه
الخطيب وهو كون المعنى المصدري معنى قول السكاكي (نظر لأن القافية هو لفظ في آخر
الابيات أما الكلمة برأسها) أي جميع الكلمة (او الحروف الاخيرة منها او غير ذلك).
قال السكاكي في
الفصل الثالث من علم العروض أختلفوا في القافية فهي عند الخليل من آخر حرف في
البيت الى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبل الساكن مثل تابا من قوله أقلى اللوم
عاذل والعتابأ.
وعند الأخفش
آخر كلمة في البيت مثل العتابا بكمالها وعند أبي علي قطرب وأبي العباس ثعلب الروي
والمراد بالروى الحرف الآخر من البيت وعن بعضهم أن القافية هي مجموع البيت وعن
بعضهم هي القصيدة وحق هذا القول أن يكون من باب أطلاق اسم اللازم على الملزوم وباب
تسميت المجموع بالبعض كقولهم كلمة الحويدرة لقصيدته وقول كل أحد كلمة
الشهادة لمجموع أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا رسول الله انتهى (على
اختلاف المذاهب) التي نقلناها وسيأتي توضيح قول الخليل في بحث القلب.
(ولا يطلق القافية
على تواطؤ الكلمتين من أواخر الابيات على حرف واحد) كما هو كذلك في السجع فانه
يطلق على تواطؤ الكلمتين من أواخر الابيات على حرف واحد.
والحاصل أن
القافية ليست عبارة عن المعنى المصدري والسجع عند الخطيب ههنا عبارة عن المعنى
المصدري فكيف يقول هو معنى قول السكاكي الخ.
(و) الصحيح أن
يقال (إنما أراد السكاكي بالاسجاع حيث قال إنما هي في النثر كالقوافي في الشعر)
غير المعنى المصدري وبعبارة أخرى أراد بالسجع اسم المفعول أي (الالفاظ المتواطيء
عليها في أواخر الفقرة وهي التي يقال لها الفواصل ولذا ذكرها بلفظ الجمع) دون المفرد
والخطيب لما أراد بالسجع المعنى المصدري ذكر بلفظ المفرد.
(والحاصل انه)
أي السكاكي (لم يرد بالاسجاع معنى المصدر كما أراده المصنف فقوله وهو معنى قول
السكاكي معناه أن هذا) التفسير المذكور في كلام الخطيب (مقصود كلام السكاكي
ومحصوله) لا عينه (يعني كما أن القوافي هي الالفاظ المتوافقة في أواخر الابيات
كذلك الاسجاع هى الالفاظ المتوافقة في أواخر الفقر وكما أن التقفية) وسيأتي عنقريب
(ثمة) أي في أواخر الابيات (توافقها) أي توافق أواخر الابيات (فكذلك السجع بمعنى
المصدر ههنا) أي في النثر (توافقها) أي توافق
أواخر الفقر.
والحاصل أن
مراد المصنف بقوله وهو معنى قول السكاكي الخ أن هذا التفسير المذكور في كلام
الخطيب محصول كلام السكاكي وفائدته لا انه عينه وذلك ان تشمية السكاكي السجع
بالقافية إنما هو لوجود المعنى المصدري أعني التوافق في كل واحد منهما فتدبر جيدا
فأن المقام من مزال الاقدام.
(وهو أي السجع
ثلاثة أضرب) أحدها ما يقال له (مطرف) وذلك (أن اختلفا أي الفاصلتان في الوزن) مع
الاتفاق في التقفية أي الحرف الاخير (نحو (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) فالوقار والاطوار مختلفان وزنا) فأن ثاني وقارا متحرك
وثاني أطوارا ساكن (متفقأن تقفية أي الحرف الاخير وإنما سمى مطرفا أخذا من الطريف
بمعنى الجديد لأن الوزن في الثانية جديد لأنه غير الوزن الاول.
(وإلا أي وان
لم تختلف الفاصلتان في الوزن فأن كان ما في احدى القرينتين من الالفاظ) جميعا (أو
كان أكثره أي أكثر ما في احدى القرينتين مثل ما يقابله أي يقابل ما في احدى
القرينتين من الالفاظ في الاخرى فى الوزن والتقفية أي التوافق على الحرف الاخير
فترصيع) هذا هو ألضرب الثاني وإنما سمى ترصيعا تشبيها له بجعل احدى اللؤلؤتين في
العقد الذي يوضع في العتق في مقابلة الاخرى ويسمى ذلك الجعل لغة بالترصيع هذا ولكن
كان الأولى للمصنف ان يقوم فمرصع على صيغة يسم المفعول ليناسب الاسمين الآخرين أي
مطرف ومتواز.
فمثال مساواة
جميع الالفاظ في القرينتين (نحو) قول الحريري (فهو) أي الوعظ الفلاني (يطبع) أي
يزين (الاسجاع بجواهر لفظه) الشبيه بالجوهر (ويقرع) أي يدق أي يؤثر في (الاسماع
بزواجر وعظه) شبه الاسماع
بابواب تقرع بالاصابع لتفتح.
(فجميع ما في
القرينة الثانية يوافق ما يقابله من الاولى في الوزن والتقفية) وبعبارة أخرى لفظ
يقرع يوافق يطبع والاسماع يوافق الاسجاع والزواجر يوافق الجواهر ووعظه يوافق لفظه
كل ذلك في الوزن والتقفية أى الحرف الاخير.
(وأما لفطه هو
فلا يقابلها شيء من القرينة الثانية) فلذلك قلنا ان ذلك مثال لمساوات جميع الالفاظ
(ولو قيل بدل الاسماع الاذان لكان أكثر ما في) القرينة (الثانية موافقا لما يقابله
من) الفقرة (الاولى) وذلك لعدم توافق الاسجاع والاذان في الوزن والتقفية إذ وزن
أسجاع أفعال وليس وزن اذان الان افعال وان كان وزنه في الاصل افعال لانه لا ينظر
في هذا المقام الى الاصل هكذا قيل.
والتحقيق ان
يقال انه يجوز ان يكتفى في عدم التوافق بعدم الموافقة في التقفية وان كانت
الموافقة في الوزن حاصلة نظر الى الاصل اما عدم الموافقة في التقفية فلكون اخر
الاسجاع العين واخر الاذان النون.
(والا فمتواز
أى وان لم يكن ما في احدى القرينتين ولا اكثره مثل ما يقابله من) القرينة (الاخرى)
(فهو) مما يقال له السجع (المتوازى) هذا هو الضرب الثالث وانما سمى بذلك لتوازي
الفاصلتين أى توافقهما وزنا وتقفية أى الحرف الاخير دون رعاية غيرهما ومن هنا
قالوا ان الاختلاف بالنسبة الى غير الفاصلة فالتوافق في الفاصلة صار سببا للتسمية
يكفى فيها أدنى إعتبار.
(وذلك) أي كون
السجع متوازيا (بان يكون ما في احدى القرينتين أو أكثره وما يقابله من الاخرى
مختلفين في الوزن والتقفية جميعا نحو قوله تعالى (فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)) الشاهد في
سرر واكواب فانهما مختلفان في الوزن والتقفية جميعا وذلك واضح اما لفظه
فيها ما تقدم في لفظه هو كلام الحريري.
(أو) مختلفين (في
الوزن فقط نحو قوله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)) الشاهد في عرفا وعصفا لانهما مختلفان وزنا فقط.
أما المرسلات
والعاصفات فقد يقال انهما ايضا مختلفان وزنا متفقان تقفية لان وزن مرسلات مفعلات
ووزن عاصفات فاعلات والتقفية في كل منهما التاء فهما أيضا من أقسام المتوازي.
وفيه نظر لان
المعتبر من الوزن في المقام الوزن العروضي لا الوزن الصرفي والمراد من الوزن
العروضي كما بيناه في المكررات في أول باب اعمال اسم الفاعل هء الموافقة في عدد
الحركات والسكنات وترتيبها سواء كانت موافقة في شخص الحركات ايضا كضارب ويضرب ام
لا كناصر وينصر فعلى هذا يكون المرسلات موافقا للعاصفات وزنا وتقفية فهما من أقسام
الترصيع لا المتوازى.
(او) مختلفين
في (التقفية فقط كقولنا حصل الناطق والصامت وهلك الحاسد والشامت) والشاهد في حصل
وهلك فانهما مختلفان تقفية متفقان وزنا وكذا الناطق والحاسد وأما الصامت والشامت
فهما متفقان وزنا وتقفية وذلك لوجوب اتفاق الفاصلتين في جميع اقسام السجع فلا
تغفل.
الى هنا كان
الكلام فيما كان لكل كلمة من إحدى القرينتين مقابل من القرينة الاخرى اما ما لم
يكن كذلك فاشار اليه بقوله (او لا يكون لكل كلمة من احدى القرينتين مقابل من
الاخرى) وان كان لبعضها مقابل (نحو قوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الشاهد في لربك فانه ليس له في القرينة الاولى مقابل
حتى يوافقه ويخالفه وكذلك
فصل وأعطيناك واما وانحر وكوثر فهما متفقان وزنا وتقفية وذلك لما تقدم من
وجوب الموافقة في التقفية في مطلق السجع (قال ابن الاثير السجع يحتاج الى اربع
شرائط) الاول (اختيار مفردات الالفاظ) بان يكون كل واحد منها حسنا فيصاحب ما بين
في بحث الفصاحة (و) الثاني (اختيار التاليف) بان لا يكون في الكلام ضعف التاليف
وتنافر الكلمات والتعقيد (و) والثالث (كون اللفظ تابعا للمعنى لا عكسه) سيأتي
نوضيع ذلك قبيل الخاتمة مستقصى (و) الرابع (كون كل واحد من الفقرتين) المتقابلتين (دالة
على معنى اخر والا لكان تطويلا) اى زائدا على اصل المراد لا الفائدة حسبما بين في
الباب الثامن.
والتطويل (كقول
الصابي الحمد لله الذي لا تدركه الاعين بلحاظها ولا تحده الالسن بالفاظها ولا
تخلقه العصور بمرورها ولا تهرمه الدهور بكرورها والصلوة على من لم ير للكفر أثرا
إلا طمسه ومحاه ولا رسما إلا أزاله وعفاه) ففي كلامه تطويل (إذ لا فرق بين مرور
العصور وكرور الدهور ولا بين محو الاثر واعفاء الرسم) هذا عند عرف العوام واما عند
المحققين من اهل اللغة فالفرق بين ما ذكر موجود ليس هنا محل ذكره والصابي من افضل
المحققين حسبما يحكى من السيد علم الهدى من تعظيم قبره نظر الى افضله ومن هنا قيل
انما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه.
(قيل واحسن
السجع ما تساوت قرائنه نحو قوله تعالى (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)) هذه قرينة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) هذه قرينة اخرى (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) هذه قرينة اخرى فهذه القرائن الثلاث متساوية في كون كل
واحدة منها مركبة من لفظين والسدر شجر معروف ثمرته تسمى النبق وهو كثير في
بعض بلاد العرب والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد اى شوكة والطلح شجر ثمرته
تسمى الموز وهو كثير في البلاد الحارة والمنضود الذي نضد بالحمل اى الثمر من اسفله
الى اعلاه.
(ثم اى بعد ان
لم يتساو قرائنه فالاحسن ما طالت قرينته الثانية) بشرط ان لا يكون طول الثانية متفاحشا
وذلك بان لا يكون الزيادة اكثر من ثلاثة ألفاظ وإلا كان قبيحا ومحل القبح اذا وقعت
القرينة الثانية الطويلة بعد فقرة واحدة.
اما لو كانت
الثانية الطويلة بعد فقرتين فاكثر كما ياتي عن قريب نقلا عن ابن الاثير فلا قبح
لان الاولين او اكثر حينئذ بمنزلة قرينة واحدة.
(نحو (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)) هذه الى هنا قرينة (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى) هذه قرينة ثانية وهي اطول من حيث الكلمات من القرينة
الأولى فهو مثال لما وقعت الطويلة بعد قرينة واحدة.
(او) طالت (قرينة
الثالثة نحو (خُذُوهُ)) هذه قرينة (فَغُلُّوهُ) هذه قرينة ثانية وهما متساويتان من حيث الالفاظ ولا
عبرة بالفاء الماتي به للدلالة على الترتيب ولا على الهمزة المحذوفة من خذلان
العبرة كما أشرنا فيما سبق بالحروف الموجودة الآن وقد سبق ايضا ان الحرف المشدد في
حكم المخفف فهذا مثال لما وقعت الطويلة بعد قرينتين.
الى هنا كان
الكلام فيما كانت القرائن متساوية او كانت المتأخرة أطول من المتقدمة (ولا يحسن ان
يوتى قرينة بعد قرينة اخرى) حالكون القرينة المتأخرة (اقصر منها) أى من القرينة
المتقدمة سواء كانت القصيرة ثانية او ثالثة او رابعة وهكذا قصرا (كثيرا) يأتي وجه
عدم عدم الحسن عن قريب وانما قال كثيرا احترازا مما اذا أتى بالقصوى بعد
الطولى وكان قصر الثانية قليلا فانه لا يضر لانه قد ورد في التنزيل كقوله
تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) فان الاولى مع حرف الجر والاستفهام تسع كلمات والثانية
ست والحاصل ان القصر كالزيادة الى ثلاث لا يضر.
قال ابن الاثير
السجع ثلاثة أقسام الاول ان يكون الفاصلتان متساويتين كقوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ).
والثاني ان
يكون الثاني اطول من الاول لا طولا يخرجه عن الاعتدال كثيرا وإلا كان قبيحا كقوله
تعالى (وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) هذا الاول (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) هذا الثاني وهو أطول من الاول بحيث لا يخرجه عن
الاعتدال كثيرا (فان الاول ثمان لفظات والثاني تسع) لفظا (وله في القرآن غير نظير)
واحد يعنى له القرآن نظائر كثير فعليك بالتتبع.
(ويستثنى منه)
أى من القسم الثاني (ما كان على ثلاث فقر) نحو (خُذُوهُ) الخ (فان الاوليين تحسبان في عدة واحدة ثم تأتي الثالثة
بحيث تزيد عليهما) أي على واحدة واحدة منهما (طولا) والحاصل ان الثالثة اذا كان
طويلا خارجا عن حد الاعتدال بالنسبة الى أحد الاوليين لا قبح فيه لان الاوليين يعد
في المقام واحدة والمفروض ان الثالثة أطول من احداهما لا من كليتهما.
(ويجوز ان تجيء)
الثالثة مساوية لهما) أي للاوليين (كقوله تعالى (وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) فهذه الثلاث) الاخيرة محل الشاهد اذ (كل منها من لفظين)
فالثالثة مساوية للاوليين (ولو جعلت الثالثة منها خمس لفظات او ستا كان حسنا)
لانها حينئذ ليست أطول من الاوليين بحيث يخرج عن حد الاعتدال
كثيرا لان الخارج ما كان اطول من الاوليين بازيد من ثلاث لفظات واذا جعلت
الثالثة خمسا تزيد على الاوليين بواحد واذا جعلت ستا تزيد باثنين.
(والثالث ان
يكون الاخر أقصر من الاول وهو عندي عيب فاحش اذا كان نقص القصرى من الطولى أزيد من
ثلاث (لان السمع قد استوفى حينئذ أمده) اى غايته (في الاول بطوله) أى بسبب طوله
فاعتبر ذلك الامد فصار هو أمده المطلوب فيما بعد (فاذا جاء الثاني قصير يبقى
الانسان عند ما سماعه كمن يريد الانتهاء الى غاية) مثل الغاية الاولى في الطول (فيعثر)
اما من العثار بمعنى الوقوع والسقوط او من العثور بمعنى الاطلاع فالمعنى على الاول
فيقع السامع ويسقط (دونها) اى قبل الوصول الى الغاية المرادة.
وعلى الثاني
يكون المعنى فيطلع دونها اى فيعرف ان الغاية في الثانية أقل مما أراد الوصول اليها
فيفاجئه خلاف ما كان يترقبه لان السمع أى سمع المخاطب يطلب أمدا مثل الاولى او
قريبا منها فاذا سمع القصير كثيرا فاجاه خلاف ما يترقب وعلى كلا المعنيين هو قبيح
عند أهل الذوق والعارفين بمقتضيات المحاورة.
(ثم السجع اما
قصير واما طويل والقصير هو أحسن لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع.
وايضا هو أوعر
مسلكا لان المعنى اذا صيغ بالفاظ قليلة) الحروف (عسر مواطاة) أي موافقة (السجع فيه)
أي في المعنى (واحسن) السجع (القصير ما كان على لفظين) أي على كلمتين بان يكون كل
كلمة فاصلة.
(ومنه) أى من
القصير (ما يكون من ثلاثة) ألفاظ (الى عشرة)
ألفاظ (وما زاد عليها) أي على العشرة (فهو من الطويل).
ومنه ما يقرب
من القصير بان يكون تأليفه من احدى عشرة) لفظه (الى اثنى عشرة) لفظة (واكثره) أى
اكثر السجع (خمس عشرة لفظة كقوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) الى هنا قرينة والقرينة الثانية قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ).
(فا) القرينة (الاولى
احدى عشرة) لفظة (و) القرينة الثانية ثلث عشرة لفظة.
(والاسجاع) أي
الالفاظ المسجعة فالمصدر بمعنى اسم المفعول وذلك لان قوله (مبنية على سكون الاعجاز)
لا يلائم المعنى المصدري لانه التوافق والتوافق أمر معنوي لا عجزاء حتى يسكن.
فحاصل المقام
ان أصل الالفاظ المسجعة ان تكون ساكنة الاعجاز أي الاواخر (أى أواخر فواصل القرائن)
وهو أى سكون الاعجاز واجب عند اختلاف حركات الاعجاز ومستحسن عند اتفاقها وذلك (لأن
الغرض من السجع ان يزاوج) أى يوافق (بين الفواصل ولا يتم ذلك) الغرض (في كل صورة
إلا بالوقف والبناء على السكون (كقولهم ما أبعد ما فات) لان ما فات من الزمان ومن
الحادث فيه لا يعود ومن هنا قال الحكيم السبزوارى :
اعادة
المعدوم مما امتنعا
|
|
وبعضهم فيه
الضرورة ادعى
|
(وما اقرب ما هو آت) لانه لا بد من
بلوغه وحينئذ كان لم ينتطر فصار كالقريب والجملتان تعجبيتان فبنى عجزهما على
السكون للسجع (فانه لو اعتبر الحركة) في عجزهما (لفات السجع لان التاء من فات
مفتوح) بالفتحة البنانية و) التاء (من ات مكسور منون) بتنوين
العوض (وهذا) الاختلاف (غير جائز في الفوافي) وهي كما مر في أول المبحث
الالفاظ التي في أواخر الابيات (ولا واف بالغرض) من السجع (أعني تزاوج الفواصل)
وتوافقها.
أن قلت كيف
يجوزون اسكان اخر الكلمة وحذف التنوين منها التزاوج الفواصل فيه تغيير اخر الكلمة
عما هو عليه.
ان قلت كيف
يجوزون اسكان اخر الكلمة وحذف التنوين منها التزاوج الفواصل وفيه تغيير اخر الكلمة
عما هو عليه.
قلنا (واذا
رايتهم) أى العرب او الفصحاء منهم (يخرجون الكلم عن أوضاعها) اللغوية (للازدواج)
والتوافق (فيقولون اتيك بالغدايا والعشايا أي بالغدوات) فجمع الغداة بالغدا لانه
الجمع الذي جوزه اللغه لا الغدايا فاخرجوا جمع الغداة عن وضع اللغة.
قال في المصباح
الغداة الضحوة وهي مؤنثة قال ابن الانباري ولم يسمع تذكيرها ولو حملها حامل على
معنى أول النهار جاز له التذكير والجمع غدوات انتهى.
(و) يقولون
ايضا (هناني الطعام) أي ساغ ولذ (ومراني) بهمزة واحدة في الوسط وهو خلاف وضع اللغة
لان الوضع في اللغة بهمزتين (اى امراني).
قال في المصباح
امرانى الطعام بالالف ويقال ايضا هناني الطعام ومراني بغير الف للازدواج فاذا افرد
قيل امراني بالالف ومنهم من يقول مراني وامراني لغتان انتهى.
(و) يقولون
أيضا (اخذ ما قدم وما حدث) بضم الدال في حدث للازدواج وهو خلاف وضع اللغة فانه في
اللغة بفتحها كما قال (أى حدث بالفتح) قال في المصباح حدث الشىء حدوثا من باب قعد
تجدد وجوده فهو حادث وحديث وقال ايضا قدم الشيء بالضم وزان عنب
خلاف حدث فهو قديم انتهى.
(مع ان فيه) أي
في كل واحد من الامور الثلاثة (ارتكابا لما يخالف اللغة) حسبما اوضحناه (فما ظنك
بهم) اى بالعرب او بالفصحاء منهم (في ذلك) أي في حذف الحركة او التنوين من اعجاز
الفواصل والحاصل انه اذا جاز التصرف في الكلمة بما يخرجها عن وضع اللغة فالتصرف
بحذف الحركة او التنوين جائز بالطريق الاولى لانه لا يخرجها عن وضع اللغة ويؤيد
ذلك ما ذكرناه في المكررات في باب التصريف من ان الصرفيين لا يلتفتون الى لام
الفعل لانه محل التغيير بالاعراب والوقف.
(قيل ولا يقال
في القران اسجاع) يعنى انه ينهى عنه ولكن لا لعدم وجود السجع في القران واقعا بل
لرعاية الادب والتعظيم وتنزيهه عن التصريح بما أصله يكون في الحيوانات العجم (لان
السجع في الاصل هدير الحمام) أى صوتها (ونحوها) بالرفع عطف على المضاف أى ونحو
الهدير كتصويت الناقة لا على المضاف اليه لان الهدير في اللغة مختص بالحمام.
والحاصل ان كلا
من هدير الحمام وتصويت الناقة يقال له السجع في اللغة وايضا يقال لنغمات الكهنة
ففي هذا الاسم نقص على كل من المعاني فيمنع من اطلاقه على كلام الله المجيد ولهذا رئوس
الايات اى اواخرها فواصل ولم تسم اسجاعا.
(وقيل السجع
غير مختص بالنثر بل يجرى في النظم ايضا ومثاله من النظم قول ابي تمام تجلى به رشدى
واثرت به يدى) اى صارت يدى بهذا الممدوح ذات ثروة اى كثرة مال (وفاض) أى سال (به)
بالممدوح (ثمدى) الثمد (هو) ههنا (المال القليل وأصله) ان يستعمل (في
الماء) القليل (واوى) بفتح الهمزة والراء (به زندى اى صار ذا ورى) اى صار
زندى ذا نار وذلك لان من معاني الهمزة في باب الافعال للصيرورة نحو اغد البعير اى
صار ذا غدة واثمر الشجرة أى صارت ذات ثمرة.
(وهذا) الكلام
ههنا (عبارة عن الظفر بالمطلوب) لان الزند وهو الالة التي يقدح بها النار اذا لم
تكن ذات نار لم ينل منه المراد.
قد ذكرنا ان
أورى بفتح الهمزة (واما اورى بضم الهمزة وكسر الراء على انه مضارع متكلم من اوريت
الزند) اى (اجرجت ناره فغلط وتصحيف) اى تغيير لشكل الكلمة لانها كما قلنا بفتح الهمزة
والراء لا بضم وكسر الراء.
والدليل على
انه تصحيف عدم مطابقته لما قبله في الفاعل لان الفاعل على هذا ضمير المتكلم
والفاعل فيما قبله هو يدى وزندى وهما اسمان ظاهران وقد تقدم في بحث الالتفات ان
الاسم الظاهر طريق الغيبة فلم يجر الكلام على سنن واحد وجريان على سنن واحد مع
امكانه انسب لبلاغة المتكلم.
(والضمائر في
به تعود الى نصر) أمير خراسان وهو (المذكور في البيت السابق وهو قوله) اى قول ابي
تمام :
ساحمد نصرا
ماحييت وانني
|
|
لا علم ان قد
جل نصر من الحمد
|
(ومن السجع على هذا القول يعنى
القول بعدم الاختصاص بالنثر ما يسمى التشطير) واما على القول بالاختصاص فيسمى ما
نحن فيه شبيه السجع (وهو جعل كل من شطرى البيت) اى مصراعيه (سجعه مخالفة لاختها اى
السجعة التي هي في الشطر الاخر) وذلك بان لا يتوافقا في الحرف الاخير.
وبعبارة واضحة
هو أى التشطير ان يجعل كل مصراع من البيت مشتملا على فقرتين والفقرتين في المصراع
الاول مخالفتين في التقفية للفقرتين اللتين للمصراع الثاني
والى ما
اوضحناه اشار التفتازاني بقوله (وقوله سجعه يبنغى ان بنتصب على المصدر) اي على
المفعول المطلق النوعي المحذوف عامله فلا دلالة فيها على العدد لا على الوحدة ولا
على غيرها بل لها دلالة على الجنس حسبما مر في مفتتح الكتاب في الحمد فتذكر (اى
يجعل كل من شطرى البيت مسجوعا سجعة مخالفة للسجعة التي في الشطر الاخر.
والحاصل ان
التاء في سجعة ليس للوحدة فينبغي ان ينتصب على المصدر على المصدر النوعي ليكون
للجنس اى جنس السجع (لا على انه المفعول الثاني لجعل) ليكون مصدرا عدديا فيكون
التاء فيه للوحدة (لان الشطر ليس بسجعة) واحدة بل أقله ان يكون سجعتين (و) لكن (ويجوز)
على سبيل التسليم أى تسليم ان التاء للوحدة (أن يسمى كل فقرتين مسجعتين سجعة)
واحدة وهذا من المجاز لانه (تسمية للكل باسم جزئه فقول الحريرى لما اقتعدت غارب
الاغتراب : وانئاتني المتربة عن الاتراب سجعة) واحدة بناء على مامر من المجاز (وقوله
طوحت بي طوائح الزمن : الى صنعاء اليمن : سجعة اخرى) فسمى كل فقرتين في شطرى قوله
سجعة واحدة مجازا مع كون حرف الاخير من الفقرتين في الشطر الاول الباء وفي الشطر
الثاني النون.
(كقوله) اى
مثال ما يسمى من السجع تشطيرا على هذا القول اى القول بعدم اختصاص السجع بالنثر
قوله اى قول ابي تمام يمدح المعتصم بالله حين فتح عمورية تدبير معتصم بالله منتقم
: لله) لا لنفسه وذلك لعدالة (مرتغب في الله اى راغب فيما يقربه من رضوانه مرتقب
اى
منتظر ثوابه او خائف عقابه) او كليهما على ما هو صفة المومنين (فالشطر
الاول سجعة مبنية على الميم والثاني على الباء وقوله تدبير مبتدء وخبره في البيت
الثالث وهو قوله).
لم يرم قوما
ولم ينهد الى بلد
|
|
الا تقدمه
جيش من الرعب
|
(ومن السجع على القول بجريانه في
النظم ما يسمى التصريح وهو جعل العروض مقفاة تقفية الضرب والعروض هو اخر المصراع
الاول والضرب اخر المصراع الثاني منه).
قال السكاكي في
علم العروض الجزء الاول من المصراع الاول يسمى صدر والاخر منه عروضا والاول من
المصراع الثانى ابتداء والاخر منه ضربا وعجزا انتهى ومنه يعلم ان في كلام
التفتازاني في المقام نوع اختصار غير مخل وقد مثل الخطيب في الايضاح بقول ابي فراس
:
باطراف
المثففة العوالي
|
|
تفردنا
باوساط المعالي
|
فالعوالى عروض
والمعالى ضرب والاول مقفاة تقفية الثاني يعنى الحرف الاخير فيهما واحد.
(قال ابن
الاثير لتصريع ينقسم الى سبع مراتب الاولى ان يكون كل مصراع مستقلا بنفسه في فهم
معناه ويسمى التصريع الكامل كقول امرىء القيس :
افاطم مهلا
بعد هذا التدلل
|
|
وان كنت قد
ازمعت هجرى فاجملى
|
الثانية ان
يكون) المصراع (الاول غير محتاج) في فهم معناه (الى) المصراع (الثاني فاذا جاء)
المصراع الثاني (جاء مرتبطا به) بحيث لا يصح معناه الا بارتباطه بالاول (كقوله
ايضا) :
قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الدخول فحومل
|
والشاهد في ان
الشطر الاول غير محتاج الى الثاني لكونه مستقلا
بنفسه دون الشطر الثاني لانه لا يصح معناه الا بالارتباط بالاول.
(الثالثة ان
يكون المصراعان بحيث يصح وضع كل منهما موضع الاخر) وذلك لكون كل واحد من الشطرين
مكملا من حيث المعنى للاخر بحيث لا يصح معناه الا بالاخر (كقول ابن الحجاج
البغدادي) :
من شروط
الصبوح في المهرجان
|
|
خفة الشرب مع
خلو المكان
|
والشاهد فيه
صحة وضع كل من الشطرين موضع الاخرين بلا حصول فرق من حيث المعنى.
الرابعة ان لا
يفهم معنى) الشطر (الاول الا بالثانى ويسمى) هذه المرتبة (التصريع الناقص) وجه
التسمية واضح (كقول أبي الطيب) :
مغانى الشعب
طيبا في المغاني
|
|
بمنزلة
الربيع من الزمان
|
(الخامسة ان يكون التصريع) أي
اتحاد العروض والضرب في التقفية (بلفظة واحدة في المصراعين ويسمى التصريع المكرر)
وجه التسمية ايضا واضح (وهو ضربان لان اللفظة) الواقعة في المصراعين (اما متحدة
المعنى في المصراعين كقول عبيد بن الابرص :
فكل ذي غيبة
يئوب
|
|
وغائب الموت
لا يئوب
|
(وهذا) الضرب (انزل درجة واما
مختلفة المعنى لكونه) اي اللفظ الواقع في المصراعين (مجازا كقول ابي تمام) :
فتى كان شربا
للعفاة ومرتعا
|
|
فاصبح
للهندية البيض مرتعا
|
قبل الشاهد في
المرتع الثاني لكونه مجازا لكن الاصح انه في الموضعين مجاز يظهر وجه ما قلنا
بالرجوع الى اللغة.
(السادسة ان
يكون المصراع الاول معلقا على صفة) اى معمول يرتبط به الاول (تاتي ذكرها في اول)
المصراع (الثاني ويسمى) هذا القسم من التصريع (التعليق) كقول امرء القيس :
الا ايها
الليل الطويل الا انجلى
|
|
بصبح وما
الاصباح منك بامثل
|
والشاهد فيه
ووجه التسمية بينه التفتازاني بقوله (لان) الشطر (الاول معلق بصبح وهذا التعليق
معيب جدا) اي بحيث لا يمكن دفع العيب منه بوجه من الوجوه التي يعتذر بها الشاعر
كالضرورة ونحوها.
(السابعة ان
يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته ويسمى التصريع المشطور كقول ابي نواس.
اقلني قد
ندمت من الذنوب
|
|
وبالاقرار
عدت من الجحود
|
والشاهد فيه
ايضا بينه التفتازاني بقوله (فصرع بالباء ثم قفاه بالدال انتهى كلامه) اي ابن
الاثير.
(ولا يخفى ان)
المرتبة (السابعة) يعنى التصريع المشطور (خارجة مما نحن فيه) اي من اقسام التصريع
الذى هو من اقسام السجع وجه الخروج ما تقدم من انه يجب الموافقة في التقفية في
مطلق السجع وقوام هذا القسم بالمخالفة في التقفية فحارج عما نحن فيه.
(ومنه اى من)
المحسن البديعي (اللفظي) ما يسمى (الموازنة وهي تساوى الفاصلتين اى الكلمتين
الاخيرتين من الفقرتين) ان كان الكلام نثرا (او) الكلمتين الاخيرتين (من المصراعين)
ان كان الكلام نظما.
فالغرض من هذا
التفسير اى قول التفتازاني اى الكلمتين الاخيرتين الخ الاشارة الى ان استعمال
اللفظ الفا صلتين في كلام الخطيب من باب استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وهو فيما
اذا كان الكلام نثر الان الفاصلة في الاصطلاح مختصة بالنثر وفي معناه المجازى وهو
فيما اذا كان الكلام نظما لان استعمال الفاصلة حينئذ مجاز لانه استعمال في غير ما
وضع له في الاصطلاح.
(في الوزن دون
التقفية نحو قوله تعالى (وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُ
مَبْثُوثَةٌ) فلفظا مصوفة ومبثوثة متساويان في الوزن دون التقفية لان)
التقفية فى (الاول على الفاء و) على الثاء في (الثاني اذ لا عبرة بتاء التانيث على
ما بين في علم القوافي) فانهم قالوا في ذلك العلم ان تاء التانيث لبست من حروف
التقفية ان كانت تبدل هاء في الوقف والا فتعتبر كتاء بنت واخت.
قد قلنا ان
الغرض من التفسير الاشارة الى ان الموازنة لا يختص بالنثر لانها قد توجد في النظم
ايضا والى اثبات ذلك اشار التفتازاني بقوله (ومثله) أي مثل ما ذكر يعني الاية (قوله)
:
هو الشمس قدر
او الملوك كواكب
|
|
هو البحر جود
او الكرام جداول
|
فالكواكب
والجداول متفقان في الوزن دون التقفية فثبت ان الموازنة قد تاتي في النظم ايضا.
(والظاهر من
قوله) اي قول الخطيب في المتن (دون التقفية انه يجب في الموازنة ان لا تتساوى
الفاصلتان في التقفية التبة) اي قطعا وبعبارة اخرى الظاهر من قوله دون التقفية ان
عدم تساوى الفاصلتين في التقفية على سبيل العزيمة لا الرخصة (وحينئذ) اى حين اذا
كان عدم التساوى على سبيل الوجوب والعزيمة لا الرخصة (يكون بينها) اى بين الموازنة
(وبين السجع تباين) كلى وذلك لان السجع مشروط بتساوى الفاصلتين في التقفية البتة
والموازنة مشروطه بعدم تساويهما فيها البتة والتباين بين المشروط بالشيء البته
وبين المشروط بعدم ذلك الشيء البتة كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار.
(ويحتمل ان
يريد) الخطيب بقوله دون التقفية (انه) الضمير للشان (يشترط فيها) اي في الموازنة (التساوى
في الوزن ولا يشترط التساوى في التقفية) وبعبارة أخرى يحتمل ان يريد عدم تساوى
الفاصلتين في التقفية على سبيل الرخصة ولا بشرط لا على سبيل الوجوب
والعزيمة فجاز ان تكون الموازنة مع التقفية كما في السجع ومع عدمها.
(وحينئذ يكون
بينها) اى بين الموازنة (وبين السجع عموم وخصوص من وجه) لان السجع مشروط بموافقة
التقفية سواء اتحد فيه الوزن ام لا والموازنة مشروط بموافقة الوزن سواء اتحد فيها
التقفية ام لا.
(لتصادقهما في
مثل (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)) لوجود موافقة الوزن في مرفوعة وموضوعة فيكون موازنة
ووجود موافقة التقفية فيكون سجعا فصدقا أي الموازنة والسجع معا.
(وصدق الموازنة
بدون السجع في مثل (وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)) اما صدق الموازنة فلوجود الموافقة في الوزن واما عدم
صدق السجع فلعدم التقفية لان التقفية في مصفوفة على الفاء وفي مبثوثة على الثاء
واما تاء التانيث فيهما فقد تقدم انه لا عبرة بها اذا كانت تنقلب هاء في الوقف.
(وبالعكس) اي
صدق السجع بدون الموازنة (في مثل (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)) اما صدق السجع فلوجود التقفية واما عدم صدق الموازنة
فلما تقدم قريبا من ان الوقار والاطوار مختلفان وزنا.
هذا كله على
الاحتمالين من قول الخطيب دون التقفية (واما) على (ما ذكره) ابن الاثير في المثل
السائر من ان الموازنة هي تساوي فواصل النثر) في الوزن فقط فلا يشترط في الموازنة
الموافقة في التقفية اى في الحرف الاخير.
(و) كذلك البيت
فان الموازنة فيه ايضا تساوى (صدر البيت وعجزه في الوزن) فقط (لا في الحرف ايضا)
يعني لا يشترط الموافقة في التقفية اى في الحرف الاخير (كما) يشترط الموافقة في
التقفية ايضا (في
السجع).
والحاصل انه
يشترط في الموازنة شيء واحد هو الموافقة في الوزن وفي السجع شيئان الموافقة في
الوزن والموافقة في التقفية اى الحرف الاخير فالنسبة بين الموازانة وبين السجع
كالنسبة بين الحيوان وبين الانسان (فكل سجع موازنة) كما ان كل انسان حيوان (وليس
كل موازنة سجعا) كما ان كل حيوان ليس انسانا.
فتحصل مما
أوضحناه ان النسبة بينهما عند ابن الاثير عموم وخصوص مطلق لا التباين كما هو
الظاهر من قوله اي قول الخطيب ولا العموم من وجه كما في الاحتمال حسبما ما بيناه.
والى اجمال ما
فصلناه اشار التفتازاني بقوله (فمبنى على انه يشترط في السجع تساوى الفاصلتين في
الوزن) ايضا اي مع تساوى الفاصلتين في الحرف الاخير لانه شرط في مطلق السجع عند
الكل (ولا يشترط في الموازنة تساويهما) اي تساوى الفاصلتين (في الحرف الاخير كشديد
وقريب ونحوهما) فنحو (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) موازنة وسجع عنده اي عند ابن الاثير ونحوهما ونحو (شَدِيدُ) و (قَرِيبٌ) اذا وقعا في الفاصلة لا يكون سجعا لعدم التقفية اي لعدم
الموافقة في الحرف الاخير ويكون من الموازنة لوجود الوزن ونحو (وَقاراً) و (أَطْواراً) في الاية المذكورة سابقا لا يكون موازنة ولا سجعا لعدم
الموازنة فتدبر جيدا.
(فان كان اي ثم
اذا تساوى الفاصلتان في الوزن دون التقفية فان كان ما في احدى القرينتين من
الالفاظ او اكثره اي اكثر ما في احدى القرينتين مثل ما يقابله من الالفاظ من
القرنية الاخرى في سواء كان مثله في التقفية او لم يكن) مثل ما يقابله في التقفية (خص
هذا النوع من الموازنة باسم المماثلة فهي) اي المماثلة (من الموازنة بمنزلة
الترصيع من السجع) يعنى كما ان الترصيع قسم من السجع فكذلك المماثلة نوع من
الموازنة.
(ولما كان في
كلام البعض ما يشعر بان الموازنة المفسرة بما فسر به الماثلة مما يختص بالشعر اورد
الخطيب في المتن الاتي (لها) اى للموازنة المفسرة بما فسر المماثلة (مثالا من
النثر ومثالا من الشعر تبنيها على انها) اي الموازنة المفسرة بما فسر به المماثلة (تجرى
في النثر والنظم جمعيا ولا تختص بالنظم على ما هو مذهب البعض) بتوهم ان النظم انسب
باسم الموازنة وهذا التوهم سخيف في الغاية لان الاسم لا تحقق مدلوله في المسمى
كلفظ الموضوع لبعض الاشقياء ولفظ البصير ولبعض العميان.
(وعلم منه) اى
من ايراد الخطيب مثالا من النثر ومثالا من الشعر (ان المماثلة لا تختص بالنثر كما
سبق الى الوهم من قوله) اي قول الخطيب في تفسير الموازنة (هي تساوي الفاصلتين) وجه
هذا التوهم ان الفاصلة مختصة بالنثر ولكن قد تقدم هناك ان استعمال الفاصلتين فى
تفسير الموازنة من قبيل استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه فالحقيقة كون الفاصلتين في
النثر والمجاز كونهما في الشعر والمراد فيما نحن فيه كلا المعنيين فلا وجه لهذا
التوهم ايضا.
والحاصل انه
لما اراد التعميم ودفع هذين التوهمين المتناقضتين (فقال نحو (آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ)) هذه قرنية (وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) هذه قرنية اخرى وكلتا القرينتين التقفية.
واقعة في النثر
(و) اما الواقعة في النظم فهو (قوله اي نحو قول ابي تمام) فى مدح نسوة (مها الوحش)
المها بضم الميم واجاز بعضهم الفتح (اي بقر الوحش) اي هذه النسوة كمها الوحش في
سعة الاعين وسوادها واهدابها (الا ان هاتا او انس اى هذه النساء تانس بك وتحدثك
ومها الوحش نوافر) وبعبارة اخرى هذه النساء تانس بالعشاق والعشاق بهن خلاف مها
الوحش فانها نوافر لا تانس باحد ولا احد بها.
(قنا الخط) اي
هذه النسوة كقنا الخط فى طول القامة واستقامته والقناه جمع قناة وهي الرمح والخط
بفتح الخاء موضع باليمامه او بالبحرين ينسب اليه الرماح المستقيمة.
(الا ان تلك
القنا ذوابل) جمع ذابل من الذبول وهو ضد النعومة والنضارة (و) هذه (النساء نواضر
لا ذبول فيها) والحاصل ان الشاعر يقول ان هذه النسوة كمها الوحش وزدن بالانس
وكالقنا وزدن بالنعومة والنضارة.
و (الظاهر ان
الاية والبيت مما يكون اكثر ما في احدى القرينتين مثل ما يقابله من) القرنية (الاخرى)
في الوزن (لا جميعه اذ لا يتحقق تماثل الوزن في اتيناهما وهديناهما) في الاية (وكذا
في هاتا وتلك) في البيت.
وانما التوافق
في الاية في هما في القرينتين والكتاب مع الصراط والفاصلتين دون الحرف الاخير وفي
البيت في مها ان فتحنا الميم مع القنا وا وانس مع الذوابل والا ان في الموضعين
فالموافقة في الجل لا في الكل.
(ومثال الجميع)
من النثر قوله تعالى (وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) ومن النظم (قول البحتري) :
فاحجم لما لم
يجد فيك مطمعا
|
|
واقدم لما لم
يجد عنك مهربا
|
(ومنه اي من) المحسن (اللفظي القلب)
وهو غير القلب المتقدم في التنجيس وغير القلب السابق في علم البيان (وهو ان يكون
الكلام بحيث اذا قلبته وبدات من حرفه الاخر الى الحرف الاول كان الحاصل بعينه هو
هذا الكلام) ولا يضر في القلب المذكور تبديل بعض الحركات والسكنات ولا تخيف ما شدد
اولا ولا قصر ممدود ولا مد مقصور ولا صيرورة الالف همزة ولا همزة الفا.
(وهو) اى القلب
(قد يكون في النظم وقد يكون في النثر اما في
النظم فقد يكون بحيث يكون كل من المصراعين قلبا للاخر) فحينئذ يذكر مصراع
واحد مكان مصراعين (كقوله) أي قول الحريري (ارانا الاله هلالا انارا) فانه قد ذكر
المقلوبان معا لانك ان بدات بحرفه الاخير ثم بما قبله وهكذا الى ان وصلت الى الحرف
الاول كان الحاصل المصراع الاخر وهو عين هذا المصراع ومن هذا القبيل مصراعى البيت
الفارسي :
شكر بترازوى
وزارت بركش
|
|
شو همره بلبل
بلب هر مهوش
|
(وقد لا يكون كذلك) أي لا يكون
بحيث يكون كل من المصراعين قلبا للاخر (بل يكون مجموع البيت قلبا لمجموعه كقوله اى
قول القاضي الارجاني).
مودته تدوم
لكل هول
|
|
وهل كل مودته
تدوم
|
فانك اذا بدات
بالميم من تدوم في اخر المصراع الثاني ثم بما قبله وهكذا الى ان وصلت الى الميم من
مودته في اول المصراع الاول كان الحاصل مجموع هذا البيت.
هذا كله في
النظم (واما في النثر فما اشار اليه بقوله وفي التنزيل (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) و (رَبَّكَ فَكَبِّرْ)) لكن الواو في هذا المثال الاخير خارج عن التمثيل.
(و) قد تقدم ان
(الحرف المشدد في هذا الباب في حكم المخفف لان المعتبر هو الحروف المكتوبة) لا
الملفوظة.
(ومنه اى من
اللفظي التشريع) ولما كان في هذا الاسم نوع من قلة الادب لان اصل التشريع عند اهله
تقرير احكام الشرع وهو وصف لله جلاله ووصف لرسوله (ص) فالاحسن ان يسمى باسم اخر
قال (يسمى التوشيح) وهو في الاصل التزيين باللالى ونحوها (و) يسمى (ذا القافيتين
ايضا) والتسمية الاخيرة ادل واصرح في معناه واقرب لقوله
(وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى) اى يكون المعنى تاما بحيث يصح
السكوت عليها كما بين في تعريف الكلام (عند الوقوف على كل منهما اى من القافيتين).
ولما علم من
قول الخطيب وهو بناء البيت الخ ان هذا القسم من المحسن اللفظي مختص بالشعر والشعر
لا يستقيم بل لا يصح الا بالوزن وهو لم يذكره في التعريف اعترض عليه بما اشار اليه
التفتازاني بقوله (وكان عليه ان يقول يصح الوزن والمعنى عند الوقوف على كل منهما
لانه يجب في التشريع ان يكون الشعر مستقيما على اي القافيتين وقفت لانهم فسروه) اي
فسرو التشريع (بان يبنى الشاعر ابيات القصيدة) حالكونها (ذات قافيتين على بحرين)
من البحور التي اشار اليها ابو نصر الفراهي بطريق الاجمال وقد ذكروها وذكروا اقسام
كل بحر في علم العروض بطريق التفصيل (او على ضربين) اى قسمين (من بحر واحد)
والحاصل ان يبني الشاعر جميع ابيات القصيدة او بعضها على قافيتين (فعلى اى
القافيتين وقفت كان شعرا مستقيما) من حيث الوزن وتاما من حيث المعنى.
(والجواب ان
لفظ القافيتين مشعر بذلك) اى باشتراط الوزن مع صحة المعنى لان القافية لا تكون الا
في البيت فيستلزم تحقق القافية تحقق استقامة الوزن لان القافية لا تسمى قافية الا
مع استقامة الوزن (فليتامل) حتى تعرف صحة الجواب.
(كقوله اى قول
الحريرى يا خاطب الدنيا) ماخوذ (من خطب) فلان (المرئة) اى اراد ان يتزوجها (الدنية)
صفة الدنيا اى (الخسيسة انها) اى الدنيا (شرك الردى اى حبالة الهلاك) اى شبكة
الموت (وقرارة الاكدار اى مقر الكدورات) وقريب من ذلك ما قاله الشاعر
الفارسي :
بجود رستي
عهد از جهان سست نهاد
|
|
كه اين عجوزه
عروس هزار داماد است
|
(دار) عطف على خبر ان اعني شرك
الردى.
دار متى ما
اضحكت في يومها
|
|
ابكت غدا
تبالها من دار
|
غاراتها لا
تنقضى واسيرها
|
|
لا يفتدى
بجلائل الاخطار
|
فكل واحد من
هذه الابيات مبنى على قافيتين (وكذا سائر الابيات) التي ذكرها الحريرى في القصيدة
التي هذه الابيات منها فانها ايضا مبنية على قافيتين فيصح ان يجعل الروى اى الحرف
الاخير فيها الدال ويترك ما بعدها فيصح الوزن والمعنى بان يقال هكذا.
يا خاطب
الدنيا الدنية
|
|
انها شرك
الردى
|
دار متى ما
اضحكت
|
|
في يومها
ابكت غدا
|
غاراتها لا
تنقضى
|
|
واسيرها لا
يفتدى
|
فحذف قرارة
الاكدار وبعدالها ومن الجارة وبجلائل الاخطار ومع ذلك يصح الوزن والمعنى.
ويجوز ان يجعل
الروى فيها الراء بان لا يحذف منها شيء مما ذكر بان يقرء كل واحد من الابيات
الثلاثة بتمامه كما ذكر في الكتاب فيصح الوزن والمعنى ايضا.
(فهذه الابيات
كلها من) البحر (الكامل) واصله على ما قاله السكاكي متفاعلن ست مرات وانه يسدس على
الاصل تارة ويربع مجزوا اخرى وله في مسدسه عروضان الاولى سالمة ولها ثلاثة اضرب
سالم مقطوع واحد مضمر وقد اثبت غير الخليل والاخفش ضربا رابعا احد والعروض الثانية
حذاء ولها ضربان اولهما احذ وثانيهما احذ مضمر
وله في مربعه عروض واحد سالمة ولها أربعة اضرب مرفل ومذال ومعرى ومقطوع وقد
بين معنى كل واحد من هذه الاسماء في علم العروض مع سائر الاسماء المصطلحة عندهم
ومن اراد الاطلاع عليها فعليه مراجعة الكتب التي دون في ذلك العلم لان العادة ان
ما يحكى في علم من علم اخر يوكل بيانه الى ذلك العلم حتى قيل ان التعرض له في
العلم المحكى فيه اذا لم تتوقف مسائل العلم على تصوير تفاصيله يعد زيادة فضول
وخارج عن الخلد المعقول.
اللهم الا ان
يكون المراد ما قاله التفتازاني في بحث التشبيه من الابتهاح بالاطلاع على اصطلاحات
اهل ذلك العلم.
فالمقصود ههنا
الاشارة الاجمالية بمقدار يتضح المراد بقول التفتازاني (الا انها على القافية
الثانية) اى وهي ما اذا جعل الروى الراء بان يقرء الابيات كما هو المذكور في
الكتاب حسبما بيناه انفا (من ضربه الثاني) اى من الضرب الثاني من البحر الكامل وهو
مسدسه الذى عروضه سالمة من الزحاف (وعلى القافية الاولى) بان يجعل الروى الدال
حسبما بيناه انفا (من ضربه الثامن) اي من الضرب الثامن من البحر الكامل وهو مربعه
الذي اجزائه الاربعة سالمة.
(و) قد بينا في
بحث السجع ان (القافية عند الخليل من اخر حرف في البيت الى اول ساكن يليه) اي اول
ساكن قبله (مع الحركة التي قبل ذلك الساكن.
(ويروى عنه) اى
عن الخليل (ايضا ان المتحرك الذي قبل ذلك الساكن هو اول القافية) وهذا هو الصحيح
حسبما نقلناه هناك.
(فالقافية
الاولى) وهي اذا جعل الروى الدال ولا يقرء الباقي (من قوله يا خاطب هي من حركة
الكاف من شرك الردى الى الاخر فكاف لا
دخل له في القافية.
(او) القافية (مجموع
قوله كالردى) نظر الى ما يروى عنه من ان المتحرك الذي قبل ذلك الساكن هو اول
القافية فيكون للكاف دخل في القافية.
(والقافية
الثانية) وهي اذا جعل الروى الراء (من فتحة الدال من الاكدار الى الاخر فالدال لا
دخل له في القافية (او) القافية مجموع (لفظة دار منه) اي من الاكدار نظرا الى ما
يروى عنه وقس على هذا سائر الابيات.
(وههنا) اي في
القافية (اقوال اخر مذكورة في علم القوافي) وقد ذكرناها نحن في بحث السجع فراجع.
(ولو قال)
الخطيب (هنا) اى في تعريف التشريع (هو بناء البيت على قافيتين او اكثر لكان احسن
ليشمل) ما يكون بنائه على اكثر من قافيتين (نحو قول الحريرى).
جودى على
المستهتر الصب الجوى
|
|
وتعطفى
بوصاله وترحمى
|
ذا المبتلى
المتفكر القلب الشجى
|
|
ثم اكشفى عن
حاله لا تظلمى
|
فان هذه
الابيات بنائها على ست قواف الاولى ان يكون الروى فيها الراء في المستهتر والمتفكر
فيقال هكذا.
جودى على
المستهتر
|
|
ذا المبتلى
المتفكر
|
الثانية ان
يكون الروى الباء في الصب والصلب والقلب فيقال.
جودى على
المستهتر الصب
|
|
ذا المبتلى
المتفكر القلب
|
والثالثة ان
يكون يكون الروى الياء في الجوى والشجى فيقال.
جودى على
المستهتر الصب الجوى
|
|
ذا المبتلى
المتفكر القلب الشجى
|
والرابعة ان
يكون الروى الفاء في تعطفى واكشفى فيقال.
جودي على
المستهتر الصب الجوي وتعطفى
|
|
ذا المبتلى
المتفكر القلب الشجى ثم اكشفى
|
والخامسة أن
يكون الروى الهاء في وصاله وحاله فيقال :
جودي على
المستهتر الصب الجوى وتعطفي بوصاله
|
|
ذا المبتلى
المتفكر القلب الشجي ثم اكشفي عن حاله
|
والسادسة ما
يكون الروى الميم في ترحمي ولا تظلمي كما في الكتاب.
(فان قيل اذا
وجد البناء على أكثر من قافيتين فقد وجد البناء قافيتين) لان الاكثر من قافيتين لا
يوجد إلا إذا وجدت القافيتان ومن هنا قالوا بالفارسية (چون كه صد امد نود هم پيش
ما است) فقوله اى الخطيب وهو بناء البيت على قافيتين من دون ان يقول او أكثر نظير
قول ابن مالك في باب التنازع :
ان عاملان
اقتضيا في اسم عمل
|
|
قبل فللواحد
منها العمل
|
فقال ميرزا ابو
طالب على قول السيوطي وهو ان يتوجه عاملان الى معمول واحد هذا جرى على الغالب لا
شرط.
فتحصل من مجموع
ما ذكرنا ان قول الخطيب بناء البيت على قافيتين يحتمل فقط ويحتمل واكثر فهو يريد
الاحتمال الثاني فلا اعتراض.
(قلت الظاهر من
قوله هو بناء البيت على قافيتين ان يكون مبنيا عليهما فقط) في كون قوله ظاهرا في
ذلك نظر ظاهر.
(ومنه اى من)
الضرب (اللفظي) من الوجوه المحسنة للكلام (لزوم ما يلزم ويقال له الالتزام) وانما
سمى بذلك لان المتكلم شاعر كان أو ناثرا الزم نفسه شيئا لم يكن لازما له.
(و) يقال له (التضمين)
ايضا وذلك لتضمينه اى المتكلم قافيته ما لا يلزمها (و) يقال له (التشديد) ايضا لا
يقاع المتكلم نفسه في شدة (و) يقال له (عنات ايضا) لا يقاع المتكلم نفسه في عنت اى
فى مشقة.
وهو ان يجيء
قبل حرف الروى وهو) اى حرف الروى (الحرف الذي تبنى عليه القصيدة وتنسب إليه فيقال
فصيدة لامية او عينية او نونية مثلا).
وانما (سمى
بذلك لانه يجمع بين الابيات) فالروى ماخوذ (من رويت الحبل اذا فتلته) فيلزمه الجمع
بين الخيوط فيقوى وإلى ذلك اشار بقوله (وهذا لان الفتل يجمع بين قوى الحبل او)
ماخوذ (من رويت على البعير اذا شددت عليه الرواء وهو الحبل الذي يجمع به الاحمال)
كذلك الحرف من القافية الذي تنسب اليه القصيدة يجمع بين الابيات (او) ماخوذ (من
الري) ضد العطش (لان البيت يرتوى) اي يرتفع عنه انتظار الاتيان بحرف آخر (فينقطع)
البيت عنده (كما ان عند الارتواء ينقطع الشرب) فلا ينتظر الانسان ماء آخر للشرب
هذا في النظم.
واما في النثر
فاشار إليه بقوله (او ما في معناه اى) او يجيىء (قبل الحرف الذي هو في معنى حرف
الروى من الفاصلة يعني الحرف الذي وقع في فواصل الفقر موقع حرف الروى في قوافى
الابيات ما ليس بلازم في السجع مثل التزام حرف او حركة) وهو ثلاثة اقسام أحدها
التزام حرف وحركة معا وثانيهما التزام الحرف دون الحركة وثالثها عكس الثاني اي
التزام الحركة دون الحرف وسيجييء مثال كل واحد عن قريب.
(فقوله من
الفاصلة) متعلق بمحذوف وجوبا وهو (حال من ما) الموصولة في قوله أو ما (في معناه و)
اما ما الموصولة في قوله ما ليس بلازم) فهو (فاعل يجيىء) ويحتمل ان يكون قوله من
الفاصلة بيان لما في قوله او ما في معناه فاطلاق الفاصلة على الحرف الاخير الذي
يختم
به الفاصلة من باب اطلاق الجزء على الكل.
(والمراد به ان
يجيىء ذلك) الحرف او الحركة قبل حرف الروي إذا كان نظما (في بيتين او أكثر و) إذا
كان نثرا يجيء ذلك الحرف او الحركة قبل الحرف الذي هو في معنى الروى في (قرينتين
أو أكثر وإلا ففي كل بيت يجيىء قبل حرف الروى ما ليس بلازم في السجع) وكذا قبل ما
في معنى حرف الروى (مثلا قوله) :
قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الدخول فحومل
|
(قد جاء) في هذا البيت فقط (ميم مفتوح
وهو ليس بلازم في السجع) مع انه ليس فيه لزوم ما لا يلزم (وانما يتحقق لزوم ما لا
يلزم لو جيىء في البيت الثاني ايضا بميم) مفتوح او غير مفتوح حسبما اشرنا اليه من
الاقسام.
(وقوله ما ليس
بلازم في السجع معناه يوتى قبل حرف الروى من قافية البيت او قبل ما في معناه من
فاصلة الفقرة بشيء) اي حرف او حركة (لا يلزم الاتيان به في مذهب السجع يعني لو جعل
هاتان القافيتان) الموجودتان في النظم (او الفاصلتان) الموجودتان في النثر (سجعتين
لم يحتج إلى الأتيان بذلك الشيء) اى الحرف او الحركة (ويصح السجع بدونه).
والحاصل أن
قوله ما ليس بلازم فى السجع معناه انه لو حولنا القافية فى النظم او الفاصلة فى
النثر إلى السجع لم يحتج إلى الاتيان بذلك الشيء فليس معناه ان السجع الآن موجود
في النثر حتى يختص التعريف بالنثر فقط ولا يشمل النظم.
(وبهذا) المعنى
الذي بينا لقوله ما ليس بلازم في السجع (يظهر نساد ما يقال انه كان ينبغي ان يقول
ما ليس بلازم في السجع أو
القافية) ليشمل بقوله أو القافية النظم ايضا و (ليوافق قوله قبل حرف الروى
او ما في معناه).
أما بيان
الامثلة (فمجيء ما ليس بلازم في السجع قبل ما هو في معنى حرف الروى من الفاصلة (نحو
قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فالراء بمنزلة حرف الروى) في البيت (وقد جييء قبلها في
الفاصلتين بالهاء وهو ليس بلازم في السجع لتحقق السجع بدون ذلك مثل (فَلا تَنْهَرْ) ولا تسخر ولا تظفر ونحو ذلك) مما في آخره راء بدون
الهاء (وكذا فتحة الراء) فانها ايضا مما ليس بلازم في السجع لتحقق السجع في نحو (فَلا تَنْهَرْ) ولا تنصر ولا تصغر) مع اختلاف الحركات في ما قبل الراء (كما
ذكر) تحقق السجع في قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)) مع اختلاف حركة ما قبل الراء في القمر ومستمر (و) مثال
(مجيئه) اى مجيىء ما ليس بلازم (قبل حرف الروى نحو قوله) :
سأشكر عمرا
ان تراخت منيتي
|
|
ايادي لم
تمنن وان هي جلت
|
قوله لم تمنن
اما مأخوذ من المن بمعنى القطع أو من المن بمعنى تعديد الصنايع والعطايا ومن ذلك
يعلم ان قوله (اى لم تقطع او لم تخلط بمنة) تفسير لقول الشاعر لم تمنن قال في
المصباح مننت عليه منا عددت له ما فعلت له من الصنايع مثل ان تقول اعطيتك وفعلت لك
وهو تكدير وتغيير تنكسر منه القلوب فلهذا نهى الشارع عنه بقوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى) ومن هنا يقال المن أخو المن اى الامتنان بتعديد الصنايع
أخو القطع والهدم فانه يقال مننت الشيء منا إذا قطعته فهو ممنون والمنون المنية
انتى وكأنها اسم فاعل من المن وهو القطع لانها تقطع الاعمار والمنون الدهر والمن
بالفتح شيء يسقط من السماء فيجنى انتهى.
(وان عظمت)
تفسير لقول الشاعر وان هي جلت والضمير فيه عائد الى الايادي جمع أيد جمع يد بمعنى
النعمة فالايادي جمع الجمع.
(وفي) كتاب (الاساس
شكرت لله نعمته واشكر والى) الغرض من هذا الكلام ان شكر فعل لازم لا يتعدى بنفسه
إلى المنعم بالكسر بل يتعدى باللام الجارة وأما المنعم به فيتعدى اليه بنفسه (وقد
يقال شكرت فلانا يريدون نعمته) والغرض من هذا الكلام انه قد يتعدي بنفسه الى
المنعم بالكسر لكنه بالتأويل اى بتأويله بالمنعم به.
قال في المصباح
شكرت الله اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية ولهذا يكون
الشكر بالقول والعمل ويتعدى في الاكثر باللام فيقال شكرت له شكرا وشكرانا وربما
تعدى بنفسه فيقال شكرته.
وأنكره الاصمعي
في السعة وقال بابه الشعر وقول الناس في القنوت نشكرك ولا نكفرك لم يثبت في
الرواية المنقولة عن عمر على ان له وجها وهو الازدواج وتشكرت له مثل شكرت له
انتهى.
فظهر من جميع
ما ذكرنا ان تعدية شكر بنفسه قليل وإلى ذلك أشار بقوله (فكان أراد لعمرو فحذف
الجار) وانتصب بنزع الخافض (أو جعل أيادي بدل اشتمال من عمر) هذا بناء على جعل
عمرا مؤلا بالمنعم به حسبما أشرنا انفا.
فتى غير
محجوب الغنى عن صديقه
|
|
ولا مظهر
الشكوى اذا النعل زلت
|
(فتى أي هو فتى) يعني ان فتى خبر
مبتدء محذوف (يقال في الكناية عن نزول الشر وامتحان المرء زلت القدم به وزلت النعل
به) والمراد من المصراع الاخير قوله (أى لا يظهر الشكاية إذا نزل به البلايا
وابتلى بالشدة بل يصبر على ما ينوبه من حوادث الزمان) ولا يشكو منها إلا
الى الله (وفي طريقته) أي في مضمونه من حيث المعنى أى في طريقة مجموع
المعنى لا المصراع الاخير فقط (قول) الشاعر (الاخر).
إذا افتقر
المرار لم يرّ فقره
|
|
وإن أيسر
المرار أيسر صاحبه
|
(رأى خلتي أي فقري من حيث يخفى
مكانها لاني كنت أسترها بالتحمل فكانت خلتي) أى فقري (قذا عينيه) أى كان فقرى
كالوسخ في عينيه فما زال يعالجها (حتى تجلت أى انكشفت وزالت) تلك الخلة (باصلاحه
لها باياديه) أى بنعمه وعطاياه (يعني من حسن اهتمامه جعله) أى جعل الفقر (كالداء
الملازم له حتى تلافاه بالاصلاح) بسبب نعمه وعطاياه.
إلى هنا كان
الكلام في حاصل معنى الابيات المذكورة في كلام الخطيب واما الشاهد فيها (فحرف
الروى) فيها (هو التاء وقد جيىء قبلها في الابيات بلام مشددة مفتوحة وهو) أى مجيىء
تلك اللام (ليس بلازم في مذهب السجع) أى في تحقق السجع (لتحقق السجع في نحو جلت و (مُدَّتْ) ومنت و (انْشَقَّتِ) ونحو ذلك) مما اختلف الحرف الذى قبل التاء ولو كانت
الحركة في ذلك ايضا مختلفة.
(ففي كل من
الآية والابيات نوعان من لزوم ما يلزم أحدهما التزام الحرف كالهاء) في الآية (واللام)
في الابيات (والثاني التزام فتحهما) أى فتح الهاء في الآية وفتح اللام في الأبيات.
(وقد يكون
الأول) أى التزام الحرف (بدون الثاني) أى بدون التزام الحركة (كالقمر ومستمرو) قد
يكون (بالعكس) أى قد يكون التزام الحركة بدون الحرف (كقول ابن الرومي).
لما توذن
الدنيا به من صروفها
|
|
يكون بكاء
الطفل ساعة يولد
|
وإلا فما
يبكيه منها وانها
|
|
لا وسع مما
كان فيه وارغد
|
والشاهد (حيث
التزم فتح ما قبل الدال) بدون التزام الحرف لان الحرف قبل الروي في يولد اللام وفي
ارغد الغين.
(فان قلت قد
ذكر المصنف في الايضاح ان ذلك) اى لزوم ما لا يلزم (قد يكون في غير الفاصلتين ايضا
كما يكون في الفاصلتين والقافية (كقول الحريري وما اشتار العسل من اختار الكسل
فانه كما اختار في الفاصلتين اعنى العسل والكسل السين التي يحصل السجع بدونها كذلك
قد التزم في اشتار واختار التاء التي يحصل السجع بدونها فهل يدخل مثل ذلك في
التفسير المذكور) في اول البحث.
(قلت يحتمل ان
يريد) في هذا الكتاب ايضا ما ذكره في الايضاح اذ يمكن ان يريد (بقوله) في التفسير
المذكور في هذا الكتاب (قبل حرف الروى أو ما في معناه اعم من ان يكون ذلك فى حروف
القافية والفاصلة او غيرهما لان جميع ما فى البيت الى حرف الروى يصدق عليه انه قبل
حرف الروى وكذا ما فى معناه من الفاصلة فيصدق على التاء في اشتار واخنار انه قبل
اللام التي هي بمنزلة حرف الروى لكن هذا) التعميم (بعيد) فى الغاية.
(و) ذلك لان (الظاهر
ان لزوم ما لا يلزم انما يطلق) فى الاصطلاح (على ما يكون فى القافية) ان كان نظما (او)
يكون فى (الفاصلة) ان كان نثرا (لانهم) اى اهل الاصطلاح (فسروه بان يلزم المتكلم
فى السجع والتقفية قبل حرف الروى ما لا يلزمه من مجيىء حركة مخصوصة او حرف بعينه)
اي حرف معين (او اكثر) من حركة واحدة ومن حرف واحد.
(و) الظاهر
ايضا (ان قوله) اى قول الخطيب فى هذا الكتاب (قبل حرف الروى أو ما فى معناه من)
خصوص (حروف القافية او)
من خصوص حروف (الفاصلة) لا الاعم من ان يكون ذلك في حروف القافية والفاصلة
او غيرهما حتى يصدق على التاء في اشتار واختار انه قبل اللام التي هي بمنزلة حرف
الروى.
والحاصل انه
ليس المراد من قوله او ما في معناه ما ادعى من المعنى الاعم من حروف القافية
والفاصلة (والا) أي وان كان المراد المعنى الاعم (لكان المناسب ان يقول في البيت
او الفقرة) لانه لو قال ذلك لشمل نحو اشتار واختار لانه ليس حينئذ مقيدا بكونه قبل
حرف الروى او الفاصلة بل يشمل مطلق ما في البيت او الفقرة.
(و) اما (قوله
في الايضاح وقد يكون ذلك في غير الفاصلتين ايضا) الذي صار منشاء لتوهم الاعمية
فليس كما توهم لان (معناه ان مثل هذا الاعتبار الذي يسمى) في الاصطلاح (لزوم ما
يلزم قد يجيىء في كلمات الفقر والابيات غير فواصل والقوافي) فليس معناه ان ما
يجيىء في غير الفواصل والقوافي يسمى في الاصطلاح لزوم ما يلزم.
والحاصل ان ما
يجيىء في كلمات الفقر والابيات غير الفواصل والقوافي في شبيه بلزوم ما يلزم لانه
ايضا يسمى لزوم ما لا يلزم فتدبر جيدا.
الى هنا كان
الكلام في بيان اقسام اللفظى من المحسنات فلما فرغ الخطيب من ذلك اراد ان يشير الى
وجه الحسن بهذه المحسنات اللفظية اى الى الشيء الذي لا بد ان يحصل حتى يحصل الحسن
بهذه المحسنات اللفظية فالمراد من الاصل الشرط واطلاق الاصل على الشرط جائز لتوقف
المشروط على الشرط كتوقف الفرع على الاصل فقال (وأصل الحسن في ذلك كله يعنى في
الضرب اللفظى من المحسنات ان يكون الالفاظ تابعة للمعاني) وذلك بان تكون المعاني
هي المقصود بالذات والالفاظ تابعة لها (دون العكس أي لا ان يكون المعاني توابع
الالفاظ وذلك لان المعاني اذا تركت على
سجيتها) اى على طبيعتها (طلبت لانفسها الفاظا تليق بها فيحسن اللفظ والمعنى
جميعا وان اتى بالفاظ متكلفة مصنوعة وجعل المعاني تابعة لها كان كظاهر مموه) اى
مزخرف اي مزين (على باطن مشوه) قبيح (ولباس حسن على منظر قبيح وغمد من ذهب على نصل
من خشب) هذا تذكرة لما تقدم في اول هذا الفن واشار اليها في المقدمة في صدر الكتاب
من ان هذه الوجوه انما تعد محسنة للكلام بعد رعاية مطابقة الكلام المقتضى الحال
وبعد رعاية وضوح الدلالة بالخلو عن التعقيد والا لكان كتعليق الدرر على اعناق
الخنازير.
(فينبغى ان
يجتنب مما يفعله بعض المتاخرين الذين لهم شعف بايراد شيىء من المحسنات اللفظية
فيصرفون العناية الى جمع عدة من المحسنات ويجعلون الكلام كانه غير مسوق لا فادة
المعنى فلا يبالون بخفاء الدلالات اذا كانت الالفاظ مجاوات او كنايات (وركاكة
المعاني) اذا كانت الالفاظ حقايق.
فلا بد للمتكلم
ان يجعل مراعات المعاني اصلا ومراعات الالفاظ فرعا حتى يتميز الكامل من القاصر
والفاضل من الجاهل والتوفيق من الله المعطى لكل سائل.
(قال المصنف)
في الايضاح ما حاصله (هذا ما تيسر لي باذن الله تعالى جمعه وتحريره من اصول الفن
الثالث وبقيت اشياء يذكرها في علم البديع بعض المصنفين وهو قسمان الاول ما يتعين
اهماله ويجب ترك التعرض له اما لعدم دخوله في فن البلاغة او لعدم كونه راجعا الى
تحسين الكلام البليغ وهو ضربان احدهما ما يرجع الى التجنيس في الخط دون اللفظ مع
ما فيه من التكلف مثل كون الكلمتين متماثلتين في الخط كما ذكرنا فيما سبق) في ذيل
الجناس المزدوج.
(ومثل الموصل
وهو ان يوتى بكلام يكون كل من كلماته متصلة الحروف كقول الحريري فتنتنى فجننتنى
تجنى بتجن يفتن غب تجنى) واحسن واكمل من هذا المصراع الاول من قول الشاعر الفارسي
:
ز منجنيقفلك
، سنكفتنهميبا رد
|
|
من ابلهانه
كريزم درا بكينه حصار
|
(ومثل المقطع وهو ضد الموصل كقول الوطواط
:
وادرك ان زرت
دار ودود
|
|
در او ورد او
ورد او ردوا
|
(ومثل الخيفاء وهي الرسالة او
القصيدة التي يكون حروف احدى كلميتها منقوطة باجمعها وحروف الاخرى غير منقوطة
باجمعها كقول الحريرى لكرم ثبت الله جيش سعودك يزين الى اخر الرسالة) فراجع.
(ومثل الرقطاء وهي
التي احد حروف كل كلمة منها منقوطة والاخر غير منقوطة ومثل الحذف وهو ان يتكلف
الكاتب او الشاعر فياتى برسالة او خطبة او قصيدة لا يوجد فيها بعض حروف المعجم) اى
المنقوطة ومن امثلتها قول الشاعر الفارسي :
حمد مر
كردكار عالم را
|
|
كه روا كرده
كام آدم را
|
(و) القسم (الثاني مالا اثر له في
التحسين قطعا مثل الترديد وهو ان تعلق الكلمة) الواحدة (في المصراع او الفقرة
بمعنى ثم تعلقها بعينها بمعنى اخر كقوله تعالى (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ
ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ)) الشاهد في لفظ الجلالة حيث ردد في الاية مرتين متعلقا
بشيئين فانه تعلق في المرة الاولى باوتى وفي المرة الثانية باعلم.
(وكقول زهير) :
من يلق يوما
على علاته هرما
|
|
يلق السماحة
فيه والندى خلقا
|
الشاهد في يلق
فانه ردد في البيت مرتين متعلقا في كل مرة بشيء فانه تعلق في المرة الاولى بهر ما
وهو اسم رجل وتعلق في المرة الثانية
بالسماحة.
(وكقول أبي
نواس)
صفراء لا
تنزل الاحزان ساحتها
|
|
لو مسها حجر
مسته سراء
|
الشاهد في المس
واما تكرار المثال فللتنبيه على ان الترديد قد يقع في مجموع البيت كالبيت الاول
وقد يقع في احد مصراعيه كالبيت الثاني فتنبه.
(ومثل التعديد
ويسمى سياقه الاعداد وهو ايقاع اسماء مفردة على سياق واحد) كقول المتني :
فالخيل
والليل والبيداء تعرفني
|
|
والضرب
والحرب والقرطاس والقلم
|
(ومثل ما يسمى بتنسيق الصفات وهو
تعقيب موصوف بصفات متوالية) كقوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) الى اخر الاية.
الى هنا كان
الكلام فيما يجب ان يترك اما لعدم دخوله في فن البلاغة او لعدم كونه راجعا الى
تحسين الكلام البليغ ومنه اي مما يجب تركه ايضا ما ذكره بقوله (واما لعدم الفائدة
في ذكره لكونه داخلا فيما ذكرنا في الابواب الثمانية المتقدمة.
(مثل ما سماه
بعض المتاخرين الايضاح وهو ان ترى) انت (في كلامك خفاء دلالة) اى من حيث الدلالة (فتاتي
بكلام يبين المراد ويوضحه) وانما يجب تركه في علم البديع (فانه داخل في الاطناب)
فراجع.
(ومثل التوشيع
بالمعنى المذكور في باب الاطناب وقد اورده) بعض المتاخرين (في المحسنات) البديعية (او
لكونه مشتملا على تخليط مثل اسماه) بعض المتاخرين (حسن البيان وهو كشف المعنى
وايصاله الى النفس) اى نفس المخاطب وانما يجب تركه (فانه قد يجيىء مع الا يجاز وقد
يجيىء مع الاطناب ومع المساواة ايضا) الى هنا كان الكلام
في القسم الاول مما ذكره بعض المصنفين في علم البديع واما (القسم الثاني)
منه فهو (ما لا بأس بذكره لاشتماله على فائدة مع عدم دخوله فيما سبق) في الابواب
الثمانية المتقدمة ولاجل ذلك اى لاشتماله على فائدة يذكره المصنف في الخاتمة
والفصل الاتيين.
(مثل القول في
السرقات الشعرية وما يتصل بها ومثل القول في الابتداء والتخلص والانتهاء) حسبما
ياتي في الخاتمة والفصل الاتيين مفصلا.
(والمصنف قد
ختم الفن الثالث بذكر هذه الاشياء) المشتملة على فائدة (وعقد لها خاتمة وفصلا وعلم
بذلك ان الخاتمة انما هي خاتمة الفن الثالث وليست خاتمة الكتاب خارجة عن الفنون
الثلاثة كالمقدمة على ما توهمه بعضهم) وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في صدر الكتاب
عند بيان وجه حصر الكتاب في الفنون الثلاثة فراجع.
(خاتمة في
السرقات الشعرية وما يتصل بها اى بالسرقات مثل الاقتباس والتضمين والحل والعقد
والتطميح وغير ذلك مثل القول في الابتداء والتخلص والانتهاء) وياتي بيان كل واحد
من المذكورات مستقصى.
وقد شرع الخطيب
في بيان ما ذكر فقال توطئة وتمهيدا لبيان السرقات الشعرية (اتفاق القائلين) هذا
بصيغة التثنية لا الجمع والمراد من أحدهما القائل المأخوذ منه ولو كان متعددا
والمراد من لآخر الأخذ أعني الذي أخذ من ذلك القائل ولو كان هذا الأخذ متعددا.
(إن كان)
إتفاقهما (في الغرض) أي في المعنى المقصود حالكون ذلك الغرض (على العموم) أي يقصده
عموم الناس أي كل أحد منهم (كالوصف بالشجاعة والسخاوة وحسن الوجه والبهاء) وهو
الحسن مطلقا
سواء تعلق بالوجه أو بغيره (ونحو ذلك) كرشاقة القد أي إعتدال القامة
وكالذكاء والبلادة ونحو ذلك من الأوصاف التي يثبتها عامة المتكلمين لمن أرادوا أن
يثبتوها له.
(فلا يعد)
اتفاق القائلين في التوصيف بهذه الأوصاف (سرقة) ولو كان كلام القائل المتأخر
مطابقا لكلام القائل المتقدم (ولا) يعد ايضا (إستعانة) بان يقال أن المتأخر من
القائلين استعان في التوصيف بالصفات المذكورة بالمتقدم من القائلين (ولا) يعد أيضا
(أخذا) بأن يقال أن المتأخر أخذ ذلك من المتقدم.
(ونحو ذلك مما
يؤدى هذا المعنى) كالانتهاب والاغارة والغصب والمسخ ونحو ذلك من الأسماء التي يأتي
بيانها مفصلا.
والحاصل أن
إتفاق القائلين في توصيف شخص بوصف من الأوصاف المذكورة لا يعد سرقة ولا غيرها من
الأسماء (لتقرره أي لتقرر هذا الغرض العام) أي التوصيف بالاوصاف المذكورة (في
العقول والعادات) فلا يختص اختراع ذلك بعقل مخصوص حتى يكون غيره أخذا ذلك منه ولا
بعادة في زمان مخصوص حتى يكون أهل زمان آخر أخذا من أهل ذلك الزمان.
(و) بسبب تقرر
ذلك في العقول والعادات (يشترك فيه) اي في الغرض على العموم (الفصيح والاعجم) وهو
ضد الفصيح (والشاعر والمفحم) هو بفتح الحاح ضد الشاعر أي من لا قدرة له على الشعر.
والحاصل انه إذا
كان جميع العفلاء والمتكلمين متساوين في ذلك الغرض لتقرره في عقولهم فلا يكون أحد
فيه أقدم حتى يقال أن الأخير أخذ منه.
إلى هنا كان
الكلام فيما كان اتفاق القائلين في الغرض على العموم
حسبما فصلنا (وإن كان إتفاق القائلين في وجه الدلالة على الغرض) أي فى طريقها
(وهو أن يذكر) أحدهما أي القائلين (ما) أي لفظا أي كلاما (يستدل به على اثبات وجه
من) وجوه (الشجاعة والسخاء وغير ذلك) كالجبن والبخل والجمال وقبح المنظر ونحو ذلك
من الاوصاف.
وقوله (كالتشبيه)
مثال للوجه (و) كذا قوله (المجاز والكناية) والمراد الكلام الدال على التشبيه
والمجاز والكناية وذلك لأن المراد بالوجه كما أشرنا باللفظ.
والحاصل أن
يذكر أحد القائلين كلاما يستدل به على تشبيه أو مجاز أو كناية وذكر الآخر كلاما
كذلك مثلا لو قال أحد القائلين فى شأن زيد هو كالشمس فى الاشراق أو كالاسد فى
الشجاعة أو كالبحر فى الوجود أو مهزول الفصيل أو قال رأيت أسدا فى الحمام وقال
القائل الآخر فى شأن عمرو مثل ذلك.
(وكذكر هيئات)
أوصاف (تدل على الصفة) التي هي الغرض من الكلام وإنما تدل على الصفة (لاختصاصها
بمن هي له أي لاختصاص تلك الهيئات بمن ثبت تلك الصفة له) أي بموصوف ثبتت له الصفة
التي هي الغرض.
(كوصف) الرجل (الجواد
بالتهلل) اي بالبشاشة والسرور (عند وجوه العفاة اي السائلين) فذكر الهيئة اي
التهلل الذي هو مختص بالرجل الجواد لتدل على اثبات الجود له.
(و) قس عليه
قوله (كوصف البخيل بالعبوس) اي عدم البشاشة والسرور واصل العبوس تلون الوجه تلونا
يدل على الغم والحزن عند وجود العفاة (مع سعة ذات اليد) اي مع كثرة المال وانما
سمى المال بذات اليد لان اليد تفعل مع المال ما لا يمكن ان تفعله بدون كثرته.
واما العبوس
عند قلة المال مع وجود العفاة فهو من اوصاف الاسخياء لان عبوسه في تلك الحالة دليل
على كرمه لانه يحصل له غم على عدم كثرة ما بيده ليجود بذلك على العفاة فتبصر.
(فان اشترك)
عامة (الناس في معرفته اى معرفة وجه الدلالة على الغرض لاستقراره فيهما اي في
العقول والعادات كتشبيه الشجاع بالاسد والجواد بالبحر فهو كالاول اى فالاتفاق في
هذا النوع من وجه الدلالة على هذا الغرض كالاتفاق في الغرض العام في انه لا يعد
سرقة ولا اخذا) ولا غيره من الاسماء المتقدمة انفا.
(فقوله فهو
كالاول جزاء لقوله فان اشترك الناس وهذه الجملة الشرطية جزاء لقوله وان كان في وجه
الدلالة) فتدبر جيدا.
(والا اى وان
لم يشترك الناس في معرفته ولم يصل اليه كل احد لكونه مما لا ينال الا بفكر) صائب
وتامل فحينئذ (جاز ان يدعى فيه اي هذا النوع من وجه الدلالة) السرقة والاخذ وما
يؤدى معناهما بخلاف ما تقدم فانه لا يجوز ان يدعى فيه السرقة والاخذ وما شابهما
لتقرر ذلك في العقول والعادات حسبما بيناه وذلك لانه جاز ان يدعى في هذا النوع (السق
والزيادة بان يحكم بين القائلين فيه بالتفاضل وان احدهما) اى احد القائلين (فيه)
اي في هذا النوع (اكمل من الاخر وان) القائل (الثاني زاد على) القائل (الاول او
نقص عنه).
وايضا جاز ان
يدعى ان احدهما اقدم والاخر اخذ منه على تفصيل ياتي بعيد هذا في قول الخطيب فالاخذ
والسرقة نوعان الخ.
(وهو اى مالا
يشترك) عامة (الناس في معرفته من وجه الدلالة على الغرض ضربان احدهما خاصة في نفسه)
اى (غريب لا ينال الا بفكر) صائب وتامل صادق لا يذكره الا الاذكباء.
(والاخر عامى
تصرف فيه بما اخرجه من الابتذال الى الغرابة كما مر) بيان كلا الضربين (في باب
التشبيه والاستعارة من تقسيمهما) اي تقسيم التشبيه والاستعارة الى الغريب الخاصى
والمبتذل العامى اما البقاء على الابتذال او مع التصرف فيه بما يخرجه من الابتذال
الى الغرابة كما في الامثلة المذكورة ثمة) يعنى قول الشاعر الشمس كالمراة في كف
الاشل وقوله اذ احتبى قربوسه بعنانه الخ وقوله ولما قضينا من منى كل حاجة الخ وبعض
الامثلة الاخرى المذكورة في ذينك البابين فراجع ان شئت.
(واذا تقرر هذا)
الذى ذكر توطئة وتمهيدا للمقصود (فالاخذ والسرقة اى ما يسمى بهذين الاسمين)
المترادفين لان المسمى فيها واحد وهو (نوعان ظاهر) وذلك بان يكون الكلامان بحيث لو
عرضا على اى مخاطب يعرف من دون تامل ان القائل الثاني اخذ من القائل الاول (وغير
ظاهر) وذلك بان يكون بين الكلامين فرق ما بحيث لو عرضا على المخاطب لا يعرف ان
الثاني اخذ من الاول الا بعد التامل واعماله الروية.
(اما الظاهر
فهو ان يوخذ المعنى كله اما مع اللفظ كله او بعضه) اى بعض اللفظ (او) يوخذ المعنى (وحده)
هذا (عطف على قوله اما مع اللفظ) يعنى (او يوخذ المعنى وحده من غير اخذ اللفظ كله
ولا بعضه.
فالنوع الظاهر
بهذا الاعتبار ضربان احدهما ان يوخذ المعنى مع اللفظ كله او بعضه والثاني ان يوخذ
المعنى وحده والضرب الاول قسمان لان الماخوذ مع المعنى اما كل اللفظ او بعضه اما
مع تغيير النظم او دونه فهذه عدة اقسام) اصل الاقسام على ما ذكر خمسة لكن يتشعب
منها فروع
اخر ولهذا لم يعين عدد الاقسام.
(اشار اليها)
اى الى الاقسام وفروعها (بقوله فان اخذ اللفظ كله من غير تغيير لنظمه اى لكيفية
الترتيب والتاليف الواقع بين المفردات فهو مذموم لانه سرقة محضة) أي غير مشوبة
بشيىء اخر (ويسمى) هذا القسم (نسخا) وانما سمى بذلك لان القائل الثاني نسخ كلام
غيره اى نقله ونسبه لنفسه فهو ماخوذ من قولهم نسخت الكتاب اي نقلت ما فيه الى كتاب
اخر.
(و) يسمى ايضا (انتحالا)
وانما سمي بذلك لان الانتحال في اللغة ادعاء شيىء لنفسك اى ان تدعى ان ما لغيرك لك
يقال انتحل فلان شعر غيره اذا ادعاه لنفسه.
(كما حكى عن
عبد الله بن الزبير) بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كذا قال الشيخ محمد الامير في
حاشية له المغنى طبع المطبعة المجاورة للقطب الدر دير في سنة الالف وثلاثمائة
واثنين عند قول ابن هشام في بحث ان المكسورة المشددة والجيد الاستدلال بقول ابن
الزبير الخ فهذه غير عبد الله بن الزبير بن العوام فانه بضم الزاى وفتح الباء
فتبصر.
(انه فعل) هذا
الاخذ والسرقة (بقول معن اوس) هو بضم الميم وفتح العين وهو ايضا غير معن بن زائدة
فانه يفتح الميم وسكون العين (اذا انت لم تنصف اخاك يعنى اذا لم تعط صاحبك النصفة)
اى الانصاف وتوفية الحق.
(و) بعبارة
اخرى (لم توفه حقوقه متوخيا اى متحريا اي طالبا (للمعدلة) اى العدالة (ولم توجب له)
اى لم تثبت لا خاك (عليك ما توجيه) اى تثبته (لنفسك عليه) اى على اخيك (وجدته) اي
على
اخاك (على طرق الهجران) في بعض النسخ طرف الهجران (ان كان) ذلك الاخ (يعقل)
اى ان كان له عقل يفهم بسببه انك لم تنصفه تؤد حقوقه (اى وجدته هاجرا لك متبدلا بك
وبمواخاتك ان كان به مسكة وله عقل ومعرفة ويركب حد السيف اراد بركوب حد السيف حمل
امور تقطع السيف وتوثر تاثيره لو اراد الصبر على الحرب والموت) والحاصل انه لا خير
في اخره من لا يرى لك ما ترى له فكيف باخوه من يظلمك ولا ينصفك واما من لا عقل له
فيرضى بكل شيىء حتى الاهانة والهتك فنتبه.
(من ان تضيمه
اى بدلا من ان تطلمه) فكلمة من للبدل ويصح جعلها للتعليل (اذا لم يكن عن شفرة
السيف السيف اى عن ركوب حد السيف مزحل اى يبعد اى لا يبالي ان يركب من الامور ما
يؤثر فيه تاثير السيف مخافة ان يدخل عليه ضيم او يلحقه عار واهتضام) اى ظلم وفوت
حق (متى لم يجد عن ركوبه مبعدا ومعدلا) والحاصل ان العاقل يتحمل الامور الشاقة
التي تؤثر فيه تأثير السيف مخافة ان يلحقه العار والضيم متى لم يجد عن ركوب الامور
الشاقة مبعدا ومعدلا اى لا طريق للخلاص عن العار والضيم الا ارتكاب تلك الامور وقد
اشير الى هذا المعنى في البيت المنسوب الى مولى الموالى علي (ع).
لنقل الصخر
من قلل الجبال
|
|
احب الى من
منن الرجال
|
وكذا قول
الشاعر الفارسي :
بدست اهك
تفته كردن خمير
|
|
به از دست بر
سينه پيش امير
|
واما تفصيل
الحكاية (فقد حكي ان عبد الله بن الزبير دخل على معوية فانشده هذين البيتين فقال
له معوية لقد شعرت) بضم العين (بعدى يا ابا بكر) اى لقد صرت شاعرا بعدى مع علمي
بانك غير شاعر لانك
قبل ان افارقك لم تقل شعرا.
(ولم يفارق عبد
الله المجلس حتى دخل معن بن اوس المزنى فانشد قصيدته التي اولها).
لعمرك ما
ادرى وانى لا وجل
|
|
على اينا تعد
والمنية اول
|
واستمر على
انشاد القصيدة (حتى أتمها وفيها هذان البيتان فاقبل معوية على عبد الله بن زبير)
اي التفت اليه (وقال ا لم تخبرني انهما لك فقال اللفظ والمعنى له وبعد فهو اخي من
الرضاعة وانا احق بشعره) هذا اعتذار من ابن الزبير في سرقته البيتين ونسبتهما
لنفسه ومعلوم ان هذا الاعتذار ابرد من يخ.
(وفى معناه اي
في معنى ما لم يغير فيه النظم ان يبدل بالكلمات او بعضها ما يراد فها يعنى انه
ايضا مذموم وسرقة محضة كما يقال في قول الحطيئة).
دع المكارم
لا ترحل لبغيتها
|
|
واقعد فانك
أنت الطاعم الكاس
|
فيقال بعد
تبديل الكلمات.
ذر الماثر لا
تذهب بمطلبها
|
|
واجلس فانك
انت الاكل اللابس
|
(وكقول امرء القيس) :
وقوفا بها
صحبي على مطيهم
|
|
يقولون لا
تهلك اسى وتجمل
|
(واورده) بعينه (طرفة) الشاعر (في
داليته الا انه اقام تجلد مقام تجمل).
(و) هكذا ما (قال
عباس بن عبد المطلب).
وما الناس
بالناس الذين عهدتم
|
|
ولا الدار
بالدار التي كنت تعلم
|
(فاورده) بعينه (الفرزدق في شعره
الا انه اقام تعرف مقام تعلم) هذا كله تبديل الكلمات بمرادفاتها بحيث لا يتغير
المعنى.
(وقريب من هذا
ان يبدل بالالفاظ ما يضادها في المعنى مع رعاية النظم) اي نظم الكلمات (والترتيب)
اي ترتيبها (كما يقال في قول حسان).
بيض الوجوه
كريمة احسابهم
|
|
شم الانوف من
الطراز الاول
|
بان يبدل
الكلمات باضدادها في المعنى مع رعاية النظم والترتيب فيقال.
سود الوجوه
لئيمة احسابهم
|
|
فطس الانوف
من الطراز الاول
|
(فان كان اخذ اللفظ كله مع تغيير
لنظمه اى نظم اللفظ او اخذ بعض اللفظ لا كله سمى هذا الاخذ اغارة) وانما بذلك لان
القائل الثاني اغار على كلام القائل الاول فغيره عن وجهه.
(و) يسمى ايضا (مسخا)
لانه بدل صورة كلام الغير بصورة اخرى والمسخ في الاصل تبديل صورة بصورة اقبح كما
في اليهود حيث مسخوا قردة وخنازير.
(وهو) اى هذا
القسم الذى يؤخذ اللفظ كله او بعضه مع تغيير لنظمه (ثلاثة اقسام لان) كلام القائل (الثاني
اما ان يكون ابلغ من الاول او دونه او مثله فان كان الثاني ابلغ من الاول) المراد
بالبلاغة هنا ما يحصل به الحسن مطلقا لا خصوص البلاغة التي تقدم الكلام فيها في
صدر الكتاب وذلك بقرنية قوله (لاختصاصه) اى كلام القائل الثاني (بفضيلة لا توجد فى)
كلام القائل (الاول كحسن السبك) المبعد عن التعقيد اللفظي والمعنوى (او الاختصار)
المناسب للمقام (او الايضاح) المحتاج اليه او زيادة معنى فممدوح اى فا) لكلام (الثاني
ممدوح مقبول) لان تلك الفضيلة اخرجته الى نوع من البداعة والتجديد).
كقول بشار من
راقب الناس اى حاذرهم فى الاساس) اى في كتاب
اساس اللغة (رقبة حاذرة لان الخائف يرقب العقاب ويتوقعه لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك للهج اي الشجاع القتال الذى له ولوع بالقتل) وسفك الدماء.
(وقول سلم
الخاسر بالخاء المعجمعة سمي) هذا الشاعر (بذلك) الاسم اى بالخاسر (لخسرانه في
تجارته) وذكر (في) كتاب (الاساس) انه (سمي سلم الخاسر لانه باع مصحفا ورثه واشترى
بثمنه عودا يضرب به) وقال بعض اخر اشترى بثمنه ديوان شعر.
(من راقب الناس
مات هما اي حزنا انتصب) هما (على انه مفعول له او تمييز) حاصل المعنى انه لم يصل
لمراده فيبقى مغموما محزونا فيشدد عليه الغم والحزن كشدة الموت (وفاز باللذة
الجسور اى الشديد الجرئة فبيت سلم اجود سبكا) لكونه في غاية البعد عن موجبات
التعقيد من التقديم والتاخير وامثالهما (واخصر لفظا) لانه اقام لفظ الجسور مقام
مجموع لفظى الفاتك اللهج.
(روى عن ابي
معاذ راوية بشار انه قال انشدت بشارا) اى قرات له (قول سلم الخاسر فقال ذهب والله
بيتي فهو) اي قول سلم (اخف منه) اي من بيتي (واعذب والله لا اكلت اليوم ولا شربت).
والشاهد فيه ان
سلم اخذ بعض اللفظ مع كون كلامه ابلغ من كلام بشار (وكقول الاخر).
خلقنا لهم في
كل عين وحاجب
|
|
بسمر القنا
والبيض عينا وحاجبا
|
(وقول ابن نباته بعده).
خلقنا باطراف
القنا في ظهورهم
|
|
عيونا لها
وقع السيوف حواجب
|
(فبيت ابن نباته ابلغ لاختصاصه
بزيادة معنى وهو الاشارة الى انهزامهم حيث وقع الطعن والضرب على ظهورهم) والشاهد
في ان ابن
نباته سرق من الاول فاخذ بعض اللفظ مع كونه اي كلام ابن نباته ابلغ.
(وان كان
الثاني دونه اي دون الاول في البلاغة لفوات فضيلة توجد في الاول فهو اى الثاني
مذموم مردود كقول ابي تمام في مرثية محمد بن حميد) على وزن التصغير (وكان قد
استشهد في بعض غزواته).
هيهات لا
ياتي الزمان بمثله
|
|
ان الزمان
بمثله لبخيل
|
لفظة هيهات اسم
فعل ماض (اي بعد) بفتح الباء وضم العين والفاعل محذوف وهو (ان ياتي الزمان بمثله)
والقرنية على هذا الفاعل المحذوف ما اشار اليه بقوله (بدليل ما بعده) اي ما بعد
هيهات وهو قول الشاعر لا ياتي الزمان بمثله (او) اتتقدير (بعد) بفتح الباء وضم
العين (نسياني له) فالفاعل المحذوف نسياني له والقرنية على هذا الفاعل المحذوف ما
اشار اليه بقوله (بدلالة ما قبله وهو قوله) :
انسى ابا نصر
نسيت اذا يدى
|
|
من حيث ينتصر
الفتى وينيل
|
ولا يذهب عليك
ان في كلا الوجهين نظر ظاهر وذلك لما قاله السيوطي في باب الفاعل من انهم قالوا لا
يحذف الفاعل اصلا عند البصريين اللهم الا ان يراعى مذهب غيرهم فتامل.
(قال الشيخ عبد
القاهر في المسائل المشكلة قال الشيخ) يعنى استاذه الصاحب ابن عباد (في هذا البيت
تقصير) من حيث المعنى (لان الغرض في هذا النحو) من الكلام الذي حاصل معناه ان
الزمان لا ياتي بمثله لامتناع وجود مثله في المضى والمستقبل (نفى المثل) راسا (وان
يقال انه يعز) اي يقل ويكاد ان لا يوجد (او انه لا يكون) لاستحالة وجوده.
(فاذا جعل سبب
فقد مثله بخل الزمان به فقد اخل بالغرض وجوز وجود المثل ولم يمنعه من حيث هو اي في
نفسه (بل من حيث بخل الزمان بان يجود بمثله) فصار الامتناع عارضيا لا ذاتيا والغرض
الامتناع الذاتي
لا العارضي فتدبر جيدا.
(وقول ابي
الطيب) :
أعدى الزمان
سخائه فسخا به
|
|
ولقد يكون به
الزمان بخيلا
|
في معنى البيت
خلاف بين ابن جنى وابن فورجه وياتي قولهما عنقريب اما الشاهد فاشار اليه بقوله (فالمصراع
الثاني ماخوذ من المصراع الثاني لابي تمام لكن مصراع ابي تمام اجود سبكا لان قول
ابي الطيب ولقد يكون بلفظ المضارع لم يصب محزه) اى غرضه (اذا المعنى على محزه) لفظ
(الماضي والمراد لقد كان) به الزمان بخيلا لان المراد ان الزمان كان بخيلا به حتى
اعداه بسخانه فلا تناسب المضارع اذا لا معنى لكونه جاد به الزمان وهو بخيل به في
المستقبل لانه بعد الجود به خرج عن تصرفه فيه) فلا قدرة للزمان في ان يجود به
لغيره.
(فان قلت ههنا
مضاف محذوف) بين الباء والضمير في قوله به الزمان بخيلا (والفعل المضارع على معناه)
فالتقدير يصحح المضارع (اي يكون الزمان بخيلا بهلاكه اعنى لا يسمح بهلاكه ابدا
لعلمه بانه سبب لصلاح الدنيا ونظام العالم) فان اهلكه الزمان تفسد الدنيا ويختل
النظام ولا يرضى الزمان بذلك.
(قلت السخاء
بالشىء هو بذله للغير فالزمان اذا سخا به فقد بذله) للغير (فلم يبق في تصرفه حتى
يسمح بهلاكه او يبخل كذا ذكره المصنف) اي الخطيب في الايضاح.
(واعترض عليه
بانا سلمنا ان ايجاده لم يبق في تصرفه لكونه تحصيلا للحاصل واما اعدامه) اي اهلاكه
(وافنائه فباق بعد) اي بعد ايجاده (في تصرفه فله ان يسمح بهلاكه وان يبخل) بهلاكه (فنفى
الشاعر ذلك) اي السماح بهلاكه.
والحاصل ان
ايجاده واعدامه كان بيد الزمان فسخا بايجاده لكنه لا يسخو باعدامه قط لكونه سببا
لصلاحه) اى صلاح الزمان المستلزم لصلاح الدنيا ونظام العالم.
(قلنا) ردا
للاعتراض (وعلى تقدير صحة هذا المعنى يكون مصراع ابي تمام) ايضا (اجود سبكا
لاستغنائه عن تقدير) هذا (المضاف) أي الهلاك (الذي لا يظهر له قرينة تدل عليه) فلم
يخرج مصراع أبي الطيب بهذا التقدير عن المفضولية.
والتحقيق (على
أن هذا المعنى) مع ما في هذا التقدير من التكلف الواضح (مما لم يذهب إليه أحد ممن
فسر هذا البيت) بل ذهبوا فيه إلى معنيين غير هذا المعنى أحدهما لابن جنى والثاني
لابن فورجة بضم الفاء وفتحها.
(قال ابن جنى
أى تعلم الزمان من سخائه) أى من جود الممدوح فعرض عليه أى على الزمان سخاء الممدوح
قبل وجوده (فسخا به) أى فجاد به على الدنيا (وأخرجه من العدم إلى الوجود ولو لا
سخائه) أى سخاء الزماء (الذي استفاد) الزمان (منه) اي من الممدوح (لبخل به على
الدنيا واستبقاه لنفسه.
وبعبارة أخرى
أن جود الممدوح وسخائه أعدى أى سرى أى تجاوز إلى الزمان قبل وجود الممدوح فتعلم
الزمان منه السخاء فسخا به أي جاد فاخرجه من العدم إلى الوجود فلولا سراية جود
الممدوح وسخائه إلى الزمان لكان الزمان به بخيلا فكان لا يجود به بل يبقيه في
العدم لنفسه.
(قال ابن فورجة
هذا تأويل فاسد وغرض بعيد لأن سخاء) شخص (غير موجود) أي الممدوح (لا يوصف بالعدوى)
أى بالسريان إلى
الغير أى إلى الزمان.
(وإنما المراد)
أى مراد الشاعر أن الممدوح كان موجودا سخيا (و) لكن (كان) الزمان (بخيلا به) أى
بالممدوح (على) أى باظهاره لي وهدايتي له (فلما أعداه سخائه) أي لما سرى إلى
الزمان سخاء الممدوح (أسعدني) الزمان (بضمي إليه) أي إلى الممدوح (وهدايتي له) أى
إلى الممدوح.
(وعلى التفاسير
الثلاثة) أى تفسير الخطيب في الايضاح وتفسير ابن جنى وتفسير ابن فورجة (فالمصراع)
أى مصراع ابي الطيب (مأخوذ من مصراع أبي تمام لأن معناه أى معنى مصراع أبي الطيب
على التفسير الأول (بخل الزمان بهلاكه أو بايجاده) هذا على التفسير الثاني (أو
بايصاله) أى الممدوح (إلى الشاعر) وهداية الشاعر إلى الممدوح وهذا على الثالث أى
تفسير ابن فورجة.
(كما أن معنى
مصراع أبي تمام بخله) أى بخل الزمان بمثل المرثى) أى الذي إستشهد في بعض غزواته
وهو محمد بن حميد على وزن التصغير.
فتحصل من بيان
المعنيين للمصراعين ان بينهما مغايرة واضحة فان البخل في مصراع أبي تمام متعلق
بالمثل وفي مصراع أبي الطيب متعلق بهلاكه أو بايجاده أو بايصاله ففي الحقيقة متعلق
بنفس الممدوح لا بمثله.
فيعلم من ذلك
أنه لا يشترط في هذا النوع من الأخذ والسرقة عدم تغاير المعنيين (ولو إشترط في
الأخذ والسرقة (إتحادهما) أى إتحاد المعنيين لمأخوذ والمأخوذ منه (في المعنى بحيث
لا يكون بينهما تفاوت ما كما سبق إلى بعض الأوهام) الكاسدة (لما كان) مصراع أبي
الطيب (مأخوذا منه) أى من مصراع أبي تمام (على واحد من التفاسير)
الثلاثة المتقدمة (لأن أبا تمام) كما قلنا آنفا (قد علق البخل بمثله) أى
بمثل المرثى (صريحا) وأبو الطيب علقه بما ذكر آنفا والفرق بين المعنيين واضح.
(ولهذا قال
الامام الواحدي بعد ما ذكر معنى ابن جنى وابن فورجة ان المصراع الثاني من قول أبي
تمام هيهات البيت) يعني ما حصل من مجموع البيت لا المصراع الثاني فقط.
(فان كان
الثاني مثله أى مثل الاول) في الفضل والبلاغة (فأبعد أى فالثاني أبعد من الذم) أى
جدير بأنه لا يذم فافعل التفضيل أعني لفظ أبعد ليس على بابه وإنما قلنا ذلك لأن
ظاهر اللفظ يقتضي أن هناك بعيدا من الذم وهذا أبعد منه وليس كذلك لأن الذم لا
يتطرق إلى الكلام البليغ حتى يقال أنه بعيد من الذم أو أبعد (و) لكن يجب أن يعلم
أن (الفضل للاول كقول أبي تمام) :
لو جار مرتاد
المنية لم يجد
|
|
إلا الفراق
على النفوس دليلا
|
(الارتياد الطلب وإضافة المرتاد
إلى المنية للبيان أى المنية) التي هي (الطالبة للنفوس) كالرائد الذي يطلب الماء
والكلاء على ما تقدم في الباب السابع في بحث كمال الانقطاع (لو تحيرت في الطريق
إلى إهلاكها) أى إهلاك النفوس (ولم يمكنها) أى المنية (التوصل إليها) أى إلى
النفوس (لم يكن لها) أى للمنية (دليل عليها) أى على النفوس (إلا الفراق) فانحصر
دليل المنية على هلاك النفوس في الفراق أى فراق الاحبة (وقول أبي الطيب) :
لو لا مفارقة
الاحباب ما وجدت
|
|
لها المنايا
إلى أرواحنا سبلا
|
(الضمير) المجرور باللام (فى لها
للمنايا وهو) أى الجار والمجرور أى لها (حال من سبلا) وكذلك إلى أرواحنا (وقيل أنه
جمع لهاة)
وهي اللحمة المطبقة في أقصى سقف الحلق (وهو فاعل وجدت أضيف إلى المنايا)
فالمعنى حينئذ لما وجد فم المنايا التي من شأنها اهلاك النفوس إلى أرواحنا سبلا
فاطلق اللهاة وأراد الفم لعلاقة المجاورة.
(وروى يد
المنايا) بدل لها المنايا (و) الشاهد في أن أبا الطيب (قد أخذ) من كلام أبي تمام (المعنى
كله مع بعض الالفاظ كالمنية والفراق والوجدان وبدل بالنفوس الارواح) والحاصل من
معنى البيتين يرجع إلى شيء واحد وهو أنه لا دليل للمنية على النفوس إلا الفراق أى
فراق الأحبة ولذا كان الثاني غير مذموم وقريب من هذا المعنى قول الشاعر الفارسي :
شنيده ام
سخنى خوش كه پير كنعان كفت
|
|
فراق يار نه
ان ميكند كه بتوان كفت
|
(وكذا قول القاضي الارجاني)
بالنسبة إلى ما يأتي من قول جار الله في مرثية اسناده أما قول القاضي الارجاني
فهو.
لم يبكني إلا
حديث فراقكم
|
|
لما أسر به
إلى مودعي
|
هو ذلك الدر
الذي أودعتم
|
|
في مسمعي
ألقيته من مدمعي
|
(وقال جار الله في مرثية اسناده) :
وقائلة ما
هذه الدرر التي
|
|
تساقطها
عيناك سمطين سمطين
|
فقلت هي
الدرر اللواتي حشابها
|
|
أبو مضر اذني
تساقط من عيني
|
فحاصل معنى
قوليهما يرجع إلى شيء واحد وان كان بينهما تفاوت في بعض الالفاظ.
(و) أما (قوله)
أى الخطيب (فهو أبعد من الذم) فالحكم بالأبعدية من الذم (إنما هو على تقدير أن لا
يكون في الثاني دلالة على السرقة باتفاق الوزن والقافية) أيضا أى كأتفاقهما في
المعنى وكل الألفاظ
أو بعضها وإلا) أى وإن كان في الثاني دلالة على السرقة باتفاق الوزن
والقافية أيضا (فهو مذموم) وقبيح (جدا كقول أبي تمام) :
مقيم الطن
عندك والأماني
|
|
وإن قلقت
ركابي في البلاد
|
ولا سافرت في
الآفاق إلا
|
|
ومن جدواك
راحلتي وزادي
|
(وقول أبي الطيب) :
وإني عنك بعد
غد لغاد
|
|
وقلبي عن
فناتك غير غاد
|
محبك حيثما
إتجهت ركابي
|
|
وضيفك حيث
كنت من البلاد
|
وقريب من معنى
القولين ما قاله الشاعر الفارسي :
كرچه دوريم
از بساط قرب همت دور نيست
|
|
بنده شاه
شمائيم وثناخوان شما
|
(ولما فرغ من الضرب الأول من النوع
الظاهر من الأخذ والسرقة شرع فى الضرب الثاني منه وهو أن يؤخذ المعنى وحده) أى من
دون أن يؤخذ كل الألفاظ أو بعضها.
(فقال وإن أخذ
المعتى وحده عطف على قوله فان أخذ اللفظ سمى) هذا القسم أعني (أخذ المعنى وحده
إلماما) مأخوذ (من أله إذا قصده) لان الشاعر الثاني يقصد إلى أخذ المعنى من الشاعر
الأول (وأصله من ألم بالمنزل إذا نزل به) فالالمام في أصل اللغة معناه النزول ثم
أريد منه هنا سبب النزول وهو القصد لأن الشاعر الثاني كما قلنا قد قصد أخذ المعنى
من شاعر آخر.
(و) سمى (سلخا)
أيضا (وهو) أى السلخ كما تقدم في الاستعارة التي طرفاها حسيان والجامع عقلي (كشط
الجلد عن الشاة ونحوها واللفظ للمعنى بمنزلة الجلد فكانه) أي الشاعر الثاني (كشط
من المعنى جلدا وألبسه جلدا آخر) غير ذلك الجلد.
(وهو ثلاثة
اقسام كذلك أى مثل ما سمى اغارة ومسخا يعني ان الثاني اما ابلغ من الأول او دونه
او مثله) فهذه الأقسام الثلاثة عين الاقسام الثلاثة المتقدمة.
(او لها أى اول
الاقسام) الثلاثة (وهو ان يكون الثاني ابلغ من الاول كقول أبي تمام)
هو الصنع أن
يعجل فخير وان يرث
|
|
فللريث في
بعض المواضع أنفع
|
(هو الضمير للشان) مبتدأ أول (الصنع
أى الاحسان وهو) أي الصنع (مبتدأ) ثان (خبره الجملة الشرطية أعني قوله ان يعجل
فخير) والمبتدأ الثاني وخبره خبر ضمير الشان (وان يرث) مأخوذ من رات ريثا اي بطؤ
بطوء أي تأخر تأخرا (اي يبطوء) بفتح الياء وسكون الباء وضم الطاء بعده الهمزة اي
يتأخر (فللريث في بعض المواضع انفع) هذا الكلام الأول.
(و) اما الكلام
الثاني فهو (قول ابي الطيب ومن الخير بطؤ سيبك اي تأخر عطائك عني اسرع السحب في
المسير الجهام) بفتح الجيم (اي السحاب الذي لا ماء فيه).
فابو الطيب (يقول
لعل تأخر عطاياك على يدل على كثرتها) لأن العطايا (كالسحاب) فبطوء السحاب في السير
اكثر نفعا لأنه (انما يسرع منها) اى من السحاب (ما كان جهاما) وهو السحاب الذي (لا
ماء فيه وما فيه الماء يكون ثقيل المشي).
فقد اشترك
البيتان في المعنى أى في ان تأخر العطاه يكون خيرا وانفع ولكن بيت ابي الطيب ابلغ
وأجود لأنه زاد حسنا بضرب المثل له بالسحاب فكانه دعوى ببينة وبرهان إذ كانه يقول
العطاء كالسحاب فبطؤ السحاب في السير اكثر نفعا وسريعها كالجهام اقلها نفعا فكذلك
العطاء
بطيئة اكثر نفعا فكان تأخر عطائك افضل من سرعته والى اجمال ما فصلناه اشار
التفتازاني بقوله (فبيت ابي الطيب ابلغ لأشتماله على زيادة بيان للمقصود حيث ضرب
المثل بالسحاب) فتدبر جيدا.
(وثانيهما اى
ثاني الاقسام) الثلاثة (وهو ان يكون الثاني دون الاول) في البلاغة والحسن (كقول
البحتري واذا تألق اي لمع في الندى اى في المجلس العاص) اى الممتليء باشراف الناس
كلامه المصقول) اى (المنقح) اى الخالص المصفى من كل ما يشينه (خلت لسانه من غضبه
اى) ظننت ان لسانه ناشيء (من سيفه القاطع) فقد (شبه) البحتري (لسانه) اى لسان
الممدوح (بسيفه) القاطع والجامع بينهما التأثير (و) اما الثاني فهو (فهو قول الطيب).
كان السنهم
في النطق قد جعلت
|
|
على رماحهم
في الطعن خرصانا
|
(خرصان الشجر قصبانها) اى اغصانها (وخرصان
الرماح اسنتها واحدها خرص بالضم والكسر) اي بضم الخاء وكسرها وكذلك في الجمع (يعني
لفرط مضاء) أى مضي (اسنة رماحهم ونفاذها كان الستهم عند النطق جعلت اسنة على
رماحهم عند الطعن فصارت الأسنة في النفاذ كالسنتهم) عند النطق.
ففي كل من
القولين شبه الالسنة بآلات الحرب واما الشاهد (فبيت ابى الطيب دون بيت البحتري
لانه قد فاته ما افاده البحتري بلفظي تألق والمصقول من الاستعارة التخييلية حيث
اثبت التألق والصقالة للكلام) أي لكلام الممدوح (كاثبات الاظفار للمنية ويلزم من
هذا تشبيه كلامه) في النفس (بالسيف) القاطع (وهو استعارة بالكناية) حسبما تقدم في
محله مستوفى فتذكر.
(وثالثهما اي
ثالث الاقسام وهو ان يكون الثاني مثل الاول) في
البلاغة والحسن (كقول الاعرابي) اى ابى زياد ولم يك اكثر الفتيان مالا وروى
وما ان كان اكثرهم سواما السائمة والسوام والسوائم الابل الراعية) اى التى لا يعلف
من مال مالكه.
حاصل المعنى ان
الممدوح لم يكن اكثر الاقران مالا او ابلا (ولكن كان ارحبهم ذراعا) قال (في الاساس
فلان رحب الباع والذراع ورحيبهما أي سخى) هذا هو الكلام الاول.
(و) الكلام
الثاني (قول اشجع يمدح جعفر بن يحيى) البرمكي (وليس بأوسعهم في الغنى الضمير في
أوسعهم للملوك في البيت قبله) وهو :
يروم الملوك
مدى جعفر
|
|
ولا يصنعون
كما يصنع
|
(ولكن معروفه أي احسانه اوسع من
معروفهم) اي من احسانهم والشاهد في ان القولين متماثلان في الحسن والبلاغة لا فضل
لاحدهما على الآخر وذلك لاتفاقهما على افادة ان الممدوح لم يزد على الاقران في
المال ولكنه فاقهم في الكرم والاحسان.
وقد ذكر في
الايضاح بيتين آخرين ايضا اشار اليهما التفتزاني بقوله (وكقول الآخر في مرثية ابن
له) :
والصبر يحمد
في المواطن كلها
|
|
إلا عليك
فانه مذموم
|
(وقول ابى تمام بعده) :
وقد كان يدعى
لابس الصبر حازما
|
|
فاصبح يدعى
حازما حين يجزع
|
(هذا هو النوع الظاهر من الاخذ
والسرقة) يعبي الى هنا كان الكلام في النوع الظاهر منهما (واما غير الظاهر فمنه ان
يتشابه المعنيان اي معنى البيت الاول ومعنى البيت الثاني) وهذا ايضا عدة أقسام
أشار اليها بقوله (كقول جرير فلا يمنعك من ارب اى حاجة لحاهم بالضم) اي
بضم اللام ويجوز كسرها أيضا (جمع لحية) كذلك كذا في المصباح.
(سواء ذوا
العمامة والخمار أى لا يمنعك من الحاجة كون هؤلاء على صورة الرجال لأن الرجال منهم
والنساء سواء في الضعف) فلا مقاومة للرجال منهم على الدفع عن النساء منهم.
(وقول أبي
الطيب في) مدح (سيف الدولة) بن حمدان (يذكر خضوع بني كلاب وقبائل العرب له) أى
لسيف الدولة.
ومن في كفه
منهم قناة
|
|
كمن في كفه
منهم خضاب
|
(فتعبير جرير عن الرجل بذى العمامة
كتعبير أبي الطيب عنه) أى عن الرجل (بمن في كفه منهم قناة وكذا التعبير عن الرجل (بمن
في كفه منهم قناة وكذا التعبير عن المرئة بذات الخمار وبمن في كفه منهم خضاب)
فالقولان متشابهان في المعنى من حيث افادة كل منهما ان الرجال منهم في الضعف
كالنساء.
(و) اعلم انه (يجوز
في تشابه المعنيين أن يكون) المعنى في (أحد البيتين نسبيا) مأخوذ من نسب ينسب من
باب ضرب يضرب وهو كما كما يأتي في أوائل الفصل الآتي وصف الجمال أو غيره كالادب
والافتخار والشكاية وغير ذلك.
وفي بعض النسخ
تشبيبا وهو كما يأتي هناك أيضا ذكر أيام الشباب واللهو والغزل وذلك يكون في إبتداء
قصائد الشعر وأياما كان فالمراد هنا بقرينة لفظ الافتخار خصوص ذكر جمال المحبوب
وذكر أوصافه ذكرا كان أو أنثى فتدبر تعرف.
(و) في البيت (الآخر
مديحا أو هجاء أو افتخارا أو غير ذلك) كالشكاية والادب وذكر أيام الشباب واللهو
والغزل ونحو ذلك مما يقصده الشعراء.
فان الشاعر
الحاذق إذا قصد الى المعنى المختلس) أى المعنى الذي يريد أن يسرقه من الشاعر الأول
(لينظمه احتال) أى فعل الحيلة (في اخفائه) أى في اخفاء الاختلاس والسرقة (فغير
لفظه) أى لفظ المعنى المختلس (وصرفه) أى حوله ونقله (عن نوعه من النسيب) او من
التشبيب (او المدح أو غير ذلك) من الشكاية والافتخار ونحو ذلك مما ذكر (و) صرفه (عن
وزنه وقافيته) كل ذلك لغرض اخفاء الاخذ والسرقة.
وإلى ذلك اى
الى نقل المعنى المختلس وصرفه عن نوع من الانواع المذكورة الى نوع منها أشار بقوله
(ومنه أي من عير الظاهر ان ينقل المعنى) من محل أى من موصوف (الى محل) أى الى
موصوف (اخر كقول البحتري) في وصف القتلى (سلبوا أى ثيابهم واشرقت الدماء عليهم
محمرة فكانهم لم يسلبوا لان الدماء المشرقة) عليهم (صارت بمنزلة ثياب لهم) اى
ساترة لهم كاللباس.
(وقول أبي
الطيب) في وصف السيف (يبس النجيع أى الدم) المائل الى السواد (عليه اى على السيف
وهو مجرد) أي والحال أن السيف خارج من غمده (فكانما هو مغمد) أى مجعول في الغمد (لان
الدم اليابس صار بمنزلة غمد له فنقل المعنى من) موصوف أعني القتلى والجرحى الى)
موصوف آخر أعني (السيف) والشاهد في ان أبا الطيب سرق المعنى من البحتري لكنها سرقة
خفية.
(ومنه أى من
غير الظاهر ان يكون معنى) البيت (الثاني من معنى) البيت (الاول كقول جرير).
إذا غضبت
عليك بنو تميم
|
|
وجدت الناس
كلهم غضابا
|
(لأنهم يقومون مقام الناس كلهم) اى
كل الناس فمعنى هذا البيت
ان بني تميم بمنزلة الناس جميعا في الغضب (وقول ابي نواس)
ليس على الله
بمستنكر
|
|
ان يجمع
العالم فى واحد
|
والشاهد في ان
ابا نواس سرق المعنى من جرير (و) لكن (الاول اى بيت جرير (يختض بعض العالم وهو
الناس وهذا) اى بيت ابى نواس (يشملهم) اى الناس (وغيرهم) وذلك لما قاله السيوطي
العالم اسم لما سوى البارى تعالى اى جميع المخلوقات فيشمل الناس وغيرهم.
(روى انه لما
سمع هرون الرشيد كثرة افضال البرمكي وفرط احسانه) على المحتاجين والعجزة (في زمانه
غار عليه غيرة افضت) تلك الغيرة (به) اى بهرون (الى التنكر له) اى للفضل (و) الى (الامر
بحبسه) اى بحبس الفضل (فكتب اليه) اى الى هرون (ابو نواس هذه الابيات) :
قولا لهرون
امام الهدى
|
|
عند احتفال
المجلس الحاشد
|
انت على ما
بك من قدرة
|
|
فلست مثل
الفضل بالواحد
|
ليس من الله
بمستنكر
|
|
ان يجمع
العالم في واحد
|
هذا (البيت)
الاخير هو المذكور في المتن للاستشهاد (فامر هرون باطلاقه) اى اطلاق الفضل.
(ومنه اى من
غير الظاهر القلب) هذا غير القلب الذي تقدم في الباب الثاني من علم المعاني في بحث
خلاف مقتضى الظاهر لان هذا القلب ما ذكره بقوله (وهو ان يكون معنى) البيت (الثاني
نقيص معنى) البيت (الاول كقول ابى الشيص).
أجد الملامة
في هواك لذيذة
|
|
حبا لذكراك
فليلمني اللوم
|
(وقول ابى الطيب احبه الاسفهام
للانكار) الابطالي وهو على ما
ذكره ابن هشام ما يقتضي ان ما بعده غير واقع وان مدعيه كاذب.
والانكار راجع
الى القيد الذي هو الحال اعني قوله واحب فيه ملامة كما يقال اتصلي وانت محدث)
فالمنكر وقوع الصلوات مع الحدث لا وقوع الصلوات من حيث هي كما ان المنكر ههنا حب
المحبوب مع حب الملامة من اعدائه لا حب المحبوب من حيث هو وقد تقدم الكلام فى هذه
القاعدة نقلا عن الشيخ عبد القاهر في صدر الكتاب في شرح قول الخطيب ولم أبالغ في
اختصار لفظه تقريبا الخ وفي الباب الثاني في بحث العطف على المسند اليه بالفاء وثم
وحتى فراجع وتذكر.
(هذا جعلت
الواو) في واحب (للحال) وذلك (اما) بناء (على تجويز تصدير المضارع المثبت) اذا وقع
حالا (بالواو) الحالية (كما هو رأي البعض) خلافا لما عليه الجمهور حيث قالوا :
وذات بدء
بمضارع ثبت
|
|
حوت ضميرا
ومن الواو خلت
|
(او على تقدير المبتدأ) كما قال
الناظم :
وذات واو
بعدها انو مبتدأ
|
|
له المضارع
اجعلن مسندا
|
(واذا جعلتها) اي الواو (للعطف
فالانكار راجع الى الجمع بين الامرين اعني محبته) اي محبة الحبيب (ومحبة الملامة
فيه) اى كيف يجتمع حبه وحب اللوم فيه من أعدائه فيكون المعنى حينئذ نظير لا تأكل
السمك وتشرب اللبن على بعض الوجوه (يعني لا يكون إلا واحد) من الأمرين.
(ان الملامة
فيه من اعدائه) لا من أحبائه (و) معلوم ان (ما) اى شيء (يكون من عدو الحبيب يكون
مبغوضا لا محبوبا فهذا) اى معنى بيت ابي الطيب (نقيض معنى بيت أبي الشيص) لان ابا
الطيب يدعى بغض اللوم في الحبوب وابا الشيص حب اللوم فيه.
ولكن لا يذهب
عليك ان التناقض والتنافي بينهما بحسب الظاهر وان شئت قل ان التناقض عرفي لا منطقى
لان علة حب اللوم فى كلام ابى الشيص اشتمال اللوم على ذكر المحبوب وهذا محبوب له
وعلة كراهة الوم في كلام ابي الطيب صدوره من عدو المحبوب والصادر من عدو المحبوب
مبغوض.
فاذا اختلفا
العلتان ارتفع الاتحاد المشروط في التناقض واذا ارتفع الاتحاد ارتفع التناقض
المنطقي لان التناقض المنطقى هو ان يكون الكلامان بحيث يلزم من صدق احدهما كذب
الآخر وبالعكس وههنا ليس كذلك لان الكلامين كليهما صادقين كل باعتبار علة حسبما
بينا فالتناقض بحسب الظاهر وعرفي لا منطقى.
(والاحسن في
هذا النوع) اى في القلب (ان يبين السبب) أى يبين العلة في الكلامين المتناقضين
بحسب الظاهر والعرف وذلك لأجل ان يعلم ان التناقض بينهما ليس منطقيا بل بحسب
الظاهر والعرف (كما) بين السبب والعلة (في البيتين) المتقدمين وقد اوضحنا ان
التناقض بينهما ليس منطقيا لاختلاف العلة فيهما.
(إلا ان يكون)
السبب والعلة (ظاهرا) بحيث يعرف وان لم يذكر (كما في قول ابى تمام) :
ونغمة معتف
جدواه أحلى
|
|
على اذنيه من
نغم السماع
|
(وقول ابى الطيب) :
والجراحات
عنده نغمات
|
|
سبقت قبل
سيبه بسؤال
|
فمعنى البيتين
بحسب الظاهر والعرف متناقضين ولم يبين السبب والعلة فيهما لكونه ظاهرا.
وجه التناقض ان
معنى بيت ابى تمام ان هذا الممدوح لفرط محبته
للكرم والاحسان على المحتاجين تصير عنده نغمة السائل لحب سؤاله لاعطائه
أحلى من نغمات العود وسائر آلات النغم فسرق ابو الطيب هذا المعنى ولكنه قلبه فجعل
نغمات السؤال عند الممدوح بحيث تؤثر فيه وتؤذيه كالجرح وهذا نقيض قول ابى تمام
بحسب الظاهر والعرف والعلة في كل من البيتين كون الممدوح في غاية الكرم ونهاية حب
الانسان واتصاف الممدوح بذلك ظاهر بحيث لا يحتاج الى البيان.
والى ما اوضحنا
أشار التفتازاني بقوله (أراد ابو تمام ان الممدوح يستلذ نغمات السائلين لما فيه من
غاية الكرم ونهاية الجود.
وأراد ابو
الطيب انه سبقت نغمة من سائل عطاء الممدوح بلغ ذلك منه مبلغ الجراحة من المجروح
لان عادته ان يعطي بغير سؤال) فقد تناقض الكلامان بحسب الظاهر لان الجراحة نقيض
الحلاوة من حيث التأذي والتلذذ وان لم يكن تناقض بحسب الحقيقة وذلك لكون الكلامين
موجبتين فلا اختلاف بينهما في الكيف ولكون الموضوع فيهما متغائرين فتأمل جيدا.
(ومنه اى من
غير الظاهر ان يؤخذ بعض المعنى) من كلام الشاعر الاول (ويضاف اليه) اى الى ذلك
البعض المأخوذ (ما يحسنه) وبعبارة اخرى يأخذ الشاعر الثاني من كلام الشاعر الاول
بعض المعنى لا كله لكن لا يقتصر الشاعر الثاني على ذلك البعض المأخوذ من الاول بل
يضيف اليه ما يحسنه (كقول الافوه وترى الطير على آثارنا) أى تبصر الطير ورائنا
تابعة لنا (رأى عين اى عيانا) وانما أكد ترى بقوله رأى عين لئلا يتوهم ان الطير
بحيث ترى لمن أمعن النظر بتكلف (ثقة) مصدر كعدة وهو (حال) من الطير (اى) حالكون
تلك الطير (واثقة) بانها ترزق من لحوم من يقتله من الاعداء (بناء على ان المصدر
اقيم مقام الصفة) اى مقام اسم الفاعل على ما اشار اليه السيوطى في شرح
قول الناظم.
ومصدر منكر
حالا يقع
|
|
بكثرة كبغية
زيد طلع
|
(او) ان ثقة (مفعول له من الفعل)
او من اسم الفاعل (الذي يتضمنه) الجار والمجرور اعني (قوله على آثارنا) اى استقرت
ومستقرة على آثارنا (لوثوقها واعتمادها) على انها ترزق من لحوم قتلى الاعداء الذين
يقتلهم وانما زدنا على قول التفتازانى من الفعل قولنا اسم الفاعل لقول الناظم
ناوين معنى كائن او استقر فتبصر وتذكر.
(ان مخففة من
المثقلة ستمار اى ستطعم) تلك الطير (من لحوم من يقتلهم من القتلى) اى من قتلى
الاعداء.
فقوله ثقة بناء
على كونه مفعولا له جواب لسؤال مقدر كأنه قيل لماذا كانت الطير على آثاركم فأجاب
بأنها كانت على آثارنا وتبعتنا لثقتها بانها ستمار اى ستطعم من لحوم القتلى.
(وقول ابى تمام
وقد ظللت) بالبناء للمفعول (اى القيت عليها الظل) القيت ايضا بالبناء للمفعول الظل
نائب فاعله (عقبان) بكسر أوله جمع عقاب وهو طير عظيم يقال له بالفارسية كركس
واضافته الى (اعلامه) من قبيل اضافة المشبه به الى المشبه كما في لجين الماء وقد
بيانه فى بحث التشبيه قبيل الخاتمة فتذكر.
اي ظللت اعلامه
الشبيهة بالعقبان في التلون والفخامة لان الاعلام اي الرايات فيها الوان مختلفة
كالعقبان.
واحتمل بعضهم
ان تكون الاضافة حقيقية بمعنى اللام فالمراد بعقبان الاعلام الصور المعمولة من ذهب
أو غيره على هيئة العقبان المنصوبة على راس العلم كما ينصبون صورة اليد المعمولة
من ذهب او غيره في بعض البلاد على رأس اعلام المصيبة.
(ضحى) هو على
ما قال في المصباح جمع الضحوة بمعنى امتداد النهار مثل قرية وقرى ثم استعملت الضحى
استعمال المفرد يقال ارتفعت الضحى اى ارتفعت الشمس والضحى فى البيت ظرف لظللت (بعقبان
طير) متعلق بظللت اى ظللت عقبان الاعلام بعقبان طير لانها تطير فوق الاعلام مع
الجيش فالقت ظلها عليها.
(في الدماء)
لفظ في بمعنى من متعلق بقوله (نواهل) وهو ماخوذ (من نهل اذا روى) فهو اى نهل (نقيض
عطش) ونواهل صفة لعقبان طير أي ظللت عقبان الاعلام بعقبان طير من صفتها النهل أى
الري من دماء القتلى وذلك اذا وضعت الحرب اوزارها وفريب من هذا المعنى ما قيل
بالفارسية :
ز بس كشته
افتاد در سنكلاخ
|
|
شده روزى زاغ
وكركس فراخ
|
(اقامت اى عقبان الطير مع الرايات
اي الاعلام اعتمادا على انها ستطعم لحوم قتلاه) فعقبان الطير من شدة اختلاطها مع
الريات وقربها منها صارت (كانها من الجيش الا انها) أى عقبان الطير (لم تقاتل) اي
لم تباشر القتال وهذا استدراك على ما يتوهم من قوله كانها من الجيس انها قاتلت مع
الجيس فدفع هذا التوهم الا انها لم تقاتل.
(بعني ان رايات)
جيش (الممدوح التي هى كالعقبان) او الصور المصوبة على الرايات (قد صارت مظللة
بالعقبان من الطيور النواهل في دماء القتلى لانه) اي الممدوح (اذا خرج للغزو) أي
لحرب العدو في بلاده كذا في المصباح (تساير العقبان فوق راياته لاكل لحوم القتلى
فتلقى ظلالها عليها).
الى هنا كان
الكلام في اجمال معنى البيتين واما المفاضلة بينهما وبيان الشاهد فيهما وان الثانى
اخذ بعض المعنى من الاول واضاف الى البعض
ما يحسنه (فان ابا تمام لم يلم) اى لم يأخذ اى لم يأتي (بشيء من معنى قول
الافوه رأى العين ومن معنى قوله ثقة ان ستمار) اى ستطعم (يعني ان ابا تمام انما
أخذ بعض معنى بيت الافوه لا كله لان الافوه أفاد بقوله رأى عين قرب) عقبان (الطير
من الجيش) بحيث يرى معانية (لانها إذا بعدت) من الجيش (كانت متخيلة لا مرئية رأي
عين وقربها انما يكون لاجل توقع الفريسة وهذا يؤكد المعنى المقصود اعني وصفهم
بالشجاعة والاقتدار على قتل الاعادي.
ثم قال ثقة ان
ثمار فجعل الطير واثقة بالميرة) اى بالطعام (لاعتيادها بذلك وهذا ايضا يؤكد
المقصود) وهو وصفهم بالشجاعة والاقتدار على قتل الاعادي.
(لا يقال ان قول
ابي تمام ظللت المام) اى اخذوا اتيان (بمعنى قوله) اى قول الافوه (رأى عين لان
وقوع الظل على الرايات يشعر بقربها من الجيش لانا نقول هذا) الاشعار (ممنوع اذ قد
يقع ظل الطير على الراية وهي) اى الطير (في جو السماء بحيث لا يرى اصلا).
وليعلم ان
التفتازاني جعل الضمير الراجع الى الطير مؤنثا تارتا ومذكرا تارة اخري لان الطير
يؤنث ويذكر قاله في المصباح.
(لكن زاد ابو
تمام عليه اى على الافوه زيادات محسنة لبعض المعنى الذي اخذه من الافوه وهو) اى
المعنى الماخوذ (تساير الطير على آثارهم (بقوله) الباء للسببية متعلق بزاد ابو تمام
(الا انها لم تقاتل وبقوله في الدما نواهل وباقامتها مع الرايات حتى كأنها من
الجيش).
والحاصل ان ان
ابا تمام زاد على الافوه من حيث البلاغة والحسن بثلاثة اشياء الاول إلا انها لم
تقاتل والثاني في الدماء نواهل والثالث اقامتها مع الرايات حتى كانها من الجيش.
(وبها) اي
بالزيادة الثالثة يعني (وباقامتها مع الرايات حتى كانها من الجيش يتم حسن الاول)
من الزيادات الثلاث في كلام الخطيب (اعني قوله الا انها لم تقاتل) لا الاول في
كلام ابى تمام لانه في كلامه آخر البيت.
والحاصل ان قول
ابي تمام اقامت مع الرايات حتى كانها من الجيش موجب لتمامية حسن قوله الا انها لم
تقاتل (لانه) لو ترك اقامت مع الرايات حتى كانها من الجيش و (قيل ظللت عقبان
الرايات بعقبان الطير الا انها لم تقاتل لم يحسن هذا الاستثناء المنقطع) اي قوله
الا انها لم تقاتل (ذلك الحسن) الذي مع ذكر قوله اقامت مع الرايات حتى كانها من
الجيش (لان اقامتها مع الرايات حتى كانها من الجيش) موهم و (مظنة انها ايضا تقاتل
مثل الجيش فيحسن) هذا الاستثناء المنقطع لان مفاده (الاستدراك الذي هو) في
الاصطلاح (دفع التوهم الناشيء من الكلام السابق) وقد تقدم الكلام في ذلك في
المحسنات المعنوية في بحث تأكيد المدح بما يشبه الذم فراجع وتذكر.
(بخلاف وقوع
ظلها) اى ظل عقبان الطير (على الرايات) من دون اقامتها معها كانها من الجيش لان
مجرد وقوع ظلها على الرايات لا يوهم ولا يكون مظنة انها تقاتل مثل الجيش حتى يحتاج
الى الاستدراك بهذا الاستثناء.
الى هنا كان الكلام
مبينا على ارجاع الضمير في قول الخطيب بها يتم حسن الاول الى خصوص قوله باقامتها
مع الرايات حتى كانها من الجيش وعلى ان المراد بالاول قوله الا انها تقاتل.
(ويحتمل ان
يكون) الضمير راجعا الى مجموع الزيادات الثلث فيكون (معنى قوله وبها يتم حسن
الالاول ان بهذه الزيادات) الثلاث
(يتم حسن معنى البيت الاول أعني تساير الطيور على آثارهم وما ذكرناه اولا)
من ارجاع الضمير الى خصوص قوله باقامتها الخ (هو الموافق لما في الايضاح وعليه
المعول) اى الاعتماد في تفسير الضمير في هذا الكتاب لان الكتابين له ومعلوم ان
كلام كل متكلم يفسر بعضه البعض.
(وأكثر هذه
الانواع المذكورة لغير الظاهر) حسبما بينا (ونحوها) مما لم يذكره الخطيب وفيه نكتة
مثل الانواع المذكورة (مقبولة) التأنيث باعتبار اضافة المرجع اعني اكثر الى المؤنث
اعنى هذه (ومنها اى من هذه الانواع) غير الظاهرة المذكورة وغيرها (ما يخرجه حسن
التصرف) اى حسن تصرف الشاعر الثاني بحيث يخرج من الابتذال الى الغرابة كما تقدم
بيانه في أوائل الخاتمة فبهذا الحسن يخرج كلام الشاعر الثاني (من قبيل الاتباع) أى
من كونه تابعا اى من كونه سرقة ومأخوذا من الشاعر الاول (الى حيز الابتداع) اى
الاحداث والابتكار فيصير كانه غير مأخوذ من الشاعر الأول.
(وكل ما كان اى
كل نوع من هذه الانواع) الماخوذ من الغير (أشد خفاء) من ماخوذ آخر بان يتصرف فيه (بحيث
لا يعرف ان) الكلام (الثاني ماخوذ من) الكلام (الاول).
وبعبارة اخرى
يتصرف الشاعر الثاني في كلام الشاعر الاول بادخال لطائف ونكات في الكلام بحيث لا
يفهم السامع انه اخذه من الشاعر الاول (إلا بعد اعمال روية) اى اعمال فكر وتدبر
مأخوذ من روأت في الامر بالهمز اذا نظرت فيه كذا في المصباح (ومزيد تأمل) اما اصل
التأمل فلا بد منه في كل شيء غير ظاهر والتأمل اعادة النظر في شىء مرة بعد اخرى
حتى تعرفه كذا ايضا في المصباح.
(كان اقرب الى
القبول) مما ليس كذلك (لكونه) بسبب شدة
الخفاء والتصرف فيه بادخال اللطائف المزيدة (ابعد من الاخذ والسرقة) وادخل
في الابتداع والتصرف وان شئت ان تعرف ان التصرف كيف يخرج الثاني من الاتباع الى
الابتداع وكيف يصير بذلك أبعد من الاخذ والسرقة فانظر الى ما تقدم من قول ابي
نواس.
ليس على الله
بمستنكر
|
|
ان يجمع
العالم في واحد
|
وما تقدم من
أصله أعنى قول جرير :
اذا غضبت
عليك بنو تميم
|
|
وجدت الناس
كلهم غضابا
|
(هذا الذي ذكر في الظاهر وغيره من
ادعاء سبق احدهما) اى احد الكلامين (واتباع) الكلام (الثاني وكونه) اى الكلام
الثاني سرقة وكونه (مقبولا او مردودا او تسمية كل) نوع من الانواع (بالاسامي
المذكورة) كالتسمية بالالمام والاغارة وسائر الاسماء المتقدمة (وغير ذلك) من
الاحكام (مما سبق) بيانه.
(كله انما يكون
اذا علم ان الثاني اخذ من الاول بان يعلم انه) أى الثانى (كان يحفظ قول الاول)
واستمر حفظه الى (حين نظم) هذا الثانى بيته (او بأن يخبر هو) اى الثانى (عن نفسه
انه اخذه منه) اى من الشاعر الاول (والا) اي وان لم ذلك بأحد القسمين (وإلا) اى
وان لم يعلم ذلك (فلا يحكم بسبق احدهما واتباع الآخر) اي لا يحكم بسرقة الثانى من
الاول واخذه منه (و) حينئذ (لا يثرتب عليه) اى على الثانى (الاحكام المذكورة) فيما
تقدم للسرقة)
(لجواز ان يكون
الاتفاق اى اتفاق القائلين في اللفظ والمعنى جميعا او في المعنى وحده من قبيل
توارد الخاطر اى مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد) من الشاعر الثانى (الى الاخذ
من الاول (كما يحكى من ابن ميادة انه انشد لنفسه)
مفيد ومتلاف
إذا ما أتيته
|
|
تهلل واهتز
اهتزاز المهند
|
(فقيل له اين يذهب بك هذا) البيت (للحطيئة)
الشاعر (فقال الان علمت اني شاعر اذا وافقته على قوله ولم اسمعه وكما يحكى ان
سليمان بن عبد الملك أتى بأسارى من الروم وكان الفرزدق) الشاعر (حاضرا فأمره
سليمان) بن عبد الملك (بضرب عنق واحد منهم فاستعفى) الفرزدق من قتل ذلك الرومي (فما
أعفى) من قتله (وقد اشير الى سيف غير صالح للضرب ليستعمله) الفرزدق في قتل ذلك
الرومي (فقال الفرزدق) لا استعمل هذا السيف الغير الصالح (بل اضرب بسيف ابي رغوان
سيف مجاشع يعني وكأنه قال لا يستعمل ذلك السيف) الغير الصالح (إلا ظالم وابن ظالم)
وذلك لان ذلك السيف لما لم يكن صالحا للضرب والقتل كان سببا لتعذيب المقتول تعذيبا
زائدا وايلام له فكان القتل به ظلما على المقتول فمن استعمله فهو ظالم أو ابن ظالم
ورث الظلم من أبيه.
(ثم ضرب)
الفرزدق (بسيفه) ذلك الرومي) الأسير (واتفق ان نيام السيف) اي لم يؤثر (فضحك
سليمان ومن حوله فقال الفرزدق
أيعجب الناس
ان اضحكت سيدهم
|
|
خليفة الله
يتسقى به المطر
|
لم ينب سيفي
من رعب ولا دهش
|
|
عن الأسير
ولكن آخر القدر
|
ولم يقدم
نفسا قبل ميتتها
|
|
جمع اليدين
ولا الصمصامة الذكر
|
ثم أغمد)
الفرزدق (سيفه وهو يقول ما ان يعاب سيد اذا صبا) اى اذا مال الى ما يفعله الانسان
في أيام الطفولة من الجهالة واللعب (ولا يعاب صارم) اي سيف قاطع (اذا نبا) اى اذا
لم يؤثر في القطع (ولا يعاب شاعر اذا كبا) اي اذا زل في النظم.
(ثم جلس يقول
كاني بابن المراغة يعني جريرا قد هجاني فقال) :
بسيف ابي
رغوان سيف مجاشع
|
|
ضربت ولم
تضرب بسيف ابن ظالم
|
(وقام وانصرف) اى خرج من المجلس (وحضر)
بعد خروجه (جرير) الشاعر (وخبر بالخبر ولم ينشد) له (الشعر) الذي قاله الفرزدق
اعني بسيف ابي زغوان الخ (فأنشأ) جرير (يقول) :
بسيف ابي
رغوان سيف مجاشع
|
|
ضربت ولم
تضرب بسيف ابن ظالم
|
(فأعجب سليمان ما شاهد من توارد
الخاطر على سبيل الاتفاق (ثم قال جرير يا امير المؤمنين كاني بابن القين يعني
الفرزدق قد اجابني فقال) :
ولا نقتل
الاسرى ولكن نفكم
|
|
اذا اثقل
الاعناق حمل المغارم
|
(ثم اخبر الفرزدق بالهجو) اى بسيف
ابي رغوان الخ (دون ما عداه) اى دون ولا نقتل الاسرى الخ (فقال) الفرزدق (مجيبا) :
كذاك سيوف
الهند ينبو ظباتها
|
|
ويقطع احيانا
مناط التمائم
|
ولا نقتل
الاسرى ولكن نفكهم
|
|
اذا اثقل
الاعناق حمل المغارم
|
وهل ضربة
الرومي جاعلة لكم
|
|
ابا عن كليب
او اخا مثل دارم
|
(فاذا لم يعلم ان) الشاعر (الثاني
اخذ من) الشاعر (الأول قيل قال فلان كذا وقد سبقه اليه فلان) سواء كان القول
الثاني مخالفا للقول الأول من بعض الوجوه ام لا وانما يقال ذلك ولا يقال ان الثاني
اخذ وسرق من الاول (ليغتنم بذلك) القول اى بقول قال فلان كذا وقد سبقه اليه فلان (فضيلة
الصدق) والاحتراز عن الكذب لانه لو قيل ان الثاني سرق من الاول واخذ منه او قيل بعدم
ذلك لم يؤمن ان يخالف الواقع (ويسلم من دعوى الغيب) لو عين الأخذ والسرقة أو عدم
ذلك (و) يسلم (من نسبة الغير) اى الشاعر الثاني (الى النقص) اى الى الاخذ والسرقة
لان سرقة التاني من الاول واخذه منه
انتقاص عظيم.
(ومما يتصل) اي
يلحق (بهذا اي بالقول في السرقات الشعرية القول) مبتدء مؤخر لقوله مما يتصل على
أحد الوجهين في أفي الله شك نقلناهما في الكلام المفيد في آخر بحث وجوب حذف
المتعلق.
(في الاقتباس
والتضمين والعقد والحل والتلميح بتقديم اللام على الميم) مأخوذ (من لمحة اذا ابصره
ووجه اتصال القول فيها) اى هذه الامور الخمسة (بالقول فى السرقات الشعرية ان في كل
منهما اخذ شيء من الآخر) اما الاخذ في السرقات الشعرية فقد تقدم واما في هذه
الامور الخمسة فيستلى عليك.
(اما الاقتباس)
لغة فهو اخذ النار من معظمها واما اصطلاحا (فهو ان يضمن الكلام نثرا كان او نظما
شيئا من القرآن او الحديث لا على انه) اى الشيء المضمن بالفتح (منه) اى من القرآن
او الحديث بل يجب ان يكون المأخوذ منهما من فقرات الكلام وان كان ما يشبه المأخوذ
موجودا في القرآن او الحديث فليس المضمن بالفتح نفس القرآن او الحديث بل شبيه له.
والى ما ذكرنا
اشار التفتازاني بقوله (أى لا على طريقة ان ذلك الشيء) المضمن بالفتح (من القرآن
او الحديث يعني على وجه لا يكون فيه) أى فى تضمين ذلك الشىء (اشعار بانه) اي ذلك
الشيء (من القرآن او الحديث وهذا) الشرط (احتراز عما يقال في اثناء الكلام قال
الله تعالى او قال النبي «ص» كذا او) يقال ورد (في الحديث كذا ونحو ذلك (مما يراد
به نفس كلام الله أو النبي «ص» او احد الائمة المعصومين عليهمالسلام فان شيئا من ذلك لا يكون اقتباسا اصطلاحا وان كان
تضمينا لغة فتدبر جيدا.
(ومثل) الخطيب (في)
هذا (الكتاب باربعة أمثلة لان الاقتباس أما من القرآن أو من الحديث وعلى التقديرين
فالكلام اما منثور او منظوم فالاول) أي ما كان من القرآن في الكلام المنثور (كقول
الحريري فلم تكن إلا كلمح البصر او هو أقرب حتى أنشد واعرب) فانه اقتبس عن قوله
تعالى (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ومن الواضح بالنظر الى المعنى انه اتى به لا على انه من
القرآن.
(والثاني) أى
ما كان من القرآن في الكلام المنظوم (مثل قول الآخر).
ان كنت ازمعت
على هجرت
|
|
من غير ما
جرم فصبر جميل
|
وان تبدلت
بنا غيرنا
|
|
فحسبنا الله
ونعم الوكيل
|
(ازمعت اي عزمت والثالث) اى ما كان
من الحديث في الكلام المنثور (مثل قول الحريري قلنا شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن
يرجوه فان قوله شاهب الوجوه لفظ الحديث على ما روى انه لما اشتد الحرب يوم حنين
اخذ النبي «ص» كفا من الحصباء فرمى بها وجوه المشركين وقال «ص» شاهت الوجوه اى
قبحت بالضم) اى بضم الباء (من القبح نقيض الحسن وقول الحريرى قبح) بالبناء للمفعول
(اللكع اى لعن) بالبناء للمفعول ايضا (اللئيم وقيل) معناه (أبعد من قبحه الله بفتح
العين) اى الباء (اى بعده عن الخير والرابع) اى ما كان الحديث من الحديث في الكلام
المنظوم (مثل قول ابن عباد قال الحبيب لي ان رقيي سيء الخلق وداره) مأخوذ (من
المداراة وهي المجاملة والملاطفة وضمير المفعول) المتصل بقوله فداراه (للرقيب) وهو
الحافظ والحارس للحبيب.
(قلت دعني وجهك
الجنة حفت بالمكاره اقتباسا من قوله «ص»
حفت الحنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات يقال حففته بكذا اي جعلته محفوظا
محاطا يعني ان وجهك جنة فلا بد لي من تحمل مكاره الرقيب كما لا بد لطالب الجنة من
تحمل مشاق التكاليف) التي تأتى من جانب الرقيب.
(وهو اى
الاقتباس ضربان احدهما ما لا ينقل فيه المقتبس عن معناه الاصلي كما تقدم من
الامثلة الاربعة (و) الضرب (الثاني خلافه اى نقل فيه المقتبس عن معناه الاصلي
كقوله اى قول ابن الرومي)
لئن أخطأت في
مدحك ما أخطأت في منعى
|
|
لقد انزلت
حاجاتي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
|
(فقوله (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) مقتبس من قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليهالسلام (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) لكن معناه في القرآن واد لا ماء فيه ولا نبات وقد نقله
ابن الرومى عن هذا المعنى الى جناب) بالفتح الفناء والجانب ايضا كذا في المصباح (لا
خير فيه ولا نفع) وليس هذا معناه في القرآن.
(ومن لطيف هذا
الضرب) الثانى (قول بعضهم في صبيح الوجه دخل الحمام فحلق رأسه) فقال ذلك البعض (تجرد
للحمام عن قشر لؤلؤ والبس من ثوب الملاحة ملبوسا وقد جرد الموسى لتزيين رأسه فقلت
لقد أوتيت سؤلك يا موسى) فهذه الفقرة الأخيرة اقتباس من القرآن الكريم ولكن المراد
من لفظ موسى هنا الآلة المعلومة وفي القرآن الكريم نبي الله موسى «ع».
(ولا بأس
بتغيير يسير في اللفظ المقتبس للوزن او غيره كالتقفية كقوله اى قول بعض المغاربة
عند وفاة بعض اصحابه قد كان اى وقع ما خفت ان يكونا انا الى الله راجعونا وفى
القران (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) فحذف مما في القرآن ثلاثة أشياء احدها اللام من لله
والثانى انا من اليه والثالث الضمير المجرور في اليه وهذا المقدار من الحذف تغيير
يسير بالنسبة الى مجموع ما في القرآن.
(وأما التضمين
فهو أن يضمن الشعر) فخرج النثر فلا يجري فيه التضمين (شيئا من شعر الغير) خرج ما
اذا ضمن شيئا من نثر الغير فلا يسمى تضمينا بل عقدا كما يأتى عن قريب (بيتا كان)
المضمن بالفتح (او ما فوقه او مصراعا او ما دونه) وهذه الاربعة (مع التنبيه عليه
اى على انه من شعر الغير ان لم يكن ذلك مشهورا عند البلغاء) اي ان لم يكن ذلك
الشعر المضمن مشهورا عند البلغاء بأنه لفلان الشاعر (وان كان) ذلك الشعر المضمن (مشهورا)
بذلك (فلا احتياج الى التنبيه).
فتحصل مما ذكر
ان اقسام التضمين ثمانية الاول والثانى تضمين بيت واحد مع التنبيه او عدمه والثالث
والرابع تضمين اكثر من بيت واحد كذلك والخامس والسادس تضمين مصراع كذلك والسابع
والثامن تضمين أقل من مصراع.
وقد مثل
التفتازانى للاول والثانى وترك الثالث والرابع لطول الاكثر مع قلة وجوده ومثل
الخطيب للخامس فقط والتفتازانى للسادس وتركا السابع والثامن لان طريق التنبيه
فيهما متصل مع المضمن في بيت واحد غالبا ولقلة وجوده ايضا فتنبه.
(وبهذا) القيد
اى باشتراط التنبيه عليه اذا كان غير مشهور (يتميز) التضمين (عن الاخذ والسرقة)
لان الاخذ والسرقة وان كان فيها تضمين شعر ايضا الا ان السارق يبذل الجهد في اظهار
كونه له والمضمن يأتى به منسوجا مع شعره مظهرا انه لغيره وذلك كما قال الشاعر
الفارسى.
چو خوش كفت
فردوسي پاكزاد
|
|
كه رحمت بر
ان تربت پاك باد
|
زن واژدها
هردو در خاك باد
|
|
جهان پاك
ازين هردو ناپاك باد
|
وانما يضم
الشاعر شعر غيره الى شعره ليظهر انه حاذق في ادخال كلام الغير فى كلامه مع
المناسبة التامة لان ضم كلام الغير مع المناسبة مما يستبدع إذ ليس بسهل التناول
ولذا عد في المحسنات كما يظهر ذلك من الامثلة الآتية ومما فعله الشاعر في هذه
الابيات :
دل ميرود ز
دستم صاحبدلان خدا را
|
|
دزدان برهنه
كردند حاجى غلامرضا را
|
هى بر جناب
حاجى ششپر زدند وگفتند
|
|
كر تو
نمپسندى تغيير ده قضا را
|
چون دست دزد
امد برنبد زير جامه
|
|
كفتا كه
رزپيهان خواهد شد اشكارا
|
(ولو قال) الخطيب في تعريف التضمين
(مكان قوله من شعر الغير من شعر اخر لكان احسن ليتناول ما اذا ضمن الشاعر شعره
شيئا من قصيدته الاخرى لكنه) اى الخطيب (لم يلتفت اليه) اى الى ما اذا ضمن الشاعر
شعره شيئا من قصيدته الاخرى (لندرته فى اشعار العرب.
(اما تضمين
البيت مع التنبيه على انه من شعر الغير فكقول عبد القاهر بن الطاهر التميمي.
اذا ضاق صدري
وخفت العدى
|
|
تمثلت بيتا
بحالي يليق
|
فبالله أبلغ
ما ارتجى
|
|
وبالله أدفع
ما لا أطيق
|
فقوله تمثلت
بيتا بحالي يليق تنبيه على ان البيت الثاني من شعر غيره (وبدون التنبيه كقول بعضهم).
كانت بلهنية
الشبيبة سكرة
|
|
فصحوت
واستبدلت سيرة مجمل
|
وقعدت انتظر
الفناء كراكب
|
|
عرف المحل
فبات دون المنزل
|
فلم بنبه هذا
الشاعر على ان (البيت الثاني لمسلم بن الوليد الانصاري ومما نبه فيه على انه من
شعر الغير مع كونه مشهورا لا حاجة اليه) أى الى التنبيه (قول ابن العميد) :
كأنه كان على
مطويا على أحن
|
|
ولم يكن في
قديم الدهر انشدنى
|
أن الكرام
اذا ما اسهلوا ذكروا
|
|
من كان
يألفهم في المنزل الخشن
|
فنبه بقوله ولم
يكن في قديم الدهر انشدني على ان (البيت الثاني لابى تمام) مع انه مشهور فيكون
التنبيه تأكيدا.
(و) اما (تضمين
المصراع مع التنبيه على انه من شعر آخر) فهو (كقوله اى قول الحريري يحكى ما قاله
الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع).
على اني
سأنشد يوم بيعي
|
|
أضاعونى وأي
فتى أضاعوا
|
فنبه بقوله
سأنشد على ان (المصراع الثاني) لغيره لانه (للعرجى وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان
بن عفان نسب للعرج) بسكون الراء (وهو موضع بطريق مكة وقيل هو لامية بن أبى صلت
وتمامه ليوم كريهة وسداد ثغر اللام في ليوم للوقت) فتكون بمعنى في (والكريهة من
أسماء الحرب وسداد الثغر بكسر السين لا غير) اى لا يجوز فتحها (هو) اى سداد الثغر (سده
بالخيل والرجال) وما يحتاج اليه في حفظ بلاد الاسلام من العدو.
(والثغر موضع
المخافة من فروج البلدان) وبعبارة أخرى الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو فهو كالثملة
في الحائط يخاف هجوم السارق منها كذا في المصباح.
(اى اضاعونى
وقت الحرب) مع الاعداء (وزمان سد الثغور ولم يراعوا حقى) وقول التفتازانى (احوج ما
كانوا الى) حال من الواو في يراعوا وما مصدرية ظرفية زمانية وكان تامة والى متعلق
بأحوج اى ولم يراعوا حقى حال كونهم اشد احتياجا الى مدة كونهم اى وجودهم.
وقوله اى
العرجى (واى فتى اى كاملا من الفتيان) مفعول مقدم لقوله (أضاعوا) واشار التفتازانى
بقوله اى كاملا من الفتيان الى ان أى استفهامية للتعظيم والكمال اى اضاعونى وانا
اكمل الفتيان في وقت الحرب وفي وقت الحاجة لسد الثغور اذ لا يوجد من الفتيان من هو
مثلي في وقت تلك الشدائد (وفيه تنديم) للقوم لاضاعته وعدم مراعات حقه.
(واما) تضمين
المصراع (بدون التنبيه فكقول الآخر) :
قد قلت لما
اطلعت وجناته
|
|
حول الشقيق
الغض روضة اس
|
اعذاره
السارى العجول توقفا
|
|
ما في وقوفك
ساعة من باس
|
(فالمصراع الأخير لأبى تمام) ولم
ينبه على ذلك بشىء.
(واعلم ان
تضمين ما دون البيت ضربان أحدهما ان يتم المعنى بدون تقرير الباقي) من البيت
المضمن بعضه (كما مر آنفا) في اضاعونى واى فتى اضاعوا.
(والثاني ان لا
يتم) المعنى (بدونه) اي بدون تقرير الباقي (كقول الشاعر) :
كنا معا امس
في بؤس نكابده
|
|
والعين
والقلب منا في قذى واذى
|
والأن اقبلت
الدنيا عليك بما
|
|
تهوى فلا
تنسى ان الكرام اذا
|
(اشار الى بيت أبي تمام) المتقدم
انفا يعني اذا ما اسهلوا الخ (و) معلوم انه (لا بد من تقرير الباقي منه لان المعنى
لا يتم بدونه) وذلك ظاهر.
(واحسنه اى
احسن التضمين ما زاد على الاصل بنكتة اى يشتمل البيت أو المصراع المضمن) بالفتح (في
شعر الشاعر الثاني على لطيفة اى على نكتة (لا توجد في شعر الشاعر الاول كالتورية
وهي) كما تقدم في المحسنات المعنوية (ان يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد
البعيد) وقد تقدم في ديباجة الكتاب في بيان وجوه الاعجاز ان ذلك يسمى ايهاما ايضا
فتذكر
اذا الوهم
أبدى لي لماها وثغرها
|
|
تذكرت ما بين
العذيب وبارق
|
ويذكرني من
قدها ومدامعي
|
|
مجرعو الينا
ومجرى السوابق
|
فالمصراع
الثاني من كل من البيتين ماخوذ من ابي الطيب واصلهما في كلام ابي الطيب هكذا :
تذكرت ما بين
العذيب وبارق
|
|
مجرعو الينا
ومجرى السوابق
|
فاخذ هذا
الشاعر المصراع الاول منه وجعله مصراعا ثانيا لبيته الاول واخذ المصراع الثاني منه
وجعله مصراعا ثانيا لبيته الثانى فاشتمل كل من المصراعين على التورية والتشبيه
حسبما يأتي في كلام التفتازانى بيان ذلك بعد بيان مراد ابى الطيب وهذا الشاعر بعيد
قوله (اذا الوهم ابدى اى اظهر لي لماها اى سمرة شفتيها وثغرها تذكرت ما بين العذيب
وبارق ويذكرني من الاذكار) يعنى من باب الافعال فالهمزة فيه همزة قطع (من قدها
ومدامعي مجرعو الينا) اى جرر رماحنا العالية (ومجرى السوابق) اى الفرسان والخيول
التي يتسابقون عليها (انتصب بحر على أنه مفعول) ثان لقوله (يذكرنى وفاعله ضمير
يعود الى الوهم وقوله) اى قول هذا الشاعر.
تذكرت ما بين
العذيب وبارق
|
|
مجرعو الينا
ومجرى السوابق
|
(مطلع) اى اول (قصيدة لابي الطيب)
فاخذه هذا الشاعر وجعله
جزء لشعره على النحو الذي بينا لك انفا (و) والمراد من (العذيب وبارق) في
كلام ابى الطيب معنياهما القريب وهما (موضعان معروفان) وانما حكم بكونهما معروفين
مع ان كل واحد منهما اسم لمواضع متعددة لان صاحب معجم البلدان ذكر بيت ابى الطيب
وقال اراد بارق الكوفة فبقرينة ذلك يعلم انه اراد ايضا عذيب الكوفة قال وقال ابو
عبد الله السكونى العذيب يخرج من قادسية الكوفة اليه وكانت مسلحة للفرس ثم قال وقد
اكثر الشعراء من ذكرها فتدبر جيدا.
(وما بين ظرف
للتذكر) اى لمصدر تذكرت (او) ظرف (للمجر) بناء على انه مصدر ميمى او ظرف لقوله (ومجرى)
كذلك (و) لا بأس بتقديم معمول المصدر عليه لما (قد عرفت) في صدر الكتاب عند قول
الخطيب اكثرها للاصول جمعا (جواز تقديم الظرف على المصدر) والمعنى على الاول تذكرت
مجر العوالي ومجرى السوابق وكان ذلك التذكر حاصلا بين العذيب وبارق وعلى الاخيرين
تذكرت مجرى العوالي ومجرى السوابق وكان ذلك التذكر حين وقوع الجرين.
هذا كله بناء
على كون ما فيما بين زائدة (ويجوز) ان تكون ما موصولة فيكون (ما بين العذيب اى
الموصول وصلته (مفعول تذكرت ومجر عوالينا بدلا منه) ومجرى السوابق عطف عليه
والمعنى حينئذ تذكرت الذي بين العذيب وبارق وهو مجر العوالي ومجر السوابق.
(و) حاصل (المعنى)
لبيت ابى الطيب (انهم كانوا نزولا) اى نازلين (بين هذين الموضعين وكانوا يجرون
الرماح عند مطاردة الفرسان ويسابقون على الخيل.
فتحصل من مجموع
ما تقدم ان أبا الطيب أراد بالعذيب وبارق معنييهما القريبين اى الموضعين المعروفين
(فهذا الشاعر أراد في تضمينه
بالعذيب وبارق مغييهما البعيدين لانه جعل العذيب تصغيرا للعذب وعنى به شفة
الحبيبة وببارق ثغرها الشبيه بالبرق وبما بينهما ريقها وشبه تبختر قدها بتمايل
الرمح وجريان دمعة) اى دمع الشاعر (على التتابع بجريان الخيل السوابق فزاد) هذا
الشاعر (على أبي الطيب بهذه) النكتة أي (التورية والتشبيه) فصار احسن.
(ولا يضر في
التضمين التغيير اليسير) وأما التغيير الكثير فانه يخرج به المضمن عن التضمين
ويدخل في حد السرقة ان عرف انه للغير والفرق بين القليل والكثير راجع الى العرف.
والتغيير
اليسير (لما قصد تضمينه) انما هو (ليدخل) ذلك (في معنى الكلام) ويناسبه (كقول
بعضهم في يهودى به داء الثعلب) هو مرض يسقط الشعر من الراس فيصر اقرع.
اقول لمعشر
غلطو وغضوا
|
|
من الشيخ
الرشيد وانكروه
|
هو ابن جلا
وطلاع الثنايا
|
|
متى يضع
العمامة يعرفوه
|
(فالبيت) الثاني (لسحيم بن وثيل)
بالتاء المثلة وقد تقدم في الباب الثامن نسبة البيت الى العرجى وهذا عجيب وكيفكان (اصله).
انا ابن جلا
وطلاع الثنايا
|
|
متى اضع
العمامة تعرفوني
|
وقد تقدم بيان
الاصل هناك مفصلا واما الشاهد في قول سحيم فبينه التفتازاني بقوله (فغيره) سحيم (الى
طريق الغيبة ليدخل في المقصود) وقد كان في الاصل بطريق التكلم في انا واضع.
(وقوله غلطوا
وغضوا اي وقعوا في الغلط في حقه) هذا راجع الى غلطوا (وحطوا من رتبته ولم يعرفوا
مقداره) هذا راجع الى غضوا) حاصل المراد ان الناس غلطوا ولم يعرفوا هذا اليهودي
الاقرع الذي ان اظهر راسه الذي لا شعر عليه يعرفوه (وفيه تهكم) وتمسخر لهذا
اليهودي (ولهذا)
اي لكون المراد التهكم بهذا اليهودي (وصفة بالرشيد واراد به) أي بالرشيد (الغوى)
اي الضال (على طريق التهكم والتمسخر.
(وربما يسمى
تضمين البيت فما زاد على البيت) كتضمين بيتين او اكثر (استعانة وتضمين المصراع فما
دونه ايداعا لان الشاعر الثاني قد اودع شعره شيئا من شعر) الشاعر (الاول وهو
بالنسبة الى شعره) الى شعر الشاعر الثاني (قليل مغلوب) في ضمن اشعاره الكثيرة.
(و) يسمى ايضا (رفوا
لانه) اي الشاعر الثاني (خرق شعره بشعر الغير) وهو الشاعر الاول.
(واما العقد
فهو ان ينظم نثر قرانا كان) ذلك النثر المنظوم (او (او حديثا او مثلا او غير ذلك)
لكن يشترط في ذلك ان (لا) يكون (على الاقتباس) يعنى ان كان النثر قرانا او حديثا
فنظمه انما يكون عقدا اذا غير تغييرا كثيرا او اشير الى انه من القران او الحديث
وان كان غير القران والحديث فنظمه عقد كيفما كان اذ لا دخل فيه للاقتباس (و) وذلك
لانك (قد عرفت ان طريق الاقتباس هو ان يضمن الكلام شيئا من القران او الحديث لا
على انه منه فالنثر الذي قصد نظمه ان كان غير القران او الحديث فنظمه عقد على اي
طريق كان اذ لا دخل فيه للاقتباس).
اما مثال العقد
اذا كان حديثا فهو (كقوله اي قول ابي العتاهية ما بال من اوله نطفة وجيفة اخره
يفخر) هذا (حال اي ما باله مفتخرا) الشاهد في ان ابا العتاهية (عقد قول على عليه
الصلوة والسّلام وما لابن ادم والفخر وانما اوله نطفة واخره جيفه) يتنفر عنه اهله
وعشيرته.
(و) قد قلنا
انفا انه (ان كان) المضمن (قرانا او حديثا فانما يكون عقد اذا غير تغيير كثيرا لا
يتحمل مثله في الاقتباس او لم يغير تغييرا ولكن اشير الى انه من القران او الحديث
وحينئذ لا يكون على
طريق الاقتباس كقول الشاعر :
انلنى بالذي
استقرضت خطا
|
|
واشهد معشرا
قد شاهدوه
|
فان الله
خلاق البرايا
|
|
عنت لجلال
هيبته الوجوه
|
يقول اذا
تداينتم بدين
|
|
الى اجل مسمى
فاكتبوه
|
فانه اشار الى
انه من القران بقوله يقول هذا مثال القران واما مثال الحديث فهو (كقول الامام
الشافعي).
عمدة الخير
عندنا كلمات
|
|
اربع قالهن
خير البرية
|
اتق المشبهات
وازهد ودع ما
|
|
ليس يعنيك
واعملن بينة
|
والشاهد في ان
الامام الشافعي (عقد قوله (ص) الحلال بين والحرام بين وبينهما امور متشابهات) فمن
تركها سلم ومن اخذها كان كالراتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه.
(وقوله (ص)
ازهد في الدنيا يحبك الله) وازهد فيما في ايدي الناس يحبك الناس (وقوله (ص) ومن
حسن اسلام المرء ترك مالا يعينه وقوله (ص) انما الاعمال بالنيات وانما لكل مرء ما
نوى.
الى هنا كان
الكلام في اقسام التضمين (واما الحل فهو) عكس العقد لانه (ان ينثر النظم) اي يجعل
النظم نثرا (وشرط كونه مقبولا) امران احدهما راجع الى اللفظ وهو (ان يكون سبكه) اي
سبك ذلك النثر (مختارا) بحيث (لا يتقاصر) في الحسن والفضيلة (عن سبك النظم) وذلك
بان يكون مشتملا على ما ينبغي مراعاته في النثر بان يكون هيئته كهيئة النظم وذلك
بان يكون مسجعا ذا قرائن مستحسنة والا لم يكن مقبولا.
(و) ثانيهما
راجع الى المعنى وهو (ان يكون حسن الموقع مستقرا في محله غير قلق) وذلك بان يكون
مطابقا لما تجب مراعاته في البلاغة
مستقرا في مكانه الذي يستعمل فيه من الذم او المدح او نحوهما (كقول بعض
المغاربة) في ذم شخص له سوء الظن بالناس لقياس غيره بنفسه (فانه لما قبحت فعلاته)
اي افعاله (وحنظلت نخلاته) اي افكاره (اي صارت ثمار نخلاته) اي نتائج افكاره (كالحنظل
في المرارة) اي في القبح (لم يزل سوء الظن يقتاده اي يقوده الى تخييلات فاسدة وتوهمات
باطلة ويصدق) بسبب حمقه وجهله (هو توهمه الذي يعتاده اي يعاوده ويراجعه فيعمل على
مقتضى توهمه).
حاصل المعنى ان
هذا الرجل الاحمق لما كان قبيحا في نفسه وخبيث النفس وقاس الناس على نفسه فيظن
بالناس كل قبيح فصارت هذه الصفة القبيحة يقوده الى مالا حاصل له في الخارج من
التخييلات الفاسدة والافكار الكاسدة فيصدق هذه الامور فيعمل على مقتضى توهمه
وتخييلاته فهذه المعاني التي في كلام بعض المغاربة (حل قول ابي الطيب).
اذا ساء فعل
المرء سائت ظنونه
|
|
وصدق ما
يعتاده من توهم
|
(يشكو) ابو الطيب من (سيف الدولة
واستماعه لقول اعدائه اي اذا قبح فعل الانسان قبحت ظنونه فيسىء ظنه باوليائه وصدق
ما يخطر بقلبه من التوهم على اصاغره) اي على اتباعه.
(واما التلميح)
فالذى (صح) عند اهل هذا الفن انه (بتقديم اللام على الميم) فانه ماخوذ (من) قولهم (لمحة
اذا ابصره ونظر اليه وكثيرا ما تسمعهم) اي تسمع اهل هذا الفن (يقولون في تفسير
الابيات في هذا البيت تلميح الى قول فلان وقد لمح هذا البيت فلان الى غير ذلك من
العبارات) يؤدي هذا المعنى.
(واما التمليح
بتقديم الميم على اللام فهو مصدر ملح الشاعر اذا اتى بشيىء مليح وقد ذكرنا في باب
التشبيه وهو ههنا) اى في علم البديع
اى في المحسنات اللفظية (خطاء محض نشاء من قبل الشارح العلامة حيث سوى بين
التلميح) بتقديم اللام على الميم (والتمليح) بعكس ذلك وفسرهما بان يشار الى قصة او
شعر ثم صار الغلط) الصادر من قبل الشارح العلامة (مشتهرا او اخذ مذهبا لعدم
التمييز) بين اللفظين.
(فهو ان يشار
في فحوى الكلام الى قصة او شعر او مثل سائر من غير ذكره اى ذكر تلك القصة او الشعر
او المثل فالضمير في ذكره (لواحد من القصة والشعر) ونحوهما (واقسام التلميح ستة)
اقسام (لانه اما ان يكون في النظم او في النثر وعلى التقديرين فاما ان يكون اشارة
الى قصة او شعر او مثل) فهذه اقسام ستة ثلاثة منها في النظم ذكر الخطيب اثنين منها
وذكر التفتازاني الثالث منها وثلاثة منها في النثر ذكرها التفتازاني.
(اما في النظم
فالتلميح الى القصة كقوله اى قول ابي تمام :
لحقنا
باخراهم وقد حوم الهوى
|
|
قلوبا عهدنا
طيرها وهي وقع
|
فردت علينا
الشمس والليل راغم
|
|
بشمس لهم من
جانب الخدر تطلع
|
نضاضوئها صبغ
الدجنة وانطوى
|
|
لبهجتها ثوب
السماء المجزع
|
فو الله ما
ادرىء احلام نائم
|
|
المت بنا ام
كان في الركب يوشع
|
(الضمير في اخريهم ولهم للاحبة
المرتحلين وان لم يجر لهم ذكر في اللفظ) فالمقام من قبيل كلا اذا بلغت التراقي (و)
يقال (حام الطير (على الماء) اى (دار) على الماء (و) يقال ايضا (حومة غيره) أى
جعله غيره يحوم اى يدور (ونضا) معناه (ذهب به وازاله و (الضمير) المؤنث (في ضوئها
وبهجتها للشمس الطالعة من الخدر) اي الهودج و (الدجنة) معناه (الظلمة وانطوى)
معناه (انضم و (المجزع) معناه (ذو لونين) كالجزع (وقوله أحلام نائم استعظام لما
راى واستغراب)
اى طلوع وجه الحبيب من جانب الحذر عظيما وغريبا عجيبا.
(و) الشاهد في
ان ابا تمام (اشار الى قصة يوشع بن نون فتى موسى (ع) واستيقافه الشمس اى طلبه وقوف
الشمس فانه روى انه قاتل الجبارين يوم الجمعة فلما ادبرت الشمس خاف ان تغيب الشمس
قبل ان يفرغ منهم ويدخل السبت ولا يحل له قتالهم فيه) اي في السبت (فدعا الله
تعالى فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم) وفي بعض الروايات ان الشمس غربت وردت له
بعد غروبها.
(والتلميح الى
الشعر كقوله) :
لعمرو مع
الرمضاء والنار تلتظى
|
|
ارق واحفى
منك في ساعة الكرب
|
(لعمرو مع الرمضاء) يقال (ارض
رمضاء اى حارة يرمض فيها القدم اي يحترق والنار تلتظى) حال أي حال كون النار تتوقد
(ارق) ماخوذ (من رق له اذا رحمه واحفى) ماخوذ (من حفى عليه) أى (تلطف وتشفق منك في
ساعة الكرب اللام) في لعمرو (للابتداء وعمرو مبتدء خبره ارق ومع الرمضاء حال من
الضمير في ارق).
في هذا الاعراب
نظر اذ تقديم معمول اسم التفصيل عليه لا يجوز الى في نحو ما اشار اليه الناظم
بقوله :
ونحو زيد
مفردا انفع من
|
|
عمرو معانا
مستجاز لزيهن
|
ونحو هذا بسرا
اطيب منه رطبا وهذا الموضع ليسه كذلك فالاولى ان يجعل مع الرمضاء صفة لعمرو فتامل.
(والنار عطف
على الرمضاء وتلتظى حال من النار) كما قلنا انفا.
والشاهد ان
الشاعر (اشار الى البيت المشهور) :
المستجير
بعمرو عند كربته
|
|
كالمستجير من
الرمضاء بالنار
|
(المستجير
المستغيث بعمرو عند كربته الضمير للموصول) اى لال في المستجير (اي الذي يستغيث عند
كربته بعمرو كالمستجير من الرمضاء بالنار) اى كالفار من الارض الرمضاء الى النار
وعمرو هو جساس بن مرة ولهذا البيت قصة وهي ان البسوس زارت اختها البهيلة وهي ام
جساس بجار) اى مع جار (لها من جرم بن زيان له ناقة وكليب قد حمى ارضا من العالية
فلم يكن يرعاها الا ابل جساس لمصاهرة بينهما فخرجت في ابل جساس ناقة الجرمى ترعى
في حمى كليب فانكرها كليب) اي عرف انها ليست من ابل جساس (فرماها فاختل ضرعها فولت)
هاربة (حتى بركت بفناء صاحبها وضرعها يشخب دما ولبنا وصاحت البسوس وا ذلاه وا
غربتاه فقال جساس ايتها الحرة اهدئي فو الله لاعقرن) اى لاقتلن (فحلا) هو ذكر
الابل اراد بذلك كليب بقرنية قوله (هو اعز على اهله منها) اي من ناقة الجار (فلم
يزل جساس يتوقع غرة كليب) اى غفلته (حتى خرج) كليب (وتباعد عن الحي فبلغ جساسا
خروجه فخرج) جساس (على فرسه واتبعه فرمى صلبه) اى ظهره (ثم وقف عليه) وهو يجود
بنفسه (فقال كليب يا عمر اغثنى بشربة ماء) فقال له جساس تركت الماء ورائك ثم ولى
عنه فاتاه بعده عمر بن الحارث حتى وصل اليه فقال كليب يا عمرو اغثنى بشربة ماء
فنزل عمرو اليه من على فرسه (فاجهز عليه) اى قتله هكذا اصل القصة فليس قاتل كليب
جساسا بل قاتله عمرو بن الحارث.
وكيفما كان (فقيل
المستجير بعمرو البيت ونشب الشر بين تغلب) عشيرة كليب (وبكر) عشيرة جساس (اربعة
سنة كلها) اى كل هذه السنين الغلبة (لتغلب على بكر ولهذا قيل اشام من المبسوس.
والتلميح الى
المثل كقول عمرو بن كلثوم ومن دون ذلك خرط القتاد
اشار) عمرو بن كلثوم (الى المثل السائر) في الالسنة (دون عليان القتادة
والخرط) وفي بعض النسخ دون عليان خرط القتاد فصار كلامه مثلا والقتاد شجر صلب له شوك
كالابر (ودونه خرط القتاد) مثل (يضرب للامر الشاق) ومنشائه القصة المذكورة انفا
فان هذا الكلام (قاله كليب اذ سمع قول جساس لا عقرن فحلا يظن انه يعرض لفحل له
يسمى عليان والخرط ان تمر يدك على القتادة من اعلاها الى اسفلها حتى ينتثر شوكها.
الى هنا كان
الكلام في الامثلة الثلاثة للنظم (واما) الامثلة الثلاثة التي (في النثر) فيذكرها
بقوله (فالتلميح الى القصة والى الشعر كقول الحريري فبت بليلة نابغية واحزان
يعقوبية) والشاهد في انه (اشار الى قول النابغة) :
فبت كاني
ساورتنى ضئيلة
|
|
من الرقش في
انيابها السم ناقع
|
(والى قصة يعقوب ـ ع ـ) وحزنه
لفقدان يوسف (ع) (والتلميح الى المثل كقول العتبى فيالها من هرة تعق اولادها) فانه
(اشار الى المثل) المشهور فلان (اعق من الهرة تاكل اولادها).
الى هنا تمت
الامثلة الثلاثة في النثر فتمت الامثلة الستة للتلميح.
(و) قد ياتي (من
التلميح ضرب يشبه اللغز كما روى ان تميميا قال لشريك النميري ما في الجوارح احب
الى من البازى فقال النميري وخاصة اذا كان يصيد القطا) والشاهد فيه انه (اشار
التميمي الى قول جرير).
انا البازي
المطل على نمير
|
|
اتيح من
السماء لها انصبابا
|
واشار شريك الى
قول الطرماح :
تميم بطرق
اللوم اهدى من القطا
|
|
ولو سلكت طرق
المكارم ضلت
|
(وروى ان رجلا
من بنى محارب دخل على عبد الله بن يزيد الهلالي فقال عبد الله ما ذا لقينا البارحة
من شيوخ محارب ما تركونا ننام واراد قول الاخطل :
نكش بلا شيى
شيوخ محارب
|
|
وما خلتها
كانت تريش ولا بترى
|
ضفادع في
ظلماء دليل تجاوبت
|
|
فدل عليها
صوتها حية البحر
|
(فقال) الرجل المحاربي (أصلحك الله
اضلو البارحة برقعا وكانوا في طلبه اراد) المحاربي (قول القائل) :
لكل هلالى من
اللوم برقع
|
|
ولابن يزيد
برقع وجلال
|
فصل
(من الخاتمة في
حسن الابتداء والتخلص والانتهاء) انما جعله من الخاتمة لانه انما اشتمل على ما هو
من الحسن غير الذاتى كما في الخاتمة.
(ينبغي للمتكلم
شاعرا كان او كاتبا ان يتانق اي ان يفعل المتانق في الرياض من تتبع الانق) بفتح
النون (و) المراد به (الاحسن) من الكلام (يقال تانق في الروضة اذا وقع فيها متتبعا
لما يونقه اى يعجبه في ثلاثة مواضع من كلامه حتى تكون تلك المواضع الثلاثة اعذب
لفظا بان يكون) كلامه (في غاية البعد من التنافر والثقل واحسن سبكا بان يكون في
غاية البعد من التعقيد) اللفظى (والتقديم والتاخير الملبس) اى الموجب للالتباس
والاشتباه وهو اشارة الى ضعف التاليف المتقدم في أول الكتاب في فصاحة الكلام.
(وان يكون
الالفاظ) في كل واحد من المواضع الثلاثة (متقاربة في الجزالة) اى لا تكون بعضها
ركيكا (و) في (المتانة) اى القوة
وهو تفسير للجزالة حاصله ان يكون الالفاظ قوية في اداء المقصود ووافية
باداء المعنى (و) ان تكون الالفاظ متقاربة (في الرقة) والسهولة (والسلاسة) تفسيره
للرقة.
(و) أن (يكون
المعاني مناسبة لالفاظها) والمراد من ذلك ما بينه بقوله (من غير ان يكسى اللفظ
الشريف) اي اللفظ المشتمل على المحسنات البديعية (المعنى السخيف) اى المعنى الذي
لا فائدة فيه للسامع لكونه غير مطابق المقتضى الحال او لكون السامع ممن لا يناسبه
استماع المعاني التي يتضمنها هذا المقال (او على العكس) اى يكسى اللفظ السخيف
المعنى الشريف (و) حتى تكون تلك المواضع الثلاثة (اصح معنى) وذلك (بان يسلم من
التناقض) اي من ايهام التناقض والا فالسلامة من التناقض واجب لا مستحسن (و) ان
يسلم (من الامتناع) اي البطلان والكلام فيه هو الكلام فيما قبله (و) أن يسلم من (مخالفة
العرف) لان مخالفة العرف بمنزلة الغرابة وقد تقدم في صدر الكتاب في فصاحة الكلمة
انها مخلة بالفصاحة (و) ان يسلم من (الابتذال) وقد تقدم في بحث التشبيه ان المراد
منه ان يكون المعنى ظاهرا بحيث يعرفه كل احد (ونحو ذلك) بان يسلم من عدم المطابقة
لمقتضى حال المخاطب ومن هنا قال الشاعر الفارسى :
حكايت بر
فراج مستمع كوى
|
|
اكر دانى كه
دارد با تو ميلى
|
هران عاقل كه
با مجنون نشيند
|
|
نكويد جز
حديث از روى ليلى
|
(ومما يجب) على المتكلم شاعرا كان
او كاتبا (المحافظة عليه ان يستعمل الالفاظ الدقيقة في ذكر الاشواق) الى ملاقات
الاحبة (و) (وصف) الهموم التي تحصل في (ايام البعاد) عن الاحبة اى ايام فراقهم (و)
في (استجلاب المودات) وملاينات الاستعطاف) اى عند جلب المودة
والعطوفة اى عند طلبهما (وامثال ذلك) كاظهار الحب والمودة والمدح بالنسبة
الى المخاطب.
وحاصل الكلام
من اول الفصل الى هنا يكون الالفاظ في الابتداء والتخلص والانتهاء خالية عما يخل
بالفصاحة وعن الابتذال ومطابقة لمقتضى الحال.
(احدها) اي احد
المواضع الثلاثة (الابتداء) فيجب فيه مراعات ما ذكر (لانه اول ما يقرع السمع فان
كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى اقبل السامع على الكلام فوعى) اى حفظ (جميعه)
لرغبة السامع فيه واستلذاذه باستماعه (والا) اى وان لم يكن الابتداء كذلك (اعرض)
السامع (عنه ورفضه) لقبحه (وان كان الباقى في غاية الحسن) واللطافة.
(فالابتداء
الحسن في تذكار الاحبة والمنازل كقوله اي قول امرء القيس) :
قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الدخول فحومل
|
(السقط) مثلث السين والباء بمعنى
عند وهو (منقطع الرمل) اى الموضع الذي يتقطع فيه الرمل (حيث يدق) أي طرفه الدقيق (واللوى
رمل معوج يلتوى) اي يميل بعضه على بعض اما (الدخول وحومل) فهما (موضعان) معروفان
عند العرب (والمعنى) قفا نبك عند طرف الرمل المتلوى الكائن (بين اجزاء الدخول
فيصير الدخول كاسم الجمع) يعنى يصير متعددا ذا افراد (مثل القوم والا) اي وان وان
لم يصر كذلك (لم يصح الفاء) العاطفة عند الاكثر.
قال في المصباح
بين ظرف مبهم لا يتبين معناه الا بالاضافة الى اثنين فصاعدا او ما يقوم مقام ذلك
كقوله تعالى (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ).
والمشهور في
العطف بعدها ان يكون بالواو لانها للجمع المطلق نحو
المال بين زيد وعمرو واجاز بعضهم بالفاء مستدلا بقول امرء القيس بين الدخول
فحومل.
واجيب بان
الدخول اسم المواضع شتى فهو بمنزلة قولك المال بين القوم ومثله قول الحرث بن كلدة
او قدتها بين العقيق فشخصين قال ابن جنى العقيق مكان وشخصان اكمة انتهى.
وقال ابن هشام
في حرف الفاء ان الفاء تقع تارة بمعنى الواو كقوله بين الدخول فحومل وزعم الاصمعى
ان الصواب روايته بالواو لانه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو.
واجيب بان
التقدير بين مواضع الدخول فمواضع حومل كما يجوز جلست بين العلماء فالزهاد.
وقال بعض
البغداديين الاصل ما بين فحذف ما دون بين كما عكس ذلك من قال : يا احسن الناس ما
قرنا الى قدم : اصله ما بين قرن فحذف بين واقام قرنا مقامها ومثله ما بعوضة فما
فوقها.
قال والفاء
نائبة عن الى ويحتاج على هذا القول الى ان يقال وصحت اضافة بين الى الدخول
لاشتماله على مواضع (اى على اجزاء فلا يقدر شي) او لان التقدير بين مواضع الدخول.
وكون الفاء
للغاية بمنزلة الى غريب وقد يستانس له عندى بمجيىء عكسه في نحو قوله :
وانت التي
حببت شغبا الى بدا
|
|
الى اوطاني
بلاد سواهما
|
اذا المعنى
شغبا فبداوهما موضعان ويدل على ارادة الترتيب قوله بعده
حللت بهذا
حلة ثم حلة
|
|
بهذا فطاب
الواديان كلاهما
|
وهذا معنى غريب
لالى لم ار من ذكره انتهى.
وانما اطنبنا
الكلام في المقام لكونه من المباحث النفسية فلنراجع
الى ما كنا فيه فنقول الشاهد في المصراع الاول من البيت فانه احسن فيه لانه
افاد فيه ثلاثة امور اولها انه وقف واستوقف وثانيها انه بكى واستبكى وثالثها انه
ذكر الحبيب والمنزل كل ذلك بلفظ لا تعقيد فيه ولا تنافر ولا ركاكة وكلها مطابق
لمقتضى الحال (و) لكنه (قدح) اى عاب (بعضهم في هذا البيت بما فيه من عدم التناسب)
بين شطرى البيت (لانه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في نصف بيت)
يعنى الشطر الاول وكل ذلك (عذب اللفظ سهل السبك ثم لم يتفق له ذلك في النصف الثاني
بل اتى فيه بمعان قليلة في الفاظ غريبة فباين النصف (الاول).
والحاصل ان
الشطر الاول قليل اللفظ وكثير المعنى وعذب اللفظ اى لا تنافر فيه ولا غرابة والشطر
الثاني لا تخلو من كثرة اللفظ مع قلة المعنى ولا تخلو من الاحتياج الى التقدير
حسبما اشرنا اليه انفا ومن غرابة بعض الفاظه ولعل المنصف لاجل ذلك اكتفى في
الاستشهاد بالشطر الاول اذ يكفى في حسن الابتداء حسن الشطر واحد من البيت (واحسن
من هذا بيت النابغة).
كلينى لهم يا
اميمه ناضب
|
|
وليل اقاسيه
بطيىء الكواكب
|
(وكقوله اي وحسن الابتداء في وصف
الديار كقول اشجع السلمي)
قصر عليه
تحية وسلام
|
|
خلعت عليه
جمالها الايام
|
ضمن خلع معنى
طرح فعداه الى المفعول الثاني بعلى والى هذا التضمين اشار التفتازاني بقوله :
(فى الاساس خلع
عليه اذا نزع ثوبه وطرحه عليه) والمعنى ان الايام نزعت جمالها وطرحته على ذلك
القصر (وفي ذكر الفراق قول ابي الطيب)
فراق ومن
فارقت غير مذمم
|
|
وام ومن يممت
خير ميمم
|
والمعنى ان
الذي فارقته غير مذموم فلا ينبغي ان يفارق والذى اممته اى قصدته خير ميمم اي خير
مقصود فينبغي ان يقصد (وفي الشكاية ايضا) قول ابي الطيب.
فواد ما
تسليه المدام
|
|
وعمر مثل ما
يهب اللئام
|
والمعنى ان لي
فواد محزون بحيث لا تسليه المدام اي الخمر ولي عمر مثل عطاء اللئام اي قصير قليل.
(وينبغى)
للمتكلم (ان يجتنب في المديح) اى في اوله (ما يتطير به اي يتشام كقوله اى قول ابن
المقاتل الضرير) اي الاعمى هكذا في المصباح (في مطلع قصيدة انشدها للداعي العلوي :
موعد احبابك بالفرقة غدا :) الفرقة بضم الفاء وسكون الراء اسم موضع ولكن الداعي
العلوى توهم منه معنى اخر أي فراق الاحبة فتطير منه (فقال له الداعي : موعد احبابك
يا اعمى ذلك المثل السوء) اي لا موعد احبابى (وروى ايضا انه دخل على الداعي في يوم
المهرجان) وهو اول يوم من فصل الخريف وهو كان عندهم يوم فرح وسرور ولعب.
قال في المصباح
المهرجان عيد للفرس وهي كلمتان مهروزان حمل وجان لكن تركبت الكلمتان حتى صارتا
كالكلمة الواحدة ومعناها محبة الروح.
وفي بعض
التواريخ كان المهرجان يوافق او الشتاء ثم تقدم عند اهمال الكبس حتى بقى في الخريف
وهو اليوم السادس عشر من مهرماه وذلك عند نزول الشمس او الميزان انتهى (وانشده).
لا تقل بشرى
ولكن بشريان
|
|
غرة الداعي
ويوم المهرجان
|
(فتطير به الداعى وقال اعمى تبتدء
بهذا يوم المهرجان وقيل بطحه اى القاء على وجهه وضربه خمسين عصا وقال اصلاح ادبه
ابلغ من ثوابه) اى احسن من الاعطاء له الجائزة.
(واحسنه اى
احسن الابتداء ما ناسب المقصود) من القصيدة او الكتاب او غيرهما والمناسبة للمقصود
تحصل (بان يكون فيه) اى في الابتداء (اشارة الى ما سيق الكلام لاجله ليكون
الابتداء مشعرا بالمقصود) من الكلام (و) ليكون (الانتهاء) اى اخر الكلام (ناظرا
الى الابتداء) اي الى ابتداء الكلام.
وليعلم انه لا
يجب في الاشارة ان تكون واضحة بذلك الوضوح بل يجوز ان تكون خفية وذلك كقول
التفتازاني في اول التهذيب اشارة الى قسمى الكتاب فراجع وتدبر.
(ويسمى كون
الابتداء مناسبا للمقصود) في الاصطلاح (براعة الاستهلال) وهو ماخوذ (من برع الرجل
براعة اذا فاق اصحابه في العلم وغيره) هذا معنى البراعة واما الاستهلال فهو في
الاصل عبارة عن اول ظهور الهلال وقيل اول صوت الصبى حين الولادة واول المطر ثم
استعمل لاول كل شيىء وحينئذ فمعنى قولهم للابتداء المناسب للمقصود براعة الاستهلال
استهلال بارع اي ابتداء فائق على غيره من الابتداءات التي ليست مشيرة الى المقصود.
(كقوله في
التهنئة) اي في ايراد كلام يزيد السرور والفرح بشيىء موجب للسرور والفرح (اى قول
ابي محمد الخازن يهنىء الصاحب بن عباد بولد الابنة في التهنة).
بشرى فقد
انجز الاقبال ما وعدا
|
|
وكوكب المجد
في افق العلى صعدا
|
(وكقوله في المرثية) بتخفيف الياء
القصيدة يذكر فيها محاسن الميت (اى وكقول ابي الفرج الساوى في مرثيه فخر الدولة هى
الدنيا تقول بملاء فيها حذار حذار اى احذر من بطشى اى اخذى الشديد وفتكى
اي قتلى بغتة) اي فجاة (وكقول ابي تمام بهنيء المعتصم بالله في فتح عمورية
وكان اهل التنجيم زعموا انه لا يفتح في ذلك الوقت).
السيف اصدق
انباء من الكتب
|
|
في حده الحد
بين الجد واللعب
|
بيض الصفائح
لاسود الصحائف في
|
|
متونهن جلاء
الشك والريب
|
(وكقول ابي العلاء فيمن عرضت له
شكاة) اي امر يشتكي منه.
عظيم لعمري
ان يلم عظيم
|
|
بال على
والانام سليم
|
(وكقول ابي الطيب في التهنة بزوال
المرض) من الممدوح.
المجد عوني
اذ عوفيت والكرم
|
|
وزال عنك الى
اعدائك السقم
|
(ومنه) اي من الابتداء المناسب
للمقصود الذي يسمى براعة الاستهلال ما يشار في ابتداء الكتب الى الفن المصنف فيه
كقول جار الله العلامة في الكشاف الحمد لله الذي انزل القران كلاما مؤلفا منظما)
الى هنا خطبة الكشاف (و) كقوله (في) خطبة كتاب (المفصل الله احمد ان جعلني من
علماء العربية) وكذلك قول الشيخ البهائي في خطبة كتاب الصمدية بل هو احسن فراجع ان
شئت.
(وثانيها اي
ثاني المواضع الثلاثة التي ينبغي للمتكلم ان يتانق فيها التخلص اى الخروج مما شبب
الكلام به اي ابتدء) الكلام به (وافتتح) اصل النشبيب ذكر امور تصدر عادة من
الشباب.
(قال الامام
الواحدى معنى التشيب ذكر ايام الشباب واللهو والغزل) وسائر ما يعتاده الانسان في
شبابه (وذلك يكون) غالبا (في ابتداء قصائد الشعر) ثم نقل من هذا المعنى الخاص فسمى
ابتداء كل امر تشبيبا وان لم يكن في ذكر ايام الشباب) وسائر ما ذكر والى
هذا المعنى العام اشار الخطيب بقوله (من تشبيب اى وصف للجمال وغيره كالادب)
اى الاوصاف التي يذكرها المتكلم تادبا (والافتخار والشكاية وغير ذلك) كالهجو
والمدح والتوسل) وامثال ذلك مما يكون الغرض من الكلام.
(الى المقصود)
متعلق بالتخلص اى التخلص الى المقصود مما بدء به الكلام (مع رعاية الملائمة) اى
المناسبة (بينهما اى بين ما شيب به الكلام وبين المقصود) الاصلى من الكلام.
(واحترز بهذا
القيد) اى بقوله مع رعاية الملائمة بينهما (عن الاقتصاب) وهو كما ياتي عنقريب
الانتقال مما شيب به الكلام الى ما لا يلائمه.
(وقوله التخلص)
الذى هو من قبيل المعرف بفتح الراء (اراد به المعنى اللغوى) وهو مطلق الخروج
والانتقال (والا) اى وان لم يرد به المعنى اللغوى بان اراد المعنى الاصطلاحي (فالتخلص)
في الاصطلاح (هو) عين (الانتقال مما افتح به الكلام الى المقصود مع رعاية المناسبة)
بينهما فيلزم شبه تعريف الشبى بنفسه او التكرار.
(وانما كان
التخلص من المواضع الثلاثة التي ينبغي للمتكلم ان يتانق فيها لان السامع يكون
مترقبا للانتقال) اي الانتقال المتكلم (من الافتتاح الى المقصود كيف يكون) ذلك
الانتقال (فاذا كان) الانتقال (حسنا) اى (متلائم الطرفين) اي متناسب الطرفين وهما
المنتقل منه اى ما افتح به الكلام والمنتقل اليه اى المقصود (حرك) هذا الانتقال
الحسن (من نشاط السامع) لفظة من زائدة اى حرك نشاط السامع خفته وسرعته في الاستماع
(واعان على اصغاع ما بعده) اى على استماع ما بعده أى ما بعد الافتتاح (والا) أى
وإن لم يكن الافتتاح حسنا
بسبب عدم الملائمة (فبالعكس) اى يصغى الى كلامه في الابتداء ولو اتى بعده
بكلام حسن.
(ثم) اعلم ان (التخلص
قليل في كلام) الشعراء (المتقدمين) اى الجاهليين والمخضرمين (واكثر انتقالاتهم من
قبيل الاقتضاب) وياتي بيانه عنقريب.
(واما
المتاخرون) اى الشعراء الاسلاميون هكذا فسرا بعضهم المتقدمين والمتاخرين وسياتي
عنقريب ما يشعر انه خلاف ما عليه المشهور وكيفما كان (فقد لهجوا به) اى او لعوا به
اى علقوا به اى استعملوه كثيرا (لما فيه الحسن والدلالة على براعة الشاعر) اى على
تفوقه على اقرانه من الشعراء (كقوله اى ابي تمام في) مدح (عبد الله بن طاهر) والى
خراسان (يقول في قومس).
قال في معجم
البلدان قومس بالضم ثم السكون وكسر الميم وسين مهملة وقومس في الاقليم الرابع
طولها سبع وسبعون درجة وعرضها ست وثلاثون درجة وخمس وثلاثون دقيقة وهو تعريب كومس
وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع وهي في ذيل جبال طبرستان واكبر ما
يكون فى ولاية ملكها وقصبتها المشهورة دامغان وهي بين الرى ونيسابور ومن مدنها
بسطام وبيار وبعض يدخل فيها سمنان وبعض يجعل سمنان من ولاية الرى.
وقرات في كتاب
نتف الطرف للسلامي حدثني ابن علوية الدامغاني قال حدثني ابن عبد الدامغاني قال كان
ابو تمام حبيب بن اوس نزل عند والدى حين اجتاز بقومس الى نيسابور ممتدحا عبد الله
بن طاهر فسالناه عن مقصده فاجابنا بهذين البيتين.
تقول في قومس
صحي وقد اخذت
|
|
منا السرى
وخطى المهرية القود
|
أمطلع الشمس
تبغى ان تؤم بنا
|
|
فقلت كلا
ولكن مطلع الجود
|
الى ان قال
وقومس ايضا اقليم القومس بالاندلس من نواحي كورة قبره انتهى باختصار.
(يقول في قومس
اسم موضع) بيناه لك انفا (قوى) او صحبى على ما في معجم البلدان (وقد اخذت منا
السرى اى اخذ منه اى اثر فيه ونقصه) حاصله انه تعب من المشى بالليل ومن حركات
الابل المهرية (و) انما قلنا من المشى بالليل لان (السرى مصدر سريت اذا سرت ليلا
يقال سرينا سرية واحدة والاسم والسرية بالضم والسرى) يعنى كلا الوزنين اسم مصدر.
(و) انما انث
الفعل وهو اخذت مع ان الفاعل وهو السرى مذكر لان (بعض العرب يؤنث السرى والهدى وهم
بنو اسد توهما انهما جمع سرية وهدية لان هذا الوزن من ابنية الجمع) كثيرا (ويقل في
المصادر كذا في الصحاح) اى كتاب صحاح اللغة للجواهرى.
(وخطى) الابل (المهرية
القود) جمع اقود كحمر احمر (الخطى جمع خطوة وهي ما بين القدمين والمهرية) الابل (المنسوبة
الى مهرة بن حيدان ابي قبيلة ينسب اليها الابل المهرية) ثم صار لقبا على الابل
الجياد مطلقا) من اي قبيلة كان.
(و) الابل (القود
الطويلة الظهور والاعناق) وقد قلنا ان القود جمع (والواحد) منه (اقود اى يقول قومى)
او صحبي على ما في معجم البلدان (والحال ان مزاولة السرى) اي كثرة المشي في الليل (ومسايره
المطايا بالخطي قد اثرت فينا ونقصت من قوانا فقوله وخطى المهرية عطف على السري
لاعلى) المجرور في (قوله منا) لفساده لفظا ومعنى اما لفظا فلعدم عود الجار في
المعطوف وهو لازم عند بعضهم كما اشار اليه الناظم
بقوله :
وعود خافض
لدى عطف على
|
|
ضمير خفض
لازما ما قد جعلا
|
واما معنى فلان
المعنى يصير حينئذ وقد نقصت منا السرى ونقصت السرى من خطى الابل ايضا وهذا المعنى
فاسد اذ لا معنى لنقص السرى من خطى الابل.
والى هذين
الفسادين اشار التفتازاني بقوله (بمعنى ان السرى اخذت) اى نقصت (منا واخذت) اي
نقصت من خطى الابل على ما يتوهم).
فان قلت لعله
أراد ان السرى طال فنقص قوى المهرية كما نقص قوانا فكنى عن ضعفها ونقص قونها بنقص
خطاها.
قلت نعم لكنه
تكلف لا حاجة اليه على ان هذا المعنى لا يناسب قوله امطلع الشمس الخ لانه يدل على
انها اي الابل قوية لا ضعيفة فتامل جيدا.
(ومفعول يقول)
في اول البيت (قوله امطلع الشمس تبغى) اي تطلب (ان تؤم) اى تقصد (بنا) اى معنا (فقلت)
في جواب قومى او صحبي (كلا ردع للقوم) او الصحب (وتنبيه) لهم (ولكن مطلع الجود)
والحاصل انهم قالوا تطلب بهذا المشي ان تتوجه بنا الى مطلع الشمس اي محل طلوع
الشمس فقلت ارتدعوا وانزجروا عما تقولون وتنبهوا لانه لا وجه لطلبنا مطلع الشمس
ولكن اطلب التوجد بكم الى مطلع الجود يعني عبد الله ابن طاهر الجواد الكريم
والشاهد في انه انتقل من مطلع الشمس الى الممدوح الذى سماه مطلع الجود (واحسن
التخلص ما وقع في بيت واحد كقول ابي الطيب.
نودعهم
والبين فينا كانه
|
|
قنا ابن أبي
الهيجاء في قلب فيلق
|
والشاهد فيه
انه انتقل في بيت من مفتتح الكلام الى المقصود اى
الى مدح سيف الدولة وهذا احسن اقسام التخلص.
(وقد ينتقل منه
اي مما شبب به الكلام الى ما لا يلائمه) اى الى مقصود لا يلائمه بحيث لا ارتباط
بينهما فكانه حديث مستانف لا اتصال له بما قبله.
(ويسمى ذلك
الانتقال) في الاصطلاح (الاقتضاب اي الاقتطاع) لان فيه قطعا عما قبله (والارتجال)
اى الانتقال من غيره تهيؤ.
(وهو اى
الاقتضاب مذهب العرب الجاهلية) وهم الذين لم يدركوا الاسلام كامرء القيس وزهير
وطرفة وامثالهم (و) مذهب (من يليهم من المخضرمين بالخاء والضاد المعجمتين) اى
المنقوطتين (وهم الذين ادركوا الجاهلية والاسلام) أى الذين مضى بعض عمرهم في
الجاهلية وبعض عمرهم في الاسلام (مثل لبيد) وانما يقال لهذه الطيقة مخضرمين لانه (قال
في الاساس ناقة مخضرمة) اى (جدع) بالدال المهملة (نصف اذنها) اى قطع (ومنه المخضرم
الذى ادرك الجاهلية والاسلام كانه قطع نصفه حيث كان) حاصلا (في الجاهلية) فهذا
المقدار من عمره ملغى لا عبرة به كالمقطوع.
(والاقتضاب وان
كان مذهب العرب) الجاهلية (والمخضرمين لكن الشعراء الاسلامية) اى الذين كان جميع
عمرهم في الاسلام وان كان كافرا كالسموئل وجرير وابي الطيب والفرزدق (ايضا قد
يتبعونهم في ذلك ويجرون على مذهبهم وان كان الاكثر فيهم التخلص (كقوله اى قول ابي
تمام وهو من شعراء الاسلامية في الدولة العباسية.
لم ارى الله
ان في الشيب خيرا
|
|
جاورته
الابرار في الخلد شيبا
|
الشيب (جمع
اشيب وهو حال من الابرار) والمراد بالابرار خيار الناس والضمير في جاورته لله
تعالى والمعنى انه لو كان في الشيب خبر لا نزل
الله الابرار في الجنة في حالكونهم شيبا لان الاليق ان الابرار يجاورونه
على احسن حال ولان الجنة دار الخير والكرامة.
(ثم انتقل) ابو
تمام بطريق الاقتضاب (من هذا الكلام الى ما لا يلائمه فقال.
كل يوم تبدى
صروف الليالى
|
|
خلقا من ابي
سعيد غريبا
|
فانه انتقل من
ذم الشيب في البيت الاول الى مدح ابي سعيد بانه تبدى اى تظهر منه الليالي خلفا اى
طبايع واخلاقا حسنة غريبة لا يوجد لها نظير من امثاله والشاهد فيه انه لا مناسبة
بين مضمون البيتين.
(ومنه اى من
الاقتضاب ما يقرب من التخلص فى انه يشوبه شيىء من الملائمة كقولك بعد حمد الله)
والثناء على رسوله (اما بعد فانى قد فعلت كذا وكذا فهو اقتضاب من جهة انه قد انتقل
من حمد الله والثناء على رسوله الى كلام اخر من غير رعاية ملائمة بينهما لكنه يشبه
التخلص من جهة انه لم يوت بالكلام الاخر فجاة من غير قصد الى ارتباط وتعلق بما
قبله بل اتى بلفظ أما بعد اى مهما يكن من شيىء بعد حمد الله فانى فعلت كذا وكذا
قصدا الى ربط لهذا الكلام اى فعلت كذا وكذا (بما سبق عليه) والحاصل ان لفظ اما بعد
كما تقدم فى ديباجة الكتاب وفى الباب الرابع فى قوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) اصله مهما يكن من شيىء فانى فعلت كذا وكذا بمعنى ان يقع
فى الدنيا شيىء وقع منى كذا وكذا فمعنى الكلام ان ذلك الكذا مربوط بكل شيىء وواقع
على وجه اللزوم واليقين بعد الحمد والثناء لانهما شيىء من الاشياء ولما كان معنى
الكلام هذا فافاد ارتباط ما بعد اما به فلا يقال انه لم يرتبط بما قبله اى باما
بعد فاشبه التخلص فكان قريبا من التخلص.
وقد تقدم فى
الباب الثامن فى بحث الاطناب بالتكرير ان اول من
تلفظ بكلمة اما بعد هو سحبان وذكر بعض المحشين له حكاية هناك فراجع ان شئت.
(قيل هو أى
قولهم بعد حمد الله تعالى) والصلوة على نبيه (اما بعد فصل الخطاب) اى الفاصل من
الخطاب اي من الكلام او المفصول منه بناء على ان المصدر بمعنى الفاعل او المفعول
وقد تقدم الكلام فيه فى ديباجة الكتاب مستقصى فراجع ان شئت.
(قال ابن
الاثير) الغرض من نقل كلامه تاييد كون اما بعد فصل الخطاب باجماع المحققين من اهل
الفن فكيف حكاه الخطيب بقيل المعشر بتمريضه.
(والذى اجمع عليه
المحققون من علماء البيان ان فصل الخطاب هو اما بعد لان المتكلم يفتتح) اى يبتدء (كلامه
في كل ذى شان بذكر الله تعالى وبتحميده) وذلك لما روى من ان كل امر ذى بال لم يبدء
بما ذكر فهو ابتر.
(فاذا اراد ان
يخرج منه) اى من الذكر والتحميد (الى الغرض المسوق له) اى الذى سيق الذكر والتحميد
لاجله (فصل بينه) اي بين الغرض (وبين ذكر الله تعالى بقوله اما بعد) فلفظ اما بعد
حينئذ يكون فاصلا بينهما اى بين الغرض والذكر والتحميد على وجه مناسب.
(ومن الافتضاب
الذى يقرب من التخلص ما يكون بلفظ هذا كقوله تعالى) في سورة ص (بعد ذكر اهل الجنة)
ونعيمها بقوله : (وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ : جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ
: مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ :
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ : هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ
: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).
ثم ذكر اهل
النار وعذابها بقوله ((هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها
فَبِئْسَ الْمِهادُ) الى اخر الايات الواردة في شان اهل النار اعاذنا لله
منها بحق محمد واله الاطهار.
(فهو) اى لفظ
هذا (اقتضاب) قريب من التخلص اما كونه اقتضابا فلان ما بعده اعني ذكر اهل النار لا
ارتباط له بما قبله ذكر اهل الجنة اذ لا مناسبة بينهما.
واما كونه
قريبا من التخلص فبينه التفتازاني بقوله (لكن فيه نوع ارتباط) بما قبله (لان الواو
بعده) اى بعد لفظ هذا يعنى الواو في وان (للحال) والعامل هنا لفظ هذا لكونه متضمنا
معنى الفعل اعنى اشير على ما بين في محله وواو الحال تفيد مصاحبة حصول ما قبله وما
بعده في وقت واحد فكان فيه ارتباط موجب لكونه قريبا من التخلص.
(ولفظ هذا) في
الاية وفي كل مورد يكون اقتضابا وذكر وحده (اما خبر مبتدء محذوف اى الامر هذا او
مبتدء محذوف الخبر اى هذا كما ذكر) او مفعول فعل محذوف اى اعلم هذا او فاعل فعل
محذوف اى تقدم هذا او نائب فاعل لفعل محذوف اى ذكر هذا.
والباعث على
هذه التقديرات انما هو صحة التركيب اذا المفرد لا يستعمل فى اللغة الا ان يكون جزء
جملة وقد اشير الى ذلك فى اول بحث الحقيقة والمجاز فراجع ان شئت.
(وقد يكون
الخبر مذكورا) فبه يرجح تقدير الخبر لان التصريح بالخبر فى موضع يرجح احتمال كونه
مبتدء محذوف الخبر على سائر الاحتمالات (مثل قوله تعالى) قبل الايات المتقدمة انفا
(حيث ذكر جمعا من الانبياء) وهم ايوب وابراهيم واسحاق واسماعيل ويعقوب واليسع وذو
الكفل عليهمالسلام (واراد ان يذكر عقيبه) اى عقيب ذكر الانبياء (الجنة وأهلها) فقال (هذا ذكر)
باثبات الخبر اى هذا ذكر لهؤلاء
الانبياء وثناء لهم بالجميل ((وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ)) مطلقا هولاء وعيرهم (لَحُسْنَ مَآبٍ)) اى مرجع حسن.
(قال ابن
الاثير لفظ هذا في هذا المقام) اى مقام الانتقال من غرض الى غرض اخر (من الفصل
الذى هو احسن من الوصل) لان لفظ هذا ينبه السامع على ان ما يلقى اليه بعده كلام
اخر والمقصود منه غير المقصود من الاول فلم يوت بالكلام الثاني فجاة حتى يشوش على
السامع استماعه لعدم المناسبة واما التخلص بغير هذا فليس فيه هذا التنبيه فلذا كان
احسن (وهى) اى لفظة هذا (علاقة) اى وصلة (وكيدة) اى قوية (بين الخروج من كلام الى
كلام اخر ثم قال وذلك من فصل الخطاب الذى هو احسن موقعا من التخلص) وقد اشرنا الى
وجه الاحسنية انفا فلا تغفل.
(ومنه اى من
الاقتضاب الذى يقرب من التخلص قول الكاتب) اى الذى ياتى بكلام غير منظوم لان
الكاتب في الاصطلاح مقابل الشاعر (عند ارادة الانتقال من حديث) كحديث الفاعل مثلا (الى
حديث اخر) اى الى حديث المفعول مثلا فيقول (هذا باب) المفعول (فان فيه نوع ارتباط)
لانه يشعر بانه اى الكاتب انتقل من غرض الى اخر (حيث لم يبتدء الحديث الاخر فجاة)
لان في قوله هذا باب اشعار وتنبيه الى ارادة الانتقال.
ومن هذا القبيل
لفظ ايضا فى كلام المتاخرين من الكتاب) اى المؤلفين وامثالهم من ليس كلامه منظوما.
ثالثها اى ثالث
المواضع الذى ينبغي ان يتانق) المتكلم (فيها الانتهاء اى الكلام الذى انتهى به
المقصود (فيجب على البليغ ان يختم كلامه شعرا كان او خطبة او رسالة باحسن خاتمة
لانه اخر ما يعيه السمع)
اى يحفظه وهو ماخوذ من الوعى (و) اخر ما (يرتسم في النفس فان كان) ذلك
الكلام الذى انتهى به المقصود (مختارا حصينا تلقاه السمع واستلذه حتى جبر ما وقع
فيما سبق من التقصير) فيوثر حسن الانتهاء في جميع الكلام السابق فيصير مقبولا (كالطعام
اللذيذ الذي يتناول بعد الاطعمة التفهة) والمرة فانه ينسى ويجبر تفاهة ما قبله
ومرارته (وان كان بخلاف ذلك كان على العكس حتى ربما انسى المحاسن الموردة فيما سبق
كقوله اى قول ابى نواس في الحصيب ابن عبد الحميد)
واني جدير اذ
بلغتك بالمنى
|
|
وانت بما
املت منك جدير
|
فان تولني
منك الجميل فاهله
|
|
والافانى
عاذر وشكور
|
(واني جدير اى خليق) اى حقيق (اذا
بلغتك) اى وصلت اليك بان امدحك (بالمعنى) متعلق بجدير (اي جدير بالفوز بالامانى)
اى بما اتمنى منك لاني شاعر مشهور عند الناس بمعرفة الشعر والادب (وانت بما املت)
اى رجوت (منك جدير) لانك كريم (فان تولني اى تعطني منك الجميل فاهله اى فانت اهل
لاعظاء ذلك الجميل) اي الاحسان والافضال (والا) اي وان لم تولنى منك الجميل (فانى
عاذر اياك من هذا المنع عما صدر عني من الابرام) في طلب ما اتمنى لان الكرم قد
يؤدي الى خلويد الكريم عما يعطى (وشكور لما صدر عنك من الاصغاء) اي الاستماع (الى
المديح) الذي قلته (او) المعنى انى شكور (من العطايا السابقة) فلا يمنعني من شكر
السابق عدم تيسر اللاحق.
والشاهد في
المصراع الاخير اى فاني عاذر وشكور فانه يدل على انتهاء الكلام بقبول العذر من دون
سخط حيث اظهر الشكر وان لم يحصل له العطاء.
(واحسنه اي
احسن الانتهاء ما اذن) اي اشعر (بانتهاء الكلام حتى لم يبق للنفس تشوق الى ادراكه
كقوله اى المعرى).
بقيت بقاء
الدهر يا كهف اهله
|
|
وهذا دعاء
للبرية شامل
|
وانما اذن هذا
الدعاء بانتهاء الكلام لانه من المتعارف ان يختم الكلام بالدعاء فاذا سمع السامع
لم يتشوق الى شيى ورائه واما كون هذا الدعاء شاملا للبرية فقد بينه التفتازاني
بقوله (لان بقائك سبب لكون البرية في امن ونعمة وصلاح حال) بسبب رفع الخلاف
والتنازعات فيما بينهم ودفع ظلم بعضهم على بعض وبلوغ كل واحد بما هو صلاحه والمراد
بالبرية الناس وما يتعلق بهم.
(وقد قلت عناية
المتقدمين بهذا النوع) من الحسن الذى في المواضع الثلاثة اعنى الابتداء والتخلص
والانتهاء (والمتاخرون يجتهدون في رعاية ويسمونه حسن المقطع وبراعة المقطع) وانما
يعرف قلة عناية المتقدمين بما ذكر واجتهاد المتاخرين فيها بمراجعة اشعار الفريقين
من القصائد وغيرها.
(وجميع فواتح
السور وخواتمها واردة على احسن الوجوه من البلاغة واكملها فانك اذا نظرت الى فواتح
السور جملها ومفرداتها رأيت من البلاغة والتفنن) اى الاتيان بالفنون المختلفة اى
المعانى المختلفة المطابق كل منها لما نزل له المفيد لاكمل ما ينبغي فيه (وانواع
الاشارة) اى اللطائف المناسب كل منها لما نزل لاجله ومن خوطب به ما يقصر عن كنه
وصفه العبارة).
وذلك كالحمد
لله تعالى المفتتح به اوائل بعض السور وكالابتداء بالنداء في مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ * يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) وكالابتداء بحروف التهجي في بعض السور فان امثال هذه
الابتداءات يوقظ السامع ويحرضه على الاستماع
الى ما يلقى اليه وكالابتداء بالجمل الاسمية والفعلية لنكت يقتضيها المقام
قد تقدم بيانها في المباحث المذكورة في الكتاب في محله.
(واذا نظرت الى
خواتمها وجدتها في غاية الحسن ونهاية الكمال لكونها بين ادعية) كاخر البقرة (ووصايا)
كاخر آل عمران (ومواعظ) كاخر زلزلت (وتحميد) كاخر الزخرف والصافات (ووعد وعيد)
كاخر الانعام الى غير ذلك) كالفرائض الى المواريث في اخر النساء والتبجيل اى
التعظيم في اخر المائدة وهو (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) الخ وغير ذلك (من الخواتم التى لا يبقى للنفوس بعدها
تطلع ولا تشوق الى شييء اخر وكيف لا) يكون كذلك (و) الحال ان (كلام الله عزوجل في الطرف الاعلى من البلاغة والغاية القصوى من الفصاحة
وقد اعجز مصاقع البلغاء) اى البلغاء المجهزين بحيث يقدر على اخذ كل جانب من جوانب
الكلام (واخرس شقاشق الفصحاء).
قال الطريحي
الشقشقة التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ينفخ فيها فتظهر من شدقه ولا تكون الا
للعربي قاله الهروي ومنه حديث علي ع في خطبة الشقشقية تلك شقشقة هدرت ثم قرت وقد
بناء على (ع) على الاستعارة انتهى
والمراد أنه
شبه هذه الخطبة بشقشقة الجمل فاستعمل لفظ الشقشقة في تلك الخطبة كما يستعمل لفظ الاسد
في الرجل الشجاع فالمراد من شقاشق الفصحاء الخطب النادرة التي قلما يصدر منهم
والمراد بها ههنا الانطلاق في القول وقوة البيان ويقال في مقابل ذلك كما هنا اخرس
الشقاشق فتامل.
(ولما كان في
هذا) اى كون فواتح السور وخواتمها على احسن الوجوه من البلاغة واكملها حسبما ما
ذكرنا (نوع خفاء بالنسبة الى بعض الاذهان) السقيمة غير المستقيمة فقد تتوهم عدم
المناسبة في ابتداء بعض السور وخاتمة بعض اخر (حيث افتتحت بعض السور
بذكر الاهوال والافزاع واحوال الكفار وامثال ذلك كقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وقوله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) وغير ذلك وكذا خواتم بعض السور مثل قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) و (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) ونحو ذلك اشار) جواب لما (الى ان هذا) اى كون الفواتح
والخواتم على احسن الوجوه واكملها (انما يظهر عند التامل والتذكر للاحكام)
والقواعد (المذكورة في علمي المعاني والبيان) وعلم البديع وذلك لما تقدم في ديباجة
الكتاب من أنه بهذين العلمين وتوابعها يعرف دقائق العربية واسرارها ويكشف عن وجوه
الاعجاز في نظم القران استارها (فان لكل مقام مقالا لا يحسن فيه غيره ولا يقوم)
غيره (مقامه) اي مقام ذلك المقال (وهذا معنى قوله يظهر ذلك بالتامل) في كل ما ورد
في فواتح السور وخواتمها (مع التذكر لما تقدم من الاصول المذكورة في الفنون
الثلاثة وتفاصيل ذلك مما لا يفي بها الدفاتر بل لا يمكن) حسبما تقدم في مقدمة
الكتاب (الاطلاع على كنهها الا لعلام الغيوب) جل جلاله وعظم نواله وصلّى الله على
محمد وآله والحمد لله الذى وفقنى لاتمام هذا الشرح المبارك المسمي بالمدرس الافضل
فيما يرمز ويشار اليه في المطول واستغفر الله العفو الغفور مما طغى به القلم
وأسئل. من كافة الطلاب ان لا ينسوني من صالح الدعوات وان يغمصوا عما عثروا فيه من
طغيان القلم فانه لا يسلم منه انسان الا من عصمه الله وقد ورد في المثل السائر ليس
الفاضل من لا يغلط بل الفاضل من يعد غلطه وأسئل الله حسن العاقبة في الدنيا
والاخرة وكان الشروع كما قلنا في الجزء الاول ليلة النصف من رجب المرجب من شهور
سنة الف وثلاثمائة وست وثمانين الهجرية والفراغ في صبيحة يوم الثانيعشر من ذى
القعدة من شهور سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بعد الالف بجوار مولانا الكونين على
أمير المؤمنين عليهالسلام وأنا الاقل الجاني ابن المرحوم مراد علي محمد علي
المدرس الافغاني الجاغوري والحمد لله اولا واخرا.
رقم الابداع في
المكتبة الوطنية ببغداد ٤٢٠ لسنة ١٩٧٥
٣٠ / ٦ / ١٩٧٥
|